كتاب : نشوار المحاضرة
المؤلف : القاضي التنوخي

بت أبكيكما وإن عجيباً ... أن يبيت الأسير يبكي الطليقا
فاذكراني وكيف لا تذكراني ... كل ما استخون الصديق الصديقا

عضد الدولة ينفق عشرة ملايين
درهم على بناء دار وإنشاء بستان
أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا أحمد بن علي، قال: حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن، قال: سمعت أبي يقول.
ماشيت الملك عضد الدولة في دار المملكة بالمخرم، التي كانت دار سبكتكين حاجب معز الدولة من قبل، وهو يتأمل ما عمل، وهدم منها، وقد كان أراد أن يزيد في الميدان السبكتكيني أذرعاً ليجعله بستاناً، ويرد بدل التراب رملاً، ويطرح التراب تحت الروشن على دجلة، وقد ابتاع دوراً كثيرة، كباراً وصغاراً، ونقضها، ورمى حيطانها بالفيلة، تخفيفاً للمؤونة، وأضاف عرصاتها إلى الميدان، وكانت مثل الميدان دفعتين، وبنى على الجميع مسناة.
فقال لي في هذا اليوم، وقد شاهد ما شاهد: تدري أيها القاضي، كم أنفق على ما قلع من التراب إلى هذه الغاية، وبناء هذه المسناة، مع ثمن ما ابتيع من الدور واستضيف؟ قلت: أظنه شيئاً كثيراً.
فقال لي: هو إلى وقتنا هذا، تسعمائة ألف درهم صحاحاً، ويحتاج إلى مثلها دفعة أو دفعتين، حتى يتكامل قلع التراب، ويحصل موضعه الرمل موازياً لوجه البستان.
فلما فرغ من ذلك، وصار البستان أرضاً بيضاء لا شيء فيها من غرس ولا نبات، قال: قد أنفق على هذا، حتى صار كذا، أكثر من ألفي ألف درهم.
ثم فكر في أن يجعل شرب البستان، من دواليب ينصبها على دجلة، فأعلم أن الدواليب لا تكفي، فأخرج المهندسين إلى الأنهار التي في ظاهر الجانب الشرقي من مدينة السلام، ليستخرجوا منها نهراً يسيح ماؤه إلى داره، فلم يجدوا ما أرادوه إلا في نهر الخالص، فعلى الأرض بين البلد وبينه تعلية أمكن معها أن يجري الماء على قدر، من غير أن يحدث به ضرر، وعمل تلين عظيمين، يساويان سطح ماء الخالص، ويرتفعان عن أرض الصحراء أذرعاً، وشق في وسطهما نهراً جعل له خورين من جانبيه، وداس الجميع بالفيلة، دوساً كثيراً، حتى قوي، واشتد، وصلب، وتلبد، فلما بلغ إلى منازل البلد، وأراد سوق النهر إلى داره، عمد إلى دور السلسلة، فدك أرضها دكاً قوياً، ورفع أبواب الدور، ووثقها، وبنى جوانب النهر، على طول البلد، بالآجر، والكلس والنورة، حتى وصل الماء إلى الدار، وسقى البستان.
قال أبي: وبلغت النفقة على عمل البستان وسوق الماء إليه، على ما سمعته من حواشي عضد الدولة، خمسة آلاف درهم.
ولعله قد أنفق على أبنية الدار - على ما أظن - مثل ذلك.
وكان عضد الدولة، عازماً على أن يهدم الدور التي بين داره، وبين الزاهر، ويصل الدار بالزاهر، فمات قبل ذلك.
المؤلف يخطب في عقد قران الخليفة
الطائع على ابنة عضد الدولة
في يوم الثلاثاء لتسع بقين من ذي القعدة سنة 369 ه. تزوج الطائع لله، بنت عضد الدولة الكبرى، وعقد العقد بحضرة الطائع، وبمشهد من الأشراف والقضاة والشهود، ووجوه الدولة، على صداق مبلغه مائة ألف دينار، وفي رواية مائتي ألف دينار، والوكيل عن عضد الدولة في العقد، أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي، والخطيب القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي.
رأى القطع خيراً من فضيحة عاشق
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن بكر البسطامي، قال: حدثنا ابن دريد، قال: حدثنا أحمد بن عيسى العكلي، عن ابن أبي خالد، عن الهيثم بن عدي، قال: كان لعمرو بن دويرة السحمي، أخ قد كلف بابنة عم له، كلفاً شديداً، وكان أبوها يكره ذلك، ويأباه، فشكا إلى خالد بن عبد الله القسري، وهو أمير العراق، أنه يسيء جواره، فحبسه، فسئل خالد في أمر الفتى، فأطلقه.
فلبث الفتى مدة، كافاً عن ابنة عمه، ثم زاد ما في قلبه، وغلب عليه الحب، فحمل نفسه على أن تسور الجدار إليها، وحصل الفتى معها.
فأحس به أبوها، فقبض عليه، وأتى به خالد بن عبد الله القسري، وادعى عليه السرق، وأتاه بجماعة يشهدون أنهم وجدوه في منزله ليلاً، وقد دخل دخول السراق.
فسأل خالد الفتى، فاعترف بأنه دخل يسرق، ليدفع بذلك الفضيحة عن ابنة عمه، مع أنه لم يسرق شيئاً.
فأراد خالد أن يقطعه، فرفع عمرو أخوه إلى خالد رقعة فيها:

أخالد قد والله أوطئت عشوة ... وما العاشق المظلوم فينا بسارق
أقر بما لم يقترفه لأنه ... رأى القطع خيراً من فضيحة عاشق
ولولا الذي قد خفت من قطع كفه ... لألفيت في أمر لهم غير ناطق
إذا مدت الغايات في السبق للعلى ... فأنت ابن عبد الله أول سابق
وأرسل خالد، مولى له، يسأل عن الخبر، ويتجسس عن جلية الأمر، فأتاه بتصحيح ما قال عمرو في شعره.
فأحضر الجارية، وأمر بتزويجها من الفتى، فامتنع أبوها، وقال: ليس هو بكفؤ لها.
قال: بلى، والله، إنه لكفؤ لها، إذ بذل يده عنها، ولئن لم تزوجها، لأزوجنه إياها وأنت كاره.
فزوجه، وساق خالد المهر عنه من ماله.
فكان يسمى العاشق، إلى أن مات.

إلى غزال من بني النصارى
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، رحمه الله، سنة 433، قال: حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري، قال: أنشدنا أبو القاسم مدرك بن محمد الشيباني، لنفسه في عمرو النصراني: قال القاضي أبو الفرج: وقد رأيت عمراً، وبقي حتى ابيض رأسه.
من عاشق ناء هواه دان ... ناطق دمع صامت اللسان
موثق قلب مطلق الجثمان ... معذب بالصد والهجران
من غير ذنب كسبت يداه ... غير هوى نمت به عيناه
شوقاً إلى رؤية من أشقاه ... كأنما عافاه من أضناه
يا ويحه من عاشق ما يلقى ... من أدمع منهلة ما ترقى
ناطقة وما أحارث نطقا ... تخبر عن حب له استرقا
لم يبق منه غير طرف يبكي ... بأدمع مثل نظام السلك
تطفيه نيران الهوى وتذكي ... كأنها قطر السماء تحكي
إلى غزال من بني النصارى ... عذار خديه سبى العذارى
وغادر الأسد به حيارى ... في ربقة الحب له أسارى
ريم بدار الروم رام قتلي ... بمقلة كحلاء لا عن كحل
وطرة بها استطار عقلي ... وحسن وجه وقبيح فعل
ريم به أي هزبر لم يصد ... يقتل باللحظ ولا يخشى القود
متى يقل: ها، قالت الألحاظ: قد ... كأنه ناسوته حين اتحد
ما أبصر الناس جميعاً بدراً ... ولا رأوا شمساً وغصناً نضرا
أحسن من عمرو فديت عمرا ... ظبي بعينيه سقاني الخمرا
ها أنا ذا بقده مقدود ... والدمع في خدي له أخدود
ما ضر من فقدي به موجود ... لو لم يقبح فعله الصدود
إن كان ديني عنده الإسلام ... فقد سعت في نقضه الآثام
واختلت الصلاة والصيام ... وجاز في الدين له الحرام
يا ليتني كنت له صليبا ... أكون منه أبداً قريبا
أبصر حسناً وأشم طيبا ... لا واشياً أخشى ولا رقيبا
يا ليتني كنت له قربانا ... ألثم منه الثغر والبنانا
أو جاثليقاً كنت أو مطرانا ... كيما يرى الطاعة لي إيمانا
يا ليتني كنت لعمرو مصحفاً ... يقرأ مني كل يوم أحرفا
أوقلماً يكتب بي ما ألفا ... من أدب مستحسن قد صنفا
يا ليتني كنت لعمرو عوذه ... أو حلة يلبسها مقذوذه
أو بركة باسمه مأخوذه ... أو بيعة في داره منبوذه
يا ليتني كنت له زنارا ... يديرني في الخصر كيف دارا
حتى إذا الليل طوى النهارا ... صرت له حينئذ إزارا
قد والذي يبقيه لي أفناني ... وابتز عقلي والضنى كساني
ظبي على البعاد والتداني ... حل محل الروح من جثماني
واكبدي من خده المضرج ... واكبدي من ثغره المفلج

لا شيء مثل الطرف منه الأدعج ... أذهب للنسك وللتحرج
إليك أشكو يا غزال الأنس ... ما بي من الوحشة بعد الأنس
يا من هلالي وجهه وشمسي ... لا تقتل النفس بغير نفس
جد لي كما جدت بحسن الود ... وارع كما أرعى قديم العهد
واصدد كصدي عن طويل الصد ... فليس وجد بك مثل وجدي
ها أنا في بحر الهوى غريق ... سكران من حبك لا أفيق
محترق ما مسني حريق ... يرثي لي العدو والصديق
فليت شعري فيك هل ترثي لي ... من سقم بي مضني طويل
أم هل إلى وصلك من سبيل ... لعاشق ذي جسد نحيل
في كل عضو منه سقم وألم ... ومقلة تبكي بدمع وبدم
شوقاً إلى شمس وبدر وصنم ... منه إليه المشتكى إذا ظلم
أقول إذ قام بقلبي وقعد ... يا عمرو، يا عامر قلبي بالكمد
أقسم بالله يمين المجتهد ... أن امرأً أسعدته لقد سعد
يا عمرو ناشدتك بالمسيح ... إلا سمعت القول من فصيح
يخبر عن قلب له جريح ... باح بما يلقى من التبريح
يا عمرو بالحق من اللاهوت ... والروح روح القدس والناسوت
ذاك الذي في مهده المنحوت ... عوض بالنطق من السكوت
بحق ناسوت ببطن مريم ... حل محل الريق منها في الفم
ثم استحال في قنوم الأقدم ... فكلم الناس ولما يفطم
بحق من بعد الممات قمصا ... ثوباً على مقداره ما قصصا
وكان لله تقياً مخلصا ... يشفي ويبري أكمها وأبرصا
بحق محيي صورة الطيور ... وباعث الموتى من القبور
ومن إليه مرجع الأمور ... يعلم ما في البر والبحور
بحق ما في شامخ الصوامع ... من ساجد لربه وراكع
يبكي إذا ما نام كل هاجع ... خوفاً إلى الله بدمع هامع
بحق قوم حلقوا الرؤوسا ... وعالجوا طول الحياة بوسى
وقرعوا في البيعة الناقوسا ... مشمعلين يعبدون عيسى
بحق ماري مريم وبولس ... بحق شمعون الصفا وبطرس
بحق دانيل بحق يونس ... بحق حزقيل وبيت المقدس
ونينوى إذ قام يدعو ربه ... مطهراً من كل سوء قلبه
ومستقيلاً فأقال ذنبه ... ونال من أبيه ما أحبه
بحق ما في قلة الميرون ... من نافع الأدواء للمجنون
بحق ما يؤثر عن شمعون ... من بركات الخوص والزيتون
بحق أعياد الصليب الزهر ... وعيد شمعون وعيد الفطر
وبالشعانين العظيم القدر ... وعيد مرماري الرفيع الذكر
وعيد إشعيا وبالهياكل ... والدخن اللاتي بكف الحامل
يشفى بها من خبل كل خابل ... ومن دخيل السقم في المفاصل
بحق سبعين من العباد ... قاموا بدين الله في البلاد
وأرشدوا الناس إلى الرشاد ... حتى اهتدى من لم يكن بهاد
بحق ثنتي عشرة من الأمم ... ساروا إلى الأقطار يتلون الحكم
حتى إذا صبح الدجى جلى الظلم ... صاروا إلى الله وفازوا بالنعم
بحق ما في محكم الإنجيل ... من محكم التحريم والتحليل
وخبر ذي نبإ جليل ... يرويه جيل قد مضى عن جيل
بحق مرقس الشفيق الناصح ... بحق لوقا ذي الفعال الصالح
بحق يوحنا الحليم الراجح ... والشهداء بالفلا الصحاصح

بحق معمودية الأرواح ... والمذبح المشهور في النواحي
ومن به من لابس الإمساح ... وعابد باك ومن نواح
بحق تقريبك في الآحاد ... وشربك القهوة كالفرصاد
وطول تبييضك للأكباد ... بما بعينيك من السواد
بحق ما قدس شعيا فيه ... بالحمد لله وبالتنزيه
بحق نسطور وما يرويه ... عن كل ناموس له فقيه
شيخان كانا من شيوخ العلم ... وبعض أركان التقى والحلم
لم ينطقا قط بغير فهم ... موتهما كان حياة الخصم
بحرمة الأسقف والمطران ... والجاثليق العالم الرباني
والقس والشماس والديراني والبطرك الأكبر والرهبان
بحرمة المحبوس في أعلى الجبل ... ومار قولا حين صلى وابتهل
وبالكنيسات القديمات الأول ... وبالسليح المرتضى بما فعل
بحرمة الأسقوفيا والبيرم ... وما حوى مغفر رأس مريم
بحرمة الصوم الكبير الأعظم ... وحق كل بركة ومحرم
بحق يوم الدنح ذي الإشراق ... وليلة الميلاد والسلاق
والذهب المذهب للنفاق ... والفصح، يا مهذب الأخلاق
بكل قداس على قداس ... قدسه القس مع الشماس
وقربوا يوم الخميس الناسي ... وقدموا الكاس لكل حاسي
إلا رغبت في رضا أديب ... باعده الحب عن الحبيب
فذاب من شوق إلى المذيب ... أعلى مناه أيسر التقريب
فانظر أميري في صلاح أمري ... محتسباً في عظيم الأجر
مكتسباً في جميل الشكر ... في نثر ألفاظ ونظم شعر
؟؟؟؟

أقبل الفم الذي قال لا إله إلا الله
أنبأنا التنوخي علي بن المحسن، قال: أخبرنا أبو بكر بن شاذان، قال: حدثني نفطويه، قال: حدثني إدريس بن إدريس، قال: حضرت بمصر قوماً من الصوفية، وعندهم غلام أمرد يغنيهم، فغلب رجل منهم على أمره، فلم يدر ما يصنع. فقال: يا هذا، قل لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله.
فقال: أقبل الفم الذي قال لا إله إلا الله.
أمست فتاة بني نهد علانية
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بالشام، بقراءتي عليه، أخبرنا علي بن أبي علي البصري قال: حدثنا الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب، قال: حدثنا جحظة، قال: كنت بحضرة الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر، فاستؤذن عليه للزبير بن بكار، حين قدم من الحجاز، فلما دخل عليه، أكرمه، وعظمه.
وقال له: لئن باعدت بيننا الأنساب لقد قربت بيننا الآداب، وإن أمير المؤمنين ذكرك، فاختارك لتأديب ولده، وأمر لك بعشرة آلاف درهم، وعشرة تخوت من الثياب، وعشرة بغال تحمل عليها رحلك إلى حضرته بسر من رأى.
فشكره على ذلك، وقبله.
فلما أراد توديعه، قال له: أيها الشيخ، أما تزودنا حديثاً نذكرك به؟ قال: أحدثك بما سمعت أو بما شاهدت؟ قال: بل بما شاهدت.
فقال: بينا أنا في مسيري هذا بين المسجدين، إذ بصرت بحبالة منصوبة فيها ظبي ميت، وبإزائه رجل على نعشه ميت، ورأيت امرأة حرى، تسعى، وهي تقول:
يا خشن لو بطل، لكنه أجل ... على الأثاية ما بك البطل
يا خشن قلقل أحشائي وأزعجها ... وذاك يا خشن عندي كله جلل
أمست فتاة بني نهد علانية ... وبعلها في أكف القوم يبتذل
قد كنت راغبة فيه أظن به ... فحال من دون ضن الرغبة الأجل
قال: فلما خرج من حضرته، قال لنا محمد بن عبد الله بن طاهر، أي شيء أفدنا من الشيخ؟.
قلنا له: الأمير أعلم.
فقال: قوله: أمست فتاة بني نهد علانية، أي ظاهرة، وهذا حرف لم أسمعه في كلام العرب قبل هذا.
ما لمن ذاق ميتة من إياب

أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن، فيما أذن لنا أن نرويه عنه، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثني هارون بن أبي بكر بن عبد الله بن مصعب، قال: حدثني إسحاق بن يعقوب مولى آل عثمان، عن أبيه، قال: إنا لبفناء دار عمرو بن عثمان بالأبطح، صبح خامسة من التهاني، إذ درئت برجل على راحلة، ومعه أداوة جميلة، قد جنب إليها فرساً وبغلاً، ومعه رفيق له، فوقفا علي، فسألاني، فانتسبت لهما عثمانياً، فنزلا، وقالا: رجلان من أهلك، قد نابتنا إليك حاجة، نحب أن تقضيها قبل الشدة بأمر الحاج.
قلت: فما حاجتكما؟ قالا: نريد إنساناً يوقفنا على قبر عبيد الله بن سريج.
قال: فنهضت معهما، حتى بلغت محلة ابن أبي قارة، من خزاعة، بمكة، وهم موالي عبيد الله بن سريج، فالتمست لهما إنساناً يصحبهما، حتى يوقفهما على قبره بدسم، فوجدت ابن أبي دباكل، فأنهضته معهما.
فأخبرني ابن أبي دباكل، أنه لما وقفهما على قبره، نزل أحدهما عن راحلته، وهو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان، ثم عقرها، واندفع يغني غناء الركبان بصوت طليل حسن:
وقفنا على قبر بدسم فهاجنا ... وذكرنا بالعيش إذ هو مصحب
فجالت بأرجاء الجفون سوافح ... من الدمع تستتلى التي تتعقب
إذا أبطأت عن ساحة الخد ساقها ... دم بعد دمع إثره يتصبب
فإن تسعدا نندب عبيداً بعولة ... وقل له منا البكا والتحوب
فلما أتى عليها، نزل صاحبه، فعقر ناقته، وهو رجل من جذام، يقال له: عبيد الله بن المنتشر، فاندفع يتغنى غناء الخلوات:
فارقوني وقد علمت يقيناً ... ما لمن ذاق ميتة من إياب
إن أهل الحصاب قد تركوني ... موجعاً مولعاً بأهل الحصاب
أهل بيت تتابعوا للمنايا ... ما على الدهر بعدهم من عتاب
سكنوا الجزع جزع بيت أبي مو ... سى إلى الشعب من صفي الشباب
كم بذاك الحجون من حي صدق ... من كهول أعفة وشباب
قال: ابن أبي دباكل: فوالله، ما أتم منها ثالثاً، حتى غشي على صاحبه، ومضى غير معرج عليه، حتى إذا فرغ، جعل ينضح الماء في وجهه، ويقول: أنت أبداً، منصوب على نفسك من كلفات ما ترى.
فلما أفاق قرب إليه الفرس، فلما علاه، استخرج الجذامي، من خرج على البغل، قدحاً، وأداوة، فجعل في القدح، تراباً من تراب القبر، وصب عليه ماء، ثم قال: هاك، فاشرب هذه السلوة، فشرب، ثم جعل الجذامي، مثل ذلك لنفسه، ثم نزا على البغل، وأردفني، فخرجنا، لا والله، ما يعرجان، ولا يعرضان بذكر شيء مما كانا فيه، ولا أرى في وجوههما مما كنت أرى قبل شيئاً.
قال: فلما اشتمل علينا أبطح مكة، مد يده إلي بشيء، وإذا عشرون ديناراً.
فوالله، ما جلست حتى ذهبت ببعيري، واحتملت أداوي الراحلتين، فبعتهما بثلاثين ديناراً.

حديث بهرام جور وولده
أنبأنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم بن أحمد المازني الكاتب، قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي قال: حدثنا عيسى بن محمد أبو ناظرة السدوسي، قال: حدثني قبيصة بن محمد المهلبي، قال: أخبرني اليمان بن عمرو، مولى ذي الرياستين، قال: كان ذو الرياستين، يبعثني، ويبعث أحداثاً من أحداث أهله، إلى شيخ بخراسان، له أدب، وحسن معرفة بالأمور، ويقول لنا: تعلموا منه الحكمة، فإنه حكيم، فكنا نأتيه، فإذا انصرفنا من عنده، سألنا ذو الرياستين، واعترض ما حفظناه، فنخبره به.
فقصدنا ذات يوم إلى الشيخ، فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم، ولكم جدات ونعم، فهل فيكم عاشق؟ فقلنا: لا.
فقال: اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان العيي، ويفتح حيلة البليد والمخبل، ويبعث على التنظف وتحسين اللباس، وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء، ويشرف الهمة، وإياكم والحرام.
فانصرفنا من عنده إلى ذي الرياستين، فسألنا عما أخذنا في يومنا ذاك، فهبنا أن نخبره، فعزم علينا، فقلنا: إنه أمرنا بكذا وكذا.
قال: صدق والله، تعلمون من أين أخذ هذا؟ قلنا: لا.

قال: إن بهرام جور كان له ابن، وكان قد رشحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة، ساقط المروءة، خامل النفس، سيء الأدب، فغمه ذلك، ووكل به المؤدبين، والمنجمين، والحكماء، ومن يلازمه ويعلمه، وكان يسألهم عنه، فيحكون له ما يغمه من سوء فهمه، وقلة أدبه.
إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوماً، فقال له المؤدب: قد كنا نخاف سوء أدبه، فحدث من أمره، ما صيرنا إلى اليأس من فلاحه.
قال: وما ذاك الذي حدث؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان، فعشقها حتى غلبت عليه، فهو لا يهذي إلا بها، ولا يتشاغل إلا بذكرها.
فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه.
ثم دعا بأبي الجارية، فقال له: إني مسر إليك سراً، فلا يعدونك، فضمن له ستره، فأعلمه أن ابنه، قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها، ومراسلته من غير أن يراها، وتقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها، تجنت عليه، وهجرته، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك، ومن همته همة ملك، وأنها تمنع من مواصلتها من لا يصلح للملك، ثم ليعلمه خبرها وخبره، ولا يطلعها على ما أسر إليه، فقبل أبوها ذلك منه.
ثم قال للمؤدب الموكل بولده: شجعه على مراسلة المرأة، ففعل ذلك، وفعلت المرأة، ما أمرها به أبوها.
فلما انتهت إلى التجني عليه، وعلم الفتى السببا لذي كرهته له، أخذ في الأدب، وطلب الحكمة، والعلم، والفروسية، والرماية، وضرب الصوالجة، حتى مهر في ذلك، ثم رفع إلى أبيه، أنه محتاج إلى الدواب، والآلات، والمطاعم، والملابس، والندماء، وإلى فوق ما تقدم له، فسر الملك بذلك، وأمر له به.
ثم دعا مؤدبه، فقال: إن الموضع الذي وضع به ابني نفسه من حيث هذه المرأة، لا يزري به، فتقدم إليه أن يرفع إلي أمرها، ويسألني أن أزوجه إياها، ففعل، فرفع الفتى ذلك إلى أبيه، فدعا بأبيها، فزوجها إياه، وأمر بتعجيلها إليه، وقال: إذا اجتمعتما فلا تحدث شيئاً حتى أصير إليك.
فلما اجتمعا، صار إليه، فقال: يا بني، لا يضعن منها عندك مراسلتها إياك، وليست في حبالك، فإني أنا أمرتها بذلك، وهي أعظم الناس منة عليك، بما دعتك إليه من طلب الحكمة، والتخلق بأخلاق الملوك، حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي، وزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك.
ففعل الفتى ذلك، وعاش مسروراً بالجارية، وعاش أبوه مسروراً به، وأحسن ثواب أبيها، ورفع مرتبته، وشرفه بصيانة سره وطاعته، وأحسن جائزة المؤدب بامتثاله ما أمره، وعقد لابنه على الملك بعده.
قال اليماني، مولى ذي الرياستين: ثم قال لنا ذو الرياستين: سلوا الشيخ الآن، لم حملكم على العشق؟ فسألناه، فحدثنا بحديث بهرام جور وابنه.

اللهم فرج ما ترى
أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قالا: حدثنا أبو عمر بن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثني إسحاق بن محمد بن أبان، قال: أخبرني بعض البصريين، قال: مر أبو السائب المخزومي بسوداء تستقي، وتسقي بستاناً، فقال: ويلك، ما لك؟ قالت: صديقي، عبد بني فلان، كان يحبني وأحبه، ففطن بنا، فقيده مواليه، وصيرني مولاي في هذا العمل.
فقال أبو السائب: والله، لا يجمع عليك ثقل الحب، وثقل ما أرى، وقام مقامها في الزرنوق، فكل الشيخ وعرق، فجعل يمسح العرق، ويقول: اللهم فرج ما ترى.
4
-
الجزء الخامس
الخليفة المستكفي
ينقل قاضياً وينصب بدلاً منه أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال:

لما نقل المستكفي بالله أبا السائب عن القضاء بمدينة المنصور، وذلك في يوم الاثنين مستهل شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، قلد في هذا اليوم، أبا الحسن محمد بن علي بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عبيد الله بن عيسى بن موسى بن محمد علي بن عبد الله بن العباس ابن عبد المطلب، ويعرف هو وأهله ببني أم شيبان، وهي والدة يحيى ابن عبد الله جد أبيه، وهي المكناة بأم شيبان، واسمها وكنيتها، وهي بنت يحيى بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن زكريا بن طلحة بن عبيد الله، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم زكريا بن طلحة: أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وأم أبيه صالح بن علي: فاطمة بنت جعفر بن محمد ابن عمار البرجمي، قاضي القضاة بسر من رأى، قال طلحة: فقد ولده ثلاثة من الصحابة من قريش، وله ولادة في البراجم من العرب.
والقاضي أبو الحسن محمد بن صالح، من أهل الكوفة، وبها ولد ونشأ، وكتب الحديث، وقدم بغداد سنة إحدى وثلاثمائة مع أبيه، ثم تكرر دخوله إياها، ثم دخل إليها في سنة سبع وثلاثمائة، فقرأ على أبى بكر بن مجاهد، ولقي الشيوخ.
ثم انتقل إلى الحضرة، فاستوطنها في سنة ستة عشرة وثلاثمائة، وصاهر قاضي القضاة أبو عمر محمد بن يوسف على بنت بنته.
قال طلحة: وأبو الحسن رجل عظيم القدر، وافر العقل، واسع العلم، كثير الطلب للحديث، حسن التصنيف، مدمن الدرس والمذاكرة، ينظر في فنون العلم والآداب، متوسط في الفقه على مذهب ابن مالك، ولا اعلم قاضياً تقلده القضاة بمدينة السلام من بني هاشم غيره.
ثم قلده المطيع قضاء الشرقية، مضافاً إلى مدينة المنصور، وذلك في رجب سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، فصار على قضاء الجانب الغربي بأسره إلى شهر ربيع الأول سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، فان بغداد جمعت لأبى السائب عتبة بن عبيد الله.
وقلد القاضي أبو الحسن، مصر، وأعمالها، والرملة، وقطعة من أعمال الشام.

لماذا سمي زوج الحرة
حدثنا القزاز، قال: أخبرنا علي بن المحسن القاضي، قال: حدثني أبى، قال: حدثني الأمير أبو الفضل جعفر بن المكتفي بالله، قال: كانت بنت بدر مولى المعتضد، زوجة أمير المؤمنين المقتدر بالله، فأقامت عنده سنين، وكان لها مكرماً، وعليها مفضلاً الافضال العظيم، فتاثلت حالها، وانضاف ذلك إلى عظيم نعمتها الموروثة.
وقتل المقتدر. فأفلتت من النكبة، وسلم لها جميع أموالها وذخائرها، حتى لم يذهب لها شيء، وخرجت من الدار.
وكان يدخل إلى مطبخها حدث، يحمل على رأسه، يعرف بمحمد بن جعفر، وكان حركاً، فنفق على القهرمانة بخدمته، فنقلوه، إلى أن صار وكيل المطبخ، وبلغها خبره، ورأته، فردت إليه الوكالة في غير المطبخ.
وترقى أمره، حتى صار ينظر في ضياعها، وعقارها، وغلب عليها، حتى صارت تكلمه من وراء ستر، وخلف باب.
وزاد اختصاصه بها، حتى علق بقلبها، فاستدعته إلى تزويجها، فلم يجسر على ذلك، فجسرته، وبذلت مالاً، حتى تم لها ذلك.
وقد كانت حالته تأثلت بها، وأعطته، لما أرادت ذلك منه، أموالاً جعلها لنفسه نعمة ظاهرة، لئلا يمنعها أولياؤها منه لفقره، وأنه ليس بكفءٍ، ثم هادت القضاة بهدايا جليلة حتى زوجوها منه، واعترضها الأولياء، فغالبتهم بالحكم والدراهم، فتم له ذلك ولها.
فأقام معها سنين، ثم ماتت، فحصل له من مالها، نحو ثلاثمائة ألف دينار، فهو يتقلب إلى الآن فيها.
قال أبي: قد رأيت أنا هذا الرجل، وهو شيخ عاقل، شاهد، مقبول، توصل بالمال إلى أن قبله أبو السائب القاضي، حتى أقر في يده وقوف الحرة، ووصيتها، لأنها أوصت إليه في مالها ووقوفها، وهو إلى الآن لا يعرف إلا بزوج الحرة.
و إنما سميت الحرة، لأجل تزويج المقتدر بها، وكذا عادة الخلفاء، لغلبة المماليك عليهم، وإذا كانت لهم زوجة، قيل لها: الحرة.
البيضاوي أزرق كوسج
أخبرنا أبو المنصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: سمعت التنوخي يقول: حضرت عند أبي الحسن بن لؤلؤ مع أبي الحسين البيضاوي، لنقرأ عليه، وكان ذلك له عدد من يحضر السماع، ودفعنا أليه دراهم كنا قد واقفناها عليه.
فرأى في جملتنا واحداً زائداً عن العدد الذي ذكر له، فأمر بإخراجه، فجلس الرجل في الدهليز، وجعل البيضاوي يقرأ، ويرفع صوته، ليسمع الرجل.

فقال ابن لؤلؤ: يا أبا الحسين، أتعاطى علي، وأنا بغدادي، باب طاقي، وراق، صاحب حديث، شيعي، أ زرق، كوسج.
ثم أمر جاريته أن تدق بالهاون أشناناً حتى لايصل صوت البيضاوي بالقراءة إلى الرجل.

القاضي ابن قريعة
يستخلف التنوخي على قضاء الأهواز قال أبو الفرج الشلجي: حدثني أبو علي التنوخي القاضي، قال: لما قلدني القاضي أبو بكر بن قريعة، قضاء الأهواز خلافة له، كتب إلى المعروف بابن سركر الشاهد، وكان خليفته على القضاء قبلي، كتاباً على يدي، وعنوانه: إلى المخالف الشاق، السيء الأخلاق، الظاهر النفاق، محمد بن اسحاق.
أبو القاسم الصاحب ابن عباد
يشتهي مشاهدة ثلاثة من بغداد أخبرنا عبد الرحمن، قال: أخبرنا الخطيب، قال: سمعت أبا القاسم التنوخي يقول: كان الصاحب أبو القاسم بن عباد يقول: كنت أشتهي أن أدخل بغداد وأشاهد جرأة محمد بن عمر العلوي، وتنسك أبي أحمد الموسوي، وظرف أبي محمد بن معروف.
أبو الفضل الزهري
محدث وآباؤه كلهم محدثون أخبرنا أبو منصور القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: أخبرنا التنوخي، قال: سئل أبو الحسن الدار قطني، وأنا أسمع، عن أبي الفضل الزهري، فقال: هو ثقة، صدوق، صاحب كتاب، وليس بينه وبين عبد الرحمن بن عوف إلا من قد روي عنه الحديث.
ثم قال الخطيب: حدثنا الصوري، قال: حدثني بعض الشيوخ: أنه حضر مجلس القاضي أبي محمد بن معروف يوماً، فدخل أبو الفضل الزهري، وكان أبو الحسين بن المظفر حاضراً، فقام عن مكانه، وأجلس أبا الفضل فيه، ولم يكن ابن معروف، يعرف أبا الفضل، فأقبل عليه ابن المظفر، فقال: أيها القاضي، هذا الشيخ من ولد عبد الرحمن بن عوف، وهو محدث، وآباؤه كلهم محدثون إلى عبد الرحمن بن عوف.
ثم قال ابن المظفر: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن سعد الزهري، والد هذا الشيخ، وحدثنا فلان عن أبيه محمد بن عبيد الله، وحدثنا فلان عن جده عبيد الله بن سعد.
ولم يزل يروي لكل واحد من آباء أبي الفضل حديثاً، حتى انتهى إلى عبد الرحمن بن عوف.
المؤلف التنوخي يتحدث عن نفسه
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا الخطيب، قال: حدثنا ابن المحسن ابن علي، قال: قال لي أبي: مولدي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالبصرة، وكان مولده في ليلة الأحد لأربع بقين من ربيع الأول.
وأول سماعة الحديث في سنة ثلاث وثلاثين و ثلاثمائة.
وأول ما تقلد القضاء من قبل أبى السائب عتبة بن عبيد الله بالقصر وبسورا في سنة تسع وأربعين.
ثم ولاه المطيع لله القضاء بعسكر مكرم وايذج ورامهرمز.
وتقلد بعد ذلك أعمالاً كثيرة في نواح مختلفة.
ذو الكفايتين أبو الفتح بن العميد
يحيي سهرة تنتهي باعتقاله أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني أبو اسحاق ابراهيم بن علي بن سعيد النصيبي، قال: كان أبو الفتح بن العميد، الملقب بذي الكفايتين، قد تداخله في بعض العشايا سرور، فاستدعى ندماءه، وعبى لهم مجلساً عظيماً، بآلات الذهب والفضة، وفاخر الزجاج، والصيني، والآلات الحسنة، والطيب، والفاكهة الكثيرة، وأحضر المطرب، وشرب بقية يومه، وعامة ليلته، ثم عمل شعراً، أنشده ندماءه، وغني به في الحال، وهو:
دعوت المنى ودعوت العلى ... فلما أجابا دعوت القدح
وقلت لأيام شرخ الشباب ... إلى فهذا أوان الفرح
وإذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح
قال: وكان هذا بعد تدبيره على الصاحب أبي القاسم بن عباد، حتى أبعده عن كتبة صاحبه الأمير مؤيد الدولة، وسيره عن حضرته بالري، إلى أصبهان، وانفرد هو بتدبير الأمور لمؤيد الدولة، كما كان لركن الدولة.
فلما غني الشعر استطابه، وشرب عليه، إلى أن سكر، ثم قال لغلمانه: غطوا المجلس، ولا تسقطوا منه شيئاً، لأصطبح في غدٍ عليه، وقال لندمائه: باكروني، ولا تتأخروا، فقد اشتهيت الصبوح، وقام إلى بيت منامه، وانصرف لندمائه.
ودعاه مؤيد الدولة في السحر، فلم يشك أنه لمهم، فقبض عليه، وأنفذ إلى داره من أخذ جميع ما فيها، وتطاولت به النكبة، ثم وزر لأخيه فخر الدولة، فبقي في الوزارة ثماني عشرة سنة وشهوراً، وفتح خمسين قلعة سلمها إلى فخر الدولة، لم يجتمع مثلها لأبيه.

وكان الصاحب عالماً بفنون من العلوم كثيرة، لم يقاربه في ذلك وزير، وله التصانيف الحسان، والنثر البالغ، وجمع كتباً عظيمة، حتى كان يحتاج إلى نقلها على أربعمائة جمل.
وكان يخالط العلماء والأدباء، ويقول لهم: نحن بالنهار سلطان، وبالليل إخوان.

من شعر الحسن بن حامد
أنشدنا الحسن بن علي الجوهري، وعلي بن المحسن التنوخي، قالا: أنشدنا أبو محمد الحسن بن حامد لنفسه:
شريت المعالي غير منتظر بها ... كساداً ولا سوقاُ تقام لها أخرى
وما أنا من أهل المكاس وكلما ... توفرت الأثمان كنت لها أشرى
الشاعر ابن سكرة
يدخل محمداً ويخرج بشراً أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا الخطيب، قال: أنشدني علي بن المحسن، قال: أنشدني أبو الحسن بن سكرة، وقال: دخلت حماماً وخرجت وقد سرق مداسي، فعدت إلى داري حافياً، وأنا أقول:
إليك أذم حمام ابن موسى ... وان فاق المنى طيباً وحرا
تكاثرت اللصوص عليه حتى ... ليحفى من يطيف به ويعرى
ولم أفقد به ثوباً ولكن ... دخلت محمداً وخرجت بشرا
ابن سكرة الهاشمي
يهجو القاضي أبا السائب ومن أشعار ابن سكرة الهاشمي، ما قاله في القاضي أبا السائب:
إن شئت أن تبصر أعجوبة ... من جور أحكام أبي السائب
فاعمد من الليل إلى صرة ... وقرر الأمر مع الحاجب
حتى ترى مروان يقضى له ... على علي بن أبي طالب
يسقط من موضع عالي فيسلم
ثم يعثر بعتبة الباب فيقع ميتاً أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن، عن أبيه، قال: حدثني أبو القاسم عبد الله بن أحمد الإسكافي، قال: سمعت أبا الحسن محمد بن عمر العلوي، يقول: انه لما بنى داره بالكوفة، وكان فيها حائط عظيمالعلو، فبينا البناء قائم على أعلاه لا سلاحه، سقط على الأرض، فارتفع الضجيج استعظاماً للحال، لأن العادة لم تجر بسلامة من يسقط عن مثل ذلك الحائط، فقام الرجل سالماً لا قلبه به، وأراد العود إلى الحائط، ليتم البناء.
فقال له الشريف أبو الحسن: قد شاع سقوطك من أعلى الحائط، وأهلك لا يصدقون سلامتك، ولست أحب أن يردوا إلى بابي صوارخ، فامض إلى أهلك، ليشاهدوا سلامتك، وعد إلى شغلك.
فمضى مسرعاً، فعثر بعتبة الباب، فسقط ميتاً.
بين أبي اسحاق الطبري
وأبي الحسين بن سمعون أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر بن ثابت، قال: حدثني علي ابن أبي علي المعدل، قال: قصد أبو الحسين بن سمعون أبا اسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري ليهنئه بقدومه من البصرة، فجلس في الموضع الذي جرت عادة أبي اسحاق بالجلوس فيه لصلاة الجمعة من جامع المدينة، ولم يكن وافي، فلما جاء والتقيا، قام إليه، وسلم عليه، وقال له بعد أن جلسا:
الصبر إلا عنك محمود ... والعيش إلا بك منكود
ويوم تأتي سالماً غانماً ... يوم على الإخوان مسعود
مذ غبت غاب الخير من عندنا ... وان تعد فالخير مردود
أبو القاسم الخبزأرزي
يهدي للتنوخي سبحة سبج حدثنا القاضي التنوخي، قال: أهدى إلى نصر بن أحمد الخبزأرزي، سبحة سبج، وكتب معها:
بعثت يا بدر بني يعرب ... بسبحة من سبج معجب
يقول من أبصرها طرفه ... نعم عتاد الخائف المذنب
لم تخط إن فكرت في نظمها ... ولونها من حمة العقرب
عبد الصمد يدق السعد في العطارين
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: كان عبد الصمد يدق السعد في العطارين، ويذهب مذهب التدين والتصوف، والتعفف والتقشف.
فسمع عطاراً يهودياً، يقول لابنه: يا بني، قد جربت هؤلاء المسلمين، فما وجدت فيهم ثقة.
فتركه عبد الصمد أياماً، ثم جاءه، فقال: أيها الرجل، تستأجرني لحفظ دكانك؟ قال: نعم، وكم تأخذ مني؟ قال: ثلاثة أرطال خبز، ودانقين فضة كل يوم.
قال: قد رضيت.
قال: فأعطني الخبز أدراراً، واجمع لي الفضة عندك، فإني أريدها لكسوتي.
فعمل معه سنة، فلما انقضت، جاءه، فحاسبه، فقال: انظر لدكانك.
قال: قد نظرت.

قال: فهل وجدت خيانة أو خللاً؟ قال: لا والله.
قال: فإني لم أرد العمل معك، وإنما سمعتك تقول لولدك في الوقت الفلاني، إنك لم تر في المسلمين أميناً، فأردت أن أنقض عليك قولك، وأعلمك أنه إذا كان مثلي - وأنا أحد فقرائهم - على هذه الصورة، فغيري من المسلمين على مثلها، وما هو أكثر منها.
ثم فارقه، وأقام على دق السعد.

طلسم في صعيد مصر يطرد الفار
قال أبو علي التنوخي: حدثني من أثق به، وهو أبو عبد الله الحسين ابن عثمان الخرقي الحنبلي، قال: توجهت إلى الصعيد في سنة 359 فرأيت في باب ضيعة لأبي بكر علي ابن صالح الروذباري تعرف بابسوج، شارعة على النيل بين القيس والبهنسا، صورة فأر في حجر، والناس يجيئون بطين من طين فيطبعون فيه تلك الصورة، ويحملونه إلى بيوتهم.
فسألت عن ذلك، فقيل لي: ظهر عن قريب، من سنيات، هذا الطلسم، وذاك انه كان مركب فيه شعير تحت هذه البيعة، فقصد صبي من المركب ليلعب، فأخذ من هذا الطين، وطبع الفأرة، ونزل بالطين المطبوع إلى المركب، فلما حصل فيه، تبادر فأر المركب يظهرون ويرمون أنفسهم في الماء.
فعجب الناس من ذلك، وجربوه في البيوت، فكان أي طابع حصل في داره، لم تبقى فيها فأرة إلا خرجت، فتقتل، أو تفلتت إلى موضع لا صورة فيه.
فكثر الناس أخذ الصورة في الطين، وتركها في منازلهم، حتى لم تبقى فأرة في الطريق والشوارع.
وشاع ذلك، وذاع في البلدان.
حجر عجيب الخواص
في ضيعة عين جاره قال أبو علي التنوخي: حدثني الحسين بن نبت، غلام الببغاء، وكتب لي خطه، وشهد له الببغاء بصحة الحكاية، قال: كانت من أعمال حلب، ضيعة تعرف بعين جاره، بينها وبين الهونة، أو قال: الحونة، أو الجومة، حجر قائم كالتخم بين الضيعتين.
وربما وقع بين أهل الضيعتين شر، فيكيدهم أهل الهونة، بأن يلقوا ذلك الحجر القائم، فكما يقع الحجر، يخرج أهل الضيعتين من النساء ظاهرات متبرجات، لا يعقلن على أنفسهن، طلباً للجماع، ولا يستحيين من الحال، لما عليهن من غلبة الشهوة.
إلى أن يتبادر الرجال إلى الحجر، فيعيدونه إلى حالته الأولى قائماً، منتصباً، فتتراجع النساء إلى بيوتهن، وقد عاد إليهن التمييز باستقباح ما كن وهذه الضيعة كان سيف الدولة الحمداني أقطعها أبا علي أحمد بن نصر البازيار، وكان أبو علي يتحدث بذلك، ويسمعه الناس منه.
وقد ذكر هذه الحكاية، بخطه في الأصل.
مشهد النذور بظاهر سور بغداد
حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثني أبي، قال: كنت جالساُ بحضرة عضد الدولة، ونحن مخيمون بالقرب من مصلى الأعياد، في الجانب الشرقي من مدينة السلام، نريد الخروج معه إلى همذان، في أول يوم نزل العسكر، فوقع طرفه على البناء الذي علي قبر النذور.
فقال لي: ما هذا البناء؟ فقلت: هذا مشهد النذور، ولم أقل قبر، لعلمي بتطيره من ذكر هذا.
فاستحسن اللفظ، وقال: قد علمت أنه قبر النذور، وإنما أردت شرح أمره.
فقلت: هذا يقال انه قبر عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن بعض الخلفاء أراد قتله خفية، فجعل له هناك زبية، وسير عليها وهو لا يعلم، فوقع فيهان وهيل عليه التراب حياً، وإنما شهر بقبر النذور، لأنه ما يكاد ينذر له نذر إلا صح، وبلغ الناذر ما يريد، ولزمه الوفاء بالنذر، وأنا أحد من نذر له مراراً لا أحصيها كثرة، نذوراً على أمور متعددة، فبلغتها، ولزمني النذر، فوفيت به.
فلم يقبل هذا القول، وتكلم بما دل على أن هذا إنما يقع منه اليسير اتفاقاً، فيتسوق العوام بأضعافه، ويسيرون الأحاديث الباطلة فيه، فامسكت.
فلما كان بعد أيام يسيرة، ونحن معسكرون في موضعنا، استدعاني، في غدوة يوم، وقال: اركب معي إلى مشهد النذور.
فركبت، وركب في نفر من حاشيته، إلى أن جئت به إلى الموضع، فدخله، وزار القبر، وصلى عنده ركعتين، سجد بعدهما سجدة طويلة، أطال فيها المناجاة بما لم يسمعه أحد، ثم ركبنا معه إلى خيمته، ثم رحل ورحلنا معه نريد همذان، وبلغناها، وأقمنا فيها معه شهوراً.
فلما كان بعد ذلك استدعاني وقال لي: ألست تذكر ما حدثتني به في أمر مشهد النذور ببغداد؟ فقلت: بلى.

فقال: إني خاطبتك في معناه، بدون ما كان في نفسي، اعتماداً لاحسان عشرتك، والذي كان في نفسي، في الحقيقة، أن جميع ما يقال فيه كذب.
فلما كان بعد ذلك بمديدة، طرقني أمر خشيت أن يقع ويتم، وأعملت فكري في الاحتيال لزواله، ولو بجميع ما في بيوت أموالي، وسائر عساكري، فلم أجد لذلك فيه مذهباً.
فتذكرت ما أخبرتني به من النذر لقبر النذور، فقلت: لما لا أجرب ذلك؟ فنذرت إن كفاني الله سبحانه ذلك الأمر، أن أحمل إلى صندوق هذا المشهد عشرة آلاف درهم صحاحاً.
فلما كان اليوم، جاءتني الأخبار بكفايتي ذلك الأمر، فتقدمت إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف - يعني كاتبه - أن يكتب إلى أبي الريان - وكان خليفته ببغداد - بحملها إلى المشهد.
ثم التفت إلى عبد العزيز، وكان حاضراً، فقال له: قد كتبت بذلك، ونفذ الكتاب.

ألوان غريبة من الورد
حكى صاحب نشوار المحاضرة: أنه رأى ورداً أصفر، واستغرب ذلك، وقد رأيناه كثيراً، إلا أنه امتاز بكونه عد ورق وردة، فكانت ألف ورقة، ورأى ورداً أسود حالك اللون، له رائحة ذكية، ورأى بالبصرة وردة، نصفها أحمر قاني الحمرة، ونصفها الآخر ناصع البياض، والورقة التي قد وقع الخط فيها كأنها مقسومة بقلم.
ذكر خبر بناء مدينة السلام
أخبرنا القاضي علي بن أبي علي المعدل التنوخي، قال: أخبرنا طلحة ابن محمد بن جعفر، قال: أخبرني محمد بن جرير إجازة: أن أبا جعفر المنصور بويع له سنة ست وثلاثين ومائة، وأنه ابتدأ أساس المدينة سنة خمس وأربعين ومائة، واستتم البناء، سنة ست وأربعين ومائة، وسماها مدينة السلام.
مدينة السلام
لم يمت فيها خليفة قط قال أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح: لم يمت بمدينة السلام خليفة، مذ بنيت إلا محمد الأمين، فانه قتل في شارع باب الأنبار، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين، وهو في معسكره بين بطاطيا وباب الأنبار، فأما المنصور، وهو الذي بناها، فمات حاجاً، وقد دخل الحرم، ومات المهدي بماسبذان، ومات الهادي بعيساباذ، ومات هارون بطوس، ومات المأمون بالبدندون من بلاد الروم، وحمل - فيما قيل - إلى طرسوس فدفن بها، ومات المعتصم بسر من رأى، وكل من ولي الخلافة بعده من ولده، وولد ولده، إلا المعتمد والمعتضد والمكتفي فانهم ماتوا بالقصور من الزندورد، فحمل المعتمد ميتاً إلى سر من رأى، ودفن المعتضد في موضع من دار محمد بن عبد الله بن طاهر، ودفن المكتفي في موضع من دار ابن طاهر.
قال الخطيب الحافظ أبو بكر: ذكرت هذا الخبر للقاضي أبي القاسم علي بن المحسن التنوخي رحمه الله، فقال: محمد الأمين أيضاً لم يقتل في المدينة، وإنما كان قد نزل في سفينة إلى دجلة ليتنزه، فقبض عليه في وسط دجلة، وقتل هناك، ذكر ذلك الصولي وغيره.
وقال أحمد ين أبي يعقوب الكاتب: قتل الأمين خارج باب الأنبار.
الصنم الموجود على رأس القبة الخضراء
حدثني القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: سمعت جماعة من شيوخنا يذكرون: أن القبة الخضراء، كان على رأسها صورة فارس في يده رمح، فكان السلطان إذا رأى أن ذلك الصنم قد استقبل بعض الجهات، ومد الرمح نحوها، علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت حتى ترد عليه الأخبار، بأن خارجياً قد نجم من تلك الجهة، أو كما قال.
الأبواب الحديد على مدينة المنصور
حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن، قال: حدثني أبو الحسن ابن عبيد الزجاج الشاهد، وكان مولده في شهر رمضان من سنة أربع وتسعين ومائتين، قال: أذكر في سنة سبع وثلاثمائة، وقد كسرت العامة الحبوس بمدينة المنصور، فأفلت من كان فيها، وكانت الأبواب الحديد التي للمدينة باقية، فغلقت، وتتبع أصحاب الشرط من أفلت من الحبوس، فأخذوا جميعهم، حتى لم يفتهم منهم أحد.
الماء المنبثق من قبين
يهدم طاقات باب الكوفة في مدينة المنصور حدثني علي بن المحسن، قال: قال لي القاضي أبو بكر بن أبي موسى الهاشمي: انبثق البثق من قبين، وجاء الماء الأسود فهدم طاقات باب الكوفة، ودخل المدينة فهدم دورنا، فخرجنا إلى الموصل، وذلك في سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة، وأقمنا بالموصل سنين عدة، ثم عدنا إلى بغداد، فسكنا طاقات العكي.
عدد الخدم والفراشين في قصر الخلافة

حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثني أبو الفتح احمد بن علي بن هارون المنجم، قال: حدثني أبي قال: قال أبو القاسم علي بن محمد الخوارزمي، في وصف أيام المقتدر بالله، وقد جرى حديثه، وعظم أمره، وكثر الخدم في داره: قد اشتملت الجريدة على أحد عشر ألف خادم خصي، وكذا، من صقلبي ورومي وأسود.
وقال: هذا جنس واحد ممن تضمنه الدار، فدع الآن الغلمان الحجرية، وهم ألوف كثيرة، والحواشي من الفحول.
وقال أيضاً: حدثني أبو الفتح عن أبيه وعمه، عن أبيهما عن أبي الحسن علي بن يحيى: أنه كانت عدة كل نوبة من نوب الفراشين في دار المتوكل على الله، أربعة آلاف فراش، قالا: فذهب علينا أن نسأله، كم نوبة كانوا.

من شعر صاحب النشوار
أنشدنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أنشدني أبي لنفسه:
يوم سرقنا العيش فيه خلسة ... في مجلس بفناء دجلة مفرد
رق الهواء برَقَةٍ قدامه ... فغدوت رقاً للزمان المسعد
فكأن دجلة طيلسان أبيض ... والجسر فيها كالطراز الأسود
الوزير ابن الفرات
يقيد، ويغل، ويلبس جبة صوف نقعت بماء الأكارع حدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي، قال: حدثني أبو الحسين علي بن هشام، قال: كنت حاضراً مع أبي، مجلس أبي الحسن بن الفرات، في شهر ربيع الآخر، سنة خمس وثلاثمائة، في وزارته الثانية، فسمعته يتحدث، ويقول: دخل إلي أبو الهيثم، العباس بن محمد بن ثوابة الأنباري، في محبسي في دار المقتدر بالله وطالبني بأن أكتب له خطي بثلاثة عشر ألف ألف دينار.
فقلت هذا ما جرى على يدي للسلطان في طول أيام ولايتي، فكيف أصادر على مثله؟ قال: قد حلفت بالطلاق على أنه لا بد أن تكتب بذلك، فكتبت له ثلاث عشر ألف ألف، ولم أذكر درهماً ولا ديناراً.
فقال: اكتب ديناراً لأبرأ من يميني، فكتبت، وضربت عليه، وخرقت الرقعة، ومضغتها.
وقلت: قد برت يمينك، ولا سبيل بعد ذلك إلى كتب شيء، فاجتهد، ولم أفعل.
ثم عاد إلي من غد، ومعه أم موسى القهرمانة، وجدد مطالبتي، وأسرف في شتمي، ورماني بالزنا، فحلفت بالطلاق والعتاق، وتمام الأيمان الغموس، أنني ما دخلت في محظور من هذا الجنس، منذ نيف وثلاثين سنة، وسمعته أن يحلف بمثل يميني، على أن غلامه القائم على رأسه، لم يأته في ليلته تلك.
فأنكرت أم موسى هذا القول، وغطت وجهها حياءً منه.
فقال لها ابن ثوابة: هذا رجل بطر بالأموال التي معه، ومثله، مثل المزين مع كسرى، والحجام مع الحجاج بن يوسف، فتستأمرين السادة في إنزال المكروه به، حتى يذعن بما يراد منه.
وكان قول السادة، إشارة إلى المقتدر بالله، والسيدة والدته، وخاطف، ودستنبويه أم ولد المعتضد بالله، وهم إذ ذاك مستولون على التدبير لصغر سن المقتدر بالله.
فقامت أم موسى، وعادت، وقالت لابن ثوابة: يقول لك السادة: قد صدقت فيما قلت، ويدك مطلقة فيه.
قال ابن الفرات: وكنت في دار لطيفة، والحر شديد، فتقدم بتنحية البواري عن سمائها، حتى نزلت الشمس إلى صحنها، وإغلاق أبواب بيوتها، فحصلت في الشمس، من غير أن أجد مستظلاً منها، ثم قيدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف، قد نقعت في ماء الأكارع، وغلني بغل، وأقفل باب الحجرة وانصرف.
فأشرفت على التلف، وعددت على نفسي ما عاملت به الناس، فوجدتني، قد عملت كل شيء منه، من مصادرة، ونهب، وقبض ضياع، وحبس، وتقييد، وتضييق، وإلباس جباب الصوف، وتسليم قوم إلى أعدائهم، وتمكينهم من مكروههم، ولم أذكر أني غللت أحداً، فقلت: يا نفس هذه زيادة.
ثم فكرت أن النرسي، كاتب الطائي، ضمنني من عبيد الله بن سليمان، فلم يسلمني إليه، فسلمته إلى الحسن المعلوف، المستخرج، وكان عسوفاً، وأمرته بتقييده، وتعذيبه، ومطالبته بمال حددته له، وألط، ولم يؤد، فتقدمت بغله، ثم ندمت بعد أن غل مقدار ساعتين، وأمرت بإنزال الغل عنه.
وتجاوزت الساعتين وأنا مغلول، فذكرت أمراً آخر، وهو أنه لما قرب سبكري مأسوراًمع رسول صاحب خراسان، كتبت إلى بعض عمال المشرق، بمطالبته بأمواله، وذخائره، فكتب بإلطاطه وامتناعه، فكتبت بأن يغل، ثم كتبت بعد ساعتين كتاباً ثانياً بأن يحل، فوصل الكتاب الأول وغل، وتلاه الثاني بعد ساعتين، فحل.

فلما تجاوزت عني أربع ساعات، سمعت صوت غلمان مجتازين في الممر الذي في حجرتي، فقال الخدم الموكلون بي: هذا بدر الحرمي، وهو صنيعتك.
فاستغثت به وصحت: يا أبا الخير، لي عليك حقوق، وأنا في حال أتمنى معها الموت، فتخاطب السادة، وتذكرهم حرمتي، وخدمتي في تثبيت دولتهم، لما قعد الناس عن نصرتهم، وافتتاحي البلدان المأخوذة، واستيفائي الأموال المنكسرة، وان لم يكن إلا مؤاخذتي بذنب ينقم علي، فالسيف فانه أروح.
فرجع، ودخل إليهم، وخاطبهم، ورققهم، فأمروا بحل الحديد كله عني، وتغيير لباسي، وأخذ شعري، وإدخالي الحمام، وتسليمي إلى زيدان، وراسلوني: بأنك لا ترى بعد ذلك بأساً، وأقمت عند زيدان، مكرماً، إلى أن رددت إلى هذا المجلس.
قال أبو الحسين: ثم ضرب الدهر ضربه، فدخلت إليه مع أبي، في الوزارة الثالثة، وقد غلب المحسن علي رأيه وأمره.
فقال له أبي: قد أسرف أبو أحمد، في مكاره الناس، حتى انه يضرب من لو قال له: اكتب خطك بما يريده منه، لكتب من غير ضرب، ثم يواقف المصادر على الأداء في وقت بعينه، فان تأخر إيراد الروز به، أعاد ضربه، وفي هذا الفعل شناعة، مع خلوه من فائدة.
فقال له أبو الحسن: يا أبا القاسم، لو لم يفعل أبو أحمد، ما يفعله، بأعدائنا، ومن أساء معاملتنا، لما كان من أولاد الأحرار، ولكان نسل هوان، أنت تعلم أنني قد أحسنت إلى الناس دفعتين، فما شكروني، وسعوا على دمي، ووالله لأسلكن بهم ضد تلك الطريقة.
فلما خرجنا من حضرته، قال لي أبي: سمعت أعجب من هذا القول؟ إذا كنا لم نسلم مع الإحسان، نسلم مع الإساءة؟ فما مضى إلا أيام يسيرة، حتى قبض عليه، وجرى ما جرى في أمره.
قال القاضي أبو علي التنوخي: قلت لأبي الحسين بن هشام: قد عرفنا خبر المزين مع كسرى، وهو أنه جلس ليصلح وجهه، فقال له: أيها الملك زوجني بنتك، فأمر أن يقام، فأقيم.
وقيل له: ما قلت؟ فقال: لم أقل شيئاً، ففعل به ذلك ثلاث دفعات.
فقال الملك: لهذا المزين خطب، وأحضر أهل الرأي، فأخبرهم بحاله.
فقال جميعهم: ما أنطق هذا المزين، إلا باعث بعثه من مال وراء ظهره، فأنفذ إلى منزله، فلم يوجد له شيء.
فقال الملك: احفروا مكان مقعده عند خدمته لي، فحفر، فوجد تحته كنز عظيم.
فقال الملك: هذا الكنز كان يخاطبني.
ثم قلت لأبي الحسين: فهل تعرف خبر الحجام، مع الحجاج؟ فقال: نعم، بلغنا أن الحجاج، احتجم ذات يوم، فلما ركب الحجام المحاجم على رقبته، قال: أحب أيها الأمير، أن تخبرني بخبرك مع ابن الأشعث، وكيف عصى عليك.
فقال له: لهذا الحديث وقت آخر، وإذا فرغت من شأنك حدثتك، فأعاد مسألته، وكررها، والحجاج يدفعه، ويعده، ويحلف له على الوفاء له.
فلما فرغ، ونزل المحاجم عنه، وغسل الدم، أحضر الحجام، وقال له: إنا وعدناك بأن نحدثك حديث ابن الأشعث، وحلفنا لك، ونحن محدثوك، يا غلام، السياط، فأتي بها.
فأمر الحجاج بالحجام، فجرد، وعلته السياط، وأقبل الحجاج يقص عليه قصة ابن الأشعث، بأطول حديث، فلما فرغ استوفى الحجام خمسمائة سوط، فكاد يتلف.
ثم رفع الضرب، وقال له: قد وفينا لك بالوعد، وأي وقت أحببت أن تسأل خبرنا مع غير ابن الأشعث، على هذا الشرط، أجبناك.

الوزير ابن الفرات
يتناول رقعة فيها سبه وشتمه وتهديده حدث القاضي أبو علي التنوخي، قال: حدثني أبو الحسين بن هشام، قال حدثني أبو علي بن مقلة، قبل وزارته، قال: عزم أبو الحسن بن الفرات، في وزارته الأولى، يوماً على الصبوح من غد، وكان يوم الأحد من رسمه أن يجلس للمظالم فيه.
ثم قال: كيف نتشاغل نحن بالسرور، ونصرف عن بابنا قوماً كثيرين، قد قصدوا من نواح بعيدة، وأقطار شاسعة، مستصرخين متظلمين؟ فهذا من أمير، وهذا من عامل، وهذا من قاض، وهذا من متعزز، ويمضون مغمومين، داعين علينا، والله، ما أطيب نفساً بذلك.
ولكن أرى أن تجلس أنت يا أبا علي ساعة، ومعك أحمد ابن عبيد الله بن رشيد، صاحب ديوان المظالم، وتستدعيا القصص، وتوقعا منها فيما يجوز توقيعكما فيه، وتفردا ما لا بد من وقوفي عليه، و تحضرانه لأوقع فيه، وينصرف أرباب الظلامات مسرورين، وأتهنأ يومي بذلك.
فقلت: السمع والطاعة، وبكرت من غد.

فقال لي: اخرج، واجلس، على ما واقفتك عليه، فخرجت ومعي ابن رشيد، وجلسنا ووقعنا في جمهور ما رفع، إلا عشر رقاع مما يحتاج إلى وقوفه عليها، وتوقيعه بخطه فيها، وكان منها رقعة كبيرة ضخمة، ترجمتها: المتظلمون من أهل روذمستان، وهرمزجرد، وهما ناحيتان من السيب الأسفل وجنبلاء، وكانت إذ ذاك في إقطاع السيدة، وقدرت أنها ظلامة من وكيلها، في تغيير رسم، أو نقص طسق، فجعلتها فيما أفردته.
وعدت إلى أبي الحسن، فعرفته ما جرى، فأخذ الرقاع، ولم يزل يوقع فيها، إلى أن انتهى إلى هذه الرقعة، فقرأها، ووجهه يربد ويصفر، وينتقل من لون إلى لون، فضاق صدري، وندمت على ترك قراءتها، وقلت: لعل فيها أمراً يتهمني فيه، وأخذت ألو نفسي على تفريطي فيما فرطت فيه.
وفرغ منها، فكتمني ما وقف عليه فيها، وقال: هاتوا أهل روذمستان وهرمزجرد.
فصاح الحجاب دفعات، فلم يجب أحد، وقام وهو مهموم منكسر، ولم يذاكرنا بأمر أكل ولا شرب، ودخل بعض الحجر، وتأخر أكله، وزاد شغل قلبي.
وقلت لخليفة لساكن - صاحب الدواة - وكان أمياً: أريد رقعة لابن بسام الشاعر، عليها خرج لأقف عليه، ولم أزل أخدعه، حتى مكنني من تفتيش ما هو مع الدواة، ولو كان ساكن حاضراً لما تم لي ذلك.
وأخذت الرقعة، فإذا هي رقعة بعض أعداء ابن الفرات، وقد قطعه فيها بالثلب، والطعن، وتعديد المساوئ، والقبائح، وهدده بالسعاية.
وقال فيما قاله: قد قسمت الملك بين نفسك وأولادك، وأهلك وأقاربك، وكتابك وحواشيك، واطرحت جميع الناس، وأقللت الفكر في عواقب هذه الأفعال، وما ترضى لمن تنقم عليه، بالإبعاد وتشتيت الشمل، حتى تودعهم الحبوس، وتفعل وتصنع، وختمها بأبياتٍ هي:
لو كان ما أنتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائماً أبدا
لكن رأيت الليالي غير تاركة ... ما ساء من حادث أو سر مطردا
وقد سكنت إلى أني وأنكم ... سنستجد خلاف الحالتين غدا
قال: وبطل صبوح أبي الحسن، ودعانا وقت الظهر، فأكلنا معه على الرسم، ولم أزل أبسطه، وأقول له أقوالاً تسكنه، إلى أن شرب بعد انتباهه من نومه، غبوقاً.
ومضى على هذا اليوم أربعة أشهر، وقبض عليه، واستترت عند الحسين بن عبد الأعلى.
فلما خلع على أبي علي محمد بن عبيد الله بن خاقان، جلسنا نتحدث، ونتذاكر أمر ابن الفرات.
فقال لي ابن عبد الأعلى: كنت جالساً في سوق السلاح، أنتظر جواز الخاقاني بالخلع، لأقوم إليه وأهنئه، فاتفق معي رجل شاب، حسن الهيأة، جميل البزة، وحدثني انه صاحب لأبي الحسين بن أحمد بن أبي البغل، وأنه أنفذه من أصبهان، قاصداً، حتى دس إلى ابن الفرات، رقعة على لسان بعض المتظلمين، فيها كل طعن، وثلب، ودعاء، وسب، وتوعد، وتهدد، وفي آخرها شعر.
فقلت له: على رسلك، هذه الرقعة على يدي جرت، ووصلت إلى ابن الفرات.
وخرج الحديث متقابلاً.

الوزير أبو علي بن مقلة
يشيد بمآثر الوزير ابن الفرات وحدث القاضي أبو علي، قال: حدثني أبو الحسين بن هشام، قال: قال: سمعت أبي يقول لأبي علي بن مقلة، في أول وزارته الأولى، وقد جلس مجلساً تقصى فيه الأعمال، وبان منه فضل كفاية واستقلال: العمل في يد الوزير أيده الله، ذليل.
فقال: على هذه الحال نشأنا، يا أبا القاسم، وأخذناها عمن كانت الدنيا والمملكة، يطرحان الأثقال عليه، فينهض بها، يعني أبا الحسن بن الفرات.
ثم قال أبو علي: لقد رأيته جالساً في الديوان للمظالم، والوزير إذ ذاك، القاسم بن عبيد الله، فتظلم إليه رجل من رسم ثقله عليه الطائي، وغير به رسماً له قديماً خفيفاً، ويسأل رده إلى ما كان عليه أولاً.
فرد يقول: قد سمتني أن أبطل رسماً، قرره أبو جعفر الطائي - رحمه الله - مع محله من العدل، والثقة، والبصيرة بأسباب العمارة، وقد درت عليه الأموال، وصلحت الأحوال، وأحده الجمهور، واستقامت عليه الأمور، وهذا سوم إعنات، وكتب بحمله على ما رسمه أبو جعفر.
ثم رأيت، مرة ثانية، متظلماً آخر، من رسم ثقيل خففه الطائي، لعلمه بأن الضيعة لا تحتمل غيره، وقد اعترض عليه فيه، ويسأل إجراءه على رسم الطائي.

فرد يقول له: يا بارك الله عليك، ليس الطائي أبا بكر الصديق، أو عمر بن الخطاب، أو علي بن أبي طالب، الذين نقتفي آثارهم، ونمضي أفعالهم، وإنما الطائي، ضامن عمل، رأى ما رآه حظاً لنفسه، وما يلزم السلطان تقريره، وأنت معنت في تظلمك، وكتب بأن يجري على الرسم القديم الثقيل.
وخاطب كلاً من الرجلين، بلسان غير اللسان الآخر، شحاً على الأموال وحفظاً لها.

الوزير العباس بن الحسن
يستشير كبار الكتاب في اختيار من يخلف المكتفي حدث أبو علي التنوخي، قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي الكاتب، قال: حدثني غير واحد من كتاب الحضرة، أن أبا أحمد العباس بن الحسن لما مات المكتفي بالله، جمع كتابه، وخواصه، وخلا بهم، وشاورهم فيمن يقلده الخلافة، فأجمعوا، وأشاروا على العباس، بعبد الله بن المعتز، إلا أبا الحسن بن الفرات فإنه أمسك.
فقال له العباس: لما أمسكت، ولم تورد ما عندك؟ فقال: هو أيها الوزير، موضع إمساك.
قال: ولم؟ قال: إنه وجب أن ينفرد الوزير - أعزه الله - بكل واحد منا، فيعرف رأيه، وما عنده، ثم يجمع الآراء، ويختار منها بصائب فكره، وثاقب نظره ما شاء، فإما أن يقول كل واحد رأيه، بحضرة الباقين، فربما كان عنده، ما يسلك سبيل التقية في كتمانه وطيه.
قال: صدقت والله، قم معي، فأخذ يده، ودخلا وترك الباقين بمكانهم.
فقال له ابن الفرات: قررت رأيك على ابن المعتز؟ قال: هو أكبر من يوجد.
قال: وأي شيء تعمل برجل فاضل، متأدب، قد تحنك، وتدرب، وعرف الأعمال، ومعاملات السواد، وموقع الرغبة في الأموال، وخبر المكاييل والأوزان، وأسعار المأكولات و المستغلات، ومجاري الأمور والمتصرفات، وحاسب وكلاءه على ما توله، وضايقهم، وناقشهم، وعرف من خياناتهم واقتطاعاتهم، أسباب الخيانة والاقتطاع التي يدخل فيها غيرهم، فكيف يتم لنا معه أمر، إن حمل كبيراً على صغير، وقاس جليلاً على دقيق، هذا لو كان ما بيننا وبينه عامراً، وكان صدره علينا من الغيظ خالياً، فكيف وأنت تعرف رأيه.
قال العباس: وأي شيء في نفسه علينا؟ قال: أنسيت أنه من ثلاثين سنة، يكاتبك في حوائجه، فلا تقضيها، ويسألك في معاملاته فلا تمضيها، وعمالك يصفعون وكلاءه فلا تنكر، ويتوسل في الوصول إليك ليلاً، فلا تأذن، وكم رقعة جاءتك بنظم ونثر، فلم تعبأ بها، ولا أجبته إلى مراده فيها، وكم جاءني منه، ما هذا سبيله، فلم أراع فيه وصولاً إلى ما يريد إيصاله إليه، وهل كان له شغل عند مقامه في منزله، وخلوته بنفسه، إلا معرفة أحوالنا، والمساءلة عن ضياعنا، وارتفاعنا، وحسدنا على نعمتنا، هذا، وهو يعتقد أن الأمر كان له ولأبيه وجده، وأنه مظلوم منذ أن قتل أبوه، مهضوم، مقصود، مضغوط، فكيف يجوز أن نسلم إليه نفوسنا، فتحرس، فضلاً عن أموالنا؟ قال: تقلد جعفر بن المعتضد، فإنه صبي، لا يدري أين هو، وعامة سروره، أن يصرف من المكتب، فكيف أن يجعل خليفة، ويملك الأعمال والأموال، وتدبير النواحي، والرجال، ويكون الخليفة بالاسم، وأنت هو على الحقيقة، وإلى أن يكبر، قد انغرست محبتك في صدره، وحصلت محصل المعتضد في نفسه.
قال: فكيف يجوز أن يبايع الناس صبياً، أو يقيموه إماماً؟ فقال له: أما الجواز فمتى اعتقدت أنت، أو نحن، إمامة البالغين من هؤلاء القوم؟ وأما إجابة الناس، فمتى فعل السلطان شيئاً فعورض فيه، أو أراد أمراً فوقف؟ وأكثر من ترى صنائع المعتضد، وإذا أظهرت أنك اعتمدت في ذلك مراعاة حقه، وإقرار الأمر في ولده، وفرقت المال، وأطلقت البيعة، وقع الرضا، وسقط الخلاف، وطريق ما تريده، أن تواقف بعض أكابر القواد، وعقلاء الخدم، على المضي إلى دار ابن طاهر وحمله - يعني جعفر بن المعتضد - إلى دار الخلافة، وأن تستر الأمر إلى أن يتم التدبير، وإن اعتاص معتاص، مد بالعطاء والإحسان.
فقال العباس: هذا هو الرأي، واستدعى في الحال، مؤنساً مولى المعتضد، وأورد عليه، ما ذهب فيه إلى الجنس الذي أشار به أبو الحسن، من الوفاء للمعتضد، ورعاية ما كان منه في اصطناع الجماعة، ورسم له قصد دار ابن طاهر، وحمل جعفر إلى دار الخلافة، والسلام عليه بها، ففعل.
وماج الجند، ففرق فيهم مال البيعة، ودخل عليهم من طريق الوفاء للمعتضد، وتم التدبير.

فلما زال أمر العباس، وكان من قتله ما كان، وانتظمت الأمور بعد قتل ابن المعتز، وتقلد أبو الحسن الوزارة، صارت ثمرة هذا الرأي له.
وكان يقف بين يدي المقتدر بالله، وهو صبي، قاعد على السرير، فيخاطب الناس، و الجيش، عنه، فإذا انصرفوا، أمرت السيدة بأن يعدل بأبي الحسن إلى حجرة، فيجلس فيها، ويخرج المقتدر، فيقوم إليه، فيقبل يده ورأسه، ثم يقعد، ويقعده في حجره، كما يفعل الناس بأولادهم.
وتقول له السيدة من وراء الباب: هذا يا أبا الحسن ولدك، وأنت قلدته الخلافة، أولاً، وثانياً، تعني ما تقدم من مشورته على العباس به، وبتقلده الخلافة، من بعد إزالة فتنة ابن المعتز.
فيقول ابن الفرات: هذا مولاي، وإمامي، ورب نعمتي، وابن مولاي، وإمامي.
وبقي على ذلك، مدة وزارته الأولى، وتمكن أبو الحسن من الخزائن والأموال، وفعل ما شاء وأراد.

الوزير ابن الفرات
يتحدث عن تلون المقتدر واختلاف رأيه وحدث أبو محمد الصلحي، قال: حدثنا جماعة من كتاب أبي الحسن بن الفرات، وخواصه قالوا: عاد أبو الحسن من الموكب يوماً، فجلس بسواده مغموماً، يفكر فكراً طويلاً، فشغل ما رأينا منه قلوبنا، وظنناه لحادث حدث.
فسألناه عن أمره، فدافعنا، وألححنا عليه، فحاجزنا، وقال: ما هاهنا إلا خير وسلامة.
فقام ابن جبير وكان من بيننا متهوراً مدللاً، فقال: تأمر أيها الوزير بأمر؟ قال: إلى أين؟ قال: أستتر، وأستر عيالي، وسبيل هؤلاء الذين بين يديك أن يفعلوا مثل فعلي.
قال: ولم؟ قال: تعود من دار الخلافة، وأنت من الغم الظاهر في وجهك، على هذه الصورة، ونسألك عن أمرك فتكتمنا، ولم تجر عادتك بذلك معنا، وهل وراء هذا إلا القبض و الصرف؟ فقال له: اجلس يا أحمق، حتى أحدثك السبب، فجلس.
وقال: ويحكم، قد علمتم أنني أشكو إليكم نقصان هذا الرجل - يعني المقتدر - دائماً، وشدة تلونه، واختلاف رأيه، وأنني أحب منذ مدة، أن أزوره، وأعرف قدر ذلك منه، وهل هو في كل الأمور، أو في بعضها، وفي صغارها أم في كبارها؟ فقلت له اليوم في أمر رجل كبير - ولم يسمه ابن الفرات - يا أمير المؤمنين، إن فلاناً قد فسد علينا، وليس مثله من أخرج من أيدينا، وقد رأيت أن أقلده كذا، وأقطعه، وأسوغه كذا - وأكثرت - لنستخلصه بذلك، ونستصلح نيته، ونستديم طاعته، ولم يجز أن أفعل أمراً إلا بعد مطالعتك، فيما تأمر؟ قال: افعل.
ثم حدثته طويلاً، وخرجت من أمر إلى آخر، وقر وقت انصرافي. فقلت له: يا مولانا، عاودت الفكر في أمر فلان، فوجدت أن ما نعطيه إياه، مما استأذنت فيه، كثيراً، مؤثراً في بيت المال، ولا نأمن أن يطمع نظراؤه في مثل ذلك، وإن أجبناهم، عظمت الكلفة، وإن منعناهم فسدوا، وقد رأيت رأياً آخر في أمره.
قال: وما هو؟ قلت: أن نقبض عليه، ونأخذ نعمه، ونخلده الحبس أبداً.
قال: افعل.
فقلت: واويلاه، كذا والله تجري حالي معه، يقال له: إن ابن الفرات، الكافي، الناصح، وهو وطأ لك الأمر، وأقامك في الخلافة، وهو...وهو، فيقول: نعم، ويقربني، ويقدمني.
ثم يقف غداً بين يديه، رجل، فيقول: قد سرق ابن الفرات الأموال، ونهب الأعمال، وفعل، وصنع، والوجه أن يقبض عليه، ويصرف، ويقيد، ويحبس، ويقلد وزير آخر، فيقول: نعم، ويفعل ذلك بي.
ثم يعاود، ويقال له: لا يجوز أن يوحش ابن الفرات، ويستبقى، ولا يؤمن أن يستفسد، ويترك، والصواب قتله، فيقول: افعلوا، فأهلك.
قال: واستشعر هذا، فكان على ما قدره.
وقد تواترت هذه الحكاية، عن جماعة، عنه.
من أقوال الوزير أبي الحسن بن الفرات
ومما ذكر عن ابن الفرات، أنه كان يقول: تمشية أمور السلطان على الخطأ، خير من وقوفها على الصواب.
ويقول أيضاً: إذا كانت لك حاجة إلى الوزير، فاستطعت أن تقضيها بخازن الديوان، أو كاتب سره، فافعل، ولا تبلغ إليه فيها.
الوزير أبو علي بن مقلة
يتحدث عن سياسة الوزير ابن الفرات ووفور عقله وحدث أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي، قال: حدثني أبو علي ابن مقلة، قال: كنت أكتب لأبي الحسن بن الفرات، في التحرير، أيام خلافته أبا العباس أخاه، على ديوان السواد، بجاري عشرة دنانير في كل شهر، ثم تقدمت حاله، فأرزقني ثلاثين ديناراً، في كل شهر، فلما تقلد الوزارة، جعل رزقي خمسمائة دينار في الشهر.

ثم أمر بقبض ما في دور القوم الذين بايعوا ابن المعتز، فحمل في الجملة صندوقان.
فسأل: هل علمتم ما فيها؟ قالوا: نعم: جرائد بأسماء من يعاديك، ويدبر في زوال أمرك.
فقال: لا يفتحان، ثم دعا بنار، دعاء كرره، وصاح فيه، وأحضر الفراشون النار فأججت، وتقدم بطرحهما في النار، على ما هما.
فلما أحرقت، أقبل على من كان حاضراً، وقال: والله لو فتحتها، وقرأت ما فيها، لفسدت نيات الناس كلهم علينا، واستشعروا الخوف منا، ومع فعلنا ما فعلناه، طوينا الأمور بهذا، فهدأت القلوب، واطمأنت النفوس.
ثم قال لي: قد آمن الله، والخليفة - أعزه الله - كل من بايع ابن المعتز، فاكتب الأمانات للناس جميعاً، وجئني بها لأوقع فيها، ولا ترد أحداً عن أمان يطلبه، فقد أفردتك لذلك، لأنه باب مكسب كبير.
وقال لمن حضر: أشيعوا قولي، وتحدثوا به بين الخاص والعام، ليأنس المستوحش، ويأمن المستتر.
قال أبو علي: فحصل لي من كتب الأمانات، مائة ألف دينار، أو نحوها.

وزير يسرق سبعمائة ألف دينار
في عشر خطوات قال أبو محمد الصلحي: قال لنا أبو علي بن مقلة، وقد جرى ذكر ابن الفرات: يا قوم سمعتم بمن سرق في عشرة خطوات سبعمائة ألف دينار؟ قلنا: كيف ذلك؟ كنت بين يدي ابن الفرات في وزارته الأولى، ونحن في دار الخلافة، نقرر أرزاق الجيش، ونقيم وجوه مال البيعة، ونرتب إطلاقه، وذلك عقيب فتنة ابن المعتز.
فلما فرغ مما أراده، وخرج، فركب طياره، وبلغ نهر المعلى، قال: إنا لله، فوقفوا.
فوقف الملاحون.
فقال لي: وقع إلى أبي خراسان، صاحب بيت المال، بحمل سبعمائة ألف دينار، تضاف إلى مال البيعة وتفرق على الرجال.
فقلت في نفس: أليس قد وجهنا وجوه المال كله؟ ما هذه الزيادة؟ ووقعت بما رسمه، وعلم فيه بخطه، ودفعه إلى غلام، وقال: لا تبرح من بيت المال، حتى تحمل هذا المال الساعة إلى داري، ثم سار.
قال: فحمل إليه بأسره، وسلم إلى خازنه، فعلمت أنه أنسي أن يأخذ شيئاً لنفسه في الوسط، ثم ذكر أنه باب لا يتفق مثله سريعاً، ويحتمل ما احتمله من هذا الاقتطاع الكثير، فاستدرك من رأيه ما استدرك، وتنبه من فعله، ما تنبه.
الظلم إذا زاد رفع نفسه
حدث القاضي أبو علي، قال: حدثني أبو جعفر طلحة بن عبيد الله، قال: حدثني أبو محمد الحسن بن محمد الصلحي، قال: قال لنا أبو الحسن بن الفرات يوماً، وقد جرى بحضرته ذكر رجل قد أسرف في الظلم: الظلم إذا زاد رفع نفسه.
ما يرتفع لابن الفرات
ولعلي بن عيسى من ضياعهما حدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي، قال: حدثني أبو طاهر المحسن بن محمد بن الحسن الجوهري، المعروف بالمقنعي، أحد الشهود، قال: حدثني أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى: أنه كان يرتفع لأبيه، من ضياعه في كل سنة، عند الاعتزال و العطلة، بعدما ينصرف من النفقة، ثلاثون ألف دينار، ويرتفع من ضياع أبي الحسن علي بن محمد ابن الفرات، إذا قبضت عنه، ألف ألف دينار، وإذا وزر، وردت عليه، أضعفت.
قال القاضي: واتفق أن حضر هذا الحديث، أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق الأنباري، فقال: حدثني جماعة من أصحاب أبي الحسن علي بن عيسى، أن جميع ما كان يرتفع له في السنة نيف وثمانون ألف دينار، يخرج منها في أبواب البر، وسبل الخير، وتفقد الطالبين، و العباسيين، والأنصار، وأولاد المهاجرين، ومصالح الحرمين، نيف وأربعون ألف دينار، ويبقى الباقي لنفقاته، وأنه كان يسمع الكتاب يقولون في ضياع أبي الحسن بن الفرات، أنها ترتفع في وزارته بألف ألف دينار، وعند القبض عليه، ودخول يد العمال فيها، بثمانمائة ألف دينار، وأقل، وأكثر.
عادة ابن الفرات في كلامه
بارك الله عليك، وعادة علي بن عيسى والك حدث القاضي أبو علي، قال: حدثني أبو الحسين عبد الله بن أحمد ابن عياش القاضي، قال: كانت عادة أبي الحسن بن الفرات، في كلامه، أن يقول للإنسان: بارك الله عليك.
ومن عادة أبي الحسن، علي بن عيسى أن يقول: والك، أو واك.
فكان الناس يقولون: لو لم يكن الفرق بين الرجلين إلا حسن اللقاء، وصرف ما بين القولين لكفى.
وحكى أبو محمد الصلحي، قال:

لما صرف الراضي بالله، أبا علي، عبد الرحمن بن عيسى عن وزارته ونكبه، ونكب أبا الحسن علي بن عيسى، وصادر أبا الحسن على ألف ألف درهم، وعبد الرحمن على ثلاثة آلاف دينار، وكان ذلك طريفاً، وحصل أبو الحسن معتقلاً في دار الخلافة، وخاف أبو الحسن أن يكون في نفس الراضي بالله عليه، ما يريد معه قتله، فراسلني - يقول هذا أبو محمد، وكان إذ ذاك كاتب أبي بكر بن رائق - يسألني خطاب الراضي بالله عن صاحبي، في نقله إلى دار وزيره، إلى أن يؤدي ما قرر عليه أمره.
قال: فجئت إلى الراضي بالله، وقلت له: يا أمير المؤمنين، علي ابن عيسى، خادمك وخادم آبائك، ومن قد عرفت محله من الصناعة، وموقعه من جمال المملكة، ومن حاله وأمره كذا وكذا.
فقال: هو كذلك، ولكن له عندي ذنوب، وأخذ يعدد ذنوب عبد الرحمن.
فقلت له: يا مولانا، وأي درك يلزمه، فيما قصر فيه أخوه؟ فقال: سبحان الله، وهل دبر عبد الرحمن، إلا برأيه، وأمضى شيئاً أو وقفه، إلا عن أمره، أو أمري إياه بأن لا يحل ولا يعقد إلا بموافقته؟ وأقبلت أعتذر له، ما خاطبني قط، إلا قال: واك فهل يتلقى الخلفاء بمثل ذاك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إن هذا طبع له قد ألف منه، وحفظ عليه، وعيب به في أيام خدمته للمقتدر بالله، رحمة الله عليه، وما استطاع أن يفارقه مع نشئه عليه، و تعوده إياه.
فقال: اعمل على أنه خلق، أما كان يمكنه أن يغيره مع ما رصفته من فضله وعقله، أو أن يتحفظ معي خاصة فيه، مع قلة اجتماعي معه، ومخاطبتي إياه؟ وما يفعل ما يفعله، إلا عن تهاون، وقلة مبالاة.
فقبلت الأرض مراراً بين يديه، وقلت: والله، والله، أن يتصور مولانا ذلك فيه، وإنما هو عن سوء توفيق، والعفو من أمير المؤمنين مطلوب.
ولم أزل إلى أن أمر بنقله، إلى دار وزيره، ونقل، وصحح ما أخذ به خطه، وصرف إلى منزله.

الوزير علي بن عيسى
يرأف بأحد المطالبين، ويعفيه من المطالبة حدث أبو علي التنوخي، قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف، ابن الأزرق، قال: حدثني أبو يعقوب أخي، قال: حدثني أبو بكر ابن مقاتل، ونحن بمصر، قال: ابتعت من السلطان قديماً - وأنا تاجر - غلة على إكراه، وبقي علي من ثمنها عشرون ألف دينار.
وأحضرني أبو الحسن علي بن عيسى، وطالبني بذلك، فلم تكن لي وجهة، وعدلت إلى جحده، وترك الاعتراف به.
وقال لي: اعمل حساباً، بأصل ما ابتعته، وما أديته، ليبين الباقي ودافعت، فاعتقلني في الديوان، وأمرني بعمل الحساب به.
فأخذت أعلل، وأطاول، إشفاقاً من أن تتحقق البقية، فأحصل تحت المطالبة، بغير عذر ولا حجة.
ثم أرهقني، ودعاني إلى حضرته، فدخلت، ومعي كيس حسابي، لأريه ما أرتفع منه، وأسأله إنظاري بإتمامه، واستكماله.
وفتحت الكيس بين يديه، وكنت أستطيب خبز البيت، ولا آكل غيره، ويحمل إلي من منزلي في كل يومين أو ثلاثة، ما أريد منه.
وبحسن الاتفاق، تركت في الكيس منه رغيفين، استظهاراً، لئلا يتأخر عني ما يحمل إلي.
وبينما أقلب الحساب، وقعت عين الوزير أبي الحسن على الرغيفين، فلما رآهما، قال لي: أضمم إليك حسابك - مراراً - فضممته وشددته.
وقال لي: قم إلى بيتك.
فانصرفت، ولم يطالبني بشيء بعد ذلك، ولا تنبه من نظر بعد على أمري، فانكسر المال - والله - وكان سببه الرغيفين، لأن علي بن عيسى، لما رآهما، قد كنت أشكو الخسارة والفقر، حملني على أن حملي للرغيفين مع الحساب، لضعف حالٍ، وشدة فاقة.
الملك عضد الدولة
يغضب على أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف ذكر أبو علي القاضي التنوخي، عن عضد الدولة ابن بويه، أنه كان قدم في دولته أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف، واعتقد في كمال عقله، ورزانة نبله، ورجحان فضله، فناط به أزمة عقده وحله، واعتمد إليه في أمر ملكه كله.
وكان نفاق الحاشية، يغطي عواره، ويستره، وألسن الخدم والأتباع لعضد الدولة، تمدحه وتشكره، وجماعة من عظماء الدولة، تعرض عنه فلا تذكره، وهو يتبجح بدعوى العقل، وهو أجهل من باقل، ويتحلى بحسن التدبير، وهو يجيد من المعرفة عاطل، ويظهر الاستطالة على فضلاء الأماثل، وهو خالٍ عن الفضائل.
واستمر ذلك برهة من الدهر.

إلى أن أتاح، القدر المحتوم، والقضاء المعلوم، أن سافر عضد الدولة من العراق، إلى همذان، فتبعه أبو محمد الخرنبازي، يطلب خدمة، وكان ذا دراية، وفضل، وعقل، ورزانة، ونبل.
فلما رآه أبو القاسم ، قد خرج في جملة الجماعة، خشي من تقدمه عند عضد الدولة، فيفضح مستورة، وتقبح أموره، فحسن لعضد الدولة رده من الطريق، وإبعاده عن الصحبة، وان يجري عليه شيء من الرزق بالبصرة، ويقيم بها.
قال أبو علي القاضي: كنت بين يدي عضد الدولة، وق قال لأبي بكر بن شاهويه - وهو من أصحاب أبي القاسم عبد العزيز - تمضي إلى أبي محمد الخرنبازي، وتقول له تمضي إلى البصرة، ونحن نجري لك معيشة ترتزق منها، فقد طال تبعك لنا، وتعبك معنا، وقد تبرمنا منك، وليس عبد العزيز، قد اصطحب جماعة كثيرة، في بعضهم غنية عن أمثال، فانصرف عنا، واكتف بما أرتبه لك، إن شاء الله تعالى.
ثم إن عضد الدولة، سير من خاصته شخصاً مع أبي بكر، ليشهد ما يقوله، وليسمع ما يجاوبه به أبو محمد، بحيث لا يكتم أبو بكر شيئاً من الجواب، لكونه من أصحاب أبي القاسم.
فلما حضرا عند أبي محمد ، قال له أبو بكر، صورة ما قاله عضد الدولة جميعه.
فقال أبو محمد، لما سمع ذلك: الأمر للملك، ولا خلاف له، والسمع والطاعة لتقدمه، ولعمري إن الناس بجدودهم ينالون، وبحظوظهم يستديمون، ولو أنني تقدمت عند الملك، ونفقت عليه، ما كان عجباً، فقد نال منه، وتقدم عنده، من أنا أرجح منه، ولكن المقادير غالبة، وليس للإنسانمتقدم عنها ولا متأخر، وقد قيل: من غالب الأقدار غلب، ولكن، أيها الشيخ، لي حاجة أحب أن تبلغها الملك عني، وهي كلمة فيها نصيحة، وشفاء لما في الصدور.
فقال أبو بكر، قل: فإني أبلغها الملك.
فقال: تقول له: أنا صائر إلى ما أمرت، ومتوجه إلى البصرة، لامتثال ما رسمت، ولكن بعد أن تقضي وطراً في نفسي، وفيه شهرة لعظمتك، وتنبيه على أنك لا تنخدع في ملكك، ولا يلتبس لديك محق بمبطل، وعاقل بجاهل، ومسيء بمحسن، ويقظان بغافل، وجواد بباخل، وهو أن يتقدم، بأن يقام عبد العزيز المكنى بأبي القاسم، بين اثنين على رؤوس الأشهاد، وينتقم منه انتقاماً بالغاً، ويقال له: إذا لم تبذل جاهك لمتلهف، ولم يكن عندك بر لضعيف، ولا فرج لمكروب، ولا عطاء لسائل، ولا جائزة لشاعر، ولا مرعى لمنتجع، ولا مأوى لضيف، ولا ذب عن عرض مخدومك، ولا استجلاب ثمار الألسنة بالأدعية والمحامد لدولة أوجدتك، ولا لك من العقل ما تميز به بين ما يكسب حمداً أو ذماً، فلم ألزمت نفسك أن يخاطبوك بسيدنا، وتمد يدك ليقبلها الداخلون، ويقوم لك عظماء المملكة، عند طلوعك عليهم؟ ثم إن أبا محمد قام وركب، وعاد.
قال أبو بكر بن شاهويه: فعدت، وقد سبقني الذي كان معي مشرفاً، وذكر ذلك للملك عضد الدولة، فلما حضرت عنده، وأبو القاسم بين يديه، سكت.
فاستحييت من أبي القاسم، أن أذكره، فقلت: سمعه الملك من المشرف الذي أنفذه معي.
قال: قل، فأنت كنت الرسول، فاذكر الحديث على صورته كله، فوالله إن تركت منه حرفاً، لم تلق خيراً.
فما أمكنني إلا أنني سردت كلام أبي محمد، كما قاله، ولم أترك منه شيئاً، وأبو القاسم يتقدد في إهابه، ويتمزق في جلده، ويتغير وجهه، ويتلون ألواناً، ند كل كلمة منه.
فأقبل عليه عضد الدولة، فقال: كيف ترى يا عبد العزيز؟ لا جزاك الله خيراً، الآن علمت أنك لاتعتمد حالة ترضي الله تعالى، ولا تتبنى مكرمة، ولا تحفظ مروءة، ولا تحرس أمانة، ولا يخرج فكرك عنك، ولا صمتك، إلا في مال تجتذبه، وإقطاع لنفسك تثمره، وتجعلني باباً من أبواب معاشك، وجهة من جهات أرباحك، تبعد من ينفعني، وتقرب من ينفعك، فخدمتك معروفة، وسيرتك معلومة، وكنت أسمع في جرك النار إلى قرصك، وشرهك في جميع أحوالك، وأذاك لمن يقصد أبوابنا، ولكن لكل أجل كتاب، ثم أمر به فأخذ.
فظهرت بسوء فعله، قلة عقله، وبقبح قصده، ضعف رأيه.

أبغي الشفا بك من سقمي ومن دائي
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أنبأنا عمر بن حيويه، قال: أنبأنا أبو محمد جعفر بن الفضل العسكري قال: أنبأنا محبوب بن صالح، عن أبيه:

أن رجلاً من العرب، رأى امرأة، فوقعت بقلبه، فكاتم بذلك دهراً، ثم أن الأمر تفاقم، وتمكنت منه الصبابة، وسحقه الغرام، فبعث إليها يسألها نفسها، ويخبرها بما هو عليه من حبها، فكتبت إليه: اتق الله أيها الرجل وارع على نفسك، واستحي من هذه الهمة التي قد تعلقت بها، فإن ذلك أولى بذوي العقول، فلما وافاه كتابها، أخذته وسوسة، واستولى عليه الشيطان، وجعل الأمر يتزايد، حتى زال عقله، وكان لا يعقل إلا ما كان من حديثها أو ذكرها.
وكان يبكر في كل يوم، فيقف على باب الدار التي تنزلها المرأة، فيقول:
يا دار حييتِ إن كانت تحيّتنا ... تغني ولو كان في التسليمِ إشفائي
لا زلت أبكيك ما قامت بنا قدم ... أبغي الشفا بك من سقمي ومن دائي
ثم مضى شبيهاً بالهائم على وجهه، فلم يزل على ذلك حتى مات.

أشاع الدمع ما كنت أكتم
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي، فيما أجاز لنا، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، قراءة عليه، قال: أخبرنا محمد بن خلف، إجازة، قال: حدثنا قاسم بن الحسن، قال: حدثنا العمري، قال: أخبرنا الهيثم بن عدي: إن مرة بن مصعب القيسي كان له أخ يقال له فهر، وكانا ينزلان الحيرة وان فهراً ارتحل بأهله وولده، فنزل بأرض السراة، وأقام مرة، بالحيرة، وكانت عند مرة، امرأة من بكر بن وائل، فلبثت معه زماناً لم يرزق منها ولداً، حتى يئس من ذلك، ثم أتي في منامه، ذات ليلة، فقيل له: إنك إن باشرت زوجتك، في ليلتك هذه، رأيت سروراً وغبطة، فانتبه، فباشرها، فحملت، فلم يزل مسروراً إلى أن تمت أيامها، فولدت له غلاماً، فسماه إياساً، لأنه كان آيساً، فنشأ الغلام منشأً حسناً.
فلما ترعرع، ضمه أبوه إليه، وأشركه في أمره، وكان إذا سافر أخرجه معه، لقلة صبره عنه.
فقال له أبوه يوماً: يا بني، قد كبرت سني، وكنت أرجوك لمثل هذا اليوم، ولي إلى عمك حاجة، فأحب أن تشخص فيها.
فقال له إياس: نعم يا أبة، ونعم عين وكرامة، فإذا شئت، أخبرني بحاجتك، فأعلمه الحاجة، فخرج متوجهاً حتى أتى عمه، فعظم سروره به، وسأله عن سبب قدومه، وما الحاجة، فأخبره بها، ووعده بقضائها، فأقام عند عمه أياماً ينتظر فيها قضاء الحاجة.
وكان لعمه بنت يقال لها صفوة، ذات جمال وعقل، فبينا هو جالس بفناء دارهم، إذ بدت له صفوة، زائرة بعض أخواتها، وهي تهادى بين جوار لها، فنظر لها إياس نظرة، أورثت قلبه حسرة، وظل نهاره ساهياً، وبات وقد اعتكرت عليه الأحزان، ينتظر الصباح، يرجو أن يكون فيه النجاح.
فلما بدا له الصباح، خرج في طلبها ينتظر رجوعها، فلم يلبث أن بدت له، فلما نظرت إليه تنكرت، ثم مضت فأسرعت، فمر يسعى خلفها، يأمل منها نظرة، فلم يصل إليها، وفاتته، فانصرف إلى منزله، وقد تضاعف عليه الحزن، واشتد الوجد.
فلبث أياماً، وهو على حاله، إلى أن أعقبه ذلك مرضاً أضناه، وأنحل جسمه، وظل صريعاً على الفراش.
فلما طال به سقمه، وتخوف على نفسه، بعث إلى عمه لينظر إليه، ويوصيه بما يريد، فلما رآه عمه، ونظر إلى ما به، سبقته العبرة إشفاقاً عليه.
فقال له إياس: كفّ، جعلتك فداك يا عمّ، فقد أقرحت قلبي، فكفّ عن بعض بكائه، فشكا إليه إياس ما جد من العلّة، فقال له: عزّ والله، عليّ يا ابن أخي، ولن أدع حيلة في طلب الشفاء لك.
فانصرف إلى منزله، وأرسل إلى مولاة له، كانت ذات عقل، فأوصاها به، وبالتعاهد له، والقيام عليه.
فلما دخلت المولاة عليه، فتأمّلته، علمت انّ الذي به عشق، فقعدت عند رأسه، فأجرت ذكر صفوة، لتستقين ما عنده، فلما سمع ذكرها زفر زفرة، فقالت المرأة: والله، ما زفر إلا من هوى داخله، ولا أظنه إلا عاشقاً.
فأقبلت عليه كالممازحة له، فقالت له: حتى متى تبلي جسمك، فوالله ما أظن الذي بك إلا هوىً.
فقال لها إياس: يا أمه، لقد ظننت بي ظن سوء، فكفّي عن مزاحك.
فقالت: إنّك، والله، لن تبديه إلى أحد هو أكتم له في قلبي، فلم تزل تعطيه المواثيق، وتقسم عليه، إلى أن قالت له: بحق صفوة.
فقال لها: لقد أقسمت علي بعظيم لو سألتني به روحي لدفعتها إليك، ثم قال: والله يا أمّه، ما عظم دائي، إلاّ بالاسم الذي أقسمت عليّ بحقّه، فالّله، الّله، في كتمانه، وطلب وجه الحيلة فيه.

فقالت: أما إذا أطلعتني عليه، فسأبلغ فيه رضاك، إن شاء الله.
فسرّ بذلك، وأرسل معها بالسلام إلى صفوة، فلما دخلت عليها، ابتدأتها صفوة بالمسألة عن الذي بلغها عن مرضه، وشدة حاله، فاستبشرت المولاة بذلك.
ثم قالت: يا صفوة، ما حالة من يبيت الليل ساهراً محزوناً يرعى النجوم ويتمنى الموت؟ فقالت صفوة: ما أظن هذا على ما ذكرت بباق، وما أسرع منه الفراق.
ثم أقبلت على المولاة، فقالت: إني أريد أن أسألك عن شيءٍ، فبحقي عليك لما أوضحته.
فقالت: وحقّك، إن عرفته فلا أكتمك شيئاً.
قالت: هل أرسلك إياس إلى أهل ودّه في حاجة؟ فقالت المولاة: والله لأصدقنّك، والله، ما جلّ داؤه، وعظم بلاؤه إلا بك، وما أرسلني بالسلام، إلا إليك، فأجيبيه إن شئت، أو دعي.
فقالت لا شفاه الله، والله، لولا ما وجب من حقك لأسأت إليك، وزجرتها.
فخرجت من عندها كئيبة، فأتته، فأعلمته، فازداد على ما كان به من مرضه، وأنشأ يقول:
كتمت الهوى حتى إذا شبّ واستوت ... قواه أشاع الدمع ما كنت أكتم
فلما رأيت الدمع قد أعلن الهوى ... خلعت عذاري فيه والخلع أسلم
فيا ويح نفسي كيف صبري على الهوى ... وقلبي وروحي عند من ليس يرحم
قال: ثم إن عمه دخل ليعرف خبره، فقال له، يا عم، إني مخبرك بشيء لم أخبرك به حتى برح الخفاء ولم أطق له محملاً.
فأخبره الخبر، فزوجه إياها، فأفاق، وبرء من علته.

بنو عذرة أرق الناس قلوبا
ً
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن منصور بن سيار، قال: حدثنا نوح بن يزيد المعلم، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن جعفر ابن الزبير، قال: سمعت رجلاً من بني عذرة، عند عروة بن الزبير يحدثه، فقال عروة: يا هذا بحق أقول لكم: إنكم أرق الناس قلوباً.
فقال: نعم والله، لقد تركت بالحي، ثلاثين شاباً قد خامرهم السل، ما بهم إلا داء الحب.
علامة من كان الهوى في فؤاده
أخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا محمد بن العباس، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: ترى العاشق إذا رأى من يحبه، أو سمع بذكره، كيف يهرب دمه، ويستحيل لونه، ويخفق فؤاده، وتأخذه الرعدة، وربما امتنع من الكلام، ولم يطق رد الجواب.
وقال بعض الشعراء:
علامة من كان الهوى في فؤاده ... إذا ما رأى الأحباب أن يتحيرا
ويصفر لون الوجه بعد احمراره ... وإن حركوه للكلام تشورا
زعموا أن الفراق غدا
ً
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنشدنا علي بن محمد، قال: أنشدنا أبو بكر الصنوبري، لنفسه:
أخذوا للسير أهبَتَه ... وأخذنا أهبة الكمدْ
زعموا أن الفراق غداً ... وفراق الروح بعد غد
عاشق ينتحر
بمحضر من الخليفة عبد الملك بن مروان أخبرنا محمد بن ناصر، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أنبأنا محمد بن عبد الرحيم المازني، قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: أنبأنا السليمي، عن محمد بن نافع مولاهم، عن أبي ريحانة، أحد حجاب عبد الملك بن مروان، قال: كان عبد الملك يجلس في كل أسبوع، يومين، جلوساً عاماً، فبينا هو جالس في مستشرف له، وقد أدخلت عليه القصص، إذ وقعت في يده قصة غير مترجمة، فيها: إن رأى أمير المؤمنين، أن يأمر جاريته فلانة، أن تغني ثلاثة أصوات، ثم ينفذ ما شاء من حكمه، فعل.
فاستشاط من ذلك غضباً، وقال: يا رباح، علي بصاحب هذه القصة.
فخرج الناس جميعهم، فأدخل عليه غلام كما عذر، كأهيأ الفتيان وأحسنهم.
فقال له عبد الملك: يا غلام، أهذه قصتك؟ فقال: نعم، يا أمير المؤمنين.
قال: وما الذي غرك مني، والله لأمثلن بك، ولأردعن بك نظرائك من أهل الجسارة، علي بالجارية، فجيء بجارية كأنها فلقة قمر، وبيدها عود، فطرح لها كرسي، وجلست.
فقال عبد الملك: مرها يا غلام.
فقال لها: غنيني يا جارية بشعر قيس بن ذريح:

لقد كنتِ حسب النفس لو دام ودنا ... ولكنما الدنيا متاع غرور
وكنا جميعاً قبل أن يظهر الهوى ... بأنعم حالَي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا ... بطون الهوى مقلوبة لظهور
قال: فخرج الغلام من جميع ما كان عليه من الثياب تخريقاً.
ثم قال له عبد الملك: مرها، تغنيك الصوت الثاني.
فقال: غنيني بشعر جميل:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بوادي القرى إني إذن لسعيد
إذا قلت: ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحب، قالت: ثابتٌ ويزيد
وإن قلت: ردي بعض عقلي أعش به ... مع الناس قالت: ذاك منك بعيد
فلا أنا مردود بما جئت طالباً ... ولا حبها فيما يبيدُ يبيد
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيى إذا فارقتها فيعود
فغنته الجارية، فسقط الغلام مغشياً عليه ساعة، ثم أفاق.
فقال له عبد الملك: مرها، فلتغنك الصوت الثالث.
فقال: يا جارية، غنيني بشعر قيس بن الملوح، المجنون:
وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة ... غزالٌ غضيض المقلتين ربيب
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى ... ولكن من تنأين عنه غريب
فغنته الجارية، فطرح الغلام نفسه في المستشرف، فلم يصل إلى الأرض حتى تقطع.
فقال عبد الملك: ويحه، لقد عجل على نفسه، ولقد كان تقديري فيه غير الذي فعل، وأمر، فأخرجت الجارية عن قصره، ثم سأل عن الغلام، فقالوا: غريب لا يعرف، إلا أنه منذ ثلاث ينادي في الأسواق، ويده على رأسه:
غداً يكثر الباكون منا ومنكم ... وتزداد داري عن دياركم بعدا

ثلاثة مجانين في بني عامر
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا ابن حيويه، قال: أخبرنا محمد بن خلف، قال: أخبرني أحمد بن حرب قال: أخبرني ابن أبي كريم، قال: أخبرنا أبو قلابة العامري، عن القاسم ابن سويد الحرمي، قال: كان في بني عامر ثلاثة مجانين، معاذ ليلى، وهو معاذ بن كليب، أحد بني عامر بن عبيد، وقيس بن معاذ، ومهدي بن الملوح الجعدي.
فأما ليلى: فاختلفوا في نسبها، فقال بعضهم: ليلى بنت مهدي.
وقال بعضهم: ليلى بنت ورد، من بني ربيعة.
وفي كنيتها قولان، أحدهما: أم مالك، وكذلك كناها المجنون في شعره، والثاني: أم الخليل.
ليلى والمجنون
أخبرتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أنبأنا أبو محمد بن السراج، قالا: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثني رجل من بني عامر، يقال له: رباح بن حبيب، قال: كان في بني عامر جارية من أجمل النساء، لها عقل وأدب، يقال لها ليلى بنت مهدي.
فبلغ المجنون خبرها، وما هي عليه من الجمال والعقل، وكان صبأً بمحادثة النساء، فعمد إلى أحسن ثيابه، فلبسها وتهيأ، فلما جلس إليها، وتحدث بين يديها، أعجبته، ووقعت بقلبه، فظل يومه ذاك يحدثها وتحدثه حتى أمسى، فانصرف إلى أهله، فبات بأطول ليلة، حتى إذا أصبح مضى إليها، فلم يزل عندها حاى أمسى ن ثم انصرف، فبات بأطول من ليلته الأولى، وجهد أن يغمض، فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع
وأدام زيارتها، وترك إتيان كل من كان يأتيه، فوقع في قلبها مثل الذي وقع في قلبه، فجاء يوماً يحدثها، فجعلت تعرض عنه، وتقبل على غيره، تريد أن تمتحنه، وتعلم ما في قلبه، فلما رأى ذلك منها اشند عليه وخرج، فلما خافت عليه، أقبلت عليه، فقالت:
كلانا مظهرٌ للناس بغضاً ... وكل عند صاحبه مكين
فسري عنه عند ذلك.
فقالت :إنما أردت أن أمتحنك، والذي لك عندي، أكثر من الذي لي عندك، وأنا معطية الله عهداً، إن أنا جالست بعد يومي هذا، رجلاً سواك، حتى أذوق الموت، إلا أن أكره على ذلك.
فانصرف وهو أسر الناس. فأنشأ يقول:
أظن هواها تاركي بمضلة ... من الأرض لا مال لدي ولا أهل
ولا أحٌد أفضي إليه وصيتي ... ولا وارثٌ إلا المطية والرحل

محا حبها حب الأولى كن قبلها ... وحلت مكاناً لم يكن حل من قبل

تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة
أخبرنا ابن ناصر، قال: أنبأنأ أحمد بن محمد البخاري، قال: أنبأنا أبو محمد الجوهري، وأخبرنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن قال: أنبأنا أبو عمر بن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: قال العمري، عن لقيط بن بكير المحاربي: ان المجنون علق بليلى علاقة الصبا، وذلك أنهما كانا صغيرين يرعيان أغناماً لقومهما، فعلق كل واحد منهما صاحبه، إلا أن المجنون كان أكثر منها، فلم يزالا على ذلك حتى كبرا.
فلم علم بأمرهما، حجبت ليلى عنه، فزال عقله، وفي ذلك يقول:
تعلقت ليلى وهي ذات ذؤابة ... ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا ... إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم
مجنون ليلى يفقد عقله
أخبرنا ابن ناصر، قال :أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أنبأنا أبو القاسم التنوخي، قال: حدثنا ابن حيويه، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال: حدثنا عبد الله بن عمرو، قال: حدثني يحيى بن أبي جابر، قال: حدثني ربيعة بن عبد الحميد قال: كان المجنون من ولد أبي بكر بن كلاب، فأتى عليه عصر من الدهر لا يعرف ليلى، ثم عشقها، فخطبها، فلم يزوجوه، فاشتدت حالته، وزاد ما كان يجده، وفشا أمره في الناس، فلقيه ابن عم له، فقال: يا أخي اتق الله في نفسك، فإن هذا الذي أنت فيه من عمل الشيطان، فازجره عنك، فأنشأ يقول:
يا حبذا عمل الشيطان من عمل ... إن كان من عمل الشيطان حبيها
منيتها النفس حتى قد أضر بها ... وأحدثت خلقاً مما أمنيتها
قال ابن خلف: وقال أبو عبيدة: كان المجنون يجلس في نادي قومه وهم يحدثون، فيقبل عليه بعض القوم ن فيحدثه، وهو باهت ينظر إليهم، ولا يفهم ما يحدثه به، ثم يثوب إليه عقله، فيسأل عن الحديث، فلا يعرفه، فحدثه مرة بعض أهله بحديث، ثم سأله عنه في غد، فلم يعرفه، فقال:
إني لأجلس في النادي أحدثهم ... فأستفيق وقد غالتني الغول
يهوى بقلبي حديث النفس دونكم ... حتى يقول خليلي أنت مخبول
قال أبو عبيدة: فتزايد الأمر به، حتى فقد عقله، فكان لا يقر في موضع، ولا يؤويه رحل، ولا يعلوه ثوب إلا مزقه، وصار لا يفهم شيئاً مما يكلم به، إلا أن تذكر له ليلى، فإذا ذكرت أجاب النداء به، ورجع عقله.
من أطاع الواشين لم يتركوا له صديقا
ً
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا ابن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: روى رباح بن حبيب، رجل من بني عامر، قال: لما كثر ذكر المجنون لليلى، واشتهر أمره، اجتمع إلى أبيه أهله، وكان سيداً، فقالوا له: زوج قيساً، فإنه سيكف عن ذكر ليلى، وينساها.
فعرض عليه أبو التزويج، فأبى، وقال: لا حاجة لي إلى ذلك فأتى ليلى بعض فتيان القوم، ممن كان يحسد قيساً، ويعاديه، فأخبرها أنه على أن يتزوج، وجاء المجنون كما كان يجيء، فحجبته، ولم تظهر له، فرجع وهو يقول:
فوالله ما أدري علام هجرتني ... وأي أمور فيك يا ليل أركب
أأقطع حبل الوصل ؟ فالموت دونه ... أم أشرب رنقاً منكم ليس يشرب ؟
أم أهرب حتى لا يرى لي مجاور ؟ ... أم أفعل ماذا ؟ أم أبوح فأغلب ؟
فوالله ما أدري وإني لدائب ... أفكر ما جرمي إليها فأعجب
قال: فبلغها قوله، فأنشأت تقول: صدق والله قيس حيث يقول:
ومن يطع الواشين لم يتركوا له ... صديقاً وإن كان الحبيب المقربا
ألا حجبت ليلى
أخبرنا ابن أبي منصور، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا أبو عمر بن حيويه، قال: حدثنا محمد ابن خلف، قال: قال محمد بن زياد بن الأعرابي: لما شبب المجنون بليلى، وشهر بحبها، اجتمع إليه أهلها، فمنعوه من محادثتها، وزيارتها، وتهددوه، وأوعدوه بالقتل، فكان يأتي امرأة، فتعرف له خبرها، فنهوا تلك المرأة عن ذلك، فكان يأتي غفلات الحي في الليل.

فلما كثر ذلك، خرج أبو ليلى، ومعه نفر من قومه إلى مروان بن الحكم، فشكوا إليه ما ينالهم من قيس بن الملوح، وسألوه الكتابة إلى عامله عليهم، يمنعه من كلام ليلى.
فكتب لهم مروان، كتاباً إلى عامله، يأمره أن يحضر قيساً، ويتقدم إليه في ترك زيارة ليلى، فإن أصابه أهلها عندهم، فقد أهدروا دمه.
فلما ورد الكتاب على عامله، بعث إلى قيس وأبيه، فجمعهم، وقرأ عليهم كتاب مروان، وقال لقيس: اتق الله في نفسك، لا يذهب دمك هدراً، فانصرف قيس، وهو يقول:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها ... علي يميناً جاهداً لا أزورها
وأوعدني فيها رجال أبوهم ... أبي وأبوها خشنت لي صدورها
على غير شيء غير أني أحبها ... وأن فؤادي عند ليلى أسيرها
فلما أيس منها، وعلم أن لا سبيل إليها، صار شبيهاً بالتائه العقل، وأحب الخلوة وحديث النفس، وتزايد الأمر به، حتى ذهب عقله، ولعب بالحصا والتراب، ولم يكن يعرف شيئاً إلا ذكرها، وقول الشعر فيها.
وبلغها ما صار إليه قيس، فجزعت أيضاً لفراقه، وضنيت ضنى شديداً.

رددت قلائص القرشي
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا ابن حيويه، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال: حدثني إسحاق بن محمد، قال: حدثني أبو معاذ النميري: أن مروان بن الحكم، استعمل رجلاً من قيس، على صدقات كعب ابن ربيعة بن عامر، وهم قيس والحريش وجعدة.
فسمع بخبر قيس بن معاذ، وهو مجنون بني عامر، فأمر أن يؤتى به، فأتي به، فساءله عن حاله، واستنشده، فأنشده، فأعجب به، وقال له: الزمني، فلك أن أحتال لك في أمر ليلى، حتى أجمع بينك وبينها، فلازمه، وكان يأتيه، فيتحدث إليه.
وكان لبني عامر مجتمع، يجتمعون فيه، في كل سنة، وكان الوالي يخرج معهم إلى ذلك المجتمع، لئلا يكون بينهم اختلاف، فحضر الوقت، فقال قيس للوالي: أتأذن لي في الخروج معك إلى هذا المجتمع ؟ فأذن له.
فلما عزم على الخروج، جاءه قوم من رهط قيس، فقالوا له: إنما سألك الخروج معك ليرى ليلى ويكلمها، وقد استعدى عليه بعض أهلها، وأهدر لهم السلطان دمه، إن أتاهم.
فلما قالوا: له ذلك، منعه من الخروج معه، وأمر له بقلائص من إبل الصدقة، فردها، وأبى أن يقبلها، وأنشأ يقول:
رددت قلائص القرشي لما ... بدا لي النقض منه للعهود
سعوا للجمع ذاك وخلفوني ... إلى حزنٍ أعالجه شديد
فلما علم قيس بن معاذ، أنه قد منع، وأن لا سبيل إليها، ذهب عقله، وصار لا يلبس ثوباً إلا خرقه، وهام على وجهه عرياناً، لا يعقل شيئاً مما يكلم به، ولا يصلي.
فلما رأى أبوه ما صنع بنفسه، خاف عليه التلف، فحبسه، وقيده، فجعل يأكل لحمه، ويضرب بنفسه الأرض.
فلما رأى أبوه ذلك، حل قيده، وخلاه، فكان يدور في فيافيهم عرياناً، ويلعب بالتراب.
وكانت له داية، لم يكن يأنس بأحد غيرها، وكانت تأتيه في كل يوم، برغيف وماء، فتضعه بين يديه، فربما أكله، وربما تركه، ولم يأكله.
أنتم شغلي، وعندكم عقلي
أخبرنا ابن ناصر، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، وأخبرتنا شهدة، قالت: أنبأنا ابن السراج، قالا: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا ابن حيويه، قال، حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني ابن عائشة، عن أبيه قال: ولي نوفل بن مساحق، صدقات كعب بن ربيعة، فنزل بجمع من تلك المجامع، فرأى قيس بن معاذ المجنون، وهو يلعب بالتراب، فدنا منه، فكلمه، فجعل يجيبه بخلاف ما يسأل عنه.
فقال له رجل من أهله: إن أردت أن يكلمك كلاماً صحيحاً، فاذكر له ليلى.
فقال له نوفل: أتحب ليلى ؟ قال: نعم.
قال: فحدثني حديثك معها.
قال: فجعل ينشده شعره فيها، فأنشأ يقول:
وشغلت عن فهم الحديث سوى ... ما كان فيك فأنتم شغلي
وأديم لحظ محدثي ليرى ... أن قد فهمت وعندكم عقلي
وأنشد:
سرت في سواد القلب حتى انتهى ... بها السير وارتادت حمى القلب حلت
فللعين تسكاب إذا القلب ملها ... وللقلب وسواس إذا العين ملت
والله ما في القلب شيء من الهوى ... لأخرى سواها أكثرت أم أقلت
وأنشد:

ذكرت عشية الصدفين ليلى ... وكل الدهر ذكراها جديد
علي أليه إن كنت أدري ... أينقص حب ليلى أم يزيد
فلما رأى نوفل منه ذلك، أدخله بيتاً، وقيده، وقال: أعالجه، فأكل لحم ذراعيه، وكفيه، فحله، وأخرجه، فكان يأوي مع الوحوش.
وكانت له داية ربته صغيراً، وكان لا يألف غيرها، ولا يقرب منه أحد سواها، فكانت تخرج في طلبه في البادية، وتحمل له الخبز والماء، فربما أكل بعضه، وربما لم يأكل.
ولم يزل على ذلك حتى مات.

كالسهم أصبح ريشه ممروطا
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا أبو عمر بن حيويه، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال: حدثني عبد الله بن عمرو، قال: حدثنا علي بن الحسن، قال: حدثنا داود ابن محمد، عن عمرو بن رزام، قال: وفد فتى من نهد، يقال له صباح بن عامر، على الملوح، أبي قيس المجنون، فسلم عليه، وخبره بنسبه، وقال له: إني قد وفدت من بلدي، لأنظر إلى قيس، وأسمع من شعره، فما أفعل ؟ فبكى الشيخ، حتى غشي عليه، ثم سكن، وقال: أني لك بقيس ؟ إن قيساً عشق ابنة عم له، وإنه جن على رأسها، فهو لا يأنس بأحد، يرد مع الوحوش، يوم ورودها، ويصدر معها إذا صدرت.
ولكن هاهنا شاب، يذهب إليه في كل وقت، وهو يأنس به، ويأخذ منه ما يقول، وقد حفظ له قصيدة يقال لها: المؤنسة، فإذا أنشده إياها أنس به وحدثه، فإن شئت، فصر إليه.
قال صباح: فصرت إلى الفتى، فرحب بي، وسألني عن حالي، فأخبرته.
فقال لي: أتروي لقيس بن ذريح شيئاً ؟ فإن المجنون مستهتر بشعره.
قلت :أنا أحفظ الناس لشعر قيس.
قال: فصر إلى موضع كذا وكذا، فاطلبه في تلك الفيافي، فإنك تجده، واعلم إنه إذ رآك، سوف يفر منك، ويهوي إليك بحجر، فلا يهولنك، واقعد كأنك لا تريده، فإذا رأيته قد سكن، فاذكر له ليلى، فإنه سيرجع إلى عقله، ويراجع صحته، ويحدثك عن حاله، ثم أنشده من شعر قيس شيئاً، فإنه مشغوف به.
قال صباح: ففعلت الذي أوصاني به الفتى، ولم أزل أطلبه، حتى انتصف النهار، فإذا أنا برجل عريان، قد سقط شعر رأسه على حاجبيه، وإذا هو قد حظر حظيرة من تراب، وهو قاعد في وسطها، وإلى جانبه أحجار، وهو يخطط بإصبعه في الأ رض.
فلما رآني أهوى إلى حجر، ووثب ليقوم، فقعدت ناحية أرمي ببصري إلى غيره، ولا أحفل به، ثم انه رجع إلى عبثه وتخطيطه.
قلت له: أتعرف ليلى ؟ قال: بأبي والله هي، فكيف لا أعرفها ؟ قلت: لله قيس بن ذريح حيث يقول:
وإني لمفن دمع عيني بالبكا ... حذاراً لما قد كان أو هو كائن
وقالوا غداً أو بعد ذاك بليلة ... فراق حبيبٍ لم يبن وهو بائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي ... بكفيك إلا أن ماحم حائن
فقال: أنا والله أشعر منه حيث أقول:
نعب الغراب بين ليلى إنه ... كان الكتاب بينهم مخطوطا
اصبحت من أهلي الذين أحبهم ... كالسهم أصبح ريشه ممروطا
ثم وثب مسرعاً إلى ظباء سنحت له، فغاب عني، فتبعته، فجعلت أقفو أثره، إلى آخر النهار، فما وقعت عيني عليه.
ثم غدوت في اليوم الثاني، فجعلت أطوف عليه في تلك الفيافي. حتى إذا جنني الليل، انصرفت.
فلما كان في اليوم الثالث طلبته، فإذا هو عريان، بين أحجار ميت.
قضاها لغيري وابتلاني بحبها
أخبرنا ابن أبي منصور، قال: أنبأنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أنبأنا علي بن المحسن، قال: أنبأنا ابن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال: حدثني سليمان بن أيوب المديني، قال: سمعت مصعباً الزبيري، يقول: كان مجنون بني عامر، يسيح مع الوحوش، وينثر الشعر نثراً، وكان الركبان يتلقون منه الشعر فيروونه.
قال ابن خلف: قال التخومي: لما قال المجنون :
قضاها لغيري وابتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا
سلب عقله.
قال ابن خلف: وأنشد مصعب بن الزبير للمجنون:
ألا أيها القلب الذي لج هائماً ... وليداً بليلى لم تقطع تمائمه
أفق فقد أفاق العاشقون وقد أنى ... لدائك أن يلقى طبيباً يلائمه
وما لك مسلوب العزاء كأنما ... ترى نأي ليلى مغرماً أنت غارمه

أجدك لا تنسيك ليلى ملمة ... تلم ولا ينسيك عهداً تقادمه
قال ابن خلف: وأنشد أبو عمرو الشيباني، للمجنون:
دعاك الهوى والشوق حين ترنمت ... هتوف الضحى بين الغصون طروب
تجاوب ورقاً قد أرعن لصوتها ... فكل لكل مسعد ومجيب
ألا يا حمام الأيك ما لك باكياً ... أفارقت إلفاً أم جفاك حبيب

وقفت على ربع لعزة ناقتي
أخبرنا محمد بن أبي منصور، وشهدة بنت أحمد، قالا: أنبأنا جعفر ابن أحمد السراج، وأنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قالوا: أنبأنا علي ابن المحسن التنوخي، قال: أنبأنا علي بن عيسى الرماني، قال: أنبأنا أبو بكر بن دريد، قال: أنبأنا عبد الأول بن مريد، قال: أخبرني حماد ابن إسحاق، عن أبيه، قال: خرج كثير يريد عبد العزيز بن مروان، فأكرمه، ورفع منزلته، وأحسن جائزته، وقال: سلني ما شئت من الحوائج، قال: نعم، أحب أن تنظر لي من يعرف قبر عزة، فيقفني عليه، فقال رجل من القوم: إني لعارف به، فانطلق به الرجل، حتى انتهى بها إلى موضع قبرها، فوضع يده عليه، وعيناه تجريان، وهو يقول:
وقفت على ربع لعزة ناقتي ... وفي البرد رشاش من الدمع يسفح
فيا عز أنت البدر قد حال دونه ... رجيع التراب والصفيح المضرح
وقد كنت أبكي من فراقك حقبة ... فأنت لعمري اليوم أنأى وأنزح
فهلا فداك الموت من أنت زينه ... ومن هو أسوا منك حالاً وأقبح
ألا لا أرى بعد ابنة النضر لذة ... لشيء ولا ملحاً لمن يتملح
فلا زال وادي رمس عزة سائلاً ... به نعمة من رحمة الله تسفح
فإن التي أحببت قد حال دونها ... طوال الليالي والضريح الموجح
أرث بعيني البكا كل ليلة ... فقد كاد مجرى دمع عيني يقرح
إذا لم يكن ماء تحلبتا دماً ... وشر البكاء المستعار الممتح
امرأة من أهل النار
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن سعيد النصيبي، قال: حدثني أبو الحسن بن نجيح، قال: حدثني رجل مستور، كان لي صديقاً، وكان ينزل بقرب مقابر الخيزران ببغداد، قال : رأيت ليلة في منامي، كأني قد أطلعت من داري إلى المقبرة، على رسمي في ذلك من اليقظة، فإذا أنا بالقبور مفتحة، وأهلها يخرجون منها شعثاً، غبراً، حفاة، عراة، فيجتمعون في موضع منها، حتى لم يبق قبر إلا خرج من كان فيه، ثم ضجوا بالبكاء، والدعاء، والابتهال إلى الله تعالى في أن يصرف عنهم دفن المرأة التي تدفن عندهم في غد .
فكأني قد سألت بعضهم، فقال: هذه امرأة من أهل النار، وإن دفنت عندنا، تأذينا بسماع عذابها، وما يجري عليها، فنحن نسأل الله صرف دفنها عنا.
قال: فانتبهت، فعجبت من هذا عجباً شديداً، وطال الليل بي، فلما أصبحت، سألت الحفارين، هل حفروا قبراً لامرأة ؟ فدلني بعضهم على قبة عظيمة، لقوم من التجار مياسير، قد ماتت زوجة أحدهم، ويريد دفنها في القبر، وقد حفر لها.
قال: فقصصت الرؤيا على الحفارين، فطموا القبر في الحال، وراعيت أمر المرأة، فجاء رسل القوم، يسألون عن القبر، فقال الحفارون: إن الموضع، ليس يتأتى فيه قبر، لأنا قد وقعنا على حمأة تحت الأرض، لا يثبت فيه ميت.
فسألوا جماعة من أصحاب القباب، أن يحفروا عندهم، فأبوا عليهم، وكان الخبر قد انتشر بين الحفارين واشتهر، فمضوا إلى مقبرة أخرى، فحفروا للمرأة.
فاستدللت على الموضع الذي تخرج منه الجنازة، فدللت، فحضرت، وشيعت الجنازة، وكان الجمع عظيماً هائلاً، والرجل جليلاً، ورأيت خلف الجنازة فتى ملتحياً حسن الوجه، ذكر أنه ابن المرأة، وهو يعزى وأبوه، وهما وقيذان بالمصيبة.
فلما دفنت المرأة تقدمت إليهما، فقلت: إني رأيت مناماً في أمر هذه المتوفاة، فإن أحببتما، قصصته عليكما.
فقال الشيخ الذي هو زوج المتوفاة: أما أنا فما أحب ذلك.
فأقبل الفتى، فقال: إن رأيت أن تفعل.
فقلت: تخلو معي، فقام.
فقلت: إن الرؤيا عظيمة، فاحتملني.
قال: قل.

فقصصت عليه الرؤيا، وقلت: يجب لك أن تنظر في هذا الأمر الذي أوجب من الله لهذه المرأة، ما ذكرته لك، فتجتنب مثله، وإن جاز أن تعرفينه لأجتنب مثله، فافعل.
فقال والله يا أخي، ما أعرف من حال أمي ما يوجب هذا، أكثر من أن أمي كانت تشرب النبيذ، وتسمع الغناء، وترمي النساء، وما يوجب هذا، هذا الأمر العظيم، ولكن في دارنا عجوز لها نحو تسعين سنة، هي دايتها، وماشطتها، فإن نشطت، صرت معي، فسألناها، فلعلها تخبرنا بما يوجب هذا، فنجتنبه.
فقمت معه، فقصدنا الدار التي كانت للمتوفاة، فأدخلني إلى غرفة فيها، وإذا بعجوز فانية، فخاطبها بما جرى، وقصصت أنا عليها الرؤيا.
فقالت: اسأل الله أن يغفر لها، كانت مسرفة على نفسها جداً.
فقال لها الفتى: يا أمي، بأكثر من الشراب، والسماع، والنساء ؟ فقالت نعم يا بني، ولولا أن أسوءك لأخبرتك بما أعلم، فإن هذا الذي رآه هذا الرجل، قليل من كثير مما أخاف عليها من العذاب.
فقال الفتى: أحب أن تخبريني، ورفقت أنا بالعجوز، فقلت: أخبرينا، لنجتنبه ونتعظ به.
فقالت: إن أخبرتكم بجميع ما أعرفه منها، ومن نفسي معها، طال، وبكت، وقالت: أما أنا، فقد علم الله تائبة منذ سنين، وكقد كنت أرجو لها التوبة، فما فعلت، ولكن أخبركم بثلاثة أحوال من أفعالها، وهي عندي أعظم ذنوبها.
فقلنا: قولي .
فقالت للفتى: كانت من أشد الناس زنىً، وما كان يمضي يوم، إلا وتدخل إلى دار أبيك، بغير علمه، الرجل والرجلين، فيطأونها، ويخرجون، ويكون دخولهم، بألوان كثيرة من الحيل، وأبوك في سوقه .
فلما نشأت أنت، وبلغت مبلغ الرجال، خرجت في نهاية الملاحة، فكنت أراها تنظر إليك نظر شهوة، فأعجب من ذلك .
إلى أن قالت لي يوماً، يا أمي، قد غلب على قلبي، عشق ابني هذا، ولا بد لي أن يطأني.
فقلت لها: يا بني اتقي الله، ولك في الرجال غيره متسع ؟ فقالت: لا بد من ذلك.
فقلت: كيف يكون هذا ؟ أو كيف يجيئك، وهو صبي، وتفتضحين، ولا تصلين إلى بغيتك، فدعي هذا لله عز وجل، فقالت: لا بد أن تساعدني.
فقلت: أعمل ماذا ؟ فقالت: تمضين إلى فلان المعلم، وكان معلماً في جوارنا، أديباً، ورسمه أن يكتب لها رقاعاً إلى عشاقها، ويجيب عنها، فتبره، وتعطيه في كل وقت.
فقالت: قولي له، يكتب إليه رقعة، يذكر فيها عشقاً، وشغفاً، ووجداً، ويسأله الاجتماع، وأوصلي الرقعة، كأنها من فلانة، وذكرت صيبة من الجيران، مليحة.
قالت العجوز: ففعلت ذلك، وأخذت الرقعة وجئتك بها، فلما سمعت ذكر الصبية، التهب قلبك ناراً، وأجبت على الرقعة تسألها الاجتماع عندها، وتذكر أن لا موضع لك.
فسلمت الجواب إلى والدتك.
فقالت: اكتبي إليه عن الصبية، أن لا موضع لها، وأن سبيل هذا أن يكون عنده، فإن قال لك: ليس لي موضع، فأعدي له الغرفة الفلانية، وافرشيها، واجعلي فيها الطيب والفاكهة، وقولي له: إنها صبية، وهو ذا تستحي، ولكن عشقك قد غلب، وهي تجيئك إلى هاهنا ليلاً، ولا يكون بين أيديكما ضوء، حتى لا تستحي هي، ولا تفطن والدتك بالحديث، ولا أبوك، إذا رأوا في الغرفة ضوء سراج، فإذا أجابك إلى هذا فأعلميني.
قالت: ففعلت ذلك، وأجبت أنت إلى هذا، وتقرر الوعد ليلة بعينها، وأعلمتها فلبست ثياباً، وتبخرت، وتطيبت، وتعطرت، وصعدت إلى الغرفة، وجئت أنت، وعندك أن الصبية هناك، فوقعت عليها، وجامعتها إلى الغداة، فلما كان وقت السحر، جئت أنا، وأيقظتها وأنزلتها، وأنت نائم، وكان صعودها إليك، بعد أن نام أبوك.
فلما كان بعد أيام، قالت لي: يا أمي، قد والله، حبلت من ابني، فكيف الحيلة ؟ فقلت: لا أدري.
قالت: أنا أدري، ثم كانت تجتمع معك على سبيل الحيلة التي عرفتك، إلى أن قاربت الولادة.
فقالت لأبيك: إنها عليلة، وقد خافت على نفسها التلف، وإنها تريد أن تمضي إلى بيت أمها فتتعلل هنالك.
فأذن لها، ومضت، وقالت لأمها: إنها عليلة، فأدخلت، وأنا معها في حجرة من دارها، وجئنا بقابلة، فلما ولدت، قتلت ولدها، وأخرجته، فدفنته، على حيلة وستر، وأقامت أياماً، وعادت إلى منزلها.
فقالت لي بعد أيام: أريد ابني.
فقلت: ويحك، ما كفاك ما مضى ؟ فقالت: لا بد، فجئتك على تلك الحيلة بعينها.

فقالت لي، من غد: قد والله حبلت، وهذا والله، سبب موتي، وفضيحتي، وأقامت تجتمع معك، على سبيل الحيلة، إلى أن قاربت الولادة، فمضت إلى أمها، وعملت كما عملت، فولدت بنتاً مليحة، فلم تطب نفسي بقتلها، وأخذتها منها ليلاً، فأخرجتها إلى قوم ضعفاء، لهم مولود، فسلمتها إليهم، وأعطيتهم من مال أبيك دراهم كثيرة، وواقفتهم على إرضاعها، والقيام بها، وأن أعطيهم في كل شهر شيئاً بعينه، وكانت تنفذه إليهم في كل شهر، وتعطيهم ضعفه، حتى تدلل الصبية، وتوفد إليها الثياب الناعمة، فنشأت في دلال ونعمة، وهي تراها في كل يوم إذا اشتاقتها.
وخطب أبوك عليك من النساء، فتزوجت بزوجتك الفلانية، فانقطع ما بينك وبينها، وهي من أشد الناس عشقاً لك، وغيرة عليك من امرأتك، ولا حيلة لها فيك.
حتى بلغت الصبية تسع سنين، فأظهرت أنها مملوكة، قد اشترتها ونقلتها إلى دارها، لتراها كل وقت، لشدة محبتها لها، والصبية لا تعلم أنها ابنتها، وسمتها باسم المماليك.
ونشأت الصبية، من أحسن الناس وجهاً، فعلمتها الغناء بالعود، فبرعت فيه، وبلغت مبلغ النساء.
فقالت لي يوماً: يا أمي، هوذا ترين شغفي بابنتي هذه، وانه لا يعلم أنها ابنتي غيرك، ولا أقدر على إظهار أمرها، وقد بلغت حداً، إن لم أعلقها برجل، خفت أن تخرج عن يدي، وتلتمس الرجال، أو تلتمس البيع، إذ تظن أنها مملوكة، وإن منعتها، تنغص عيشها وعيشي، وإن بعتها، وفارقتها، تلفت نفسي عليها، وقد فكرت في أن أصلها بابني.
فقلت: يا هذه، اتقي الله، يكفيك ما مضى.
فقالت: لا بد من ذلك.
فقلت: وكيف يتم هذا الأمر.
قالت: امضي، واكتبي رقعة، تذكرين فيها، عشقاً وغراماً، وامضي بها إلى زوجة ابني، وقولي إنها من فلان الجندي جارنا - وذكرت غلاماً حين بقل عذاره، في نهاية الحسن، قد كانت تعشقه، ويعشقها - وارفقي بها، واحتالي حتى تأخذي جوابها إليه.
ففعلت، فلحقني من زوجتك، امتهان، وطرد، واستخفاف، فترددت إليها، ومازلت بها حتى درمنتها، فقرأت الرقعة، وأجابت عنها بخطها.
وجئت بالجواب إلى أمك، فأخذته، ومضت به إلى أبيك، فشنعت عليها، وألقت بينها وبين أبيها وأبيك وبين أمها شراً كنا فيه شهوراً، إلى أن انتهى الأمر.
إلى أن طالبك أبوك بتطليق زوجتك، أو الانتقال عنه، وأن يهجرك طول عمره، وبذل لك وزن الصداق من ماله، فأطعت أبويك، وطلقت المرأة، ووزن أبوك الصداق.
ولحقك غم شديد، وبكاء، وامتناع عن الطعام، فجاءت أمك، وقالت لك: لم تغم على هذه القبحة ؟ أنا أهب لك جاريتي المغنية، وهي أحسن منها، وهي بكر وصالحة، وتلك ثيب فاجرة، وأجلوها عليك كما يفعل بالحرائر، وأجهزها من مالي ومال أبيك، بأحسن من الجهاز الذي نقل إليك.
فلما سمعت ذلك، زال غمك، وأجبتها، فوافقت على ذلك، وأصحت الجهاز، وصاغت الحلي، وجلتها لك، فأولدتها أولادك هؤلاء، وهي الآن قعيدة بيتك.
فهذا باب واحد مما أعرفه من أمك.
وباب آخر، وبدأت تحدث، فقال: حسبي، حسبي، اقطعي لا تقولي شيئاً، لعن الله تلك المرأة، ولا رحمها، ولعنك معها، وقام يستعفر الله، ويبكي ويقول: خرب والله بيتي، واحتجت إلى مفارقة أم أولادي.
وأخذ بيدي، وقمت، وفي قلبي حسرة، كيف لم أسمع باقي ما أرادت العجوز أن تحدثنا به.

شقيقان عشيقان
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني إبراهيم بن علي النصبيبي، قال: حدثني أبو بكر النحوي، قال: حدثني أبو علي بن فتح، قال: حدثني عن أبي، قال: كنت سنة من السنين جالساً في دربي، إذ دخل شاب حسن الوجه والهيأة، وعليه أثر نعمة، فسأل عن دار فارغة في الدرب يكتريها، وكان أكثر الدرب لي.
فقمت معه إلى دار فيه كبيرة حسنة فارغة، فأريته إياها، فاستحسنها، ووزن لي أجرتها لشهر، وأخذ المفتاح.
فلما كان من غد، جاء ومعه غلام، ففتحا الباب، وكنس الغلام الدار، ورش، وجلس هو، ومضى الغلام، وعاد بعد العصر، ومعه عدة حمالين وامرأة، فدخلوا الدار، وأغلق الباب، فما سمعنا لهم حركة.
وخرج الغلام قبل العشاء، وبقي الرجل والمرأة في الدار، فما فتحا الباب أياماً.
ثم خرج إلي في اليوم الرابع، فقلت: ويحك، ما لك ؟

فأومأ إلي أنه مستتر من دين عليه، وسألني أن أندب له رجلاً، يبتاع له كل يوم ما يريده، دفعة واحدة، ففعلت.
فكان يخرج في كل أسبوع، فيزن دراهم كثيرة، فيعطيها للغلام الذي نصبته له، ليشتري له بها ما يكفيه لطول تلك الأيام، من الخبز، واللحم والفاكهة، والنبيذ، والأبقال، ويصب الماء في الحباب الكثيرة، التي قد أعدها لتلك الأيام، ولا يفتح الباب، أو ينقضي ذلك الزاد.
فكان على هذا سنة، لا يجيء إليه أحد، ولا يخرج من عنده أحد، ولا أراه أنا ولا غيري.
إلىأن جاء ليلة، في وقت المغرب، فدق بابي فخرجت، فقلت مالك ؟ فقال: اعلم أن زوجتي قد ضربها الطلق، فأغثني بقابلة.
وكان في داري قابلة لأم أولادي، فحملتها إليه، فأقامت عنده ليلتها، فلما كان في الغد جاءتني، فذكرت أن امرأته ولدت في الليل بنتاً، وانها أصلحت أمورها، وأن النفساء في حالة التلف، وعادت إليها.
فلما كان وقت الظهيرة، ماتت الجارية، فجاءت القالبلة، فأخبرتنا.
فقال: الله الله أن تجيئني امرأة، أو يلطم أحد، أو يجيء أحد من الجيران فيعزيني، أو يصير لي جمع.
ففعلت ذلك، ووجدته من البكاء والشهيق على أمر عظيم.
فأحضرت له الجنازة بين العشائين، وقد كنت أنفذت من حفر قبراً، في مقبرة قريبة منا، فانصرف الحفارون لما أمسوا، وقد كان واقفني على صرفهم، وقال: لا أريد أن يراني أحد، وأنا وأنت نحمل الجنازة، إن تفضلت بذلك، ورغبت في الثواب، فاستحييت، وقلت له: أفعل.
فلما قربت العتمة، خرجت إليه، وقلت له، تخرج الجنازة.
فقال: تتفضل أولاً، وتنقل هذه الصبية إلى دارك على شرط.
قلت: ما هو ؟ قال :إن نفسي لا تطيق الجلوس في هذه الدار بعد صاحبتي، ولا المقام في البلد، ومعي مال عظيم وقماش، فتتفضل بأخذه، وتأخذ اصبية، وتنفق عليها من ذلك المال، ومن أثمان الأمتعة، إلىأن تكبر الصبية، فإن ماتت وقد بقي منه شيء، فهو لك بارك الله لك فيه، وإن عاشت فهو يكفيها إلى أن تبلغ مبلغ النساء، فحينئذ تدبر أمرها بما ترى، وأنا أمضي بعد الدفن، فأخرج من البلدة.
فوعظته، وثبته، فلم يكن إلى ذلك سبيل.
فنقلت الصبية إلى بيتي، وحمل الجنازة وأنا معه أساعده.
فلما صرنا على شفير القبر، قال لي: تتفضل وتبتعد، فإني أريد أن أودعها فأكشف وجهها، فأراه، ثم أدفنها.
ففعلت، فحل وجهها، وأكب عليها يقبلها، ثم شد كفنها، وأنزلها القبر.
ثم سمعت صيحة من القبر، ففزعت، فجئت، فاطلعت، فإذا هو قد أخرج سيفاً كان معلقاً تحت ثيابه، مجرداً، وأنا لا أعلم، فاتكأ عليه، فدخل في فؤاده، وخرج من ظهره، وصاح تلك الصيحة، ومات، كأنه ميت من ألف سنة.
فعجبت من ذلك عجباً شديداً، وخفت أن يدرك، فيصير قصة، فأضجعته فوقها في اللحد، وغيبت عليهما اللبن، وهلت التراب، وأحكمت أمر القبر، وصببت عليه جرار ماء كانت لنا في المكان.
وعدت، فنقلت كل ما كان في الدار، إلى داري، وعزلته في بيت، وختمته، وقلت: هذا أمر لا بد أن تظهر له عاقبة، وما ينبغي أن أمس من هذا المال والمتاع شيئاً، وكان جليلاً، يساوي ألوف دنانير، وأحتسب النفقة على هذه الطفلة، وأعدها ملقوطة من الطريق، ربيتها للثواب.
ففعلت ذلك، فمضى على موت الغلام والجارية، نحو سنة.
فإني لجالس على بابي يوماً، إذ اجتاز شيخ عليه أثر النبل واليسار، وتحته بغلة فارهة، وبين يديه، غلام أسود، فسلم، ووقف.
وقال: ما اسم هذا الدرب ؟ فقلت: درب فتح.
فقال :أنت من أهل الدرب ؟ قلت: نعم .
قال: منذ كم سكنته ؟ قلت: منذ نشأت، وإلي ينسب، وأكثره لي.
فثنى رجله، ونزل.
فقمت إليه، وأكرمته، فجلس تجاهي، يحادثني، وقال: لي حاجة.
فقلت: قل.
فقال: أتعرف في هذه الناحية، إنساناً وافى منذ سنين، شاب من حاله، وصفته، فوصف الغلام، واكترى هاهنا داراً ؟ فقلت: نعم.
قال: وما كانت قصته، وإلى أي شيء انتهى أمره ؟ قلت: ومن أنت منه حتى أخبرك ؟ قال: تخبرني.
قلت: لا أفعل، أو تصدقني .
فقال: أنا أبوه.
فقصصت عليه القصة، على أتم شرح.
فأجهش بالبكاء، وقال: مصيبتي أني لا أقدر أن أترحم عليه.
فقدرته يومىء إلى قتل نفسه، فقلت: لعله ذهب عقله، فقتل نفسه.
فبكى، وقال: ليس هذا أردت، فأين الطفلة ؟ فقلت: عندي، هي والمتاع.
فقال: تعطيني الطفلة.
فقلت: لا أفعل، أو تصدقني.

فقال: تعفيني.
فقلت: اقسم عليك بالله، إلا فعلت.
فقال: يا أخي، مصائب الدنيا كثيرة، ومنها: أن ابني هذا نشأ، فأدبته، وعلمته، ونشأت له أخت، لم يكن ببغداد أحسن منها، وكانت أصغر سناً منه، فعشقها، وعشقته، ونحن لا نعلم .
ثم ظهر أمرهما، فزجرتهما، وأنكرت عليهما، وانتهى الأمر إلى أن افترعها.
فبلغني ذلك، فضربته بالمقارع وإياها، وكتمت خبرهما لئلا أفتضح، ففرقت بينهما، وحجرت عليهما، وشددت عليهما أمهما مثل تشديدي، فكانا يجتمعان على حيلة، كالغريبين.
فبلغنا ذلك فأخرجت الغلام من الدار، وقيدت الجارية، فكانا على ذلك شهوراً كثيرة .
وكان يخدمني لي غلام لي كالولد، فتمت لولدي علي حيلة به، فكان يترسل بينهما، حتى أخذوا مني مالاً جليلاً، وقماشاً كثيراً، وهربوا منذ سنتين، وعملوا لأخذ ذلك، والهرب، حيلة طويلة الشرح، فلم أقف لهم على خبر، وهان علي فقد المال لبعدهما، فاسترحت منهما، إلا أن نفسي كانت تحن إليهما.
فبلغني أن الغلام في بعض السكك منذ أيام، فكبست عليه الدار، فصعد إلى السطح.
فقلت له: بالله عليك يا فلان، ما فعل ولداي ؟ فقد قتلني الشوق إليهما، وأنت آمن.
فقال لي: عليك بدرب فتح، في الجانب الغربي، فسل عنهما هناك، ورمى نفسه إلى سطح آخر، وهرب، وأنا أعرف بفلان، من مياسير التجار بالجانب الشرقي، وأخذ يبكي.
وقال: تقفني على القبر.
فجئت به حتى وقفته على القبر، ثم جاء فأدخلته داري، فأريته الصبية فجعل يترشفها ويبكي، وأخذها ونهض.
فقلت: مكانك، انقل متاعك.
فقال: أنت في حل منه وسعة.
فما زلت أداريه، إلى أن علقت به، وقلت: خذ المال، وأرحني من تبعته.
فقال: على شرط، نقسمه بيني وبينك.
فقلت: والله، لا تلبست منه بحبة.
قال: فاطلب حمالين، فجئت بهم.
فحمل تلك التركة، والصبية، وانصرف.

حلف بالطلاق لا يحضر دعوة أبدا
ً
أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني الشريف أبو أحمد الحسين ابن موسى العلوي، النقيب قال: حدثني شيخ كان يخدمني: انه حلف بالطلاق ألا يحضر أبداً دعوة، فسألته عن سبب ذلك، فقال: كنت قد انحدرت إلى البصرة من بغداد، فصعدت إلى بعض مشارع البصرة، فاستقبلني رجل، فكناني بغير كنيتي، وبش بي، واحتفى، وجعل يسائلني عن قوم لا أعرفهم.
وكانت غريباً، لا أعرف مكاناً، فقلت: أبيت عنده الليلة إلى غد، فأطلب مكاناً، فوهمت عليه بالقول، فجذبني إلى منزله، ومعي رحل صالح، وفي كمي دراهم كثيرة.
فدخلت إليه، فرأيت داراً حسناً، وحالاً متوسطاً، وإذا عنده دعوة، وهم على نبيذ، وقد خرج لحاجة، فشبهني بصديق كان له، وكان فيمن كان عنده غلام أمرد، فلما أخذنا مضجعنا للنوم، ندمت على فعلي، ونامت الجماعة.
فلما كان بعد ساعة طويلة، رأيت أحد الجماعة، قد قام إلى الغلام الأمرد ففسق به، ورجع إلى موضعه، وكان قريباً من صاحب الغلام، فاستيقظ صاحب الغلام، وحركه.
فقال لهه الغلام: ما تريد ؟ ألم تكن الساعة عندي، وفعلت بي كذا وكذا.
فقال له: لا.
فقال: قد جاءني الساعة من فعل بي كذا، فظننت أنه هو أنت، فلم أتحرك، ولم أظن أن أحداً يجسر عليك.
فنخر الرجل وجرد سكينا من وسطه، واتفق بأنه بدأ بصاحب الخيانة، وأنا أرعد فزعاً، ولو كان بدأ بي فوجدني أرعد، لقتلني، وكان يظن أنني صاحب القصة.
فلما أراده الله من حياتي، بدأ بصاحب القصة، فوضع يده على قلبه، فوجده يخفق، وقد تناوم عليه الرجل، يرجو بذلك السلامة، فوضع السكين في فؤاده، وأمسك فاه، فاضطرب الرجل وتلف، وأخذ بيد غلامه وانصرف.
أبو البلاد يجن فيعلو حبيبته بالسيف
أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أنبأنا محمد بن العباس، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال: أخبرنا أبو بكر العامري، عن أحمد بن هشام، قال: أخبرني أشياخ من بني سعد ومالك ابني زيد مناة، عن أشياخ من قومهم، أدركوا ذلك الدهر:

أن أبا البلاد، وهو بشر بن العلاء، أحد بني طهية، ثم أحد بني سود، كان في شرف من قومه، وكان يتيماً من أمه، وكنفه عمه، وكان اسم عمه حنيف بن عمرو، وكان عنده أثر من والده، وكانت لعمه ابنة يقال لها سلمى، وكانت أحسن فتاة بنجد، مشهورة بذلك، وكان يهاب عمه أن يخطبها إليه، فغاب غيبة، فزوجها أبوها أحد بني عمها، وبلغ ذلك أبا البلاد، فذهل عقله، وأنه أتى الخباء الذي تكون به سلمى كما كان يأتي، فرأت سلمى في وجهه صفرة، ورأت به زمعاً، فحسبت أنه جائع، فدفعت إليه من وراء الستر، جفنة فيها طبيخ من لحم طير، قد راح به رعاؤهم، فطفق يأكل، أكل مسلوس، فظنت الفتاة أنه عرض له عارض من الخافي، فخرجت من كسر البيت، تريد بيت أختها ليلى.
وسمع حفيف ثوبها، فخرج معارضاً لها بالسيف، فضربها على حبل عاتقها، وسمعت ليلى الوجبة، فغدت عليه بهراوة، وأدبر، فاتبعته الفتاة، فأصبات خشاشة، فتتعتع، فسقط، ثم انتعش، فغدا هارباً، وقال في ذلك:
إن لليلى بين أذني وعاتقي ... كضربة سلمى يوم نعف الشقائق
قال: واستصرخ أبوها، وعمها، وإخوتها، فأقبلوا، ويأوي أبو البلاد في قارة، حذاء أبياتهم، فكان يكون فيها نهاره، وينحدر بالليل، فيتنور نار أهلها، وهي تضرب بنفسها في ثياب لها، وبها علز الموت، فيراها.
فأخبر بذلك أبوها، فقال: ما كنت لأقتل ولداً بولد، وقال أبو البلاد وهو يرى نار سلمى التي كانت توقد لها قبل الموت:
يا موقد النار وهناً موقد النار ... بجانب الشيح من رقصات أعيار
يا موقد النار أشعلها بعرفجة ... لمن تنورها من مدلج ساري
نار تضيء سليمى وهي حاسرة ... سقياً لموقد تلك النار من نار
قال: فماتت سليمى.
ولم يزل بأبي البلاد، بعد ذلك، وسوسة، وبهتة، حتى مات.

ولكم في القصاص حياة
أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني عبد الله بن محمد، قال: حدثني شيخ كان يخدمني، وقد تجارينا أحاديث، قال: بت ليلة في مكان، فقتل رجلٌ رجلاً، فخرجت والليل منتصف، لا أدري أين أقصد.
وخفت العسس، فرأيت أتون حمام، ولم يوقد بعد، فقلت: أختبئ فيه إلى أن يفتح الحمام، فأدخله.
فجلست في ناحية من الأتون، فما لبثت حتى سمعت وقع حافر ، فإذا رجل معه جارية، فأدخلها إلى الأتون، فذبحها، وتركها، ومضى.
فرأيت بريق خلخالين في رجلها، فانتزعتهما منها، وصبرت ساعة، ثم خرجت.
وما زلت أمشي في طريق لا أعرفه، متحيراً، إلى أن اجتزت بحمام قد فتح، فدخلته، وخبأت ما معي، في ثيابي.
وخرجت، فعرفت الطريق، وعلمت أني بالقرب من دار صديق لي، فطلبتها، ودققت بابه، ففتح لي، وسر بقدومي، وأدخلني.
فدفعت إليه دراهمي ليخبأها، والخلخالين، فلما نظر إليهما تغير وجهه.
فقلت: مالك ؟ فقال: من أين لك هذان الخلخالان ؟ فأخبرته بخبري كله في ليلتي تلك.
فقال لي: تعرف الرجل الذي قتل الجارية ؟ فقلت: أما بوجهه فلا، لأن الظلمة كانت حائلة بيننا، ولكن إن سمعت كلامه عرفته.
فأعد طعاماً، ونظر في أمره، ثم خرج، وعاد بعد ساعة، ومعه رجل من الجند، فكلمه، وغمزني عليه.
فقلت: نعم، هو الرجل.
ثم أكلنا، وحضر الشراب، فحمل عليه النبيذ، حتى سكر، ونام في موضعه، فغلق باب الدار، وذبح الرجل.
وقال لي: إن المقتلوة أختي، وكان هذا قد أفسدها، وأنا منذ مدة أتخبر، فلا أصدق، إلا أني طردت أختي، وأبعدتها عني، فمضت إليه، ولست أدري ما كان بينهما، حتى قتلها، وإنما عرفت الخلخالين، فدخلت، وسألت عن أمرها.
فقالوا لي: هي عند فلان.
فقلت: قد رضيت عنها، فوجهوا ردوها.
فمضوا يعرفون خبرها، فلجلج الرجل، فعلمت أنه قد قتلها كما ذكرت، فقتلته، فقم حتى ندفنه.
فخرجنا ليلاً، أنا والرجل، حتى دفناه، وعدت إلى المشرعة هارباً من البصرة، حتى وصلت إلى بغداد.
وحلفت ألا أحضر دعوة أ بداً.
يقتل عشيقته فيفترسه الأسد
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه، قال: حدثني إبراهيم بن علي بن النصيبي. قال: حدثني أبو علي ابن حامد بن أبي بكر المعروف بابن أبي حامد، قال: حدثني بعض أصحاب أبي قال:

كان جدك ابن أبي حامد، وهو صاحب بيت المال - إذ ذاك - يتمسى في دار الخلافة، فينصرف وقد مضى ربع الليل، أو ثلثه، فيجلس في طياره، ويصعد إلى داره، ونحتاج نحن، أن يكون لنا سفن مشاهرة، فإذا ركب طياره، نزلنا نحن في سفننا، وكان برسمي ملاح على مرور الأوقات.
فلما كان ليلة من الليالي، خرجت مع جدك، فطلبت ملاحي، فلم أجده، فأخذني بعض أصحاب جدك، في سميريته، وبكرت في الغد، فلم أعرف له خبراُ، وتمادى ذلك سنين.
فلما كان بعد سنين، رأيته في الكرخ، بطيلسان، ونعل طاق، بزي التجار المياسير.
فقلت: فلان ؟ فحين رآني اضطرب.
فقلت: ويحك، ما قصتك ؟ قال: خير.
فقلت: وما هذا الزي ؟ قال: تركت الملاحة، وصرت تاجراً.
قلت: فرأس المال من أين لك ؟ فجهد أن يفلت.
فقلت: لا تطول علي، والله، لا افترقنا، أو تخبرني خبرك، ولم تركتني تلك الليلة، ثم لم نرك إلى الآن ؟ فقال: على أن تستر علي.
فقلت: أفعل.
فأحلفني، فحلفت.
قال: إنك أبطأت تلك الليلة، وعرضت لي بولة، فأصعدت من دار الخلافة، إلى مشرعة بنهر معلى، فبلت.
وإذا برجل قد نزل، فقال: احملني.
فقلت: أنا مع راكب لا يمكنني فراقه.
فقال: خذ مني ديناراً واحملني.
فلما سمعت بذكر الدينار، طمعت، وظننته هارباً، فقلت: إلى أين أحملك ؟ فقال: إلى الدباغين.
فقلت: لاأحملك.
فقال: خذ دينارين.
فقلت: هات، فأعطاني دينارين، فجعلتهما في كمي، وكان معه غلام، فقال: امض وهات ما معك.
فمضى الغلام، ولم يحتبس حتى جاء بامرأة، لم أر قط أحسن منها وجهاً، ولا ثياباً، وجاء بجونة كبيرة حسنة، وأطباق فاكهة، وثلج، ونبيذ، وكانت ليلة مقمرة، وجاء بعود، فأخذته الجارية في حجرها، فسهل علي لطيب الوقت، أن أخل بك.
ثم قال للغلام: امض أنت، فمضى.
قال: ادفع فدفعت.
وكشفت الجارية وجهها، فإذا هي أحسن من البدر بشيء كثير.
فلما بلغت الدباغين، جرد سيفاً كان معه، وقال: ادفع إلى مكان ما أقول لك، وإلا ضربت عنقك.
فقلت: ما بك إلى هذا حاجة، السمع والطاعة، فانحدرت.
فقال لها: تأكلين شيئاً ؟ فقالت: نعم.
فأخرج ما كان في الجونة، فإذا طعام نظيف، ظريف، فأكلا، وألقى الجونة إلي.
ثم أخذت العود، وغنت أحسن غناء يكون، وأطيبه.
فقال لي: يا ملاح لولا خوفي أن تسكر، لسقيتك.
فقلت: يا أستاذ، أنا أشرب عشرين رطلاً نبيذاً، ولا أسكر، فأعطاني ظرفاً فيه خمسة أرطال، وقال: اشرب لنفسك.
فجعلت أشرب على الغناء وأجدف، وهما يشربان، إلى أن دنا منها، فقبلها كثيراً، واحتدت شهوته، فجامعها وأنا أراه، ثم عاودها دفعات وثمل.
فقال: يا فلانة، خنت عهدي وميثاقي، ومكنت فلاناً من نفسك، حتى فعل بك كيت وكيت، وفلاناً، وفلاناً، وجعل يواقفها، وهي تقول: لا والله، يا سيدي، ما فعلت هذا، وإنما كذبوا علي عندك، ليباعدوني منك.
فقال: كذبت ،أنا توصلت إلى أن حصلت معكم، في ليلة كذا، في الدار الفلانية، وقد دعاك فلان، وصنعتم وفعلتم كذا وكذا، وأنا أراكم بعيني، وما بعد هذا شيء، وتدرين لم جئت بك إلى هذا الموضع، وعاتبتك ها هنا ؟ فقالت: لا.
فقال: لأن أودعك، وأجعل هذا آخر العهد بك، وأقتلك، وأطرحك في الماء.
قال: فجزعت الجارية جزعاً شديداً، ثم قالت: يا مولاي، ويطيب قلبك ؟ قال :إي والله، ثم خالطها، وأخرج تكتها، فكتفها بها.
فقلت: يا سيدي، اتق الله، مثل هذا الوجه، وأنت تالف في حبه، تعمل به مثل هذا ؟ فقال: الساعة والله، ابتدىء بك.
وأخذ السيف، فجزعت، وأمسكت، وتقدم إليها فذبحها، وأمسكها حتى جرى دمها وماتت.
ثم أقبل ينزع حليها، ويرمي به إلى صدر السميرية، ثم نزع الثياب عنها، وشق جوفها، وجعل يقطعها قطعاً، ويرمي بها إلى الماء.
وكنا قد قاربنا المدائن، وقد مضى أكثر الليل، فرأيت منظراً لم أر قط مثله، ومت جزعاً، وقلت: الساعة يقتلني لئلا أنم عليه، ولم أجد حيلة، فاستسلمت.
وطرح نفسه كالمغشي عليه، وجعل يبكي، ويقول: شفيت قلبي، وقتلت نفسي، ويلطم، ورمى بالعود، وجميع ما كان معه، من فاكهة، وأكل وشراب، إلى الماء.
فطلع الفجر وأضاء، وبقي بيننا وبين المدائن نصف فرسخ، فطمعت في الحيلة عليه.
فقلت له: يا سيدي، قد أصبحنا، أفلا تصلي ؟ وأردت أن يصعد إلى الشط، وأنحدر أنا في السميرية، وأدعه .
فقال: بلى: اطرحني إلى الشط.

فقدمت السميرية إلى الشط، وطرحته.
فحين صعد من السميرية أذرعاً يسيرة، إذا سبع قد قفز عليه، فتناوله، فرأيته والله، في فمه، كالفأرة في فم السنور.
فلا أنسى ما ورد على قلبي من السرور بذلك.
فحدرت السفينة، فلما تجاوزت المدائن، طرحت إلى الشط، وجمعت الحلي، وخبأته، تحت بارية السميرية، وتأملت الثياب، فغسلت ما أثر الدم فيه، وخبأته، وانحدرت، فما رد وجهي شيء إلى البصرة.
فنظرت، فإذا معي حلي بألف دينار، وثياب بعتها بجملة دنانير كثيرة، فأقمت بالبصرة أتجر، وخفت العود إلى بغداد، لئلا يراني ذلك الغلام، فيطالبني بالرجل، أو أسأل عن الحديث.
فلما طالت المدة، وانقضت السنون، وقع لي أن الأمر قد نسي، واشتقت إلى بغداد، وكانت البضاعة قد نمت وزادت، فاشتريت بجميعها تجارة إلى بغداد، ودخلت، وأنا فيها منذ نحو سنة، حتى رأيتني اليوم.

حلف بالطلاق لا يشيع جنازة أبدا
ً
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، عن أبيه: قال: حدثني عبد الله بن محمد، قال: حدثني الشريف أبو أحمد الحسين بن موسى العلوي النقيب، قال: حدثني شيخ كان يخدمني: انه حلف بالطلاق، لا يشيع جنازة.
فسألته عن السبب.
فقال: خرجت يوماً ببغداد في نصف النهار من يوم حار، لحاجة لي، فاستقبلتني جنازة يحملها اثنان.
فقلت: غريب، فقير، أربعها، فأثاب، فدخلت تحتها بدلاً من أحد الحمالين.
فحين استقرت على كتفي، افتقدت الحمال، فقلت: يا حمال، يا حمال.
فقال الاخر: أيش تريد ؟ إمش واسكت، قد انصرف الحمال.
فقلت: الساعة والله، أرمي بها.
فقال الحمال: والله لئن فعلت، لأصيحن.
فاستحييت، وحملت الأذى، وقلت: ثواب، وما زلت أسير في الشمس، والرمضاء، إلى الشونيزنة.
فلما حططنا الجنازة في مسجد الجنائز، هرب الحمال الآخر.
فقلت لنفسي: ما لهؤلاء الملاعين، والله لأتممن الثواب، وأخرجت من كمي دراهم، وصحت، يا حفار، أين قبر هذه الجنازة ؟ فقال: لا أدري.
فقلت: احفر، فأخذ مني درهمين، وحفر قبراً.
فلما صوبت عليه الجنازة، ليأخذ الميت ليدفنه، وثب من اللحد، ولكمني، وجعل عمامتي في رقبتي، وصاح: يا قوم ! قتيل.
واجتمع الناس، وسألوه، فقال: هذا جاء برجل مقطوع الرأس لأدفنه له، فحل الكفن، فوجد الأمر على ما قاله الحفار.
فهبت، وتحيرت، وجرى علي من العامة، من المكروه، ما كادت نفسي تتلف، إلى أن حملت إلى صاحب الشرطة، فأخبر الخبر، فجردت للسياط، وأنا ساكت، باهت.
وكان له كاتب، فحين رأى حيرتي، قال له: أنظرني، حتى أكشف أمر هذا الرجل، فإني أحسبه مظلوماً.
فخلا بي، وساءلني، فأخبرته خبري، ولم أزد فيه، ولم أنقص.
فنحى الميت عن الجنازة، وفتشها، فوجد فيها كتابة، انها للمسجد الفلاني، للناحية الفلانية.
فأخذ معه رجالة، ومضى، فدخل المسجد متنكراً، فوجد فيه خياطاً، فسأله عن جنازة، كأنه يريد أن يحمل عليها ميتاً له.
فقال الخياط: للمسجد جنازة، إلا أنها أخذت منه الغداة، لحمل ميت، ولم ترد.
فقال: من أخذها ؟ فقال: أهل تلك الديار، وأومأ إليها.
فكسبها الكاتب، برجالة الشرطة، فوجد فيها رجالاً، فقبض عليهم وحملهم إلى الشرطة، وأخبر صاحبه الخبر، فقدم القوم، وقررهم، فأقروا، أنهم تغايروا على غلام أمرد معهم، فقتلوه، واحتزوا رأسه، ودفنوه في بئر حفروها في الدار، وحملوه على تلك الصورة، وأن الحمالين كانا أحد القوم، فضربت أعناق القوم، وخلي سبيلي.
فهذا سبب توبتي، أن لا أحضر جنازة.
منفصل عني وما قلبي عنه منفصل
وأنبئت عن الوليد بن محمد، وغيره، عن محمد بن عبد الباقي الأنصاري، قال: حدثنا علي بن المحسن التنوخي، إذناً، قال: أنبأنا أبي، عن أبي الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني عمي، قال: حدثني عبد الله بن المرزبان، قال: أخبرني علي بن صالح بن الهيثم، وإسماعيل بن يونس، قالا: حدثنا أبو هفان، قال: أهديت إلى الرشيد، جارية في غاية الجمال، والكمال، فخلا بها أياماً، وأخرج كل قينة من داره.
واصطبح يوماً، فكان من حضره من جواريه للغناء وغيره، زهاء ألفي جارية، في أحسن زي، من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر.
واتصل الخبر بأم جعفر، فغلظ عليها ذاك، فأرسلت إلى علية، تشكو إليها.

فأرسلت علية: لا يهولنك هذا، فوالله لأردنه، وأنا أعمل شعراً، وأصوغ فيه لحناً، وأطرحه على جواري، فلا تدعى عندك جارية، إلا بعثت بها إلي، وألبسيهن فاخر الشياب والحلي، ليأخذن الصوت مع جواري.
ففعلت أم جعفر ما أمرتها.
وزحفت عليه من حجرتها، ومعها زهاء ألفي جارية من جواريها، وسائر جواري القصر، عليهن غرائب اللباس والحلي، وكلهن يغنين في لحنٍ واحد، هزج، صنعته علية:
منفصل عني وما ... قلبي عنه منفصل
يا قاطعي اليوم لمن ... نويت بعدي أن تصل
فطرب الرشيد، وقام على رجليه، حتى استقبل أم جعفر، وعلية، وهو على غاية السرور، وقال: لم أر كاليوم قط.
ثم قال: يا مسرور، لا تبقين في بيت المال شيئاً إلا نثرته، فكان مبلغ ما نثر يومئذ، ستة آلاف ألف درهم.
وما سمع بمثل ذلك اليوم قط.
ألا أن هنداً أصبحت منك محرما
أخبرتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أنبأنا أبو محمد بن السراج، قال: أنبأنا أبو القاسم التنوخي، قال: أنبأنا علي بن عيسى بن علي النحوي، قال: حدثنا أبو بكر بن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، عن الأصمعي، قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن أيوب السختياني، عن ابن سيرين، قال: قال عبد الله بن عجلان النهدي في الجاهلية:
ألا إن هنداً أصبحت منك محرما ... وأصبحت من أدنى حميمها حمى
وأصبحت كالمقمور جفن سلاحه ... يقلب بالكفين قوساً وأسهما
ومد بها صوته، حتى مات.

جعلت من وردتها تميمة في عضدي
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أنبأنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، قال: أنبأنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان، قال: أنبأنا أحمد بن محمد بن منصور بن سيار، قال: أخبرني عبد الله بن نصر المروزي، قال: أخبرني عبد الله بن سويد، عن أبيه، قال: سمعت علي بن عاصم يقول: قال لي رجل من أهل الكوفة، من بعض إخواني، هل لك في عاشق تراه ؟ فمضيت معه، فرأيت فتى كأنما نزعت الروح من جسده، وهو متزر بإزار، مرتد بآخر، وإذا هو مفكر، وفي ساعدة وردة.
فذكرنا له بيتاً من الشعر، فتهيج وقال:
جعلت من وردتها ... تميمة في عضدي
أشمها من حبها ... إذا علاني جهدي
فمن رأى مثلي فتى ... بالحزن أضحى مرتدي
أسقمه الحب وقد ... صار قليل الأود
وصار ساه دهره ... مقارناً للكمد
ألا فمن يرحم أو ... يرق لي من كمد
ثم أطرق. فقلت: ما شأنه ؟ قالوا: عشق جارية لبعض أهله، فأعطى بها كل ما يملك، وهو سبعمائة دينار، فأبوا أن يبيعوها، فنزل به ما ترى، وفقد عقله.
قال: فخرجنا، فلبثنا ما شاء الله، ثم مات، فحضرته جنازته.
فلما سوي عليه، إذا بجارية تسأل عن القبر، فدللتها عليه، فما زالت تبكي، وتأخذ التراب فتجعله في شعرها، فبينما هي كذلك، إذ جاء قوم يسعون، فأقبلوا عليها ضرباً، فقالت: شأنكم، والله، لا تنتفعون بي بعده أبداً.
عشق، فعف، فكتم، فمات
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا التنوخي، قال: حدثنا ابن حيوية، قال: أنبأنا ابن المرزبان، قال: ذكر بعض الرواة عن محمد بن معاوية، قال: حدثني إبراهيم بن عثمان العذري، وكان ينزل الكوفة، قال: رأيت عمر بن ميسرة، وكان كهئية الخيال، وكأنه صبغ بالورس، لا يكاد يكلم أحداً، ولا يجالسه، وكانوا يرون أنه عاشق، فكانوا يسألونه عن قصته، فيقول:
يسائلني ذا اللب عن طول علتي ... وما أنا بالمبدي لذا الناس علتي
سأكتمها صبراً على حر جمرها ... وأكتهما إذ كان في السر راحتي
إذا كنت قد أبصرت موضع علتي ... وكان دوائي في مواضع لذتي
صبرت على دائي احتساباً ورغبة ... ولم أك أحدوثات أهلي وخلتي

قال: فما أظهر أمره، ولا علم أحد بقصته، حتى كان عند الموت، فإنه قال: إن العلة التي كانت بي، من أجل فلانة ابنة عمي، والله، ما حجبني عنها، وألزمني الضر، إلا خوف الله عز وجل لا غير، فمن بلي في هذه الدنيا بشيء، فلا يكن أحد أوثق عنده بسره من نفسه، ولولا أن الموت نازل بي الساعة، ما حدثتكم، فاقرؤوها مني السلام، ومات.

عبد الله بن عجلان وهند بنت كعب
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن، قال: أنبأنا أبو عمر بن حيوية، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال: أخبرني أبو بكر العامري، قال: أخبرني سليمان بن الربيع الكادحي، قال: حدثنا عبد العزيز بن الماجشون، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: عبد الله بن عجلان، هو صاحب هند بنت كعب بن عمرو، وإنه عشقها، فمرض مرضاً شديداً حتى ضني، فلم يدر أهله ما به.
فدخلت عليه عجوز، فقالت: إن صاحبكم عاشق، فاذبحوا له شاة، وائتوه بها، وغيبوا فؤادها، ففعلوا، وأتوه بها، فجعل يرفع بضعة، ويضع أخرى.
ثم قال: أما لشاتكم قلب ؟ فقال أخوه: لا أراك إلا عاشقاً، ولم تخبرنا.
فبلغني - والله أعلم - أنه قال لهم بعد لك: آه، ومات.
عشقت، فجنت، فماتت
أنبأنا محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا أبو القاسم التنوخي، وأبو محمد الجوهري، كلاهما عن أبي عبيد الله المرزباني، قال: أنبأنا ابن دريد، قال: أنبأنا العباس بن الفرج الرياشي، عن محمد بن سلام، قال: حدثني بعض أهل الكوفة، قال: حججت، فرأيت امرأة قبيل فيد، وهي تقول:
فإن تضربوا ظهري وبطني كليهما ... فليس لقلبي بين جنبي ضارب
فسألت عنها، فقيل: عاشق.
ثم عدت في العام المقبل، فإذا بها قد حال لونها مع حسنه، وهي تقول:
فإن يك عيسى قد أطاع بي العدى ... فلا وأبيه ما أطعت الأعاديا
يقولون لي مولى فلا تقربينه ... وعيش أبي إني أحب المواليا
ثم رجعت في العام الثالث، فإذا هي مقيدة، فاقدة عقلها، وهي تقول:
أيا طلحة الرعيان ظلك بارد ... وماؤك عذب يستساغ لشارب
ثم سألت عنها بعد ذلك، فأخبرت أنها ماتت.
رب لا تسلبني ديني ولا
تفتني بعد أن هد يتني
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، قال: أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن، قال: أنبأنا أبو عمر بن حيويه، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال :أخبرني محمد بن موسى، عن سعيد بن عبد الله بن ميسرة، قال: حدثني شيخ من أهل الشام، قال: صحبني فتى في بعض أسفاري، فكنت كثيراً ما أسمعه ينشد هذه الأبيات:
ألا إنما التقوى ركائب أدلجت ... وأدركت الساري بليل فلم ينم
وفي صحبة التقوى غناء وثروة ... وفي صحبة الأهواء ذل مع الندم
فلا تصحب الأهواء واهجر محبها ... وكن للتقى إلفاً وكن في التقى علم
فقلت له يوماً: ما هذه الأبيات التي أسمعك كثيراً تنشدها ؟ فضحك، وقال: كيف سألتني عنها ؟ فقلت: لأني أراك كثيراً تنشدها، فأردت أن أعلم، من قولك هي ؟ قال: لا، ولكنها من قول أخٍ لي، وله حديث عجيب.
فقلت له: حدثني به.
قال: نعم، كان لي أخ، وكنت أحبه الحب الذي لا شيء بعده، فمكثنا بذلك حيناً، فلزم الحديث، والفقه، والأدب، وما رأيت فتى - مع التقوى - أمزح منه.
قال: ثم تغير عن بعض ما كنت أعهد منه، من المزاح، والسرور، وحسن الحديث، فلما رأيت ذلك منه غمني، وأنكرته، فخلوت به يوماً، فقلت: يا أخي، ما قصتك ؟ وما حالك. وما الذي نزل بك ؟ أخبرني، فإن كان من أمر الآخرة، سررت به، وإن كان من أمر الدنيا أعنتك عليه.
قال، والله يا أخي، ما هو من أمر الآخرة، ولكنه من أمر الدنيا، ولست أبديه، حتى يبلغ الأمر آخره، ويخرج من يدي، ولا أستطيع رده.
قال: ولهج بهذه الأبيات:
ألا إنما التقوى ركائب أدلجت
قال: فعظم علي ما نزل به، وشغل قلبي، وأخذه شبيه بالسهو، ويقول في بعض الساعات: رب لا تسلبني ديني، ولا تفتني بعد أن هديتني.
فقلت في نفسي: ما أراه إلا، وقد غلبت عليه وسوسة من الشيطان، فهو يخاف، ومكث بذلك حيناً، ما يزداد إلا ضنىً.
وجهل أهله يسألونني، فأقول: والله، ما علمي به إلا كعلمكم، ولقد سألته عن حاله، فما يخبرني بشيء.

واشتد عليه الأمر، فسقط في الفراش، وكان الناس يعودونه.
ودخل الأطباء عليه، فبعضهم يقول: سل، وبعضهم يقول: غم، واختلفت في أمره علينا الأقاويل، وكان لا يتكلم بشيء أكثر من قوله:
ألا إنما التقوى ركائب أدلجت ... فأدركت الساري بليل فلم ينم
قال: ولم يزل به الأمر، حتى غلب على عقله، وضاق به مكانه، فأدخلناه بيتاً، فكان يصرخ الليل كله، فإذا مل من الصراخ، أن كما يئن المدنف من علته.
فأشاروا علينا بتخليته، وقالوا: إنكم إن خليتموه، تفرج واستراح، فخليناه.
فكان إذا أصبح، خرج فقعد على باب داره، فكل من مر به، سأله: أين تريد ؟ فيقول: أريد موضع كذا وكذا.
فيقول: اذهب محفوظاً، لو كان طربقك على بغيتنا، أودعناك كلاماً.
قال: فمر به بعض إخوانه، فقال: أين تريد ؟ قال: أريد حيث تحب، فهل لك من حاجة ؟ قال: نعم.
قال: ما هي ؟ فقال:
تقرأ السلام على الحبيب تحية ... وتبثه بمطاول الأسقام
وتقل له: إن التقى زم الهوى ... لما سما متعجلاً بزمام
فقال: أفعل إن شاء الله.
قال: فمضى، فما كان بأسرع من أن رجع، فقال: قد بلغت القوم رسالتك.
قال: فما قالوا ؟ قال: قالوا:
لئن كان تقوى الله زمك أن تنل ... أموراً نهى عن نيلها بحرام
فزرنا لنقضي من حديثٍ لبانةً ... ونشفي نفوساً آذنت بسقام
قال: فوثب قائماً، ثم أنشأ يقول:
لأقل من هذا فيه لذي الهوى ... شفاء وقد يسلو الفتى جد وامق
إذا اليأس حل القلب لم ينفع البكا ... وهل ينفع المعشوق دمعة عاشق
قال: ومضى، فقمت خلفه، فقلت لأهله، لا يتبعني أحد منكم، وتبعته، حتى أتى نزل رجل من أهل الفضل والرأي والدين، وكانت له ابنة من أجمل النساء، فوقف على الباب، فقال:
فها أنذا قد جئت أشكو صبابتي ... وأخبركم عما لقيت من الحب
وأظهر تسليماً عليكم لتعلموا ... بأني وصولٌ ثم ذا منكم حسبي
قال: فلما فهمت القصة، وخشيت أن يلحظني أحد، أو يراه بعض من يعرفه، أو يفهم قصته، خرجت عليه.
فقلت: ما جلوسك على باب القوم، ولم يأذنوا لك ؟ قال: بلى.
فقلت: كيف، وهم يقولون:
بالله ربك لا تمر ببابنا ... إنا نخاف مقالة الحساد
ودع التعتب والتذكر إنه ... يرويه عنك أجلة العواد
قال: يا صالح، وقد قالوا هذا ؟ قلت: نعم.
فجعل يهذي، ويقول:
إن كان قد كرهوا زيارة عاشق ... فلرب معشوق يزور العاشقا
فلما رجعت، سألوني عن قصته، فقلت ؛ ما أخطأ الجبان.
ولزم بيته، فلم يزل زائل العقل، حتى مات.
؟مت عشقاً
أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز، قال: أنبأنا علي بن المحسن التنوخي، قال: أنبأنا أبو عمر بن حيويه، قال: أنبأنا محمد بن خلف، قال: وجدت في كتاب بعض إخواني من أهل العلم، قال: حدثنا زكريا بن إسحاق، قال: سمعت مالك بن سعيد يقول: حدثني مشيخة من خزاعة: انه كان عندهم بالطائف جارية عفيفة صالحة، وكانت لها أمٌ من خيار النساء لها فضل ودين، وكانت لهم بضاعة مع رجل من أهل الطائف، وكان يتجر لهم بها، ويعطيهم فضلها.
قال: فبعث الرجل إليهم ذات يوم، ابنه في حاجة، وكان غلاماً جميلاً، فدخل والجارية جالسة، لم تعلم بدخوله، فنظر إليها، وكانت ذات جمال، فوقعت بقلبه، فخرج من عندهم، وما يدري أين يسلك، وجعل الأمر يتزايد عليه، حتى تغير عقله، ونحل جسمه، ولزم الوحدة والفكر، وكتم حاله، وجعل لا يقر له قرار.
فلما رأى أهله ذلك، حبسوه في بيت، وأوثقوه، فكان ربما أفلت، فيجتمع عليه الصبيان، فيقولون له:

مت عشقا
ً، مت عشقاً.
قال: وكان يقول، إذا كثروا عليه:
أأفشي إليكم بعض ما قد أصابني ... أم الصبر أهيا بالفتى عندما يلقى
سلام على من لا أسمي باسمها ... ولو صرت مثل الطير في غيضة ملقى
ألا أيها الصبيان لو ذقتم الهوى ... لأيقنتم أني أحدثكم حقا
أحبكم من حبها وأراكم ... تقولون لي مت يا شجاع بها عشقاً
فلم تنصفوني، لا ولا هي أنصف ... فرفقاً قليلاً بالفتى ويحكم رفقا

قال: فلما صح ذلك عند أهله، وعلموا أنه عاشق، جعلوا يسألونه عن أمره، فلا يخبرهم بقصته، ولا يجيبهم.
فلما رأوا ذلك منه، حبسوه في بيت، وقيدوه، فكان إذا جنه الليل، هتف بصوت له حزين، يقول:
يا ليل أنت رفيقي ... من بين أهلي ومالي
يا ليل أنت أنيسي ... في وحشتي واحتيالي
يا ليل إن شكاتي ... إليك طول اشتغالي
بمن برت جسم صب ... فصار مثل الخلال
فالجسم مني نحيل ... لم يبق إلا خيالي
ووالشوق قد شف جسمي ... وليس يخلق بالي
فلو رآني عدوي ... لرق لي ورثي لي
قال: فلم يزل تلك حاله، حتى مات.
؟

إلا أن يشاء ابن معمر
أخبرتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أنبأنا جعفر بن أحمد، قال: أنبأنا علي بن أبي علي المعدل، قال حدثني أبي، قال: روى أبو روق الهزاني، عن الرياشي: ان بعض أهل البصرة، اشترى صبية، فأحسن تأديبها، وتعليمها، وأحبها كل المحبة، وأنفق عليها حتى أملق، وحتى مسهما الضر الشديد.
فقالت الجارية: إني لأرثي لك يا مولاي مما أرى بك من سوء الحال، فلو بعتني، واتسعت بثمني، فلعل الله أن يصنع لك، وأقع أنا بحيث يحسن حالي، فيكون ذلك أصلح لكل واحد منا.
قال: فحملها إلى السوق، فعرضت على عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وهو أمير البصرة، يومئذ، فأعجبته، فاشتراها بمائة ألف درهم.
فلما قبض المولى الثمن، وأراد الأنصراف، استعبر كل واحد إلى صاحبه، باكياً، وأنشأت الجارية تقول:
هنيئاً لك المال الذي قد حويته ... ولم يبق في كفي غير التذكر
أقول لنفسي وهي في غشي كربةٍ ... أقلي فقد بان الحبيب أو اكثري
إذا لم يكن للأمر عندك حيلة ... ولم تجدي شيئاً سوى الصبر فاصبري
فاشتد بكاء المولى، ثم أنشأ يقول:
فلولا قعود الدهر بي عندك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري
أروح بهم في الفؤاد مبرح ... أناجي به قلباً شديد التفكر
عليك سلامٌ لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال ابن معمر: قد شئت، خذها، ولك المال، وانصرفا راشدين، فوالله، لا كنت سبباً لفرقة محبين.
لماذا سمي العراق عراقا
ً
أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: أنبأنا إسماعيل بن سعيد المعدل، قال: قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري، قال ابن الأعرابي: إنما سمي العراق عراقاً، لأنه سفل من نجد، ودنا من البحر، أخذ من عراق القربة، وهو الخرز الذي في أسفلها.
من لم ير بغداد، لم ير الدنيا
أخبرنا عمر بن إبراهيم الفقيه، والحسن بن علي الجوهري، وعلي ابن أبي علي، قالوا: حدثنا محمد بن العباس، قال: حدثنا أبو بكر الصولي قال: حدثنا القاسم بن إسماعيل، قال: حدثنا أبو ملحم، قال: سمعت أبا بكر بن عياش، يقول: الإسلام ببغداد، وإنها لصيادة تصيد الرجال، ولم يرها لم ير الدنيا.
من محاسن الإسلام
سمعت القاضي أبا القاسم علي بن المحسن التنوخي يقول: كان يقال: من محاسن الإسلام، يوم الجمعة ببغداد، وصلاة التراويح بمكة، ويوم العيد بطرسوس.
إذا خرجت من العراق فالدنيا كلها رستاق
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أخبرني أبي قال: قال أبو القاسم بزياش بن المحسن الديلمي، وهو شيخ لقيته ببغداد يتعلق بعلوم، فصيح بالعربية: سافرت الآفاق، ودخلت البلدان، من حد سمرقند إلى القيروان، ومن سرنديب إلى بلد الروم، فما وجدت بلداً أفضل، ولا أطيب من بغداد، قال: وكان سبكتكين، حاجب معز الدولة، المعروف بالحاجب الكبير، آنساً بي، فقال لي يوماً: قد سافرت الأسفار الطويلة، فأي بلد وجدت أطيب وأفضل ؟ فقلت له: أيها الحاجب، إذا خرجت من العراق، فالدنيا كلها رستاق.
فلم أر فيها مثل بغداد منزلا
أنشدنا التنوخي، قال: أنشدنا أبو سعد علي بن محمد بن خلف الهمذاني لنفسه:
فدى لك يا بغداد كل قبيلة ... من الأرض حتى خطتي ودياريا
فقد طفت في شرق البلاد وغربها ... وسيرت رحلي ببينها وركابيا

فلم أر فيها مثل بغداد منزلاً ... ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلاً ... وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا
وكم قائل لو كان ودك صادقاً ... لبغداد لم ترحل فكان جوابيا
يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترين المراميا

السري الرفاء يمدح بغداد
أنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، قال: أنشدنا أبو علي الهائم، قال: أنشدنا السري بن أحمد الرفاء الموصلي لنفسه من أبيات:
إذا سقى الله منزلاً فسقى ... بغداد ما حاولت من الديم
يا حبذا صحبة العلوم بها ... والعيش بين اليسار والعدم
سويق الحمص في بغداد
حدثني القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: أخبرني أبي، قال: أنبأنا أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمي في سنة ستين وثلثمائة، قال: أخبرني رجل يبيع سويق الحمص، منفرداً به، أسماه لي وأنسبته، أنه حصر ما يعمل في سوقه من هذا السويق كل سنة، فكان مائة وأربعين كراً، يكون حمصاً مائتين وثمانين كراً، يخرج في كل سنة، حتى لا يبقى منه شيء، ويستأنف عمل ذلك للسنة الأخرى.
قال: وسويق الحمص غير طيب، وإنما يأكله المتجملون والضعفاء، شهرين أو ثلاثة، عند عدم الفواكه، ومن لا يأكله من الناس أكثر.
قال الشيخ أبو بكر الخطيب البغدادي: ولو طلب من هذا السويق اليوم في جانبي بغداد، مكوك واحد، ما وجد.
القاضي أبو طاهر محمد بن نصر
أخبرنا علي بن المحسن القاضي، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال : استقضي المتقي لله على مدينة المنصور في جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلثمائة، أبا طاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر، وله أبوة في القضاء، سديد المذهب، متوسط الفقه، على مذهب مالك، وكان له مجلس يجتمع إليه المخالفون، ويتناظرون بحضرته، فكان يتوسط بينهم، ويكلمهم كلاماً سديداً، ويجري معهم فيما يجرون فيه، على مذهب محمود وطريقة حسنة، ثم صرف أبو طاهر بعد أربعة أشهر من هذه السنة في شوال، ثم استقضى المستكفي أبا طاهر على الشرقية في صفر سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، فكانت ولايته أقل من خمسة أشهر.
عتاهية بن أبي العتاهية
قرات في كتاب أبي عبيد الله المرزباني، بخطه، وحدثنيه علي بن أبي علي البصري، عنه، قال: محمد بن أبي العتاهية، لقبه عتاهية، ويكنى أبا عبد الله، وأمه هاشمية بنت عمرو اليمامي مولى لمعن بن زائدة، وكان محمد ناسكاً، زاهداً، شاعراً، وهو القائل:
قد أفلح الساكن الصموت ... كلام راعي الكلام قوت
ما كل نطقٍ له جوابٌ ... جواب ما يكره السكوت
يا عجبي لامرىء ظلومٍ ... مستيقنٌ أنه يموت
اقطع العمر بظن حسن
أخبرنا علي بن المحسن القاضي، قال: حدثني أبي، أبو علي المحسن بن علي، قال " نبأنا أبو بكر الصولي، قال: نبأنا عون بن محمد الكندي، قال: قال لي محمد بن أبي أمية الكاتب: كنت أنا وأخي، نكتب للعباس بن الفضل بن الربيع، فجاءه أبو العتاهية مسلماً، فأمر بالمقام عنده.
فقال: على شريطة أن ينشدني كاتبك هذا من شعره، وأومأ إلي.
فقال: ذلك لك، وتغدينا، فقال: الشرط.
فأمرني أن أنشده، فحصرت، وقلت: ما أجسر على ذلك، ولا ذاك قدري.
فقال: إن أنشدني وإلا قمت، فجد بي فأنشدته:
رب وعدٍ منك لا أنساه لي ... أوجب الشكر وإن لم تفعل
أقطع العمر بظن حسن ... وأجلي غمرةً ما تنجلي
وأرى الأيام لا تدني الذي ... أرتجي منك وتدني أجلي
كلما أملت يوماً صالحاً ... عرض المكروه لي في أملي
قال: فبكى أبو العتاهية، أشد بكاء، ثم قال: إن لم تزدني قمت.
فقال لي: زده، فانشدته:
بنفسي من يناجيه ... ضميري بأمانيه
ومن يعرض عن ذكري ... كأني لست أعنيه
لقد أسرفت في الذل ... كما أسرفت في التيه
أما تعرف لي إحسا ... ن يوم فتجازيه ؟
قال: فزاد والله بكاؤه.
يا هاشمي ويا مولى ويا عربي

أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: أنبأنا محمد بن العباس الخزاز، قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري، قال: أنشدنا أبي، قال: أنشدنا أحمد بن عبيد النحوي، لمحمد بن أمية:
تتيه جهلاً بلا دين ولا حسب ... على ذوي الدين والأنساب والحسب
من هاشمٍ أنت بخٍ بخ وأنت غداً ... مولى وبعد غدٍ فرد من العرب
إن صح هذا فأنت الناس كلهم ... يا هاشمي ويا مولى ويا عربي

الخليفة المنتصر
وما كتب بالفارسية على البساط
أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: نبأنا محمد بن العباس الخزاز لفظاً، قال: نبأنا أحمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أحمد بن حبيب، قال: حدثني علي بن يحيى المنجم، قال: جلس المنتصر في مجلس كان أمر أن يفرش له بفرش ديباج مثقل بالذهب، وكان في بعض البسط دائرة كبيرة فيها مثال فرس وعليه راكب، وعلى رأسه تاج، وحول الدائرة كتابة بالفارسية.
فلما جلس المنتصر، وجلس الندماء، وقف على رأسه وجوه الموالي والقواد، فنظر إلى تلك الدائرة، وإلى الكتاب الذي حولها، فقال لبغا: أيش هذا الكتاب ؟ فقال: لا أعلم يا سيدي.
فسأل من حضر من الندماء فلم يحسن أحد أن يقرأه.
فالتفت إلى وصيف وقال: أحضر لي من يقرأ هذا الكتاب، فأحضر رجلاً، فقرأ الكتاب فقطب.
فقال له المنتصر: ما هو ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، بعض حماقات الفرس .
فقال :أخبرني ما هو ؟ قال: يا أمير المؤمنين: ليس له معنى، ألح عليه وغضب.
قال: يقول :أنا شيرويه بن كسرى بن هرمز، قتلت أبي، فلم أمتع بالملك، إلا ستة أشهر.
فتغير وجه المنتصر، وقام عن مجلسه إلى النساء، فلم يملك إلا ستة أشهر.
محمد بن الحسن يصرف ما ورثه من والده على تعلم العلم
أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أخبرني أبو عروبة، في كتابه إلي، قال: حدثني عمرو بن أبي عمرو، قال: قال محمد بن الحسن: ترك أبي ثلاثين ألفاً درهم، فأنفقت خمسة عشر ألفاً، على النحو والشعر، وخمسة عشر ألف، على الحديث والفقه.
محمد بن الحسن والخليفة هارون الرشيد
أخبرنا علي بن أبي علي، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني مكرم القاضي، قال: حدثني أحمد بن عطية، قال: سمعت أبا عبيد يقول: كنا مع محمد بن الحسن، إذ أقبل الرشيد، فقام إليه الناس كلهم، إلا محمد بن الحسن، فإنه لم يقم، وكان الحسن بن زياد ثقيل القلب، ممتلىء البطن على محمد بن الحسن، فقام، ودخل الناس من أصحاب الخليفة.
فأمهل الرشيد يسيراً، ثم خرج الآذن، فقال: محمد بن الحسن، فجزع أصحابه له، فأدخل، فأمهل، ثم خرج طيب النفس مسروراً.
فقال: قال لي: ما لك لم تقم مع الناس ؟ قلت: كرهت أن أخرج عن الطبقة التي جعلتني فيها، إنك أهلتني للعلم، فكرهت أن أخرج عنه إلى طبقة الخدمة التي هي خارجة عنه، وإن ابن عمك صلى الله عليه وسلم قال: من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار، وإنما أراد بذلك العلماء، فمن قام بحق الخدمة، وإعزاز الملك، فهو هيبة للعدو، ومن قعد، اتبع السنة التي عنكم أخذت، فهو زين لكم.
قال: صدقت يا محمد.
ثم قال: إن عمر بن الخطاب صالح بني تغلب، على أن لا ينصروا أبناءهم، وقد نصروا أبناءهم، وحلت بذلك دماؤهم، فما ترى ؟ قال: قلت: إن عمر أمرهم بذلك، وقد نصروا أبناءهم بعد عمر، واحتمل ذلك عثمان، وابن عمك، وكان من العلم مالا خفاء به عليك، وجرت بذلك السنن، فهذا صلح من الخلفاء بعده، ولا شيء يلحقك في ذلك، وقد كشفت لك الحكم، ورأيك أعلى.
قال: لكنت نجريه على ما أجروه إن شاء الله، إن الله أمر نبيه بالمشورة، فكان يشاور في أمره، ثم يأتيه جبريل عليه السلام، بتوفيق الله، ولكن عليك بالدعاء لمن ولاه الله أمرك، ومر أصحابك بذلك، وقد أمرت لك بشيء تفرقه على أًحابه.
فخرج له مال كثير، ففرقه.
محمد بن الحسن ومالك بن أنس
أخبرنا علي بن المحسن التنوخي، قال: وجدت في كتاب جدي: حدثنا الحرمي بن أبي العلاء المكي، قال: نبأنا إسحاق بن محمد بن أبان النخعي، قال: حدثني هانىء بن صيفي، قال: حدثني مجاشع بن يوسف، قال: كنت بالمدينة عند مالك وهو يفي الناس، فدخل عليه محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة، وهو حدثٌ.

فقال: ما تقول في جنب لا يجد الماء إلا في المسجد ؟ فقال مالك: لا يدخل الجنب المسجد.
قال: فكيف يصنع، وقد حضرت الصلاة، وهو يرى الماء ؟ قال: فجعل مالك يكرر: لا يدخل الجنب المسجد.
فلما أكثر عليه، قال له مالك: فما تقول أنت في هذا ؟ فقال: يتيمم ويدخل، فيأخذ الماء من المسجد، ويخرج فيغتسل.
فقال: من أين أنت ؟ قال: من هذه، وأشار إلى الأرض.
فقال: ما من أهل المدينة أحد لا أعرفه.
فقال: ما أكثر من لا تعرف، ثم نهض.
فقالوا لمالك: هذا محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة.
فقال مالك: محمد بن الحسن، كيف يكذب، وقد ذكر أنه من أهل المدينة ؟ قالوا: إنما قال: من أهل هذه، وأشار إلى الأرض.
قال: هذا أشد علي من ذاك .

رأي الشافعي في محمد بن الحسن
أخبرنا علي بن أبي علي، قال: أنبأنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني أبو الحسن محمد بن إبراهيم بن حبيش البغوي، قال: حدثني جعفر بن ياسين، قال: سمعت الربيع بن سليمان، يقول: وقف رجل على الشافعي، فسأله عن مسألة، فأجابه.
فقال له الرجل: يا أبا عبد الله، خالفك الفقهاء.
فقال له الشافعي: وهل رأيت فقيهاً قط ؟ أللهم الا تكون رأيت محمد ابن الحسن، فإنه كان يملأ العين والقلب، وما رأيت مبدناً قط أذكى من محمد بن الحسن.
سفهني ولم أكن سفيها
ً
أخبرنا علي بن المحسن القاضي، قال: أنبأنا إبراهيم بن أحمد بن محمد المقرىء، قال: نبأنا أبو الحسين عمر بن الحسن بن علي بن مالك الشيباني، قال: أخبرني أخي محمد بن الحسن بن علي بن مالك، قال: حدثني علي بن سهل بن المغيرة، قال: قلت لعفان بن مسلم: أين سمعت من عمر بن أبي زائدة ؟ قال: سمعت منه بالبصرة، قدم مخاصماً إلى سوار في ميراث كان له، فقال لسوار: تقضي لي بشاهد ويمين يا سوار ؟ فقال له سوار: ليس هذا مذهبي.
قال: فغضب عمر بن أبي زائدة، فهجا سواراً، فقال:
سفهني ولم أكن سفيهاً ... ولا بقوم سفهوا شبيها
لو كان هذا قاضياً فقيها ... لكان مثلي عنده وجيها
قال: فقضى له بشاهد ويمين.
محمد بن عبد الرحمن المخزومي قاضي مكة
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما توفي الواقدي، استقضى المأمون أبا عمر محمد بن عبد الرحمن المخزومي قاضي مكة، وهو رجل من أهل العلم، حسن الطريقة، فلم يلبث إلا يسيراً حتى عزله، وقد روي عنه الحديث.
قلت: وكانت ولايته أيضاً بعسكر المهدي من شرقي بغداد وذلك في سنة ثمان ومائتين.
ولما عزل، لحق بمكة فأقام بها إلى أيام المعتصم، وقدم بغداد وافداً عليه.
فأخبرنا ابن الفضل، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر، قال: حدثنا يعقوب بن سفيان، قال: شهدت محمد بن عبد الرحمن المخزومي القاضي، جاء إلى سليمان بن حرب، - وكان قد كتب إلى سليمان بن حرب، أن يقف على القضاء، يعني مكة - يسلم عليه ويودعه، ويخرج إلى بغداد.
فقال له سليمان: ما يخرجك ؟ قال :أذهب فأعزي أمير المؤمنين، يعني المعتصم، عن الماضي، وأهنيه فيما يستقبل.
فقال سليمان: ويحك إنما تخرج، لعل ابن أبي دؤاد يعمل لك في قضاء مكة، وهو لا يفعل، فإنه قد خرج ابن الحر فيستقضيه ليتخذه صنيعة يذكر به، وأنت لا تكون صنيعة له، أنت أجل من ذلك.
وخرج، فكان كما قال سليمان.
عليل يعاد فلا يوجد
حدثني علي بن المحسن، قال: حدثنا أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي: انه اعتل فتأخر عن مجلس أبي عمر الزاهد.
قال: فسأل عني لما تراخت الأيام، فقيل له إنه كان عليلاً، فجاءني من الغد يعودني.
فاتفق أن كنت قد خرجت من داري إلى الحمام، فكتب بخطه على بابي باسفيداج:
وأعجب شيء سمعنا به ... عليلٌ يعاد فلا يوجد
لماذا سمي أبو محمد بن عبيد بالعسكري
أخبرنا علي بن أبي علي، قال: سمعت أبا عبد الله الحسين بن محمد ابن عبيد العسكري يقول: كان أبي يشهد عند القضاة، وإنما سافر جدي إلى سر من رأى، فلما عاد، سمي العسكري.
قال: وأول ما شهد أبي عند إسماعيل القاضي.
وكان عمي يشهد، وأول ما شهد، عند عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك، ابن أبي الشوارب.
ان نعش نلتقي

أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثني الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب، قال: حدثنا عبد الله بن سليمان الفامي، قال: حدثنا محمد بن عبدك القزاز، وغيره، قال: اجتمعت مع زهير السامي، وتحدثنا، فلما أردت مفارقته، قلت: متى نلتقي ؟ فقال:
إن نعش نلتقي وإلا فما أش ... غل من مات عن جميع الأنام

لماذا سمي بالبياض
سمعت القاضي أبا القاسم التنوخي، يسأل بعض ولد البياضي، عن سبب هذه التسمية، فقال: إن جدي حضر مع جماعة من العباسيين يوماً، فجلس الخليفة وكانوا كلهم قد لبسوا السواد، غير جدي، فإن لباسه كان بياضاً.
فلما رآه الخليفة، قال: من لك البياضي.
فثبت ذلك الاسم عليه، فلم يعرف بعد، إلا به.
القاضي ابن أبي موسى
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أبو عبد الله محمد بن عيسى المعروف بابن أبي موسى، من أهل العلم بمذهب أهل العراق، وأبوه كان أحد المتقدمين في هذا المذهب، وتلاه أبو عبد الله في التمسك به، والذب عنه، والكلام للمخالفين به، وكان له سمت، وحسن وقار تام، وكان ثقة عند الناس، مشهوراً بالصدق والفقر، حافظاُ لنفسه، لا مطعن عليه فيما يتولاه، وينظر فيه.
ذكر طلحة بن محمد بن جعفر فيما أخبرنا علي بن المحسن: أن ابن أبي موسى ولي الجانب الشرقي من بغداد، والكرخ من الجانب الغربي، ، في جمادى الآخرة من سنة تسع وعشرين، وأن المتقي لله صرفه.
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد، قال: استخلف المستكفي بالله في صفر سنة " 333 " ، وقلد الجانب الشرقي أبا عبد الله محمد بن عيسى المعروف بابن أبي موسى، فلم يزل والياً على الجانب الشرقي إلى ليلة السبت لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، فإن اللصوص كبسوه في داره فقتلوه، وأخذوا جميع ما كان له في منزله ولعياله، وقدروا أن عنده شيئاً له قدر، فوجدوه فقيراً، ودفن في يوم السبت.
فصوص زمرد في غلف در
أنشدنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: أنشدنا أبو الحسن محمد بن عمر الأبياري لنفسه في صفة الباقلاء الأخضر:
فصوص زمرد في غلف در ... باقماع حكت تقليم ظفر
وقد خلع الربيع لها ثياباٌ ... لها لونان من بيض وخضر
من شعر أبي العلاء المعري
أنشدني القاضي أبو القاسم، علي بن المحسن التنوخي، قال: أنشدنا أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري لنفسه، يجيب أبا الخطاب الجبلي عن أبيات كان مدحه بها عند وروده معرة النعمان:
أشفقت من عبء البقاء وعابه ... ومللت من أري الزمان وصابه
ووجدت أحداث الليالي أولعت ... بأخي الندى تثنيه عن آرابه
وأرى أبا الخطاب نال من الحجى ... حظاً رواه الدهر عن خطابه
لا تطلبن كلامه متشبهاً ... فالدر ممتنع على طلابه
أثني وخاف من ارتحال ثنائه ... عني فقيد لفظه بكتابه
كلمٌ كنظم العقد يحسن تحته ... معناه حسن الماء تحت صبابه
فتشوفت شوقاً إلى نفحاته ... أفهامنا ورنت إلى آدابه
والنخل ما عكفت عليه طيوره ... إلا لما علمته من أرطابه
ردت لطافته ودحدة ذهنه ... وحش اللغات أوانساً بخطابه
والنحل يجني المر من نور الربى ... فتصير شهداً في طريق رضابه
عجب الأنام لطول همة ماجد ... أوفى به قصر وما أزري به
سهم الفتى أقصى مدى من سيفه ... والرمح يوم طعانه وضرابه
هجر العراق تطرباً وتغرباً ... ليفوز من سمط العلا بغرابه
والسمهرية ليس يشرف قدرها ... حتى يسافر لدنها من غابه
والعضب لا يشفى امرأً من ثأره ... إلا بعقد نجاده وقرابه
والله يرعى سرح كل فضيلةٍ ... حتى يروحه إلى أربابه
يا من له قلمٌ حكى في فعله ... أيم الغضا لولا سواد لعابه
عرفت جدودك إذ نطقت وطالما ... لفظ القطا فأبان عن أنسابه

وهززت أعطاف الملوك بمنطق ... رد المسن إلى اقتبال شبابه
ألبستني حلل القريض ووشيه ... متفضلاً فرفلت في أثوابه
وظلمت شعرك إذ حبوت رياضه ... رجلاً سواه من الورى أولى به
فأجاب عنه مقصراً عن شأوه ... إذ كان يعجز عن بلوغ ثوابه

تهجوا
حدثنا علي بن المحسن القاضي، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله الدوري الوراق، قال: حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري بالبصرة، قال: كان محمد بن عمران الضبي على اختيار القضاة للمعتز، فاجتمع إليه القضاة والفقهاء، الخصاف ونظراؤه من الفقهاء.
وكان الضبي قبل ذلك معلماً، فنعس، ثم رفع رأسه، فقال: تهجوا.
أبو هشام الرفاعي يقضي ببغداد
حدثنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استقضي أبو هشام الرفاعي - يعني ببغداد - في سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وهو رجل من أهل القرآن، والعلم، والفقه، والحديث، وله كتا ب في القراءات، قرأ علينا ابن صاعد أكثره، وحدث بحديث كثير.
المبرد والقبعض
أخبرني علي بن أبي علي البصري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني أبو علي الحسن بن سهل بن عبد الله الإيذجي، قال: حدثني أبو عبد الله المفجع، قال: كان المبرد لعظم حفظه اللغة، واتساعه فيها، يتهم بالكذب، فتواضعنا على مسألة لا أصل لها، نسأله عنها لننظر كيف يجيب.
وكنا قبل ذلك، قد تمارينا في عروض بيت الشاعر:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
فقال بعضنا: هو من البحر الفلاني، وقال آخرون: هو من البحر الفلاني، فقطعناه، وتردد على أفواهنا من تقطيعه قبعض.
فقلت له: أنبئنا، أيدك الله، ما القبعض عند العرب ؟ فقال المبرد: القطن، يصدق ذلك قول أعرابي:
كأن سنامها حشي القبعضا
قال: فقلت لأصحابي: هو ذا ترون الجواب والشاهد، إن كان صحيحاً فهو عجيب، وإن كان اختلق الجواب، وعمل الشاهد في الحال، فهو أعجب.
القاضي أبو عمر
حدثنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر الشاهد قال: أبو عمر محمد بن يوسف، من تصفح أخبار الناس، لم يخف عليه موضعه، وإذا بالغنا في وصفه كنا إلى التقصير فيما نذكره من ذلك أقرب.
ومن سعادة جده، أن المثل ضرب بعقله وحلمه، وانتشر على لسان الخطير والحقير ذكر فضله، حتى إن الإنسان كان إذا بالغ في وصف رجل، قال: كأنه أبو عمر القاضي، وإذا امتلأ الإنسان غيظاً، قال: لو أني أبو عمر القاضي ما صبرت.
سوى ما انضاف إلى ذلك من الجلالة والرياسة، والصبر على المكاره، واحتمال كل جريرة إن لحقته من عدوه، وغلط إن جرى من صديقه، وتعطفه بالإحسان إلى الكبير والصغير، واصطناع المعروف عند الداني والقاصي، ومداراته للنظير والتابع، ولم يزل على طول الزمان يزداد جلالة ونبلاً.
ثم استخلف لأبيه يوسف على القضاء بالجانب الشرقي، فكان يحكم بين أهل مدينة المنصور رياسة، وبين أهل الجانب الشرقي خلافة، إلى سنة اثنتين وتسعين ومائتين، فإن أبا خازم توفي، وكان قاضياً على الكرخ، أعني الشرقية، فنقل أبو عمر عن مدينة المنصور إلى قضاء الشرقية، فكان على ذلك إلى سنة ست وتسعين ومائتين.
ثم صرف هو ووالده يوسف عن جميع ما كان إليهما، وتوفي والده سنة سبع وتسعين ومائتين، وما زال أبو عمر ملازماً لمنزله إلى سنة إحدى وثلثمائة، فإن أبا الحسن علي بن عيسى، تقلد الوزارة، فأشار على المقتدر به، فرضي عنه، وقلده الجانب الشرقي، والشرقية، وعدة نواح من السواد، والشام، والحرمين، واليمن، وغير ذلك.
وقلده القضاء سنة سبع عشرة وثلثمائة.
وحمل الناس عنه علماً واسعاً من الحديث، وكتب الفقه التي صنفها إسماعيل - يعني ابن إسحاق - وقطعة من التفسير، وعمل مسنداً كبيراً، قرأ أكثره على الناس.
ولم ير الناس في بغداد أحسن من مجلسه لما حدث، وذلك ان العلماء، وأصحاب الحديث، كانوا يتجملون بحضور مجلسه، حتى إنه كان يجلس للحديث، وعن يمينه أبو القاسم بن بنت منيع - وهو قريب من أبيه في السن والاسناد - وابن صاعد على يساره، وأبو بكر النيسابوري بين يديه، وسائر الحفاظ حول سريره.
وتوفي في شهر رمضان، سنة عشرين وثلثمائة، وله ثمان وسبعون سنة.
ثم أيش

حدثنا علي بن المحسن - من حفظه - قال: حدثنا القاضي أبو محمد عبد الله بن محمد الأسدي، قال: قال لي أبي: دخلت يوماً على القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، وبين يديه ابن ابنه أبو نصر، وقد ترعرع، فقال لي: يا أبا بكر:
إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبر أعضادها
وجعلت أعلالها تعتادها ... فهي رروع قد دنا حصادها
فقلت: يبقي الله القاضي.
فقال: ثم أيش ؟

القاضي ابن البهلول التنوخي 1
حدثنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، في تسمية قضاة بغداد، قال: أحمد بن إسحاق بن البهلول بن حسان بن سنان التنوخي، من أهل الأنبار، عظيم القدر، واسع الأدب، تام المروءة، حسن الفصاحة، حسن المعرفة بمذهب أهل العراق، ولكنه غلب عليه الأدب.
وكان لأبيه إسحاق مسند كبير حسن، وكان ثقة، وحمل الناس عن جماعة من أهل هذا البيت، منهم البهلول بن حسان، ثم ابنه إسحاق، ثم أولاد إسحاق، حدث منهم بهلول بن إسحاق، وحدث القاضي أحمد ابن إسحاق وابنه محمد، وحدث ابن أخي القاضي: داود بن الهيثم بن إسحاق، وكان أسن من عمه القاضي أبي جعفر أحمد بن إسحاق، وأبو بكر يوسف بن يعقوب بن إسحاق الأزرق، وكان من جلة الكتاب.
ولم يزل أحمد بن إسحاق بن البهلول على قضاء المدينة من سنة ست وتسعين ومائتين إلى شهر ربيع الآخر من سنة ست عشرة وثلثمائة، ثم صرف .
القاضي ابن البهلول التنوخي 2
أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: قال أبي: أحمد بن إسحاق بن البهلول ولد بالأنبار سنة إحدى وثلاثين ومائتين في المحرم، ومات ببغداد في شهر ربيع الآخر سنة سبع عشرة وثلثمائة.
وكان ثبتاً في الحديث، ثقة، مأموناً جيد الضبط لما حدث به، وكان متفنناً في علوم شتى، منها الفقه على مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وربما خالفهم في مسيئلات يسيرة.
وكان تام العلم باللغة، حسن القيام بالنحو على مذهب الكوفيين، وله في كتاب ألفه.
وكان واسع الحفظ للشعر القديم، والمحدث، والأخبار الطوال، والسير، والتفسير.
وكان شاعراً كثير الشعر جداً، خطيباً حسن الخطابة والتفوه بالكلام، لسناً، صالح الحفظ، والترسل في المكاتبة، والبلاغة في المخاطبة.
وكان ورعاًُ، متخشناً في الحكم، وتقلد القضاء بالأنبار وهيت، وطريق الفرات، ومن قبل الموفق الناصر لدين الله، في سنة ست وسبعين ومائتين، ثم تقلده للناصر، دفعة أخرى، ثم تقلده للمعتضد، ثم تقلد بعض كور الجبل للمكتفي، سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ولم يخرج إليها، ثم قلده المقتدر في سنة ست وتسعين ومائتين، بعد فتنة ابن المعتز، القضاء بمدينة المنصور من مدينة السلام، وطسوجي قطربل ومسكن، والأنبار وهيت، وطريق الفرات، ثم أضاف له إلى ذلك بعد سنين، القضاء بكور الأهواز مجموعة، لما مات قاضيها إذ ذاك محمد بن خلف المعروف بوكيع، فما زال على هذه الأعمال، إلى أن صرف عنها في سنة سبع عشرة وثلاثمائة.
وأقبلت نحوك مستعجلا
ً
أخبرني علي بن المحسن، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن سليمان الكاتب، قال: أنبأنا أبو الحسن بن حنش الكاتب، قال: دعا أبي جحظة في بعض الأيام، فلما حضر، ودخل الدار، وقعت عينه على أبي، فقال:
ولما أتاني منك الرسول ... تركت الذي كنت في دعوته
وأقبلت نحوك مستعجلاً ... كأني جوادك في سرعته
فيها خطي خذوه بألف ألف
قال: قال: لنا جحظة: صك لي بعض الملوك بصك فترددت إلى الجهبذ في قبضه، فلما طالت مدافعته، كتبت إليه:
إذا كانت صلاتكم رقاعاً ... تخطط بالأنامل والأكف
ولم تجد الرقاع علي نفعاً ... فها خطي خذوه بألف ألف
بين جحظة وصاحب النشوار
قال: وشرب أبي دواء، فكتب إليه جحظة، يسأله عن حاله، رقعة، كان فيها:
أبن لي كيف أمسيت ... وما كان من الحال
وكم سارت بك الناقة ... نحو المنزل الخالي
أبو الحجاج الأعرابي يهجوا ابن أبي دؤاد
أخبرني علي بن المحسن التنوخي، قال: حدثنا محمد بن عمران بن موسى، قال: حدثنا علي بن سليمان الأخفش، قال: أنشدني أبو العباس ثعلب، قال: أنشدني أبو الحجاج الأعرابي:

نكست الدين با ابن أبي دؤاد ... فأصبح من أطاعك في ارتداد
زعمت كلام ربك كان خلقاً ... أما لك عند ربك من معاد
كلام الله أنزله بعلمٍ ... وأنزله على خير العباد
ومن أمسى ببابك مستضيفاً ... كمن حل الفلاة بغير زاد
لقد أطرفت يا ابن أبي دؤادٍ ... بقولك إنني رجلٌ أيادي

القاضي أبو الحسن بن الخرقي
أخبرني علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: قلد المتقي بغداد بأسرها، الجانب الشرقي، ومدينة المنصور، والكرخ، أبا الحسن أحمد بن عبد الله بن إسحاق الخرقي، مضافاً إلى ما كان قلده قبل الحضرة، من القضاء بمصر، والمغرب، والرملة، والبصرة وواسط، وكور دجلة، وقطعة من السواد، وخلع عليه في سنة ثلاثين وثلثمائة.
وكان هذا، رجلاً من وجوه التجار البزازين بباب الطاق، هو، وأبوه، وعمومته، وكانوا يشهدون عند القضاة، بتمكنهم من خدمة زيدان، قهرمانة المقتدر، ومعاملتهم لها، واتصلت معاملة أحمد بن عبد الله بعد المقتدر، بحاشيته، وولده.
وكان المتقي يرعى له خدمته في حياة أبيه، وبعد ذلك، فلما أفضت الخلافة إليه، أحب أن ينوه باسمه، ويبلغه إلى حال لم يبلغها أحد من أهله، فقلده القضاء، ولم تكن له خدمة للعلم، ولا مجالسة لأهله.
فعجب الناس لذلك، وقدروا أن سيستعمل الكفاة على هذه الأمور العظام، فلم يفعل ذلك، ونظر في الأمور بنفسه، فظهرت من رجلة وكفاية، وجرت أحكامه وقضاياه على طريق صالحة، وبان من عفته، وتنزه نفسه، وارتفاعها عن الدنس، ما تمكنت بها حاله من نفوس الناس، ورضى مكانه أهل الجلالة والخطر، ولم يتعلق عليه بشيء، وارتفعت عنه الكلفة، ولم يلحقه عتب في أيامه.
قال علي بن المحسن: وذكر طلحة: إنه خرج إلى الشام بعد سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة، فمات هناك.
سر إن سطعت في الهواء رويدا
ً
أنشدنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن، قال: أنشدنا أبو العلاء المعري، لنفسه يرثي بعض أقاربه:
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي ... نوح باكٍ ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي إذا قي ... س بصوت البشير في كل ناد
أبكت تلكم الحمامة أم غن ... ت على فرع غصنها المياد
صاح هذه قبورنا تملأ الأر ... ض فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديم الأر ... ض إلا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قدم العه ... د هوان الآباء والأجداد
سر إن اسطعت في الهواء رويداً ... لا اختيالاً على رفات العباد
رب لحدٍ قد صار لحداً مراراً ... ضاحكاً من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفينٍ ... في طويل الأزمان والآباد
فاسأل الفرقدين عمن أحسا ... من قبيلٍ وآنسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهارٍ ... وأنارا لمدلجٍ في سواد
تعبٌ كلها الحياة فما أع ... جب إلا من راغبٍ في ازدياد
إن حزناً في ساعة الموت أضعا ... ف سرورٍ في ساعة الميلاد
خلق الناس للبقاء فضلت ... أمةٌ يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعمال ... إلى دار شقوةٍ أو رشاد
والقصيدة طويلة.
شعر البتي يكتب على التكك
حدثني التنوخي، قال: حدثني أبو الحسن أحمد بن علي البتي، قال: أمرني بهاء الدولة أن أكتب أبياتاً يكتبها بعض الجواري على تكة إبريسم، فكتبت:
لم لا أتيه ومضجعي ... بين الروادف والخصور
وإذا نسجت فإنني ... بين الترائب والنحور
ولقد نشأت صغيرة ... بأكف ربات الخدور
البتي يصف الفقاع
أنشدني التنوخي، قال: أنشدني البتي لنفسه، يصف الفقاع:
يا رب ثدي مصصته بكراً ... وقد عراني خمار مغبوق
له هدير إذا شربت به ... مثل هدير الفحول في النوق
كأن ترجيعه إذا رشف ال ... راشف فيه صياح مخنوق
إخوانيات

حدثني علي بن المحسن التنوخي، قال: قرأت في كتاب من أبي الحسين أحمد بن محمد بن جعلان ،إلى أبي جواباً في المكاتبات القديمة: وقرآت الأبيات التي تجري مجرى الدر المنظوم، والماء المسجوم، وكنت في الحال كما قال الشاعر:
يكل لساني عن مديحك بالعشر ... وأعجز أن أجزي صنيعك بالشكر
فإن قلت شعراً كنت فيه مقصراً ... وإن رمت شكراً تهت فيه فما أدري
على أن ما تولي وتسدي وتبتدي ... كقدرك، والنقصان مني على قدري
وقد تكلفت ما ليس من عملي، وكنت كجالب التمر إلى هجر، والمتفاصح على أهل الوبر، وقلت:
يا كاتباً أهدى إلي كتابه ... طرفاً يحار الطرف في أثنائها
كالدر أشرق في سموط عقوده ... والزهرة الزهراء غب سمائها
فأفادني جذلاً وبالي كاسفٌ ... وأجار نفسي من جوى برحائها
وحسبت أيام الشباب رجعن لي ... فلبست حلي جمالها وبهائها
لا يعدم الإخوان منك محاسناً ... كل المحاسن قطرة من مائها

القاضي أحمد بن محمد بن سماعة
أخبرني علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما توفي الحسن بن علي بن الجعد، استقضي على مدينة المنصور، أحمد بن محمد بن سماعة.
وهذا الرجل من أهل الدين والعلم، قريب الشبه بأبيه، عفيف في نفسه.
وصرف من مدينة المنصور، سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
أبو العباس بن عقدة الكوفي المحدث
حدثنا علي بن أبي علي البصري، عن ابيه، قال: سمعت أبا الطيب، أحمد بن الحسن بن هرثمة، يقول: كنا بحضرة أبي العباس بن عقدة الكوفي المحدث، نكتب عنه، وفي المجلس، رجل هاشمي إلى جانبه، فجرى حديث حفاظ الحديث.
فقال أبو العباس: أنا أجيب في ثلثمائة ألف حديث، من حديث أهل بيت هذا، سوى غيرهم، وضرب بيده على الهاشمي.
محدث يحفظ ستمائة ألف حديث
حدثنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، من حفظه، قال: سمعت أبا الحسن، محمد بن عمر العلوي، يقول: كانت الرئاسة بالكوفة في بني الفدان، قبلنا، ثم فشت رئاسة بني عبيد الله، فعزم أبي على قتالهم، وجمع الجموع، فدخل إليه أبو العباس بن عقدة، وقد جمع جزءاً فيه ست وثلاثون ورقة، فيها حديث كثير، لا أحفظ قدره، في صلة الرحم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أهل البيت، وعن أصحاب الحديث، فاستعظم أبي ذلك، واستكثره.
فقال له: يا أبا العباس، بلغني من حفظك للحديث ما استنكرته واستكثرته، فكم تحفظ ؟ فقال له :أنا أحفظ منسقاً من الحديث، بالأسانيد، والمتون، خمسين ومائتي ألف حديث، وأذاكر بالأسانيد، وبعض المنون، والمراسيل، والمقاطيع ستمائة ألف حديث.
القاضي أحمد بن محمد بن عيسى البرتي
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: مات أبو هاشم سنة تسع وأربعين ومائتين، فاستقضي أحمد بن محمد ابن عيسى البرتي، وكان رجلاً من خيار المسلمين، ديناً عفيفاً، على مذهب أهل العراق، وكان من أصحاب يحيى بن أكثم.
وكان قبل ذلك تقلد واسطاً، وقطعة من أعمال السواد، وروى كتب محمد بن الحسن، عن أبي سليمان الجوزجاني، عن محمد بن الحسن، وحدث بحديث كثير.
القاضي أبو بشر الهروي
حدثني القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: أبو بشر أحمد بن محمد بن محمد الهروي فقيه على مذهب الشافعي، وكان يخدم أمير المؤمنين القادر بالله، قبل الخلافة، ودرس عليه مذهب الشافعي.
وروى أبو بشر حديثاً كثيراً، وأخباراً، وآداباً، وأشعاراً، وكتباً مصنفة، ومولده بهراة سنة ثمان وعشرين وثلثمائة.
وكان يعرف بالعالم، وتقلد الحسبة بجانبي مدينة السلام، وتقلد قضاء طسوجي مسكن وقطربل، وبلاد أذربيجان.
وتوفي في يوم الثلاثاء السابع عشر من ربيع الأول سنة خمس وثمانين وثلثمائة.
شيخ القراء أبو بكر بن مجاهد، يغني
حدثني علي بن أبي علي البصري، قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم القاضي، قال: حدثني أبو بكر بن الجعابي، قال: كنا يوماً عند أبي بكر بن مجاهد في مسجده، فأتاه بعض غلمانه، فقال له: يا أستاذ إن رأيت أن تجملني بحضورك غداً دارنا.
فقال له أبو بكر: ومن معنا ؟

فقال له: أصحابنا المسجدية، ومن يرى الشيخ.
فقال أبو بكر: ينبغي أن تدعو أبا بكر - يعنيني - فأقبل الفتى علي يسألني.
فقلت له: هوذا تطفل بي ؟ لو أرادني الرجل لأفردني بالسؤال.
فقال: دع هذا يا بغيض.
فقلت له: السمع والطاعة.
فقال لي الرجل: إن الأستاذ قد آثرك، فمن تؤثر أن أدعو لك ؟ فقلت له: الحسين بن غريب.
قال: السمع والطاعة، ونهض الفتى.
فلما كان من الغد، وافى إلى مسجد أبي بكر، فسألنا النهوض معه إلى منزله.
فقال أبو بكر لأصحابه: قوموا، وامضوا متقطعين، وخالفوا الطرق، ففعلوا.
ثم أقبل على الفتى، فقال له: اسبقنا، فإني أنا وأوب بكر نجيئك.
فقلت أنا له: أيش عملت في إحضار ابن غريب ؟ فقال لي: قد أخذت الوعد عليه من أمس، وأنا أنفذ إليه رسولاً ثانياً، ومضى، وجلس أبو بكر، ففرغ من شغيلات له.
ثم إنا نهضنا جميعاً، وعبرنا إلى الجانب الغربي، وصعدنا درب النخلة، وكانت دار الفتى فيه، فوجدناه مترقباً لنا.
فدخلنا، فدعا بما، فغسلنا أيدينا، ثم أتى بجونة، فوضعها بين أيدينا .
فقلت في نفسي: ما أزرى مروءة هذا الفتى، أيش في الجونة، مما يطعمنا ؟ ففتحها، فإذا فيها بزماورد، وأوساط، ولفات، وسنبوسج، فأكلنا أكلاً عظيماً مفرطاً، والجونة على حالها، وما فيها من هذا الطعام على غاية الكثرة والوفرة.
وشلنا أيدينا، فاستدعى الحلوى، فأتى بفالوذج غرف، حار، بماء ورد، على مائدة كبيرة، فأكثرنا منه، فعجبت من ظرف طعامه، ونظافته، وطيبه، وحسنه، وتمام مروءته، من غير إجحاف، ولا إسراف، وغسلنا أيدينا.
فقلت له: أين ابن غريب ؟ فقال لي: عند بعض الرؤساء، وقد حال بيننا وبينه.
فشق علي، وتبين أبو بكر بن مجاهد ذلك مني، فقال لي: هاهنا من ينوب عن ابن غريب.
فتحدثنا ساعة، فقلت له: لا أرى للنائب عن ابن غريب خبراً، ولا أثراً، فدافعني.
فصبرت ساعة، ثم كررت الخطاب عليه، وألححت، ولست أعلم من هو النائب بالحقيقة عن ابن غريب.
فقال للفتى: هات قضيباً، فأتاه به.
فأخذه أبو بكر، ووقع، واندفع يغني، فغناني نيفاً وأربعين صوتاً، في غاية الحسن، والطيبة، والاطراب، فأشجاني، وحيرني.
فقلت له: يا أستاذ متى تعلمت هذا ؟ وكيف تعلمته ؟ فقال: يا بارد تعلمته لبغيض مثلك، لا يحضر الدعوة إلا بمغن.
ومضى لنا يوم طيب معه.

القاضي أحمد بن يحيى بن أبي يوسف
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن يحيى بن محمد بن جعفر قال: استقضي أحمد بن يحيى بن أبي يوسف القاضي، في سنة أربع وخمسين ومائتين، وكان متوسطاً في أمره، شديد المحبة للدنيا، وكان صالح الفقه على مذهب أهل العراق، ولا أعلمه حدث بشيء، ثم عزل، واستقضي ثانية، وعزل، وولي الأهواز، ثم وجه به إلى خراسان، فمات بالري.
الصديق لا يحاسب
أخبرنا القاضي أبو القاسم التنوخي، قال: أخبرنا أبو الحسن منصور ابن محمد بن منصور الحربي، قال: سمعت أبا محمد الزهري، يقول: كان لثعلب عزاء ببعض أهله، فتأخرت عنه، لأنه خفي عني، ثم قصدته معتذراً.
فقال لي: يا أبا محمد ما بك حاجة إلى أن تتكلف عذراً، فإن الصديق لا يحاسب، والعدو لا يحتسب له.
صبرك على أذى من تعرف خير
من استحداث ما لا تعرف
حدثني علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا منصور بن محمد الحربي، قال: سمعت أبا محمد عبد الرحمن بن محمد الزهري، يقول: كانت بيني وبين أبي العباس ثعلب، مودة وكيدة، وكنت أستشيره في أموري.
فجئته يوماً أشاوره في الانتقال من محلة إلى أخرى، لتأذي بالجوار، فقال لي: يا أبا محمد، العرب تقول: صبرك على أذى من تعرف، خير لك من استحداث ما لا تعرف.
عبد الحميد الكاتب وتجويد الخط
أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا محمد بن عمران المرزباني قال: حدثنا علي بن سليمان الأخفش، قال: قال أحمد بن يوسف الكاتب: رآني عبد الحميد بن يحيى، أكتب خطاً رديئاً، فقال لي: إن أردت أن يجود خطك، فأطل جلفتك وأسمنها، وحرف قطتك، وأيمنها، ثم قال:
إذا حرج الكتاب كان قيسهم ... دوياً وأقلام الدوي لهم نبلا
قال الأخفش: قوله جلفتك: أراد فتحة رأس القلم.
أبو الحسن بن الأزرق التنوخي

قال لي علي بن المحسن: ولد أبو الحسن بن الأزرق ببغداد في المحرم لعشر خلون منه من سنة سبع وتسعين ومائتين، سمعته يذكر ذلك، وحمل عن جماعة من أهل الأدب، منهم علي بن سليمان الخفش، وابن دريد، وابن شقير النحوي، ونفطويه، وكان حافظاً للقرآن، قرأه كله مراراً على ابن مجاهد بقرأة أبي عمرو بن العلاء، وأخذ شيئاً من النحو عن أبي بكر بن السراج، وأبي إسحاق الزجاج، وحمل قطعة من اللغة والنحو عن ابن الأنباري، ونفطويه، وقرأ الكلام والأصول على أبي بكر بن الإخشيد، ثم على أبي هاشم الجبائي، ودرس من الفقه قطعة على أبي الحسن الكرخي، ومات يوم الجمعة لست وعشرين ليلة خلت من المحرم سنة سبع وسبعين وثلثمائة، وكان منزله بالجانب الشرقي من مدينة السلام، بقرب باب البستان.

أبو بكر بن المرزبان يعاتب
جد أبي عمر بن حيويه
أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز، قال: كتب أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان إلى جدي يعاتبه:
أجميلٌ بالمرء يخلف وعدا ... أو يجازي الوصول بالقرب بعدا
ما مللناك إذا مللت ولم ننف ... ك نزداد مذ عقلناك ودا
فعلام استحق هجرك من لي ... س يرى منك يا ابن حيويه بدا
يحفظ العهد حين نقضك للعه ... د ويأتي الذي تحب مجدا
يا أبا بكرٍ بن يحيى نداءً ... من أخٍ لم تزل لديه مفدى
لك مذ دام صرف وجهك أيا ... مٌ طوالٌ أعدها لك عدا
وتناسيت ما سألت وقد أسلف ... ت فيما سألت مدحاً وحمدا
خاطباً كنك دعوةً واستماعاً ... لفظ من لا نرى له الدهر ندا
فتناهى إلي أمس حديثٌ ... كاد يقضي علي حزناً ووجدا
زعموا أن أحمد الخير ما زا ... ل لديكم يشدو ثلاثاً ويشدى
فلماذا جفوتنا بعد وصل ... ونقضت العهود عهداً فعهدا
ألبخلٍ عراك ؟ فالبخل قد كا ... ن إلى راحتيك لا يتهدى
أو ملالٍ، فليس مثلك من م ... ل أخاً لا يحل في الحب عقدا
دائم الود لا يصد ولو جا ... ر عليه خليله وتعدى
فاعطف الوصل نحو من منح الوص ... ل وراجع فالوصل أولى وأجدى
أي شيء أنكى لقلب محبٍ ... حال منه نحس المطالع سعدا
أدرك الحاسد الشمات وقد كا ... ن قديماً لهجرنا يتصدى
طالما يبتغي القطيعة بالحي ... لة بيني وبينكم ليس يهدي
لو تراه لخلته نال ما أم ... ل يختال لاهياً يتقدى
أنت أعطيته أمانيه جوراً ... وزماناً كان في ذاك أكدى
فاستمع ما أقول إني وعهد الل ... ه أهوى استماع أحمد جدا
واقتراحي بعد انبساطي إليه ... تلك هند تصد للهجر صدا
ابن سيرين يحبس في الدين
أخبرنا علي بن أبي علي المعدل، قال: أخبرنا محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا المدائني، قال: كان سبب حبس ابن سيرين في الدين، أنه اشترى زيتاً بأربعين ألف درهم، فوجد في زق منه فأرة، فقال: الفأرة كانت في المعصرة، فصب الزيت كله.
وكان يقول: عيرت رجلاً بشيء منذ ثلاثين سنة، أحسبني عوقبت به، وكانوا يرون أنه عير رجلاً بالفقر، فابتلي به.
عضد الدولة يذم أهل بغداد
حدثني علي بن أبي علي البصري، قال: سمعت أبي يقول: قال عضد الدولة يوماً، وأنا حاضر وقد جرى ذكر أهل بغداد، وكان يذمهم كثيراً ويثلبهم: ما وقعت عيني في هذا البلد، على أحد يستحق التفضيل، أو أن يسمى برجل، غير نفسين، ولما ميزتهما، علمت أنهما ليسا من أهل بغداد.
قال أبي: فتشوفت لمعرفتهما، ولم أسأله عنهما، وبان له ذلك في وجهي.
فقال: أما أحدهما، وأولاهما بالتفضيل، فأبو الحسن بن أم شيبان، والآخر محمد بن عمر - يعني العلوي - وهما كوفيان.
سفيان الثوري يعاتب

ابن علاثة على ولايته القضاء
أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني عبد الباقي بن قانع، قال: حدثني بعض شيوخنا، قال: استأذن ابن علاثة، على سفيان الثوري بعد أن ولي القضاء، فدخل عمار بن محمد، ابن أخت سفيان، يستأذن له على سفيان، فلم يأذن له، وكان سفيان يعجن كسباً للشاة، فلم يزل به عمار حتى أذن له.
فدخل ابن علاثة، فلم يحول سفيان وجهه إليه، ثم قال له: يا ابن علاثة، ألهذا كتبت العلم ؟ لو اشتريت صيراً بدرهم - يعني سميكاً - ثم درت في سكك الكوفة، لكان خيراً من هذا.
جاء الرسول ببشرى منك تطمعني
أخبرني علي بن أبي علي المعدل، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم الأزدي، الكاتب، قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي، قال: أنشدني أحمد بن صدقة، لأبي الشيص:
جاء الرسول ببشرى منك تطمعني ... فكان أكبر ظني أنه وهما
فلما فرحت ولكن زادني حزناً ... علمي بأن رسولي لم يكن فهما
كم من سريرة حب قد خلوت بها ... ودمعة تملأ القرطاس والقلما
لا ينقص الكامل من كماله
ما جر من نفع إلى عياله
أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا محمد بن العباس الخزاز، قال: حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثنا محمد بن المرزبان، قال: حدثنا عبد الله بن محمد، قال: رأى رجل محمد بن كناسة، يحمل بيده بطن شاة، فقال له: أنا، أحمله لك، فقال:
لا ينقص الكامل من كماله ... ما جر من نفع إلى عياله
على الباغي تدور الدوائر
ذكر القاضي التنوخي، في كتابه نشوار المحاضرة، قال: حدثني إبراهيم النصيبي، عن جار له يقال له، أبو القاسم الصفار، قال: خرجت من نصيبين، بسيف نفيس، كنت ورثته عن أبي، وقصدت العباس بن عمرو، أمير ربيعة، لأهدية له، وهو في رأس العين.
فصحبني شيخ من شيوخ الأعراب، وسألني عن خبري، فأخبرته، وقد كنا قريبين من رأس العين، فدخلناها وافترقنا.
وكان يأتيني ويراعيني، ويظهر لي البر، ويسألني عن حالي، فأخبرته أن الأمير قبل هديتي، وأعطاني ألف درهم وثياباً، وأني أريد الخروج يوم كذا وكذا، فمضى.
فلما كان ذلك اليوم، خرجت من الدار، راكباً حماراً، فلما صرت في الصحراء، إذ أنا بالشيخ راكباً دويبة ضعيفة، متقلداً سيفاً.
فلما رأيته استربت به، وأنكرت وجهه، وأيقنت بالشر في عينيه، فقلت: ما تصنع ها هنا.
فقال: قضيت حوائجي، وأريد الخروج صحبتك، وصحبتك عندي آثر من صحبة غيرك.
فقلت: على اسم الله.
فمضينا، وهو يجتهد أن آنس به، وأدنو منه، وكلما دنا مني، تباعدت عنه، إلى أن سرنا شيئاً كثيراً من الطريق، وليس معنا ثالث، إلا الله تعالى ؛ فقصر عني، فحثثت حماري لأفوته، فما أحسست إلا بركضه في إثري، فالتفت، وإذا هو قد جرد سيفه، وقصدني، فرميت بنفسي عن الحمار، وعدوت.
فلما خاف أن أفوته صاح: يا أبا القاسم، إنما مزحت معك.
فلم ألتفت إليه، فضرب دابته، وزاد في الجري، ولاح لي ناووس، فقصدته، وقد كاد الأعرابي أن يلحقني، فلما دخلت الناووس، وقفت وراء بابه.
قال: ومن صفة هذا الناووس، أنه مبني بحجارة، وباب هذا الناووس حجر واحد عظيم، قد نقر، وحفف، فلا تستمكن اليد منه، وله من خارج الباب حلقة، وليس من داخله شيء تلزم به اليد، وإنما يدفع من خارجه، فينفتح، فيدخل إليه، فإذا خرجت، وجذبت الحلقة، انغلق الباب، وتمكن الذي يكون من خارجه.
فاختبأت وراء باب الناووس، فجاء الأعرابي، فشد دابته في حلقة الباب، ودخل يطلبني في الناووس، وكان مظلماً، فلم يرني، ومشى إلى داخل، فخرجت من خلف الباب، وجذبت الحلقة، حتى صار مغلقاً، فرأى الموت عياناً.
فصاح من الناووس: يا أبا القاسم، اتق الله، فإني تالف لا محالة.
فقلت: تتلف أنت، أهون من أن أتلف أنا.
قال: أخرجني، وأنا أعطيك أماناً، واستوثق لك بالأيمان، إني لا أتعرض لك بسوء، واذكر الحرمة.
فقلت: أنت لم ترعها، وأيمانك كاذبة فاجرة، لا أثق بها.
وأخذ يكرر هذا، فقلت: لا تهذ، فإني أركب الآن دابتك، وأجنب حماري، والوعد بيننا بعد أيام ها هنا، فلا تبرح حتى أجيء، وإن احتجت إلى طعام، فعليك بجيف العلوج، فنعم الطعام لك.
قال: فأخذ يبكي، ويستغيث، ويصيح: قتلتني، والله.

فقلت: إلى لعنة الله.
فركبت دابته، وجنبت حماري، فوجدت على دابته خرجاً فيه ثيابه، فأتيت نصيبين، فبعت ثيابه ودابته، وكتمت أمري.
فلما كان بعد شهور، عرض لي المسير إلى رأس العين، فخرجت إلى تلك الطريق، وبد لي ذلك الناووس، فقصدته، ودخلته، فإذا بالأعرابي صار عظاماً نخرة، فحمدت الله على سلامتي، وهلاكه.
فحركته برجلي، وقلت على سبيل العبث: كيف خبرك يا فلان ؟ فإذا بشيء يتخشخش تحت رجلي، فمسسته، فإذا هو هميان، فأخذته، وأخذت سيفه، وخرجت من الناووس، وفتحت الهميان، فإذا فيه خمسمائة درهم، وبعت السيف بمائة درهم.
من يعمل مثقال ذرة خيراً يره
روى القاضي التنوخي أيضاً، في كتابه نشوار المحاضرة، عن شخص أنه قال: كان لأبي مملوك يقال له مقبل، فهرب منا، ولم نعرف له خبراً منذ سنين كثيرة.
ثم تغربت عن بلدي، ووقعت إلى نصيبين، وأنا إذ ذاك شاب، ما نبتت لحيتي.
فأنا ذات يوم مجتاز، وفي كمي منديل مملوء دراهم، وأنا في سوق نصيبين، إذ رأيت غلامنا مقبل.
فحين رآني، بش بي، وفرح، وأظهر سروراً عظيماً، وأقبل يسألني عن أبي وأهلنا، فأعرفه موت من مات، وخبر من بقي.
ثم قال لي: يا سيدي متى دخلت إلى هاهنا، وفي أي شيء ؟ فعرفته، فأخذ يعتذر من هربه منا، ثم قال: أنا مستوطن هنا وأنت مجتاز وقال: يا سيدي، تجيء إلى دعوتي اليوم ؟ فإني أحضر لك نبيذاً طيباً، وغناء حسناً.
فقلت: نعم.
فمشى قدامي، ومشيت خلفه، وطال الطريق علي، وأنا أقول له: ويحك أين بيتك ؟ فيقرب علي المدى.
حتى بلغ آخر نصيبين، في درب خراب يقارب الصحراء، فدق باباً، فخرج رجل، ففتح الباب، فدخل، ودخلت.
فحين حصلت في الدهليز، ردم الباب، واستوثق منه، فأنكرت ذلك، ودخلت، فإذا أنا بثلاثين رجلاً، بسلاح، بلا بارية ولا غيرها، وإذا هم لصوص، وهو عين لهم، فأيقنت بالبلية والشر.
فقام إلي واحد منهم، وقال: انزع ثيابك.
فطرحت ما كان علي، إلا السراويل، فجاءوا ليأخذونه، فسألتهم في ذلك، فتركوه.
وحلوا منديل كمي، وأخرجوا ثلاثين درهماً، وقالوا لمقبل: امض، فخذ لنا شيئاً نأكله.
فتقدم مقبل، فسار أحدهم، وهو رئيسهم.
فقال له ذاك: إنه لا بد من قتله، فجئنا بما نأكله، فإذا جئتنا به قتلناه.
فعلمت أن مقبلاً، أشار عليهم بقتلي، فطارت روحي جزعاً.
وقال لهم الغلام: لا أمضي أو تقتلوه.
فقلت لهم: يا قوم، أيش ذنبي ؟ ولم أقتل ؟ قد أخذتم مالي وثيابي، دعوني أروح.
ثم قلت له: يا مقبل، هذا من حقي علسيك، وحق أبي، ويحك، ألا ترحمني ؟ قال: فكاشفني، وقال للقوم: إنكم إن لم تقتلوه، وإلا يخرج ينبه عليكم السلطان، فيقتلكم كلكم.
قال: فجذبني واحد منهم، واستل سيفه، وسحبني من صدر الدرار التي كانوا فيها، إلى البالوعة ليذبحني عليها.
فوقعت عيني على غلام منهم، كان علي قدر سني، فقلت له: ارحمني، فأنت غلام مثلي، وإن خلصتني من يد هؤلاء، أجرت بي، فاستدفع البلاء من الله تعالى، بخلاصي.
قال: وبكيت، وبقيت أحلف لهم، إني لا أنبه عليهم أبداً، ولا أتكلم إن تركوني.
قال: فألهم الله عز وجل، ذلك الفتى، أن طرح نفسه علي، وقال: والله، لا يقتل وأنا حي، فإما قتلتموني قبله، وإلا فلا تقتلوه.
قال: وتعصب له أستاذه، وقال: غلامي أجاره، فلا تقتلوه.
فشتموه، وشتموا غلامه، وتعصب لهما جماعة، وجاءوا فأخذوني من البالوعة، وقد كاد الرجل يذبحني، فأجلسوني في صدر صفة، وجلسوا حولي، وشتموا ذلك الغلام، ومنعوا الباقين عني.
وقالوا: نحن جياع، فأتونا بشيء نأكله، وقتل هذا لا يفوت.
فقال الباقون: القول ما قالوا :، فكفوا عني.
ومضى، فاشترى خمسين رأساً، وخبزاً كثيراً، وجبناً، وزيتوناً، وجاءهم به، فجلسوا يأكلون، وأنا أتخوف أن يتغافلني منهم إنسان، فيقتلني.
فقلت لذلك الفتى، فترك الأكل، وجلس هو وأستاذه يحفظاني، إلى أن أكلت الجماعة، ووكلا بي قوماً من أصحابهم ممن أكل، وجلسا يأكلان.
واستدعياني للأكل معهما، فأردت إيجاب الذمام عليهما، فأكلت معهما أكل معرض، لقمة واحدة، أو لقمتين، بلا شهوة ولا عقل.
فقال لهم: الآن أكلتم، وترك هذا خطأ، فاقتلوه.

فعاد الكلام في قتلي، وأقبل أولئك يمنعون، وتزايد الأمر إلى أن جرد بعضهم السيوف على بعض، وجعلني أولئك وراءهم، واقبلوا يجادلون عني، وأولئك ينخسوني من خلفهم بأطراف السيوف، وأنا أروغ خوفاً من أن يصل إلي بعض ذلك، فيقتلني، وأنا أحلف لهم أني إن سلمت لم أنبه عليهم، إلى أن كادوا يتجارحون.
ودخل بعضهم بينهم، وقالوا: لا يكون هذا ميشوماً عليكم، فدعوه.
فتوافقوا على الكف عني، وجلسوا يشربون، فلما أرادوا أن يخرجوا، قالوا: يتوكل به من يتعصب له، حتى نخرج نحن، فإن صاح، بلي به من خلصه.
فقال لي الفتى وأستاذه: قد سمعت يا فتى، فلا تكافنا على الجميل بقيبح.
فحلفت لهم بالله، أني لا أنبه عليهم، فخرجت الجماعة، إلا الغلام وأستاذه، فلما بعدت الجماعة، خرج النفسان.
فما كان لي همة، إلا غلق الباب وراءهما، وترسه، ووقعت مغشياً علي، وذهب عقلي عني إلى قريب من نصف الليل، فأفقت وقد لحقني البرد، فلم أزل أرتعد فزعاً وبرداً، إلى وجه السحر، وسمعت صوت الدبادب، فخرجت عرياناً، حتى أتيت إلى بيتي.
وآليت على نفسي، أن لا أمضي إلى موضع لا أخبره، ولا مع من لا أعرف باطنه، وحمدت الله على العافية.

عاقبة البغي
روى القاضي التنوخي، في كتابه أخبار المذاكرة، ونشوار المحاضرة، عن عبيد الله بن محمد الخفاف، قال: حدثني أبي، قال: حدثني صديق لي من أولاد الجند، قال: كنت مجتازاً يوماً في الكرخ ببغداد، فرأيت امرأة لم أر أحسن منها قط، فوقفت أنظر إليها، وإذا بها قد ولت، وإذا بعجوز معها قد جاءتني، فمازحتني عنها، وقالت: تقولك لك: تجيء في دعوتي ؟ فقلت: لا يمكنني أن أمضي مع أحد، ولكن تجيء في دعوتي أنا.
فقالت: لا، بل تجيء أنت.
فحملني فرط شهوتي لها أن مضيت معها، إلى أن حصلنا في طرف من أطراف بغداد، ووافت إلى الباب فدقته.
فقالوا: ما هذا ؟ فقالت: أنا، صيد.
فحين قالت ذلك، وجب قلبي، فوليت.
فقالت: إلى أين يا فتى، ما بدا لك منا ؟ فقلت: خير، ودخلت البيت، فإذا بدار فارغة، قليلة الآلات جداً، وإذا بجارية سوداء قد جاءت بطشت وماء، فغسلت وجهي، ورجلي، واسترحت، وجاءوني بطعام غير نظيف، فأكلت منه لفرط الجوع.
وخرجت الجارية، وإذا هي من أحسن النساء وجهاً، وجاءوني بنبيذ، فجلست أشرب، وهي معي .
فأهويت إليها، فمكنتني من عناقها، فلما تجاوزت ذلك، قالت: أنا لا أدخل في حرام، واصبر حتى يجيء من يزوجني بك.
وجاءت المغرب، وصار الوقت بين الصلاتين، وإذا بالباب يدق.
فقالت: ويه، ويه.
فقلت لها: ما الخبر ؟ فقالت: قد جاء أخي وغلامه، وإن رآك لم آمن عليك، قم إلى ذلك البيت فاختبئ فيه، حتى إذا ناموا جئتك.
فأدخلتني بيتاً، فلما حصلت فيه، زرفنت بابه، فأيقنت أني مقتول، وأن ذلك لغرض كان في ثيابي ومالي، فتبت إلى الله من الحرام، وعاهدته إن خلصني، أن لا أدخل في شيء من ذلك.
قال: وأقبلت أسمع ما يجري من خلف الباب، فإذا بالداخل غلام أسود، لم أر قط أهول منه خلقة، ولا أعظم، وهو يقبل المرأة، وهي ترشفه ترشف عاشقة له، وجلسا يتحدثان، وجاءوه بما أكله، وشربه، ثم جامعها دفعات.
وقال لها في خلال ذلك: أيش حصل اليوم ؟ فقالت: ما وقع اليوم غير رجل مخذول، لم يكن في كمه شيء، قال: وأخرجت ثيابي، فسلمتها إليه، فشتمها وضربها.
وقال: هذا أيش، نحن أردنا صاحب كيس كبير.
فقالت: كما اتفق، ولم تزل تقبل رجله، وتبكي، وتعتذر إليه، إلى أن رضي عنها.
وأيقنت أنا بالهلاك، وأقبلت على الدعاء.
وما زالا يشربان، وهو يجامعها في خلال ذلك، إلى أن عددت أنه قد جامعها عشر دفعات، وسكر.
فقالت له: قد أخذ النبيذ منك يا سيدي، قم فافرغ من هذا الميشوم، حتى نتخلص منه.
فتشهدت حينئذ.
ففتح الباب، ودخل الأسود إلي بسيف مسلول، فما زال يضربني موشحاً، وأنا أصيح، فلا يسمع أحد صياحي، إلى أن بردت، وانقطع صياحي، ولم يشك الأسود في موتي، فجذبني وطرحني في البئر، وإذا تحتي فيها أشلاء ثلاثة، فصرت أنا قريباً من رأسها، فوق القوم، فخرج ولم يغلق الباب. فقالت له: ما عملت ؟ قال: فرغت منه.
فنام إلى جانبها، وقامت العجوز، فجللتهم، ولم يكن في الدار غيرهم.

فلما كان بعد نصف الليل، حملتني حلاوة الحياة، على طلب الخلاص فقمت، فإذا البئر إلى صدري، وإذا أنا قوي، فتسلقت، وخرجت منها إلى البيت.
ووقفت أتسمع، فلم أسمع لهم حساً، إلا غطيطاً يدل على نومهم، فخرجت قليلاً قليلاً، حتى فتحت الباب، وخرجت من الدار، وما شعروا بي، فجئت إلى بيتي قبل طلوع الشمس.
فقالوا: ما دهاك ؟ فقلت: كنت البارحة عند صديق لي، وبكرت من عنده، فلقيني لص يستقفي، فمنعته ثيابي، فأخذها، وعمل بي هذا.
فأقمت شهوراً أعالج، إلى أن عوفيت، فلما خرجت، وتصرفت، لم يكن لي هم إلا طلب المرأة في الطريق والأسواق.
فاجتزت يوماً بالكرخ، فرأيتها، فلم أكلمها، وعدت إلى منزلي، وكنت قد غيرت زيي، وطولت لحيتي، حتى تغيرت هيأتي عليها، ومشيت ويدي مكتوفة إلى ظهري، على مذهب الخراسانية، وجئت أطلبها، وصادفتها في الموضع.
فحين رأتني العجوز، أقبلت علي، وبدأتني بالكلام، فأجبتها بالفارسية، وعلمت أنها لم تعرفني.
وجئت معها، فحملتني إلى الدار بعينها، وجرت القصة على الرسم الأول، إلى أن قالت: قد جاء أخي وغلامه، قم لا يراك، فأقامتني إلى البيت بعينه، فدخلته، وأغلقت علي، ووقفت أسمع، وكان تحت ثيابي سيف لطيف ماضٍ.
فقال لها الأسود، بعد أن وطئها خمس عشرة مرة: أيش جبت اليوم ؟ قالت: بطة سمينة، خراساني معه هميان ملآن.
قال :فأين هو ؟ قالت: في وسطه.
فقال: غاية.
فأخرجت أنا السيف، ووقفت خلف الباب أنتظره، فأكل، وشرب حتى سكر، وجاء، فدخل، فخالفت طريقه، ومضى يريد صدر البيت، فصرت خلفه، وضربته في ساقه ضربة محكمة، أجلسته منها، وثنيتها بأخرى، فما قدر أن ينهض، وواليت ضربه، حتى قطعته، فلما برد، تقدمت فحززت رأسه، وفصلته عن بدنه، لتزول عني الشبهة في أمره، ووقفت موضعي.
فلما أبطأ خروجه على الجارية، قالت العجوز: قومي انظري أيش خبره ؟ فقامت العجوز المسماة صيد، تطلبه، وجاءت إلى البيت، تقول: يا سيدي، لم ليس تخرج ؟ أين أنت ؟ فما تكلمت.
فدخلت إلى البيت، فضربتها في ساقها أيضاً، فقعدت زمنةً، فحين جلست، جررت برجلها، فأخبرجتها إلى برا، وقلت: مرحباً يا صيد، إلى كم تصطادين ولا تصادين ؟ وقتلتها.
وخرجت إلى الدار، وتكلمت بلسان فصيح، وقد كنت أكلمهم بلسان الخراسانية، فأيقنت الجارية بالهلاك.
ثم قلت لها: أنا الرجل الذي فعلت بي كذا وكذا.
قالت: فأين الأسود ؟ فقلت: قتلته، وهذا رأسه.
قالت: سألتك بالله، إلا قتلتني بعده، فلا حاجة لي في الحياتة.
فقلت: ليس تحتاجين إلى مسألتي في هذا، فإني أفعله، ولكن أين الأموال ؟ وإلا عذبتك، ولم أقتلك، وأخرجتك إلى السلطان، فحصلت في العقوبات.
فقالت: افتح ذلك البيت، وذلك البيت.
ففتحت أبواباً، فخرج علي منها أمر عظيم.
فقلت: الأموال.
وما زلت أقررها، وكلما امنتعت، ضربتها بالسيف، إلى أن عرفتني مواضع الدفائن، وأوقفتني على جميع ما عندها من الذخائر، فقتلتها حينئذ.
وخرجت سحراً، وقد قلعت الدفائن، وأخذت منها ما أطقت حمله من فاخر ما وجدته، ولم أقرب الناحية إلى الآن، ولا أدري إلى أي شيء انتهى خبر القتلى والأسود والدار.
فكان ما وصل إلي من ذلك ما قيمته ألوف كثيرة.

الأنصاري وعبد الله بن عامر عامل العراق
قال القاضي أبو علي المحسن بن أبي القاسم علي التنوخي: خرج رجلان من المدينة، يريدان عبد الله بن عامر بن كريز، للوفادة عليه، أحدهما من ولد جابر بن عبد الله الأنصاري، والآخر من ثقيف، وكان عبد الله عاملاً بالعراق لعثمان بن عفان رضي الله عنه.
فأقبلا يسيران، حتى إذا كانا بناحية البصرة، قال الأنصاري للثقفي: هل لك في رأي رأيته ؟ قال: اعرضه.
قال: ننيخ رواحلنا، ونتوضأ، ونصلي ركعتين، نحمد الله عز وجل فيهما، على ما قضى في سفرنا.
قال له: نعم، هذا الرأي الذي لا يرد.
قال: ففعلا.
ثم التفت الأنصاري إلى الثقفي، فقال له: يا أخا ثقيف، ما رأيك ؟ قال: وأي موضع رأي هذا ؟ أمضيت سفري، وأنضيت بدني، وأتعبت راحلتي، ولا مؤمل دون ابن عامر، فهل لك من رأي غير هذا ؟ قال: نعم، إني لما صليت، فكرت، فاستحييت من ربي، أن يراني طالب رزق من عند غيره.
ثم قال: أللهم رازق ابن عامر، ارزقني من فضلك، ثم ولى راجعاً إلى المدينة.

ودخل الثقفي البصرة، فمكث على باب ابن عامر أياماً، فلما أذن له، دخل عليه، وكان قد كتب إليه من المدينة بخبرهما.
فلما رآه رحب به، وقال: ألم أخبر أن ابن جابر خرج معك ؟ فأخبره بما كان منهما.
فبكى ابن عامر، وقال: والله، ما قالها أشراً ولا بطراً، ولكن رأى مجرى الرزق، ومخرج النعمة، فعلم أن الله عز وجل هو الذي فعل ذلك، فسأله من فضله، ثم أمر بأربعة آلاف، وكسوة، وطرف، وأضعف ذلك للأنصاري، فخرج الثقفي، وهو يقول:
أمامة ما سعى الحريص بزائد ... فتيلاً ولا عجز الضعيف بضائر
خرجنا جميعاً من مساقط روسنا ... على ثقة منا بجود ابن عامر
فلما أنخنا الناعجات ببابه ... تأخر عني اليثربي ابن جابر
وقال: ستكفيني عطية قادرٍ ... على ما يشاء اليوم للخلق قاهر
فإن الذي أعطى العراق ابن عامرلربي الذي أرجو لسد مفاقري
فلما رآني قال: أين ابن جابر ؟ ... وحن كما حنت عراب الأباعر
فاضعف عبد الله إذ غاب حظه ... على حظ لهفان من الحرص فاغر

عابدة الجهنية تحضر مجلس عضد الدولة
وتنشد قصيدة في مدحه
عابدة بنت محمد الجهنية، امرأة عم أبي محمد الحسن بن محمد المهلبي الوزير.
قال ابن النجار: كانت أديبة، شاعرة، فصيحة، فاضلة، روى عنها القاضي أبو علي المحسن بن علي بن محمد التنوخي.
قال التنوخي: حضرت بغداد في مجلس الملك عضد الدولة، في يوم عيد الفطر سنة سبع وستين وثلثمائة، والشعراء ينشدونه التهاني، فحضرت عابدة الجهنية، امرأة عم أبي محمد المهلبي الوزير - كان - فأنشدت قصيدة لم أظفر منها بشيء.
وقال التنوخي: أنشدتني عابدة لنفسها، وهذه امرأة فاضلة، كانت تهجو أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي، لما ولي الوزارة:
شاروني الكرخي لما دنا ال ... نيروز والسن له ضاحكه
فقال ما نهدي لسلطاننا ... من خير ما الكف له مالكه
قلت له كل الهدايا سوى ... مشورتي ضائعة هالكه
اهد له نفسك حتى إذا ... أشعل ناراً كنت دوباركه
قال التنوخي: الدوباركة، كلمة أعجمية، وهو اسم للعب على قدر الصبيان يحلها أهل بغداد سطوحهم ليلة النيروز.
وقد كانت تنشدني أفحل من هذا، فكتبت ذلك عنها في مواضع من كتبي.
عاتكة المخزومية تحضر مجلس
عضد الدولة وتنشد قصيدة في مدحه
عاتكة بنت محمد بن القاسم بن محمد بن يحيى بن حابس بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن الحارث بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومية، أم الحسن بن محمد بن عبد الله السلامي الشاعر.
قال ابن النجار: كانت شاعرة فصيحة، مدحت عضد الدولة ببغداد، وروى عنها القاضي التنوخي.
قال التنوخي: حضرت مجلس عضد الدولة ببغداد، من يوم عيد الفطر سنة " 367 " وحضر الشعراء فأنشدوا التهاني.
وحضرت أم أبي الحسن البغدادي السلامي، فأنشدته لنفسها قصيدة طويلة، بعبارة فصيحة، وإنشاد صيت مستقيم، ولسان سليم من اللحن، لم أصل إلى جميعها، تقول فيها، عند ذكرها الممدوح:
شتان بين مدبر ومدمر ... صيد الليوث حصائد الغزلان
روعته من بعد دهر راعني ... وسقيته ما كان قبل سقاني
فلقد سهرت ليالياً وليالياً ... حاتى رأيتك يا هلال زماني
الشاعرة المخزومية
ابنة خال السلامي الشاعر، كذا في تاريخ ابن النجار.
ثم روي عن أبي علي التنوخي، قال: أخبرني محمد بن عبد الله السلامي، أنه كانت له ابنة خال بغدادية، مخزومية، تقول الشعر.
وقال: أنشدتني لنفسها من قصيدة لها إلى سيف الدولة، وإنها ماتت سنة " 367 " :
لولا حذاري من أن ألام على ... عتاب يوم منه وإعتابه
لسرت والليل هودجي وذباب ال ... سيف في نحره إلى بابه
أنسب بيت قالته العرب
أخبرنا التنوخي، قال: أخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني، قال: أخبرني الحرمي ابن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني خلف بن وضاح، أن عبد الأعلى بن عبد الله بن صفوان الجمحي، قال:

حملت ديناً بعسكر المهدي، فركب المهدي يوماً، بين أبي عبيد الله، وعمر بن بزيع، وأنا وراءه في موكبه، على برذون قطوف.
فقال: ما أنسب بيت قالته العرب ؟ فقال أبو عبيد الله، قول امرىء القيس.
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قبلب مقتل
قال: هذا أعرابي قح.
فقال عمر بن بزيع: قول كثير يا أمير المؤمنين:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
فقال: ما هذا بشيء، وماله يريد أن ينسى ذكرها، حتى تمثل له ؟ فقلت: عندي حاجتك يا أمير المؤمنين ! قال: الحق بي قلت: لا لحاق بي، ليس ذلك في دابتي.
قال: احملوه على دابة.
قلت: هذا أول الفتح، فحملت على دابة، فلحقته.
فقال: ما عندك ؟ قلت: قول الأحوص:
إذ قلت إني مشتف بلقائها ... فحم التلاقي بيننا زادني سقما
فقال: أحسنت، حاجتك ؟ قلت: علي دين.
فقال: اقضوا دينه.
فقضي ديني.

وقد يجمع الله الشتيتين
أخبرنا القاضي علي بن المحسن، حدثني أبي، حدثنا عبيد الله بن محمد الصروي، حدثني أبي، حدثني صديق لي ثقة: إنه كان ببغداد رجل من أولاد النعم، ورث مالاً جليلاً، وكان يعشق قينة، فأنفق عليها مالاً كثيراً، ثم اشتراها، وكانت تحبه كما يحبها، فلم يزل ينفق ماله عليها، إلى أن أفلس.
فقالت له الجارية: يا هذا، قد بقينا كما ترى، فلو طلبت معاشاً.
قال: وكان الفتى لشدة حبه الجارية، وإحضاره الأستاذات ليزيدوها في صنعتها، قد تعلم الضرب والغناء، فخرج صالح الضرب والحذق فيهما.
فشاور بعض معارفه، فقال: ما أعرف لك معاشاً أصلح من أن تغني للناس، وتحمل جاريتك إليهم، فتأخذ على هذا الكثير، ويطيب عيشك.
فأنف من ذلك، وعاد إليها، فأخبرها بما أشير به عليه، وأعلمها أن الموت أسهل عنده من هذا.
فصبرت معه على الشدة، مدة، ثم قالت له: قد رأيت لك رأياً.
قال: قولي.
قالت: تبيعني، فإنه يحصل لك من ثمني ما إن أردت أن تتجر به، أو تنفقه في ضيعة، عشت عيشاً صالحاً، وتخلصت من هذه الشدة، وأحصل أنا في نعمة، فإن مثلي لا يشتريها إلا ذو نعمة، فإن رأيت هذا، فافعل.
فحملها إلى السوق، فكان أول من اعترضها، فتى هاشمي من أهل البصرة، ظريف، قد ورد بغداد للعب والتمتع، فاستامها، فاشتراها بألف وخمسمائة دينار عيناً.
قال الرجل: فحين لفظت بالبيع، وأعطيت المال، ندمت، واندفعت في بكاء عظيم، وحصلت الجارية في أقبح من صورتي، وجهدت في الإقالة، فلم يكن إلى ذلك سبيل.
فأخذت الدنانير في الكيس، لا أدري أين أذهب، لأن بيتي موحش منها، ووقع علي من اللطم والبكاء ما هوسني.
فدخلت مسجدا، وأخذت أبكي، وأفكر فيما أعمل، فغلبتني عيني، فتركت الكيس تحت رأسي، فانتبهت فزعا، فإذا شاب قد أخذ الكيس، وهو يعدو، فقمت لأعدو وراءه، فإذا رجلي مشدودة بخيط قنب، في وتد مضروب في أرض المسجد، فما تخلصت من ذلك، حتى غاب الرجل عن عيني.
فبكيت، ولطمت، ونالني أمر أشد من الأمر الأول، وقلت: فارقت من أحب، لأستغني بثمنه عن الصدقه، فقد صرت الآن فقيراً ومفارقاً.
فجئت إلى دجلة، فلففت وجهي بإزار كان على رأسي، ولم أكن أحسن العوم، فرميت نفسي في الماء لأغرق.
فظن الحاضرون أن ذلك لغلط وقع علي، فطرح قوم نفوسهم خلفي، فأخرجوني، فسألوني عن أمري، فأخبرتهم، فمن بين راحم ومستهجل.
إلى أن خلا بي شيخ منهم، فأخذ يعظني، ويقول: ما هذا ؟ ذهب مالك، فكان ما ذا حتى تتلف نفسك ؟ أو ما علمت أن فاعل هذا في نار جهنم ؟ ولست أول من افتقر بعد غنى، فلا تفعل، وثق بالله تعالى، أين منزلك ؟ قم معي إليه.
فما فارقني حتى حملني إلى منزلي، وأدخلني إليه، وما زال يؤنسني، ويعظني، إلى أن رأى مني السكون، فشكرته، وانصرف.
فكدت أقتل نفسي، لشدة وحشتي للجارية، وأظلم منزلي في وجهي، وذكرت الدنيا والآخرة، فخرجت من بيتي هاربا إلى بعض أصدقائي القدماء، فأخبرته خبري، فبكى رقة لي، وأعطاني خمسين درهما.
وقال: اقبل رأيي، اخرج الساعة من بغداد، واجعل هذه نفقة، إلى حيث تجد قلبك مساعدك على قصده، وأنت من أولاد الكتاب، وخطك جيد، وأدبك صالح، فاقصد بعض العمال، واطرح نفسك عليه، فأقل ما في الأمر، أن يصرفك في شغل، أو يجعلك محررا بين يديه، وتعيش أنت معه، ولعل الله أن يصنع لك.

فعملت على هذا، وجئت إلى الكتبيين، وقد قوي في نفسي أن أقصد واسطا، وكان لي بها أقارب، فأجعلهم ذريعة إلى التصرف مع عاملها.
فحين جئت إلى الكتبيين، إذا بزلال مقدم، وإذا خزانة كبيرة، وقماش فاخر كثير، ينقل إلى الخزانة والزلال، فسألت عن ملاح يحملني إلى واسط، فقال لي أحد ملاحي الزلال: نحن نحملك إلى واسط بدرهمين، ولكن هذا الزلال لرجل هاشمي من أهل البصرة، ولا يمكننا حملك معه على هذه الصورة، ولكن تلبس من ثياب الملاحين، وتجلس معنا، كأنك واحد منا.
فحين رأيت الزلال، وسمعت أنه لرجل هاشمي من أهل البصرة، طمعت أن يكون مشتري جاريتي، فأتفرج بسماعها إلى واسط، فدفعت الدرهمين إلى الملاح، وعدت فاشتريت جبة من جباب الملاحين، وبعت الثياب التي علي، وأضفت ثمنها إلى ما معي من النفقة، واشتريت خبزا وأدما، وجلست في الزلال.
فما كان إلا ساعة، حتى رأيت جاريتي بعينها، ومعها جاريتان تخدمانها، فسهل علي ما كان بي، وما أنا فيه، وقلت: أراها، وأسمع غناءها، من هاهنا إلى البصرة، واعتقدت أن أجعل قصدي البصرة، وطمعت في أن أداخل مولاها، وأصير أحد ندمائه، وقلت: لا تخليني هي من المواد، فإني واثق بها.
فلم يكن بأسرع من أن جاء الفتى الذي اشتراها، راكبا، ومعه عدة ركبان، فنزلوا في الزلال، وانحدرنا.
فلما صرنا بكلواذى، أخرج الطعام، فأكل هو، وأكل الباقون على سطح الزلال، وأطعموا الملاحين.
ثم أقبل على الجارية، فقال: إلى كم هذه المدافعة عن الغناء، ولزوم الحزن والبكاء ؟ ما أنت أول من فارق مولى كان له، فعلمت ما عندها من أمري.
ثم ضربت لها ستارة في جانب الزلال، واستدعي الذين في سطحه، وجلس معهم خارج الستارة، فسألت عنهم، فإذا هم إخوته وبنو عمه، فأخرجوا الصواني ففرقها عليهم، وفيها النبيذ، وما زالوا يرفقون بالجارية، إلى أن استدعت العود فأصلحته، واندفعت تغني من الثقيل الأول، بإطلاق الوتر الذي في مجرى الوسطى:
بان الخليط بمن عرفت فأدلجوا ... عمدا لقتلك ثم لم يتحرجوا
وغدت كأن على ترائب نحرها ... جمر الغضا في ساعة يتأجج
ثم غلبها البكاء، فقطعت الغناء، وتنغص على القوم سرورهم، ووقعت أنا مغشياً علي، فظن الملاحون أني قد صرعت، فأذن بعضهم في أذني، فأفقت بعد ساعة، وما زالوا يدارونها، ويرفقون بها، ويسألونها الغناء، إلى أن أصلحت العود، واندفعت تغني في الثقيل الثاني:
فوقفت أسأل بالذين تحملوا ... وكأن قلبي بالشفار يقطع
فدخلت دارهم أسائل عنهم ... والدار خالية المنازل بلقع
ثم شهقت، فكادت تتلف، وارتفع لها بكاء عظيم، وصعقت أنا، فتبرم بي الملاحون وقالوا: كيف حملنا هذا المجنون ؟ وقال بعضهم: إذا بلغتم بعض القرى فأخرجوه وأريحونا منه.
فجاءني أمر أعظم من كل ما أصابني، وجاءني في نفسي التصبر، والحيلة في أن أعلم الجارية بمكاني بالزلال، لتمنع من إخراجي، فأفقت.
وبلغنا إلى قرب المدائن، فقال صاحب الزلال: اصعدوا بنا إلى الشط، فطرحوا إلى الشط، وصعدت الجماعة، وكان المساء قريبا، وصعد أكثر الملاحين يتغوطون، وخلا الحديدي، وكان الجواري فيمن صعد إلى مستراح ضرب لهن.
فمشيت سارقا نفسي، حتى صرت خلف الستارة، فغيرت طريقة العود عما كانت عليه إلى طريقة أخرى، ورجعت إلى موضعي من الزلال.
وفرغ القوم من حاجتهم في الشط، ورجعوا والقمر منبسط، فقالوا لها: هو ذا ترين وقتنا، فتكلفي الغناء، ولا تنغصي علينا، فأخذت العود، فجسته، وشهقت، وقالت: قد والله، أصلح هذا العود مولاي، على طريقة من الضرب كان بها معجبا، وكان يضربها معي، و والله، إنه معنا في الزلال.
فقال لها مولاها: والله، يا هذه، لو كان معنا ما امتنعنا من عشرته، فلعله أن يخف بعض ما بك، فننتفع بغنائك، ولكن هذا بعيد.
فقالت: لا أدري ما تقولون، هو والله معنا.
فقال الرجل للملاحين: ويلكم هل حملتم معنا إنسانا ؟ فقالوا: لا.
فأشفقت أن ينقطع السؤال، فصحت: نعم، هو ذا أنا.
فقالت: كلام مولاي، والله.
وجاء بي الغلمان إلى الرجل، فلما رآني، قال: ويحك، ما هذا الذي أصابك، وصيرك في مثل هذا الحال ؟ فصدقته عن أمري، وبكيت، وعلا نحيب الجارية من خلف الستارة، وبكى هو وإخوته بكاء شديداً، رقة لنا.

ثم قال: يا هذا ، والله ما وطئت هذه الجارية، ولا سمعت غناءها إلا اليوم، وأنا رجل موسع علي، ولله الحمد، وردت بغداد لسماع الغناء، وطلب أرزاقي من الخليفة، وقد بلغت من الأمرين، ما أردت، ولما عملت على الرجوع إلى وطني، أحببت أن أستبيع من غناء بغداد شيئاً، فاشتريت هذه الجارية، لأضمها إلى عدة مغنيات عندي بالبصرة، وإذ كنتما على هذه الحال، فأنا - والله - أغتنم المكرمة والثواب فيكما، وأشهد الله، أني إذا صرت إلى البصرة، أعتقتها، وزوجتك منها، وأجريت عليكما ما يكفيكما ويسعكما، على شريطة، إن أجبتني إليها.
قلت: ما هي ؟ قال: أن تحضرنا كلما أردنا الغناء، خلف ستارتنا، وتنصرف بانصرافك إلى دار أفردها لكما، وقماش أعطيكما إياه.
فقلت: يا سيدي، وكيف أبخل بهذا على من هو المعطي لي، وعلى من رد علي حياتي ؟ وأخذت يده أقبلها، فمنعني، ثم أدخل رأسه إلى الجارية، فقال: يرضيك هذا ؟ فأخذت تدعو له وتشكره.
فاستدعى غلاما، فقال: خذ بيد هذا الرجل، وغير ثيابه، وبخره، وقدم إليه ما يأكله، وجئنا به.
فأخذني الغلام، ففعل بي ذلك، وعدت، وتركت بين يدي صينية، واندفعت الجارية تغني بنشاط وسرور وانبساط، واستدعت النبيذ، فشربت وشربنا، وأخذت أقترح عليها الأصوات الجياد، فتضاعف سرور الرجل.
وما زلنا على ذلك، أياما، إلى أن بلغنا نهر معقل، ونحن سكارى، فشد الزلال في الشط، وأخذتني بوله، فصعدت إلى ضفة نهر معقل لأبول، فحملني السكر على النوم فيها، ودفع الزلال، وأنا لا أعلم، وأصبحوا فلم يجدوني، ودخلوا البصرة، ولم أنتبه إلا بحر الشمس، فجئت إلى الشط، فلم أر لهم عينا ولا أثرا.
وقد كنت أجللت الرجل أن أسأله بمن يعرف، وأين داره في البصرة، واحتشمت أن أسأل غلمانه عن ذلك، فبقيت على شاطئ نهر معقل، كأول يوم بدأت بي المحنة، وكأن ما كنت فيه منام.
واجتازت بي سميرية، فركبت بها، ودخلت البصرة، وما كنت دخلتها قط، فنزلت خاناً، وبقيت متحيراً، لا أدري ما أعمل، ولم يتوجه لي معاش.
إلى أن اجتاز بي يوماً إنسان عرفته من بغداد، فتبعته لأكشف له حالي، وأستميحه، فأنف من ذلك، ودخل الرجل إلى منزله، فعرفته، وجئت إلى بقال كان هناك، على باب الخان الذي نزلته، فأعطيته دانقاً، وأخذت منه ورقة دواة، وجلست أكتب رقعة إلى الرجل.
فاستحسن البقال خطي، ورأى رثاثة حالي، فسألني عن أمري، فأخبرته انني رجل ممتحن فقير، وقد تعذر علي التصرف، وما بقي معي شيء، ولم اشرح له أكثر من ذلك.
فقال: أتعمل معي في كل يوم على نصف درهم، وطعامك وكسوتك، وتضبط حساب دكاني ؟ قلت: نعم.
فقال: اصعد.
فمزقت الرقعة وصعدت فجلست معه، فدبرت أمره، وظبطت دخله وخرجه، وكان غلمانه يسرقونه، فأديت إليه الأمانة.
فلما كان بعد شهر، رأى الرجل دخله زائداًُ، وخرجه ناقصاً، فحمدني، وكنت معه إلى أن حال الحول، وقد بان له الصلاح في أمره، فدعاني إلى أن أتزوج بابنته، ويشاركني في الدكان، ففعلت.
ودخلت بزوجتي، ولزمت الدكان، والحال تقوى، إلا أني في خلال ذلك، منكسر النفس، ميت النشاط، ظاهر الحزن، وكان البقال ربما شرب، فيجذبني إلى مساعدته، فأمتنع، وأظهر أن سبب حزني على موتى لي.
واستمرت بي الحال على هذا سنين كثيرة، فلما كان ذات يوم، رأيت قوماً يجتازون بجونٍ ونبيذ، اجتيازاً متصلاً، فسألت عن ذلك، فقيل لي: اليوم يوم الشعانين، ويخرج أهل الظرف واللعب، بالنبيذ والطعام والقيان إلى الأبلة، فيرون النصارى، ويشربون، ويتفرجون.
فدعتني نفسي إلى التفرج، وقلت: لعلي أن أقف لأصحابي على خبر، فإن هذا من مظانهم.
فقلت لحمي: أريد أن أنظر هذا المنظر.
فقال: شأنك، وأصلح لي طعاماً وشارباً، وسلم إلي غلاماً وسفينة، فخرجت، وأكلت في السفينة، وبدأت أشرب حتى وصلت إلى الأبلة، وأبصرت الناس، وابتدأوا ينصرفون، وانصرفت.
فإذا أنا بالزلال بعينه، في أوساط الناس، سائراً في نهر الأبلة، فتأملته، فإذا بأصحابي على سطحه، ومعهم عدة مغنيات.
فحين رأيتهم لم أتمالك نفسي فرحاً، فصرت إليهم، فحين رأوني عرفوني، وكبروا، وأخذوني إليهم، وقالوا: ويحك أنت حي ؟ وعانقوني، وفرحوا بي، وسألوني عن قصتي، فأخبرتهما بها على أتم شرح.

فقالوا: إنا لما فقدناك في الحال، وقع لنا أنك سكرت، ووقعت في الماء فغرقت، ولم نشك في هذا، فمزقت الجارية ثيابها، وكسرت عودها، وجزت شعرها، وبكت، ولطمت، فما منعناها من شيء من هذا.
ووردنا البصرة، فقلنا لها: ما تحبين أن نعمل لك ؟ فقد كنا وعدنا مولاك بوعد تمنعنا المرءوة من استخدامك معه في حال فقده، أو سماع غنائك ؟.
فقالت: تمكنوني من القوت اليسير، ولبس الثياب السود، وأن أعمل قبراً في بيت من الدار، وأجلس عنده، وأتوب عن الغناء، فمكناها ذلك، فهي جالسة عنده إلى الآن.
وأخذوني معهم، فحين دخلت الدار، ورأيتها بتلك الصورة، ورأتني شهقت شقة عظيمة، ما شككت في تلفها، واعتنقنا، فما افترقنا، ساعة طويلة.
ثم قال لي مولاها: قد وهبتها لك.
فقلت: بل تعتقها، وتزوجني منها، كما وعدتني، ففعل ذلك، ودفع إلينا ثياباً كثيرة، وفرشاً، وقماشاً، وحمل إلي خمسمائة دينار.
وقال: هذا مقدار ما أردت أن أجريه عليك في كل شهر، منذ أول يوم دخولي البصرة، وقد اجتمع هذا لهذه المدة، فخذه، والجائزة لك مستأنفة في كل شهر، وشيء آخر لكسوتك، وكسوة الجارية، والشرط في المنادمة، وسماع الجارية من وراء ستارة، باقٍ عليك، وقد وهبت لك الدار الفلانية.
قال: فجئت إليها، فإذا بذلك الفرش الذي أعطانيه، فيها، والجارية.
فجئت إلى البقال، فحدثته بحديثي، وطلقت ابنته، ووفيتها صداقها، وأقمت على تلك الحال مع الهاشمي سنين، فصلحت حالي، وصرت رب ضيعة، ونعمة، وعادت حالي، وعدت إلى قريب مما كنت عليه.
فأنا أعيش كذلك إلى الآن مع جاريتي.
؟

أعمرو علام تجنبتني
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التوزي، وأبو القاسم علي ابن المحسن التنوخي، فالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني محمد بن عبد الله ابن أبي مالك بن الهيثم الخزاعي، عن ابن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: حدثني إبراهيم بن ميمون، قال: حججت في أيام الرشيد، فبينا أنا بمكة، أجول في سككها، إذا أنا بسوداء قائمة ساهية، فأنكرت حالها، فوقفت أنظر إليها، فمكثت كذلك ساعة، ثم قالت:
أعمرو علام تجنبتني ... أخذت فؤادي فعذبتني
فلو كنت بيا عمرو خبرتني ... أخذت حذاري فما نلتني
قال: فدنوت منها، فقلت: يا هذه، من عمرو ؟ فارتاعت من قولي، وقالت: زوجي.
فقلت: وما شأنه ؟ قالت: أخبرني أنه يهواني، وما زال يدس إلي، ويعلق بي في كل طريق، ويشكو شدة وجده، حتى تزوجني، فلبث معي قليلاً، وكان له عندي من الحب، مثل الذي كان لي عنده، ثم مضى إلى جدة، وتركني.
قلت: فصفيه لي.
فقالت: أحسن من تراه، وهو أسمر، حلو، ظريف.
قال: فقلت: فخبريني، أتحبين أن أجمع بينكما ؟ قالت: فكيف لي بذلك، وظنتني أهزل بها.
قال: فركبت راحلتي، وصرت إلى جدة، فوقفت في المرفإ، أتبصر من يعمل في السفن، واصوت: يا عمرو، يا عمرو، فإذا أنا به خارج من سفينة، وعلى عنقه صن، فعرفته بالصفة.
فقلت: أعمرو علام تجنبتني ؟ فقال: هيه، هيه، رأيتها، وسمعته منها ؟ ثم أطرق هنيهة، ثم اندفع يغنيه، فأخذته منه، وقلت له: ألا ترجع ؟ فقال: بأبي أنت، ومن لي بذلك ؟ ذلك والله أحب الأشياء إلي، ولكن منع منه طلب المعاش.
قلت: كم يكفيك كل سنة ؟ قال: ثلاثمائة درهم.
فأعطيته ثلاثة آلاف درهم، وقلت: هذه لعشر سنين، ورددته إليها، وقلت له: إذا فنيت، أو قاربت الفناء، قدمت علي فبررتك، وإلا وجهت إليك.
وكان ذلك حب إلي من حجي.
قال محمد بن عبد الله، قال إسحاق: والناس ينسبون هذا الصوت إلى إبراهيم، وكان إبراهيم أخذه من هذا الفتى.
دوار الحب غالي
أخبرنا التنوخي علي بن المحسن، قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه، قال: أخبرنا أبو بكر المحولي، قال: أنشدني حماد بن إسحاق، للوليد ابن يزيد:
ولقد قال طبيبي ... وطبيبي غير آل
أشك ما شئت سوى ال ... حب فإني لا أبالي
سقم الحب رخيص ... ودواء الحب غالي
وكل غريب للغريب نسيب
وأخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي أيضاً بقراءتي عليه، قال: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، قال: حدثنا محمد بن خلف، قال:

قال أبو عبد الله، محمد بن زياد الأعرابي: إن قيس بن الملوح، وهو المجنون، لما نسب بليلى، وشهر بحبها، اجتمع إليه أهلها، فمنعوه من محادثتها، وزيارتها، وتهددوه بالقتل.
وكان يأتي امرأة من بني هلال، ناكحاً في بني الحريش، وكان زوجها قد مات، وخلف عليها صبية صغاراً، فكان المجنون إذا أراد زيارة ليلى، جاء إلى هذه المرأة فأقام عندها، وبعث إلى ليلى، فعرفت له خبرها، وعرفتها خبره.
فعلم أهل ليلى بذلك، فنهوها أن يدخل قيس إليها.
فجاء قيس كعادته، فأخبرته المرأة الخبر، وقالت: يا قيس، أنا امرأة غريبة من القوم، ومعي صبية، وقد نهوني أن أؤويك، وأنا خائفة أن ألقى منهم مكروهاً، فأحب أن لا تجيء إلي ها هنا .
أجارتنا إنا غريبان ها هنا ... وكل غريب للغريب نسيب
فلا تزجريني عنك خيفة جاهل ... إذا قال شراً أو أخيف لبيب
قال: وترك الجلوس إلى الهلالية، وكان يترقب غفلات الحي بالليل.
فلما كثر ذلك منه، خرج أبو ليلى، ومعه نفر من قومه، إلى مروان ابن الحكم، فشكوا إليه ما نالهم من قيس، ةما قد شهرهم به، وسألوه الكتابة إلى عامله بمنعه من كلام ليلى، وبخطبه إليهم.
فكتب لهم مروان كتاباً إلى عامله، يأمره فيه بأن يحضر قيساً ويتقد إليه في ترك زيارة ليلى، فإن أصابه أهلها عندهم، فقد أهدر مده.
فلما ورد الكتاب إلى عامله، بعث إلى قيس وأبيه، وأهل بيته، فجمعهم وقرأ عليهم كتاب مروان، وقال لقيس: اتق الله في نفسك، لا يذهب دمك هدراً.
فانصرف قيس وهو يقول:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها ... علي يميناً جاهداً لا أزورها
وأوعدني فيها رجال أبوهم ... أبي وأبوها خشنت لي صدورها
على غير شيء غير أني أحبها ... وأن فؤادي عند ليلى أسيرها
فلما أيس منها، وعلكم أن لا سبيل إليها، صار شبيهاً بالتائه العقل، وأحب الخلوة، وحديث النفس، وتزايد الأمر به، حتى ذهب عقله، ولعب بالحصا والتراب، ولم يكن يعرف شيئاً إلا ذكرها، وقول الشعر فيها، وبلغها هي ما صار إليه قيس، فجزعت أيضاً لفراقه، وضنيت ضنىً شديداً.
وإن أهل ليلى خرجوا حجاجاً، وهي معهم، حتى إذا كانوا بالطواف، رآها رجل من ثقيف، وكان غنياً كثير المال، فأعجب بها، على تغيرها، وسقمها، فسأل عنها، فأخبر من هي، فأتى أباها، فخطبها إليه، وأرغبه في المهر، فزوجه إياها.
وبلغ الخبر قيساً، فأنشأ يقول:
ألا تلك ليلى العامرية أصبحت ... تقطع إلا من ثقيف وصالها
هم حبسوها محبس البدن وابتغى ... بها المال أقوام تساحف مالها
إذا التفتت والعيس صعر من البرى ... بنخلة خلى عبرة العين حالها

الجزء السادس
من شعر ابن كناسة
حدثنا علي بن أبي علي، فال: حدثنا محمد بن عمران بن موسى، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن محمد الإبزاري المعروف بمنقار، قال: حدثني إسحاق الموصلي قال: أنشدنا ابن كناسة، ويحيى بن معين في مجلسه:
في انقباض وحشمة فإذا ... جالست أهل الحياء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
قال: فقال لي إسحاق: فأذ كرت ابن كناسة هذين البيتين بعد، فقال: لكني أنشدك اليوم:
ضعفت عن الإخوان حتى جفوتهم ... على غير زهدٍ في الإخاء ولا الود
ولكن أيامي تخرمن قوتي ... فما أبلغ الحاجات إلا على جهد
القاضي محمد بن عبد الله الأنصاري
أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: أخربني إبراهيم بن محمد بن أيوب، عن ابن قتيبة: أن الرشيد قلد محمد بن عبد الله النصاري القضاء بالجانب الشرقي - يعني من بغداد - بعد العوفي، في آخر خلافته.
فلما ولي محمد - وهو المين - عزله، وولى مكانه عون بن عبد الله، وولى محمد بن عبد الله المظالم بعد إسماعيل بن علية.
القاضي محمد بن عبد الله المؤذن
أخبرنا علي بن المحسن، قال: حدثنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لما توفي حبان بن بشر، استقضى محمد بن عبد الله المؤذن من أهل السواد، وكان صالحاً من أصحاب أبي حنيفة، في الفقه، ولا اعلمه حدث بشيء.

وقال طلحة: حدثني عبد الباقي بن قانع، قال: حدثني إسحاق بن ديمهر التوزي قال: حدثني من حضر ابن المؤذن القاضي - وهو يموت - فقال: انقلوني من هذا الموضع، فنقل، فجاء عصفور بحبة من حنطة، فرمى بها على صدره، فما زال يقرضها، حتى فرغ منها، ثم مات.

القاضي أبو الحسن الخرقي
كان يحكم بنفسه أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: استتر القاضي أحمد بن عبد الله بن إسحاق، وهو المعروف بالخرقي، بعد ثلاثة أشهر من تقلده القضاء، لما خرج المتقي إلى الموصل، فاستخلف على مدينة المنصور أبا الفضل محمد بن عبد الله بن العاباس بن محمد بن عبد الملك ابن أبي الشوارب، ثم عاد المتقي، فظهر أبو الحسن، أحمد بن عبد الله ابن إسحاق، وكان يحكم بنفسه.
من شعر ابن سكرة الهاشمي
أنشدني علي بن المسحن، قال: أنشدني أبو الحسن بن سكرة الهاشمي، لنفسه:
في وجه إنسانة كلفت بها ... أربعة ما اجتمعن في أحد
الوجه بدر والصدغ غالية ... والريق خمر والثغر من برد
من شعر ابن سكرة الهاشمي
أنشدني علي بن المسحن، قال: أنشدني ابن سكرة لنفسه:
وقائل قال لي: لا بد من فرجفقلت واغتظت لم لا بد من فرج
فقال لي: بعد حين، قلت: واعجباً ... من يضمن العمر لي يا بارد الحجج
أبو إسحاق الطبري المقرئ
ذكر لي أبو القاسم التنوخي: أن أبا إسحاق الطبري المقرئ، إبراهيم بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله، وكان أحد الشهود ببغداد، شهد أيضاً بالبصرة، والأبلة، وواسط، والأهواز، وعسكر مكرم، وتستر، والكوفة، ومكة، والمدينة.
قال: وأم بالناس في المسجد الحرام، أيام الموسم، وما تقدم فيه من لبس بقرشي غيره.
وكان يكتم مولده، ويقال: ولد سنة أربع وعشرين وثلثمائة.
وهو مالكي المذهب.
البحتري يمدح الكجي وابن جهور
أخبرني علي بن أبي علي، قال: أخبرنا محمد بن عمران المرزباني، أن محمد بن يحيى أخبره، قالك كان أبو مسلم الكجي، وأسد بن جهور، يتقلدان أعمالاً بالشام فقال البحتري يمدحهما:
هل تبدين لي الأيام عارفةً ... لدى أبي مسلم الكجي أو لأسد
كلاهما آخذ للمجد أهبته ... وباعث بعد وعد اليوم نجح غد
لله دركما من سيدين ومن ... أحويتما من معاليه إلى أمد
وجدت عندكما الجدوى ميسرة ... أو ان لا أحد يجدي على أحد
وقد تطلبت جهدي ثالثاً لكما ... عند الليالي فلم تفعل ولم تكد
لن يبعد الله مني حاجة أمماً ... وأنتما غايتي فيها ومعتمدي
إن تقرضا فقضاء لا يريث وان ... وهبتما فقبول الرفد والصفد
وفي القوافي إذا سومتها بدع ... يثقلن في الوزن أو يكثرن في العدد
فيها جزاء لما يأتي الرسول به ... من عاجلٍ سلس أو آجلٍ نكد
إسحاق الموصلي يتحدث عن أصله
حدثني علي بن المحسن، قال: وجدت في كتاب جدي علي بن محمد ابن الفهم التنوخي: حدثنا الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا أبو خالد يزيد محمد المهلبي، قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي، يقول: نحن قوم من أهل أرجان، سقط أبي إلى الموصل في طلب الرزق، فما أقام بها إلا أربعة أشهر، ثم قدم بغداد، فقال الناس: الموصلي، لقدومه منها، ولم يكن من أهلها.
قال: وأبي إبراهيم بن ماهان، قال: وهو عندنا ابن ميمون.
قال: وكانت في أيدينا ضياع لبعض الحنظليين، فتوليناهم.
القاضي إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة
أخبرنا علي بن أبي علي، قال: اخرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثني محمد بن أحمد التنوخي، قال: حدثنا ابن حيان، وهو وكيع القاضي، قال: أخبرني إبراهيم بن أبي عثمان، عن العباس بن ميمون، قال: سمعت محمد بن عبد الله الأنصاري، يقول: ما ولي القضاء من لدن عمر بن الخطاب، إلى اليوم، اعلم من إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة.
فقال له أبو بكر الجبي: يا أبا عبد الله، ولا الحسن بن أبي الحسن؟ قال: لا والله، ولا الحسن.
قال ابن حيان: وأخبرني أبو العيناء، قال: قال رجل لإسماعيل: قد ذهب نصفك.

قال: لو بقيت مني شعرة، لبقي منها ما يقضي عليك.
وقال ابن حيان عن أبي العيناء، قال: لما ولي إسماعيل البصرة، دس إليه الأنصاري، - يعني محمد بن عبد الله - إنساناً عن مسألة، فقال: أبقى الله القاضي، رجل قال لا مرأته... فقطع عليه إسماعيل، وقال: قل للذي دسك، إن القضاء لا تفتي.

القاضي إسماعيل بن إسحاق
كان علماً في الفقه على مذهب مالك أخبرني علي بن المحسن القاضي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر الشاهد، قال: إسماعيل بن إسحاق، كان منشؤه البصرة، وأخذ الفقه على مذهب مالك، عن أحمد بن المعدل، وتقدم في هذا العلم، حتى صار علماً فيه.
ونشر من مذهب مالك، وفضله، ما لم يكن بالعراق في وقت من الأوقات.
وصنف في الاحتجاج لمذهب مالك والشرح له، ما صار لأهل هذا المذهب مثالاً يحتذونه، وطريقاً يسلكونه.
وانضاف إلى ذلك علمه بالقرآن، فإنه ألف في القرآن كتباً تتجاوز مثيراً الكتب المصنفة فيه.
فمنها: كتابه في أحكام القرآن، وهو كتاب لم يسبقه إليه أحد من أصحابه إلى مثله.
ومنها كتابه في القراءات، وهو كتاب جليل القدر عظيم الخطر.
ومنها كتابه في معاني القرآن.
وهذان الكتابان، يشهد بتفضيله فيهما، واحد الزمان، ومن انتهى إليه العلم بالنحو واللغة في ذلك الأوان، أبو العباس محمد بن يزيد المبرد.
ورأيت أبا بكر بن مجاهد، يصف هذين الكتابين، وسمعته مرات لا أحصيها، يقول: سمعت أبا العباس المبرد، يقول: القاضي أعلم مني بالتصريف.
وبلغ من العمر ما صار به واحداً في عصره في علو الأسناد، لن مولده كان سنة تسع وتسعين ومائة، فحمل الناس عنه من الحديث الحسن، ما لم يحمل عن كبير أحد.
وكان الناس يصيرون إليه، فيقتبس منه كل فريق علماً لا يشاركه فيه الآخرون، فمن قوم يحملون الحديث، ومن قوم يحملون علم القرآن، والقراءات، والفقه، وإلى غير ذلك مما يطول شرحه.
أما سداده في القضاء، وحسن مذهبه فيه، وسهولة الأمر عليه فيما كان يلتبس على غيره، فشئ شهرته تغني عن ذكره.
وكان في أكثر أو قاته، وبعد فراغه من الخصوم، متشاغلاً بالعلم، لنه اعتمد على كتابه، ابي عمر محمد بن يوسف، فكان يحمل عنه أكثر أمره من لقاء السلطان، وينظر له في كل أمره، وأقبل هو على الحديث والعلم.
القاضي إسماعيل بن إسحاق
تجمع له بغداد بأسرها ويقلد قضاء القضاء أخبرنا علي بن المحسن، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: لم يزل إسماعيل بن إسحاق قاضياً على عسكر المهدي إلى سنة خمس وخمسين ومائتين، فإن المهتدي محمد بن الواثق، قبض على حماد بن إسحاق، أخي إسماعيل بن إسحاق، وضربه بالسياط، وأطاف به على بغل بسر من رأى لشيء بلغه عنه، وصرف إسماعيل بن إسحاق عن الحكم، واستر.
وقاضي القضاء - كان - بسر من رأي، الحسن بن محمد بن عبد الملك ابن أبي الشوارب، ثم صرف عن القضاء في هذه السنة، وولي القضاء عبد الرحمن بن نائل بن نجيح، ثم رد الحسن بن محمد في هذه السنة إلى القضاء.
ثم استقضى المهتدي على الجانب الشرقي، القاسم بن منصور التميمي، نحو سبعة أشهر، وكان قليل النفاذ.
ثم قتل المهتدي بالله في رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وقيل سموه، وأخرج، فصلى عليه جعفر بن عبد الواحد، بعد يومين من العقد للمعتمد على الله، وعلى قضاء القضاة بسر من رأي الحسن بن محمد بن عبد الملك ابن أبي الشوارب.
فاعاد المعتمد إسماعيل بن إسحاق على الجانب الشرقي من بغداد، وذلك في رجب سنة ست وخمسين ومائتين، فلم يزل على القضاء بالجانب الشرقي إلى سنة ثمان وخمسين ومائتين.
وغلب على الموفق، ثم سأله أن ينقله إلى الجانب الغربي، وكان على قضاء الجانب الغربي بالشرقية - وهو الكرخ - البرتي، وعلى مدينة المنصور أحمد بن يحيى بن أبي يوسف القاضي، فأجابه إلى ذلك.
وكره ذلك قاضي القضاء ابن أبي الشوارب، فاجتهد في ترك البرتي وأحمد ابن يحيى، فما أمكنه، لتمكن إسماعيل من الناصر - يعني الموفق - .
فأجيب إسماعيل إلى ما سأل، ونقل البرتي عن قضاء الشرقية إلى الجانب الشرقي، ولم يزل على القضاء بالجانب الشرقي، وإسماعيل بن إسحاق على الجانب الغربي بأسره، إلى سنة اثنتين وستين ومائتين.
ثم جمعت بغداد بأسرها لإسماعيل بن إسحاق، وصرف البرتي، وقلد المدائن، والنهروانات، وقطعة من أعمال السواد.

وكان الحسن بن محمد بن أبي الشوارب قد توفي سنة إحدى وستين ومائتين بمكة بعد الحج، فولي أخوه علي بن محمد مكانه، وبقي ابن أبي الشوارب على قضاء سر من رأي، وكان يدعي بقاضي القضاء، وصار إسماعيل المقدم على سائر القضاء، ولم يقلد أحد قضاء القضاء إلى أن توفي.

الله خير مستعان
أخبرنا علي بن أبي المعدل، قال: حدثنا الحسين بن عمر الضراب، قال: أنشدنا سمعان الصيرفي:
أشد من فاقة الزمان ... مقام حر على هوان
فاسترزق الله واستعنه ... فإنه خير مستعان
وإن نبا منزل بحر ... فمن مكانٍ إلى مكان
إسحاق بن غرير
أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الذهبي، واحمد بن عبد الله الدوري، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال : حدثنا الزبير بن بكار، قال: ومن ولد حميد بن عبد الرحمن، إسحاق بن غيرير - واسم غرير، عبد الرحمن - بن المغيرة بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف.
كان في صحابة المهدي أمير المؤمنين، وأمير المؤمنين موسى، وأمير المؤمنين هارون، وهلك في خلافة أمير المؤمنين هارون، وكان ذا منزلة فيهم وقدر، وكان حلواً، معروفاً بالسخاء.
وفيه يقول الشاعر:
استوسق الناس وقالوا معاً ... لا جود إلا جود إسحاق
قال: وله ولأخيه يعقوب، يقول الصهيبي:
نفي الجوع من بغداد إسحاق ذو الندى ... كما قد نفى جوع الحجاز أخوه
وما يك من خير أتوه فإنما ... فعال غرير قبلهم ورثوه
فأقسم لو ضاف الغريري بغتهً ... جميع بني حواء ما حفلوه
هو البحر بل لو حل بالبحر رفده ... ومن يجتديه ساعة نزفوه
حب ابن غرير غرور
أخبرنا علي بن أبي علي، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن وأحمد ابن عبد الله، قالا: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني أبو عزيه محمد بن موسى الأنصاري، قال: كان إسحاق بن غيرير معجباً بعبادة، جارية المهلبية، وكانت المهلبية منقطعة إلى الخيزران أم أمير المؤمنين، ذات منزلة منها.
قال: فركب يوماً، عبد الله بن مصعب بن الزبير، وإسحاق بن غرير أمير المؤمنين المهدي وكانا يأتيانه في كل عشية، إذا صلى الناس العصر، يقيمان معه إلى أن ينقضي سمره.
فلقيا في طريقهما عبادة، جارية المهلبية، فقال إسحاق بن غرير، لعبد الله بن مصعب، يا أبا بكر، هذه عبادة التي كنت تسمعني أذكرها، وركض دابته حتى استقبلها، فنظر إليها ثم رجع.
فضحك عبد الله بن مصعب مما صنع، ثم مضيا فدخلا على امير المؤمنين المهدي، فحدثه عبد الله بن مصعب حديث إسحاق بن غرير وعبادة، وما كان منه في أمرها تلك العشية.
فقال لإسحاق: أنا أشتريها لك، وقام فدخل على الخيزران.
فقال: أين المهلبية؟ فأمرت بها، فدعيت له.
فقال لها: تبيعني عبادة بخمسين ألف درهم؟ فقالت له: يا سيدي إن كنت تريدها لنفسك، فبها فداك الله.
قال: إنما أريدها لإسحاق بن غرير.
فبكت، وقالت: يدي، ورجلي، ولساني في حوائجي، تنزعها مني لإسحاق بن غرير.
قال: فقالت الخيزران: ما يبكيك؟ لا يقدر والله إسحاق عليها.
وقالت لأمير المؤمنين المهدي: صار ابن غرير يتعشق جواري الناس؟ فخرج أمير المؤمنين المهدي، فأخبر إسحاق الخبر، وأمر له بالخمسين الألف الدرهم، فأخذها.
فقال في ذلك أبو العتاهية:
من صدق الحب لأجابه ... فإن حب ابن غرير غرور
أنساه عبادة ذات الهوى ... واذهل الحب لديه الضمير
خمسون ألفاً كلها وازن ... خشن لها في كل كيس صرير
قال: وقال في ذلك أيضاً أبو العتاهية:
حبك المال لا كحبك عبا ... دة يا فاضح المحبينا
لو كنت أخلصتها الوفاء كما ... قالت لما بعتها بخمسينا
إنك لا تدري ما يقول هذا الغلام
حدثني علي بن المحسن، قال: وجدت في كتاب جدي علي بن محمد بن أبي الفهم التنوخي، حدثنا الحرمي ابن أبي العلاء، قال: حدثنا أبو خالد يزيد بن محمد المهلبي، قال: سمعت إسحاق الموصلي يقول: لما خرجنا مع الرشيد إلى الرقة، قال لي الأصمعي: كم حملت معك من كتبك؟

قلت: تخففت، فحملت ثمانية أحمال، ستة عشر صندوقاً.
قال: فعجب .
فقلت: كم معك يا أبا سعيد؟ قال: ما معي إلا صندوق واحد.
قلت: ليس إلا ؟.
قال: وتستقل صندوقاً من حق؟ قال أبو خالد: وسمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي، يقول: رأيت في منامي كأن جريراً ناولني كبة من شعر، فادخلتها في فمي .
فاقل بعض المعبرين: هذا رجل يقول من الشعر ما شاء.
قال: وجاء مروان بن أبي حفصة يوماً إلى أبي، فاستنشدني من شعري، فأنشدته:
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... ورافع ضيمي خازم وابن خازم
عطست بأنفٍ شامخٍ وتناولت ... يداي السماء قاعداً غير قائم
قال: فجعل مروان يستحسن ذلك، ويقول لأبي: إنك لا تدري ما يقول هذا الغلام.

البهلول بن حسان
يبذل ما له لقريب والبعيد أخبرني علي بن أبي علي المعدل المعدل، قال: أنبأنا أحمد بن يوسف الأزرق ابن يعقوب بن إسحاق بن البهلول، قال: أخبرني عمي إسماعيل، قال: حدثني عمي بهلول، قال: أخبرني أبي، قال: كنت في ديوان بادوريا، وكنت أمضي مع أبي، البهلول بن حسان، ونحن بمدينة السلام، إلى مسجد الرصافة، فيدخل أبي إلى هشيم بن بشير فيسمع منه، وامضي أنا إلى الديوان.
ثم طلبت الحديث، فقصدت هشيماً، وكتبت منه أحاديث من درج ضاع مني بعد ذلك، وتوفي هشيم فسمعت من أصحابه.
وقال ابن الأزرق: أخبرني عمي إسماعيل، قال: حدثني عمي البهلول قال: كان أبي سمحاً سخياً، وكان يأخذ من أرزاقه بمقدار القوت، ويفرق ما يبقى بعد ذلك على ولده وأهله والأباعد.
ويفرق في أيام كل فاكهة، شيئاً كثيراً منها.
وكان له غلام وبغل، يستقي الماء، ويصبه لقراباته، إرفاقاً بهم.
إسحاق بن البهلول
يحدث من حفظة بخمسين ألف حديث أخبرني علي بن أبي علي، قال: أنبأنا أحمد بن يوسف الأزرق، قال: أخبرني عمي إسماعيل بن يعقوب، قال: حدثني عمي البهلول ابن إسحاق، قال: استدعى المتوكل أبي إلى سر من رأى، حتى حدثه، وسمع منه، وقرئ له عليه حديث كثير.
ثم أمر فنصب له منبر، وكان يحدث عليه في المسجد الجامع بسر من رأى وفي رحبة زيرك بالقرب من باب الفراغنة.
وأقطعه إقطاعاً في كل سنة مبلغة اثنا عشر ألفاً، ورسم له صلة خمسة آلاف درهم في السنة، فكان يأخذها.
وأقام إلى أن قدم المستعين بغداد، فخاف أبي الأتراك، أن يكبسوا الأنبار، فانحدر إلى بغداد عجلاً، ولم يحمل معه شيئاً من كتبه.
فطالبه محمد بن عبد الله بن طاهر، أن يحدث، فحدث ببغداد من حفظه بخمسين ألف حديث، لم يخطئ في شيءٍ منها.
القاضي أسد بن عمرو
يصلح قبلة جامع واسط أخبرنا علي بن المحسن القاضي، قال: أخبرنا طلحة بن محمد بن جعفر، قال: حدثنا عي بن محمد بن عبيد، قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: كان أسد بن عمرو على قضاء واسط، فقال: رأيت قبلة واسط رديئة جداً وتبين لي ذلك، فتحرفت فيها.
فقال قوم من أهل واسط: هذا رافضي.
فقيل لهم: ويلكم هذا من أصحاب أبي حنيفة، كيف يكون رافضياً؟
أشعب الطامع بين سالم بن عبد الله
وعبد الله بن عمرو بن عثمان أخبرنا علي بن أبي علي البصري، قال: أخبرنا علي بن محمد بن أحمد ابن لؤلؤ الوراق، قال: حدثنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث، قال: حدثنا أبو دواد السنجي، قال: حدثنا الأصمعي، عن أشعب الطامع، قال: دخلت على سالم بن عبد الله، فقال لي: يا أشعب، حمل إلينا جفنة هريسة، وأنا صائم، فاقعد، فكل.
قال: فحملت على نفسي.
فقال: لا تحمل على نفسك، ما يبقى تحمله معك.
قال: فلما رجعت إلى منزلي، قالت لي أمرأتي: يا مشؤوم، بعث عبد الله بن عمرو بن عثمان يطلبك، ولو ذهبت إليه لحباك.
قلت: فما قلت له؟ قالت: قلت له: إنك مريض.
قلت: أحسنت.
فأخذت قارورة دهن، وشيئاً من صفرة، فدخلت الحمام ثم تمرخت به، ثم خرجت فعصبت رأسي بعصابة، وأخذت قصبة، واتكأت عليها، فأتيته وهو في بيت مظلم.
فقال لي: أشعب؟ قلت: نعم، جعلني الله فداك، ما رفعت جنبي من الأرض منذ شهرين.
قال: وسالم في البيت، وأنا لا أعلم.
فقال لي سالم: ويحك يا أشعب.
قال: فقلت لسالم: نعم جعلني الله فداك، منذ شهرين ما رفعت ظهري من الأرض.
قال: فقال سالم: ويحك يا أشعب.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8