كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْبَثْرَةِ
ذَكَرَ
ابْنُ السّنّيّ فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ خَرَجَ فِي أُصْبُعِي بَثْرَةٌ فَقَالَ "
عِنْدَكِ ذَرِيرَةٌ ؟ قُلْت : نَعَمْ . قَالَ " ضَعِيهَا عَلَيْهَا "
وَقُولِي : اللّهُمّ مُصَغّرَ الْكَبِيرِ وَمُكَبّرَ الصّغِيرِ صَغّرْ مَا
بِي [ ص 104 ] الذّرِيرَةُ دَوَاءٌ هِنْدِيّ يُتّخَذُ مِنْ قَصَبِ
الذّرِيرَةِ وَهِيَ حَارّةٌ يَابِسَةٌ تَنْفَعُ مِنْ أَوْرَامِ
الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَتُقَوّي الْقَلْبَ
لِطِيبِهَا وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا قَالَتْ
طَيّبْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِي
بِذَرِيرَةٍ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلّ وَالْإِحْرَامِ .
وَالْبَثْرَةُ خُرّاجٌ صَغِيرٌ يَكُونُ عَنْ مَادّةٍ حَارّةٍ تَدْفَعُهَا
الطّبِيعَةُ فَتَسْتَرِقُ مَكَانًا مِنْ الْجَسَدِ تَخْرُجُ مِنْهُ فَهِيَ
مُحْتَاجَةٌ إلَى مَا يُنْضِجُهَا وَيُخْرِجُهَا وَالذّرِيرَةُ أَحَدُ مَا
يُفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ فَإِنّ فِيهَا إنْضَاجًا وَإِخْرَاجًا مَعَ طِيبِ
رَائِحَتِهَا مَعَ أَنّ فِيهَا تَبْرِيدًا لِلنّارِيّةِ الّتِي فِي تِلْكَ
الْمَادّةِ وَكَذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : إنّهُ لَا
أَفْضَلَ لِحَرْقِ النّارِ مِنْ الذّرِيرَةِ بِدُهْنِ الْوَرْدِ وَالْخَلّ
.
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْأَوْرَامِ وَالْخُرّجَاتِ الّتِي تَبْرَأُ بِالْبَطّ وَالْبَزْلِ
يُذْكَرُ
عَنْ عَلِيّ أَنّهُ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ بِظَهْرِهِ [ ص 105 ] فَقَالُوا
: يَا رَسُولَ اللّهِ بِهَذِهِ مِدّةٌ . قَالَ بُطّوا عَنْهُ قَالَ عَلِي
ّ : فَمَا بَرِحْتُ حَتّى بُطّتْ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ شَاهِدٌ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ طَبِيبًا أَنْ يَبُطّ بَطْنَ رَجُلٍ
أَجْوَى الْبَطْنِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ يَنْفَعُ الطّبّ ؟
قَالَ الّذِي أَنْزَلَ الدّاءَ أَنْزَلَ الشّفَاءَ فِيمَا شَاءَ الْوَرَمُ
مَادّةٌ فِي حَجْمِ الْعُضْوِ لِفَضْلِ مَادّةٍ غَيْرِ طَبِيعِيّةٍ
تَنْصَبّ إلَيْهِ وَيُوجَدُ فِي أَجْنَاسِ الْأَمْرَاضِ كُلّهَا
وَالْمَوَادّ الّتِي تَكَوّنَ عَنْهَا مِنْ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ
وَالْمَائِيّةِ وَالرّيحِ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْوَرَمُ سُمّيَ خُرّاجًا
وَكُلّ وَرَمٍ حَارّ يُؤَوّلُ أَمْرُهُ إلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ
إمّا تَحَلّلٍ وَإِمّا جَمْعِ مِدّةٍ وَإِمّا اسْتِحَالَةٍ إلَى
الصّلَابَةِ . فَإِنْ كَانَتْ الْقُوّةُ قَوِيّةً اسْتَوْلَتْ عَلَى
مَادّةِ الْوَرَمِ وَحَلّلَتْهُ وَهِيَ أَصْلَحُ الْحَالَاتِ الّتِي
يُؤَوّلُ حَالُ الْوَرَمِ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ دُونَ ذَلِكَ
أَنْضَجَتْ الْمَادّةَ وَأَحَالَتْهَا مِدّةً بَيْضَاءَ وَفَتَحَتْ لَهَا
مَكَانًا أَسَالَتْهَا مِنْهُ . وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ ذَلِكَ أَحَالَتْ
الْمَادّةَ مِدّةً غَيْرَ مُسْتَحْكِمَةٍ النّضْجَ وَعَجَزَتْ عَنْ فَتْحِ
مَكَانٍ فِي الْعُضْوِ تَدْفَعُهَا مِنْهُ فَيُخَافُ عَلَى الْعُضْوِ
الْفَسَادُ بِطُولِ لُبْثِهَا فِيهِ فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى إعَانَةِ
الطّبِيبِ بِالْبَطّ أَوْ غَيْرِهِ لِإِخْرَاجِ تِلْكَ الْمَادّةِ
الرّدِيئَةِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعُضْوِ . وَفِي الْبَطّ فَائِدَتَانِ
إحْدَاهُمَا : إخْرَاجُ الْمَادّةِ الرّدِيئَةِ الْمُفْسِدَةِ .
وَالثّانِيَةُ مَنْعُ اجْتِمَاعِ مَادّةٍ أُخْرَى إلَيْهَا تُقَوّيهَا .
وَأَمّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الثّانِي : إنّهُ أَمَرَ طَبِيبًا أَنْ
يَبُطّ بَطْنَ رَجُلٍ أَجْوَى [ ص 106 ] فَالْجَوَى يُقَالُ عَلَى مَعَانٍ
مِنْهَا : الْمَاءُ الْمُنْتِنُ الّذِي يَكُونُ فِي الْبَطْنِ يَحْدُثُ
عَنْهُ الِاسْتِسْقَاءُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَطِبّاءُ فِي بَزْلِهِ
لِخُرُوجِ هَذِهِ الْمَادّةِ فَمَنَعَتْهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لِخَطَرِهِ
وَبُعْدِ السّلَامَةِ مَعَهُ وَجَوّزَتْهُ طَائِفَةٌ أُخْرَى وَقَالَتْ
لَا عِلَاجَ لَهُ سِوَاهُ وَهَذَا عِنْدَهُمْ إنّمَا هُوَ فِي
الِاسْتِسْقَاءِ الزّقّيّ فَإِنّهُ كَمَا تَقَدّمَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ
طَبْلِيّ وَهُوَ الّذِي يَنْتَفِخُ مَعَهُ الْبَطْنُ بِمَادّةٍ رِيحِيّةٍ
إذَا ضَرَبْت عَلَيْهِ سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ الطّبْلِ وَلَحْمِيّ
وَهُوَ الّذِي يَرْبُو مَعَهُ لَحْمُ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِمَادّةٍ
بَلْغَمِيّةٍ تَفْشُو مَعَ الدّمِ فِي الْأَعْضَاءِ وَهُوَ أَصْعَبُ مِنْ
الْأَوّلِ وَزِقّيّ وَهُوَ الّذِي يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي الْبَطْنِ
الْأَسْفَلِ مَادّةٌ رَدِيئَةٌ يُسْمَعُ لَهَا عِنْدَ الْحَرَكَةِ
خَضْخَضَةٌ كَخَضْخَضَةِ الْمَاءِ فِي الزّقّ وَهُوَ أَرْدَأُ أَنْوَاعِهِ
عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْأَطِبّاءِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أَرْدَأُ
أَنْوَاعِهِ اللّحْمِيّ لِعُمُومِ الْآفَةِ بِهِ . وَمِنْ جُمْلَةِ
عِلَاجِ الزّقّيّ إخْرَاجُ ذَلِكَ بِالْبَزْلِ وَيَكُونُ ذَلِكَ
بِمَنْزِلَةِ فَصْدِ الْعُرُوقِ لِإِخْرَاجِ الدّمِ الْفَاسِدِ لَكِنّهُ
خَطَرٌ كَمَا تَقَدّمَ وَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ فَهُوَ دَلِيلٌ
عَلَى جَوَازِ بَزْلِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْمَرْضَى بِتَطْيِيبِ نُفُوسِهِمْ وَتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ
رَوَى
ابْنُ مَاجَهْ " فِي سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي ّ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا
دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفّسُوا لَهُ فِي الْأَجَلِ فَإِنّ ذَلِكَ
لَا يَرُدّ شَيْئًا وَهُوَ يُطَيّبُ نَفْسَ الْمَرِيضِ وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ نَوْعٌ شَرِيفٌ جِدّا مِنْ أَشْرَفِ أَنْوَاعِ الْعِلَاجِ
وَهُوَ الْإِرْشَادُ [ ص 107 ] تَقْوَى بِهِ الطّبِيعَةُ وَتَنْتَعِشُ
بِهِ الْقُوّةُ وَيَنْبَعِثُ بِهِ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ فَيَتَسَاعَدُ
عَلَى دَفْعِ الْعِلّةِ أَوْ تَخْفِيفِهَا الّذِي هُوَ غَايَةُ تَأْثِيرِ
الطّبِيبِ . وَتَفْرِيحُ نَفْسِ الْمَرِيضِ وَتَطْيِيبُ قَلْبِهِ
وَإِدْخَالُ مَا يَسُرّهُ عَلَيْهِ لَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي شِفَاءِ
عِلّتِهِ وَخِفّتِهَا فَإِنّ الْأَرْوَاحَ وَالْقُوَى تَقْوَى بِذَلِكَ
فَتُسَاعِدُ الطّبِيعَةَ عَلَى دَفْعِ الْمُؤْذِي وَقَدْ شَاهَدَ النّاسُ
كَثِيرًا مِنْ الْمَرْضَى تَنْتَعِشُ قُوَاهُ بِعِيَادَةِ مَنْ
يُحِبّونَهُ وَيُعَظّمُونَهُ وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُمْ وَلُطْفِهِمْ بِهِمْ
وَمُكَالَمَتِهِمْ إيّاهُمْ وَهَذَا أَحَدُ فَوَائِدِ عِيَادَةِ
الْمَرْضَى الّتِي تَتَعَلّقُ بِهِمْ فَإِنّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ
مِنْ الْفَوَائِدِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمَرِيضِ وَنَوْعٌ يَعُودُ
عَلَى الْعَائِدِ وَنَوْعٌ يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْمَرِيضِ وَنَوْعٌ
يَعُودُ عَلَى الْعَامّةِ . وَقَدْ تَقَدّمَ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهُ كَانَ يَسْأَلُ الْمَرِيضَ عَنْ شَكْوَاهُ
وَكَيْفَ يَجِدُهُ وَيَسْأَلُهُ عَمّا يَشْتَهِيهِ وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى
جَبْهَتِهِ وَرُبّمَا وَضَعَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ
وَيَصِفُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ فِي عِلّتِهِ وَرُبّمَا تَوَضّأَ وَصَبّ
عَلَى الْمَرِيضِ مِنْ وَضُوئِهِ وَرُبّمَا كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ لَا
بَأْسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللّهُ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ اللّطْفِ وَحُسْنِ
الْعِلَاجِ وَالتّدْبِيرِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْأَبْدَانِ بِمَا اعْتَادَتْهُ مِنْ
الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ دُونَ مَا لَمْ تَعْتَدْهُ
هَذَا أَصْلٌ
عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْعِلَاجِ وَأَنْفَعُ شَيْءٍ فِيهِ وَإِذَا
أَخْطَأَهُ الطّبِيبُ أَضَرّ الْمَرِيضَ مِنْ حَيْثُ يَظُنّ أَنّهُ
يَنْفَعُهُ وَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ
فِي كُتُبِ الطّبّ إلّا طَبِيبٌ جَاهِلٌ فَإِنّ مُلَاءَمَةَ الْأَدْوِيَةِ
وَالْأَغْذِيَةِ لِلْأَبْدَانِ بِحَسَبِ [ ص 108 ] وَالْأَكّارُونَ
وَغَيْرُهُمْ لَا يَنْجَعُ فِيهِمْ شَرَابُ اللّينُوفَرِ وَالْوَرْدُ
الطّرِيّ وَلَا الْمَغْلِيّ وَلَا يُؤَثّرُ فِي طِبَاعِهِمْ شَيْئًا بَلْ
عَامّةُ أَدْوِيَةِ أَهْلِ الْحَضَرِ وَأَهْلِ الرّفَاهِيَةِ لَا تُجْدِي
عَلّهمْ وَالتّجْرِبَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ وَمَنْ تَأَمّلَ مَا
ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْعِلَاجِ النّبَوِيّ رَآهُ كُلّهُ مُوَافِقًا
لِعَادَةِ الْعَلِيلِ وَأَرْضِهِ وَمَا نَشَأَ عَلَيْهِ . فَهَذَا أَصْلٌ
عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْعِلَاجِ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَقَدْ صَرّحَ
بِهِ أَفَاضِلُ أَهْلِ الطّبّ حَتّى قَالَ طَبِيبُ الْعَرَبِ بَلْ
أَطَبّهُمْ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ وَكَانَ فِيهِمْ كَابُقْرَاطَ فِي
قَوْمِهِ الْحِمْيَةُ رَأْسُ الدّوَاءِ وَالْمَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ
وَعَوّدُوا كُلّ بَدَنٍ مَا اعْتَادَ . وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ الْأَزْمُ
دَوَاءٌ وَالْأَزْمُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ يَعْنِي بِهِ الْجُوعَ
وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدْوِيَةِ فِي شِفَاءِ الْأَمْرَاضِ
الِامْتِلَائِيّةِ كُلّهَا بِحَيْثُ إنّهُ أَفْضَلُ فِي عِلَاجِهَا مِنْ
الْمُسْتَفْرَغَاتِ إذَا لَمْ يَخِفّ مِنْ كَثْرَةِ الِامْتِلَاءِ
وَهَيَجَانِ الْأَخْلَاطِ وَحِدّتِهَا أَوْ غَلَيَانِهَا . وَقَوْلُهُ
الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ . الْمَعِدَةُ عُضْوٌ عَصَبِيّ مُجَوّفٌ
كَالْقَرْعَةِ فِي شَكْلِهَا مُرَكّبٌ مِنْ ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ مُؤَلّفَةٍ
مِنْ شَظَايَا دَقِيقَةٍ عَصَبِيّةٍ تُسَمّى اللّيفَ وَيُحِيطُ بِهَا
لَحْمٌ وَلِيفٌ إحْدَى الطّبَقَاتِ بِالطّولِ وَالْأُخْرَى بِالْعَرْضِ
وَالثّالِثَةُ بِالْوَرْبِ وَفَمُ الْمَعِدَةِ أَكْثَرُ عَصَبًا
وَقَعْرُهَا أَكْثَرُ لَحْمًا وَفِي بَاطِنِهَا خَمْلٌ وَهِيَ مَحْصُورَةٌ
فِي وَسَطِ الْبَطْنِ وَأَمْيَلُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ قَلِيلًا
خُلِقَتْ عَلَى هَذِهِ الصّفَةِ لِحِكْمَةٍ لَطِيفَةٍ مِنْ الْخَالِقِ
الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَهِيَ بَيْتُ الدّاءِ وَكَانَتْ مَحَلّا
لِلْهَضْمِ الْأَوّلِ وَفِيهَا يَنْضَجُ الْغِذَاءُ وَيَنْحَدِرُ مِنْهَا
بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْكَبِدِ وَالْأَمْعَاءِ وَيَتَخَلّفُ مِنْهُ فِيهَا
فَضَلَاتٌ قَدْ عَجَزَتْ الْقُوّةُ الْهَاضِمَةُ عَنْ تَمَامِ هَضْمِهَا
إمّا لِكَثْرَةِ الْغِذَاءِ أَوْ لِرَدَاءَتِهِ أَوْ لِسُوءِ تَرْتِيبٍ
فِي اسْتِعْمَالِهِ أَوْ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ
بَعْضُهَا مِمّا لَا يَتَخَلّصُ الْإِنْسَانُ مِنْهُ غَالِبًا فَتَكُونُ
الْمَعِدَةُ بَيْتَ الدّاءِ لِذَلِكَ وَكَأَنّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى
الْحَثّ عَلَى تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَمَنْعِ النّفْسِ مِنْ اتّبَاعِ
الشّهَوَاتِ وَالتّحَرّزِ عَنْ الْفَضَلَاتِ . وَأَمّا الْعَادَةُ
فَلِأَنّهَا كَالطّبِيعَةِ لِلْإِنْسَانِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ الْعَادَةُ
طَبْعٌ ثَانٍ وَهِيَ [ ص 109 ] عَظِيمَةٌ فِي الْبَدَنِ حَتّى إنّ أَمْرًا
وَاحِدًا إذَا قِيسَ إلَى أَبْدَانٍ مُخْتَلِفَةِ الْعَادَاتِ كَانَ
مُخْتَلِفَ النّسْبَةِ إلَيْهَا . وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَبْدَانُ
مُتّفِقَةً فِي الْوُجُوهِ الْأُخْرَى مِثَالُ ذَلِكَ أَبْدَانٌ ثَلَاثَةٌ
حَارّةُ الْمِزَاجِ فِي سِنّ الشّبَابِ
أَحَدُهَا : عُودُ تَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْحَارّةِ .
وَالثّانِي : عُودُ تَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْبَارِدَةِ .
وَالثّالِثُ عُودُ تَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَوَسّطَةِ .
فَإِنّ
الْأَوّلَ مَتَى تَنَاوَلَ عَسَلًا لَمْ يَضُرّ بِهِ وَالثّانِي : مَتَى
تَنَاوَلَهُ أَضَرّ بِهِ وَالثّالِثُ يَضُرّ بِهِ قَلِيلًا فَالْعَادَةُ
رُكْنٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ وَمُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ
وَلِذَلِكَ جَاءَ الْعِلَاجُ النّبَوِيّ بِإِجْرَاءِ كُلّ بَدَنٍ عَلَى
عَادَتِهِ فِي اسْتِعْمَالِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَغْذِيَةِ الْمَرِيضِ بِأَلْطَفِ مَا اعْتَادَهُ مِنْ الْأَغْذِيَةِ
فِي
" الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا كَانَتْ
إذَا مَاتَ الْمَيّتُ مَنْ أَهْلِهَا وَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النّسَاءُ ثُمّ
تَفَرّقْنَ إلَى أَهْلِهِنّ أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ
فَطُبِخَتْ وَصُنِعَتْ ثَرِيدًا ثُمّ صُبّتْ التّلْبِينَةُ عَلَيْهِ ثُمّ
قَالَتْ كُلُوا مِنْهَا فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ التّلْبِينَةُ مَجَمّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ
تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ وَفِي " السّنَنِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ
أَيْضًا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَلَيْكُمْ بِالْبَغِيضِ النّافِعِ التّلْبِين قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اشْتَكَى أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِهِ لَمْ تَزَلْ الْبُرْمَةُ عَلَى النّارِ حَتّى يَنْتَهِيَ أَحَدُ
طَرَفَيْهِ . يَعْنِي يَبْرَأُ أَوْ يَمُوتُ . وَعَنْهَا : كَانَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا قِيلَ لَهُ إنّ فُلَانًا
وَجِعٌ لَا يَطْعَمُ الطّعَامَ قَالَ [ ص 110 ] عَلَيْكُمْ
بِالتّلْبِينَةِ فَحَسّوهُ إيّاهَا وَيَقُولُ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
إنّهَا تَغْسِلُ بَطْنَ أَحَدِكُمْ كَمَا تَغْسِلُ إحْدَاكُنّ وَجْهَهَا
مِنْ الْوَسَخِ
[ التّلْبِينُ وَفَوَائِدُهُ ]
التّلْبِينُ هُوَ
الْحِسَاءُ الرّقِيقُ الّذِي هُوَ فِي قِوَامِ اللّبَنِ وَمِنْهُ اُشْتُقّ
اسْمُهُ قَالَ الْهَرَوِيّ سُمّيَتْ تَلْبِينَةً لِشَبَهِهَا بِاللّبَنِ
لِبَيَاضِهَا وَرِقّتِهَا وَهَذَا الْغِذَاءُ هُوَ النّافِعُ لِلْعَلِيلِ
وَهُوَ الرّقِيقُ النّضِيحُ لَا الْغَلِيظُ النّيءُ وَإِذَا شِئْتَ أَنْ
تَعْرِفَ فَضْلَ التّلْبِينَةِ فَاعْرِفْ فَضْلَ مَاءِ الشّعِيرِ بَلْ
هِيَ مَاءُ الشّعِيرِ لَهُمْ فَإِنّهَا حِسَاءٌ مُتّخَذٌ مِنْ دَقِيقِ
الشّعِيرِ بِنُخَالَتِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَاءِ الشّعِيرِ
أَنّهُ يُطْبَخُ صِحَاحًا وَالتّلْبِينَةُ تُطْبَخُ مِنْهُ مَطْحُونًا
وَهِيَ أَنْفَعُ مِنْهُ لِخُرُوجِ خَاصّيّةِ الشّعِيرِ بِالطّحْنِ وَقَدْ
تَقَدّمَ أَنّ لِلْعَادَاتِ تَأْثِيرًا فِي الِانْتِفَاعِ بِالْأَدْوِيَةِ
وَالْأَغْذِيَةِ وَكَانَتْ عَادَةُ الْقَوْمِ أَنْ يَتّخِذُوا مَاءَ
الشّعِيرِ مِنْهُ مَطْحُونًا لَا صِحَاحًا وَهُوَ أَكْثَرُ تَغْذِيَةً
وَأَقْوَى فِعْلًا وَأَعْظَمُ جَلَاءً وَإِنّمَا اتّخَذَهُ أَطِبّاءُ
الْمُدُنِ مِنْهُ صِحَاحًا لِيَكُونَ أَرَقّ وَأَلْطَفَ فَلَا يَثْقُلُ
عَلَى طَبِيعَةِ الْمَرِيضِ وَهَذَا بِحَسَبِ طَبَائِعِ أَهْلِ الْمُدُنِ
وَرَخَاوَتِهَا وَثِقَلِ مَاءِ الشّعِيرِ الْمَطْحُونِ عَلَيْهَا .
وَالْمَقْصُودُ أَنّ مَاءَ الشّعِيرِ مَطْبُوخًا صِحَاحًا يَنْفُذُ
سَرِيعًا وَيَجْلُو جَلَاءً ظَاهِرًا وَيُغَذّي غِذَاءً لَطِيفًا .
وَإِذَا شُرِبَ حَارّا كَانَ جَلَاؤُهُ أَقْوَى وَنُفُوذُهُ أَسْرَعَ
وَإِنْمَاؤُهُ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيّةِ أَكْثَرَ وَتَلْمِيسُهُ
لِسُطُوحِ الْمَعِدَةِ أَوْفَقَ .
[ عِلّةُ ذَهَابِ التّلْبِينَةِ بِبَعْضِ الْحُزْنِ ]
وَقَوْلُهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهَا : مَجَمّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ
يُرْوَى بِوَجْهَيْنِ . بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ وَبِضَمّ الْمِيمِ
وَكَسْرِ الْجِيمِ وَالْأَوّلُ أَشْهَرُ وَمَعْنَاهُ أَنّهَا مُرِيحَةٌ
لَهُ أَيْ تُرِيحُهُ وَتُسَكّنُهُ مِنْ الْإِجْمَامِ وَهُوَ الرّاحَةُ .
وَقَوْلُهُ " تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ " هَذَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ -
لِأَنّ الْغَمّ وَالْحُزْنَ يُبَرّدَانِ الْمِزَاجَ وَيُضْعِفَانِ
الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ لِمَيْلِ الرّوحِ الْحَامِلِ لَهَا إلَى
جِهَةِ الْقَلْبِ الّذِي هُوَ مَنْشَؤُهَا وَهَذَا الْحِسَاءُ يُقَوّي
الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ بِزِيَادَتِهِ فِي مَادّتِهَا فَتُزِيلُ
أَكْثَرَ مَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الْغَمّ وَالْحُزْنِ . وَقَدْ يُقَالُ -
وَهُوَ أَقْرَبُ - إنّهَا تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ بِخَاصّيّةٍ فِيهَا
مِنْ [ ص 111 ] أَعْلَمُ . وَقَدْ يُقَالُ إنّ قُوَى الْحَزِينِ تَضْعُفُ
بِاسْتِيلَاءِ الْيُبْسِ عَلَى أَعْضَائِهِ وَعَلَى مَعِدَتِهِ خَاصّةً
لِتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَهَذَا الْحِسَاءُ يُرَطّبُهَا وَيُقَوّيهَا
وَيُغَذّيهَا وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ بِفُؤَادِ الْمَرِيضِ لَكِنّ
الْمَرِيضَ كَثِيرًا مَا يَجْتَمِعُ فِي مَعِدَتِهِ خَلْطٌ مَرَارِيّ أَوْ
بَلْغَمِيّ أَوْ صَدِيدِيّ وَهَذَا الْحِسَاءُ يَجْلُو ذَلِكَ عَنْ
الْمَعِدَةِ وَيَسْرُوهُ وَيَحْدُرُهُ وَيُمَيّعُهُ وَيُعَدّلُ
كَيْفِيّتَهُ وَيَكْسِرُ سَوْرَتَهُ فَيُرِيحُهَا وَلَا سِيّمَا لِمَنْ
عَادَتُهُ الِاغْتِذَاءُ بِخُبْزِ الشّعِيرِ وَهِيَ عَادَةُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ إذْ ذَاكَ وَكَانَ هُوَ غَالِبَ قُوتِهِمْ وَكَانَتْ
الْحِنْطَةُ عَزِيزَةً عِنْدَهُمْ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ السّمّ الّذِي أَصَابَهُ بِخَيْبَرَ مِنْ الْيَهُود
ذَكَرَ
عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ
بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّ امْرَأَةً يَهُودِيّةً أَهْدَتْ إلَى
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَاةً مَصْلِيّةً بِخَيْبَرَ
فَقَالَ مَا هَذِهِ ؟ قَالَتْ هَدِيّةٌ وَحَذِرَتْ أَنْ تَقُولَ مِنْ
الصّدَقَةِ فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا فَأَكَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَكَلَ الصّحَابَةُ ثُمّ
قَالَ أَمْسِكُوا ثُمّ
قَالَ لِلْمَرْأَةِ هَلْ سَمَمْتِ هَذِهِ الشّاةَ ؟ قَالَتْ مَنْ
أَخْبَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ هَذَا الْعَظْمُ لِسَاقِهَا وَهُوَ فِي يَدِهِ
؟ قَالَتْ نَعَمْ . قَالَ لِمَ ؟ قَالَتْ أَرَدْتُ إنْ كُنْت كَاذِبًا
أَنْ يَسْتَرِيحَ مِنْك النّاسُ وَإِنْ كُنْت نَبِيّا لَمْ يَضُرّك قَالَ
فَاحْتَجَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَةً عَلَى
الْكَاهِلِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْتَجِمُوا فَاحْتَجَمُوا فَمَاتَ
بَعْضُهُمْ [ ص 112 ] وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلَى كَاهِلِهِ مِنْ أَجْلِ الّذِي أَكَلَ مِنْ الشّاةِ
حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِالْقَرْنِ وَالشّفْرَةِ وَهُوَ مَوْلَى لِبَنِي
بَيَاضَةَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ
حَتّى كَانَ وَجَعُهُ الّذِي تُوُفّيَ فِيهِ فَقَالَ مَا زِلْتُ أَجِدُ
مِنْ الْأُكْلَةِ الّتِي أَكَلْتُ مِنْ الشّاةِ يَوْمَ خَيْبَرَ حَتّى
كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ الْأَبْهَرِ مِنّي فَتُوُفّيَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَهِيدًا قَالَهُ مُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ .
[ يُعَالَجُ السّمّ بِالاسْتِفْراغَاتِ وَبِالْأَدْوِيَةِ الْمُبْطِلَةِ لِفِعْلِ السّمّ ]
مُعَالَجَةُ
السّمّ تَكُونُ بِالاسْتِفْراغَاتِ وَبِالْأَدْوِيَةِ الّتِي تُعَارِضُ
فِعْلَ السّمّ وَتُبْطِلُهُ إمّا بِكَيْفِيّاتِهَا وَإِمّا بِخَوَاصّهَا
فَمَنْ عَدِمَ الدّوَاءَ فَلْيُبَادِرْ إلَى الِاسْتِفْرَاغِ الْكُلّيّ
وَأَنْفَعُهُ الْحِجَامَةُ وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَ الْبَلَدُ حَارّا
وَالزّمَانُ حَارّا فَإِنّ الْقُوّةَ [ ص 113 ] السّمّيّةَ تَسْرِي إلَى
الدّمِ فَتَنْبَعِثُ فِي الْعُرُوقِ وَالْمَجَارِي حَتّى تَصِلَ إلَى
الْقَلْبِ فَيَكُونُ الْهَلَاكُ فَالدّمُ هُوَ الْمَنْفَذُ الْمُوَصّلُ
لِلسّمّ إلَى الْقَلْبِ وَالْأَعْضَاءِ فَإِذَا بَادَرَ الْمَسْمُومُ
وَأَخْرَجَ الدّمَ خَرَجَتْ مَعَهُ تِلْكَ الْكَيْفِيّةُ السّمّيّةُ
الّتِي خَالَطَتْهُ فَإِنْ كَانَ اسْتِفْرَاغًا تَامّا لَمْ يَضُرّهُ
السّمّ بَلْ إمّا أَنْ يَذْهَبَ وَإِمّا أَنْ يَضْعُفَ فَتَقْوَى عَلَيْهِ
الطّبِيعَةُ فَتُبْطِلُ فِعْلَهُ أَوْ تُضْعِفُهُ .
[ اسْتِشْهَادُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّمّ ]
وَلَمّا
احْتَجَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ فِي
الْكَاهِلِ وَهُوَ أَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ الّتِي يُمْكِنُ فِيهَا
الْحِجَامَةُ إلَى الْقَلْبِ فَخَرَجَتْ الْمَادّةُ السّمّيّةُ مَعَ
الدّمِ لَا خُرُوجًا كُلّيّا بَلْ بَقِيَ أَثَرُهَا مَعَ ضَعْفِهِ لِمَا
يُرِيدُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تَكْمِيلِ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ كُلّهَا
لَهُ فَلَمّا أَرَادَ اللّهُ إكْرَامَهُ بِالشّهَادَةِ ظَهَرَ تَأْثِيرُ
ذَلِكَ الْأَثَرِ الْكَامِنِ مِنْ السّمّ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ
مَفْعُولًا وَظَهَرَ سِرّ قَوْلِهِ تَعَالَى لِأَعْدَائِهِ مِنْ
الْيَهُودِ : { أَفَكُلّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى
أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذّبْتُمْ وَفَرِيقًا
تَقْتُلُونَ } [ الْبَقَرَةِ 87 ] فَجَاءَ بِلَفْظِ كَذّبْتُمْ
بِالْمَاضِي الّذِي قَدْ وَقَعَ مِنْهُ وَتَحَقّقَ وَجَاءَ بِلَفْظِ "
تَقْتُلُونَ " بِالْمُسْتَقْبَلِ الّذِي يَتَوَقّعُونَهُ
وَيَنْتَظِرُونَهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ السّحْرِ
الّذِي
سَحَرَتْهُ الْيَهُودُ بِهِ قَدْ أَنْكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ النّاسِ
وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ هَذَا عَلَيْهِ وَظَنّوهُ نَقْصًا وَعَيْبًا
وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ
يَعْتَرِيهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْأَسْقَامِ
وَالْأَوْجَاعِ وَهُوَ مَرَضٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَإِصَابَتُهُ بِهِ
كَإِصَابَتِهِ بِالسّمّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي "
الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ
سُحِرَ [ ص 114 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إنْ كَانَ
لَيُخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ يَأْتِي نِسَاءَهُ وَلَمْ يَأْتِهِنّ وَذَلِكَ
أَشَدّ مَا يَكُونُ مِنْ السّحْرِ . قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَالسّحْرُ
مَرَضٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَعَارِضٌ مِنْ الْعِلَلِ يَجُوزُ عَلَيْهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَأَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ مِمّا لَا
يُنْكَرُ وَلَا يَقْدَحُ فِي نُبُوّتِهِ وَأَمّا كَوْنُهُ يُخَيّلُ
إلَيْهِ أَنّهُ فَعَلَ الشّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا
يُدْخِلُ عَلَيْهِ دَاخِلَةً فِي شَيْءٍ مِنْ صِدْقِهِ لِقِيَامِ
الدّلِيلِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى عِصْمَتِهِ مِنْ هَذَا وَإِنّمَا هَذَا
فِيمَا يَجُوزُ طُرُوّهُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ الّتِي لَمْ
يُبْعَثُ لِسَبَبِهَا وَلَا فُضّلَ مِنْ أَجْلِهَا وَهُوَ فِيهَا عُرْضَةٌ
لِلْآفَاتِ كَسَائِرِ الْبَشَرِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنّهُ يُخَيّلَ إلَيْهِ
مِنْ أُمُورِهَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ ثُمّ يَنْجَلِي عَنْهُ كَمَا
كَانَ .
[ عِلَاجُ السّحْرِ ]
وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ هَذَا الْمَرَضِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِيهِ نَوْعَانِ
[ اسْتِخْرَاجُ السّحْرِ وَإِبْطَالُهُ ]
أَحَدُهُمَا
- وَهُوَ أَبْلَغُهُمَا - اسْتِخْرَاجُهُ وَإِبْطَالُهُ كَمَا صَحّ عَنْهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ سَأَلَ رَبّهُ سُبْحَانَهُ فِي
ذَلِكَ فَدَلّ عَلَيْهِ فَاسْتَخْرَجَهُ مِنْ بِئْرٍ فَكَانَ فِي مُشْطٍ
وَمَشّاطَةٍ وَجَفّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ فَلَمّا اسْتَخْرَجَهُ ذَهَبَ مَا
بِهِ حَتّى كَأَنّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ مَا
يُعَالَجُ بِهِ الْمَطْبُوبُ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ إزَالَةِ الْمَادّةِ
الْخَبِيثَةِ وَقَلْعِهَا مِنْ الْجَسَدِ بِالِاسْتِفْرَاغِ .
[ الِاسْتِفْرَاغُ فِي الْمَحَلّ الّذِي يَصِلُ إليه أَذَى السّحْرِ ]
وَالنّوْعُ
الثّانِي : الِاسْتِفْرَاغُ فِي الْمَحَلّ الّذِي يَصِلُ إلَيْهِ أَذَى
السّحْرِ فَإِنّ لِلسّحْرِ تَأْثِيرًا فِي الطّبِيعَةِ وَهَيَجَانَ
أَخْلَاطِهَا وَتَشْوِيشَ مِزَاجِهَا فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي [ ص 115
] وَأَمْكَنَ اسْتِفْرَاغُ الْمَادّةِ الرّدِيئَةِ مِنْ ذَلِكَ الْعُضْوِ
نَفَعَ جِدّا . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ " غَرِيبِ
الْحَدِيثِ " لَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ عَلَى
رَأْسِهِ بِقَرْنٍ حِينَ طُبّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : مَعْنَى طُبّ أَيْ
سُحِرَ . وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى مَنْ قَلّ عِلْمُهُ وَقَالَ مَا
لِلْحِجَامَةِ وَالسّحْرِ وَمَا الرّابِطَةُ بَيْنَ هَذَا الدّاءِ وَهَذَا
الدّوَاءِ وَلَوْ وَجَدَ هَذَا الْقَائِلُ أَبُقْرَاطَ أَوْ ابْنَ سِينَا
أَوْ غَيْرَهُمَا قَدْ نَصّ عَلَى هَذَا الْعِلَاجِ لَتَلَقّاهُ
بِالْقَبُولِ وَالتّسْلِيمِ وَقَالَ قَدْ نَصّ عَلَيْهِ مَنْ لَا يُشَكّ
فِي مَعْرِفَتِهِ وَفَضْلِهِ . فَاعْلَمْ أَنّ مَادّةَ السّحْرِ الّذِي
أُصِيبَ بِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْتَهَتْ إلَى رَأْسِهِ
إلَى إحْدَى قُوَاهُ الّتِي فِيهِ بِحَيْثُ كَانَ يُخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ
يَفْعَلُ الشّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ وَهَذَا تَصَرّفٌ مِنْ السّاحِرِ فِي
الطّبِيعَةِ وَالْمَادّةِ الدّمَوِيّةِ بِحَيْثُ غَلَبَتْ تِلْكَ
الْمَادّةُ عَلَى الْبَطْنِ الْمُقَدّمِ مِنْهُ فَغَيّرَتْ مِزَاجَهُ عَنْ
طَبِيعَتِهِ الْأَصْلِيّةِ . وَالسّحْرُ هُوَ مُرَكّبٌ مِنْ تَأْثِيرَاتِ
الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ وَانْفِعَالِ الْقُوَى الطّبِيعِيّةِ عَنْهَا
وَهُوَ أَشَدّ مَا يَكُونُ مِنْ السّحْرِ وَلَا سِيّمَا فِي الْمَوْضِعِ
الّذِي انْتَهَى السّحْرُ إلَيْهِ وَاسْتِعْمَالُ الْحِجَامَةِ عَلَى
ذَلِكَ الْمَكَانِ الّذِي تَضَرّرَتْ أَفْعَالُهُ بِالسّحْرِ مِنْ
أَنْفَعِ الْمُعَالَجَةِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ عَلَى الْقَانُونِ الّذِي
يَنْبَغِي . قَالَ أَبُقْرَاطُ الْأَشْيَاءُ الّتِي يَنْبَغِي أَنْ
تُسْتَفْرَغَ يَجِبُ أَنْ تُسْتَفْرَغَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الّتِي هِيَ
إلَيْهَا أَمْيَلُ بِالْأَشْيَاءِ الّتِي تَصْلُحُ لِاسْتِفْرَاغِهَا .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ النّاسِ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا أُصِيبَ بِهَذَا الدّاءِ وَكَانَ يُخَيّلُ
إلَيْهِ أَنّهُ فَعَلَ الشّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ ظَنّ أَنّ ذَلِكَ عَنْ
مَادّةٍ دَمَوِيّةٍ أَوْ غَيْرِهَا مَالَتْ إلَى جِهَةِ الدّمَاغِ
وَغَلَبَتْ عَلَى الْبَطْنِ الْمُقَدّمِ مِنْهُ فَأَزَالَتْ مِزَاجَهُ
عَنْ الْحَالَةِ [ ص 116 ] وَكَانَ اسْتِعْمَالُ الْحِجَامَةِ إذْ ذَاكَ
مِنْ أَبْلَغِ الْأَدْوِيَةِ وَأَنْفَعِ الْمُعَالَجَةِ فَاحْتَجَمَ
وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ أَنّ ذَلِكَ مِنْ السّحْرِ
فَلَمّا جَاءَهُ الْوَحْيُ مِنْ اللّهِ تَعَالَى وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ قَدْ
سُحِرَ عَدَلَ إلَى الْعِلَاجِ الْحَقِيقِيّ وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ السّحْرِ
وَإِبْطَالُهُ فَسَأَلَ اللّهَ سُبْحَانَهُ فَدَلّهُ عَلَى مَكَانِهِ
فَاسْتَخْرَجَهُ فَقَامَ كَأَنّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ وَكَانَ غَايَةُ
هَذَا السّحْرِ فِيهِ إنّمَا هُوَ فِي جَسَدِهِ وَظَاهِرِ جَوَارِحِهِ لَا
عَلَى عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ صِحّةَ مَا
يُخَيّلُ إلَيْهِ مِنْ إتْيَانِ النّسَاءِ بَلْ يَعْلَمُ أَنّهُ خَيَالٌ
لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَحْدُثُ مِنْ بَعْضِ
الْأَمْرَاضِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ عِلَاجُ السّحْرِ بِالْأَذْكَارِ وَالْآيَاتِ ]
وَمِنْ
أَنْفَعِ عِلَاجَاتِ السّحْرِ الْأَدْوِيَةُ الْإِلَهِيّةُ بَلْ هِيَ
أَدْوِيَتُهُ النّافِعَةُ بِالذّاتِ فَإِنّهُ مِنْ تَأْثِيرَاتِ
الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ السّفْلِيّةِ وَدَفْعُ تَأْثِيرِهَا يَكُونُ
بِمَا يُعَارِضُهَا وَيُقَاوِمُهَا مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْآيَاتِ
وَالدّعَوَاتِ الّتِي تُبْطِلُ فِعْلَهَا وَتَأْثِيرَهَا وَكُلّمَا
كَانَتْ أَقْوَى وَأَشَدّ كَانَتْ أَبْلَغَ فِي النّشْرَةِ وَذَلِكَ
بِمَنْزِلَةِ الْتِقَاءِ جَيْشَيْنِ مَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُدّتُهُ
وَسِلَاحُهُ فَأَيّهُمَا غَلَبَ الْآخَرَ قَهَرَهُ وَكَانَ الْحُكْمُ لَهُ
فَالْقَلْبُ إذَا كَانَ مُمْتَلِئًا مِنْ اللّهِ مَغْمُورًا بِذِكْرِهِ
وَلَهُ مِنْ التّوَجّهَاتِ وَالدّعَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ وَالتّعَوّذَاتِ
وِرْدٌ لَا يُخِلّ بِهِ يُطَابِقُ فِيهِ قَلْبُهُ لِسَانَهُ كَانَ هَذَا
مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الّتِي تَمْنَعُ إصَابَةَ السّحْرِ لَهُ
وَمِنْ أَعْظَمِ الْعِلَاجَاتِ لَهُ بَعْدَ مَا يُصِيبُهُ . وَعِنْدَ
السّحَرَةِ أَنّ سِحْرَهُمْ إنّمَا يَتِمّ تَأْثِيرُهُ فِي الْقُلُوبِ
الضّعِيفَةِ الْمُنْفَعِلَةِ وَالنّفُوسِ الشّهْوَانِيّةِ الّتِي هِيَ
مُعَلّقَةٌ بِالسّفْلِيّاتِ وَلِهَذَا فَإِنّ غَالِبَ مَا يُؤَثّرُ فِي
النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ وَالْجُهّالِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي وَمَنْ ضَعُفَ
حَظّهُ مِنْ الدّينِ [ ص 117 ] وَبِالْجُمْلَةِ فَسُلْطَانُ تَأْثِيرِهِ
فِي الْقُلُوبِ الضّعِيفَةِ الْمُنْفَعِلَةِ الّتِي يَكُونُ مَيْلُهَا
إلَى السّفْلِيّاتِ قَالُوا : وَالْمَسْحُورُ هُوَ الّذِي يُعِينُ عَلَى
نَفْسِهِ فَإِنّا نَجِدُ قَلْبَهُ مُتَعَلّقًا بِشَيْءٍ كَثِيرِ
الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ فَيَتَسَلّطُ عَلَى قَلْبِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ
الْمَيْلِ وَالِالْتِفَاتِ وَالْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ إنّمَا تَتَسَلّطُ
عَلَى أَرْوَاحٍ تَلْقَاهَا مُسْتَعِدّةً لِتَسَلّطِهَا عَلَيْهَا
بِمَيْلِهَا إلَى مَا يُنَاسِبُ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ
وَبِفَرَاغِهَا مِنْ الْقُوّةِ الْإِلَهِيّةِ وَعَدَمِ أَخْذِهَا
لِلْعُدّةِ الّتِي تُحَارِبُهَا بِهَا فَتَجِدُهَا فَارِغَةً لَا عُدّةَ
مَعَهَا وَفِيهَا مَيْلٌ إلَى مَا يُنَاسِبُهَا فَتَتَسَلّطُ عَلَيْهَا
وَيَتَمَكّنُ تَأْثِيرُهَا فِيهَا بِالسّحْرِ وَغَيْرِهِ وَاَللّهُ
أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاسْتِفْرَاغِ بِالْقَيْءِ
رَوَى
التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ
أَبِي الدّرْدَاءِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَاءَ
فَتَوَضّأَ فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْتُ لَهُ
ذَلِكَ فَقَالَ صَدَقَ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ . قَالَ
التّرْمِذِيّ وَهَذَا أَصَحّ شَيْءٍ فِي الْبَابِ .
[ أُصُولُ الِاسْتِفْرَاغِ ]
الْقَيْءُ
أَحَدُ الْاِسْتِفْرَاغَات الْخَمْسَةِ الّتِي هِيَ أُصُولُ
الِاسْتِفْرَاغِ وَهِيَ الْإِسْهَالُ وَالْقَيْءُ وَإِخْرَاجُ الدّمِ
وَخُرُوجُ الْأَبْخِرَةِ وَالْعَرَقِ وَقَدْ جَاءَتْ بِهَا السّنّةُ . [ ص
118 ] مَرّ فِي حَدِيثِ خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْمَشْيُ وَفِي
حَدِيثٍ " السّنَا " . وَأَمّا إخْرَاجُ الدّمِ فَقَدْ تَقَدّمَ فِي
أَحَادِيثِ الْحِجَامَةِ . وَأَمّا اسْتِفْرَاغُ الْأَبْخِرَةِ
فَنَذْكُرُهُ عَقِيبَ هَذَا الْفَصْلِ إنْ شَاءَ اللّهُ . وَأَمّا
الِاسْتِفْرَاغُ بِالْعَرَقِ فَلَا يَكُونُ غَالِبًا بِالْقَصْدِ بَلْ
بِدَفْعِ الطّبِيعَةِ لَهُ إلَى ظَاهِرِ الْجَسَدِ فَيُصَادِفُ الْمَسَامّ
مُفَتّحَةً فَيَخْرُجُ مِنْهَا .
[ أَنْوَاعُ الْقَيْءِ ]
وَالْقَيْءُ
اسْتِفْرَاغٌ مِنْ أَعْلَى الْمَعِدَةِ وَالْحُقْنَةُ مِنْ أَسْفَلِهَا
وَالدّوَاءُ مِنْ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلِهَا وَالْقَيْءُ نَوْعَانِ نَوْعٌ
بِالْغَلَبَةِ وَالْهَيَجَانِ وَنَوْعٌ بِالِاسْتِدْعَاءِ وَالطّلَبِ .
فَأَمّا الْأَوّلُ فَلَا يَسُوغُ حَبْسُهُ وَدَفْعُهُ إلّا إذَا أَفْرَطَ
وَخِيفَ مِنْهُ التّلَفُ . فَيُقْطَعُ بِالْأَشْيَاءِ الّتِي تُمْسِكُهُ .
وَأَمّا الثّانِي : فَأَنْفَعُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إذَا رُوعِيَ
زَمَانُهُ وَشُرُوطُهُ الّتِي تُذْكَرُ .
[ أَسْبَابُ الْقَيْءِ ]
وَأَسْبَابُ الْقَيْءِ عَشَرَةٌ
أَحَدُهَا : غَلَبَةُ الْمُرّةِ الصّفْرَاءِ وَطَفْوُهَا عَلَى رَأْسِ الْمَعِدَةِ فَتَطْلُبُ الصّعُودَ .
الثّانِي : مِنْ غَلَبَةِ بَلْغَمٍ لَزِجٍ قَدْ تَحَرّكَ فِي الْمَعِدَةِ وَاحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ .
الثّالِثُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَعْفِ الْمَعِدَةِ فِي ذَاتِهَا فَلَا تَهْضِمُ الطّعَامَ فَتَقْذِفُهُ إلَى جِهَةِ فَوْقَ .
الرّابِعُ أَنْ يُخَالِطَهَا خَلْطٌ رَدِيءٌ يَنْصَبّ إلَيْهَا فَيُسِيءُ هَضْمَهَا وَيُضْعِفُ فِعْلَهَا .
الْخَامِسُ
أَنْ يَكُونَ مِنْ زِيَادَةِ الْمَأْكُولِ أَوْ الْمَشْرُوبِ عَلَى
الْقَدْرِ الّذِي تَحْتَمِلُهُ الْمَعِدَةُ فَتَعْجِزُ عَنْ إمْسَاكِهِ
فَتَطْلُبُ دَفْعَهُ وَقَذْفَهُ .
السّادِسُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَدَمِ
مُوَافَقَةِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لَهَا وَكَرَاهَتِهَا لَهُ
فَتَطْلُبُ دَفْعَهُ وَقَذْفَهُ . [ ص 119 ] وَطَبِيعَتِهِ فَتَقْذِفُ
بِهِ .
الثّامِنُ الْقَرَفُ وَهُوَ مُوجِبُ غَثَيَانِ النّفْسِ وَتَهَوّعِهَا .
[ الْأَعْرَاضُ النّفْسَانِيّةُ مِنْ أَسْبَابِ الْقَيْءِ ]
التّاسِعُ
مِنْ الْأَعْرَاضِ النّفْسَانِيّةِ كَالْهَمّ الشّدِيدِ وَالْغَمّ
وَالْحَزَنِ وَغِبّةِ اشْتِغَالِ الطّبِيعَةِ وَالْقُوَى الطّبِيعِيّةِ
بِهِ وَاهْتِمَامِهَا بِوُرُودِهِ عَنْ تَدْبِيرِ الْبَدَنِ وَإِصْلَاحِ
الْغِذَاءِ وَإِنْضَاجِهِ وَهَضْمِهِ فَتَقْذِفُهُ الْمَعِدَةُ وَقَدْ
يَكُونُ لِأَجْلِ تَحَرّكِ الْأَخْلَاطِ عِنْدَ تَخَبّطِ النّفْسِ فَإِنّ
كُلّ وَاحِدٍ مِنْ النّفْسِ وَالْبَدَنِ يَنْفَعِلُ عَنْ صَاحِبِهِ
وَيُؤَثّرُ فِي كَيْفِيّتِهِ . الْعَاشِرُ نَقْلُ الطّبِيعَةِ بِأَنْ
يَرَى مَنْ يَتَقَيّأُ فَيَغْلِبُهُ هُوَ الْقَيْءُ مِنْ غَيْرِ
اسْتِدْعَاءٍ فَإِنّ الطّبِيعَةَ نَقّالَةٌ .
[ إخْبَارُ أَحَدِ الْأَطِبّاءِ الْمُصَنّفِ بِقِصّتَيْنِ عَنْ نَقْلِ الْمَرَضِ بِرُؤْيَةِ الْمَرِيضِ ]
وَأَخْبَرَنِي
بَعْضُ حُذّاقِ الْأَطِبّاءِ قَالَ كَانَ لِي ابْنُ أُخْتٍ حَذَقَ فِي
الْكُحْلِ فَجَلَسَ كَحّالًا فَكَانَ إذَا فَتَحَ عَيْنَ الرّجُلِ وَرَأَى
الرّمَدَ وَكَحّلَهُ رَمِدَ هُوَ وَتَكَرّرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَتَرَكَ
الْجُلُوسَ . قُلْتُ لَهُ فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ ؟ قَالَ نَقْلُ الطّبِيعَةِ
فَإِنّهَا نَقّالَةٌ قَالَ وَأَعْرِفُ آخَرَ كَانَ رَأَى خُرّاجًا فِي
مَوْضِعٍ مِنْ جِسْمِ رَجُلٍ يَحُكّهُ فَحَكّ هُوَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ
فَخَرَجَتْ فِيهِ خَرّاجَةٌ . قُلْتُ وَكُلّ هَذَا لَا بُدّ فِيهِ مِنْ
اسْتِعْدَادِ الطّبِيعَةِ وَتَكُونُ الْمَادّةُ سَاكِنَةً فِيهَا غَيْرَ
مُتَحَرّكَةٍ فَتَتَحَرّكُ لِسَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَهَذِهِ
أَسْبَابٌ لِتَحَرّكِ الْمَادّةِ لَا أَنّهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِهَذَا
الْعَارِضِ .
فَصْلٌ [أَنْفَعُ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ لِلْقَيْءِ وَالْإِسْهَالِ ]
وَلَمّا
كَانَتْ الْأَخْلَاطُ فِي الْبِلَادِ الْحَارّةِ وَالْأَزْمِنَةِ
الْحَارّةِ تَرِقّ وَتَنْجَذِبُ إلَى فَوْقٍ كَانَ الْقَيْءُ فِيهَا
أَنْفَعَ . وَلَمّا كَانَتْ فِي الْأَزْمِنَةِ الْبَارِدَةِ وَالْبِلَادِ
الْبَارِدَةِ تَغْلُظُ وَيَصْعُبُ جَذْبُهَا إلَى فَوْقٍ كَانَ
اسْتِفْرَاغُهَا بِالْإِسْهَالِ أَنْفَعَ .
[ كَيْفِيّةُ إزَالَةِ الْأَخْلَاطِ وَدَفْعِهَا ]
وَإِزَالَةِ
الْأَخْلَاطِ وَدَفْعِهَا تَكُونُ بِالْجَذْبِ وَالِاسْتِفْرَاغُ
وَالْجَذْبُ يَكُونُ مِنْ أَبْعَدِ الطّرُقِ وَالِاسْتِفْرَاغُ مِنْ
أَقْرَبِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ الْمَادّةَ إذَا كَانَتْ
عَامِلَةً فِي [ ص 120 ] مُحْتَاجَةٌ إلَى الْجَذْبِ فَإِنْ كَانَتْ
مُتَصَاعِدَةً جُذِبَتْ مِنْ أَسْفَلَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْصَبّةً جُذِبَتْ
مِنْ فَوْقٍ وَأَمّا إذَا اسْتَقَرّتْ فِي مَوْضِعِهَا اسْتَفْرَغَتْ مِنْ
أَقْرَبِ الطّرُقِ إلَيْهَا فَمَتَى أَضَرّتْ الْمَادّةُ بِالْأَعْضَاءِ
الْعُلْيَا اُجْتُذِبَتْ مِنْ أَسْفَلَ وَمَتَى أَضَرّتْ بِالْأَعْضَاءِ
السّفْلَى اُجْتُذِبَتْ مِنْ فَوْقٍ وَمَتَى اسْتَقَرّتْ اسْتَفْرَغَتْ
مِنْ أَقْرَبِ مَكَانٍ إلَيْهَا وَلِهَذَا احْتَجَمَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى كَاهِلِهِ تَارَةً وَفِي رَأْسِهِ أُخْرَى
وَعَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ تَارَةً فَكَانَ يَسْتَفْرِغُ مَادّةَ الدّمِ
الْمُؤْذِي مِنْ أَقْرَبِ مَكَانٍ إلَيْهِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [فَوَائِدُ الْقَيْءِ ]
وَالْقَيْءُ
يُنَقّي الْمَعِدَةَ وَيُقَوّيهَا وَيُحِدّ الْبَصَرَ وَيُزِيلُ ثِقَلَ
الرّأْسِ وَيَنْفَعُ قُرُوحَ الْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَالْأَمْرَاضِ
الْمُزْمِنَةِ كَالْجُذَامِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْفَالِجِ وَالرّعْشَةِ
وَيَنْفَعُ الْيَرَقَانَ .
[ وَقْتُ الْقَيْءِ ]
[ضَرَرُ الْإِكْثَارِ مِنْ الْقَيْءِ ]
[ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ اجْتِنَابُهُ ]
وَيَنْبَغِي
أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ الصّحِيحُ فِي الشّهْرِ مَرّتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ
مِنْ غَيْرِ حِفْظِ دَوْرٍ لِيَتَدَارَكَ الثّانِي مَا قَصّرَ عَنْهُ
الْأَوّلُ وَيُنَقّي الْفَضَلَاتِ الّتِي انْصَبّتْ بِسَبَبِهِ
وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يَضُرّ الْمَعِدَةَ وَيَجْعَلُهَا قَابِلَةً
لِلْفُضُولِ وَيَضُرّ بِالْأَسْنَانِ وَالْبَصَرِ وَالسّمْعِ وَرُبّمَا
صَدَعَ عِرْقًا وَيَجِبُ أَنْ يَجْتَنِبَهُ مَنْ بِهِ وَرَمٌ فِي
الْحَلْقِ أَوْ ضَعْفٌ فِي الصّدْرِ أَوْ دَقِيقَ الرّقَبَةِ أَوْ
مُسْتَعِدّ لِنَفْثِ الدّمِ أَوْ عُسْرِ الْإِجَابَةِ لَهُ .
[ مَضَارّ الْقَيْءِ بَعْدَ امْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ ]
وَأَمّا
مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِمّنْ يُسِيءُ التّدْبِيرَ وَهُوَ أَنْ
يَمْتَلِئَ مِنْ الطّعَامِ ثُمّ يَقْذِفُهُ فَفِيهِ آفَاتٌ عَدِيدَةٌ
مِنْهَا : أَنّهُ يُعَجّلُ الْهَرَمَ وَيُوقِعُ فِي أَمْرَاضٍ رَدِيئَةٍ
وَيَجْعَلُ الْقَيْءَ لَهُ عَادَةً . وَالْقَيْءُ مَعَ الْيُبُوسَةِ
وَضَعْفِ الْأَحْشَاءِ وَهُزَالِ الْمَرَاقّ . أَوْ ضَعْفِ الْمُسْتَقِيءِ
خَطَرٌ ... [ ص 121 ]
[ أَفْضَلُ أَوْقَاتِهِ وَكَيْفِيّتُهُ ]
وَأَحْمَدُ
أَوْقَاتِهِ الصّيْفُ وَالرّبِيعُ دُونَ الشّتَاءِ وَالْخَرِيفِ
وَيَنْبَغِي عِنْدَ الْقَيْءِ أَنْ يَعْصِبَ الْعَيْنَيْنِ وَيَقْمِطَ
الْبَطْنَ وَيَغْسِلُ الْوَجْهَ بِمَاءٍ بَارِدٍ عِنْدَ الْفَرَاغِ وَأَنْ
يَشْرَبَ عَقِيبَهُ شَرَابَ التّفّاحِ مَعَ يَسِيرٍ مِنْ مُصْطَكَى
وَمَاءُ الْوَرْدِ يَنْفَعُهُ نَفْعًا بَيّنًا .
[الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَيْءِ وَالِاسْتِفْرَاغِ ]
وَالْقَيْءُ
يُسْتَفْرَغُ مِنْ أَعْلَى الْمَعِدَةِ وَيُجْذَبُ مِنْ أَسْفَلَ
وَالْإِسْهَالُ بِالْعَكْسِ قَالَ أَبِقِرَاطٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
الِاسْتِفْرَاغُ فِي الصّيْفِ مِنْ فَوْقٍ أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِفْرَاغِ
بِالدّوَاءِ وَفِي الشّتَاءِ مِنْ أَسْفَلَ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْإِرْشَادِ إلَى مُعَالَجَةِ أَحْذَقِ الطّبِيبَيْنِ
ذَكَرَ
مَالِكٌ فِي " مُوَطّئِهِ " : عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّ رَجُلًا فِي
زَمَانِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصَابَهُ جُرْحٌ
فَاحْتَقَنَ الْجُرْحُ الدّمَ وَأَنّ الرّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ
بَنِي أَنْمَار ٍ فَنَظَرَا إلَيْهِ فَزَعَمَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُمَا : " أَيّكُمَا أَطَبّ ؟ فَقَالَ
أَوَ فِي الطّبّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ فَقَالَ أَنْزَلَ الدّوَاءَ
الّذِي أَنْزَلَ الدّاءَ
[ يَنْبَغِي الِاسْتِعَانَةُ فِي كُلّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ بِأَحْذَقِ مَنْ فِيهَا فَالْأَحْذَقِ ]
فَفِي
هَذَا الْحَدِيثِ أَنّهُ يَنْبَغِي الِاسْتِعَانَةُ فِي كُلّ عِلْمٍ
وَصِنَاعَةٍ بِأَحْذَقِ مَنْ فِيهَا فَالْأَحْذَقِ فَإِنّهُ إلَى
الْإِصَابَةِ أَقْرَبُ . وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ
يَسْتَعِينَ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ بِالْأَعْلَمِ فَالْأَعْلَمِ لِأَنّهُ
أَقْرَبُ إصَابَةً مِمّنْ هُوَ دُونَهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ خَفِيَتْ
عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنّهُ يُقَلّدُ أَعْلَمَ مَنْ يَجِدُهُ وَعَلَى
هَذَا فَطَرَ اللّهُ عِبَادَهُ كَمَا أَنّ الْمُسَافِرَ فِي الْبَرّ
وَالْبَحْرِ إنّمَا سُكُونُ نَفْسِهِ وَطُمَأْنِينَتُهُ إلَى [ ص 122 ]
وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْزَلَ الدّوَاءَ الّذِي
أَنْزَلَ الدّاءَ قَدْ جَاءَ مِثْلُهُ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ
فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ
قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى
مَرِيضٍ يَعُودُهُ فَقَالَ " أَرْسِلُوا إلَى طَبِيبٍ " فَقَالَ قَائِلٌ
وَأَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " نَعَمْ إنّ اللّهَ
عَزّ وَجَلّ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً وَفِي "
الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ مَا أَنْزَلَ
اللّهُ مِنْ دَاءٍ إلّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً وَقَدْ تَقَدّمَ هَذَا
الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ .
[ مَعْنَى أُنْزِلَ الدّاءُ وَالدّوَاءُ ]
"
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى أُنْزِلَ الدّاءُ وَالدّوَاءُ فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ إنْزَالُهُ إعْلَامُ الْعِبَادِ بِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرَ بِعُمُومِ الْإِنْزَالِ
لِكُلّ دَاءٍ وَدَوَائِهِ وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ
وَلِهَذَا قَالَ عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنْزَالُهُمَا : خَلْقُهُمَا وَوَضْعُهُمَا فِي
الْأَرْضِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إنّ اللّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً
إلّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الّذِي
قَبْلَهُ فَلَفْظَةُ الْإِنْزَالِ أَخَصّ مِنْ لَفْظَةِ الْخَلْقِ
وَالْوَضْعِ فَلَا يَنْبَغِي إسْقَاطُ خُصُوصِيّةِ اللّفْظَةِ بِلَا
مُوجِبٍ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنْزَالُهُمَا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ
الْمُوَكّلِينَ بِمُبَاشَرَةِ الْخَلْقِ مِنْ دَاءٍ وَدَوَاءٍ وَغَيْرِ
ذَلِكَ فَإِنّ الْمَلَائِكَةَ مُوَكّلَةٌ بِأَمْرِ هَذَا الْعَالَمِ
وَأَمْرِ النّوْعِ الْإِنْسَانِيّ مِنْ حِينِ سُقُوطِهِ فِي رَحِمِ أُمّهِ
إلَى حِينِ مَوْتِهِ فَإِنْزَالُ الدّاءِ وَالدّوَاءِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ
وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ قَبْلَهُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنّ
عَامّةَ الْأَدْوَاءِ وَالْأَدْوِيَةِ هِيَ بِوَاسِطَةِ إنْزَالِ
الْغَيْثِ مِنْ السّمَاءِ الّذِي تَتَوَلّدُ بِهِ الْأَغْذِيَةُ
وَالْأَقْوَاتُ وَالْأَدْوِيَةُ وَالْأَدْوَاءُ وَآلَاتُ ذَلِكَ كُلّهِ
وَأَسْبَابُهُ وَمُكَمّلَاتُهُ وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ الْمَعَادِنِ
الْعُلْوِيّةِ فَهِيَ تَنْزِلُ مِنْ الْجِبَالِ وَمَا [ ص 123 ] كَانَ
مِنْهَا مِنْ الْأَوْدِيَةِ وَالْأَنْهَارِ وَالثّمَارِ فَدَاخِلٌ فِي
اللّفْظِ عَلَى طَرِيقِ التّغْلِيبِ وَالِاكْتِفَاءِ عَنْ الْفِعْلَيْنِ
بِفِعْلٍ وَاحِدٍ يَتَضَمّنهُمَا وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ
بَلْ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأُمَمِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
حَتَى غَدَتْ هَمّالَةً عَيْنَاهَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ
مُتَقَلّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ
إذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا
وَزَجّجْنَ الْحَوَاجِبَ والعُيونَا
وَهَذَا أَحْسَنُ مِمّا قَبْلَهُ مِنْ الْوُجُوهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ كَمَا يَبْتَلِي اللّهُ عِبَادَهُ فَإِنّهُ يُيَسّرُ لَهُمْ مَا يُضَادّهُ ]
وَهَذَا
مِنْ تَمَامِ حِكْمَةِ الرّبّ عَزّ وَجَلّ وَتَمَامِ رُبُوبِيّتِهِ
فَإِنّهُ كَمَا ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالْأَدْوَاءِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا
بِمَا يَسّرَهُ لَهُمْ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ
بِالذّنُوبِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِالتّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ
الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفّرَةِ وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ
بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ مِنْ الشّيَاطِينِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا
بِجُنْدٍ مِنْ الْأَرْوَاحِ الطّيّبَةِ وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ . وَكَمَا
ابْتَلَاهُمْ بِالشّهَوَاتِ أَعَانَهُمْ عَلَى قَضَائِهَا بِمَا يَسّرَهُ
لَهُمْ شَرْعًا وَقَدَرًا مِنْ الْمُشْتَهَيَاتِ اللّذِيذَةِ النّافِعَةِ
فَمَا ابْتَلَاهُمْ سُبْحَانَهُ بِشَيْءٍ إلّا أَعْطَاهُمْ مَا
يَسْتَعِينُونَ بِهِ [ ص 124 ]
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَضْمِينِ مَنْ طَبّ النّاسَ وَهُوَ جَاهِلٌ بِالطّبّ
رَوَى
أَبُو دَاوُدَ وَالنّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ تَطَبّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ الطّبّ
قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ هَذَا الْحَدِيثُ يَتَعَلّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ
أُمُورٍ أَمْرٌ لُغَوِيّ وَأَمْرٌ فِقْهِيّ وَأَمْرٌ طِبّيّ .
[مَعْنَى الطّبّ لُغَةً ]
فَأَمّا
اللّغَوِيّ فَالطّبّ بِكَسْرِ الطّاءِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ عَلَى
مَعَانٍ . مِنْهَا الْإِصْلَاحُ يُقَالُ طَبّبْتُهُ إذَا أَصْلَحْته .
وَيُقَالُ لَهُ طِبّ بِالْأُمُورِ . أَيْ لُطْفٌ وَسِيَاسَةٌ . قَالَ
الشّاعِرُ
وَإِذَا تَغَيّرَ مِنْ تَمِيمٍ أَمْرُهَا
كُنْت الطّبِيبَ لَهَا بِرَأْيٍ ثَاقِبٍ
وَمِنْهَا
: الْحِذْقُ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : كُلّ حَاذِقٍ طَبِيبٌ عِنْدَ
الْعَرَبِ قَالَ أَبُو عَبِيدٍ : أَصْلُ الطّبّ : الْحِذْقُ
بِالْأَشْيَاءِ وَالْمَهَارَةُ بِهَا . يُقَالُ لِلرّجُلِ طِبّ وَطَبِيبٌ
إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ عِلَاجِ الْمَرِيضِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ رَجُلٌ طَبِيبٌ أَيْ حَاذِقٌ سُمّيَ طَبِيبًا لِحِذْقِهِ
وَفِطْنَتِهِ . قَالَ عَلْقَمَةُ
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنّسَاءِ فَإِنّنِي
خَبِيرٌ بأْدْوَاءِ النّسَاءِ طَبِيبٌ
إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلّ مَالُهُ
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ وُدّهِنّ نَصِيبُ
[ ص 125 ] وَقَالَ عَنْتَرَةُ :
إنْ تُغْدِ فِي دُونِي الْقِنَاعَ فَإنّني
طِبّ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ
أَيْ
إنْ تُرْخِي عَنّي قِنَاعَك وَتَسْتُرِي وَجْهَك رَغْبَةً عَنّي فَإِنّي
خَبِيرٌ حَاذِقٌ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الّذِي قَدْ لَبِسَ لَأْمَةَ
حَرْبِهِ . وَمِنْهَا : الْعَادَةُ يُقَالُ لَيْسَ ذَاكَ بِطِبّي أَيْ
عَادَتِي قَالَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ : [ ص 126 ]
فَمَا إنْ طِبّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ
مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمُتَنَبّي :
وَمَا التّيهُ طِبّي فِيهِمْ غَيْرَ أَنّنِي
بَغِيضٌ إلَيّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ
وَمِنْهَا
: السّحْرُ يُقَالُ رَجُلٌ مَطْبُوبٌ أَيْ مَسْحُورٌ وَفِي " الصّحِيحِ "
فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ لَمّا سَحَرَتْ يَهُودُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَلَسَ الْمَلَكَانِ عِنْدَ رَأْسِهِ وَعِنْدَ
رِجْلَيْهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : مَا بَالُ الرّجُلِ ؟ قَالَ الْآخَرُ
مَطْبُوبٌ . قَالَ مَنْ طَبّهُ ؟ قَالَ فُلَانٌ الْيَهُودِيّ . قَالَ
أَبُو عَبِيدٍ : إنّمَا قَالُوا لِلْمَسْحُورِ مَطْبُوبٌ لِأَنّهُمْ
كَنّوْا بِالطّبّ عَنْ السّحْرِ كَمَا كَنّوْا عَنْ اللّدِيغِ فَقَالُوا :
سَلِيمٌ تَفَاؤُلًا بِالسّلَامَةِ وَكَمَا كَنّوْا بِالْمَفَازَةِ عَنْ
الْفَلَاةِ الْمُهْلِكَةِ الّتِي لَا مَاءَ فِيهَا فَقَالُوا : مَفَازَةً
تَفَاؤُلًا بِالْفَوْزِ مِنْ الْهَلَاكِ . وَيُقَالُ الطّبّ لِنَفْسِ
الدّاءِ . قَالَ ابْنُ أَبِي الْأَسْلَتِ :
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ حَسّا نَ عَنّي
أَسِحْرٌ كَانَ طِبّكَ أَمْ جُنُونٌ
وَأَمّا قَوْلُ الْحَمَاسِيّ :
فَإِنْ كُنْتَ مَطْبُوبًا فَلَا زِلْتَ هَكَذَا
وَإِنْ كُنْتَ مَسْحُورًا فَلَا بَرِئَ السّحْرُ
[
ص 127 ] أَرَادَ بِالْمَطْبُوبِ الّذِي قَدْ سُحِرَ وَأَرَادَ
بِالْمَسْحُورِ الْعَلِيلُ بِالْمَرَضِ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَيُقَالُ
لِلْعَلِيلِ مَسْحُورٌ . وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ . وَمَعْنَاهُ إنْ كَانَ
هَذَا الّذِي قَدْ عَرَانِي مِنْك وَمِنْ حُبّك أَسْأَلُ اللّهَ دَوَامَهُ
وَلَا أُرِيدُ زَوَالَهُ سَوَاءٌ كَانَ سِحْرًا أَوْ مَرَضًا . وَالطّبّ :
مُثَلّثُ الطّاءِ فَالْمَفْتُوحُ الطّاءِ هُوَ الْعَالِمُ بِالْأُمُورِ
وَكَذَلِكَ الطّبِيبُ يُقَالُ لَهُ طِبّ أَيْضًا . وَالطّبّ : بِكَسْرِ
الطّاءِ فِعْلُ الطّبِيبِ وَالطّبّ بِضَمّ الطّاءِ اسْمُ مَوْضِعٍ قَالَهُ
ابْنُ السّيّدِ وَأَنْشَدَ
فَقُلْتُ هَلْ انْهَلْتُمْ بِطُبّ رِكَابِكُمْ
بِجَائِزَةِ الْمَاءِ الّتِي طَابَ طِينُهَا
وَقَوْلُهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ تَطَبّبَ وَلَمْ يَقُلْ مَنْ طُبّ
لِأَنّ لَفْظَ التّفَعّلِ يَدُلّ عَلَى تَكَلّفِ الشّيْءِ وَالدّخُولِ
فِيهِ بِعُسْرٍ وَكُلْفَةٍ وَأَنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ كَتَحَلّمَ
وَتَشَجّعَ وَتَصَبّرَ وَنَظَائِرِهَا وَكَذَلِكَ بَنَوْا تَكَلّفَ عَلَى
هَذَا الْوَزْنِ قَالَ الشّاعِرُ وَقَيْسُ عَيْلانَ وَمَنْ تَقَيّسَا
[إيجَابُ الضّمَانِ عَلَى الطّبِيبِ الْجَاهِلِ ]
وَأَمّا
الْأَمْرُ الشّرْعِيّ فَإِيجَابُ الضّمَانِ عَلَى الطّبِيبِ الْجَاهِلِ
فَإِذَا تَعَاطَى عِلْمَ الطّبّ وَعَمَلَهُ وَلَمْ يَتَقَدّمْ لَهُ بِهِ
مَعْرِفَةٌ فَقَدْ هَجَمَ بِجَهْلِهِ عَلَى إتْلَافِ الْأَنْفُسِ
وَأَقْدَمَ بِالتّهَوّرِ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ فَيَكُونُ قَدْ غَرّرَ
بِالْعَلِيلِ فَيَلْزَمُهُ الضّمَانُ لِذَلِكَ [ ص 128 ] قَالَ
الْخَطّابِي : لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنّ الْمُعَالِجَ إذَا تَعَدّى
فَتَلِفَ الْمَرِيضُ كَانَ ضَامِنًا وَالْمُتَعَاطِي عِلْمًا أَوْ عَمَلًا
لَا يَعْرِفُهُ مُتَعَدّ فَإِذَا تَوَلّدَ مِنْ فِعْلِهِ التّلَفُ ضِمْنَ
الدّيَةَ وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ لِأَنّهُ لَا يَسْتَبِدّ بِذَلِكَ
بِدُونِ إذْنِ الْمَرِيضِ وَجِنَايَةُ الْمُتَطَبّبِ فِي قَوْلِ عَامّةِ
الْفُقَهَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ .
[ أَقْسَامُ الْأَطِبّاءِ مِنْ جِهَةِ إتْلَافِ الْأَعْضَاءِ وَذِكْرُ الْقِسْمِ الْأَوّلِ ]
قُلْت
: الْأَقْسَامُ خَمْسَةٌ أَحَدُهَا : طَبِيبٌ حَاذِقٌ أَعْطَى الصّنْعَةَ
حَقّهَا وَلَمْ تَجْنِ يَدُهُ فَتَوَلّدَ مِنْ فِعْلِهِ الْمَأْذُونِ
فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشّارِعِ وَمِنْ جِهَةِ مَنْ يَطِبّهُ تَلَفُ
الْعُضْوِ أَوْ النّفْسِ أَوْ ذَهَابُ صِفَةٍ فَهَذَا لَا ضَمَانَ
عَلَيْهِ اتّفَاقًا فَإِنّهَا سِرَايَةُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهَذَا كَمَا
إذَا خَتَنَ الصّبِيّ فِي وَقْتٍ وَسِنّهُ قَابِلٌ لِلْخِتَانِ وَأَعْطَى
الصّنْعَةَ حَقّهَا فَتَلِفَ الْعُضْوُ أَوْ الصّبِيّ لَمْ يَضْمَنْ
وَكَذَلِكَ إذَا بَطّ مِنْ عَاقِلٍ أَوْ غَيْرِهِ مَا يَنْبَغِي بَطّهُ
فِي وَقْتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي يَنْبَغِي فَتَلِفَ بِهِ لَمْ
يَضْمَنْ وَهَكَذَا سِرَايَةُ كُلّ مَأْذُونٍ فِيهِ لَمْ يَتَعَدّ
الْفَاعِلُ فِي سَبَبِهَا كَسِرَايَةِ الْحَدّ بِالِاتّفَاقِ .
وَسِرَايَةِ الْقِصَاصِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَة َ
فِي إيجَابِهِ الضّمَانَ بِهَا وَسِرَايَةِ التّعْزِيرِ وَضَرْبِ الرّجُلِ
امْرَأَتَهُ وَالْمُعَلّمِ الصّبِيّ وَالْمُسْتَأْجِرِ الدّابّةَ خِلَافًا
لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشّافِعِيّ فِي إيجَابِهِمَا الضّمَانَ فِي ذَلِكَ
وَاسْتَثْنَى الشّافِعِيّ ضَرْبَ الدّابّةِ . وَقَاعِدَةُ الْبَابِ
إجْمَاعًا وَنِزَاعًا : أَنّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ
بِالِاتّفَاقِ وَسِرَايَةُ الْوَاجِبِ مُهْدَرَةٌ بِالِاتّفَاقِ وَمَا
بَيْنَهُمَا فَفِيهِ النّزَاعُ . فَأَبُو حَنِيفَةَ أَوْجَبَ ضَمَانَهُ
مُطْلَقًا وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ أَهْدَرَا ضَمَانَهُ وَفَرّقَ الشّافِعِيّ
بَيْنَ الْمُقَدّرِ فَأَهْدَرَ ضَمَانَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُقَدّرِ
فَأَوْجَبَ ضَمَانَهُ . فَأَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ إلَى أَنّ الْإِذْنَ فِي
الْفِعْلِ إنّمَا وَقَعَ مَشْرُوطًا بِالسّلَامَةِ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ
نَظَرَا إلَى أَنّ الْإِذْنَ أَسْقَطَ الضّمَانَ وَالشّافِعِيّ نَظَرَ
إلَى أَنّ الْمُقَدّرَ لَا يُمْكِنُ النّقْصَانُ مِنْهُ فَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ النّصّ وَأَمّا غَيْرُ الْمُقَدّرِ كَالتّعْزِيرَاتِ
وَالتّأْدِيبَاتِ فَاجْتِهَادِيّةٌ فَإِذَا تَلِفَ بِهَا ضَمِنَ لِأَنّهُ
فِي مَظِنّةِ الْعُدْوَانِ . [ ص 129 ]
فَصْلٌ [ الْقِسْمُ الثّانِي ]
الْقِسْمُ
الثّانِي : مُطَبّبٌ جَاهِلٌ بَاشَرَتْ يَدُهُ مَنْ يَطِبّهُ فَتَلِفَ
بِهِ فَهَذَا إنْ عَلِمَ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ أَنّهُ جَاهِلٌ لَا عِلْمَ
لَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي طِبّهِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَا تُخَالِفُ هَذِهِ
الصّورَةُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ فَإِنّ السّيَاقَ وَقُوّةَ الْكَلَامِ
يَدُلّ عَلَى أَنّهُ غَرّ الْعَلِيلَ وَأَوْهَمَهُ أَنّهُ طَبِيبٌ
وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ ظَنّ الْمَرِيضُ أَنّهُ طَبِيبٌ وَأَذِنَ لَهُ
فِي طِبّهِ لِأَجْلِ مَعْرِفَتِهِ ضَمِنَ الطّبِيبُ مَا جَنَتْ يَدُهُ
وَكَذَلِكَ إنْ وَصَفَ لَهُ دَوَاءً يَسْتَعْمِلُهُ وَالْعَلِيلُ يَظُنّ
أَنّهُ وَصَفَهُ لِمَعْرِفَتِهِ وَحِذْقِهِ فَتَلِفَ بِهِ ضَمِنَهُ
وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِيهِ أَوْ صَرِيحٌ .
فَصْلٌ [ الْقِسْمُ الثّالِثُ ]
الْقِسْمُ
الثّالِثُ طَبِيبٌ حَاذِقٌ أَذِنَ لَهُ وَأَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا
لَكِنّهُ أَخْطَأَتْ يَدُهُ وَتَعَدّتْ إلَى عُضْوٍ صَحِيحٍ فَأَتْلَفَهُ
مِثْلَ أَنْ سَبَقَتْ يَدُ الْخَاتِنِ إلَى الْكَمَرَةِ فَهَذَا يَضْمَنُ
لِأَنّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ ثُمّ إنْ كَانَتْ الثّلُثَ فَمَا زَادَ فَهُوَ
عَلَى عَاقِلَتِهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَاقِلَةٌ فَهَلْ تَكُونُ الدّيَةُ
فِي مَالِهِ أَوْ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا
رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ . وَقِيلَ إنْ كَانَ الطّبِيبُ ذِمّيّا فَفِي
مَالِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَفِيهِ الرّوَايَتَانِ فَإِنْ لَمْ
يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ أَوْ تَعَذّرَ تَحْمِيلُهُ فَهَلْ تَسْقُطُ الدّيَةُ
أَوْ تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَشْهُرُهُمَا :
سُقُوطُهَا .
فَصْلٌ [الْقِسْمُ الرّابِعُ ]
الْقِسْمُ الرّابِعُ
الطّبِيبُ الْحَاذِقُ الْمَاهِرُ بِصَنَاعَتِهِ اجْتَهَدَ فَوَصَفَ
لِلْمَرِيضِ دَوَاءً فَأَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ فَقَتَلَهُ فَهَذَا
يُخَرّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : أَنّ دِيَةَ الْمَرِيضِ فِي
بَيْتِ الْمَالِ . وَالثّانِيَةُ أَنّهَا عَلَى عَاقِلَةِ الطّبِيبِ
وَقَدْ نَصّ عَلَيْهِمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي خَطَأِ الْإِمَامِ
وَالْحَاكِمِ . [ ص 130 ]
فصل [ الْقِسْمُ الْخَامِسُ ]
الْقِسْمُ
الْخَامِسُ طَبِيبٌ حَاذِقٌ أَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا فَقَطَعَ سِلْعَةً
مِنْ رَجُلٍ أَوْ صَبِيّ أَوْ مَجْنُونٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ إذْنِ
وَلِيّهِ أَوْ خَتَنَ صَبِيّا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ فَتَلِفَ فَقَالَ
أَصْحَابُنَا : يَضْمَنُ لِأَنّهُ تَوَلّدَ مِنْ فِعْلٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ
فِيهِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْبَالِغُ أَوْ وَلِيّ الصّبِيّ وَالْمَجْنُونِ
لَمْ يَضْمَنْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَضْمَنَ مُطْلَقًا لِأَنّهُ
مُحْسِنٌ وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ
إنْ كَانَ مُتَعَدّيًا فَلَا أَثَرَ لِإِذْنِ الْوَلِيّ فِي إسْقَاطِ
الضّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدّيًا فَلَا وَجْهَ لِضَمَانِهِ .
فَإِنْ قُلْت : هُوَ مُتَعَدّ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ غَيْرُ مُتَعَدّ
عِنْدَ الْإِذْنِ قُلْت : الْعُدْوَانُ وَعَدَمُهُ إنّمَا يَرْجِعُ إلَى
فِعْلِهِ هُوَ فَلَا أَثَرَ لِلْإِذْنِ وَعَدَمِهِ فِيهِ وَهَذَا مَوْضِعُ
نَظَرٍ .
فَصْلٌ أَقْسَامُ الْأَطِبّاءِ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا
تَتَنَاوَلُ الطّبّ عَمَلًا أَوْ قَوْلًا إنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا
وَاسْمَ كُلّ مِنْهُمْ
وَالطّبِيبُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَتَنَاوَلُ
مَنْ يَطِبّ بِوَصْفِهِ وَقَوْلِهِ وَهُوَ الّذِي يُخَصّ بِاسْمِ
الطّبَائِعِيّ وَبِمِرْوَدِهِ وَهُوَ الْكَحّالُ وَبِمِبْضَعِهِ
وَمَرَاهِمِهِ وَهُوَ الْجَرَائِحِيّ وَبِمُوسَاهُ وَهُوَ الْخَاتِنُ
وَبِرِيشَتِهِ وَهُوَ الْفَاصِدُ وَبِمَحَاجِمِهِ وَمِشْرَطِهِ وَهُوَ
الْحَجّامُ وَبِخَلْعِهِ وَوَصْلِهِ وَرِبَاطِهِ وَهُوَ الْمُجَبّرُ
وَبِمِكْوَاتِهِ وَنَارِهِ وَهُوَ الْكَوّاءُ وَبِقِرْبَتِهِ وَهُوَ
الْحَاقِنُ وَسَوَاءٌ كَانَ طِبّهُ لِحَيَوَانٍ بَهِيمٍ أَوْ إنْسَانٍ
فَاسْمُ الطّبِيبِ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى هَؤُلَاءِ كُلّهِمْ كَمَا
تَقَدّمَ وَتَخْصِيصُ النّاسِ لَهُ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَطِبّاءِ
عُرْفٌ حَادِثٌ كَتَخْصِيصِ لَفْظِ الدّابّةِ بِمَا يَخُصّهَا بِهِ كُلّ
قَوْمٍ .
فَصْلٌ [ مَا يُرَاعِيهِ الطّبِيبُ الْحَاذِقُ مِنْ الْأُمُورِ ]
وَالطّبِيبُ
الْحَاذِقُ هُوَ الّذِي يُرَاعِي فِي عِلَاجِهِ عِشْرِينَ أَمْرًا :
أَحَدُهَا : النّظَرُ فِي نَوْعِ الْمَرَضِ مِنْ أَيّ الْأَمْرَاضِ هُوَ ؟
[ ص 131 ] الثّانِي : النّظَرُ فِي سَبَبِهِ مِنْ أَيّ شَيْءٍ حَدَثَ
وَالْعِلّةُ الْفَاعِلَةُ الّتِي كَانَتْ سَبَبَ حُدُوثِهِ مَا هِيَ ؟ .
الثّالِثُ قُوّةُ الْمَرِيضِ وَهَلْ هِيَ مُقَاوِمَةٌ لِلْمَرَضِ أَوْ
أَضْعَفُ مِنْهُ ؟ فَإِنْ كَانَتْ مُقَاوِمَةً لِلْمَرَضِ مُسْتَظْهِرَةً
عَلَيْهِ تَرَكَهَا وَالْمَرَضَ وَلَمْ يُحَرّكْ بِالدّوَاءِ سَاكِنًا .
الرّابِعُ مِزَاجُ الْبَدَنِ الطّبِيعِيّ مَا هُوَ ؟ الْخَامِسُ
الْمِزَاجُ الْحَادِثُ عَلَى غَيْرِ الْمُجْرَى الطّبِيعِيّ . السّادِسُ
سِنّ الْمَرِيضِ . السّابِعُ عَادَتُهُ . الثّامِنُ الْوَقْتُ الْحَاضِرُ
مِنْ فُصُولِ السّنَةِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ . التّاسِعُ بَلَدُ الْمَرِيضِ
وَتُرْبَتُهُ . الْعَاشِرُ حَالُ الْهَوَاءِ فِي وَقْتِ الْمَرَضِ .
الْحَادِيَ عَشَرَ النّظَرُ فِي الدّوَاءِ الْمُضَادّ لِتِلْكَ الْعِلّةِ
. الثّانِيَ عَشَرَ النّظَرُ فِي قُوّةِ الدّوَاءِ وَدَرَجَتِهِ
وَالْمُوَازَنَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قُوّةِ الْمَرِيضِ .
[ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ إزَالَةَ الْعِلّةِ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ مَعَهُ حُدُوثَ أَصْعَبِ مِنْهَا ]
الثّالِثَ
عَشَرَ أَلّا يَكُونَ كُلّ قَصْدِهِ إزَالَةَ تِلْكَ الْعِلّةِ فَقَطْ
بَلْ إزَالَتُهَا عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ مَعَهُ حُدُوثَ أَصْعَبِ مِنْهَا
فَمَتَى كَانَ إزَالَتُهَا لَا يَأْمَنُ مَعَهَا حُدُوثَ عِلّةٍ أُخْرَى
أَصْعَبَ مِنْهَا أَبْقَاهَا عَلَى حَالِهَا وَتَلْطِيفِهَا هُوَ
الْوَاجِبُ وَهَذَا كَمَرَضِ أَفْوَاهِ الْعُرُوقِ فَإِنّهُ مَتَى عُولِجَ
بِقَطْعِهِ وَحَبْسِهِ خِيفَ حُدُوثُ مَا هُوَ أَصْعَبُ مِنْهُ .
[ أَنْ يُعَالِجَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ ]
الرّابِعَ
عَشَرَ أَنْ يُعَالِجَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ فَلَا يَنْتَقِلُ مَنْ
الْعِلَاجِ بِالْغِذَاءِ إلَى الدّوَاءِ إلّا عِنْدَ تَعَذّرِهِ وَلَا
يَنْتَقِلُ إلَى الدّوَاءِ الْمُرَكّبِ إلّا عِنْدَ تَعَذّرِ الدّوَاءِ
الْبَسِيطِ فَمِنْ حِذْقِ الطّبِيبِ عِلَاجُهُ بِالْأَغْذِيَةِ بَدَلَ
الْأَدْوِيَةِ وَبِالْأَدْوِيَةِ الْبَسِيطَةِ بَدَلَ الْمُرَكّبَةِ .
الْخَامِسَ عَشَرَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْعِلّةِ هَلْ هِيَ مِمّا يُمْكِنُ
عِلَاجُهَا أَوْ لَا ؟ فَإِنْ [ ص 132 ] يُفِيدُ شَيْئًا . وَإِنْ
أَمْكَنَ عِلَاجُهَا نَظَرَ هَلْ يُمْكِنُ زَوَالُهَا أَمْ لَا ؟ فَإِنْ
عَلِمَ أَنّهُ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا نَظَرَ هَلْ يُمْكِنُ تَخْفِيفُهَا
وَتَقْلِيلُهَا أَمْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقْلِيلُهَا وَرَأَى أَنّ
غَايَةَ الْإِمْكَانِ إيقَافُهَا وَقَطْعُ زِيَادَتِهَا قَصَدَ
بِالْعِلَاجِ ذَلِكَ وَأَعَانَ الْقُوّةَ وَأَضْعَفَ الْمَادّةَ .
السّادِسَ عَشَرَ أَلّا يَتَعَرّضَ لِلْخَلْطِ قَبْلَ نُضْجِهِ
بِاسْتِفْرَاغٍ بَلْ يَقْصِدُ إنْضَاجَهُ فَإِذَا تَمّ نُضْجُهُ بَادَرَ
إلَى اسْتِفْرَاغِهِ .
[ أَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِاعْتِلَالِ الْقُلُوبِ ]
السّابِعَ
عَشَرَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِاعْتِلَالِ الْقُلُوبِ
وَالْأَرْوَاحِ وَأَدْوِيَتِهَا وَذَلِكَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي عِلَاجِ
الْأَبْدَانِ فَإِنّ انْفِعَالَ الْبَدَنِ وَطَبِيعَتَهُ عَنْ النّفْسِ
وَالْقَلْبِ أَمْرٌ مَشْهُودٌ وَالطّبِيبُ إذَا كَانَ عَارِفًا
بِأَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالرّوحِ وَعِلَاجِهِمَا كَانَ هُوَ الطّبِيبَ
الْكَامِلَ وَاَلّذِي لَا خِبْرَةَ لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ حَاذِقًا
فِي عِلَاجِ الطّبِيعَةِ وَأَحْوَالِ الْبَدَنِ نِصْفُ طَبِيبٍ . وَكُلّ
طَبِيبٍ لَا يُدَاوِي الْعَلِيلَ بِتَفَقّدِ قَلْبِهِ وَصَلَاحِهِ
وَتَقْوِيَةِ رُوحِهِ وَقُوَاهُ بِالصّدَقَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ
وَالْإِحْسَانِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللّهِ وَالدّارِ الْآخِرَةِ
فَلَيْسَ بِطَبِيبٍ بَلْ مُتَطَبّبٌ قَاصِرٌ . وَمِنْ أَعْظَمِ عِلَاجَاتِ
الْمَرَضِ فِعْلُ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَالذّكْرُ وَالدّعَاءُ
وَالتّضَرّعُ وَالِابْتِهَالُ إلَى اللّهِ وَالتّوْبَةُ وَلِهَذِهِ
الْأُمُورِ تَأْثِيرٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ وَحُصُولِ الشّفَاءِ أَعْظَمُ
مِنْ الْأَدْوِيَةِ الطّبِيعِيّةِ وَلَكِنْ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِ
النّفْسِ وَقَبُولِهَا وَعَقِيدَتِهَا فِي ذَلِكَ وَنَفْعِهِ . الثّامِنَ
عَشَرَ التّلَطّفُ بِالْمَرِيضِ وَالرّفْقُ بِهِ كَالتّلَطّفِ بِالصّبِيّ
. التّاسِعَ عَشَرَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ أَنْوَاعَ الْعِلَاجَاتِ
الطّبِيعِيّةِ وَالْإِلَهِيّةِ وَالْعِلَاجَ بِالتّخْيِيلِ فَإِنّ
لِحُذّاقِ الْأَطِبّاءِ فِي التّخْيِيلِ أُمُورًا عَجِيبَةً لَا يَصِلُ
إلَيْهَا الدّوَاءُ فَالطّبِيبُ الْحَاذِقُ يَسْتَعِينُ عَلَى الْمَرَضِ
بِكُلّ مُعِينٍ . الْعِشْرُونَ - وَهُوَ مِلَاكُ أَمْرِ الطّبِيبِ - أَنْ
يَجْعَلَ عِلَاجَهُ وَتَدْبِيرَهُ دَائِرًا عَلَى سِتّةِ أَرْكَانٍ حِفْظُ
الصّحّةِ الْمَوْجُودَةِ وَرَدّ الصّحّةِ الْمَفْقُودَةِ بِحَسَبِ
الْإِمْكَانِ [ ص 133 ] أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِإِزَالَةِ
أَعْظَمِهِمَا وَتَفْوِيتِ أَدْنَى الْمَصْلَحَتَيْنِ لِتَحْصِيلِ
أَعْظَمِهِمَا فَعَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ السّتّةِ مَدَارُ الْعِلَاجِ
وَكُلّ طَبِيبٍ لَا تَكُونُ هَذِهِ أَخِيّتَهُ الّتِي يَرْجِعُ إلَيْهَا
فَلَيْسَ بِطَبِيبٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [مُرَاعَاةُ الطّبِيبِ لِأَحْوَالِ الْمَرَضِ ]
وَلَمّا
كَانَ لِلْمَرَضِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ ابْتِدَاءٌ وَصُعُودٌ وَانْتِهَاءٌ
وَانْحِطَاطٌ تَعَيّنَ عَلَى الطّبِيبِ مُرَاعَاةُ كُلّ حَالٍ مِنْ
أَحْوَالِ الْمَرَضِ بِمَا يُنَاسِبُهَا وَيَلِيقُ بِهَا وَيَسْتَعْمِلُ
فِي كُلّ حَالٍ مَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهَا . فَإِذَا رَأَى فِي
ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ أَنّ الطّبِيعَةَ مُحْتَاجَةٌ إلَى مَا يُحَرّكُ
الْفَضَلَاتِ وَيَسْتَفْرِغُهَا لِنُضْجِهَا بَادَرَ إلَيْهِ فَإِنْ
فَاتَهُ تَحْرِيكُ الطّبِيعَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ لِعَائِقٍ مَنَعَ
مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِضَعْفِ الْقُوّةِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهَا
لِلِاسْتِفْرَاغِ أَوْ لِبُرُودَةِ الْفَصْلِ أَوْ لِتَفْرِيطٍ وَقَعَ
فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ كُلّ الْحَذَرِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي
صُعُودِ الْمَرَضِ لِأَنّهُ إنْ فَعَلَهُ تَحَيّرَتْ الطّبِيعَةُ
لِاشْتِغَالِهَا بِالدّوَاءِ وَتَخَلّتْ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَرَضِ
وَمُقَاوَمَتِهِ بِالْكُلّيّةِ وَمِثَالُهُ أَنْ يَجِيءَ إلَى فَارِسٍ
مَشْغُولٍ بِمُوَاقَعَةِ عَدُوّهِ فَيَشْغَلُهُ عَنْهُ بِأَمْرٍ آخَرَ
وَلَكِنّ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يُعِينَ الطّبِيعَةَ عَلَى
حِفْظِ الْقُوّةِ مَا أَمْكَنَهُ . فَإِذَا انْتَهَى الْمَرَضُ وَوَقَفَ
وَسَكَنَ أَخَذَ فِي اسْتِفْرَاغِهِ وَاسْتِئْصَالِ أَسْبَابِهِ فَإِذَا
أَخَذَ فِي الِانْحِطَاطِ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ . وَمِثَالُ هَذَا
مِثَالُ الْعَدُوّ إذَا انْتَهَتْ قُوّتُهُ وَفَرَغَ سِلَاحُهُ كَانَ
أَخْذُهُ سَهْلًا فَإِذَا وَلّى وَأَخَذَ فِي الْهَرَبِ كَانَ أَسْهَلَ
أَخْذًا وَحِدّتُهُ وَشَوْكَتُهُ إنّمَا هِيَ فِي ابْتِدَائِهِ وَحَالِ
اسْتِفْرَاغِهِ وَسِعَةِ قُوّتِهِ فَهَكَذَا الدّاءُ وَالدّوَاءُ سَوَاءٌ .
فَصْلٌ [ مِنْ حِذْقِ الطّبِيبِ التّدْبِيرُ بِالْأَسْهَلِ ]
وَمِنْ
حِذْقِ الطّبِيبِ أَنّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ التّدْبِيرُ بِالْأَسْهَلِ فَلَا
يَعْدِلُ إلَى [ ص 134 ] يَخَافَ فَوْتَ الْقُوّةِ حِينَئِذٍ فَيَجِبُ
أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْأَقْوَى وَلَا يُقِيمَ فِي الْمُعَالَجَةِ عَلَى
حَالٍ وَاحِدَةٍ فَتَأْلَفُهَا الطّبِيعَةُ وَيَقِلّ انْفِعَالُهَا عَنْهُ
وَلَا تَجْسُرُ عَلَى الْأَدْوِيَةِ الْقَوِيّةِ فِي الْفُصُولِ
الْقَوِيّةِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّهُ إذَا أَمْكَنَهُ الْعِلَاجُ
بِالْغِذَاءِ فَلَا يُعَالِجُ بِالدّوَاءِ وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ
الْمَرَضُ أَحَارّ هُوَ أَمْ بَارِدٌ ؟ فَلَا يُقْدِمُ حَتّى يَتَبَيّنَ
لَهُ وَلَا يُجَرّبُهُ بِمَا يَخَافُ عَاقِبَتَهُ وَلَا بَأْسَ
بِتَجْرِبَتِهِ بِمَا لَا يَضُرّ أَثَرُهُ .
[مَا يَفْعَلُهُ الطّبِيبُ إذَا اجْتَمَعَتْ أَمْرَاضٌ ]
وَإِذَا
اجْتَمَعَتْ أَمْرَاضٌ بَدَأَ بِمَا تَخُصّهُ وَاحِدَةٌ مِنْ ثَلَاثِ
خِصَالٍ إحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَ بُرْءُ الْآخَرِ مَوْقُوفًا عَلَى
بُرْئِهِ كَالْوَرَمِ وَالْقُرْحَةِ فَإِنّهُ يَبْدَأُ بِالْوَرَمِ .
الثّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهَا سَبَبًا لِلْآخَرِ كَالسّدّةِ
وَالْحُمّى الْعَفِنَةِ فَإِنّهُ يَبْدَأُ بِإِزَالَةِ السّبَبِ .
الثّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَهَمّ مِنْ الْآخَرِ كَالْحَادّ
وَالْمُزْمِنِ فَيَبْدَأُ بِالْحَادّ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَغْفُلُ عَنْ
الْآخَرِ . وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمَرَضُ وَالْعَرَضُ بَدَأَ بِالْمَرَضِ
إلّا أَنْ يَكُونَ الْعَرْضُ أَقْوَى كَالْقُولَنْجِ فَيُسَكّنُ الْوَجَعَ
أَوّلًا ثُمّ يُعَالِجُ السّدّةَ وَإِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ
الْمُعَالَجَةِ بِالِاسْتِفْرَاغِ بِالْجُوعِ أَوْ الصّوْمِ أَوْ النّوْمِ
لَمْ يَسْتَفْرِغْهُ وَكُلّ صِحّةٍ أَرَادَ حِفْظَهَا حَفِظَهَا
بِالْمِثْلِ أَوْ الشّبَهِ وَإِنْ أَرَادَ نَقْلَهَا إلَى مَا هُوَ
أَفْضَلُ مِنْهَا نَقَلَهَا بِالضّدّ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي التّحَرّزِ مِنْ الْأَدْوَاءِ الْمُعْدِيَةِ
بِطَبْعِهَا وَإِرْشَادِهِ الْأَصِحّاءَ إلَى مُجَانَبَةِ أَهْلِهَا
ثَبَتَ
فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّهُ
كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ارْجِعْ فَقَدْ بَايَعْنَاكَ [ ص 135 ]
وَرَوَى الْبُخَارِيُ فِي " صَحِيحِهِ " تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ
فِرّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرّ مِنْ الْأَسَدِ وَفِي " سُنَنِ ابْنِ
مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النَبيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَالَ لَا تُدِيمُوا النّظَرَ إلَى الْمَجْذُومِينَ وَفِي "
الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُورِدَنّ مُمْرِضٌ عَلَى
مُصِحّ وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَلّمْ
الْمَجْذُومَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قِيدَ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ [ ص 136
]
[ مَا هُوَ الْجُذَامُ ]
الْجُذَامُ عِلّةٌ رَدِيئَةٌ تَحْدُثُ
مِنْ انْتِشَارِ الْمُرّةِ السّوْدَاءِ فِي الْبَدَنِ كُلّهِ فَيَفْسُدُ
مِزَاجُ الْأَعْضَاءِ وَهَيْئَتُهَا وَشَكْلُهَا وَرُبّمَا فَسَدَ فِي
آخِرِهِ اتّصَالُهَا حَتّى تَتَأَكّلَ الْأَعْضَاءُ وَتَسْقُطَ وَيُسَمّى
دَاءَ الْأَسَدِ .
[ سَبَبُ تَسْمِيَةِ الْجُذَامِ بِدَاءِ الْأَسَدِ ]
وَفِي
هَذِهِ التّسْمِيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْأَطِبّاءِ أَحَدُهَا :
أَنّهَا لِكَثْرَةِ مَا تَعْتَرِي الْأَسَدَ . وَالثّانِي : لِأَنّ هَذِهِ
الْعِلّةَ تُجَهّمُ وَجْهَ صَاحِبِهَا وَتَجْعَلُهُ فِي سَحْنَةِ
الْأَسَدِ . وَالثّالِثُ أَنّهُ يَفْتَرِسُ مَنْ يَقْرَبُهُ أَوْ يَدْنُو
مِنْهُ بِدَائِهِ افْتِرَاسَ الْأَسَدِ .
[عِلّةُ الِابْتِعَادِ عَنْ الْمَجْذُومِ وَالْمَسْلُولِ ]
وَهَذِهِ
الْعِلّةُ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ مِنْ الْعِلَلِ الْمُعْدِيَةِ
الْمُتَوَارَثَةِ وَمُقَارِبُ الْمَجْذُومِ وَصَاحِبُ السّلّ يَسْقَمُ
بِرَائِحَتِهِ فَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِكَمَالِ
شَفَقَتِهِ عَلَى الْأُمّةِ وَنُصْحِهِ لَهُمْ نَهَاهُمْ عَنْ
الْأَسْبَابِ الّتِي تُعَرّضُهُمْ لِوُصُولِ الْعَيْبِ وَالْفَسَادِ إلَى
أَجْسَامِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنّهُ قَدْ يَكُونُ فِي
الْبَدَنِ تَهَيّؤٌ وَاسْتِعْدَادٌ كَامِنٌ لِقَبُولِ هَذَا الدّاءِ
وَقَدْ تَكُونُ الطّبِيعَةُ سَرِيعَةَ الِانْفِعَالِ قَابِلَةً
لِلِاكْتِسَابِ مِنْ أَبْدَانِ مَنْ تُجَاوِرُهُ وَتُخَالِطُهُ فَإِنّهَا
نَقّالَةٌ وَقَدْ يَكُونُ خَوْفُهَا مِنْ ذَلِكَ وَوَهْمُهَا مِنْ
أَكْبَرِ أَسْبَابِ إصَابَةِ تِلْكَ الْعِلّةِ لَهَا فَإِنّ الْوَهْمَ
فَعّالٌ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْقُوَى وَالطّبَائِعِ وَقَدْ تَصِلُ رَائِحَةُ
الْعَلِيلِ إلَى الصّحِيحِ فَتُسْقِمُهُ وَهَذَا مُعَايَنٌ فِي بَعْضِ
الْأَمْرَاضِ وَالرّائِحَةُ أَحَدُ أَسْبَابِ الْعَدْوَى وَمَعَ هَذَا
كُلّهِ فَلَا بُدّ مِنْ وُجُودِ اسْتِعْدَادِ الْبَدَنِ وَقَبُولِهِ
لِذَلِكَ الدّاءِ وَقَدْ [ ص 137 ] تَزَوّجَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ امْرَأَةً فَلَمّا أَرَادَ الدّخُولَ بِهَا وَجَدَ
بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَقَالَ الْحَقِي بِأَهْلِكِ
[التّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ السّابِقَةِ وَبَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَالْأَكْلِ مَعَ الْمَجْذُومِ ]
وَقَدْ
ظَنّ طَائِفَةٌ مِنْ النّاسِ أَنّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مُعَارَضَةٌ
بِأَحَادِيثَ أُخَرَ تُبْطِلُهَا وَتُنَاقِضُهَا فَمِنْهَا : مَا رَوَاهُ
التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ مَجْذُومٍ فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ
فِي الْقَصْعَةِ وَقَالَ كُلْ بِسْمِ اللّهِ ثِقَةً بِاَللّهِ وَتَوَكّلًا
عَلَيْهِ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ . وَبِمَا ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ "
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنّهُ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ . وَنَحْنُ نَقُولُ لَا
تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللّهِ بَيْنَ أَحَادِيثِهِ الصّحِيحَةِ . فَإِذَا
وَقَعَ التّعَارُضُ فَإِمّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ لَيْسَ
مِنْ كَلَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ
بَعْضُ الرّوَاةِ مَعَ كَوْنِهِ ثِقَةً ثَبْتًا فَالثّقَةُ يَغْلَطُ أَوْ
يَكُونُ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ إذَا كَانَ مِمّا
يَقْبَلُ النّسْخَ أَوْ يَكُونُ التّعَارُضُ فِي فَهْمِ السّامِعِ لَا فِي
نَفْسِ كَلَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَا بُدّ مِنْ وَجْهٍ
مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثّلَاثَةِ . وَأَمّا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ
صَرِيحَانِ مُتَنَاقِضَانِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ لَيْسَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا
لِلْآخَرِ فَهَذَا لَا يُوجَدُ أَصْلًا وَمَعَاذَ اللّهِ أَنْ يُوجَدَ فِي
كَلَامِ الصّادِقِ الْمَصْدُوقِ الّذِي لَا يُخْرِجُ مِنْ بَيْنِ
شَفَتَيْهِ إلّا الْحَقّ وَالْآفَةُ مِنْ التّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ
الْمَنْقُولِ وَالتّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهِ وَمَعْلُولِهِ أَوْ مِنْ
الْقُصُورِ فِي فَهْمِ مُرَادِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 138
] كَلَامِهِ عَلَى غَيْرِ مَا عَنَاهُ بِهِ أَوْ مِنْهُمَا مَعًا وَمِنْ
هَا هُنَا وَقَعَ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفَسَادِ مَا وَقَعَ وَبِاَللّهِ
التّوْفِيقُ .
[ التّوْفِيقُ بَيْنَهَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ قُتَيْبَةَ ]
قَالَ
ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ " لَهُ حِكَايَةً
عَنْ أَعْدَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ قَالُوا : حَدِيثَانِ
مُتَنَاقِضَانِ رَوَيْتُمْ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنّهُ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَقِيلَ لَهُ إنّ النّقْبَةَ
تَقَعُ بِمِشْفَرِ الْبَعِيرِ فَيَجْرَبُ لِذَلِكَ الْإِبِلُ . قَالَ
فَمَا أَعْدَى الْأَوّلَ ثُمّ رَوَيْتُمْ لَا يُورِدُ ذُو عَاهَةٍ عَلَى
مُصِحّ وَفِرّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ وَأَتَاهُ
رَجُلٌ مَجْذُومٌ لِيُبَايِعَهُ بَيْعَةَ الْإِسْلَامِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ
الْبَيْعَةَ وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَقَالَ
الشّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدّارِ وَالدّابّةِ قَالُوا : وَهَذَا كُلّهُ
مُخْتَلِفٌ لَا يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا . قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ
وَنَحْنُ نَقُولُ إنّهُ لَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ وَلِكُلّ مَعْنًى
مِنْهَا [ ص 139 ] زَالَ الِاخْتِلَافُ . وَالْعَدْوَى جِنْسَانِ
أَحَدُهُمَا : عَدْوَى الْجُذَامِ فَإِنّ الْمَجْذُومَ تَشْتَدّ
رَائِحَتُهُ حَتّى يُسْقِمَ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَتَهُ وَمُحَادَثَتَهُ
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ تَحْتَ الْمَجْذُومِ فَتُضَاجِعُهُ فِي
شِعَارٍ وَاحِدٍ فَيُوصِلُ إلَيْهَا الْأَذَى وَرُبّمَا جُذِمَتْ
وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ يَنْزِعُونَ فِي الْكِبَرِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَنْ
كَانَ بِهِ سِلّ وَدِقّ ونُقْبٌ . وَالْأَطِبّاءُ تَأْمُرُ أَنْ لَا
يُجَالِسَ الْمَسْلُولَ وَلَا الْمَجْذُومَ وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ
مَعْنَى الْعَدْوَى وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنَى تَغَيّرِ
الرّائِحَةِ وَأَنّهَا قَدْ تُسْقِمُ مَنْ أَطَالَ اشْتِمَامَهَا
وَالْأَطِبّاءُ أَبْعَدُ النّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ بِيُمْنٍ وَشُؤْمٍ
وَكَذَلِكَ النّقْبَةُ تَكُونُ بِالْبَعِيرِ - وَهُوَ جَرَبٌ رَطْبٌ -
فَإِذَا خَالَطَ الْإِبِلَ أَوْ حَاكَهَا وَأَوَى فِي مَبَارِكِهَا وَصَلَ
إلَيْهَا بِالْمَاءِ الّذِي يَسِيلُ مِنْهُ وَبِالنّطْفِ نَحْوَ مَا بِهِ
فَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الّذِي قَالَ فِيهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُورَدُ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحّ كَرِهَ أَنْ
يُخَالِطَ الْمَعْيُوهَ الصّحِيحُ لِئَلّا يَنَالَهُ مِنْ نَطَفِهِ
وَحِكّتِهِ نَحْوُ مِمّا بِهِ . قَالَ وَأَمّا الْجِنْسُ الْآخَرُ مِنْ
الْعَدْوَى فَهُوَ الطّاعُونُ يَنْزِلُ بِبَلَدٍ فَيَخْرُجُ مِنْهُ خَوْفَ
الْعَدْوَى وَقَدْ قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا وَقَعَ
بِبَلَدٍ وَأَنْتُمْ بِهِ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهُ وَإِذَا كَانَ بِبَلَدٍ
فَلَا تَدْخُلُوهُ . يُرِيدُ بِقَوْلِهِ لَا تَخْرُجُوا مَنْ الْبَلَدِ
إذَا كَانَ فِيهِ كَأَنّكُمْ تَظُنّونَ أَنّ الْفِرَارَ مِنْ قَدَرِ
اللّهِ يُنْجِيكُمْ مِنْ اللّهِ وَيُرِيدُ إذَا كَانَ بِبَلَدٍ فَلَا
تَدْخُلُوهُ أَيْ مَقَامُكُمْ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي لَا طَاعُونَ فِيهِ
أَسْكَنُ لِقُلُوبِكُمْ وَأَطْيَبُ لِعَيْشِكُمْ وَمِنْ ذَلِكَ
الْمَرْأَةُ تُعْرَفُ بِالشّؤْمِ أَوْ الدّارُ فَيَنَالُ الرّجُلَ
مَكْرُوهٌ أَوْ جَائِحَةٌ فَيَقُولُ أَعَدْتِنِي بِشُؤْمِهَا فَهَذَا هُوَ
الْعَدْوَى الّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَا عَدْوَى وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ الْأَمْرُ
بِاجْتِنَابِ الْمَجْذُومِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ
وَالِاخْتِيَارِ وَالْإِرْشَادِ وَأَمّا الْأَكْلُ مَعَهُ فَفَعَلَهُ
لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَأَنّ هَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ
أُخْرَى : بَلْ الْخِطَابُ بِهَذَيْنِ الْخِطَابَيْنِ جُزْئِيّ لَا كُلّيّ
فَكُلّ [ ص 140 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ
فَبَعْضُ النّاسِ يَكُونُ قَوِيّ الْإِيمَانِ قَوِيّ التّوَكّلِ تَدْفَعُ
قُوّةُ تَوَكّلِهِ قُوّةَ الْعَدْوَى كَمَا تَدْفَعُ قُوّةُ الطّبِيعَةِ
قُوّةَ الْعِلّةِ فَتُبْطِلُهَا وَبَعْضُ النّاسِ لَا يَقْوَى عَلَى
ذَلِكَ فَخَاطَبَهُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالتّحَفّظِ وَكَذَلِكَ
هُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَلَ الْحَالَتَيْنِ مَعًا
لِتَقْتَدِيَ بِهِ الْأُمّةُ فِيهِمَا فَيَأْخُذُ مَنْ قَوِيَ مِنْ
أُمّتِهِ بِطَرِيقَةِ التّوَكّلِ وَالْقُوّةِ وَالثّقَةِ بِاَللّهِ
وَيَأْخُذُ مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ بِطَرِيقَةِ التّحَفّظِ وَالِاحْتِيَاطِ
وَهُمَا طَرِيقَانِ صَحِيحَانِ . أَحَدُهُمَا : لِلْمُؤْمِنِ الْقَوِيّ
وَالْآخَرُ لِلْمُؤْمِنِ الضّعِيفِ فَتَكُونُ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْ
الطّائِفَتَيْنِ حُجّةٌ وَقُدْوَةٌ بِحَسَبِ حَالِهِمْ وَمَا
يُنَاسِبُهُمْ وَهَذَا كَمَا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَوَى
وَأَثْنَى عَلَى تَارِكِ الْكَيّ وَقَرَنَ تَرْكَهُ بِالتّوَكّلِ وَتَرْكِ
الطّيَرَةَ وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ لَطِيفَةٌ
حَسَنَةٌ جِدّا مَنْ أَعْطَاهَا حَقّهَا وَرُزِقَ فِقْهَ نَفْسِهِ فِيهَا
أَزَالَتْ عَنْهُ تَعَارُضًا كَثِيرًا يَظُنّهُ بِالسّنّةِ الصّحِيحَةِ .
وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى إلَى أَنّ الْأَمْرَ بِالْفِرَارِ مِنْهُ
وَمُجَانَبَتِهِ لِأَمْرٍ طَبِيعِيّ وَهُوَ انْتِقَالُ الدّاءِ مِنْهُ
بِوَاسِطَةِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالرّائِحَةِ إلَى
الصّحِيحِ وَهَذَا يَكُونُ مَعَ تَكْرِيرِ الْمُخَالَطَةِ
وَالْمُلَامَسَةِ لَهُ وَأَمّا أَكْلُهُ مَعَهُ مِقْدَارًا يَسِيرًا مِنْ
الزّمَانِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَا تَحْصُلُ
الْعَدْوَى مِنْ مَرّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ فَنَهَى سَدّا
لِلذّرِيعَةِ وَحِمَايَةً لِلصّحّةِ وَخَالَطَهُ مُخَالَطَةً مَا
لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَجْذُومُ
الّذِي أَكَلَ مَعَهُ بِهِ مِنْ الْجُذَامِ أَمْرٌ يَسِيرٌ لَا يُعْدِي
مِثْلُهُ وَلَيْسَ الْجَذْمَى كُلّهُمْ سَوَاءً وَلَا الْعَدْوَى
حَاصِلَةٌ مِنْ جَمِيعِهِمْ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ لَا تَضُرّ مُخَالَطَتُهُ
وَلَا تَعْدِي وَهُوَ مَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ ثُمّ
وَقَفَ وَاسْتَمَرّ عَلَى حَالِهِ وَلَمْ يُعْدِ بَقِيّةَ جِسْمِهِ فَهُوَ
أَنْ لَا يُعْدِيَ غَيْرَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ
أُخْرَى : إنّ الْجَاهِلِيّةَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنّ الْأَمْرَاضَ
الْمُعْدِيَةَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ إلَى اللّهِ
سُبْحَانَهُ فَأَبْطَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
اعْتِقَادَهُمْ ذَلِكَ وَأَكَلَ مَعَ الْمَجْذُومِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ أَنّ
اللّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الّذِي يُمْرِضُ وَيَشْفِي وَنَهَى عَنْ
الْقُرْبِ مِنْهُ [ ص 141 ] جَعَلَهَا اللّهُ مُفْضِيَةً إلَى
مُسَبّبَاتِهَا فَفِي نَهْيِهِ إثْبَاتُ الْأَسْبَابِ وَفِي فِعْلِهِ
بَيَانُ أَنّهَا لَا تَسْتَقِلّ بِشَيْءٍ بَلْ الرّبّ سُبْحَانَهُ إنْ
شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا فَلَا تُؤَثّرُ شَيْئًا وَإِنْ شَاءَ أَبْقَى
عَلَيْهَا قُوَاهَا فَأَثّرَتْ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ
هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا النّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ فَيَنْظُرُ فِي
تَارِيخِهَا فَإِنْ عُلِمَ الْمُتَأَخّرُ مِنْهَا حُكِمَ بِأَنّهُ
النّاسِخُ وَإِلّا تَوَقّفْنَا فِيهَا . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى :
بَلْ بَعْضُهَا مَحْفُوظٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَتَكَلّمَتْ فِي
حَدِيثِ لَا عَدْوَى وَقَالَتْ قَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ
أَوّلًا ثُمّ شَكّ فِيهِ فَتَرَكَهُ وَرَاجَعُوهُ فِيهِ وَقَالُوا :
سَمِعْنَاك تُحَدّثُ بِهِ فَأَبَى أَنْ يُحَدّثَ بِهِ . قَالَ أَبُو
سَلَمَةَ فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَمْ نَسَخَ أَحَدُ
الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَ ؟ وَأَمّا حَدِيثُ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ
فِي الْقَصْعَةِ فَحَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ وَلَا يَصِحّ وَغَايَةُ مَا قَالَ
فِيهِ التّرْمِذِيّ : إنّهُ غَرِيبٌ لَمْ يُصَحّحْهُ وَلَمْ يُحَسّنْهُ .
وَقَدْ قَالَ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ اتّقُوا هَذِهِ الْغَرَائِبَ . قَالَ
التّرْمِذِيّ : وَيُرْوَى هَذَا مِنْ فِعْلِ عُمَرَ وَهُوَ أَثْبَتُ
فَهَذَا شَأْنُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ اللّذَيْنِ عُورِضَ بِهِمَا
أَحَادِيثُ النّهْيِ أَحَدُهُمَا : رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ
التّحْدِيثِ بِهِ وَأَنْكَرَهُ وَالثّانِي : لَا يَصِحّ عَنْ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ
أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ "
الْمِفْتَاح ِ " بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَنْعِ مِنْ التّدَاوِي بِالْمُحَرّمَاتِ
رَوَى
أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدّرْدَاءِ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
إنّ اللّهَ أَنْزَلَ الدّاءَ وَالدّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءً
فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِالْمُحَرّمِ . [ ص 142 ] وَذَكَر
الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : إنّ اللّهَ لَمْ
يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرّمَ عَلَيْكُمْ وَفِي " السّنَنِ " : عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَنْ الدّوَاءِ الْخَبِيثِ وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ
طَارِقِ بْنِ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيّ أَنّهُ سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا
فَقَالَ إنّمَا أَصْنَعُهَا لِلدّوَاءِ فَقَالَ إنّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ
وَلَكِنّهُ دَاءٌ وَفِي " السّنَنِ " أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ يُجْعَلُ فِي الدّوَاءِ فَقَالَ " إنّهَا
دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِالدّوَاءِ [ ص 143 ] أَبُو دَاوُدَ وَاَلتّرْمِذِيّ .
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ طَارِقِ بْنِ سُوَيْدٍ الْحَضْرَمِيّ
قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بِأَرْضِنَا أَعْنَابًا
نَعْتَصِرُهَا فَنَشْرَبُ مِنْهَا قَالَ " لَا " فَرَاجَعْته قُلْتُ إنّا
نَسْتَشْفِي لِلْمَرِيضِ قَالَ إنّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِفَاءٍ وَلَكِنّهُ
دَاءٌ وَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ أَنّ طَبِيبًا ذَكَرَ ضِفْدَعًا فِي
دَوَاءٍ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَهَاهُ
عَنْ قَتْلِهَا وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ
قَالَ مَنْ تَدَاوَى بِالْخَمْرِ فَلَا شَفَاهُ اللّهُ
[ بَيَانُ قُبْحِ الْمُعَالَجَةِ بِالْمُحَرّمَاتِ عَقْلًا ]
الْمُعَالَجَةُ
بِالْمُحَرّمَاتِ قَبِيحَةٌ عَقْلًا وَشَرْعًا أَمّا الشّرْعُ فَمَا
ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا وَأَمّا الْعَقْلُ
فَهُوَ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ إنّمَا حَرّمَهُ لِخُبْثِهِ فَإِنّهُ لَمْ
يُحَرّمْ عَلَى هَذِهِ الْأُمّةِ طَيّبًا عُقُوبَةً لَهَا كَمَا حَرّمَهُ
عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِقَوْلِهِ { فَبِظُلْمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا
حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ } [ النّسَاء : 160 ] ؛
وَإِنّمَا حَرّمَ عَلَى هَذِهِ الْأُمّةِ مَا حَرّمَ لِخُبْثِهِ
وَتَحْرِيمُهُ لَهُ حَمِيّةً لَهُمْ وَصِيَانَةً عَنْ تَنَاوُلِهِ فَلَا
يُنَاسِبُ أَنْ يُطْلَبَ بِهِ الشّفَاءُ مِنْ الْأَسْقَامِ وَالْعِلَلِ
فَإِنّهُ وَإِنْ أَثّرَ فِي إزَالَتِهَا لَكِنّهُ يُعْقِبُ سَقَمًا
أَعْظَمَ مِنْهُ فِي الْقَلْبِ بِقُوّةِ الْخُبْثِ الّذِي فِيهِ فَيَكُونُ
الْمُدَاوَى بِهِ قَدْ سَعَى فِي إزَالَةِ سُقْمِ الْبَدَنِ بِسُقْمِ
الْقَلْبِ . [ ص 144 ] اتّخَاذِهِ دَوَاءً حَضّ عَلَى التّرْغِيبِ فِيهِ
وَمُلَابَسَتِهِ وَهَذَا ضِدّ مَقْصُودِ الشّارِعِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ
دَاءٌ كَمَا نَصّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشّرِيعَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ
يُتّخَذَ دَوَاءً . وَأَيْضًا فَإِنّهُ يُكْسِبُ الطّبِيعَةَ وَالرّوحَ
صِفَةَ الْخُبْثِ لِأَنّ الطّبِيعَةَ تَنْفَعِلُ عَنْ كَيْفِيّةِ
الدّوَاءِ انْفِعَالًا بَيّنًا فَإِذَا كَانَتْ كَيْفِيّتُهُ خَبِيثَةً
اكْتَسَبَتْ الطّبِيعَةُ مِنْهُ خُبْثًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ خَبِيثًا فِي
ذَاتِهِ وَلِهَذَا حَرّمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ
الْأَغْذِيَةَ وَالْأَشْرِبَةَ وَالْمَلَابِسَ الْخَبِيثَةَ لِمَا
تُكْسِبُ النّفْسَ مِنْ هَيْئَةِ الْخُبْثِ وَصِفَتِهِ .
[التّدَاوِي بِهِ ذَرِيعَةٌ إلَى تَعَاطِيهِ ]
وَأَيْضًا
فَإِنّ فِي إبَاحَةِ التّدَاوِي بِهِ وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَتْ
النّفُوسُ تَمِيلُ إلَيْهِ ذَرِيعَةً إلَى تَنَاوُلِهِ لِلشّهْوَةِ
وَاللّذّةِ لَا سِيّمَا إذَا عَرَفَتْ النّفُوسُ أَنّهُ نَافِعٌ لَهَا
مُزِيلٌ لِأَسْقَامِهَا جَالِبٌ لِشِفَائِهَا فَهَذَا أَحَبّ شَيْءٍ
إلَيْهَا وَالشّارِعُ سَدّ الذّرِيعَةَ إلَى تَنَاوُلِهِ بِكُلّ مُمْكِنٍ
وَلَا رَيْبَ أَنّ بَيْنَ سَدّ الذّرِيعَةِ إلَى تَنَاوُلِهِ وَفَتْحِ
الذّرِيعَةِ إلَى تَنَاوُلِهِ تَنَاقُضًا و تَعَارُضًا . وَأَيْضًا فَإِنّ
فِي هَذَا الدّوَاءِ الْمُحَرّمِ مِنْ الْأَدْوَاءِ مَا يَزِيدُ عَلَى مَا
يُظَنّ فِيهِ مِنْ الشّفَاءِ وَلْنَفْرِضْ الْكَلَامَ فِي أُمّ
الْخَبَائِثِ الّتِي مَا جَعَلَ اللّهُ لَنَا فِيهَا شِفَاءً قَطّ
فَإِنّهَا شَدِيدَةُ الْمَضَرّةِ بِالدّمَاغِ الّذِي هُوَ مَرْكَزُ
الْعَقْلِ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ
وَالْمُتَكَلّمِينَ . قَالَ أَبِقِرَاطٍ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ فِي
الْأَمْرَاضِ الْحَادّةِ ضَرَرُ الْخَمْرَةِ بِالرّأْسِ شَدِيدٌ .
لِأَنّهُ يُسَرّعُ الِارْتِفَاعَ إلَيْهِ . وَيَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِهِ
الْأَخْلَاطُ الّتِي تَعْلُو فِي الْبَدَنِ وَهُوَ كَذَلِكَ يَضُرّ
بِالذّهْنِ . وَقَالَ صَاحِبُ " الْكَامِلِ " : إنّ خَاصّيّةَ الشّرَابِ
الْإِضْرَارُ بِالدّمَاغِ وَالْعَصَبِ . وَأَمّا غَيْرُهُ مِنْ
الْأَدْوِيَةِ الْمُحَرّمَةِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا : تَعَافُهُ
النّفْسُ وَلَا تَنْبَعِثُ لِمُسَاعَدَتِهِ الطّبِيعَةُ عَلَى دَفْعِ
الْمَرَضِ بِهِ كَالسّمُومِ وَلُحُومِ الْأَفَاعِي وَغَيْرِهَا مِنْ
الْمُسْتَقْذَرَاتِ فَيَبْقَى كَلّا عَلَى الطّبِيعَةِ مُثْقِلًا لَهَا
فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ دَاءً لَا دَوَاءً . [ ص 145 ] وَالثّانِي : مَا لَا
تَعَافُهُ النّفْسُ كَالشّرَابِ الّذِي تَسْتَعْمِلُهُ الْحَوَامِلُ
مَثَلًا فَهَذَا ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ وَالْعَقْلُ يَقْضِي
بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ مُطَابِقٌ لِلشّرْعِ فِي
ذَلِكَ . وَهَا هُنَا سِرّ لَطِيفٌ فِي كَوْنِ الْمُحَرّمَاتِ لَا
يُسْتَشْفَى بِهَا فَإِنّ شَرْطَ الشّفَاءِ بِالدّوَاءِ تَلَقّيه
بِالْقَبُولِ وَاعْتِقَادُ مَنْفَعَتِهِ وَمَا جَعَلَ اللّهُ فِيهِ مِنْ
بَرَكَةِ الشّفَاءِ فَإِنّ النّافِعَ هُوَ الْمُبَارَكُ وَأَنْفَعُ
الْأَشْيَاءِ أَبْرَكُهَا وَالْمُبَارَكُ مِنْ النّاسِ أَيْنَمَا كَانَ
هُوَ الّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ حَيْثُ حَلّ وَمَعْلُومٌ أَنّ اعْتِقَادَ
الْمُسْلِمِ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْعَيْنِ مِمّا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اعْتِقَادِ بَرَكَتِهَا وَمَنْفَعَتِهَا وَبَيْنَ حُسْنِ ظَنّهِ بِهَا
وَتَلَقّي طَبْعِهِ لَهَا بِالْقَبُولِ بَلْ كُلّمَا كَانَ الْعَبْدُ
أَعْظَمَ إيمَانًا كَانَ أَكْرَهَ لَهَا وَأَسْوَأَ اعْتِقَادًا فِيهَا
وَطَبْعُهُ أَكْرَهَ شَيْءٍ لَهَا فَإِذَا تَنَاوَلَهَا فِي هَذِهِ
الْحَالِ كَانَتْ دَاءً لَهُ لَا دَوَاءً إلّا أَنْ يَزُولَ اعْتِقَادُ
الْخُبْثِ فِيهَا وَسُوءُ الظّنّ وَالْكَرَاهَةُ لَهَا بِالْمَحَبّةِ
وَهَذَا يُنَافِي الْإِيمَانَ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الْمُؤْمِنُ قَطّ إلّا
عَلَى وَجْهِ دَاءٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْقَمْلِ الّذِي فِي الرّأْسِ وَإِزَالَتِهِ
فِي
" الصّحِيحَيْنِ " عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ كَانَ بِي أَذًى مِنْ
رَأْسِي فَحُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ مَا كُنْت أَرَى الْجَهْدَ
قَدْ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى وَفِي رِوَايَةٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ
رَأْسَهُ وَأَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتّةٍ أَوْ يُهْدِيَ شَاةً أَوْ
يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ [ ص 146 ] وَالثّانِي مِنْ خَلْطٍ رَدِيءٍ
عَفِنٍ تَدْفَعُهُ الطّبِيعَةُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللّحْمِ فَيَتَعَفّنُ
بِالرّطُوبَةِ الدّمَوِيّةِ فِي الْبَشَرَةِ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ
الْمَسَامّ فَيَكُونُ مِنْهُ الْقَمْلُ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ
بَعْدَ الْعِلَلِ وَالْأَسْقَامِ وَبِسَبَبِ الْأَوْسَاخِ وَإِنّمَا كَانَ
فِي رُءُوسِ الصّبْيَانِ أَكْثَرَ لِكَثْرَةِ رُطُوبَاتِهِمْ
وَتَعَاطِيهِمْ الْأَسْبَابَ الّتِي تُوَلّدُ الْقَمْلَ وَلِذَلِكَ حَلَقَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُءُوسَ بَنِي جَعْفَرٍ .
[عِلَاجُهُ بِالْحَلْقِ ثُمّ بِالطّلْيِ بِالْأَدْوِيَةِ ]
وَمِنْ
أَكْبَرِ عِلَاجِهِ حَلْقُ الرّأْسِ لِتَنْفَتِحَ مَسَامّ الْأَبْخِرَةِ
فَتَتَصَاعَدُ الْأَبْخِرَةُ الرّدِيئَةُ فَتُضْعِفُ مَادّةَ الْخَلْطِ
وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلَى الرّأْسُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَدْوِيَةِ الّتِي
تَقْتُلُ الْقَمْلَ وَتَمْنَعُ تَوَلّدَهُ .
[أَنْوَاعُ حَلْقِ الرّأْسِ ]
وَحَلْقُ
الرّأْسِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا : نُسُكٌ وَقُرْبَةٌ . وَالثّانِي
: بِدْعَةٌ وَشِرْكٌ وَالثّالِثُ حَاجَةٌ وَدَوَاءٌ فَالْأَوّلُ الْحَلْقُ
فِي أَحَدِ النّسُكَيْنِ الْحَجّ أَوْ الْعُمْرَةِ . وَالثّانِي : حَلْقُ
الرّأْسِ لِغَيْرِ اللّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا يَحْلِقُهَا الْمُرِيدُونَ
لِشُيُوخِهِمْ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ أَنَا حَلَقْتُ رَأْسِي لِفُلَانٍ
وَأَنْتَ حَلَقْته لِفُلَانٍ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ سَجَدْتُ
لِفُلَانٍ فَإِنّ حَلْقَ الرّأْسِ خُضُوعٌ وَعُبُودِيّةٌ وَذُلّ وَلِهَذَا
كَانَ مِنْ تَمَامِ الْحَجّ حَتّى إنّهُ عِنْدَ الشّافِعِيّ رُكْنٌ مِنْ
أَرْكَانِهِ لَا يَتِمّ إلّا بِهِ فَإِنّهُ وَضْعُ النّوَاصِي بَيْنَ
يَدَيْ رَبّهَا خُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ وَتَذَلّلًا لِعِزّتِهِ وَهُوَ مِنْ
أَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيّةِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا
أَرَادَتْ إذْلَالَ الْأَسِيرِ مِنْهُمْ وَعِتْقَهُ حَلَقُوا رَأْسَهُ
وَأَطْلَقُوهُ فَجَاءَ شُيُوخُ الضّلَالِ وَالْمُزَاحِمُونَ
لِلرّبُوبِيّةِ الّذِينَ أَسَاسُ مَشْيَخَتِهِمْ عَلَى الشّرَكِ
وَالْبِدْعَةِ فَأَرَادُوا مِنْ مُرِيدِيهِمْ أَنْ يَتَعَبّدُوا لَهُمْ
فَزَيّنُوا لَهُمْ حَلْقَ رُءُوسِهِمْ لَهُمْ كَمَا زَيّنُوا لَهُمْ
السّجُودَ لَهُمْ وَسَمّوْهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ وَقَالُوا : هُوَ وَضْعُ
الرّأْسِ بَيْنَ يَدَيْ الشّيْخِ وَلَعَمْرُ اللّهِ إنّ السّجُودَ لِلّهِ
هُوَ وَضْعُ الرّأْسِ بَيْنَ يَدَيْهِ سُبْحَانَهُ وَزَيّنُوا لَهُمْ أَنْ
[ ص 147 ] اتّخَاذُهُمْ أَرْبَابًا وَآلِهَةً مِنْ دُونِ اللّهِ قَالَ
تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي
مِنْ دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ بِمَا كُنْتُمْ
تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ
أَنْ تَتّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنّبِيّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ
بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آلَ عِمْرَانَ 79 - 80
] .
[ التّحْذِيرُ مِنْ الرّكُوعِ وَالِانْحِنَاءِ لِغَيْرِ اللّهِ وَكَذَا الْقِيَامُ عَلَى رُءُوسِ الْأَكَابِرِ وَهُمْ جُلُوسٌ ]
وَأَشْرَفُ
الْعُبُودِيّةِ عُبُودِيّةُ الصّلَاةِ وَقَدْ تَقَاسَمَهَا الشّيُوخُ
وَالْمُتَشَبّهُونَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْجَبَابِرَةُ فَأَخَذَ الشّيُوخُ
مِنْهَا أَشْرَفَ مَا فِيهَا وَهُوَ السّجُودُ وَأَخَذَ الْمُتَشَبّهُونَ
بِالْعُلَمَاءِ مِنْهَا الرّكُوعَ فَإِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
رَكَعَ لَهُ كَمَا يَرْكَعُ الْمُصَلّي لِرَبّهِ سَوَاءً وَأَخَذَ
الْجَبَابِرَةُ مِنْهُمْ الْقِيَامَ فَيَقُومُ الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ
عَلَى رُءُوسِهِمْ عُبُودِيّةً لَهُمْ وَهُمْ جُلُوسٌ وَقَدْ نَهَى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ
الثّلَاثَةِ عَلَى التّفْصِيلِ فَتَعَاطِيهَا . مُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ
لَهُ فَنَهَى عَنْ السّجُودِ لِغَيْرِ اللّهِ وَقَالَ لَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ وَأَنْكَرَ عَلَى مُعَاذٍ لَمّا سَجَدَ
لَهُ وَقَالَ " مَهْ " [ ص 148 ] مُرَاغَمَةٌ لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ
مِنْ أَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيّةِ فَإِذَا جَوّزَ هَذَا الْمُشْرِكُ
هَذَا النّوْعَ لِلْبَشَرِ فَقَدْ جَوّزَ الْعُبُودِيّةَ لِغَيْرِ اللّهِ
وَقَدْ صَحّ أَنّهُ قِيلَ لَهُ الرّجُلُ يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ
؟ قَالَ " لَا " . قِيلَ أَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبّلُهُ قَالَ " لَا " .
قِيلَ أَيُصَافِحُهُ ؟ قَالَ " نَعَمْ "
[أَمْرُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ إذَا صَلّى جَالِسًا أَنْ يُصَلّوا جُلُوسًا
لِئَلّا يَقُومُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُو جالسٌ ]
وَأَيْضًا
: فَالِانْحِنَاءُ عِنْدَ التّحِيّةِ سُجُودٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى
: { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا } [ الْبَقَرَةُ 58 ] أَيْ مُنْحَنِينَ
وَإِلّا فَلَا يُمْكِنُ الدّخُولُ عَلَى الْجِبَاهِ وَصَحّ عَنْهُ
النّهْيُ عَنْ الْقِيَامِ وَهُوَ جَالِسُ كَمَا تُعَظّمُ الْأَعَاجِمُ
بَعْضَهَا بَعْضًا حَتّى مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الصّلَاةِ وَأَمَرَهُمْ
إذَا صَلّى جَالِسًا أَنْ يُصَلّوا جُلُوسًا وَهُمْ أَصِحّاءُ لَا عُذْرَ
لَهُمْ لِئَلّا يَقُومُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَنّ
قِيَامَهُمْ لِلّهِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْقِيَامُ تَعْظِيمًا
وَعُبُودِيّةً لِغَيْرِهِ سُبْحَانَهُ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ النّفُوسَ
الْجَاهِلَةَ الضّالّةَ أَسْقَطَتْ عُبُودِيّةَ اللّهِ سُبْحَانَهُ
وَأَشْرَكَتْ فِيهَا مَنْ تُعَظّمُهُ مِنْ الْخَلْقِ فَسَجَدَتْ لِغَيْرِ
اللّهِ وَرَكَعَتْ لَهُ وَقَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ قِيَامَ الصّلَاةِ
وَحَلَفَتْ بِغَيْرِهِ وَنَذَرَتْ لِغَيْرِهِ وَحَلَقَتْ لِغَيْرِهِ
وَذَبَحَتْ لِغَيْرِهِ وَطَافَتْ لِغَيْرِ بَيْتِهِ وَعَظّمَتْهُ
بِالْحُبّ وَالْخَوْفِ وَالرّجَاءِ وَالطّاعَةِ كَمَا يُعَظّمُ الْخَالِقُ
بَلْ أَشَدّ وَسَوّتْ مَنْ تَعْبُدُهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ بِرَبّ
الْعَالَمِينَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُضَادّونَ لِدَعْوَةِ الرّسُلِ وَهُمْ
الّذِينَ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ وَهُمْ الّذِينَ يَقُولُونَ - وَهُمْ فِي
النّارِ مَعَ آلِهَتِهِمْ يَخْتَصِمُونَ - { تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ } [ ص 149 ] قَالَ
فِيهِمْ { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَادًا
يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدّ حُبّا لِلّهِ } [
الْبَقَرَةُ 165 ] وَهَذَا كُلّهُ مِنْ الشّرْكِ وَاَللّهُ لَا يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ . فَهَذَا فَصْلٌ مُعْتَرَضٌ فِي هَدْيِهِ فِي حَلْقِ
الرّأْسِ وَلَعَلّهُ أَهَمّ مِمّا قُصِدَ الْكَلَامُ فِيهِ وَاَللّهُ
الْمُوَفّقُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي الْعِلَاجِ بِالْأَدْوِيَةِ الرّوحَانِيّةِ الْإِلَهِيّةِ
الْمُفْرَدَةِ وَالْمُرَكّبَةِ مِنْهَا وَمِنْ الْأَدْوِيَةِ الطّبِيعِيّةِ
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْمُصَابِ بِالْعَيْنِ
رَوَى
مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَيْنُ حَقّ وَلَوْ كَانَ
شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ
وَفِي " صَحِيحِهِ "
أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَخّصَ
فِي الرّقْيَةِ مِنْ الْحُمَةِ وَالْعَيْنِ وَالنّمْلَةِ وَفِي "
الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة َ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَيْنُ حَقّ
وَفِي سُنَنِ
أَبِي دَاوُدَ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ
يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضّأُ ثُمّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْمَعِينُ
[
ص 150 ] الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَمَرَنِي النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ أَمَرَ أَنْ نَسْتَرْقِيَ مِنْ الْعَيْنِ
وَذَكَرَ التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ
عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ
رِفَاعَةَ الزّرْقِيّ أَنّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ قَالَتْ يَا رَسُولَ
اللّهِ إنّ بَنِي جَعْفَرٍ تُصِيبُهُمْ الْعَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ
؟ فَقَالَ " نَعَمْ فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَضَاءَ لَسَبَقَتْهُ
الْعَيْنُ قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَرَوَى مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ
بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ رَأَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ
يَغْتَسِلُ فَقَالَ وَاَللّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ
مُخَبّأَةٍ قَالَ فَلُبِطَ سَهْلٌ فَأَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامِرًا فَتَغَيّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ " عَلَامَ
يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَلَا بَرّكْتَ اغْتَسِلْ لَهُ " فَغَسَلَ
لَهُ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ
وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمّ صَبّ
عَلَيْهِ فَرَاحَ مَعَ النّاسِ وَرَوَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ أَيْضًا
عَنْ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ هَذَا
الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ إنّ الْعَيْنَ حَقّ تَوَضّأْ لَهُ فَتَوَضّأَ
لَهُ وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ
أَبِيهِ مَرْفُوعًا الْعَيْنُ حَقّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ
لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ وَإِذَا اسْتُغْسِلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ [
ص 151 ] قَالَ الزّهْرِيّ : يُؤْمَرُ الرّجُلُ الْعَائِنُ بِقَدَحٍ
فَيُدْخِلُ كَفّهُ فِيهِ فَيَتَمَضْمَضُ ثُمّ يَمُجّهُ فِي الْقَدَحِ
وَيَغْسِلُ وَجْهَهُ فِي الْقَدَحِ ثُمّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى
فَيَصُبّ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى فِي الْقَدَحِ ثُمّ يُدْخِلُ يَدَهُ
الْيُمْنَى فَيَصُبّ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى ثُمّ يَغْسِلُ دَاخِلَةَ
إزَارِهِ وَلَا يُوضَعُ الْقَدَحُ فِي الْأَرْضِ ثُمّ يُصَبّ عَلَى رَأْسِ
الرّجُلِ الّذِي تُصِيبُهُ الْعَيْنُ مِنْ خَلْفِهِ صَبّةً وَاحِدَةً .
وَالْعَيْنُ عَيْنَانِ عَيْنٌ إنْسِيّةٌ وَعَيْنٌ جِنّيّةٌ فَقَدْ صَحّ
عَنْ أُمّ سَلَمَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأَى
فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ فَقَالَ اسْتَرْقُوا
لَهَا فَإِنّ بِهَا النّظْرَةَ قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ
الْفَرّاءُ : وَقَوْلُهُ سَفْعَةٌ أَيْ نَظْرَةٌ يَعْنِي : مِنْ الْجِنّ
يَقُولُ بِهَا عَيْنٌ أَصَابَتْهَا مِنْ نَظَرِ الْجِنّ أَنْفَذُ مِنْ
أَسِنّةِ الرّمَاحِ . وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ إنّ الْعَيْنَ
لَتُدْخِلُ الرّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ
[ ص 152 ] أَبِي سَعِيدٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَتَعَوّذُ مِنْ الْجَانّ وَمِنْ عَيْنِ الْإِنْسَانِ
[قَوْلُ مَنْ أَبْطَلَ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ ]
فَأَبْطَلَتْ
طَائِفَةٌ مِمّنْ قَلّ نَصِيبُهُمْ مِنْ السّمْعِ وَالْعَقْلِ أَمْرَ
الْعَيْنِ وَقَالُوا : إنّمَا ذَلِكَ أَوْهَامٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ
وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ النّاسِ بِالسّمْعِ وَالْعَقْلِ وَمِنْ
أَغْلَظِهِمْ حِجَابًا وَأَكْثَفِهِمْ طِبَاعًا وَأَبْعَدِهِمْ مَعْرِفَةً
عَنْ الْأَرْوَاحِ وَالنّفُوسِ . وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا
وَتَأْثِيرَاتِهَا وَعُقَلَاءُ الْأُمَمِ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ
وَنِحَلِهِمْ لَا تَدْفَعُ أَمْرَ الْعَيْنِ وَلَا تُنْكِرُهُ وَإِنْ
اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ وَجِهَةِ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ . فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ إنّ الْعَائِنَ إذَا تَكَيّفَتْ نَفْسُهُ بِالْكَيْفِيّةِ
الرّدِيئَةِ انْبَعَثَ مِنْ عَيْنِهِ قُوّةٌ سُمّيّةٌ تَتّصِلُ
بِالْمَعِينِ فَيَتَضَرّرُ . قَالُوا : وَلَا يُسْتَنْكَرُ هَذَا كَمَا
لَا يُسْتَنْكَرُ انْبِعَاثُ قُوّةٍ سُمّيّةٍ مِنْ الْأَفْعَى تَتّصِلُ
بِالْإِنْسَانِ فَيَهْلَكُ وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ اُشْتُهِرَ عَنْ نَوْعٍ
مِنْ الْأَفَاعِي أَنّهَا إذَا وَقَعَ بَصَرُهَا عَلَى الْإِنْسَانِ
هَلَكَ فَكَذَلِكَ الْعَائِنُ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : لَا
يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَنْبَعِثَ مِنْ عَيْنِ بَعْضِ النّاسِ جَوَاهِرُ
لَطِيفَةٌ غَيْرُ مَرْئِيّةٍ فَتَتّصِلُ بِالْمَعِينِ وَتَتَخَلّلُ
مَسَامّ جِسْمِهِ فَيَحْصُلُ لَهُ الضّرَرُ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى
: قَدْ أَجْرَى اللّهُ الْعَادَةَ بِخَلْقِ مَا يَشَاءُ مِنْ الضّرَرِ
عِنْدَ مُقَابَلَةِ عَيْنِ الْعَائِنِ لِمَنْ يَعِينُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَكُونَ مِنْهُ قُوّةٌ وَلَا سَبَبٌ وَلَا تَأْثِيرٌ أَصْلًا وَهَذَا
مَذْهَبُ مُنْكِرِي الْأَسْبَابِ وَالْقُوَى وَالتّأْثِيرَاتِ فِي
الْعَالَمِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ سَدّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَابَ الْعِلَلِ
وَالتّأْثِيرَاتِ وَالْأَسْبَابِ وَخَالَفُوا الْعُقَلَاءَ أَجْمَعِينَ .
[الرّدّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ ]
وَلَا
رَيْبَ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ
قُوًى وَطَبَائِعَ مُخْتَلِفَةً [ ص 153 ] وَجَعَلَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا
خَوَاصّ وَكَيْفِيّاتٍ مُؤَثّرَةً وَلَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ إنْكَارُ
تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجْسَامِ فَإِنّهُ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ
مَحْسُوسٌ وَأَنْتَ تَرَى الْوَجْهَ كَيْفَ يَحْمَرّ حُمْرَةً شَدِيدَةً
إذَا نَظَرَ إلَيْهِ مِنْ يَحْتَشِمُهُ وَيَسْتَحِي مِنْهُ وَيَصْفَرّ
صُفْرَةً شَدِيدَةً عِنْدَ نَظَرِ مَنْ يَخَافُهُ إلَيْهِ وَقَدْ شَاهَدَ
النّاسُ مَنْ يَسْقَمُ مِنْ النّظَرِ وَتَضْعُفُ قُوَاهُ وَهَذَا كُلّهُ
بِوَاسِطَةِ تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ وَلِشِدّةِ ارْتِبَاطِهَا بِالْعَيْنِ
يُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَيْهَا وَلَيْسَتْ هِيَ الْفَاعِلَةَ وَإِنّمَا
التّأْثِيرُ لِلرّوحِ وَالْأَرْوَاحُ مُخْتَلِفَةٌ فِي طَبَائِعِهَا
وَقُوَاهَا وَكَيْفِيّاتِهَا وَخَوَاصّهَا فَرُوحُ الْحَاسِدِ مُؤْذِيَةٌ
لِلْمَحْسُودِ أَذًى بَيّنًا وَلِهَذَا أَمَرَ اللّهُ - سُبْحَانَهُ -
رَسُولَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ شَرّهِ وَتَأْثِيرُ الْحَاسِدِ فِي
أَذَى الْمَحْسُودِ أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ إلّا مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ
حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِيّةِ وَهُوَ أَصْلُ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ
فَإِنّ النّفْسَ الْخَبِيثَةَ الْحَاسِدَةَ تَتَكَيّفُ بِكَيْفِيّةٍ
خَبِيثَةٍ وَتُقَابِلُ الْمَحْسُودَ فَتُؤَثّرُ فِيهِ بِتِلْكَ
الْخَاصّيّةِ وَأَشْبَهُ الْأَشْيَاءِ بِهَذَا الْأَفْعَى فَإِنّ السّمّ
كَامِنٌ فِيهَا بِالْقُوّةِ فَإِذَا قَابَلَتْ عَدُوّهَا انْبَعَثَتْ
مِنْهَا قُوّةٌ غَضَبِيّةٌ وَتَكَيّفَتْ بِكَيْفِيّةٍ خَبِيثَةٍ
مُؤْذِيَةٍ فَمِنْهَا مَا تَشْتَدّ كَيْفِيّتُهَا وَتَقْوَى حَتّى
تُؤَثّرَ فِي إسْقَاطِ الْجَنِينِ وَمِنْهَا مَا تُؤَثّرُ فِي طَمْسِ
الْبَصَرِ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
الْأَبْتَرِ وَذِي الطّفْيَتَيْنِ مِنْ الْحَيّاتِ إنّهُمَا يَلْتَمِسَانِ
الْبَصَرَ وَيُسْقِطَانِ الْحَبَل
[الْحَاسِدُ أَعَمّ مِنْ الْعَائِنِ ]
وَمِنْهَا
مَا تُؤَثّرُ فِي الْإِنْسَانِ كَيْفِيّتُهَا بِمُجَرّدِ الرّؤْيَةِ مِنْ
غَيْرِ اتّصَالٍ بِهِ لِشِدّةِ خُبْثِ تِلْكَ النّفْسِ وَكَيْفِيّتِهَا
الْخَبِيثَةِ الْمُؤَثّرَةِ وَالتّأْثِيرُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى
الِاتّصَالَاتِ الْجِسْمِيّةِ كَمَا يَظُنّهُ مَنْ قَلّ عِلْمُهُ
وَمَعْرِفَتُهُ بِالطّبِيعَةِ وَالشّرِيعَةِ بَلْ التّأْثِيرُ يَكُونُ
تَارَةً بِالِاتّصَالِ وَتَارَةً بِالْمُقَابَلَةِ وَتَارَةً بِالرّؤْيَةِ
وَتَارَةً بِتَوَجّهِ الرّوحِ نَحْوَ مَنْ يُؤَثّرُ فِيهِ وَتَارَةً
بِالْأَدْعِيَةِ وَالرّقَى وَالتّعَوّذَاتِ وَتَارَةً بِالْوَهْمِ
وَالتّخَيّلِ وَنَفْسُ الْعَائِنِ لَا يَتَوَقّفُ [ ص 154 ] أَعْمَى
فَيُوصَفُ لَهُ الشّيْءُ فَتُؤَثّرُ نَفْسُهُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ
وَكَثِيرٌ مِنْ الْعَائِنِينَ يُؤَثّرُ فِي الْمَعِينِ بِالْوَصْفِ مِنْ
غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيّهِ { وَإِنْ يَكَادُ
الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمّا سَمِعُوا
الذّكْرَ } [ الْقَلَمُ 51 ] . وَقَالَ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ
مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرّ
النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } فَكُلّ
عَائِنٍ حَاسِدٌ وَلَيْسَ كُلّ حَاسِدٍ عَائِنًا فَلَمّا كَانَ الْحَاسِدُ
أَعَمّ مِنْ الْعَائِنِ كَانَتْ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ اسْتِعَاذَةً مِنْ
الْعَائِنِ وَهِيَ سِهَامٌ تَخْرُجُ مِنْ نَفْسِ الْحَاسِدِ وَالْعَائِنِ
نَحْوَ الْمَحْسُودِ وَالْمَعِينِ تُصِيبُهُ تَارَةً وَتُخْطِئُهُ تَارَةً
فَإِنْ صَادَفَتْهُ مَكْشُوفًا لَا وِقَايَةَ عَلَيْهِ أَثّرَتْ فِيهِ
وَلَا بُدّ وَإِنْ صَادَفَتْهُ حَذِرًا شَاكِيَ السّلَاحِ لَا مَنْفَذَ
فِيهِ لِلسّهَامِ لَمْ تُؤَثّرْ فِيهِ وَرُبّمَا رُدّتْ السّهَامُ عَلَى
صَاحِبِهَا وَهَذَا بِمَثَابَةِ الرّمْيِ الْحِسّيّ سَوَاءً فَهَذَا مِنْ
النّفُوسِ وَالْأَرْوَاحِ وَذَاكَ مِنْ الْأَجْسَامِ وَالْأَشْبَاحِ .
وَأَصْلُهُ مِنْ إعْجَابِ الْعَائِنِ بِالشّيْءِ ثُمّ تَتْبَعُهُ
كَيْفِيّةُ نَفْسِهِ الْخَبِيثَةِ ثُمّ تَسْتَعِينُ عَلَى تَنْفِيذِ
سُمّهَا بِنَظْرَةٍ إلَى الْمَعِينِ وَقَدْ يَعِينُ الرّجُلُ نَفْسَهُ
وَقَدْ يَعِينُ بِغَيْرِ إرَادَتِهِ بَلْ بِطَبْعِهِ وَهَذَا أَرْدَأُ مَا
يَكُونُ مِنْ النّوْعِ الْإِنْسَانِيّ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا
وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنّ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ حَبَسَهُ
الْإِمَامُ وَأَجْرَى لَهُ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ وَهَذَا
هُوَ الصّوَابُ قَطْعًا .
فَصْلٌ [عِلَاجُ الْمَعْيُونِ بِالتّعَوّذَاتِ وَالرّقَى ]
وَالْمَقْصُودُ
الْعِلَاجُ النّبَوِيّ لِهَذِهِ الْعِلّةِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ وَقَدْ رَوَى
أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ
مَرَرْنَا بِسَيْلٍ فَدَخَلْت فَاغْتَسَلْت فِيهِ فَخَرَجْتُ مَحْمُومًا
فَنُمِيَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَ " مُرُوا أَبَا ثَابِتٍ يَتَعَوّذُ قَالَ فَقُلْت : يَا سَيّدِي
وَالرّقَى صَالِحَةٌ ؟ فَقَالَ لَا رُقْيَةَ إلّا فِي نَفْسٍ أَوْ حُمّةٍ
أَوْ لَدْغَةٍ [ ص 155 ] يُقَالُ أَصَابَتْ فُلَانًا نَفْسٌ أَيْ عَيْنٌ .
وَالنّافِسُ الْعَائِنُ . وَاللّدْغَةُ - بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ وَغَيْنٍ
مُعْجَمَةٍ - وَهِيَ ضَرْبَةُ الْعَقْرَبِ وَنَحْوَهَا .
[عِبَارَاتٌ مِنْ التّعَوّذَاتِ النّبَوِيّةِ ]
فَمِنْ
التّعَوّذَاتِ وَالرّقَى الْإِكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ الْمُعَوّذَتَيْنِ
وَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَةِ الْكُرْسِيّ وَمِنْهَا التّعَوّذَاتُ
النّبَوِيّةُ . نَحْوُ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ مِنْ شَرّ
مَا خَلَقَ وَنَحْوُ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّةِ مِنْ كُلّ
شَيْطَانٍ وَهَامّةٍ وَمِنْ كُلّ عَيْنٍ لَامّةٍ وَنَحْوُ أَعُوذُ
بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ الّتِي لَا يُجَاوِزُهُنّ بَرّ وَلَا
فَاجِرٌ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرّ مَا يَنْزِلُ
مِنْ السّمَاءِ وَمِنْ شَرّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرّ مَا ذَرَأَ
فِي الْأَرْضِ وَمِنْ شَرّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ شَرّ فِتَنِ
اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَمِنْ شَرّ طَوَارِقِ اللّيْلِ إلّا طَارِقًا
يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَن وَمِنْهَا : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ
التّامّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرّ عِبَادِهِ وَمِنْ
هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُون وَمِنْهَا : اللّهُمّ إنّي
أَعُوذُ بِوَجْهِك الْكَرِيمِ وَكَلِمَاتِك التّامّاتِ مِنْ شَرّ مَا
أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللّهُمّ أَنْتَ تَكْشِفُ الْمَأْثَمَ
وَالْمَغْرَمَ اللّهُمّ إنّهُ لَا يُهْزَمُ جُنْدُك وَلَا يُخْلَفُ
وَعْدُكُ سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك وَمِنْهَا : أَعُوذُ بِوَجْهِ اللّهِ
الْعَظِيمِ الّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَبِكَلِمَاتِهِ التّامّاتِ
الّتِي لَا يُجَاوِزُهُنّ بَرّ وَلَا فَاجِرٌ وَأَسْمَاءِ اللّهِ
الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرّ مَا
خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرّ كُلّ ذِي شَرّ لَا أُطِيقُ شَرّهُ
وَمِنْ شَرّ كُلّ ذِي شَرّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ إنّ رَبّي عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَمِنْهَا : اللّهُمّ أَنْتَ رَبّي لَا إلَهَ إلّا
أَنْتَ عَلَيْك تَوَكّلْت وَأَنْتَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ مَا شَاءَ
اللّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا
بِاَللّهِ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنّ اللّهَ
قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَيْءٍ عِلْمًا وَأَحْصَى كُلّ شَيْءٍعَدَدًا
اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ نَفْسِي وَشَرّ الشّيْطَانِ
وَشِرْكِهِ وَمِنْ شَرّ كُلّ دَابّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنّ
رَبّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ ص 156 ] شَاءَ قَالَ تَحَصّنْتُ
بِاَللّهِ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ إلَهِي وَإِلَهِ كُلّ شَيْءٍ
وَاعْتَصَمْتُ بِرَبّي وَرَبّ كُلّ شَيْءٍ وَتَوَكّلْتُ عَلَى الْحَيّ
الّذِي لَا يَمُوتُ وَاسْتَدْفَعْتُ الشّرّ بِلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ
إلّا بِاَللّهِ حَسْبِي اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ حَسْبِي الرّبّ مِنْ
الْعِبَادِ حَسَبِي الْخَالِقُ مِنْ الْمَخْلُوقِ حَسَبِي الرّازِقُ مِنْ
الْمَرْزُوقِ حَسْبِي الّذِي هُوَ حَسْبِي حَسْبِي الّذِي بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ حَسْبِي
اللّهُ وَكَفَى سَمِعَ اللّهُ لِمَنْ دَعَا لَيْسَ وَرَاءَ اللّهِ مَرْمَى
حَسْبِي اللّهُ لَا إلَهَ إلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْت وَهُوَ رَبّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَمَنْ جَرّبَ هَذِهِ الدّعَوَاتِ وَالْعُوَذَ
عَرَفَ مِقْدَارَ مَنْفَعَتِهَا وَشِدّةَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَهِيَ
تَمْنَعُ وُصُولَ أَثَرِ الْعَائِنِ وَتَدْفَعُهُ بَعْدَ وُصُولِهِ
بِحَسَبِ قُوّةِ إيمَانِ قَائِلِهَا وَقُوّةِ نَفْسِهِ وَاسْتِعْدَادِهِ
وَقُوّةِ تَوَكّلِهِ وَثَبَاتِ قَلْبِهِ فَإِنّهَا سِلَاحٌ وَالسّلَاحُ
بِضَارِبِهِ .
فَصْلٌ [مَا يَقُولُهُ الْعَائِنُ خَشْيَةً مِنْ ضَرَرِ عَيْنِهِ ]
وَإِذَا
كَانَ الْعَائِنُ يَخْشَى ضَرَرَ عَيْنِهِ وَإِصَابَتَهَا لِلْمَعِينِ
فَلْيَدْفَعْ شَرّهَا بِقَوْلِهِ اللّهُمّ بَارِكْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ لَمّا
عَانَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ " أَلَا بَرّكْت " أَيْ قُلْتَ اللُهمّ
بَارِكْ عَلَيْهِ وَمِمّا يُدْفَعُ بِهِ إصَابَةُ الْعَيْنِ قَوْلُ مَا
شَاءَ اللّهُ لَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ أَنّهُ كَانَ إذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ أَوْ دَخَلَ حَائِطًا
مِنْ حِيطَانِهِ قَالَ مَا شَاءَ اللّهُ لَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ .
[الرّقْيَةُ لِلْمَعِينِ ]
وَمِنْهَا
رُقْيَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الّتِي رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " [ ص 157 ] بِاسْمِ
اللّهِ أَرْقِيك مِنْ كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِيك مِنْ شَرّ كُلّ نَفْسٍ أَوْ
عَيْنِ حَاسِدٍ اللّهُ يَشْفِيك بِاسْمِ اللّهِ أَرْقِيكَ
[كِتَابَةُ الْآيَاتِ ثُمّ شُرْبُهَا ]
وَرَأَى
جَمَاعَةٌ مِنْ السّلَفِ أَنْ تُكْتَبَ لَهُ الْآيَاتُ مِنْ الْقُرْآنِ
ثُمّ يَشْرَبَهَا . قَالَ مُجَاهِدٌ : لَا بَأْسَ أَنْ يَكْتُبَ
الْقُرْآنَ وَيَغْسِلَهُ وَيَسْقِيَهُ الْمَرِيضَ وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي
قِلَابَة َ . وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ : أَنّهُ أَمَرَ أَنْ
يُكْتَبَ لِاِمْرَأَةٍ تَعَسّرَ عَلَيْهَا وِلَادُهَا أَثَرٌ مِنْ
الْقُرْآنِ ثُمّ يُغْسَلُ وَتُسْقَى وَقَالَ أَيّوبُ رَأَيْتُ أَبَا
قِلَابَةَ كَتَبَ كِتَابًا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمّ غَسَلَهُ بِمَاءٍ
وَسَقَاهُ رَجُلًا كَانَ بِهِ وَجَعٌ
فَصْلٌ [اسْتِغْسَالُ الْعَائِنِ لِلْمَعِينِ ]
[الرّدّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ الْأَطِبّاءِ ]
وَمِنْهَا
: أَنْ يُؤْمَرَ الْعَائِنُ بِغَسْلِ مَغَابِنِهِ وَأَطْرَافِهِ
وَدَاخِلَةِ إزَارِهِ وَفِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ فَرْجُهُ
. وَالثّانِي : أَنّهُ طَرَفُ إزَارِهِ الدّاخِلِ الّذِي يَلِي جَسَدَهُ
مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ثُمّ يُصَبّ عَلَى رَأْسِ الْمَعِينِ مِنْ
خَلْفِهِ بَغْتَةً وَهَذَا مِمّا لَا يَنَالُهُ عِلَاجُ الْأَطِبّاءِ
وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ أَنْكَرَهُ أَوْ سَخِرَ مِنْهُ أَوْ شَكّ
فِيهِ أَوْ فَعَلَهُ مُجَرّبًا لَا يَعْتَقِدُ أَنّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ .
[حِكْمَةُ الْاِسْتِغْسَالِ ]
وَإِذَا
كَانَ فِي الطّبِيعَةِ خَوَاصّ لَا تَعْرِفُ الْأَطِبّاءُ عِلَلَهَا
أَلْبَتّةَ بَلْ هِيَ عِنْدَهُمْ خَارِجَةٌ عَنْ قِيَاسِ الطّبِيعَةِ
تَفْعَلُ بِالْخَاصّيّةِ فَمَا الّذِي يُنْكِرُهُ زَنَادِقَتُهُمْ
وَجَهَلَتُهُمْ مِنْ الْخَوَاصّ الشّرْعِيّةِ هَذَا مَعَ أَنّ فِي
الْمُعَالَجَةِ بِهَذَا الْاِسْتِغْسَالِ مَا تَشْهَدُ لَهُ الْعُقُولُ
الصّحِيحَةُ وَتُقِرّ لِمُنَاسَبَتِهِ فَاعْلَمْ أَنّ تِرْيَاقَ سُمّ
الْحَيّةِ فِي لَحْمِهَا وَأَنّ عِلَاجَ تَأْثِيرِ النّفْسِ الْغَضَبِيّةِ
فِي تَسْكِينِ غَضَبِهَا وَإِطْفَاءِ نَارِهِ بِوَضْعِ يَدِكَ عَلَيْهِ
وَالْمَسْحِ عَلَيْهِ وَتَسْكِينِ غَضَبِهِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ
مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَقْذِفَك بِهَا
فَصَبَبْتَ عَلَيْهَا الْمَاءَ وَهِيَ فِي يَدِهِ حَتّى طُفِئَت
وَلِذَلِكَ أُمِرَ الْعَائِنُ أَنْ يَقُولَ [ ص 158 ] اللّهُمّ بَارِكْ
عَلَيْهِ لِيَدْفَعَ تِلْكَ الْكَيْفِيّةِ الْخَبِيثَةِ بِالدّعَاءِ
الّذِي هُوَ إحْسَانٌ إلَى الْمَعِينِ فَإِنّ دَوَاءَ الشّيْءِ بِضِدّهِ .
وَلَمّا كَانَتْ هَذِهِ الْكَيْفِيّةُ الْخَبِيثَةُ تَظْهَرُ فِي
الْمَوَاضِعِ الرّقِيقَةِ مِنْ الْجَسَدِ لِأَنّهَا تَطْلُبُ النّفُوذَ
فَلَا تَجِدُ أَرَقّ مِنْ الْمَغَابِنِ وَدَاخِلَةِ الْإِزَارِ وَلَا
سِيّمَا إنْ كَانَ كِنَايَةً عَنْ الْفَرَجِ فَإِذَا غُسِلَتْ بِالْمَاءِ
بَطَلَ تَأْثِيرُهَا وَعَمَلُهَا وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ
لِلْأَرْوَاحِ الشّيْطَانِيّةِ بِهَا اخْتِصَاصٌ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ
غَسْلَهَا بِالْمَاءِ يُطْفِئُ تِلْكَ النّارِيّةِ وَيَذْهَبُ بِتِلْكَ
السّمّيّةِ . وَفِيهِ أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ وُصُولُ أَثَرِ الْغَسْلِ إلَى
الْقَلْبِ مِنْ أَرَقّ الْمَوَاضِعِ وَأَسْرَعِهَا تَنْفِيذًا فَيُطْفِئُ
تِلْكَ النّارِيّةِ وَالسّمّيّةِ بِالْمَاءِ فَيُشْفَى الْمَعِينُ وَهَذَا
كَمَا أَنّ ذَوَاتَ السّمُومِ إذَا قُتِلَتْ بَعْدَ لَسْعِهَا خَفّ أَثَرُ
اللّسْعَةِ عَنْ الْمَلْسُوعِ وَوَجَدَ رَاحَةً فَإِنّ أَنْفُسَهَا تَمُدّ
أَذَاهَا بَعْدَ لَسْعِهَا وَتُوَصّلُهُ إلَى الْمَلْسُوعِ . فَإِذَا
قُتِلَتْ خَفّ الْأَلَمُ وَهَذَا مُشَاهَدٌ . وَإِنْ كَانَ مِنْ
أَسْبَابِهِ فَرَحُ الْمَلْسُوعِ وَاشْتِفَاءُ نَفْسِهِ بِقَتْلِ عَدُوّهِ
فَتَقْوَى الطّبِيعَةُ عَلَى الْأَلَمِ فَتَدْفَعُهُ . وَبِالْجُمْلَةِ
غَسْلُ الْعَائِنِ يُذْهِبُ تِلْكَ الْكَيْفِيّةِ الّتِي ظَهَرَتْ مِنْهُ
وَإِنّمَا يَنْفَعُ غَسْلُهُ عِنْدَ تَكَيّفِ نَفْسِهِ بِتِلْكَ
الْكَيْفِيّةِ .
[حِكْمَةُ صَبّ مَاءِ الْاِسْتِغْسَالِ عَلَى الْمَعِينِ ]
فَإِنْ
قِيلَ فَقَدْ ظَهَرَتْ مُنَاسَبَةُ الْغَسْلِ فَمَا مُنَاسَبَةُ صَبّ
ذَلِكَ الْمَاءِ عَلَى الْمَعِينِ ؟ قِيلَ هُوَ فِي غَايَةِ
الْمُنَاسَبَةِ فَإِنّ ذَلِكَ الْمَاءَ مَاءٌ طُفِئَ بِهِ تِلْكَ
النّارِيّةُ وَأُبْطِلَ تِلْكَ الْكَيْفِيّةُ الرّدِيئَةُ مِنْ الْفَاعِلِ
فَكَمَا طُفِئَت بِهِ النّارِيّةُ الْقَائِمَةُ بِالْفَاعِلِ طُفِئَت بِهِ
وَأُبْطِلَتْ عَنْ الْمَحَلّ الْمُتَأَثّرِ بَعْدَ مُلَابَسَتِهِ
لِلْمُؤَثّرِ الْعَائِنِ وَالْمَاءُ الّذِي يُطْفَأُ بِهِ الْحَدِيدُ
يَدْخُلُ فِي أَدْوِيَةٍ عِدّةٍ طَبِيعِيّةٍ ذَكَرَهَا الْأَطِبّاءُ
فَهَذَا الّذِي طُفِئَ بِهِ نَارِيّةُ الْعَائِنِ لَا يُسْتَنْكَرُ أَنْ
يَدْخُلَ فِي دَوَاءٍ يُنَاسِبُ هَذَا الدّاءَ . وَبِالْجُمْلَةِ فَطِبّ
الطّبَائِعِيّةِ وَعِلَاجُهُمْ بِالنّسْبَةِ إلَى الْعِلَاجِ النّبَوِيّ
كَطِبّ الطّرُقِيّةِ بِالنّسْبَةِ إلَى طِبّهِمْ بَلْ أَقَلّ فَإِنّ
التّفَاوُتَ الّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ أَعْظَمُ
وَأَعْظَمُ مِنْ التّفَاوُتِ الّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطّرُقِيّةِ
بِمَا لَا يُدْرِكُ الْإِنْسَانُ مِقْدَارَهُ فَقَدْ ظَهَرَ لَك عَقْدُ
الْإِخَاءِ الّذِي [ ص 159 ] مُنَاقَضَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَاَللّهُ
يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى الصّوَابِ وَيَفْتَحُ لِمَنْ أَدَامَ قَرْعَ
بَابَ التّوْفِيقِ مِنْهُ كُلّ بَابٍ وَلَهُ النّعْمَةُ السّابِغَةُ
وَالْحُجّةُ الْبَالِغَةُ .
فَصْلٌ [ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ سَتْرُ مَحَاسِنِ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ ]
وَمِنْ
عِلَاجِ ذَلِكَ أَيْضًا وَالِاحْتِرَازِ مِنْهُ سَتْرُ مَحَاسِنِ مَنْ
يُخَافُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ بِمَا يَرُدّهَا عَنْهُ كَمَا ذَكَرَ
الْبَغَوِيّ فِي كِتَابِ " شَرْحِ السّنّةِ " : أَنّ عُثْمَانَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ رَأَى صَبِيّا مَلِيحًا فَقَالَ دَسّمُوا نُونَتَهُ لِئَلّا
تُصِيبَهُ الْعَيْنُ ثُمّ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ وَمَعْنَى : دَسّمُوا
نُونَتَهُ أَيْ سَوّدُوا نُونَتَهُ وَالنّونَةُ النّقْرَةُ الّتِي تَكُونُ
فِي ذَقَنِ الصّبِيّ الصّغِيرِ . وَقَالَ الْخَطّابِي فِي " غَرِيبِ
الْحَدِيثِ " لَهُ عَنْ عُثْمَانَ : إنّهُ رَأَى صَبِيّا تَأْخُذُهُ
الْعَيْنُ فَقَالَ دَسّمُوا نُونَتَهُ فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو : سَأَلْت
أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى عَنْهُ فَقَالَ أَرَادَ بِالنّونَةِ النّقْرَةُ
الّتِي فِي ذَقَنِهِ . وَالتّدْسِيمُ التّسْوِيدُ . أَرَادَ سَوّدُوا
ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ ذَقَنِهِ لِيَرُدّ الْعَيْنَ . قَالَ وَمِنْ
هَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ دَسْمَاءُ أَيْ
سَوْدَاءُ . أَرَادَ الِاسْتِشْهَادَ عَلَى اللّفْظَةِ وَمِنْ هَذَا
أَخَذَ الشّاعِرُ قَوْلَهُ [ ص 160 ]
مَا كَانَ أَحْوَجَ ذَا الْكَمَالِ إلَى
عَيْبٍ يُوَقّيهِ مِنْ الْعَيْنِ
فَصْلٌ [ذَكَرَ رُقْيَةً تَرُدّ الْعَيْنَ ]
وَمِنْ
الرّقَى الّتِي تَرُدّ الْعَيْنَ مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ
السّاجِيّ أَنّهُ كَانَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ لِلْحَجّ أَوْ الْغَزْوِ
عَلَى نَاقَةٍ فَارِهَةٍ وَكَانَ فِي الرّفْقَةِ رَجُلٌ عَائِنٌ قَلّمَا
نَظَرَ إلَى شَيْءٍ إلّا أَتْلَفَهُ فَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ :
احْفَظْ نَاقَتَك مِنْ الْعَائِنِ فَقَالَ لَيْسَ لَهُ إلَى نَاقَتِي
سَبِيلٌ فَأُخْبِرَ الْعَائِنُ بِقَوْلِهِ فَتَحَيّنَ غَيْبَةَ أَبِي
عَبْدِ اللّه ِ فَجَاءَ إلَى رَحْلِهِ فَنَظَرَ إلَى النّاقَةِ
فَاضْطَرَبَتْ وَسَقَطَتْ فَجَاءَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ فَأُخْبِرَ أَنّ
الْعَائِنَ قَدْ عَانَهَا وَهِيَ كَمَا تَرَى فَقَالَ دِلّونِي عَلَيْهِ
فَدُلّ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ بِسْمِ اللّهِ حَبْسٌ حَابِسٌ وَحَجَرٌ
يَابِسٌ وَشِهَابٌ قَابِسٌ رَدَدْتُ عَيْنَ الْعَائِنِ عَلَيْهِ وَعَلَى
أَحَبّ النّاسِ إلَيْهِ { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ
ثُمّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ
خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الْمَلِكُ 4ُ3 ] فَخَرَجَتْ حَدَقَتَا
الْعَائِنِ وَقَامَتْ النّاقَةُ لَا بَأْسَ بِهَا .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعِلَاجِ الْعَامّ لِكُلّ شَكْوَى بِالرّقْيَةِ الْإِلَهِيّةِ
رَوَى
أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدّرْدَاء ِ قَالَ
سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ مَنْ
اشْتَكَى مِنْكُمْ شَيْئًا أَوْ اشْتَكَاهُ أَخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ رَبّنَا
اللّهُ الّذِي فِي السّمَاءِ تَقَدّسَ اسْمُك أَمْرُكَ فِي السّمَاءِ
وَالْأَرْضِ كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السّمَاءِ فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي
الْأَرْضِ وَاغْفِرْ لَنَا حُوْبَنَا وَخَطَايَانَا أَنْتَ رَبّ
الطّيّبِينَ أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِك وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ
عَلَى هَذَا الْوَجَعِ فَيَبْرَأُ بِإِذْنِ اللّهِ . [ ص 161 ] صَحِيحِ
مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي ّ أَنّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ
السّلَامُ - أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا
مُحَمّدُ اشْتَكَيْتَ ؟ فَقَالَ " نَعَمْ " فَقَالَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ
السّلَامُ - بِاسْمِ اللّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ
شَرّ كُلّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللّهُ يَشْفِيكَ بِاسْمِ اللّهِ
أَرْقِيك . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي الْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ : لَا رُقْيَةَ إلّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ وَالْحُمَةُ
ذَوَاتُ السّمُومِ كُلّهَا .
[التّوْفِيقُ بَيْنَ جَوَازِ الرّقْيَةِ لِكُلّ شَكْوَى وَبَيْنَ " لَا رُقْيَةَ إلّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ "]
فَالْجَوّابُ
أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ جَوَازِ
الرّقْيَةِ فِي غَيْرِهَا بَلْ الْمُرَادُ بِهِ لَا رُقْيَةَ أَوْلَى
وَأَنْفَعُ مِنْهَا فِي الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ وَيَدُلّ عَلَيْهِ سِيَاقُ
الْحَدِيثِ فَإِنّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ قَالَ لَهُ لَمّا أَصَابَتْهُ
الْعَيْنُ أَوَ فِي الرّقَى خَيْرٌ ؟ فَقَالَ لَا رُقْيَةَ إلّا فِي
نَفْسٍ أَوْ حُمَةٍ وَيَدُلّ عَلَيْهِ سَائِرُ أَحَادِيثِ الرّقَى
الْعَامّةِ وَالْخَاصّةِ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا رُقْيَةَ
إلّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ دَمٍ يَرْقَأُ وَفِي " صَحِيحِ
مُسْلِمٍ " عَنْهُ أَيْضًا : رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي الرّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ وَالنّمْلَةِ [ ص 162
]
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رُقْيَةِ اللّدِيغِ بِالْفَاتِحَةِ
أَخْرَجَا
فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ قَالَ ا
نْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي سُفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتّى نَزَلُوا عَلَى حَيّ مِنْ أَحْيَاءِ
الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيّفُوهُمْ فَلُدِغَ
سَيّدُ ذَلِكَ الْحَيّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ
شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرّهْطَ الّذِينَ
نَزَلُوا لَعَلّهُمْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأَتَوْهُمْ
فَقَالُوا : يَا أَيّهَا الرّهْطُ إنّ سَيّدَنَا لُدِغَ وَسَعَيْنَا لَهُ
بِكُلّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ
؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاَللّهِ إنّي لَأَرْقِي وَلَكِنْ
اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيّفُونَا فَمَا أَنَا بَرَاقٍ حَتّى
تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ
فَانْطَلَقَ يَتْفُلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ
الْعَالَمِينَ فَكَأَنّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَانْطَلَقَ يَمْشِي
وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الّذِي صَالَحُوهُمْ
عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اقْتَسِمُوا فَقَالَ الّذِي رَقَى : لَا
تَفْعَلُوا حَتّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَنَذْكُرَ لَهُ الّذِي كَانَ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا فَقَدِمُوا
عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرُوا لَهُ
ذَلِكَ فَقَالَ " وَمَا يُدْرِيكَ أَنّهَا رُقْيَةٌ ؟ " ثُمّ قَالَ قَدْ
أَصَبْتُمْ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا وَقَدْ رَوَى
ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللّهِ خَيْرُ الدّوَاءِ الْقُرْآنُ
[فَائِدَةُ الرّقْيَةِ بِالْقُرْآنِ وَبِخَاصّةٍ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ]
وَمِنْ
الْمَعْلُومِ أَنّ بَعْضَ الْكَلَامِ لَهُ خَوَاصّ وَمَنَافِعُ مُجَرّبَةٌ
فَمَا الظّنّ بِكَلَامِ رَبّ الْعَالَمِينَ الّذِي فَضْلُهُ عَلَى كُلّ
كَلَامٍ كَفَضْلِ اللّهِ عَلَى خَلْقِهِ الّذِي هُوَ الشّفَاءُ [ ص 163 ]
الْهَادِي وَالرّحْمَةُ الْعَامّةُ الّذِي لَوْ أُنْزِلَ عَلَى جَبَلٍ
لَتَصَدّعَ مِنْ عَظْمَتِهِ وَجَلَالَتِهِ . قَالَ تَعَالَى : {
وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
} [ الْإِسْرَاءُ : 82 ] و " مِنْ " هَا هُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا
لِلتّبْعِيضِ هَذَا أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَعَدَ
اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً
وَأَجْرًا عَظِيمًا } [ الْفَتْحُ 29 ] وَكُلّهُمْ مِنْ الّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ فَمَا الظّنّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ الّتِي لَمْ
يُنْزَلْ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي التّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ
وَلَا فِي الزّبُورِ مِثْلُهَا الْمُتَضَمّنَةِ لِجَمِيعِ مَعَانِي كُتُبِ
اللّهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ذِكْرِ أُصُولِ أَسْمَاءِ الرّبّ - تَعَالَى
- وَمَجَامِعِهَا و هِيَ اللّهُ وَالرّبّ وَالرّحْمَنُ وَإِثْبَاتُ
الْمَعَادِ وَذِكْرِ التّوْحِيدَيْنِ تَوْحِيدِ الرّبُوبِيّةِ وَتَوْحِيدِ
الْإِلَهِيّةِ وَذِكْرِ الِافْتِقَارِ إلَى الرّبّ سُبْحَانَهُ فِي طَلَبِ
الْإِعَانَةِ وَطَلَبِ الْهِدَايَةِ وَتَخْصِيصِهِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ
وَذِكْرِ أَفْضَلِ الدّعَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَنْفَعِهِ
وَأَفْرَضِهِ وَمَا الْعِبَادُ أَحْوَجُ شَيْءٍ إلَيْهِ وَهُوَ
الْهِدَايَةُ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُتَضَمّنِ كَمَالَ
مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ - بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ
وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ إلَى
الْمَمَاتِ وَيَتَضَمّنُ ذِكْرَ أَصْنَافِ الْخَلَائِقِ وَانْقِسَامَهُمْ
إلَى مُنْعَمٍ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ الْحَقّ وَالْعَمَلِ بِهِ
وَمَحَبّتِهِ وَإِيثَارِهِ وَمَغْضُوبٍ عَلَيْهِ بِعُدُولِهِ عَنْ الْحَقّ
بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ لَهُ وَضَالّ بِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ لَهُ .
وَهَؤُلَاءِ أَقْسَامُ الْخَلِيقَةِ مَعَ تَضَمّنِهَا لِإِثْبَاتِ
الْقَدَرِ وَالشّرْعِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصّفَاتِ وَالْمَعَادِ
وَالنّبُوّاتِ وَتَزْكِيَةِ النّفُوسِ وَإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ وَذِكْرِ
عَدْلِ اللّهِ وَإِحْسَانِهِ وَالرّدّ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْبِدَعِ
وَالْبَاطِلِ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ "
مَدَارِجِ السّالِكِينَ " فِي شَرْحِهَا . وَحَقِيقٌ بِسُورَةٍ هَذَا
بَعْضُ شَأْنِهَا أَنْ يُسْتَشْفَى بِهَا مِنْ الْأَدْوَاءِ وَيُرْقَى
بِهَا اللّدِيغُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا تَضَمّنَتْهُ الْفَاتِحَةُ مِنْ
إخْلَاصِ الْعُبُودِيّةِ وَالثّنَاءِ عَلَى اللّهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ
كُلّهِ إلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ وَسُؤَالِهِ
مَجَامِعَ النّعَمِ كُلّهَا وَهِيَ الْهِدَايَةُ الّتِي تَجْلِبُ النّعَمَ
وَتَدْفَعُ النّقَمَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدْوِيَةِ الشّافِيَةِ
الْكَافِيَةِ . [ ص 164 ]
[ قِرَاءَةُ الْمُصَنّفِ الْفَاتِحَةَ عَلَى مَاءِ زَمْزَمَ وَذَلِكَ عِنْدَ سَقَمِهِ فِي مَكّةَ]
وَقَدْ
قِيلَ إنّ مَوْضِعَ الرّقْيَةِ مِنْهَا : { إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ
نَسْتَعِينُ } وَلَا رَيْبَ أَنّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ مِنْ أَقْوَى
أَجْزَاءِ هَذَا الدّوَاءِ فَإِنّ فِيهِمَا مِنْ عُمُومِ التّفْوِيضِ
وَالتّوَكّلِ وَالِالْتِجَاءِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالِافْتِقَارِ
وَالطّلَبِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ أَعْلَى الْغَايَاتِ وَهِيَ عِبَادَةُ
الرّبّ وَحْدَهُ وَأَشْرَفُ الْوَسَائِلِ وَهِيَ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ
عَلَى عِبَادَتِهِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا وَلَقَدْ مَرّ بِي وَقْتٌ
بِمَكّةَ سَقِمْتُ فِيهِ وَفَقَدْتُ الطّبِيبَ وَالدّوَاءَ فَكُنْت
أَتَعَالَجُ بِهَا آخُذُ شَرْبَةً مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَقْرَؤُهَا
عَلَيْهَا مِرَارًا ثُمّ أَشْرَبُهُ فَوَجَدْتُ بِذَلِكَ الْبُرْءَ
التّامّ ثُمّ صِرْت أَعْتَمِدُ ذَلِكَ عِنْد كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْجَاعِ
فَأَنْتَفِعُ بِهَا غَايَةَ الِانْتِفَاعِ .
فَصْلٌ [نَفْسُ الرّاقِي تَفْعَلُ فِي نَفْسِ الْمَرْقِيّ فَتَدْفَعُ عَنْهُ الْمَرَضَ بِإِذْنِ اللّهِ ]
وَفِي
تَأْثِيرِ الرّقَى بِالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا فِي عِلَاجِ ذَوَاتِ
السّمُومِ سِرّ بَدِيعٌ فَإِنّ ذَوَاتَ السّمُومِ أَثّرَتْ بِكَيْفِيّاتِ
نُفُوسِهَا الْخَبِيثَةِ كَمَا تَقَدّمَ وَسِلَاحُهَا حُمَاتُهَا الّتِي
تَلْدَغُ بِهَا وَهِيَ لَا تَلْدَغُ حَتّى تَغْضَبَ فَإِذَا غَضِبَتْ
ثَارَ فِيهَا السّمّ فَتَقْذِفُهُ بِآلَتِهَا وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءً وَلِكُلّ شَيْءٍ ضِدّا وَنَفْسُ
الرّاقِي تَفْعَلُ فِي نَفْسِ الْمَرْقِيّ فَيَقَعُ بَيْنَ نَفْسَيْهِمَا
فِعْلٌ وَانْفِعَالٌ كَمَا يَقَعُ بَيْنَ الدّاءِ وَالدّوَاءِ فَتَقْوَى
نَفْسُ الرّاقِي وَقُوّتُهُ بِالرّقْيَةِ عَلَى ذَلِكَ الدّاءِ
فَيَدْفَعُهُ بِإِذْنِ اللّهِ وَمَدَارُ تَأْثِيرِ الْأَدْوِيَةِ
وَالْأَدْوَاءِ عَلَى الْفِعْلِ وَالِانْفِعَالِ وَهُوَ كَمَا يَقَعُ
بَيْنَ الدّاءِ وَالدّوَاءِ الطّبِيعِيّيْنِ يَقَعُ بَيْنَ الدّاءِ
وَالدّوَاءِ الرّوحَانِيّيْنِ وَالرّوحَانِيّ وَالطّبِيعِيّ وَفِي
النّفْثِ وَالتّفْلِ اسْتِعَانَةٌ بِتِلْكَ الرّطُوبَةِ وَالْهَوَاءِ
وَالنّفْسِ الْمُبَاشِرِ لِلرّقْيَةِ وَالذّكْرِ وَالدّعَاءِ فَإِنّ
الرّقْيَةَ تَخْرُجُ مِنْ قَلْبِ الرّاقِي وَفَمِهِ فَإِذَا صَاحَبَهَا
شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ بَاطِنِهِ مِنْ الرّيقِ وَالْهَوَاءِ وَالنّفْسِ
كَانَتْ أَتَمّ تَأْثِيرًا وَأَقْوَى فِعْلًا وَنُفُوذًا وَيَحْصُلُ
بِالِازْدِوَاجِ بَيْنَهُمَا كَيْفِيّةٌ مُؤَثّرَةٌ شَبِيهَةٌ
بِالْكَيْفِيّةِ الْحَادِثَةِ عِنْدَ تَرْكِيبِ الْأَدْوِيَةِ .
[النّفْثُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي دَفْعِ الْمَرَضِ ]
وَبِالْجُمْلَةِ
فَنَفْسُ الرّاقِي تُقَابِلُ تِلْكَ النّفُوسِ الْخَبِيثَةِ وَتَزِيدُ
بِكَيْفِيّةِ نَفْسِهِ [ ص 165 ] كَانَتْ كَيْفِيّةُ نَفْسِ الرّاقِي
أَقْوَى كَانَتْ الرّقْيَةُ أَتَمّ وَاسْتِعَانَتُهُ بِنَفْثِهِ
كَاسْتِعَانَةِ تِلْكَ النّفُوسِ الرّدِيئَةِ بِلَسْعِهَا . وَفِي
النّفْثِ سِرّ آخَرُ فَإِنّهُ مِمّا تَسْتَعِينُ بِهِ الْأَرْوَاحُ
الطّيّبَةُ وَالْخَبِيثَةُ وَلِهَذَا تَفْعَلُهُ السّحَرَةُ كَمَا
يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ . قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ شَرّ
النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } وَذَلِكَ لِأَنّ النّفْسَ تَتَكَيّفُ
بِكَيْفِيّةِ الْغَضَبِ وَالْمُحَارَبَةِ وَتُرْسِلُ أَنْفَاسَهَا
سِهَامًا لَهَا وَتَمُدّهَا بِالنّفْثِ وَالتّفْلِ الّذِي مَعَهُ شَيْءٌ
مِنْ الرّيقِ مُصَاحِبٌ لِكَيْفِيّةٍ مُؤَثّرَةٍ وَالسّوَاحِرُ
تَسْتَعِينُ بِالنّفْثِ اسْتِعَانَةً بَيّنَةً وَإِنْ لَمْ تَتّصِلْ
بِجِسْمِ الْمَسْحُورِ بَلْ تَنْفُثُ عَلَى الْعُقْدَةِ وَتَعْقِدُهَا
وَتَتَكَلّمُ بِالسّحْرِ فَيَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْمَسْحُورِ بِتَوَسّطِ
الْأَرْوَاحِ السّفْلِيّةِ الْخَبِيثَةِ فَتُقَابِلُهَا الرّوحُ
الزّكِيّةُ الطّيّبَةُ بِكَيْفِيّةِ الدّفْعِ وَالتّكَلّمِ بِالرّقْيَةِ
وَتَسْتَعِينُ بِالنّفْثِ فَأَيّهُمَا قَوِيَ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ
وَمُقَابَلَةُ الْأَرْوَاحِ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَمُحَارَبَتُهَا
وَآلَتُهَا مِنْ جِنْسِ مُقَابَلَةِ الْأَجْسَامِ وَمُحَارَبَتُهَا
وَآلَتِهَا سَوَاءٌ بَلْ الْأَصْلُ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالتّقَابُلِ
لِلْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ آلَتُهَا وَجُنْدُهَا وَلَكِنْ مَنْ غَلَبَ
عَلَيْهِ الْحِسّ لَا يَشْعُرُ بِتَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ
وَأَفْعَالِهَا وَانْفِعَالَاتِهَا لِاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْحِسّ
عَلَيْهِ وَبُعْدِهِ مِنْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَأَحْكَامِهَا
وَأَفْعَالِهَا . وَالْمَقْصُودُ أَنّ الرّوحَ إذَا كَانَتْ قَوِيّةً
وَتَكَيّفَتْ بِمَعَانِي الْفَاتِحَةِ وَاسْتَعَانَتْ بِالنّفْثِ
وَالتّفْلِ قَابَلَتْ ذَلِكَ الْأَثَرَ الّذِي حَصَلَ مِنْ النّفُوسِ
الْخَبِيثَةِ فَأَزَالَتْهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ لَدْغَةِ الْعَقْرَبِ بِالرّقْيَةِ
رَوَى
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يُصَلّي إذْ سَجَدَ فَلَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ فِي أُصْبُعِهِ فَانْصَرَفَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ " لَعَنَ اللّهُ
الْعَقْرَبَ مَا تَدَعُ نَبِيّا وَلَا غَيْرَهُ قَالَ ثُمّ دَعَا
بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَمِلْحٌ فَجَعَلَ يَضَعُ مَوْضِعَ اللّدْغَةِ فِي
الْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَيَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ
وَالْمُعَوّذَتَيْنِ حَتّى سَكَنَتْ
[ ص 166 ]
[ مَا لِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ مِنْ الْفَائِدَةِ فِي عِلَاجِ اللّدْغَةِ ]
فَفِي
هَذَا الْحَدِيثِ الْعِلَاجُ بِالدّوَاءِ الْمُرَكّبِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ
الطّبِيعِيّ وَالْإِلَهِيّ فَإِنّ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ مِنْ كَمَالِ
التّوْحِيدِ الْعِلْمِيّ الِاعْتِقَادِيّ وَإِثْبَاتِ الأَحَدِيّةِ لِلّهِ
الْمُسْتَلْزِمَةِ نَفْيَ كُلّ شَرِكَةٍ عَنْهُ وَإِثْبَاتَ الصّمَدِيّةِ
الْمُسْتَلْزِمَةِ لِإِثْبَاتِ كُلّ كَمَالٍ لَهُ مَعَ كَوْنِ
الْخَلَائِقِ تَصْمُدُ إلَيْهِ فِي حَوَائِجِهَا أَيْ تَقْصِدُهُ
الْخَلِيقَةُ وَتَتَوَجّهُ إلَيْهِ عَلَوِيّهَا وَسُفْلِيّهَا وَنَفْيَ
الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالْكُفْءِ عَنْهُ الْمُتَضَمّنِ لِنَفْيِ
الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالنّظِيرُ وَالْمُمَاثِلُ مِمّا اخْتَصّتْ بِهِ
وَصَارَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَفِي اسْمِهِ الصّمَدِ إثْبَاتُ
كُلّ الْكَمَالِ وَفِي نَفْيِ الْكُفْءِ التّنْزِيهُ عَنْ الشّبِيهِ
وَالْمِثَالِ . وَفِي الْأَحَدِ نَفْيُ كُلّ شَرِيكٍ لِذِي الْجَلَالِ
وَهَذِهِ الْأُصُولُ الثّلَاثَةُ هِيَ مَجَامِعُ التّوْحِيدِ .
[ مَا لِلْمُعَوّذَتَيْنِ مِنْ الْفَائِدَةِ فِي عِلَاجِ اللّدْغَةِ ]
وَفِي
الْمُعَوّذَتَيْنِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ كُلّ مَكْرُوهٍ جُمْلَةً
وَتَفْصِيلًا فَإِنّ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ تَعُمّ كُلّ
شَرّ يُسْتَعَاذُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْأَجْسَامِ أَوْ
الْأَرْوَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرّ الْغَاسِقِ وَهُوَ اللّيْلُ
وَآيَتُهُ وَهُوَ الْقَمَرُ إذَا غَابَ تَتَضَمّنُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ
شَرّ مَا يَنْتَشِرُ فِيهِ مِنْ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ الّتِي كَانَ
نُورُ النّهَارِ يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِانْتِشَارِ فَلَمّا
أَظْلَمَ اللّيْلُ عَلَيْهَا وَغَابَ الْقَمَرُ انْتَشَرَتْ وَعَاثَتْ .
وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرّ النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ تَتَضَمّنُ
الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرّ السّوَاحِرِ وَسِحْرِهِنّ . وَالِاسْتِعَاذَةُ
مِنْ شَرّ الْحَاسِدِ تَتَضَمّنُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ النّفُوسِ
الْخَبِيثَةِ الْمُؤْذِيَةِ بِحَسَدِهَا وَنَظَرِهَا . وَالسّورَةُ
الثّانِيَةُ تَتَضَمّنُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ
وَالْجِنّ فَقَدْ [ ص 167 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُقْبَةَ بْنَ
عَامِرٍ بِقِرَاءَتِهِمَا عَقِبَ كُلّ صَلَاةٍ ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ فِي
" جَامِعِهِ " صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِي هَذَا سِرّ عَظِيمٌ
فِي اسْتِدْفَاعِ الشّرُورِ مِنْ الصّلَاةِ إلَى الصّلَاةِ . وَقَالَ مَا
تَعَوّذَ الْمُتَعَوّذُونَ بِمِثْلِهِمَا . وَقَدْ ذَكَرَ أَنّهُ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُحِرَ فِي إحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةٍ وَأَنّ
جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ بِهِمَا فَجَعَلَ كُلّمَا قَرَأَ آيَةً
مِنْهُمَا انْحَلّتْ عُقْدَةٌ حَتّى انْحَلّتْ الْعُقَدُ كُلّهَا
وَكَأَنّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ .
[ الْفَائِدَةُ فِي الْمِلْحِ فِي عِلَاجِ اللّدْغَةِ ]
وَأَمّا
الْعِلَاجُ الطّبِيعِيّ فِيهِ فَإِنّ فِي الْمِلْحِ نَفْعًا لِكَثِيرٍ
مِنْ السّمُومِ وَلَا سِيّمَا لَدْغَةُ الْعَقْرَبِ قَالَ صَاحِبُ "
الْقَانُونِ " : يُضَمّدُ بِهِ مَعَ بَزْرِ الْكَتّانِ لِلَسْعِ
الْعَقْرَبِ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ أَيْضًا . وَفِي الْمِلْحِ مِنْ
الْقُوّةِ الْجَاذِبَةِ الْمُحَلّلَةِ مَا يَجْذِبُ السّمُومَ
وَيُحَلّلُهَا وَلَمّا كَانَ فِي لَسْعِهَا قُوّةٌ نَارِيّةٌ تَحْتَاجُ
إلَى تَبْرِيدٍ وَجَذْبٍ وَإِخْرَاجٍ جَمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ الْمُبَرّدِ
لِنَارِ اللّسْعَةِ وَالْمِلْحِ الّذِي فِيهِ جَذْبٌ وَإِخْرَاجٌ وَهَذَا
أَتَمّ مَا يَكُونُ مِنْ الْعِلَاجِ وَأَيْسَرُهُ وَأَسْهَلُهُ وَفِيهِ
تَنْبِيهٌ عَلَى أَنّ عِلَاجَ هَذَا الدّاءِ بِالتّبْرِيدِ وَالْجَذْبِ
وَالْإِخْرَاجِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي "
صَحِيحِهِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا لَقِيتُ
مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ فَقَالَ " أَمَا لَوْ قُلْتَ
حِينَ أَمْسَيْتَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ مِنْ شَرّ مَا
خَلَقَ لَمْ تَضُرّك وَاعْلَمْ أَنّ الْأَدْوِيَةَ الطّبِيعِيّةَ
الْإِلَهِيّةَ تَنْفَعُ مِنْ الدّاءِ بَعْدَ حُصُولِهِ وَتَمْنَعُ مِنْ
وُقُوعِهِ وَإِنْ وَقَعَ لَمْ يَقَعْ وُقُوعًا مُضِرّا وَإِنْ كَانَ
مُؤْذِيًا وَالْأَدْوِيَةُ الطّبِيعِيّةُ إنّمَا تَنْفَعُ بَعْدَ حُصُولِ
الدّاءِ فَالتّعَوّذَاتُ وَالْأَذْكَارُ إمّا أَنْ تَمْنَعَ وُقُوعَ
هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَإِمّا أَنْ تَحُولَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كَمَالِ
تَأْثِيرِهَا بِحَسَبِ كَمَالِ التّعَوّذِ وَقُوّتِهِ وَضَعْفِهِ
فَالرّقَى [ ص 168 ] الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ كَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ
نَفَثَ فِي كَفّيْهِ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوّذَتَيْنِ . ثُمّ
يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدُهُ مِنْ جَسَدِهِ وَكَمَا
فِي حَدِيثِ عُوذَةِ أَبِي الدّرْدَاءِ الْمَرْفُوعِ اللّهُمّ أَنْتَ
رَبّي لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ عَلَيْكَ تَوَكّلْتُ وَأَنْتَ رَبّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ وَقَدْ تَقَدّمَ وَفِيهِ مَنْ قَالَهَا أَوّلَ نَهَارِهِ لَمْ
تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتّى يُمْسِيَ وَمَنْ قَالَهَا آخِرَ نَهَارِهِ لَمْ
تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتّى يُصْبِحَ . وَكَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " :
مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ
كَفَتَاهُ وَكَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ
اللّهِ التَامّاتِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرّهُ شَيْءٌ حَتّى
يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ وَكَمَا فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ
أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ فِي السّفَرِ
يَقُولُ بِاللّيْلِ " يَا أَرْضُ رَبّي وَرَبّكِ اللّهُ أَعُوذُ بِاَللّهِ
مِنْ شَرّكِ وَشَرّ مَا فِيك وَشَرّ مَا يَدُبّ عَلَيْك أَعُوذُ بِاَللّهِ
مِنْ أَسَدٍ وأَسْودٍ وَمِنْ الْحَيّةِ وَالْعَقْرَبِ وَمِنْ سَاكِنِ
الْبَلَدِ وَمِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ [ ص 169 ] الثّانِي : فَكَمَا
تَقَدّمَ مِنْ الرّقْيَةِ بِالْفَاتِحَةِ وَالرّقْيَةِ لِلْعَقْرَبِ
وَغَيْرِهَا مِمّا يَأْتِي .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رُقْيَةِ النّمْلَةِ
قَدْ
تَقَدّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ الّذِي فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنّهُ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَخّصَ فِي الرّقْيَةِ مِنْ الْحُمَةِ
وَالْعَيْنِ وَالنّمْلَةِ وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ الشّفَاءِ
بِنْتِ عَبْدِ اللّهِ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ " أَلَا تُعَلّمِينَ هَذِهِ
رُقْيَةَ النّمْلَةِ كَمَا عَلّمْتِيها الْكِتَابَةَ النّمْلَةُ قُرُوحٌ
تَخْرُجُ فِي الْجَنْبَيْنِ وَهُوَ دَاءٌ مَعْرُوفٌ وَسُمّيَ نَمْلَةً
لِأَنّ صَاحِبَهُ يُحِسّ فِي مَكَانِهِ كَأَنّ نَمْلَةً تَدِبّ عَلَيْهِ
وَتَعَضّهُ وَأَصْنَافُهَا ثَلَاثَةٌ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ
كَانَ الْمَجُوسُ يَزْعُمُونَ أَنّ وَلَدَ الرّجُلِ مِنْ أُخْتِهِ إذَا
خُطّ عَلَى النّمْلَةِ شَفَى صَاحِبَهَا وَمِنْهُ قَوْلُ الشّاعِرِ وَلَا
عَيْبَ فِينَا غَيْرَ عُرْفٍ لِمَعْشَر ٍ كِرَامٍ وَأَنّا لَا نَخُطّ
عَلَى النّمْلِ
وَرَوَى الْخَلّالُ أَنّ الشّفَاءَ بِنْتَ عَبْدِ
اللّهِ كَانَتْ تَرْقِي فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ النّمْلَةِ فَلَمّا
هَاجَرَتْ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَتْ قَدْ
بَايَعَتْهُ بِمَكّةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي كُنْت أَرْقِي فِي
الْجَاهِلِيّةِ مِنْ النّمْلَةِ وَإِنّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَهَا عَلَيْك
فَعُرِضَتْ عَلَيْهِ فَقَالَتْ بِسْمِ اللّهِ ضَلّتْ حَتّى تَعُودَ مِنْ
أَفْوَاهِهَا وَلَا تَضُرّ أَحَدًا اللّهُمّ اكْشِفْ الْبَأْسَ رَبّ
النّاسِ قَالَ تَرْقِي بِهَا عَلَى عُودٍ سَبْعَ مَرّاتٍ وَتَقْصِدُ
مَكَانًا نَظِيفًا [ ص 170 ]
[ جَوَازُ تَعْلِيمِ النّسَاءِ الْكِتَابَةَ ]
وَتَدْلُكُهُ
عَلَى حَجَرٍ بِخَلّ خَمْرٍ حَاذِقٍ وَتَطْلِيهِ عَلَى النّمْلَةِ . وَفِي
الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيمِ النّسَاءِ الْكِتَابَةَ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رُقْيَةِ الْحَيّةِ
قَدْ
تَقَدّمَ قَوْلُهُ لَا رُقْيَةَ إلّا فِي عَيْنٍ أَوْ حُمَة الْحُمَةُ
بِضَمّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِهَا . وَفِي " سُنَنِ ابْنِ
مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ : رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّقْيَةِ مِنْ الْحَيّةِ وَالْعَقْرَبِ .
وَيُذْكَرُ عَنْ ٍ ابْنِ شِهَاب الزّهْرِيّ قَالَ لَدَغَ بَعْضَ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيّةٌ فَقَالَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " هَلْ مِنْ رَاقٍ ؟ " فَقَالُوا : يَا
رَسُولَ اللّهِ إنّ آلَ حَزْمٍ كَانُوا يَرْقُونَ رُقْيَةَ الْحَيّةِ
فَلَمّا نَهَيْتَ عَنْ الرّقَى تَرَكُوهَا فَقَالَ " اُدْعُوا عِمَارَةَ
بْنَ حَزْمٍ " فَدَعَوْهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ رُقَاهُ فَقَالَ " لَا بَأْسَ
بِهَا " فَأَذِنَ لَهُ فِيهَا فَرَقَاهُ
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رُقْيَةِ الْقَرْحَةِ وَالْجُرْحِ
أَخْرَجَا
فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ أَوْ كَانَتْ بِهِ
قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ قَالَ بِأُصْبُعِهِ هَكَذَا وَوَضَعَ سُفْيَانُ
سَبّابَتَهُ بِالْأَرْضِ ثُمّ رَفَعَهَا وَقَالَ " بِسْمِ اللّهِ تُرْبَةُ
أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبّنَا [ ص
171 ]
[ عِلّةُ اسْتِعْمَالِ التّرَابِ فِي هَذِهِ الرّقْيَةِ ]
هَذَا
مِنْ الْعِلَاجِ الْمُيَسّرِ النّافِعِ الْمُرَكّبِ وَهِيَ مُعَالَجَةٌ
لَطِيفَةٌ يُعَالَجُ بِهَا الْقُرُوحُ وَالْجِرَاحَاتُ الطّرِيّةُ لَا
سِيّمَا عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهَا مِنْ الْأَدْوِيَةِ إذْ كَانَتْ
مَوْجُودَةً بِكُلّ أَرْضٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنّ طَبِيعَةَ التّرَابِ
الْخَالِصِ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ مُجَفّفَةٌ لِرُطُوبَاتِ الْقُرُوحِ
وَالْجِرَاحَاتِ الّتِي تَمْنَعُ الطّبِيعَةُ مِنْ جَوْدَةِ فِعْلِهَا
وَسُرْعَةِ انْدِمَالِهَا لَا سِيّمَا فِي الْبِلَادِ الْحَارّةِ
وَأَصْحَابِ الْأَمْزِجَةِ الْحَارّةِ فَإِنّ الْقُرُوحَ وَالْجِرَاحَاتِ
يَتْبَعُهَا فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ سُوءُ مِزَاجٍ حَارّ فَيَجْتَمِعُ
حَرَارَةُ الْبَلَدِ وَالْمِزَاجُ وَالْجِرَاحُ وَطَبِيعَةُ التّرَابِ
الْخَالِصِ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ أَشَدّ مِنْ بُرُودَةِ جَمِيعِ
الْأَدْوِيَةِ الْمُفْرَدَةِ الْبَارِدَةِ فَتُقَابِلُ بُرُودَةَ
التّرَابِ حَرَارَةُ الْمَرَضِ لَا سِيّمَا إنْ كَانَ التّرَابُ قَدْ
غُسِلَ وَجُفّفَ وَيَتْبَعُهَا أَيْضًا كَثْرَةُ الرّطُوبَاتِ الرّدِيئَةِ
وَالسّيَلَانُ وَالتّرَابُ مُجَفّفٌ لَهَا مُزِيلٌ لِشِدّةِ يُبْسِهِ
وَتَجْفِيفِهِ لِلرّطُوبَةِ الرّدِيئَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ بَرْئِهَا
وَيَحْصُلُ بِهِ - مَعَ ذَلِكَ - تَعْدِيلُ مِزَاجِ الْعُضْوِ الْعَلِيلِ
وَمَتَى اعْتَدَلَ مِزَاجُ الْعُضْوِ قَوِيَتْ قُوَاهُ الْمُدَبّرَةُ
وَدَفَعَتْ عَنْهُ الْأَلَمَ بِإِذْنِ اللّهِ .
[ كَيْفِيّةُ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الرّقْيَةِ ]
وَمَعْنَى
الْحَدِيثِ أَنّهُ يَأْخُذُ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى أُصْبُعِهِ
السّبّابَةِ ثُمّ يَضَعُهَا عَلَى التّرَابِ فَيَعْلَقُ بِهَا مِنْهُ
شَيْءٌ فَيَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْجُرْحِ وَيَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ لِمَا
فِيهِ مِنْ بَرَكَةِ ذِكْرِ اسْمِ اللّهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ
وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ فَيَنْضَمّ أَحَدُ الْعِلَاجَيْنِ إلَى الْآخَرِ
فَيَقْوَى التّأْثِيرُ .
[ هَلْ الْمَقْصُودُ بِاسْتِعْمَالِ التّرَابِ تُرْبَةُ جَمِيعِ الْأَرْضِ أَوْ أَرْضُ الْمَدِينَةِ ]
وَهَلْ
الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " تُرْبَةُ أَرْضِنَا " جَمِيعُ الْأَرْضِ أَوْ
أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصّةً ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَلَا رَيْبَ أَنّ مِنْ
التّرْبَةِ مَا تَكُونُ فِيهِ خَاصّيّةٌ يَنْفَعُ بِخَاصّيّتِهِ مِنْ
أَدْوَاءٍ كَثِيرَةٍ [ ص 172 ] قَالَ جَالِينُوسُ : رَأَيْت
بِالْإِسْكَنْدَرِيّةِ مَطْحُولِينَ وَمُسْتَسْقِينَ كَثِيرًا
يَسْتَعْمِلُونَ طِينَ مِصْرَ وَيَطْلُونَ بِهِ عَلَى سُوقِهِمْ
وَأَفْخَاذِهِمْ وَسَوَاعِدِهِمْ وَظُهُورِهِمْ وَأَضْلَاعِهِمْ
فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ مَنْفَعَةً بَيّنَةً . قَالَ وَعَلَى هَذَا النّحْوِ
فَقَدْ يَنْفَعُ هَذَا الطّلَاءُ لِلْأَوْرَامِ الْعَفِنَةِ
وَالْمُتَرَهّلَةِ الرّخْوَةِ قَالَ وَإِنّي لَأَعْرِفُ قَوْمًا
تَرَهّلَتْ أَبْدَانُهُمْ كُلّهَا مِنْ كَثْرَةِ اسْتِفْرَاغِ الدّمِ مِنْ
أَسْفَلِ انْتَفَعُوا بِهَذَا الطّينِ نَفْعًا بَيّنًا وَقَوْمًا آخَرِينَ
شَفَوْا بِهِ أَوْجَاعًا مُزْمِنَةً كَانَتْ مُتَمَكّنَةً فِي بَعْضِ
الْأَعْضَاءِ تَمَكّنًا شَدِيدًا فَبَرَأَتْ وَذَهَبَتْ أَصْلًا . وَقَالَ
صَاحِبُ الْكِتَابِ الْمَسِيحِيّ قُوّةُ الطّينِ الْمَجْلُوبِ مِنْ
كُنُوسَ - وَهِيَ جَزِيرَةُ المصطكى - قُوّةٌ تَجْلُو وَتَغْسِلُ
وَتُنْبِتُ اللّحْمَ فِي الْقُرُوحِ وَتَخْتِمُ الْقُرُوحَ . انْتَهَى .
وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي هَذِهِ التّرُبَاتِ فَمَا الظّنّ بِأَطْيَبِ
تُرْبَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَأَبْرَكِهَا وَقَدْ خَالَطَتْ رِيقَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَارَنَتْ رُقْيَتَهُ
بِاسْمِ رَبّهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ قُوَى
الرّقْيَةِ وَتَأْثِيرَهَا بِحَسَبِ الرّاقِي وَانْفِعَالِ الْمَرْقِيّ
عَنْ رُقْيَتِهِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ طَبِيبٌ فَاضِلٌ عَاقِلٌ
مُسْلِمٌ فَإِنْ انْتَفَى أَحَدُ الْأَوْصَافِ فَلْيَقُلْ مَا شَاءَ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْوَجَعِ بِالرّقْيَةِ
رَوَى
مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ أَنّهُ
شَكَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَعًا
يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ " ضَعْ يَدَكَ عَلَى الّذِي تَأَلّمَ مِنْ جَسَدِكَ
وَقُلْ بِسْمِ اللّهِ ثَلَاثًا وَقُلْ سَبْعَ مَرّاتٍ أَعُوذُ بِعِزّةِ
اللّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ فَفِي هَذَا
الْعِلَاجِ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ وَالتّفْوِيضِ إلَيْهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ
بِعِزّتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرّ الْأَلَمِ مَا يَذْهَبُ بِهِ
وَتَكْرَارُهُ لِيَكُونَ أَنْجَعَ وَأَبْلَغَ كَتَكْرَارِ الدّوَاءِ
لِأَخْرَاجِ الْمَادّةِ وَفِي السّبْعِ خَاصّيّةٌ لَا تُوجَدُ فِي
غَيْرِهَا وَفِي [ ص 173 ] الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُعَوّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ
الْيُمْنَى وَيَقُولُ " اللّهُمّ رَبّ النّاسِ أَذْهِبْ الْبَاسَ وَاشْفِ
أَنْتَ الشّافِي لَا شِفَاءَ إلّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا
فَفِي هَذِهِ الرّقْيَةِ تَوَسّلٌ إلَى اللّهِ بِكَمَالِ رُبُوبِيّتِهِ
وَكَمَالِ رَحْمَتِهِ بِالشّفَاءِ وَأَنّهُ وَحْدَهُ الشّافِي وَأَنّهُ
لَا شِفَاءَ إلّا شِفَاؤُهُ فَتَضَمّنَتْ التّوَسّلَ إلَيْهِ
بِتَوْحِيدِهِ وَإِحْسَانِهِ وَرُبُوبِيّتِهِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ حَرّ الْمُصِيبَةِ وَحُزْنِهَا
قَالَ
تَعَالَى : { وَبَشّرِ الصّابِرِينَ الّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ } [ الْبَقَرَةُ 155 ] . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ تُصِيبُهُ
مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ إنّا لِلّهِ وَإِنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ اللّهُمّ
أْجُرْني فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إلّا أَجَارَهُ
اللّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا
[ إذَا تَحَقّقَ الْعَبْدُ بِأَنّهُ لِلّهِ وَأَنّ مَصِيرَهُ إلَيْهِ تَسَلّى عَنْ مُصِيبَتِهِ ]
وَهَذِهِ
الْكَلِمَةُ مِنْ أَبْلَغِ عِلَاجِ الْمُصَابِ وَأَنْفَعِهِ لَهُ فِي
عَاجِلَتِهِ وَآجِلَتِهِ فَإِنّهَا تَتَضَمّنُ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ
إذَا تَحَقّقَ الْعَبْدُ بِمَعْرِفَتِهِمَا تَسَلّى عَنْ مُصِيبَتِهِ .
أَحَدُهُمَا : أَنّ الْعَبْدَ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ مِلْكٌ لِلّهِ عَزّ
وَجَلّ حَقِيقَةً وَقَدْ جَعَلَهُ عِنْدَ الْعَبْدِ عَارِيَةً فَإِذَا
أَخَذَهُ مِنْهُ فَهُوَ كَالْمُعِيرِ يَأْخُذُ مَتَاعَهُ مِنْ
الْمُسْتَعِيرِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ مَحْفُوفٌ بِعَدَمَيْنِ عَدَمٍ
قَبْلَهُ وَعَدَمٍ بَعْدَهُ وَمِلْكُ الْعَبْدِ لَهُ مُتْعَةٌ مُعَارَةٌ
فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ وَأَيْضًا فَإِنّهُ لَيْسَ الّذِي أَوْجَدَهُ عَنْ
عَدَمِهِ حَتّى يَكُونَ مِلْكُهُ حَقِيقَةً وَلَا هُوَ [ ص 174 ]
وَالثّانِي : أَنّ مَصِيرَ الْعَبْدِ وَمَرْجِعَهُ إلَى اللّهِ مَوْلَاهُ
الْحَقّ وَلَا بُدّ أَنْ يُخَلّفَ الدّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَيَجِيءَ
رَبّهُ فَرْدًا كَمَا خَلَقَهُ أَوّلَ مَرّةٍ بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ
وَلَا عَشِيرَةٍ وَلَكِنْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ فَإِذَا كَانَتْ
هَذِهِ بِدَايَةَ الْعَبْدِ وَمَا خُوّلَهُ وَنِهَايَتَهُ فَكَيْفَ
يَفْرَحُ بِمَوْجُودٍ أَوْ يَأْسَى عَلَى مَفْقُودٍ فَفِكْرُهُ فِي
مَبْدَئِهِ وَمَعَادِهِ مِنْ أَعْظَمِ عِلَاجِ هَذَا الدّاءِ وَمِنْ
عِلَاجِهِ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنّ مَا أَصَابَهُ لَمْ
يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ . قَالَ
تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي
أَنْفُسِكُمْ إِلّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنّ ذَلِكَ
عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا
تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّهُ لَا يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ }
[ الْحَدِيدُ 22 ] .
[ ذِكْرُ بَعْضِ الْعِلَاجَاتِ مِنْهَا النّظَرُ إلَى مَا أَبْقَى اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ النّعَمِ ]
وَمِنْ
عِلَاجِهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا أُصِيبَ بِهِ فَيَجِدُ رَبّهُ قَدْ
أَبْقَى عَلَيْهِ مِثْلَهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ وَادّخَرَ لَهُ - إنْ
صَبَرَ وَرَضِيَ - مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ فَوَاتِ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ
بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ وَأَنّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهَا أَعْظَمَ مِمّا
هِيَ .
[ التّأَسّي بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ وَذِكْرُ قِصَصٍ فِي ذَلِكَ ]
وَمِنْ
عِلَاجِهِ أَنْ يُطْفِئَ نَارَ مُصِيبَتِهِ بِبَرْدِ التّأَسّي بِأَهْلِ
الْمَصَائِبِ وَلِيَعْلَمَ أَنّهُ فِي كُلّ وَادٍ بَنُو سَعْدٍ
وَلْيَنْظُرْ يَمْنَةً فَهَلْ يَرَى إلّا مِحْنَةً ؟ ثُمّ لِيَعْطِفْ
يَسْرَةً فَهَلْ يَرَى إلّا حَسْرَةً ؟ وَأَنّهُ لَوْ فَتّشَ الْعَالَمَ
لَمْ يَرَ فِيهِمْ إلّا مُبْتَلًى إمّا بِفَوَاتِ مَحْبُوبٍ أَوْ حُصُولِ
مَكْرُوهٍ وَأَنّ شُرُورَ الدّنْيَا أَحْلَامُ نُوّمٍ أَوْ كَظِلّ زَائِلٍ
إنْ أَضْحَكَتْ قَلِيلًا أَبْكَتْ كَثِيرًا وَإِنْ سَرّتْ يَوْمًا سَاءَتْ
دَهْرًا وَإِنْ مَتّعَتْ قَلِيلًا [ ص 175 ] خِيرَةً إلّا مَلَأَتْهَا
عَبْرَةً وَلَا سَرّتْهُ بِيَوْمِ سُرُورٍ إلّا خَبّأَتْ لَهُ يَوْمَ
شُرُورٍ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - لِكُلّ فَرْحَةٍ
تِرْحَةٌ وَمَا مُلِئَ بَيْتٌ فَرَحًا إلّا مُلِئَ تَرَحًا وَقَالَ ابْنُ
سِيرِينَ : مَا كَانَ ضَحِكٌ قَطّ إلّا كَانَ مِنْ بَعْدِهِ بُكَاءٌ
وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ النّعْمَانِ : لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ مِنْ
أَعَزّ النّاسِ وَأَشَدّهِمْ مُلْكًا ثُمّ لَمْ تَغِبِ الشّمْسُ حَتّى
رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ أَقَلّ النّاسِ وَأَنّهُ حَقّ عَلَى اللّهِ أَلّا
يَمْلَأَ دَارًا خِيرَةً إلّا مَلَأَهَا عَبْرَةً . وَسَأَلَهَا رَجُلٌ
أَنْ تُحَدّثَهُ عَنْ أَمْرِهَا فَقَالَتْ أَصْبَحْنَا ذَا صَبَاحٍ وَمَا
فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ إلّا يَرْجُونَا ثُمّ أَمْسَيْنَا وَمَا فِي
الْعَرَبِ أَحَدٌ إلّا يَرْحَمُنَا وَبَكَتْ أُخْتُهَا حُرْقَةُ بِنْتُ
النّعْمَانِ يَوْمًا وَهِيَ فِي عِزّهَا فَقِيلَ لَهَا : مَا يُبْكِيك
لَعَلّ أَحَدًا آذَاك ؟ قَالَتْ لَاُ وَلَكِنْ رَأَيْتُ غَضَارَةً فِي
أَهْلِي وَقَلّمَا امْتَلَأَتْ دَارٌ سُرُورًا إلّا امْتَلَأَتْ حُزْنًا .
قَالَ إسْحَاقُ بْنُ طَلْحَةَ : دَخَلْتُ عَلَيْهَا يَوْمًا فَقُلْتُ
لَهَا : كَيْفَ رَأَيْتِ عَبَرَاتِ الْمُلُوكِ ؟ فَقَالَتْ مَا نَحْنُ
فِيهِ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِمّا كُنّا فِيهِ الْأَمْسَ إنّا نَجِدُ فِي
الْكُتُبِ أَنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَعِيشُونَ فِي خِيرَةٍ إلّا
سَيُعْقَبُونَ بَعْدَهَا عِبْرَةً وَأَنّ الدّهْرَ لَمْ يَظْهَرْ لِقَوْمٍ
بِيَوْمٍ يُحِبّونَهُ إلّا بَطَنَ لَهُمْ بِيَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ ثُمّ
قَالَتْ فَبَيْنَا نَسُوسُ النّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا إذَا نَحْنُ
فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصّفُ
فَأُفّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا تَقَلّبُ تَارَاتٍ بِنَا وتَصَرّفُ
[ ص 176 ]
[ الْجَزَعُ يُضَاعِفُ الْمَرَضَ ]
وَمِنْ
عِلَاجِهَا أَنْ يُعْلَمَ أَنّ الْجَزَعَ لَا يَرُدّهَا بَلْ يُضَاعِفُهَا
وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ تَزَايُدِ الْمَرَضِ .
[ فَوْتُ ثَوَابِ الصّبْرِ أَعْظَمُ مِنْ الْمُصِيبَةِ ]
وَمِنْ
عِلَاجِهَا أَنْ يُعْلَمَ أَنّ فَوْتَ ثَوَابِ الصّبْرِ وَالتّسْلِيمَ
وَهُوَ الصّلَاةُ وَالرّحْمَةُ وَالْهِدَايَةُ الّتِي ضَمِنَهَا اللّهُ
عَلَى الصّبْرِ وَالِاسْتِرْجَاعِ أَعْظَمُ مِنْ الْمُصِيبَةِ فِي
الْحَقِيقَةِ .
[ الْجَزَعُ يُشْمِتُ الْأَعْدَاءَ ]
وَمِنْ
عِلَاجِهَا أَنْ يُعْلَمَ أَنّ الْجَزَعَ يُشْمِتُ عَدُوّهُ وَيَسُوءُ
صَدِيقَهُ وَيُغْضِبُ رَبّهُ وَيَسُرّ شَيْطَانَهُ وَيُحْبِطُ أَجْرَهُ
وَيُضْعِفُ نَفْسَهُ وَإِذَا صَبَرَ وَاحْتَسَبَ أَنْضَى شَيْطَانَهُ
وَرَدّهُ خَاسِئًا وَأَرْضَى رَبّهُ وَسَرّ صَدِيقَهُ وَسَاءَ عَدُوّهُ
وَحَمَلَ عَنْ إخْوَانِهِ وَعَزّاهُمْ هُوَ قَبْلَ أَنْ يُعَزّوهُ فَهَذَا
هُوَ الثّبَاتُ وَالْكَمَالُ الْأَعْظَمُ لَا لَطْمُ الْخُدُودِ وَشَقّ
الْجُيُوبِ وَالدّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثّبُورِ وَالسّخْطُ عَلَى
الْمَقْدُورِ .
[ لَذّةَ الصّبْرِ وَمِنْهَا بَيْتُ الْحَمْدِ ]
وَمِنْ
عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّ مَا يُعْقِبُهُ الصّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ
مِنْ اللّذّةِ وَالْمَسَرّةِ أَضْعَافُ مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ بِبَقَاءِ
مَا أُصِيبَ بِهِ لَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ وَيَكْفِيهِ مِنْ ذَلِكَ بَيْتُ
الْحَمْدِ الّذِي يُبْنَى لَهُ فِي الْجَنّةِ عَلَى حَمْدِهِ لِرَبّهِ
وَاسْتِرْجَاعِهِ فَلْيَنْظُرْ أَيّ الْمُصِيبَتَيْنِ أَعْظَمُ ؟ :
مُصِيبَةُ الْعَاجِلَةِ أَوْ مُصِيبَةُ فَوَاتِ بَيْتِ الْحَمْدِ فِي
جَنّةِ الْخُلْدِ . وَفِي التّرْمِذِيّ مَرْفُوعًا : يَوَدّ نَاسٌ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَنّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بالَمَقَارِيضِ فِي
الدّنْيَا لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاء وَقَالَ بَعْضُ
السّلَفِ لَوْلَا مَصَائِبُ الدّنْيَا لَوَرَدْنَا الْقِيَامَ مَفَالِيسَ .
[ تَرْوِيحُ الْقَلْبِ بِرَجَاءِ الْخَلَفِ مِنْ اللّهِ ]
وَمِنْ
عِلَاجِهَا : أَنْ يُرَوّحَ قَلْبَهُ بِرُوحِ رَجَاءِ الْخَلَفِ مِنْ
اللّهِ فَإِنّهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ عِوَضٌ إلّا اللّهُ فَمَا مِنْهُ عِوَضٌ
كَمَا قِيلَ [ ص 177 ] مِنْ كُلّ شَيْءٍ إذَا ضَيّعْتَهُ عِوَضٌ وَمَا
مِنْ اللّهِ إنْ ضَيّعْتَهُ عِوَضُ
[ الْحَظّ مِنْ الْمُصِيبَةِ مَا تُحْدِثُهُ لَهُ ]
وَمِنْ
عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّ حَظّهُ مِنْ الْمُصِيبَةِ مَا تُحْدِثُهُ
لَهُ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرّضَى وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السّخْطُ فَحَظّك
مِنْهَا مَا أَحْدَثَتْهُ لَك فَاخْتَرْ خَيْرَ الْحُظُوظِ أَوْ شَرّهَا
فَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ سُخْطًا وَكُفْرًا كُتِبَ فِي دِيوَانِ
الْهَالِكِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ جَزَعًا وَتَفْرِيطًا فِي تَرْكِ
وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرّمٍ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمُفَرّطِينَ وَإِنْ
أَحْدَثَتْ لَهُ شِكَايَةً وَعَدَمَ صَبْرٍ كُتِبَ فِي دِيوَانِ
الْمَغْبُونِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ اعْتِرَاضًا عَلَى اللّهِ
وَقَدْحًا فِي حِكْمَتِهِ فَقَدْ قَرَعَ بَابَ الزّنْدَقَةِ أَوْ وَلَجَهُ
وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ صَبْرًا وَثَبَاتًا لِلّهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ
الصّابِرِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ الرّضَى عَنْ اللّهِ كُتِبَ فِي
دِيوَانِ الرّاضِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ الْحَمْدَ وَالشّكْرَ كُتِبَ
فِي دِيوَانِ الشّاكِرِينَ وَكَانَ تَحْتَ لِوَاءِ الْحَمْدِ مَعَ
الْحَمّادِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ مَحَبّةً وَاشْتِيَاقًا إلَى
لِقَاءِ رَبّهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمُحِبّينَ الْمُخْلِصِينَ . وَفِي
مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَالتّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ
بْنِ لَبِيدٍ يَرْفَعُهُ إنّ اللّهَ إذَا أَحَبّ قَوْمًا ا بْتَلَاهُمُ
فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرّضَى وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السّخْط زَادَ
أَحْمَدُ : وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَع وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ
يَعْلَمَ أَنّهُ وَإِنْ بَلَغَ فِي الْجَزَعِ غَايَتَهُ فَآخِرُ أَمْرِهِ
إلَى صَبْرِ الِاضْطِرَارِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْمُودٍ وَلَا مُثَابٍ قَالَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْعَاقِلُ يَفْعَلُ فِي أَوّلِ يَوْمٍ مِنْ
الْمُصِيبَةِ مَا يَفْعَلُهُ الْجَاهِلُ بَعْدَ أَيّامٍ وَمَنْ لَمْ
يَصْبِرْ صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سَلْوَ الْبَهَائِمِ . وَفِي "
الصّحِيحِ " مَرْفُوعًا : الصَبْرُ عِنْدَ الصّدْمَةِ الْأُولَى وَقَالَ [
ص 178 ] الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ : إنّك إنْ صَبَرْت إيمَانًا
وَاحْتِسَابًا وَإِلّا سَلَوْتَ سُلُوّ الْبَهَائِمِ
[أَنْفَعُ الْأَدْوِيَةِ مُوَافَقَةُ اللّهِ فِيمَا أَحَبّهُ ]
وَمِنْ
عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّ أَنْفَعَ الْأَدْوِيَةِ لَهُ مُوَافَقَةُ
رَبّهِ وَإِلَهِهِ فِيمَا أَحَبّهُ وَرَضِيَهُ لَهُ وَأَنّ خَاصّيّةَ
الْمَحَبّةِ وَسِرّهَا مُوَافَقَةُ الْمَحْبُوبِ فَمَنْ ادّعَى مَحَبّةَ
مَحْبُوبٍ ثُمّ سَخِطَ مَا يُحِبّهُ وَأَحَبّ مَا يَسْخَطُهُ فَقَدْ
شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذِبِهِ وَتَمَقّتَ إلَى مَحْبُوبِهِ . وَقَالَ
أَبُو الدّرْدَاءِ : إنّ اللّهَ إذَا قَضَى قَضَاءً أَحَبّ أَنْ يُرْضَى
بِهِ وَكَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ يَقُولُ فِي عِلّتِهِ أَحَبّهُ
إلَيّ أَحَبّهُ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَهَذَا
دَوَاءٌ وَعِلَاجٌ لَا يَعْمَلُ إلّا مَعَ الْمُحِبّينَ وَلَا يُمْكِنُ
كُلّ أَحَدٍ أَنْ يَتَعَالَجَ بِهِ .
[ لَذّةُ التّمَتّعِ بِثَوَابِ اللّهِ أَعْظَمُ مِنْ لَذّةِ التّمَتّعِ بِمَا أُصِيبَ بِهِ ]
وَمِنْ
عِلَاجِهَا : أَنْ يُوَازِنَ بَيْنَ أَعْظَمِ اللّذّتَيْنِ
وَالْمُتْعَتَيْنِ وَأَدْوَمِهِمَا : لَذّةِ تَمَتّعِهِ بِمَا أُصِيبَ
بِهِ وَلَذّةِ تَمَتّعِهِ بِثَوَابِ اللّهِ لَهُ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ
الرّجْحَانُ فَآثَرَ الرّاجِحَ فَلْيَحْمَدْ اللّهَ عَلَى تَوْفِيقِهِ
وَإِنْ آثَرَ الْمَرْجُوحَ مِنْ كُلّ وَجْهٍ فَلْيَعْلَمْ أَنّ
مُصِيبَتَهُ فِي عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَدِينِهِ أَعْظَمُ مِنْ مُصِيبَتِهِ
الّتِي أُصِيبَ بِهَا فِي دُنْيَاهُ .
[ ابْتِلَاءُ اللّهِ الْعَبْدَ لِامْتِحَانِ صَبْرِهِ ]
وَمِنْ
عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنّ الّذِي ابْتَلَاهُ بِهَا أَحْكَمُ
الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرّاحِمِينَ وَأَنّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ
يُرْسِلْ إلَيْهِ الْبَلَاءَ لِيُهْلِكَهُ بِهِ وَلَا لِيُعَذّبَهُ بِهِ
وَلَا لِيَجْتَاحَهُ وَإِنّمَا افْتَقَدَهُ بِهِ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ
وَرِضَاهُ عَنْهُ وَإِيمَانَهُ وَلِيَسْمَعَ تَضَرّعَهُ وَابْتِهَالَهُ
وَلِيَرَاهُ طَرِيحًا بِبَابِهِ لَائِذًا بِجَنَابِهِ مَكْسُورَ الْقَلْبِ
بَيْنَ يَدَيْهِ رَافِعًا قِصَصَ الشّكْوَى إلَيْهِ . قَالَ الشّيْخُ
عَبْدُ الْقَادِرِ : يَا بُنَيّ إنّ الْمُصِيبَةَ مَا جَاءَتْ لِتُهْلِكَك
وَإِنّمَا جَاءَتْ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَك وَإِيمَانَك يَا بُنَيّ الْقَدَرُ
سَبُعٌ وَالسّبُعُ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ
الْمُصِيبَةَ كِيرُ الْعَبْدِ الّذِي يُسْبَكُ بِهِ حَاصِلُهُ فَإِمّا
أَنْ يَخْرُجَ [ ص 179 ] أَحْمَرَ وَإِمّا أَنْ يَخْرُجَ خَبَثًا كُلّهُ
كَمَا قِيلَ سَبَكْنَاهُ وَنَحْسِبُهُ لُجَيْنَا فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ
خَبَثِ الْحَدِيدِ
فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ هَذَا الْكِيرُ فِي
الدّنْيَا فَبَيْنَ يَدَيْهِ الْكِيرُ الْأَعْظَمُ فَإِذَا عَلِمَ
الْعَبْدُ أَنّ إدْخَالَهُ كِيرَ الدّنْيَا وَمَسْبَكَهَا خَيْرٌ لَهُ
مِنْ ذَلِكَ الْكِيرِ وَالْمَسْبَكِ وَأَنّهُ لَا بُدّ مِنْ أَحَدِ
الْكِيرَيْنِ فَلْيَعْلَمْ قَدْرَ نِعْمَةِ اللّهِ عَلَيْهِ فِي الْكِيرِ
الْعَاجِلِ .
[ الْمُصِيبَةُ كَاسِرَةٌ لِدَاءِ الْكِبْرِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ ]
وَمِنْ
عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّهُ لَوْلَا مِحَنُ الدّنْيَا
وَمَصَائِبُهَا لَأَصَابَ الْعَبْدَ - مِنْ أَدْوَاءِ الْكِبْرِ
وَالْعُجْبِ وَالْفَرْعَنَةِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ - مَا هُوَ سَبَبُ
هَلَاكِهِ عَاجِلًا وَآجِلًا فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرّاحِمِينَ أَنْ
يَتَفَقّدَهُ فِي الْأَحْيَانِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ أَدْوِيَةِ الْمَصَائِبِ
تَكُونُ حَمِيّةً لَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَدْوَاءِ وَحِفْظًا لِصِحّةِ
عُبُودِيّتِهِ وَاسْتِفْرَاغًا لِلْمَوَادّ الْفَاسِدَةِ الرّدِيئَةِ
الْمُهْلِكَةِ مِنْهُ فَسُبْحَانَ مَنْ يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ وَيَبْتَلِي
بِنَعْمَائِهِ كَمَا قِيلَ قَدْ يُنْعِمُ بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ
وَيَبْتَلِي اللّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنّعَمِ
فَلَوْلَا أَنّهُ -
سُبْحَانَهُ - يُدَاوِي عِبَادَهُ بِأَدْوِيَةِ الْمِحَنِ وَالِابْتِلَاءِ
لَطَغَوْا وَبَغَوْا وَعَتَوْا وَاَللّهُ - سُبْحَانَهُ - إذَا أَرَادَ
بِعَبْدٍ خَيْرًا سَقَاهُ دَوَاءً مِنْ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ
عَلَى قَدْرِ حَالِهِ يَسْتَفْرِغُ بِهِ مِنْ الْأَدْوَاءِ الْمُهْلِكَةِ
حَتّى إذَا هَذّبَهُ وَنَقّاهُ وَصَفّاهُ أَهّلَهُ لِأَشْرَفِ مَرَاتِبِ
الدّنْيَا وَهِيَ عُبُودِيّتُهُ وَأَرْفَعِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ
رُؤْيَتُهُ وَقُرْبُهُ .
[ مَرَارَةُ الدّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ ]
وَمِنْ
عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّ مَرَارَةَ الدّنْيَا هِيَ بِعَيْنِهَا
حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ يَقْلِبُهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ
وَحَلَاوَةَ الدّنْيَا بِعَيْنِهَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ وَلَأَنْ
يَنْتَقِلَ مِنْ مَرَارَةٍ مُنْقَطِعَةٍ إلَى حَلَاوَةٍ دَائِمَةٍ خَيْرٌ
لَهُ مِنْ عَكْسِ ذَلِكَ فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْك هَذَا فَانْظُرْ إلَى
قَوْلِ الصّادِقِ الْمَصْدُوقِ حُفّتْ الْجَنّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفّتْ
النّارُ بِالشّهَوَاتِ وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَفَاوَتَتْ عُقُولُ
الْخَلَائِقِ وَظَهَرَتْ حَقَائِقُ الرّجَالِ فَأَكْثَرُهُمْ [ ص 180 ]
آثَرَ الْحَلَاوَةَ الْمُنْقَطِعَةَ عَلَى الْحَلَاوَةِ الدّائِمَةِ
الّتِي لَا تَزُولُ وَلَمْ يَحْتَمِلْ مَرَارَةَ سَاعَةٍ لِحَلَاوَةِ
الْأَبَدِ وَلَا ذُلّ سَاعَةٍ لِعِزّ الْأَبَدِ وَلَا مِحْنَةَ سَاعَةٍ
لِعَافِيَةِ الْأَبَدِ فَإِنّ الْحَاضِرَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ
وَالْمُنْتَظَرَ غَيْبٌ وَالْإِيمَانُ ضَعِيفٌ وَسُلْطَانُ الشّهْوَةِ
حَاكِمٌ فَتَوَلّدَ مِنْ ذَلِكَ إيثَارُ الْعَاجِلَةِ وَرَفْضُ الْآخِرَةِ
وَهَذَا حَالُ النّظَرِ الْوَاقِعِ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ
وَأَوَائِلِهَا وَمَبَادِئِهَا وَأَمّا النّظَرُ الثّاقِبُ الّذِي
يَخْرِقُ حُجُبَ الْعَاجِلَةِ وَيُجَاوِزُهُ إلَى الْعَوَاقِبِ
وَالْغَايَاتِ فَلَهُ شَأْنٌ آخَرُ . فَادْعُ نَفْسَك إلَى مَا أَعَدّ
اللّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ مِنْ النّعِيمِ الْمُقِيمِ
وَالسّعَادَةِ الْأَبَدِيّةِ وَالْفَوْزِ الْأَكْبَرِ وَمَا أَعَدّ
لِأَهْلِ الْبِطَالَةِ وَالْإِضَاعَةِ مِنْ الْخِزْيِ وَالْعِقَابِ
وَالْحَسَرَاتِ الدّائِمَةِ ثُمّ اخْتَرْ أَيّ الْقِسْمَيْنِ أَلْيَقَ بِك
وَكُلّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ وَكُلّ أَحَدٍ يَصْبُو إلَى مَا
يُنَاسِبُهُ وَمَا هُوَ الْأَوْلَى بِهِ وَلَا تَسْتَطِلْ هَذَا
الْعِلَاجَ فَشِدّةُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مِنْ الطّبِيبِ وَالْعَلِيلِ
دَعَتْ إلَى بَسْطِهِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْكَرْبِ وَالْهَمّ وَالْغَمّ وَالْحَزَنِ
أَخْرَجَا
فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لَا إلَهَ
إلّا اللّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ رَبّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ رَبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَرَبّ
الْأَرْضِ رَبّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ وَفِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " عَنْ
أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا
حَزَبَهُ أَمْرٌ قَالَ " يَا حَيّ يَا قَيّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ
وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كَانَ إذَا أَهَمّهُ الْأَمْرُ رَفَعَ طَرْفَهُ إلَى [ ص 181 ]
فَقَالَ سُبْحَانَ اللّهِ الْعَظِيمِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فِي الدّعَاءِ
قَالَ يَا حَيّ يَا قَيّومُ وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ أَبِي
بَكْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ
دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللّهُمّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إلَى
نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّهُ لَا إلَهَ إلّا
أَنْتَ وَفِيهَا أَيْضًا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ قَالَ
لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا أُعَلّمُكَ
كَلِمَاتٍ تَقُولِيهِنّ عَنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ اللّهُ رَبّي
لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَفِي رِوَايَةٍ أَنّهَا تُقَالُ سَبْعَ
مَرّاتٍ . [ ص 182 ] مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَا أَصَابَ عَبْدًا
هَمّ وَلَا حُزْنٌ فَقَالَ : اللَهُمّ إنّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ
أَمَتِك نَاصِيَتِي بِيَدِك مَاضٍ فِيّ حُكْمُك عَدْلٌ فِيّ قَضَاؤُك
أَسْأَلُكَ بِكُلّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمّيْتَ بِهِ نَفْسَك أَوْ
أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِك أَوْ عَلّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك أَوْ
اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ
الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي
وَذَهَابَ هَمّي إلّا أَذْهَبَ اللّهُ حُزْنَهُ وَهَمّهُ وَأَبْدَلَهُ
مَكَانَهُ فَرَحًا وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعَوةُ ذِي
النّونِ إذْ دَعَا رَبّهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لَا إلَهَ إلّا
أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنّي كُنْت مِنْ الظّالِمِينَ لَمْ يَدْعُ بِهَا
رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطّ إلّا اُسْتُجِيبَ لَهُ وَفِي رِوَايَةٍ
إنّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا مَكْرُوبٌ إلّا فَرّجَ اللّهُ
عَنْهُ كَلِمَةَ أَخِي يُونُسَ وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الخُدْرِي قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ
الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ يَا أَبَا أُمَامَةَ
مَالِي أَرَاكَ فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصّلَاةِ ؟ " فَقَالَ
هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ " أَلَا
أُعَلّمُكَ كَلَامًا إذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ
هَمّكَ وَقَضَى دَيْنَكَ ؟ " قَالَ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ
" قُلْ إذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ
مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ
وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ
الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَالِ قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللّهُ
عَزّ وَجَلّ هَمّي وَقَضَى عَنّي دَيْنِي [ ص 183 ] وَفِي " سُنَنِ أَبِي
دَاوُدَ " عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللّهُ لَهُ مِنْ
كُلّ هَمّ فَرَجًا وَمِنْ كُلّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ
لَا يَحْتَسِبُ وَفِي " الْمُسْنَدِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّم كَانَ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إلَى الصّلَاةِ وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّلَاةِ } [ الْبَقَرَةُ 4ُ5
] . وَفِي " السّنَنِ عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ فَإِنّهُ بَابٌ مِنْ
أَبْوَابِ الْجَنّةِ يَدْفَعُ اللّهُ بِهِ عَنْ النّفُوسِ الْهَمّ
وَالْغَمّ وَيَذْكُرُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ كَثُرَتْ هُمُومُهُ وَغُمُومُهُ فَلْيُكْثِرْ مِنْ
قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ وَثَبَتَ فِي "
الصّحِيحَيْنِ " أَنّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنّةِ . [ ص 184 ]
التّرْمِذِيّ : " أَنّهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنّةِ " . هَذِهِ
الْأَدْوِيَةُ تَتَضَمّنُ خَمْسَةَ عَشَرَ نَوْعًا مِنْ الدّوَاءِ فَإِنْ
لَمْ تَقْوَ عَلَى إذْهَابِ دَاءِ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالْحُزْنِ فَهُوَ
دَاءٌ قَدْ اسْتَحْكَمَ وَتَمَكّنَتْ أَسْبَابُهُ وَيَحْتَاجُ إلَى
اسْتِفْرَاغٍ كُلّيّ . الْأَوّلُ تَوْحِيدُ الرّبُوبِيّةِ . الثّانِي :
تَوْحِيدُ الْإِلَهِيّةِ . الثّالِثُ التّوْحِيدُ الْعِلْمِيّ
الِاعْتِقَادِيّ . الرّابِعُ تَنْزِيهُ الرّبّ تَعَالَى عَنْ أَنْ
يَظْلِمَ عَبْدَهُ أَوْ يَأْخُذَهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ يُوجِبُ
ذَلِكَ . الْخَامِسُ اعْتِرَافُ الْعَبْدِ بِأَنّهُ هُوَ الظّالِمُ .
السّادِسُ التّوَسّلُ إلَى الرّبّ تَعَالَى بِأَحَبّ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ
أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ وَمِنْ أَجْمَعِهَا لِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ
وَالصّفَاتِ الْحَيّ الْقَيّومُ . السّابِعُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ
وَحْدَهُ . الثّامِنُ إقْرَارُ الْعَبْدِ لَهُ بِالرّجَاءِ . التّاسِعُ
تَحْقِيقُ التّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالتّفْوِيضِ إلَيْهِ وَالِاعْتِرَافِ
لَهُ بِأَنّ نَاصِيَتَهُ فِي يَدِهِ يَصْرِفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ وَأَنّهُ
مَاضٍ فِيهِ حُكْمُهُ عَدْلٌ فِيهِ قَضَاؤُهُ . الْعَاشِرُ أَنْ يَرْتَعَ
قَلْبُهُ فِي رِيَاضِ الْقُرْآنِ وَيَجْعَلَهُ لِقَلْبِهِ كَالرّبِيعِ
لِلْحَيَوَانِ وَأَنْ يَسْتَضِيءَ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الشّبُهَاتِ
وَالشّهَوَاتِ وَأَنْ يَتَسَلّى بِهِ عَنْ كُلّ فَائِتٍ وَيَتَعَزّى بِهِ
عَنْ كُلّ مُصِيبَةٍ وَيَسْتَشْفِي بِهِ مِنْ أَدْوَاءِ صَدْرِهِ
فَيَكُونَ جَلَاءَ حُزْنِهِ وَشِفَاءَ هَمّهِ وَغَمّهِ . الْحَادِيَ
عَشَرَ الِاسْتِغْفَارُ . [ ص 185 ] عَشَرَ التّوْبَةُ . الثّالِثَ عَشَرَ
الْجِهَادُ . الرّابِعَ عَشَرَ الصّلَاةُ . الْخَامِسَ عَشَرَ
الْبَرَاءَةُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوّةِ وَتَفْوِيضِهِمَا إلَى مَنْ
هُمَا بِيَدِهِ .
فَصْلٌ فِي بَيَانِ جِهَةِ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأَدْوِيَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْرَاضِ
خَلَقَ
اللّهُ - سُبْحَانَهُ - ابْنَ آدَمَ وَأَعْضَاءَهُ وَجَعَلَ لِكُلّ عُضْوٍ
مِنْهَا كَمَالًا إذَا فَقَدَهُ أَحَسّ بِالْأَلَمِ وَجَعَلَ لِمَلِكِهَا
وَهُوَ الْقَلْبُ كَمَالًا إذَا فَقَدَهُ حَضَرَتْهُ أَسْقَامُهُ
وَآلَامُهُ مِنْ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ . فَإِذَا
فَقَدَتْ الْعَيْنُ مَا خُلِقَتْ لَهُ مِنْ قُوّةِ الْإِبْصَارِ
وَفَقَدَتْ الْأُذُنُ مَا خُلِقَتْ لَهُ مِنْ قُوّةِ السّمْعِ وَاللّسَانُ
مَا خُلِقَ لَهُ مِنْ قُوّةِ الْكَلَامِ فَقَدَتْ كَمَالَهَا .
[ وَظِيفَةُ الْقَلْبِ ]
وَالْقَلْبُ
خُلِقَ لِمَعْرِفَةِ فَاطِرِهِ وَمَحَبّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالسّرُورِ
بِهِ وَالِابْتِهَاجِ بِحُبّهِ وَالرّضَى عَنْهُ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ
وَالْحُبّ فِيهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ وَالْمُوَالَاةِ فِيهِ وَالْمُعَادَاةِ
فِيهِ وَدَوَامِ ذِكْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ كُلّ مَا
سِوَاهُ وَأَرْجَى عِنْدَهُ مِنْ كُلّ مَا سِوَاهُ وَأَجَلّ فِي قَلْبِهِ
مِنْ كُلّ مَا سِوَاهُ وَلَا نَعِيمَ لَهُ وَلَا سُرُورَ وَلَا لَذّةَ
بَلْ وَلَا حَيَاةَ إلّا بِذَلِكَ وَهَذَا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ
وَالصّحّةِ وَالْحَيَاةِ فَإِذَا فَقَدَ غِذَاءَهُ وَصِحّتَهُ وَحَيَاتَهُ
فَالْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ مُسَارِعَةٌ مِنْ كُلّ صَوْبٍ
إلَيْهِ وَرَهْنٌ مُقِيمٌ عَلَيْهِ .
[ أَمْرَاضُ الْقَلْبِ ]
وَمِنْ
أَعْظَمِ أَدْوَائِهِ الشّرْكُ وَالذّنُوبُ وَالْغَفْلَةُ
وَالِاسْتِهَانَةُ بِمَحَابّهِ وَمَرَاضِيهِ وَتَرْكُ التّفْوِيضِ إلَيْهِ
وَقِلّةُ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَالرّكُونُ إلَى مَا سِوَاهُ وَالسّخْطُ
بِمَقْدُورِهِ وَالشّكّ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ .
[ عِلَاجَاتُ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ ]
وَإِذَا
تَأَمّلْت أَمْرَاضَ الْقَلْبِ وَجَدْت هَذِهِ الْأُمُورَ وَأَمْثَالَهَا
هِيَ أَسْبَابُهَا لَا [ ص 186 ] الْمُضَادّةِ لِهَذِهِ الْأَدْوَاءِ
فَإِنّ الْمَرَضَ يُزَالُ بِالضّدّ وَالصّحّةُ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ
فَصِحّتُهُ تُحْفَظُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ النّبَوِيّةِ وَأَمْرَاضُهُ
بِأَضْدَادِهَا .
[ فَوَائِدُ التّوْحِيدِ فَوَائِدُ التّوْبَةِ ]
فَالتّوْحِيدُ
يَفْتَحُ لِلْعَبْدِ بَابَ الْخَيْرِ وَالسّرُورِ وَاللّذّةِ وَالْفَرَحِ
وَالِابْتِهَاجِ وَالتّوْبَةُ اسْتِفْرَاغٌ لِلْأَخْلَاطِ وَالْمَوَادّ
الْفَاسِدَةِ الّتِي هِيَ سَبَبُ أَسْقَامِهِ وَحَمِيّةٌ لَهُ مِنْ
التّخْلِيطِ فَهِيَ تُغْلِقُ عَنْهُ بَابَ الشّرُورِ فَيُفْتَحُ لَهُ
بَابُ السّعَادَةِ وَالْخَيْرِ بِالتّوْحِيدِ وَيُغْلَقُ بَابُ الشّرُورِ
بِالتّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ . قَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدّمِينَ مِنْ
أَئِمّةِ الطّبّ : مَنْ أَرَادَ عَافِيَةَ الْجِسْمِ فَلْيُقَلّلْ مِنْ
الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَمَنْ أَرَادَ عَافِيَةَ الْقَلْبِ فَلْيَتْرُكْ
الْآثَامَ . وَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قُرّةَ : رَاحَةُ الْجِسْمِ فِي قِلّةِ
الطّعَامِ وَرَاحَةُ الرّوحِ فِي قِلّةِ الْآثَامِ وَرَاحَةُ اللّسَانِ
فِي قِلّةِ الْكَلَامِ . وَالذّنُوبُ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ السّمُومِ
إنْ لَمْ تُهْلِكْهُ أَضْعَفَتْهُ وَلَا بُدّ وَإِذَا ضَعُفَتْ قُوّتُهُ
لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَةِ الْأَمْرَاضِ قَالَ طَبِيبُ الْقُلُوبِ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ .
رَأَيْتُ الذّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ
وَقَدْ يُورِثُ الذّلّ إدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذّنُوبِ حَيَا ةُ الْقُلُوبِ
وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
[ الْهَوَى أَكْبَرُ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ فَلَا بُدّ مِنْ مُخَالَفَتِهِ ]
فَالْهَوَى
أَكْبَرُ أَدْوَائِهَا وَمُخَالَفَتُهُ أَعْظَمُ أَدْوِيَتِهَا وَالنّفْسُ
فِي الْأَصْلِ خُلِقَتْ جَاهِلَةً ظَالِمَةً فَهِيَ لِجَهْلِهَا تَظُنّ
شِفَاءَهَا فِي اتّبَاعِ هَوَاهَا وَإِنّمَا فِيهِ تَلَفُهَا وَعَطَبُهَا
وَلِظُلْمِهَا لَا تَقْبَلُ مِنْ الطّبِيبِ النّاصِحِ بَلْ تَضَعُ الدّاءَ
مَوْضِعَ الدّوَاءِ فَتَعْتَمِدُهُ وَتَضَعُ الدّوَاءَ مَوْضِعَ الدّاءِ
فَتَجْتَنِبُهُ فَيَتَوَلّدُ مِنْ بَيْنِ إيثَارِهَا لِلدّاءِ
وَاجْتِنَابِهَا لِلدّوَاءِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْأَسْقَامِ وَالْعِلَلِ
الّتِي تُعْيِي الْأَطِبّاءَ وَيَتَعَذّرُ مَعَهَا الشّفَاءُ .
وَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى أَنّهَا تُرَكّبُ ذَلِكَ عَلَى الْقَدَرِ
فَتُبْرِئُ نَفْسَهَا وَتَلُومُ رَبّهَا بِلِسَانِ الْحَالِ دَائِمًا
وَيَقْوَى اللّوْمُ حَتّى يُصَرّحَ بِهِ اللّسَانُ . [ ص 187 ]
[ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيّةِ وَالرّبُوبِيّةِ وَصِفَتَيْ الْعَظَمَةِ وَالْحِلْمِ ]
وَإِذَا
وَصَلَ الْعَلِيلُ إلَى هَذِهِ الْحَالِ فَلَا يَطْمَعُ فِي بُرْئِهِ إلّا
أَنْ تَتَدَارَكَهُ رَحْمَةٌ مِنْ رَبّهِ فَيُحْيِيهِ حَيَاةً جَدِيدَةً
وَيَرْزُقُهُ طَرِيقَةً حَمِيدَةً فَلِهَذَا كَانَ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ
فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ مُشْتَمِلًا عَلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيّةِ
وَالرّبُوبِيّةِ وَوَصْفِ الرّبّ سُبْحَانَهُ بِالْعَظَمَةِ وَالْحِلْمِ
وَهَاتَانِ الصّفَتَانِ مُسْتَلْزِمَتَانِ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ
وَالرّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالتّجَاوُزِ وَوَصْفِهِ بِكَمَالِ
رُبُوبِيّتِهِ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيّ وَالسّفْلِيّ وَالْعَرْشِ الّذِي
هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْظَمُهَا وَالرّبُوبِيّةُ التّامّةُ
تَسْتَلْزِمُ تَوْحِيدَهُ وَأَنّهُ الّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ
وَالْحُبّ وَالْخَوْفُ وَالرّجَاءُ وَالْإِجْلَالُ وَالطّاعَةُ إلّا لَهُ
. وَعَظَمَتُهُ الْمُطْلَقَةُ تَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ كُلّ كَمَالٍ لَهُ
وَسَلْبَ كُلّ نَقْصٍ وَتَمْثِيلٍ عَنْهُ . وَحِلْمُهُ يَسْتَلْزِمُ
كَمَالَ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى خَلْقِهِ . فَعِلْمُ الْقَلْبِ
وَمَعْرِفَتُهُ بِذَلِكَ تُوجِبُ مَحَبّتَهُ وَإِجْلَالَهُ وَتَوْحِيدَهُ
فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الِابْتِهَاجِ وَاللّذّةِ وَالسّرُورِ مَا يَدْفَعُ
عَنْهُ أَلَمَ الْكَرْبِ وَالْهَمّ وَالْغَمّ وَأَنْتَ تَجِدُ الْمَرِيضَ
إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ مَا يَسُرّهُ وَيُفْرِحُهُ وَيُقَوّي نَفْسَهُ
كَيْفَ تَقْوَى الطّبِيعَةُ عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ الْحِسّيّ فَحُصُولُ
هَذَا الشّفَاءِ لِلْقَلْبِ أَوْلَى وَأَحْرَى . ثُمّ إذَا قَابَلْت
بَيْنَ ضِيقِ الْكَرْبِ وَسَعَةِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الّتِي تَضَمّنَهَا
دُعَاءُ الْكَرْبِ وَجَدْته فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِتَفْرِيجِ هَذَا
الضّيقِ وَخُرُوجِ الْقَلْبِ مِنْهُ إلَى سَعَةِ الْبَهْجَةِ وَالسّرُورِ
وَهَذِهِ الْأُمُورُ إنّمَا يُصَدّقُ بِهَا مَنْ أَشْرَقَتْ فِيهِ
أَنْوَارُهَا وَبَاشَرَ قَلْبُهُ حَقَائِقَهَا .
[ فَوَائِدُ صِفَتَيْ الْحَيّ الْقَيّومِ ]
"
وَفِي تَأْثِيرِ قَوْلِهِ يَا حَيّ يَا قَيّومُ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيث
فِي دَفْعِ هَذَا الدّاءِ مُنَاسِبَةٌ بَدِيعَةٌ فَإِنّ صِفَةَ الْحَيَاةِ
مُتَضَمّنَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهَا وَصِفَةُ
الْقَيّومِيّةِ مُتَضَمّنَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَلِهَذَا
كَانَ اسْمَ اللّهِ الْأَعْظَمَ الّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا
سُئِلَ بِهِ أَعْطَى : هُوَ اسْمُ الْحَيّ الْقَيّومِ وَالْحَيَاةُ
التّامّةُ تُضَادّ جَمِيعَ الْأَسْقَامِ وَالْآلَامِ وَلِهَذَا لَمّا
كَمُلَتْ حَيَاةُ أَهْلِ الْجَنّةِ لَمْ يَلْحَقْهُمْ هَمّ وَلَا غَمّ
وَلَا حَزَنٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْآفَاتِ . وَنُقْصَانُ الْحَيَاةِ
تَضُرّ بِالْأَفْعَالِ وَتُنَافِي الْقَيّومِيّةَ [ ص 188 ]
الْقَيّومِيّةِ لِكَمَالِ الْحَيَاةِ فَالْحَيّ الْمُطْلَقُ التّامّ
الْحَيَاةِ لَا تَفُوتُهُ صِفَةُ الْكَمَالِ الْبَتّةَ وَالْقَيّومُ لَا
يَتَعَذّرُ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُمْكِنٌ الْبَتّةَ فَالتّوَسّلُ بِصِفَةِ
الْحَيَاةِ الْقَيّومِيّةِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إزَالَةِ مَا يُضَادّ
الْحَيَاةَ وَيَضُرّ بِالْأَفْعَالِ .
[ تَوَسّلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرُبُوبِيّةِ اللّهِ لِجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ ]
وَنَظِيرُ
هَذَا تَوَسّلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى رَبّهِ
بِرُبُوبِيّتِهِ لِجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ أَنْ
يَهْدِيَهُ لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقّ بِإِذْنِهِ فَإِنّ
حَيَاةَ الْقَلْبِ بِالْهِدَايَةِ وَقَدْ وَكّلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ
هَؤُلَاءِ الْأَمْلَاكَ الثّلَاثَةَ بِالْحَيَاةِ فَجِبْرِيلُ مُوَكّلٌ
بِالْوَحْيِ الّذِي هُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَمِيكَائِيلُ بِالْقَطْرِ
الّذِي هُوَ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ وَالْحَيَوَانِ وَإِسْرَافِيلُ
بِالنّفْخِ فِي الصّورِ الّذِي هُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْعَالَمِ وَعَوْدِ
الْأَرْوَاحِ إلَى أَجْسَادِهَا فَالتّوَسّلُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ
بِرُبُوبِيّةِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْعَظِيمَةِ الْمُوَكّلَةِ
بِالْحَيَاةِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ . وَالْمَقْصُودُ
أَنّ لِاسْمِ الْحَيّ الْقَيّومِ تَأْثِيرًا خَاصّا فِي إجَابَةِ
الدّعَوَاتِ وَكَشْفِ الْكُرُبَاتِ وَفِي " السّنَنِ " و " صَحِيحِ أَبِي
حَاتِمٍ " مَرْفُوعًا : اسْمُ اللّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ
الْآيَتَيْن { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ
الرّحْمَنُ الرّحِيمُ } [ الْبَقَرَةُ 163 ] وَفَاتِحَةُ آلِ عِمْرَانَ {
الم اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ } قَالَ التّرْمِذِي
ّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَفِي " السّنَنِ " و " صَحِيحِ ابْنِ حِبّانَ "
أَيْضًا : مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّ رَجُلًا دَعَا [ ص 189 ] فَقَالَ
اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ بِأَنّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ
الْمَنّانُ بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ يَا حَيّ يَا قَيّومُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ دَعَا اللّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الّذِي إذَا
دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَلِهَذَا كَانَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اجْتَهَدَ فِي الدّعَاءِ
قَالَ يَا حَيّ يَا قَيّومُ .
[ مَا فِي اللّهُمّ رَحْمَتَك أَرْجُو . . و اللّهُ رَبّي . . ]
"
وَفِي قَوْلِهِ اللّهُمّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي
طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّهُ لَا إلَهَ إلّا أَنْت مِنْ
تَحْقِيقِ الرّجَاءِ لِمَنْ الْخَيْرُ كُلّهُ بِيَدَيْهِ وَالِاعْتِمَادُ
عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَالتّضَرّعُ إلَيْهِ
أَنْ يَتَوَلّى إصْلَاحَ شَأْنِهِ وَلَا يَكِلَهُ إلَى نَفْسِهِ
وَالتّوَسّلُ إلَيْهِ بِتَوْحِيدِهِ مِمّا لَهُ تَأْثِيرٌ قَوِيّ فِي
دَفْعِ هَذَا الدّاءِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ اللّهُ رَبّي لَا أُشْرِكُ بِهِ
شَيْئًا .
[ مَا فِي اللّهُمّ إنّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك مِنْ الْفَوَائِدِ ]
وَأَمّا
حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ : اللّهُمّ إنّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ فَفِيهِ
مِنْ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيّةِ وَأَسْرَارِ الْعُبُودِيّةِ مَا لَا
يَتّسِعُ لَهُ كِتَابٌ فَإِنّهُ يَتَضَمّنُ الِاعْتِرَافَ بِعُبُودِيّتِهِ
وَعُبُودِيّةِ آبَائِهِ وَأُمّهَاتِهِ وَأَنّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِهِ
يُصَرّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ فَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ دُونَهُ لِنَفْسِهِ
نَفْعًا وَلَا ضَرّا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا لِأَنّ
مَنْ نَاصِيَتُهُ بِيَدِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ
بَلْ هُوَ عَانٍ فِي قَبْضَتِهِ ذَلِيلٌ تَحْتَ سُلْطَانِ قَهْرِهِ .
[ إثْبَاتُ الْقَدْرِ وَالْعَدْلِ لِلّهِ فِي مَاضٍ فِيّ حُكْمُك . . ]
وَقَوْلُهُ
مَاضٍ فِيّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيّ قَضَاؤُكَ مُتَضَمّنٌ لِأَصْلَيْنِ
عَظِيمَيْنِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ التّوْحِيدِ . أَحَدُهُمَا : إثْبَاتُ
الْقَدَرِ وَأَنّ أَحْكَامَ الرّبّ تَعَالَى نَافِذَةٌ فِي عَبْدِهِ
مَاضِيَةٌ فِيهِ لَا انْفِكَاكَ لَهُ عَنْهَا وَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي
دَفْعِهَا .
[ أَسْأَلُك بِكُلّ اسْمٍ هُوَ لَك . .]
وَالثّانِي :
أَنّهُ - سُبْحَانَهُ - عَدْلٌ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ غَيْرُ ظَالِمٍ
لِعَبْدِهِ بَلْ لَا [ ص 190 ] فَقِيرٌ إلَيْهِ وَمَنْ هُوَ أَحْكَمُ
الْحَاكِمِينَ فَلَا تَخْرُجُ ذَرّةٌ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ عَنْ حِكْمَتِهِ
وَحَمْدِهِ كَمَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ
فَحِكْمَتُهُ نَافِذَةٌ حَيْثُ نَفَذَتْ مَشِيئَتُهُ وَقُدْرَتُهُ
وَلِهَذَا قَالَ نَبِيّ اللّهِ هُودٌ صَلّى اللّهُ عَلَى نَبِيّنَا
وَعَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ خَوّفَهُ قَوْمُهُ بِآلِهَتِهِمْ { إِنّي
أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُوا أَنّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ مِنْ
دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمّ لَا تُنْظِرُونِي إِنّي تَوَكّلْتُ
عَلَى اللّهِ رَبّي وَرَبّكُمْ مَا مِنْ دَابّةٍ إِلّا هُوَ آخِذٌ
بِنَاصِيَتِهَا إِنّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ هُود : 54 - 57
] أَيْ مَعَ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ آخِذًا بِنَوَاصِي خَلْقِهِ
وَتَصْرِيفِهِمْ كَمَا يَشَاءُ فَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَا
يَتَصَرّفُ فِيهِمْ إلّا بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالْإِحْسَانِ
وَالرّحْمَةِ . فَقَوْلُهُ مَاضٍ فِيّ حُكْمُك مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ ( {
مَا مِنْ دَابّةٍ إِلّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } وَقَوْلُهُ عَدْلٌ
فِيّ قَضَاؤُك مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ { إِنّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } ثُمّ تَوَسّلَ إلَى رَبّهِ بِأَسْمَائِهِ الّتِي سَمّى
بِهَا نَفْسَهُ مَا عَلِمَ الْعِبَادُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَعْلَمُوا .
وَمِنْهَا : مَا اسْتَأْثَرَهُ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ فَلَمْ
يُطْلِعْ عَلَيْهِ مَلَكًا مُقَرّبًا وَلَا نَبِيّا مُرْسَلًا وَهَذِهِ
الْوَسِيلَةُ أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ وَأَحَبّهَا إلَى اللّهِ
وَأَقْرَبُهَا تَحْصِيلًا لِلْمَطْلُوبِ . "
[ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي . . ]
ثُمّ
سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ لِقَلْبِهِ كَالرّبِيعِ الّذِي
يَرْتَعُ فِيهِ الْحَيَوَانُ وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ
وَأَنْ يَجْعَلَهُ شِفَاءَ هَمّهِ وَغَمّهِ فَيَكُونَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ
الدّوَاءِ الّذِي يَسْتَأْصِلُ الدّاءَ وَيُعِيدُ الْبَدَنَ إلَى صِحّتِهِ
وَاعْتِدَالِهِ وَأَنْ يَجْعَلَهُ لِحُزْنِهِ كَالْجَلَاءِ الّذِي يَجْلُو
الطّبُوعَ وَالْأَصْدِيَةَ وَغَيْرَهَا فَأَحْرَى بِهَذَا الْعِلَاجِ إذَا
صَدَقَ الْعَلِيلُ فِي اسْتِعْمَالِهِ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ دَاءَهُ
وَيُعْقِبَهُ شِفَاءً تَامّا وَصِحّةً وَعَافِيَةً وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ .
[ دَعْوَةُ ذِي النّونِ ]
وَأَمّا
دَعْوَةُ ذِي النّونِ فَإِنّ فِيهَا مِنْ كَمَالِ التّوْحِيدِ
وَالتّنْزِيهِ لِلرّبّ تَعَالَى وَاعْتِرَافِ الْعَبْدِ بِظُلْمِهِ
وَذَنْبِهِ مَا هُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَدْوِيَةِ الْكَرْبِ وَالْهَمّ
وَالْغَمّ وَأَبْلَغِ الْوَسَائِلِ إلَى اللّهِ - سُبْحَانَهُ - فِي
قَضَاءِ الْحَوَائِجِ فَإِنّ التّوْحِيدَ وَالتّنْزِيهَ يَتَضَمّنَانِ
إثْبَاتَ كُلّ كَمَالِ اللّهِ وَسَلْبَ كُلّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ وَتَمْثِيلٍ
عَنْهُ . وَالِاعْتِرَافُ بِالظّلْمِ [ ص 191 ] إيمَانَ الْعَبْدِ
بِالشّرْعِ وَالثّوَابَ وَالْعِقَابَ وَيُوجِبُ انْكِسَارَهُ وَرُجُوعَهُ
إلَى اللّهِ وَاسْتِقَالَتَهُ عَثْرَتَهُ وَالِاعْتِرَافَ بِعُبُودِيّتِهِ
وَافْتِقَارَهُ إلَى رَبّهِ فَهَا هُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ قَدْ وَقَعَ
التّوَسّلُ بِهَا : التّوْحِيدُ وَالتّنْزِيهُ وَالْعُبُودِيّةُ
وَالِاعْتِرَافُ .
[ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَنِ . .]
وَأَمّا
حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمّ
وَالْحَزَنِ فَقَدْ تَضَمّنَ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءَ
كُلّ اثْنَيْنِ مِنْهَا قَرِينَانِ مُزْدَوَجَانِ فَالْهَمّ وَالْحَزَنُ
أَخَوَانِ وَالْعَجْزُ وَالْكَسَلُ أَخَوَانِ وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ
أَخَوَانِ وَضَلَعُ الدّيْنِ وَغَلَبَةُ الرّجَالِ أَخَوَانِ فَإِنّ
الْمَكْرُوهَ الْمُؤْلِمَ إذَا وَرَدَ عَلَى الْقَلْبِ فَإِمّا أَنْ
يَكُونَ سَبَبُهُ أَمْرًا مَاضِيًا فَيُوجِبُ لَهُ الْحُزْنَ وَإِنْ كَانَ
أَمْرًا مُتَوَقّعًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْجَبَ الْهَمّ وَتَخَلّفُ
الْعَبْدِ عَنْ مَصَالِحِهِ وَتَفْوِيتُهَا عَلَيْهِ إمّا أَنْ يَكُونَ
مِنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ وَهُوَ الْعَجْزُ أَوْ مِنْ عَدَمِ الْإِرَادَةِ
وَهُوَ الْكَسَلُ وَحَبْسُ خَيْرِهِ وَنَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ
بَنِي جَنْسِهِ إمّا أَنْ يَكُونَ مَنَعَ نَفْعَهُ بِبَدَنِهِ فَهُوَ
الْجُبْنُ أَوْ بِمَالِهِ فَهُوَ الْبُخْلُ وَقَهْرُ النّاسِ لَهُ إمّا
بِحَقّ فَهُوَ ضَلَعُ الدّيْنِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَهُوَ غَلَبَةُ الرّجَالِ
فَقَدْ تَضَمّنَ الْحَدِيثُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ كُلّ شَرّ وَأَمّا
تَأْثِيرُ الِاسْتِغْفَارِ فِي دَفْعِ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالضّيقِ
فَلَمّا اشْتَرَكَ فِي الْعِلْمِ بِهِ أَهْلُ الْمِلَلِ وَعُقَلَاءُ كُلّ
أُمّةٍ أَنّ الْمَعَاصِيَ وَالْفَسَادَ تُوجِبُ الْهَمّ وَالْغَمّ
وَالْخَوْفَ وَالْحُزْنَ وَضِيقَ الصّدْرِ وَأَمْرَاضَ الْقَلْبِ حَتّى
إنّ أَهْلَهَا إذَا قَضَوْا مِنْهَا أَوْطَارَهُمْ وَسَئِمَتْهَا
نَفُوسُهُمْ ارْتَكَبُوهَا دَفْعًا لِمَا يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ
مِنْ الضّيقِ وَالْهَمّ وَالْغَمّ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْفُسُوقِ
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذّةٍ
وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
[ التّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ ]
وَإِذَا
كَانَ هَذَا تَأْثِيرَ الذّنُوبِ وَالْآثَامِ فِي الْقُلُوبِ فَلَا
دَوَاءَ لَهَا إلّا التّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ . [ ص 192 ]
[ الصّلَاةُ وَتَأْثِيرُهَا فِي تَفْرِيحِ الْقَلْبِ ]
وَأَمّا
الصّلَاةُ فَشَأْنُهَا فِي تَفْرِيحِ الْقَلْبِ وَتَقْوِيتِهِ وَشَرْحِهِ
وَابْتِهَاجِهِ وَلَذّتِهِ أَكْبَرُ شَأْنٍ وَفِيهَا مِنْ اتّصَالِ
الْقَلْبِ وَالرّوحِ بِاَللّهِ وَقُرْبِهِ وَالتّنَعّمِ بِذِكْرِهِ
وَالِابْتِهَاجِ بِمُنَاجَاتِهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ
وَاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَقُوَاهُ وَآلَاتِهِ فِي عُبُودِيّتِهِ
وَإِعْطَاءِ كُلّ عُضْوٍ حَظّهُ مِنْهَا وَاشْتِغَالِهِ عَنْ التّعَلّقِ
بِالْخَلْقِ وَمُلَابَسَتِهِمْ وَمُحَاوَرَاتِهِمْ وَانْجِذَابِ قُوَى
قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ إلَى رَبّهِ وَفَاطِرِهِ وَرَاحَتِهِ مِنْ
عَدُوّهِ حَالَةَ الصّلَاةِ مَا صَارَتْ بِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدْوِيَةِ
وَالْمُفَرّحَاتِ وَالْأَغْذِيَةِ الّتِي لَا تُلَائِمُ إلّا الْقُلُوبَ
الصّحِيحَةَ . وَأَمّا الْقُلُوبُ الْعَلِيلَةُ فَهِيَ كَالْأَبْدَانِ لَا
تُنَاسِبُهَا إلّا الْأَغْذِيَةُ الْفَاضِلَةُ . فَالصّلَاةُ مِنْ
أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَدَفْعِ مَفَاسِدِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ مُنْهَاةٌ عَنْ
الْإِثْمِ وَدَافِعَةٌ لِأَدْوَاءِ الْقُلُوبِ وَمُطْرِدَةٌ لِلدّاءِ عَنْ
الْجَسَدِ وَمُنَوّرَةٌ لِلْقَلْبِ وَمُبَيّضَةٌ لِلْوَجْهِ وَمُنَشّطَةٌ
لِلْجَوَارِحِ وَالنّفْسِ وَجَالِبَةٌ لِلرّزْقِ وَدَافِعَةٌ لِلظّلْمِ
وَنَاصِرَةٌ لِلْمَظْلُومِ وَقَامِعَةٌ لِأَخْلَاطِ الشّهَوَاتِ
وَحَافِظَةٌ لِلنّعْمَةِ وَدَافِعَةٌ لِلنّقْمَةِ وَمُنْزِلَةٌ
لِلرّحْمَةِ وَكَاشِفَةٌ لِلْغُمّةِ وَنَافِعَةٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ
أَوْجَاعِ الْبَطْنِ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ
حَدِيثِ مُجَاهَدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَآنِي رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا نَائِمٌ أَشْكُو مِنْ وَجَعِ
بَطْنِي فَقَالَ لِي : " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشِكَمَتْ دَرْدْ ؟ "
قَالَ قُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ " قُمْ فَصَلّ فَإِنّ فِي
الصّلَاةِ شِفَاءً وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي
هُرَيْرَةَ وَأَنّهُ هُوَ الّذِي قَالَ ذَلِكَ لِمُجَاهِدٍ وَهُوَ
أَشْبَهُ . وَمَعْنَى هَذِهِ اللّفْظَةِ بِالْفَارِسِيّ أَيُوجِعُك
بَطْنُك ؟ .
[ الرّدّ عَلَى الْأَطِبّاءِ الْمُنْكِرِينَ لِفَائِدَةِ الصّلَاةِ فِي الْعِلَاجِ ]
فَإِنْ
لَمْ يَنْشَرِحْ صَدْرُ زِنْدِيقِ الْأَطِبّاءِ بِهَذَا الْعِلَاجِ
فَيُخَاطَبُ بِصِنَاعَةِ الطّبّ وَيُقَالُ لَهُ الصّلَاةُ رِيَاضَةُ
النّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا إذْ كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَى حَرَكَاتٍ
وَأَوْضَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ الِانْتِصَابِ وَالرّكُوعِ وَالسّجُودِ
وَالتّوَرّكِ وَالِانْتِقَالَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَوْضَاعِ الّتِي
يَتَحَرّكُ مَعَهَا أَكْثَرُ الْمَفَاصِلِ وَيَنْغَمِزُ مَعَهَا أَكْثَرُ
الْأَعْضَاءِ [ ص 193 ] وَالْأَمْعَاءِ وَسَائِرِ آلَاتِ النّفْسِ
وَالْغِذَاءِ فَمَا يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْحَرَكَاتِ
تَقْوِيَةٌ وَتَحْلِيلٌ لِلْمَوَادّ وَلَا سِيّمَا بِوَاسِطَةِ قُوّةِ
النّفْسِ وَانْشِرَاحِهَا فِي الصّلَاةِ فَتَقْوَى الطّبِيعَةُ
فَيَنْدَفِعُ الْأَلَمُ وَلَكِنْ دَاءُ الزّنْدَقَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَمّا
جَاءَتْ بِهِ الرّسُلُ وَالتّعَوّضِ عَنْهُ بِالْإِلْحَادِ دَاءٌ لَيْسَ
لَهُ دَوَاءٌ إلّا نَارٌ تَلَظّى لَا يَصِلَاهَا إلّا الْأَشْقَى الّذِي
كَذّبَ وَتَوَلّى .
[ تَأْثِيرُ الْجِهَادِ فِي دَفْعِ الْهَمّ ]
وَأَمّا
تَأْثِيرُ الْجِهَادِ فِي دَفْعِ الْهَمّ وَالْغَمّ فَأَمْرٌ مَعْلُومٌ
بِالْوِجْدَانِ فَإِنّ النّفْسَ مَتَى تَرَكَتْ صَائِلَ الْبَاطِلِ
وَصَوْلَتَهُ وَاسْتِيلَاءَهُ اشْتَدّ هَمّهَا وَغَمّهَا وَكَرْبُهَا
وَخَوْفُهَا فَإِذَا جَاهَدَتْهُ لِلّهِ أَبْدَلَ اللّهُ ذَلِكَ الْهَمّ
وَالْحُزْنَ فَرَحًا وَنَشَاطًا وَقُوّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ
وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [ التّوْبَة : 14 15 ] فَلَا شَيْءَ
أَذْهَبُ لِجَوَى الْقَلْبِ وَغَمّهِ وَهَمّهِ وَحُزْنِهِ مِنْ الْجِهَادِ
وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
[ تَأْثِيرُ الْحَوْقَلَةِ فِي دَفْعِ الْهَمّ ]
وَأَمّا
تَأْثِيرُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ فِي دَفْعِ هَذَا
الدّاءِ فَلِمَا فِيهَا مِنْ كَمَالِ التّفْوِيضِ وَالتّبَرّي مِنْ
الْحَوْلِ وَالْقُوّةِ إلّا بِهِ وَتَسْلِيمِ الْأَمْرِ كُلّهِ لَهُ
وَعَدَمِ مُنَازَعَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَعُمُومُ ذَلِكَ لِكُلّ
تَحَوّلٍ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيّ وَالسّفْلِيّ
وَالْقُوّةِ عَلَى ذَلِكَ التّحَوّلِ وَأَنّ ذَلِكَ كُلّهُ بِاَللّهِ
وَحْدَهُ فَلَا يَقُومُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ شَيْءٌ . وَفِي بَعْضِ
الْآثَارِ إنّهُ مَا يَنْزِلُ مَلَكٌ مِنْ السّمَاءِ وَلَا يَصْعَدُ
إلَيْهَا إلّا بِلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ وَلَهَا
تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي طَرْدِ الشّيْطَانِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْفَزَعِ وَالْأَرَقِ الْمَانِعِ مِنْ النّوْمِ
رَوَى
التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ بُريْدَةَ قَالَ شَكَى خَالِدٌ إلَى
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا
أَنَامُ اللّيْلَ مِنْ الْأَرَقِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إذَا أَوَيْتَ إلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ : اللّهُمّ رَبّ
السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَمَا أَظَلّتْ وَرَبّ الْأَرْضِينَ وَمَا أَقَلّتْ
وَرَبّ الشّيَاطِينِ وَمَا أَضَلّتْ كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرّ خَلْقِكَ
كُلّهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَفْرُطَ عَلَيّ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَوْ يَبْغِيَ
عَلَيّ عَزّ جَارُك وَجَلّ ثَنَاؤُك وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ [ ص 194 ]
وَفِيهِ أَيْضًا : عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ
أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُعَلّمُهُمْ
مِنْ الْفَزَعِ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّةِ مِنْ غَضَبِهِ
وَعِقَابِهِ وَشَرّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ
بِكَ رَبّ أَنْ يَحْضُرُونِ قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو
يُعَلّمُهُنّ مَنْ عَقَلَ مِنْ بَنِيهِ . وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ كَتَبَهُ
فَأَعْلَقَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَخْفَى مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْعُوذَةِ
لِعِلَاجِ هَذَا الدّاءِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ دَاءِ الْحَرِيقِ وَإِطْفَائِهِ
يُذْكَرُ
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا رَأَيْتُمْ الْحَرِيقَ
فَكَبّرُوا فَإِنّ التّكْبِيرَ يُطْفِئُهُ لَمّا كَانَ الْحَرِيقُ
سَبَبُهُ النّارُ وَهِيَ مَادّةُ الشّيْطَانِ الّتِي خُلِقَ مِنْهَا
وَكَانَ فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ الْعَامّ مَا يُنَاسِبُ الشّيْطَانَ
بِمَادّتِهِ وَفِعْلِهِ كَانَ لِلشّيْطَانِ إعَانَةٌ عَلَيْهِ وَتَنْفِيذٌ
لَهُ وَكَانَتْ النّارُ تَطْلُبُ بِطَبْعِهَا الْعُلُوّ وَالْفَسَادَ
وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ وَهُمَا الْعُلُوّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادُ
هُمَا هَدْيُ الشّيْطَانِ وَإِلَيْهِمَا يَدْعُو وَبِهِمَا يُهْلِكُ بَنِي
آدَمَ فَالنّارُ وَالشّيْطَانُ كُلّ مِنْهُمَا يُرِيدُ الْعُلُوّ فِي [ ص
195 ] عَزّ وَجَلّ - تَقْمَعُ الشّيْطَانَ وَفِعْلَهُ .
[ أَثَرُ التّكْبِيرِ فِي إخْمَادِ النّارِ مَادّةِ الشّيْطَانِ ]
وَلِهَذَا
كَانَ تَكْبِيرُ اللّهِ - عَزّ وَجَلّ - لَهُ أَثَرٌ فِي إطْفَاءِ
الْحَرِيقِ فَإِنّ كِبْرِيَاءَ اللّهِ - عَزّ وَجَلّ - لَا يَقُومُ لَهَا
شَيْءٌ فَإِذَا كَبّرَ الْمُسْلِمُ رَبّهُ أَثّرَ تَكْبِيرُهُ فِي خُمُودِ
النّارِ وَخُمُودِ الشّيْطَانِ الّتِي هِيَ مَادّتُهُ فَيُطْفِئُ
الْحَرِيقَ وَقَدْ جَرّبْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا هَذَا فَوَجَدْنَاهُ
كَذَلِكَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حِفْظِ الصّحّةِ
[ قِوَامُ الْبَدَنِ عَلَى الْحَرَارَةِ وَالرّطُوبَةِ ]
لَمّا
كَانَ اعْتِدَالُ الْبَدَنِ وَصِحّتُهُ وَبَقَاؤُهُ إنّمَا هُوَ
بِوَاسِطَةِ الرّطُوبَةِ الْمُقَاوِمَةِ لِلْحَرَارَةِ فَالرّطُوبَةُ
مَادّتُهُ وَالْحَرَارَةُ تُنْضِجُهَا وَتَدْفَعُ فَضَلَاتِهَا
وَتُصْلِحُهَا وَتُلَطّفُهَا وَإِلّا أَفْسَدَتْ الْبَدَنَ وَلَمْ
يُمْكِنْ قِيَامُهُ وَكَذَلِكَ الرّطُوبَةُ هِيَ غِذَاءُ الْحَرَارَةِ
فَلَوْلَا الرّطُوبَةُ لَأَحْرَقَتْ الْبَدَنَ وَأَيْبَسَتْهُ
وَأَفْسَدَتْهُ فَقِوَامُ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبَتِهَا
وَقِوَامُ الْبَدَنِ بِهِمَا جَمِيعًا وَكُلّ مِنْهُمَا مَادّةٌ
لِلْأُخْرَى فَالْحَرَارَةُ مَادّةٌ لِلرّطُوبَةِ تَحْفَظُهَا
وَتَمْنَعُهَا مِنْ الْفَسَادِ وَالِاسْتِحَالَةِ وَالرّطُوبَةُ مَادّةٌ
لِلْحَرَارَةِ تَغْذُوهَا وَتَحْمِلُهَا وَمَتَى مَالَتْ إحْدَاهُمَا إلَى
الزّيَادَةِ عَلَى الْأُخْرَى حَصَلَ لِمِزَاجِ الْبَدَنِ الِانْحِرَافُ
بِحَسَبِ ذَلِكَ فَالْحَرَارَةُ دَائِمًا تُحَلّلُ الرّطُوبَةَ
فَيَحْتَاجُ الْبَدَنُ إلَى مَا بِهِ يُخْلَفُ عَلَيْهِ مَا حَلّلَتْهُ
الْحَرَارَةُ - لِضَرُورَةِ بَقَائِهِ - وَهُوَ الطّعَامُ وَالشّرَابُ
وَمَتَى زَادَ عَلَى مِقْدَارِ التّحَلّلِ ضَعُفَتْ الْحَرَارَةُ عَنْ
تَحْلِيلِ فَضَلَاتِهِ فَاسْتَحَالَتْ مَوَادّ رَدِيئَةٍ فَعَاثَتْ فِي
الْبَدَنِ وَأَفْسَدَتْ فَحَصَلَتْ الْأَمْرَاضُ الْمُتَنَوّعَةُ بِحَسَبِ
تَنَوّعِ مَوَادّهَا وَقَبُولِ الْأَعْضَاءِ وَاسْتِعْدَادِهَا وَهَذَا
كُلّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلَا تُسْرِفُوا } [ الْأَعْرَافِ 31 ] فَأَرْشَدَ عِبَادَهُ إلَى
إدْخَالِ مَا يُقِيمُ الْبَدَنَ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ عِوَضَ مَا
تَحَلّلَ مِنْهُ وَأَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَدَنُ
فِي الْكَمّيّةِ وَالْكَيْفِيّةِ فَمَتَى جَاوَزَ ذَلِكَ كَانَ إسْرَافًا
وَكِلَاهُمَا مَانِعٌ مِنْ الصّحّةِ جَالِبٌ لِلْمَرَضِ أَعْنِي عَدَمَ
الْأَكْلِ وَالشّرْبِ أَوْ الْإِسْرَافَ فِيهِ . [ ص 196 ] دَائِمًا فِي
التّحَلّلِ وَالِاسْتِخْلَافِ وَكُلّمَا كَثُرَ التّحَلّلُ ضَعُفَتْ
الْحَرَارَةُ لِفَنَاءِ مَادّتِهَا فَإِنّ كَثْرَةَ التّحَلّلِ تُفْنِي
الرّطُوبَةَ وَهِيَ مَادّةُ الْحَرَارَةِ وَإِذَا ضَعُفَتْ الْحَرَارَةُ
ضَعُفَ الْهَضْمُ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتّى تَفْنَى الرّطُوبَةُ
وَتَنْطَفِئَ الْحَرَارَةُ جُمْلَةً فَيَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ الْأَجَلَ
الّذِي كَتَبَ اللّهُ لَهُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ .
[ غَايَةُ عِلَاجِ الْإِنْسَانِ الِاعْتِدَالُ بَيْنَ الْحَرَارَةِ وَالرّطُوبَةِ ]
فَغَايَةُ
عِلَاجِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ حِرَاسَةُ الْبَدَنِ إلَى
أَنْ يَصِلَ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَا أَنّهُ يَسْتَلْزِمُ بَقَاءَ
الْحَرَارَةِ وَالرّطُوبَةِ اللّتَيْنِ بَقَاءُ الشّبَابِ وَالصّحّةِ
وَالْقُوّةِ بِهِمَا فَإِنّ هَذَا مِمّا لَمْ يَحْصُلْ لِبَشَرٍ فِي
هَذِهِ الدّارِ وَإِنّمَا غَايَةُ الطّبِيبِ أَنْ يَحْمِيَ الرّطُوبَةَ
عَنْ مُفْسِدَاتِهَا مِنْ الْعُفُونَةِ وَغَيْرِهِ وَيَحْمِيَ
الْحَرَارَةَ عَنْ مُضْعِفَاتِهَا وَيَعْدِلَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ فِي
التّدْبِيرِ الّذِي بِهِ قَامَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ كَمَا أَنّ بِهِ
قَامَتْ السّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَسَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ إنّمَا
قِوَامُهَا بِالْعَدْلِ وَمَنْ تَأَمّلَ هَدْيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَدَهُ أَفْضَلَ هَدْيٍ يُمْكِنُ حِفْظُ الصّحّةِ
بِهِ فَإِنّ حِفْظَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى حُسْنِ تَدْبِيرِ الْمَطْعَمِ
وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْهَوَاءِ وَالنّوْمِ
وَالْيَقَظَةِ وَالْحَرَكَةِ وَالسّكُونِ وَالْمَنْكَحِ وَالِاسْتِفْرَاغِ
وَالِاحْتِبَاسِ فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَدِلِ
الْمُوَافِقِ الْمُلَائِمِ لِلْبَدَنِ وَالْبَلَدِ وَالسّنّ وَالْعَادَةِ
كَانَ أَقْرَبَ إلَى دَوَامِ الصّحّةِ أَوْ غَلَبَتِهَا إلَى انْقِضَاءِ
الْأَجَلِ .
[ الصّحّةُ مِنْ أَجَلّ النّعَمِ وَذِكْرُ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ ]
وَلَمّا
كَانَتْ الصّحّةُ وَالْعَافِيَةُ مِنْ أَجَلّ نِعَم اللّهِ عَلَى عَبْدِهِ
وَأَجْزَلِ عَطَايَاهُ وَأَوْفَرِ مِنَحِهِ بَلْ الْعَافِيَةُ
الْمُطْلَقَةُ أَجَلّ النّعَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَحَقِيقٌ لِمَنْ
رُزِقَ حَظّا مِنْ التّوْفِيقِ مُرَاعَاتُهَا وَحِفْظُهَا وَحِمَايَتُهَا
عَمّا يُضَادّهَا وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ : الصّحّةُ
وَالْفَرَاغُ وَفِي التّرْمِذِيّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللّهِ
بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيّ قَالَ قَالَ [ ص 197 ] صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ آمِنًا فِي
سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنّمَا حِيزَتْ لَهُ الدّنْيَا
وَفِي التّرْمِذِيّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ أَوّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ
الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ
نُصِحّ لَكَ جِسْمَك وَنَرْوِك مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ وَمِنْ هَا هُنَا
قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمّ
لَتُسْأَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ } [ التّكَاثُرِ 8 ] قَالَ عَنْ
الصّحّةِ . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " أَنّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِلْعَبّاسِ يَا عَبّاسُ يَا عَمّ رَسُولِ
اللّهِ سَلْ اللّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفِيهِ عَنْ
أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ سَلُوا اللّهَ الْيَقِينَ وَالْمُعَافَاةَ
فَمَا أُوتِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ
فَجَمَعَ بَيْنَ عَافِيَتَيْ الدّينِ وَالدّنْيَا وَلَا يَتِمّ صَلَاحُ
الْعَبْدِ فِي الدّارَيْنِ إلّا بِالْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ فَالْيَقِينُ
يَدْفَعُ عَنْهُ عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ وَالْعَافِيَةُ تَدْفَعُ عَنْهُ
أَمْرَاضَ الدّنْيَا فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ . وَفِي " سُنَنِ
النّسَائِيّ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ [ ص 198 ] سَلُوا
اللّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فَمَا أُوتِيَ أَحَدٌ
بَعْدَ يَقِينٍ خَيْرًا مِنْ مُعَافَاةٍ وَهَذِهِ الثّلَاثَةُ تَتَضَمّنُ
إزَالَةَ الشّرُورِ الْمَاضِيَةِ بِالْعَفْوِ وَالْحَاضِرَةِ
بِالْعَافِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ بِالْمُعَافَاةِ فَإِنّهَا تَتَضَمّنُ
الْمُدَاوَمَةَ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَى الْعَافِيَةِ . وَفِي
التّرْمِذِيّ مَرْفُوعًا : مَا سُئِلَ اللّهُ شَيْئًا أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ
الْعَافِيَةِ وَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى : عَنْ أَبِي
الدّرْدَاءِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ
أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَسُولُ اللّهِ يُحِبّ مَعَكَ
الْعَافِيَةَ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ أَعْرَابِيّا جَاءَ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ مَا أَسْأَلُ
اللّهَ بَعْدَ الصّلَوَاتِ الْخَمْسِ ؟ فَقَالَ سَلْ اللّهَ الْعَافِيَةَ
" فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ فِي الثّالِثَةِ سَلْ اللّهَ
الْعَافِيَةَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ
[هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مُرَاعَاةِ أُمُورِ الصّحّةِ ]
وَإِذَا
كَانَ هَذَا شَأْنَ الْعَافِيَةِ وَالصّحّةِ فَنَذْكُرُ مِنْ هَدْيِهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا
يَتَبَيّنُ لِمَنْ نَظَرَ فِيهِ أَنّهُ أَكْمَلُ هَدْيٍ عَلَى
الْإِطْلَاقِ يَنَالُ بِهِ حِفْظَ صِحّةِ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ وَحَيَاةِ
الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ
وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ .
فَصْلٌ [هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ ]
فَأَمّا
الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَبْسُ النّفْسِ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ
الْأَغْذِيَةِ لَا يَتَعَدّاهُ إلَى مَا سِوَاهُ فَإِنّ ذَلِكَ يَضُرّ
بِالطّبِيعَةِ جِدّا وَقَدْ يَتَعَذّرُ عَلَيْهَا أَحْيَانًا فَإِنْ لَمْ
يَتَنَاوَلْ غَيْرَهُ ضَعُفَ أَوْ هَلَكَ وَإِنْ تَنَاوَلَ غَيْرَهُ لَمْ
تَقْبَلْهُ الطّبِيعَةُ وَاسْتَضَرّ بِهِ فَقَصَرَهَا عَلَى نَوْعٍ
وَاحِدٍ دَائِمًا - وَلَوْ أَنّهُ أَفْضَلُ الْأَغْذِيَةِ - خَطَرٌ مُضِرّ
. [ ص 199 ] كَانَ يَأْكُلُ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ
بِأَكْلِهِ مِنْ اللّحْمِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْخُبْزِ وَالتّمْرِ
وَغَيْرِهِ مِمّا ذَكَرْنَاهُ فِي هَدْيِهِ فِي الْمَأْكُولِ فَعَلَيْك
بِمُرَاجَعَتِهِ هُنَاكَ .
[ تَعْدِيلُ الطّعَامِ بِضِدّهِ ]
وَإِذَا
كَانَ فِي أَحَدِ الطّعَامَيْنِ كَيْفِيّةٌ تَحْتَاجُ إلَى كَسْرٍ
وَتَعْدِيلٍ كَسَرَهَا وَعَدَلَهَا بِضِدّهَا إنْ أَمْكَنَ كَتَعْدِيلِ
حَرَارَةِ الرّطَبِ بِالْبِطّيخِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ تَنَاوَلَهُ
عَلَى حَاجَةٍ وَدَاعِيَةٍ مِنْ النّفْسِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ فَلَا
تَتَضَرّرُ بِهِ الطّبِيعَةُ .
[ تَرْكُ مَا تَعَافُهُ النّفْسُ ]
وَكَانَ
إذَا عَافَتْ نَفْسُهُ الطّعَامَ لَمْ يَأْكُلْهُ وَلَمْ يَحْمِلْهَا
إيّاهُ عَلَى كُرْهٍ وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ فَمَتَى
أَكَلَ الْإِنْسَانُ مَا تَعَافُهُ نَفْسُهُ وَلَا يَشْتَهِيهِ كَانَ
تَضَرّرُهُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ انْتِفَاعِهِ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ :
مَا عَابَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَعَامًا قَطّ
إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلّا تَرَكَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَلَمّا
قُدّمَ إلَيْهِ الضّبّ الْمَشْوِيّ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَقِيلَ لَهُ
أَهُوَ حَرَامٌ ؟ قَالَ لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي
فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ فَرَاعَى عَادَتَهُ وَشَهْوَتَهُ فَلَمّا لَمْ
يَكُنْ يَعْتَادُ أَكْلَهُ بِأَرْضِهِ وَكَانَتْ نَفْسُهُ لَا تَشْتَهِيهِ
أَمْسَكَ عَنْهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَكْلِهِ مَنْ يَشْتَهِيهِ وَمَنْ
عَادَتُهُ أَكْلُهُ .
[مَحَبّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلذّرَاع ]
وَكَانَ
يُحِبّ اللّحْمَ وَأَحَبّهُ إلَيْهِ الذّرَاعُ وَمُقَدّمُ الشّاةِ
وَلِذَلِكَ سُمّ فِيهِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : أُتِيَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إلَيْهِ الذّرَاعُ
وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ
[ أَكْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلرّقَبَةِ ]
وَذَكَرَ
أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ ضِبَاعَةَ بِنْتِ الزّبَيْرِ أَنّهَا
ذَبَحَتْ فِي بَيْتِهَا شَاةً [ ص 200 ] فَأَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ أَطْعِمِينَا مِنْ شَاتِكُمْ
فَقَالَتْ لِلرّسُولِ مَا بَقِيَ عِنْدَنَا إلّا الرّقَبَةُ وَإِنّي
لَأَسْتَحْيِيَ أَنْ أُرْسِلَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَجَعَ الرّسُولُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ ارْجِعْ
إلَيْهَا فَقُلْ لَهَا : أَرْسِلِي بِهَا فَإِنّهَا هَادِيَةُ الشّاةِ
وَأَقْرَبُ إلَى الْخَيْرِ وَأَبْعَدُهَا مِنْ الْأَذَى وَلَا رَيْبَ أَنّ
أَخَفّ لَحْمِ الشّاةِ لَحْمُ الرّقَبَةِ وَلَحْمُ الذّرَاعِ وَالْعَضُدِ
وَهُوَ أَخَفّ عَلَى الْمَعِدَةِ وَأَسْرَعُ انْهِضَامًا وَفِي هَذَا
مُرَاعَاةُ الْأَغْذِيَةِ الّتِي تَجْمَعُ ثَلَاثَةَ أَوْصَافٍ .
أَحَدُهَا : كَثْرَةُ نَفْعِهَا وَتَأْثِيرِهَا فِي الْقُوَى . الثّانِي :
خِفّتُهَا عَلَى الْمَعِدَةِ وَعَدَمُ ثِقَلِهَا عَلَيْهَا . الثّالِثُ
سُرْعَةُ هَضْمِهَا وَهَذَا أَفْضَلُ مَا يَكُونُ مِنْ الْغِذَاءِ
وَالتّغَذّي بِالْيَسِيرِ مِنْ هَذَا أَنْفَعُ مِنْ الْكَثِيرِ مِنْ
غَيْرِهِ .
[ مَحَبّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ وَبَيَانُ أَنّهُمَا مَعَ اللّحْمِ أَفْضَلُ الْأَغْذِيَة ]
وَكَانَ
يُحِبّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ وَهَذِهِ الثّلَاثَةُ - أَعْنِي اللّحْمَ
وَالْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ - مِنْ أَفْضَلِ الْأَغْذِيَةِ وَأَنْفَعِهَا
لِلْبَدَنِ وَالْكَبِدِ وَالْأَعْضَاءِ وَلِلِاغْتِذَاءِ بِهَا نَفْعٌ
عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ وَالْقُوّةِ وَلَا يَنْفِرُ مِنْهَا إلّا
مَنْ بِهِ عِلّةٌ وَآفَةٌ .
[ يُؤْدِمُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُبْزَ الشّعِيرِ بِاللّحْمِ وَالْبِطّيخِ وَالتّمْرِ وَالْخَلّ وَفَوَائِدُ ذَلِكَ ]
وَكَانَ
يَأْكُلُ الْخُبْزَ مَأْدُومًا مَا وَجَدَ لَهُ إدَامًا فَتَارَةً
يَأْدِمُهُ بِاللّحْمِ وَيَقُولُ هُوَ سَيّدُ طَعَامِ أَهْلِ الدّنْيَا
وَالْآخِرَةِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ . وَتَارَةً بِالْبِطّيخِ
وَتَارَةً بِالتّمْرِ فَإِنّهُ وَضَعَ تَمْرَةً عَلَى كِسْرَةِ شَعِيرٍ
وَقَالَ هَذَا إدَامُ هَذِهِ وَفِي هَذَا مِنْ تَدْبِيرِ الْغِذَاءِ أَنّ
خُبْزَ الشّعِيرِ بَارِدٌ يَابِسٌ وَالتّمْرَ حَارّ رَطْبٌ عَلَى أَصَحّ
الْقَوْلَيْنِ فَأَدْمُ [ ص 201 ] كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَتَارَةً
بِالْخَلّ وَيَقُولُ نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَل وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَيْهِ
بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ الْحَاضِرِ لَا تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَى
غَيْرِهِ كَمَا يَظُنّ الْجُهّالُ وَسَبَبُ الْحَدِيثِ أَنّهُ دَخَلَ
عَلَى أَهْلِهِ يَوْمًا فَقَدّمُوا لَهُ خُبْزًا فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ
مِنْ إدَامٍ ؟ " قَالُوا : مَا عِنْدَنَا إلّا خَلّ فَقَالَ " نِعْمَ
الْإِدَامُ الْخَلّ وَالْمَقْصُودُ أَنّ أَكْلَ الْخُبْزِ مَأْدُومًا مِنْ
أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا
وَحْدَهُ . وَسُمّيَ الْأَدْمُ أُدُمًا : لِإِصْلَاحِهِ الْخُبْزَ
وَجَعْلِهِ مُلَائِمًا لِحِفْظِ الصّحّةِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي
إبَاحَتِهِ لِلْخَاطِبِ النّظَرَ إنّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا
أَيْ أَقْرَبُ إلَى الِالْتِئَامِ وَالْمُوَافَقَةِ فَإِنّ الزّوْجَ
يَدْخُلُ عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَا يَنْدَمُ .
[ أَكْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْفَاكِهَةَ ]
وَكَانَ
يَأْكُلُ مِنْ فَاكِهَةِ بَلَدِهِ عِنْدَ مَجِيئِهَا وَلَا يَحْتَمِي
عَنْهَا وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ فَإِنّ
اللّهَ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ جَعَلَ فِي كُلّ بَلْدَةٍ مِنْ
الْفَاكِهَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُهَا فِي وَقْتِهِ فَيَكُونُ
تَنَاوُلُهُ مِنْ أَسْبَابِ صِحّتِهِمْ وَعَافِيَتِهِمْ وَيُغْنِي عَنْ
كَثِيرٍ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَقَلّ مَنْ احْتَمَى عَنْ فَاكِهَةِ بَلَدِهِ
خَشْيَةَ السّقَمِ إلّا وَهُوَ مِنْ أَسْقَمِ النّاسِ جِسْمًا
وَأَبْعَدِهِمْ مِنْ الصّحّةِ وَالْقُوّةِ . وَمَا فِي تِلْكَ
الْفَاكِهَةِ مِنْ الرّطُوبَاتِ فَحَرَارَةُ الْفَصْلِ وَالْأَرْضِ
وَحَرَارَةُ الْمَعِدَةِ تُنْضِجُهَا وَتَدْفَعُ شَرّهَا إذَا لَمْ
يُسْرِفْ فِي تَنَاوُلِهَا وَلَمْ يُحَمّلْ مِنْهَا الطّبِيعَةَ فَوْقَ
مَا تَحْتَمِلُهُ وَلَمْ يُفْسِدْ بِهَا الْغِذَاءَ قَبْلَ هَضْمِهِ وَلَا
أَفْسَدَهَا بِشُرْبِ الْمَاءِ عَلَيْهَا وَتَنَاوُلِ الْغِذَاءِ بَعْدَ
التّحَلّي مِنْهَا فَإِنّ الْقُولَنْجَ كَثِيرًا مَا يَحْدُثُ عِنْدَ
ذَلِكَ فَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا مَا يَنْبَغِي فِي الْوَقْتِ الّذِي
يَنْبَغِي عَلَى الْوَجْهِ الّذِي يَنْبَغِي كَانَتْ لَهُ دَوَاءً
نَافِعًا . [ ص 202 ]
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَيْئَةِ الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ
[ عَدَمُ الِاتّكَاءِ عِنْدَ الْأَكْلِ ]
صَحّ
عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَا آكُلُ مُتّكِئًا " وَقَالَ " إنّمَا أَجْلِسُ
كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ .
[ عَدَمُ الْأَكْلِ مَعَ الِانْبِطَاحِ ]
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ " أَنّهُ نَهَى أَنْ يَأْكُلَ الرّجُلُ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى وَجْهِهِ
[ تَفْسِيرُ الِاتّكَاءِ ]
وَقَدْ
فُسّرَ الِاتّكَاءُ بِالتّرَبّعِ وَفُسّرَ بِالِاتّكَاءِ عَلَى الشّيْءِ
وَهُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَفُسّرَ بِالِاتّكَاءِ عَلَى الْجَنْبِ .
وَالْأَنْوَاعُ الثّلَاثَةُ مِنْ الِاتّكَاءِ فَنَوْعٌ مِنْهَا يَضُرّ
بِالْآكِلِ وَهُوَ الِاتّكَاءُ عَلَى الْجَنْبِ فَإِنّهُ يَمْنَعُ مَجْرَى
الطّعَامِ الطّبِيعِيّ عَنْ هَيْئَتِهِ وَيَعُوقُهُ عَنْ سُرْعَةِ
نُفُوذِهِ إلَى الْمَعِدَةِ وَيَضْغَطُ الْمَعِدَةَ فَلَا يُسْتَحْكَمُ
فَتْحُهَا لِلْغِذَاءِ وَأَيْضًا فَإِنّهَا تَمِيلُ وَلَا تَبْقَى
مُنْتَصِبَةً فَلَا يَصِلُ الْغِذَاءُ إلَيْهَا بِسُهُولَةٍ . [ ص 203 ]
الْمُنَافِي لِلْعُبُودِيّةِ وَلِهَذَا قَالَ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ
الْعَبْدُ وَكَانَ يَأْكُلُ وَهُوَ مُقْعٍ وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ
يَجْلِسُ لِلْأَكْلِ مُتَوَرّكًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَضَعُ بَطْنَ
قَدَمِهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ الْيُمْنَى تَوَاضُعًا
لِرَبّهِ عَزّ وَجَلّ وَأَدَبًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَاحْتِرَامًا لِلطّعَامِ
وَلِلْمُؤَاكِلِ فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ أَنْفَعُ هَيْئَاتِ الْأَكْلِ
وَأَفْضَلُهَا لِأَنّ الْأَعْضَاءَ كُلّهَا تَكُونُ عَلَى وَضْعِهَا
الطّبِيعِيّ الّذِي خَلَقَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ مَعَ مَا
فِيهَا مِنْ الْهَيْئَةِ الْأَدَبِيّةِ وَأَجْوَدُ مَا اغْتَذَى
الْإِنْسَانُ إذَا كَانَتْ أَعْضَاؤُهُ عَلَى وَضْعِهَا الطّبِيعِيّ وَلَا
يَكُونُ كَذَلِكَ إلّا إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُنْتَصِبًا الِانْتِصَابَ
الطّبِيعِيّ وَأَرْدَأُ الْجِلْسَاتِ لِلْأَكْلِ الِاتّكَاءُ عَلَى
الْجَنْبِ لِمَا تَقَدّمَ مِنْ أَنّ الْمَرِيءَ وَأَعْضَاءَ الِازْدِرَادِ
تَضِيقُ عِنْدَ هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَالْمَعِدَةُ لَا تَبْقَى عَلَى
وَضْعِهَا الطّبِيعِيّ لِأَنّهَا تَنْعَصِرُ مِمّا يَلِي الْبَطْنَ
بِالْأَرْضِ وَمِمّا يَلِي الظّهْرَ بِالْحِجَابِ الْفَاصِلِ بَيْنَ
آلَاتِ الْغِذَاءِ وَآلَاتِ التّنَفّسِ . وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ
بِالِاتّكَاءِ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْوَسَائِدِ وَالْوَطَاءِ الّذِي
تَحْتَ الْجَالِسِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنّي إذَا أَكَلْت لَمْ أَقْعُدْ
مُتّكِئًا عَلَى الْأَوْطِيَةِ وَالْوَسَائِدِ كَفِعْلِ الْجَبَابِرَةِ
وَمَنْ يُرِيدُ الْإِكْثَارَ مِنْ الطّعَامِ لَكِنّي آكُلُ بُلْغَةً كَمَا
يَأْكُلُ الْعَبْدُ .
فَصْلٌ [ الْأَكْلُ بِالْأَصَابِعِ الثّلَاثِ ]
وَكَانَ
يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثّلَاثِ وَهَذَا أَنْفَعُ مَا يَكُونُ مِنْ
الْأَكَلَاتِ فَإِنّ الْأَكْلَ بِأُصْبُعٍ أَوْ أُصْبُعَيْنِ لَا
يَسْتَلِذّ بِهِ الْآكِلُ وَلَا يُمْرِيهِ وَلَا يُشْبِعُهُ إلّا بَعْدَ [
ص 204 ] طُولٍ وَلَا تَفْرَحُ آلَاتُ الطّعَامِ وَالْمَعِدَةُ بِمَا
يَنَالُهَا فِي كُلّ أَكْلَةٍ فَتَأْخُذُهَا عَلَى إغْمَاضٍ كَمَا
يَأْخُذُ الرّجُلُ حَقّهُ حَبّةً أَوْ حَبّتَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ
فَلَا يَلْتَذّ بِأَخْذِهِ وَلَا يُسَرّ بِهِ وَالْأَكْلُ بِالْخَمْسَةِ
وَالرّاحَةِ يُوجِبُ ازْدِحَامَ الطّعَامِ عَلَى آلَاتِهِ وَعَلَى
الْمَعِدَةِ وَرُبّمَا انْسَدّتْ الْآلَاتُ فَمَاتَ وَتُغْصَبُ الْآلَاتُ
عَلَى دَفْعِهِ وَالْمَعِدَةُ عَلَى احْتِمَالِهِ وَلَا يَجِدُ لَهُ
لَذّةً وَلَا اسْتِمْرَاءً فَأَنْفَعُ الْأَكْلِ أَكْلُهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَكْلُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ بِالْأَصَابِعِ الثّلَاثِ .
فَصْلٌ [ عَدَمُ الْأَكْلِ أَوْ الْجَمْعِ بَيْنَ بَعْضِ الْأَطْعِمَةِ ]
وَمَنْ
تَدَبّرَ أَغْذِيَتَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا كَانَ
يَأْكُلُهُ وَجَدَهُ لَمْ يَجْمَعْ قَطّ بَيْنَ لَبَنٍ وَسَمَكٍ وَلَا
بَيْنَ لَبَنٍ وَحَامِضٍ وَلَا بَيْنَ غِذَاءَيْنِ حَارّيْنِ وَلَا
بَارِدَيْنِ وَلَا لَزِجَيْنِ وَلَا قَابِضَيْنِ وَلَا مُسْهِلَيْنِ وَلَا
غَلِيظَيْنِ وَلَا مُرْخِيَيْنِ وَلَا مُسْتَحِيلَيْنِ إلَى خَلْطٍ
وَاحِدٍ وَلَا بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ كَقَابِضٍ وَمُسْهِلٍ وَسَرِيعِ
الْهَضْمِ وَبَطِيئِهِ وَلَا بَيْنَ شَوِيّ وَطَبِيخٍ وَلَا بَيْنَ طَرِيّ
وَقَدِيدٍ وَلَا بَيْنَ لَبَنٍ وَبَيْضٍ وَلَا بَيْنَ لَحْمٍ وَلَبَنٍ
وَلَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ طَعَامًا فِي وَقْتِ شِدّةِ حَرَارَتِهِ وَلَا
طَبِيخًا بَائِتًا يُسَخّنُ لَهُ بِالْغَدِ وَلَا شَيْئًا مِنْ
الْأَطْعِمَةِ الْعَفِنَةِ وَالْمَالِحَةِ كَالْكَوَامِخِ
وَالْمُخَلّلَاتِ وَالْمُلُوحَاتِ وَكُلّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ضَارّ
مُوَلّدٌ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الصّحّةِ وَالِاعْتِدَالِ .
[ تَعْدِيلُ الطّعَامِ بِضِدّهِ ]
وَكَانَ
يُصْلِحُ ضَرَرَ بَعْضِ الْأَغْذِيَةِ بِبَعْضٍ إذَا وَجَدَ إلَيْهِ
سَبِيلًا فَيَكْسِرُ حَرَارَةَ هَذَا بِبُرُودَةِ هَذَا وَيُبُوسَةَ هَذَا
بِرُطُوبَةِ هَذَا كَمَا فَعَلَ فِي الْقِثّاءِ وَالرّطَبِ وَكَمَا كَانَ
يَأْكُلُ التّمْرَ بِالسّمْنِ وَهُوَ الْحَيْسُ وَيَشْرَبُ نَقِيعَ
التّمْرِ يُلَطّفُ بِهِ كَيْمُوسَاتِ الْأَغْذِيَةِ الشّدِيدَةِ .
[ الْأَمْرُ بِالْعَشَاءِ ]
وَكَانَ
يَأْمُرُ بِالْعَشَاءِ وَلَوْ بِكَفّ مِنْ تَمْرٍ وَيَقُولُ تَرْكُ
الْعَشَاءِ مَهْرَمَةٌ ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " وَابْنُ
مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " . [ ص 205 ]
[ عَدَمُ النّوْمِ عَلَى الْأَكْلِ ]
وَذَكَرَ
أَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ النّوْمِ عَلَى
الْأَكْلِ وَيَذْكُرُ أَنّهُ يُقْسِي الْقَلْبَ وَلِهَذَا فِي وَصَايَا
الْأَطِبّاءِ لِمَنْ أَرَادَ حِفْظَ الصّحّةِ أَنْ يَمْشِيَ بَعْدَ
الْعَشَاءِ خُطُوَاتٍ وَلَوْ مِائَةَ خُطْوَةٍ وَلَا يَنَامُ عَقِبَهُ
فَإِنّهُ مُضِرّ جِدّا وَقَالَ مُسْلِمُوهُمْ أَوْ يُصَلّيَ عَقِيبَهُ
لِيَسْتَقِرّ الْغِذَاءُ بِقَعْرِ الْمَعِدَةِ فَيَسْهُلَ هَضْمُهُ
وَيَجُودَ بِذَلِكَ .
[ عَدَمُ الشّرْبِ عَلَى الطّعَامِ ]
وَلَمْ
يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ أَنْ يَشْرَبَ عَلَى طَعَامِهِ فَيُفْسِدَهُ وَلَا
سِيّمَا إنْ كَانَ الْمَاءُ حَارّا أَوْ بَارِدًا فَإِنّهُ رَدِيءٌ جِدّا
. قَالَ الشّاعِرُ
لَا تَكُنْ عِنْدَ أَكْلِ سُخْنٍ وَبَرْدٍ
وَدُخُولِ الْحَمّامِ تَشْرَبُ مَاءَ
فَإِذَا مَا اجْتَنَبْتَ ذَلِكَ حَقّا
لَمْ تَخَفْ مَا حَيِيت فِي الْجَوْفِ دَاءَ
[الْأَوْقَاتُ الّتِي يُنْصَحُ فِيهَا بِعَدَمِ الشّرْبِ ]
وَيُكْرَهُ
شُرْبُ الْمَاءِ عَقِيبَ الرّيَاضَةِ وَالتّعَبِ وَعَقِيبَ الْجِمَاعِ
وَعَقِيبَ الطّعَامِ وَقَبْلَهُ وَعَقِيبَ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ وَإِنْ
كَانَ الشّرْبُ عَقِيبَ بَعْضِهَا أَسْهَلَ مِنْ بَعْضٍ وَعَقِبَ
الْحَمّامِ وَعِنْدَ الِانْتِبَاهِ مِنْ النّوْمِ فَهَذَا كُلّهُ مُنَافٍ
لِحِفْظِ الصّحّةِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْعَوَائِدِ فَإِنّهَا طَبَائِعُ
ثَوَانٍ .
فَصْلٌ [ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الشّرَابِ ]
[شُرْبُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَسَلَ الْمَمْزُوجَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَفَوَائِدُهُ ]
وَأَمّا
هَدْيُهُ فِي الشّرَابِ فَمِنْ أَكْمَلِ هَدْيٍ يُحْفَظُ بِهِ الصّحّةُ
فَإِنّهُ كَانَ يَشْرَبُ الْعَسَلَ الْمَمْزُوجَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ
وَفِي هَذَا مِنْ حِفْظِ الصّحّةِ مَا لَا يَهْتَدِي إلَى مَعْرِفَتِهِ
إلّا أَفَاضِلُ الْأَطِبّاءِ فَإِنّ شُرْبَهُ وَلَعْقَهُ عَلَى الرّيقِ
يُذِيبُ الْبَلْغَمَ وَيَغْسِلُ خَمْلَ الْمَعِدَةِ وَيَجْلُو
لُزُوجَتَهَا وَيَدْفَعُ عَنْهَا الْفَضَلَاتِ [ ص 206 ] أَنْفَعُ
لِلْمَعِدَةِ مِنْ كُلّ حُلْوٍ دَخَلَهَا وَإِنّمَا يَضُرّ بِالْعَرَضِ
لِصَاحِبِ الصّفْرَاءِ لِحِدّتِهِ وَحِدّةِ الصّفْرَاءِ فَرُبّمَا
هَيّجَهَا وَدَفْعُ مَضَرّتِهِ لَهُمْ بِالْخَلّ فَيَعُودُ حِينَئِذٍ
لَهُمْ نَافِعًا جِدّا وَشُرْبُهُ أَنْفَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ
الْأَشْرِبَةِ الْمُتّخَذَةِ مِنْ السّكّرِ أَوْ أَكْثَرِهَا وَلَا
سِيّمَا لِمَنْ لَمْ يَعْتَدْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ وَلَا أَلِفَهَا
طَبْعُهُ فَإِنّهُ إذَا شَرِبَهَا لَا تُلَائِمُهُ مُلَاءَمَةَ الْعَسَلِ
وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ وَالْمُحَكّمُ فِي ذَلِكَ الْعَادَةُ فَإِنّهَا
تَهْدِمُ أُصُولًا وَتَبْنِي أُصُولًا . وَأَمّا الشّرَابُ إذَا جُمِعَ
وَصُفّيَ الْحَلَاوَةُ وَالْبُرُودَةُ فَمِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ لِلْبَدَنِ
وَمِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ وَلِلْأَرْوَاحِ وَالْقُوَى
وَالْكَبِدِ وَالْقَلْبِ عِشْقٌ شَدِيدٌ لَهُ وَاسْتِمْدَادٌ مِنْهُ
وَإِذَا كَانَ فِيهِ الْوَصْفَانِ حَصَلَتْ بِهِ التّغْذِيَةُ وَتَنْفِيذُ
الطّعَامِ إلَى الْأَعْضَاءِ وَإِيصَالُهُ إلَيْهَا أَتَمّ تَنْفِيذٍ .
[ مَنَافِعُ الْمَاءِ الْبَارِدِ ]
وَالْمَاءُ
الْبَارِدُ رَطْبٌ يَقْمَعُ الْحَرَارَةَ وَيَحْفَظُ عَلَى الْبَدَنِ
رُطُوبَاتِهِ الْأَصْلِيّةَ وَيَرُدّ عَلَيْهِ بَدَلَ مَا تَحَلّلَ
مِنْهَا وَيُرَقّقُ الْغِذَاءَ وَيُنْفِذُهُ فِي الْعُرُوقِ .
[ هَلْ الْمَاءُ الْبَارِدُ يُغَذّي الْبَدَنَ ]
وَاخْتَلَفَ
الْأَطِبّاءُ هَلْ يُغَذّي الْبَدَنَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَأَثْبَتَتْ
طَائِفَةٌ التّغْذِيَةَ بِهِ بِنَاءً عَلَى مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ
النّمُوّ وَالزّيَادَةِ وَالْقُوّةِ فِي الْبَدَنِ بِهِ وَلَا سِيّمَا
عِنْدَ شِدّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ . قَالُوا : وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ
وَالنّبَاتِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ مِنْهَا : النّمُوّ
وَالِاغْتِذَاءُ وَالِاعْتِدَالُ وَفِي النّبَاتِ قُوّةُ حِسّ تُنَاسِبُهُ
وَلِهَذَا كَانَ غِذَاءُ النّبَاتِ بِالْمَاءِ فَمَا يُنْكَرُ أَنْ
يَكُونَ لِلْحَيَوَانِ بِهِ نَوْعُ غِذَاءٍ وَأَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ
غِذَائِهِ التّامّ . قَالُوا : وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنّ قُوّةَ
الْغِذَاءِ وَمُعْظَمَهُ فِي الطّعَامِ وَإِنّمَا أَنْكَرْنَا أَنْ لَا
يَكُونَ لِلْمَاءِ تَغْذِيَةٌ الْبَتّةَ . قَالُوا : وَأَيْضًا الطّعَامُ
إنّمَا يُغَذّي بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَائِيّةِ وَلَوْلَاهَا لَمَا
حَصَلَتْ بِهِ التّغْذِيَةُ . [ ص 207 ] قَالُوا : وَلِأَنّ الْمَاءَ
مَادّةُ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَالنّبَاتِ وَلَا رَيْبَ أَنّ مَا كَانَ
أَقْرَبَ إلَى مَادّةِ الشّيْءِ حَصَلَتْ بِهِ التّغْذِيَةُ فَكَيْفَ إذَا
كَانَتْ مَادّتَهُ الْأَصْلِيّةَ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا
مِنَ الْمَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ } [ الْأَنْبِيَاءِ 30 ] فَكَيْفَ
نُنْكِرُ حُصُولَ التّغْذِيَةِ بِمَا هُوَ مَادّةُ الْحَيَاةِ عَلَى
الْإِطْلَاقِ ؟ . قَالُوا : وَقَدْ رَأَيْنَا الْعَطْشَانَ إذَا حَصَلَ
لَهُ الرّيّ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ تَرَاجَعَتْ إلَيْهِ قُوَاهُ
وَنَشَاطُهُ وَحَرَكَتُهُ وَصَبَرَ عَنْ الطّعَامِ وَانْتَفَعَ
بِالْقَدْرِ الْيَسِيرِ مِنْهُ وَرَأَيْنَا الْعَطْشَانَ لَا يَنْتَفِعُ
بِالْقَدْرِ الْكَثِيرِ مِنْ الطّعَامِ وَلَا يَجِدُ بِهِ الْقُوّةَ
وَالِاغْتِذَاءَ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنّ الْمَاءَ يُنْفِذُ الْغِذَاءَ
إلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَإِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَأَنّهُ لَا
يَتِمّ أَمْرُ الْغِذَاءِ إلّا بِهِ وَإِنّمَا نُنْكِرُ عَلَى مَنْ سَلَبَ
قُوّةَ التّغْذِيَةِ عَنْهُ الْبَتّةَ وَيَكَادُ قَوْلُهُ عِنْدَنَا
يَدْخُلُ فِي إنْكَارِ الْأُمُورِ الْوِجْدَانِيّةِ .
[ مَنْ أَنْكَرَ حُصُولَ التّغْذِيَةِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ ]
وَأَنْكَرَتْ
طَائِفَةٌ أُخْرَى حُصُولَ التّغْذِيَةِ بِهِ وَاحْتَجّتْ بِأُمُورٍ
يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِهِ وَأَنّهُ لَا يَقُومُ
مَقَامَ الطّعَامِ وَأَنّهُ لَا يَزِيدُ فِي نُمُوّ الْأَعْضَاءِ وَلَا
يُخَلّفُ عَلَيْهَا بَدَلَ مَا حَلّلَتْهُ الْحَرَارَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ
مِمّا لَا يُنْكِرُهُ أَصْحَابُ التّغْذِيَةِ فَإِنّهُمْ يَجْعَلُونَ
تَغْذِيَتَهُ بِحَسَبِ جَوْهَرِهِ وَلَطَافَتِهِ وَرِقّتِهِ وَتَغْذِيَةُ
كُلّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ وَقَدْ شُوهِدَ الْهَوَاءُ الرّطْبُ الْبَارِدُ
اللّيّنُ اللّذِيذُ يُغَذّي بِحَسْبِهِ وَالرّائِحَةُ الطّيّبَةُ تُغَذّي
نَوْعًا مِنْ الْغِذَاءِ فَتَغْدِيَةُ الْمَاءِ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ .
وَالْمَقْصُودُ أَنّهُ إذَا كَانَ بَارِدًا وَخَالَطَهُ مَا يُحَلّيهِ
كَالْعَسَلِ أَوْ الزّبِيبِ أَوْ التّمْرِ أَوْ السّكّرِ كَانَ مِنْ
أَنْفَعِ مَا يَدْخُلُ الْبَدَنَ وَحَفِظَ عَلَيْهِ صِحّتَهُ فَلِهَذَا
كَانَ أَحَبّ الشّرَابِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْبَارِدَ الْحُلْوَ . وَالْمَاءُ الْفَاتِرُ يَنْفُخُ
وَيَفْعَلُ ضِدّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ .
[ مَنَافِعُ الْمَاءِ الْبَائِتِ ]
وَلَمّا
كَانَ الْمَاءُ الْبَائِتُ أَنْفَعَ مِنْ الّذِي يُشْرَبُ وَقْتَ
اسْتِقَائِهِ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ
دَخَلَ إلَى حَائِطِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التّيْهَانِ [ ص 208 ] هَلْ
مِنْ مَاءٍ بَاتَ فِي شَنّةٍ ؟ " فَأَتَاهُ بِهِ فَشَرِبَ مِنْهُ رَوَاهُ
الْبُخَارِيّ وَلَفْظُهُ إنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنّةٍ
وَإِلّا كَرَعْنَا . وَالْمَاءُ الْبَائِتُ بِمَنْزِلَةِ الْعَجِينِ
الْخَمِيرِ وَاَلّذِي شُرِبَ لِوَقْتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْفَطِيرِ
وَأَيْضًا فَإِنّ الْأَجْزَاءَ التّرَابِيّةَ وَالْأَرْضِيّةَ تُفَارِقُهُ
إذَا بَاتَ وَقَدْ ذُكِرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ وَيُخْتَارُ الْبَائِتُ مِنْهُ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يُسْتَقَى لَهُ الْمَاءُ الْعَذْبُ مِنْ بِئْرِ السّقْيَا .
[ الْمَاءُ الّذِي فِي الْقِرَبِ وَالشّنَانِ أَلَذّ مِنْ الّذِي فِي آنِيَةِ الْفَخّارِ وَالْأَحْجَارِ وَغَيْرِهِمَا ]
وَالْمَاءُ
الّذِي فِي الْقِرَبِ وَالشّنَانِ أَلَذّ مِنْ الّذِي يَكُونُ فِي آنِيَةِ
الْفَخّارِ وَالْأَحْجَارِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا سِيّمَا أَسْقِيَةَ
الْأُدُمِ وَلِهَذَا الْتَمَسَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَاءً بَاتَ فِي شَنّةٍ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَوَانِي وَفِي الْمَاءِ
إذَا وُضِعَ فِي الشّنَانِ وَقِرَبِ الْأُدُمِ خَاصّةٌ لَطِيفَةٌ لِمَا
فِيهَا مِنْ الْمَسَامّ الْمُنْفَتِحَةِ الّتِي يَرْشَحُ مِنْهَا الْمَاءُ
وَلِهَذَا كَانَ الْمَاءُ فِي الْفَخّارِ الّذِي يَرْشَحُ أَلَذّ مِنْهُ
وَأَبْرَدَ فِي الّذِي لَا يَرْشَحُ فَصَلَاةُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى
أَكْمَلِ الْخَلْقِ وَأَشْرَفِهِمْ نَفْسًا وَأَفْضَلِهِمْ هَدْيًا فِي
كُلّ شَيْءٍ لَقَدْ دَلّ أُمّتَهُ عَلَى أَفْضَلِ الْأُمُورِ
وَأَنْفَعِهَا لَهُمْ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالدّنْيَا
وَالْآخِرَةِ .
[ مَعْنَى الْحُلْوَ الْبَارِدَ ]
قَالَتْ عَائِشَةُ
كَانَ أَحَبّ الشّرَابِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْحُلْوَ الْبَارِدَ . وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ
الْمَاءَ الْعَذْبَ كَمِيَاهِ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ [ ص 209 ] كَانَ
يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَاءَ
الْمَمْزُوجَ بِالْعَسَلِ أَوْ الّذِي نُقِعَ فِيهِ التّمْرُ أَوْ
الزّبِيبُ . وَقَدْ يُقَالُ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - يَعُمّهُمَا جَمِيعًا .
[ مَعْنَى الْكَرْعِ وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ ]
وَقَوْلُهُ
فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ إنْ كَانَ عِنْدَك مَاءٌ بَاتَ فِي شَنّ وَإِلّا
كَرَعْنَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْكَرْعِ وَهُوَ الشّرْبُ
بِالْفَمِ مِنْ الْحَوْضِ وَالْمِقْرَاةِ وَنَحْوِهَا وَهَذِهِ -
وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَاقِعَةُ عَيْنٍ دَعَتْ الْحَاجَةُ فِيهَا إلَى
الْكَرْعِ بِالْفَمِ أَوْ قَالَهُ مُبَيّنًا لِجَوَازِهِ فَإِنّ مِنْ
النّاسِ مَنْ يَكْرَهُهُ وَالْأَطِبّاءُ تَكَادُ تُحَرّمُهُ وَيَقُولُونَ
إنّهُ يَضُرّ بِالْمَعِدَةِ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ لَا أَدْرِي مَا
حَالُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
نَهَانَا أَنْ نَشْرَبَ عَلَى بُطُونِنَا وَهُوَ الْكَرْعُ وَنَهَانَا
أَنْ نَغْتَرِفَ بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ وَقَالَ لَا يَلَغْ أَحَدُكُمْ
كَمَا يَلَغُ الْكَلْبُ وَلَا يَشْرَبْ بِاللّيْلِ مِنْ إنَاءٍ حَتّى
يَخْتَبِرَهُ إلّا أَنْ يَكُونَ مُخَمّرًا . وَحَدِيثُ الْبُخَارِيّ
أَصَحّ مِنْ هَذَا وَإِنْ صَحّ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا إذْ لَعَلّ
الشّرْبَ بِالْيَدِ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ حِينَئِذٍ فَقَالَ وَإِلّا
كَرَعْنَا وَالشّرْبُ بِالْفَمِ إنّمَا يَضُرّ إذَا انْكَبّ الشّارِبُ
عَلَى وَجْهِهِ وَبَطْنِهِ كَاَلّذِي يَشْرَبُ مِنْ النّهْرِ وَالْغَدِيرِ
فَأَمّا إذَا شَرِبَ مُنْتَصِبًا بِفَمِهِ مِنْ حَوْضٍ مُرْتَفِعٍ
وَنَحْوِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَ بِيَدِهِ أَوْ بِفَمِهِ .
فَصْلٌ [ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ الشّرْبِ قَائِمًا ]
وَكَانَ
مِنْ هَدْيِهِ الشّرْبُ قَاعِدًا هَذَا كَانَ هَدْيَهُ الْمُعْتَادَ
وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ [ ص 210 ] نَهَى عَنْ الشّرْبِ قَائِمًا وَصَحّ
عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ الّذِي شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَسْتَقِيئَ وَصَحّ
عَنْهُ أَنّهُ شَرِبَ قَائِمًا . قَالَتْ طَائِفَةٌ هَذَا نَاسِخٌ
لِلنّهْيِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بَلْ مُبَيّنٌ أَنّ النّهْيَ لَيْسَ
لِلتّحْرِيمِ بَلْ لِلْإِرْشَادِ وَتَرْكِ الْأَوْلَى وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا فَإِنّهُ إنّمَا شَرِبَ قَائِمًا
لِلْحَاجَةِ فَإِنّهُ جَاءَ إلَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْهَا
فَاسْتَقَى فَنَاوَلُوهُ الدّلْوَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ وَهَذَا كَانَ
مَوْضِعَ حَاجَةٍ .
[ آفَاتُ الشّرْبِ قَائِمًا ]
وَلِلشّرْبِ
قَائِمًا آفَاتٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا : أَنّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الرّيّ
التّامّ وَلَا يَسْتَقِرّ فِي الْمَعِدَةِ حَتّى يَقْسِمَهُ الْكَبِدُ
عَلَى الْأَعْضَاءِ وَيَنْزِلَ بِسُرْعَةٍ وَحِدّةٍ إلَى الْمَعِدَةِ
فَيُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُبْرِدَ حَرَارَتَهَا وَيُشَوّشَهَا وَيُسْرِعَ
النّفُوذَ إلَى أَسْفَلِ الْبَدَنِ بِغَيْرِ تَدْرِيجٍ وَكُلّ هَذَا
يَضُرّ بِالشّارِبِ وَأَمّا إذَا فَعَلَهُ نَادِرًا أَوْ لِحَاجَةٍ لَمْ
يَضُرّهُ وَلَا يُعْتَرَضُ بِالْعَوَائِدِ عَلَى هَذَا فَإِنّ
الْعَوَائِدَ طَبَائِعُ ثَوَانٍ وَلَهَا أَحْكَامٌ أُخْرَى وَهِيَ
بِمَنْزِلَةِ الْخَارِجِ عَنْ الْقِيَاسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ .
فَصْلٌ [ تَنَفّسُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الشّرْبِ ثَلَاثًا ]
وَفِي
" صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَنَفّسُ فِي الشّرَابِ
ثَلَاثًا وَيَقُولُ إنّهُ أَرْوَى وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ . الشّرَابُ فِي
لِسَانِ الشّارِعِ وَحَمَلَةُ الشّرْعِ هُوَ الْمَاءُ وَمَعْنَى
تَنَفّسِهِ فِي الشّرَابِ إبَانَتُهُ الْقَدَحَ عَنْ فِيهِ وَتَنَفّسُهُ
خَارِجَهُ ثُمّ يَعُودُ إلَى الشّرَابِ كَمَا جَاءَ مُصَرّحًا بِهِ فِي
الْحَدِيثِ الْآخَرِ إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفّسْ فِي
الْقَدَحِ وَلَكِنْ لِيُبِنّ الْإِنَاءَ عَنْ فِيهِ . [ ص 211 ]
[فَوَائِدُ تَكْرَارِ الشّرْبِ ]
وَفِي
هَذَا الشّرْبِ حِكَمٌ جَمّةٌ وَفَوَائِدُ مُهِمّةٌ وَقَدْ نَبّهَ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَجَامِعِهَا بِقَوْلِهِ إنّهُ أَرْوَى
وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ فَأَرْوَى : أَشَدّ رِيّا وَأَبْلَغُهُ
وَأَنْفَعُهُ وَأَبْرَأُ أَفْعَلُ مِنْ الْبُرْءِ وَهُوَ الشّفَاءُ أَيْ
يُبْرِئُ مِنْ شَدّةِ الْعَطَشِ وَدَائِهِ لِتَرَدّدِهِ عَلَى الْمَعِدَةِ
الْمُلْتَهِبَةِ دُفُعَاتٍ فَتُسْكِنُ الدّفْعَةُ الثّانِيَةُ مَا
عَجَزَتْ الْأُولَى عَنْ تَسْكِينِهِ وَالثّالِثَةُ مَا عَجَزَتْ
الثّانِيَةُ عَنْهُ وَأَيْضًا فَإِنّهُ أَسْلَمُ لِحَرَارَةِ الْمَعِدَةِ
وَأَبْقَى عَلَيْهَا مِنْ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهَا الْبَارِدُ وَهْلَةً
وَاحِدَةً وَنَهْلَةً وَاحِدَةً . وَأَيْضًا فَإِنّهُ لَا يَرْوِي
لِمُصَادَفَتِهِ لِحَرَارَةِ الْعَطَشِ لَحْظَةً ثُمّ يُقْلِعُ عَنْهَا
وَلَمّا تُكْسَرْ سَوْرَتُهَا وَحِدّتُهَا وَإِنْ انْكَسَرَتْ لَمْ
تَبْطُلْ بِالْكُلّيّةِ بِخِلَافِ كَسْرِهَا عَلَى التّمَهّلِ
وَالتّدْرِيجِ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ أَسْلَمُ عَاقِبَةً وَآمَنُ غَائِلَةً
مِنْ تَنَاوُلِ جَمِيعِ مَا يُرْوِي دُفْعَةً وَاحِدَةً فَإِنّهُ يُخَافُ
مِنْهُ أَنْ يُطْفِئَ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ بِشِدّةِ بَرْدِهِ
وَكَثْرَةِ كَمّيّتِهِ أَوْ يُضْعِفُهَا فَيُؤَدّي ذَلِكَ إلَى فَسَادِ
مِزَاجِ الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَإِلَى أَمْرَاضٍ رَدِيئَةٍ خُصُوصًا
فِي سُكّانِ الْبِلَادِ الْحَارّةِ كَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ
وَنَحْوِهِمَا أَوْ فِي الْأَزْمِنَةِ الْحَارّةِ كَشِدّةِ الصّيْفِ
فَإِنّ الشّرْبَ وَهْلَةً وَاحِدَةً مَخُوفٌ عَلَيْهِمْ جِدّا فَإِنّ
الْحَارّ الْغَرِيزِيّ ضَعِيفٌ فِي بَوَاطِنِ أَهْلِهَا وَفِي تِلْكَ
الْأَزْمِنَةِ الْحَارّةِ . [ ص 212 ]
[ مَعْنَى أَمْرَأُ ]
وَقَوْلُهُ
" وَأَمْرَأُ هُوَ أَفْعَلُ مِنْ مَرِيءِ الطّعَامِ وَالشّرَابِ فِي
بَدَنِهِ إذَا دَخَلَهُ وَخَالَطَهُ بِسُهُولَةٍ وَلَذّةٍ وَنَفْعٍ .
وَمِنْهُ { فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } [ النّسَاءِ 4 ] هَنِيئًا فِي
عَاقِبَتِهِ مَرِيئًا فِي مَذَاقِهِ . وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنّهُ أَسْرَعُ
انْحِدَارًا عَنْ الْمَرِيءِ لِسُهُولَتِهِ وَخِفّتِهِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ
الْكَثِيرِ فَإِنّهُ لَا يَسْهُلُ عَلَى الْمَرِيءِ انْحِدَارُهُ .
[ آفَاتُ الشّرْبِ نَهْلَةً وَاحِدَةً ]
وَمِنْ
آفَاتِ الشّرْبِ نَهْلَةً وَاحِدَةً أَنّهُ يُخَافُ مِنْهُ الشّرَقُ
بِأَنْ يَنْسَدّ مَجْرَى الشّرَابِ لِكَثْرَةِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ
فَيَغَصّ بِهِ فَإِذَا تَنَفّسَ رُوَيْدًا ثُمّ شَرِبَ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ
.
[فَوَائِدُ تَكْرَارِ الشّرْبِ ]
وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنّ
الشّارِبَ إذَا شَرِبَ أَوّلَ مَرّةٍ تَصَاعَدَ الْبُخَارُ الدّخّانِيّ
الْحَارّ الّذِي كَانَ عَلَى الْقَلْبِ وَالْكَبِدِ لِوُرُودِ الْمَاءِ
الْبَارِدِ عَلَيْهِ فَأَخْرَجَتْهُ الطّبِيعَةُ عَنْهَا فَإِذَا شَرِبَ
مَرّةً وَاحِدَةً اتّفَقَ نُزُولُ الْمَاءِ الْبَارِدِ وَصُعُودُ
الْبُخَارِ فَيَتَدَافَعَانِ وَيَتَعَالَجَانِ وَمِنْ ذَلِكَ يَحْدُثُ
الشّرَقُ وَالْغُصّةُ وَلَا يَتَهَنّأُ الشّارِبُ بِالْمَاءِ وَلَا
يُمْرِئْهُ وَلَا يَتِمّ رِيّهُ . وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصّ الْمَاءَ مَصّا
وَلَا يَعُبّ عَبّا فَإِنّهُ مِنْ الْكُبَادِ .
[وُرُودُ الْمَاءِ عَلَى الْكَبِدِ جُمْلَةً وَاحِدَةً يُؤْلِمُهَا ]
وَالْكُبَادُ
- بِضَمّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ - هُوَ وَجَعُ الْكَبِدِ وَقَدْ
عُلِمَ بِالتّجْرِبَةِ أَنّ وُرُودَ الْمَاءِ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى
الْكَبِدِ يُؤْلِمُهَا وَيُضْعِفُ حَرَارَتَهَا وَسَبَبُ ذَلِكَ
الْمُضَادّةُ الّتِي بَيْنَ حَرَارَتِهَا وَبَيْنَ مَا وَرَدَ عَلَيْهَا
مِنْ كَيْفِيّةِ الْمَبْرُودِ وَكَمّيّتِهِ . وَلَوْ وَرَدَ بِالتّدْرِيجِ
شَيْئًا فَشَيْئًا لَمْ يُضَادّ حَرَارَتَهَا وَلَمْ يُضْعِفْهَا وَهَذَا
مِثَالُهُ صَبّ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الْقِدْرِ وَهِيَ تَفُورُ لَا
يَضُرّهَا صَبّهُ قَلِيلًا قَلِيلًا . وَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ فِي "
جَامِعِهِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَشْرَبُوا
نَفَسًا وَاحِدًا كَشُرْبِ الْبَعِيرِ وَلَكِنْ اشْرَبُوا مَثْنَى
وَثُلَاثَ وَسَمّوا إذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ وَاحْمَدُوا إذَا أَنْتُمْ
فَرَغْتُمْ [ ص 213 ]
[فَوَائِدُ التّسْمِيَةِ ]
وَلِلتّسْمِيَةِ
فِي أَوّلِ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَحَمْدِ اللّهِ فِي آخِرِهِ تَأْثِيرٌ
عَجِيبٌ فِي نَفْعِهِ وَاسْتِمْرَائِهِ وَدَفْعِ مَضَرّتِهِ .
[ كَمَالُ الطّعَامِ فِي التّسْمِيَةِ وَالْحَمْدِ وَتَكْثِيرِ الْأَيْدِي وَأَنْ يَكُونَ حَلَالًا ]
قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ إذَا جَمَعَ الطّعَامُ أَرْبَعًا فَقَدْ كَمُلَ إذَا
ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ فِي أَوّلِهِ وَحُمِدَ اللّهُ فِي آخِرِهِ وَكَثُرَتْ
عَلَيْهِ الْأَيْدِي وَكَانَ مِنْ حِلّ .
فَصْلٌ [ تَغْطِيَةُ الْإِنَاءِ وَإِيكَاءُ السّقَاءِ ]
وَقَدْ
رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَقُولُ غَطّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السّقَاءَ فَإِنّ فِي السّنَةِ
لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ لَا يَمُرّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ
غِطَاءٌ أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ إلّا وَقَعَ فِيهِ مِنْ
ذَلِكَ الدّاءِ . وَهَذَا مِمّا لَا تَنَالُهُ عُلُومُ الْأَطِبّاءِ
وَمَعَارِفُهُمْ وَقَدْ عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ عُقَلَاءُ النّاسِ
بِالتّجْرِبَةِ . قَالَ اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ
الْأَعَاجِمُ عِنْدَنَا يَتّقُونَ تِلْكَ اللّيْلَةَ فِي السّنَةِ فِي
كَانُونَ الْأَوّلِ مِنْهَا . وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ بِتَخْمِيرِ
الْإِنَاءِ وَلَوْ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ عُودًا . وَفِي عَرْضِ [ ص 214
] الْعُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْحِكْمَةِ أَنّهُ لَا يَنْسَى تَخْمِيرَهُ
بَلْ يَعْتَادُهُ حَتّى بِالْعُودِ وَفِيهِ أَنّهُ رُبّمَا أَرَادَ
الدّبِيبُ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ فَيَمُرّ عَلَى الْعُودِ فَيَكُونُ
الْعُودُ جِسْرًا لَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ السّقُوطِ فِيهِ . وَصَحّ عَنْهُ
أَنّهُ أَمَرَ عِنْدَ إيكَاءِ الْإِنَاءِ بِذِكْرِ اسْمِ اللّهِ فَإِنّ
ذِكْرَ اسْمِ اللّهِ عِنْدَ تَخْمِيرِ الْإِنَاءِ يَطْرُدُ عَنْهُ
الشّيْطَانَ وَإِيكَاؤُهُ يَطْرُدُ عَنْهُ الْهَوَامّ وَلِذَلِكَ أَمَرَ
بِذِكْرِ اسْمِ اللّهِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لِهَذَيْنِ
الْمَعْنَيَيْنِ .
[ النّهْيُ عَنْ الشّرْبِ مِنْ فَمِ السّقَاءِ وَالْآدَابُ الْمُتَرَتّبَةُ عَلَيْهِ ]
وَرَوَى
الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ الشّرْبِ مِنْ فِي
السّقَاءِ . وَفِي هَذَا آدَابٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا : أَنّ تَرَدّدَ
أَنْفَاسِ الشّارِبِ فِيهِ يُكْسِبُهُ زُهُومَةً وَرَائِحَةً كَرِيهَةً
يُعَافُ لِأَجْلِهَا . وَمِنْهَا : أَنّهُ رُبّمَا غَلَبَ الدّاخِلُ إلَى
جَوْفِهِ مِنْ الْمَاءِ فَتَضَرّرَ بِهِ . وَمِنْهَا : أَنّهُ رُبّمَا
كَانَ فِيهِ حَيَوَانٌ لَا يَشْعُرُ بِهِ فَيُؤْذِيهِ . وَمِنْهَا : أَنّ
الْمَاءَ رُبّمَا كَانَ فِيهِ قَذَاةٌ أَوْ غَيْرُهَا لَا يَرَاهَا عِنْدَ
الشّرْبِ فَتَلِجُ جَوْفَهُ . وَمِنْهَا : أَنّ الشّرْبَ كَذَلِكَ
يَمْلَأُ الْبَطْنَ مِنْ الْهَوَاءِ فَيَضِيقُ عَنْ أَخْذِ حَظّهِ مِنْ
الْمَاءِ أَوْ يُزَاحِمُهُ أَوْ يُؤْذِيهِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الْحِكَمِ .
[ ضَعْفُ حَدِيثِ الشّرْبِ مِنْ فَمِ الْإِدَاوَةِ ]
فَإِنْ
قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا فِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " : أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعَا بِإِدَاوَةٍ يَوْمَ
أُحُدٍ فَقَالَ اخْنِثْ فَمَ الْإِدَاوَةِ ثُمّ شَرِبَ مِنْهَا مِنْ
فِيهَا ؟ قُلْنَا : [ ص 215 ] وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيّ
يُضَعّفُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ وَلَا أَدْرِي سَمِعَ مِنْ عِيسَى أَوْ لَا
انْتَهَى . يُرِيدُ عِيسَى بْنَ عَبْدِ اللّهِ الّذِي رَوَاهُ عَنْهُ عَنْ
رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ .
فَصْلٌ [ النّهْيُ عَنْ الشّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَبَيَانُ مَفَاسِدِهِ ]
وَفِي
" سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ
نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الشّرْبِ مِنْ
ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يَنْفُخَ فِي الشّرَابِ وَهَذَا مِنْ الْآدَابِ
الّتِي تَتِمّ بِهَا مَصْلَحَةُ الشّارِبِ فَإِنّ الشّرْبَ مِنْ ثُلْمَةِ
الْقَدَحِ فِيهِ عِدّةُ مَفَاسِدَ أَحَدُهَا : أَنّ مَا يَكُونُ عَلَى
وَجْهِ الْمَاءِ مِنْ قَذَى أَوْ غَيْرِهِ يَجْتَمِعُ إلَى الثّلْمَةِ
بِخِلَافِ الْجَانِبِ الصّحِيحِ . الثّانِي : أَنّهُ رُبّمَا شَوّشَ عَلَى
الشّارِبِ وَلَمْ يَتَمَكّنْ مِنْ حُسْنِ الشّرْبِ مِنْ الثّلْمَةِ .
الثّالِثُ أَنّ الْوَسَخَ وَالزّهُومَةَ تَجْتَمِعُ فِي الثّلْمَةِ وَلَا
يَصِلُ إلَيْهَا الْغَسْلُ كَمَا يَصِلُ إلَى الْجَانِبِ الصّحِيحِ .
الرّابِعُ أَنّ الثّلْمَةَ مَحَلّ الْعَيْبِ فِي الْقَدَحِ وَهِيَ
أَرْدَأُ مَكَانٍ فِيهِ فَيَنْبَغِي تَجَنّبُهُ وَقَصْدُ الْجَانِبِ
الصّحِيحِ فَإِنّ الرّدِيءَ مِنْ كُلّ شَيْءٍ لَا خَيْرَ فِيهِ وَرَأَى
بَعْضُ السّلَفِ رَجُلًا يَشْتَرِي حَاجَةً رَدِيئَةً فَقَالَ لَا
تَفْعَلْ أَمَا عَلِمْتَ أَنّ اللّهَ نَزَعَ الْبَرَكَةَ مِنْ كُلّ
رَدِيءٍ . [ ص 216 ] كَانَ فِي الثّلْمَةِ شَقّ أَوْ تَحْدِيدٌ يَجْرَحُ
فَمَ الشّارِبِ وَلِغَيْرِ هَذِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ .
[ مَفَاسِدُ النّفْخِ فِي الشّرَابِ ]
وَأَمّا
النّفْخُ فِي الشّرَابِ فَإِنّهُ يُكْسِبُهُ مِنْ فَمِ النّافِخِ
رَائِحَةً كَرِيهَةً يُعَافُ لِأَجْلِهَا وَلَا سِيّمَا إنْ كَانَ
مُتَغَيّرَ الْفَمِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَأَنْفَاسُ النّافِخِ تُخَالِطُهُ
وَلِهَذَا جَمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ
النّهْيِ عَنْ التّنَفّسِ فِي الْإِنَاءِ وَالنّفْخِ فِيهِ فِي الْحَدِيثِ
الّذِي رَوَاهُ التّرْمِذِيّ وَصَحّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ
يُتَنَفّسَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ .
[ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَنَفّسُ فِي الشّرْبِ وَلَا يَتَنَفّسُ فِي الْإِنَاءِ ]
فَإِنْ
قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ
أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَتَنَفّسُ فِي
الْإِنَاءِ ثَلَاثًا ؟ قِيلَ نُقَابِلُهُ بِالْقَبُولِ وَالتّسْلِيمِ
وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوّلِ فَإِنّ مَعْنَاهُ أَنّهُ
كَانَ يَتَنَفّسُ فِي شُرْبِهِ ثَلَاثًا وَذَكَرَ الْإِنَاءَ لِأَنّهُ
آلَةُ الشّرْبِ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ أَنّ
إبْرَاهِيمَ ابْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَاتَ
فِي الثّدْيِ أَيْ فِي مُدّةِ الرّضَاعِ .
فَصْلٌ [ شُرْبُ اللّبَنِ خَالِصًا وَمَشُوبًا بِالْمَاءِ وَمَنَافِعُهُ ]
وَكَانَ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَشْرَبُ اللّبَنَ خَالِصًا تَارَةً
وَمَشُوبًا بِالْمَاءِ أُخْرَى . وَفِي شُرْبِ اللّبَنِ الْحُلْوِ فِي
تِلْكَ الْبِلَادِ الْحَارّةِ خَالِصًا وَمَشُوبًا نَفْعٌ عَظِيمٌ فِي
حِفْظِ الصّحّةِ وَتَرْطِيبِ الْبَدَنِ وَرِيّ الْكَبِدِ وَلَا سِيّمَا
اللّبَنَ الّذِي تَرْعَى دَوَابّهُ الشّيحَ وَالْقَيْصُومَ وَالْخُزَامَى
[ ص 217 ] أَشْبَهَهَا فَإِنّ لَبَنَهَا غِذَاءٌ مَعَ الْأَغْذِيَةِ
وَشَرَابٌ مَعَ الْأَشْرِبَةِ وَدَوَاءٌ مَعَ الْأَدْوِيَةِ وَفِي "
جَامِعِ التّرْمِذِيّ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا
أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ
وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَإِذَا سُقِيَ لَبَنًا فَلْيَقُلْ اللّهُمّ
بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ
مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ إلّا اللّبَنُ . قَالَ التّرْمِذِيّ هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ .
فَصْلٌ [ الِانْتِبَاذُ فِي الْمَاءِ ]
وَثَبَتَ
فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ
يُنْبَذُ لَهُ أَوّلَ اللّيْلِ وَيَشْرَبُهُ إذَا أَصْبَحَ يَوْمَهُ
ذَلِكَ وَاللّيْلَةَ الّتِيتَجِيءُ وَالْغَدَ وَاللّيْلَةَ الْأُخْرَى
وَالْغَدَ إلَى الْعَصْرِ فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ سَقَاهُ الْخَادِمَ
أَوْ أَمَرَ بِهِ فَصُبّ . وَهَذَا النّبِيذُ هُوَ مَا يُطْرَحُ فِيهِ
تَمْرٌ يُحَلّيهِ وَهُوَ يَدْخُلُ فِي الْغِذَاءِ وَالشّرَابِ وَلَهُ
نَفْعٌ عَظِيمٌ فِي زِيَادَةِ الْقُوّةِ وَحِفْظِ الصّحّةِ وَلَمْ يَكُنْ
يَشْرَبُهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ خَوْفًا مِنْ تَغَيّرِهِ إلَى الْإِسْكَارِ .
فَصْلٌ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ الْمَلْبَسِ
وَكَانَ
مِنْ أَتَمّ الْهَدْيِ وَأَنْفَعِهِ لِلْبَدَنِ وَأَخَفّهِ عَلَيْهِ
وَأَيْسَرِهِ لُبْسًا وَخَلْعًا وَكَانَ أَكْثَرُ لُبْسِهِ الْأَرْدِيَةَ
وَالْأُزُرَ وَهِيَ أَخَفّ عَلَى الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِهَا وَكَانَ
يَلْبَسُ الْقَمِيصَ بَلْ كَانَ أَحَبّ الثّيَابِ إلَيْهِ . وَكَانَ
هَدْيُهُ فِي لَبْسِهِ لِمَا يَلْبَسُهُ أَنْفَعَ شَيْءٍ لِلْبَدَنِ
فَإِنّهُ لَمْ يَكُنْ يُطِيلُ أَكْمَامَهُ وَيُوَسّعُهَا بَلْ كَانَتْ
كُمّ قَمِيصِهِ إلَى الرّسْغِ لَا [ ص 218 ] خِفّةَ الْحَرَكَةِ
وَالْبَطْشِ وَلَا تَقْصُرُ عَنْ هَذِهِ فَتَبْرُزُ لِلْحَرّ وَالْبَرْدِ
وَكَانَ ذَيْلُ قَمِيصِهِ وَإِزَارِهِ إلَى أَنْصَافِ السّاقَيْنِ لَمْ
يَتَجَاوَزْ الْكَعْبَيْنِ فَيُؤْذِي الْمَاشِيَ وَيُؤَوّدُهُ
وَيَجْعَلُهُ كَالْمُقَيّدِ وَلَمْ يَقْصُرْ عَنْ عَضَلَةِ سَاقَيْهِ
فَتَنْكَشِفُ وَيَتَأَذّى بِالْحَرّ وَالْبَرْدِ وَلَمْ تَكُنْ
عِمَامَتُهُ بِالْكَبِيرَةِ الّتِي تُؤْذِي الرّأْسَ حَمْلُهَا
وَيُضْعِفُهُ وَيَجْعَلُهُ عُرْضَةً لِلضّعْفِ وَالْآفَاتِ كَمَا
يُشَاهَدُ مِنْ حَالِ أَصْحَابِهَا وَلَا بِالصّغِيرَةِ الّتِي تُقَصّرُ
عَنْ وِقَايَةِ الرّأْسِ مِنْ الْحَرّ وَالْبَرْدِ بَلْ وَسَطًا بَيْنَ
ذَلِكَ وَكَانَ يُدْخِلُهَا تَحْتَ حَنَكِهِ وَفِي ذَلِكَ فَوَائِدُ
عَدِيدَةٌ فَإِنّهَا تَقِي الْعُنُقَ الْحَرّ وَالْبَرْدَ وَهُوَ أَثْبَتُ
لَهَا وَلَا سِيّمَا عِنْدَ رُكُوبِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْكَرّ
وَالْفَرّ وَكَثِيرٌ مِنْ النّاسِ اتّخَذَ الْكَلَالِيبَ عِوَضًا عَنْ
الْحَنَكِ وَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا فِي النّفْعِ وَالزّينَةِ
وَأَنْتَ إذَا تَأَمّلْت هَذِهِ اللّبْسَةَ وَجَدْتَهَا مِنْ أَنْفَعِ
اللّبْسَاتِ وَأَبْلَغِهَا فِي حِفْظِ صِحّةِ الْبَدَنِ وَقُوّتِهِ
وَأَبْعَدِهَا مِنْ التّكَلّفِ وَالْمَشَقّةِ عَلَى الْبَدَنِ . وَكَانَ
يَلْبَسُ الْخِفَافَ فِي السّفَرِ دَائِمًا أَوْ أَغْلَبَ أَحْوَالِهِ
لِحَاجَةِ الرّجْلَيْنِ إلَى مَا يَقِيهِمَا مِنْ الْحَرّ وَالْبَرْدِ
وَفِي الْحَضَرِ أَحْيَانًا . وَكَانَ أَحَبّ أَلْوَانِ الثّيَابِ إلَيْهِ
الْبَيَاضَ وَالْحِبَرَةَ وَهِيَ الْبُرُودُ الْمُحَبّرَةُ وَلَمْ يَكُنْ
مِنْ هَدْيِهِ لَبْسُ الْأَحْمَرِ وَلَا الْأَسْوَدِ وَلَا الْمُصَبّغِ
وَلَا الْمَصْقُولِ . وَأَمّا الْحُلّةُ الْحَمْرَاءُ الّتِي لَبِسَهَا
فَهِيَ الرّدَاءُ الْيَمَانِيّ الّذِي فِيهِ سَوَادٌ وَحُمْرَةٌ وَبَيَاضٌ
كَالْحُلّةِ الْخَضْرَاءِ فَقَدْ لَبِسَ هَذِهِ وَهَذِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ
تَقْرِيرُ ذَلِكَ وَتَغْلِيطُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ لَبِسَ الْأَحْمَرَ
الْقَانِيَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ .
فَصْلٌ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ الْمَسْكَنِ
لَمّا
عَلِمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ وَأَنّ
الدّنْيَا مَرْحَلَةُ مُسَافِرٍ يَنْزِلُ فِيهَا مُدّةَ عُمُرِهِ ثُمّ
يَنْتَقِلُ عَنْهَا إلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ وَهَدْيِ
أَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ [ ص 219 ] وَتَعْلِيَتِهَا وَزَخْرَفَتِهَا
وَتَوْسِيعِهَا بَلْ كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ مَنَازِلِ الْمُسَافِرِ تَقِي
الْحَرّ وَالْبَرْدَ وَتَسْتُرُ عَنْ الْعُيُونِ وَتَمْنَعُ مِنْ وُلُوجِ
الدّوَابّ وَلَا يُخَافُ سُقُوطُهَا لِفَرْطِ ثِقَلِهَا وَلَا تُعَشّشُ
فِيهَا الْهَوَامّ لِسِعَتِهَا وَلَا تَعْتَوِرُ عَلَيْهَا الْأَهْوِيَةُ
وَالرّيَاحُ الْمُؤْذِيَةُ لِارْتِفَاعِهَا وَلَيْسَتْ تَحْتَ الْأَرْضِ
فَتُؤْذِي سَاكِنَهَا وَلَا فِي غَايَةِ الِارْتِفَاعِ عَلَيْهَا بَلْ
وَسَطٌ وَتِلْكَ أَعْدَلُ الْمَسَاكِنِ وَأَنْفَعُهَا وَأَقَلّهَا حَرّا
وَبَرْدًا وَلَا تَضِيقُ عَنْ سَاكِنِهَا فَيَنْحَصِرُ وَلَا تَفْضُلُ
عَنْهُ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَلَا فَائِدَةٍ فَتَأْوِي الْهَوَامّ فِي
خُلُوّهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا كُنُفٌ تُؤْذِي سَاكِنَهَا بِرَائِحَتِهَا
. بَلْ رَائِحَتُهَا مِنْ أَطْيَبِ الرّوَائِحِ لِأَنّهُ كَانَ يُحِبّ
الطّيبَ وَلَا يَزَالُ عِنْدَهُ وَرِيحُهُ هُوَ مِنْ أَطْيَبِ الرّائِحَةِ
وَعَرَقُهُ مِنْ أَطْيَبِ الطّيبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الدّارِ كَنِيفٌ
تَظْهَرُ رَائِحَتُهُ وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذِهِ مِنْ أَعْدَلِ
الْمَسَاكِنِ وَأَنْفَعِهَا وَأَوْفَقِهَا لِلْبَدَنِ وَحِفْظِ صِحّتِهِ .
فَصْلٌ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ النّوْمِ وَالْيَقَظَةِ
مَنْ
تَدَبّرَ نَوْمَهُ وَيَقَظَتَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَدَهُ
أَعْدَلَ نَوْمٍ وَأَنْفَعَهُ لِلْبَدَنِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى
فَإِنّهُ كَانَ يَنَامُ أَوّلَ اللّيْلِ وَيَسْتَيْقِظُ فِي أَوّلِ
النّصْفِ الثّانِي فَيَقُومُ وَيَسْتَاكُ وَيَتَوَضّأُ وَيُصَلّي مَا
كَتَبَ اللّهُ لَهُ فَيَأْخُذُ الْبَدَنُ وَالْأَعْضَاءُ وَالْقُوَى
حَظّهَا مِنْ النّوْمِ وَالرّاحَةِ وَحَظّهَا مِنْ الرّيَاضَةِ مَعَ
وُفُورِ الْأَجْرِ وَهَذَا غَايَةُ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ
وَالدّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ النّوْمِ فَوْقَ
الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ وَلَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنْ الْقَدْرِ
الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ مِنْهُ وَكَانَ يَفْعَلُهُ عَلَى أَكْمَلِ
الْوُجُوهِ فَيَنَامُ إذَا دَعَتْهُ الْحَاجَةُ إلَى النّوْمِ عَلَى
شِقّهِ الْأَيْمَنِ ذَاكِرًا اللّهَ حَتّى تَغْلِبَهُ عَيْنَاهُ غَيْرَ
مُمْتَلِئِ الْبَدَنِ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَلَا مُبَاشِرٍ
بِجَنْبِهِ الْأَرْضَ وَلَا مُتّخِذٍ لِلْفُرَشِ الْمُرْتَفِعَةِ بَلْ
لَهُ ضِجَاعٌ مَنْ أُدْمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ وَكَانَ يَضْطَجِعُ عَلَى
الْوِسَادَةِ وَيَضَعُ يَدَهُ تَحْتَ خَدّهِ أَحْيَانًا . [ ص 220 ]
[ نَوْعَا النّوْمِ ]
[ النّوْمُ الطّبِيعِيّ ]
وَنَحْنُ
نَذْكُرُ فَصْلًا فِي النّوْمِ وَالنّافِعِ مِنْهُ وَالضّارّ فَنَقُولُ
النّوْمُ حَالَةٌ لِلْبَدَنِ يَتْبَعُهَا غَوْرُ الْحَرَارَةِ
الْغَرِيزِيّةِ وَالْقُوَى إلَى بَاطِنِ الْبَدَنِ لِطَلَبِ الرّاحَةِ
وَهُوَ نَوْعَانِ طَبِيعِيّ وَغَيْرُ طَبِيعِيّ . فَالطّبِيعِيّ إمْسَاكُ
الْقُوَى النّفْسَانِيّةِ عَنْ أَفْعَالِهَا وَهِيَ قُوَى الْحِسّ
وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيّةِ وَمَتَى أَمْسَكَتْ هَذِهِ الْقُوَى عَنْ
تَحْرِيكِ الْبَدَنِ اسْتَرْخَى وَاجْتَمَعَتْ الرّطُوبَاتُ
وَالْأَبْخِرَةُ الّتِي كَانَتْ تَتَحَلّلُ وَتَتَفَرّقُ بِالْحَرَكَاتِ
وَالْيَقَظَةِ فِي الدّمَاغِ الّذِي هُوَ مَبْدَأُ هَذِهِ الْقُوَى
فَيَتَخَدّرُ وَيَسْتَرْخِي وَذَلِكَ النّوْمُ الطّبِيعِيّ .
[ النّوْمُ غَيْرُ الطّبِيعِيّ ]
وَأَمّا
النّوْمُ غَيْرُ الطّبِيعِيّ فَيَكُونُ لِعَرَضٍ أَوْ مَرَضٍ وَذَلِكَ
بِأَنْ تَسْتَوْلِيَ الرّطُوبَاتُ عَلَى الدّمَاغِ اسْتِيلَاءً لَا
تَقْدِرُ الْيَقَظَةُ عَلَى تَفْرِيقِهَا أَوْ تَصْعَدُ أَبْخِرَةٌ
رَطْبَةٌ كَثِيرَةٌ كَمَا يَكُونُ عَقِيبَ الِامْتِلَاءِ مِنْ الطّعَامِ
وَالشّرَابِ فَتُثْقِلُ الدّمَاغَ وَتُرْخِيهِ فَيَتَخَدّرُ وَيَقَعُ
إمْسَاكُ الْقُوَى النّفْسَانِيّةِ عَنْ أَفْعَالِهَا فَيَكُونُ النّوْمُ .
[ فَائِدَتَا النّوْم ]
وَلِلنّوْمِ
فَائِدَتَانِ جَلِيلَتَانِ إحْدَاهُمَا : سُكُونُ الْجَوَارِحِ
وَرَاحَتُهَا مِمّا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ التّعَبِ فَيُرِيحُ الْحَوَاسّ
مِنْ نَصْبِ الْيَقَظَةِ وَيُزِيلُ الْإِعْيَاءَ وَالْكَلَالَ .
وَالثّانِيَةُ هَضْمُ الْغِذَاءِ وَنُضْجُ الْأَخْلَاطِ لِأَنّ
الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ فِي وَقْتِ النّوْمِ تَغُورُ إلَى بَاطِنِ
الْبَدَنِ فَتُعِينُ عَلَى ذَلِكَ وَلِهَذَا يَبْرُدُ ظَاهِرُهُ
وَيَحْتَاجُ النّائِمُ إلَى فَضْلِ دِثَارٍ .
[أَنْفَعُ كَيْفِيّاتِ النّوْمِ ]
وَأَنْفَعُ
النّوْمِ أَنْ يَنَامَ عَلَى الشّقّ الْأَيْمَنِ لِيَسْتَقِرّ الطّعَامُ
بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ فِي الْمَعِدَةِ اسْتِقْرَارًا حَسَنًا فَإِنّ
الْمَعِدَةَ أَمْيَلُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ قَلِيلًا ثُمّ
يَتَحَوّلُ إلَى الشّقّ الْأَيْسَرِ قَلِيلًا لِيُسْرِعَ الْهَضْمَ
بِذَلِكَ لِاسْتِمَالَةِ الْمَعِدَةِ عَلَى الْكَبِدِ ثُمّ يَسْتَقِرّ
نَوْمُهُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ لِيَكُونَ الْغِذَاءُ أَسْرَعَ
انْحِدَارًا عَنْ الْمَعِدَةِ فَيَكُونُ النّوْمُ عَلَى الْجَانِبِ
الْأَيْمَنِ بُدَاءَةَ نَوْمِهِ وَنِهَايَتَهُ وَكَثْرَةُ النّوْمِ عَلَى
الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مُضِرّ بِالْقَلْبِ بِسَبَبِ مَيْلِ الْأَعْضَاءِ
إلَيْهِ فَتَنْصَبّ إلَيْهِ الْمَوَادّ .
[ أَرْدَأُ نَوْعِيّاتِ النّوْمِ ]
وَأَرْدَأُ
النّوْمِ النّوْمُ عَلَى الظّهْرِ وَلَا يَضُرّ الِاسْتِلْقَاءُ عَلَيْهِ
لِلرّاحَةِ مِنْ غَيْرِ [ ص 221 ] سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ قَالَ مَرّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى
رَجُلٍ نَائِمٍ فِي الْمَسْجِدِ مُنْبَطِحٍ عَلَى وَجْهِهِ فَضَرَبَهُ
بِرِجْلِهِ وَقَالَ قُمْ أَوْ اُقْعُدْ فَإِنّهَا نَوْمَةٌ جَهَنّمِيّةٌ
قَالَ إِبّقْرَاطُ فِي كِتَابِ " التّقْدِمَةِ " : وَأَمّا نَوْمُ
الْمَرِيضِ عَلَى بَطْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَادَتَهُ فِي
صِحّتِهِ جَرَتْ بِذَلِكَ يَدُلّ عَلَى اخْتِلَاطِ عَقْلٍ وَعَلَى أَلَمٍ
فِي نَوَاحِي الْبَطْنِ قَالَ الشّرّاحُ لِكِتَابِهِ لِأَنّهُ خَالَفَ
الْعَادَةَ الْجَيّدَةَ إلَى هَيْئَةٍ رَدِيئَةٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ
ظَاهِرٍ وَلَا بَاطِنٍ .
[ مَنَافِعُ النّوْمِ الْمُعْتَدِلِ ]
وَالنّوْمُ
الْمُعْتَدِلُ مُمَكّنٌ لِلْقُوَى الطّبِيعِيّةِ مِنْ أَفْعَالِهَا
مُرِيحٌ لِلْقُوّةِ النّفْسَانِيّةِ مُكْثِرٌ مِنْ جَوْهَرِ حَامِلِهَا
حَتّى إنّهُ رُبّمَا عَادَ بِرَخَائِهِ مَانِعًا مِنْ تَحَلّلِ
الْأَرْوَاحِ .
[مَفَاسِدُ نَوْمِ النّهَارِ وَبِخَاصّةٍ آخِرُهُ ]
وَنَوْمُ
النّهَارِ رَدِيءٌ يُورِثُ الْأَمْرَاضَ الرُطُوبِيّةَ وَالنّوَازِلَ
وَيُفْسِدُ اللّوْنَ وَيُورِثُ الطّحَالَ وَيُرْخِي الْعَصَبَ وَيُكْسِلُ
وَيُضْعِفُ الشّهْوَةَ إلّا فِي الصّيْفِ وَقْتَ الْهَاجِرَةِ
وَأَرْدَؤُهُ نَوْمُ أَوّلِ النّهَارِ وَأَرْدَأُ مِنْهُ النّوْمُ آخِرَهُ
بَعْدَ الْعَصْرِ وَرَأَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ ابْنًا لَهُ
نَائِمًا نَوْمَةَ الصّبْحَةِ فَقَالَ لَهُ قُمْ أَتَنَامُ فِي السّاعَةِ
الّتِي تُقَسّمُ فِيهَا الْأَرْزَاق ؟ وَقِيلَ نَوْمُ النّهَارِ ثَلَاثَةٌ
خُلُقٌ وَحُرَقٌ وَحُمْقٌ . فَالْخُلُقُ نَوْمَةُ الْهَاجِرَةِ وَهِيَ
خُلُقُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَالْحُرَقُ
نَوْمَةُ الضّحَى تَشْغَلُ عَنْ أَمْرِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَالْحُمْقُ نَوْمَةُ الْعَصْرِ . قَالَ بَعْضُ السّلَفِ مَنْ نَامَ
بَعْدَ [ ص 222 ] يَلُومَن إلّا نَفْسَهُ . وَقَالَ الشّاعِرُ
أَلَا إنّ نَوْمَاتِ الضّحَى تُورِثُ الْفَتَى
خَبَالًا وَنَوْمَاتُ الْعُصَيْرِ جُنُونُ
[ مَفَاسِدُ نَوْمِ الصّبْحَةِ ]
وَنَوْمُ
الصّبْحَةِ يَمْنَعُ الرّزْقَ لِأَنّ ذَلِكَ وَقْتٌ تَطْلُبُ فِيهِ
الْخَلِيقَةُ أَرْزَاقَهَا وَهُوَ وَقْتُ قِسْمَةِ الْأَرْزَاقِ
فَنَوْمُهُ حِرْمَانٌ إلّا لِعَارِضٍ أَوْ ضَرُورَةٍ وَهُوَ مُضِرّ جِدّا
بِالْبَدَنِ لِإِرْخَائِهِ الْبَدَنَ وَإِفْسَادِهِ لِلْفَضَلَاتِ الّتِي
يَنْبَغِي تَحْلِيلُهَا بِالرّيَاضَةِ فَيُحْدِثُ تَكَسّرًا وَعِيّا
وَضَعْفًا . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التّبَرّزِ وَالْحَرَكَةِ وَالرّيَاضَةِ
وَإِشْغَالِ الْمَعِدَةِ بِشَيْءٍ فَذَلِكَ الدّاءُ الْعُضَالُ
الْمُوَلّدُ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْأَدْوَاءِ .
[ مَفَاسِدُ النّوْمِ فِي الشّمْسِ أَوْ بَعْضِهِ فِي الشّمْسِ ]
وَالنّوْمُ
فِي الشّمْسِ يُثِيرُ الدّاءَ الدّفِينَ وَنَوْمُ الْإِنْسَانِ بَعْضَهُ
فِي الشّمْسِ وَبَعْضَهُ فِي الظّلّ رَدِيءٌ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ
فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي
الشّمْسِ فَقَلَصَ عَنْهُ الظّلّ فَصَارَ بَعْضُهُ فِي الشّمْسِ
وَبَعْضُهُ فِي الظّلّ فَلْيَقُمْ وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ "
وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى أَنْ يَقْعُدَ الرّجُلُ بَيْنَ
الظّلّ وَالشّمْسِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَنْعِ النّوْمِ بَيْنَهُمَا .
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ
فَتَوَضّأْ وُضُوءَك لِلصّلَاةِ ثُمّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقّكَ الْأَيْمَنِ
ثُمّ قُلْ اللّهُمّ إنّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْك وَوَجّهْتُ وَجْهِي
إلَيْك وَفَوّضْتُ أَمْرِي إلَيْك وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْك رَغْبَةً
وَرَهْبَةً إلَيْك لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْك إلّا إلَيْك آمَنْتُ
بِكِتَابِكَ الّذِي أَنْزَلْت وَنَبِيّكَ الّذِي أَرْسَلْت وَاجْعَلْهُنّ
آخِرَ كَلَامِك فَإِنْ مُتّ مِنْ لَيْلَتِك مُتّ عَلَى الْفِطْرَةِ [ ص
223 ] وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا صَلّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ -
يَعْنِي سُنّتَهَا - اضْطَجَعَ عَلَى شِقّهِ الْأَيْمَنِ
[ الْحِكْمَةُ مِنْ النّوْمِ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ]
وَقَدْ
قِيلَ إنّ الْحِكْمَةَ فِي النّوْمِ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَنْ
لَا يَسْتَغْرِقَ النّائِمُ فِي نَوْمِهِ لِأَنّ الْقَلْبَ فِيهِ مَيْلٌ
إلَى جِهَةِ الْيَسَارِ فَإِذَا نَامَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ طَلَبَ
الْقَلْبُ مُسْتَقَرّهُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ
مِنْ اسْتِقْرَارِ النّائِمِ وَاسْتِثْقَالِهِ فِي نَوْمِهِ بِخِلَافِ
قَرَارِهِ فِي النّوْمِ عَلَى الْيَسَارِ فَإِنّهُ مُسْتَقَرّهُ
فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ الدّعَةُ التّامّةُ فَيَسْتَغْرِقُ الْإِنْسَانُ فِي
نَوْمِهِ وَيَسْتَثْقِلُ فَيَفُوتُهُ مَصَالِحُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ .
[فَوَائِدُ الدّعَاءِ قَبْلَ النّوْمِ ]
وَلَمّا
كَانَ النّائِمُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيّتِ وَالنّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ -
وَلِهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى الْحَيّ الّذِي لَا يَمُوتُ وَأَهْلُ
الْجَنّةِ لَا يَنَامُونَ فِيهَا - كَانَ النّائِمُ مُحْتَاجًا إلَى مَنْ
يَحْرُسُ نَفْسَهُ وَيَحْفَظُهَا مِمّا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ الْآفَاتِ
وَيَحْرُسُ بَدَنَهُ أَيْضًا مِنْ طَوَارِقِ الْآفَاتِ وَكَانَ رَبّهُ
وَفَاطِرُهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلّيَ لِذَلِكَ وَحْدَهُ . عَلّمَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّائِمَ أَنْ يَقُولَ
كَلِمَاتِ التّفْوِيضِ وَالِالْتِجَاءِ وَالرّغْبَةِ وَالرّهْبَةِ
لِيَسْتَدْعِيَ بِهَا كَمَالَ حِفْظِ اللّهِ لَهُ وَحِرَاسَتِهِ
لِنَفْسِهِ وَبَدَنِهِ وَأَرْشَدَهُ مَعَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَسْتَذْكِرَ
الْإِيمَانَ وَيَنَامَ عَلَيْهِ وَيَجْعَلَ التّكَلّمَ بِهِ آخِرَ
كَلَامِهِ فَإِنّهُ رُبّمَا تَوَفّاهُ اللّهُ فِي مَنَامِهِ فَإِذَا كَانَ
الْإِيمَانُ آخِرَ كَلَامِهِ دَخَلَ الْجَنّةَ فَتَضَمّنَ هَذَا الْهَدْيُ
فِي الْمَنَامِ مَصَالِحَ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالرّوحِ فِي النّوْمِ
وَالْيَقَظَةِ وَالدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَصَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَى مَنْ نَالَتْ بِهِ أُمّتُهُ كُلّ خَيْرٍ . [ ص 224 ] أَسْلَمْت
نَفَسِي إلَيْك أَيْ جَعَلْتهَا مُسَلّمَةً لَك تَسْلِيمَ الْعَبْدِ
الْمَمْلُوكِ نَفْسَهُ إلَى سَيّدِهِ وَمَالِكِهِ . وَتَوْجِيهٌ وَجّهَهُ
إلَيْهِ يَتَضَمّنُ إقْبَالَهُ بِالْكُلّيّةِ عَلَى رَبّهِ وَإِخْلَاصَ
الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ لَهُ وَإِقْرَارَهُ بِالْخُضُوعِ وَالذّلّ
وَالِانْقِيَادِ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ حَاجّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ
وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتّبَعَنِ } [ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الْآيَةِ 20
] . وَذَكَرَ الْوَجْهَ إذْ هُوَ أَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ
وَمَجْمَعُ الْحَوَاسّ وَأَيْضًا فَفِيهِ مَعْنَى التّوَجّهِ وَالْقَصْدِ
مِنْ قَوْلِهِ
أَسْتَغْفِرُ اللّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَه ُ
رَبّ الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَل ُ
وَتَفْوِيضُ
الْأَمْرِ إلَيْهِ رَدّهُ إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ
سُكُونَ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتَهُ وَالرّضَى بِمَا يَقْضِيهِ
وَيَخْتَارُهُ لَهُ مِمّا يُحِبّهُ وَيَرْضَاهُ وَالتّفْوِيضُ مِنْ
أَشْرَفِ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيّةِ وَلَا عِلّةَ فِيهِ وَهُوَ مِنْ
مَقَامَاتِ الْخَاصّةِ خِلَافًا لِزَاعِمِي خِلَافِ ذَلِكَ . وَإِلْجَاءُ
الظّهْرِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ يَتَضَمّنُ قُوّةَ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ
وَالثّقَةَ بِهِ وَالسّكُونَ إلَيْهِ وَالتّوَكّلَ عَلَيْهِ فَإِنّ مَنْ
أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ لَمْ يَخَفْ السّقُوطَ . وَلَمّا
كَانَ لِلْقَلْبِ قُوّتَانِ قُوّةُ الطّلَبِ وَهِيَ الرّغْبَةُ وَقُوّةُ
الْهَرَبِ وَهِيَ الرّهْبَةُ وَكَانَ الْعَبْدُ طَالِبًا لِمَصَالِحِهِ
هَارِبًا مِنْ مَضَارّهِ جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ فِي هَذَا التّفْوِيضِ
وَالتّوَجّهِ فَقَالَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك ثُمّ أَثْنَى عَلَى
رَبّهِ بِأَنّهُ لَا مَلْجَأَ لِلْعَبْدِ سِوَاهُ وَلَا مَنْجَا لَهُ
مِنْهُ غَيْرُهُ فَهُوَ الّذِي يَلْجَأُ إلَيْهِ الْعَبْدُ لِيُنَجّيَهُ
مِنْ نَفْسِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ
سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِك وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ فَهُوَ
سُبْحَانَهُ الّذِي يُعِيذُ عَبْدَهُ وَيُنَجّيهِ مِنْ بَأْسِهِ الّذِي
هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ [ ص 225 ] الْإِعَانَةُ وَمِنْهُ مَا
يَطْلُبُ النّجَاةَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ الِالْتِجَاءُ فِي النّجَاةِ فَهُوَ
الّذِي يُلْجَأُ إلَيْهِ فِي أَنْ يُنْجِيَ مِمّا مِنْهُ وَيُسْتَعَاذُ
بِهِ مِمّا مِنْهُ فَهُوَ رَبّ كُلّ شَيْءٍ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إلّا
بِمَشِيئَتِهِ { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ
إِلّا هُوَ } [ سُورَةِ الْأَنْعَامِ الْآيَةِ 17 ] { قُلْ مَنْ ذَا
الّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ
بِكُمْ رَحْمَةً } [ سُورَةِ الْأَحْزَابِ الْآيَةِ 17 ] ثُمّ خَتَمَ
الدّعَاءَ بِالْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ بِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ الّذِي
هُوَ مَلَاكُ النّجَاةِ وَالْفَوْزِ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهَذَا
هَدْيُهُ فِي نَوْمِهِ .
لَوْ لَمْ يَقُلْ إنّي رَسُولٌ لَكَا
نَ شَاهِدٌ فِي هَدْيِهِ يَنْطِقُ
فَصْلٌ [هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْيَقَظَةِ ]
وَأَمّا
هَدْيُهُ فِي يَقَظَتِهِ فَكَانَ يَسْتَيْقِظُ إذَا صَاحَ الصّارِخُ
وَهُوَ الدّيكُ فَيَحْمَدُ اللّهَ تَعَالَى وَيُكَبّرُهُ وَيُهَلّلُهُ
وَيَدْعُوهُ ثُمّ يَسْتَاكُ ثُمّ يَقُومُ إلَى وُضُوئِهِ ثُمّ يَقِفُ
لِلصّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْ رَبّهِ مُنَاجِيًا لَهُ بِكَلَامِهِ مُثْنِيًا
عَلَيْهِ رَاجِيًا لَهُ رَاغِبًا رَاهِبًا فَأَيّ حِفْظٍ لِصِحّةِ
الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالرّوحِ وَالْقُوَى وَلِنَعِيمِ الدّنْيَا
وَالْآخِرَةِ فَوْقَ هَذَا .
فَصْلٌ [هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّيَاضَةِ ]
وَأَمّا
تَدْبِيرُ الْحَرَكَةِ وَالسّكُونِ وَهُوَ الرّيَاضَةُ فَنَذْكُرُ مِنْهَا
فَصْلًا يُعْلَمُ مِنْهُ مُطَابَقَةُ هَدْيِهِ فِي ذَلِكَ لِأَكْمَلِ
أَنْوَاعِهِ وَأَحْمَدِهَا وَأَصْوَبِهَا فَنَقُولُ
[السّبَبُ الْمُوجِبُ لِلرّيَاضَةِ ]
مِنْ
الْمَعْلُومِ افْتِقَارُ الْبَدَنِ فِي بَقَائِهِ إلَى الْغِذَاءِ
وَالشّرَابِ وَلَا يَصِيرُ الْغِذَاءُ بِجُمْلَتِهِ جُزْءًا مِنْ
الْبَدَنِ بَلْ لَا بُدّ أَنْ يَبْقَى مِنْهُ عِنْدَ كُلّ هَضْمٍ بَقِيّةٌ
مَا إذَا كَثُرَتْ عَلَى مَمَرّ الزّمَانِ اجْتَمَعَ مِنْهَا شَيْءٌ لَهُ
كَمّيّةٌ وَكَيْفِيّةٌ فَيَضُرّ بِكَمّيّتِهِ بِأَنْ يَسُدّ وَيُثْقِلَ
الْبَدَنَ وَيُوجِبَ أَمْرَاضَ الِاحْتِبَاسِ وَإِنْ اسْتَفْرَغَ تَأَذّى
الْبَدَنُ بِالْأَدْوِيَةِ لِأَنّ أَكْثَرَهَا سُمّيّةٌ وَلَا تَخْلُو
مِنْ إخْرَاجِ الصّالِحِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ وَيَضُرّ بِكَيْفِيّتِهِ
بِأَنْ يُسَخّنَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْعَفَنِ أَوْ يُبَرّدَ بِنَفْسِهِ
أَوْ يُضْعِفَ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ عَنْ إنْضَاجِهِ .
[فَوَائِدُ الرّيَاضَةِ ]
وَسُدَدُ
الْفَضَلَاتِ لَا مَحَالَةَ ضَارّةٌ تُرِكَتْ أَوْ اُسْتُفْرِغَتْ
وَالْحَرَكَةُ أَقْوَى [ ص 226 ] طُولِ الزّمَانِ وَتُعَوّدُ الْبَدَنَ
الْخِفّةَ وَالنّشَاطَ وَتَجْعَلُهُ قَابِلًا لِلْغِذَاءِ وَتُصَلّبُ
الْمَفَاصِلَ وَتُقَوّيَ الْأَوْتَارَ وَالرّبَاطَاتِ وَتُؤَمّنُ جَمِيعَ
الْأَمْرَاضِ الْمَادّيّةِ وَأَكْثَرَ الْأَمْرَاضِ الْمِزَاجِيّةِ إذَا
اُسْتُعْمِلَ الْقَدْرُ الْمُعْتَدِلُ مِنْهَا فِي وَقْتِهِ وَكَانَ
بَاقِي التّدْبِيرِ صَوَابًا .
[وَقْتُهَا وَأَنْوَاعُهَا ]
وَوَقْتُ
الرّيَاضَةِ بَعْدَ انْحِدَارِ الْغِذَاءِ وَكَمَالِ الْهَضْمِ
وَالرّيَاضَةُ الْمُعْتَدِلَةُ هِيَ الّتِي تَحْمَرّ فِيهَا الْبَشَرَةُ
وَتَرْبُو وَيَتَنَدّى بِهَا الْبَدَنُ وَأَمّا الّتِي يَلْزَمُهَا
سَيَلَانُ الْعَرَقِ فَمُفْرِطَةٌ وَأَيّ عُضْوٍ كَثُرَتْ رِيَاضَتُهُ
قَوِيَ وَخُصُوصًا عَلَى نَوْعِ تِلْكَ الرّيَاضَةِ بَلْ كُلّ قُوّةٍ
فَهَذَا شَأْنُهَا فَإِنّ مَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الْحِفْظِ قَوِيَتْ
حَافِظَتُهُ وَمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الْفِكْرِ قَوِيَتْ قُوّتُهُ
الْمُفَكّرَةُ وَلِكُلّ عُضْوٍ رِيَاضَةٌ تَخُصّهُ فَلِلصّدْرِ
الْقِرَاءَةُ فَلْيَبْتَدِئْ فِيهَا مِنْ الْخُفْيَةِ إلَى الْجَهْرِ
بِتَدْرِيجٍ وَرِيَاضَةُ السّمْعِ بِسَمْعِ الْأَصْوَاتِ وَالْكَلَامِ
بِالتّدْرِيجِ فَيَنْتَقِلُ مِنْ الْأَخَفّ إلَى الْأَثْقَلِ وَكَذَلِكَ
رِيَاضَةُ اللّسَانِ فِي الْكَلَامِ وَكَذَلِكَ رِيَاضَةُ الْبَصَرِ
وَكَذَلِكَ رِيَاضَةُ الْمَشْيِ بِالتّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا .
وَأَمّا رُكُوبُ الْخَيْلِ وَرَمْيُ النّشَابِ وَالصّرَاعُ
وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى الْأَقْدَامِ فَرِيَاضَةٌ لِلْبَدَنِ كُلّهِ
وَهِيَ قَالِعَةٌ لِأَمْرَاضٍ مُزْمِنَةٍ كَالْجُذَامِ وَالِاسْتِسْقَاءِ
وَالْقُولَنْجِ .
[رِيَاضَةُ النّفُوسِ ]
وَرِيَاضَةُ النّفُوسِ
بِالتّعَلّمِ وَالتّأَدّبِ وَالْفَرَحِ وَالسّرُورِ وَالصّبْرِ
وَالثّبَاتِ وَالْإِقْدَامِ وَالسّمَاحَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ مِمّا تَرْتَاضُ بِهِ النّفُوسُ وَمِنْ أَعْظَمِ رِيَاضَتِهَا :
الصّبْرُ وَالْحُبّ وَالشّجَاعَةُ وَالْإِحْسَانُ فَلَا تَزَالُ تَرْتَاضُ
بِذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتّى تَصِيرَ لَهَا هَذِهِ الصّفَاتُ
هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً وَمَلَكَاتٍ ثَابِتَةً . وَأَنْتَ إذَا تَأَمّلْتَ
هَدْيَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَلِكَ وَجَدْتَهُ أَكْمَلَ
هَدْيٍ حَافِظٍ لِلصّحّةِ وَالْقُوَى وَنَافِعٍ فِي الْمَعَاشِ
وَالْمَعَادِ .
[فَائِدَةُ الصّلَاةِ ]
وَلَا رَيْبَ أَنّ الصّلَاةَ
نَفْسَهَا فِيهَا مِنْ حِفْظِ صِحّةِ الْبَدَنِ وَإِذَابَةِ أَخْلَاطِهِ
وَفَضَلَاتِهِ مَا هُوَ مِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ لَهُ سِوَى مَا فِيهَا مِنْ
حِفْظِ صِحّةِ الْإِيمَانِ وَسَعَادَةِ [ ص 227 ] أَنْفَعِ أَسْبَابِ
حِفْظِ الصّحّةِ وَمِنْ أَمْنَعِ الْأُمُورِ لِكَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ
الْمُزْمِنَةِ وَمِنْ أَنْشَطِ شَيْءٍ لِلْبَدَنِ وَالرّوحِ وَالْقَلْبِ
كَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ يَعْقِدُ الشّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ
أَحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ عَلَى كُلّ عُقْدَةٍ
عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ فَإِنْ هُوَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ
اللّهَ انْحَلّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ تَوَضّأَ انْحَلّتْ عُقْدَةٌ ثَانِيَةٌ
فَإِنْ صَلّى انْحَلّتْ عُقَدُهُ كُلّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيّبَ
النّفْسِ وَإِلّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النّفْسِ كَسْلَانَ
[فَائِدَةُ الصّوْمِ ]
وَفِي
الصّوْمِ الشّرْعِيّ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ وَرِيَاضَةِ
الْبَدَنِ وَالنّفْسِ مَا لَا يَدْفَعُهُ صَحِيحُ الْفِطْرَةِ .
[فَائِدَةُ الْجِهَادِ ]
وَأَمّا
الْجِهَادُ وَمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ الْكُلّيّةِ الّتِي هِيَ مِنْ
أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْقُوّةِ وَحِفْظِ الصّحّةِ وَصَلَابَةِ الْقَلْبِ
وَالْبَدَنِ وَدَفْعِ فَضَلَاتِهِمَا وَزَوَالِ الْهَمّ وَالْغَمّ
وَالْحُزْنِ فَأَمْرٌ إنّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ مِنْهُ نَصِيبٌ .
[رِيَاضَاتٌ أُخْرَى ]
وَكَذَلِكَ
الْحَجّ وَفِعْلُ الْمَنَاسِكِ وَكَذَلِكَ الْمُسَابَقَةُ عَلَى الْخَيْلِ
وَبِالنّصَالِ وَالْمَشْيُ فِي الْحَوَائِجِ وَإِلَى الْإِخْوَانِ
وَقَضَاءُ حُقُوقِهِمْ وَعِيَادَةُ مَرْضَاهُمْ وَتَشْيِيعُ جَنَائِزِهِمْ
وَالْمَشْيُ إلَى الْمَسَاجِدِ لِلْجُمُعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ وَحَرَكَةُ
الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَهَذَا أَقَلّ مَا فِيهِ
الرّيَاضَةُ الْمُعِينَةُ عَلَى حِفْظِ الصّحّةِ وَدَفْعِ الْفَضَلَاتِ
وَأَمّا مَا شُرِعَ لَهُ مِنْ التّوَصّلِ بِهِ إلَى خَيْرَاتِ الدّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَدَفْعِ شُرُورِهِمَا فَأَمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ .فَعَلِمْتَ
أَنّ هَدْيَهُ فَوْقَ كُلّ هَدْيٍ فِي طِبّ الْأَبْدَانِ وَالْقُلُوبِ
وَحِفْظِ صِحّتِهَا وَدَفْعِ أَسْقَامِهِمَا وَلَا مَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ
لِمَنْ قَدْ أَحْضَرَ رُشْدَهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . [ ص 228 ]