كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية
[مَذْهَبُ مَنْ لَمْ يَرَ الْفَسْخَ بِالْإِعْسَارِ ]
وَالْقَوْلُ
بِعَدَمِ التّفْرِيقِ مَذْهَبُ أَهْلِ الظّاهِرِ كُلّهِمْ وَقَدْ
تَنَاظَرَ فِيهَا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فَقَالَ مَالِكٌ أَدْرَكْتُ النّاسَ
يَقُولُونَ إذَا لَمْ يُنْفِقْ الرّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ فُرّقَ
بَيْنَهُمَا . فَقِيلَ لَهُ قَدْ كَانَتْ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُمْ يُعْسِرُونَ وَيَحْتَاجُونَ فَقَالَ مَالِكٌ لَيْسَ النّاسُ
الْيَوْمَ كَذَلِكَ إنّمَا تَزَوّجَتْهُ رَجَاءً . وَمَعْنَى كَلَامِهِ
أَنّ نِسَاءَ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ كُنّ يُرِدْنَ الدّارَ
الْآخِرَةَ وَمَا عِنْدَ اللّهِ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُنّ الدّنْيَا
فَلَمْ يَكُنّ يُبَالِينَ بِعُسْرِ أَزْوَاجِهِنّ لِأَنّ أَزْوَاجَهُنّ
كَانُوا كَذَلِكَ . وَأَمّا النّسَاءُ الْيَوْمَ فَإِنّمَا يَتَزَوّجْنَ
رَجَاءَ دُنْيَا الْأَزْوَاجِ وَنَفَقَتِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ
فَالْمَرْأَةُ إنّمَا تَدْخُلُ الْيَوْمَ عَلَى رَجَاءِ الدّنْيَا فَصَارَ
هَذَا الْمَعْرُوفُ كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ وَكَانَ عُرْفُ
الصّحَابَةِ وَنِسَائِهِمْ كَالْمَشْرُوطِ فِي الْعَقْدِ وَالشّرْطُ
الْعُرْفِيّ فِي أَصْلِ مَذْهَبِهِ كَاللّفْظِيّ وَإِنّمَا أَنْكَرَ عَلَى
مَالِكٍ كَلَامَهُ هَذَا مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ وَيَفْهَمْ غَوْرَهُ .
[مَذْهَبُ مَنْ قَالَ بِالْحَبْسِ فِي الْإِعْسَارِ ]
وَفِي
الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّ الزّوْجَ إذَا أَعْسَرَ
بِالنّفَقَةِ حُبِسَ حَتّى يَجِدَ مَا يُنْفِقُهُ وَهَذَا مَذْهَبٌ
حَكَاهُ النّاسُ عَنْ ابْنِ حَزْمٍ وَصَاحِبِ " الْمُغْنِي "
وَغَيْرِهِمَا عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيّ قَاضِي
الْبَصْرَةِ . وَيَالَلّهِ الْعَجَبُ لِأَيّ شَيْءٍ يُسْجَنُ وَيُجْمَعُ
عَلَيْهِ بَيْنَ عَذَابِ السّجْنِ وَعَذَابِ الْفَقْرِ وَعَذَابِ
الْبُعْدِ عَنْ أَهْلِهِ ؟ { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } وَمَا
أَظُنّ مَنْ شَمّ رَائِحَةَ الْعِلْمِ يَقُولُ هَذَا .
[ مَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ مِنْ تَكْلِيفِ الْمَرْأَةِ الْإِنْفَاقَ عَلَى الزّوْجِ إذْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ نَفَقَةِ نَفْسِهِ ]
وَفِي
الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّ الْمَرْأَةَ تُكَلّفُ
الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ نَفَقَةِ نَفْسِهِ
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي مُحَمّدِ ابْنِ حَزْمٍ وَهُوَ خَيْرٌ بِلَا شَكّ
مِنْ مَذْهَبِ الْعَنْبَرِيّ . قَالَ فِي " الْمُحَلّى " : فَإِنْ عَجَزَ
الزّوْجُ عَنْ نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَامْرَأَتُهُ غَنِيّةٌ - 462 كُلّفَتْ
النّفَقَةَ عَلَيْهِ وَلَا تَرْجِعُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ إنْ أَيْسَرَ
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلّفُ نَفْسٌ إِلّا
وُسْعَهَا لَا تُضَارّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ
بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } [ الْبَقَرَةَ 233 ]
فَالزّوْجَةُ وَارِثَةٌ فَعَلَيْهَا النّفَقَةُ بِنَصّ الْقُرْآنِ . وَيَا
عَجَبًا لِأَبِي مُحَمّدٍ لَوْ تَأَمّلَ سِيَاقَ الْآيَةِ لَتَبَيّنَ لَهُ
مِنْهَا خِلَافُ مَا فَهِمَهُ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ { وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ } وَهَذَا
ضَمِيرُ الزّوْجَاتِ بِلَا شَكّ ثُمّ قَالَ { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ } فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ عَلَى وَارِثِ الْمَوْلُودِ لَهُ أَوْ
وَارِثِ الْوَلَدِ مِنْ رِزْقِ الْوَالِدَاتِ وَكِسْوَتِهِنّ
بِالْمَعْرُوفِ مِثْلَ مَا عَلَى الْمَوْرُوثِ فَأَيْنَ فِي الْآيَةِ
نَفَقَةٌ عَلَى غَيْرِ الزّوْجَاتِ ؟ حَتّى يُحْمَلَ عُمُومُهَا عَلَى مَا
ذَهَبَ إلَيْهِ .
[حُجَجُ مَنْ لَمْ يَرَ الْفَسْخَ بِالْإِعْسَارِ ]
وَاحْتَجّ
مَنْ لَمْ يَرَ الْفَسْخَ بِالْإِعْسَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتَاهُ اللّهُ لَا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلّا مَا
آتَاهَا } [ الطّلَاقَ 7 ] قَالُوا : وَإِذَا لَمْ يُكَلّفْهُ اللّهُ
النّفَقَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَقَدْ تَرَكَ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ
وَلَمْ يَأْثَمْ بِتَرْكِهِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلتّفْرِيقِ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ حُبّهِ وَسَكَنِهِ وَتَعْذِيبِهِ بِذَلِكَ . قَالُوا : وَقَدْ
رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ
جَابِرٍ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَجَدَاهُ جَالِسًا
حَوْلَهُ نِسَاؤُهُ وَاجِمًا سَاكِتًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ
اللّهِ لَوْ رَأَيْتَ بِنْتَ خَارِجَةَ سَأَلَتْنِي النّفَقَةَ فَقُمْتُ
إلَيْهَا فَوَجَأْتُ عُنُقَهَا فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ هُنّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي
النّفَقَةَ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا وَقَامَ
عُمَرُ إلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا كِلَاهُمَا يَقُولُ تَسْأَلْنَ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ
فَقُلْنَ وَاَللّهِ لَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ شَيْئًا أَبَدًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ثُمّ اعْتَزَلَهُنّ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَهْرًا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . -
463 قَالُوا : فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا
يَضْرِبَانِ ابْنَتَيْهِمَا بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ سَأَلَاهُ نَفَقَةً لَا يَجِدُهَا . وَمِنْ
الْمُحَالِ أَنْ يَضْرِبَا طَالِبَتَيْنِ لِلْحَقّ وَيُقِرّهُمَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى ذَلِكَ فَدَلّ عَلَى أَنّهُ
لَا حَقّ لَهُمَا فِيمَا طَلَبَتَاهُ مِنْ النّفَقَةِ فِي حَالِ
الْإِعْسَارِ وَإِذَا كَانَ طَلَبُهُمَا لَهَا بَاطِلًا فَكَيْفَ تُمَكّنُ
الْمَرْأَةُ مِنْ فَسْخِ النّكَاحِ بِعَدَمِ مَا لَيْسَ لَهَا طَلَبُهُ
وَلَا يَحِلّ لَهَا وَقَدْ أَمَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ صَاحِبَ الدّيْنِ
أَنْ يُنْظِرَ الْمُعْسِرَ إلَى الْمَيْسَرَةِ وَغَايَةُ النّفَقَةِ أَنْ
تَكُونَ دَيْنًا وَالْمَرْأَةُ مَأْمُورَةٌ بِإِنْظَارِ الزّوْجِ إلَى
الْمَيْسَرَةِ بِنَصّ الْقُرْآنِ هَذَا إنْ قِيلَ تَثْبُتُ فِي ذِمّةِ
الزّوْجِ وَإِنْ قِيلَ تَسْقُطُ بِمُضِيّ الزّمَانِ فَالْفَسْخُ أَبْعَدُ
وَأَبْعَدُ . قَالُوا : فَاَللّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى صَاحِبِ
الْحَقّ الصّبْرَ عَلَى الْمُعْسِرِ وَنَدَبَهُ إلَى الصّدَقَةِ بِتَرْكِ
حَقّهِ وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَجَوْرٌ لَمْ يُبِحْهُ لَهُ
وَنَحْنُ نَقُولُ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى لَهَا
سَوَاءً بِسَوَاءِ إمّا أَنْ تُنْظِرِيهِ إلَى الْمَيْسَرَةِ وَإِمّا أَنْ
تَصّدّقِي وَلَا حَقّ لَكِ فِيمَا عَدَا هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ . قَالُوا
وَلَمْ يَزَلْ فِي الصّحَابَةِ الْمُعْسِرُ وَالْمُوسِرُ وَكَانَ
مُعْسِرُوهُمْ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مُوسِرِيهِمْ فَمَا مَكّنَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَطّ امْرَأَةً وَاحِدَةً مِنْ الْفَسْخِ
بِإِعْسَارِ زَوْجِهَا وَلَا أَعْلَمَهَا أَنّ الْفَسْخَ حَقّ لَهَا
فَإِنْ شَاءَتْ صَبَرَتْ وَإِنْ شَاءَتْ فَسَخَتْ وَهُوَ يُشَرّعُ
الْأَحْكَامَ عَنْ اللّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ فَهَبْ أَنّ الْأَزْوَاجَ
تَرَكْنَ حَقّهُنّ أَفَمَا كَانَ فِيهِنّ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ تُطَالِبُ
بِحَقّهَا وَهَؤُلَاءِ نِسَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرُ
نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يُطَالِبْنَهُ بِالنّفَقَةِ حَتّى أَغْضَبْنَهُ
وَحَلَفَ أَلّا يَدْخُلَ عَلَيْهِنّ شَهْرًا مِنْ شِدّةِ مَوْجِدَتِهِ
عَلَيْهِنّ فَلَوْ كَانَ مِنْ الْمُسْتَقِرّ فِي شَرْعِهِ أَنّ
الْمَرْأَةَ تَمْلِكُ الْفَسْخَ بِإِعْسَارِ زَوْجِهَا لَرُفِعَ إلَيْهِ
ذَلِكَ وَلَوْ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ رُفِعَ إلَيْهِ مَا
ضَرُورَتُهُ دُونَ ضَرُورَةِ فَقْدِ النّفَقَةِ مِنْ فَقْدِ النّكَاحِ
وَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ إنّي نَكَحْتُ بَعْدَ رِفَاعَةَ
عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ الزّبَيْرِ وَإِنّ مَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ
الثّوْبِ . تُرِيدُ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا . وَمِنْ
الْمَعْلُومِ أَنّ هَذَا كَانَ فِيهِمْ فِي - 464 غَايَةِ النّدْرَةِ
بِالنّسْبَةِ إلَى الْإِعْسَارِ فَمَا طَلَبَتْ مِنْهُ امْرَأَةٌ
وَاحِدَةٌ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِالْإِعْسَارِ . قَالُوا :
وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ الْفَقْرَ وَالْغِنَى مَطِيّتَيْنِ لِلْعِبَادِ
فَيَفْتَقِرُ الرّجُلُ الْوَقْتَ وَيَسْتَغْنِي الْوَقْتَ فَلَوْ كَانَ
كُلّ مَنْ افْتَقَرَ فَسَخَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ لَعَمّ الْبَلَاءُ
وَتَفَاقَمَ الشّرّ وَفُسِخَتْ أَنْكِحَةُ أَكْثَرِ الْعَالَمِ وَكَانَ
الْفِرَاقُ بِيَدِ أَكْثَرِ النّسَاءِ فَمَنْ الّذِي لَمْ تُصِبْهُ
عُسْرَةٌ وَيَعُوزُ النّفَقَةَ أَحْيَانًا . قَالُوا : وَلَوْ تَعَذّرَ
مِنْ الْمَرْأَةِ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَرَضِ مُتَطَاوِلٍ وَأَعْسَرَتْ
بِالْجِمَاعِ لَمْ يُمَكّنْ الزّوْجُ مِنْ فَسْخِ النّكَاحِ بَلْ
يُوجِبُونَ عَلَيْهِ النّفَقَةَ كَامِلَةً مَعَ إعْسَارِ زَوْجَتِهِ
بِالْوَطْءِ فَكَيْفَ يُمَكّنُونَهَا مِنْ الْفَسْحِ بِإِعْسَارِهِ عَنْ
النّفَقَةِ الّتِي غَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ عِوَضًا عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ
؟ قَالُوا : وَأَمّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَدْ صَرّحَ فِيهِ بِأَنّ
قَوْلَهُ امْرَأَتُك تَقُولُ أَنْفِقْ عَلَيّ وَإِلّا طَلّقْنِي مِنْ
كِيسِهِ لَا مِنْ كَلَامِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَهَذَا فِي " الصّحِيحِ " عَنْهُ . وَرَوَاهُ عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي
سَعِيدٍ وَقَالَ ثُمّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ . إذَا حَدّثَ بِهَذَا
الْحَدِيثِ امْرَأَتُك تَقُولُ فَذَكَرَ الزّيَادَةَ . وَأَمّا حَدِيثُ
حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِمِثْلِهِ فَأَشَارَ إلَى حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيّبِ فِي الرّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ
. قَالَ يُفَرّقُ بَيْنَهُمَا فَحَدِيثٌ مُنْكَرٌ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْلًا وَأَحْسَنُ
أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
مَوْقُوفًا وَالظّاهِرُ أَنّهُ رُوِيَ بِالْمَعْنَى وَأَرَادَ قَوْلَ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ امْرَأَتُك تَقُولُ أَطْعِمْنِي
أَوْ طَلّقْنِي وَأَمّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ الرّجُلِ لَا
يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ يُفَرّقُ بَيْنَهُمَا
فَوَاَللّهِ مَا قَالَ هَذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَلَا سَمِعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَا حَدّثَ بِهِ كَيْفَ
وَأَبُو هُرَيْرَةَ لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ امْرَأَتُك تَقُولُ أَطْعِمْنِي وَإِلّا
طَلّقْنِي - 465 وَيَقُولُ هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِئَلّا
يُتَوَهّمَ نِسْبَتُهُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَاَلّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ الشّرِيعَةِ وَقَوَاعِدُهَا فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ أَنّ الرّجُلَ إذَا غَرّ الْمَرْأَةَ بِأَنّهُ ذُو مَالٍ
فَتَزَوّجَتْهُ عَلَى ذَلِكَ فَظَهَرَ مُعْدِمًا لَا شَيْءَ لَهُ أَوْ
كَانَ ذَا مَالٍ وَتَرَكَ الْإِنْفَاقَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَلَمْ تَقْدِرْ
عَلَى أَخْذِ كِفَايَتِهَا مِنْ مَالِهِ بِنَفْسِهَا وَلَا بِالْحَاكِمِ
أَنّ لَهَا الْفَسْخَ وَإِنْ تَزَوّجَتْهُ عَالِمَةً بِعُسْرَتِهِ أَوْ
كَانَ مُوسِرًا ثُمّ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَلَا
فَسْخَ لَهَا فِي ذَلِكَ وَلَمْ تَزَلْ النّاسُ تُصِيبُهُمْ الْفَاقَةُ
بَعْدَ الْيَسَارِ وَلَمْ تَرْفَعْهُمْ أَزْوَاجُهُمْ إلَى الْحُكّامِ
لِيُفَرّقُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنّ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
[هَلْ يَثْبُتُ الْفَسْخُ بِالْإِعْسَارِ بِالصّدَاقِ ]
وَقَدْ
قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لَا يَثْبُتُ لَهَا الْفَسْخُ
بِالْإِعْسَارِ بِالصّدَاقِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ
وَهُوَ الصّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ اخْتَارَهُ
عَامّةُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشّافِعِيّ .
وَفَصّلَ الشّيْخُ أَبُو إسْحَاقَ وَأَبُو عَلِيّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ
فَقَالَا : إنْ كَانَ قَبْلَ الدّخُولِ ثَبَتَ بِهِ الْفَسْخُ وَبَعْدَهُ
لَا يَثْبُتُ وَهُوَ أَحَدُ الْوُجُوهِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ هَذَا مَعَ
أَنّهُ عِوَضٌ مَحْضٌ وَهُوَ أَحَقّ أَنْ يُوَفّى مِنْ ثَمَنِ الْمَبِيعِ
كَمَا دَلّ عَلَيْهِ النّصّ كُلّ مَا تَقَرّرَ فِي عَدَمِ الْفَسْخِ بِهِ
فَمِثْلُهُ فِي النّفَقَةِ وَأَوْلَى . فَإِنْ قِيلَ فِي الْإِعْسَارِ
بِالنّفَقَةِ مِنْ الضّرَرِ اللّاحِقِ بِالزّوْجَةِ مَا لَيْسَ فِي
الْإِعْسَارِ بِالصّدَاقِ فَإِنّ الْبِنْيَةَ تَقُومُ بِدُونِهِ بِخِلَافِ
النّفَقَةِ . قِيلَ وَالْبِنْيَةُ قَدْ تَقُومُ بِدُونِ نَفَقَتِهِ بِأَنْ
تُنْفِقَ مِنْ مَالِهَا أَوْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا ذُو قَرَابَتِهَا أَوْ
تَأْكُلَ مِنْ غَزْلِهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَتَعِيشُ بِمَا تَعِيشُ بِهِ
زَمَنَ الْعِدّةِ وَتُقَدّرُ زَمَنَ عُسْرَةِ الزّوْجِ كُلّهُ عِدّةً .
ثُمّ الّذِينَ يُجَوّزُونَ لَهَا الْفَسْخَ يَقُولُونَ لَهَا أَنْ
تَفْسَخَ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنْ
الذّهَبِ وَالْفِضّةِ إذَا عَجَزَ الزّوْجُ عَنْ نَفَقَتِهَا وَبِإِزَاءِ
هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ مَنْجَنِيقِ الْغَرْبِ أَبِي مُحَمّدِ ابْنِ
حَزْمٍ : إنّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ
الْحَالِ فَتُعْطِيهِ مَالَهَا وَتُمَكّنُهُ مِنْ نَفْسِهَا وَمِنْ
الْعَجَبِ قَوْلُ الْعَنْبَرِيّ بِأَنّهُ يُحْبَسُ . وَإِذَا تَأَمّلْت
أُصُولَ الشّرِيعَةِ وَقَوَاعِدَهَا وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ
الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ - 466 الْمَفَاسِدِ وَدَفْعِ أَعْلَى
الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا وَتَفْوِيتِ أَدْنَى
الْمَصْلَحَتَيْنِ لِتَحْصِيلِ أَعْلَاهُمَا تَبَيّنَ لَكَ الْقَوْلُ
الرّاجِحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ فِي حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْمُوَافِقِ لِكِتَابِ اللّهِ أَنّهُ لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ وَلَا سُكْنَى
رَوَى
مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ فَاطِمَةُ بِنْتِ قَيْسٍ أَنّ أَبَا
عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلّقَهَا الْبَتّةَ وَهُوَ غَائِبٌ فَأَرْسَلَ
إلَيْهَا وَكِيلَهُ بِشَعِيرِ فَسَخِطَتْهُ فَقَالَ وَاَللّهِ مَالَكِ
عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ فَجَاءَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ وَمَا قَالَ فَقَالَ لَيْسَ لَكِ
عَلَيْهِ نَفَقَةٌ " فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدّ فِي بَيْتِ أُمّ شَرِيكٍ
ثُمّ قَالَ " تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي اعْتَدّي عِنْدَ
ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ فَإِنّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَك فَإِذَا
حَلَلْتِ فَآذِنِينِي . قَالَتْ فَلَمّا حَلَلْت ذَكَرْت لَهُ أَنّ
مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا
يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ وَأَمّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ
لَهُ انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ " فَكَرِهْته ثُمّ قَالَ " انْكِحِي
أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ " فَنَكَحْته فَجَعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا
وَاغْتَبَطْتُ وَفِي " صَحِيحِهِ " أَيْضًا : عَنْهَا أَنّهَا طَلّقَهَا
زَوْجُهَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَكَانَ أَنْفَقَ عَلَيْهَا نَفَقَةً دُونًا فَلَمّا رَأَتْ ذَلِكَ
قَالَتْ وَاَللّهِ لَأُعْلِمَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَإِنْ كَانَتْ لِي نَفَقَةٌ أَخَذْتُ الّذِي يُصْلِحُنِي وَإِنْ
لَمْ تَكُنْ لِي نَفَقَةٌ لَمْ آخُذْ مِنْهُ شَيْئًا قَالَتْ فَذَكَرْتُ
ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَا
نَفَقَةَ لَكِ وَلَا سُكْنَى [ ص 467 ] صَحِيحِهِ " أَيْضًا عَنْهَا أَنّ
أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيّ طَلّقَهَا ثَلَاثًا ثُمّ
انْطَلَقَ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ لَهَا أَهْلُهُ لَيْسَ لَكِ عَلَيْنَا
نَفَقَةٌ فَانْطَلَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي نَفَرٍ فَأَتَوْا
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ
فَقَالُوا : إنّ أَبَا حَفْصٍ طَلّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَهَلْ لَهَا
مِنْ نَفَقَةٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لَيْسَتْ لَهَا نَفَقَةٌ وَعَلَيْهَا الْعِدّةُ وَأَرْسَلَ إلَيْهَا : "
أَنْ لَا تَسْبِقِينِي بِنَفْسِكِ " وَأَمَرَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إلَى
أُمّ شَرِيكٍ ثُمّ أَرْسَلَ إلَيْهَا : أَنّ أُمّ شَرِيكٍ يَأْتِيهَا
الْمُهَاجِرُونَ الْأَوّلُونَ فَانْطَلِقِي إلَى ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ
الْأَعْمَى فَإِنّكِ إذَا وَضَعْتِ خِمَارَكِ لَمْ يَرَكِ فَانْطَلَقْت
إلَيْهِ فَلَمّا انْقَضَتْ عِدّتُهَا أَنْكَحَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَفِي "
صَحِيحِهِ " أَيْضًا عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عُتْبَةَ أَنّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ خَرَجَ مَعَ
عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إلَى الْيَمَنِ فَأَرْسَلَ إلَى امْرَأَتِهِ
فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ بِتَطْلِيقَةِ كَانَتْ بَقِيَتْ مِنْ طَلَاقِهَا
وَأَمَرَ لَهَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ
بِنَفَقَةِ فَقَالَا لَهَا : وَاَللّهِ مَا لَكِ نَفَقَةٌ إلّا أَنْ
تَكُونِي حَامِلًا فَأَتَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَذَكَرَتْ لَهُ قَوْلَهُمَا فَقَالَ " لَا نَفَقَةَ لَكِ "
فَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي الِانْتِقَالِ فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ أَيْنَ يَا
رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " إلَى ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ " وَكَانَ أَعْمَى
تَضَعُ ثِيَابَهَا عِنْدَهُ وَلَا يَرَاهَا فَلَمّا مَضَتْ عِدّتُهَا
أَنْكَحَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُسَامَةَ بْنَ
زَيْدٍ فَأَرْسَلَ إلَيْهَا مَرْوَانُ قَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ
يَسْأَلُهَا عَنْ الْحَدِيثِ فَحَدّثَتْهُ بِهِ فَقَالَ مَرْوَانُ لَمْ
نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إلّا مِنْ امْرَأَةٍ سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ
الّتِي وَجَدْنَا النّاسَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ فَاطِمَةُ حِينَ بَلَغَهَا
قَوْلُ مَرْوَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ الْقُرْآنُ قَالَ اللّهُ عَزّ
وَجَلّ { لَا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ } إلَى قَوْلِهِ { لَا تَدْرِي لَعَلّ
اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } [ الطّلَاقَ 1 ] قَالَتْ هَذَا
لِمَنْ كَانَ لَهُ مُرَاجَعَةٌ فَأَيّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثّلَاثِ ؟
فَكَيْفَ تَقُولُونَ لَا نَفَقَةَ لَهَا إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا
فَعَلَامَ تَحْبِسُونَهَا ؟ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
بِإِسْنَادِ مُسْلِمٍ عَقِيبَ قَوْلِ عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ
وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ : لَا نَفَقَةَ لَك إلّا أَنْ تَكُونِي
حَامِلًا فَاتَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَا
نَفَقَةَ لَكِ إلّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا . [ ص 468 ] صَحِيحِهِ "
أَيْضًا عَنْ الشّعْبِيّ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ
فَسَأَلْتُهَا عَنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ طَلّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتّةَ
فَخَاصَمَتْهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
السّكْنَى وَالنّفَقَةِ قَالَتْ فَلَمْ يَجْعَلْ لِي سُكْنَى وَلَا
نَفَقَةً وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَدّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ
وَفِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْجَهْمِ الْعَدَوِيّ
قَالَ سَمِعْتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ تَقُولُ طَلّقَهَا زَوْجُهَا
ثَلَاثًا فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي فَآذَنْته
فَخَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ وَأَبُو جَهْمٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا مُعَاوِيَةُ
فَرَجُلٌ تَرِبٌ لَا مَالَ لَهُ وَأَمّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرّابٌ
لِلنّسَاءِ وَلَكِنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا :
أُسَامَةُ أُسَامَةُ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ طَاعَةُ اللّهِ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ خَيْرٌ لَكِ فَتَزَوّجْته
فَاغْتَبَطْتُ . وَفِي " صَحِيحِهِ " أَيْضًا عَنْهَا قَالَتْ أَرْسَلَ
إلَيّ زَوْجِي أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَيّاشَ بْنَ
أَبِي رَبِيعَةَ بِطَلَاقِي فَأَرْسَلَ مَعَهُ بِخَمْسَةِ آصُعِ تَمْرٍ
وَخَمْسَةِ آصُعِ شَعِيرٍ فَقُلْتُ أَمَا لِي نَفَقَةٌ إلّا هَذَا ؟ وَلَا
أَعْتَدّ فِي مَنْزِلِكُمْ ؟ قَالَ لَا فَشَدَدْتُ عَلَيّ ثِيَابِي
وَأَتَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ كَمْ
طَلّقَكِ ؟ " قُلْتُ ثَلَاثًا . قَالَ " صَدَقَ لَيْسَ لَكِ نَفَقَةٌ
اعْتَدّي فِي بَيْتِ ابْنِ عَمّك ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ فَإِنّهُ ضَرِيرُ
الْبَصَرِ تَضَعِينَ ثَوْبَكِ عِنْدَهُ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدّتُكِ
فَآذِنِينِي [ ص 469 ] النّسَائِيّ فِي " سُنَنِهِ " هَذَا الْحَدِيثَ
بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ وَفِي بَعْضِهَا بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ لَا
مَطْعَنَ فِيهِ فَقَالَ لَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
إنّمَا النّفَقَةُ وَالسّكْنَى لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَ لِزَوْجِهَا
عَلَيْهَا الرّجْعَةُ وَرَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ وَقَالَ فَأَتَتْ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ قَالَتْ
فَلَمْ يَجْعَلْ لِي سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً وَقَالَ إنّمَا السّكْنَى
وَالنّفَقَةُ لِمَنْ يَمْلِكُ الرّجْعَةَ وَرَوَى النّسَائِيّ أَيْضًا
هَذَا اللّفْظَ وَإِسْنَادُهُمَا صَحِيحٌ .
ذِكْرُ مُوَافَقَةِ هَذَا الْحُكْمِ لِكِتَابِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ
قَالَ
اللّهُ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ
فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ وَأَحْصُوا الْعِدّةَ وَاتّقُوا اللّهَ
رَبّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَنْ
يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلّ
اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ
فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشّهَادَةَ لِلّهِ } إلَى قَوْلِهِ {
قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْرًا } [ الطّلَاقِ 1 - 3 ] فَأَمَرَ
اللّهُ سُبْحَانَهُ الْأَزْوَاجَ الّذِينَ لَهُمْ عِنْدَ بُلُوغِ
الْأَجَلِ الْإِمْسَاكُ وَالتّسْرِيحُ بِأَنْ لَا يُخْرِجُوا
أَزْوَاجَهُمْ مِنْ بُيُوتِهِمْ وَأَمَرَ أَزْوَاجَهُنّ أَنْ لَا
يَخْرُجْنَ فَدَلّ عَلَى جَوَازِ إخْرَاجِ مَنْ لَيْسَ لِزَوْجِهَا
إمْسَاكُهَا بَعْدَ الطّلَاقِ فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ لِهَؤُلَاءِ
الْمُطَلّقَاتِ أَحْكَامًا مُتَلَازِمَةً لَا يَنْفَكّ بَعْضُهَا عَنْ
بَعْضٍ . أَحَدُهَا : أَنّ الْأَزْوَاجَ لَا يُخْرِجُوهُنّ مِنْ
بُيُوتِهِنّ . وَالثّانِي : أَنّهُنّ لَا يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِ
أَزْوَاجِهِنّ . وَالثّالِثُ أَنّ لِأَزْوَاجِهِنّ إمْسَاكَهُنّ
بِالْمَعْرُوفِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ وَتَرْكَ الْإِمْسَاكِ
فَيُسَرّحُوهُنّ بِإِحْسَانٍ . [ ص 470 ] ذَوَيْ عَدْلٍ وَهُوَ إشْهَادٌ
عَلَى الرّجْعَةِ إمّا وُجُوبًا وَإِمّا اسْتِحْبَابًا وَأَشَارَ
سُبْحَانَهُ إلَى حِكْمَةِ ذَلِكَ وَأَنّهُ فِي الرّجْعِيّاتِ خَاصّةً
بِقَوْلِهِ { لَا تَدْرِي لَعَلّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا }
وَالْأَمْرُ الّذِي يُرْجَى إحْدَاثُهُ هَاهُنَا : هُوَ الْمُرَاجَعَةُ .
هَكَذَا قَالَ السّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ :
حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ دَاوُدَ الْأَوْدِيّ عَنْ الشّعْبِيّ :
{ لَا تَدْرِي لَعَلّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } قَالَ
لَعَلّك تَنْدَمُ فَيَكُونَ لَك سَبِيلٌ إلَى الرّجْعَةِ وَقَالَ
الضّحّاكُ { لَعَلّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } قَالَ
لَعَلّهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْعِدّةِ وَقَالَهُ عَطَاءٌ وَقَتَادَةُ
وَالْحَسَنُ وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : أَيّ
أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثّلَاثِ ؟ فَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الطّلَاقَ
الْمَذْكُورَ هُوَ الرّجْعِيّ الّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَحْكَامُ
وَأَنّ حِكْمَةَ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمِ الرّاحِمِينَ
اقْتَضَتْهُ لَعَلّ الزّوْجَ أَنْ يَنْدَمَ وَيَزُولَ الشّرّ الّذِي
نَزَغَهُ الشّيْطَانُ بَيْنَهُمَا فَتَتْبَعَهَا نَفْسُهُ فَيُرَاجِعَهَا
كَمَا قَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَوْ أَنّ
النّاسَ أَخَذُوا بِأَمْرِ اللّهِ فِي الطّلَاقِ مَا تَتَبّعَ رَجُلٌ
نَفْسُهُ امْرَأَةً يُطَلّقُهَا أَبَدًا ثُمّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ
الْأَمْرَ بِإِسْكَانِ هَؤُلَاءِ الْمُطَلّقَاتِ فَقَالَ أَسْكِنُوهُنّ
مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ [ الطّلَاقِ 6 ] فَالضّمَائِرُ
كُلّهَا يَتّحِدُ مُفَسّرُهَا وَأَحْكَامُهَا كُلّهَا مُتَلَازِمَةٌ
وَكَانَ قَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا
النّفَقَةُ وَالسّكْنَى لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا
رَجْعَةٌ مُشْتَقّا مِنْ كِتَابِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَمُفَسّرًا لَهُ
وَبَيَانًا لِمُرَادِ الْمُتَكَلّمِ بِهِ مِنْهُ فَقَدْ تَبَيّنَ اتّحَادُ
قَضَاءِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكِتَابِ اللّهِ
عَزّ وَجَلّ وَالْمِيزَانُ الْعَادِلُ مَعَهُمَا أَيْضًا لَا
يُخَالِفُهُمَا فَإِنّ النّفَقَةَ إنّمَا تَكُونُ لِلزّوْجَةِ فَإِذَا
بَانَتْ مِنْهُ صَارَتْ أَجْنَبِيّةً حُكْمُهَا حُكْمُ سَائِرِ
الْأَجْنَبِيّاتِ وَلَمْ يَبْقَ إلّا مُجَرّدُ اعْتِدَادِهَا مِنْهُ
وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ لَهَا نَفَقَةً كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةِ أَوْ
زِنَى وَلِأَنّ النّفَقَةَ إنّمَا تَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ التّمَكّنِ مِنْ
الِاسْتِمْتَاعِ وَهَذَا لَا يُمْكِنُ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا بَعْدَ
بَيْنُونَتِهَا وَلِأَنّ النّفَقَةَ لَوْ وَجَبَتْ لَهَا عَلَيْهِ
لِأَجْلِ عِدّتِهَا لَوَجَبَتْ لِلْمُتَوَفّى عَنْهَا مِنْ مَالِهِ وَلَا
فَرْقَ بَيْنَهُمَا الْبَتّةَ فَإِنّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ بَانَتْ
عَنْهُ وَهِيَ مُعْتَدّةٌ مِنْهُ قَدْ تَعَذّرَ مِنْهُمَا الِاسْتِمْتَاعُ
وَلِأَنّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَهَا السّكْنَى لَوَجَبَتْ لَهَا النّفَقَةُ
كَمَا [ ص 471 ] فَأَمّا أَنْ تَجِبَ لَهَا السّكْنَى دُونَ النّفَقَةِ
فَالنّصّ وَالْقِيَاسُ يَدْفَعُهُ وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عَبّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَفَاطِمَةَ بِنْتِ
قَيْسٍ إحْدَى فُقَهَاءِ نِسَاءِ الصّحَابَةِ وَكَانَتْ فَاطِمَةُ
تُنَاظِرُ عَلَيْهِ وَبِهِ يَقُولُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابُهُ
وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَصْحَابُهُ وَدَاوُدُ بْنُ عَلِيّ
وَأَصْحَابُهُ وَسَائِرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَلِلْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَهِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ
أَحْمَدَ أَحَدُهَا : هَذَا . وَالثّانِي : أَنّ لَهَا النّفَقَةَ
وَالسّكْنَى وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ وَابْنِ مَسْعُودٍ
وَفُقَهَاءِ الْكُوفَةِ . وَالثّالِثُ أَنّ لَهَا السّكْنَى دُونَ
النّفَقَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ
وَالشّافِعِيّ .
ذِكْرُ الْمَطَاعِنِ الّتِي طُعِنَ بِهَا عَلَى حَدِيثِ فَاطِمَة بِنْتِ قَيْسٍ قَدِيمًا وَحَدِيثًا
فَأَوّلُهَا
طَعْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " : عَنْ أَبِي إسْحَاقَ قَالَ
كُنْت مَعَ الْأُسُودِ بْنِ يَزِيدَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ
وَمَعَنَا الشّعْبِيّ فَحَدّثَ الشّعْبِيّ بِحَدِيثِ فَاطِمَة بِنْتِ
قَيْسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَجْعَلْ
لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً ثُمّ أَخَذَ الْأَسْوَدُ كَفّا مِنْ حَصَى
فَحَصَبَهُ بِهِ فَقَالَ وَيْلَكَ تُحَدّثُ بِمِثْلِ هَذَا ؟ قَالَ عُمَرُ
لَا نَتْرُكُ كِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ نَبِيّنَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي لَعَلّهَا حَفِظَتْ أَوْ
نَسِيَتْ ؟ لَهَا السّكْنَى وَالنّفَقَةُ قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { لَا
تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ } قَالُوا : فَهَذَا عُمَرُ يُخْبِرُ أَنّ سُنّةَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ لَهَا النّفَقَةَ
وَالسّكْنَى وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذَا مَرْفُوعٌ فَإِنّ الصّحَابِيّ إذَا
قَالَ مِنْ السّنّةِ كَذَا كَانَ مَرْفُوعًا فَكَيْفَ إذَا قَالَ مِنْ
سُنّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ فَكَيْفَ إذَا
كَانَ الْقَائِلُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ؟ وَإِذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَةُ
عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَرِوَايَةُ فَاطِمَة فَرِوَايَةُ عُمَرَ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَوْلَى لَا سِيّمَا وَمَعَهَا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ
كَمَا سَنَذْكُرُ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدّثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ - 472 حَدّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ كَانَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ إذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ حَدِيثُ فَاطِمَة بِنْتِ
قَيْسٍ قَالَ مَا كُنّا نُغَيّرُ فِي دِينِنَا بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ
ذِكْرُ طَعْنِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فِي خَبَرِ فَاطِمَة بِنْتِ قَيْسٍ
فِي
" الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ تَزَوّجَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِنْتَ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ فَطَلّقَهَا فَأَخْرَجَهَا مِنْ عِنْدِهِ
فَعَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُرْوَةُ فَقَالُوا : إنّ فَاطِمَة قَدْ
خَرَجَتْ قَالَ عُرْوَةُ فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا
فَأَخْبَرَتْهَا بِذَلِكَ فَقَالَتْ مَا لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ خَيْرٌ
أَنْ تَذْكُرَ هَذَا الْحَدِيثَ . وَقَالَ الْبُخَارِيّ : فَانْتَقَلَهَا
عَبْدُ الرّحْمَنِ فَأَرْسَلَتْ عَائِشَةُ إلَى مَرْوَانَ وَهُوَ أَمِيرُ
الْمَدِينَةِ اتّقِ اللّهَ وَارْدُدْهَا إلَى بَيْتِهَا . قَالَ مَرْوَانُ
إنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ غَلَبَنِي وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ
مُحَمّدٍ : أَوَ مَا بَلَغَك شَأْنُ فَاطِمَة بِنْتِ قَيْسٍ ؟ قَالَتْ لَا
يَضُرّك أَلّا تَذْكُرَ حَدِيثَ فَاطِمَة فَقَالَ مَرْوَانُ إنْ كَانَ بِك
شَرّ فَحَسْبُك مَا بَيْنَ هَذَيْنِ مِنْ الشّرّ . وَمَعْنَى كَلَامِهِ
إنْ كَانَ خُرُوجُ فَاطِمَة لِمَا يُقَالُ مِنْ شَرّ كَانَ فِي لِسَانِهَا
فَيَكْفِيك مَا بَيْنَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَبَيْنَ
امْرَأَتِهِ مِنْ الشّرّ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ عُرْوَةَ
أَنّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : أَلَمْ تَرَيْ إلَى
فُلَانَةَ بِنْتِ الْحَكَمِ طَلّقَهَا زَوْجُهَا الْبَتّةَ فَخَرَجَتْ
فَقَالَتْ بِئْسَ مَا صَنَعَتْ فَقُلْتُ أَلَمْ تَسْمَعِي إلَى قَوْلِ
فَاطِمَة فَقَالَتْ أَمَا إنّهُ لَا خَيْرَ لَهَا فِي ذِكْرِ ذَلِكَ .
وَفِي حَدِيثِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا يَعْنِي :
فِي قَوْلِهَا : لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ . وَفِي " صَحِيحِ
الْبُخَارِيّ " : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ -
473 لِفَاطِمَةَ أَلَا نَتّقِي اللّهَ تَعْنِي فِي قَوْلِهَا لَا سُكْنَى
لَهَا وَلَا نَفَقَةَ وَفِي " صَحِيحِهِ " أَيْضًا : عَنْهَا قَالَتْ إنّ
فَاطِمَة كَانَتْ فِي مَكَانٍ وَحْشٍ فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا
فَلِذَلِكَ أَرْخَصَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا .
وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ : عَنْ ابْنِ جُرَيْحٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ
شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنْكَرَتْ
ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَة بِنْتِ قَيْسٍ تَعْنِي : " انْتِقَالَ
الْمُطَلّقَةِ ثَلَاثًا " . وَذَكَرَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ حَدّثَنَا
نَصْرُ بْنُ عَلِيّ حَدّثَنِي أَبِي عَنْ هَارُونَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ
إسْحَاقَ قَالَ أَحْسِبُهُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ أَنّ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : إنّمَا
أَخْرَجَكِ هَذَا اللّسَانُ
ذِكْرُ طَعْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حِبّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَابْنِ حِبّهِ عَلَى حَدِيثِ فَاطِمَة
رَوَى
عَبْدُ اللّهِ بْنُ صَالِحٍ كَاتِبُ اللّيْثِ قَالَ حَدّثَنِي اللّيْثُ
بْنُ سَعْدٍ حَدّثَنِي جَعْفَرٌ عَنْ ابْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ
بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ كَانَ مُحَمّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
يَقُولُ كَانَ أُسَامَةُ إذَا ذَكَرَتْ فَاطِمَة شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
يَعْنِي انْتِقَالَهَا فِي عِدّتِهَا رَمَاهَا بِمَا فِي يَدِهِ
ذِكْرُ طَعْنِ مَرْوَانَ عَلَى حَدِيثِ فَاطِمَة
رَوَى
مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " : مِنْ حَدِيثِ الزّهْرِيّ عَنْ عُبَيْدِ
اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ حَدِيثَ فَاطِمَة هَذَا : أَنّهُ
حَدّثَ بِهِ مَرْوَانَ فَقَالَ مَرْوَانُ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا إلّا مِنْ
امْرَأَةٍ سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الّتِي وَجَدْنَا النّاسَ عَلَيْهَا .
[ ص 474 ]
ذِكْرُ طَعْنِ سَعِيدِ بْن الْمُسَيّبِ
رَوَى أَبُو
دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " : مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ
قَدِمْت الْمَدِينَةَ فَدُفِعْتُ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ فَقُلْتُ
فَاطِمَة بِنْتُ قَيْسٍ طَلُقَتْ فَخَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا فَقَالَ
سَعِيدٌ تِلْكَ امْرَأَةٌ فَتَنَتْ النّاسَ إنّهَا كَانَتْ امْرَأَةً
لَسِنَةً فَوُضِعَتْ عَلَى يَدَيْ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى
ذِكْرُ طَعْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَيّارٍ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " أَيْضًا قَالَ فِي خُرُوجِ فَاطِمَة : إنّمَا كَانَ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ
ذِكْرُ طَعْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ
تَقَدّمَ
حَدِيثُ مُسْلِمٍ أَنّ الشّعْبِيّ حَدّثَ بِحَدِيثِ فَاطِمَة فَأَخَذَ
الْأَسْوَدُ كَفّا مِنْ حَصْبَاءَ فَحَصَبَهُ بِهِ وَقَالَ وَيْلَك
تُحَدّثُ بِمِثْلِ هَذَا ؟ وَقَالَ النّسَائِيّ : وَيْلَك لِمَ تُفْتِي
بِمِثْلِ هَذَا ؟ قَالَ عُمَرُ لَهَا : إنْ جِئْتِ بِشَاهِدَيْنِ
يَشْهَدَانِ أَنّهُمَا سَمِعَاهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِلّا لَمْ نَتْرُكْ كِتَابَ رَبّنَا لِقَوْلِ
امْرَأَةٍ .
ذِكْرُ طَعْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ
قَالَ
اللّيْثُ حَدّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو
سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ فَذَكَرَ حَدِيثَ فَاطِمَة ثُمّ قَالَ
فَأَنْكَرَ النّاسُ عَلَيْهَا مَا كَانَتْ تُحَدّثُ مِنْ خُرُوجِهَا
قَبْلَ أَنْ تَحِلّ قَالُوا : وَقَدْ عَارَضَ رِوَايَةَ فَاطِمَة صَرِيحُ
رِوَايَةِ عُمَرَ فِي إيجَابِ النّفَقَةِ وَالسّكْنَى فَرَوَى حَمّادُ
بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حَمّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنّهُ أَخْبَرَ
إبْرَاهِيمَ النّخَعِيّ بِحَدِيثِ الشّعْبِيّ عَنْ فَاطِمَة بِنْتِ قَيْسٍ
فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ إنّ [ ص 475 ] أُخْبِرَ بِقَوْلِهَا فَقَالَ
لَسْنَا بِتَارِكِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللّهِ وَقَوْلِ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَعَلّهَا أُوهِمَتْ
سَمِعْتُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَهَا
السّكْنَى وَالنّفَقَةُ ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمّدٍ فِي " الْمُحَلّى "
فَهَذَا نَصّ صَرِيحٌ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى حَدِيثِ فَاطِمَة
لِجَلَالَةِ رُوَاتِهِ وَتَرْكِ إنْكَارِ الصّحَابَةِ عَلَيْهِ
وَمُوَافَقَتِهِ لِكِتَابِ اللّهِ .
ذِكْرُ الْأَجْوِبَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَطَاعِنِ وَبَيَانُ بُطْلَانِهَا
وَحَاصِلُهَا
أَرْبَعَةٌ . أَحَدُهَا : أَنّ رَاوِيَتَهَا امْرَأَةٌ لَمْ تَأْتِ
بِشَاهِدَيْنِ يُتَابِعَانِهَا عَلَى حَدِيثِهَا . الثّانِي : أَنّ
رِوَايَتَهَا تَضَمّنَتْ مُخَالَفَةَ الْقُرْآنِ . الثّالِثُ أَنّ
خُرُوجَهَا مِنْ الْمَنْزِلِ لَمْ يَكُنْ لِأَنّهُ لَا حَقّ لَهَا فِي
السّكْنَى بَلْ لِأَذَاهَا أَهْلَ زَوْجِهَا بِلِسَانِهَا . الرّابِعُ
مُعَارَضَةُ رِوَايَتِهَا بِرِوَايَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطّابِ . وَنَحْنُ نُبَيّنُ مَا فِي كُلّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ
الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ بِحَوْلِ اللّهِ وَقُوّتِهِ هَذَا مَعَ أَنّ فِي
بَعْضِهَا مِنْ الِانْقِطَاعِ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ الضّعْفِ وَفِي
بَعْضِهَا مِنْ الْبُطْلَانِ مَا سَنُنَبّهُ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا صَحِيحٌ
عَمّنْ نُسِبَ إلَيْهِ بِلَا شَكّ .
[رَدّ الْمَطْعَنِ الْأَوّلِ وَهُوَ كَوْنُ الرّاوِي امْرَأَةً ]
فَأَمّا
الْمَطْعَنُ الْأَوّلُ وَهُوَ كَوْنُ الرّاوِي امْرَأَةً فَمَطْعَنٌ
بَاطِلٌ بِلَا شَكّ وَالْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى خِلَافِهِ
وَالْمُحْتَجّ بِهَذَا مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمّةِ أَوّلُ مُبْطِلٍ لَهُ
وَمُخَالِفٍ لَهُ فَإِنّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي أَنّ السّنَنَ
تُؤْخَذُ عَنْ الْمَرْأَةِ كَمَا تُؤْخَذُ عَنْ الرّجُلِ هَذَا وَكَمْ
مِنْ سُنّةٍ تَلَقّاهَا الْأَئِمّةُ بِالْقَبُولِ عَنْ امْرَأَةٍ
وَاحِدَةٍ مِنْ الصّحَابَةِ وَهَذِهِ مَسَانِيدُ نِسَاءِ الصّحَابَةِ
بِأَيْدِي النّاسِ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَى فِيهَا سُنّةً تَفَرّدَتْ بِهَا
امْرَأَةٌ مِنْهُنّ إلّا رَأَيْتهَا فَمَا ذَنْبُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْس
ٍ دُونَ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَقَدْ أَخَذَ النّاسُ بِحَدِيثِ
فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ أُخْتِ [ ص 476 ] أَبِي سَعِيدٍ
فِي اعْتِدَادِ الْمُتَوَفّى عَنْهَا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَلَيْسَتْ
فَاطِمَةُ بِدُونِهَا عِلْمًا وَجَلَالَةً وَثِقَةً وَأَمَانَةً بَلْ هِيَ
أَفْقَهُ مِنْهَا بِلَا شَكّ فَإِنّ فُرَيْعَةَ لَا تُعْرَفُ إلّا فِي
هَذَا الْخَبَرِ وَأَمّا شُهْرَةُ فَاطِمَةَ وَدُعَاؤُهَا مَنْ نَازَعَهَا
مِنْ الصّحَابَةِ إلَى كِتَابِ اللّهِ وَمُنَاظَرَتُهَا عَلَى ذَلِكَ
فَأَمْرٌ مَشْهُورٌ وَكَانَتْ أَسْعَدَ بِهَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ مِمّنْ
خَالَفَهَا كَمَا مَضَى تَقْرِيرُهُ وَقَدْ كَانَ الصّحَابَةُ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الشّيْءِ فَتَرْوِي لَهُمْ إحْدَى
أُمّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
شَيْئًا فَيَأْخُذُونَ بِهِ وَيَرْجِعُونَ إلَيْهِ وَيَتْرُكُونَ مَا
عِنْدَهُمْ لَهُ وَإِنّمَا فُضّلْنَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ
بِكَوْنِهِنّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَإِلّا فَهِيَ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ وَقَدْ رَضِيَهَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِحِبّهِ وَابْنِ حِبّهِ أُسَامَةَ
بْنِ زَيْدٍ وَكَانَ الّذِي خَطَبَهَا لَهُ . وَإِذَا شِئْتَ أَنْ
تَعْرِفَ مِقْدَارَ حِفْظِهَا وَعِلْمِهَا فَاعْرِفْهُ مِنْ حَدِيثِ
الدّجّالِ الطّوِيلِ الّذِي حَدّثَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَوَعَتْهُ فَاطِمَةُ وَحَفِظَتْهُ
وَأَدّتْهُ كَمَا سَمِعَتْهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مَعَ
طُولِهِ وَغَرَابَتِهِ فَكَيْفَ بِقِصّةِ جَرَتْ لَهَا وَهِيَ سَبَبُهَا
وَخَاصَمَتْ فِيهَا وَحُكِمَ فِيهَا بِكَلِمَتَيْنِ وَهِيَ لَا نَفَقَةَ
وَلَا سُكْنَى وَالْعَادَةُ تُوجِبُ حِفْظَ مِثْلِ هَذَا وَذِكْرَهُ
وَاحْتِمَالُ النّسْيَانِ فِيهِ أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهَا فَهَذَا عُمَرُ قَدْ نَسِيَ تَيَمّمَ الْجُنُبِ
وَذَكّرَهُ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ أَمْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُمَا بِالتّيَمّمِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَلَمْ
يَذْكُرْهُ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَأَقَامَ عَلَى أَنّ الْجُنُبَ
لَا يُصَلّي حَتّى يَجِدَ الْمَاءَ . [ ص 477 ] وَنَسِيَ قَوْلَهُ
تَعَالَى : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ
وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } [
النّسَاءِ 20 ] حَتّى ذَكّرَتْهُ بِهِ امْرَأَةٌ فَرَجَعَ إلَى قَوْلِهَا
. وَنَسِيَ قَوْلَهُ { إِنّكَ مَيّتٌ وَإِنّهُمْ مَيّتُونَ } [ الزّمَرِ
30 ] حَتّى ذُكّرَ بِهِ فَإِنْ كَانَ جَوَازُ النّسْيَانِ عَلَى الرّاوِي
يُوجِبُ سُقُوطَ رِوَايَتِهِ سَقَطَتْ رِوَايَةُ عُمَرَ الّتِي
عَارَضْتُمْ بِهَا خَبَرَ فَاطِمَةَ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ
رِوَايَتِهِ بَطَلَتْ الْمُعَارَضَةُ بِذَلِكَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ عَلَى
التّقْدِيرَيْنِ وَلَوْ رُدّتْ السّنَنُ بِمِثْلِ هَذَا لَمْ يَبْقَ
بِأَيْدِي الْأُمّةِ مِنْهَا إلّا الْيَسِيرُ ثُمّ كَيْفَ يُعَارِضُ
خَبَرَ فَاطِمَةَ وَيَطْعَنُ فِيهِ بِمِثْلِ هَذَا مَنْ يَرَى قَبُولَ
خَبَرِ الْوَاحِد الْعَدْلِ وَلَا يَشْتَرِطُ لِلرّوَايَةِ نِصَابًا
وَعُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَصَابَهُ فِي مِثْلِ هَذَا مَا أَصَابَهُ
فِي رَدّ خَبَرِ أَبِي مُوسَى فِي الِاسْتِئْذَانِ حَتّى شَهِدَ لَهُ
أَبُو سَعِيدٍ وَرَدّ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي إمْلَاصِ
الْمَرْأَةِ حَتّى شَهِدَ لَهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَهَذَا كَانَ
تَثْبِيتًا مِنْهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حَتّى لَا يَرْكَبَ النّاسُ
الصّعْبَ وَالذّلُولَ فِي الرّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِلّا فَقَدَ قَبِلَ خَبَرَ الضّحّاكِ بْنِ سُفْيَانَ
الْكُلّابِيّ وَحْدَهُ وَهُوَ أَعْرَابِيّ وَقَبِلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا عِدّةَ أَخْبَارٍ تَفَرّدَتْ بِهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا
يَقُولُ أَحَدٌ : إنّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الرّاوِي الثّقَةِ الْعَدْلِ
حَتّى يَشْهَدَ لَهُ شَاهِدَانِ لَا سِيّمَا إنْ كَانَ مِنْ الصّحَابَةِ .
فَصْلٌ [ رَدّ الْقَوْلِ بِأَنّ رِوَايَةَ فَاطِمَةَ مُخَالِفَةٌ لِلْقُرْآنِ ]
وَأَمّا
الْمَطْعَنُ الثّانِي : وَهُوَ أَنّ رِوَايَتَهَا مُخَالِفَةٌ لِلْقُرْآنِ
فَنُجِيبُ بِجَوَابَيْنِ مُجْمَلٍ وَمُفَصّلٍ أَمّا الْمُجْمَلُ فَنَقُولُ
لَوْ كَانَتْ مُخَالِفَةً كَمَا ذَكَرْتُمْ لَكَانَتْ [ ص 478 ] {
يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } [ النّسَاءِ 11 ] بِالْكَافِرِ
وَالرّقِيقِ وَالْقَاتِلِ وَتَخْصِيصِ قَوْلِهِ { وَأُحِلّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النّسَاءِ 24 ] بِتَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ
الْمَرْأَةِ وَعَمّتِهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا وَنَظَائِرِهِ
فَإِنّ الْقُرْآنَ لَمْ يَخُصّ الْبَائِنَ بِأَنّهَا لَا تَخْرُجُ وَلَا
تُخْرَجُ وَبِأَنّهَا تَسْكُنُ مِنْ حَيْثُ يَسْكُنُ زَوْجُهَا بَلْ إمّا
أَنْ يَعُمّهَا وَيَعُمّ الرّجْعِيّةَ وَإِمّا أَنْ يَخُصّ الرّجْعِيّةَ .
فَإِنْ عَمّ النّوْعَيْنِ فَالْحَدِيثُ مُخَصّصٌ لِعُمُومِهِ وَإِنْ خَصّ
الرّجْعِيّاتِ وَهُوَ الصّوَابُ لِلسّيَاقِ الّذِي مَنْ تَدَبّرَهُ
وَتَأَمّلَهُ قَطَعَ بِأَنّهُ فِي الرّجْعِيّاتِ مِنْ عِدّةِ أَوْجُهٍ
قَدْ أَشَرْنَا إلَيْهَا فَالْحَدِيثُ لَيْسَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللّهِ
بَلْ مُوَافِقٌ لَهُ وَلَوْ ذُكّرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ بِذَلِكَ لَكَانَ أَوّلَ رَاجِعٍ إلَيْهِ فَإِنّ الرّجُلَ كَمَا
يَذْهَلُ عَنْ النّصّ يَذْهَلُ عَنْ دِلَالَتِهِ وَسِيَاقِهِ وَمَا
يَقْتَرِنُ بِهِ مِمّا يَتَبَيّنُ الْمُرَادُ مِنْهُ وَكَثِيرًا مَا
يَذْهَلُ عَنْ دُخُولِ الْوَاقِعَةِ الْمُعَيّنَةِ تَحْتَ النّصّ الْعَامّ
وَانْدِرَاجِهِ تَحْتَهَا فَهَذَا كَثِيرٌ جِدّا وَالتّفَطّنُ لَهُ مِنْ
الْفَهْمِ الّذِي يُؤْتِيهِ اللّهُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَقَدْ
كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ
بِالْمَنْزِلَةِ الّتِي لَا تَجْهَلُ وَلَا تَسْتَغْرِقُهَا عِبَارَةٌ
غَيْرَ أَنّ النّسْيَانَ وَالذّهُولَ عُرْضَةٌ لِلْإِنْسَانِ وَإِنّمَا
الْفَاضِلُ الْعَالِمُ مَنْ إذَا ذُكّرَ ذَكَرَ وَرَجَعَ . فَحَدِيثُ
فَاطِمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا مَعَ كِتَابِ اللّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَطْبَاقٍ لَا يَخْرُجُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهَا إمّا أَنْ يَكُونَ
تَخْصِيصًا لِعَامّهِ . الثّانِي : أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَا لَمْ
يَتَنَاوَلْهُ بَلْ سَكَتَ عَنْهُ . الثّالِثُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا
لِمَا أُرِيدَ بِهِ وَمُوَافِقًا لِمَا أَرْشَدَ إلَيْهِ سِيَاقُهُ
وَتَعْلِيلُهُ وَتَنْبِيهُهُ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ فَهُوَ إذَنْ
مُوَافِقٌ لَهُ لَا مُخَالِفٌ وَهَكَذَا يَنْبَغِي قَطْعًا وَمَعَاذَ
اللّهِ أَنْ يَحْكُمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِمَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللّهِ تَعَالَى أَوْ يُعَارِضُهُ وَقَدْ
أَنْكَرَ ا لْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ هَذَا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَجَعَلَ يَتَبَسّمُ وَيَقُولُ أَيْنَ فِي كِتَابِ
اللّهِ إيجَابُ السّكْنَى وَالنّفَقَةِ لِلْمُطَلّقَةِ ثَلَاثًا
وَأَنْكَرَتْهُ قَبْلَهُ الْفَقِيهَةُ الْفَاضِلَةُ فَاطِمَةُ وَقَالَتْ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللّهِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { لَا
تَدْرِي لَعَلّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } [ الطّلَاقِ 1 ]
وَأَيّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ [ ص 479 ] { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ
فَأَمْسِكُوهُنّ } [ الطّلَاقِ 2 ] يَشْهَدُ بِأَنّ الْآيَاتِ كُلّهَا فِي
الرّجْعِيّاتِ .
فَصْلٌ [ رَدّ مَطْعَنِ أَنّ خُرُوجَهَا كَانَ لِفُحْشِ لِسَانِهَا ]
وَأَمّا
الْمَطْعَنُ الثّالِثُ وَهُوَ أَنّ خُرُوجَهَا لَمْ يَكُنْ إلّا لِفُحْشِ
مِنْ لِسَانِهَا فَمَا أَبْرَدَهُ مِنْ تَأْوِيلٍ وَأَسْمَجَهُ فَإِنّ
الْمَرْأَةَ مِنْ خِيَارِ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ
وَفُضَلَائِهِمْ وَمِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ وَمِمّنْ لَا
يَحْمِلُهَا رِقّةُ الدّينِ وَقِلّةُ التّقْوَى عَلَى فُحْشٍ يُوجِبُ
إخْرَاجَهَا مِنْ دَارِهَا وَأَنْ يَمْنَعَ حَقّهَا الّذِي جَعَلَهُ
اللّهُ لَهَا وَنَهَى عَنْ إضَاعَتِهِ فَيَا عَجَبًا كَيْفَ لَمْ يُنْكِرْ
عَلَيْهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا الْفُحْشَ ؟
وَيَقُولُ لَهَا : اتّقِي اللّهَ وَكُفّي لِسَانَك عَنْ أَذَى أَهْلِ
زَوْجِك وَاسْتَقِرّي فِي مَسْكَنِكِ ؟ وَكَيْفَ يَعْدِلُ عَنْ هَذَا إلَى
قَوْلِهِ لَا نَفَقَةَ لَك وَلَا سُكْنَى إلَى قَوْلِهِ إنّمَا السّكْنَى
وَالنّفَقَةُ لِلْمَرْأَةِ إذَا كَانَ لِزَوْجِهَا عَلَيْهَا رَجْعَةٌ
فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُتْرَكُ هَذَا الْمَانِعُ الصّرِيحُ الّذِي خَرَجَ
مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُعَلّلُ
بِأَمْرِ مَوْهُومٍ لَمْ يُعَلّلْ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَتّةَ وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ وَلَا نَبّهَ عَلَيْهِ
؟ هَذَا مِنْ الْمُحَالِ الْبَيّنِ . ثُمّ لَوْ كَانَتْ فَاحِشَةَ
اللّسَانِ وَقَدْ أَعَاذَهَا اللّهُ مِنْ ذَلِكَ لَقَالَ لَهَا النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ كُفّي لِسَانَك
حَتّى تَنْقَضِيَ عِدّتُك وَكَانَ مَنْ دُونَهَا يَسْمَعُ وَيُطِيعُ
لِئَلّا تَخْرُجَ مِنْ سَكَنِهِ .
فَصْلٌ [ رَدّ مَطْعَنِ مُعَارَضَةِ رِوَايَتِهَا بِرِوَايَةِ عُمَرَ ]
وَأَمّا
الْمَطْعَنُ الرّابِعُ وَهُوَ مُعَارَضَةُ رِوَايَتِهَا بِرِوَايَةِ
عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَهَذِهِ الْمُعَارَضَةُ تُورَدُ مِنْ
وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبّنَا وَسُنّةَ
نَبِيّنَا وَأَنّ هَذَا مِنْ حُكْمِ الْمَرْفُوعِ . الثّانِي : قَوْلُهُ
سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَهَا
السّكْنَى وَالنّفَقَةُ وَنَحْنُ نَقُولُ قَدْ أَعَاذَ اللّهُ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الّذِي لَا يَصِحّ
عَنْهُ أَبَدًا . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : لَا يَصِحّ ذَلِكَ عَنْ
عُمَرَ . وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الدّارَقُطْنِيّ : [ ص 480 ] فَاطِمَةَ
بِنْتَ قَيْسٍ قَطْعًا وَمَنْ لَهُ إلْمَامٌ بِسُنّةِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَشْهَدُ شَهَادَةَ اللّهِ أَنّهُ لَمْ
يَكُنْ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ سُنّةٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ لِلْمُطَلّقَةِ ثَلَاثًا السّكْنَى
وَالنّفَقَةَ وَعُمَرُ كَانَ أَتْقَى لِلّهِ وَأَحْرَصَ عَلَى تَبْلِيغِ
سُنَنِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَكُونَ
هَذِهِ السّنّةُ عِنْدَهُ ثُمّ لَا يَرْوِيهَا أَصْلًا وَلَا يُبَيّنُهَا
وَلَا يُبَلّغُهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَأَمّا حَدِيثُ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ حَمّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ سَمِعْتُ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَهَا السّكْنَى
وَالنّفَقَةُ فَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاَللّهِ شَهَادَةً نُسْأَلُ عَنْهَا
إذَا لَقِينَاهُ أَنّ هَذَا كَذِبٌ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
وَكَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْمِلَ الْإِنْسَانَ فَرْطُ الِانْتِصَارِ
لِلْمَذَاهِبِ وَالتّعَصّبِ لَهَا عَلَى مُعَارَضَة سُنَنِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّحِيحَةِ الصّرِيحَةِ بِالْكَذِبِ
الْبَحْتِ فَلَوْ يَكُونُ هَذَا عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَخَرِسَتْ فَاطِمَةُ وَذَوُوهَا
وَلَمْ يَنْبِسُوا بِكَلِمَةِ وَلَا دَعَتْ فَاطِمَةُ إلَى الْمُنَاظَرَةِ
وَلَا اُحْتِيجَ إلَى ذِكْرِ إخْرَاجِهَا لِبَذَاءِ لِسَانِهَا وَلَمَا
فَاتَ هَذَا الْحَدِيثُ أَئِمّةَ الْحَدِيثِ وَالْمُصَنّفِينَ فِي
السّنَنِ وَالْأَحْكَامِ الْمُنْتَصِرِينَ لِلسّنَنِ فَقَطْ لَا
لِمَذْهَبِ وَلَا لِرَجُلِ هَذَا قَبْلَ أَنْ نَصِلَ بِهِ إلَى
إبْرَاهِيمَ وَلَوْ قُدّرَ وُصُولُنَا بِالْحَدِيثِ إلَى إبْرَاهِيمَ لَا
نَقْطَعُ نُخَاعَهُ فَإِنّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يُولَدْ إلّا بَعْدَ مَوْتِ
عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِسِنِينَ فَإِنْ كَانَ مُخْبِرٌ أَخْبَرَ
بِهِ إبْرَاهِيمَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَحَسّنَا بِهِ الظّنّ
كَانَ قَدْ رَوَى لَهُ قَوْلَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِالْمَعْنَى
وَظَنّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ الّذِي
حَكَمَ بِثُبُوتِ النّفَقَةِ وَالسّكْنَى لِلْمُطَلّقَةِ حَتّى قَالَ
عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبّنَا لِقَوْلِ
امْرَأَةٍ فَقَدْ يَكُونُ الرّجُلُ صَالِحًا وَيَكُونُ مُغَفّلًا لَيْسَ
تَحَمّلُ الْحَدِيثِ وَحِفْظُهُ وَرِوَايَتُهُ مِنْ شَأْنِهِ وَبِاَللّهِ
التّوْفِيقُ .
[ مُنَاظَرَةُ مَيْمُونٍ لِابْنِ الْمُسَيّبِ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ ]
[ ذَكَرَ الْمُصَنّفُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ ]
وَقَدْ
تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَسَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيّبِ فَذَكَرَ لَهُ مَيْمُونٌ خَبَرَ فَاطِمَةَ فَقَالَ
سَعِيدٌ تِلْكَ امْرَأَةٌ فَتَنَتْ النّاسَ فَقَالَ لَهُ مَيْمُونٌ لَئِنْ
كَانَتْ إنّمَا أَخَذَتْ بِمَا أَفْتَاهَا بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا فَتَنَتْ النّاسَ وَإِنّ لَنَا فِي [ ص 481
] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُسْوَةً حَسَنَةً مَعَ أَنّهَا
أَحْرَمُ النّاسِ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ رَجْعَةٌ وَلَا
بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ . انْتَهَى . وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ
الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمْ اللّهُ إلّا وَقَدْ احْتَجّ بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ
بِنْتِ قَيْسٍ هَذَا وَأَخَذَ بِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَمَالِكِ
وَالشّافِعِيّ . وَجُمْهُورُ الْأُمّةِ يَحْتَجّونَ بِهِ فِي سُقُوطِ
نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ إذَا كَانَتْ حَائِلًا وَالشّافِعِيّ نَفْسُهُ
احْتَجّ بِهِ عَلَى جَوَازِ جَمْعِ الثّلَاثِ لِأَنّ فِي بَعْضِ
أَلْفَاظِهِ فَطَلّقَنِي ثَلَاثًا وَقَدْ بَيّنّا أَنّهُ إنّمَا طَلّقَهَا
آخِرَ ثَلَاثٍ كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَنْ نَفْسِهَا . وَاحْتَجّ بِهِ
مَنْ يَرَى جَوَازَ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الرّجَالِ وَاحْتَجّ بِهِ
الْأَئِمّةُ كُلّهُمْ عَلَى جَوَازِ خِطْبَةِ الرّجُلِ عَلَى خِطْبَةِ
أَخِيهِ إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ قَدْ سَكَنَتْ إلَى الْخَاطِبِ
الْأَوّلِ وَاحْتَجّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ بَيَانِ مَا فِي الرّجُلِ إذَا
كَانَ عَلَى وَجْهِ النّصِيحَةِ لِمَنْ اسْتَشَارَهُ أَنْ يُزَوّجَهُ أَوْ
يُعَامِلَهُ أَوْ يُسَافِرَ مَعَهُ وَأَنّ ذَلِكَ لَيْسَ بِغِيبَةِ
وَاحْتَجّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْقُرَشِيّةِ مِنْ غَيْرِ
الْقُرَشِيّ وَاحْتَجّوا بِهِ عَلَى وُقُوعِ الطّلَاقِ فِي حَالِ غَيْبَةِ
أَحَدِ الزّوْجَيْنِ عَنْ الْآخَرِ وَأَنّهُ لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ
وَمُوَاجَهَتُهُ بِهِ وَاحْتَجّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ التّعْرِيضِ
بِخِطْبَةِ الْمُعْتَدّةِ الْبَائِنِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ
كُلّهَا حَاصِلَةً بِبَرَكَةِ رِوَايَتِهَا وَصِدْقِ حَدِيثِهَا
فَاسْتَنْبَطَتْهَا الْأُمّةُ مِنْهَا وَعَمِلَتْ بِهَا فَمَا بَالُ
رِوَايَتِهَا تُرَدّ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْحَدِيثِ
وَتُقْبَلُ فِيمَا عَدَاهُ ؟ فَإِنْ كَانَتْ حَفِظَتْهُ قُبِلَتْ فِي
جَمِيعِهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَفِظَتْهُ وَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ فِي
شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
[ مَعْنَى أَسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ]
فَإِنْ
قِيلَ بَقِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ
{ أَسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } [ الطّلَاقِ 6
] إنّمَا هُوَ فِي الْبَوَائِنِ لَا فِي الرّجْعِيّاتِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ
عَقِيبَهُ { وَلَا تُضَارّوهُنّ لِتُضَيّقُوا عَلَيْهِنّ وَإِنْ كُنّ
أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } [
الطّلَاقِ 6 ] فَهَذَا فِي الْبَائِنِ إذْ لَوْ كَانَتْ رَجْعِيّةً لَمَا
قَيّدَ النّفَقَةَ عَلَيْهَا بِالْحَمْلِ وَلَكَانَ عَدِيمَ التّأْثِيرِ
فَإِنّهَا تَسْتَحِقّهَا حَائِلًا كَانَتْ أَوْ حَامِلًا وَالظّاهِرُ أَنّ
الضّمِيرَ فِي { أَسْكِنُوهُنّ } هُوَ وَالضّمِيرُ فِي قَوْلِهِ { وَإِنْ
كُنّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنّ } وَاحِدٌ . فَالْجَوَابُ
أَنّ مَوْرِدَ هَذَا السّؤَالِ إمّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُوجِبِينَ
النّفَقَةَ [ ص 482 ] دُونَ النّفَقَةِ فَإِنْ كَانَ الْأَوّلَ فَالْآيَةُ
عَلَى زَعْمِهِ حُجّةٌ عَلَيْهِ لِأَنّهُ سُبْحَانَهُ شَرَطَ فِي إيجَابِ
النّفَقَةِ عَلَيْهِنّ كَوْنَهُنّ حَوَامِلَ وَالْحُكْمُ الْمُعَلّقُ
عَلَى الشّرْطِ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَائِهِ فَدَلّ عَلَى أَنّ
الْبَائِنَ الْحَائِلَ لَا نَفَقَةَ لَهَا . فَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ
دَلَالَةٌ عَلَى الْمَفْهُومِ وَلَا يَقُولُ بِهَا . قِيلَ لَيْسَ ذَلِكَ
مِنْ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ بَلْ مِنْ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ
انْتِفَاءِ شَرْطِهِ فَلَوْ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ انْتِفَائِهِ لَمْ
يَكُنْ شَرْطًا وَإِنْ كَانَ فَمَنْ يُوجِبُ السّكْنَى وَحْدَهَا .
فَيُقَالُ لَهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ضَمِيرٌ وَاحِدٌ يَخُصّ الْبَائِنَ
بَلْ ضَمَائِرُهَا نَوْعَانِ نَوْعٌ يَخُصّ الرّجْعِيّةَ قَطْعًا
كَقَوْلِهِ { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ بِمَعْرُوفِ
أَوْ فَارِقُوهُنّ بِمَعْرُوف } [ الطّلَاقِ 2 ] وَنَوْعُ يُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ لِلْبَائِنِ وَأَنْ يَكُونَ لِلرّجْعِيّةِ وَأَنْ يَكُونَ لَهُمَا
وَهُوَ قَوْلُهُ { لَا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ وَلَا يَخْرُجْنَ }
وَقَوْلُهُ { أَسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } [
الطّلَاقِ 6 ] فَحَمْلُهُ عَلَى الرّجْعِيّةِ هُوَ الْمُتَعَيّنُ
لِتَتّحِدَ الضّمَائِرُ وَمُفَسّرُهَا فَلَوْ حُمِلَ عَلَى غَيْرِهَا
لَزِمَ اخْتِلَافُ الضّمَائِرِ وَمُفَسّرِهَا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ
وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَصْلِ أَوْلَى . فَإِنْ قِيلَ فَمَا الْفَائِدَةُ
فِي تَخْصِيصِ نَفَقَةِ الرّجْعِيّةِ بِكَوْنِهَا حَامِلًا ؟ قِيلَ لَيْسَ
فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي أَنّهُ لَا نَفَقَةَ لِلرّجْعِيّةِ الْحَائِلِ
بَلْ الرّجْعِيّةُ نَوْعَانِ قَدْ بَيّنَ اللّهُ حُكْمَهُمَا فِي
كِتَابِهِ حَائِلٌ فَلَهَا النّفَقَةُ بِعَقْدِ الزّوْجِيّةِ إذْ
حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَزْوَاجِ أَوْ حَامِلٌ فَلَهَا النّفَقَةُ بِهَذِهِ
الْآيَةِ إلَى أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا فَتَصِيرُ النّفَقَةُ بَعْدَ
الْوَضْعِ نَفَقَةَ قَرِيبٍ لَا نَفَقَةَ زَوْجٍ فَيُخَالِفُ حَالُهَا
قَبْلَ الْوَضْعِ حَالَهَا بَعْدَهُ فَإِنّ الزّوْجَ يُنْفِقُ عَلَيْهَا
وَحْدَهُ إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَإِذَا وَضَعَتْ صَارَتْ نَفَقَتُهَا
عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الطّفْلِ وَلَا يَكُونُ حَالُهَا فِي
حَالِ حَمْلِهَا كَذَلِكَ بِحَيْثُ تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَى مَنْ تَجِبُ
عَلَيْهِ نَفَقَةُ الطّفْلِ فَإِنّهُ فِي حَالِ حَمْلِهَا جُزْءٌ مِنْ
أَجْزَائِهَا فَإِذَا انْفَصَلَ كَانَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ وَانْتَقَلَتْ
النّفَقَةُ مِنْ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ فَظَهَرَتْ فَائِدَةُ التّقْيِيدِ
وَسِرّ الِاشْتِرَاطِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ مِنْ كَلَامِهِ .
فَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَفْهُومِ وَلَا يَقُولُ بِهَا
. قِيلَ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ بَلْ مِنْ انْتِفَاءِ
الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ فَلَوْ بَقِيَ الْحُكْمُ بَعْدَ
انْتِفَائِهِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا وَإِنْ كَانَ فَمَنْ يُوجِبُ السّكْنَى
وَحْدَهَا فَيُقَالُ لَهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ ضَمِيرٌ وَاحِدٌ يَخُصّ
الْبَائِنَ بَلْ ضَمَائِرُهَا نَوْعَانِ نَوْعٌ يَخُصّ الرّجْعِيّةَ
قَطْعًا كَقَوْلِهِ { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنّ فَأَمْسِكُوهُنّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنّ بِمَعْرُوفٍ } [ الطّلَاقِ 2 ] وَنَوْعُ
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِنِ وَأَنْ يَكُونَ لِلرّجْعِيّةِ وَأَنْ
يَكُونَ لَهُمَا وَهُوَ قَوْلُهُ { لَا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ
وَلَا يَخْرُجْنَ } وَقَوْلُهُ { أَسْكِنُوهُنّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ
مِنْ وُجْدِكُمْ } [ الطّلَاقِ 6 ] فَحَمْلُهُ عَلَى الرّجْعِيّةِ هُوَ
الْمُتَعَيّنُ لِتَتّحِدَ الضّمَائِرُ وَمُفَسّرُهَا فَلَوْ حُمِلَ عَلَى
غَيْرِهَا لَزِمَ اخْتِلَافُ الضّمَائِرِ وَمُفَسّرِهَا وَهُوَ خِلَافُ
الْأَصْلِ وَالْحَمْلُ عَلَى الْأَصْلِ أَوْلَى . فَإِنْ قِيلَ فَمَا
الْفَائِدَةُ فِي تَخْصِيصِ نَفَقَةِ الرّجْعِيّةِ بِكَوْنِهَا حَامِلًا ؟
قِيلَ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَقْتَضِي أَنّهُ لَا نَفَقَةَ
لِلرّجْعِيّةِ الْحَائِلِ بَلْ الرّجْعِيّةُ نَوْعَانِ قَدْ بَيّنَ اللّهُ
حُكْمَهُمَا فِي كِتَابِهِ حَائِلٌ فَلَهَا النّفَقَةُ بِعَقْدِ
الزّوْجِيّةِ إذْ حُكْمُهَا حُكْمُ الْأَزْوَاجِ أَوْ حَامِلٌ فَلَهَا
النّفَقَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إلَى أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا فَتَصِيرُ
النّفَقَةُ بَعْدَ الْوَضْعِ نَفَقَةَ قَرِيبٍ لَا نَفَقَةَ زَوْجٍ
فَيُخَالِفُ حَالُهَا قَبْلَ الْوَضْعِ حَالَهَا بَعْدَهُ فَإِنّ الزّوْجَ
يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَحْدَهُ إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَإِذَا وَضَعَتْ
صَارَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الطّفْلِ وَلَا
يَكُونُ حَالُهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا كَذَلِكَ بِحَيْثُ تَجِبُ
نَفَقَتُهَا عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الطّفْلِ فَإِنّهُ فِي
حَالِ حَمْلِهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا فَإِذَا انْفَصَلَ كَانَ لَهُ
حُكْمٌ آخَرُ وَانْتَقَلَتْ النّفَقَةُ مِنْ حُكْمٍ إلَى حُكْمٍ
فَظَهَرَتْ فَائِدَةُ التّقْيِيدِ وَسِرّ الِاشْتِرَاطِ وَاَللّهُ
أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ مِنْ كَلَامِهِ .
ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْمُوَافِقِ لِكِتَابِ اللّهِ تَعَالَى مِنْ وُجُوبِ النّفَقَةِ لِلْأَقَارِبِ
[
ص 483 ] أَبُو دَاوُد َ فِي سُنَنِهِ عَنْ كُلَيْبِ بْنِ مَنْفَعَةَ عَنْ
جَدّهِ أَنّهُ أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا
رَسُولَ اللّهِ مَنْ أَبَرّ ؟ قَالَ أُمّك وَأَبَاك وَأُخْتُك وَأَخَاك
وَمَوْلَاك الّذِي يَلِي ذَاكَ حَقّ وَاجِبٌ وَرَحِمٌ مَوْصُولَةٌ وَرَوَى
النّسَائِيّ عَنْ طَارِقٍ الْمُحَارِبِي قَالَ قَدِمْت الْمَدِينَةَ
فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَائِمٌ عَلَى
الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النّاسَ وَهُوَ يَقُول يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا ،
وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ : أُمّك وَأَبَاك ، وَأُخْتَك وَأَخَاك ، ثُمّ
أَدْنَاك فَأَدْنَاك وَفِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ أَحَقّ النّاسِ
بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ أُمّك ، قَالَ ثُمّ مَنْ ؟ قَالَ أُمّك ،
قَالَ ثُمّ مَنْ ؟ قَالَ أُمّك قَالَ ثُمّ مَنْ ؟ قَالَ أَبُوك ثُمّ
أَدْنَاك أَدْنَاك . وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِيّ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ أَبَرّ ؟
قَالَ أُمّك ، قُلْت ثُمّ مَنْ ؟ قَالَ أُمّك ، قُلْت : ثُمّ مَنْ ؟ قَالَ
أُمّك قُلْت : ثُمّ مَنْ ؟ قَالَ أَبَاك ثُمّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ .
[ ص 484 ] وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِهِنْد
ٍ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ . وَفِي " سُنَنِ أَبِي
دَاوُدَ " مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ
عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّ أَطْيَبَ
مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ وَإِنّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ
فَكُلُوهُ هَنِيئًا . وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا . وَرَوَى النّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدّقْ عَلَيْهَا فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ
فَلِأَهْلِك فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِك
فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِك فَهَكَذَا وَهَكَذَا . وَهَذَا كُلّهُ
تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى } [
النّسَاءِ 36 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقّهُ } [
الْإِسْرَاءِ : 26 ] فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ حَقّ ذِي الْقُرْبَى يَلِي حَقّ
الْوَالِدَيْنِ كَمَا جَعَلَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
سَوَاءً بِسَوَاءِ وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّ لِذِي الْقُرْبَى حَقّا
عَلَى قَرَابَتِهِ وَأَمَرَ بِإِتْيَانِهِ إيّاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
ذَلِكَ حَقّ النّفَقَةِ فَلَا نَدْرِي أَيّ حَقّ هُوَ . وَأَمَرَ تَعَالَى
بِالْإِحْسَانِ إلَى ذِي الْقُرْبَى . وَمِنْ أَعْظَمِ الْإِسَاءَةِ أَنْ
يَرَاهُ يَمُوتُ جُوعًا وَعُرْيًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى سَدّ خُلّتِهِ
وَسَتْرِ عَوْرَتِهِ وَلَا يُطْعِمُهُ لُقْمَةً وَلَا يَسْتُرُ لَهُ
عَوْرَةً إلّا بِأَنْ يُقْرِضَهُ ذَلِكَ فِي ذِمّتِهِ وَهَذَا الْحُكْمُ
مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُطَابِقٌ لِكِتَابِ اللّهِ
تَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ الرّضَاعَةَ وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلّفُ
نَفْسٌ إِلّا وُسْعَهَا لَا تُضَارّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا
مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } [
الْبَقَرَةِ 233 ] فَأَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى [ ص 485 ] أَوْجَبَ
عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وَبِمِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ حَكَمَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . فَرَوَى
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
حَبَسَ عَصَبَةَ صَبِيّ عَلَى أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِ الرّجَالَ دُونَ
النّسَاءِ وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ : حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ
أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ أَنّ ابْنَ الْمُسَيّبِ أَخْبَرَهُ
أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَقَفَ بَنِي عَمّ
عَلَى مَنْفُوسٍ كَلَالَةً بِالنّفَقَةِ عَلَيْهِ مِثْلَ الْعَاقِلَةِ
فَقَالُوا : لَا مَالَ لَهُ فَقَالَ وَلَوْ وُقُوفُهُمْ بِالنّفَقَةِ
عَلَيْهِ كَهَيْئَةِ الْعَقْل قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيّ : قَوْلُهُ وَلَوْ
أَيْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ
أَبِي خَالِدٍ الْأَحْمَر ِ عَنْ حَجّاجٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيّبِ قَالَ جَاءَ وَلِيّ يَتِيمٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَنْفِقْ عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ لَوْ لَمْ
أَجِدْ إلّا أَقْضِي عَشِيرَتَهُ لَفَرَضْتُ عَلَيْهِمْ وَحَكَمَ بِمِثْلِ
ذَلِكَ أَيْضًا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ . قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ :
حَدّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ حَسَنٍ عَنْ مُطَرّفٍ
عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ إذَا
كَانَ أُمّ وَعَمّ فَعَلَى الْأُمّ بِقَدْرِ مِيرَاثِهَا وَعَلَى الْعَمّ
بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ وَلَا يُعْرَفُ لِعُمَرِ وَزَيْدٍ مُخَالِفٌ فِي
الصّحَابَةِ الْبَتّةَ . وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءٍ : {
وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } [ الْبَقَرَةِ [ ص 486 ] قَالَ عَلَى
وَرَثَةِ الْيَتِيمِ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِ كَمَا يَرِثُونَهُ . قُلْت
لَهُ أَيُحْبَسُ وَارِثُ الْمَوْلُودِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلُودِ
مَالٌ ؟ قَالَ أَفَيَدَعُهُ يَمُوتُ ؟ وَقَالَ الْحَسَنُ : { وَعَلَى
الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } قَالَ عَلَى الرّجُلِ الّذِي يَرِثُ أَنْ
يُنْفِقَ عَلَيْهِ حَتّى يَسْتَغْنِيَ . وَبِهَذَا فَسّرَ الْآيَةَ
جُمْهُورُ السّلَفِ مِنْهُمْ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالضّحّاكُ وَزَيْدُ
بْنُ أَسْلَم َ وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ وَعَبْدُ
اللّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ النّخَعِيّ
وَالشّعْبِيّ وَأَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ بَعْدِهِمْ سُفْيَانُ
الثّوْرِيّ وَعَبْدُ الرّزّاقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَمِنْ
بَعْدِهِمْ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُدُ وَأَصْحَابُهُمْ .
[ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي النّفَقَةِ لِلْأَقَارِبِ ]
وَقَدْ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى عِدّةِ
أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا : أَنّهُ لَا يُجْبَرُ أَحَدٌ عَلَى نَفَقَةِ
أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِهِ وَإِنّمَا ذَلِكَ بِرّ وَصِلَةٌ وَهَذَا مَذْهَبٌ
يُعَزّى إلَى الشّعْبِيّ . قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ الْكَشّيّ
حَدّثَنَا قَبِيصَةُ عَنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عَنْ أَشْعَث عَنْ
الشّعْبِيّ قَالَ مَا رَ أَيْت أَحَدًا أَجْبَرَ أَحَدًا عَلَى أَحَدٍ
يَعْنِي عَلَى نَفَقَتِهِ . وَفِي إثْبَاتِ هَذَا الْمَذْهَبِ بِهَذَا
الْكَلَامِ نَظَرٌ وَالشّعْبِيّ أَفْقَهُ مِنْ هَذَا وَالظّاهِرُ أَنّهُ
أَرَادَ أَنّ النّاسَ كَانُوا أَتْقَى لِلّهِ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ
الْغَنِيّ أَنْ يُجْبِرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى قَرِيبِهِ
الْمُحْتَاجِ فَكَانَ النّاسُ يَكْتَفُونَ بِإِيجَابِ الشّرْعِ عَنْ
إيجَابِ الْحَاكِمِ أَوْ إجْبَارِهِ . الْمَذْهَبُ الثّانِي : أَنّهُ
يَجِبُ عَلَيْهِ النّفَقَةُ عَلَى أَبِيهِ الْأَدْنَى وَأُمّهِ الّتِي
وَلَدَتْهُ خَاصّةً فَهَذَانِ الْأَبَوَانِ يُجْبَرُ الذّكَرُ
وَالْأُنْثَى مِنْ الْوَلَدِ عَلَى النّفَقَةِ عَلَيْهِمَا إذَا كَانَا
فَقِيرَيْنِ فَأَمّا نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ فَالرّجُلُ يُجْبَرُ عَلَى
نَفَقَةِ ابْنِهِ الْأَدْنَى حَتّى يَبْلُغَ فَقَطْ وَعَلَى نَفَقَةِ
بِنْتِهِ الدّنْيَا حَتّى تَزَوّجَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ ابْنِ
ابْنِهِ وَلَا بِنْتِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَا وَلَا تُجْبَرُ الْأُمّ
عَلَى نَفَقَةِ ابْنِهَا وَابْنَتِهَا وَلَوْ كَانَا فِي غَايَةِ
الْحَاجَةِ وَالْأُمّ فِي غَايَةِ الْغِنَى وَلَا تَجِبُ عَلَى أَحَدٍ
النّفَقَةُ عَلَى ابْنِ ابْنٍ وَلَا جَدّ وَلَا أَخٍ وَلَا أُخْتٍ وَلَا [
ص 487 ] خَالٍ وَلَا خَالَةٍ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الْأَقَارِبِ الْبَتّةَ
سِوَى مَا ذَكَرْنَا . وَتَجِبُ النّفَقَةُ مَعَ اتّحَادِ الدّينِ
وَاخْتِلَافِهِ حَيْثُ وَجَبَتْ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ أَضْيَقُ
الْمَذَاهِبِ فِي النّفَقَاتِ . الْمَذْهَبُ الثّالِثُ أَنّهُ تَجِبُ
نَفَقَةُ عَمُودِيّ النّسَبِ خَاصّةً دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ مَعَ اتّفَاقِ
الدّينِ وَيَسَارِ الْمُنْفِقِ وَقُدْرَتِهِ وَحَاجَةِ الْمُنْفَقِ
عَلَيْهِ وَعَجْزِهِ عَنْ الْكَسْبِ بِصِغَرِ أَوْ جُنُونٍ أَوْ زَمَانَةٍ
إنْ كَانَ مِنْ الْعَمُودِ الْأَسْفَلِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَمُودِ
الْأَعْلَى : فَهَلْ يُشْتَرَطُ عَجْزُهُمْ عَنْ الْكَسْبِ ؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ . وَمِنْهُمْ مَنْ طَرّدَ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا فِي
الْعَمُودِ الْأَسْفَلِ . فَإِذَا بَلَغَ الْوَلَدُ صَحِيحًا سَقَطَتْ
نَفَقَتُهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَهَذَا مَذْهَبُ الشّافِعِيّ
وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ . الْمَذْهَبُ الرّابِعُ أَنّ
النّفَقَةَ تَجِبُ عَلَى كُلّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لِذِي رَحِمِهِ فَإِنْ
كَانَ مِنْ الْأَوْلَادِ وَأَوْلَادِهِمْ أَوْ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ
وَجَبَتْ نَفَقَتُهُمْ مَعَ اتّحَادِ الدّينِ وَاخْتِلَافِهِ . وَإِنْ
كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ تَجِبْ إلّا مَعَ اتّحَادِ الدّينِ فَلَا
يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى ذِي رَحِمِهِ الْكَافِرِ
ثُمّ إنّمَا تَجِبُ النّفَقَةُ بِشَرْطِ قُدْرَةِ الْمُنْفِقِ وَحَاجَةِ
الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ . فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا اُعْتُبِرَ فَقْرُهُ فَقَطْ
وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ
ذَكَرًا فَلَا بُدّ مَعَ فَقْرِهِ مِنْ عَمَاهُ أَوْ زَمَانَتِهِ فَإِنْ
كَانَ صَحِيحًا بَصِيرًا لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ وَهِيَ مُرَتّبَةٌ
عِنْدَهُ عَلَى الْمِيرَاثِ إلّا فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ فَإِنّهَا عَلَى
أَبِيهِ خَاصّةً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ . وَرُوِيَ عَنْ
الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ اللّؤْلُؤِيّ أَنّهَا عَلَى أَبَوَيْهِ خَاصّةً
بِقَدْرِ مِيرَاثِهِمَا طَرْدًا لِلْقِيَاسِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْ مَذْهَبِ الشّافِعِيّ الْمَذْهَبُ
الْخَامِسُ أَنّ الْقَرِيبَ إنْ كَانَ مِنْ عَمُودِيّ النّسَبِ وَجَبَتْ
نَفَقَتُهُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ وَارِثًا أَوْ غَيْرَ وَارِثٍ وَهَلْ
يُشْتَرَطُ اتّحَادُ الدّينِ بَيْنَهُمْ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَعَنْهُ
رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنّهُ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ إلّا بِشَرْطِ أَنْ
يَرِثَهُمْ بِفَرْضِ أَوْ تَعْصِيبٍ كَسَائِرِ الْأَقَارِبِ . وَإِنْ
كَانَ مِنْ غَيْرِ عَمُودِيّ النّسَبِ وَجَبَتْ نَفَقَتُهُمْ بِشَرْطِ [ ص
488 ] يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ تَوَارُثٌ . ثُمّ هَلْ يُشْتَرَطُ
أَنْ يَكُونَ التّوَارُثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ
مِنْ أَحَدِهِمَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَهَلْ يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ
التّوَارُثِ فِي الْحَالِ أَوْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ فِي
الْجُمْلَةِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْأَقَارِبُ مِنْ ذَوِي
الْأَرْحَامِ الّذِينَ لَا يَرِثُونَ فَلَا نَفَقَةَ لَهُمْ عَلَى
الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَخَرّجَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وُجُوبَهَا عَلَيْهِمْ
مِنْ مَذْهَبِهِ مِنْ تَوَارُثِهِمْ وَلَا بُدّ عِنْدَهُ مِنْ اتّحَادِ
الدّينِ بَيْنَ الْمُنْفِقِ وَالْمُنْفَقِ عَلَيْهِ حَيْثُ وَجَبَتْ
النّفَقَةُ إلّا فِي عَمُودِيّ النّسَبِ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ .
فَإِنْ كَانَ الْمِيرَاثُ بِغَيْرِ الْقَرَابَةِ كَالْوَلَاءِ وَجَبَتْ
النّفَقَةُ بِهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ عَلَى الْوَارِثِ دُونَ
الْمَوْرُوثِ وَإِذَا لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ رَجُلٍ لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ
زَوْجَتِهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ . وَعَنْهُ لَا تَلْزَمُهُ . وَعَنْهُ
تَلْزَمُهُ فِي عَمُودِيّ النّسَبِ خَاصّةً دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ .
وَعَنْهُ تَلْزَمُهُ لِزَوْجَةِ الْأَبِ خَاصّةً وَيَلْزَمُهُ إعْفَافُ
عَمُودِيّ نَسَبِهِ بِتَزْوِيجِ أَوْ تَسَرّ إذَا طَلَبُوا ذَلِكَ . قَالَ
الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَكَذَلِكَ يَجِيءُ فِي كُلّ مَنْ لَزِمَتْهُ
نَفَقَتُهُ أَخ أَوْ عَمّ أَوْ غَيْرِهِمَا يَلْزَمُهُ إعْفَافُهُ لِأَنّ
أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ قَدْ نَصّ فِي الْعَبْدِ يَلْزَمُهُ أَنْ
يُزَوّجَهُ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ وَإِلّا بِيعَ عَلَيْهِ وَإِذَا لَزِمَهُ
إعْفَافُ رَجُلٍ لَزِمَهُ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ لِأَنّهُ لَا تَمَكّنَ مِنْ
الْإِعْفَافِ إلّا بِذَلِكَ وَهَذِهِ غَيْرُ الْمَسْأَلَةِ
الْمُتَقَدّمَةِ وَهُوَ وُجُوبُ الْإِنْفَاقِ عَلَى زَوْجَةِ الْمُنْفَقِ
عَلَيْهِ وَلِهَذِهِ مَأْخَذٌ وَلِتِلْكَ مَأْخَذٌ وَهَذَا مَذْهَبُ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَة وَإِنْ
كَانَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْسَعَ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ
يُوجِبُ النّفَقَةَ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ الصّحِيحُ فِي
الدّلِيلِ وَهُوَ الّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ أَحْمَدَ وَنُصُوصُهُ
وَقَوَاعِدُ الشّرْعِ وَصِلَةُ الرّحِمِ الّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ
تُوصَلَ وَحَرّمَ الْجَنّةَ عَلَى كُلّ قَاطِعِ رَحِمٍ فَالنّفَقَةُ
تُسْتَحَقّ بِشَيْئَيْنِ بِالْمِيرَاثِ بِكِتَابِ اللّهِ وَبِالرّحِمِ
بِسُنّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَقَدْ
تَقَدّمَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حَبَسَ
عَصَبَةَ صَبِيّ أَنْ يُنْفِقُوا عَلَيْهِ وَكَانُوا بَنِي عَمّهِ
وَتَقَدّمَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ إذَا كَانَ عَمّ وَأُمّ فَعَلَى
الْعَمّ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ وَعَلَى الْأُمّ بِقَدْرِ مِيرَاثِهَا
فَإِنّهُ لَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي [ ص 489 ] { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى
حَقّهُ } [ الْإِسْرَاءِ 26 ] وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى } [ النّسَاءِ 36 ] وَقَدْ أَوْجَبَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَطِيّةَ لِلْأَقَارِبِ
وَصَرّحَ بِأَنْسَابِهِمْ فَقَالَ وَأُخْتَكَ وَأَخَاك ثُمّ أَدْنَاكَ
فَأَدْنَاك حَقّ وَاجِبٌ وَرَحِمٌ مَوْصُولَةٌ . فَإِنْ قِيلَ
فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْبِرّ وَالصّلَةُ دُونَ الْوُجُوبِ . قِيلَ
يَرُدّ هَذَا أَنّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِهِ وَسَمّاهُ حَقّا وَأَضَافَهُ
إلَيْهِ بِقَوْلِهِ { حَقّهُ } وَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِأَنّهُ حَقّ وَأَنّهُ وَاجِبٌ وَبَعْضُ هَذَا يُنَادِي عَلَى
الْوُجُوبِ جِهَارًا . فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ بِحَقّهِ تَرْكُ
قَطِيعَتِهِ . فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يُقَالَ
فَأَيّ قَطِيعَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَرَاهُ يَتَلَظّى جَوْعًا وَعَطَشًا
وَيَتَأَذّى غَايَةَ الْأَذَى بِالْحَرّ وَالْبَرْدِ وَلَا يُطْعِمُهُ
لُقْمَةً وَلَا يَسْقِيهِ جَرْعَةً وَلَا يَكْسُوهُ مَا يَسْتُرُ
عَوْرَتَهُ وَيَقِيهِ الْحَرّ وَالْبَرْدَ وَيُسْكِنُهُ تَحْتَ سَقْفٍ
يُظِلّهُ هَذَا وَهُوَ أَخُوهُ ابْنُ أُمّهِ وَأَبِيهِ أَوْ عَمّهِ صِنْوِ
أَبِيهِ أَوْ خَالَتِهِ الّتِي هِيَ أُمّهُ إنّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ
ذَلِكَ مَا يَجِبُ بَذْلُهُ لِلْأَجْنَبِيّ الْبَعِيدِ بِأَنْ يُعَاوِضَهُ
عَلَى ذَلِكَ فِي الذّمّةِ إلَى أَنْ يُوسِرَ ثُمّ يَسْتَرْجِعُ بِهِ
عَلَيْهِ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْيَسَارِ وَالْجِدَةِ
وَسِعَةِ الْأَمْوَالِ . فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ قَطِيعَةً فَإِنّا لَا
نَدْرِي مَا هِيَ الْقَطِيعَةُ الْمُحَرّمَةُ وَالصّلَةُ الّتِي أَمَرَ
اللّهُ بِهَا وَحَرّمَ الْجَنّةَ عَلَى قَاطِعِهَا . الْوَجْهُ الثّانِي :
أَنْ يُقَالَ فَمَا هَذِهِ الصّلَةُ الْوَاجِبَةُ الّتِي نَادَتْ
عَلَيْهَا النّصُوصُ وَبَالَغَتْ فِي إيجَابِهَا وَذَمّتْ قَاطِعَهَا ؟
فَأَيّ قَدْرٍ زَائِدٍ فِيهَا عَلَى حَقّ الْأَجْنَبِيّ حَتّى تَعْقِلَهُ
الْقُلُوبُ وَتُخْبِرَ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَتَعْمَلَ بِهِ الْجَوَارِحُ ؟
أَهُوَ السّلَامُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ وَعِيَادَتُهُ إذَا مَرِضَ
وَتَشْمِيتُهُ إذَا عَطَسَ وَإِجَابَتُهُ إذَا [ ص 490 ] دَعَاهُ
وَإِنّكُمْ لَا تُوجِبُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إلّا مَا يَجِبُ نَظِيرُهُ
لِلْأَجْنَبِيّ عَلَى الْأَجْنَبِيّ ؟ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصّلَةُ
تَرْكَ ضَرْبِهِ وَسَبّهِ وَأَذَاهُ وَالْإِزْرَاءَ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ
فَهَذَا حَقّ يَجِبُ لِكُلّ مُسْلِمٍ عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ بَلْ لِلذّمّيّ
الْبَعِيدِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَمَا خُصُوصِيّةُ صِلَةِ الرّحِمِ
الْوَاجِبَةِ ؟ وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ فُضَلَاءِ الْمُتَأَخّرِينَ
يَقُولُ أَعْيَانِي أَنْ أَعْرِفَ صِلَةَ الرّحِمِ الْوَاجِبَةَ . وَلَمّا
أَوْرَدَ النّاسُ هَذَا عَلَى أَصْحَابِ مَالِكٍ وَقَالُوا لَهُمْ مَا
مَعْنَى صِلَةِ الرّحِمِ عِنْدَكُمْ ؟ صَنّفَ بَعْضُهُمْ فِي صِلَةِ
الرّحِمِ كِتَابًا كَبِيرًا وَأَوْعَبَ فِيهِ مِنْ الْآثَارِ
الْمَرْفُوعَةِ وَالْمَوْقُوفَةِ وَذَكَرَ جِنْسَ الصّلَةِ وَأَنْوَاعَهَا
وَأَقْسَامَهَا وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَتَخَلّصْ مِنْ هَذَا الْإِلْزَامِ
فَإِنّ الصّلَةَ مَعْرُوفَةٌ يَعْرِفُهَا الْخَاصّ وَالْعَامّ وَالْآثَارُ
فِيهَا أَشْهَرُ مِنْ الْعِلْمِ وَلَكِنْ مَا الصّلَةُ الّتِي تَخْتَصّ
بِهَا الرّحِمُ وَتَجِبُ لَهُ الرّحْمَةُ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهَا
الْأَجْنَبِيّ ؟ فَلَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تُعَيّنُوا وُجُوبَ شَيْءٍ إلّا
وَكَانَتْ النّفَقَةُ أَوْجَبَ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا
مُسْقِطًا لِوُجُوبِ النّفَقَةِ إلّا وَكَانَ مَا عَدَاهَا أَوْلَى
بِالسّقُوطِ مِنْهُ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ
قَرَنَ حَقّ الْأَخِ وَالْأُخْتِ بِالْأَبِ وَالْأُمّ فَقَالَ أُمّكَ
وَأَبَاك وَأُخْتَكَ وَأَخَاك ثُمّ أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ فَمَا الّذِي
نَسَخَ هَذَا وَمَا الّذِي جَعَلَ أَوّلَهُ لِلْوُجُوبِ وَآخِرَهُ
لِلِاسْتِحْبَابِ ؟ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَلَيْسَ مِنْ بِرّ
الْوَالِدَيْنِ أَنْ يَدَعَ الرّجُلُ أَبَاهُ يَكْنُسُ الْكُنُفَ
وَيُكَارِي عَلَى الْحُمُرِ وَيُوقِدُ فِي أَتّونِ الْحَمّامِ وَيَحْمِلُ
لِلنّاسِ عَلَى رَأْسِهِ مَا يَتَقَوّتُ بِأُجْرَتِهِ وَهُوَ فِي غَايَةِ
الْغِنَى وَالْيَسَارِ وَسِعَةِ ذَاتِ الْيَدِ وَلَيْسَ مِنْ بِرّ أُمّهِ
أَنْ يَدَعَهَا تَخْدُمُ النّاسَ وَتَغْسِلُ ثِيَابَهُمْ وَتُسْقِي لَهُمْ
الْمَاءَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَا يَصُونُهَا بِمَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهَا
وَيَقُولُ الْأَبَوَانِ مُكْتَسِبَانِ صَحِيحَانِ وَلَيْسَا بِزَمِنَيْنِ
وَلَا أَعْمَيَيْنِ فَيَا اللّهِ الْعَجَبُ أَيْنَ شَرْطُ اللّهِ
وَرَسُولِهِ فِي بِرّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الرّحِمِ أَنْ يَكُونَ
أَحَدُهُمْ زَمِنًا أَوْ أَعْمَى وَلَيْسَتْ صِلَةُ الرّحِمِ وَلَا بِرّ
الْوَالِدَيْنِ مَوْقُوفَةً عَلَى ذَلِكَ شَرْعًا وَلَا لُغَةً وَلَا
عُرْفًا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّضَاعَةِ وَمَا يَحْرُمُ بِهَا
وَمَا لَا يَحْرُمُ وَحُكْمِهِ فِي الْقَدْرِ الْمُحَرّمِ مِنْهَا
وَحُكْمِهِ فِي إرْضَاعِ الْكَبِيرِ هَلْ لَهُ تَأْثِيرٌ أَمْ لَا ؟
[
ص 491 ] ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْن " : مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّ
الرّضَاعَةَ تُحَرّمُ مَا تُحَرّمُ الْوِلَادَة . وَثَبَتَ فِيهِمَا :
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُرِيدَ عَلَى ابْنَةِ حَمْزَةَ فَقَالَ "
إنّهَا لَا تَحِلّ لِي إنّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرّضَاعَةِ وَيَحْرُمُ
مِنْ الرّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الرّحِمِ . وَثَبَتَ فِيهِمَا :
أَنّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : ائْذَنِي لِأَفْلَحَ
أَخِي أَبِي الْقُعَيْسِ فَإِنّهُ عَمّكِ " وَكَانَتْ امْرَأَتُهُ
أَرْضَعَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا . وَبِهَذَا أَجَابَ ابْنُ
عَبّاسٍ لَمّا سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَتَانِ أَرْضَعَتْ
إحْدَاهُمَا جَارِيَةً وَالْأُخْرَى غُلَامًا : أَيَحِلّ لِلْغُلَامِ أَنْ
يَتَزَوّجَ الْجَارِيَةَ ؟ قَالَ لَا اللّقَاحُ وَاحِدٌ . [ ص 492 ]
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا
عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تُحَرّمُ الْمَصّةُ
وَالْمَصّتَان . وَفِي رِوَايَةٍ لَا تُحَرّمُ الْإِمْلَاجَةُ والإملاجتان
. وَفِي لَفْظٍ لَهُ أَنّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ تُحَرّمُ
الرّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ ؟ قَالَ لَا . وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِهِ "
أَيْضًا : عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ فِيمَا
نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرّمْنَ ثُمّ
نُسِخْنَ بِخَمْسِ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُنّ فِيمَا يَقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ . وَثَبَتَ فِي
" الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ
الْمَجَاعَةِ . وَثَبَتَ فِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " : مِنْ حَدِيثِ
أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا يُحَرّمُ مِنْ الرّضَاعَةِ إلّا مَا فَتَقَ
الْأَمْعَاءَ فِي الثّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ " وَقَالَ
التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . [ ص 493 ] سُنَنِ الدّارَقُطْنِيّ "
بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ يَرْفَعُهُ لَا رِضَاعَ إلّا مَا
كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " : مِنْ حَدِيثِ
ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ لَا يُحَرّمُ مِنْ الرّضَاعِ إلّا مَا
أَنْبَتَ اللّحْمَ وَأَنْشَرَ الْعَظْمَ . وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ
مُسْلِمٍ " : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ جَاءَتْ
سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ
مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ وَهُوَ حَلِيفُهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ
عَنْهَا قَالَتْ جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أَرَى
فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ وَهُوَ حَلِيفُهُ
فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْضِعِيهِ فَقَالَتْ
وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ قَدْ عَلِمْتُ أَنّهُ كَبِير .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ أَنّ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا
قَالَتْ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : إنّهُ يَدْخُلُ عَلَيْك
الْغُلَامُ الْأَيْفَعُ الّذِي مَا أُحِبّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيّ فَقَالَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُسْوَةٌ ؟ إنّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ
قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيّ وَهُوَ رَجُلٌ
وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْضِعِيهِ حَتّى يَدْخُلَ عَلَيْك . [ ص
494 ] وَسَاقَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " سِيَاقَةً تَامّةً
مُطَوّلَةً فَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ
عَائِشَةَ وَأُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ أَبَا حُذَيْفَةَ
بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ كَانَ تَبَنّى سَالِمًا
وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدًا بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ
وَهُوَ مَوْلَى لِامْرَأَةِ مِنْ الْأَنْصَارِ كَمَا تَبَنّى رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدًا وَكَانَ مَنْ تَبَنّى
رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيّةِ دَعَاهُ النّاسُ إلَيْهِ وَوَرِثَ مِيرَاثَهُ
حَتّى أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ
هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَمَوَالِيكُمْ } [ الْأَحْزَابِ 5 ]
فَرُدّوا إلَى آبَائِهِمْ فَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ أَبٌ كَانَ مَوْلًى
وَأَخًا فِي الدّينِ فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو
الْقُرَشِيّ ثُمّ الْعَامِرِيّ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ
فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا كُنّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا وَكَانَ
يَأْوِي مَعِي وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ وَيَرَانِي
فُضُلًا وَقَدْ أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْت
فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ " أَرْضِعِيهِ " فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَكَانَ
بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنْ الرّضَاعَةِ فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَأْمُرُ بَنَاتِ إخْوَتِهَا وَبَنَاتِ
أَخَوَاتِهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهَا أَنْ يَرَاهَا وَيَدْخُلَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا خَمْسَ
رَضَعَاتٍ ثُمّ يَدْخُلَ عَلَيْهَا وَأَبَتْ ذَلِكَ أُمّ سَلَمَةَ
وَسَائِرُ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ
يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنّ أَحَدًا بِتِلْكَ الرّضَاعَةِ مِنْ النّاسِ حَتّى
يَرْضَعَ فِي الْمَهْدِ وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ وَاَللّهِ مَا نَدْرِي
لَعَلّهَا كَانَتْ رُخْصَةً مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِسَالِمِ دُونَ النّاسِ . فَتَضَمّنَتْ هَذِهِ السّنَنُ الثّابِتَةُ
أَحْكَامًا عَدِيدَةً بَعْضُهَا مُتّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمّةِ وَفِي
بَعْضِهَا نِزَاعٌ .
[ الرّضَاعَةُ تُحَرّمُ مَا تُحَرّمُ الْوِلَادَةُ ]
الْحُكْمُ
الْأَوّلُ قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الرّضَاعَةُ تُحَرّمُ
مَا تُحَرّمُ الْوِلَادَةُ وَهَذَا الْحُكْمُ مُتّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ
الْأُمّةِ حَتّى عِنْدَ مَنْ قَالَ إنّ الزّيَادَةَ عَلَى النّصّ نَسْخٌ
وَالْقُرْآنُ لَا [ ص 495 ] كَانَ زَائِدًا عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ
سَوَاءٌ سَمّاهُ نَسْخًا أَوْ لَمْ يُسَمّهِ كَمَا اُضْطُرّ إلَى
تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمّتِهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ
خَالَتِهَا مَعَ أَنّهُ زِيَادَةٌ عَلَى نَصّ الْقُرْآنِ وَذَكَرَهَا
هَذَا مَعَ حَدِيثِ أَبِي الْقُعَيْسِ فِي تَحْرِيمِ لَبَنِ الْفَحْلِ
عَلَى أَنّ الْمُرْضِعَةَ وَالزّوْجَ صَاحِبَ اللّبَنِ قَدْ صَارَا
أَبَوَيْنِ لِلطّفْلِ وَصَارَ الطّفْلُ وَلَدًا لَهُمَا فَانْتَشَرَتْ
الْحُرْمَةُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثّلَاثِ فَأَوْلَادُ الطّفْلِ
وَإِنْ نَزَلُوا أَوْلَادُ وَلَدِهِمَا وَأَوْلَادُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ
الْمُرْضِعَةِ وَالزّوْجِ مِنْ الْآخَرِ وَمِنْ غَيْرِهِ إخْوَتُهُ
وَأَخَوَاتُهُ مِنْ الْجِهَاتِ الثّلَاثِ . فَأَوْلَادُ أَحَدِهِمَا مِنْ
الْآخَرِ إخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ لِأَبِيهِ وَأُمّهِ وَأَوْلَادُ
الزّوْجِ مِنْ غَيْرِهَا إخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ مِنْ أَبِيهِ
وَأَوْلَادُ الْمُرْضِعَةِ مَنْ غَيْرِهِ إخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ
لِأُمّهِ وَصَارَ آبَاؤُهَا أَجْدَادَهُ وَجَدّاتِهِ وَصَارَ إخْوَةُ
الْمَرْأَةِ وَأَخَوَاتِهَا أَخْوَالَهُ وَخَالَاتِهِ وَإِخْوَةُ صَاحِبِ
اللّبَنِ وَأَخَوَاتِهِ أَعْمَامُهُ وَعَمّاتُهُ فَحُرْمَةُ الرّضَاعِ
تَنْتَشِرُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الثّلَاثِ فَقَطْ . وَلَا يَتَعَدّى
التّحْرِيمُ إلَى غَيْرِ الْمُرْتَضِعِ مِمّنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ
إخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ فَيُبَاحُ لِأَخِيهِ نِكَاحُ مَنْ أَرْضَعَتْ
أَخَاهُ وَبَنَاتِهَا وَأُمّهَاتِهَا وَيُبَاحُ لِأُخْتِهِ نِكَاحُ
صَاحِبِ اللّبَنِ وَأَبَاهُ وَبَنِيهِ وَكَذَلِكَ لَا يَنْتَشِرُ إلَى
مَنْ فَوْقَهُ مِنْ آبَائِهِ وَأُمّهَاتِهِ وَمَنْ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ
أَعْمَامِهِ وَعَمّاتِهِ وَأَخْوَالِهِ وَخَالَاتِهِ فَلِأَبِي
الْمُرْتَضِعِ مِنْ النّسَبِ وَأَجْدَادِهِ أَنْ يَنْكِحُوا أُمّ الطّفْلِ
مِنْ الرّضَاعِ وَأُمّهَاتِهَا وَأَخَوَاتِهَا وَبَنَاتِهَا وَأَنْ
يَنْكِحُوا أُمّهَاتِ صَاحِبِ اللّبَنِ وَأَخَوَاتِهِ وَبَنَاتِهِ إذْ
نَظِيرُ هَذَا مِنْ النّسَبِ حَلَالٌ فَلِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ أَنْ
يَتَزَوّجَ أُخْتَ أَخِيهِ مِنْ الْأُمّ وَلِلْأَخِ مِنْ الْأُمّ أَنْ
يَنْكِحَ أُخْتَ أَخِيهِ مِنْ الْأَبِ وَكَذَلِكَ يَنْكِحُ الرّجُلُ أُمّ
ابْنِهِ مِنْ النّسَبِ وَأُخْتَهَا وَأَمّا أُمّهَا وَبِنْتُهَا فَإِنّمَا
حَرُمَتَا بِالْمُصَاهَرَةِ .
[ هَلْ يَحْرُمُ نَظِيرُ الْمُصَاهَرَةِ بِالرّضَاعِ ]
وَهَلْ
يَحْرُمُ نَظِيرُ الْمُصَاهَرَةِ بِالرّضَاعِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمّ
امْرَأَتِهِ مِنْ الرّضَاعِ وَبِنْتُهَا مِنْ الرّضَاعَةِ وَامْرَأَةُ
ابْنِهِ مِنْ الرّضَاعَةِ أَوْ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
مِنْ الرّضَاعَةِ أَوْ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمّتِهَا وَبَيْنَهَا
وَبَيْنَ خَالَتِهَا مِنْ الرّضَاعَةِ ؟ فَحَرّمَهُ الْأَئِمّةُ [ ص 496 ]
وَقَالَ إنْ كَانَ قَدْ قَالَ أَحَدٌ بِعَدَمِ التّحْرِيمِ فَهُوَ أَقْوَى
. قَالَ الْمُحَرّمُونَ تَحْرِيمُ هَذَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَحْرُمُ مِنْ الرّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ
النّسَبِ فَأَجْرَى الرّضَاعَةَ مَجْرَى النّسَبِ وَشَبّهَهَا بِهِ
فَثَبَتَ تَنْزِيلُ وَلَدِ الرّضَاعَةِ وَأَبِي الرّضَاعَةِ مَنْزِلَةَ
وَلَدِ النّسَبِ وَأَبِيهِ فَمَا ثَبَتَ لِلنّسَبِ مِنْ التّحْرِيمِ
ثَبَتَ لِلرّضَاعَةِ فَإِذَا حَرُمَتْ امْرَأَةُ الْأَبِ وَالِابْنِ
وَأُمّ الْمَرْأَةِ وَابْنَتُهَا مِنْ النّسَبِ حَرُمْنَ بِالرّضَاعَةِ .
وَإِذَا حَرُمَ الْجَمْعُ بَيْنَ أُخْتَيْ النّسَبِ حَرُمَ بَيْنَ
أُخْتَيْ الرّضَاعَةِ هَذَا تَقْدِيرُ احْتِجَاجِهِمْ عَلَى التّحْرِيمِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اللّهُ سُبْحَانَهُ حَرّمَ سَبْعًا بِالنّسَبِ
وَسَبْعًا بِالصّهْرِ كَذَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ . قَالَ وَمَعْلُومٌ أَنّ
تَحْرِيمَ الرّضَاعَةِ لَا يُسَمّى صِهْرًا وَإِنّمَا يَحْرُمُ مِنْهُ مَا
يَحْرُمُ مِنْ النّسَبِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ
يَحْرُمُ مِنْ الرّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ وَفِي
رِوَايَةٍ مَا يَحْرُمُ مِنْ النّسَبِ وَلَمْ يَقُلْ وَمَا يَحْرُمُ
بِالْمُصَاهَرَةِ وَلَا ذَكَرَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ كَمَا
ذَكَرَ تَحْرِيمَ الصّهْرِ وَلَا ذَكَرَ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ فِي
الرّضَاعِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي النّسَبِ وَالصّهْرُ قَسِيمُ النّسَبِ
وَشَقِيقُهُ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الّذِي خَلَقَ مِنَ
الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } [ الْفُرْقَانِ : 54 ]
فَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ النّاسِ بِالنّسَبِ وَالصّهْرِ وَهُمَا سَبَبَا
التّحْرِيمِ وَالرّضَاعُ فَرْعٌ عَلَى النّسَبِ وَلَا تُعْقَلُ
الْمُصَاهَرَةُ إلّا بَيْنَ الْأَنْسَابِ وَاَللّهُ تَعَالَى إنّمَا
حَرّمَ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمّتِهَا
وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا لِئَلّا يُفْضِيَ إلَى قَطِيعَةِ
الرّحِمِ الْمُحَرّمَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنّ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرّضَاعِ
لَيْسَ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ مُحَرّمَةٌ فِي غَيْرِ النّكَاحِ وَلَا
تَرَتّبَ عَلَى مَا بَيْنَهُمَا مِنْ أُخُوّةِ الرّضَاعِ حُكْمٌ قَطّ
غَيْرُ تَحْرِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ
بِالْمِلْكِ وَلَا يَرِثُهُ وَلَا يَسْتَحِقّ النّفَقَةَ [ ص 497 ]
الْوَصِيّةِ وَالْوَقْفِ عَلَى أَقَارِبِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ وَلَا
يَحْرُمُ التّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُمّ وَوَلَدِهَا الصّغِيرِ مِنْ
الرّضَاعَةِ وَيَحْرُمُ مِنْ النّسَبِ وَالتّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا فِي
الْمِلْكِ كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي النّكَاحِ سَوَاءٌ وَلَوْ مَلَكَ
شَيْئًا مِنْ الْمُحَرّمَاتِ بِالرّضَاعِ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ
بِالْمِلْكِ وَإِذَا حُرّمَتْ عَلَى الرّجُلِ أُمّهُ وَبِنْتُهُ
وَأُخْتُهُ وَعَمّتُهُ وَخَالَتُهُ مِنْ الرّضَاعَةِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ
يَحْرُمَ عَلَيْهِ أُمّ امْرَأَتِهِ الّتِي أَرْضَعَتْ امْرَأَتَهُ
فَإِنّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَلَا مُصَاهَرَةَ وَلَا
رَضَاعَ وَالرّضَاعَةُ إذَا جُعِلَتْ كَالنّسَبِ فِي حُكْمٍ لَا يَلْزَمُ
أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُ فِي كُلّ حُكْمٍ بَلْ مَا افْتَرَقَا فِيهِ مِنْ
الْأَحْكَامِ أَضْعَافُ مَا اجْتَمَعَا فِيهِ مِنْهَا وَقَدْ ثَبَتَ
جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ اللّتَيْنِ بَيْنَهُمَا مُصَاهَرَةٌ مُحَرّمَةٌ
كَمَا جَمَعَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ امْرَأَةِ عَلِيّ
وَابْنَتِهِ مِنْ غَيْرِهَا . وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَحْرِيمٌ
يَمْنَعُ جَوَازَ نِكَاحِ أَحَدِهَا لِلْآخَرِ لَوْ كَانَ ذَكَرًا فَهَذَا
نَظِيرُ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الرّضَاعَةِ سَوَاءٌ لَأَنّ سَبَبَ تَحْرِيمِ
النّكَاحِ بَيْنَهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ
الْأَجْنَبِيّ مِنْهُمَا الّذِي لَا رِضَاعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا وَلَا
صِهْرَ وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ .
وَاحْتَجّ أَحْمَدُ بِأَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَعْفَرٍ جَمَعَ بَيْنَ
امْرَأَةِ عَلِيّ وَابْنَتِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ قَالَ
الْبُخَارِيّ : وَجَمَعَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيّ بَيْنَ
بِنْتَيْ عَمّ فِي لَيْلَةٍ وَجَمَعَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ بَيْنَ
امْرَأَةِ عَلِيّ وَابْنَتِهِ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ لَا بَأْسَ بِهِ
وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ مَرّةً ثُمّ قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ . وَكَرِهَهُ
جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لِلْقَطِيعَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ لِقَوْلِهِ
عَزّ وَجَلّ { وَأُحِلّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النّسَاءِ 24 ]
هَذَا كَلَامُ الْبُخَارِيّ .
[ ص 498 ] نِسَاءُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُنّ أُمّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ فِي التّحْرِيمِ وَالْحُرْمَةِ فَقَطْ لَا فِي الْمَحْرَمِيّةِ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَخْلُوَ بِهِنّ وَلَا يَنْظُرَ إلَيْهِنّ بَلْ قَدْ أَمَرَهُنّ اللّهُ بِالِاحْتِجَابِ عَمّنْ حُرِمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنّ مِنْ غَيْرِ أَقَارِبِهِنّ وَمَنْ بَيْنَهُنّ وَبَيْنَهُ رَضَاعٌ فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } [ الْأَحْزَابِ 53 ] ثُمّ هَذَا الْحُكْمُ لَا يَتَعَدّى إلَى أَقَارِبِهِنّ الْبَتّةَ فَلَيْسَ بَنَاتُهُنّ أَخَوَاتُ الْمُؤْمِنِينَ يَحْرُمْنَ عَلَى رِجَالِهِمْ وَلَا بَنُوهُنّ إخْوَةٌ لَهُمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِنّ بَنَاتُهُنّ وَلَا أَخَوَاتُهُنّ وَأَخَوَاتُهُنّ خَالَاتٍ وَأَخْوَالًا بَلْ هُنّ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِاتّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ كَانَتْ أُمّ الْفَضْلِ أُخْتُ مَيْمُونَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحْتَ الْعَبّاسِ وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ أُخْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَحْتَ الزّبَيْر ِ وَكَانَتْ أُمّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَحْتَ أَبِي بَكْر ٍ وَأُمّ حَفْصَةَ تَحْتَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلَيْسَ لِرَجُلِ أَنْ يَتَزَوّجَ أُمّهُ وَقَدْ تَزَوّجَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ وَإِخْوَتُهُ وَأَوْلَادُ أَبِي بَكْرٍ وَأَوْلَادُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَلَوْ كَانُوا أَخْوَالًا لَهُنّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْكِحُوهُنّ فَلَمْ تَنْتَشِرْ الْحُرْمَةُ مِنْ أُمّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى أَقَارِبِهِنّ وَإِلّا لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ النّسَبِ بَيْنَ الْأُمّةِ وَبَيْنَهُنّ ثُبُوتُ غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ . وَمِمّا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُحَرّمَاتِ { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } [ النّسَاءِ 23 ] . وَمَعْلُومٌ أَنّ لَفْظَ الِابْنِ إذَا أُطْلِقَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ ابْنُ الرّضَاعِ فَكَيْفَ إذَا قُيّدَ بِكَوْنِهِ ابْنَ صُلْبٍ وَقُصِدَ إخْرَاجُ ابْنِ التّبَنّي بِهَذَا لَا يَمْنَعُ إخْرَاجَ ابْنِ الرّضَاعِ وَيُوجِبُ دُخُولَهُ وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ لِيَصِيرَ مَحْرَمًا لَهَا فَأَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ أَبِي حُذَيْفَةَ زَوْجِهَا وَصَارَ ابْنَهَا وَمَحْرَمَهَا بِنَصّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُخْتَصّا بِسَالِم ِ أَوْ عَامّا كَمَا قَالَتْهُ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فَبَقِيَ سَالِمٌ مَحْرَمًا لَهَا لِكَوْنِهَا أَرْضَعَتْهُ وَصَارَتْ أُمّهُ وَلَمْ يَصِرْ مَحْرَمًا لَهَا لِكَوْنِهَا امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ [ ص 499 ] سَهْلَةَ لَهُ بَلْ لَوْ أَرْضَعَتْهُ جَارِيَةٌ لَهُ أَوْ امْرَأَةٌ أُخْرَى صَارَتْ سَهْلَةُ امْرَأَةَ أَبِيهِ وَإِنّمَا التّأْثِيرُ لِكَوْنِهِ وَلَدَهَا نَفْسَهَا وَقَدْ عُلّلَ بِهَذَا فِي الْحَدِيثِ نَفْسِهِ وَلَفْظُهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْضِعِيهِ فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنْ الرّضَاعَةِ وَلَا يُمْكِنُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَنْ ادّعَاهُ فَهُوَ كَاذِبٌ فَإِنّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ وَعَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ وَأَبَا قِلَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يُثْبِتُونَ التّحْرِيمَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ الزّبَيْرِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصّحَابَةِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنّ التّحْرِيمَ إنّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْأُمّهَاتِ فَقَطْ فَهَؤُلَاءِ إذَا لَمْ يَجْعَلُوا الْمُرْتَضِعَ مِنْ لَبَنِ الْفَحْلِ وَلَدًا لَهُ فَأَنْ لَا يُحَرّمُوا عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَلَا عَلَى الرّضِيعِ امْرَأَةَ الْفَحْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَبُو زَوْجِهَا مِنْ الرّضَاعَةِ وَلَا ابْنُهُ مِنْ الرّضَاعَةِ . فَإِنْ قِيلَ هَؤُلَاءِ لَمْ يُثْبِتُوا الْبُنُوّةَ بَيْنَ الْمُرْتَضِعِ وَبَيْنَ الْفَحْلِ فَلَمْ تَثْبُتْ الْمُصَاهَرَةُ لِأَنّهَا فَرْعُ ثُبُوتِ بُنُوّةِ الرّضَاعِ فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ لَهُ لَمْ يَثْبُتْ فَرْعُهَا وَأَمّا مَنْ أَثْبَتَ بُنُوّةَ الرّضَاعِ مِنْ جِهَةِ الْفَحْلِ كَمَا دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ وَقَالَ بِهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنّهُ تَثْبُتْ الْمُصَاهَرَةُ بِهَذِهِ الْبُنُوّةِ فَهَلْ قَالَ أَحَدٌ مِمّنْ ذَهَبَ إلَى التّحْرِيمِ بِلَبَنِ الْفَحْلِ إنّ زَوْجَةَ أَبِيهِ وَابْنِهِ مِنْ الرّضَاعَةِ لَا تَحْرُمُ ؟ قِيلَ الْمَقْصُودُ أَنّ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ نِزَاعًا وَأَنّهُ لَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَبَقِيَ النّظَرُ فِي مَأْخَذِهِ هَلْ هُوَ إلْغَاءُ لَبَنِ الْفَحْلِ وَأَنّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ أَوْ إلْغَاءُ الْمُصَاهَرَةِ مِنْ جِهَةِ الرّضَاعِ وَأَنّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا وَإِنّمَا التّأْثِيرُ لِمُصَاهَرَةِ النّسَبِ ؟ وَلَا شَكّ أَنّ الْمَأْخَذَ الْأَوّلَ بَاطِلٌ لِثُبُوتِ السّنّةِ الصّرِيحَةِ بِالتّحْرِيمِ بِلَبَنِ الْفَحْلِ وَقَدْ بَيّنّا أَنّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِالتّحْرِيمِ بِهِ إثْبَاتُ الْمُصَاهَرَةِ بِهِ إلّا بِالْقِيَاسِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ الْفَارِقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ أَضْعَافُ أَضْعَافُ الْجَامِعِ وَأَنّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ النّسَبِ ثُبُوتُ حُكْمٍ آخَرَ . [ ص 500 ] أُمّ الرّضَاعِ وَأُخْتَ الرّضَاعَةِ دَاخِلَةً تَحْتَ أُمّهَاتِنَا وَأَخَوَاتِنَا فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ } [ النّسَاءِ 23 ] ثُمّ قَالَ { وَأُمّهَاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرّضَاعَةِ } [ النّسَاءِ 23 ] فَدَلّ عَلَى أَنّ لَفْظَ أُمّهَاتِنَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنّمَا يُرَادُ بِهِ الْأُمّ مِنْ النّسَبِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُمّهَاتُ نِسَائِكُمْ } مِثْلُ قَوْلِهِ { وَأُمّهَاتُكُمْ } إنّمَا هُنّ أُمّهَاتُ نِسَائِنَا مِنْ النّسَبِ فَلَا يَتَنَاوَلُ أُمّهَاتِهِنّ مِنْ الرّضَاعَةِ وَلَوْ أُرِيدَ تَحْرِيمَهُنّ لَقَالَ وَأُمّهَاتُهُنّ اللّاتِي أَرْضَعْنَهُنّ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي أُمّهَاتِنَا وَقَدْ بَيّنّا أَنّ قَوْلَهُ يَحْرُمُ مِنْ الرّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النّسَبِ إنّمَا يَدُلّ عَلَى أَنّ مَنْ حَرُمَ عَلَى الرّجُلِ مِنْ النّسَبِ حَرُمَ عَلَيْهِ نَظِيرُهُ مِنْ الرّضَاعَةِ وَلَا يَدُلّ عَلَى أَنّ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ بِالصّهْرِ أَوْ بِالْجَمْعِ حَرُمَ عَلَيْهِ نَظِيرُهُ مِنْ الرّضَاعَةِ بَلْ يَدُلّ مَفْهُومُهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ مَعَ عُمُومِ قَوْلِهِ { وَأُحِلّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النّسَاءِ 24 ] .
[ مَنْ جَوّزَ مِنْ السّلَفِ نِكَاحَ بَنَاتِ الزّوْجَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِهِ ]
وَمِمّا
يَدُلّ عَلَى أَنّ تَحْرِيمَ امْرَأَةِ أَبِيهِ وَابْنِهِ مِنْ
الرّضَاعَةِ لَيْسَ مَسْأَلَةَ إجْمَاعٍ أَنّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنْ السّلَفِ جَوَازُ نِكَاحِ بِنْتِ امْرَأَتِهِ إذَا لَمْ
تَكُنْ فِي حِجْرِهِ كَمَا صَحّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ
الْحَدَثَانِ النّصْرِيّ قَالَ كَانَتْ عِنْدِي امْرَأَةٌ وَقَدْ وَلَدَتْ
لِي فَتُوُفّيَتْ فَوَجَدْت عَلَيْهَا فَلَقِيتُ عَلِيّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ لِي : مَا لَك ؟ قُلْتُ تُوُفّيَتْ
الْمَرْأَةُ قَالَ لَهَا ابْنَةٌ ؟ قُلْت : نَعَمْ قَالَ كَانَتْ فِي
حِجْرِك ؟ قُلْت : لَا هِيَ فِي الطّائِفِ . قَالَ فَانْكِحْهَا قُلْت :
فَأَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَبَائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ
مِنْ نِسَائِكُمُ } ؟ [ النّسَاءِ 23 ] . قَالَ إنّهَا لَمْ تَكُنْ فِي
حِجْرِك وَإِنّمَا ذَلِكَ إذَا كَانَتْ فِي حِجْرِك
[ ص 501 ] إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُوَاءَةَ يُقَالُ لَهُ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مَعْبَدٍ أَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا أَخْبَرَهُ أَنّ أَبَاهُ أَوْ جَدّهُ كَانَ قَدْ نَكَحَ امْرَأَةً ذَاتَ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِهِ ثُمّ اصْطَحَبَا مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ نَكَحَ امْرَأَةً شَابّةً فَقَالَ أَحَدُ بَنِي الْأُولَى قَدْ نَكَحْت عَلَى أُمّنَا وَكَبِرَتْ وَاسْتَغْنَيْتَ عَنْهَا بِامْرَأَةِ شَابّةٍ فَطَلّقْهَا قَالَ لَا وَاَللّهِ إلّا أَنْ تُنْكِحَنِي ابْنَتَك قَالَ فَطَلّقَهَا وَأَنْكَحَهُ ابْنَتَهُ وَلَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِهِ هِيَ وَلَا أَبُوهَا . قَالَ فَجِئْت سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ فَقُلْت : اسْتَفْتِ لِي عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . قَالَ لَتَحُجّنّ مَعِي فَأَدْخَلَنِي عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِمِنَى فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْخَبَرَ فَقَالَ عُمَرُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فَاذْهَبْ فَسَلْ فُلَانًا ثُمّ تَعَالَ فَأَخْبِرْنِي . قَالَ وَلَا أُرَاهُ إلّا عَلِيّا قَالَ فَسَأَلْته فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الظّاهِرِ . فَإِذَا كَانَ عُمَرُ وَعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا وَمَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمَا قَدْ أَبَاحَا الرّبِيبَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حَجْرِ الزّوْجِ مَعَ أَنّهَا ابْنَةُ امْرَأَتِهِ مِنْ النّسَبِ فَكَيْفَ يُحَرّمَانِ عَلَيْهِ ابْنَتَهَا مِنْ الرّضَاعِ وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ قُيُودٍ ذَكَرَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي تَحْرِيمِهَا . أَنْ تَكُونَ فِي حَجْرِهِ وَأَنْ تَكُونَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَأَنْ يَكُونَ قَدْ دَخَلَ بِأُمّهَا . فَكَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مُجَرّدُ ابْنَتِهَا مِنْ الرّضَاعَةِ وَلَيْسَتْ فِي حَجْرِهِ وَلَا هِيَ رَبِيبَتُهُ لُغَةً فَإِنّ الرّبِيبَةَ بِنْتُ الزّوْجَةِ وَالرّبِيبُ ابْنُهَا بِاتّفَاقِ النّاسِ وَسُمّيَا رَبِيبًا وَرَبِيبَةً لِأَنّ زَوْجَ أُمّهِمَا يَرُبّهُمَا فِي الْعَادَةِ وَأَمّا مَنْ أَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَتُهُ بِغَيْرِ لَبَنِهِ وَلَمْ يَرُبّهَا قَطّ وَلَا كَانَتْ فِي حَجْرِهِ فَدُخُولُهَا فِي هَذَا النّصّ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لَفْظًا وَمَعْنَى وَقَدْ أَشَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَحْرِيمِ الرّبِيبَةِ بِكَوْنِهَا فِي الْحَجْرِ . فَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " مِنْ حَدِيثِ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ أَنّ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمّ سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنّ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ أُخْبِرْتُ أَنّك تَخْطُبُ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ بِنْتَ أُمّ سَلَمَةَ ؟ قَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ إنّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي لَمَا حَلّتْ لِي وَهَذَا يَدُلّ عَلَى [ ص 502 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقَيْدَ الّذِي قَيّدَهُ اللّهُ فِي التّحْرِيمِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ فِي حَجْرِ الزّوْجِ . وَنَظِيرُ هَذَا سَوَاءً أَنْ يُقَالَ فِي زَوْجَةِ ابْنِ الصّلْبِ إذَا كَانَتْ مُحَرّمَةً بِرَضَاعِ لَوْ لَمْ تَكُنْ حَلِيلَةَ ابْنِي الّذِي لِصُلْبِي لَمَا حَلّتْ لِي سَوَاءً وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ [ التّحْرِيمُ بِلَبَنِ الْفَحْلِ ]
الْحُكْمُ
الثّانِي : الْمُسْتَفَادُ مِنْ هَذِهِ السّنّةِ أَنّ لَبَنَ الْفَحْلِ
يُحَرّمُ وَأَنّ التّحْرِيمَ يَنْتَشِرُ مِنْهُ كَمَا يَنْتَشِرُ مِنْ
الْمَرْأَةِ وَهَذَا هُوَ الْحَقّ الّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ
بِغَيْرِهِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ مَنْ خَالَفَ مِنْ الصّحَابَةِ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ فَسُنّةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَحَقّ أَنْ تُتّبَعَ وَيُتْرَكَ مَا خَالَفَهَا لِأَجْلِهَا وَلَا
تُتْرَكُ هِيَ لِأَجْلِ قَوْلِ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ . وَلَوْ
تُرِكَتْ السّنَنُ لِخِلَافِ مَنْ خَالَفَهَا لِعَدَمِ بُلُوغِهَا لَهُ
أَوْ لِتَأْوِيلِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَتُرِكَ سُنَنٌ كَثِيرَةٌ جِدّا
وَتُرِكَتْ الْحُجّةُ إلَى غَيْرِهَا وَقَوْلُ مَنْ يَجِبُ اتّبَاعُهُ
إلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَجِبُ اتّبَاعُهُ وَقَوْلُ الْمَعْصُومِ إلَى
قَوْلِ غَيْرِ الْمَعْصُومِ وَهَذِهِ بَلِيّةٌ نَسْأَلُ اللّهَ
الْعَافِيَةَ مِنْهَا وَأَنْ لَا نَلْقَاهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
قَالَ الْأَعْمَشُ : كَانَ عِمَارَةُ وَإِبْرَاهِيمُ وَأَصْحَابُنَا لَا
يَرَوْنَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ بَأْسًا حَتّى أَتَاهُمْ الْحَكَمُ بْنُ
عُتَيْبَةَ بِخَبَرِ أَبِي الْقُعَيْسِ يَعْنِي : فَتَرَكُوا قَوْلَهُمْ
وَرَجَعُوا عَنْهُ وَهَكَذَا يَصْنَعُ أَهْلُ الْعِلْمِ إذَا أَتَتْهُمْ
السّنّةُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجَعُوا
إلَيْهَا وَتَرَكُوا قَوْلَهُمْ بِغَيْرِهَا .
قَالَ الّذِينَ لَا يُحَرّمُونَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ إنّمَا ذَكَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ التّحْرِيمَ بِالرّضَاعَةِ مِنْ جِهَةِ الْأُمّ فَقَالَ { وَأُمّهَاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرّضَاعَةِ } [ النّسَاءَ 23 ] وَاللّامُ لِلْعَهْدِ تَرْجِعُ إلَى الرّضَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ رَضَاعَةُ الْأُمّ وَقَدْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَأُحِلّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النّسَاءَ 24 ] [ ص 502 ] لَكُنّا قَدْ نَسَخْنَا الْقُرْآنَ بِالسّنّةِ وَهَذَا - عَلَى أَصْلِ مَنْ يَقُولُ الزّيَادَةُ عَلَى النّصّ نَسْخٌ - أَلْزَمُ قَالُوا : وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُمْ أَعْلَمُ الْأُمّةِ بِسُنّتِهِ وَكَانُوا لَا يَرَوْنَ التّحْرِيمَ بِهِ فَصَحّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَمْعَةَ أَنّ أُمّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمّ سَلَمَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَرْضَعَتْهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ امْرَأَةُ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ قَالَتْ زَيْنَبُ وَكَانَ الزّبَيْرُ يَدْخُلُ عَلَيّ وَأَنَا أَمْتَشِطُ فَيَأْخُذُ بِقَرْنِ مِنْ قُرُونِ رَأْسِي وَيَقُولُ أَقْبِلِي عَلَيّ فَحَدّثِينِي أَرَى أَنّهُ أَبِي وَمَا وَلَدَ مِنْهُ فَهُمْ إخْوَتِي ثُمّ إنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الزّبَيْرِ أَرْسَلَ إلَيّ يَخْطُبُ أُمّ كُلْثُومٍ ابْنَتِي عَلَى حَمْزَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَكَانَ حَمْزَةُ لِلْكَلْبِيّةِ فَقَالَتْ لِرَسُولِهِ وَهَلْ تَحِلّ لَهُ ؟ وَإِنّمَا هِيَ ابْنَةُ أُخْتِهِ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ إنّمَا أَرَدْتِ بِهَذَا الْمَنْعَ مِنْ قِبَلِكِ . أَمّا مَا وَلَدَتْ أَسَمَاءُ فَهُمْ إخْوَتُك وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ أَسْمَاءَ فَلَيْسُوا لَك بِإِخْوَةِ فَأَرْسِلِي فَاسْأَلِي عَنْ هَذَا فَأَرْسَلَتْ فَسَأَلَتْ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُتَوَافِرُونَ فَقَالُوا لَهَا إنّ الرّضَاعَةَ مِنْ قِبَلِ الرّجُلِ لَا تُحَرّمُ شَيْئًا فَأَنْكِحِيهَا إيّاهُ فَلَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ حَتّى هَلَكَ عَنْهَا . قَالُوا : وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ قَالُوا : وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ الرّضَاعَةَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ لَا مِنْ الرّجُلِ . قَالَ الْجُمْهُورُ لَيْسَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مَا يُعَارِضُ السّنّةَ الصّحِيحَةَ الصّرِيحَةَ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا . أَمّا الْقُرْآنُ فَإِنّهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إمّا أَنْ يَتَنَاوَلَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ مِنْ الرّضَاعَةِ فَيَكُونَ دَالّا عَلَى تَحْرِيمِهَا وَإِمّا أَنْ لَا يَتَنَاوَلَهَا فَيَكُونَ سَاكِتًا عَنْهَا فَيَكُونَ تَحْرِيمُ السّنّةِ لَهَا تَحْرِيمًا مُبْتَدَأً وَمُخَصّصًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ { وَأُحِلّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النّسَاءَ 24 ] وَالظّاهِرُ يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الْأُخْتِ لَهَا فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ عَمّمَ لَفْظَ الْأَخَوَاتِ مِنْ الرّضَاعَةِ فَدَخَلَ فِيهِ كُلّ مَنْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا أُخْتَه وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنّ أُخْتَهُ مِنْ أَبِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ لَيْسَتْ أُخْتًا لَهُ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : ائْذَنِي لِأُفْلِحَ فَإِنّهُ عَمّك فَأَثْبَتَ الْعُمُومَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بِلَبَنِ الْفَحْلِ وَحْدَهُ فَإِذَا ثَبَتَتْ الْعُمُومَةُ بَيْنَ الْمُرْتَضِعَةِ وَبَيْنَ أَخِي صَاحِبِ اللّبَنِ فَثُبُوتُ الْأُخُوّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى أَوْ مِثْلِهِ . [ ص 503 ] فَالسّنّةُ بَيّنَتْ مُرَادَ الْكِتَابِ لَا أَنّهَا خَالَفَتْهُ وَغَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ أَثْبَتَتْ تَحْرِيمَ مَا سَكَتَ عَنْهُ أَوْ تَخْصِيصَ مَا لَمْ يَرِدْ عُمُومُهُ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَرَوْنَ التّحْرِيمَ بِذَلِكَ فَدَعْوَى بَاطِلَةٌ عَلَى جَمِيعِ الصّحَابَةِ فَقَدْ صَحّ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إثْبَاتُ التّحْرِيمِ بَهْ وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " أَنّ ابْنَ عَبّاسٍ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا جَارِيَةً وَالْأُخْرَى غُلَامًا أَيَحِلّ أَنْ يَنْكِحَهَا ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : لَا اللّقَاحُ وَاحِدٌ وَهَذَا الْأَثَرُ الّذِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ صَرِيحٌ عَنْ الزّبَيْرِ أَنّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنّ زَيْنَبَ ابْنَتُهُ بِتِلْكَ الرّضَاعَةِ وَهَذِهِ عَائِشَةُ أُمّ الْمُؤْمِنِين رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا كَانَتْ تُفْتِي : أَنّ لَبَنَ الْفَحْلِ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فَلَمْ يَبْقَ بِأَيْدِيكُمْ إلّا عَبْدُ اللّه بْنُ الزّبَيْرِ وَأَيْنَ يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ . وَأَمّا الّذِينَ سَأَلَتْهُمْ فَأَفْتَوْهَا بِالْحِلّ فَمَجْهُولُونَ غَيْرُ مُسَمّيْنَ وَلَمْ يَقُلْ الرّاوِي : فَسَأَلَتْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ بَلْ لَعَلّهَا أَرْسَلَتْ فَسَأَلَتْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ السّنّةُ الصّحِيحَةُ مِنْهُمْ فَأَفْتَاهَا بِمَا أَفْتَاهَا بِهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ وَلَمْ يَكُنْ الصّحَابَةُ إذْ ذَاكَ مُتَوَافِرِينَ بِالْمَدِينَةِ بَلْ كَانَ مُعْظَمُهُمْ وَأَكَابِرُهُمْ بِالشّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ الرّضَاعَةَ إنّمَا هِيَ مِنْ جِهَةِ الْأُمّ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ إنّمَا اللّبَنُ لِلْأَبِ الّذِي ثَارَ بِوَطْئِهِ وَالْأُمّ وِعَاءٌ لَهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ تَثْبُتُ أُبُوّةُ صَاحِبِ اللّبَنِ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ أُمُومَةُ الْمُرْضِعَةِ أَوْ [ ص 504 ] قِيلَ هَذَا الْأَصْلُ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ وَعَلَيْهِ مَسْأَلَةُ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَأَرْضَعْنَ طِفْلَةً كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ رَضْعَتَيْنِ فَإِنّهُنّ لَا يَصِرْنَ أُمّا لَهَا لِأَنّ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ لَمْ تُرْضِعْهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ . وَهَلْ يَصِيرُ الزّوْجُ أَبًا لِلطّفْلَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : لَا يَصِيرُ أَبًا كَمَا لَمْ تَصِرْ الْمُرْضِعَاتُ أُمّهَاتٍ وَالثّانِي وَهُوَ الْأَصَحّ يَصِيرُ أَبًا لِكَوْنِ الْوَلَدِ ارْتَضَعَ مِنْ لَبَنِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَلَبَنُ الْفَحْلِ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُتَفَرّعٍ عَلَى أُمُومَةِ الْمُرْضِعَةِ فَإِنّ الْأُبُوّةَ إنّمَا تَثْبُتُ بِحُصُولِ الِارْتِضَاعِ مِنْ لَبَنِهِ لَا لِكَوْنِ الْمُرْضِعَةِ أُمّهُ وَلَا يَجِيءُ هَذَا عَلَى أَصْلَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فَإِنّ عِنْدَهُمَا قَلِيلَ الرّضَاعِ وَكَثِيرَهُ مُحَرّمٌ فَالزّوْجَاتُ الْأَرْبَعُ أُمّهَاتٌ لِلْمُرْتَضِعِ فَإِذَا قُلْنَا بِثُبُوتِ الْأُبُوّةِ وَهُوَ الصّحِيحُ حَرُمَتْ الْمُرْضِعَاتُ عَلَى الطّفْلِ لِأَنّهُ رَبِيبُهُنّ وَهُنّ مَوْطُوآتُ أَبِيهِ فَهُوَ ابْنُ بَعْلِهِنّ . وَإِنْ قُلْنَا : لَا تَثْبُتُ الْأُبُوّةُ لَمْ يَحْرُمْنَ عَلَيْهِ بِهَذَا الرّضَاعِ . وَعَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَمْسُ بَنَاتٍ فَأَرْضَعْنَ طِفْلًا كُلّ وَاحِدَةٍ رَضْعَةً لَمْ يَصِرْنَ أُمّهَاتٍ لَهُ . وَهَلْ يَصِيرُ الرّجُلُ جَدّا لَهُ وَأَوْلَادُهُ الّذِينَ هُمْ إخْوَةُ الْمُرْضِعَاتِ أَخْوَالًا لَهُ وَخَالَاتٍ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : يَصِيرُ جَدّا وَأَخُوهُنّ خَالًا لِأَنّهُ قَدْ كَمّلَ الْمُرْتَضِعُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مِنْ لَبَنِ بَنَاتِهِ فَصَارَ جَدّا كَمَا لَوْ كَانَ الْمُرْتَضِعُ بِنْتًا وَاحِدَةً . وَإِذَا صَارَ جَدّا كَانَ أَوْلَادُهُ الّذِينَ هُمْ إخْوَةُ الْبَنَاتِ أَخْوَالًا وَخَالَاتٍ لِأَنّهُنّ إخْوَةُ مَنْ كَمَلَ لَهُ مِنْهُنّ خَمْسُ رَضَعَاتٍ فَنُزّلُوا بِالنّسْبَةِ إلَيْهِ مَنْزِلَةَ أُمّ وَاحِدَةٍ وَالْآخَرُ لَا يَصِيرُ جَدّا وَلَا أَخَوَاتُهُنّ خَالَاتٍ لِأَنّ كَوْنَهُ جَدّا فَرْعٌ عَلَى كَوْنِ ابْنَتِهِ أُمّا وَكَوْنُ أَخِيهَا خَالًا فَرْعٌ عَلَى كَوْنِ أُخْتِهِ أُمّا وَلَمْ يَثْبُتْ الْأَصْلُ فَلَا يَثْبُتُ فَرْعُهُ وَهَذَا الْوَجْهُ أَصَحّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخِلَافِ الّتِي قَبْلَهَا فَإِنّ ثُبُوتَ الْأُبُوّةِ فِيهَا لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْأُمُومَةِ عَلَى الصّحِيحِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنّ الْفَرْعِيّةَ مُتَحَقّقَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْمُرْضِعَاتِ وَأَبِيهِنّ فَإِنّهُنّ بَنَاتُهُ وَاللّبَنُ لَيْسَ لَهُ فَالتّحْرِيمُ هُنَا بَيْنَ الْمُرْضِعَةِ وَابْنِهَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ أُمّا لَمْ يَكُنْ أَبُوهَا جَدّا [ ص 505 ] صَاحِبِ اللّبَنِ فَسَوَاءٌ ثَبَتَتْ أُمُومَةُ الْمُرْضِعَةِ أَوْ لَا فَعَلَى هَذَا إذَا قُلْنَا : يَصِيرُ أَخُوهُنّ خَالًا فَهَلْ تَكُونُ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ خَالَةً لَهُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : لَا تَكُونُ خَالَةً لِأَنّهُ لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْ لَبَنِ أَخَوَاتِهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَلَا تَثْبُتُ الْخُؤُولَةُ . وَالثّانِي : تَثْبُتُ لِأَنّهُ قَدْ اجْتَمَعَ مِنْ اللّبَنِ الْمُحَرّمِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ وَكَانَ مَا ارْتَضَعَ مِنْهَا وَمِنْ أَخَوَاتِهَا مُثْبِتًا لِلْخُؤُولَةِ وَلَا تَثْبُتُ أُمُومَةُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ إذْ لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَلَا يُسْتَبْعَدُ ثُبُوتُ خُؤُولَةٍ بِلَا أُمُومَةٍ كَمَا ثَبَتَ فِي لَبَنِ الْفَحْلِ أُبُوّةٌ بِلَا أُمُومَةٍ وَهَذَا ضَعِيفٌ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا . أَنّ الْخُؤُولَةَ فَرْعٌ مَحْضٌ عَلَى الْأُمُومَةِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْأَصْلُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ فَرْعُهُ ؟ بِخِلَافِ الْأُبُوّةِ وَالْأُمُومَةِ فَإِنّهُمَا أَصْلَانِ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا انْتِفَاءُ الْآخَرِ . وَعَلَى هَذَا مَسْأَلَةُ مَا لَوْ كَانَ لِرِجْلِ أُمّ وَأُخْتٌ وَابْنَةٌ وَزَوْجَةُ ابْنٍ فَأَرْضَعْنَ طِفْلَةً كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ رَضْعَةً لَمْ تَصِرْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنّ أُمّهَا وَهَلْ تَحْرُمُ عَلَى الرّجُلِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . أَوْجَهُهُمَا : مَا تَقَدّمَ . وَالتّحْرِيمُ هَاهُنَا بَعِيدٌ فَإِنّ هَذَا اللّبَنَ الّذِي كَمَلَ لِلطّفْلِ لَا يَجْعَلُ الرّجُلَ أَبًا لَهُ وَلَا جَدّا وَلَا أَخًا وَلَا خَالًا وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ تَحْرِيمُ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَاءِ الزّانِي ]
وَقَدْ
دَلّ التّحْرِيمُ بِلَبَنِ الْفَحْلِ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ
مَاءِ الزّانِي دَلَالَةَ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى لِأَنّهُ إذَا حَرُمَ
عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ قَدْ تَغَذّتْ بِلَبَنِ ثَارَ بِوَطْئِهِ
فَكَيْفَ يَحِلّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ مَنْ قَدْ خُلِقَ مِنْ نَفْسِ مَائِهِ
بِوَطْئِهِ ؟ وَكَيْفَ يُحَرّمُ الشّارِعُ بِنْتَهُ مِنْ الرّضَاعِ لِمَا
فِيهَا مِنْ لَبَنٍ كَانَ وَطْءُ الرّجُلِ سَبَبًا فِيهِ ثُمّ يُبِيحُ
لَهُ نِكَاحَ مَنْ خُلِقَتْ بِنَفْسِ وَطْئِهِ وَمَائِهِ ؟ هَذَا مِنْ
الْمُسْتَحِيلِ فَإِنّ الْبَعْضِيّةَ الّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَائِهِ أَكْمَلُ وَأَتَمّ مِنْ الْبَعْضِيّةِ الّتِي
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ تَغَذّتْ بِلَبَنِهِ فَإِنّ بِنْتَ الرّضَاعِ
فِيهَا جُزْءٌ مَا مِنْ الْبَعْضِيّةِ وَالْمَخْلُوقَةُ مِنْ مَائِهِ
كَاسْمِهَا مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَائِهِ فَنِصْفُهَا أَوْ أَكْثَرُهَا
بَعْضُهُ قَطْعًا وَالشّطْرُ الْآخَرُ لِلْأُمّ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ
الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُعْرَفُ [ ص 506 ] أَبَاحَهَا وَنَصّ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ عَلَى أَنّ مَنْ تَزَوّجَهَا قُتِلَ بِالسّيْفِ
مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ . وَإِذَا كَانَتْ بِنْتُهُ مِنْ
الرّضَاعَةِ بِنْتًا فِي حُكْمَيْنِ فَقَطْ الْحُرْمَةِ وَالْمَحْرَمِيّةِ
وَتَخَلّفُ سَائِرِ أَحْكَامِ الْبِنْتِ عَنْهَا لَمْ تُخْرِجْهَا عَنْ
التّحْرِيمِ وَتُوجِبُ حِلّهَا فَكَذَا بِنْتُهُ مِنْ الزّنَى تَكُونُ
بِنْتًا فِي التّحْرِيمِ وَتَخَلّفُ أَحْكَامِ الْبِنْتِ عَنْهَا لَا
يُوجِبُ حِلّهَا وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ الْعَرَبَ بِمَا
تَعْقِلُهُ فِي لُغَاتِهَا وَلَفْظُ الْبِنْتِ لَفْظٌ لُغَوِيّ لَمْ
يَنْقُلْهُ الشّارِعُ عَنْ مَوْضِعِهِ الْأَصْلِيّ كَلَفْظِ الصّلَاةِ
وَالْإِيمَانِ وَنَحْوِهِمَا فَيُحْمَلُ عَلَى مَوْضُوعِهِ اللّغَوِيّ
حَتّى يَثْبُتَ نَقْلُ الشّارِعِ لَهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَفْظُ
الْبِنْتِ كَلَفْظِ الْأَخِ وَالْعَمّ وَالْخَالِ أَلْفَاظٌ بَاقِيَةٌ
عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا اللّغَوِيّةِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ "
أَنّ اللّهَ تَعَالَى أَنْطَقَ ابْنَ الرّاعِي الزّانِي بِقَوْلِهِ أَبِي
فُلَانٌ الرّاعِي وَهَذَا الْإِنْطَاقُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ
وَأَجْمَعَتْ الْأُمّةُ عَلَى تَحْرِيمِ أُمّهِ عَلَيْهِ . وَخَلْقُهُ
مِنْ مَائِهَا وَمَاءِ الزّانِي خَلْقٌ وَاحِدٌ وَإِثْمُهُمَا فِيهِ
سَوَاءٌ وَكَوْنُهُ بَعْضًا لَهُ مِثْلُ كَوْنِهِ بَعْضًا لَهَا
وَانْقِطَاعُ الْإِرْثِ بَيْنَ الزّانِي وَالْبِنْتِ لَا يُوجِبُ جَوَازَ
نِكَاحِهَا ثُمّ مِنْ الْعَجَبِ كَيْفَ يُحَرّمُ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ
أَنْ يَسْتَمْنِيَ الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ وَيَقُولَ هُوَ نِكَاحٌ لِيَدِهِ
وَيُجَوّزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَنْكِحَ بَعْضَهُ ثُمّ يُجَوّزُ لَهُ أَنْ
يَسْتَفْرِشَ بَعْضَهُ الّذِي خَلَقَهُ اللّهُ مِنْ مَائِهِ وَأَخْرَجَهُ
مِنْ صُلْبِهِ كَمَا يَسْتَفْرِشُ الْأَجْنَبِيّةَ .
فَصْلٌ [ لَا تُحَرّمُ الْمَصّةُ وَالْمَصّتَانِ مِنْ الرّضَاعِ ]
وَالْحُكْمُ
الثّالِثُ أَنّهُ لَا تُحَرّمُ الْمَصّةُ وَالْمَصّتَانِ كَمَا نَصّ
عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يُحَرّمُ
إلّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ وَهَذَا مَوْضِعٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ .
فَأَثْبَتَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ التّحْرِيمَ بِقَلِيلِ
الرّضَاعِ وَكَثِيرِهِ وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عَلِيّ وَابْنِ عَبّاسٍ
وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَالْحَسَنِ وَالزّهْرِيّ
وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ وَحَمّادٍ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثّوْرِيّ وَهُوَ
مَذْهَبُ مَالِك ٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَزَعَمَ اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ أَنّ
الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنّ قَلِيلَ الرّضَاعِ وَكَثِيرَهُ
يُحَرّمُ فِي [ ص 507 ] ا لْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ . وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ أُخْرَى : لَا يَثْبُتُ التّحْرِيمُ بِأَقَلّ مِنْ ثَلَاثِ
رَضَعَاتٍ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ
الْمُنْذِرِ وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيّ وَهُوَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : لَا يَثْبُتُ بِأَقَلّ مِنْ
خَمْسِ رَضَعَاتٍ وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ
اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُوسٍ وَهُوَ إحْدَى الرّوَايَاتِ
الثّلَاثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَالرّوَايَةُ
الثّانِيَةُ عَنْهَا : أَنّهُ لَا يُحَرّمُ أَقَلّ مِنْ سَبْعٍ
وَالثّالِثَةُ لَا يُحَرّمُ أَقَلّ مِنْ عَشْرٍ . وَالْقَوْلُ بِالْخَمْسِ
مَذْهَبُ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَهُوَ قَوْلُ
ابْنِ حَزْمٍ وَخَالَفَ دَاوُدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
[ حُجّةُ مَنْ عَلّقَ التّحْرِيمَ بِقَلِيلِ الرّضَاعِ وَكَثِيرِهِ ]
فَحُجّةُ
الْأَوّلِينَ أَنّهُ سُبْحَانَهُ عَلّقَ التّحْرِيمَ بِاسْمِ الرّضَاعَةِ
فَحَيْثُ وُجِدَ اسْمُهَا وُجِدَ حُكْمُهَا وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَحْرُمُ مِنْ الرّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ
النّسَبِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِإِطْلَاقِ الْقُرْآنِ . وَثَبَتَ فِي "
الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنّهُ تَزَوّجَ أُمّ
يَحْيَى بِنْتَ أَبِي إهَابٍ فَجَاءَتْ أَمَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ قَدْ
أَرْضَعْتُكُمَا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَأَعْرَضَ عَنّي قَالَ فَتَنَحّيْت فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ قَالَ
وَكَيْفَ وَقَدْ زَعَمَتْ أَنّهَا قَدْ أَرْضَعَتْكُمَا فَنَهَاهُ عَنْهَا
وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ عَدَدِ الرّضَاعِ قَالُوا : وَلِأَنّهُ فِعْلٌ
يَتَعَلّقُ بِهِ التّحْرِيمُ فَاسْتَوَى قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ
كَالْوَطْءِ الْمُوجِبِ لَهُ قَالُوا : وَلِأَنّ إنْشَازَ الْعَظْمِ
وَإِنْبَاتَ اللّحْمِ يَحْصُلُ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ . قَالُوا :
وَلِأَنّ أَصْحَابَ الْعَدَدِ قَدْ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي
الرّضْعَةِ وَحَقِيقَتِهَا وَاضْطَرَبَتْ أَشَدّ الِاضْطِرَابِ وَمَا
كَانَ هَكَذَا لَمْ [ ص 508 ]
[ حُجّةُ مَنْ عَلّقَ التّحْرِيمَ بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ ]
قَالَ
أَصْحَابُ الثّلَاثِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا تُحَرّمُ الْمَصّةُ وَالْمَصّتَان وَعَنْ أُمّ
الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تُحَرّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَالإِمْلَاجَتَانِ وَفِي
حَدِيثٍ آخَرَ أَنّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ تُحَرّمُ
الرّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ ؟ قَالَ لَا وَهَذِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ
صَرِيحَةٌ رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ
عَنْهَا فَأَثْبَتْنَا التّحْرِيمَ بِالثّلَاثِ لِعُمُومِ الْآيَةِ
وَنَفَيْنَا التّحْرِيمَ بِمَا دُونَهَا بِصَرِيحِ السّنّةِ قَالُوا :
وَلِأَنّ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ وَالتّكْرَارُ يُعْتَبَرُ فِيهِ
الثّلَاثُ . قَالُوا : وَلِأَنّهَا أَوّلُ مَرَاتِبِ الْجَمْعِ وَقَدْ
اعْتَبَرَهَا الشّارِعُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدّا .
[ حُجّةُ مَنْ عَلّقَ التّحْرِيمَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ ]
قَالَ
أَصْحَابُ الْخَمْسِ : الْحُجّةُ لَنَا مَا تَقَدّمَ فِي أَوّلِ الْفَصْلِ
مِنْ الْأَحَادِيثِ الصّحِيحَةِ الصّرِيحَة وَقَدْ أَخْبَرَتْ عَائِشَة ُ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ تُوُفّيَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ قَالُوا : وَيَكْفِي فِي
هَذَا قَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم لِسَهْلَةَ بِنْتِ
سُهَيْلٍ أَرْضِعِي سَالِمًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ تَحْرُمِي عَلَيْهِ قَالُوا
: وَعَائِشَةُ أَعْلَمُ الْأُمّةِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هِيَ
وَنِسَاءُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَتْ عَائِشَةُ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا إذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ
أَمَرَتْ إحْدَى بَنَاتِ إخْوَتِهَا أَوْ أَخَوَاتِهَا فَأَرْضَعَتْهُ
خَمْسَ رَضَعَاتٍ . قَالُوا : وَنَفْيُ التّحْرِيمِ بِالرّضْعَةِ
وَالرّضْعَتَيْنِ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ تَعْلِيقِ التّحْرِيمِ بِقَلِيلِ
الرّضَاعِ وَكَثِيرِهِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ
بَعْضُهَا خَرَجَ جَوَابًا لِلسّائِلِ وَبَعْضُهَا تَأْسِيسُ حُكْمٍ
مُبْتَدَأٍ . قَالُوا : وَإِذَا عَلّقْنَا التّحْرِيمَ بِالْخَمْسِ لَمْ
نَكُنْ قَدْ خَالَفْنَا شَيْئًا مِنْ النّصُوصِ الّتِي اسْتَدْلَلْتُمْ
بِهَا وَإِنّمَا نَكُونُ قَدْ قَيّدْنَا مُطْلَقَهَا بِالْخَمْسِ
وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ بَيَانٌ لَا نَسْخٌ وَلَا تَخْصِيصٌ . وَأَمّا
مَنْ عَلّقَ التّحْرِيمَ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَإِنّهُ يُخَالِفُ
أَحَادِيثَ نَفْيِ التّحْرِيمِ [ ص 509 ] قَالَ مَنْ لَمْ يُقَيّدْهُ
بِالْخَمْسِ حَدِيثُ الْخَمْسِ لَمْ تَنْقُلْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهَا نَقْلَ الْأَخْبَارِ فَيُحْتَجّ بِهِ وَإِنّمَا نَقَلَتْهُ نَقْلَ
الْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ إنّمَا يَثْبُتُ بِالتّوَاتُرِ وَالْأُمّةُ لَمْ
تَنْقُلْ ذَلِكَ قُرْآنًا فَلَا يَكُونُ قُرْآنًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
قُرْآنًا وَلَا خَبَرًا امْتَنَعَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهِ . قَالَ
أَصْحَابُ الْخَمْسِ الْكَلَامُ فِيمَا نُقِلَ مِنْ الْقُرْآنِ آحَادًا
فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا : كَوْنُهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالثّانِي :
وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا رَيْبَ أَنّهُمَا حُكْمَانِ مُتَغَايِرَانِ
فَإِنّ الْأَوّلَ يُوجِبُ انْعِقَادَ الصّلَاةِ بِهِ وَتَحْرِيمَ مَسّهِ
عَلَى الْمُحْدِثِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى الْجُنُبِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ
أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَإِذَا انْتَفَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ لِعَدَمِ
التّوَاتُرِ لَمْ يَلْزَمْ انْتِفَاءُ الْعَمَلِ بِهِ فَإِنّهُ يَكْفِي
فِيهِ الظّنّ وَقَدْ احْتَجّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ
بِهِ فِي مَوْضِعٍ فَاحْتَجّ بِهِ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ وَاحْتَجّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ فِي وُجُوبِ التّتَابُعِ فِي
صِيَامِ الْكَفّارَةِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ
أَيّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ " . وَاحْتَجّ بِهِ مَالِكٌ وَالصّحَابَةُ
قَبْلَهُ فِي فَرْضِ الْوَاحِدِ مِنْ وَلَدِ الْأُمّ أَنّهُ السّدُسُ
بِقِرَاءَةِ أُبَيّ " وَإِنْ " كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوْ
امْرَأَةً وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمّ فَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
السّدُس " فَالنّاسُ كُلّهُمْ احْتَجّوا بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَلَا
مُسْتَنَدَ لِلْإِجْمَاعِ سِوَاهَا . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إمّا
أَنْ يَكُونَ نَقْلُهُ قُرْآنًا أَوْ خَبَرًا قُلْنَا : بَلْ قُرْآنًا
صَرِيحًا . قَوْلُكُمْ فَكَانَ يَجِبُ نَقْلُهُ مُتَوَاتِرًا قُلْنَا :
حَتّى إذَا نُسِخَ لَفْظُهُ أَوْ بَقِيَ أَمّا الْأَوّلُ فَمَمْنُوعٌ
وَالثّانِي مُسَلّمٌ وَغَايَةُ مَا فِي الْأَمْرِ أَنّهُ قُرْآنٌ نُسِخَ
لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ قَوْلِهِ " الشّيْخُ
وَالشّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا " مِمّا اُكْتُفِيَ بِنَقْلِهِ
آحَادًا وَحُكْمُهُ ثَابِتٌ وَهَذَا مِمّا لَا جَوَابَ عَنْهُ . وَفِي
الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبَانِ آخَرَانِ ضَعِيفَانِ . [ ص 510 ]
[ مَنْ حَرّمَ بِسَبْعِ رَضَعَاتٍ ]
أَحَدُهُمَا
: أَنّ التّحْرِيمَ لَا يَثْبُتُ بِأَقَلّ مِنْ سَبْعٍ كَمَا سُئِلَ
طَاوُوسٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا يُحَرّمُ مِنْ الرّضَاعِ دُونَ
سَبْعِ رَضَعَاتٍ فَقَالَ قَدْ كَانَ ذَلِكَ ثُمّ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ
أَمْرٌ جَاءَ بِالتّحْرِيمِ الْمَرّةُ الْوَاحِدَةُ تُحَرّمُ وَهَذَا
الْمَذْهَبُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ .
[ مَنْ حَرّمَ بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ ]
الثّانِي
: التّحْرِيمُ إنّمَا يَثْبُتُ بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ وَهَذَا يُرْوَى عَنْ
حَفْصَة وَعَائِشَة رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا . وَفِيهَا مَذْهَبٌ آخَرُ
وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَغَيْرِهِنّ قَالَ طَاوُوسٌ : كَانَ لِأَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَضَعَاتٌ مُحَرّمَاتٌ وَلِسَائِرِ النّاسِ
رَضَعَاتٌ مَعْلُومَاتٌ ثُمّ تُرِكَ ذَلِكَ بَعْدُ وَقَدْ تَبَيّنَ
الصّحِيحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ [حَدّ الرّضْعَةِ ]
فَإِنْ
قِيلَ مَا هِيَ الرّضْعَةُ الّتِي تَنْفَصِلُ مِنْ أُخْتِهَا وَمَا
حَدّهَا ؟ قِيلَ الرّضْعَةُ فَعْلَةٌ مِنْ الرّضَاعِ فَهِيَ مَرّةٌ مِنْهُ
بِلَا شَكّ كَضَرْبَةٍ وَجَلْسَةٍ وَأَكْلَةٍ فَمَتَى الْتَقَمَ الثّدْيَ
فَامْتَصّ مِنْهُ ثُمّ تَرَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ عَارِضٍ كَانَ
ذَلِكَ رَضْعَةً لِأَنّ الشّرْعَ وَرَدَ بِذَلِكَ مُطْلَقًا فَحُمِلَ
عَلَى الْعُرْفِ وَالْعُرْفُ هَذَا وَالْقَطْعُ الْعَارِضُ لِتَنَفّسِ
أَوْ اسْتِرَاحَةٍ يَسِيرَةٍ أَوْ لِشَيْءِ يُلْهِيهِ ثُمّ يَعُودُ عَنْ
قُرْبٍ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ رَضْعَةً وَاحِدَةً كَمَا أَنّ
الْآكِلَ إذَا قَطَعَ أَكْلَتَهُ بِذَلِكَ ثُمّ عَادَ عَنْ قَرِيبٍ لَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ أَكْلَتَيْنِ بَلْ وَاحِدَةٌ هَذَا مَذْهَبُ الشّافِعِيّ
وَلَهُمْ فِيمَا إذَا قَطَعَتْ الْمُرْضِعَةُ عَلَيْهِ ثُمّ أَعَادَتْهُ
وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهَا رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَطَعَتْهُ
مِرَارًا حَتّى يَقْطَعَ بِاخْتِيَارِهِ . قَالُوا : لِأَنّ الِاعْتِبَارَ
بِفِعْلِهِ لَا بِفِعْلِ الْمُرْضِعَةِ وَلِهَذَا لَوْ ارْتَضَعَ مِنْهَا
وَهِيَ نَائِمَةٌ حُسِبَتْ رَضْعَةً فَإِذَا قَطَعَتْ عَلَيْهِ لَمْ
يُعْتَدّ بِهِ كَمَا لَوْ شَرَعَ فِي أَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَمَرَهُ بِهَا
الطّبِيبُ فَجَاءَ شَخْصٌ فَقَطَعَهَا عَلَيْهِ ثُمّ عَادَ فَإِنّهَا
أَكْلَةٌ وَاحِدَةٌ . وَالْوَجْهُ الثّانِي : أَنّهَا رَضْعَةٌ أُخْرَى
لِأَنّ الرّضَاعَ يَصِحّ مِنْ الْمُرْتَضِعِ وَمِنْ الْمُرْضِعَةِ
وَلِهَذَا لَوْ أَوْجَرَتْهُ وَهُوَ نَائِمٌ اُحْتُسِبَ رَضْعَةً .
وَلَهُمْ فِيمَا إذَا انْتَقَلَ مِنْ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ إلَى ثَدْيِ
غَيْرِهَا وَجْهَانِ . أَحَدُهُمَا : لَا [ ص 511 ] ثَدْيِ الْمَرْأَةِ
إلَى ثَدْيِهَا الْآخَرِ كَانَا رَضْعَةً وَاحِدَةً . وَالثّانِي : أَنّهُ
يُحْتَسَبُ مِنْ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَضْعَةً لِأَنّهُ ارْتَضَعَ
وَقَطَعَهُ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ شَخْصَيْنِ . وَأَمّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ فَقَالَ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " : إذَا قَطَعَ
قَطْعًا بَيّنًا بِاخْتِيَارِهِ كَانَ ذَلِكَ رَضْعَةً فَإِنْ عَادَ كَانَ
رَضْعَةً أُخْرَى فَأَمّا إنْ قَطَعَ لِضِيقِ نَفَسٍ أَوْ لِلِانْتِقَالِ
مِنْ ثَدْيٍ إلَى ثَدْيٍ أَوْ لِشَيْءِ يُلْهِيهِ أَوْ قَطَعَتْ عَلَيْهِ
الْمُرْضِعَةُ نَظَرْنَا فَإِنْ لَمْ يَعُدْ قَرِيبًا فَهِيَ رَضْعَةٌ
وَإِنْ عَادَ فِي الْحَالِ فَفِيهِ وَجِهَانُ أَحَدُهُمَا : أَنّ
الْأُولَى رَضْعَةٌ فَإِذَا عَادَ فَهِيَ رَضْعَةٌ أُخْرَى قَالَ وَهَذَا
اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ
حَنْبَلٍ فَإِنّهُ قَالَ أَمَا تَرَى الصّبِيّ يَرْتَضِعُ مِنْ الثّدْيِ
فَإِذَا أَدْرَكَهُ النّفَسُ أَمْسَكَ عَنْ الثّدْيِ لِيَتَنَفّسَ أَوْ
لِيَسْتَرِيحَ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهِيَ رَضْعَةٌ قَالَ الشّيْخُ
وَذَلِكَ أَنّ الْأُولَى رَضْعَةٌ لَوْ لَمْ يَعُدْ فَكَانَتْ رَضْعَةً
وَإِنْ عَادَ كَمَا لَوْ قَطَعَ بِاخْتِيَارِهِ . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ
أَنّ جَمِيعَ ذَلِكَ رَضْعَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشّافِعِيّ إلّا فِيمَا
إذَا قَطَعَتْ عَلَيْهِ الْمُرْضِعَةُ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِأَنّهُ لَوْ
حَلَفَ لَا أَكَلْتُ الْيَوْمَ إلّا أَكْلَةً وَاحِدَةً فَاسْتَدَامَ
الْأَكْلَ زَمَنًا أَوْ انْقَطَعَ لِشُرْبِ مَاءٍ أَوْ انْتِقَالٍ مِنْ
لَوْنٍ إلَى لَوْنٍ أَوْ انْتِظَارٍ لِمَا يُحْمَلُ إلَيْهِ مِنْ
الطّعَامِ لَمْ يُعَدّ إلّا أَكْلَةً وَاحِدَةً فَكَذَا هَاهُنَا
وَالْأَوّلُ أَصَحّ لِأَنّ الْيَسِيرَ مِنْ السّعُوطِ وَالْوَجُورِ
رَضْعَةٌ فَكَذَا هَذَا . قُلْت وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ
أَحَدُهُمَا : مَا ذَكَرَهُ الشّيْخُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ " فَهِيَ
رَضْعَةٌ " عَائِدًا إلَى الرّضْعَةِ الثّانِيَةِ . الثّانِي : أَنْ
يَكُونَ الْمَجْمُوعُ رَضْعَةً فَيَكُونُ قَوْلُهُ " فَهِيَ رَضْعَةٌ "
عَائِدًا إلَى الْأَوّلِ وَالثّانِي وَهَذَا أَظْهَرُ [ ص 512 ] وَاحِدَةً
. وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ أَلْيَقُ بِكَوْنِ الثّانِيَةِ
مَعَ الْأُولَى وَاحِدَةً مِنْ كَوْنِ الثّانِيَةِ رَضْعَةً مُسْتَقِلّةً
فَتَأَمّلْهُ . وَأَمّا قِيَاسُ الشّيْخِ لَهُ عَلَى يَسِيرِ السّعُوطِ
وَالْوَجُورِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ ذَلِكَ مُسْتَقِلّ لَيْسَ
تَابِعًا لِرَضْعَةِ قَبْلَهُ وَلَا هُوَ مِنْ تَمَامِهَا فَيُقَالُ
رَضْعَةٌ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا فَإِنّ الثّانِيَةَ تَابِعَةٌ
لِلْأُولَى وَهِيَ مِنْ تَمَامِهَا فَافْتَرَقَا .
فَصْلٌ [ زَمَنُ الرّضَاعِ الْمُحَرّمِ ]
وَالْحُكْمُ
الرّابِعُ أَنّ الرّضَاعَ الّذِي يَتَعَلّقُ بِهِ التّحْرِيمُ مَا كَانَ
قَبْلَ الْفِطَامِ فِي زَمَنِ الِارْتِضَاعِ الْمُعْتَادِ وَقَدْ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الشّافِعِيّ وَأَحْمَد وَأَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمّدٌ : هُوَ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ وَلَا يُحَرّمُ
مَا كَانَ بَعْدَهُمَا وَصَحّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ
وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيّبِ وَالشّعْبِيّ وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَهُوَ قَوْلُ
سُفْيَانَ . وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ حَزْمٍ وَابْنِ
الْمُنْذِرِ وَدَاوُدَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
الرّضَاعُ الْمُحَرّمُ مَا كَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ وَلَمْ يَحُدّوهُ
بِزَمَنِ صَحّ ذَلِكَ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ وَابْنِ عَبّاسٍ وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيّ وَلَمْ يَصِحّ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الزّهْرِيّ وَالْحَسَنِ
وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةَ وَالْأَوْزَاعِيّ . قَالَ الْأَوْزَاعِيّ : إنْ
فُطِمَ وَلَهُ عَامٌ وَاحِدٌ وَاسْتَمَرّ فِطَامُهُ ثُمّ رَضَعَ فِي
الْحَوْلَيْنِ لَمْ يُحَرّمْ هَذَا الرّضَاعُ شَيْئًا فَإِنْ تَمَادَى
رَضَاعُهُ وَلَمْ يُفْطَمْ فَمَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ فَإِنّهُ
يُحَرّمُ . وَمَا كَانَ بَعْدَهُمَا فَإِنّهُ لَا يُحَرّمُ وَإِنْ
تَمَادَى الرّضَاعُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ الرّضَاعُ الْمُحَرّمُ مَا
كَانَ فِي الصّغَرِ وَلَمْ يُوَقّتْهُ هَؤُلَاءِ بِوَقْتِ وَرُوِيَ هَذَا
عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الْمُسَيّبِ وَأَزْوَاجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَلَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ : ثَلَاثُونَ شَهْرًا وَعَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ أُخْرَى كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمّدٍ . وَقَالَ
مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ يُحَرّمُ فِي الْحَوْلَيْنِ
وَمَا قَارَبَهُمَا وَلَا حُرْمَةَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ . ثُمّ رُوِيَ
عَنْهُ [ ص 513 ] الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَغَيْرُهُ أَنّ مَا كَانَ
بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ مِنْ رَضَاعٍ بِشَهْرِ أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ
ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَإِنّهُ عِنْدِي مِنْ الْحَوْلَيْنِ وَهَذَا هُوَ
الْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَاَلّذِي رَوَاهُ عَنْهُ
أَصْحَابُ الْمُوَطّأِ وَكَانَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ إلَى أَنْ مَاتَ
قَوْلُهُ فِيهِ وَمَا كَانَ مِنْ الرّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ كَانَ
قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ لَا يُحَرّمُ شَيْئًا إنّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ
الطّعَامِ هَذَا لَفْظُهُ . وَقَالَ إذَا فُصِلَ الصّبِيّ قَبْلَ
الْحَوْلَيْنِ وَاسْتَغْنَى بِالطّعَامِ عَنْ الرّضَاعِ فَمَا ارْتَضَعَ
بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلرّضَاعِ حُرْمَةٌ . وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ
صَالِحٍ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ :
مُدّةُ الرّضَاعِ الْمُحَرّمِ ثَلَاثُ سِنِينَ فَمَا زَادَ عَلَيْهَا لَمْ
يُحَرّمْ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : مُدّتُهُ إلَى سَبْعِ
سِنِينَ وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ يَحْكِيهِ عَنْهُ كَالْمُتَعَجّبِ
مِنْ قَوْلِهِ . وَرُوِيَ عَنْهُ خِلَافُ هَذَا وَحَكَى عَنْهُ رَبِيعَةُ
أَنّ مُدّتَهُ حَوْلَانِ وَاثْنَا عَشَرَ يَوْمًا .
[ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ ]
وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ يُحَرّمُ رَضَاعُ الْكَبِيرِ وَلَوْ
أَنّهُ شَيْخٌ فَرَوَى مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ
رَضَاعِ الْكَبِيرِ فَقَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ
بِحَدِيثِ أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَهْلَةَ
بِنْتَ سُهَيْلٍ بِرَضَاعِ سَالِمٍ فَفَعَلَتْ وَكَانَتْ تَرَاهُ ابْنًا
لَهَا . قَالَ عُرْوَةُ فَأَخَذَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ أُمّ
الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فِيمَنْ كَانَتْ تُحِبّ أَنْ
يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنْ الرّجَالِ فَكَانَتْ تَأْمُرُ أُخْتَهَا أُمّ
كُلْثُومٍ وَبَنَاتَ أَخِيهَا يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبّتْ أَنْ يَدْخُلَ
عَلَيْهَا مِنْ الرّجَالِ . وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ : حَدّثَنَا ابْنُ
جُرَيْجٍ قَالَ سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ
فَقَالَ سَقَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ لَبَنِهَا بَعْدَ مَا كُنْت رَجُلًا
كَبِيرًا أَفَأَنْكِحُهَا ؟ قَالَ [ ص 514 ] قَالَ نَعَمْ كَانَتْ
عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَأْمُرُ بِذَلِكَ بَنَاتَ أَخِيهَا .
وَهَذَا قَوْلٌ ثَابِتٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا . وَيُرْوَى
عَنْ عَلِيّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ
وَهُوَ قَوْلُ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَبِي مُحَمّدِ بْنِ حَزْم ٍ قَالَ
وَرَضَاعُ الْكَبِيرِ وَلَوْ أَنّهُ شَيْخٌ يُحَرّمُ كَمَا يُحَرّمُ
رَضَاعُ الصّغِيرِ . وَلَا فَرْقَ فَهَذِهِ مَذَاهِبُ النّاسِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ . وَلْنَذْكُرْ مُنَاظَرَةَ أَصْحَابِ الْحَوْلَيْنِ
وَالْقَائِلِينَ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ فَإِنّهُمَا طَرَفَانِ وَسَائِرُ
الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبَةٌ .
[ حُجّةُ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ التّحْرِيمِ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ ]
قَالَ
أَصْحَابُ الْحَوْلَيْنِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ
يُتِمّ الرّضَاعَةَ } [ الْبَقَرَةَ 233 ] قَالُوا : فَجَعَلَ تَمَامَ
الرّضَاعَةِ حَوْلَيْنِ فَدَلّ عَلَى أَنّهُ لَا حُكْمَ لِمَا بَعْدَهُمَا
فَلَا يَتَعَلّقُ بِهِ التّحْرِيمُ . قَالُوا : وَهَذِهِ الْمُدّةُ هِيَ
مُدّةُ الْمَجَاعَةِ الّتِي ذَكَرَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَصَرَ الرّضَاعَةَ الْمُحَرّمَةَ عَلَيْهَا .
قَالُوا : وَهَذِهِ مُدّةُ الثّدْيِ الّذِي قَالَ فِيهَا : لَا رَضَاعَ
إلّا مَا كَانَ فِي الثّدْيِ أَيْ فِي زَمَنِ الثّدْيِ وَهَذِهِ لُغَةٌ
مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فَإِنّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ فُلَانٌ مَاتَ
فِي الثّدْيِ أَيْ فِي زَمَنِ الرّضَاعِ قَبْلَ الْفِطَامِ وَمِنْهُ
الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ إنّ إبْرَاهِيمَ مَاتَ فِي الثّدْيِ وَإِنّ لَهُ
مُرْضِعًا فِي الْجَنّةِ تُتِمّ رَضَاعَهُ يَعْنِي إبْرَاهِيمَ ابْنَهُ
صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ . قَالُوا : وَأَكّدَ ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ لَا رَضَاعَ إلّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ وَكَانَ فِي
الثّدْيِ قَبْلَ الْفِطَامِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ لِلرّضَاعِ
الْمُحَرّمِ وَمَعْلُومٌ أَنّ رَضَاعَ الشّيْخِ الْكَبِيرِ عَارٍ مِنْ
الثّلَاثَةِ . [ ص 515 ] قَالُوا : وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا حَدِيثُ ابْنِ
عَبّاسٍ : لَا رَضَاعَ إلّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْن قَالُوا :
وَأَكّدَهُ أَيْضًا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ : لَا يُحَرّمُ مِنْ
الرّضَاعَةِ إلّا مَا أَنْبَتَ اللّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ وَرَضَاعُ
الْكَبِيرِ لَا يُنْبِتُ لَحْمًا وَلَا يُنْشِزُ عَظْمًا . قَالُوا :
وَلَوْ كَانَ رَضَاعُ الْكَبِيرِ مُحَرّمًا لَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَائِشَةَ - وَقَدْ تَغَيّرَ وَجْهُهُ
وَكَرِهَ دُخُولَ أَخِيهَا مِنْ الرّضَاعَةِ عَلَيْهَا لَمّا رَآهُ
كَبِيرًا : - " اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنّ " فَلَوْ حَرّمَ رَضَاعُ
الْكَبِيرِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصّغِيرِ وَلَمَا
كَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنّ " ثُمّ قَالَ "
فَإِنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ وَتَحْتَ هَذَا مِنْ الْمَعْنَى
خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ ارْتَضَعَ فِي غَيْرِ زَمَنِ الرّضَاعِ وَهُوَ
زَمَنُ الْمَجَاعَةِ فَلَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فَلَا يَكُونُ أَخًا .
قَالُوا : وَأَمّا حَدِيثُ سَهْلَةَ فِي رَضَاعِ سَالِمٍ فَهَذَا كَانَ
فِي أَوّلِ الْهِجْرَةِ لِأَنّ قِصّتَهُ كَانَتْ عَقِيبَ نُزُولِ قَوْلِهِ
تَعَالَى : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [ الْأَحْزَابَ 5 ] وَهِيَ
نَزَلَتْ فِي أَوّلِ الْهِجْرَةِ . وَأَمّا أَحَادِيثُ اشْتِرَاطِ
الصّغَرِ وَأَنْ يَكُونَ فِي الثّدْيِ قَبْلَ الْفِطَامِ فَهِيَ مِنْ
رِوَايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبّاسٍ إنّمَا
قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ إنّمَا أَسْلَمَ
عَامَ فَتْحِ خَيْبَرَ بِلَا شَكّ كِلَاهُمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ
قِصّةِ سَالِمٍ فِي رَضَاعِهِ مِنْ امْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ .
[ حُجّةُ مَنْ حَرّمَ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ ]
قَالَ
الْمُثْبِتُونَ لِلتّحْرِيمِ بِرَضَاعِ الشّيُوخِ قَدْ صَحّ عَنْ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صِحّةً لَا يَمْتَرِي فِيهَا أَحَدٌ
أَنّهُ أَمَرَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَى
أَبِي حُذَيْفَةَ وَكَانَ كَبِيرًا ذَا لِحْيَةٍ وَقَالَ أَرْضِعِيهِ
تَحْرُمِي عَلَيْهِ ثُمّ سَاقُوا الْحَدِيثَ وَطُرُقَهُ وَأَلْفَاظَهُ
وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ بِلَا شَكّ . ثُمّ قَالُوا : فَهَذِهِ
الْأَخْبَارُ تَرْفَعُ الْإِشْكَالَ وَتُبَيّنُ مُرَادَ اللّهِ عَزّ
وَجَلّ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَاتِ أَنّ الرّضَاعَةَ الّتِي تَتِمّ
بِتَمَامِ الْحَوْلَيْنِ أَوْ بِتَرَاضِي الْأَبَوَيْنِ قَبْلَ
الْحَوْلَيْنِ إذَا رَأَيَا فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِلرّضِيعِ إنّمَا هِيَ
الْمُوجِبَةُ [ ص 516 ] الْأَبَوَانِ أَحَبّا أَمْ كَرِهَا . وَلَقَدْ
كَانَ فِي الْآيَةِ كِفَايَةٌ مِنْ هَذَا لِأَنّهُ تَعَالَى قَالَ {
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُتِمّ الرّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ
وَكِسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ } [ الْبَقَرَةَ 233 ] فَأَمَرَ اللّهُ
تَعَالَى الْوَالِدَاتِ بِإِرْضَاعِ الْمَوْلُودِ عَامَيْنِ وَلَيْسَ فِي
هَذَا تَحْرِيمٌ لِلرّضَاعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا أَنّ التّحْرِيمَ
يَنْقَطِعُ بِتَمَامِ الْحَوْلَيْنِ وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى : {
وَأُمّهَاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ
الرّضَاعَةِ } [ النّسَاءَ 23 ] وَلَمْ يَقُلْ فِي حَوْلَيْنِ وَلَا فِي
وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ زَائِدًا عَلَى الْآيَاتِ الْأُخَرِ وَعُمُومُهَا لَا
يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلّا بِنَصّ يُبَيّنُ أَنّهُ تَخْصِيصٌ لَهُ لَا
بِظَنّ وَلَا مُحْتَمَلٍ لَا بَيَانَ فِيهِ وَكَانَتْ هَذِهِ الْآثَارُ
يَعْنِي الّتِي فِيهَا التّحْرِيمُ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ قَدْ جَاءَتْ
مَجِيءَ التّوَاتُرِ رَوَاهَا نِسَاءُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَسَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ وَهِيَ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ
وَزَيْنَبُ بِنْتُ أُمّ سَلَمَةَ وَهِيَ رَبِيبَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَوَاهَا مِنْ التّابِعِينَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمّدٍ
وَعُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ وَحُمَيْدُ بْنُ نَافِعٍ وَرَوَاهَا عَنْ
هَؤُلَاءِ الزّهْرِيّ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ
الْقَاسِمِ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيّ وَرَبِيعَةُ ثُمّ
رَوَاهَا عَنْ هَؤُلَاءِ أَيّوبُ السّخْتِيَانِيّ وَسُفْيَانُ الثّوْرِيّ
وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَشُعْبَةُ وَمَالِكٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ
وَشُعَيْبٌ وَيُونُسُ وَجَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَمَعْمَرٌ وَسُلَيْمَانُ
بْنُ بِلَالٍ وَغَيْرُهُمْ ثُمّ رَوَاهَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْجَمّ
الْغَفِيرُ وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ فَهِيَ نَقْلُ كَافّةٍ لَا يَخْتَلِفُ
مُؤَالِفٌ وَلَا مُخَالِفٌ فِي صِحّتِهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْ
الِاعْتِرَاضِ إلّا قَوْلُ الْقَائِلِ كَانَ ذَلِكَ خَاصّا بِسَالِمِ
كَمَا قَالَ بَعْضُ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَمَنْ تَبِعَهُنّ فِي ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ مَنْ تَعَلّقَ
بِهَذَا أَنّهُ ظَنّ مِمّنْ ظَنّ ذَلِكَ مِنْهُنّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُنّ
. هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ أَنّهُنّ قُلْنَ مَا نَرَى هَذَا إلّا خَاصّا
بِسَالِمِ وَمَا نَدْرِي لَعَلّهَا كَانَتْ رُخْصَةً لِسَالِمٍ . فَإِذَا
هُوَ ظَنّ بِلَا شَكّ فَإِنّ الظّنّ لَا يُعَارَضُ بِهِ السّنَنُ
الثّابِتَةُ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { إِنّ الظّنّ لَا يُغْنِي مِنَ
الْحَقّ شَيْئًا } [ يُونُسَ 36 ] وَشَتّانَ بَيْنَ احْتِجَاجِ أُمّ
سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا بِظَنّهَا وَبَيْنَ احْتِجَاجِ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا بِالسّنّةِ الثّابِتَةِ وَلِهَذَا لَمّا قَالَتْ
لَهَا عَائِشَةُ أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ سَكَتَتْ أُمّ سَلَمَةَ وَلَمْ تَنْطِقْ
بِحَرْفِ وَهَذَا إمّا [ ص 517 ] عَائِشَةَ وَإِمّا انْقِطَاعٌ فِي
يَدِهَا . قَالُوا : وَقَوْلُ سَهْلَةَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ ؟ بَيَانٌ
جَلِيّ أَنّهُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَاتِ . قَالُوا :
وَنَعْلَمُ يَقِينًا أَنّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ خَاصّا بِسَالِمِ لَقَطَعَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْإِلْحَاقَ وَنَصّ عَلَى
أَنّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ بَعْدَهُ كَمَا بَيّنَ لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ
نِيَارٍ أَنّ جَذَعَتَهُ تُجْزِئُ عَنْهُ وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ
بَعْدَهُ . . وَأَيْنَ يَقَعُ ذَبْحُ جَذَعَةٍ أُضْحِيّةً مِنْ هَذَا
الْحُكْمِ الْعَظِيمِ الْمُتَعَلّقِ بِهِ حِلّ الْفَرْجِ وَتَحْرِيمُهُ
وَثُبُوتُ الْمَحْرَمِيّةِ وَالْخَلْوَةِ بِالْمَرْأَةِ وَالسّفَرِ بِهَا
؟ فَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنّ هَذَا أَوْلَى بِبَيَانِ التّخْصِيصِ لَوْ
كَانَ خَاصّا . قَالُوا : وَقَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ حُجّةٌ لَنَا لِأَنّ
شُرْبَ الْكَبِيرِ لِلّبَنِ يُؤَثّرُ فِي دَفْعِ مَجَاعَتِهِ قَطْعًا
كَمَا يُؤَثّرُ فِي الصّغِيرِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ . فَإِنْ قُلْتُمْ
فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهِ إذَا كَانَ الْكَبِيرُ وَالصّغِيرُ فِيهِ
سَوَاءً ؟ قُلْنَا : فَائِدَتُهُ إبْطَالُ تَعَلّقِ التّحْرِيمِ
بِالْقَطْرَةِ مِنْ اللّبَنِ أَوْ الْمَصّةِ الْوَاحِدَةِ الّتِي لَا
تُغْنِي مِنْ جُوعٍ وَلَا تُنْبِتُ لَحْمًا وَلَا تُنْشِزُ عَظْمًا .
قَالُوا : وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا رَضَاعَ إلّا
مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ وَكَانَ فِي الثّدْيِ قَبْلَ الْفِطَامِ
لَيْسَ بِأَبْلَغَ مِنْ قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا
رِبَا إلّا فِي النّسِيئَةِ وَإِنّمَا الرّبَا فِي النّسِيئَةِ وَلَمْ
يَمْنَعْ ذَلِكَ ثُبُوتُ رِبَا الْفَضْلِ بِالْأَدِلّةِ الدّالّةِ
عَلَيْهِ فَكَذَا هَذَا . فَأَحَادِيثُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسُنَنُهُ الثّابِتَةُ كُلّهَا حَقّ يَجِبُ
اتّبَاعُهَا وَلَا يُضْرَبُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ بَلْ تَسْتَعْمِلُ كُلّا
مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ . قَالُوا : وَمِمّا يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ أَنّ
عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَأَفْقَهَ نِسَاءِ
الْأُمّةِ هِيَ الّتِي رَوَتْ هَذَا وَهَذَا [ ص 518 ] إنّمَا الرّضَاعَةُ
مِنْ الْمَجَاعَةِ وَرَوَتْ حَدِيثَ سَهْلَةَ وَأَخَذَتْ بِهِ فَلَوْ
كَانَ عِنْدَهَا حَدِيثُ إنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ مُخَالِفًا
لِحَدِيثِ سَهْلَةَ لَمَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ وَتَرَكَتْ حَدِيثًا
وَاجَهَهَا بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَتَغَيّرَ وَجْهُهُ وَكَرِهَ الرّجُلَ الّذِي رَآهُ عِنْدَهَا وَقَالَتْ
هُوَ أَخِي . قَالُوا : وَقَدْ صَحّ عَنْهَا أَنّهَا كَانَتْ تُدْخِلُ
عَلَيْهَا الْكَبِيرَ إذَا أَرْضَعَتْهُ فِي حَالِ كِبَرِهِ أُخْتٌ مِنْ
أَخَوَاتِهَا الرّضَاعَ الْمُحَرّمَ وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِشَهَادَةِ اللّهِ
وَنَقْطَعُ قَطْعًا نَلْقَاهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنّ أُمّ
الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَكُنْ لِتُبِيحَ سِتْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِحَيْثُ يَنْتَهِكُهُ مَنْ لَا يَحِلّ لَهُ
انْتِهَاكُهُ وَلَمْ يَكُنْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِيُبِيحَ ذَلِكَ عَلَى
يَدِ الصّدّيقَةِ بِنْتِ الصّدّيقِ الْمُبَرّأَةِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ
سَمَوَاتٍ وَقَدْ عَصَمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ الْجَنَابَ الْكَرِيمَ
وَالْحِمَى الْمَنِيعَ وَالشّرَفَ الرّفِيعَ أَتَمّ عِصْمَةٍ وَصَانَهُ
أَعْظَمَ صِيَانَةٍ وَتَوَلّى صِيَانَتَهُ وَحِمَايَتَهُ وَالذّبّ عَنْهُ
بِنَفْسِهِ وَوَحْيِهِ وَكَلَامِهِ . قَالُوا : فَنَحْنُ نُوقِنُ
وَنَقْطَعُ وَنَبُتّ الشّهَادَةَ لِلّهِ بِأَنّ فِعْلَ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا هُوَ الْحَقّ وَأَنّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ يَقَعُ بِهِ مِنْ
التّحْرِيمِ وَالْمَحْرَمِيّةِ مَا يَقَعُ بِرَضَاعِ الصّغِيرِ
وَيَكْفِينَا أُمّنَا أَفْقَهُ نِسَاءِ الْأُمّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ
وَقَدْ كَانَتْ تُنَاظِرُ فِي ذَلِكَ نِسَاءَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَلَا يُجِبْنَهَا بِغَيْرِ قَوْلِهِنّ مَا أَحَدٌ دَاخِلٌ
عَلَيْنَا بِتِلْكَ الرّضَاعَةِ وَيَكْفِينَا فِي ذَلِكَ أَنّهُ مَذْهَبُ
ابْنِ عَمّ نَبِيّنَا وَأَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى الْإِطْلَاقِ
حِينَ كَانَ خَلِيفَةً وَمَذْهَبُ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ الّذِي شَهِدَ
لَهُ الشّافِعِيّ بِأَنّهُ كَانَ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكٍ إلّا أَنّهُ
ضَيّعَهُ أَصْحَابُهُ وَمَذْهَبُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ذَكَرَهُ
عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْهُ . وَذَكَرَ مَالِكٌ عَنْ
الزّهْرِيّ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ رَضَاعِ الْكَبِيرِ فَاحْتَجّ بِحَدِيثِ
سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ فِي قِصّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ
وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ : وَأَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ
أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ أَنّ سَالِمَ بْنَ أَبِي جَعْدٍ الْمَوْلَى
الْأَشْجَعِيّ أَخْبَرَهُ أَنّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنّهُ سَأَلَ عَلِيّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَرَدْت أَنْ أَتَزَوّجَ
امْرَأَةً قَدْ سَقَتْنِي مِنْ لَبَنِهَا وَأَنَا كَبِيرٌ تَدَاوَيْتُ
بِهِ فَقَالَ لَهُ عَلِيّ لَا تَنْكِحْهَا وَنَهَاهُ عَنْهَا [ ص 519 ]
قَالُوا : وَأَصْرَحُ أَحَادِيثِكُمْ حَدِيثُ أُمّ سَلَمَةَ تَرْفَعُهُ
لَا يُحَرّمُ مِنْ الرّضَاعِ إلّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثّدْيِ
وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ فَمَا أَصْرَحَهُ لَوْ كَانَ سَلِيمًا مِنْ
الْعِلّةِ لَكِنّ هَذَا حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنّهُ مِنْ رِوَايَةِ
فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ وَلَمْ تَسْمَعْ مِنْهَا
شَيْئًا لِأَنّهَا كَانَتْ أَسَنّ مِنْ زَوْجِهَا هِشَامٍ بِاثْنَيْ
عَشَرَ عَامًا فَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سِتّينَ وَمَوْلِدُ
فَاطِمَةَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمَاتَتْ أُمّ سَلَمَةَ
سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَفَاطِمَةُ صَغِيرَةٌ لَمْ تَبْلُغْهَا
فَكَيْفَ تَحْفَظُ عَنْهَا وَلَمْ تَسْمَعْ مِنْ خَالَةِ أَبِيهَا شَيْئًا
وَهِيَ فِي حَجْرِهَا كَمَا حَصَلَ سَمَاعُهَا مِنْ جَدّتِهَا أَسْمَاءَ
بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ؟ قَالُوا : وَإِذَا نَظَرَ الْعَالِمُ الْمُنْصِفُ
فِي هَذَا الْقَوْلِ وَوَازَنَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ مَنْ يَحُدّ
مُدّةَ الرّضَاعِ الْمُحَرّمِ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا أَوْ سِتّةٍ
وَعِشْرِينَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا أَوْ ثَلَاثِينَ
شَهْرًا مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الّتِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ
كِتَابِ اللّهِ أَوْ سُنّةِ رَسُولِهِ وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ
الصّحَابَةِ تَبَيّنَ لَهُ فَضْلُ مَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَهَذَا [ ص
520 ] الطّائِفَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَعَلّ الْوَاقِفَ
عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ لَهُ أَنّ هَذَا الْقَوْلَ تَنْتَهِي
قُوّتُهُ إلَى هَذَا الْحَدّ وَأَنّهُ لَيْسَ بِأَيْدِي أَصْحَابِهِ
قُدْرَةٌ عَلَى تَقْدِيرِهِ وَتَصْحِيحِهِ فَاجْلِسْ أَيّهَا الْعَالِمُ
الْمُنْصِفُ مَجْلِسَ الْحَكَمِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ
وَافْصِلْ بَيْنَهُمَا بِالْحُجّةِ وَالْبَيَانِ لَا بِالتّقْلِيدِ
وَقَالَ فُلَانٌ .
وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْحَوْلَيْنِ فِي حَدِيثِ سَهْلَةَ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَسَالِكَ أَحَدُهَا : أَنّهُ مَنْسُوخٌ وَهَذَا مَسْلَكُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَلَمْ يَأْتُوا عَلَى النّسْخِ بِحُجّةِ سِوَى الدّعْوَى فَإِنّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ إثْبَاتُ التّارِيخِ الْمَعْلُومِ التّأَخّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ . وَلَوْ قَلَبَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَيْهِمْ الدّعْوَى وَادّعَوْا نَسْخَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ بِحَدِيثِ سَهْلَةَ لَكَانَتْ نَظِيرَ دَعْوَاهُمْ . وَأَمّا قَوْلُهُمْ إنّهَا كَانَتْ فِي أَوّلِ الْهِجْرَةِ وَحِينَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [ الْأَحْزَابَ 5 ] وَرِوَايَةُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَأَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنّهُمَا لَمْ يُصَرّحَا بِسَمَاعِهِ مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ابْنُ عَبّاسٍ إلّا دُونَ الْعِشْرِينَ حَدِيثًا وَسَائِرُهَا عَنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ . الثّانِي : أَنّ نِسَاءَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ تَحْتَجّ وَاحِدَةٌ مِنْهُنّ بَلْ وَلَا غَيْرُهُنّ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا بِذَلِكَ بَلْ سَلَكْنَ فِي الْحَدِيثِ بِتَخْصِيصِهِ بِسَالِمِ وَعَدَمِ إلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ . الثّالِثُ أَنّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا نَفْسَهَا رَوَتْ هَذَا وَهَذَا فَلَوْ كَانَ حَدِيثُ سَهْلَةَ مَنْسُوخًا لَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَدْ أَخَذَتْ بِهِ وَتَرَكَتْ النّاسِخَ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهَا تَقَدّمُهُ مَعَ كَوْنِهَا هِيَ الرّاوِيَةَ لَهُ وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ وَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ . الرّابِعُ أَنّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا اُبْتُلِيَتْ بِالْمَسْأَلَةِ وَكَانَتْ تَعْمَلُ بِهَا وَتُنَاظِرُ عَلَيْهَا وَتَدْعُو إلَيْهَا صَوَاحِبَاتِهَا فَلَهَا بِهَا مَزِيدُ اعْتِنَاءٍ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا حُكْمًا مَنْسُوخًا قَدْ بَطَلَ كَوْنُهُ مِنْ الدّينِ جُمْلَةً وَيَخْفَى عَلَيْهَا ذَلِك وَيَخْفَى عَلَى [ ص 521 ] نِسَاءِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَا تَذْكُرُهُ لَهَا وَاحِدَةٌ مِنْهُنّ .
الْمَسْلَكُ الثّانِي : أَنّهُ مَخْصُوصٌ بِسَالِمِ دُونَ مَنْ عَدَاهُ وَهَذَا مَسْلَكُ أُمّ سَلَمَةَ وَمَنْ مَعَهَا مِنْ نِسَاءِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ تَبِعَهُنّ وَهَذَا الْمَسْلَكُ أَقْوَى مِمّا قَبْلَهُ فَإِنّ أَصْحَابَهُ قَالُوا مِمّا يُبَيّنُ اخْتِصَاصَهُ بِسَالِمِ أَنّ فِيهِ أَنّ سَهْلَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْحِجَابِ وَهِيَ تَقْتَضِي أَنّهُ لَا يَحِلّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُبْدِيَ زِينَتَهَا إلّا لِمَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ وَسُمّيَ فِيهَا وَلَا يُخَصّ مِنْ عُمُومِ مَنْ عَدَاهُمْ أَحَدٌ إلّا بِدَلِيلٍ . قَالُوا : وَالْمَرْأَةُ إذَا أَرْضَعَتْ أَجْنَبِيّا فَقَدْ أَبْدَتْ زِينَتَهَا لَهُ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ تَمَسّكًا بِعُمُومِ الْآيَةِ فَعَلِمْنَا أَنّ إبْدَاءَ سَهْلَةَ زِينَتَهَا لِسَالِمٍ خَاصّ بِهِ . قَالُوا : وَإِذَا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاحِدًا مِنْ الْأُمّةِ بِأَمْرِ أَوْ أَبَاحَ لَهُ شَيْئًا أَوْ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ وَلَيْسَ فِي الشّرِيعَةِ مَا يُعَارِضُهُ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَقّ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمّةِ مَا لَمْ يَنُصّ عَلَى تَخْصِيصِهِ وَأَمّا إذَا أَمَرَ النّاسَ بِأَمْرِ أَوْ نَهَاهُمْ عَنْ شَيْءٍ ثُمّ أَمَرَ وَاحِدًا مِنْ الْأُمّةِ بِخِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ النّاسَ أَوْ أَطْلَقَ لَهُ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ فَإِنّ ذَلِكَ يَكُونُ خَاصّا بِهِ وَحْدَهُ وَلَا نَقُولُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنّ أَمْرَهُ لِلْوَاحِدِ أَمْرٌ لِلْجَمِيعِ وَإِبَاحَتَهُ لِلْوَاحِدِ إبَاحَةٌ لِلْجَمِيعِ لِأَنّ ذَلِكَ يُؤَدّي إلَى إسْقَاطِ الْأَمْرِ الْأَوّلِ وَالنّهْيِ الْأَوّلِ بَلْ نَقُولُ إنّهُ خَاصّ بِذَلِكَ الْوَاحِدِ لِتَتّفِقَ النّصُوصُ وَتَأْتَلِفَ وَلَا يُعَارِضَ بَعْضُهَا بَعْضًا فَحَرّمَ اللّهُ فِي كِتَابِهِ أَنْ تُبْدِيَ الْمَرْأَةُ زِينَتَهَا لِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَأَبَاحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسَهْلَةَ أَنْ تُبْدِيَ زِينَتَهَا لِسَالِمِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْرَمٍ عِنْدَ إبْدَاءِ الزّينَةِ قَطْعًا فَيَكُونُ ذَلِكَ رُخْصَةً خَاصّةً بِسَالِمِ مُسْتَثْنَاةً مِنْ عُمُومِ التّحْرِيمِ وَلَا نَقُولُ إنّ حُكْمَهَا عَامّ فَيُبْطِلُ حُكْمَ الْآيَةِ الْمُحَرّمَةِ . قَالُوا : وَيَتَعَيّنُ هَذَا الْمَسْلَكُ لِأَنّا لَوْ لَمْ نَسْلُكْهُ لَزِمَنَا أَحَدُ مَسْلَكَيْنِ وَلَا بُدّ مِنْهُمَا إمّا نَسْخُ هَذَا الْحَدِيثِ بِالْأَحَادِيثِ الدّالّةِ عَلَى اعْتِبَارِ الصّغَرِ فِي التّحْرِيمِ وَإِمّا نَسْخُهَا بِهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالتّارِيخِ وَلِعَدَمِ تَحَقّقِ الْمُعَارَضَةِ وَلِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْأَحَادِيثِ كُلّهَا فَإِنّا إذَا حَمَلْنَا حَدِيثَ سَهْلَةَ عَلَى الرّخْصَةِ الْخَاصّةِ وَالْأَحَادِيثَ الْأُخَرَ عَلَى عُمُومِهَا فِيمَا عَدَا سَالِمًا لَمْ تَتَعَارَضْ وَلَمْ يَنْسَخْ بَعْضُهَا بَعْضًا وَعُمِلَ بِجَمِيعِهَا . [ ص 522 ] قَالُوا : وَإِذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ بَيّنَ أَنّ الرّضَاعَ إنّمَا يَكُونُ فِي الْحَوْلَيْنِ وَأَنّهُ إنّمَا يَكُونُ فِي الثّدْيِ وَإِنّمَا يَكُونُ قَبْلَ الْفِطَامِ كَانَ ذَلِكَ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ حَدِيثَ سَهْلَةَ عَلَى الْخُصُوصِ سَوَاءٌ تَقَدّمَ أَوْ تَأَخّرَ فَلَا يَنْحَصِرُ بَيَانُ الْخُصُوصِ فِي قَوْلِهِ هَذَا لَك وَحْدَك حَتّى يَتَعَيّنَ طَرِيقًا . قَالُوا : وَأَمّا تَفْسِيرُ حَدِيثِ إنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْ اللّفْظِ وَلَا تَتَبَادَرُ إلَيْهِ أَفْهَامُ الْمُخَاطَبِينَ بَلْ الْقَوْلُ فِي مَعْنَاهُ مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالنّاسُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : قَوْلُهُ إنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ يَقُولُ إنّ الّذِي إذَا جَاعَ كَانَ طَعَامُهُ الّذِي يُشْبِعُهُ اللّبَنَ إنّمَا هُوَ الصّبِيّ الرّضِيعُ . فَأَمّا الّذِي شِبَعُهُ مِنْ جُوعِهِ الطّعَامُ فَإِنّ رَضَاعَهُ لَيْسَ بِرَضَاعِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ إنّمَا الرّضَاعُ فِي الْحَوْلَيْنِ قَبْلَ الْفِطَامِ هَذَا تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدٍ وَالنّاسِ وَهُوَ الّذِي يَتَبَادَرُ فَهْمُهُ مِنْ الْحَدِيثِ إلَى الْأَذْهَانِ حَتّى لَوْ احْتَمَلَ الْحَدِيثُ التّفْسِيرَيْنِ عَلَى السّوَاءِ لَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى بِهِ لِمُسَاعَدَةِ سَائِرِ الْأَحَادِيثِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَكَشْفِهَا لَهُ وَإِيضَاحِهَا وَمِمّا يُبَيّنُ أَنّ غَيْرَ هَذَا التّفْسِيرِ خَطَأٌ وَأَنّهُ لَا يَصِحّ أَنْ يُرَادَ بِهِ رَضَاعَةُ الْكَبِيرِ أَنّ لَفْظَةَ " الْمَجَاعَةِ " إنّمَا تَدُلّ عَلَى رَضَاعَةِ الصّغِيرِ فَهِيَ تُثْبِتُ رَضَاعَةَ الْمَجَاعَةِ وَتَنْفِي غَيْرَهَا وَمَعْلُومٌ يَقِينًا أَنّهُ إنّمَا أَرَادَ مَجَاعَةَ اللّبَنِ لَا مَجَاعَةَ الْخُبْزِ وَاللّحْمِ فَهَذَا لَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُتَكَلّمِ وَلَا السّامِعِ فَلَوْ جَعَلْنَا حُكْمَ الرّضَاعَةِ عَامّا لَمْ يَبْقَ لَنَا مَا يَنْفِي وَيُثْبِتُ . وَسِيَاقُ قَوْلِهِ لَمّا رَأَى الرّجُلَ الْكَبِيرَ فَقَالَ إنّمَا الرّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ يُبَيّنُ الْمُرَادَ وَأَنّهُ إنّمَا يُحَرّمُ رَضَاعَةُ مَنْ يَجُوعُ إلَى لَبَنِ الْمَرْأَةِ وَالسّيَاقُ يُنَزّلُ اللّفْظَ مَنْزِلَةَ الصّرِيحِ فَتَغَيّرُ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَكَرَاهَتُهُ لِذَلِكَ الرّجُلِ وَقَوْلُهُ اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنّ إنّمَا هُوَ لِلتّحَفّظِ فِي الرّضَاعَةِ وَأَنّهَا لَا تُحَرّمُ كُلّ وَقْتٍ وَإِنّمَا تُحَرّمُ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا أَنّمَا الرّضَاعَةُ مَا كَانَ عَدَدُهَا خَمْسًا فَيُعَبّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ مِنْ الْمَجَاعَةِ وَهَذَا ضِدّ الْبَيَانِ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَقَوْلُكُمْ إنّ الرّضَاعَةَ تَطْرُدُ الْجُوعَ عَنْ الْكَبِيرِ كَمَا تَطْرُدُ الْجُوعَ عَنْ الصّغِيرِ [ ص 523 ] قَطّ يُشْبِعُهُ رَضَاعُ الْمَرْأَةِ وَيَطْرُدُ عَنْهُ الْجُوعَ بِخِلَافِ الصّغِيرِ فَإِنّهُ لَيْسَ لَهُ مَا يَقُومُ مَقَامَ اللّبَنِ فَهُوَ يَطْرُدُ عَنْهُ الْجُوعَ فَالْكَبِيرُ لَيْسَ ذَا مَجَاعَةٍ إلَى اللّبَنِ أَصْلًا وَاَلّذِي يُوَضّحُ هَذَا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الْمَجَاعَةِ وَإِنّمَا أَرَادَ مَظِنّتَهَا وَزَمَنَهَا وَلَا شَكّ أَنّهُ الصّغَرُ فَإِنْ أَبَيْتُمْ إلّا الظّاهِرِيّةَ وَأَنّهُ أَرَادَ حَقِيقَتَهَا لَزِمَكُمْ أَنْ لَا يُحَرّمَ رَضَاعُ الْكَبِيرِ إلّا إذَا ارْتَضَعَ وَهُوَ جَائِعٌ فَلَوْ ارْتَضَعَ وَهُوَ شَبْعَانُ لَمْ يُؤَثّرْ شَيْئًا . وَأَمّا حَدِيثُ السّتْرِ الْمَصُونِ وَالْحُرْمَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْحِمَى الْمَنِيعِ فَرَضِيَ اللّهُ عَنْ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنّهَا وَإِنْ رَأَتْ أَنّ هَذَا الرّضَاعَ يُثْبِتُ الْمَحْرَمِيّةَ فَسَائِرُ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُخَالِفْنَهَا فِي ذَلِكَ وَلَا يَرَيْنَ دُخُولَ هَذَا السّتْرِ الْمَصُونِ وَالْحِمَى الرّفِيعِ بِهَذِهِ الرّضَاعَةِ فَهِيَ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ وَأَحَدُ الْحِزْبَيْنِ مَأْجُورٌ أَجْرًا وَاحِدًا وَالْآخَرُ مَأْجُورٌ أَجْرَيْنِ وَأَسْعَدُهُمَا بِالْأَجْرَيْنِ مَنْ أَصَابَ حُكْمَ اللّهِ وَرَسُولِهِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فَكُلّ مِنْ الْمُدْخِلِ لِلسّتْرِ الْمَصُونِ بِهَذِهِ الرّضَاعَةِ وَالْمَانِعِ مِنْ الدّخُولِ فَائِزٌ بِالْأَجْرِ مُجْتَهِدٌ فِي مَرْضَاةِ اللّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَتَنْفِيذِ حُكْمِهِ وَلَهُمَا أُسْوَةٌ بِالنّبِيّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ - دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ اللّذَيْنِ أَثْنَى اللّهُ عَلَيْهِمَا بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ وَخَصّ بِفَهْمِ الْحُكُومَةِ أَحَدَهُمَا .
فَصْلٌ
وَأَمّا
رَدّكُمْ لِحَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ فَتَعَسّفٌ بَارِدٌ فَلَا يَلْزَمُ
انْقِطَاعُ الْحَدِيثِ مِنْ أَجْلِ أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْمُنْذِرِ
لَقِيَتْ أُمّ سَلَمَةَ صَغِيرَةً فَقَدْ يَعْقِلُ الصّغِيرُ جِدّا
أَشْيَاءَ وَيَحْفَظُهَا وَقَدْ عَقَلَ مَحْمُودُ بْنُ الرّبِيعِ
الْمَجّةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ وَيَعْقِلُ أَصْغَرُ مِنْهُ .
وَقَدْ قُلْتُمْ إنّ فَاطِمَةَ كَانَتْ وَقْتَ وَفَاةِ أُمّ سَلَمَةَ
بِنْتَ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَهَذَا سِنّ جَيّدٌ لَا سِيّمَا
لِلْمَرْأَةِ فَإِنّهَا تَصْلُحُ فِيهِ لِلزّوْجِ فَمَنْ هِيَ فِي حَدّ
الزّوَاجِ كَيْفَ يُقَالُ إنّهَا لَا تَعْقِلُ مَا تَسْمَعُ وَلَا تَدْرِي
مَا تُحَدّثُ بِهِ ؟ هَذَا هُوَ الْبَاطِلُ الّذِي [ ص 524 ] أُمّ
سَلَمَةَ كَانَتْ مُصَادِقَةً لِجَدّتِهَا أَسْمَاءَ وَكَانَتْ دَارُهُمَا
وَاحِدَةً فَنَشَأَتْ فَاطِمَةُ هَذِهِ فِي حَجْرِ جَدّتِهَا أَسْمَاءَ
مَعَ خَالَةِ أَبِيهَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَأُمّ سَلَمَةَ
وَمَاتَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ .
وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَقَدْ يُمْكِنُ سَمَاعُ فَاطِمَةَ
مِنْهَا وَأَمّا جَدّتُهَا أَسْمَاءُ فَمَاتَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ وَفَاطِمَةُ إذْ ذَاكَ بِنْتُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً
فَلِذَلِكَ كَثُرَ سَمَاعُهَا مِنْهَا وَقَدْ أَفْتَتْ أُمّ سَلَمَةَ
بِمِثْلِ الْحَدِيثِ الّذِي رَوَتْهُ أَسْمَاءُ . فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ
: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ يَحْيَى
بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ أَنّهَا سُئِلَتْ
مَا يُحَرّمُ مِنْ الرّضَاعِ ؟ فَقَالَتْ مَا كَانَ فِي الثّدْيِ قَبْلَ
الْفِطَامِ فَرَوَتْ الْحَدِيثَ وَأَفْتَتْ بِمُوجَبِهِ . وَأَفْتَى بِهِ
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَمَا رَوَاهُ
الدّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْت عُمَرَ يَقُولُ لَا رَضَاعَ إلّا فِي
الْحَوْلَيْنِ فِي الصّغَرِ وَأَفْتَى بِهِ ابْنُهُ عَبْدُ اللّهِ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ
عُمَر َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : أَنّهُ كَانَ يَقُولُ لَا رَضَاعَةَ
إلّا لِمَنْ أَرْضَعَ فِي الصّغَرِ وَلَا رَضَاعَةَ لِكَبِيرِ وَأَفْتَى
بِهِ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ :
حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ عَنْ عَاصِمٍ
الْأَحْوَلِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا
قَالَ لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِطَام [ ص 525 ]
[ رُجُوعُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ إلَى عَدَمِ التّحْرِيمِ إلّا بِرَضَاعِ الصّغِيرِ ]
وَتَنَاظَرَ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو مُوسَى
فَأَفْتَى ابْنُ مَسْعُودٍ بِأَنّهُ لَا يُحَرّمُ إلّا فِي الصّغَرِ
فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى فَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ أَنّ ابْنَ
مَسْعُودٍ قَالَ لِأَبِي مُوسَى : أَنْتَ تُفْتِي بِكَذَا وَكَذَا وَقَدْ
قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا رَضَاعَ إلّا
مَا شَدّ الْعَظْمَ وَأَنْبَتَ اللّحْمَ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ :
حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَنْبَارِيّ حَدّثَنَا وَكِيعٌ
حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْهِلَالِيّ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُحَرّمُ مِنْ
الرّضَاعِ إلّا مَا أَنْبَتَ اللّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ ثُمّ أَفْتَى
بِذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ الثّوْرِيّ حَدّثَنَا
أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيّاشٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي عَطِيّةَ
الْوَادِعِيّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَبِي مُوسَى فَقَالَ إنّ
امْرَأَتِي وَرِمَ ثَدْيُهَا فَمَصَصْته فَدَخَلَ حَلْقِي شَيْءٌ
سَبَقَنِي فَشَدّدَ عَلَيْهِ أَبُو مُوسَى فَأَتَى عَبْدَ اللّهِ بْنَ
مَسْعُودٍ فَقَالَ سَأَلْتَ أَحَدًا غَيْرِي ؟ قَالَ نَعَمْ أَبَا مُوسَى
فَشَدّدَ عَلَيّ فَأَتَى أَبَا مُوسَى فَقَالَ أَرَضِيعٌ هَذَا ؟ فَقَالَ
أَبُو مُوسَى : لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ
أَظْهُرِكُمْ فَهَذِهِ رِوَايَتُهُ وَفَتْوَاهُ . وَأَمّا عَلِيّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ فَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ الثّوْرِيّ عَنْ جُوَيْبِرٍ
عَنْ الضّحّاكِ عَنْ النّزّالِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ عَلِيّ لَا رَضَاعَ
بَعْدَ الْفِصَالِ وَهَذَا خِلَافُ رِوَايَةِ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ
سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ . لَكِنْ جُوَيْبِرٌ
لَا يُحْتَجّ بِحَدِيثِهِ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ أَقْوَى مِنْهُ . [ ص 526 ]
فَصْلٌ الْمَسْلَكُ الثّالِثُ أَنّ حَدِيثَ سَهْلَةَ لَيْسَ بِمَنْسُوخِ
وَلَا مَخْصُوصٍ وَلَا عَامّ فِي حَقّ كُلّ أَحَدٍ وَإِنّمَا هُوَ
رُخْصَةٌ لِلْحَاجَةِ لِمَنْ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ دُخُولِهِ عَلَى
الْمَرْأَةِ وَيَشُقّ احْتِجَابُهَا عَنْهُ كَحَالِ سَالِمٍ مَعَ
امْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ فَمِثْلُ هَذَا الْكَبِيرِ إذَا أَرْضَعَتْهُ
لِلْحَاجَةِ أَثّرَ رَضَاعُهُ وَأَمّا مَنْ عَدَاهُ فَلَا يُؤَثّرُ إلّا
رَضَاعُ الصّغِيرِ وَهَذَا مَسْلَكُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيّةَ
رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى وَالْأَحَادِيثُ النّافِيَةُ لِلرّضَاعِ فِي
الْكَبِيرِ إمّا مُطْلَقَةٌ فَتُقَيّدُ بِحَدِيثِ سَهْلَةَ أَوْ عَامّةٌ
فِي الْأَحْوَالِ فَتَخْصِيصُ هَذِهِ الْحَالِ مِنْ عُمُومِهَا وَهَذَا
أَوْلَى مِنْ النّسْخِ وَدَعْوَى التّخْصِيصِ بِشَخْصِ بِعَيْنِهِ
وَأَقْرَبُ إلَى الْعَمَلِ بِجَمِيعِ الْأَحَادِيثِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ
وَقَوَاعِدُ الشّرْعِ تَشْهَدُ لَهُ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ .
ذِكْرُ حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعِدَدِ
هَذَا
الْبَابُ قَدْ تَوَلّى اللّهُ - سُبْحَانَهُ - بَيَانَهُ فِي كِتَابِهِ
أَتَمّ بَيَانٍ وَأَوْضَحَهُ وَأَجْمَعَهُ بِحَيْثُ لَا تَشِذّ عَنْهُ
مُعْتَدّةٌ فَذَكَرَ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنْ الْعِدَدِ وَهِيَ جُمْلَةُ
أَنْوَاعِهَا .
[ عِدّةُ الْحَامِلِ ]
النّوْعُ الْأَوّلُ عِدّةُ
الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ مُطْلَقًا بَائِنَةً كَانَتْ أَوْ
رَجْعِيّةً مُفَارِقَةً فِي الْحَيَاة أَوْ مُتَوَفّى عَنْهَا فَقَالَ {
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } [
الطّلَاقَ 4 ] وَهَذَا فِيهِ عُمُومٌ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ . أَحَدُهَا :
عُمُومُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَهُوَ أُولَاتُ الْأَحْمَالِ فَإِنّهُ
يَتَنَاوَلُ جَمِيعَهُنّ . الثّانِي : عُمُومُ الْأَجَلِ فَإِنّهُ
أَضَافَهُ إلَيْهِنّ وَإِضَافَةُ اسْمِ الْجَمْعِ إلَى الْمَعْرِفَةِ
يَعُمّ فَجَعَلَ وَضْعَ الْحَمْلِ جَمِيعَ أَجَلِهِنّ فَلَوْ كَانَ
لِبَعْضِهِنّ أَجَلٌ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ جَمِيعَ أَجَلِهِنّ . الثّالِثُ
أَنّ الْمُبْتَدَأَ وَالْخَبَرَ مَعْرِفَتَانِ أَمّا الْمُبْتَدَأُ
فَظَاهِرٌ وَأَمّا الْخَبَرُ - وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنْ
يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } [ الطّلَاقَ 4 ] فَفِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مُضَافٍ
[ ص 527 ] كَانَا مَعْرِفَتَيْنِ اقْتَضَى ذَلِكَ حَصْرَ الثّانِي فِي
الْأَوّلِ كَقَوْلِهِ { يَا أَيّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى
اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ } [ فَاطِرَ 15 ] . وَبِهَذَا
احْتَجّ جُمْهُورُ الصّحَابَةِ عَلَى أَنّ الْحَامِلَ الْمُتَوَفّى
عَنْهَا زَوْجُهَا عِدّتُهَا وَضْعُ حَمْلِهَا وَلَوْ وَضَعَتْهُ
وَالزّوْجُ عَلَى الْمُغْتَسَلِ كَمَا أَفْتَى بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيّةِ وَكَانَ هَذَا الْحَكَمُ
وَالْفَتْوَى مِنْهُ مُشْتَقّا مِنْ كِتَابِ اللّهِ مُطَابِقًا لَهُ .
فَصْلٌ [ عِدّةُ الْمُطَلّقَةِ الّتِي تَحِيضُ ]
النّوْعُ
الثّانِي : عِدّةُ الْمُطَلّقَةِ الّتِي تَحِيضُ وَهِيَ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ
كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } [ الْبَقَرَةَ 228 ] .
[ عِدّةُ الّتِي لَا حَيْضَ لَهَا ]
النّوْعُ
الثّالِثُ عِدّةُ الّتِي لَا حَيْضَ لَهَا وَهِيَ نَوْعَانِ صَغِيرَةٌ لَا
تَحِيضُ وَكَبِيرَةٌ قَدْ يَئِسَتْ مِنْ الْحَيْضِ . فَبَيّنَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ عِدّةَ النّوْعَيْنِ بِقَوْلِهِ { وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ
الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلَاثَةُ
أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطّلَاقَ 4 ] أَيْ فَعِدّتُهُنّ
كَذَلِكَ .
[ عِدّةُ الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا ]
النّوْعُ
الرّابِعُ الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَبَيّنَ عِدّتَهَا -
سُبْحَانَهُ - بِقَوْلِهِ { وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
[ الْبَقَرَةَ 234 ] فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْمَدْخُولَ بِهَا وَغَيْرَهَا
وَالصّغِيرَةَ وَالْكَبِيرَةَ وَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْحَامِلُ لِأَنّهَا
خَرَجَتْ بِقَوْلِهِ { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنّ } فَجَعَلَ وَضْعَ حَمْلِهِنّ جَمِيعَ أَجَلِهِنّ وَحَصَرَهُ
فِيهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي الْمُتَوَفّى عَنْهُنّ يَتَرَبّصْنَ
فَإِنّهُ فِعْلٌ مُطْلَقٌ لَا عُمُومَ لَهُ وَأَيْضًا فَإِنّ قَوْلَهُ [ ص
528 ] { أَجَلُهُنّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } [ الطّلَاقَ 4 ]
مُتَأَخّرٌ فِي النّزُولِ عَنْ قَوْلِهِ يَتَرَبّصْنَ وَأَيْضًا فَإِنّ
قَوْلَهُ { يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
[ الْبَقَرَةَ 234 ] فِي غَيْرِ الْحَامِلِ بِالِاتّفَاقِ فَإِنّهَا لَوْ
تَمَادَى حَمْلُهَا فَوْقَ ذَلِكَ تَرَبّصَتْهُ فَعُمُومُهَا مَخْصُوصٌ
اتّفَاقًا وَقَوْلُهُ { أَجَلُهُنّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } [
الطّلَاقَ 4 ] غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالِاتّفَاقِ هَذَا لَوْ لَمْ تَأْتِ
السّنّةُ الصّحِيحَةُ بِذَلِكَ وَوَقَعَتْ الْحَوَالَةُ عَلَى الْقُرْآنِ
فَكَيْفَ وَالسّنّةُ الصّحِيحَةُ مُوَافِقَةٌ لِذَلِكَ مُقَرّرَةٌ لَهُ .
فَهَذِهِ أَصُولُ الْعِدَدِ فِي كِتَابِ اللّهِ مُفَصّلَةً مُبَيّنَةً
وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْ الْقُرْآنِ وَدَلَالَتِهِ
فِي مَوَاضِعَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ دَلّتْ السّنّةُ بِحَمْدِ اللّهِ عَلَى
مُرَادِ اللّهِ مِنْهَا وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا وَنَذْكُرُ أَوْلَى
الْمَعَانِي وَأَشْبَهَهَا بِهَا وَدَلَالَةَ السّنّةِ عَلَيْهَا .
[الِاخْتِلَافُ فِي الْمُتَوَفّى عَنْهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا ]
فَمِنْ
ذَلِكَ اخْتِلَافُ السّلَفِ فِي الْمُتَوَفّى عَنْهَا إذَا كَانَتْ
حَامِلًا فَقَال عَلِيّ وَابْنُ عَبّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ
أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ مِنْ وَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللّهُ اخْتَارَهُ سَحْنُونٌ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ
أَبِي طَالِبٍ عَنْهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبّاسٍ
يَقُولَانِ فِي الْمُعْتَدّةِ الْحَامِلِ أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ وَكَانَ
ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ مَنْ شَاءَ بَاهَلْته إنّ سُورَةَ النّسَاءِ
الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدُ وَحَدِيثُ سُبَيْعَةَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ إذَا
وَضَعَتْ فَقَدْ حَلّتْ . [ ص 529 ] وَابْنُ مَسْعُودٍ يَتَأَوّلُ
الْقُرْآنَ { أَجَلُهُنّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن } [ الطّلَاقَ 4 ] هِيَ
فِي الْمُتَوَفّى عَنْهَا وَالْمُطَلّقَةُ مِثْلُهَا إذَا وَضَعَتْ فَقَدْ
حَلّتْ وَانْقَضَتْ عِدّتُهَا وَلَا تَنْقَضِي عِدّةُ الْحَامِلِ إذَا
أَسْقَطَتْ حَتّى يَتَبَيّنَ خَلْقُهُ فَإِذَا بَانَ لَهُ يَدٌ أَوْ
رِجْلٌ عَتَقَتْ بِهِ الْأَمَةُ وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدّةُ وَإِذَا
وَلَدَتْ وَلَدًا وَفِي بَطْنِهَا آخَرُ لَمْ تَنْقَضِ الْعِدّةُ حَتّى
تَلِدَ الْآخَرَ وَلَا تَغِيبُ عَنْ مَنْزِلِهَا الّذِي أُصِيبَ فِيهِ
زَوْجُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا
وَالْعِدّةُ مِنْ يَوْمِ يَمُوتُ أَوْ يُطَلّقُ هَذَا كَلَامُ أَحْمَد َ .
وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ابْنُ عَبّاسٍ وَأَبُو
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فَقَال أَبُو هُرَيْرَةَ عِدّتُهَا
وَضْعُ الْحَمْلِ وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ تَعْتَدّ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ
فَحَكّمَا أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فَحَكَمَتْ لِأَبِي
هُرَيْرَةَ وَاحْتَجّتْ بِحَدِيثِ سُبَيْعَةَ . وَقَدْ قِيلَ إنّ ابْنَ
عَبّاسٍ رَجَعَ . وَقَالَ جُمْهُورُ الصّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ
وَالْأَئِمّةُ الْأَرْبَعَةُ إنّ عِدّتَهَا وَضْعُ الْحَمْلِ وَلَوْ كَانَ
الزّوْجُ عَلَى مُغْتَسَلِهِ فَوَضَعَتْ حَلّتْ . قَالَ أَصْحَابُ
الْأَجَلَيْنِ هَذِهِ قَدْ تَنَاوَلَهَا عُمُومَانِ وَقَدْ أَمْكَنَ
دُخُولُهَا فِي كِلَيْهِمَا فَلَا تَخْرُجُ مِنْ عِدّتِهَا بِيَقِينِ
حَتّى تَأْتِيَ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ قَالُوا : وَلَا يُمْكِنُ
تَخْصِيصُ عُمُومِ إحْدَاهُمَا بِخُصُوصِ الْأُخْرَى لِأَنّ كُلّ آيَةٍ
عَامّةٌ مِنْ وَجْهٍ خَاصّةٌ مِنْ وَجْهٍ قَالُوا : فَإِذَا أَمْكَنَ
دُخُولُ بَعْضِ الصّوَرِ فِي عُمُومِ الْآيَتَيْنِ يَعْنِي إعْمَالًا
لِلْعُمُومِ فِي مُقْتَضَاهُ . فَإِذَا اعْتَدّتْ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ
دَخَلَ أَدْنَاهُمَا فِي أَقْصَاهُمَا . [ ص 530 ] أَجَابُوا عَنْ هَذَا
بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ أَحَدُهَا : أَنّ صَرِيحَ السّنّةِ يَدُلّ عَلَى
اعْتِبَارِ الْحَمْلِ فَقَطْ كَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ
سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيّةَ تُوُفّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حُبْلَى
فَوَضَعَتْ فَأَرَادَتْ أَنْ تَنْكِحَ فَقَالَ لَهَا أَبُو السّنَابِلِ
مَا أَنْتِ بِنَاكِحَةِ حَتّى تَعْتَدّي آخِرَ الْأَجَلَيْنِ فَسَأَلَتْ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ كَذَبَ أَبُو
السّنَابِلِ قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ . الثّانِي أَنّ
قَوْلَهُ { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ
} [ الطّلَاقَ 4 ] نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ { وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ
مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ أَرْبَعَةَ
أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [ الْبَقَرَةَ 234 ] وَهَذَا جَوَاب عَبْدِ اللّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ عَنْهُ أَتَجْعَلُونَ
عَلَيْهَا التّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ لَهَا الرّخْصَةَ أَشْهَدُ
لَنَزَلَتْ سُورَةُ النّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطّولَى : { وَأُولَاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } [ الطّلَاقَ 4 ] .
[مَفْهُومُ النّسْخِ عِنْدَ السّلَفِ ]
وَهَذَا
الْجَوَابُ يَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرٍ فَإِنّ ظَاهِرَهُ أَنّ آيَةَ
الطّلَاقِ مُقَدّمَةٌ عَلَى آيَةِ الْبَقَرَةِ لِتَأَخّرِهَا عَنْهَا
فَكَانَتْ نَاسِخَةً لَهَا وَلَكِنّ النّسْخَ عِنْدَ الصّحَابَةِ
وَالسّلَفِ أَعَمّ مِنْهُ عِنْدَ الْمُتَأَخّرِينَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ
بِهِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : رَفْعُ الْحُكْمِ الثّابِتِ
بِخِطَابٍ . الثّانِي : رَفْعُ دَلَالَةِ الظّاهِرِ إمّا بِتَخْصِيصِ
وَإِمّا بِتَقْيِيدِ وَهُوَ أَعَمّ مِمّا قَبْلَهُ . الثّالِثُ بَيَانُ
الْمُرَادِ بِاللّفْظِ الّذِي بَيَانُهُ مِنْ خَارِجٍ وَهَذَا أَعَمّ مِنْ
الْمَعْنَيَيْنِ [ ص 531 ] رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَشَارَ بِتَأَخّرِ
نُزُولِ سُورَةِ الطّلَاقِ إلّا أَنّ آيَةَ الِاعْتِدَادِ بِوَضْعِ
الْحَمْلِ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْبَقَرَةِ إنْ كَانَ عُمُومُهَا مُرَادًا
أَوْ مُخَصّصَةٌ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ عُمُومُهَا مُرَادًا أَوْ
مُبَيّنَةٌ لِلْمُرَادِ مِنْهَا أَوْ مُقَيّدَةٌ لِإِطْلَاقِهَا وَهَذَا
مِنْ كَمَالِ فِقْهِهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَرُسُوخِهِ فِي الْعِلْمِ
وَمِمّا يُبَيّنُ أَنّ أُصُولَ الْفِقْهِ سَجِيّةٌ لِلْقَوْمِ وَطَبِيعَةٌ
لَا يَتَكَلّفُونَهَا كَمَا أَنّ الْعَرَبِيّةَ وَالْمَعَانِيَ
وَالْبَيَانَ وَتَوَابِعَهَا لَهُمْ كَذَلِكَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ فَإِنّمَا
يُجْهِدُ نَفْسَهُ لِيَتَعَلّقَ بِغُبَارِهِمْ وَأَنّى لَهُ ؟ الثّالِثُ
أَنّهُ لَوْ لَمْ تَأْتِ السّنّةُ الصّرِيحَةُ بِاعْتِبَارِ الْحَمْلِ
وَلَمْ تَكُنْ آيَةُ الطّلَاقِ مُتَأَخّرَةً لَكَانَ تَقْدِيمُهَا هُوَ
الْوَاجِبَ لِمَا قَرّرْنَاهُ أَوّلًا مِنْ جِهَاتِ الْعُمُومِ
الثّلَاثَةِ فِيهَا وَإِطْلَاقِ قَوْلِهِ { يَتَرَبّصْن } وَقَدْ كَانَتْ
الْحَوَالَةُ عَلَى هَذَا الْفَهْمِ مُمْكِنَةً وَلَكِنْ لِغُمُوضِهِ
وَدِقّتِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النّاسِ أُحِيلَ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ
عَلَى بَيَانِ السّنّةِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ [لَا تَنْقَضِي الْعِدّةُ حَتّى تَضَعَ جَمِيعَ الْحَمْلِ ]
[ يُكْتَفَى فِي عِدّةِ الْمُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِالتّرَبّصِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ]
دَلّ
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { أَجَلُهُنّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ } [
الطّلَاقَ 4 ] عَلَى أَنّهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا بِتَوْأَمَيْنِ لَمْ
تَنْقَضِ الْعِدّةُ حَتّى تَضَعَهُمَا جَمِيعًا وَدَلّتْ عَلَى أَنّ مَنْ
عَلَيْهَا الِاسْتِبْرَاءُ فَعِدّتُهَا وَضْعُ الْحَمْلِ أَيْضًا وَدَلّتْ
عَلَى أَنّ الْعِدّةَ تَنْقَضِي بِوَضْعِهِ عَلَى أَيّ صِفَةٍ كَانَ حَيًا
أَوْ مَيّتًا تَامّ الْخِلْقَةِ أَوْ نَاقِصَهَا نُفِخَ فِيهِ الرّوحُ
أَوْ لَمْ يُنْفَخْ . وَدَلّ قَوْلُهُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [ الْبَقَرَةَ 234 ] عَلَى الِاكْتِفَاءِ
بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَحِضْ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَالَ مَالِكٌ
إذَا كَانَ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فِي كُلّ سَنَةٍ مَرّةً فَتُوُفّيَ
عَنْهَا زَوْجُهَا لَمْ تَنْقَضِ عِدّتُهَا حَتّى تَحِيضَ حَيْضَتَهَا
فَتَبْرَأَ مِنْ عِدّتِهَا . فَإِنْ لَمْ تَحِضْ انْتَظَرَتْ تَمَامَ
تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ وَفَاتِهِ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ
كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنّهُ تَعْتَدّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا
وَلَا تَنْتَظِرُ حَيْضَهَا .
فَصْلٌ [مَنْ قَالَ إنّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْحِيَضُ ]
وَمِنْ
ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْأَقْرَاءِ هَلْ هِيَ الْحِيَضُ أَوْ
الْأَطْهَارُ ؟ فَقَالَ أَكَابِرُ - 532 - الصّحَابَةِ إنّهَا الْحِيَضُ
هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْر ٍ وَعُمَر َ وَعُثْمَان َ وَعَلِي ّ وَابْنِ
مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَعُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ وَأَبِي الدّرْدَاءِ
وَابْنِ عَبّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ
قَوْلُ أَصْحَابِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كُلّهِمْ كَعَلْقَمَةَ
وَالْأُسُودِ وَإِبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ وَقَوْلُ الشّعْبِيّ وَالْحَسَنِ
وَقَتَادَةَ وَقَوْلُ أَصْحَابِ ابْنِ عَبّاسٍ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَطَاوُوسٍ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَهُوَ قَوْلُ
أَئِمّةِ الْحَدِيثِ كَإِسْحَاقِ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَأَبِي عُبَيْدٍ
الْقَاسِمِ وَالْإِمَامِ أَحْمَد َ رَحِمَهُ اللّهُ فَإِنّهُ رَجَعَ إلَى
الْقَوْلِ بَهْ وَاسْتَقَرّ مَذْهَبُهُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ مَذْهَبٌ
سِوَاهُ وَكَانَ يَقُولُ إنّهَا الْأَطْهَارُ فَقَالَ فِي رِوَايَةِ
الْأَثْرَمِ رَأَيْتُ الْأَحَادِيثَ عَمّنْ قَالَ الْقُرُوءُ الْحِيَضُ
تَخْتَلِفُ . وَالْأَحَادِيثُ عَمّنْ قَالَ إنّهُ أَحَقّ بِهَا حَتّى
تَدْخُلَ فِي الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ قَوِيّةٌ
وَهَذَا النّصّ وَحْدَهُ هُوَ الّذِي ظَفِرَ بِهِ أَبُو عُمَرَ بْنُ
عَبْدِ الْبَرّ فَقَالَ رَجَعَ أَحْمَد ُ إلَى أَنّ الْأَقْرَاءَ
الْأَطْهَارُ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ كَانَ يَقُولُ هَذَا أَوّلًا ثُمّ
تَوَقّفَ فِيهِ فَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ أَيْضًا : قَدْ كُنْتُ
أَقُولُ الْأَطْهَارُ ثُمّ وَقَفْت كَقَوْلِ الْأَكَابِرِ ثُمّ جَزَمَ
أَنّهَا الْحِيَضُ وَصَرّحَ بِالرّجُوعِ عَنْ الْأَطْهَارِ فَقَالَ فِي
رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ .
كُنْت أَقُولُ إنّهَا الْأَطْهَارُ وَأَنَا
الْيَوْمَ أَذْهَبُ إلَى أَنّ الْأَقْرَاءَ الْحِيَضُ قَالَ الْقَاضِي
أَبُو يَعْلَى وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ عَن ْ أَحْمَد َ رَحِمَهُ اللّهُ
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَصْحَابُنَا وَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ بِالْأَطْهَارِ
ثُمّ ذَكَرَ نَصّ رُجُوعِهِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ كَمَا تَقَدّمَ
وَهُوَ قَوْلُ أَئِمّةِ أَهْلِ الرّأْيِ كَأَبِي حَنِيفَة َ وَأَصْحَابِهِ
.
[ مَنْ قَالَ بِأَنّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ ]
وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ أُمّ
الْمُؤْمِنِينَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِت ٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ .
وَيُرْوَى وَالشّافِعِي ّ وَأَحْمَدُ عَنْ الْفُقَهَاءِ السّبْعَةِ
وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَالزّهْرِيّ وَعَامّةِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَعَلَى هَذَا
الْقَوْلِ فَمَتَى طَلّقَهَا فِي أَثْنَاءِ طُهْرٍ فَهَلْ تَحْتَسِبُ
بِبَقِيّتِهِ قَرْءًا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ [ ص 533 ] أَحَدُهَا :
تَحْتَسِبُ بِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ . وَالثّانِي : لَا تَحْتَسِبُ بِهِ
وَهُوَ قَوْلُ الزّهْرِيّ . كَمَا لَا تَحْتَسِبُ بِبَقِيّةِ الْحَيْضَةِ
عِنْدَ مَنْ يَقُولُ الْقَرْءُ الْحَيْضُ اتّفَاقًا .
وَالثّالِثُ إنْ
كَانَ قَدْ جَامَعَهَا فِي ذَلِكَ الطّهْرِ لَمْ تَحْتَسِبْ بِبَقِيّتِهِ
وَإِلّا احْتَسَبَتْ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ . فَإِذَا طَعَنَتْ
فِي الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ أَوْ الرّابِعَةِ عَلَى قَوْلِ الزّهْرِيّ
انْقَضَتْ عِدّتُهَا . وَعَلَى قَوْلِ الْأَوّلِ لَا تَنْقَضِي الْعِدّةُ
حَتّى تَنْقَضِيَ الْحَيْضَةُ الثّالِثَةُ .
[ هَلْ يَقِفُ انْقِضَاءُ الْعِدّةِ عَلَى اغْتِسَالِ الْمُعْتَدّةِ مِنْ حَيْضَتِهَا الثّالِثَةِ ]
وَهَلْ
يَقِفُ انْقِضَاءُ عِدّتِهَا عَلَى اغْتِسَالِهَا مِنْهَا ؟ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا : لَا تَنْقُضِي عِدّتُهَا حَتّى
تَغْتَسِلَ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَكَابِرِ الصّحَابَةِ قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ : وَعُمَرُ وَعَلِيّ وَابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُونَ
لَهُ رَجْعَتُهَا قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ
انْتَهَى . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيق ِ وَعُثْمَانَ
بْنِ عَفّانَ وَأَبِي مُوسَى وَعُبَادَةَ وَأَبِي الدّرْدَاءِ وَمُعَاذِ
بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ كَمَا فِي مُصَنّفِ وَكِيعٍ عَنْ
عِيسَى الْخَيّاطِ عَنْ الشّعْبِيّ عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخُيّرَ فَالْخُيّرَ مِنْهُمْ
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَابْنُ عَبّاسٍ : أَنّهُ أَحَقّ بِهَا مَا لَمْ
تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ وَفِي " مُصَنّفِهِ " أَيْضًا
عَنْ مُحَمّدِ بْنِ رَاشِد ٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ
وَأَبِي الدّرْدَاء ِ مِثْلُهُ . وَفِي " مُصَنّفِ عَبْدِ الرّزّاقِ " :
عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ أَرْسَلَ عُثْمَانُ إلَى أُبَيّ بْنِ
كَعْبٍ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ : أَرَى أَنّهُ أَحَقّ
بِهَا حَتّى تَغْتَسِلَ مِنْ حَيْضَتِهَا الثّالِثَةِ وَتَحِلّ لَهَا
الصّلَاةُ قَالَ فَمَا أَعْلَمُ عُثْمَان َ إلّا أَخَذَ بِذَلِك [ ص 534 ]
يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنّ عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ قَالَ لَا
تَبِينُ حَتّى تَغْتَسِلَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ وَتَحِلّ لَهَا
الصّلَاةُ فَهَؤُلَاءِ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ الصّحَابَةِ وَهُوَ قَوْلُ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَسُفْيَانَ الثّوْرِيّ وَإِسْحَاقَ بْنِ
رَاهْوَيْهِ . قَالَ شُرَيْكٌ لَهُ الرّجْعَةُ وَإِنْ فَرّطَتْ فِي
الْغُسْلِ عِشْرِينَ سَنَة وَهَذَا إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْ الْإِمَامِ
أَحْمَد َ رَحِمَهُ اللّهُ . وَالثّانِي : أَنّهَا تَنْقَضِي بِمُجَرّدِ
طُهْرِهَا مِنْ الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ وَلَا تَقِفُ عَلَى الْغُسْلِ
وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشّافِعِيّ فِي
قَوْلِهِ الْقَدِيمِ حَيْثُ كَانَ يَقُولُ الْأَقْرَاءُ الْحِيَضُ وَهُوَ
إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتَارَهَا أَبُو
الْخَطّابِ . وَالثّالِثُ أَنّهَا فِي عِدّتِهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ الدّمِ
وَلِزَوْجِهَا رَجْعَتُهَا حَتّى يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ الصّلَاةِ
الّتِي طَهُرَتْ فِي وَقْتِهَا وَهَذَا قَوْلُ الثّوْرِيّ وَالرّوَايَةُ
الثّالِثَةُ عَنْ أَحْمَدَ حَكَاهَا أَبُو بَكْرٍ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللّهُ لَكِنْ إذَا انْقَطَعَ الدّمُ لِأَقَلّ
الْحَيْضِ وَإِنْ انْقَطَعَ الدّمُ لِأَكْثَرِهِ انْقَضَتْ الْعِدّةُ
عَنْهَا بِمُجَرّدِ انْقِطَاعِهِ .
[ هَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الطّهْرِ مَسْبُوقًا بِدَمِ قَبْلَهُ عَلَى مَنْ قَالَ بِالْأَطْهَار ]
وَأَمّا
مَنْ قَالَ إنّهَا الْأَطْهَارُ اخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا
: هَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الطّهْرِ مَسْبُوقًا بِدَمِ قَبْلَهُ أَوْ لَا
يُشْتَرَطُ ذَلِكَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لَهُمْ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي
مَذْهَبِ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ . أَحَدُهُمَا : يُحْتَسَبُ لِأَنّهُ
طُهْرٌ بَعْدَهُ حَيْضٌ فَكَانَ قَرْءًا كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَهُ حَيْضٌ
. وَالثّانِي : لَا يُحْتَسَبُ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصّ الشّافِعِيّ فِي
الْجَدِيدِ لِأَنّهَا لَا تُسَمّى مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إلّا إذَا
رَأَتْ الدّمَ .
[ هَلْ تَنْقَضِي الْعِدّةُ بِالطّعْنِ فِي الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ عَلَى مَنْ قَالَ بِالْأَطْهَارِ ]
الْمَوْضِعُ
الثّانِي : هَلْ تَنْقَضِي الْعِدّةُ بِالطّعْنِ فِي الْحَيْضَةِ
الثّالِثَةِ أَوْ لَا تَنْقَضِي [ ص 535 ] عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ
أَحْمَدَ وَهُمَا قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ لِلشّافِعِيّ وَلِأَصْحَابِهِ
وَجْهٌ ثَالِثٌ إنْ حَاضَتْ لِلْعَادَةِ انْقَضَتْ الْعِدّةُ بِالطّعْنِ
فِي الْحَيْضَةِ . وَإِنْ حَاضَتْ لِغَيْرِ الْعَادَةِ بِأَنْ كَانَتْ
عَادَتُهَا تَرَى الدّمَ فِي عَاشِرِ الشّهْرِ فَرَأَتْهُ فِي أَوّلِهِ
لَمْ تَنْقَضِ حَتّى يَمْضِيَ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ . ثُمّ
اخْتَلَفُوا : هَلْ يَكُونُ هَذَا الدّمُ مَحْسُوبًا مِنْ الْعِدّةِ ؟
عَلَى وَجْهَيْنِ تَظْهَرُ فَائِدَتُهُمَا فِي رَجْعَتِهَا فِي وَقْتِهِ
فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذَاهِبِ النّاسِ فِي الْأَقْرَاءِ .
[ حُجّةُ مَنْ فَسّرَ الْأَقْرَاءَ بِالْحِيَضِ ]
قَالَ مَنْ نَصّ إنّهَا الْحِيَضُ الدّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ
[ الدّلِيلُ الْأَوّلُ لِمَنْ حَمَلَ الْقَرْءَ عَلَى الْحَيْضِ ]
أَحَدُهَا
: أَنّ قَوْلَهُ تَعَالَى : { يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ
قُرُوءٍ } [ الْبَقَرَةَ 228 ] إمّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَطْهَارُ
فَقَطْ أَوْ الْحِيَضُ فَقَطْ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا . وَالثّالِثُ مُحَالٌ
إجْمَاعًا حَتّى عِنْدَ مَنْ يَحْمِلُ اللّفْظَ الْمُشْتَرَكَ عَلَى
مَعْنَيَيْهِ . وَإِذَا تَعَيّنَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَالْحِيَضُ
أَوْلَى بِهِ لِوُجُوهٍ
[ الْوَجْهُ الْأَوّلُ الدّالّ عَلَى أَوْلَوِيّةِ حَمْلِ الْقَرْءِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْحَيْضِ ]
أَحَدُهَا
: أَنّهَا لَوْ كَانَتْ الْأَطْهَارَ فَالْمُعْتَدّةُ بِهَا يَكْفِيهَا
قَرْآنِ وَلَحْظَةٌ مِنْ الثّالِثِ وَإِطْلَاقُ الثّلَاثَةِ عَلَى هَذَا
مَجَازٌ بَعِيدٌ لِنَصّيّةِ الثّلَاثَةِ فِي الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ .
فَإِنْ قُلْتُمْ بَعْضُ الطّهْرِ الْمُطْلَقِ فِيهِ عِنْدَنَا قَرْءٌ
كَامِلٌ قِيلَ جَوَابُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنّ
هَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَمَا تَقَدّمَ فَلَمْ تُجْمِعْ الْأُمّةُ عَلَى
أَنّ بَعْضَ الْقَرْءِ قَرْءٌ قَطّ فَدَعْوَى هَذَا يَفْتَقِرُ إلَى
دَلِيلٍ . الثّانِي : أَنّ هَذَا دَعْوَى مَذْهَبِيّةٌ أَوْجَبَ حَمْلَ
الْآيَةِ عَلَيْهَا إلْزَامُ كَوْنِ الْأَقْرَاءِ الْأَطْهَارَ
وَالدّعَاوَى الْمَذْهَبِيّةُ لَا يُفَسّرُ بِهَا الْقُرْآنُ وَتُحْمَلُ
عَلَيْهَا اللّغَةُ وَلَا يُعْقَلُ فِي اللّغَةِ قَطّ أَنّ اللّحْظَةَ
مِنْ الطّهْرِ تُسَمّى قَرْءًا كَامِلًا وَلَا اجْتَمَعَتْ الْأُمّةُ
عَلَى ذَلِكَ فَدَعْوَاهُ لَا تَثْبُتُ نَقْلًا وَلَا إجْمَاعًا وَإِنّمَا
هُوَ مُجَرّدُ الْحَمْلِ وَلَا رَيْبَ أَنّ الْحَمْلَ شَيْءٌ وَالْوَضْعَ
شَيْءٌ آخَرُ وَإِنّمَا يُفِيدُ ثُبُوتُ الْوَضْعِ لُغَةً أَوْ شَرْعًا
أَوْ عُرْفًا . [ ص 536 ] يَكُونَ اسْمًا لِمَجْمُوعِ الطّهْرِ كَمَا
يَكُونُ اسْمًا لِمَجْمُوعِ الْحَيْضَةِ أَوْ لِبَعْضِهِ أَوْ مُشْتَرَكًا
بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيّا أَوْ اشْتِرَاكًا مَعْنَوِيّا
وَالْأَقْسَامُ الثّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ فَتَعَيّنَ الْأَوّلُ أَمّا
بُطْلَانُ وَضْعِهِ لِبَعْضِ الطّهْرِ فَلِأَنّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ
الطّهْرُ الْوَاحِدُ عِدّةَ أَقْرَاءٍ وَيَكُونُ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ "
الْقَرْءِ " فِيهِ مَجَازًا . وَأَمّا بُطْلَانُ الِاشْتِرَاكِ
الْمَعْنَوِيّ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ يَلْزَمُ أَنْ
يَصْدُقَ عَلَى الطّهْرِ الْوَاحِدِ أَنّهُ عِدّةُ أَقْرَاءٍ حَقِيقَةً .
وَالثّانِي : أَنّ نَظِيرَهُ - وَهُوَ الْحَيْضُ - لَا يُسَمّى جُزْؤُهُ
قَرْءًا اتّفَاقًا وَوَضْعُ الْقَرْءِ لَهُمَا لُغَةً لَا يَخْتَلِفُ
وَهَذَا لَا خَفَاءَ بِهِ .
[ حَمْلُ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ وَالتّشْكِيكُ فِي نِسْبَتِهِ لِلشّافِعِيّ وَالْبَاقِلّانِيّ ]
فَإِنْ
قِيلَ نَخْتَارُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا
بَيْنَ كُلّهِ وَجُزْئِهِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيّا وَيُحْمَلُ الْمُشْتَرَكُ
عَلَى مَعْنَيَيْهِ فَإِنّهُ أَحْفَظُ وَبِهِ تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ
بِيَقِينٍ . قِيلَ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ لَا
يَصِحّ اشْتِرَاكُهُ كَمَا تَقَدّمَ . الثّانِي : أَنّهُ لَوْ صَحّ
اشْتِرَاكُهُ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى مَجْمُوعِ مَعْنَيَيْهِ . أَمّا
عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُجَوّزُ حَمْلَ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ
فَظَاهِرٌ وَأَمّا مَنْ يُجَوّزُ حَمْلَهُ عَلَيْهِمَا فَإِنّمَا
يُجَوّزُونَهُ إذَا دَلّ الدّلِيلُ عَلَى إرَادَتِهِمَا مَعًا . فَإِذَا
لَمْ يَدُلّ الدّلِيلُ وَقَفُوهُ حَتّى يَقُومَ الدّلِيلُ عَلَى إرَادَةِ
أَحَدِهِمَا أَوْ إرَادَتِهِمَا وَحَكَى الْمُتَأَخّرُونَ عَنْ
الشّافِعِيّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنّهُ إذَا تَجَرّدَ عَنْ
الْقَرَائِنِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَيَيْهِ كَالِاسْمِ الْعَامّ
لِأَنّهُ أَحْوَطُ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ
وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْنَى ثَالِثٍ وَتَعْطِيلُهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ
وَيَمْتَنِعُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ . فَإِذَا
جَاءَ وَقْتُ الْعَمَلِ وَلَمْ يَتَبَيّنْ أَنّ أَحَدَهُمَا هُوَ
الْمَقْصُودُ بِعَيْنِهِ عُلِمَ أَنّ الْحَقِيقَةَ غَيْرُ مُرَادَةٍ إذْ
لَوْ أُرِيدَتْ لَبُيّنَتْ فَتَعَيّنَ الْمَجَازُ وَهُوَ مَجْمُوعُ
الْمَعْنَيَيْنِ وَمَنْ يَقُولُ إنّ الْحَمْلَ عَلَيْهِمَا بِالْحَقِيقَةِ
يَقُولُ لَمّا لَمْ يَتَبَيّنْ أَنّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا عُلِمَ أَنّهُ
أَرَادَ كِلَيْهِمَا . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ
رَحِمَهُ اللّهُ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ عَنْ الشّافِعِيّ وَالْقَاضِي
نَظَرٌ أَمّا الْقَاضِي فَمِنْ أَصْلِهِ الْوَقْفُ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ
وَأَنّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ إلّا بِدَلِيلِ
فَمَنْ يَقِفُ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ كَيْفَ يَجْزِمُ فِي الْأَلْفَاظِ
الْمُشْتَرَكَةِ بِالِاسْتِغْرَاقِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ؟ وَإِنّمَا
الّذِي ذَكَرَهُ فِي كُتُبِهِ إحَالَةٌ . [ ص 537 ]
[ فَسَادُ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ ]
الِاشْتِرَاكُ
رَأْسًا وَمَا يُدّعَى فِيهِ الِاشْتِرَاكُ فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ قَبِيلِ
الْمُتَوَاطِئِ وَأَمّا الشّافِعِيّ فَمَنْصِبُهُ فِي الْعِلْمِ أَجَلّ
مِنْ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا وَإِنّمَا اُسْتُنْبِطَ هَذَا مِنْ
قَوْلِهِ إذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ تَنَاوَلَ الْمَوْلَى مِنْ فَوْقُ
وَمِنْ أَسْفَلَ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ قَالَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنّ
الْمَوْلَى مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَأَنّ مَوْضِعَهُ
الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا فَإِنّهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ
الْمُتَضَايِفَةِ كَقَوْلِهِ " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يُحْكَى عَنْهُ قَاعِدَةٌ عَامّةٌ فِي
الْأَسْمَاءِ الّتِي لَيْسَ مِنْ مَعَانِيهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ أَنْ
تُحْمَلَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهَا ثُمّ الّذِي
يَدُلّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ وُجُوهٌ . أَحَدُهَا : أَنّ
اسْتِعْمَالَ اللّفْظِ فِي مَعْنَيَيْهِ إنّمَا هُوَ مَجَازٌ إذْ وَضْعُهُ
لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ هُوَ الْحَقِيقَةُ
وَاللّفْظُ الْمُطْلَقُ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ بَلْ
يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ . الثّانِي : أَنّهُ لَوْ قُدّرَ
أَنّهُ مَوْضُوعٌ لَهُمَا مُنْفَرِدَيْنِ وَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مُجْتَمَعَيْنِ فَإِنّهُ يَكُونُ لَهُ حِينَئِذٍ ثَلَاثَةُ مَفَاهِيمَ
فَالْحَمْلُ عَلَى أَحَدِ مَفَاهِيمِهِ دُونَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ
مُمْتَنِعٌ . الثّالِثُ أَنّهُ حِينَئِذٍ يَسْتَحِيلُ حَمْلُهُ عَلَى
جَمِيعِ مَعَانِيهِ إذْ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا وَحْدَهُ وَعَلَيْهِمَا
مَعًا مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ النّقِيضَيْنِ فَيَسْتَحِيلُ
حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ وَحَمْلُهُ عَلَيْهِمَا مَعًا حَمْلٌ
لَهُ عَلَى بَعْضِ مَفْهُومَاتِهِ فَحَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِهَا يُبْطِلُ
حَمْلَهُ عَلَى جَمِيعِهَا . [ ص 538 ] الْحَقِيقَةُ وَحْدَهَا وَالثّانِي
: الْحَقِيقَةُ الْأُخْرَى وَحْدَهَا وَالثّالِثُ مَجْمُوعُهُمَا
وَالرّابِعُ مَجَازُ هَذِهِ وَحْدَهَا وَالْخَامِسُ مَجَازُ الْأُخْرَى
وَحْدَهَا وَالسّادِسُ مَجَازُهُمَا مَعًا وَالسّابِعُ الْحَقِيقَةُ
وَحْدَهَا مَعَ مَجَازِهَا وَالثّامِنُ الْحَقِيقَةُ مَعَ مَجَازِ
الْأُخْرَى . وَالتّاسِعُ الْحَقِيقَةُ الْوَاحِدَةُ مَعَ مَجَازِهِمَا
وَالْعَاشِرُ الْحَقِيقَةُ الْأُخْرَى مَعَ مَجَازِهَا وَالْحَادِيَ
عَشَرَ مَعَ مَجَازِ الْأُخْرَى وَالثّانِيَ عَشَرَ مَعَ مَجَازِهِمَا
فَهَذِهِ اثْنَا عَشَرَ مَحْمَلًا بَعْضُهَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ
وَبَعْضُهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ فَتَعْيِينُ مَعْنَى وَاحِدٍ
مَجَازِيّ دُونَ سَائِرِ الْمَجَازَاتِ وَالْحَقَائِقِ تَرْجِيحٌ مِنْ
غَيْرِ مُرَجّحٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ . الْخَامِسُ أَنّهُ لَوْ وَجَبَ
حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا لَصَارَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ
لَأَنّ حُكْمَ الِاسْمِ الْعَامّ وُجُوبُ حَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ
مُفْرَدَاتِهِ عِنْدَ التّجَرّدِ مِنْ التّخْصِيصِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ
لَجَازَ اسْتِثْنَاءُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْهُ وَلَسَبَقَ إلَى
الذّهْنِ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ الْعُمُومُ وَكَانَ الْمُسْتَعْمِلُ
لَهُ فِي أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعْمِلِ لِلِاسْمِ
الْعَامّ فِي بَعْضِ مَعَانِيهِ فَيَكُونُ مُتَجَوّزًا فِي خِطَابِهِ
غَيْرَ مُتَكَلّمٍ بِالْحَقِيقَةِ وَأَنْ يَكُونَ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي
مَعْنَيَيْهِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَى دَلِيلٍ وَإِنّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ
مَنْ نَفَى الْمَعْنَى الْآخَرَ وَلَوَجَبَ أَنْ يُفْهَمَ مِنْهُ
الشّمُولُ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْ التّخْصِيصِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ
بِذَلِكَ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ وَلَا يَنْفِي الْإِجْمَالَ عَنْهُ إذْ
يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْعَامّةِ وَهَذَا بَاطِلٌ
قَطْعًا وَأَحْكَامُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ لَا تُفَارِقُ
أَحْكَامَ الْأَسْمَاءِ الْعَامّةِ وَهَذَا مِمّا يُعْلَمُ
بِالِاضْطِرَارِ مِنْ اللّغَةِ وَلَكَانَتْ الْأُمّةُ قَدْ أَجْمَعَتْ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حَمْلِهَا عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهَا وَمُطْلَقِهَا
إذْ لَمْ يَصِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى حَمْلِ " الْقَرْءِ " عَلَى
الطّهْرِ وَالْحَيْضِ مَعًا وَبِهَذَا يَتَبَيّنُ بُطْلَانُ قَوْلِهِمْ
حَمْلُهُ عَلَيْهِمَا أَحْوَطُ فَإِنّهُ لَوْ قُدّرَ حَمْلُ الْآيَةِ
عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ الْحِيَضِ وَالْأَطْهَارِ لَكَانَ فِيهِ خُرُوجٌ
عَنْ الِاحْتِيَاطِ . وَإِنْ قِيلَ نَحْمِلُهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلّ
مِنْهُمَا فَهُوَ خِلَافُ نَصّ الْقُرْآنِ إذْ تَصِيرُ الْأَقْرَاءُ
سِتّةً . [ ص 539 ] قُلْنَا : مِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْرَى عَنْ
دَلَالَةٍ تُبَيّنُ الْمُرَادَ مِنْهُ كَمَا فِي الْأَسْمَاءِ
الْمُجْمَلَةِ وَإِنْ خَفِيَتْ الدّلَالَةُ عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ
فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ خَفِيّةً عَنْ مَجْمُوعِ الْأُمّةِ وَهَذَا
هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهِ الثّالِثِ فَالْكَلَامُ إذَا لَمْ يَكُنْ
مُطْلَقُهُ يَدُلّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ فَلَا بُدّ مِنْ بَيَانِ
الْمُرَادِ .
[ الْوَجْهُ الثّانِي الدّالّ عَلَى أَوْلَوِيّةِ حَمْلِ الْقَرْءِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْحَيْضِ ]
وَإِذَا
تَعَيّنَ أَنّ الْمُرَادَ بِالْقَرْءِ فِي الْآيَةِ أَحَدُهُمَا لَا
كِلَاهُمَا فَإِرَادَةُ الْحَيْضِ أَوْلَى لِوُجُوهٍ . مِنْهَا : مَا
تَقَدّمَ . الثّانِي : أَنّ اسْتِعْمَالَ الْقَرْءِ فِي الْحَيْضِ
أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الطّهْرِ فَإِنّهُمْ يَذْكُرُونَهُ تَفْسِيرًا
لِلَفْظِهِ ثُمّ يُرْدِفُونَهُ بِقَوْلِهِمْ وَقِيلَ أَوْ قَالَ فُلَانٌ
أَوْ يُقَالُ عَلَى الطّهْرِ أَوْ وَهُوَ أَيْضًا الطّهْرُ فَيَجْعَلُونَ
تَفْسِيرَهُ بِالْحَيْضِ كَالْمُسْتَقِرّ الْمَعْلُومِ الْمُسْتَفِيضِ
وَتَفْسِيرُهُ بِالطّهْرِ قَوْلٌ قِيلَ . وَهَاكَ حِكَايَةُ أَلْفَاظِهِمْ
. قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْقَرْءُ بِالْفَتْحِ الْحَيْضُ وَالْجَمْعُ
أَقْرَاءٌ وَقُرُوءٌ . وَفِي الْحَدِيثِ لَا صَلَاةَ أَيّامَ أَقْرَائِك
وَالْقَرْءُ أَيْضًا : الطّهْرُ وَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ . وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ : الْأَقْرَاءُ الْحِيَضُ ثُمّ قَالَ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ
وَقَالَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرّاءُ أَقْرَأَتْ الْمَرْأَةُ إذَا حَاضَتْ .
وَقَالَ ابْنُ فَارِسَ : الْقُرُوءُ أَوْقَاتٌ يَكُونُ لِلطّهْرِ مَرّةً
وَلِلْحَيْضِ مَرّةً وَالْوَاحِدُ قَرْءٌ وَيُقَالُ الْقَرْءُ وَهُوَ
الطّهْرُ ثُمّ قَالَ . وَقَوْمٌ يَذْهَبُونَ إلَى أَنّ الْقَرْءَ
الْحَيْضُ فَحَكَى قَوْلَ مَنْ جَعَلَهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ أَوْقَاتِ
الطّهْرِ وَالْحَيْضِ وَقَوْلَ مَنْ جَعَلَهُ لِأَوْقَاتِ الطّهْرِ
وَقَوْلَ مَنْ جَعَلَهُ لِأَوْقَاتِ الْحَيْضِ وَكَأَنّهُ لَمْ يَخْتَرْ
وَاحِدًا مِنْهُمَا بَلْ جَعَلَهُ لِأَوْقَاتِهِمَا . قَالَ وَأَقْرَأَتْ
الْمَرْأَةُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ حَيْضٍ إلَى طُهْرٍ وَمِنْ طُهْرٍ إلَى
حَيْضٍ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَا بُدّ مِنْ مُسَمّى الْحَيْضِ فِي
حَقِيقَتِهِ يُوَضّحُهُ أَنّ مَنْ قَالَ أَوْقَاتُ الطّهْرِ تُسَمّى
قُرُوءًا فَإِنّمَا يُرِيدُ أَوْقَاتَ الطّهْرِ الّتِي [ ص 540 ] يُقَالُ
لِزَمَنِ طُهْرِهِمَا أَقْرَاءٌ وَلَا هُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ
بِاتّفَاقِ أَهْلِ اللّغَةِ .
[ الدّلِيلُ الثّانِي لِمَنْ حَمَلَ الْقَرْءَ عَلَى الْحَيْضِ ] الدّلِيلُ الثّانِي : أَنّ لَفْظَ الْقَرْءِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي كَلَامِ الشّارِعِ إلّا لِلْحَيْضِ وَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ اسْتِعْمَالُهُ لِلطّهْرِ فَحَمْلُهُ فِي الْآيَةِ عَلَى الْمَعْهُودِ الْمَعْرُوفِ مِنْ خِطَابِ الشّارِعِ أَوْلَى بَلْ مُتَعَيّنٌ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ دَعِي الصّلَاةَ أَيّامَ أَقْرَائِكِ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُعَبّرُ عَنْ اللّهِ تَعَالَى وَبِلُغَةِ قَوْمِهِ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَإِذَا وَرَدَ الْمُشْتَرَكُ فِي كَلَامِهِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ وَجَبَ حَمْلُهُ فِي سَائِرِ كَلَامِهِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ تَثْبُتْ إرَادَةُ الْآخَرِ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ الْبَتّةَ وَيَصِيرُ هُوَ لُغَةَ الْقُرْآنِ الّتِي خُوطِبْنَا بِهَا وَإِنْ كَانَ لَهُ مَعْنًى آخَرُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ وَيَصِيرُ هَذَا الْمَعْنَى الْحَقِيقَةَ الشّرْعِيّةَ فِي تَخْصِيصِ الْمُشْتَرَكِ بِأَحَدِ مَعْنَيَيْهِ كَمَا يُخَصّ الْمُتَوَاطِئُ بِأَحَدِ أَفْرَادِهِ بَلْ هَذَا أَوْلَى لِأَنّ أَغْلَبَ أَسْبَابِ الِاشْتِرَاكِ تَسْمِيَةُ أَحَدِ الْقَبِيلَتَيْنِ الشّيْءَ بِاسْمِ وَتَسْمِيَةُ الْأُخْرَى بِذَلِكَ الِاسْمِ مُسَمّى آخَرَ ثُمّ تَشِيعُ الِاسْتِعْمَالَاتُ بَلْ قَالَ الْمُبَرّدُ وَغَيْرُهُ [ ص 541 ] ثَبَتَ اسْتِعْمَالُ الشّارِعِ لَفْظَ الْقُرُوءِ فِي الْحِيَضِ عُلِمَ أَنّ هَذَا لُغَتُهُ فَيَتَعَيّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا فِي كَلَامِهِ . وَيُوَضّحُ ذَلِكَ مَا فِي سِيَاقِ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ { وَلَا يَحِلّ لَهُنّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنّ } [ الْبَقَرَةَ 228 ] وَهَذَا هُوَ الْحَيْضُ وَالْحَمْلُ عِنْدَ عَامّةِ الْمُفَسّرِينَ وَالْمَخْلُوقُ فِي الرّحِمِ إنّمَا هُوَ الْحَيْضُ الْوُجُودِيّ وَلِهَذَا قَالَ السّلَفُ وَالْخَلَفُ هُوَ الْحَمْلُ وَالْحَيْضُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْحَمْلُ وَبَعْضُهُمْ الْحَيْضُ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطّ إنّهُ الطّهْرُ وَلِهَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ مَنْ عُنِيَ بِجَمْعِ أَقْوَالِ أَهْلِ التّفْسِيرِ كَابْنِ الْجَوْزِيّ وَغَيْرِهِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ { وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطّلَاقَ 4 ] فَجَعَلَ كُلّ شَهْرٍ بِإِزَاءِ حَيْضَةٍ وَعَلّقَ الْحُكْمَ بِعَدَمِ الْحَيْضِ لَا بِعَدَمِ الطّهْرِ مِنْ الْحَيْضِ .
[ عِدّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ ]
وَأَيْضًا
فَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدّتُهَا
حَيْضَتَانِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتّرْمِذِيّ
وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلّا مِنْ حَدِيثِ مُظَاهِرِ بْنِ
أَسْلَمَ وَمُظَاهِرٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الْعِلْمِ غَيْرُ هَذَا
الْحَدِيثِ وَفِي لَفْظٍ لِلدّارَقُطْنِيّ فِيهِ طَلَاقُ الْعَبْدِ
ثِنْتَان وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَطِيّةَ الْعَوْفِيّ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَلَاقُ الْأَمَةِ اثْنَتَانِ وَعِدّتُهَا
حَيْضَتَانِ وَأَيْضًا : قَالَ ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " :
حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُحَمّدٍ حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدّ ثَلَاثَ حِيَضٍ
[ ص 542 ] وَفِي " الْمُسْنَدِ " : عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُمَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيّرَ بَرِيرَةَ
فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدّ عِدّةَ الْحُرّةِ
وَقَدْ فُسّرَ عِدّةُ الْحُرّةِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا . فَإِنْ قِيلَ فَمَذْهَبُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهَا أَنّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ ؟ قِيلَ لَيْسَ هَذَا بِأَوّلِ
حَدِيثٍ خَالَفَهُ رَاوِيهِ فَأَخَذَ بِرِوَايَتِهِ دُونَ رَأْيِهِ
وَأَيْضًا فَفِي حَدِيثِ الرّبَيّعِ بِنْتِ مُعَوّذٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ
شَمّاسٍ لَمّا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا أَنْ تَتَرَبّصَ حَيْضَةً
وَاحِدَةً وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا رَوَاهُ النّسَائِيّ . وَفِي " سُنَنِ
أَبِي دَاوُدَ " عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ
امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَأَمَرَهَا
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَعْتَدّ بِحَيْضَةِ
[ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ حَيْضَةٌ ]
وَفِي
التّرْمِذِيّ أَنّ الرّبَيّعَ بِنْتَ مُعَوّذٍ اخْتَلَعَتْ عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمَرَهَا النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ أُمِرَتْ أَن تَعْتَدّ بِحَيْضَة
قَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثُ الرّبَيّعِ الصّحِيحُ أَنّهَا أُمِرَتْ أَنْ
تَعْتَدّ بِحَيْضَةٍ . وَأَيْضًا فَإِنّ الِاسْتِبْرَاءَ هُوَ عِدّةُ
الْأَمَةِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ : لَا تُوطَأُ حَامِلٌ
حَتّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَى تَحِيضَ حَيْضَة رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ . فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلّمُ أَنّ اسْتِبْرَاءَ
الْأَمَةِ بِالْحَيْضَةِ وَإِنّمَا هُوَ بِالطّهْرِ الّذِي هُوَ [ ص 543 ]
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ وَقَالَ قَوْلُهُمْ إنّ اسْتِبْرَاءَ
الْأَمَةِ حَيْضَةٌ بِإِجْمَاعِ لَيْسَ كَمَا ظَنّوا بَلْ جَائِزٌ لَهَا
عِنْدَنَا أَنْ تَنْكِحَ إذَا دَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ وَاسْتَيْقَنَتْ
أَنّ دَمَهَا دَمُ حَيْضٍ كَذَلِكَ قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ
لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ حِينَ أَدْخَلَ عَلَيْهِ فِي مُنَاظَرَتِهِ
إيّاهُ . قُلْنَا : هَذَا يَرُدّهُ قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَا تُوطَأُ الْحَامِلُ حَتّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتّى
تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ الْأَصْلِيّ مِنْ
الْعِدّةِ إنّمَا هُوَ اسْتِبْرَاءُ الرّحِمِ وَإِنْ كَانَ لَهَا
فَوَائِدُ أُخَرُ وَلِشَرَفِ الْحُرّةِ الْمَنْكُوحَةِ وَخَطَرِهَا جُعِلَ
الْعَلَمُ الدّالّ عَلَى بَرَاءَةِ رَحِمِهَا ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ فَلَوْ
كَانَ الْقَرْءُ هُوَ الطّهْرَ لَمْ تَحْصُلْ بِالْقَرْءِ الْأَوّلِ
دَلَالَةٌ فَإِنّهُ لَوْ جَامَعَهَا فِي الطّهْرِ ثُمّ طَلّقَهَا ثُمّ
حَاضَتْ كَانَ ذَلِكَ قَرْءًا مَحْسُوبًا مِنْ الْأَقْرَاءِ عِنْدَ مَنْ
يَقُولُ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ . وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا لَمْ يَدُلّ
عَلَى شَيْءٍ وَإِنّمَا الّذِي يَدُلّ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْحَيْضُ
الْحَاصِلُ بَعْدَ الطّلَاقِ وَلَوْ طَلّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا
فِيهِ فَإِنّمَا يُعْلَمُ هُنَا بَرَاءَةُ الرّحِمِ بِالْحَيْضِ
الْمَوْجُودِ قَبْلَ الطّلَاقِ وَالْعِدّةُ لَا تَكُونُ قَبْلَ الطّلَاقِ
لِأَنّهَا حُكْمُهُ وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ سَبَبَهُ فَإِذَا كَانَ
الطّهْرُ الْمَوْجُودُ بَعْدَ الطّلَاقِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى
الْبَرَاءَةِ أَصْلًا لَمْ يَجُزْ إدْخَالُهُ فِي الْعِدَدِ الدّالّةِ
عَلَى بَرَاءَةِ الرّحِمِ وَكَانَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ شَاهِدٍ غَيْرِ
مَقْبُولٍ وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ لَا
شَهَادَةَ لَهُ يُوَضّحُهُ أَنّ الْعِدّةَ فِي الْمَنْكُوحَاتِ
كَالِاسْتِبْرَاءِ فِي الْمَمْلُوكَاتِ . وَقَدْ ثَبَتَ بِصَرِيحِ
السّنّةِ أَنّ الِاسْتِبْرَاءَ بِالْحَيْضِ لَا بِالطّهْرِ فَكَذَلِكَ
الْعِدّةُ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلّا بِتَعَدّدِ الْعِدّةِ
وَالِاكْتِفَاءِ بِالِاسْتِبْرَاءِ بِقَرْءِ وَاحِدٍ وَهَذَا لَا يُوجِبُ
اخْتِلَافَهُمَا فِي حَقِيقَةِ الْقَرْءِ وَإِنّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي
الْقَدْرِ الْمُعْتَبَرِ مِنْهُمَا وَلِهَذَا قَالَ الشّافِعِيّ فِي
أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ عَنْهُ إنّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ يَكُونُ
بِالْحَيْضِ وَفَرّقَ أَصْحَابُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ بِأَنّ الْعِدّةَ
وَجَبَتْ قَضَاءً لِحَقّ الزّوْجِ فَاخْتُصّتْ بِأَزْمَانِ حَقّهِ وَهِيَ
أَزْمَانُ الطّهْرِ وَبِأَنّهَا تَتَكَرّرُ فَتُعْلَمُ مَعَهَا
الْبَرَاءَةُ بِتَوَسّطِ [ ص 544 ] وَقَالَ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ
تُسْتَبْرَأُ بِطُهْرٍ طَرْدًا لِأَصْلِهِ فِي الْعِدَدِ وَعَلَى هَذَا
فَهَلْ تَحْتَسِبُ بِبَعْضِ الطّهْرِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِهِ
فَإِذَا احْتَسَبَتْ بِهِ فَلَا بُدّ مِنْ ضَمّ حَيْضَةٍ كَامِلَةٍ
إلَيْهِ . فَإِذَا طَعَنَتْ فِي الطّهْرِ الثّانِي حَلّتْ وَإِنْ لَمْ
تَحْتَسِبْ بِهِ فَلَا بُدّ مِنْ ضَمّ طُهْرٍ كَامِلٍ إلَيْهِ وَلَا
تَحْتَسِبُ بِبَعْضِ الطّهْرِ عِنْدَهُ قَرْءًا قَوْلًا وَاحِدًا .
[ عِلّةُ أَوْلَوِيّةِ اعْتِدَادِ الْحُرّةِ عَلَى الْأَمَةِ بِالْحَيْضِ ]
وَالْمَقْصُودُ
أَنّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنّ عِدّةَ الِاسْتِبْرَاءِ حَيْضَةٌ لَا طُهْرٌ
وَهَذَا الِاسْتِبْرَاءُ فِي حَقّ الْأَمَةِ كَالْعِدّةِ فِي حَقّ
الْحُرّةِ قَالُوا : بَلْ الِاعْتِدَادُ فِي حَقّ الْحُرّةِ بِالْحَيْضِ
أَوْلَى مِنْ الْأَمَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّ
الِاحْتِيَاطَ فِي حَقّهَا ثَابِتٌ بِتَكْرِيرِ الْقَرْءِ ثَلَاثَ
اسْتِبْرَاءَاتٍ فَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاعْتِدَادُ فِي
حَقّهَا بِالْحَيْضِ الّذِي هُوَ أَحْوَطُ مِنْ الطّهْرِ فَإِنّهَا لَا
تَحْتَسِبُ بِبَقِيّةِ الْحَيْضَةِ قَرْءًا وَتَحْتَسِبُ بِبَقِيّةِ
الطّهْرِ قَرْءًا . الثّانِي : أَنّ اسْتِبْرَاءَ الْأَمَةِ فَرْعٌ عَلَى
عِدّةِ الْحُرّةِ وَهِيَ الثّابِتَةُ بِنَصّ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِبْرَاءُ
إنّمَا ثَبَتَ بِالسّنّةِ فَإِذَا كَانَ قَدْ احْتَاطَ لَهُ الشّارِعُ
بِأَنْ جَعَلَهُ بِالْحَيْضِ فَاسْتِبْرَاءُ الْحُرّةِ أَوْلَى فَعِدّةُ
الْحُرّةِ اسْتِبْرَاءٌ لَهَا وَاسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ عِدّةٌ لَهَا .
وَأَيْضًا فَالْأَدِلّةُ وَالْعَلَامَاتُ وَالْحُدُودُ وَالْغَايَاتُ
إنّمَا تَحْصُلُ بِالْأُمُورِ الظّاهِرَةِ الْمُتَمَيّزَةِ عَنْ غَيْرِهَا
وَالطّهْرُ هُوَ الْأَمْرُ الْأَصْلِيّ وَلِهَذَا مَتَى كَانَ مُسْتَمِرّا
مُسْتَصْحَبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمٌ يُفْرَدُ بِهِ فِي الشّرِيعَةِ
وَإِنّمَا الْأَمْرُ الْمُتَمَيّزُ هُوَ الْحَيْضُ فَإِنّ الْمَرْأَةَ
إذَا حَاضَتْ تَغَيّرَتْ أَحْكَامُهَا مِنْ بُلُوغِهَا وَتَحْرِيمِ
الْعِبَادَاتِ عَلَيْهَا مِنْ الصّلَاةِ وَالصّوْمِ وَالطّوَافِ
وَاللّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ . ثُمّ
إذَا انْقَطَعَ الدّمُ وَاغْتَسَلَتْ فَلَمْ تَتَغَيّرْ أَحْكَامُهَا
بِتَجَدّدِ الطّهْرِ لَكِنْ [ ص 545 ] كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحَيْضِ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجَدّدَ لَهَا الطّهْرُ حُكْمًا وَالْقَرْءُ أَمْرٌ
يُغَيّرُ أَحْكَامَ الْمَرْأَةِ وَهَذَا التّغْيِيرُ إنّمَا يَحْصُلُ
بِالْحَيْضِ دُونَ الطّهْرِ . فَهَذَا الْوَجْهُ دَالّ عَلَى فَسَادِ
قَوْلِ مَنْ يَحْتَسِبُ بِالطّهْرِ الّذِي قَبْلَ الْحَيْضَةِ قَرْءًا
فِيمَا إذَا طُلّقَتْ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثُمّ حَاضَتْ فَإِنّ مَنْ
اعْتَدّ بِهَذَا الطّهْرِ قَرْءًا جَعَلَ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ فِي
الشّرِيعَةِ قَرْءًا مِنْ الْأَقْرَاءِ وَهَذَا فَاسِدٌ .
فَصْلٌ [ حُجّةُ مَنْ فَسّرَ الْأَقْرَاءَ بِالْأَطْهَارِ ]
قَالَ
مَنْ جَعَلَ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارَ الْكَلَامُ مَعَكُمْ فِي
مَقَامَيْنِ . أَحَدُهُمَا : بَيَانُ الدّلِيلِ عَلَى أَنّهَا
الْأَطْهَارُ . الثّانِي : فِي الْجَوَابِ عَنْ أَدِلّتِكُمْ . أَمّا
الْمَقَامُ الْأَوّلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ إِذَا
طَلّقْتُمُ النّسَاءَ فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ } [ الطّلَاقَ 1 ]
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنّ اللّامَ هِيَ لَامُ الْوَقْتِ أَيْ
فَطَلّقُوهُنّ فِي وَقْتِ عِدّتِهِنّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [
الْأَنْبِيَاءَ 47 ] أَيْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَوْلُهُ { أَقِمِ
الصّلَاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ } [ الْإِسْرَاءَ : 78 ] أَيْ وَقْتَ
الدّلُوكِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ : جِئْتُك لِثَلَاثِ بَقِينَ مِنْ الشّهْرِ
أَيْ فِي ثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْهُ وَقَدْ فَسّرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذَا التّفْسِيرِ فَفِي "
الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ لَمّا
طَلّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ أَمَرَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا ثُمّ يُطَلّقَهَا وَهِيَ طَاهِرٌ
قَبْلَ أَنْ يَمَسّهَا ثُمّ قَالَ فَتِلْكَ الْعِدّةُ الّتِي أَمَرَ
اللّهُ أَنْ تُطَلّقَ لَهَا النّسَاءُ فَبَيّنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْعِدّةَ الّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ تُطَلّقَ
لَهَا النّسَاءُ هِيَ الطّهْرُ الّذِي بَعْدَ الْحَيْضَةِ وَلَوْ كَانَ
الْقَرْءُ هُوَ الْحَيْضَ [ ص 546 ] كَانَ قَدْ طَلّقَهَا قَبْلَ
الْعِدّةِ لَا فِي الْعِدّةِ وَكَانَ ذَلِكَ تَطْوِيلًا عَلَيْهَا وَهُوَ
غَيْرُ جَائِزٍ كَمَا لَوْ طَلّقَهَا فِي الْحَيْضِ . قَالَ الشّافِعِيّ :
قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ
ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } [ الْبَقَرَةَ 228 ] فَالْأَقْرَاءُ عِنْدَنَا -
وَاَللّهُ أَعْلَمُ - الْأَطْهَارُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَا دَلّ عَلَى
أَنّهَا الْأَطْهَارُ وَقَدْ قَالَ غَيْرُكُمْ الْحَيْضُ ؟ قِيلَ لَهُ
دَلَالَتَانِ . إحْدَاهُمَا : الْكِتَابُ الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ
وَالْأُخْرَى : اللّسَانُ . فَإِنْ قَالَ وَمَا الْكِتَابُ ؟ قِيلَ قَالَ
اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ
فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ } [ الطّلَاقَ 1 ] وَأَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ طَلّقَ
امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فِي عَهْدِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا تُمّ لِيُمْسِكْهَا حَتّى تَطْهُرَ ثُمّ تَحِيضَ
ثُمّ تَطْهُرَ ثُمّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلّقَ قَبْلَ
أَنْ يَمَسّ فَتِلْكَ الْعِدّةُ الّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ تُطَلّقَ لَهَا
النّسَاءُ أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ وَسَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ
جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَذْكُرُ
طَلَاقَ امْرَأَتِهِ حَائِضًا فَقَالَ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلّقْ أَوْ يُمْسِكْ وَتَلَا
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { إِذَا طَلّقْتُمُ النّسَاءَ
فَطَلّقُوهُنّ } لِقُبُلِ أَوْ فِي قُبُلِ عِدّتِهِنّ [ الطّلَاقَ 1 ]
قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ أَنَا شَكَكْت فَأَخْبَرَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ أَنّ
الْعِدّةَ الطّهْرُ دُونَ الْحَيْضِ وَقَرَأَ فَطَلّقُوهُنّ لِقُبُلِ
عِدّتِهِنّ - 547 وَهُوَ أَنْ يُطَلّقَهَا طَاهِرًا لِأَنّهَا حِينَئِذٍ
تَسْتَقْبِلُ عِدّتَهَا وَلَوْ طُلّقَتْ حَائِضًا لَمْ تَكُنْ
مُسْتَقْبِلَةً عِدّتَهَا إلّا بَعْدَ الْحَيْضِ . فَإِنْ قَالَ فَمَا
اللّسَانُ ؟ قِيلَ الْقَرْءُ اسْمٌ وُضِعَ لِمَعْنَى فَلَمّا كَانَ
الْحَيْضُ دَمًا يُرْخِيهِ الرّحِمُ فَيَخْرُجُ وَالطّهْرُ دَمًا
يَحْتَبِسُ فَلَا يَخْرُجُ وَكَانَ مَعْرُوفًا مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ
أَنّ الْقَرْءَ الْحَبْسُ . تَقُولُ الْعَرَب : هُوَ يَقْرِي الْمَاءَ فِي
حَوْضِهِ وَفِي سِقَائِهِ وَتَقُولُ الْعَرَبُ : هُوَ يَقْرِي الطّعَامَ
فِي شِدْقِهِ يَعْنِي : يَحْبِسُهُ فِي شِدْقِهِ . وَتَقُولُ الْعَرَبُ :
إذَا حَبَسَ الرّجُلُ الشّيْءَ قَرَأَهُ . يَعْنِي : خَبّأَهُ وَقَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ تُقْرَى فِي صِحَافِهَا أَيْ
تُحْبَسُ فِي صِحَافِهَا . قَالَ الشّافِعِيّ : أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا
أَنّهَا انْتَقَلَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرّحْمَنِ حِينَ دَخَلَتْ
فِي الدّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ :
فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ فَقَالَتْ صَدَقَ
عُرْوَةُ . وَقَدْ جَادَلَهَا فِي ذَلِكَ نَاسٌ . وَقَالُوا : إنّ اللّهَ
تَعَالَى يَقُولُ { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا : صَدَقْتُمْ وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الْأَقْرَاءُ ؟
الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ
سَمِعْت أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ يَقُولُ مَا أَدْرَكْتُ
أَحَدًا مِنْ فُقَهَائِنَا إلّا وَهُوَ يَقُولُ هَذَا . يُرِيدُ الّذِي
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا . قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ
اللّهُ وَأَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : إذَا طَعَنَتْ الْمُطَلّقَةُ فِي
الدّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ
وَأَخْبَرَنَا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ نَافِعٍ وَزَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنّ الْأَحْوَصَ - يَعْنِي ابْنَ
حَكِيمٍ - هَلَكَ بِالشّامِ حِينَ دَخَلَتْ امْرَأَتُهُ فِي الْحَيْضَةِ [
ص 548 ] كَانَ طَلّقَهَا فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ زَيْدٌ إنّهَا إذَا دَخَلَتْ
فِي الدّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ وَبَرِئَ
مِنْهَا وَلَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا وَأَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ
الزّهْرِيّ قَالَ حَدّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ
ثَابِتٍ قَالَ إذَا طَعَنَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ
فَقَدْ بَرِئَتْ وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ رَجُلٍ
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ وَابْنَ
عُمَرَ قَالَا : إذَا دَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ فَلَا
رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا وَأَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ إذَا طَلّقَ الرّجُلُ امْرَأَتَهُ
فَدَخَلَتْ فِي الدّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ فَقَدْ بَرِئَتْ
مِنْهُ وَلَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا أَخْبَرَنَا مَالِكٌ رَحِمَهُ
اللّهُ أَنّهُ بَلَغَهُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ وَسَالِمِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ
يَسَارٍ وَابْنِ شِهَابٍ أَنّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إذَا دَخَلَتْ
الْمُطَلّقَةُ فِي الدّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ فَقَدْ بَانَتْ
مِنْهُ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا . زَادَ غَيْرُ الشّافِعِيّ عَنْ
مَالِك ٍ رَحِمَهُمَا اللّهُ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا . قَالَ
مَالِكٌ وَذَلِكَ الْأَمْرُ الّذِي أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ أَهْلَ الْعِلْمِ
بِبَلَدِنَا . قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ وَلَا بُعْدَ أَنْ
تَكُونَ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهَا وَالنّسَاءُ بِهَذَا أَعْلَمُ لِأَنّهُ فِيهِنّ لَا فِي الرّجَالِ
أَوْ الْحَيْضُ فَإِذَا جَاءَتْ بِثَلَاثِ حِيَضٍ حَلّتْ وَلَا نَجِدُ فِي
كِتَابِ اللّهِ لِلْغُسْلِ مَعْنَى وَلَسْتُمْ تَقُولُونَ بِوَاحِدِ مِنْ
الْقَوْلَيْنِ يَعْنِي : أَنّ الّذِينَ قَالُوا : إنّهَا الْحَيْضُ
قَالُوا : وَهُوَ أَحَقّ بِرَجْعَتِهَا حَتّى تَغْتَسِلَ مِنْ الْحَيْضَةِ
الثّالِثَةِ كَمَا قَالَهُ عَلِيّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو [ ص 549 ]
مُوسَى وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ أَيْضًا . فَقَالَ
الشّافِعِيّ : فَقِيلَ لَهُمْ يَعْنِي لِلْعِرَاقِيّينَ لَمْ تَقُولُوا
بِقَوْلِ مَنْ احْتَجَجْتُمْ بِقَوْلِهِ وَرَوَيْتُمْ هَذَا عَنْهُ وَلَا
بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ السّلَفِ عَلِمْنَاهُ ؟ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ أَيْنَ
خَالَفْنَاهُمْ ؟ قُلْنَا . قَالُوا : حَتّى تَغْتَسِلَ وَتَحِلّ لَهَا
الصّلَاةُ وَقُلْتُمْ إنْ فَرّطَتْ فِي الْغُسْلِ حَتّى يَذْهَبَ وَقْتُ
الصّلَاةِ حَلّتْ وَهِيَ لَمْ تَغْتَسِلْ وَلَمْ تَحِلّ لَهَا الصّلَاةُ .
انْتَهَى كَلَامُ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ . قَالُوا : وَيَدُلّ عَلَى
أَنّهَا الْأَطْهَارُ فِي اللّسَانِ قَوْلُ الْأَعْشَى : أَفِي كُلّ عَامٍ
أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ تَشُدّ لِأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا
مُوَرّثَةٍ عِزّا وَفِي الْحَيّ رِفْعَةً لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا
فَالْقُرُوءُ
فِي الْبَيْتِ الْأَطْهَارُ لِأَنّهُ ضَيّعَ أَطْهَارَهُنّ فِي غَزَاتِهِ
وَآثَرَهَا عَلَيْهِنّ . قَالُوا : وَلِأَنّ الطّهْرَ أَسْبَقُ إلَى
الْوُجُودِ مِنْ الْحَيْضِ فَكَانَ أَوْلَى بِالِاسْمِ قَالُوا : فَهَذَا
أَحَدُ الْمَقَامَيْنِ .
وَأَمّا الْمَقَامُ الْآخَرُ وَهُوَ
الْجَوَابُ عَنْ أَدِلّتِكُمْ فَنُجِيبُكُمْ بِجَوَابَيْنِ مُجْمَلٍ
وَمُفَصّلٍ . أَمّا الْمُجْمَلُ فَنَقُولُ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ
الْقُرْآنُ فَهُوَ أَعْلَمُ بِتَفْسِيرِهِ وَبِمُرَادِ الْمُتَكَلّمِ بِهِ
مَنْ كُلّ أَحَدٍ سِوَاهُ وَقَدْ فَسّرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْعِدّةَ الّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ تُطَلّقَ لَهَا النّسَاءُ
بِالْأَطْهَارِ فَلَا الْتِفَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى شَيْءٍ خَالَفَهُ
بَلْ كُلّ تَفْسِيرٍ يُخَالِفُ هَذَا فَبَاطِلٌ . قَالُوا : وَأَعْلَمُ
الْأُمّةِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَزْوَاجُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَعْلَمُهُنّ بِهَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا
لِأَنّهَا فِيهِنّ لَا فِي الرّجَالِ وَلِأَنّ اللّهَ تَعَالَى جَعَلَ
قَوْلَهُنّ فِي [ ص 550 ] فَدَلّ عَلَى أَنّهُنّ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْ
الرّجَالِ فَإِذَا قَالَتْ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا :
إنّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ . فَقَدْ قَالَتْ حَذَامِ فَصَدّقُوهَا
فَإِنّ الْقَوْلَ مَا قَالَتْ حَذَام
قَالُوا : وَأَمّا الْجَوَابُ
الْمُفَصّلُ فَنُفْرِدُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ أَدِلّتِكُمْ بِجَوَابِ خَاصّ
فَهَاكُمْ الْأَجْوِبَةُ . أَمّا قَوْلُكُمْ إمّا أَنْ يُرَادَ
بِالْأَقْرَاءِ فِي الْآيَةِ الْأَطْهَارُ فَقَطْ أَوْ الْحِيَضُ فَقَطْ
أَوْ مَجْمُوعُهُمَا إلَى آخِرِهِ . فَجَوَابُهُ أَنْ نَقُولَ
الْأَطْهَارُ فَقَطْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدّلَالَةِ . قَوْلُكُمْ
النّصّ اقْتَضَى ثَلَاثَةً إلَى آخِرِهِ . قُلْنَا : عَنْهُ جَوَابَانِ
أَحَدُهُمَا : أَنّ بَقِيّةَ الطّهْرِ عِنْدَنَا قَرْءٌ كَامِلٌ فَمَا
اعْتَدّتْ إلّا بِثَلَاثِ كَوَامِلَ . الثّانِي : أَنّ الْعَرَبَ تُوقِعُ
اسْمَ الْجَمْعِ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثّالِثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى
: { الْحَجّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } [ الْبَقَرَةَ 197 ] فَإِنّهَا
شَوّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجّةِ أَوْ تِسْعٌ أَوْ
ثَلَاثَةَ عَشَرَ . وَيَقُولُونَ لِفُلَانٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً إذْ
دَخَلَ فِي السّنَةِ الثّالِثَةَ عَشَرَ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْرُوفًا
فِي لُغَتِهِمْ وَقَدْ دَلّ الدّلِيلُ عَلَيْهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ
. [ ص 551 ] أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الطّهْرِ فَمُقَابَلٌ بِقَوْلِ
مُنَازِعِيكُمْ . قَوْلُكُمْ إنّ أَهْلَ اللّغَةِ يُصَدّرُونَ كُتُبَهُمْ
بِأَنّ الْقَرْءَ هُوَ الْحَيْضُ فَيَذْكُرُونَهُ تَفْسِيرًا لِلَفْظِ
ثُمّ يُرْدِفُونَهُ بِقَوْلِهِمْ بِقِيلَ أَوْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ
الطّهْرُ . قُلْنَا : أَهْلُ اللّغَةِ يَحْكُونَ أَنّ لَهُ مُسَمّيَيْنِ
فِي اللّغَةِ وَيُصَرّحُونَ بِأَنّهُ يُقَالُ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا
وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ فِي الْحَيْضِ أَظْهَرَ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَحْكِي إطْلَاقَهُ عَلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ فَالْجَوْهَرِيّ
رَجّحَ الْحَيْضَ . وَالشّافِعِيّ مِنْ أَئِمّةِ اللّغَةِ وَقَدْ رَجّحَ
أَنّهُ الطّهْرُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْقَرْءُ يَصْلُحُ لِلطّهْرِ
وَالْحَيْضِ . وَقَالَ الزّجّاجُ أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بَهْ عَنْ
يُونُسَ أَنّ الْقَرْءَ عِنْدَهُ يَصْلُحُ لِلطّهْرِ وَالْحَيْضِ وَقَالَ
أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ الْقَرْءُ الْوَقْتُ وَهُوَ يَصْلُحُ
لِلْحَيْضِ وَيَصْلُحُ لِلطّهْرِ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ نُصُوصَ أَهْلِ
اللّغَةِ فَكَيْفَ يَحْتَجّونَ بِقَوْلِهِمْ إنّ الْأَقْرَاءَ الْحِيَضُ ؟
قَوْلُكُمْ إنّ مَنْ جَعَلَهُ الطّهْرَ فَإِنّهُ يُرِيدُ أَوْقَاتَ
الطّهْرِ الّتِي يَحْتَوِشُهَا الدّمُ وَإِلّا فَالصّغِيرَةُ وَالْآيِسَةُ
لَيْسَتَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَعَنْهُ جَوَابَانِ . أَحَدُهُمَا :
الْمَنْعُ بَلْ إذَا طُلّقَتْ الصّغِيرَةُ الّتِي لَمْ تَحِضْ ثُمّ
حَاضَتْ فَإِنّهَا تَعْتَدّ بِالطّهْرِ الّذِي طُلّقَتْ فِيهِ قَرْءًا
عَلَى أَصَحّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَنَا لِأَنّهُ طُهْرٌ بَعْدَهُ حَيْضٌ
وَكَانَ قَرْءًا كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَهُ حَيْضٌ .
[ ذِكْرُ أَشْيَاءَ لَا تُسَمّى بِأَسْمَاءٍ مُعَيّنَةٍ إلّا بِشَرْطِ مُعَيّنٍ ]
الثّانِي
: إنّا وَإِنْ سَلّمْنَا ذَلِكَ فَإِنّ هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الطّهْرَ
لَا يُسَمّى قَرْءًا حَتّى يَحْتَوِشَهُ دَمَانِ وَكَذَلِكَ نَقُولُ
فَالدّمُ شَرْطٌ فِي تَسْمِيَتِهِ قَرْءًا وَهَذَا لَا يَدُلّ عَلَى أَنّ
مُسَمّاهُ الْحَيْضُ وَهَذَا كَالْكَأْسِ الّذِي لَا يُقَالُ عَلَى
الْإِنَاءِ إلّا بِشَرْطِ كَوْنِ الشّرَابِ فِيهِ وَإِلّا فَهُوَ
زُجَاجَةٌ أَوْ قَدَحٌ وَالْمَائِدَةِ الّتِي لَا تُقَالُ لِلْخِوَانِ
إلّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ طَعَامٌ وَإِلّا فَهُوَ خِوَانٌ وَالْكُوزِ
الّذِي لَا يُقَالُ لِمُسَمّاهُ إلّا إذَا كَانَ ذَا عُرْوَةٍ وَإِلّا
فَهُوَ كُوبٌ وَالْقَلَمِ الّذِي يُشْتَرَطُ فِي صِحّةِ إطْلَاقِهِ عَلَى
الْقَصَبَةِ كَوْنُهَا مَبْرِيّةً وَبِدُونِ الْبَرْيِ فَهُوَ أُنْبُوبٌ
أَوْ قَصَبَةٌ وَالْخَاتَمُ شَرْطُ إطْلَاقِهِ أَنْ يَكُونَ ذَا فَصّ
مِنْهُ أَوْ مِنْ [ ص 552 ] وَالرّيْطَةُ شَرْطُ إطْلَاقِهَا عَلَى
مُسَمّاهَا أَنْ تَكُونَ قِطْعَةً وَاحِدَةً فَإِنْ كَانَتْ مُلَفّقَةً
مِنْ قِطْعَتَيْنِ فَهِيَ مُلَاءَةٌ وَالْحُلّةُ شَرْطُ إطْلَاقِهَا أَنْ
تَكُونَ ثَوْبَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً وَإِلّا فَهُوَ ثَوْبٌ
وَالْأَرِيكَةُ لَا تُقَالُ عَلَى السّرِيرِ إلّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ
حَجَلَةٌ وَهِيَ الّتِي تُسَمّى بشخانة وخركاه وَإِلّا فَهُوَ سَرِيرٌ
وَاللّطِيمَةُ لَا تُقَالُ لِلْجِمَالِ إلّا إذَا كَانَ فِيهَا طِيبٌ
وَإِلّا فَهِيَ عِيرٌ وَالنّفَقُ لَا يُقَالُ إلّا لِمَا لَهُ مَنْفَذٌ
وَإِلّا فَهُوَ سَرَبٌ وَالْعِهْنُ لَا يُقَالُ لِلصّوفِ إلّا إذَا كَانَ
مَصْبُوغًا وَإِلّا فَهُوَ صُوفٌ وَالْخِدْرُ لَا يُقَالُ إلّا لِمَا
اشْتَمَلَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَإِلّا فَهُوَ سِتْرٌ . وَالْمِحْجَنُ لَا
يُقَالُ لِلْعَصَا إلّا إذَا كَانَ مَحْنِيّةَ الرّأْسِ وَإِلّا فَهِيَ
عَصَا . وَالرّكِيّةُ لَا تُقَالُ عَلَى الْبِئْرِ إلّا بِشَرْطِ كَوْنِ
الْمَاءِ فِيهَا وَإِلّا فَهِيَ بِئْرٌ . وَالْوَقُودُ لَا يُقَالُ
لِلْحَطَبِ إلّا إذَا كَانَتْ النّارُ فِيهِ وَإِلّا فَهُوَ حَطَبٌ وَلَا
يُقَالُ لِلتّرَابِ ثَرَى إلّا بِشَرْطِ نَدَاوَتِهِ وَإِلّا فَهُوَ
تُرَابٌ . وَلَا يُقَالُ لِلرّسَالَةِ مُغَلْغَلَةٌ إلّا إذَا حُمِلَتْ
مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَإِلّا فَهِيَ رِسَالَةٌ وَلَا يُقَالُ
لِلْأَرْضِ قَرَاحٌ إلّا إذَا هُيّئَتْ لِلزّرَاعَةِ وَلَا يُقَالُ
لِهُرُوبِ الْعَبْدِ إبَاقٌ إلّا إذَا كَانَ هُرُوبُهُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ
وَلَا جُوعٍ وَلَا جَهْدٍ وَإِلّا فَهُوَ هُرُوبٌ وَالرّيقُ لَا يُقَالُ
لَهُ رُضَابٌ إلّا إذَا كَانَ فِي الْفَمِ فَإِذَا فَارَقَهُ فَهُوَ
بُصَاقٌ وَبُسَاقٌ وَالشّجَاعُ لَا يُقَالُ لَهُ كَمِيّ إلّا إذَا
كَانَشَاكِيَ السّلَاحِ وَإِلّا فَهُوَ بَطَلٌ . وَفِي تَسْمِيَتِهِ
بَطَلًا قَوْلَانِ
أَحَدُهُمَا : لِأَنّهُ تُبْطِلُ شَجَاعَتُهُ قِرْنَهُ وَضَرْبَهُ وَطَعْنَهُ .
وَالثّانِي
: لِأَنّهُ تَبْطُلُ شُجَاعَةُ الشّجْعَانِ عِنْدَهُ فَعَلَى الْأَوّلِ
فَهُوَ فَعَلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَعَلَى الثّانِي فَعَلٌ بِمَعْنَى
مَفْعُولٍ وَهُوَ قِيَاسُ اللّغَةِ . وَالْبَعِيرُ لَا يُقَالُ لَهُ
رَاوِيَةٌ إلّا بِشَرْطِ حَمْلِهِ لِلْمَاءِ وَالطّبَقُ لَا يُسَمّى
مِهْدَى إلّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ هَدِيّةٌ وَالْمَرْأَةُ لَا تُسَمّى
ظَعِينَةً إلّا بِشَرْطِ كَوْنِهَا فِي الْهَوْدَجِ هَذَا فِي الْأَصْلِ
وَإِلّا فَقَدَ تُسَمّى الْمَرْأَةُ ظَعِينَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي
هَوْدَجٍ وَمِنْهُ فِي الْحَدِيثِ فَمَرّتْ ظُعُنٌ يَجْرِينَ وَالدّلْوُ
لَا يُقَالُ لَهُ سَجْلٌ إلّا مَا دَامَ فِيهِ مَاءٌ وَلَا يُقَالُ لَهَا
: ذَنُوبٌ إلّا [ ص 553 ] يُقَالُ لَهُ نَعْشٌ إلّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ
مَيّتٌ وَالْعَظْمُ لَا يُقَالُ لَهُ عَرْقٌ إلّا إذَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ
لَحْمٌ وَالْخَيْطُ لَا يُسَمّى سِمْطًا إلّا إذَا كَانَ فِيهِ خَرَزٌ .
وَلَا يُقَالُ لِلْحَبْلِ قَرَنٌ إلّا إذَا قُرِنَ فِيهِ اثْنَانِ
فَصَاعِدًا وَالْقَوْمُ لَا يُسَمّوْنَ رِفْقَةً إلّا إذَا انْضَمّوا فِي
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَسَيْرٍ وَاحِدٍ فَإِذَا تَفَرّقُوا زَالَ هَذَا
الِاسْمُ وَلَمْ يَزُلْ عَنْهُمْ اسْمُ الرّفِيقِ وَالْحِجَارَةُ لَا
تُسَمّى رَضْفًا إلّا إذَا حُمِيَتْ بِالشّمْسِ أَوْ بِالنّارِ وَالشّمْسُ
لَا يُقَالُ لَهَا : غَزَالَةٌ إلّا عِنْدَ ارْتِفَاعِ النّهَارِ
وَالثّوْبُ لَا يُسَمّى مِطْرَفًا إلّا إذَا كَانَ فِي طَرَفَيْهِ
عَلَمَانِ وَالْمَجْلِسُ لَا يُقَالُ لَهُ النّادِي إلّا إذَا كَانَ
أَهْلُهُ فِيهِ . وَالْمَرْأَةُ لَا يُقَالُ لَهَا : عَاتِقٌ إلّا إذَا
كَانَتْ فِي بَيْتِ أَبَوَيْهَا وَلَا يُسَمّى الْمَاءُ الْمِلْحُ
أُجَاجًا إلّا إذَا كَانَ مَعَ مُلُوحَتِهِ مُرّا وَلَا يُقَالُ لِلسّيْرِ
إهْطَاعٌ إلّا إذَا كَانَ مَعَهُ خَوْفٌ وَلَا يُقَالُ لِلْفَرَسِ
مُحَجّلٌ إلّا إذَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي قَوَائِمِهَا كُلّهَا أَوْ
أَكْثَرِهَا وَهَذَا بَابٌ طَوِيلٌ لَوْ تَقَصّيْنَاهُ فَكَذَلِكَ لَا
يُقَالُ لِلطّهْرِ قَرْءٌ إلّا إذَا كَانَ قَبْلَهُ دَمٌ وَبَعْدَهُ دَمٌ
فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ حَيْضٌ ؟
قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهُ لَمْ يَجِئْ فِي كَلَامِ الشّارِعِ إلّا لِلْحَيْضِ فَنَحْنُ نَمْنَعُ مَجِيئَهُ فِي كَلَامِ الشّارِعِ لِلْحَيْضِ الْبَتّةَ فَضْلًا عَنْ الْحَصْرِ . قَالُوا : إنّهُ قَالَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ دَعِي الصّلَاةَ أَيّامَ أَقْرَائِك فَقَدْ أَجَابَ الشّافِعِيّ عَنْهُ فِي كِتَابِ حَرْمَلَةَ بِمَا فِيهِ شِفَاءٌ وَهَذَا لَفْظُهُ . قَالَ وَزَعَمَ إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيّةَ أَنّ الْأَقْرَاءَ الْحِيَضُ وَاحْتَجّ بِحَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ أَيّوبَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فِي امْرَأَةٍ اُسْتُحِيضَتْ تَدَعُ الصّلَاةَ أَيّامَ أَقْرَائِهَا قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ وَمَا حَدّثَ بِهَذَا سُفْيَانُ قَطّ إنّمَا قَالَ سُفْيَانُ عَنْ أَيّوبَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ تَدَعُ الصّلَاةَ عَدَدَ اللّيَالِي وَالْأَيّامِ الّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنّ أَوْ قَالَ " أَيّامَ أَقْرَائِهَا " الشّكّ مِنْ أَيّوبَ لَا يَدْرِي . قَالَ هَذَا أَوْ هَذَا فَجَعَلَهُ هُوَ حَدِيثًا عَلَى نَاحِيَةِ مَا يُرِيدُ فَلَيْسَ هَذَا بِصِدْقِ وَقَدْ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ [ ص 554 ] لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللّيَالِي وَالْأَيّامِ الّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنّ مِنْ الشّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الّذِي أَصَابَهَا ثُمّ لِتَدَعْ الصّلَاةَ ثُمّ لِتَغْتَسِلْ وَلْتُصَلّ وَنَافِعٌ أَحْفَظُ عَنْ سُلَيْمَانَ مِنْ أَيّوبَ وَهُوَ يَقُولُ بِمِثْلِ أَحَدِ مَعْنَيَيْ أَيّوبَ اللّذَيْنِ رَوَاهُمَا انْتَهَى كَلَامُهُ . قَالُوا : وَأَمّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا يَحِلّ لَهُنّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنّ } [ الْبَقَرَةَ 228 ] . وَأَنّهُ الْحَيْضُ أَوْ الْحَبَلُ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا رَيْبَ أَنّ الْحَيْضَ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ تَحْرِيمُ كِتْمَانِهِ لَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْقُرُوءَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ هِيَ الْحِيَضُ فَإِنّهَا إذَا كَانَتْ الْأَطْهَارُ فَإِنّهَا تَنْقَضِي بِالطّعْنِ فِي الْحَيْضَةِ الرّابِعَةِ أَوْ الثّالِثَةِ فَإِذَا أَرَادَتْ كِتْمَانَ انْقِضَاءِ الْعِدّةِ لِأَجْلِ النّفَقَةِ أَوْ غَيْرِهَا قَالَتْ لَمْ أَحِضْ فَتَنْقَضِيَ عِدّتِي وَهِيَ كَاذِبَةٌ وَقَدْ حَاضَتْ وَانْقَضَتْ عِدّتُهَا وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ أَظْهَرَ وَنَحْنُ نَقْنَعُ بِاتّفَاقِ الدّلَالَةِ بِهَا وَإِنْ أَبَيْتُمْ إلّا الِاسْتِدْلَالَ فَهُوَ مِنْ جَانِبِنَا أَظْهَرُ فَإِنّ أَكْثَرَ الْمُفَسّرِينَ قَالُوا : الْحَيْضُ وَالْوِلَادَةُ . فَإِذَا كَانَتْ الْعِدّةُ تَنْقَضِي بِظُهُورِ الْوِلَادَةِ فَهَكَذَا تَنْقَضِي بِظُهُورِ الْحَيْضِ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا فِي إتْيَانِ الْمَرْأَةِ عَلَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدّتُهُنّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } [ الطّلَاقَ 4 ] فَجُعِلَ كُلّ شَهْرٍ بِإِزَاءِ حَيْضَةٍ فَلَيْسَ هَذَا بِصَرِيحِ فِي أَنّ الْقُرُوءَ هِيَ الْحِيَضُ بَلْ غَايَةُ الْآيَةِ أَنّهُ جَعَلَ الْيَأْسَ مِنْ الْحَيْضِ شَرْطًا فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ فَمَا دَامَتْ حَائِضًا لَا تَنْتَقِلُ إلَى عِدّةِ الْآيِسَاتِ وَذَلِكَ أَنّ الْأَقْرَاءَ الّتِي هِيَ الْأَطْهَارُ عِنْدَنَا لَا تُوجَدُ إلّا مَعَ الْحَيْضِ لَا تَكُونُ بِدُونِهِ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْحَيْضَ ؟
[ ضَعْفُ حَدِيثِ عِدّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ ]
وَأَمّا
اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : طَلَاقُ
الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ وَقَرْؤُهَا حَيْضَتَانِ فَهُوَ حَدِيثٌ لَوْ
اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَيْكُمْ لَمْ تَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنّا فَإِنّهُ [
ص 555 ] قَالَ التّرْمِذِيّ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلّا مِنْ حَدِيثِ
مُظَاهِرِ بْنِ أَسْلَمَ وَمُظَاهِرٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ فِي الْعِلْمِ
غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ انْتَهَى . وَمُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ هَذَا
قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرّازِيّ : مُنْكَرُ الْحَدِيثِ . وَقَالَ
يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : لَيْسَ بِشَيْءِ مَعَ أَنّهُ لَا يُعْرَفُ
وَضَعّفَهُ أَبُو عَاصِمٍ أَيْضًا . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : هَذَا
حَدِيثٌ مَجْهُولٌ وَقَالَ الْخَطّابِيّ : أَهْلُ الْحَدِيثِ ضَعّفُوا
هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ : لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَقُلْنَا
بِهِ إلّا أَنّا لَا نُثْبِتُ حَدِيثًا يَرْوِيهِ مَنْ تُجْهَلُ
عَدَالَتُهُ وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ : الصّحِيحُ عَنْ الْقَاسِمِ
بِخِلَافِ هَذَا ثُمّ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ سُئِلَ
الْقَاسِمُ عَنْ الْأَمَةِ كَمْ تُطَلّقُ ؟ قَالَ طَلَاقُهَا ثِنْتَانِ
وَعِدّتُهَا حَيْضَتَانِ . قَالَ فَقِيلَ لَهُ هَلْ بَلَغَك عَنْ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَذَا ؟ فَقَالَ لَا . وَقَالَ
الْبُخَارِيّ فِي " تَارِيخِهِ " : مُظَاهِرُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ
الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا يَرْفَعُهُ طَلَاقُ
الْأَمَةِ طَلْقَتَانِ وَعِدّتُهَا حَيْضَتَان قَالَ أَبُو عَاصِمٍ
أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُظَاهِرٍ ثُمّ لَقِيتُ مُظَاهِرًا
فَحَدّثَنَا بِهِ وَكَانَ أَبُو عَاصِمٍ يُضَعّفُ مُظَاهِرًا وَقَالَ
يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدّثَنِي
أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ
أَبِيهِ فَأَتَاهُ رَسُولُ الْأَمِيرِ فَقَالَ إنّ الْأَمِيرَ يَقُولُ لَك
: كَمْ عِدّةُ الْأَمَةِ ؟ فَقَالَ عِدّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ
وَطَلَاقُ الْحُرّ الْأَمَةَ ثَلَاثٌ وَطَلَاقُ الْعَبْدِ الْحُرّةَ
تَطْلِيقَتَانِ وَعِدّةُ الْحُرّةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ ثُمّ قَالَ لِلرّسُولِ
أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ قَالَ أَمَرَنِي أَنْ أَسْأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ
مُحَمّدٍ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ قَالَ فَأُقْسِمُ عَلَيْك إلّا
رَجَعْتَ إلَيّ فَأَخْبَرْتنِي مَا يَقُولَانِ فَذَهَبَ وَرَجَعَ إلَى
أَبِي فَأَخْبَرَهُ أَنّهُمَا قَالَا كَمَا قَالَ وَقَالَا لَهُ قُلْ لَهُ
إنّ هَذَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللّهِ وَلَا سُنّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنْ عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ . وَقَالَ
أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي " أَطْرَافِهِ " : فَدَلّ ذَلِكَ
عَلَى أَنّ الْحَدِيثَ الْمَرْفُوعَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ [ ص 556 ] وَأَمّا
اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا طَلَاقُ الْأَمَةِ
ثِنْتَانِ وَعِدّتُهَا حَيْضَتَانِ فَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَطِيّةَ بْنِ
سَعْدٍ الْعَوْفِيّ وَقَدْ ضَعّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمّةِ .
قَالَ الدّارَقُطْنِيّ : وَالصّحِيحُ عَنْ ابْن عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ مَا رَوَاهُ سَالِمٌ وَنَافِعٌ مِنْ قَوْلِهِ وَرَوَى
الدّارَقُطْنِيّ أَيْضًا عَنْ سَالِمٍ وَنَافِعٍ أَنّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ
يَقُولُ طَلَاقُ الْعَبْدِ الْحُرّةَ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدّتُهَا
ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ وَطَلَاقُ الْحُرّ الْأَمَةَ تَطْلِيقَتَانِ
وَعِدّتُهَا عِدّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ قَالُوا : وَالثّابِتُ بِلَا
شَكّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ الْأَقْرَاءَ
الْأَطْهَارُ . قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ إذَا طَلّقَ
الرّجُلُ امْرَأَتَهُ فَدَخَلَتْ فِي الدّمِ مِنْ الْحَيْضَةِ الثّالِثَةِ
فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ وَلَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا قَالُوا : فَهَذَا
الْحَدِيثُ مَدَارُهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَمَذْهَبُهُمَا
بِلَا شَكّ أَنّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ فَكَيْفَ يَكُونُ عِنْدَهُمَا
عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خِلَافُ ذَلِكَ وَلَا
يَذْهَبَانِ إلَيْهِ ؟ قَالُوا : وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ الْجَوَابُ عَنْ
حَدِيثِ عَائِشَةَ الْآخَرِ أُمِرَتْ بَرِيرَةُ أَنْ تَعْتَدّ ثَلَاثَ
حِيَضٍ قَالُوا : وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ
أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدّ وَأُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدّ عِدّةَ الْحُرّةِ
وَأُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدّ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَلَعَلّ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى "
ثَلَاثَ حِيَضٍ " مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْنَى وَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ
يَكُونَ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا هَذَا وَهِيَ تَقُولُ
الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا
الْحَدِيثُ بِهَذَا السّنَدِ الْمَشْهُورِ الّذِي كُلّهُمْ أَئِمّةٌ وَلَا
يُخَرّجُهُ أَصْحَابُ الصّحِيحِ وَلَا الْمَسَانِدِ وَلَا مَنْ اعْتَنَى
بِأَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ وَجَمْعِهَا وَلَا الْأَئِمّةُ الْأَرْبَعَةُ
وَكَيْفَ يَصْبِرُ عَنْ إخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ هُوَ مُضْطَرّ
إلَيْهِ وَلَا سِيّمَا بِهَذَا السّنَدِ الْمَعْرُوفِ الّذِي هُوَ
كَالشّمْسِ شُهْرَةً وَلَا شَكّ أَنّ بَرِيرَةَ أُمِرَتْ أَنْ تَعْتَدّ
وَأَمّا إنّهَا أُمِرَتْ بِثَلَاثِ حِيَضٍ فَهَذَا لَوْ صَحّ لَمْ
نَعْدُهُ إلَى غَيْرِهِ وَلَبَادَرْنَا إلَيْهِ . [ ص 557 ]
[ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْعِدّةِ ]
قَالُوا
: وَأَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِشَأْنِ الِاسْتِبْرَاءِ فَلَا رَيْبَ أَنّ
الصّحِيحَ كَوْنُهُ بِحَيْضَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ النّصّ الصّحِيحِ فَلَا
وَجْهَ لِلِاشْتِغَالِ بِالتّعَلّلِ بِالْقَوْلِ إنّهَا تُسْتَبْرَأُ
بِالطّهْرِ فَإِنّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ نَصّ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخِلَافُ الْقَوْلِ الصّحِيحِ مِنْ قَوْلِ الشّافِعِيّ
وَخِلَافُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْ الْأُمّةِ فَالْوَجْهُ الْعُدُولُ
إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَنَقُولُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا
تَقَدّمَ أَنّ الْعِدّةَ وَجَبَتْ قَضَاءً لِحَقّ الزّوْجِ فَاخْتُصّتْ
بِزَمَانِ حَقّهِ وَهُوَ الطّهْرُ بِأَنّهَا تَتَكَرّرُ فَيُعْلَمُ
مِنْهَا الْبَرَاءَةُ بِوَاسِطَةِ الْحَيْضِ بِخِلَافِ الِاسْتِبْرَاءِ .
قَوْلُكُمْ لَوْ كَانَتْ الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ لَمْ تَحْصُلْ
بِالْقَرْءِ الْأَوّلِ دَلَالَةً لِأَنّهُ لَوْ جَامَعَهَا ثُمّ طَلّقَهَا
فِيهِ حَسَبَتْ بَقِيّتَهُ قَرْءًا وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنّ هَذَا
الطّهْرَ لَا يَدُلّ عَلَى شَيْءٍ . فَجَوَابُهُ أَنّهَا إذَا طَهُرَتْ
بَعْدَ طُهْرَيْنِ كَامِلَيْنِ صَحّتْ دَلَالَتُهُ بِانْضِمَامِهِ
إلَيْهِمَا . قَوْلُكُمْ إنّ الْحُدُودَ وَالْعَلَامَاتِ وَالْأَدِلّةَ
إنّمَا تَحْصُلُ بِالْأُمُورِ الظّاهِرَةِ إلَى آخِرِهِ . جَوَابُهُ أَنّ
الطّهْرَ إذَا احْتَوَشَهُ دَمَانِ كَانَ كَذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
قَبْلَهُ دَمٌ وَلَا بَعْدَهُ دَمٌ فَهَذَا لَا يُعْتَدّ بِهِ الْبَتّةَ .
قَالُوا : وَيَزِيدُ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ قُوّةً أَنّ الْقَرْءَ هُوَ
الْجَمْعُ وَزَمَانُ الطّهْرِ أَوْلَى بِهِ فَإِنّهُ حِينَئِذٍ يَجْتَمِعُ
الْحَيْضُ وَإِنّمَا يَخْرُجُ بَعْدَ جَمْعِهِ . قَالُوا : وَإِدْخَالُ
التّاءِ فِي { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } يَدُلّ عَلَى أَنّ الْقَرْءَ مُذَكّرٌ
وَهُوَ الطّهْرُ فَلَوْ كَانَ الْحَيْضَ لَكَانَ بِغَيْرِ تَاءٍ لِأَنّ
وَاحِدَهَا حَيْضَةٌ . فَهَذَا مَا احْتَجّ بِهِ أَرْبَابُ هَذَا
الْقَوْلِ اسْتِدْلَالًا وَجَوَابًا وَهَذَا مَوْضِعٌ لَا يُمْكِنُ فِيهِ
التّوَسّطُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إذْ لَا تَوَسّطَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ
فَلَا بُدّ مِنْ التّحَيّزِ إلَى أَحَدِ الْفِئَتَيْنِ وَنَحْنُ
مُتَحَيّزُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى أَكَابِرِ الصّحَابَةِ
وَقَائِلُونَ فِيهَا بِقَوْلِهِمْ [ ص 558 ] عَمّا عَارَضَ بِهِ أَرْبَابُ
الْقَوْلِ الْآخَرِ لِيَتَبَيّنَ مَا رَجّحْنَاهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ
.
[ رَدّ الْمُصَنّفِ عَلَى اعْتِرَاضَاتِ مَنْ فَسّرَ الْأَقْرَاءَ بِالْأَطْهَارِ ]
[ الطّلَاقُ قَبْلَ الْعِدّةِ ]
فَنَقُولُ
أَمّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَطَلّقُوهُنّ
لِعِدّتِهِنّ } [ الطّلَاقَ 1 ] فَهُوَ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجّةً
عَلَيْكُمْ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجّةً لَكُمْ فَإِنّ
الْمُرَادَ طَلَاقُهَا قَبْلَ الْعِدّةِ ضَرُورَةً إذْ لَا يُمْكِنُ
حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الطّلَاقِ فِي الْعِدّةِ فَإِنّ هَذَا - مَعَ
تَضَمّنِهِ لِكَوْنِ اللّامِ لِلظّرْفِيّةِ بِمَعْنَى - فِي - فَاسِدٌ
مَعْنَى إذْ لَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الطّلَاقِ فِي الْعِدّةِ فَإِنّهُ
سَبَبُهَا وَالسّبَبُ يَتَقَدّمُ الْحُكْمَ وَإِذَا تَقَرّرَ ذَلِكَ
فَمَنْ قَالَ الْأَقْرَاءُ الْحِيَضُ فَقَدْ عَمِلَ بِالْآيَةِ وَطَلّقَ
قَبْلَ الْعِدّةِ . فَإِنْ قُلْتُمْ وَمَنْ قَالَ إنّهَا الْأَطْهَارُ
فَالْعِدّةُ تَتَعَقّبُ الطّلَاقَ فَقَدْ طَلّقَ قَبْلَ الْعِدّةِ قُلْنَا
: فَبَطَلَ احْتِجَاجُكُمْ حِينَئِذٍ وَصَحّ أَنّ الْمُرَادَ الطّلَاقُ
قَبْلَ الْعِدّةِ لَا فِيهَا وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ يَصِحّ أَنْ يُرَادَ
بِالْآيَةِ لَكِنّ إرَادَةَ الْحَيْضِ أَرْجَحُ وَبَيَانُهُ أَنّ
الْعِدّةَ فِعْلَةٌ مِمّا تُعَدّ يَعْنِي مَعْدُودَةً لِأَنّهَا تُعَدّ
وَتُحْصَى كَقَوْلِهِ { وَأَحْصُوا الْعِدّةَ } [ الطّلَاقَ 1 ]
وَالطّهْرُ الّذِي قَبْلَ الْحَيْضَةِ مِمّا يُعَدّ وَيُحْصَى فَهُوَ مِنْ
الْعِدّةِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ وَإِنّمَا الْكَلَامُ فِي أَمْرٍ
آخَرَ وَهُوَ دُخُولُهُ فِي مُسَمّى الْقُرُوءِ الثّلَاثَةِ
الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ أَمْ لَا ؟ فَلَوْ كَانَ النّصّ
فَطَلّقُوهُنّ لِقُرُوئِهِنّ لَكَانَ فِيهِ تَعْلِيقٌ فَهُنَا أَمْرَانِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } [
الْبَقَرَةَ 228 ] وَالثّانِي : قَوْلُهُ { فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ }
[ الطّلَاقَ 1 ] وَلَا رَيْبَ أَنّ الْقَائِلَ افْعَلْ كَذَا لِثَلَاثِ
بَقِينَ مِنْ الشّهْرِ إنّمَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ مُمْتَثِلًا إذَا
فَعَلَهُ قَبْلَ مَجِيءِ الثّلَاثِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ فَعَلْته
لِثَلَاثِ مَضَيْنَ مِنْ الشّهْرِ إنّمَا يَصْدُقُ إذَا فَعَلَهُ بَعْدَ
مُضِيّ الثّلَاثِ وَهُوَ بِخِلَافِ حَرْفِ الظّرْفِ الّذِي هُوَ " فِي "
فَإِنّهُ إذَا قَالَ فَعَلْته فِي ثَلَاثٍ بَقِينَ كَانَ الْفِعْلُ
وَاقِعًا فِي نَفْسِ الثّلَاثِ وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ حَسَنَةٌ وَهِيَ
أَنّهُمْ يَقُولُونَ فَعَلْتُهُ لِثَلَاثِ لَيَالٍ خَلَوْنَ أَوْ بَقِينَ
مِنْ الشّهْرِ وَفَعَلْته فِي الثّانِي أَوْ الثّالِثِ مِنْ الشّهْرِ أَوْ
فِي ثَانِيهِ أَوْ ثَالِثِهِ فَمَتَى أَرَادُوا مُضِيّ الزّمَانِ أَوْ
اسْتِقْبَالَهُ أَتَوْا بِاللّامِ وَمَتَى أَرَادُوا وُقُوعَ الْفِعْلِ
فِيهِ أَتَوْا بِفِي وَسِرّ ذَلِكَ أَنّهُمْ إذَا أَرَادُوا مُضِيّ زَمَنِ
الْفِعْلِ أَوْ اسْتِقْبَالَهُ [ ص 559 ] أَتَوْا بِالْعَلَامَةِ
الدّالّةِ عَلَى اخْتِصَاصِ الْعَدَدِ الّذِي يَلْفِظُونَ بِهِ بِمَا
مَضَى أَوْ بِمَا يُسْتَقْبَلُ وَإِذَا أَرَادُوا وُقُوعَ الْفِعْلِ فِي
ذَلِكَ الزّمَانِ أَتَوْا بِالْأَدَاةِ الْمُعَيّنَةِ لَهُ وَهِيَ أَدَاةُ
" فِي " وَهَذَا خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ النّحَاةِ إنّ اللّامَ
تَكُونُ بِمَعْنَى قَبْلُ فِي قَوْلِهِمْ كَتَبْته لِثَلَاثِ بَقِينَ
وَقَوْلِهِ { فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ } [ الطّلَاقَ 1 ] . وَبِمَعْنَى
بَعْدُ كَقَوْلِهِمْ لِثَلَاثِ خَلَوْنَ . وَبِمَعْنَى فِي : كَقَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [
الْأَنْبِيَاءَ 47 ]
وَقَوْلُهُ { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ
لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ } [ آلَ عِمْرَانَ 25 ] وَالتّحْقِيقُ أَنّ
اللّامَ عَلَى بَابِهَا لِلِاخْتِصَاصِ بِالْوَقْتِ الْمَذْكُورِ
كَأَنّهُمْ جَعَلُوا الْفِعْلَ لِلزّمَانِ الْمَذْكُورِ اتّسَاعًا
لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ فَكَأَنّهُ لَهُ فَتَأَمّلْهُ . وَفَرْقٌ آخَرُ
وَهُوَ أَنّك إذَا أَتَيْت بِاللّامِ لَمْ يَكُنْ الزّمَانُ الْمَذْكُورُ
بَعْدَهُ إلّا مَاضِيًا أَوْ مُنْتَظَرًا وَمَتَى أَتَيْت بِفِي لَمْ
يَكُنْ الزّمَانُ الْمَجْرُورُ بِهَا إلّا مُقَارِنًا لِلْفِعْلِ وَإِذَا
تَقَرّرَ هَذَا مِنْ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيّةِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : {
فَطَلّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ } [ الطّلَاقَ 1 ] مَعْنَاهُ لِاسْتِقْبَالِ
عِدّتِهِنّ لَا فِيهَا وَإِذَا كَانَتْ الْعِدّةُ الّتِي يُطَلّقُ لَهَا
النّسَاءُ مُسْتَقْبَلَةً بَعْدَ الطّلَاقِ فَالْمُسْتَقْبَلُ بَعْدَهَا
إنّمَا هُوَ الْحَيْضُ فَإِنّ الطّاهِرَ لَا تَسْتَقْبِلُ الطّهْرَ إذْ
هِيَ فِيهِ وَإِنّمَا تَسْتَقْبِلُ الْحَيْضَ بَعْدَ حَالِهَا الّتِي هِيَ
فِيهَا هَذَا الْمَعْرُوفُ لُغَةً وَعَقْلًا وَعُرْفًا فَإِنّهُ لَا
يُقَالُ لِمَنْ هُوَ فِي عَافِيَةٍ هُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْعَافِيَةَ وَلَا
لِمَنْ هُوَ فِي أَمْنٍ هُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْأَمْنَ وَلَا لِمَنْ هُوَ
فِي قَبْضِ مَغَلّهِ وَإِحْرَازِهِ هُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْمَغَلّ وَإِنّمَا
الْمَعْهُودُ لُغَةً وَعُرْفًا أَنْ يَسْتَقْبِلَ الشّيْءَ مَنْ هُوَ
عَلَى حَالٍ ضِدّهِ وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ نُكْثِرَ شَوَاهِدَهُ .
فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَنْ طَلّقَ فِي
الْحَيْضِ مُطَلّقًا لِلْعِدّةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ الْأَقْرَاءُ
الْأَطْهَارُ لِأَنّهَا تَسْتَقْبِلُ طُهْرَهَا بَعْدَ حَالِهَا الّتِي
هِيَ فِيهَا قُلْنَا : نَعَمْ يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ فَإِنّهُ لَوْ كَانَ
أَوّلَ الْعِدّةِ الّتِي تُطَلّقُ لَهَا الْمَرْأَةُ هُوَ الطّهْرُ
لَكَانَ إذَا طَلّقَهَا فِي أَثْنَاءِ الْحَيْضِ مُطَلّقًا لِلْعِدّةِ
لِأَنّهَا تَسْتَقْبِلُ الطّهْرَ بَعْدَ ذَلِكَ الطّلَاقِ . فَإِنْ قِيلَ
" اللّامُ " بِمَعْنَى " فِي " وَالْمَعْنَى : فَطَلّقُوهُنّ فِي
عِدّتِهِنّ وَهَذَا إنّمَا [ ص 560 ] قِيلَ الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُرُوفِ
وَالْأَصْلُ إفْرَادُ كُلّ حَرْفٍ بِمَعْنَاهُ فَدَعْوَى خِلَافِ ذَلِكَ
مَرْدُودَةٌ بِالْأَصْلِ . الثّانِي : أَنّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ
يَكُونَ بَعْضُ الْعِدّةِ ظَرْفًا لِزَمَنِ الطّلَاقِ فَيَكُونُ الطّلَاقُ
وَاقِعًا فِي نَفْسِ الْعِدّةِ ضَرُورَةَ صِحّةِ الظّرْفِيّةِ كَمَا إذَا
قُلْت : فَعَلْته فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ بَلْ الْغَالِبُ فِي
الِاسْتِعْمَالِ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الظّرْفِ سَابِقًا عَلَى
الْفِعْلِ وَلَا رَيْبَ فِي امْتِنَاعِ هَذَا فَإِنّ الْعِدّةَ تَتَعَقّبُ
الطّلَاقَ وَلَا تُقَارِنُهُ وَلَا تَتَقَدّمُ عَلَيْهِ . قَالُوا :
وَلَوْ سَلّمْنَا أَنّ " اللّامَ " بِمَعْنَى " فِي " وَسَاعَدَ عَلَى
ذَلِكَ قِرَاءَةُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ (
فَطَلّقُوهُنّ فِي قُبُلِ عِدّتِهِنّ فَإِنّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ
أَنْ يَكُونَ الْقَرْءُ هُوَ الطّهْرَ فَإِنّ الْقَرْءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ
هُوَ الْحَيْضَ وَهُوَ الْمَعْدُودُ وَالْمَحْسُوبُ وَمَا قَبْلَهُ مِنْ
الطّهْرِ يَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ تَبَعًا وَضِمْنًا لِوَجْهَيْنِ .
[ مِنْ ضَرُورَةِ الْحَيْضِ أَنْ يَتَقَدّمَهُ طُهْرٌ ]
أَحَدُهُمَا
: أَنّ مِنْ ضَرُورَةِ الْحَيْضِ أَنْ يَتَقَدّمَهُ طُهْرٌ فَإِذَا قِيلَ
تَرَبّصِي ثَلَاثَ حِيَضٍ وَهِيَ فِي أَثْنَاءِ الطّهْرِ كَانَ ذَلِكَ
الطّهْرُ مِنْ مُدّةِ التّرَبّصِ كَمَا لَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ أَقِمْ
هَاهُنَا ثَلَاثَةَ أَيّامٍ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ لَيْلَةٍ فَإِنّهُ
يُدْخِلُ بَقِيّةَ تِلْكَ اللّيْلَةِ فِي الْيَوْمِ الّذِي يَلِيهَا كَمَا
تَدْخُلُ لَيْلَةُ الْيَوْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِي يَوْمَيْهِمَا . وَلَوْ
قِيلَ لَهُ فِي النّهَارِ أَقِمْ ثَلَاثَ لَيَالٍ دَخَلَ تَمَامُ ذَلِكَ
النّهَارِ تَبَعًا لِلّيْلَةِ الّتِي تَلِيهِ .
[ الطّهْرُ سَبَبٌ لِوُجُودِ الْحَيْضِ ]
الثّانِي
: أَنّ الْحَيْضَ إنّمَا يَتِمّ بِاجْتِمَاعِ الدّمِ فِي الرّحِمِ
قَبْلَهُ فَكَانَ الطّهْرُ مُقَدّمَةً وَسَبَبًا لِوُجُودِ الْحَيْضِ
فَإِذَا عُلّقَ الْحُكْمُ بِالْحَيْضِ فَمِنْ لَوَازِمِهِ مَا لَا يُوجَدُ
الْحَيْضُ إلّا بِوُجُودِهِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنّ هَذَا أَبْلَغُ مِنْ
الْأَيّامِ وَاللّيَالِي فَإِنّ اللّيْلَ وَالنّهَارَ مُتَلَازِمَانِ
وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا سَبَبًا لِوُجُودِ الْآخَرِ وَهَاهُنَا الطّهْرُ
سَبَبٌ لِاجْتِمَاعِ الدّمِ فِي الرّحِمِ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى : { لِعِدّتِهِنّ } أَيْ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدّةِ الّتِي [ ص
561 ] الْعِدّةَ الْمَحْسُوبَةَ وَتِلْكَ الْعِدّةُ هِيَ الْحَيْضُ بِمَا
قَبْلَهَا مِنْ الْأَطْهَارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ طُلّقَتْ فِي أَثْنَاءِ
حَيْضَةٍ فَإِنّهَا لَمْ تُطَلّقْ لِعِدّةِ تَحْسَبُهَا لَأَنّ بَقِيّةَ
ذَلِكَ الْحَيْضِ لَيْسَ هُوَ الْعِدّةَ الّتِي تَعْتَدّ بِهَا
الْمَرْأَةُ أَصْلًا وَلَا تَبَعًا لِأَصْلِ وَإِنّمَا تُسَمّى عِدّةً
لِأَنّهَا تُحْبَسُ فِيهَا عَنْ الْأَزْوَاجِ إذَا عُرِفَ هَذَا
فَقَوْلُهُ { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [
الْأَنْبِيَاءَ 47 ] يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللّامُ لَامَ التّعْلِيلِ أَيْ
لِأَجْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَقَدْ قِيلَ إنّ الْقِسْطَ مَنْصُوبٌ
عَلَى أَنّهُ مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ نَضَعُهَا لِأَجْلِ الْقِسْطِ وَقَدْ
اسْتَوْفَى شُرُوطَ نَصْبِهِ وَأَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَقِمِ
الصّلَاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ } [ الْإِسْرَاءَ : 78 ] فَلَيْسَتْ اللّامُ
بِمَعْنَى " فِي " قَطْعًا بَلْ قِيلَ إنّهَا لَامُ التّعْلِيلِ أَيْ
لِأَجْلِ دُلُوكِ الشّمْسِ وَقِيلَ إنّهَا بِمَعْنَى بَعْدُ فَإِنّهُ
لَيْسَ الْمُرَادُ إقَامَتَهَا وَقْتَ الدّلُوكِ سَوَاءٌ فُسّرَ
بِالزّوَالِ أَوْ الْغُرُوبِ وَإِنّمَا يُؤْمَرُ بِالصّلَاةِ بَعْدَهُ
وَيَسْتَحِيلُ حَمْلُ آيَةِ الْعِدّةِ عَلَى ذَلِكَ وَهَكَذَا يَسْتَحِيلُ
حَمْلُ آيَةِ الْعِدّةِ عَلَيْهِ إذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى : فَطَلّقُوهُنّ
بَعْدَ عِدّتِهِنّ . فَلَمْ يَبْقَ إلّا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى :
فَطَلّقُوهُنّ لِاسْتِقْبَالِ عِدّتِهِنّ وَمَعْلُومٌ أَنّهَا إذَا
طُلّقَتْ طَاهِرًا اسْتَقْبَلَتْ الْعِدّةَ بِالْحَيْضِ . وَلَوْ كَانَتْ
الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارَ لَكَانَتْ السّنّةُ أَنْ تُطَلّقَ حَائِضًا
لِتَسْتَقْبِلَ الْعِدّةَ بِالْأَطْهَارِ فَبَيّنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْعِدّةَ الّتِي أَمَرَ اللّهُ أَنْ تُطَلّقَ
لَهَا النّسَاءُ هِيَ أَنْ تُطَلّقَ طَاهِرًا لِتَسْتَقْبِلَ عِدّتَهَا
بَعْدَ الطّلَاقِ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا جَعَلْنَا الْأَقْرَاءَ
الْأَطْهَارَ اسْتَقْبَلَتْ عِدّتَهَا بَعْدَ الطّلَاقِ بِلَا فَصْلٍ
وَمَنْ جَعَلَهَا الْحِيَضَ لَمْ تَسْتَقْبِلْهَا عَلَى قَوْلِهِ حَتّى
يَنْقَضِيَ الطّهْرُ . قِيلَ كَلَامُ الرّبّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا
بُدّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى فَائِدَةٍ مُسْتَقِلّةٍ وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى
مَعْنَى : فَطَلّقُوهُنّ طَلَاقًا تَكُونُ الْعِدّةُ بَعْدَهُ لَا
فَائِدَةَ فِيهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَعْنَى :
فَطَلّقُوهُنّ طَلَاقًا يَسْتَقْبِلْنَ فِيهِ الْعِدّةَ لَا
يَسْتَقْبِلْنَ فِيهِ طُهْرًا لَا تَعْتَدّ بِهِ فَإِنّهَا إذَا طُلّقَتْ
حَائِضًا اسْتَقْبَلَتْ طُهْرًا لَا تَعْتَدّ بِهِ فَلَمْ تُطَلّقْ
لِاسْتِقْبَالِ الْعِدّةِ وَيُوَضّحُهُ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ
فَطَلّقُوهُنّ فِي قُبُلِ عِدّتِهِنّ . وَقُبُلُ الْعِدّةِ هُوَ الْوَقْتُ
الّذِي [ ص 562 ] الْعِدّةِ تَسْتَقْبِلُ بِهِ كَقُبُلِ الْحَائِضِ
يُوَضّحُهُ أَنّهُ لَوْ أُرِيدَ مَا ذَكَرُوهُ لَقِيلَ فِي أَوّلِ
عِدّتِهِنّ فَالْفَرْقُ بَيّنٌ بَيْنَ قُبُلِ الشّيْءِ وَأَوّلِهِ .
[ يَجِبُ تَأَخّرُ الْعِدّةِ عَنْ الطّلَاقِ ]
وَأَمّا
قَوْلُكُمْ لَوْ كَانَتْ الْقُرُوءُ هِيَ الْحِيَضَ لَكَانَ قَدْ
طَلّقَهَا قَبْلَ الْعِدّةِ . قُلْنَا : أَجَلْ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ
عَقْلًا وَشَرْعًا فَإِنّ الْعِدّةَ لَا تُفَارِقُ الطّلَاقَ وَلَا
تَسْبِقُهُ بَلْ يَجِبُ تَأَخّرُهَا عَنْهُ .
[ التّطْوِيلُ عِنْدَ الطّلَاقِ فِي الْحَيْضِ ]
قَوْلُكُمْ
وَكَانَ ذَلِكَ تَطْوِيلًا عَلَيْهَا كَمَا لَوْ طَلّقَهَا فِي الْحَيْضِ
قِيلَ هَذَا مَبْنِيّ عَلَى أَنّ الْعِلّةَ فِي تَحْرِيمِ طَلَاقِ
الْحَائِضِ خَشْيَةُ التّطْوِيلِ عَلَيْهَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ
لَا يَرْضَوْنَ هَذَا التّعْلِيلَ وَيُفْسِدُونَهُ بِأَنّهَا لَوْ
رَضِيَتْ بِالطّلَاقِ فِيهِ وَاخْتَارَتْ التّطْوِيلَ لَمْ يُبَحْ لَهُ
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ التّطْوِيلِ لَمْ تُبِحْ لَهُ بِرِضَاهَا
كَمَا يُبَاحُ إسْقَاطُ الرّجْعَةِ الّذِي هُوَ حَقّ الْمُطَلّقِ
بِتَرَاضِيهِمَا بِإِسْقَاطِهَا بِالْعِوَضِ اتّفَاقًا وَبِدُونِهِ فِي
أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى
الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَيَقُولُونَ إنّمَا حَرُمَ
طَلَاقُهَا فِي الْحَيْضِ لِأَنّهُ طَلّقَهَا فِي وَقْتِ رَغْبَةٍ عَنْهَا
وَلَوْ سَلّمْنَا أَنّ التّحْرِيمَ لِأَجْلِ التّطْوِيلِ عَلَيْهَا
فَالتّطْوِيلُ الْمُضِرّ أَنْ يُطَلّقَهَا حَائِضًا فَتَنْتَظِرَ مُضِيّ
الْحَيْضَةِ وَالطّهْرِ الّذِي يَلِيهَا ثُمّ تَأْخُذَ فِي الْعِدّةِ
فَلَا تَكُونُ مُسْتَقْبِلَةً لِعِدّتِهَا بِالطّلَاقِ وَأَمّا إذَا
طُلّقَتْ طَاهِرًا فَإِنّهَا تَسْتَقْبِلُ الْعِدّةَ عَقِيبَ انْقِضَاءِ
الطّهْرِ فَلَا يَتَحَقّقُ التّطْوِيلُ .
[ الْقَرْءُ مُشْتَقّ مِنْ الْجَمْعِ أَيْ زَمَنِ الطّهْرِ ]
وَقَوْلُكُمْ
إنّ الْقَرْءَ مُشْتَقّ مِنْ الْجَمْعِ وَإِنّمَا يُجْمَعُ الْحَيْضُ فِي
زَمَنِ الطّهْرِ . عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَجْوِبَةٍ .
[ الرّدّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنّ ذَلِكَ مُشْتَقّ مِنْ الْمُعْتَلّ لَا الْمَهْمُوزِ ]
أَحَدُهَا
: أَنّ هَذَا مَمْنُوعٌ وَاَلّذِي هُوَ مُشْتَقّ مِنْ الْجَمْعِ إنّمَا
هُوَ مِنْ بَابِ الْيَاءِ مِنْ الْمُعْتَلّ مِنْ قَرَى يَقْرِي كَقَضَى
يَقْضِي وَالْقَرْءُ مِنْ الْمَهْمُوزِ مِنْ بَنَاتِ الْهَمْزِ مِنْ
قَرَأَ يَقْرَأُ كَنَحَرَ يَنْحَرُ وَهُمَا أَصْلَانِ مُخْتَلِفَانِ
فَإِنّهُمْ يَقُولُونَ قَرَيْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَقْرِيه أَيْ
جَمَعْته وَمِنْهُ سُمّيَتْ الْقَرْيَةُ وَمِنْهُ قَرْيَةُ النّمْلِ
لِلْبَيْتِ الّذِي تَجْتَمِعُ فِيهِ لِأَنّهُ يَقْرِيهَا أَيْ يَضُمّهَا
وَيَجْمَعُهَا . وَأَمّا الْمَهْمُوزُ فَإِنّهُ مِنْ الظّهُورِ
وَالْخُرُوجِ عَلَى وَجْهِ التّوْقِيتِ وَالتّحْدِيدِ وَمِنْهُ قِرَاءَةُ
[ ص 563 ] { إِنّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } [ الْقِيَامَةَ 17 ]
فَفُرّقَ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقُرْآنِ . وَلَوْ كَانَا وَاحِدًا لَكَانَ
تَكْرِيرًا مَحْضًا وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُمَا : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ } [ الْقِيَامَةَ
18 ] فَإِذَا بَيّنّاهُ فَجَعَلَ قِرَاءَتَهُ نَفْسَ إظْهَارِهِ
وَبَيَانِهِ لَا كَمَا زَعَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الْقُرْآنَ مُشْتَقّ
مِنْ الْجَمْعِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مَا قَرَأَتْ هَذِهِ النّاقَةُ
سَلَى قَطّ وَمَا قَرَأَتْ جَنِينًا هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْ مَا
وَلَدَتْهُ وَأَخْرَجَتْهُ وَأَظْهَرَتْهُ وَمِنْهُ فُلَانٌ يَقْرَؤُك
السّلَامَ وَيَقْرَأُ عَلَيْك السّلَامَ هُوَ مِنْ الظّهُورِ وَالْبَيَانِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ قَرَأَتْ الْمَرْأَةُ حَيْضَةً أَوْ حَيْضَتَيْنِ
أَيْ حَاضَتْهُمَا لِأَنّ الْحَيْضَ ظُهُورُ مَا كَانَ كَامِنًا كَظُهُورِ
الْجَنِينِ وَمِنْهُ قُرُوءُ الثّرَيّا وَقُرُوءُ الرّيحِ وَهُوَ
الْوَقْتُ الّذِي يَظْهَرُ الْمَطَرُ وَالرّيحُ فَإِنّهُمَا يَظْهَرَانِ
فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الِاشْتِقَاقَ الْمُصَنّفُونَ
فِي كُتُبِ الِاشْتِقَاقِ وَذَكَرَهُ أَبُو عَمْرٍو وَغَيْرُهُ وَلَا
رَيْبَ أَنّ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْحَيْضِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الطّهْرِ
.
[ الرّدّ عَلَى قَوْلِهِمْ النّسَاءُ أَعْلَمُ بِهَذَا الْبَابِ مِنْ الرّجَالِ ]
قَوْلُكُمْ
إنّ عَائِشَة رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ
وَالنّسَاءُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْ الرّجَالِ . فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ
مَنْ جَعَلَ النّسَاءَ أَعْلَمَ بِمُرَادِ اللّهِ مِنْ كِتَابِهِ
وَأَفْهَمَ لِمَعْنَاهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيق ِ وَعُمَرَ بْنِ
الْخَطّابِ وَعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
وَأَبِي الدّرْدَاءِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَأَكَابِرِ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ فَنُزُولُ ذَلِكَ فِي
شَأْنِهِنّ لَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُنّ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ الرّجَالِ
وَإِلّا كَانَتْ كُلّ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي النّسَاءِ تَكُونُ النّسَاءُ
أَعْلَمَ بِهَا مِنْ الرّجَالِ وَيَجِبُ عَلَى الرّجَالِ تَقْلِيدُهُنّ
فِي مَعْنَاهَا وَحُكْمِهَا فَيَكُنّ أَعْلَمَ مِنْ [ ص 564 ] الْحَائِضِ
وَآيَةِ عِدّةِ الْمُتَوَفّى عَنْهَا وَآيَةِ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ
وَمُدّتِهِمَا وَآيَةِ تَحْرِيمِ إبْدَاءِ الزّينَةِ إلّا لِمَنْ ذُكِرَ
فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الّتِي تَتَعَلّقُ بِهِنّ وَفِي
شَأْنِهِنّ نَزَلَتْ وَيَجِبُ عَلَى الرّجَالِ تَقْلِيدُهُنّ فِي حُكْمِ
هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَعْنَاهَا وَهَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ الْبَتّةَ .
وَكَيْفَ وَمَدَارُ الْعِلْمِ بِالْوَحْيِ عَلَى الْفَهْمِ
وَالْمَعْرِفَةِ وَوُفُورِ الْعَقْلِ وَالرّجَالُ أَحَقّ بِهَذَا مِنْ
النّسَاءِ وَأَوْفَرُ نَصِيبًا مِنْهُ بَلْ لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ
الرّجَالُ وَالنّسَاءُ فِي مَسْأَلَةٍ إلّا وَالصّوَابُ فِي جَانِبِ
الرّجَالِ وَكَيْفَ يُقَالُ إذَا اخْتَلَفَتْ عَائِشَةُ وَعُمَرُ بْنُ
الْخَطّابِ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
فِي مَسْأَلَةٍ إنّ الْأَخْذَ بِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا
أَوْلَى وَهَلْ الْأَوْلَى إلّا قَوْلٌ فِيهِ خَلِيفَتَانِ رَاشِدَانِ ؟
وَإِنْ كَانَ الصّدّيقُ مَعَهُمَا كَمَا حُكِيَ عَنْهُ فَذَلِكَ الْقَوْلُ
مِمّا لَا يَعْدُوهُ [ ص 565 ] وَعَلِيّ ثَابِتٌ وَأَمّا عَنْ الصّدّيقِ
فَفِيهِ غَرَابَةٌ وَيَكْفِينَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الصّحَابَةِ
فِيهِمْ مِثْلُ عُمَرَ وَعَلِيّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدّرْدَاءِ
وَأَبِي مُوسَى فَكَيْفَ نُقَدّمُ قَوْلَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ وَفَهْمَهَا
عَلَى أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ ؟ ثُمّ يُقَالُ فَهَذِهِ عَائِشَةُ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا تَرَى رَضَاعَ الْكَبِيرِ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ وَيُثْبِتُ
الْمَحْرَمِيّةَ وَمَعَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُمْ وَقَدْ خَالَفَهَا غَيْرُهَا مِنْ الصّحَابَةِ وَهِيَ رَوَتْ
حَدِيثَ التّحْرِيمِ بِهِ فَهَلّا قُلْتُمْ النّسَاءُ أَعْلَمُ بِهَذَا
مِنْ الرّجَالِ وَرَجّحْتُمْ قَوْلَهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ خَالَفَهَا ؟
وَنَقُولُ لِأَصْحَابِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللّهُ وَهَذِهِ عَائِشَةُ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا لَا تَرَى التّحْرِيمَ إلّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ وَمَعَهَا
جَمَاعَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ وَرَوَتْ فِيهِ حَدِيثَيْنِ فَهَلّا قُلْتُمْ
النّسَاءُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنْ الرّجَالِ وَقَدّمْتُمْ قَوْلَهَا عَلَى
قَوْلِ مَنْ خَالَفَهَا ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ هَذَا حُكْمٌ يَتَعَدّى إلَى
الرّجَالِ فَيَسْتَوِي النّسَاءُ مَعَهُمْ فِيهِ قِيلَ وَيَتَعَدّى حُكْمُ
الْعِدّةِ مِثْلَهُ إلَى الرّجَالِ فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَ النّسَاءُ
مَعَهُمْ فِيهِ وَهَذَا لَا خَفَاءَ بِهِ . ثُمّ يُرَجّحُ قَوْلُ
الرّجَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَهِدَ لِوَاحِدِ مِنْ هَذَا الْحِزْبِ بِأَنّ اللّهَ
ضَرَبَ الْحَقّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ . وَقَدْ وَافَقَ رَبّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي عِدّةِ مَوَاضِعَ قَالَ فِيهَا قَوْلًا فَنَزَلَ
الْقُرْآنُ بِمِثْلِ مَا قَالَ وَأَعْطَاهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَضْلَ إنَائِهِ فِي النّوْمِ وَأَوّلَهُ [ ص 566 ]
أَوْلَى وَإِنْ كَانَتْ الْحُجّةُ هِيَ الّتِي تَفْصِلُ بَيْنَ
الْمُتَنَازِعَيْنِ فَتَحْكِيمُهَا هُوَ الْوَاجِبُ .
قَوْلُكُمْ إنّ مَنْ قَالَ إنّ الْأَقْرَاءَ الْحِيَضُ لَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ عَلِيّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا بِقَوْلِ عَائِشَةَ فَإِنّ عَلِيّا يَقُولُ هُوَ أَحَقّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِوَاحِدِ مِنْ الْقَوْلَيْنِ فَهَذَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ تَنَاقُضًا مِمّنْ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ كَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا عَمّنْ يَقُولُ بِقَوْلِ عَلِيّ وَهُوَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُهُ كَمَا تَقَدّمَ حِكَايَةُ ذَلِكَ فَإِنّ الْعِدّةَ تَبْقَى عِنْدَهُ إلَى أَنْ تَغْتَسِلَ كَمَا قَالَهُ عَلِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ وَنَحْنُ نَعْتَذِرُ عَمّنْ يَقُولُ الْأَقْرَاءُ الْحِيَضُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَقُولُ هُوَ أَحَقّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ فَإِنّهُ وَافَقَ مَنْ يَقُولُ الْأَقْرَاءُ الْحِيَضُ فِي ذَلِكَ وَخَالَفَهُ فِي تَوَقّفِ انْقِضَائِهَا عَلَى الْغُسْلِ لِمُعَارِضِ أَوْجَبَ لَهُ مُخَالَفَتَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ . وَلَوْ ذَهَبْنَا نَعُدّ مَا تَصَرّفْتُمْ فِيهِ هَذَا التّصَرّفَ بِعَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُعَارِضُ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ تَنَاقُضًا مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ ضَعِيفُ قَوْلِهِمْ فِي إحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ عِنْدَهُمْ بِمَانِعِ لَهُمْ مِنْ مُوَافَقَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى فَإِنّ مُوَافَقَةَ أَكَابِرِ الصّحَابَةِ وَفِيهِمْ مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ فِي مُعْظَمِ قَوْلِهِمْ خَيْرٌ وَأَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعِهِ وَإِلْغَائِهِ بِحَيْثُ لَا يُعْتَبَرُ الْبَتّةَ . [ ص 567 ] قَالُوا : ثُمّ لَمْ نُخَالِفْهُمْ فِي تَوَقّفِ انْقِضَائِهَا عَلَى الْغُسْلِ بَلْ قُلْنَا : لَا تَنْقُضِي حَتّى تَغْتَسِلَ أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ فَوَافَقْنَاهُمْ فِي قَوْلِهِمْ بِالْغُسْلِ وَزِدْنَا عَلَيْهِمْ انْقِضَاءَهَا بِمُضِيّ وَقْتِ الصّلَاةِ لِأَنّهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الطّاهِرَاتِ بِدَلِيلِ اسْتِقْرَارِ الصّلَاةِ فِي ذِمّتِهَا فَأَيْنَ الْمُخَالَفَةُ الصّرِيحَةُ لِلْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِمْ