كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية
فصل [ الْحَلْقُ وَالتّقْصِيرُ ]
فَلَمّا أَكْمَلَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْرَهُ اسْتَدْعَى بِالْحَلّاقِ
فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَقَال لِلْحَلّاقِ - وَهُوَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ
اللّهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِالْمُوسَى وَنَظَرَ فِي وَجْهِهِ
- وَقَالَ يَا مَعْمَرُ أَمْكَنَكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَفِي يَدِكَ الْمُوسَى فَقَالَ مَعْمَرٌ
أَمَا وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ
ذَلِكَ لَمِنْ نِعْمَةِ اللّهِ عَلَيّ وَمَنّهِ . قَالَ أَجَلْ إذًا
أَقَرّ لَكَ [ ص 248 ] ذَكَرَ ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ
. وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " وَزَعَمُوا أَنّ الّذِي حَلَقَ
لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ نَضْلَةَ بْنِ عَوْفٍ انْتَهَى . فَقَالَ لِلْحَلّاقِ خُذْ وَأَشَارَ
إلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ ، فَلَمّا فَرَغَ مِنْهُ قَسَمَ شَعْرَهُ
بَيْنَ مَنْ يَلِيهِ ثُمّ أَشَارَ إلَى الْحَلّاقِ فَحَلَقَ جَانِبَهُ
الْأَيْسَرَ ثُمّ قَالَ هَا هُنَا أَبُو طَلْحَةَ ؟ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ
هَكَذَا وَقَعَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " . وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ
" : عَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا حَلَقَ رَأْسَهُ كَانَ أَبُو طَلْحَة َ أَوّلَ
مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعْرِهِ وَهَذَا لَا يُنَاقِضُ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ ،
لِجِوَازِ أَنْ يُصِيبَ أَبَا طَلْحَة َ مِنْ الشّقّ الْأَيْمَنِ مِثْلُ
مَا أَصَابَ غَيْرَهُ وَيَخْتَصّ بِالشّقّ الْأَيْسَرِ لَكِنْ قَدْ رَوَى
مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ، قَالَ لَمّا
رَمَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجَمْرَةَ
وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَلّاقَ شِقّهُ الْأَيْمَنَ
فَحَلَقَهُ ثُمّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيّ ، فَأَعْطَاهُ
إيّاهُ ثُمّ نَاوَلَهُ الشّقّ الْأَيْسَرَ فَقَالَ احْلِقْ . فَحَلَقَهُ
فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ ، فَقَالَ اقْسِمْهُ بَيْنَ النّاسِ . فَفِي
هَذِهِ الرّوَايَةِ كَمَا تَرَى أَنّ نَصِيبَ أَبِي طَلْحَة َ كَانَ
الشّقّ الْأَيْمَنَ وَفِي الْأُولَى : أَنّهُ كَانَ الْأَيْسَرَ . قَالَ
الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ
الْمَقْدِسِيّ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ،
وَعَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسّانٍ
، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَفَعَ إلَى أَبِي طَلْحَةَ شَعْرَ شِقّهِ
الْأَيْسَرِ [ ص 249 ] سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
حَسّانٍ ، أَنّهُ دَفَعَ إلَى أَبِي طَلْحَةَ شَعْرَ شِقّهِ الْأَيْمَنِ .
قَالَ وَرِوَايَةُ ابْنِ عَوْنٍ ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَرَاهَا تُقَوّي
رِوَايَةَ سُفْيَانَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . قُلْت : يُرِيدُ بِرِوَايَةِ
ابْنِ عَوْنٍ ، مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيّ ، وَجَعْلَ الّذِي سَبَقَ إلَيْهِ أَبُو طَلْحَةَ ، هُوَ
الشّقّ الّذِي اخْتَصّ بِهِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَاَلّذِي يَقْوَى
أَنّ نَصِيبَ أَبِي طَلْحَةَ الّذِي اخْتَصّ بِهِ كَانَ الشّقّ
الْأَيْسَرَ وَأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمّ ثُمّ خَصّ
وَهَذِهِ كَانَتْ سُنّتَهُ فِي عَطَائِهِ وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ
الرّوَايَاتِ فَإِنّ فِي بَعْضِهَا أَنّهُ قَالَ لِلْحَلّاقِ " خُذْ "
وَأَشَارَ إلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ ، فَقَسَمَ شَعْرَهُ بَيْنَ مَنْ
يَلِيهِ ثُمّ أَشَارَ إلَى الْحَلّاقِ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ
فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أُمّ سُلَيْمٍ وَلَا يُعَارِضُ هَذَا دَفْعُهُ
إلَى أَبِي طَلْحَةَ ، فَإِنّهَا امْرَأَتُهُ . وَفِي لَفْظٍ آخَرَ
فَبَدَأَ بِالشّقّ الْأَيْمَنِ فَوَزّعَهُ الشّعْرَةَ وَالشّعْرَتَيْنِ
بَيْنَ النّاسِ ثُمّ قَالَ بِالْأَيْسَرِ فَصَنَعَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ
ثُمّ قَالَ هَا هُنَا أَبُو طَلْحَةَ ؟ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ . وَفِي لَفْظٍ
ثَالِثٍ دَفَعَ إلَى أَبِي طَلْحَة َ شَعْرَ شِقّ رَأْسِهِ الْأَيْسَرِ
ثُمّ قَلّمَ أَظْفَارَهُ وَقَسَمَهَا بَيْنَ النّاسِ . وَذَكَرَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ زَيْدٍ ، أَنّ أَبَاهُ حَدّثَهُ أَنّهُ شَهِدَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ الْمَنْحَرِ وَرَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ
وَهُوَ يَقْسِمُ أَضَاحِيّ فَلَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ وَلَا صَاحِبَهُ
فَحَلَقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأْسَهُ فِي
ثَوْبِهِ فَأَعْطَاهُ فَقَسَمَ مِنْهُ عَلَى رِجَالٍ وَقَلّمَ أَظْفَارَهُ
فَأَعْطَاهُ صَاحِبَهُ قَالَ فَإِنّهُ عِنْدَنَا مَخْضُوبٌ بِالْحِنّاءِ
وَالْكَتَمِ يَعْنِي شَعْرَهُ وَدَعَا لِلْمُحَلّقِينَ بِالْمَغْفِرَةِ
ثَلَاثًا ، وَلِلْمُقَصّرِينَ مَرّةً وَحَلَقَ كَثِيرٌ مِنْ الصّحَابَةِ
بَلْ أَكْثَرُهُمْ وَقَصّرَ بَعْضُهُمْ وَهَذَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى :
{ لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ
مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ } [ الْفَتْحُ 27 ] وَمَعَ قَوْلِ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، طَيّبْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِإِحْلَالِهِ
قَبْلَ أَنْ يَحِل [ ص 250 ]
فَصْلٌ [ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ بِأَنّهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَطُفْ غَيْرَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ
بَعْدَ إفَاضَتِهِ إلَى مَكّةَ ]
ثُمّ أَفَاضَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى مَكّةَ قَبْلَ الظّهْرِ رَاكِبًا ، فَطَافَ طَوَافَ
الْإِفَاضَةِ وَهُوَ طَوَافُ الزّيَارَةِ وَهُوَ طَوَافُ الصّدَرِ وَلَمْ
يَطُفْ غَيْرَهُ وَلَمْ يَسْعَ مَعَهُ هَذَا هُوَ الصّوَابُ وَقَدْ
خَالَفَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثُ طَوَائِفَ طَائِفَةٌ زَعَمَتْ أَنّهُ طَافَ
طَوَافَيْنِ طَوَافًا لِلْقُدُومِ سِوَى طَوَافِ الْإِفَاضَةِ ثُمّ طَافَ
لِلْإِفَاضَةِ وَطَائِفَةٌ زَعَمَتْ أَنّهُ سَعَى مَعَ هَذَا الطّوَافِ
لِكَوْنِهِ كَانَ قَارِنًا ، وَطَائِفَةٌ زَعَمَتْ أَنّهُ لَمْ يَطُفْ فِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنّمَا أَخّرَ طَوَافَ الزّيَارَةِ إلَى اللّيْلِ
فَنَذْكُرُ الصّوَابَ فِي ذَلِكَ وَنُبَيّنُ مَنْشَأَ الْغَلَطِ
وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . قَالَ الْأَثْرَمُ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ
اللّهِ فَإِذَا رَجَعَ أَعْنِي الْمُتَمَتّعَ كَمْ يَطُوفُ وَيَسْعَى ؟
قَالَ يَطُوفُ وَيَسْعَى لِحَجّهِ وَيَطُوفُ طَوَافًا آخَرَ لِلزّيَارَةِ
عَاوَدْنَاهُ فِي هَذَا غَيْرَ مَرّةٍ فَثَبَتَ عَلَيْهِ . قَالَ الشّيْخُ
أَبُو مُحَمّدٍ الْمَقْدِسِيّ فِي " الْمُغْنِي " : وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ
فِي الْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ إذَا لَمْ يَكُونَا أَتَيَا مَكّةَ قَبْلَ
يَوْمِ النّحْرِ وَلَا طَافَا لِلْقُدُومِ فَإِنّهُمَا يَبْدَآنِ
بِطَوَافِ الْقُدُومِ قَبْلَ طَوَافِ الزّيَارَةِ نَصّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ
رَحِمَهُ اللّهُ وَاحْتَجّ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا
، قَالَتْ فَطَافَ الّذِينَ أَهَلّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ ،
وَبَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ ، ثُمّ حَلّوا ، ثُمّ طَافُوا طَوَافًا
آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ
جَمَعُوا الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا ،
فَحَمَلَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ قَوْلَ عَائِشَةَ ، عَلَى أَنّ
طَوَافَهُمْ لِحَجّهِمْ هُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ ، قَالَ وَلِأَنّهُ قَدْ
ثَبَتَ أَنّ طَوَافَ الْقُدُومِ مَشْرُوعٌ فَلَمْ يَكُنْ طَوَافُ
الزّيَارَةِ مُسْقِطًا لَهُ كَتَحِيّةِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ دُخُولِهِ
قَبْلَ التّلَبّسِ بِالصّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ . وَقَالَ الْخِرَقِيّ فِي
" مُخْتَصَرِهِ " وَإِنْ كَانَ مُتَمَتّعًا ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ
سَبْعًا وَبِالصّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا كَمَا فَعَلَ لِلْعُمْرَةِ
ثُمّ يَعُودُ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافًا يَنْوِي بِهِ [ ص 251 ] {
وَلْيَطّوّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ الْحَجّ : 29 ] فَمَنْ قَالَ
إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ مُتَمَتّعًا
كَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ عِنْدَهُمْ هَكَذَا فَعَلَ وَالشّيْخُ أَبُو
مُحَمّدٍ عِنْدَهُ أَنّهُ كَانَ مُتَمَتّعًا التّمَتّعَ الْخَاصّ وَلَكِنْ
لَمْ يَفْعَلْ هَذَا ، قَالَ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَبَا عَبْدِ
اللّهِ عَلَى هَذَا الطّوَافِ الّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيّ ، بَلْ
الْمَشْرُوعُ طَوَافٌ وَاحِدٌ لِلزّيَارَةِ كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ
وَقَدْ أُقِيمَتْ الصّلَاةُ فَإِنّهُ يَكْتَفِي بِهَا عَنْ تَحِيّةِ
الْمَسْجِدِ وَلِأَنّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا أَصْحَابِهِ الّذِينَ تَمَتّعُوا مَعَهُ فِي
حَجّةِ الْوَدَاعِ وَلَا أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِهِ أَحَدًا ، قَالَ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا ،
فَإِنّهَا قَالَتْ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ
مِنًى لِحَجّهِمْ وَهَذَا هُوَ طَوَافُ الزّيَارَةِ وَلَمْ تَذْكُرْ
طَوَافًا آخَرَ . وَلَوْ كَانَ هَذَا الّذِي ذَكَرَتْهُ طَوَافَ
الْقُدُومِ ، لَكَانَتْ قَدْ أَخَلّتْ بِذِكْرِ طَوَافِ الزّيَارَةِ
الّذِي هُوَ رُكْنُ الْحَجّ الّذِي لَا يَتِمّ إلّا بِهِ وَذَكَرَتْ مَا
يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَعَلَى كُلّ حَالٍ فَمَا ذَكَرَتْ إلّا طَوَافًا
وَاحِدًا ، فَمِنْ أَيْنَ يُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى طَوَافَيْنِ ؟ وَأَيْضًا
، فَإِنّهَا لَمّا حَاضَتْ فَقَرَنَتْ الْحَجّ إلَى الْعُمْرَةِ بِأَمْرِ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ
لِلْقُدُومِ لَمْ تَطُفْ لِلْقُدُومِ وَلَا أَمَرَهَا بِهِ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلِأَنّ طَوَافَ الْقُدُومِ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ
بِالطّوَافِ الْوَاجِبِ لَشُرِعَ فِي حَقّ الْمُعْتَمِرِ طَوَافُ
الْقُدُومِ مَعَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ لِأَنّهُ أَوّلُ قُدُومِهِ إلَى
الْبَيْتِ ، فَهُوَ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْمُتَمَتّعِ الّذِي يَعُودُ إلَى
الْبَيْتِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ وَطَوَافِهِ بِهِ . انْتَهَى كَلَامُهُ .
قُلْت : لَمْ يَرْفَعْ كَلَامُ أَبِي مُحَمّدٍ الْإِشْكَالَ وَإِنْ كَانَ
الّذِي أَنْكَرَهُ هُوَ الْحَقّ كَمَا أَنْكَرَهُ وَالصّوَابُ فِي
إنْكَارِهِ فَإِنّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ إنّ الصّحَابَةَ لَمّا رَجَعُوا
مِنْ عَرَفَةَ ، طَافُوا لِلْقُدُومِ وَسَعَوْا ، ثُمّ طَافُوا
لِلْإِفَاضَةِ بَعْدَهُ وَلَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
هَذَا لَمْ يَقَعْ قَطْعًا ، وَلَكِنْ كَانَ مَنْشَأُ الْإِشْكَالِ أَنّ
أُمّ الْمُؤْمِنِينَ فَرّقَتْ بَيْنَ الْمُتَمَتّعِ وَالْقَارِنِ
فَأَخْبَرَتْ أَنّ الْقَارِنِينَ طَافُوا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى
طَوَافًا وَاحِدًا ، وَأَنّ الّذِينَ أَهَلّوا بِالْعُمْرَةِ طَافُوا
طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجّهِمْ وَهَذَا
غَيْرُ طَوَافِ الزّيَارَةِ قَطْعًا ، فَإِنّهُ يَشْتَرِكُ فِيهِ
الْقَارِنُ وَالْمُتَمَتّعُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَلَكِنّ
الشّيْخَ أَبَا [ ص 252 ] ، لَمّا رَأَى قَوْلَهَا فِي الْمُتَمَتّعِينَ
إنّهُمْ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى ، قَالَ
لَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُمْ طَافُوا طَوَافَيْنِ
وَاَلّذِي قَالَهُ حَقّ ، وَلَكِنْ لَمْ يَرْفَعْ الْإِشْكَالَ فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ هَذِهِ الزّيَادَةُ مِنْ كَلَامِ عُرْوَةَ أَوْ ابْنِهِ هِشَامٍ
، أُدْرِجَتْ فِي الْحَدِيثِ وَهَذَا لَا يَتَبَيّنُ وَلَوْ كَانَ
فَغَايَتُهُ أَنّهُ مُرْسَلٌ وَلَمْ يَرْتَفِعْ الْإِشْكَالُ عَنْهُ
بِالْإِرْسَالِ . فَالصّوَابُ أَنّ الطّوَافَ الّذِي أَخْبَرَتْ بِهِ
عَائِشَةُ ، وَفَرّقَتْ بِهِ بَيْنَ الْمُتَمَتّعِ وَالْقَارِنِ هُوَ
الطّوَافُ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ ، لَا الطّوَافُ بِالْبَيْتِ ،
وَزَالَ الْإِشْكَالُ جُمْلَةً فَأَخْبَرَتْ عَنْ الْقَارِنِينَ أَنّهُمْ
اكْتَفَوْا بِطَوَافٍ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا ، لَمْ يُضِيفُوا إلَيْهِ
طَوَافًا آخَرَ يَوْمَ النّحْرِ وَهَذَا هُوَ الْحَقّ ، وَأَخْبَرَتْ عَنْ
الْمُتَمَتّعِينَ أَنّهُمْ طَافُوا بَيْنَهُمَا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ
الرّجُوعِ مِنْ مِنًى لِلْحَجّ وَذَلِك الْأَوّلُ كَانَ لِلْعُمْرَةِ
وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَتَنْزِيلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا
مُوَافِقٌ لِحَدِيثِهَا الْآخَرَ وَهُوَ قَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسَعُكِ طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصّفَا
وَالْمَرْوَةِ لِحَجّكِ وَعُمْرَتِكِ " ، وَكَانَتْ قَارِنَةً يُوَافِقُ
قَوْلَ الْجُمْهُورِ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ لِحَجّكِ وَعُمْرَتِكِ
وَكَانَتْ قَارِنَةً يُوَافِقُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ . وَلَكِنْ يَشْكُلُ
عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ الّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " لَمْ
يَطُفْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ وَلَا
أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ إلّا طَوَافًا وَاحِدًا ،
طَوَافَهُ الْأَوّلَ . هَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ يَكْفِي
الْمُتَمَتّعَ سَعْيٌ وَاحِدٌ كَمَا هُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ
أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ نَصّ عَلَيْهَا فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ
اللّهِ وَغَيْرِهِ وَعَلَى هَذَا ، فَيُقَالُ عَائِشَةُ أَثْبَتَتْ
وَجَابِرٌ نَفَى ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدّمٌ عَلَى النّافِي . أَوْ يُقَالُ
مُرَادُ جَابِرٍ مَنْ قَرَنَ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَسَاقَ الْهَدْيَ كَأَبِي بَكْر ٍ وَعُمَرَ وَطَلْحَةَ وَعَلِيّ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَذَوِي الْيَسَارِ فَإِنّهُمْ إنّمَا سَعَوْا
سَعْيًا وَاحِدًا . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ عُمُومَ الصّحَابَةِ أَوْ
يُعَلّلُ حَدِيثُ عَائِشَةَ ، بِأَنّ تِلْكَ الزّيَادَةَ فِيهِ مُدْرَجَةٌ
مِنْ قَوْلِ هِشَامٍ وَهَذِهِ ثَلَاثُ طُرُقٍ لِلنّاسِ فِي حَدِيثِهَا
وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 253 ]
[ رَدّ الْقَوْلِ بِالطّوَافِ وَالسّعْيِ لِلْقُدُومِ بَعْدَ إحْرَامِ الْمُتَمَتّعِ بِالْحَجّ مِنْ مَكّةَ ]
وَأَمّا
مَنْ قَالَ الْمُتَمَتّعُ يَطُوفُ وَيَسْعَى لِلْقُدُومِ بَعْدَ
إحْرَامِهِ بِالْحَجّ قَبْلَ خُرُوجِهِ إلَى مِنًى ، وَهُوَ قَوْلُ
أَصْحَابِ الشّافِعِيّ ، وَلَا أَدْرِي أَهُوَ مَنْصُوصٌ عَنْهُ أَمْ لَا
؟ قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ أَلْبَتّةَ وَلَا
أَمَرَهُمْ بِهِ وَلَا نَقَلَهُ أَحَدٌ ، قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ لَا أَرَى
لِأَهْلِ مَكّةَ أَنْ يَطُوفُوا ، وَلَا أَنْ يَسْعَوْا بَيْنَ الصّفَا
وَالْمَرْوَةِ بَعْدَ إحْرَامِهِمْ بِالْحَجّ حَتّى يَرْجِعُوا مِنْ مِنًى
. وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَالِكٍ ،
وَأَحْمَدَ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ . وَاَلّذِينَ
اسْتَحَبّوهُ قَالُوا : لَمّا أَحْرَمَ بِالْحَجّ صَارَ كَالْقَادِمِ
فَيَطُوفُ وَيَسْعَى لِلْقُدُومِ . قَالُوا : وَلِأَنّ الطّوَافَ
الْأَوّلَ وَقَعَ عَنْ الْعُمْرَةِ فَيَبْقَى طَوَافُ الْقُدُومِ ، وَلَمْ
يَأْتِ بِهِ فَاسْتُحِبّ لَهُ فِعْلُهُ عَقِيبَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجّ
وَهَاتَانِ الْحُجّتَانِ وَاهِيَتَانِ فَإِنّهُ إنّمَا كَانَ قَارِنًا
لَمّا طَافَ لِلْعُمْرَةِ فَكَانَ طَوَافُهُ لِلْعُمْرَةِ مُغْنِيًا عَنْ
طَوَافِ الْقُدُومِ ، كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى الصّلَاةَ
قَائِمَةً فَدَخَلَ فِيهَا ، فَقَامَتْ مَقَامَ تَحِيّةِ الْمَسْجِدِ
وَأَغْنَتْهُ عَنْهَا . وَأَيْضًا فَإِنّ الصّحَابَةَ لَمّا أَحْرَمُوا
بِالْحَجّ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَطُوفُوا
عَقِيبَهُ وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ مُتَمَتّعًا . وَرَوَى مُحَمّدُ بْنُ
الْحَسَنِ ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنّهُ إنْ أَحْرَمَ يَوْمَ
التّرْوِيَةِ قَبْلَ الزّوَالِ طَافَ وَسَعَى لِلْقُدُومِ وَإِنْ أَحْرَمَ
بَعْدَ الزّوَالِ لَمْ يَطُفْ وَفَرّقَ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ بِأَنّهُ
بَعْدَ الزّوَالِ يَخْرُجُ مِنْ فَوْرِهِ إلَى مِنًى ، فَلَا يَشْتَغِلُ
عَنْ الْخُرُوجِ [ ص 254 ] ابْنِ عَبّاسٍ وَالْجُمْهُورِ هُوَ الصّحِيحُ
الْمُوَافِقُ لِعَمَلِ الصّحَابَةِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ [ الرّدّ عَلَى مَنْ قَالَ إنّ الْقَارِنَ يَحْتَاجُ إلَى سَعْيَيْنِ ]
وَالطّائِفَةُ
الثّانِيَةُ قَالَتْ إنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَعَى مَعَ
هَذَا الطّوَافِ وَقَالُوا : هَذَا حُجّةٌ فِي أَنّ الْقَارِنَ يَحْتَاجُ
إلَى سَعْيَيْنِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى طَوَافَيْنِ وَهَذَا غَلَطٌ
عَلَيْهِ كَمَا تَقَدّمَ وَالصّوَابُ أَنّهُ لَمْ يَسْعَ إلّا سَعْيَهُ
الْأَوّلَ كَمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ ، وَجَابِرٌ ، وَلَمْ يَصِحّ عَنْهُ
فِي السّعْيَيْنِ حَرْفٌ وَاحِدٌ بَلْ كُلّهَا بَاطِلَةٌ كَمَا تَقَدّمَ
فَعَلَيْك بِمُرَاجَعَتِهِ . وَالطّائِفَةُ الثّالِثَةُ الّذِينَ قَالُوا
: أَخّرَ طَوَافَ الزّيَارَةِ إلَى اللّيْلِ وَهُمْ طَاوُوسٌ ،
وَمُجَاهِدٌ ، وَعُرْوَةُ ، فَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُد " ،
وَالنّسَائِيّ ، وَابْنِ مَاجَهْ ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزّبَيْرِ
الْمَكّيّ ، عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخّرَ طَوَافَهُ يَوْمَ النّحْرِ إلَى اللّيْلِ وَفِي
لَفْظٍ طَوَافُ الزّيَارَةِ قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَهَذَا الْحَدِيثُ غَلَطٌ بَيّنٌ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ فِعْلِهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي لَا يَشُكّ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ
بِحَجّتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَحْنُ نَذْكُرُ كَلَامَ
النّاسِ فِيهِ قَالَ التّرْمِذِيّ فِي كِتَابِ " الْعِلَلِ " لَهُ سَأَلْت
مُحَمّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَقُلْت
لَهُ أَسَمِعَ أَبُو الزّبَيْرِ مِنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبّاسٍ ؟ قَالَ
أَمّا مِنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، فَنَعَمْ وَفِي سَمَاعِهِ مِنْ عَائِشَةَ [ ص
255 ] وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَطّانُ : عِنْدِي أَنّ هَذَا
الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إنّمَا طَافَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَوْمَئِذٍ نَهَارًا ، وَإِنّمَا اخْتَلَفُوا : هَلْ صَلّى
الظّهْرَ بِمَكّةَ أَوْ رَجَعَ إلَى مِنًى ، فَصَلّى الظّهْرَ بِهَا
بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ ؟ فَابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إنّهُ رَجَعَ
إلَى مِنًى ، فَصَلّى الظّهْرَ بِهَا ، وَجَابِرٌ يَقُول : إنّهُ صَلّى
الظّهْرَ بِمَكّةَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ غَيْرِ
رِوَايَةِ أَبِي الزّبَيْرِ هَذِهِ الّتِي فِيهَا أَنّهُ أَخّرَ الطّوَافَ
إلَى اللّيْلِ وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُرْوَ إلّا مِنْ هَذَا الطّرِيقِ
وَأَبُو الزّبَيْرِ مُدَلّسٌ لَمْ يَذْكُرْ هَا هُنَا سَمَاعًا مِنْ
عَائِشَةَ وَقَدْ عَهِدَ أَنّهُ يَرْوِي عَنْهَا بِوَاسِطَةٍ وَلَا عَنْ
ابْنِ عَبّاسٍ أَيْضًا ، فَقَدْ عَهِدَ كَذَلِكَ أَنّهُ يَرْوِي عَنْهُ
بِوَاسِطَةٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْهُ فَيَجِبُ التّوَقّفُ فِيمَا
يَرْوِيهِ أَبُو الزّبِيرِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبّاسٍ مِمّا لَا
يَذْكُرُ فِيهِ سَمَاعَهُ مِنْهُمَا ، لِمَا عُرِفَ بَهْ مِنْ التّدْلِيسِ
لَوْ عُرِفَ سَمَاعُهُ مِنْهَا لِغَيْرِ هَذَا ، فَأَمّا وَلَمْ يَصِحّ
لَنَا أَنّهُ سَمِعَ مِنْ عَائِشَةَ فَالْأَمْرُ بَيّنٌ فِي وُجُوبِ
التّوَقّفِ فِيهِ وَإِنّمَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُولِ حَدِيثِ
الْمُدَلّسِ إذَا كَانَ عَمّنْ قَدْ عُلِمَ لِقَاؤُهُ لَهُ وَسَمَاعُهُ
مِنْهُ هَا هُنَا . يَقُولُ قَوْمٌ يُقْبَلُ وَيَقُولُ آخَرُونَ يُرَدّ
مَا يُعَنْعِنُهُ عَنْهُمْ حَتّى يَتَبَيّنَ الِاتّصَالُ فِي حَدِيثٍ
حَدِيثٍ وَأَمّا مَا يُعَنْعِنُهُ الْمُدَلّسُ عَمّنْ لَمْ يُعْلَمْ
لِقَاؤُهُ لَهُ وَلَا سَمَاعُهُ مِنْهُ فَلَا أَعْلَمُ الْخِلَافَ فِيهِ
بِأَنّهُ لَا يُقْبَلُ . وَلَوْ كُنّا نَقُولُ بِقَوْلِ مُسْلِمٍ بِأَنّ
مُعَنْعَنَ الْمُتَعَاصِرِينَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاتّصَالِ وَلَوْ لَمْ
يُعْلَمْ الْتِقَاؤُهُمَا ، فَإِنّمَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُدَلّسِينَ .
وَأَيْضًا فَلَمّا قَدّمْنَاهُ مِنْ صِحّةِ طَوَافِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَئِذٍ نَهَارًا . وَالْخِلَافُ فِي رِدّ حَدِيثِ
الْمُدَلّسِينَ حَتّى يُعْلَمَ اتّصَالُهُ أَوْ قَبُولُهُ حَتّى يُعْلَمَ
انْقِطَاعُهُ إنّمَا هُوَ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا لَا شَكّ فِي
صِحّتِهِ وَهَذَا قَدْ عَارَضَهُ مَا لَا شَكّ فِي صِحّتِهِ . انْتَهَى
كَلَامُهُ . وَيَدُلّ عَلَى غَلَطِ أَبِي الزّبَيْرِ عَلَى عَائِشَةَ أَنّ
أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا
قَالَتْ حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَفَضْنَا يَوْمَ النّحْرِ وَرَوَى مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا ، أَنّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 256 ] أَذِنَ لِأَصْحَابِهِ فَزَارُوا
الْبَيْتَ يَوْمَ النّحْرِ ظَهِيرَةً وَزَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ نِسَائِهِ لَيْلًا وَهَذَا غَلَطٌ أَيْضًا . قَالَ
الْبَيْهَقِيّ : وَأَصَحّ هَذِهِ الرّوَايَاتِ حَدِيثُ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ وَحَدِيثُ جَابِرٍ وَحَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ
يَعْنِي : أَنّهُ طَافَ نَهَارًا . قُلْتُ إنّمَا نَشَأَ الْغَلَطُ مِنْ
تَسْمِيَةِ الطّوَافِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَخّرَ طَوَافَ الْوَدَاعِ إلَى اللّيْلِ كَمَا ثَبَتَ فِي "
الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ . قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . .. فَذَكَرْت الْحَدِيثَ إلَى
أَنْ قَالَتْ فَنَزَلْنَا الْمُحَصّبَ ، فَدَعَا عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ
أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالَ اُخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنْ الْحَرَمِ ، ثُمّ
اُفْرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا ، ثُمّ ائْتِيَانِي هَا هُنَا بِالْمُحَصّبِ
. قَالَتْ فَقَضَى اللّهُ الْعُمْرَةَ وَفَرَغْنَا مِنْ طَوَافِنَا فِي
جَوْفِ اللّيْلِ فَأَتَيْنَاهُ بِالْمُحَصّبِ فَقَالَ " فَرَغْتُمَا " ؟
قُلْنَا : نَعَمْ . فَأَذّنَ فِي النّاسِ بِالرّحِيلِ فَمَرّ بِالْبَيْتِ
فَطَافَ بِهِ ثُمّ ارْتَحَلَ مُتَوَجّهًا إلَى الْمَدِينَةِ . فَهَذَا
هُوَ الطّوَافُ الّذِي أَخّرَهُ إلَى اللّيْلِ بِلَا رَيْبٍ فَغَلِطَ
فِيهِ أَبُو الزّبَيْرِ أَوْ مَنْ حَدّثَهُ بِهِ وَقَالَ طَوَافُ
الزّيَارَةِ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ . وَلَمْ يَرْمُلْ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَذَا الطّوَافِ وَلَا فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ
وَإِنّمَا رَمَلَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ [ ص 257 ]
فَصْلٌ [ تَعْلِيلُ شُرْبِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَائِمًا ]
ثُمّ
أَتَى زَمْزَمَ بَعْدَ أَنْ قَضَى طَوَافَهُ وَهُمْ يَسْقُونَ فَقَالَ "
لَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النّاسُ لَنَزَلْتُ فَسَقَيْتُ مَعَكُمْ " ،
ثُمّ نَاوَلُوهُ الدّلْوَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِم فَقِيلَ هَذَا نَسْخٌ
لِنَهْيِهِ عَنْ الشّرْبِ قَائِمًا ، وَقِيلَ بَلْ بَيَانٌ مِنْهُ أَنّ
النّهْيَ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ وَتَرْكِ الْأَوْلَى ، وَقِيلَ بَلْ
لِلْحَاجَةِ وَهَذَا أَظْهَرُ .
[ طَافَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ ]
وَهَلْ
كَانَ فِي طَوَافِهِ هَذَا رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا ؟ فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي
" صَحِيحِهِ " ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ طَافَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْبَيْتِ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ
يَسْتَلِمُ الرّكْنَ بِمِحْجَنِهِ لِأَنْ يَرَاهُ النّاسُ وَلِيُشْرِفَ
وَلِيَسْأَلُوهُ فَإِنّ النّاسَ غَشُوهُ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " ، عَنْ
ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ طَافَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
حَجّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرّكْنَ بِمِحْجَن وَهَذَا
الطّوَافُ لَيْسَ بِطَوَافِ الْوَدَاعِ فَإِنّهُ كَانَ لَيْلًا ، وَلَيْسَ
بِطَوَافِ الْقُدُومِ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ قَدْ صَحّ
عَنْهُ الرّمَلُ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطّ :
رَمَلَتْ بَهْ رَاحِلَتُهُ وَإِنّمَا قَالُوا : رَمَلَ نَفْسُهُ . [ ص 258
] وَالثّانِي : قَوْلُ الشّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ : أَفَضْتُ مَعَ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَمَا مَسّتْ قَدَمَاهُ الْأَرْضَ
حَتّى أَتَى جَمْعًا وَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنّهُ مِنْ حِينِ أَفَاضَ مَعَهُ
مَا مَسّتْ قَدَمَاهُ الْأَرْضَ إلَى أَنْ رَجَعَ وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا
بِرَكْعَتَيْ الطّوَافِ فَإِنّ شَأْنَهُمَا مَعْلُومٌ . قُلْت :
وَالظّاهِرُ أَنّ الشّرِيدَ بْنَ سُوَيْدٍ ، إنّمَا أَرَادَ الْإِفَاضَةَ
مَعَهُ مِنْ عَرَفَةَ ، وَلِهَذَا قَالَ حَتّى أَتَى جَمْعًا وَهِيَ
مُزْدَلِفَةُ ، وَلَمْ يُرِدْ الْإِفَاضَةَ إلَى الْبَيْتِ يَوْمَ
النّحْرِ وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِنُزُولِهِ عِنْدَ الشّعْبِ حَيْنَ
بَالَ ثُمّ رَكِبَ لِأَنّهُ لَيْسَ بِنُزُولٍ مُسْتَقِرّ وَإِنّمَا مَسّتْ
قَدَمَاهُ الْأَرْضَ مَسّا عَارِضًا . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ أَيْنَ صَلّى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الظّهْرَ حِينَ رُجُوعِهِ إلَى مِنًى ]
ثُمّ
رَجَعَ إلَى مِنًى ، وَاخْتُلِفَ أَيْنَ صَلّى الظّهْرَ يَوْمَئِذٍ فَفِي
" الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَفَاضَ يَوْمَ النّحْرِ ثُمّ رَجَعَ فَصَلّى الظّهْرَ بِمِنًى .
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : عَنْ جَابِرٍ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ صَلّى الظّهْرَ بِمَكّةَ وَكَذَلِك قَالَتْ عَائِشَةُ .
وَاخْتُلِفَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ
فَقَالَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ [ ص 259 ] عَائِشَةَ وَجَابِرٍ
أَوْلَى وَتَبِعَهُ عَلَى هَذَا جَمَاعَةٌ وَرَجّحُوا هَذَا الْقَوْلَ
بِوُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنّهُ رِوَايَةُ اثْنَيْنِ وَهُمَا أَوْلَى مِنْ
الْوَاحِدِ . الثّانِي : أَنّ عَائِشَةَ أَخَصّ النّاسِ بِهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَهَا مِنْ الْقُرْبِ وَالِاخْتِصَاصِ بِهِ
وَالْمِزْيَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهَا . الثّالِثُ أَنّ سِيَاقَ جَابِرٍ
لِحُجّةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَوّلِهَا إلَى
آخِرِهَا ، أَتَمّ سِيَاقٍ وَقَدْ حَفِظَ الْقِصّةَ وَضَبَطَهَا ، حَتّى
ضَبَطَ جُزْئِيّاتِهَا . حَتّى ضَبَطَ مِنْهَا أَمْرًا لَا يَتَعَلّقُ
بِالْمَنَاسِكِ وَهُوَ نُزُولُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لَيْلَةَ جَمْعٍ فِي الطّرِيقِ فَقَضَى حَاجَتَهُ عِنْدَ الشّعْبِ ثُمّ
تَوَضّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا ، فَمَنْ ضَبَطَ هَذَا الْقَدْرَ فَهُوَ
بِضَبْطِ مَكَانِ صَلَاتِهِ يَوْمَ النّحْرِ أَوْلَى . الرّابِعُ أَنّ
حَجّةَ الْوَدَاعِ كَانَتْ فِي آذَارٍ وَهُوَ تَسَاوِي اللّيْلِ
وَالنّهَارِ وَقَدْ دَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ
إلَى مِنًى ، وَخَطَبَ بِهَا النّاسَ وَنَحَرَ بُدْنًا عَظِيمَةً
وَقَسَمَهَا ، وَطُبِخَ لَهُ مِنْ لَحْمِهَا ، وَأَكَلَ مِنْهُ وَرَمَى
الْجَمْرَةَ وَحَلَقَ رَأْسَهُ وَتَطَيّبَ ثُمّ أَفَاضَ فَطَافَ وَشَرِبَ
مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ ، وَمِنْ نَبِيذِ السّقَايَةِ وَوَقَفَ عَلَيْهِمْ
وَهُمْ يَسْقُونَ وَهَذِهِ أَعْمَالُ تَبْدُو فِي الْأَظْهَرِ أَنّهَا لَا
تَنْقَضِي فِي مِقْدَارٍ يُمْكِنُ مَعَهُ الرّجُوعُ إلَى مِنًى ، بِحَيْثُ
يُدْرِكُ وَقْتَ الظّهْرِ فِي فَصْلِ آذَارٍ . الْخَامِسُ أَنّ هَذَيْنِ
الْحَدِيثَيْنِ جَارِيَانِ مَجْرَى النّاقِلِ وَالْمُبْقِي ، فَقَدْ
كَانَتْ عَادَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَجّتِهِ الصّلَاةَ
فِي مَنْزِلِهِ الّذِي هُوَ نَازِلٌ فِيهِ بِالْمُسْلِمِينَ فَجَرَى ابْنُ
عُمَرَ عَلَى الْعَادَةِ وَضَبَطَ جَابِرٌ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُمَا الْأَمْرَ الّذِي هُوَ خَارِجٌ عَنْ عَادَتِهِ فَهُوَ أَوْلَى
بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَحْفُوظَ . وَرَجّحَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى قَوْلَ
ابْنِ عُمَرَ لِوُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنّهُ لَوْ صَلّى الظّهْرَ
بِمَكّةَ ، لَمْ تُصَلّ الصّحَابَةُ بِمِنًى وُحْدَانًا [ ص 260 ] أَحَدٌ
قَطّ ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ : إنّهُ اسْتَنَابَ مَنْ يُصَلّي بِهِمْ
وَلَوْلَا عِلْمُهُ أَنّهُ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ فَيُصَلّي بِهِمْ . لَقَالَ
إنْ حَضَرَتْ الصّلَاةُ وَلَسْتُ عِنْدَكُمْ فَلِيُصَلّ بِكُمْ فُلَانٌ
وَحَيْثُ لَمْ يَقَعْ هَذَا وَلَا هَذَا ، وَلَا صَلّى الصّحَابَةُ
هُنَاكَ وُحْدَانًا قَطْعًا ، وَلَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إذَا
اجْتَمَعُوا أَنْ يُصَلّوا عِزِينَ عُلِمَ أَنّهُمْ صَلّوا مَعَهُ عَلَى
عَادَتِهِمْ . الثّانِي : أَنّهُ لَوْ صَلّى بِمَكّةَ لَكَانَ خَلْفَهُ
بَعْضُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَهُمْ مُقِيمُونَ وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ
يُتِمّوا صَلَاتَهُمْ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنّهُمْ قَامُوا فَأَتَمّوا بَعْدَ
سَلَامِهِ صَلَاتَهُمْ وَحَيْثُ لَمْ يُنْقَلْ هَذَا وَلَا هَذَا ، بَلْ
هُوَ مَعْلُومُ الِانْتِفَاءِ قَطْعًا ، عُلِمَ أَنّهُ لَمْ يُصَلّ
حِينَئِذٍ بِمَكّةَ . وَمَا يَنْقُلُهُ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ
أَنّهُ قَالَ يَا أَهْلَ مَكّةَ أَتِمّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنّا قَوْمٌ
سَفْرٌ فَإِنّمَا قَالَهُ عَامَ الْفَتْحِ لَا فِي حَجّتِهِ . الثّالِثُ
أَنّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنّهُ لَمّا طَافَ رَكَعَ رَكْعَتَيْ الطّوَافِ
وَمَعْلُومٌ أَنّ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا خَلْفَهُ
يَقْتَدُونَ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَمَنَاسِكِهِ فَلَعَلّهُ لَمّا رَكَعَ
رَكْعَتَيْ الطّوَافِ وَالنّاسُ خَلْفَهُ يَقْتَدُونَ بِهِ ظَنّ الظّانّ
أَنّهَا صَلَاةُ الظّهْرِ وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ
الظّهْرِ وَهَذَا الْوَهْمُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُ احْتِمَالِهِ بِخِلَافِ
صَلَاتِهِ بِمِنًى ، فَإِنّهَا لَا تَحْتَمِلُ غَيْرَ الْفَرْضِ .
الرّابِعُ أَنّهُ لَا يُحْفَظُ عَنْهُ فِي حَجّهِ أَنّهُ صَلّى الْفَرْضَ
بِجَوْفِ مَكّةَ ، بَلْ إنّمَا كَانَ يُصَلّي بِمَنْزِلِهِ بِ الْأَبْطَحِ
بِالْمُسْلِمِينَ مُدّةَ مُقَامِهِ كَانَ يُصَلّي بِهِمْ أَيْنَ نَزَلُوا
لَا يُصَلّي فِي مَكَانٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَنْزِلِ الْعَامّ . الْخَامِسُ
أَنّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مُتّفَقٌ عَلَيْهِ وَحَدِيثُ جَابِرٍ مِنْ
أَفْرَادِ مُسْلِمٍ . فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَصَحّ مِنْهُ وَكَذَلِك
هُوَ فِي إسْنَادِهِ فَإِنّ رُوَاتَهُ أَحْفَظُ وَأَشْهَرُ وَأَتْقَنُ
فَأَيْنَ يَقَعُ حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ مِنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ
عُمَرَ الْعُمَرِيّ ، وَأَيْنَ يَقَعُ حِفْظُ جَعْفَرٍ مِنْ حِفْظِ
نَافِعٍ ؟ السّادِسُ أَنّ حَدِيثَ عَائِشَةَ قَدْ اضْطَرَبَ فِي وَقْتِ
طَوَافِهِ فَرُوِيَ عَنْهَا عَلَى [ ص 261 ] طَافَ نَهَارًا ، الثّانِي :
أَنّهُ أَخّرَ الطّوَافَ إلَى اللّيْلِ الثّالِثُ أَنّهُ أَفَاضَ مِنْ
آخِرِ يَوْمِهِ فَلَمْ يَضْبِطْ فِيهِ وَقْتَ الْإِفَاضَةِ وَلَا مَكَانَ
الصّلَاةِ بِخِلَافِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ . السّابِعُ أَنّ حَدِيثَ ابْنِ
عُمَرَ أَصَحّ مِنْهُ بِلَا نِزَاعٍ فَإِنّ حَدِيثَ عَائِشَةَ مِنْ
رِوَايَةِ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ
، عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا ، وَابْنِ إسْحَاقَ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ
بِهِ وَلَمْ يُصَرّحْ بِالسّمَاعِ بَلْ عَنْعَنَهُ فَكَيْفَ يُقَدّمُ
عَلَى قَوْلِ عُبَيْدِ اللّهِ حَدّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
الثّامِنُ أَنّ حَدِيثَ عَائِشَةَ لَيْسَ بِالْبَيّنِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى الظّهْرَ بِمَكّةَ ، فَإِنّ لَفْظَهُ هَكَذَا :
أَفَاضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ آخِرِ
يَوْمِهِ حِينَ صَلّى الظّهْرَ ثُمّ رَجَعَ إلَى مِنًى ، فَمَكَثَ بِهَا
لَيَالِيَ أَيّامِ التّشْرِيقِ يَرْمِي الْجَمْرَةَ إذَا زَالَتْ الشّمْسُ
كُلّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ . فَأَيْنَ دَلَالَةُ هَذَا الْحَدِيثِ
الصّرِيحَةُ عَلَى أَنّهُ صَلّى الظّهْرَ يَوْمَئِذٍ بِمَكّةَ وَأَيْنَ
هَذَا فِي صَرِيحِ الدّلَالَةِ إلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ أَفَاضَ يَوْمَ
النّحْرِ ثُمّ صَلّى الظّهْرَ بِمِنًى ، يَعْنِي رَاجِعًا . وَأَيْنَ
حَدِيثٌ اتّفَقَ أَصْحَابُ الصّحِيحِ عَلَى إخْرَاجِهِ إلَى حَدِيثٍ
اُخْتُلِفَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ ذِكْرُ طَوَافِ أُمّ سَلَمَةَ ]
قَالَ
ابْنُ حَزْمٍ وَطَافَتْ أُمّ سَلَمَةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى
بَعِيرِهَا مِنْ وَرَاءِ النّاسِ وَهِيَ شَاكِيَةٌ اسْتَأْذَنَتْ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَأَذِنَ لَهَا ،
وَاحْتَجّ عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ
حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمّ سَلَمَةَ ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ
شَكَوْتُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّي أَشْتَكِي ،
فَقَالَ " طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ " قَالَتْ
فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَئِذٍ
يُصَلّي إلَى جَنْبِ الْبَيْتِ وَهُوَ يَقْرَأُ { وَالطّورِ وَكِتَابٍ
مَسْطُورٍ } وَلَا يَتَبَيّنُ أَنّ هَذَا الطّوَافَ هُوَ طَوَافُ
الْإِفَاضَةِ لِأَنّ [ ص 262 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ
يَقْرَأْ فِي رَكْعَتَيْ ذَلِكَ الطّوَافِ بِالطّورِ وَلَا جَهَرَ
بِالْقِرَاءَةِ بِالنّهَارِ بِحَيْثُ تَسْمَعُهُ أُمّ سَلَمَةَ مِنْ
وَرَاءِ النّاسِ وَقَدْ بَيّنَ أَبُو مُحَمّدٍ غَلَطَ مَنْ قَالَ إنّهُ
أَخّرَهُ إلَى اللّيْلِ فَأَصَابَ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ صَحّ مِنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْسَلَ بِأُمّ
سَلَمَةَ لَيْلَةَ النّحْرِ ، فَرَمَتْ الْجَمْرَةَ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمّ
مَضَتْ فَأَفَاضَت فَكَيْفَ يَلْتَئِمُ هَذَا مَعَ طَوَافِهَا يَوْمَ
النّحْرِ وَرَاءَ النّاسِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى جَانِبِ الْبَيْتِ يُصَلّي وَيَقْرَأُ فِي صَلَاتِهِ {
وَالطّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ } ؟ هَذَا مِنْ الْمُحَالِ فَإِنّ هَذِهِ
الصّلَاةَ وَالْقِرَاءَةَ كَانَتْ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ أَوْ الْمَغْرِبِ
أَوْ الْعِشَاءِ وَأُمّا أَنّهَا كَانَتْ يَوْمَ النّحْرِ وَلَمْ يَكُنْ
ذَلِكَ الْوَقْتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ
قَطْعًا ، فَهَذَا مِنْ وَهْمِهِ رَحِمَهُ اللّهُ .
[طَوَافُ عَائِشَةَ ]
فَطَافَتْ
عَائِشَةُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ طَوَافًا وَاحِدًا ، وَسَعَتْ سَعْيًا
وَاحِدًا أَجْزَأَهَا عَنْ حَجّهَا وَعُمْرَتِهَا ، وَطَافَتْ صَفِيّةُ
ذَلِكَ الْيَوْمَ ثُمّ حَاضَتْ فَأَجْزَأَهَا طَوَافُهَا ذَلِكَ عَنْ
طَوَافِ الْوَدَاعِ وَلَمْ تُوَدّعْ فَاسْتَقَرّتْ سُنّتُهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَرْأَةِ الطّاهِرَةِ إذَا حَاضَتْ قَبْلَ
الطّوَافِ - أَوْ قَبْلَ الْوُقُوفِ - أَنْ تَقْرِنَ وَتَكْتَفِيَ
بِطَوَافٍ وَاحِدٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ وَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ طَوَافِ
الْإِفَاضَةِ اجْتَزَأَتْ بِهِ عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ . [ ص 263 ]
فَصْلٌ [ رَمْيُ الْجِمَارِ ]
ثُمّ
رَجَعَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مِنًى مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ
فَبَاتَ بِهَا ، فَلَمّا أَصْبَحَ انْتَظَرَ زَوَالَ الشّمْسِ فَلَمّا
زَالَتْ مَشَى مِنْ رَحْلِهِ إلَى الْجِمَارِ وَلَمْ يَرْكَبْ فَبَدَأَ
بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى الّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ ، فَرَمَاهَا
بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ يَقُولُ مَعَ كُلّ حَصَاةٍ
" اللّهُ أَكْبَرُ " ، ثُمّ تَقَدّمَ عَلَى الْجَمْرَةِ أَمَامَهَا حَتّى
أَسْهَلَ فَقَامَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ثُمّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا
دُعَاءً طَوِيلًا بِقَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمّ أَتَى إلَى
الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى ، فَرَمَاهَا كَذَلِكَ ثُمّ انْحَدَرَ ذَاتَ
الْيَسَارِ مِمّا يَلِي الْوَادِيَ فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو قَرِيبًا مِنْ وُقُوفِهِ الْأَوّلِ ثُمّ أَتَى
الْجَمْرَةَ الثّالِثَةَ وَهِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ ، فَاسْتَبْطَنَ
الْوَادِيَ وَاسْتَعْرَضَ الْجَمْرَةَ فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ
وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ كَذَلِكَ .
[ التّعْلِيلُ لِتَرْكِ الدّعَاءِ بَعْدَ الْعَقَبَةِ ]
وَلَمْ
يَرْمِهَا مِنْ أَعْلَاهَا كَمَا يَفْعَلُ الْجُهّالُ وَلَا جَعَلَهَا
عَنْ يَمِينِهِ وَاسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ وَقْتَ الرّمْيَ كَمَا ذَكَرَهُ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ . فَلَمّا أَكْمَلَ الرّمْيَ رَجَعَ
مِنْ فَوْرِهِ وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَهَا ، فَقِيلَ لِضِيقِ الْمَكَانِ
بِالْجَبَلِ وَقِيلَ وَهُوَ أَصَحّ : إنّ دُعَاءَهُ كَانَ فِي نَفْسِ
الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا ، فَلَمّا رَمَى جَمْرَةَ
الْعَقَبَةِ ، فَرَغَ الرّمْيُ وَالدّعَاءُ فِي صُلْبِ الْعِبَادَةِ
قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْهَا أَفْضَلُ مِنْهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا ،
وَهَذَا كَمَا كَانَتْ سُنّتُهُ فِي دُعَائِهِ فِي الصّلَاةِ إذْ كَانَ
يَدْعُو فِي صُلْبِهَا ، فَأَمّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا ، فَلَمْ
يَثْبُت عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَعْتَادُ الدّعَاءَ وَمَنْ رَوَى عَنْهُ
ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ وَإِنْ رُوِيَ فِي غَيْرِ الصّحِيحِ أَنّهُ
كَانَ أَحْيَانًا يَدْعُو بِدُعَاءٍ عَارِضٍ بَعْدَ السّلَامِ وَفِي
صِحّتِهِ نَظَرٌ . [ ص 264 ] رِيبَ أَنّ عَامّةَ أَدْعِيَتِهِ الّتِي
كَانَ يَدْعُو بِهَا ، وَعَلّمَهَا الصّدّيقَ إنّمَا هِيَ فِي صُلْبِ
الصّلَاةِ وَأَمّا حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : لَا تَنْسَ أَنْ تَقُولَ
دُبُرَ كُلّ صَلَاةٍ : اللّهُمّ أَعِنّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِك ،
وَحُسْنِ عِبَادَتِك فَدُبُرُ الصّلَاةِ يُرَادُ بِهِ آخِرُهَا قَبْلَ
السّلَامِ مِنْهَا ، كَدُبُرِ الْحَيَوَانِ وَيُرَادُ بِهِ مَا بَعْدَ
السّلَامِ كَقَوْلِهِ تُسَبّحُونَ اللّهَ وَتُكَبّرُونَ وَتَحْمَدُونَ
دُبُرَ كُلّ صَلَاةٍ الْحَدِيثُ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ مَيْلُ الْمُصَنّفِ بِأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَمَى قَبْلَ الصّلَاةِ ]
وَلَمْ
يَزَلْ فِي نَفْسِي ، هَلْ كَانَ يَرْمِي قَبْلَ صَلَاةِ الظّهْرِ أَوْ
بَعْدَهَا ؟ وَاَلّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظّنّ أَنّهُ كَانَهُ يَرْمِي
قَبْلَ الصّلَاةِ ثُمّ يَرْجِعُ فَيُصَلّي ، لِأَنّ جَابِرًا وَغَيْرَهُ
قَالُوا : كَانَ يَرْمِي إذَا زَالَتْ الشّمْسُ فَعَقّبُوا زَوَالَ
الشّمْسِ بِرَمْيِهِ . وَأَيْضًا ، فَإِنّ وَقْتَ الزّوَالِ لِلرّمْيِ
أَيّامَ مِنًى ، كَطُلُوعِ الشّمْسِ لِرَمْيِ يَوْمِ النّحْرِ وَالنّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ النّحْرِ لَمّا دَخَلَ وَقْتُ
الرّمْيِ لَمْ يُقَدّمْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ عِبَادَاتِ ذَلِكَ
الْيَوْمِ وَأَيْضًا فَإِنّ التّرْمِذِيّ وَابْنَ مَاجَهْ ، رَوَيَا فِي "
سُنَنِهِمَا " عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : كَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَرْمِي الْجِمَارَ إذَا
زَالَتْ الشّمْسُ زَادَ ابْنُ مَاجَهْ : قَدْرَ مَا إذَا فَرَغَ مِنْ
رَمْيِهِ صَلّى الظّهْرَ . وَقَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ
وَلَكِنْ فِي إسْنَادِ حَدِيثِ التّرْمِذِيّ الْحَجّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ ،
وَفِي إسْنَادِ حَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ أَبُو [
ص 265 ] وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنّهُ كَانَ يَرْمِي يَوْمَ
النّحْرِ رَاكِبًا ، وَأَيّامَ مِنًى مَاشِيًا فِي ذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ .
فَصْلٌ [ وَقَفَاتُ الدّعَاءِ فِي الْحَجّ ]
فَقَدْ
تَضَمّنَتْ حَجّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سِتّ وَقَفَاتٍ
لِلدّعَاءِ . الْمَوْقِفُ الْأَوّلُ عَلَى الصّفَا ، وَالثّانِي : عَلَى
الْمَرْوَةِ ، وَالثّالِثُ بِعَرَفَةَ ، وَالرّابِعُ بِمُزْدَلِفَةَ ،
وَالْخَامِسُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى ، وَالسّادِسُ عِنْدَ
الْجَمْرَةِ الثّانِيَةِ .
فَصْلٌ [ خُطْبَتَا مِنًى ]
وَخَطَبَ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ بِمِنًى خُطْبَتَيْنِ خُطْبَةً
يَوْمَ النّحْرِ وَقَدْ تَقَدّمَتْ وَالْخُطْبَةَ الثّانِيَةَ فِي
أَوْسَطِ أَيّامِ التّشْرِيقِ فَقِيلَ هُوَ ثَانِي يَوْمِ النّحْرِ وَهُوَ
أَوْسَطُهَا ، أَيْ خِيَارُهَا ، وَاحْتَجّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ
سَرّاءَ بِنْتِ نَبْهَانَ ، قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُول : أَتَدْرُونَ أَيّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قَالَتْ
وَهُوَ الْيَوْمُ الّذِي تَدْعُونَ يَوْمَ الرّءُوسِ . قَالُوا : اللّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ هَذَا أَوْسَطُ أَيّامِ التّشْرِيقِ . هَلْ
تَدْرُونَ أَيّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قَالُوا : اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ هَذَا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ . ثُمّ قَال : إنّي لَا أَدْرِي
لَعَلّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا ، أَلَا وَإِنّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ
يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، حَتّى
تَلْقَوْا رَبّكُمْ فَيَسْأَلَكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ أَلَا فَلْيُبَلّغْ
أَدْنَاكُمْ أَقْصَاكُمْ أَلَا هَلْ بَلّغْتُ " فَلَمّا قَدِمْنَا
الْمَدِينَةَ ، لَمْ يَلْبَثْ إلّا قَلِيلًا حَتّى مَاتَ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد [ ص 266 ] ثَانِي يَوْمِ النّحْرِ
بِالِاتّفَاقِ . وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ ، مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ
عيْدَةَ الرّبَذِيّ ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ،
قَالَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ السّورَةُ { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ
وَالْفَتْحُ } عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
وَسَطِ أَيّامِ التّشْرِيقِ وَعُرِفَ أَنّهُ الْوَدَاعُ فَأَمَرَ
بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ وَاجْتَمَعَ النّاسُ فَقَالَ " يَا
أَيّهَا النّاسُ " ثُمّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي خُطْبَتِهِ .
فَصْلٌ [
تَرْخِيصُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِمَنْ لَهُ عُذْرٌ
بِالْمَبِيتِ خَارِجَ مِنًى وَبِجَمْعِ رَمْيِ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ
النّحْرِ فِي أَحَدِهِمَا ]
وَاسْتَأْذَنَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ
سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ . وَاسْتَأْذَنَهُ رِعَاءُ الْإِبِلِ فِي
الْبَيْتُوتَةِ خَارِجَ مِنًى عِنْدَ الْإِبِلِ فَأَرْخَصَ لَهُمْ أَنْ
يَرْمُوا يَوْمَ النّحْرِ ثُمّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ
يَوْمِ النّحْرِ يَرْمُونَهُ فِي أَحَدِهِمَا . [ ص 267 ] قَالَ مَالِكٌ :
ظَنَنْتُ أَنّهُ قَالَ فِي أَوّلِ يَوْمٍ مِنْهُمَا ، ثُمّ يَرْمُونَ
يَوْمَ النّفْرِ . وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رَخّصَ
لِلرّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا ، وَيَدَعُوا يَوْمًا فَيَجُوزُ
لِلطّائِفَتَيْنِ بِالسّنّةِ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى ، وَأَمّا
الرّمْيُ فَإِنّهُمْ لَا يَتْرُكُونَهُ بَلْ لَهُمْ أَنْ يُؤَخّرُوهُ إلَى
اللّيْلِ فَيَرْمُونَ فِيهِ وَلَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ
فِي يَوْمٍ وَإِذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ
رَخّصَ لِأَهْلِ السّقَايَةِ وَلِلرّعَاءِ فِي الْبَيْتُوتَةِ فَمَنْ لَهُ
مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَهُ أَوْ مَرِيضٌ يَخَافُ مِنْ تَخَلّفِهِ عَنْهُ
أَوْ كَانَ مَرِيضًا لَا تُمْكِنُهُ الْبَيْتُوتَةُ سَقَطَتْ عَنْهُ
بِتَنْبِيهِ النّصّ عَلَى هَؤُلَاءِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ أَيْنَ لَقِيَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَائِشَةَ بَعْدَ رُجُوعِهَا مِنْ عُمْرَةِ التّنْعِيمِ ]
وَلَمْ
يَتَعَجّلْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي يَوْمَيْنِ بَلْ تَأَخّرَ
حَتّى أَكْمَلَ رَمْيَ أَيّامِ التّشْرِيقِ الثّلَاثَةِ وَأَفَاضَ يَوْمَ
الثّلَاثَاءِ بَعْدَ الظّهْرِ إلَى الْمُحَصّبِ ، وَهُوَ الْأَبْطَحُ ،
وَهُوَ خَيْفُ بَنِي كِنَانَةَ ، فَوَجَدَ أَبَا رَافِعٍ قَدْ ضَرَبَ لَهُ
فِيهِ قُبّةٍ هُنَاكَ وَكَانَ عَلَى ثَقَلِهِ تَوْفِيقًا مِنْ اللّهِ عَزّ
وَجَلّ دُونَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَصَلّى الظّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ
وَرَقَدَ رَقْدَةً ثُمّ نَهَضَ إلَى مَكّةَ ، فَطَافَ لِلْوَدَاعِ لَيْلًا
سَحَرًا ، وَلَمْ يَرْمُلْ فِي هَذَا الطّوَافِ ، وَأَخْبَرَتْهُ صَفِيّةُ
أَنّهَا حَائِضٌ فَقَالَ " أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ " فَقَالُوا لَهُ إنّهَا
قَدْ أَفَاضَتْ قَالَ " فَلْتَنْفِرْ إذًا " وَرَغِبَتْ إلَيْهِ عَائِشَةُ
تَلِك اللّيْلَةَ أَنْ يُعْمِرَهَا عُمْرَةً مُفْرَدَةً فَأَخْبَرَهَا
أَنّ طَوَافَهَا بِالْبَيْتِ وَبِالصّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْ أَجْزَأَ
عَنْ حَجّهَا وَعُمْرَتِهَا ، فَأَبَتْ إلّا أَنْ تَعْتَمِرَ عُمْرَةً
مُفْرَدَةً فَأَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ
التّنْعِيمِ ، فَفَرَغَتْ مِنْ عُمْرَتِهَا لَيْلًا ثُمّ وَافَتْ
الْمُحَصّبَ مَعَ أَخِيهَا ، فَأَتَيَا فِي جَوْفِ اللّيْلِ فَقَالَ [ ص
268 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَرَغْتُمَا " ؟ قَالَتْ نَعَمْ
فَنَادَى بِالرّحِيلِ فِي أَصْحَابِهِ فَارْتَحَلَ النّاسُ ثُمّ طَافَ
بِالْبَيْتِ قَبْلَ صَلَاةِ الصّبْحِ . هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيّ .
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَجْمَعُونَ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ حَدِيثِ
الْأَسْوَدِ عَنْهَا الّذِي فِي " الصّحِيحِ " أَيْضًا ؟ قَالَتْ
خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ
نَرَ إلّا الْحَجّ . . . فَذَكَرْت الْحَدِيثَ وَفِيهِ فَلَمّا كَانَتْ
لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ يَرْجِعُ النّاسُ
بِحَجّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجّةٍ ؟ قَالَ أَوَمَا كُنْتِ
طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مَكّةَ ؟ قَالَتْ قُلْتُ لَا . قَالَ "
فَاذْهَبِي مَعَ أَخِيكِ إلَى التّنْعِيمِ ، فَأَهِلّي بِعُمْرَةٍ ثُمّ
مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا " ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَقِيَنِي
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ
مَكّةَ ، وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا ، أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهُوَ
مُنْهَبِطٌ مِنْهَا فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّهُمَا تَلَاقَيَا فِي
الطّرِيقِ وَفِي الْأَوّلِ أَنّهُ انْتَظَرَهَا فِي مَنْزِلِهِ فَلَمّا
جَاءَتْ نَادَى بِالرّحِيلِ فِي أَصْحَابِهِ . ثُمّ فِيهِ إشْكَالٌ آخَرُ
وَهُوَ قَوْلُهَا : لَقِيَنِي وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكّةَ وَأَنَا
مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا ، أَوْ بِالْعَكْسِ فَإِنْ كَانَ الْأَوّلُ
فَيَكُونُ قَدْ لَقِيَهَا مُصْعِدًا مِنْهَا رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ ،
وَهِيَ مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا لِلْعُمْرَةِ وَهَذَا يُنَافِي
انْتِظَارَهُ لَهَا بِالْمُحَصّبِ . قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ :
الصّوَابُ الّذِي لَا شَكّ فِيهِ أَنّهَا كَانَتْ مُصْعِدَةً مِنْ مَكّةَ
، وَهُوَ مُنْهَبِطٌ لِأَنّهَا تَقَدّمَتْ إلَى الْعُمْرَةِ
وَانْتَظَرَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى
جَاءَتْ ثُمّ نَهَضَ إلَى طَوَافِ الْوَدَاعِ فَلَقِيَهَا مُنْصَرِفَةً
إلَى الْمُحَصّبِ عَنْ مَكّةَ ، وَهَذَا لَا يَصِحّ ، فَإِنّهَا قَالَتْ
وَهُوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ
الْمُحَصّبِ ، وَالْخُرُوجِ مِنْ مَكّةَ ، فَكَيْفَ يَقُولُ أَبُو
مُحَمّدٍ : إنّهُ نَهَضَ إلَى طَوَافِ [ ص 269 ] مَكّةَ ؟ هَذَا مُحَالٌ .
وَأَبُو مُحَمّدٍ ، لَمْ يَحُجّ . وَحَدِيثُ الْقَاسِمِ عَنْهَا صَرِيحٌ
كَمَا تَقَدّمَ فِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
انْتَظَرَهَا فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ النّفْرِ حَتّى جَاءَتْ فَارْتَحَلَ
وَأَذّنَ فِي النّاسِ بِالرّحِيلِ فَإِنْ كَانَ حَدِيثُ الْأَسْوَدِ هَذَا
مَحْفُوظًا ، فَصَوَابُهُ لَقِيَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَأَنَا مُصْعِدَةٌ مِنْ مَكّةَ ، وَهُوَ مُنْهَبِطٌ إلَيْهَا ،
فَإِنّهَا طَافَتْ وَقَضَتْ عُمْرَتَهَا ، ثُمّ أُصْعِدَتْ لِمِيعَادِهِ
فَوَافَتْهُ قَدْ أَخَذَ فِي الْهُبُوطِ إلَى مَكّةَ لِلْوَدَاعِ
فَارْتَحَلَ وَأَذّنَ فِي النّاسِ بِالرّحِيلِ وَلَا وَجْهَ لِحَدِيثِ
الْأَسْوَدِ غَيْرُ هَذَا ، وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِجَمْعَيْنِ
آخَرِينَ وَهُمَا وَهْمٌ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ طَافَ لِلْوَدَاعِ
مَرّتَيْنِ مَرّةً بَعْدَ أَنْ بَعَثَهَا ، وَقَبْلَ فَرَاغِهَا ،
وَمَرّةً بَعْدَ فَرَاغِهَا لِلْوَدَاعِ وَهَذَا مَعَ أَنّهُ وَهْمٌ
بَيّنٌ فَإِنّهُ لَا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ بَلْ يَزِيدُهُ فَتَأَمّلْهُ .
الثّانِي : أَنّهُ انْتَقَلَ مِنْ الْمُحَصّبِ إلَى ظَهْرِ الْعَقَبَةِ
خَوْفَ الْمَشَقّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي التّحْصِيبِ فَلَقِيَتْهُ
وَهِيَ مُنْهَبِطَةٌ إلَى مَكّةَ ، وَهُوَ مُصْعَدٌ إلَى الْعَقَبَةِ ،
وَهَذَا أَقْبَحُ مِنْ الْأَوّلِ لِأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْعَقَبَةِ أَصْلًا ، وَإِنّمَا خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ
مَكّةَ مِنْ الثّنِيّةِ السّفْلَى بِالِاتّفَاقِ . وَأَيْضًا : فَعَلَى
تَقْدِيرِ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ .
وَذَكَرَ أَبُو مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْم ٍ أَنّهُ رَجَعَ بَعْدَ خُرُوجِهِ
مِنْ أَسْفَلِ مَكّةَ إلَى الْمُحَصّبِ ، وَأَمَرَ بِالرّحِيلِ وَهَذَا
وَهْمٌ أَيْضًا ، لَمْ يَرْجِعْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بَعْدَ وَدَاعِهِ إلَى الْمُحَصّبِ ، وَإِنّمَا مَرّ مِنْ
فَوْرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ . وَذَكَرَ فِي بَعْضِ تَآلِيفِهِ أَنّهُ
فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ كَالْمُحَلّقِ عَلَى مَكّةَ بِدَائِرَةٍ فِي
دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ فَإِنّهُ بَاتَ بِذِي طُوًى ، ثُمّ دَخَلَ مِنْ
أَعْلَى مَكّةَ ، ثُمّ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا ، ثُمّ رَجَعَ إلَى
الْمُحَصّبِ ، وَيَكُونُ هَذَا الرّجُوعُ مِنْ يَمَانِي مَكّةَ حَتّى
تَحْصُلَ الدّائِرَةُ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا
جَاءَ نَزَلَ بِذِي طُوًى ، ثُمّ أَتَى مَكّةَ مِنْ كَدَاءٍ ، ثُمّ نَزَلَ
بِهِ لَمّا فَرَغَ مِنْ الطّوَافِ ثُمّ لَمّا فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ
النّسُكِ نَزَلَ بِهِ ثُمّ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكّةَ [ ص 270 ]
وَأَخَذَ مِنْ يَمِينِهَا حَتّى أَتَى الْمُحَصّبَ ، وَيَحْمِلُ أَمْرَهُ
بِالرّحِيلِ ثَانِيًا عَلَى أَنّهُ لَقِيَ فِي رُجُوعِهِ ذَلِكَ إلَى
الْمُحَصّبِ قَوْمًا لَمْ يُرَحّلُوا ، فَأَمَرَهُمْ بِالرّحِيلِ
وَتَوَجّهَ مِنْ فَوْرِهِ ذَلِكَ إلَى الْمَدِينَةِ . وَلَقَدْ شَانَ
أَبُو مُحَمّدٍ نَفْسَهُ وَكِتَابَهُ بِهَذَا الْهَذَيَانِ الْبَارِدِ
السّمِجِ الّذِي يُضْحَكُ مِنْهُ وَلَوْلَا التّنْبِيهُ عَلَى أَغْلَاطِ
مَنْ غَلِطَ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَرَغِبْنَا عَنْ
ذِكْرِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ . وَاَلّذِي كَأَنّك تَرَاهُ مِنْ
فِعْلِهِ أَنّهُ نَزَلَ بِالْمُحَصّبِ وَصَلّى بِهِ الظّهْرَ وَالْعَصْرَ
وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَرَقَدَ رَقْدَةً ثُمّ نَهَضَ إلَى مَكّةَ ،
وَطَافَ بِهَا طَوَافَ الْوَدَاعِ لَيْلًا ، ثُمّ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا
إلَى الْمَدِينَةِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْمُحَصّبِ ، وَلَا دَارَ
دَائِرَةً فَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : عَنْ أَنَسٍ ، أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى الظّهْرَ وَالْعَصْرَ
وَالْمَغْرِبَ ، وَالْعِشَاءَ وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصّبِ ثُمّ
رَكِبَ إلَى الْبَيْتِ وَطَافَ بِهِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ
عَائِشَةَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَذَكَرَتْ الْحَدِيثَ ثُمّ قَالَتْ حِينَ قَضَى اللّهُ الْحَجّ
وَنَفَرْنَا مِنْ مِنًى ، فَنَزَلْنَا بِالْمُحَصّبِ فَدَعَا عَبْدَ
الرّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ " اُخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنْ
الْحَرَمِ ، ثُمّ اُفْرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا ، ثُمّ ائِتيَانِي هَا
هُنَا بِالْمُحَصّبِ " . قَالَتْ فَقَضَى اللّهُ الْعُمْرَةَ وَفَرَغْنَا
مِنْ طَوَافِنَا فِي جَوْفِ اللّيْلِ فَأَتَيْنَاهُ بِالْمُحَصّبِ .
فَقَالَ فَرْغْتُمَا ؟ قُلْنَا : نَعَمْ . فَأَذّنَ فِي النّاسِ
بِالرّحِيلِ فَمَرّ بِالْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ ثُمّ ارْتَحَلَ مُتَوَجّهًا
إلَى الْمَدِينَةِ فَهَذَا مِنْ أَصَحّ حَدِيثٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
وَأَدَلّهِ عَلَى فَسَادِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ
تِلْكَ التّقْدِيرَاتِ الّتِي لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْهَا ، وَدَلِيلٌ
عَلَى أَنّ حَدِيثَ الْأَسْوَدِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ ، وَإِنْ كَانَ
مَحْفُوظًا ، فَلَا وَجْهَ لَهُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا وَبِاَللّهِ
التّوْفِيقُ .
[ هَلْ التّحْصِيبُ سُنّةٌ ؟ ]
وَقَدْ اخْتَلَفَ
السّلَفُ فِي التّحْصِيبِ هَلْ هُوَ سُنّةٌ أَوْ مَنْزِلُ اتّفَاقٍ ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ مِنْ سُنَنِ الْحَجّ فَإِنّ
فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، [ ص 271 ] أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ
مِنْ مِنًى : نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللّهُ بِخَيْفِ بَنِي
كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ . يَعْنِي بِذَلِكَ
الْمُحَصّبَ وَذَلِك أَنّ قُرَيْشًا وَبَنِي كِنَانَةَ تَقَاسَمُوا عَلَى
بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطّلِبِ أَلّا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يَكُونَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ شَيْءٌ حَتّى يُسَلّمُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَصَدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَكَانِ الّذِي
أَظَهَرُوا فِيهِ شَعَائِرَ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةَ لِلّهِ وَرَسُولِهِ
وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتُهُ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنْ
يُقِيمَ شِعَارَ التّوْحِيدِ فِي مَوَاضِعِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ
وَالشّرْكِ كَمَا أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ
يُبْنَى مَسْجِدُ الطّائِفِ مَوْضِعَ اللّاتِ وَالْعُزّى بِخَيْفِ بَنِي
كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ يَعْنِي بِذَلِكَ
الْمُحَصّبَ ، وَذَلِك أَنّ قُرَيْشًا وَبَنِي كِنَانَةَ ، تَقَاسَمُوا
عَلَى بَنِي هَاشِمٍ ، وَبَنِي الْمُطّلِبِ ، أَلّا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا
يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ شَيْءٌ حَتّى يُسَلّمُوا إلَيْهِمْ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَصَدَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إظْهَارَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَكَانِ
الّذِي أَظَهَرُوا فِيهِ شَعَائِرَ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةَ لِلّهِ
وَرَسُولِهِ وَهَذِهِ كَانَتْ عَادَتُهُ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ شِعَارَ التّوْحِيدِ فِي مَوَاضِعِ شَعَائِرِ
الْكُفْرِ وَالشّرْكِ كَمَا أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنْ يُبْنَى مَسْجِدُ الطّائِفِ مَوْضِعَ اللّاتِ وَالْعُزّى .
قَالُوا : وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ،
كَانُوا يَنْزِلُونَهُ . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ
يَرَى التّحْصِيبَ سُنّةً . وَقَالَ الْبُخَارِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ كَانَ
يُصَلّي بِهِ الظّهْرَ وَالْعَصْرَ ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ
وَيَهْجَعُ وَيُذْكَرُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَعَلَ ذَلِك وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ ابْنُ عَبّاسٍ ،
وَعَائِشَةُ إلَى أَنّهُ لَيْسَ بِسُنّةٍ وَإِنّمَا هُوَ مَنْزِلُ
اتّفَاقٍ فَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، لَيْسَ
الْمُحَصّبُ بِشَيْءٍ ، وَإِنّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ وَفِي "
صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : عَنْ أَبِي رَافِعٍ لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ أَنْزِلَ بِمَنْ مَعِي بِالْأَبْطَحِ
وَلَكِنْ أَنَا ضَرَبْتُ قُبّتَهُ ثُمّ جَاءَ فَنَزَلَ . فَأَنْزَلَ
اللّهُ فِيهِ بِتَوْفِيقِهِ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِهِ " نَحْنُ
نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ " ، وَتَنْفِيذًا لِمَا عَزَمَ
عَلَيْهِ وَمُوَافَقَةً مِنْهُ لِرَسُولِهِ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِ [ ص 272 ]
فَصْلٌ
هَا هُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ هَلْ دَخَلَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَيْتَ فِي حَجّتِهِ
أَمْ لَا ؟ وَهَلْ وَقَفَ فِي الْمُلْتَزَمِ بَعْدَ الْوَدَاعِ ، أَمْ لَا
؟ وَهَلْ صَلّى الصّبْحَ لَيْلَةَ الْوَدَاعِ بِمَكّةَ أَوْ خَارِجًا
مِنْهَا ؟
[ هَلْ دَخَلَ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَيْتَ ؟ ]
فَأَمّا
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ، فَزَعَمَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ
وَغَيْرِهِمْ أَنّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ فِي حَجّتِهِ وَيَرَى كَثِيرٌ مِنْ
النّاسِ أَنّ دُخُولَ الْبَيْتِ مِنْ سُنَنِ الْحَجّ اقْتِدَاءً
بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَاَلّذِي تَدُلّ عَلَيْهِ
سُنّتُهُ أَنّهُ لَمْ يَدْخُلْ الْبَيْتَ فِي حَجّتِهِ وَلَا فِي
عُمْرَتِهِ وَإِنّمَا دَخَلَهُ عَامَ الْفَتْحِ فَفِي " الصّحِيحَيْنِ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ عَلَى نَاقَةٍ لِأُسَامَةَ حَتّى أَنَاخَ
بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، فَدَعَا عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بِالْمِفْتَاحِ
فَجَاءَهُ بِهِ فَفَتَحَ فَدَخَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَأُسَامَةُ ، وَبِلَالٌ ، وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ،
فَأَجَافُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ مَلِيّا ، ثُمّ فَتَحُوهُ . قَالَ عَبْدُ
اللّهِ فَبَادَرْتُ النّاسَ فَوَجَدْتُ بِلَالًا عَلَى الْبَابِ . فَقُلْت
: أَيْنَ صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالَ
بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدّمَيْنِ . قَالَ وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ
كَمْ صَلّى وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا قَدِمَ مَكّةَ ،
أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ قَالَ فَأَمَرَ بِهَا
فَأُخْرِجَتْ فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي
أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ " قَاتَلَهُمْ اللّهُ أَمَا وَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنّهُمَا
لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطّ " . قَالَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبّرَ فِي
نَوَاحِيهِ وَلَمْ يُصَلّ فِيهِ [ ص 273 ] فَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ
دُخُولَيْنِ صَلّى فِي أَحَدِهِمَا ، وَلَمْ يُصَلّ فِي الْآخَرِ .
وَهَذِهِ طَرِيقَةُ ضُعَفَاءِ النّقْدِ كُلّمَا رَأَوْا اخْتِلَافَ لَفْظٍ
جَعَلُوهُ قِصّةً أُخْرَى ، كَمَا جَعَلُوا الْإِسْرَاءَ مِرَارًا
لِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ وَجَعَلُوا اشْتِرَاءَهُ مِنْ جَابِرٍ بَعِيرَهُ
مِرَارًا لِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ وَجَعَلُوا طَوَافَ الْوَدَاعِ
مَرّتَيْنِ لِاخْتِلَافِ سِيَاقِهِ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ . وَأَمّا
الْجَهَابِذَةُ النّقّادُ فَيَرْغَبُونَ عَنْ هَذِهِ الطّرِيقَةِ وَلَا
يَجْبُنُونَ عَنْ تَغْلِيطِ مَنْ لَيْسَ مَعْصُومًا مِنْ الْغَلَطِ
وَنِسْبَتُهُ إلَى الْوَهْمِ قَالَ الْبُخَارِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ
الْأَئِمّةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ بِلَالٍ لِأَنّهُ مُثْبِتٌ شَاهِدَ
صَلَاتِهِ بِخِلَافِ ابْنِ عَبّاسٍ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ دُخُولَهُ
الْبَيْتَ إنّمَا كَانَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ ، لَا فِي حَجّهِ وَلَا
عُمَرِهِ وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي
خَالِدٍ ، قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى : أَدَخَلَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عُمْرَتِهِ الْبَيْتَ ؟
قَالَ لَا . وَقَالَتْ عَائِشَةُ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عِنْدِي وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ طَيّبُ النّفْسِ
ثُمّ رَجَعَ إلَيّ وَهُوَ حَزِينُ الْقَلْبِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ
خَرَجْتَ مِنْ عِنْدِي وَأَنْتَ كَذَا وَكَذَا . فَقَالَ إنّي دَخَلْتُ
الْكَعْبَةَ وَوَدِدْتُ أَنّي لَمْ أَكُن فَعَلْتُ إنّي أَخَافُ أَنْ
أَكُونَ قَدْ أَتْعَبْتُ أُمّتِي مِنْ بَعْدِي فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ
أَنّهُ كَانَ فِيهِ حَجّتُهُ بَلْ [ ص 274 ] حَقّ التّأَمّلِ أَطْلَعَكَ
التّأَمّلُ عَلَى أَنّهُ كَانَ فِي غَزَاةِ الْفَتْحِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ
وَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ أَنْ تَدْخُلَ الْبَيْتَ فَأَمَرَهَا أَنْ
تُصَلّيَ فِي الْحِجْرِ رَكْعَتَيْنِ .
فَصْلٌ [ هَلْ وَقَفَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُلْتَزَمِ بَعْدَ الْوَدَاعِ ]
وَأَمّا
الْمَسْأَلَةُ الثّانِيَةُ وَهِيَ وُقُوفُهُ فِي الْمُلْتَزَمِ ،
فَاَلّذِي رُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ فَعَلَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ فَفِي " سُنَنِ
أَبِي دَاوُد " ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ ، قَالَ
لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ،
انْطَلَقْتُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَدْ خَرَجَ مِنْ الْكَعْبَةِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقَدْ اسْتَلَمُوا
الرّكْنَ مِنْ الْبَابِ إلَى الْحَطِيمِ ، وَوَضَعُوا خُدُودَهُمْ عَلَى
الْبَيْتِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَطَهُمْ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا : مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ،
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللّهِ فَلَمّا حَاذَى
دُبُرَ الْكَعْبَةِ قُلْتُ أَلَا تَتَعَوّذُ ؟ قَالَ نَعُوذُ بِاَللّهِ
مِنْ النّارِ ، ثُمّ مَضَى حَتّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ، فَقَامَ بَيْنَ
الرّكْنِ وَالْبَابِ فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ هَكَذَا
، وَبَسَطَهُمَا بَسْطًا ، وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَفْعَلُه فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي
وَقْتِ الْوَدَاعِ وَأَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِهِ وَلَكِنْ قَالَ مُجَاهِدٌ
وَالشّافِعِيّ بَعْدَهُ وَغَيْرُهُمَا : إنّهُ يُسْتَحَبّ أَنْ يَقِفَ فِي
الْمُلْتَزَمِ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَيَدْعُو ، وَكَانَ ابْنُ
عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا يَلْتَزِمُ مَا بَيْنَ الرّكْنِ
وَالْبَابِ وَكَانَ يَقُولُ لَا يَلْتَزِمُ مَا بَيْنَهُمَا أَحَدٌ
يَسْأَلُ اللّهَ تَعَالَى شَيْئًا إلّا أَعْطَاهُ إيّاهُ وَاَللّهُ
أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ أَيْنَ صَلّى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّبْحَ لَيْلَةَ الْوَدَاعِ ؟]
وَأَمّا
الْمَسْأَلَةُ الثّالِثَةُ وَهِيَ مَوْضِعُ صَلَاتِهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلَاةَ الصّبْحِ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ [ ص 275 ]
الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ أُمّ سَلَمَةَ ، قَالَتْ شَكَوْتُ إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّي أَشْتَكِي ، فَقَالَ طُوفِي
مِنْ وَرَاءِ النّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ . قَالَتْ فَطُفْتُ وَرَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَئِذٍ يُصَلّي إلَى جَنْبِ
الْبَيْتِ وَهُوَ يَقْرَأُ ب وَالطّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فَهَذَا
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَجْرِ وَفِي غَيْرِهَا ، وَأَنْ يَكُونَ
فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ وَغَيْرِهِ فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَإِذَا
الْبُخَارِيّ قَدْ رَوَى فِي " صَحِيحِهِ " فِي هَذِهِ الْقِصّةِ أَنّهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا أَرَادَ الْخُرُوجَ وَلَمْ تَكُنْ
أُمّ سَلَمَةَ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَتْ الْخُرُوجَ فَقَالَ لَهَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ
الصّبْحِ ، فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ وَالنّاسُ يُصَلّونَ فَفَعَلَتْ
ذَلِكَ فَلَمْ تُصَلّ حَتّى خَرَجَتْ وَهَذَا مَحَالٌ قَطْعًا أَنْ
يَكُونَ يَوْمَ النّحْرِ فَهُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ بِلَا رَيْبٍ فَظَهَرَ
أَنّهُ صَلّى الصّبْحَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ الْبَيْتِ وَسَمِعَتْهُ أُمّ
سَلَمَةَ يَقْرَأُ فِيهَا بِالطّورِ .
فَصْل [ ارْتِحَالُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ]
ثُمّ
ارْتَحَلَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ ،
فَلَمّا كَانَ بِالرّوْحَاءِ ، لَقِيَ رَكْبًا ، فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ
وَقَالَ مَنْ الْقَوْمُ ؟ فَقَالُوا : الْمُسْلِمُونَ قَالُوا : فَمَنْ
الْقَوْمُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَرَفَعَتْ امْرَأَةٌ صَبِيّا لَهَا مِنْ مِحَفّتِهَا ، فَقَالَتْ يَا
رَسُولَ اللّهِ ؟ أَلِهَذَا حَجّ ؟ قَالَ نَعَمْ وَلَكِ أَجْر فَلَمّا
أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ ، بَاتَ بِهَا ، فَلَمّا رَأَى الْمَدِينَةَ ،
كَبّرَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ وَقَالَ لَا إلَه إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ
صَدَقَ اللّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ
[ ص 276 ] دَخَلَهَا نَهَارًا مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرّسِ ، وَخَرَجَ مِنْ
طَرِيقِ الشّجَرَةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي الْأَوْهَامِ
[
وَهِمَ ابْنُ حَزْمٍ فِي قَوْلِهِ إنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَعْلَمَ النّاسَ وَقْتَ خُرُوجِهِ أَنّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ
حَجّةً ]
فَمِنْهَا : وَهْمٌ لِأَبِي مُحَمّدٍ ابْنِ حَزْمٍ فِي حَجّةِ
الْوَدَاعِ حَيْثُ قَالَ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَعْلَمَ النّاسَ وَقْتَ خُرُوجِهِ أَنّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ
حَجّةً وَهَذَا وَهْمٌ ظَاهِرٌ فَإِنّهُ إنّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ
رُجُوعِهِ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ حَجّتِهِ إذْ قَالَ لِأُمّ سِنَانٍ
الْأَنْصَارِيّةِ : مَا مَنَعَكِ أَنْ تَكُونِي حَجَجْتِ مَعَنَا ؟
قَالَتْ لَمْ يَكُنْ لَنَا إلّا نَاضِحَانِ فَحَجّ أَبُو وَلَدِي وَابْنِي
عَلَى نَاضِحٍ وَتَرَكَ لَنَا نَاضِحًا نَنْضَحُ عَلَيْهِ . قَالَ فَإِذَا
جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي ، فَإِنّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي
حَجّةً هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " . وَكَذَلِكَ أَيْضًا
قَالَ هَذَا لِأُمّ مَعْقِلٍ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى الْمَدِينَةِ ، كَمَا
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
سَلَامٍ ، عَنْ جَدّتِهِ أُمّ مَعْقِلٍ ، قَالَتْ لَمّا حَجّ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَجّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَ لَنَا
جَمَلٌ فَجَعَلَهُ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَأَصَابَنَا مَرَضٌ
فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ حَجّهِ جِئْتُهُ فَقَالَ مَا مَنَعَكِ أَنْ
تَخْرُجِي مَعَنَا " ؟ فَقَالَتْ لَقَدْ تَهَيّأْنَا ، فَهَلَكَ أَبُو
مَعْقِلٍ ، وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ وَهُوَ الّذِي نَحُجّ عَلَيْهِ فَأَوْصَى
بِهِ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ . قَالَ" فَهَلّا خَرَجْتِ
عَلَيْهِ ؟ فَإِنّ الْحَجّ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَأَمّا إذْ فَاتَتْكِ
هَذِهِ الْحَجّةُ مَعَنَا فَاعْتَمِرِي فِي رَمَضَانَ فَإِنّهَا كَحَجّةٍ
[ ص 277 ]
فَصْلٌ
وَمِنْهَا وَهْمٌ آخَرُ لَهُ وَهُوَ أَنّ
خُرُوجَهُ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِسِتّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّهُ خَرَجَ لِخَمْسٍ وَأَنّ خُرُوجَهُ كَانَ يَوْمَ
السّبْتِ .
فَصْل [ وَهِمَ مُحِبّ الدّينِ الطّبَرِيّ بِقَوْلِهِ خَرَجَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصّلَاةِ ]
وَمِنْهَا
وَهْمٌ آخَرُ لِبَعْضِهِمْ ذَكَرَ الطّبَرِيّ فِي " حَجّةِ الْوَدَاعِ "
أَنّهُ خَرَجَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصّلَاةِ . وَاَلّذِي حَمَلَهُ
عَلَى هَذَا الْوَهْمِ الْقَبِيحِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ خَرَجَ لِسِتّ
بَقِينَ فَظَنّ أَنّ هَذَا لَا يُمْكِنُ إلّا أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذْ تَمَامُ السّتّ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَأَوّلُ
ذِي الْحِجّةِ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِلَا رَيْبٍ وَهَذَا خَطَأٌ
فَاحِشٌ فَإِنّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ الّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنّهُ صَلّى
الظّهْرَ يَوْمَ خُرُوجِهِ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا ، وَالْعَصْرَ بِذِي
الْحُلَيْفَة ِ رَكْعَتَيْنِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " الصّحِيحَيْن ِ " .
وَحَكَى الطّبَرِيّ فِي حَجّتِهِ قَوْلًا ثَالِثًا : إنّ خُرُوجَهُ كَانَ
يَوْمَ السّبْتِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْوَاقِدِيّ ، وَهُوَ الْقَوْلُ
الّذِي رَجّحْنَاهُ أَوّلًا ، لَكِنّ الْوَاقِدِيّ ، وَهِمَ فِي ذَلِكَ
ثَلَاثَةُ أَوْهَامٍ أَحَدُهَا : أَنّهُ زَعَمَ أَنّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى يَوْمَ خُرُوجِهِ الظّهْرَ بِذِي
الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ الْوَهْمُ الثّانِي : أَنّهُ أَحْرَمَ ذَلِكَ
الْيَوْمَ عَقِيبَ صَلَاةِ الظّهْرِ وَإِنّمَا أَحْرَمَ مِنْ الْغَدِ
بَعْدَ أَنْ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ الْوَهْمُ الثّالِثُ أَنّ
الْوَقْفَةَ كَانَتْ يَوْمَ السّبْتِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ
وَهُوَ وَهْمٌ بَيّنٌ .
فَصْلٌ [ وَهِمَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنّهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَطَيّبَ قَبْلَ غَسْلِهِ ثُمّ غَسَلَ
الطّيبَ عَنْهُ لَمّا اغْتَسَلَ ]
وَمِنْهَا وَهْمٌ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ
رَحِمَهُ اللّهُ وَغَيْرِهِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
تَطَيّبَ هُنَاكَ قَبْلَ [ ص 278 ] وَمَنْشَأُ هَذَا الْوَهْمِ مِنْ
سِيَاقِ مَا وَقَعَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ طَيّبْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ بَعْدَ ذَلِك ، ثُمّ
أَصْبَحَ مُحْرِمًا وَاَلّذِي يَرُدّ هَذَا الْوَهْمَ قَوْلُهَا :
طَيّبْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِإِحْرَامِهِ
وَقَوْلُهَا : كَأَنّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطّيبِ أَيْ بَرِيقِهِ فِي
مَفَارِقِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ
وَفِي لَفْظٍ وَهُوَ يُلَبّي بَعْدَ ثَلَاثٍ مِنْ إحْرَامِهِ وَفِي لَفْظٍ
كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ
يُحْرِمَ تَطَيّبَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ ثُمّ أَرَى وَبِيصَ الطّيبِ فِي
رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَكُلّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ
أَلْفَاظُ الصّحِيحِ وَأَمّا الْحَدِيثُ الّذِي احْتَجّ بِهِ فَإِنّهُ
حَدِيثُ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ ، عَنْ أَبِيهِ
عَنْهَا : كُنْتُ أُطَيّبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
ثُمّ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ ثُمّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا وَهَذَا لَيْسَ
فِيهِ مَا يَمْنَعُ الطّيبَ الثّانِيَ عِنْدَ إحْرَامِهِ .
فَصْلٌ
[ وَهِمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحْرَمَ قَبْلَ الظّهْرِ ]
وَمِنْهَا
: وَهْمٌ آخَرُ لِأَبِي مُحَمّدٍ ابْنِ حَزْمٍ أَنّهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحْرَمَ قَبْلَ الظّهْرِ وَهُوَ وَهْمٌ ظَاهِرٌ لَمْ
يُنْقَلْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَإِنّمَا أَهَلّ عَقِيبَ صَلَاةِ
الظّهْرِ فِي مَوْضِعِ مُصَلّاهُ ثُمّ رَكِبَ نَاقَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ
عَلَى الْبَيْدَاءِ وَهُوَ يُهِلّ ، وَهَذَا يَقِينًا كَانَ بَعْدَ
صَلَاةِ الظّهْرِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ وَهِمَ ابْنُ حَزْمٍ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَاقَ الْهَدْيَ مَعَ نَفْسِهِ وَكَانَ هَدْيَ تَطَوّعٍ]
وَمِنْهَا
وَهْمٌ آخَرُ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَسَاقَ الْهَدْيَ مَعَ نَفْسِهِ
وَكَانَ هَدْيَ تَطَوّعٍ وَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُ عَلَى أَصْلِهِ الّذِي
انْفَرَدَ بِهِ عَنْ الْأَئِمّةِ أَنّ الْقَارِنَ لَا يَلْزَمُهُ هَدْيٌ
وَإِنّمَا [ ص 279 ]
فَصْلٌ
وَمِنْهَا : وَهْمٌ آخَرُ لِمَنْ قَالَ
إنّهُ لَمْ يُعَيّنْ فِي إحْرَامِهِ نُسُكًا ، بَلْ أَطْلَقَهُ وَوَهِمَ
مَنْ قَالَ إنّهُ عَيّنَ عُمْرَةً مُفْرَدَةً كَانَ مُتَمَتّعًا بِهَا ،
كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى ، وَصَاحِبُ " الْمُغْنِي "
وَغَيْرِهِمَا ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إنّهُ عَيّنَ حَجّا مُفْرَدًا
مُجَرّدًا لَمْ يَعْتَمِرْ مَعَهُ وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إنّهُ عَيّنَ
عُمْرَةً ثُمّ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجّ وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إنّهُ
عَيّنَ حَجّا مُفْرَدًا ، ثُمّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ بَعْدَ
ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ بَيَانُ مُسْتَنَدِ
ذَلِكَ وَوَجْهُ الصّوَابِ فِيهِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا
: وَهْمٌ لِأَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الطّبَرِيّ فِي " حَجّةِ
الْوَدَاعِ " لَهُ أَنّهُمْ لَمّا كَانُوا بِبَعْضِ الطّرِيقِ صَادَ أَبُو
قَتَادَةَ حِمَارًا وَحْشِيّا وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا ، فَأَكَلَ مِنْهُ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَذَا إنّمَا كَانَ فِي
عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا
: وَهْمٌ آخَرُ لِبَعْضِهِمْ حَكَاهُ الطّبَرِيّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ دَخَلَ مَكّةَ يَوْمَ الثّلَاثَاءِ وَهُوَ
غَلَطٌ فَإِنّمَا دَخَلَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي
الْحِجّةِ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا : وَهْمُ مَنْ قَالَ إنّهُ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَلّ بَعْدَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ كَمَا قَالَهُ
الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَصْحَابُهُ وَقَدْ بَيّنّا أَنّ مُسْتَنَدَ
هَذَا الْوَهْمِ وَهُمْ مُعَاوِيَةُ ، أَوْ مَنْ رَوَى عَنْهُ أَنّهُ
قَصّرَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِشْقَصٍ
عَلَى الْمَرْوَةِ فِي حَجّتِهِ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا : وَهْمُ مَنْ
زَعَمَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُقَبّلُ الرّكْنَ
الْيَمَانِيّ فِي طَوَافِهِ وَإِنّمَا [ ص 280 ] الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ ،
وَسَمّاهُ الْيَمَانِيّ لِأَنّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْآخَرِ
الْيَمَانِيّيْنِ . فَعَبّرَ بَعْضُ الرّوَاةِ عَنْهُ بِالْيَمَانِيّ
مُنْفَرِدًا .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا : وَهْمٌ فَاحِشٌ لِأَبِي مُحَمّدٍ
ابْنِ حَزْمٍ أَنّهُ رَمَلَ فِي السّعْيِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَمَشَى
أَرْبَعَةً وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا الْوَهْمِ وَهْمُهُ فِي حِكَايَةِ
الِاتّفَاقِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الّذِي لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ سِوَاهُ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا
: وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ طَافَ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ
أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَوْطًا ، وَكَانَ ذَهَابُهُ وَإِيَابُهُ مَرّةً
وَاحِدَةً وَقَدْ تَقَدّمَ بَيَانُ بُطْلَانِهِ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا
: وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى
الصّبْحَ يَوْمَ النّحْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْوَهْمِ
حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
صَلّى الْفَجْرَ يَوْمَ النّحْرِ قَبْلَ مِيقَاتِهَا وَهَذَا إنّمَا
أَرَادَ بِهِ قَبْلَ مِيقَاتِهَا الّذِي كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ
يُصَلّيَهَا فِيهِ فَعَجّلَهَا عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ وَلَا بُدّ مِنْ هَذَا
التّأْوِيلِ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، إنّمَا يَدُلّ عَلَى هَذَا ،
فَإِنّهُ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْهُ أَنّهُ قَالَ هُمَا
صَلَاتَانِ تُحَوّلَانِ عَنْ وَقْتِهِمَا : صَلَاةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَمَا
يَأْتِي النّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ وَالْفَجْرِ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ
وَقَالَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ فَصَلّى الصّبْحَ
حِينَ تَبَيّنَ لَهُ الصّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ [ ص 281 ]
فَصْلٌ
وَمِنْهَا وَهْمُ مَنْ وَهِمَ فِي أَنّهُ صَلّى الظّهْرَ وَالْعَصْرَ
يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ تِلْكَ اللّيْلَةَ
بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَتَيْنِ
وَوَهِمَ مَنْ قَالَ صَلّاهُمَا
بِإِقَامَتَيْنِ بِلَا أَذَانٍ أَصْلًا ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ جَمَعَ
بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ وَالصّحِيحُ أَنّهُ صَلّاهُمَا
بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَةٍ لِكُلّ صَلَاةٍ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا :
وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ خَطَبَ بِعَرَفَةَ خُطْبَتَيْنِ جَلَسَ
بَيْنَهُمَا ، ثُمّ أَذّنَ الْمُؤَذّنُ فَلَمّا فَرَغَ أَخَذَ فِي
الْخُطْبَةِ الثّانِيَةِ فَلَمّا فَرَغَ مِنْهَا ، أَقَامَ الصّلَاةَ
وَهَذَا لَمْ يَجِئْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْبَتّةَ وَحَدِيثُ
جَابِرٍ صَرِيحٌ فِي أَنّهُ لَمّا أَكْمَلَ خُطْبَتَهُ أَذّنَ بِلَالٌ ،
وَأَقَامَ الصّلَاةَ فَصَلّى الظّهْرَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا
: وَهْمٌ لِأَبِي ثَوْرٍ أَنّهُ لَمّا صَعِدَ أَذّنَ الْمُؤَذّنُ فَلَمّا
فَرَغَ قَامَ فَخَطَبَ وَهَذَا وَهْمٌ ظَاهِرٌ فَإِنّ الْأَذَانَ إنّمَا
كَانَ بَعْدَ الْخُطْبَةِ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا : وَهْمُ مَنْ رَوَى ،
أَنّهُ قَدّمَ أُمّ سَلَمَة َ لَيْلَةَ النّحْرِ وَأَمَرَهَا أَنْ
تُوَافِيَهُ صَلَاةَ الصّبْحِ بِمَكّة َ وَقَدْ تَقَدّمَ بَيَانُهُ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا
: وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ أَخّرَ طَوَافَ الزّيَارَةِ يَوْمَ النّحْرِ
إلَى اللّيْلِ وَقَدْ تَقَدّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَأَنّ الّذِي أَخّرَهُ
إلَى اللّيْلِ إنّمَا هُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ وَمُسْتَنَدُ هَذَا [ ص 282
] أَعْلَمُ - أَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ أَفَاضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ كَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ
بْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا ، فَحَمَلَ عَنْهَا عَلَى
الْمَعْنَى ، وَقِيلَ أَخّرَ طَوَافَ الزّيَارَةِ إلَى اللّيْلِ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا
: وَهْمُ مَنْ وَهِمَ وَقَالَ إنّهُ أَفَاضَ مَرّتَيْنِ مَرّةً
بِالنّهَارِ وَمَرّةً مَعَ نِسَائِهِ بِاللّيْلِ وَمُسْتَنَدُ هَذَا
الْوَهْمِ مَا رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ
الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَذِنَ لِأَصْحَابِهِ فَزَارُوا الْبَيْتَ يَوْمَ
النّحْرِ ظَهِيرَةً وَزَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَعَ نِسَائِهِ لَيْلًا وَهَذَا غَلَطٌ وَالصّحِيحُ عَنْ
عَائِشَةَ خِلَافُ هَذَا : أَنّهُ أَفَاضَ نَهَارًا إفَاضَةً وَاحِدَةً
وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ وَخِيمَةٌ جِدّا ، سَلَكَهَا ضِعَافُ أَهْلِ الْعِلْمِ
الْمُتَمَسّكُونَ بِأَذْيَالِ التّقْلِيدِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا
: وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ طَافَ لِلْقُدُومِ يَوْمَ النّحْرِ ثُمّ
طَافَ بَعْدَهُ لِلزّيَارَةِ وَقَدْ تَقَدّمَ مُسْتَنَدُ ذَلِكَ
وَبُطْلَانُهُ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ
يَوْمَئِذٍ سَعَى مَعَ هَذَا الطّوَافِ . وَاحْتَجّ بِذَلِكَ عَلَى أَنّ
الْقَارِنَ يَحْتَاجُ إلَى سَعْيَيْنِ وَقَدْ تَقَدّمَ بُطْلَانُ ذَلِكَ
عَنْهُ وَأَنّهُ لَمْ يَسَعْ إلّا سَعْيًا وَاحِدًا ، كَمَا قَالَتْ
عَائِشَةُ وَجَابِرٌ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا . [ ص 283 ]
فَصْلٌ
وَمِنْهَا
: عَلَى الْقَوْلِ الرّاجِحِ وَهْم مَنْ قَالَ إنّهُ صَلّى الظّهْرَ
يَوْمَ النّحْرِ بِمَكّةَ ، وَالصّحِيحُ أَنّهُ صَلّاهَا بِمِنًى كَمَا
تَقَدّمَ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا : وَهْمُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ لَمْ
يُسْرِعْ فِي وَادِي مُحَسّر ٍ حِينَ أَفَاضَ مِنْ جَمْعٍ إلَى مِنًى ،
وَأَنّ ذَلِكَ إنّمَا هُوَ فِعْلُ الْأَعْرَابِ ، وَمُسْتَنَدُ هَذَا
الْوَهْمِ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ : إنّمَا كَانَ بَدْءُ الْإِيضَاعِ مِنْ
قِبَلِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانُوا يَقِفُونَ حَافّتَيْ النّاسِ حَتّى
قَدْ عَلّقُوا الْقِعَابَ وَالْعِصِيّ وَالْجِعَابَ فَإِذَا أَفَاضُوا ،
تَقَعْقَعَتْ تِلْكَ فَنَفَرُوا بِالنّاسِ وَلَقَدْ رُئِيَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّ ذِفْرَى نَاقَتِهِ لَيَمَسّ
حَارِكَهَا وَهُوَ يَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ عَلَيْكُمْ السّكِينَة
وَفِي رِوَايَةٍ إنّ الْبِرّ لَيْسَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ ،
فَعَلَيْكُمْ بِالسّكِينَةِ فَمَا رَأَيْتُهَا رَافِعَةً يَدَيْهَا حَتّى
أَتَى مِنًى رَوَاهُ أَبُو دَاوُد " . وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ طَاوُوسٌ
وَالشّعْبِيّ ، قَالَ الشّعْبِيّ : حَدّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ
أَنّهُ أَفَاضَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
عَرَفَةَ ، فَلَمْ تَرْفَعْ رَاحِلَتُهُ رِجْلَهَا عَادِيَةً حَتّى بَلَغَ
جَمْعًا . قَالَ وَحَدّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ عَبّاسٍ ، أَنّهُ كَانَ
رَدِيفَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي جَمْعٍ ،
فَلَمْ تَرْفَعْ رَاحِلَتُهُ رِجْلَهَا عَادِيَةً حَتّى رَمَى الْجَمْرَةَ
. وَقَالَ عَطَاءٌ إنّمَا أَحْدَثَ هَؤُلَاءِ الْإِسْرَاعَ [ ص 284 ]
وَمَنْشَأُ هَذَا الْوَهْمِ اشْتِبَاهُ الْإِيضَاعِ وَقْتَ الدّفْعِ مِنْ
عَرَفَةَ الّذِي يَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ وَجُفَاةُ النّاسِ بِالْإِيضَاعِ
فِي وَادِي مُحَسّرٍ ، فَإِنّ الْإِيضَاعَ هُنَاكَ بِدْعَةٌ لَمْ
يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ نَهَى
عَنْهُ وَالْإِيضَاعُ فِي وَادِي مُحَسّرٍ سُنّةٌ نَقَلَهَا عَنْ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَابِرٌ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ ، وَالْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ
وَفَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَانَ ابْنُ
الزّبَيْرِ يُوضِعُ أَشَدّ الْإِيضَاعِ وَفَعَلَتْهُ عَائِشَةُ
وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصّحَابَةِ وَالْقَوْلُ فِي هَذَا قَوْلُ مَنْ
أَثْبَتَ لَا قَوْلُ مَنْ نَفَى . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا
وَهِمَ طَاوُوس ٌ وَغَيْرُهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كَانَ يُفِيضُ كُلّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي مِنًى إلَى الْبَيْتِ
وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي حَسّانَ
عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ
يَزُورُ الْبَيْتَ أَيّامَ مِنًى وَرَوَاهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ دَفَعَ
إلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ كِتَابًا قَالَ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي
وَلَمْ يَقْرَأْهُ قَالَ وَكَانَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَسّانَ عَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ
يَزُورُ الْبَيْتَ كُلّ لَيْلَةٍ مَا دَامَ بِمِنًى قَالَ وَمَا رَأَيْتُ
أَحَدًا وَاطَأَهُ عَلَيْهِ انْتَهَى . وَرَوَاهُ الثّوْرِيّ فِي "
جَامِعِهِ " عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ [ ص 285 ] صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَرْجِعْ إلَى مَكّةَ بَعْدَ أَنْ طَافَ
لِلْإِفَاضَةِ وَبَقِيَ فِي مِنًى إلَى حِينِ الْوَدَاعِ وَاَللّهُ
أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا وَهْمُ مَنْ قَالَ إنّهُ وَدّعَ
مَرّتَيْنِ . وَوَهْمُ مَنْ قَالَ إنّهُ جَعَلَ مَكّةَ دَائِرَةً فِي
دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ فَبَاتَ بِذِي طُوًى ، ثُمّ دَخَلَ مِنْ أَعْلَاهَا
، ثُمّ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا ، ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمُحَصّبِ عَنْ
يَمِينِ مَكّةَ ، فَكَمُلَتْ الدّائِرَةُ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا وَهْمُ
مَنْ زَعَمَ أَنّهُ انْتَقَلَ مِنْ الْمُحَصّبِ إلَى ظَهْرِ الْعَقَبَةِ ،
فَهَذِهِ كُلّهَا مِنْ الْأَوْهَامِ نَبّهْنَا عَلَيْهَا مُفَصّلًا
وَمُجْمَلًا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهَدَايَا وَالضّحَايَا وَالْعَقِيقَةِ
وَهِيَ
مُخْتَصّةٌ بِالْأَزْوَاجِ الثّمَانِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ (
الْأَنْعَامِ ) وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَلَا عَنْ الصّحَابَةِ هَدْيٌ وَلَا أُضْحِيّةٌ وَلَا عَقِيقَةٌ مِنْ
غَيْرِهَا ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ مَجْمُوعِ أَرْبَعِ
آيَاتٍ . إحْدَاهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ
الْأَنْعَامِ } [ الْمَائِدَةُ 1 ] . وَالثّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى : {
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ
مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } [ الْحَجّ : 28 ] . وَالثّالِثَةُ قَوْلُهُ
تَعَالَى : { وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمّا
رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلَا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ
عَدُوّ مُبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ ص 286 ] ذَكَرَهَا .
الرّابِعَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [
الْمَائِدَةُ 95 ] . فَدَلّ عَلَى أَنّ الّذِي يَبْلُغُ الْكَعْبَةَ مِنْ
الْهَدْيِ هُوَ هَذِهِ الْأَزْوَاجُ الثّمَانِيَةُ وَهَذَا اسْتِنْبَاطُ
عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . وَالذّبَائِحُ الّتِي
هِيَ قُرْبَةٌ إلَى اللّهِ وَعِبَادَةٌ هِيَ ثَلَاثَةٌ الْهَدْيُ
وَالْأُضْحِيّةُ وَالْعَقِيقَةُ . فَأَهْدَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْغَنَمَ وَأَهْدَى الْإِبِلَ وَأَهْدَى عَنْ
نِسَائِهِ الْبَقَرَ وَأَهْدَى فِي مَقَامِهِ وَفِي عُمْرَتِهِ وَفِي
حَجّتِهِ وَكَانَتْ سُنّتُهُ تَقْلِيدَ الْغَنَمِ دُونَ إشْعَارِهَا .
وَكَانَ إذَا بَعَثَ بِهَدْيِهِ وَهُوَ مُقِيمٌ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ
شَيْءٌ كَانَ مِنْهُ حَلَالًا . وَكَانَ إذَا أَهْدَى الْإِبِلَ قَلّدَهَا
وَأَشْعَرَهَا ، فَيَشُقّ صَفْحَةَ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ يَسِيرًا حَتّى
يَسِيلَ الدّمُ . قَالَ الشّافِعِيّ : وَالْإِشْعَارُ فِي الصّفْحَةِ
الْيُمْنَى ، كَذَلِكَ أَشْعَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
. وَكَانَ إذَا بَعَثَ بِهَدْيِهِ أَمَرَ رَسُولَهُ إذَا أَشْرَفَ عَلَى
عَطَبٍ شَيْءٌ مِنْهُ أَنْ يَنْحَرَهُ ثُمّ يَصْبُغَ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ
ثُمّ يَجْعَلَهُ عَلَى صَفْحَتِهِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ هُوَ وَلَا
أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ ثُمّ يَقْسِمُ لَحْمَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ
هَذَا الْأَكْلِ سَدّا لِلذّرِيعَةِ فَإِنّهُ لَعَلّهُ رُبّمَا [ ص 287 ]
وَشَرّكَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي الْهَدْيِ كَمَا تَقَدّمَ الْبَدَنَةُ
عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةُ كَذَلِكَ . وَأَبَاحَ لِسَائِقِ الْهَدْيِ
رُكُوبَهُ بِالْمَعْرُوفِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ حَتّى يَجِدَ ظَهْرًا
غَيْرَه وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا مَا
فَضَلَ عَنْ وَلَدِهَا وَكَانَ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
نَحْرَ الْإِبِلِ قِيَامًا ، مُقَيّدَةً مَعْقُولَةَ الْيُسْرَى ، عَلَى
ثَلَاثٍ وَكَانَ يُسَمّي اللّهَ عِنْدَ نَحْرِهِ وَيُكَبّرُ وَكَانَ
يَذْبَحُ نُسُكَهُ بِيَدِهِ وَرُبّمَا وَكّلَ فِي بَعْضِهِ كَمَا أَمَرَ
عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنْ يَذْبَحَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمِائَةِ .
وَكَانَ إذَا ذَبَحَ الْغَنَمَ وَضَعَ قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهَا ثُمّ
سَمّى ، وَكَبّرَ وَذَبَحَ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّهُ نَحَرَ بِمِنًى وَقَالَ
إنّ فِجَاجَ مَكّةَ كُلّهَا مَنْحَر وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : مَنَاحِرُ
الْبُدْنِ بِمَكّةَ ، وَلَكِنّهَا نُزّهَتْ عَنْ الدّمَاءِ وَمِنًى مِنْ
مَكّةَ ، وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَنْحَرُ بِمَكّةَ . وَأَبَاحَ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأُمّتِهِ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ هَدَايَاهُمْ
وَضَحَايَاهُمْ وَيَتَزَوّدُوا مِنْهَا ، [ ص 288 ] وَنَهَاهُمْ مَرّةً
أَنْ يَدّخِرُوا مِنْهَا بَعْدَ ثَلَاثٍ لِدَافّةٍ دَفّتْ عَلَيْهِمْ
ذَلِكَ الْعَامَ مِنْ النّاسِ فَأُحِبّ أَنْ يُوَسّعُوا عَلَيْهِم
وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ
ثَوْبَانَ قَالَ ضَحّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
ثُمّ قَالَ يَا ثَوْبَانُ أَصْلِحْ لَنَا لَحْمَ هَذِهِ الشّاةِ قَالَ
فَمَا زِلْتُ أُطْعِمُهُ مِنْهَا حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ . وَرَوَى
مُسْلِمٌ هَذِهِ الْقِصّةَ وَلَفْظُهُ فِيهَا : إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ أَصْلِحْ
هَذَا اللّحْمَ " قَالَ فَأَصْلَحْتُهُ فَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ مِنْهُ
حَتَى بَلَغَ الْمَدِينَة وَكَانَ رُبّمَا قَسَمَ لُحُومَ الْهَدْيِ
وَرُبّمَا قَالَ مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ فَعَلَ هَذَا ، [ ص 289 ]
وَنَحْوِهِ وَفُرّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا لَا يَتَبَيّنُ .
فَصْلٌ [هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَبْحِ هَدْيِ الْعُمْرَةِ وَالْقِرَانِ ]
وَكَانَ
مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَبْحُ هَدْيِ الْعُمْرَةِ
عِنْدَ الْمَرْوَةِ ، وَهَدْيِ الْقِرَانِ بِمِنًى ، وَكَذَلِك كَانَ
ابْنُ عُمَر َ يَفْعَلُ وَلَمْ يَنْحَرْ هَدْيَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَطّ إلّا بَعْدَ أَنْ حَلّ وَلَمْ يَنْحَرْهُ قَبْلَ يَوْمِ
النّحْرِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ الْبَتّةَ وَلَمْ يَنْحَرْهُ
أَيْضًا إلّا بَعْدَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَبَعْدَ الرّمْيِ فَهِيَ
أَرْبَعَةُ أُمُورٍ مُرَتّبَةٍ يَوْمَ النّحْرِ أَوّلُهَا : الرّمْيُ ثُمّ
النّحْرُ ثُمّ الْحَلْقُ ثُمّ الطّوَافُ وَهَكَذَا رَتّبَهَا صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يُرَخّصْ فِي النّحْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ
الْبَتّةَ وَلَا رِيبَ أَنّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِهَدْيِهِ فَحُكْمُهُ
حُكْمُ الْأُضْحِيّةِ إذَا ذُبِحَتْ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ .
فَصْلٌ وَأَمّا هَدْيُهُ فِي الْأَضَاحِيّ
[ وَقْتُ الذّبْحِ ]
فَإِنّهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ يَدَعُ الْأُضْحِيّةَ وَكَانَ
يُضَحّي بِكَبْشَيْنِ وَكَانَ يَنْحَرُهُمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ
وَأَخْبَرَ أَنّ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصّلَاةِ ، فَلَيْسَ مِنْ النّسُكِ
فِي شَيْءٍ وَإِنّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدّمَهُ لِأَهْلِهِ هَذَا الّذِي
دَلّتْ عَلَيْهِ سُنّتُهُ وَهَدْيُهُ لَا الِاعْتِبَارُ بِوَقْتِ
الصّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ بَلْ بِنَفْسِ فِعْلِهَا ، وَهَذَا هُوَ الّذِي
نَدِينُ اللّهَ بِهِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا الْجَذَعَ مِنْ
الضّأْنِ وَالثّنِيّ مِمّا سِوَاهُ وَهِيَ الْمُسِنّةُ . [ ص 290 ]
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ كُلّ أَيّامِ التّشْرِيقِ ذَبْحٌ لَكِنّ
الْحَدِيثَ مُنْقَطِعٌ لَا يَثْبُتُ وَصْلُهُ . وَأَمّا نَهْيُهُ عَنْ
ادّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيّ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَلَا يَدُلّ عَلَى أَنّ
أَيّامَ الذّبْحِ ثَلَاثَةٌ فَقَطْ لِأَنّ الْحَدِيثَ دَلِيلٌ عَلَى
نَهْيِ الذّابِحِ أَنْ يَدّخِرَ شَيْئًا فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ مِنْ
يَوْمِ ذَبْحِهِ فَلَوْ أَخّرَ الذّبْحَ إلَى الْيَوْمِ الثّالِثِ لَجَازَ
لَهُ الِادّخَارُ وَقْتَ النّهْيِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ثَلَاثَةِ
أَيّامٍ وَاَلّذِينَ حَدّدُوهُ بِالثّلَاثِ [ ص 291 ] فَهِمُوا مِنْ
نَهْيِهِ عَنْ الِادّخَارِ فَوْقَ ثَلَاثٍ أَنّ أَوّلَهَا مِنْ يَوْمِ
النّحْرِ قَالُوا : وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الذّبْحُ مَشْرُوعًا
فِي وَقْتٍ يَحْرُمُ فِيهِ الْأَكْلُ قَالُوا : ثُمّ نُسِخَ تَجْرِيمُ
الْأَكْلِ فَبَقِيَ وَقْتُ الذّبْحِ بِحَالِهِ . فَيُقَالُ لَهُمْ إنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَنْهَ إلّا عَنْ
الِادّخَارِ فَوْقَ ثَلَاثٍ لَمْ يَنْهَ عَنْ التّضْحِيَةِ بَعْدَ ثَلَاثٍ
فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ مَا نَهَى
عَنْهُ وَبَيْنَ اخْتِصَاصِ الذّبْحِ بِثَلَاثٍ لِوَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنّهُ يَسُوغُ الذّبْحُ فِي الْيَوْمِ الثّانِي
وَالثّالِثِ فَيَجُوزُ لَهُ الِادّخَارُ إلَى تَمَامِ الثّلَاثِ مِنْ
يَوْمِ الذّبْحِ وَلَا يَتِمّ لَكُمْ الِاسْتِدْلَالُ حَتّى يَثْبُتَ
النّهْيُ عَنْ الذّبْحِ بَعْدَ يَوْمِ النّحْرِ وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إلَى
هَذَا . الثّانِي : أَنّهُ لَوْ ذَبَحَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ يَوْمِ
النّحْرِ لَسَاغَ لَهُ حِينَئِذٍ الِادّخَارُ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ بَعْدَهُ
بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ وَقَدْ قَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ أَيّامُ النّحْرِ يَوْمُ الْأَضْحَى ، وَثَلَاثَةُ أَيّامٍ
بَعْدَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ إمَامِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ الْحَسَنِ ،
وَإِمَامِ أَهْلِ مَكّةَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، وَإِمَامِ أَهْلِ
الشّامِ الْأَوْزَاعِيّ ، وَإِمَامِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ
الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَلِأَنّ
الثّلَاثَةَ تَخْتَصّ بِكَوْنِهَا أَيّامَ مِنًى ، وَأَيّامَ الرّمْيِ
وَأَيّامَ التّشْرِيقِ وَيَحْرُمُ صِيَامُهَا ، فَهِيَ إخْوَةٌ فِي هَذِهِ
الْأَحْكَامِ فَكَيْفَ تَفْتَرِقُ فِي جَوَازِ الذّبْحِ بِغَيْرِ نَصّ
وَلَا إجْمَاعٍ . وَرُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَشُدّ
أَحَدُهُمَا الْآخَرَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنّهُ قَالَ كُلّ مِنًى مَنْحَرٌ ، و كُلّ أَيّامِ التّشْرِيقِ ذَبْحٌ
َرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ وَمِنْ
حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ . [ ص 292 ]
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ : أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عِنْدَ أَهْلِ
الْمَدِينَة ِ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ
أَقْوَالٍ هَذَا أَحَدُهَا .
وَالثّانِي : أَنّ وَقْتَ الذّبْحِ يَوْمُ
النّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ ، وَمَالِكٍ ،
وَأَبِي حَنِيفَة َ رَحِمَهُمْ اللّهُ قَالَ أَحْمَدُ هُوَ قَوْلُ غَيْرِ
وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّد ٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَذَكَرَهُ الْأَثْرَمُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُمْ . الثّالِثُ أَنّ وَقْتَ النّحْرِ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ ، لِأَنّهُ اُخْتُصّ بِهَذِهِ التّسْمِيَةِ فَدَلّ
عَلَى اخْتِصَاصِ حُكْمِهَا بِهِ وَلَوْ جَازَ فِي الثّلَاثَةِ لَقِيلَ
لَهَا : أَيّامُ النّحْرِ كَمَا قِيلَ لَهَا : أَيّامُ الرّمْيِ وَأَيّامُ
مِنًى ، وَأَيّامُ التّشْرِيقِ وَلِأَنّ الْعِيدَ يُضَافُ إلَى النّحْرِ
وَهُوَ يَوْمٌ وَاحِدٌ كَمَا يُقَالُ عِيدُ الْفِطْرِ . الرّابِعُ قَوْلُ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ : أَنّهُ يَوْمٌ وَاحِدٌ
فِي الْأَمْصَارِ وَثَلَاثَةُ أَيّامٍ فِي مِنًى ، لِأَنّهَا هُنَاكَ
أَيّامُ أَعْمَالِ الْمَنَاسِكِ مِنْ الرّمْيِ وَالطّوَافِ وَالْحَلْقِ
فَكَانَتْ أَيّامًا لِلذّبْحِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ .
فَصْلٌ [ مَسَائِلُ تَتَعَلّقُ بِالْأُضْحِيّةِ ]
وَمِنْ
هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ مَنْ أَرَادَ التّضْحِيَةَ
وَدَخَلَ يَوْمُ الْعَشْرِ ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَبَشَرِهِ
شَيْئًا ثَبَتَ النّهْيُ عَنْ ذَلِكَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " . وَأَمّا
الدّارَقُطْنِيّ [ ص 293 ] فَقَالَ الصّحِيحُ عِنْدِي أَنّهُ مَوْقُوفٌ
عَلَى أُمّ سَلَمَة .
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ اخْتِيَارُ الْأُضْحِيّةِ وَاسْتِحْسَانُهَا ، وَسَلَامَتُهَا
مِنْ الْعُيُوبِ وَنَهَى أَنْ يُضَحّى بِعَضْبَاءِ الْأُذُنِ وَالْقَرْنِ
أَيْ مَقْطُوعَةِ الْأُذُنِ وَمَكْسُورَةِ الْقَرْنِ النّصْفُ فَمَا زَادَ
ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد وَأَمَرَ أَنْ تُسْتَشْرَفَ الْعَيْنُ وَالْأُذُن
أَيْ يُنْظَرُ إلَى سِلَامَتِهَا ، وَأَنْ لَا يُضَحّى بِعَوْرَاءَ وَلَا
مُقَابَلَةٍ وَلَا مُدَابَرَةٍ وَلَا شَرْقَاءَ وَلَا خَرْقَاءَ .
وَالْمُقَابَلَةُ هِيَ الّتِي قُطِعَ مُقَدّمُ أُذُنِهَا ،
وَالْمُدَابَرَةُ الّتِي قُطِعَ مُؤَخّرُ أُذُنِهَا ، وَالشّرْقَاءُ
الّتِي شُقّتْ أُذُنُهَا ، وَالْخَرْقَاءُ الّتِي خُرِقَتْ أُذُنُهَا .
ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد . وَذَكَرَ عَنْهُ أَيْضًا أَرْبَعٌ لَا تُجْزِئُ
فِي الْأَضَاحِيّ : الْعَوْرَاءُ الْبَيّنُ عَوَرُهَا ، وَالْمَرِيضَةُ
الْبَيّنُ مَرَضُهَا ، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيّنُ عَرَجُهَا ،
وَالْكَسِيرَةُ الّتِي لَا تُنْقِي ، وَالْعَجْفَاءُ الّتِي لَا تُنْقِي
أَيْ مِنْ هُزَالِهَا لَا مُخّ فِيهَا . وَذَكَرَ أَيْضًا أَنّ [ ص 294 ]
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ الْمُصْفَرّةِ
وَالْمُسْتَأْصَلَةِ ، وَالْبَخْقَاءِ وَالْمُشَيّعَةِ وَالْكَسْرَاءِ
فَالْمُصْفَرّةُ الّتِي تُسْتَأْصَلُ أُذُنُهَا حَتّى يَبْدُوَ صِمَاخُهَا
، وَالْمُسْتَأْصَلَةُ الّتِي اُسْتُوْصِلَ قَرْنُهَا مِنْ أَصْلِهِ
وَالْبَخْقَاءُ الّتِي بُخِقَتْ عَيْنُهَا ، وَالْمُشَيّعَةُ الّتِي لَا
تَتْبَعُ الْغَنَمَ عَجَفًا وَضَعْفًا ، وَالْكَسْرَاءُ الْكَسِيرَةُ
وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُضَحّي بِالْمُصَلّى ]
وَكَانَ
مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُضَحّيَ بِالْمُصَلّى
، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ أَنّهُ شَهِدَ مَعَهُ الْأَضْحَى
بِالْمُصَلّى ، فَلَمّا قَضَى خُطْبَتَهُ نَزَلَ مِنْ مِنْبَرِهِ وَأُتِيَ
بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ بِسْمِ اللّهِ وَاَللّهُ أَكْبَرُ
هَذَا عَنّي وَعَمّنْ لَمْ يُضَحّ مِنْ أُمّتِي وَفِي " الصّحِيحَيْنِ "
أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ
بِالْمُصَلّى [ ص 295 ]
[ دُعَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ الذّبْحِ ]
وَذَكَرَ
أَبُو دَاوُد عَنْهُ أَنّهُ ذَبَحَ يَوْمَ النّحْرِ كَبْشَيْنِ
أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ فَلَمّا وَجّهَهُمَا قَالَ
وَجّهْتُ وَجْهِي لِلّذِي فَطَرَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ،
وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ إنّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَا أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ اللّهُمّ مِنْكَ وَلَكَ عَنْ
مُحَمّدٍ وَأُمّتِهِ بِسْمِ اللّهِ وَاَللّهُ أَكْبَرُ ثُمّ ذَبَحَ .
وَأَمَرَ النّاسَ إذَا ذَبَحُوا أَنْ يُحْسِنُوا ، وَإِذَا قَتَلُوا أَنْ
يُحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَقَالَ إنّ اللّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى
كُلّ شَيْءٍ
[ تُجْزِئُ الشّاةِ عَنْ الرّجُلِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ]
وَكَانَ
مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الشّاةَ تُجْزِئُ عَنْ
الرّجُلِ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَوْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ كَمَا قَالَ
عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ : سَأَلْتُ أَبَا أَيّوبٍ الْأَنْصَارِيّ : كَيْفَ
كَانَتْ الضّحَايَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ ؟ فَقَالَ إنْ كَانَ الرّجُلُ يُضَحّي بِالشّاةِ عَنْهُ وَعَنْ
أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ قَالَ التّرْمِذِيّ :
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . [ ص 296 ]
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَقِيقَةِ
فِي
" الْمُوَطّأِ " أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
سُئِلَ عَنْ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ لَا أُحِبّ الْعُقُوقَ كَأَنّهُ كَرِهَ
الِاسْمَ ذَكَرَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي
ضَمْرَةَ ، عَنْ أَبِيهِ . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ : وَأَحْسَنُ
أَسَانِيدِهِ مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرّزّاقِ : أَنْبَأَ دَاوُد بْنُ
قَيْسٍ ، قَالَ [ ص 297 ] عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ يُحَدّثُ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدّهِ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَنْ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ لَا أُحِبّ الْعُقُوقَ وَكَأَنّهُ كَرِهَ
الِاسْمَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ يَنْسُكُ أَحَدُنَا عَنْ وَلَدِهِ
؟ فَقَالَ مَنْ أَحَبّ مِنْكُمْ أَنْ يَنْسُكَ عَنْ وَلَدِهِ فَلْيَفْعَلْ
عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ وصح عَنْهُ مِنْ
حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ وَعَنْ
الْجَارِيَةِ شَاةٌ
[ مَعْنَى كُلّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ ]
"
وَقَالَ كُلّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ
السّابِعِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُسَمّى قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد ُ
مَعْنَاهُ أَنّهُ مَحْبُوسٌ عَنْ الشّفَاعَةِ فِي أَبَوَيْهِ وَالرّهْنُ
فِي اللّغَةِ الْحَبْسُ قَالَ تَعَالَى : { كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
رَهِينَةٌ } [ الْمُدّثّرُ 38 ] وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنّهُ رَهِينَةٌ
فِي نَفْسِهِ مَمْنُوعٌ مَحْبُوسٌ عَنْ خَيْرٍ يُرَادُ بِهِ وَلَا
يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ
حُبِسَ بِتَرْكِ أَبَوَيْهِ الْعَقِيقَةَ عَمّا يَنَالُهُ مَنْ عَقّ
عَنْهُ أَبَوَاهُ وَقَدْ يَفُوتُ الْوَلَدَ خَيْرٌ بِسَبَبِ تَفْرِيطِ
الْأَبَوَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا أَنّهُ عِنْدَ
الْجِمَاعِ إذَا سَمّى أَبُوهُ لَمْ يَضُرّ الشّيْطَانُ وَلَدَهُ وَإِذَا
تَرَكَ التّسْمِيَةَ لَمْ يَحْصُلْ لِلْوَلَدِ هَذَا الْحِفْظُ .
وَأَيْضًا فَإِنّ هَذَا إنّمَا يَدُلّ عَلَى أَنّهَا لَازِمَةٌ لَا بُدّ
مِنْهَا ، فَشَبّهَ لُزُومَهَا وَعَدَمَ [ ص 298 ] كَاللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ
وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيّ ، وَأَهْلِ الظّاهِرِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ هَلْ التّدْمِيَةُ مِنْ الْعَقِيقَةِ صَحِيحَةٌ أَوْ غَلَطٌ ؟]
فَإِنْ
قِيلَ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي رِوَايَةِ هَمّامٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ " وَيُدَمّى " قَالَ هَمّامٌ سُئِلَ قَتَادَةُ عَنْ
قَوْلِهِ و " يُدَمّى " كَيْفَ يَصْنَعُ بِالدّمِ ؟ فَقَالَ إذَا ذُبِحَتْ
الْعَقِيقَةُ أُخِذَتْ مِنْهَا صُوفَةٌ وَاسْتُقْبِلَتْ بِهَا
أَوْدَاجُهَا ، ثُمّ تُوضَعُ عَلَى يَافُوخِ الصّبِيّ حَتّى تَسِيلَ عَلَى
رَأْسِهِ مِثْلَ الْخَيْطِ ثُمّ يُغْسَلُ رَأْسُهُ بَعْدُ وَيُحْلَقُ
قِيلَ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي ذَلِكَ فَمِنْ قَائِلٍ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ
الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ وَلَا يَصِحّ سَمَاعُهُ عَنْهُ وَمِنْ قَائِلٍ
سَمَاعٌ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ هَذَا صَحِيحٌ
صَحّحَهُ التّرْمِذِي ّ وَغَيْرُهُ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي "
صَحِيحِهِ " عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشّهِيدِ قَالَ قَالَ لِي مُحَمّدُ بْنُ
سِيرِينَ : اذْهَبْ فَسَلْ الْحَسَنَ مِمّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ
؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ سَمِعْته مِنْ سَمُرَةَ . ثُمّ اُخْتُلِفَ فِي
التّدْمِيَةِ بَعْدُ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَوْ غَلَطٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ
. فَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ " : هِيَ وَهْمٌ مِنْ هَمّامِ بْنِ
يَحْيَى . وَقَوْلُهُ وَيُدَمّى ، إنّمَا هُوَ " وَيُسَمّى " وَقَالَ
غَيْرُهُ كَانَ فِي لِسَانِ هَمّامٍ لُثْغَةٌ فَقَالَ " وَيُدَمّى "
وَإِنّمَا أَرَادَ أَنْ يُسَمّى ، وَهَذَا لَا يَصِحّ ، فَإِنّ هَمّامًا
وَإِنْ كَانَ وَهْم فِي اللّفْظِ وَلَمْ يُقِمْهُ لِسَانُهُ فَقَدْ حَكَى
عَنْ قَتَادَةَ صِفّةَ التّدْمِيَةِ وَأَنّهُ سُئِلَ عَنْهَا فَأَجَابَ
بِذَلِكَ وَهَذَا لَا تَحْتَمِلُهُ اللّثْغَةُ بِوَجْهٍ . فَإِنْ كَانَ
لَفْظُ التّدْمِيَةِ هُنَا وَهْمًا ، فَهُوَ مِنْ قَتَادَةَ ، أَوْ مِنْ
الْحَسَنِ وَاَلّذِينَ أَثْبَتُوا لَفْظَ التّدْمِيَةِ قَالُوا : إنّهُ
مِنْ سُنّةِ الْعَقِيقَةِ وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ ،
وَاَلّذِينَ مَنَعُوا التّدْمِيَةَ كَمَالِكٍ ، وَالشّافِعِيّ ،
وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ ، قَالُوا : " وَيُدَمّى " غَلَطٌ وَإِنّمَا هُوَ
" وَيُسَمّى " قَالُوا : وَهَذَا كَانَ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيّةِ
فَأَبْطَلَهُ الْإِسْلَامُ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، عَنْ
بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ قَالَ كُنّا فِي الْجَاهِلِيّةِ إذَا وُلِدَ
لِأَحَدِنَا غُلَامٌ ذَبَحَ شَاةً وَلَطّخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا ، فَلَمّا
جَاءَ اللّهُ بِالْإِسْلَامِ كُنّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ
وَنُلَطّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ [ ص 299 ] قَالُوا : وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي
إسْنَادِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ ، وَلَا يُحْتَجّ بِهِ فَإِذَا
انْضَافَ إلَى قَوْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمِيطُوا
عَنْهُ الْأَذَى وَالدّمُ أَذًى ، فَكَيْفَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُلَطّخُوهُ
بِالْأَذَى ؟ قَالُوا : وَمَعْلُومٌ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَقّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ بِكَبْشٍ كَبْشٍ وَلَمْ
يُدَمّهِمَا ، وَلَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ هَدْيِهِ وَهَدْيِ أَصْحَابِهِ
قَالُوا : وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ سُنّتِهِ تَنْجِيسُ رَأْسِ الْمَوْلُودِ
وَأَيْنَ لِهَذَا شَاهِدٌ وَنَظِيرٌ فِي سُنّتِهِ وَإِنّمَا يَلِيقُ هَذَا
بِأَهْلِ الْجَاهِلِيّةِ .
فَصْلٌ [ هَلْ عَقِيقَةُ الْغُلَامِ شَاتَانِ ؟ ]
فَإِنْ
قِيلَ عَقّهُ عَنْ الْحَسَن ِ وَالْحُسَيْن ِ بِكَبْشٍ كَبْشٍ يَدُلّ
عَلَى أَنّ هَدْيَهُ أَنّ عَلَى الرّأْسِ رَأْسًا ، وَقَدْ صَحّحَ عَبْدُ
الْحَقّ الْإِشْبِيلِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ وَأَنَسٍ أَنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَقّ عَنْ الْحَسَنِ بِكَبْشٍ ،
وَعَنْ الْحُسَيْنِ بِكَبْشٍ وَكَانَ مَوْلِدُ الْحَسَنِ عَامَ أُحُدٍ
وَالْحُسَيْنِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ مِنْهُ . [ ص 300 ] وَرَوَى
التّرْمِذِي ّ مِنْ حَدِيثِ عَلِي ّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ عَقّ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْحَسَنِ شَاةً
وَقَالَ يَا فَاطِمَةُ احْلِقِي رَأْسَهُ ، وَتَصَدّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ
فِضّةً فَوَزَنّاهُ فَكَانَ وَزْنُهُ دِرْهَمًا أَوْ بَعْضَ دِرْهَمٍ
وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إسْنَادُهُ مُتّصِلًا فَحَدِيثُ أَنَسٍ
وَابْنِ عَبّاسٍ يَكْفِيَانِ . قَالُوا : لِأَنّهُ نُسُكٌ فَكَانَ عَلَى
الرّأْسِ مِثْلُهُ كَالْأُضْحِيّةِ وَدَمِ التّمَتّعِ . فَالْجَوَابُ أَنّ
أَحَادِيثَ الشّاتَيْنِ عَنْ الذّكَرِ وَالشّاةُ عَنْ الْأُنْثَى ،
أَوْلَى أَنْ يُؤْخَذَ بِهَا لِوُجُوهٍ . أَحَدُهَا : كَثْرَتُهَا ،
فَإِنّ رُوَاتَهَا : عَائِشَةُ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو ، وَأُمّ
كُرْزٍ الْكَعْبِيّةُ ، وَأَسْمَاءُ . فَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أُمّ
كُرْزٍ قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَقُولُ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ
شَاةٌ . قَالَ أَبُو دَاوُد : وَسَمِعْتُ أَحْمَد َ يَقُولُ
مُكَافِئَتَانِ مُسْتَوِيَتَانِ أَوْ مُقَارِبَتَانِ قُلْت : هُوَ
مُكَافَأَتَانِ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَمُكَافِئَتَانِ بِكَسْرِهَا ،
وَالْمُحَدّثُونَ يَخْتَارُونَ الْفَتْحَ قَالَ الزّمَخْشَرِيّ لَا فَرْقَ
بَيْنَ الرّوَايَتَيْنِ لِأَنّ كُلّ مَنْ كَافَأْته ، فَقَدْ كَافَأَك .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهَا تَرْفَعُهُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ أَقِرّوا الطّيْرَ عَلَى مَكِنَاتِهَا [
ص 301 ] عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ
شَاةٌ لَا يَضُرّكُمْ أَذُكْرَانًا كُنّ أَمْ إنَاثًا وَعَنْهَا أَيْضًا
تَرْفَعُهُ عَنْ الْغُلَامِ شَاتَانِ مِثْلَانِ ، وَعَنْ الْجَارِيَةِ
شَاةٌ وَقَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَقَدْ تَقَدّمَ حَدِيثُ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ فِي ذَلِكَ وَعَنْ
عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَهُمْ عَنْ
الْغُلَامِ شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ . قَالَ
التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيّاشٍ
عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَسْمَاءَ عَنْ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يُعَقّ عَنْ الْغُلَامِ
شَاتَانِ مُكَافِئَتَانِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ شَاةٌ . قَالَ مُهَنّا
قُلْتُ لِأَحْمَدَ مَنْ أَسْمَاءُ ؟ فَقَالَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ
أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ . وَفِي كِتَابِ الْخَلّالِ قَالَ مُهَنّا
قُلْتُ لِأَحْمَدَ حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ ، قَالَ حَدّثْنَا
عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ ، قَالَ حَدّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ
أَنّ أَيّوبَ بْنَ مُوسَى حَدّثَهُ أَنّ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمُزَنِيّ
حَدّثَهُ عَنْ أَبِيهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ يُعَقّ عَنْ الْغُلَامِ وَلَا يُمَسّ رَأْسُهُ بِدَمٍ وَقَالَ فِي
الْإِبِلِ الْفَرَعُ ، وَفِي الْغَنَمِ الْفَرَعُ فَقَالَ [ ص 302 ]
أَحْمَدُ مَا أَعْرِفُهُ وَلَا أَعْرِفُ عَبْدَ بْنَ يَزِيدَ الْمُزَنِيّ
، وَلَا هَذَا الْحَدِيثَ . فَقُلْتُ لَهُ أَتُنْكِرُهُ ؟ فَقَالَ لَا
أَعْرِفُهُ وَقِصّةُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا
حَدِيثٌ وَاحِدٌ . الثّانِي : أَنّهَا مِنْ فِعْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَحَادِيثُ الشّاتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ وَقَوْلُهُ
عَامّ ، وَفِعْلُهُ يَحْتَمِلُ الِاخْتِصَاصَ . الثّالِثُ أَنّهَا
مُتَضَمّنَةٌ لِزِيَادَةٍ فَكَانَ الْأَخَذُ بِهَا أَوْلَى . الرّابِعُ
أَنّ الْفِعْلَ يَدُلّ عَلَى الْجَوَازِ وَالْقَوْلُ عَلَى
الِاسْتِحْبَابِ وَالْأَخَذُ بِهِمَا مُمْكِنٌ فَلَا وَجْهَ لِتَعْطِيلِ
أَحَدِهِمَا . الْخَامِسُ أَنّ قِصّةَ الذّبْحِ عَنْ الْحَسَنِ
وَالْحُسَيْنِ كَانَتْ عَامَ أُحُدٍ وَالْعَامَ الّذِي بَعْدَهُ وَأُمّ
كُرْزٍ سَمِعَتْ مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا
رَوَتْهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتّ بَعْدَ الذّبْحِ عَنْ
الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ قَالَهُ النّسَائِيّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ .
السّادِسُ أَنّ قِصّةَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ
بِهَا بَيَانُ جَنْسِ الْمَذْبُوحِ وَأَنّهُ مِنْ الْكِبَاشِ لَا
تَخْصِيصُهُ بِالْوَاحِدِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ ضَحّى رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نِسَائِهِ بَقَرَةً وَكُنّ تِسْعًا ،
وَمُرَادُهَا : الْجَنْسُ لَا التّخْصِيصُ بِالْوَاحِدَةِ . السّابِعُ
أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ فَضّلَ الذّكَرَ عَلَى الْأُنْثَى ، كَمَا قَالَ
{ وَلَيْسَ الذّكَرُ كَالْأُنْثَى } [ آلُ عِمْرَانَ 37 ] وَمُقْتَضَى
هَذَا التّفَاضُلِ تَرْجِيحُهُ عَلَيْهَا فِي الْأَحْكَامِ وَقَدْ جَاءَتْ
الشّرِيعَةُ بِهَذَا التّفْضِيلِ فِي جَعْلِ الذّكَرِ كَالْأُنْثَيَيْنِ
فِي الشّهَادَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالدّيَةِ فَكَذَلِكَ أُلْحِقَتْ
الْعَقِيقَةُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ . الثّامِنُ أَنّ الْعَقِيقَةَ
تُشْبِهُ الْعِتْقَ عَنْ الْمَوْلُودِ فَإِنّهُ رَهِينٌ بِعَقِيقَتِهِ
فَالْعَقِيقَةُ تَفُكّهُ وَتُعْتِقُهُ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعَقّ
عَنْ الذّكَرِ بِشَاتَيْنِ وَعَنْ الْأُنْثَى بِشَاةٍ كَمَا أَنّ عِتْقَ
الْأُنْثَيَيْنِ يَقُومُ مَقَامَ عِتْقَ الذّكَرِ . كَمَا فِي " جَامِعِ
التّرْمِذِيّ " وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 303 ] أَيّمَا امْرِئٍ
مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَءًا مُسْلِمًا ، كَانَ فِكَاكَهُ مِنْ النّارِ
يُجْزِي كُلّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ وَأَيّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ
أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنْ النّارِ
يُجْزِي كُلّ عُضْوٍ مِنْهُمَا عُضْوًا مِنْهُ وَأَيّمَا امْرَأَةٍ
مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنْ
النّار ، يُجْزِي كُلّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهَا وَهَذَا حَدِيثٌ
صَحِيحٌ . فَصْلٌ ذَكَرَ أَبُو دَاوُد فِي " الْمَرَاسِيلِ " عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فِي الْعَقِيقَةِ الّتِي عَقّتْهَا فَاطِمَةُ
عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، أَنْ ابْعَثُوا
إلَى بَيْتِ الْقَابِلَةِ بِرِجْلٍ وَكُلُوا وَأَطْعِمُوا وَلَا
تَكْسِرُوا مِنْهَا عَظْماً .
فَصْلٌ [ هَلْ عَقّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نَفْسِهِ ؟ ]
وَذَكَرَ
ابْنُ أَيْمَنَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَقّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ جَاءَتْهُ
النّبُوّةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ قَالَ أَبُو دَاوُد فِي " مَسَائِلِه ِ " :
سَمِعْتُ أَحْمَدَ حَدّثَهُمْ بِحَدِيثِ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ ، عَنْ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُثَنّى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ
ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَقّ
عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ أَحْمَدُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَرّرٍ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَقّ
عَنْ نَفْسِهِ قَالَ مُهَنّا قَالَ أَحْمَدُ هَذَا مُنْكَرٌ وَضَعّفَ
عَبْدَ اللّهِ بْنَ الْمُحَرّرِ .
فَصْلٌ [ الْأَذَانُ فِي أُذُنِ الْمَوْلُودِ ]
ذَكَرَ
أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ رَأَيْتُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَذّنَ فِي أُذُنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيّ حِينَ
وَلَدَتْهُ أُمّهُ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا بِالصّلَاةِ . [ ص 304
]
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ وَخِتَانِهِ
قَدْ
تَقَدّمَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَة َ
فِي الْعَقِيقَةِ تُذْبَحُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُسَمّى قَالَ
الْمَيْمُونِيّ : تَذَاكَرْنَا لِكَمْ يُسَمّى الصّبِيّ ؟ قَالَ لَنَا
أَبُو عَبْدِ اللّهِ يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ أَنّهُ يُسْمَى لِثَلَاثَةٍ
وَأَمّا سَمُرَةُ فَقَالَ يُسَمّى فِي الْيَوْمِ السّابِعِ . فَأَمّا
الْخِتَانُ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : كَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الْغُلَامَ
حَتّى يُدْرِكَ . قَالَ الْمَيْمُونِيّ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ كَانَ
الْحَسَنُ يَكْرَهُ أَنْ يُخْتَنَ الصّبِيّ يَوْمَ سَابِعِهِ وَقَالَ
حَنْبَلٌ إنّ أَبَا عَبْدِ اللّهِ قَالَ وَإِنْ خُتِنَ يَوْمَ السّابِعِ
فَلَا بَأْسَ وَإِنّمَا كَرِهَ الْحَسَنُ ذَلِكَ لِئَلّا يَتَشَبّهَ
بِالْيَهُودِ وَلَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ . قَالَ مَكْحُولٌ : خَتَنَ
إبْرَاهِيمُ ابْنَهُ إسْحَاقَ لِسَبْعَةِ أَيّامٍ وَخَتَنَ إسْمَاعِيل َ
لِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ذَكَرَهُ الْخَلّالُ . قَالَ شَيْخُ
الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ : فَصَارَ خِتَانُ إسْحَاقَ سُنّةً فِي
وَلَدِهِ وَخِتَانُ إسْمَاعِيلَ سُنّةً فِي وَلَدِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ
الْخِلَافُ فِي خِتَانِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَتَى
كَانَ ذَلِكَ . [ ص 305 ]
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى
ثَبَتَ
عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّ أَخْنَعَ اسْمٍ
عِنْدَ اللّهِ رَجُلٌ تَسَمّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ لَا مَلِكَ إلّا اللّهُ
وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ أَحَبّ الْأَسْمَاءِ إلَى اللّهِ عَبْدُ
اللّهِ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمّامٌ
وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرّةُ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَا
تُسَمّيَن غُلَامَكَ يَسَارًا وَلَا رَبَاحًا وَلَا نَجِيحًا وَلَا
أَفْلَحَ فَإِنّكَ تَقُولُ أَثَمّتَ هُوَ ؟ فَلَا يَكُونُ فَيُقَالُ لَا [
ص 306 ] وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ غَيّرَ اسْمَ عَاصِيَةَ وَقَالَ أَنْتِ
جَمِيلَةٌ وَكَانَ اسْمُ جُوَيْرِيَةَ بَرّةً فَغَيّرَهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِاسْمِ جُوَيْرِيَةَ . وَقَالَتْ
زَيْنَبُ بِنْتُ أُمّ سَلَمَةَ : نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُسَمّى بِهَذَا الِاسْمِ فَقَالَ لَا تُزَكّوا
أَنْفُسَكُمْ اللّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرّ مِنْكُمْ . وَغَيّرَ اسْمَ
أَصْرَمَ بِزُرْعَةَ وَغَيّرَ اسْمَ أَبِي الْحَكَمِ بِأَبِي شُرَيْحٍ
وَغَيّرَ اسْمَ حَزْنٍ جَدّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَجَعَلَهُ سَهْلًا
فَأَبَى ، وَقَالَ " السّهْلُ يُوطَأُ وَيُمْتَهَنُ " . قَالَ أَبُو
دَاوُد : وَغَيّرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْمَ
الْعَاصِ وَعَزِيزٍ وَعَتْلَةَ وَشَيْطَانٍ وَالْحَكَمِ وَغُرَابٍ
وَحُبَابٍ وَشِهَابٍ ، فَسَمّاهُ هِشَامًا ، وَسَمّى حَرْبًا سِلْمًا ،
وَسَمّى الْمُضْطَجِعَ الْمُنْبَعِثَ وَأَرْضًا عَفْرَةً سَمّاهَا
خَضِرَةً ، وَشِعْبُ الضّلَالَةِ سَمّاهُ شِعْبَ الْهُدَى ، وَبَنُو
الزّنْيَةِ سَمّاهُمْ بَنِي الرّشْدَةِ ، وَسَمّى بَنِي مُغْوِيَةَ بَنِي
رِشْدَةَ [ ص 307 ]
فَصْلٌ فِي فِقْهِ هَذَا الْبَاب
[ اخْتِيَارُ الْأَسْمَاءِ الْحَسَنَةِ لِأَنّ الْأَسْمَاءَ قَوَالِبُ لِلْمَعَانِي ]
لَمّا
كَانَتْ الْأَسْمَاءُ قَوَالِبَ لِلْمَعَانِي ، وَدَالّةً عَلَيْهَا ،
اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهَا ارْتِبَاطٌ
وَتَنَاسُبٌ وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْنَى مَعَهَا بِمَنْزِلَةِ
الْأَجْنَبِيّ الْمَحْضِ الّذِي لَا تَعَلّقَ لَهُ بِهَا ، فَإِنّ
حِكْمَةَ الْحَكِيمِ تَأْبَى ذَلِكَ وَالْوَاقِعُ يَشْهَدُ بِخِلَافِهِ
بَلْ لِلْأَسْمَاءِ تَأْثِيرٌ فِي الْمُسَمّيَاتِ وَلِلْمُسَمّيَاتِ
تَأَثّرٌ عَنْ أَسْمَائِهَا فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَالْخِفّةِ
وَالثّقَلِ وَاللّطَافَةِ وَالْكَثَافَةِ كَمَا قِيلَ
وَقَلّمَا أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ ذَا لَقَب
إلّا وَمَعْنَاهُ إنْ فَكّرْتَ فِي لَقَبِهِ
وَكَانَ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْتَحِبّ الِاسْمَ الْحَسَنِ وَأَمَرَ
إذَا أَبْرَدُوا إلَيْهِ بَرِيدًا أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الِاسْمِ حَسَنَ
الْوَجْهِ وَكَانَ يَأْخُذُ الْمَعَانِيَ مِنْ أَسْمَائِهَا فِي
الْمَنَامِ وَالْيَقَظَةِ كَمَا رَأَى أَنّهُ وَأَصْحَابَهُ فِي دَارِ
عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ فَأُتُوا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابَ
فَأَوّلَهُ بِأَنّ لَهُمْ الرّفْعَةَ فِي الدّنْيَا ، وَالْعَاقِبَةَ فِي
الْآخِرَةِ وَأَنّ الدّينَ الّذِي قَدْ اخْتَارَهُ اللّهُ لَهُمْ قَدْ
أُرْطِبَ وَطَابَ وَتَأَوّلَ سُهُولَةَ أَمْرِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ
مِنْ مَجِيءِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو إلَيْهِ [ ص 308 ] وَنَدَبَ جَمَاعَةً
إلَى حَلْبِ شَاةٍ فَقَامَ رَجُلٌ يَحْلُبُهَا ، فَقَالَ " مَا اسْمُكَ ؟
" قَالَ " مُرّةُ فَقَالَ اجْلِسْ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ " مَا اسْمُكَ ؟
" قَالَ أَظُنّهُ حَرْبٌ فَقَالَ اجْلِسْ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ " مَا
اسْمُكَ ؟ " فَقَالَ يَعِيشُ فَقَالَ " اُحْلُبْهَا " وَكَانَ يَكْرَهُ
الْأَمْكِنَةَ الْمُنْكَرَةَ الْأَسْمَاءِ وَيَكْرَهُ الْعُبُورَ فِيهَا ،
كَمَا مَرّ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَسَأَلَ عَنْ
اسْمَيْهِمَا فَقَالُوا : فَاضِحٌ وَمُخْزٍ ، فَعَدَلَ عَنْهُمَا ، وَلَمْ
يَجُزْ بَيْنَهُمَا . وَلَمّا كَانَ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ وَالْمُسَمّيَاتِ
مِنْ الِارْتِبَاطِ وَالتّنَاسُبِ وَالْقَرَابَةِ مَا بَيْنَ قَوَالِبِ
الْأَشْيَاءِ وَحَقَائِقِهَا ، وَمَا بَيْنَ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ
عَبَرَ الْعَقْلُ مِنْ كُلّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ كَمَا كَانَ إيَاسُ
بْنُ مُعَاوِيَةَ وَغَيْرُهُ يَرَى الشّخْصَ فَيَقُولُ يَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ اسْمُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ فَلَا يَكَادُ يُخْطِئُ وَضِدّ هَذَا
الْعَبُورِ مِنْ الِاسْمِ إلَى مُسَمّاهُ كَمَا سَأَلَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ رَجُلًا عَنْ اسْمِهِ فَقَالَ جَمْرَةُ
فَقَالَ وَاسْمُ أَبِيك ؟ قَالَ شِهَابٌ ، قَالَ مِمّنْ ؟ قَالَ مِنْ
الْحُرَقَةِ ، قَالَ فَمَنْزِلُك ؟ قَالَ بِحَرّةِ النّارِ قَالَ فَأَيْنَ
مَسْكَنُكَ ؟ قَالَ بِذَاتِ لَظَى : قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ احْتَرَقَ
مَسْكَنُك ، فَذَهَبَ فَوَجَدَ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَعَبَرَ عُمَرُ مِنْ
الْأَلْفَاظِ إلَى أَرْوَاحِهَا وَمَعَانِيهَا ، كَمَا عَبَرَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ اسْمِ سُهَيْلٍ إلَى سُهُولَةِ
أَمْرِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَقَدْ
أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُمّتَهُ بِتَحْسِينِ
أَسْمَائِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنّهُمْ يُدْعَوْنَ يَوْمَ [ ص 309 ]
الْقِيَامَةِ بِهَا ، وَفِي هَذَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - تَنْبِيهٌ عَلَى
تَحْسِينِ الْأَفْعَالِ الْمُنَاسِبَةِ لِتَحْسِينِ الْأَسْمَاءِ
لِتَكُونَ الدّعْوَةُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ بِالِاسْمِ الْحَسَنِ
وَالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ . وَتَأَمّلْ كَيْفَ اُشْتُقّ لِلنّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ وَصْفِهِ اسْمَانِ مُطَابِقَانِ
لِمَعْنَاهُ وَهُمَا أَحْمَدُ وَمُحَمّدٌ فَهُوَ لِكَثْرَةِ مَا فِيهِ
مِنْ الصّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ مُحَمّدٌ وَلِشَرَفِهَا وَفَضْلِهَا عَلَى
صِفَاتِ غَيْرِهِ أَحْمَدُ فَارْتَبَطَ الِاسْمُ بِالْمُسَمّى ارْتِبَاطَ
الرّوحِ بِالْجَسَدِ وَكَذَلِك تَكْنِيَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ بِأَبِي جَهْلٍ كُنْيَةٌ
مُطَابِقَةٌ لِوَصْفِهِ وَمَعْنَاهُ وَهُوَ أَحَقّ الْخَلْقِ بِهَذِهِ
الْكُنْيَةِ ، وَكَذَلِك تَكْنِيَةُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ لِعَبْدِ الْعُزّى
بِأَبِي لَهَبٍ لَمّا كَانَ مَصِيرُهُ إلَى نَارٍ ذَاتِ لَهَبٍ كَانَتْ
هَذِهِ الْكُنْيَةُ أَلْيَقَ بِهِ وَأَوْفَقَ وَهُوَ بِهَا أَحَقّ
وَأَخْلَقُ . وَلَمّا قَدِمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْمَدِينَةَ ، وَاسْمُهَا يَثْرِبُ لَا تُعْرَفُ بِغَيْرِ هَذَا الِاسْمِ
غَيّرَهُ بِطَيْبَة َ لَمّا زَالَ عَنْهَا مَا فِي لَفْظِ يَثْرِبَ مِنْ
التّثْرِيبِ بِمَا فِي مَعْنَى طَيْبَةَ مِنْ الطّيبِ اسْتَحَقّتْ هَذَا
الِاسْمَ وَازْدَادَتْ بِهِ طِيبًا آخَرَ فَأَثّرَ طِيبُهَا فِي
اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ وَزَادَهَا طِيبًا إلَى طِيبِهَا . وَلَمّا كَانَ
الِاسْمُ الْحَسَنُ يَقْتَضِي مُسَمّاهُ وَيَسْتَدْعِيهِ مِنْ قُرْبٍ
قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِبَعْضِ قَبَائِلِ
الْعَرَبِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَتَوْحِيدِهِ يَا بَنِي عَبْدِ
اللّهِ إنّ اللّهَ قَدْ حَسّنَ اسْمَكُمْ وَاسْمَ أَبِيكُمْ فَانْظُرْ
كَيْفَ دَعَاهُمْ إلَى عُبُودِيّةِ اللّهِ بِحُسْنِ اسْمِ أَبِيهِمْ [ ص
310 ] الْمُقْتَضِي لِلدّعْوَةِ وَتَأَمّلْ أَسْمَاءَ السّتّةِ
الْمُتَبَارِزِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَيْفَ اقْتَضَى الْقَدَرُ مُطَابَقَةَ
أَسْمَائِهِمْ لِأَحْوَالِهِمْ يَوْمَئِذٍ فَكَانَ الْكُفّارُ شَيْبَةَ
وَعُتْبَةَ وَالْوَلِيدَ ثَلَاثَةَ أَسْمَاءٍ مِنْ الضّعْفِ فَالْوَلِيدُ
لَهُ بِدَايَةُ الضّعْفِ وَشَيْبَةُ لَهُ نِهَايَةُ الضّعْفِ كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { اللّهُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمّ جَعَلَ مِنْ
بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةً ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً
} [ الرّومُ : 54 ] وَعُتْبَةُ مِنْ الْعَتَبِ فَدَلّتْ أَسَمَاؤُهُمْ
عَلَى عَتَبٍ يَحِلّ بِهِمْ وَضَعْفٍ يَنَالُهُمْ وَكَانَ أَقْرَانُهُمْ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلِيّ ، وَعُبَيْدَةُ وَالْحَارِثُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ تُنَاسِبُ أَوْصَافَهُمْ وَهِيَ الْعُلُوّ ،
وَالْعُبُودِيّةُ وَالسّعْيُ الّذِي هُوَ الْحَرْثُ فَعَلَوْا عَلَيْهِمْ
بِعُبُودِيّتِهِمْ وَسَعْيِهِمْ فِي حَرْثِ الْآخِرَةِ . وَلَمّا كَانَ
الِاسْمَ مُقْتَضِيًا لِمُسَمّاهُ وَمُؤَثّرًا فِيهِ كَانَ أَحَبّ
الْأَسْمَاءِ إلَى اللّهِ مَا اقْتَضَى أَحَبّ الْأَوْصَافِ إلَيْهِ
كَعَبْدِ اللّهِ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ وَكَانَ إضَافَةُ الْعُبُودِيّةِ
إلَى اسْمِ اللّهِ وَاسْمِ الرّحْمَنِ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ إضَافَتِهَا
إلَى غَيْرِهِمَا ، كَالْقَاهِرِ وَالْقَادِرِ فَعَبْدُ الرّحْمَنِ أَحَبّ
إلَيْهِ مِنْ عَبْدِ الْقَادِرِ وَعَبْدُ اللّهِ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ
عَبْدِ رَبّهِ وَهَذَا لِأَنّ التّعَلّقَ الّذِي بَيْنَ الْعَبْدِ
وَبَيْنَ اللّهِ إنّمَا هُوَ الْعُبُودِيّةُ الْمَحْضَةُ وَالتّعَلّقُ
الّذِي بَيْنَ اللّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ بِالرّحْمَةِ الْمَحْضَةِ
فَبِرَحْمَتِهِ كَانَ وُجُودُهُ وَكَمَالُ وُجُودِهِ وَالْغَايَةُ الّتِي
أَوْجَدَهُ لِأَجْلِهَا أَنْ يَتَأَلّهَ لَهُ وَحْدَهُ مَحَبّةً وَخَوْفًا
، وَرَجَاءً وَإِجْلَالًا وَتَعْظِيمًا ، فَيَكُونُ عَبْدًا لِلّهِ وَقَدْ
عَبَدَهُ لِمَا فِي اسْمِ اللّهِ مِنْ مَعْنَى الْإِلَهِيّةِ الّتِي
يَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِهِ وَلَمّا غَلَبَتْ رَحْمَتُهُ
غَضَبَهُ وَكَانَتْ الرّحْمَةُ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ الْغَضَبِ كَانَ
عَبْدُ الرّحْمَنِ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ عَبْدِ الْقَاهِرِ .
فَصْلٌ
وَلَمّا
كَانَ كُلّ عَبْدٍ مُتَحَرّكًا بِالْإِرَادَةِ وَالْهَمّ مَبْدَأُ
الْإِرَادَةِ وَيَتَرَتّبُ عَلَى إرَادَتِهِ حَرَكْتُهُ وَكَسْبُهُ كَانَ
أَصْدَقَ الْأَسْمَاءِ اسْمُ هَمّامٍ وَاسْمُ حَارِثٍ إذْ لَا يَنْفَكّ
مُسَمّاهُمَا [ ص 311 ] حَقِيقَةِ مَعْنَاهُمَا ، وَلَمّا كَانَ الْمُلْكُ
الْحَقّ لِلّهِ وَحْدَهُ وَلَا مَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ سِوَاهُ كَانَ
أَخْنَعَ اسْمٍ وَأَوْضَعَهُ عِنْدَ اللّهِ وَأَغْضَبَهُ لَهُ اسْمُ "
شاهان شاه " أَيْ مَلِكُ الْمُلُوكِ وَسُلْطَانُ السّلَاطِينِ فَإِنّ
ذَلِكَ لَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِ اللّهِ فَتَسْمِيَةُ غَيْرِهِ بِهَذَا مِنْ
أَبْطَلِ الْبَاطِلِ وَاَللّهُ لَا يُحِبّ الْبَاطِلَ . وَقَدْ أَلْحَقَ
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا " قَاضِي الْقُضَاةِ " وَقَالَ لَيْسَ
قَاضِي الْقُضَاةِ إلّا مَنْ يَقْضِي الْحَقّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ
الّذِي إذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .
وَيَلِي هَذَا الِاسْمَ فِي الْكَرَاهَةِ وَالْقُبْحِ وَالْكَذِبِ سَيّدُ
النّاسِ وَسَيّدُ الْكُلّ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلّا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَاصّةً كَمَا قَالَ أَنَا سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ قَطّ أَنْ
يَقُولَ عَنْ غَيْرِهِ إنّهُ سَيّدُ النّاسِ وَسَيّدُ الْكُلّ كَمَا لَا
يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ إنّهُ سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ .
فَصْلٌ
وَلَمّا
كَانَ مُسَمّى الْحَرْبِ وَالْمُرّةِ أَكْرَهَ شَيْءٍ لِلنّفُوسِ
وَأَقْبَحَهَا عِنْدَهَا ، كَانَ أَقْبَحُ الْأَسْمَاءِ حَرْبًا وَمُرّةَ
وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا حَنْظَلَةُ وَحَزْنٌ وَمَا أَشَبَهُهُمَا ، وَمَا
أَجْدَرَ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ بِتَأْثِيرِهَا فِي مُسَمّيَاتِهَا ، كَمَا
أَثّرَ اسْمُ " حَزْنٍ " الْحُزُونَةَ فِي سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ
وَأَهْلِ بَيْتِهِ [ ص 312 ]
فَصْلٌ
وَلَمّا كَانَ
الْأَنْبِيَاءُ سَادَاتِ بَنِي آدَمَ وَأَخْلَاقُهُمْ أَشْرَفُ
الْأَخْلَاقِ وَأَعْمَالُهُمْ أَصَحّ الْأَعْمَالِ كَانَتْ أَسَمَاؤُهُمْ
أَشْرَفَ الْأَسْمَاءِ فَنَدَبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أُمّتَهُ إلَى التّسَمّي بِأَسْمَائِهِمْ كَمَا فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُد
" وَالنّسَائِيّ عَنْهُ تَسَمّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاء وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ إلّا أَنّ الِاسْمَ يُذْكَرُ
بِمُسَمّاهُ وَيَقْتَضِي التّعَلّقَ بِمَعْنَاهُ لَكَفَى بِهِ مَصْلَحَةً
مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حِفْظِ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَذِكْرِهَا ،
وَأَنْ لَا تُنْسَى ، وَأَنْ تُذَكّرَ أَسَمَاؤُهُمْ بِأَوْصَافِهِمْ
وَأَحْوَالِهِمْ .
فَصْلٌ [عِلّةُ النّهْيِ عَنْ التّسْمِيَةِ بِيَسَارٍ وَأَفْلَحَ وَنَجِيحٍ وَرَبَاحٍ ]
وَأَمّا
النّهْيُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْغُلَامِ ب : يَسَارٍ وَأَفْلَحَ وَنَجِيحٍ
وَرَبَاحٍ فَهَذَا لِمَعْنًى آخَرَ قَدْ أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ
وَهُوَ قَوْلُهُ فَإِنّك تَقُولُ أَثَمّتَ هُوَ ؟ فَيُقَال : لَا -
وَاَللّهُ أَعْلَمُ - هَلْ هَذِهِ الزّيَادَةُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِيثِ
الْمَرْفُوعِ أَوْ مُدْرَجَةٌ مِنْ قَوْلِ الصّحَابِيّ وَبِكُلّ حَالٍ
فَإِنّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَمّا كَانَتْ قَدْ تُوجِبُ تَطَيّرًا
تَكْرَهُهُ النّفُوسُ وَيَصُدّهَا عَمّا هِيَ بِصَدَدِهِ كَمَا إذَا قُلْت
لِرَجُلٍ أَعِنْدَك يَسَارٌ أَوْ رَبَاحٌ أَوْ أَفْلَحُ ؟ قَالَ لَا ،
تَطَيّرْت أَنْتَ وَهُوَ مِنْ ذَلِك ، وَقَدْ تَقَعُ الطّيَرَةُ لَا
سِيّمَا عَلَى الْمُتَطَيّرِينَ فَقَلّ مَنْ تَطَيّرَ إلّا وَوَقَعَتْ
بَهْ طِيَرَتُهُ وَأَصَابَهُ طَائِرُهُ كَمَا قِيلَ تَعَلّمْ أَنّهُ لَا
طَيْرَ إلّا عَلَى مُتَطَيّرٍ فَهُوَ الثّبُورُ
[ ص 313 ] بِأُمّتِهِ
الرّحِيمِ بِهِمْ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ أَسِبَابٍ تُوجِبُ لَهُمْ
سَمَاعَ الْمَكْرُوهِ أَوْ وُقُوعَهُ وَأَنْ يَعْدِلَ عَنْهَا إلَى
أَسْمَاءٍ تُحَصّلُ الْمَقْصُودَ مِنْ غَيْرِ مَفْسَدَةٍ هَذَا أَوْلَى ،
مَعَ مَا يَنْضَافُ إلَى ذَلِك مِنْ تَعْلِيقِ ضِدّ الِاسْمِ عَلَيْهِ
بِأَنْ يُسَمّى يَسَارًا مَنْ هُوَ مِنْ أَعْسَرِ النّاسِ وَنَجِيحًا مَنْ
لَا نَجَاحَ عِنْدَهُ وَرَبَاحًا مَنْ هُوَ مِنْ الْخَاسِرِينَ فَيَكُونُ
قَدْ وَقَعَ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ وَعَلَى اللّهِ وَأَمْرٌ آخَرُ
أَيْضًا وَهُوَ أَنْ يُطَالَبَ الْمُسَمّى بِمُقْتَضَى اسْمِهِ فَلَا
يُوجَدُ عِنْدَهُ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ سَبَبًا لِذَمّهِ وَسَبّهِ كَمَا
قِيلَ سَمّوْكَ مِنْ جَهْلِهِمْ سَدِيدًا وَاَللّهِ مَا فِيكَ مِنْ سَدَادِ
أَنْتَ الّذِي كَوْنُهُ فَسَادًا فِي عَالَمِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ
فَتَوَصّلَ
الشّاعِرُ بِهَذَا الِاسْمِ إلَى ذَمّ الْمُسَمّى بِهِ . وَلِي مِنْ
أَبْيَاتِ وَسَمّيْتُهُ صَالِحًا فَاغْتَدَى بِضِدّ اسْمِهِ فِي الْوَرَى
سَائِرًا
وَظَنّ بِأَنّ اسْمَهُ سَاتِر لِأَوْصَافِهِ فَغَدَا شَاهِرًا
وَهَذَا
كَمَا أَنّ مِنْ الْمَدْحِ مَا يَكُون ذَمّا وَمُوجِبًا لِسُقُوطِ
مَرْتَبَةِ الْمَمْدُوحِ عِنْدَ النّاسِ فَإِنّهُ يُمْدَحُ بِمَا لَيْسَ
فِيهِ فَتُطَالِبُهُ النّفُوسُ بِمَا مُدِحَ بِهِ وَتَظُنّهُ عِنْدَهُ
فَلَا تَجِدُهُ كَذَلِكَ فَتَنْقَلِبُ ذَمّا ، وَلَوْ تُرِكَ بِغَيْرِ
مَدْحٍ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ وَيُشْبِهُ حَالُهُ حَالَ
مَنْ وَلِيَ وِلَايَةً سَيّئَةً ثُمّ عُزِلَ عَنْهَا ، فَإِنّهُ تَنْقُصُ
مَرْتَبَتُهُ عَمّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْوِلَايَةِ وَيَنْقُصُ فِي
نَفُوسِ النّاسِ عَمّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَهَا ، وَفِي هَذَا قَالَ
الْقَائِلُ إذَا مَا وَصَفْت امْرَءًا لِامْرِئ ٍ فَلَا تَغْلُ فِي
وَصْفِهِ وَاقْصِدْ
فَإِنّكَ إنْ تَغْلُ تَغْلُ الظّنُو نُ فِيهِ إلَى الْأَمَدِ الْأَبْعَد
فَيَنْقُصُ مِنْ حَيْثُ عَظّمْتَه لِفَضْلِ الْمَغِيبِ عَنْ الْمَشْهَدِ
وَأَمْرٌ
آخَرُ وَهُوَ ظَنّ الْمُسَمّى وَاعْتِقَادُهُ فِي نَفْسِهِ أَنّهُ
كَذَلِكَ فَيَقَعُ فِي تَزْكِيَةِ [ ص 314 ] نَهَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَجْلِهِ أَنْ تُسَمّى " بَرّةُ " وَقَالَ لَا
تُزَكّوا أَنْفُسَكُمْ اللّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرّ مِنْكُمْ وَعَلَى
هَذَا فَتُكْرَهُ التّسْمِيَةُ ب : التّقِيّ وَالْمُتّقِي ، وَالْمُطِيعِ
وَالطّائِعِ وَالرّاضِي ، وَالْمُحْسِنِ وَالْمُخْلِصِ وَالْمُنِيبِ
وَالرّشِيدِ وَالسّدِيدِ . وَأَمّا تَسْمِيَةُ الْكُفّارِ بِذَلِكَ فَلَا
يَجُوزُ التّمْكِينُ مِنْهُ وَلَا دُعَاؤُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ
الْأَسْمَاءِ وَلَا الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِهَا ، وَاَللّهُ عَزّ وَجَلّ
يَغْضَبُ مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ بِذَلِك .
فَصْلٌ [ الْكُنْيَةُ ]
وَأَمّا
الْكُنْيَةُ فَهِيَ نَوْعُ تَكْرِيمٍ لِلْمُكَنّى وَتَنْوِيهٍ بِهِ كَمَا
قَالَ الشّاعِرُ أَكْنِيهِ حِينَ أُنَادِيهِ لِأُكْرِمَه وَلَا أُلَقّبُهُ
وَالسّوْأَةُ اللّقَبُ
وَكَنّى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ صُهَيْبًا بِأَبِي يَحْيَى ، وَكَنّى عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ بِأَبِي تُرَابٍ إلَى كُنْيَتِهِ بِأَبِي الْحَسَنِ وَكَانَتْ
أَحَبّ كُنْيَتِهِ إلَيْهِ وَكَنّى أَخَا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ
صَغِيرًا دُونَ الْبُلُوغِ بِأَبِي عُمَيْرٍ
[ حُكْمُ التّكَنّي بِأَبِي الْقَاسِمِ ]
وَكَانَ
هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَكْنِيَةُ مَنْ لَهُ وَلَدٌ
وَمَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنّهُ نَهَى عَنْ
كُنْيَةٍ إلّا الْكُنْيَةَ بِأَبِي الْقَاسِمِ فَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ
تَسَمّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكَنّوْا بِكُنْيَتِي فَاخْتَلَفَ النّاسُ فِي
ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ . [ ص 315 ] سَوَاءٌ أَفْرَدَهَا عَنْ
اسْمِهِ أَوْ قَرَنَهَا بِهِ وَسَوَاءٌ مَحْيَاهُ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ
وَعُمْدَتُهُمْ عُمُومُ هَذَا الْحَدِيثِ الصّحِيحِ وَإِطْلَاقُهُ وَحَكَى
الْبَيْهَقِيّ ذَلِكَ عَنْ الشّافِعِيّ ، قَالُوا : لِأَنّ النّهْيَ
إنّمَا كَانَ لِأَنّ مَعْنَى هَذِهِ الْكُنْيَةِ وَالتّسْمِيَةِ
مُخْتَصّةٌ بِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ أَشَارَ إلَى
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ وَاَللّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا ، وَلَا أَمْنَعُ
أَحَدًا ، وَإِنّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ قَالُوا :
وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذِهِ الصّفّةَ لَيْسَتْ عَلَى الْكَمَالِ لِغَيْرِهِ .
وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي جِوَازِ تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ بِقَاسِمٍ
فَأَجَازَهُ طَائِفَةٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ وَالْمُجِيزُونَ نَظَرُوا إلَى
أَنّ الْعِلّةَ عَدَمُ مُشَارَكَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِيمَا اخْتَصّ بِهِ مِنْ الْكُنْيَةِ وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ
فِي الِاسْمِ وَالْمَانِعُونَ نَظَرُوا إلَى أَنّ الْمَعْنَى الّذِي نَهَى
عَنْهُ فِي الْكُنْيَةِ مَوْجُودٌ مِثْلُهُ هُنَا فِي الِاسْمِ سَوَاءٌ
أَوْ هُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ قَالُوا : وَفِي قَوْلِهِ إنّمَا أَنَا
قَاسِمٌ إشْعَارٌ بِهَذَا الِاخْتِصَاصِ . الْقَوْلُ الثّانِي : أَنّ
النّهْيَ إنّمَا هُوَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ فَإِذَا
أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَلَا بَأْسَ . قَالَ أَبُو دَاوُد َ
بَابٌ مَنْ رَأَى أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا ، ثُمّ ذَكَرَ حَدِيثَ
أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَالَ مَنْ تَسَمّى بِاسْمِي فَلَا يَتَكَنّ بِكُنْيَتِي ،
وَمَنْ تَكَنّى بِكُنْيَتِي فَلَا يَتَسَمّ بِاسْمِي وَرَوَاهُ
التّرْمِذِي ّ وَقَالَ حَدِيثٌ [ ص 316 ] مُحَمّدِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلَفْظُهُ نَهَى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَجْمَعَ أَحَدٌ
بَيْنَ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ وَيُسَمّي مُحَمّدًا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ
أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فَهَذَا مُقَيّدٌ مُفَسّرٌ لِمَا فِي "
الصّحِيحَيْنِ " مِنْ نَهْيِهِ عَنْ التّكَنّي بِكُنْيَتِهِ قَالُوا :
وَلِأَنّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ فِي الِاخْتِصَاصِ
بِالِاسْمِ وَالْكُنْيَةِ فَإِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ
زَالَ الِاخْتِصَاصُ . الْقَوْلُ الثّالِثُ جَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا
وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ ، وَاحْتَجّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ
بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمّدِ بْنِ
الْحَنَفِيّةِ ، عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْت : يَا
رَسُولَ اللّهِ إنْ وُلِدَ لِي وَلَدٌ مِنْ بَعْدِكَ أُسَمّيهِ بِاسْمِكَ
وَأُكَنّيهِ بِكُنْيَتِك ؟ قَالَ " نَعَمْ " قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ
جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي
وَلَدْتُ غُلَامًا فَسَمّيْتُهُ مُحَمّدًا وَكَنّيْته أَبَا الْقَاسِمِ
فَذُكِرَ لِي أَنّك تَكْرَهُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ مَا الّذِي أَحَلّ اسْمِي
وَحَرّمَ كُنْيَتِي أَوْ " مَا الّذِي حَرّمَ كُنْيَتِي وَأَحَلّ اسْمِي
قَالَ هَؤُلَاءِ وَأَحَادِيثُ الْمَنْعِ مَنْسُوخَةٌ بِهَذَيْنِ
الْحَدِيثَيْنِ . الْقَوْلُ الرّابِعُ إنّ التّكَنّي بِأَبِي الْقَاسِمِ
كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فِي حَيَاةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَهُوَ جَائِزٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ قَالُوا : وَسَبَبُ النّهْيِ
إنّمَا كَانَ مُخْتَصّا بِحَيَاتِهِ فَإِنّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ
" مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ نَادَى رَجُل بِالْبَقِيعِ : يَا أَبَا
الْقَاسِمِ فَالْتَفَتَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي لَمْ أَعْنِكَ إنّمَا دَعَوْتُ
فُلَانًا ، فَقَالَ [ ص 317 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسَمّوْا
بِاسْمِي وَلَا تَكَنّوْا بِكُنْيَتِي قَالُوا : وَحَدِيثُ عَلِيّ فِيهِ
إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إنْ وُلِدَ لِي مِنْ بَعْدِك وَلَدٌ
وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَمّنْ يُولَدُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَلَكِنْ قَالَ
عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " وَكَانَتْ رُخْصَةً
لِي " وَقَدْ شَذّ مَنْ لَا يُؤْبَهُ لِقَوْلِهِ فَمَنَعَ التّسْمِيَةَ
بِاسْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قِيَاسًا عَلَى النّهْيِ عَنْ
التّكَنّي بِكُنْيَتِهِ وَالصّوَابُ أَنّ التّسَمّيَ بِاسْمِهِ جَائِزٌ
وَالتّكَنّيَ بِكُنْيَتِهِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ وَالْمَنْعُ فِي حَيَاتِهِ
أَشَدّ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مَمْنُوعٌ مِنْهُ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ
غَرِيبٌ لَا يُعَارَضُ بِمِثْلِهِ الْحَدِيثُ الصّحِيحُ وَحَدِيثُ عَلِيّ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي صِحّتِهِ نَظَرٌ وَالتّرْمِذِيّ فِيهِ نَوْعُ
تَسَاهُلٍ فِي التّصْحِيحِ وَقَدْ قَالَ عَلِيّ : إنّهَا رُخْصَةٌ لَهُ
وَهَذَا يَدُلّ عَلَى بَقَاءِ الْمَنْعِ لِمَنْ سِوَاهُ وَاَللّهُ
أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ التّكَنّي بِأَبِي عِيسَى ]
وَقَدْ كَرِهَ
قَوْمٌ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ الْكُنْيَةَ بِأَبِي عِيسَى ،
وَأَجَازَهَا آخَرُونَ فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ
أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ضَرَبَ ابْنًا لَهُ يُكَنّى أَبَا عِيسَى ،
وَأَنّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ تَكَنّى بِأَبِي عِيسَى ، فَقَالَ لَهُ
عُمَرُ أَمَا يَكْفِيك أَنْ تُكَنّى بِأَبِي عَبْدِ اللّهِ ؟ فَقَالَ إنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَنّانِي ، فَقَالَ إنّ
رَسُولَ اللّهِ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا
تَأَخّرَ وَإِنّا لَفِي جَلْجَتِنَا فَلَمْ يَزَلْ يُكَنّى بِأَبِي عَبْدِ
اللّهِ حَتّى هَلَكَ [ ص 318 ]
[ كُنَى أُمّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ]
وَقَدْ كَنّى عَائِشَةَ بِأُمّ عَبْدِ اللّه وَكَانَ لِنِسَائِهِ أَيْضًا كُنًى كَأُمّ حَبِيبَة َ وَأُمّ سَلَمَةَ .
فَصْلٌ [ النّهْيُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا ]
وَنَهَى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ
كَرْمًا وَقَالَ الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَهَذَا لِأَنّ هَذِهِ
اللّفْظَةَ تَدُلّ عَلَى كَثْرَةِ الْخَيْرِ وَالْمَنَافِعِ فِي
الْمُسَمّى بِهَا ، وَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ هُوَ الْمُسْتَحِقّ لِذَلِكَ
دُونَ شَجَرَةِ الْعِنَبِ وَلَكِنْ هَلْ الْمُرَادُ النّهْيُ عَنْ
تَخْصِيصِ شَجَرَةِ الْعِنَبِ بِهَذَا الِاسْمِ وَأَنّ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ
أَوْلَى بِهِ مِنْهُ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِالْكَرْمِ كَمَا
قَالَ فِي " الْمِسْكِينِ " و " الرّقُوبِ " و " الْمُفْلِسِ " أَوْ
الْمُرَادُ أَنّ [ ص 319 ] اتّخَاذِ الْخَمْرِ الْمُحَرّمِ مِنْهُ وَصْفٌ
بِالْكَرْمِ وَالْخَيْرِ وَالْمَنَافِع لِأَصْلِ هَذَا الشّرَابِ
الْخَبِيثِ الْمُحَرّمِ وَذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى مَدْحِ مَا حَرّمَ اللّهُ
وَتَهْيِيجِ النّفُوسِ إلَيْهِ ؟ هَذَا مُحْتَمَلٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ
بِمُرَادِ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْأَوْلَى أَنْ
لَا يُسَمّى شَجَرُ الْعِنَبِ كَرْمًا .
فَصْلٌ [ هَلْ تَجُوزُ تَسْمِيَةُ صَلَاةِ الْعِشَاءِ بِصَلَاةِ الْعَتَمَةِ ]
[ مُحَافَظَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْأَسْمَاءِ الّتِي سَمّى اللّهُ بِهَا الْعِبَادَاتِ ]
قَالَ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَغْلِبَنّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى
اسْمِ صَلَاتِكُمْ أَلَا وَإِنّهَا الْعِشَاءُ وَإِنّهُمْ يُسَمّونَهَا
الْعَتَمَةَ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي
الْعَتَمَةِ وَالصّبْحِ ، لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًاَ فَقِيلَ هَذَا
نَاسِخٌ لِلْمَنْعِ وَقِيلَ بِالْعَكْسِ وَالصّوَابُ خِلَافُ [ ص 320 ]
نَهَى عَنْ أَنْ يُجْهَرَ اسْمُ الْعِشَاءِ وَهُوَ الِاسْمُ الّذِي
سَمّاهَا اللّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ وَيَغْلِبَ عَلَيْهَا اسْمُ
الْعَتَمَةِ فَإِذَا سُمّيَتْ الْعِشَاءَ وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا أَحْيَانًا
الْعَتَمَةُ فَلَا بَأْسَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا مُحَافَظَةً مِنْهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْأَسْمَاءِ الّتِي سَمّى اللّهُ
بِهَا الْعِبَادَاتِ فَلَا تُهْجَرُ وَيُؤَثّرُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا ،
كَمَا فَعَلَهُ الْمُتَأَخّرُونَ فِي هِجْرَانِ أَلْفَاظِ النّصُوصِ
وَإِيثَارِ الْمُصْطَلَحَاتِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهَا ، وَنَشَأَ بِسَبَبِ
هَذَا مِنْ الْجَهْلِ وَالْفَسَادِ مَا اللّهُ بِهِ عَلِيمٌ وَهَذَا كَمَا
كَانَ يُحَافِظُ عَلَى تَقْدِيمِ مَا قَدّمَهُ اللّهُ وَتَأْخِيرِ مَا
أَخّرَهُ كَمَا بَدَأَ بِالصّفَا ، وَقَالَ أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللّهُ
بِهِ َ وَبَدَأَ فِي الْعِيدِ بِالصّلَاةِ ثُمّ جَعَلَ النّحْرَ بَعْدَهَا
، وَأَخْبَرَ أَنّ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَهَا ، فَلَا نُسُكَ لَه تَقْدِيمًا
لِمَا بَدَأَ اللّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ }
وَبَدَأَ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِالْوَجْهِ ثُمّ الْيَدَيْنِ ثُمّ
الرّأْسِ ثُمّ الرّجْلَيْنِ تَقْدِيمًا لِمَا قَدّمَهُ اللّهُ
وَتَأْخِيرًا لِمَا أَخّرَهُ وَتَوْسِيطًا لِمَا وَسّطَهُ وَقَدّمَ
زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ تَقْدِيمًا لِمَا قَدّمَهُ فِي
قَوْلِهِ { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّى } [
الْأَعْلَى : 13 ] وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حِفْظِ الْمَنْطِقِ وَاخْتِيَارِ الْأَلْفَاظِ
كَانَ
يَتَخَيّرُ فِي خِطَابِهِ وَيَخْتَارُ لِأُمّتِهِ أَحْسَنَ الْأَلْفَاظِ
وَأَجْمَلَهَا ، وَأَلْطَفَهَا ، وَأَبْعَدَهَا مِنْ أَلْفَاظِ أَهْلِ
الْجَفَاءِ وَالْغِلْظَةِ وَالْفُحْشِ فَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا
مُتَفَحّشًا وَلَا [ ص 321 ] وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللّفْظُ
الشّرِيفُ الْمَصُونُ فِي حَقّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَأَنْ يُسْتَعْمَلَ
اللّفْظُ الْمَهِينُ الْمَكْرُوهُ فِي حَقّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ .
[ كَرَاهَةُ اسْتِعْمَالِ اللّفْظِ الشّرِيفِ فِي حَقّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ ]
فَمِنْ
الْأَوّلِ مَنْعُهُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُنَافِقِ " يَا سَيّدَنَا " وَقَالَ
فَإِنّهُ إنْ يَكُ سَيّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبّكُمْ عَزّ وَجَل
وَمَنْعُهُ أَنْ تُسَمّى شَجَرَةُ الْعِنَبِ كَرْمًا ، وَمَنْعُهُ
تَسْمِيَةَ أَبِي جَهْلٍ بِأَبِي الْحَكَمِ وَكَذَلِكَ تَغْيِيرُهُ
لِاسْمِ أَبِي الْحَكَمِ مِنْ الصّحَابَةِ بِأَبِي شُرَيْحٍ وَقَالَ إنّ
اللّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ وَمِنْ ذَلِكَ نَهْيُهُ
لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يَقُولَ لِسَيّدِهِ أَوْ لِسَيّدَتِهِ رَبّي وَرَبّتِي
، وَلِلسّيّدِ أَنْ يَقُولَ لِمَمْلُوكِهِ عَبْدِي ، وَلَكِنْ يَقُولُ
الْمَالِكُ فَتَايَ وَفَتَاتِي ، وَيَقُولُ الْمَمْلُوكُ سَيّدِي
وَسَيّدَتِي ، وَقَالَ لِمَنْ ادّعَى أَنّهُ طَبِيبٌ أَنْتَ رَجُلٌ
رَفِيقٌ ، وَطَبِيبُهَا الّذِي خَلَقَهَا وَالْجَاهِلُونَ يُسَمّونَ
الْكَافِرَ الّذِي لَهُ عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْ الطّبِيعَةِ حَكِيمًا ،
وَهُوَ مِنْ أَسْفَهِ الْخَلْقِ . [ ص 322 ] قَالَ مَنْ يُطِعْ اللّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى بِئْسَ
الْخَطِيبُ أَنْتَ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ لَا تَقُولُوا : مَا شَاءَ
اللّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ ، وَلَكِنْ قُولُوا : مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ مَا
شَاءَ فُلَانٌ وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مَا شَاءَ اللّهُ وَشِئْتَ فَقَال :
أَجَعَلْتَنِي لِلّهِ نِدّا ؟ قُلْ مَا شَاءَ اللّهُ وَحْدَه وَفِي
مَعْنَى هَذَا الشّرْكِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ قَوْلُ مَنْ لَا يَتَوَقّى
الشّرْكَ أَنَا بِاَللّهِ وَبِكَ وَأَنَا فِي حَسْبِ اللّهِ وَحَسْبِكَ
وَمَا لِي إلّا اللّهُ وَأَنْتَ وَأَنَا مُتَوَكّلٌ عَلَى اللّهِ
وَعَلَيْك ، وَهَذَا مِنْ اللّهِ وَمِنْك ، وَاَللّهُ لِي فِي السّمَاءِ
وَأَنْت لِي فِي الْأَرْضِ وَوَاللّهِ وَحَيَاتِك ، وَأَمْثَالُ هَذَا
مِنْ الْأَلْفَاظِ الّتِي يَجْعَلُ فِيهَا قَائِلُهَا الْمَخْلُوقَ نِدّا
لِلْخَالِقِ وَهِيَ أَشَدّ مَنْعًا وَقُبْحًا مِنْ قَوْلِهِ مَا شَاءَ
اللّهُ وَشِئْتَ . فَأَمّا إذَا قَالَ أَنَا بِاَللّهِ ثُمّ بِك ، وَمَا
شَاءَ اللّهُ ثُمّ شِئْت ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ
الثّلَاثَةِ لَا بَلَاغَ لِيَ الْيَوْمَ إلّا بِاَللّهِ ثُمّ بِك وَكَمَا
فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدّمِ الْإِذْنُ أَنْ يُقَالَ مَا شَاءَ اللّهُ
ثُمّ شَاءَ فُلَانٌ . [ ص 323 ]
فَصْلٌ [ كَرَاهَةُ إطْلَاقِ أَلْفَاظِ الذّمّ عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ]
وَأَمّا
الْقِسْمُ الثّانِي وَهُوَ أَنْ تُطْلَقَ أَلْفَاظُ الذّمّ عَلَى مَنْ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، فَمِثْل نَهْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَنْ سَبّ الدّهْرِ وَقَالَ إنّ اللّهَ هُوَ الدّهْرُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ
يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ فَيَسُبّ الدّهْرَ
وَأَنَا الدّهْرُ بِيَدِيَ الْأَمْرُ أُقَلّبُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ وَفِي
حَدِيثٍ آخَرَ لَا يَقُولَنّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدّهْرِ فِي هَذَا
ثَلَاثُ مَفَاسِدَ عَظِيمَةٌ . إحْدَاهَا : سَبّهُ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ
أَنْ يُسَبّ فَإِنّ الدّهْرَ خَلْقٌ مُسَخّرٌ مِنْ خَلْقِ اللّهِ
مُنْقَادٌ لِأَمْرِهِ مُذَلّلٌ لِتَسْخِيرِهِ فَسَابّهُ أَوْلَى بِالذّمّ
وَالسّبّ مِنْهُ . الثّانِيَةُ أَنّ سَبّهُ مُتَضَمّنٌ لِلشّرْكِ فَإِنّهُ
إنّمَا سَبّهُ لِظَنّهِ أَنّهُ يَضُرّ وَيَنْفَعُ وَأَنّهُ مَعَ ذَلِكَ
ظَالِمٌ قَدْ ضَرّ مَنْ لَا يَسْتَحِقّ الضّرَرَ وَأَعْطَى مَنْ لَا
يَسْتَحِقّ الْعَطَاءَ وَرَفَعَ مَنْ لَا يَسْتَحِقّ الرّفْعَةَ وَحَرَمَ
مَنْ لَا يَسْتَحِقّ الْحِرْمَانَ وَهُوَ عِنْدَ شَاتِمِيهِ مِنْ أَظْلَمِ
الظّلَمَةِ وَأَشْعَارُ هَؤُلَاءِ الظّلَمَةِ الْخَوَنَةِ فِي سَبّهِ
كَثِيرَةٌ جِدّا . وَكَثِيرٌ مِنْ الْجُهّالِ يُصَرّحُ بِلَعْنِهِ
وَتَقْبِيحِهِ . [ ص 324 ] الثّالِثَةُ أَنّ السّبّ مِنْهُمْ إنّمَا
يَقَعُ عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الّتِي لَوْ اتّبَعَ
الْحَقّ فِيهَا أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ
وَإِذَا وَقَعَتْ أَهْوَاؤُهُمْ حَمِدُوا الدّهْرَ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ .
وَفِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَرَبّ الدّهْرِ تَعَالَى هُوَ الْمُعْطِي
الْمَانِعُ الْخَافِضُ الرّافِعُ الْمُعِزّ الْمُذِلّ ، وَالدّهْرُ لَيْسَ
لَهُ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ فَمَسَبّتُهُمْ لِلدّهْرِ مَسَبّةٌ لِلّهِ
عَزّ وَجَلّ وَلِهَذَا كَانَتْ مُؤْذِيَةً لِلرّبّ تَعَالَى ، كَمَا فِي "
الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : يُؤْذِينِي ابْنُ
آدَمَ يَسُبّ الدّهْرَ وَأَنَا الدّهْرُ فَسَابّ الدّهْرِ دَائِرٌ بَيْنَ
أَمْرَيْنِ لَا بُدّ لَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا . إمّا سَبّهُ لِلّهِ أَوْ
الشّرْكُ بِهِ فَإِنّهُ إذَا اعْتَقَدَ أَنّ الدّهْرَ فَاعِلٌ مَعَ اللّهِ
فَهُوَ مُشْرِكٌ وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنّ اللّهَ وَحْدَهُ هُوَ الّذِي
فَعَلَ ذَلِك وَهُوَ يَسُبّ مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ سَبّ اللّهَ . وَمِنْ
هَذَا قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَقُولَنّ أَحَدُكُمْ
تَعِسَ الشّيْطَانُ فَإِنّهُ يَتَعَاظَمُ حَتّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ
فَيَقُولُ بِقُوّتِي صَرَعْتُهُ وَلَكِنْ لِيَقُلْ بِسْمِ اللّهِ فَإِنّهُ
يَتَصَاغَرُ حَتّى يَكُونَ مِثْلَ الذّبَابِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ إنّ
الْعَبْدَ إذَا لَعَنَ الشّيْطَانَ يَقُولُ : إنّكَ لَتَلْعَنُ مُلْعَنًا
وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ الْقَائِلِ أَخْزَى اللّهُ الشّيْطَانَ وَقَبّحَ
اللّهُ الشّيْطَانَ فَإِنّ ذَلِكَ كُلّهُ يُفْرِحُهُ وَيَقُولُ عَلِمَ
ابْنُ آدَمَ أَنّي قَدْ نِلْته بِقُوّتِي ، وَذَلِك مِمّا يُعِينُهُ عَلَى
إغْوَائِهِ وَلَا يُفِيدُهُ شَيْئًا ، فَأَرْشَدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ مَسّهُ شَيْءٌ مِنْ الشّيْطَانِ أَنْ يَذْكُرَ
اللّهَ تَعَالَى ، وَيَذْكُرَ اسْمَهُ وَيَسْتَعِيذَ بِاَللّهِ مِنْهُ
فَإِنّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ وَأَغْيَظُ لِلشّيْطَانِ . [ ص 325 ]
فَصْلٌ
مِنْ
ذَلِكَ " نَهْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَقُولَ الرّجُلُ
خَبُثَتْ نَفْسِي ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نَفْسِي " وَمَعْنَاهُمَا
وَاحِدٌ أَيْ غَثّتْ نَفْسِي ، وَسَاءَ خُلُقُهَا ، فَكَرِهَ لَهُمْ
لَفْظَ الْخُبْثِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ وَالشّنَاعَةِ
وَأَرْشَدَهُمْ إلَى اسْتِعْمَالِ الْحَسَنِ وَهِجْرَانِ الْقَبِيحِ
وَإِبْدَالِ اللّفْظِ الْمَكْرُوهِ بِأَحْسَنَ مِنْهُ .
[ النّهْيُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَوَانِ " لَوْ أَنّي فَعَلْت كَذَا ] "
وَمِنْ
ذَلِكَ نَهْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ
بَعْدَ فَوَاتِ الْأَمْرِ لَوْ أَنّي فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا ، وَقَالَ
إنّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَان وَأَرْشَدَهُ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ
لَهُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدّرَ اللّهُ وَمَا
شَاءَ فَعَلَ وَذَلِكَ لِأَنّ قَوْلَهُ لَوْ كُنْتُ فَعَلْتُ كَذَا
وَكَذَا ، لَمْ يَفُتْنِي مَا فَاتَنِي ، أَوْ لَمْ أَقَعْ فِيمَا
وَقَعْتُ فِيهِ كَلَامٌ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ فَائِدَةً الْبَتّةَ
فَإِنّهُ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِمَا اسْتَدْبَرَ مِنْ أَمْرِهِ وَغَيْرُ
مُسْتَقِيلٍ عَثْرَتَهُ ب " لَوْ " وَفِي ضِمْنِ " لَوْ " ادّعَاءُ أَنّ
الْأَمْرَ لَوْ كَانَ كَمَا قَدّرَهُ فِي نَفْسِهِ لَكَانَ غَيْرَ مَا
قَضَاهُ اللّهُ وَقَدّرَهُ وَشَاءَهُ فَإِنّ مَا وَقَعَ مِمّا يَتَمَنّى
خِلَافَهُ إنّمَا وَقَعَ بِقَضَاءِ اللّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ
فَإِذَا قَالَ لَوْ أَنّي فَعَلْتُ كَذَا ، لَكَانَ خِلَافُ مَا وَقَعَ
فَهُوَ مُحَالٌ إذْ خِلَافُ الْمُقَدّرِ الْمَقْضِيّ مُحَالٌ فَقَدْ
تَضَمّنَ كَلَامُهُ كَذِبًا وَجَهْلًا وَمُحَالًا ، وَإِنْ سَلِمَ مِنْ
التّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ مُعَارَضَتِهِ بِقَوْلِهِ
لَوْ أَنّي فَعَلْتُ كَذَا ، لَدَفَعْتُ مَا قَدّرَ اللّهُ عَلَيّ . [ ص
326 ] فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ فِي هَذَا رَدّ لِلْقَدَرِ وَلَا جَحْدٌ لَهُ
إذْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ الّتِي تَمَنّاهَا أَيْضًا مِنْ الْقَدَرِ فَهُوَ
يَقُولُ لَوْ وَقَفْتُ لِهَذَا الْقَدَرِ لَانْدَفَعَ بِهِ عَنّي ذَلِكَ
الْقَدَرُ فَإِنّ الْقَدَرَ يُدْفَعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ كَمَا يُدْفَعُ
قَدَرُ الْمَرَضِ بِالدّوَاءِ وَقَدَرُ الذّنُوبِ بِالتّوْبَةِ وَقَدَرُ
الْعَدُوّ بِالْجِهَادِ فَكِلَاهُمَا مِنْ الْقَدَرِ . قِيلَ هَذَا حَقّ ،
وَلَكِنّ هَذَا يَنْفَعُ قَبْلَ وُقُوعِ الْقَدَرِ الْمَكْرُوهِ وَأَمّا
إذَا وَقَعَ فَلَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى
دَفْعِهِ أَوْ تَخْفِيفِهِ بِقَدْرٍ آخَرَ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ
قَوْلِهِ لَوْ كُنْتُ فَعَلْته ، بَلْ وَظِيفَتُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
أَنْ يَسْتَقْبِلَ فِعْلَهُ الّذِي يُدْفَعُ بِهِ أَوْ يُخَفّفُ أَثَرُ
مَا وَقَعَ وَلَا يَتَمَنّى مَا لَا مَطْمَعَ فِي وُقُوعِهِ فَإِنّهُ
عَجْزٌ مَحْضٌ وَاَللّهُ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَيُحِبّ الْكَيْسَ
وَيَأْمُرُ بِهِ وَالْكَيْسُ هُوَ مُبَاشَرَةُ الْأَسْبَابِ الّتِي رَبَطَ
اللّهُ بِهَا مُسَبّبَاتِهَا النّافِعَةَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ
وَمَعَادِهِ فَهَذِهِ تَفْتَحُ عَمَلَ الْخَيْرِ وَأَمّا الْعَجْزُ
فَإِنّهُ يَفْتَحُ عَمَلَ الشّيْطَانِ فَإِنّهُ إذَا عَجَزَ عَمّا
يَنْفَعُهُ وَصَارَ إلَى الْأَمَانِيّ الْبَاطِلَةِ بِقَوْلِهِ لَوْ كَانَ
كَذَا وَكَذَا ، وَلَوْ فَعَلْتُ كَذَا ، يَفْتَحُ عَلَيْهِ عَمَلَ
الشّيْطَانِ فَإِنّ بَابَهُ الْعَجْزُ وَالْكَسَلُ وَلِهَذَا اسْتَعَاذَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمَا ، وَهُمَا مِفْتَاحُ
كُلّ شَرّ وَيَصْدُرُ عَنْهُمَا الْهَمّ ، وَالْحَزَنُ وَالْجُبْنُ
وَالْبُخْلُ وَضَلَعُ الدّيْنِ وَغَلَبَةُ الرّجَالِ فَمَصْدَرُهَا
كُلّهَا عَنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَعُنْوَانُهَا " لَوْ " فَلِذَلِكَ
قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّ " لَوْ " تَفْتَحُ
عَمَلَ الشّيْطَان فَالْمُتَمَنّي مِنْ أَعْجَزِ النّاسِ وَأَفْلَسِهِمْ
فَإِنّ التّمَنّيَ رَأْسُ أَمْوَالِ الْمَفَالِيسِ وَالْعَجْزَ مِفْتَاحُ
كُلّ شَرّ . وَأَصْلُ الْمَعَاصِي كُلّهَا الْعَجْزُ فَإِنّ الْعَبْدَ
يَعْجِزُ عَنْ أَسْبَابِ أَعْمَالِ الطّاعَاتِ وَعَنْ الْأَسْبَابِ الّتِي
تُبْعِدُهُ عَنْ الْمَعَاصِي ، وَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، فَيَقَعُ
فِي الْمَعَاصِي ، فَجَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ الشّرِيفُ فِي
اسْتِعَاذَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُصُولَ الشّرّ
وَفُرُوعَهُ وَمَبَادِيهِ وَغَايَاتِهِ وَمَوَارِدَهُ وَمَصَادِرَهُ
وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَمَانِي خِصَالٍ كُلّ خَصْلَتَيْنِ مِنْهَا
قَرِينَتَانِ فَقَالَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَن وَهُمَا
قَرِينَانِ فَإِنّ الْمَكْرُوهَ الْوَارِدَ [ ص 327 ] يَكُونَ سَبَبُهُ
أَمْرًا مَاضِيًا ، فَهُوَ يُحْدِثُ الْحُزْنَ وَإِمّا أَنْ يَكُونَ
تَوَقّعَ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ فَهُوَ يُحْدِثُ الْهَمّ وَكِلَاهُمَا مِنْ
الْعَجْزِ فَإِنّ مَا مَضَى لَا يُدْفَعُ بِالْحُزْنِ بَلْ بِالرّضَى ،
وَالْحَمْدِ وَالصّبْرِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَقَوْلِ الْعَبْدِ
قَدّرَ اللّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ . وَمَا يُسْتَقْبَلُ لَا يُدْفَعُ
أَيْضًا بِالْهَمّ بَلْ إمّا أَنْ يَكُونَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِهِ
فَلَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَإِمّا أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ حِيلَةٌ فِي
دَفْعِهِ فَلَا يَجْزَعُ مِنْهُ وَيَلْبَسُ لَهُ لِبَاسَهُ وَيَأْخُذُ
لَهُ عُدّتَهُ وَيَتَأَهّبُ لَهُ أُهْبَتَهُ اللّائِقَةَ بِهِ
وَيَسْتَجِنّ بِجُنّةٍ حَصِينَةٍ مِنْ التّوْحِيدِ وَالتّوَكّلِ
وَالِانْطِرَاحِ بَيْنَ يَدَيْ الرّبّ تَعَالَى ، وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ
وَالرّضَى بِهِ رَبّا فِي كُلّ شَيْءٍ وَلَا يَرْضَى بِهِ رَبّا فِيمَا
يُحِبّ دُونَ مَا يَكْرَهُ فَإِذَا كَانَ هَكَذَا ، لَمْ يَرْضَ بِهِ
رَبّا عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَرْضَاهُ الرّبّ لَهُ عَبْدًا عَلَى
الْإِطْلَاقِ فَالْهَمّ وَالْحَزَنُ لَا يَنْفَعَانِ الْعَبْدَ الْبَتّةَ
بَلْ مَضَرّتُهُمَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِمَا ، فَإِنّهُمَا
يُضْعِفَانِ الْعَزْمَ وَيُوهِنَانِ الْقَلْبَ وَيَحُولَانِ بَيْنَ
الْعَبْدِ وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَيَقْطَعَانِ
عَلَيْهِ طَرِيقَ السّيْرِ أَوْ يُنَكّسَانِهِ إلَى وَرَاءٍ أَوْ
يَعُوقَانِهِ وَيَقِفَانِهِ أَوْ يَحْجُبَانِهِ عَنْ الْعِلْمِ الّذِي
كُلّمَا رَآهُ شَمّرَ إلَيْهِ وَجَدّ فِي سَيْرِهِ فَهُمَا حِمْلٌ ثَقِيلٌ
عَلَى ظَهْرِ السّائِرِ بَلْ إنْ عَاقَهُ الْهَمّ وَالْحُزْنُ عَنْ
شَهَوَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ الّتِي تَضُرّهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ
انْتَفَعَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهَذَا مِنْ حِكْمَةِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ أَنْ سَلّطَ هَذَيْنِ الْجُنْدَيْنِ عَلَى الْقُلُوبِ
الْمُعْرِضَةِ عَنْهُ الْفَارِغَةِ مِنْ مَحَبّتِهِ [ ص 328 ] أُرِيدَ
بِهَا الْخَيْرُ كَانَ حَظّهَا مِنْ سِجْنِ الْجَحِيمِ فِي مَعَادِهَا ،
وَلَا تَزَالُ فِي هَذَا السّجْنِ حَتّى تَتَخَلّصَ إلَى فَضَاءِ
التّوْحِيدِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللّهِ وَالْأُنْسِ بِهِ وَجَعْلِ
مَحَبّتِهِ فِي مَحِلّ دَبِيبِ خَوَاطِرِ الْقَلْبِ وَوَسَاوِسِهِ
بِحَيْثُ يَكُونُ ذِكْرُهُ تَعَالَى وَحُبّهُ وَخَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ
وَالْفَرَحُ بِهِ وَالِابْتِهَاجُ بِذِكْرِهِ هُوَ الْمُسْتَوْلِي عَلَى
الْقَلْبِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الّذِي مَتَى فَقَدَهُ فَقَدَ قُوتَهُ
الّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إلّا بِهِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ بِدُونِهِ وَلَا
سَبِيلَ إلَى خَلَاصِ الْقَلْبِ مِنْ هَذِهِ الْآلَامِ الّتِي هِيَ
أَعْظَمُ أَمْرَاضِهِ وَأَفْسَدُهَا لَهُ إلّا بِذَلِكَ وَلَا بَلَاغَ
إلّا بِاَللّهِ وَحْدَهُ فَإِنّهُ لَا يُوصِلُ إلَيْهِ إلّا هُوَ وَلَا
يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلّا هُوَ وَلَا يَصْرِفُ السّيّئَاتِ إلّا هُوَ
وَلَا يَدُلّ عَلَيْهِ إلّا هُوَ وَإِذَا أَرَادَ عَبْدَهُ لِأَمْرٍ
هَيّأَهُ لَهُ فَمِنْهُ الْإِيجَادُ وَمِنْهُ الْإِعْدَامُ وَمِنْهُ
الْإِمْدَادُ وَإِذَا أَقَامَهُ فِي مَقَامِ أَيّ مَقَامٍ كَانَ
فَبِحَمْدِهِ أَقَامَهُ فِيهِ وَبِحِكْمَتِهِ أَقَامَهُ فِيهِ وَلَا
يَلِيقُ بِهِ غَيْرُهُ وَلَا يَصْلُحُ لَهُ سِوَاهُ وَلَا مَانِعَ لِمَا
أَعْطَى اللّهُ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَلَا يَمْنَعُ عَبْدَهُ
حَقّا هُوَ لِلْعَبْدِ فَيَكُونُ بِمَنْعِهِ ظَالِمًا لَهُ بَلْ إنّمَا
مَنَعَهُ لِيَتَوَسّلَ إلَيْهِ بِمَحَابّهِ لِيَعْبُدَهُ وَلِيَتَضَرّعَ
إلَيْهِ وَيَتَذَلّلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَتَمَلّقَهُ وَيُعْطِي فَقْرُهُ
إلَيْهِ حَقّهُ بِحَيْثُ يَشْهَدُ فِي كُلّ ذَرّةٍ مِنْ ذَرّاتِهِ
الْبَاطِنَةِ وَالظّاهِرَةِ فَاقَةً تَامّةً إلَيْهِ عَلَى تَعَاقُبِ
الْأَنْفَاسِ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ
يَشْهَدْهُ الْعَبْدُ فَلَمْ يَمْنَعْ الرّبّ عَبْدَهُ مَا الْعَبْدُ
مُحْتَاجٌ إلَيْهِ بُخْلًا مِنْهُ وَلَا نَقْصًا مِنْ خَزَائِنِهِ وَلَا
اسْتِئْثَارًا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ حَقّ لِلْعَبْدِ بَلْ مَنَعَهُ
لِيَرُدّهُ إلَيْهِ وَلِيُعِزّهُ بِالتّذَلّلِ لَهُ وَلِيُغْنِيَهُ
بِالِافْتِقَارِ إلَيْهِ وَلِيَجْبُرَهُ بِالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ
وَلِيُذِيقَهُ بِمَرَارَةِ الْمَنْعِ حَلَاوَةَ الْخُضُوعِ لَهُ وَلَذّةَ
الْفَقْرِ إلَيْهِ وَلِيُلْبِسَهُ خِلْعَةَ الْعُبُودِيّةِ وَيُوَلّيهِ
بِعَزْلِهِ أَشْرَفَ الْوِلَايَاتِ وَلِيُشْهِدَهُ حِكْمَتَهُ فِي
قُدْرَتِهِ وَرَحْمَتَهُ فِي عِزّتِهِ وَبِرّهُ وَلُطْفَهُ فِي قَهْرِهِ .
وَأَنّ مَنْعَهُ عَطَاءٌ وَعَزْلَهُ تَوْلِيَةٌ . وَعُقُوبَتَهُ تَأْدِيبٌ
وَامْتِحَانَهُ مَحَبّةٌ وَعَطِيّةٌ وَتَسْلِيطَ أَعْدَائِهِ عَلَيْهِ
سَائِقٌ يَسُوقهُ بِهِ إلَيْهِ . [ ص 329 ] وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَلِيقُ
بِالْعَبْدِ غَيْرُ مَا أُقِيمَ فِيهِ وَحِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ أَقَامَاهُ
فِي مَقَامِهِ الّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ سِوَاهُ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ
يَتَخَطّاهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ مَوَاقِعَ عَطَائِهِ
وَفَضْلِهِ وَ { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } {
وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنّ
اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشّاكِرِينَ } [ الْأَنْعَامُ 53 ] فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
بِمَوَاقِعِ الْفَضْلِ وَمَحَالّ التّخْصِيصِ وَمَحَالّ الْحِرْمَانِ
فَبِحَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ أَعْطَى ، وَبِحَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ حَرَمَ
فَمَنْ رَدّهُ الْمَنْعُ إلَى الِافْتِقَارِ إلَيْهِ وَالتّذَلّلِ لَهُ
وَتَمَلّقِهِ انْقَلَبَ الْمَنْعُ فِي حَقّهِ عَطَاءً وَمَنْ شَغَلَهُ
عَطَاؤُهُ وَقَطَعَهُ عَنْهُ انْقَلَبَ الْعَطَاءُ فِي حَقّهِ مَنْعًا ،
فَكُلّ مَا شَغَلَ الْعَبْدَ عَنْ اللّهِ فَهُوَ مَشْئُومٌ عَلَيْهِ
وَكُلّ مَا رَدّهُ إلَيْهِ فَهُوَ رَحْمَةٌ بِهِ وَالرّبّ تَعَالَى
يُرِيدُ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يَقَعُ الْفِعْلُ حَتّى
يُرِيدَ سُبْحَانَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُعِينَهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ
أَرَادَ مِنّا الِاسْتِقَامَةَ دَائِمًا ، وَاِتّخَاذَ السّبِيلِ إلَيْهِ
وَأَخْبَرَنَا أَنّ هَذَا الْمُرَادَ لَا يَقَع حَتّى يُرِيدَ مِنْ
نَفْسِهِ إعَانَتَنَا عَلَيْهَا وَمُشِيئَتَهُ لَنَا ، فَهُمَا
إرَادَتَانِ إرَادَةٌ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَفْعَلَ وَإِرَادَةٌ مِنْ
نَفْسِهِ أَنْ يُعِينَهُ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْفِعْلِ إلّا بِهَذِهِ
الْإِرَادَةِ وَلَا يَمْلِكُ مِنْهَا شَيْئًا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : {
وَمَا تَشَاءُونَ إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ } [
التّكْوِيرُ 29 ] فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعَبْدِ رُوحٌ أُخْرَى ،
نِسْبَتُهَا إلَى رُوحِهِ كَنِسْبَةِ رُوحِهِ إلَى بَدَنِهِ يَسْتَدْعِي
بِهَا إرَادَةَ اللّهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا يَكُونُ بِهِ
الْعَبْدُ فَاعِلًا ، وَإِلّا فَمَحَلّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْعَطَاءِ
وَلَيْسَ مَعَهُ إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْعَطَاءُ فَمَنْ جَاءَ بِغَيْرِ
إنَاءٍ رَجَعَ بِالْحِرْمَانِ وَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
وَالْمَقْصُودُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَعَاذَ
مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَنِ وَهُمَا قَرِينَانِ وَمِنْ الْعَجْزِ
وَالْكَسَلِ وَهُمَا قَرِينَانِ فَإِنْ تَخَلّفَ كَمَالُ الْعَبْدِ
وَصَلَاحُهُ عَنْهُ إمّا أَنْ يَكُونَ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ
فَهُوَ عَجْزٌ أَوْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَكِنْ لَا يُرِيدُ فَهُوَ
كَسَلٌ وَيَنْشَأُ عَنْ هَاتَيْنِ الصّفّتَيْنِ فَوَاتُ كُلّ خَيْرٍ
وَحُصُولُ كُلّ شَرّ وَمِنْ ذَلِكَ الشّرّ تَعْطِيلُهُ عَنْ النّفْعِ
بِبَدَنِهِ وَهُوَ الْجُبْنُ وَعَنْ النّفْعِ بِمَالِهِ وَهُوَ الْبُخْلُ
ثُمّ يَنْشَأُ لَهُ بِذَلِكَ غَلَبَتَانِ . غَلَبَةٌ بِحَقّ وَهِيَ
غَلَبَةُ الدّيْنِ وَغَلَبَةٌ بِبَاطِلٍ وَهِيَ غَلَبَةُ الرّجَالِ وَكُلّ
هَذِهِ الْمَفَاسِدِ ثَمَرَةُ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَمِنْ هَذَا
قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ لِلرّجُلِ الّذِي [ ص 330 ] قَضَى
عَلَيْهِ فَقَالَ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل فَقَال : إنّ اللّهَ
يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ فَإِذَا
غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل فَهَذَا قَالَ
حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ الْكَيْسِ
الّذِي لَوْ قَامَ بِهِ لَقُضِيَ لَهُ عَلَى خَصْمِهِ فَلَوْ فَعَلَ
الْأَسْبَابَ الّتِي يَكُونُ بِهَا كَيّسًا ، ثُمّ غُلِبَ فَقَالَ
حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ لَكَانَتْ الْكَلِمَةُ قَدْ وَقَعَتْ
مَوْقِعَهَا ، كَمَا أَنّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ ، لَمّا فَعَلَ
الْأَسْبَابَ الْمَأْمُورَ بِهَا ، وَلَمْ يَعْجِزْ بِتَرْكِهَا ، وَلَا
بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهَا ، ثُمّ غَلَبَهُ عَدُوّهُ وَأَلْقَوْهُ فِي
النّارِ قَالَ فِي تِلْكَ الْحَالِ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل
فَوَقَعَتْ الْكَلِمَةُ مَوْقِعَهَا ، وَاسْتَقَرّتْ فِي مَظَانّهَا ،
فَأَثّرَتْ أَثَرَهَا ، وَتَرَتّبَ عَلَيْهَا مُقْتَضَاهَا .
[ التّوَكّلُ ]
وَكَذَلِكَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ
أُحُد ٍ لَمّا قِيلَ لَهُمْ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ أُحُدٍ : إنّ
النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَتَجَهّزُوا وَخَرَجُوا
لِلِقَاءِ عَدُوّهِمْ وَأَعْطَوْهُمْ الْكَيْسَ مِنْ نُفُوسِهِمْ ثُمّ
قَالُوا : { حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فَأَثّرَتْ
الْكَلِمَةُ أَثَرَهَا ، وَاقْتَضَتْ مُوجَبَهَا ، وَلِهَذَا قَالَ
تَعَالَى : { وَمَنْ يَتّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ
مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ } [ الطّلَاقُ 2 ] فَجَعَلَ التّوَكّلَ بَعْدَ التّقْوَى الّذِي
هُوَ قِيَامُ الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا ، فَحِينَئِذٍ إنْ تَوَكّلَ
عَلَى اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وَكَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {
وَاتّقُوا اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [
الْمَائِدَةُ 11 ] فَالتّوَكّلُ وَالْحَسْبُ بِدُونِ قِيَامِ [ ص 331 ]
كَانَ مَشُوبًا بِنَوْعٍ مِنْ التّوَكّلِ فَهُوَ تَوَكّلُ عَجْزٍ فَلَا
يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْعَلَ تَوَكّلَهُ عَجْزًا ، وَلَا يَجْعَلَ
عَجْزَهُ تَوَكّلًا ، بَلْ يَجْعَلُ تَوَكّلَهُ مِنْ جُمْلَةِ
الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا الّتِي لَا يَتِمّ الْمَقْصُودُ إلّا
بِهَا كُلّهَا . وَمِنْ هَاهُنَا غَلِطَ طَائِفَتَانِ مِنْ النّاسِ
إحْدَاهُمَا : زَعَمَتْ أَنّ التّوَكّلَ وَحْدَهُ سَبَبٌ مُسْتَقِلّ كَافٍ
فِي حُصُولِ الْمُرَادِ فَعُطّلَتْ لَهُ الْأَسْبَابُ الّتِي اقْتَضَتْهَا
حِكْمَةُ اللّهِ الْمُوصِلَةُ إلَى مُسَبّبَاتهَا ، فَوَقَعُوا فِي نَوْعِ
تَفْرِيطٍ وَعَجْزٍ بِحَسَبِ مَا عَطّلُوا مِنْ الْأَسْبَابِ وَضَعُفَ
تَوَكّلُهُمْ مِنْ حَيْثُ ظَنّوا قُوّتَهُ بِانْفِرَادِهِ عَنْ
الْأَسْبَابِ فَجَمَعُوا الْهَمّ كُلّهُ وَصَيّرُوهُ هَمّا وَاحِدًا ،
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُوّةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَفِيهِ ضَعْفٌ
مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، فَكُلّمَا قَوِيَ جَانِبُ التّوَكّلِ بِإِفْرَادِهِ
أَضْعَفَهُ التّفْرِيطُ فِي السّبَبِ الّذِي هُوَ مَحَلّ التّوَكّلِ
فَإِنّ التّوَكّلَ مَحَلّهُ الْأَسْبَابُ وَكَمَالُهُ بِالتّوَكّلِ عَلَى
اللّهِ فِيهَا ، وَهَذَا كَتَوَكّلِ الْحَرّاثِ الّذِي شَقّ الْأَرْضَ
وَأَلْقَى فِيهَا الْبَذْرَ فَتَوَكّلَ عَلَى اللّهِ فِي زَرْعِهِ
وَإِنْبَاتِهِ فَهَذَا قَدْ أَعْطَى التّوَكّلَ حَقّهُ وَلَمْ يَضْعُفْ
تَوَكّلُهُ بِتَعْطِيلِ الْأَرْضِ وَتَخْلِيَتِهَا بُورًا ، وَكَذَلِكَ
تَوَكّلُ الْمُسَافِرِ فِي قَطْعِ الْمَسَافَةِ مَعَ جِدّهِ فِي السّيْرِ
وَتَوَكّلُ الْأَكْيَاسِ مِنْ النّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللّهِ وَالْفَوْزِ
بِثَوَابِهِ مَعَ اجْتِهَادِهِمْ فِي طَاعَتِهِ فَهَذَا هُوَ التّوَكّلُ
الّذِي يَتَرَتّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَيَكُونُ اللّهُ حَسْبَ مَنْ قَامَ
بِهِ . وَأَمّا تَوَكّلُ الْعَجْزِ وَالتّفْرِيطِ فَلَا يَتَرَتّبُ
عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَلَيْسَ اللّهُ حَسْبَ صَاحِبِهِ فَإِنّ اللّهَ إنّمَا
يَكُون حَسْبَ الْمُتَوَكّلِ عَلَيْهِ إذَا اتّقَاهُ وَتَقْوَاهُ فِعْلُ
الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا ، لَا إضَاعَتُهَا . وَالطّائِفَةُ
الثّانِيَةُ الّتِي قَامَتْ بِالْأَسْبَابِ وَرَأَتْ ارْتِبَاطَ
الْمُسَبّبَاتِ بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا ، وَأَعْرَضَتْ عَنْ جَانِبِ
التّوَكّلِ وَهَذِهِ الطّائِفَةُ وَإِنْ نَالَتْ بِمَا فَعَلَتْهُ مِنْ
الْأَسْبَابِ مَا نَالَتْهُ فَلَيْسَ لَهَا قُوّةُ أَصْحَابِ التّوَكّلِ
وَلَا عَوْنُ اللّهِ لَهُمْ وَكِفَايَتُهُ إيّاهُمْ وَدِفَاعُهُ عَنْهُمْ
بَلْ هِيَ مَخْذُولَةٌ عَاجِزَةٌ بِحَسَبِ مَا فَاتَهَا مِنْ التّوَكّلِ .
فَالْقُوّةُ كُلّ الْقُوّةِ فِي التّوَكّلِ عَلَى اللّهِ كَمَا قَالَ
بَعْضُ السّلَفِ مَنْ سَرّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النّاسِ فَلْيَتَوَكّلْ
عَلَى اللّهِ فَالْقُوّةُ مَضْمُونَةٌ لِلْمُتَوَكّلِ وَالْكِفَايَةُ
وَالْحَسْبُ وَالدّفْعُ عَنْهُ وَإِنّمَا يَنْقُصُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ
بِقَدْرِ مَا يَنْقُصُ مِنْ التّقْوَى وَالتّوَكّلِ وَإِلّا [ ص 332 ]
بُدّ أَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ كُلّ مَا ضَاقَ عَلَى
النّاسِ وَيَكُونَ اللّهُ حَسْبَه وَكَافِيَهُ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْشَدَ الْعَبْدَ إلَى مَا
فِيهِ غَايَةُ كَمَالِهِ وَنَيْلُ مَطْلُوبِهِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا
يَنْفَعُهُ وَيَبْذُلَ فِيهِ جَهْدَهُ وَحِينَئِذٍ يَنْفَعُهُ التّحَسّبُ
وَقَوْلُ حَسْبِيَ اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل بِخِلَافِ مَنْ عَجَزَ
وَفَرّطَ حَتّى فَاتَتْهُ مَصْلَحَتُهُ ثُمّ قَالَ حَسْبِيَ اللّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَإِنّ اللّهَ يَلُومُهُ وَلَا يَكُونُ فِي هَذَا
الْحَالِ حَسْبَه ، فَإِنّمَا هُوَ حَسْبُ مَنْ اتّقَاهُ وَتَوَكّلَ
عَلَيْهِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الذّكْر
كَانَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَكْمَلَ الْخَلْقِ ذِكْرًا
لِلّهِ عَزّ وَجَلّ بَلْ كَانَ كَلَامُهُ كُلّهُ فِي ذِكْرِ اللّهِ وَمَا
وَالَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَتَشْرِيعُهُ لِلْأُمّةِ ذِكْرًا
مِنْهُ لِلّهِ وَإِخْبَارُهُ عَنْ أَسْمَاءِ الرّبّ وَصِفَاتِهِ
وَأَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ ذِكْرًا مِنْهُ لَهُ
وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ بِآلَائِهِ وَتَمْجِيدُهُ وَحَمْدُهُ وَتَسْبِيحُهُ
ذِكْرًا مِنْهُ لَهُ وَسُؤَالُهُ وَدُعَاؤُهُ إيّاهُ وَرَغْبَتُهُ
وَرَهْبَتُهُ ذِكْرًا مِنْهُ لَهُ وَسُكُوتُهُ وَصَمْتُهُ ذِكْرًا مِنْهُ
لَهُ بِقَلْبِهِ فَكَانَ ذَاكِرًا لِلّهِ فِي كُلّ أَحْيَانِهِ وَعَلَى
جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَكَانَ ذِكْرُهُ لِلّهِ يَجْرِي مَعَ أَنْفَاسِهِ
قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى جَنْبِهِ وَفِي مَشْيِهِ وَرُكُوبِهِ
وَمَسِيرِهِ وَنُزُولهِ وَظَعْنِهِ وَإِقَامَتِهِ . وَكَانَ إذَا
اسْتَيْقَظَ قَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا
أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النّشُورُ [ ص 333 ]
[ الذّكْرُ عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مَنّ اللّيْلِ ]
وَقَالَتْ
عَائِشَة ُ كَانَ إذَا هَبّ مِنْ اللّيْلِ كَبّرَ اللّهَ عَشْرًا ،
وَحَمِدَ اللّهَ عَشْرًا ، وَقَالَ سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ عَشْرًا
، سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدّوسِ عَشْرًا ، وَاسْتَغْفَرَ اللّهَ عَشْرًا
، وَهَلّلَ عَشْرًا ثُمّ قَالَ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مَنّ ضِيقِ
الدّنْيَا ، وَضِيقِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَشْرًا ، ثُمّ يَسْتَفْتِحُ
الصّلَاةَ . وَقَالَتْ أَيْضًا : كَانَ إذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ اللّيْلِ
قَالَ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ اللّهُمّ أَسْتَغْفِرُكَ
لِذَنْبِي ، وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ اللّهُمّ زِدْنِي عِلْمًا وَلَا
تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنِي ، وَهَبْ لِي مَنّ لَدُنْكَ
رَحْمَةً إنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ ذَكَرَهُمَا أَبُو دَاوُد َ .
وَأَخْبَرَ أَنّ مَنّ اسْتَيْقَظَ مَنّ اللّيْلِ فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا
اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ
عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسُبْحَانَ اللّهِ وَلَا
إلَهَ إلّا اللّهُ وَاَللّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا
بِاَللّهِ [ الْعَلِيّ الْعَظِيمِ ] ثُمّ قَالَ " اللّهُمّ اغْفِرْ لِي
أَوْ دَعَا بِدُعَاءٍ آخَرَ اُسْتُجِيبَ لَهُ فَإِنْ تَوَضّأَ وَصَلّى ،
قُبِلَتْ صَلَاتُهُ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ . [ ص 334 ] وَقَالَ ابْنُ
عَبّاسٍ عَنْهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْلَةَ مَبِيتِهِ
عِنْدَهُ إنّهُ لَمّا اسْتَيْقَظَ رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السّمَاءِ
وَقَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِيمَ مَنّ سُورَةِ ( آلِ عِمْرَانَ
) { إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } . .. إلَى آخِرِهَا .
ثُمّ قَالَ اللّهُمّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيّمُ السّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقّ ، وَوَعْدُكَ
الْحَقّ ، وَقَوْلُكَ الْحَقّ ، وَلِقَاؤُكَ حَقّ ، وَالْجَنّةُ حَقّ ،
وَالنّارُ حَقّ ، وَالنّبِيّونَ حَقّ ، وَمُحَمّدٌ حَقّ ، وَالسّاعَةُ
حَقّ ، اللّهُمّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكّلْتُ
وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي
مَا قَدّمْتُ وَمَا أَخّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ
إلَهِي ، لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ
الْعَلِيّ الْعَظِيمِ وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ إذَا قَامَ مِنْ
اللّيْلِ قَالَ ا للّهُمّ رَبّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ
فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ أَنْتَ
تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي
لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقّ بِإِذْنِك ، إنّكَ تَهْدِي مَنّ
تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ ص 335 ] قَالَتْ كَانَ يَفْتَتِحُ
صَلَاتَهُ بِذَلِكَ . وَكَانَ إذَا أَوْتَرَ خَتَمَ وِتْرَهُ بَعْدَ
فَرَاغِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدّوسِ ثَلَاثًا ، وَيَمُدّ
بِالثّالِثَةِ صَوْتَهُ .
[ الذّكْرُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مَنّ الْبَيْت ] ِ
وَكَانَ
إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يَقُولُ بِسْمِ اللّهِ تَوَكّلْت عَلَى اللّهِ
، اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلّ أَوْ أُضَلّ أَوْ أَزِلّ أَوْ
أُزَلّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيّ
حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنّ قَالَ
إذَا خَرَجَ مَنّ بَيْتِهِ : بِسْمِ اللّهِ تَوَكّلْت عَلَى اللّهِ ،
وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ يُقَالُ لَهُ هُدِيتَ وَكُفِيتَ
وَوُقِيتَ وَتَنَحّى عَنْهُ الشّيْطَانُ [ ص 336 ] وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ
عَنْهُ لَيْلَةَ مَبِيتِهِ عِنْدهُ إنّهُ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ
وَهُوَ يَقُولُ اللّهُمّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا ، وَاجْعَلْ فِي
لِسَانِي نُورًا ، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا ، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي
نُورًا ، وَاجْعَلْ مَنّ خَلْفِي نُورًا ، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا ،
وَاجْعَلْ مَنّ فَوْقِي نُورًا ، وَاجْعَلْ مِنْ تَحْتِي نُورًا ،
اللّهُمّ أَعْظِمْ لِي نُورًا وقال فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ ، عَنْ
عَطِيّةَ الْعَوْفِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قال : قَالَ رَسُولُ
اللّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِهِ إلى
الصّلَاةِ فَقَال : اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ بِحَقّ السّائِلِينَ
عَلَيْكَ وَبِحَقّ مَمْشَايَ هَذَا إلَيْكَ فَإِنّي لَمْ أَخْرُجْ بَطَرًا
وَلَا أَشَرًا ، وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً وَإِنّمَا خَرَجْتُ
اتّقَاءَ سَخَطِك ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ أَسْأَلُكَ أَنْ تُنْقِذَنِي
مِنْ النّارِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي ، فَإِنّهُ لَا يَغْفِرُ
الذّنُوبَ إلّا أَنْتَ إلّا وَكّلَ اللّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ
يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَأَقْبَلَ اللّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ حَتّى
يَقْضِيَ صَلَاتَهُ
[ دُعَاءُ دُخُولِ الْمَسْجِد]
وَذَكَرَ أَبُو
دَاوُد َ عَنْهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ
الْمَسْجِدَ قَالَ أَعُوذُ بِاَللّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ
، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنْ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ فَإِذَا قَال
ذَلِكَ قَالَ الشّيْطَانُ حُفِظَ مِنّي سَائِرَ الْيَوْم وَقَالَ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ
فَلْيُسَلّمْ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلْيَقُلْ
اللّهُمّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ فَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ
اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِكَ [ ص 337 ] أَنّهُ كَانَ إذَا
دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلّى عَلَى مُحَمّدٍ وَآلِهِ وَسَلّمَ ثُمّ يَقُولُ
اللّهُمّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك ،
فَإِذَا خَرَجَ صَلّى عَلَى مُحَمّدٍ وَآلِهِ وَسَلّمَ ثُمّ يَقُولُ
اللّهُمّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ وَكَانَ
إذَا صَلّى الصّبْحَ جَلَسَ فِي مُصَلّاهُ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ
يَذْكُرُ اللّهَ عَزّ وَجَلّ .
[ أَدْعِيَةُ الصّبَاحِ وَالْمَسَاءِ ]
وَكَانَ
يَقُولُ إذَا أَصْبَحَ اللّهُمّ بِكَ أَصْبَحْنَا ، وَبِكَ أَمْسَيْنَا ،
وَبِكَ نَحْيَا ، وَبِكَ نَمُوتُ وَإِلَيْكَ النّشُورُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَكَانَ يَقُولُ أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلّهِ . وَالْحَمْدُ
لِلّهِ وَلَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ رَبّ أَسْأَلُكَ
خَيْرَ مَا فِي هَذَا الْيَوْمِ وَخَيْرَ مَا بَعْدَهُ وَأَعُوذُ بِكَ
مِنْ شَرّ هَذَا الْيَوْمِ وَشَرّ مَا بَعْدَهُ رَبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ
الْكَسَلِ وَسُوءِ الْكِبَرِ رَبّ أَعُوذُ بِكَ مَنّ عَذَابٍ فِي النّارِ
وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ وَإِذَا أَمْسَى قَال : أَمْسَيْنَا وَأَمْسَى
الْمُلْكُ لِلّهِ . .. إلَى آخِرِهِ . [ ص 338 ] ذَكَرَهُ مُسْلِم ٌ .
وَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيق رَضِيَ اللّه عَنْهُ مُرْنِي
بِكَلِمَاتٍ أَقُولُهُنّ إذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ قَالَ قُلْ
اللّهُمّ فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ
وَالشّهَادَةِ رَبّ كُلّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ وَمَالِكَهُ أَشْهَدُ أَنْ
لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ نَفْسِي ، وَمِنْ شَرّ
الشّيْطَانِ وَشِرْكهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ
أَجُرّهُ إلَى مُسْلِمٍ قَالَ قُلْهَا إذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ
وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَقَالَ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُولُ فِي صَبَاحِ كُلّ يَوْمٍ
وَمَسَاءِ كُلّ لَيْلَةٍ بِسْمِ اللّهِ الّذِي لَا يَضُرّ مَعَ اسْمِهِ
شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السّمَاءِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ
ثَلَاثَ مَرّاتٍ إلّا لَمْ يَضُرّهُ شَيْءٌ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَقَالَ
مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي : رَضِيتُ بِاَللّهِ رَبّا ،
وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمّدٍ نَبِيّا ، كَانَ حَقّا عَلَى
اللّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ صَحّحَهُ التّرْمِذِيّ وَالْحَاكِمُ . [ ص 339 ]
وَقَالَ مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي : اللّهُمّ إنّي
أَصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلَائِكَتَكَ
وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أَنّكَ أَنْتَ اللّهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ "
وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ أَعْتَقَ اللّهُ رُبْعَهُ مِنْ
النّارِ وَإِنْ قَالَهَا مَرّتَيْنِ أَعْتَقَ اللّهُ نِصْفَهُ مِنْ
النّارِ وَإِنْ قَالَهَا ثَلَاثًا ، أَعْتَقَ اللّهُ ثَلَاثَةَ
أَرْبَاعِهِ مِنْ النّارِ وَإِنْ قَالَهَا أَرْبَعًا ، أَعْتَقَهُ اللّهُ
مِنْ النّارِ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَقَالَ مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ
اللّهُمّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مَنّ خَلْقِكَ
فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشّكْرُ
فَقَدْ أَدّى شُكْرَ يَوْمِهِ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حِينَ يُمْسِي ،
فَقَدْ أَدّى شُكْرَ لَيْلَتِهِ حَدِيثٌ حَسَنٌ . [ ص 340 ] وَكَانَ
يَدْعُو حَيْنَ يُصْبِحُ وَحَيْنَ يُمْسِي بِهَذِهِ الدّعَوَاتِ اللّهُمّ
إنّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللّهُمّ إنّي
أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي
وَمَالِي ، اللّهُمّ اُسْتُرْ عَوْرَاتِي ، وَآمِنْ رَوْعَاتِي ، اللّهُمّ
احْفَظْنِي مِنْ بَيْنَ يَدَيّ وَمِنْ خَلْفِي ، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ
شِمَالِي ، وَمِنْ فَوْقِي ، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ
تَحْتِي صَحّحَهُ الْحَاكِمُ . وَقَالَ إذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَقُلْ أَصْبَحْنَا وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ
اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الْيَوْمِ فَتْحَهُ وَنَصْرَهُ
وَنُورَهُ وَبَرَكَتَهُ وَهِدَايَتَهُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ مَا فِيهِ
وَشَرّ مَا بَعْدَهُ ثُمّ إذَا أَمْسَى ، فَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ
حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لِبَعْضِ
بَنَاتِهِ قُولِي حِينَ تُصْبِحِينَ سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ وَلَا
حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ الْعَلِيّ الْعَظِيمِ مَا شَاءَ
اللّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى
كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَيْءٍ عِلْمًا ،
فَإِنّهُ مَنْ قَالَهُنّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ حَتّى يُمْسِيَ وَمَنْ
قَالَهُنّ حِينَ يُمْسِي حُفِظَ حَتّى يُصْبِحَ وَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ
الْأَنْصَارِ : أَلَا أُعَلّمُك كَلَامًا إذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللّهُ
هَمّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ ؟ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ
قُلْ إذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ
الْهَمّ وَالْحَزَنِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ
وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ
الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَالِ قَالَ فَقُلْتهنّ فَأَذْهَبَ اللّهُ هَمّي ،
وَقَضَى عَنّي دَيْنِي [ ص 341 ] وَكَانَ إذَا أَصْبَحَ قَالَ أَصْبَحْنَا
عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ ، وَكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ وَدِينِ نَبِيّنَا
مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمِلّةِ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا مُسْلِمًا ، وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
[ الرّسُولُ مُرْسَلٌ إلَى نَفْسِهِ وَأُمّتِهِ ]
هَكَذَا
فِي الْحَدِيثِ وَدِينِ نَبِيّنَا مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَقَدْ اسْتَشْكَلَهُ بَعْضُهُمْ وَلَهُ حُكْمُ نَظَائِرِهِ
كَقَوْلِهِ فِي الْخُطَبِ وَالتّشَهّدِ فِي الصّلَاةِ أَشْهَدُ أَنّ
مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مُكَلّفٌ بِالْإِيمَانِ بِأَنّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى خَلْقِهِ وَوُجُوبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ
وُجُوبِهِ عَلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيّ إلَى نَفْسِهِ
وَإِلَى الْأُمّةِ الّتِي هُوَ مِنْهُمْ وَهُوَ رَسُولُ اللّهِ إلَى
نَفْسِهِ وَإِلَى أُمّتِهِ . وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لِفَاطِمَةَ ابْنَتِهِ مَا يَمْنَعُكِ أَنْ
تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ : أَنْ تَقُولِي إذَا أَصْبَحْتِ وَإِذَا
أَمْسَيْتِ يَا حَيّ ، يَا قَيّومُ بِك أَسْتَغِيثُ فَأَصْلِحْ لِي
شَأْنِي ، وَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْن وَيُذْكَرُ عَنْهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لِرَجُلٍ شَكَا إلَيْهِ
إصَابَةَ الْآفَاتِ قُلْ إذَا أَصْبَحْتَ بِسْمِ اللّهِ عَلَى نَفْسِي ،
وَأَهْلِي وَمَالِي ، فَإِنّهُ لَا يَذْهَبُ عَلَيْكَ شَيْءٌ [ ص 342 ]
وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ إذَا أَصْبَحَ قَالَ اللّهُمّ إنّي
أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا ، وَرِزْقًا طَيّبًا ، وَعَمَلًا مُتَقَبّلاً
وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ الْعَبْدَ إذَا
قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلَاثَ مَرّاتٍ اللّهُمّ إنّي أَصْبَحْتُ مِنْكَ
فِي نِعْمَةٍ وَعَافِيَةٍ وَسِتْرٍ فَأَتْمِمْ عَلَيّ نِعْمَتَكَ
وَعَافِيَتَك وَسِتْرَكَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِذَا أَمْسَى ،
قَال ذَلِك ، كَانَ حَقّا عَلَى اللّهِ أَنْ يُتِمّ عَلَيْه وَيُذْكَرُ
عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ قَالَ فِي كُلّ
يَوْمٍ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي : حَسْبِيَ اللّهُ لَا إلَهَ إلّا
هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْت وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ سَبْعَ مَرّاتٍ
كَفَاهُ اللّهُ مَا أَهَمّهُ مِنْ أَمْرِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ مَنْ قَالَ
هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي أَوّلِ نَهَارِهِ ، لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ
حَتّى يُمْسِيَ وَمَنْ قَالَهَا آخِرَ نَهَارِهِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ
حَتّى يُصْبِحَ " اللّهُمّ أَنْتَ رَبّي ، لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ ،
عَلَيْكَ تَوَكّلْتُ وَأَنْتَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ مَا شَاءَ اللّهُ
كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا
بِاَللّهِ الْعَلِيّ الْعَظِيمِ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ وَأَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَيْءٍ عِلْمًا ، اللّهُمّ
إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ نَفْسِي ، وَشَرّ كُلّ دَابّةٍ أَنْتَ آخِذٌ
بِنَاصِيَتِهَا ، إنّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم وَقَدْ قِيلَ
لِأَبِي الدّرْدَاءِ [ ص 343 ] فَقَالَ مَا احْتَرَقَ وَلَمْ يَكُنْ
اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِيَفْعَلَ لِكَلِمَاتٍ سَمِعْتهنّ مِنْ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرَهَا . وَقَالَ سَيّدُ
الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ : اللّهُمّ أَنْتَ رَبّي ، لَا
إلَه إلّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ
وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ
لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي ، فَاغْفِرْ لِي إنّهُ لَا
يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلّا أَنْتَ مَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ مُوقِنًا
بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنّةَ وَمَنْ قَالَهَا حِينَ
يُمْسِي مُوقِنًا بِهَا ، فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنّةَ
وَمَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي : سُبْحَانَ اللّهِ
وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرّةٍ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
بِأَفْضَلَ مِمّا جَاءَ بِهِ إلّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ
زَادَ عَلَيْهِ " . وَقَالَ " مَنْ قَالَ حَيْنَ يُصْبِحُ عَشْرَ مَرّاتٍ
لَا إلَه إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ
الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَتَبَ اللّهُ بِهَا عَشْرَ
حَسَنَاتٍ وَمَحَا عَنْهُ بِهَا عَشْرَ سَيّئَاتٍ وَكَانَتْ كَعَدْلِ
عَشْرِ رِقَابٍ وَأَجَارَهُ اللّهُ يَوْمَهُ مِنْ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ
وَإِذَا أَمْسَى فَمِثْلُ ذَلِكَ حَتّى يُصْبِحَ [ ص 344 ] وَقَالَ مَنْ
قَالَ حِينَ يُصْبِحُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فِي
الْيَوْمِ مِائَةَ مَرّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرَ رِقَابٍ وَكُتِبَ
لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ
حِرْزًا مِنْ الشّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ
أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمّا جَاءَ بَهْ إلّا رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ
وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَغَيْرهِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَلّمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَعَاهَدَ بِهِ أَهْلَهُ
فِي كُلّ صَبَاحٍ لَبّيْكَ اللّهُمّ لَبّيْكَ لَبّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ،
وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَمِنْكَ وَبِكَ وَإِلَيْكَ اللّهُمّ مَا قُلْتُ
مِنْ قَوْلٍ أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ
فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ كُلّهِ مَا شِئْتَ كَانَ وَمَا لَمْ
تَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِكَ إنّكَ عَلَى كُلّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ اللّهُمّ مَا صَلّيْتَ مِنْ صَلَاةٍ فَعَلَى مَنْ صَلّيْتَ
وَمَا لَعَنْتَ مِنْ لَعْنَةٍ فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ أَنْتَ وَلِيّي فِي
الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ
اللّهُمّ فَاطِرَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ
وَالشّهَادَةِ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَإِنّي أَعْهَدُ إلَيْكَ
فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدّنْيَا ، وَأُشْهِدُكَ - وَكَفَى بِكَ شَهِيدًا
- بِأَنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ
لَكَ الْمُلْكُ وَلَكَ الْحَمْدُ وَأَنْتَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ وَأَشْهَدُ أَنّ وَعْدَكَ
حَقّ ، وَلِقَاءَكَ حَقّ ، وَالسّاعَةَ حَقّ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا ،
وَأَنّكَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَأَشْهَدُ أَنّكَ إنْ تَكِلْنِي
إلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إلَى ضَعْفٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ
وَإِنّي لَا أَثِقُ إلّا بِرَحْمَتِكَ فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي كُلّهَا
إنّهُ لَا يَغْفِرُ الذّنُوبَ إلّا أَنْتَ وَتُبْ عَلَيّ إنّكَ أَنْتَ
التّوّابُ الرّحِيمُ [ ص 345 ]
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الذّكْرِ عِنْدَ لُبْسِ الثّوْبِ وَنَحْوِهِ
كَانَ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اسْتَجَدّ ثَوْبًا سَمّاهُ بِاسْمِهِ
عِمَامَةً أَوْ قَمِيصًا ، أَوْ رِدَاءً ثُمّ يَقُولُ اللّهُمّ لَكَ
الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ ، أَسْأَلُكَ خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا
صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّهِ وَشَرّ مَا صُنِعَ لَهُ حَدِيثٌ
صَحِيحٌ . [ ص 346 ] قَالَ مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ : " الْحَمْدُ
لِلّهِ الّذِي كَسَانِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مَنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنّي
وَلَا قُوّةٍ غَفَرَ اللّهُ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَفِي "
جَامِعِ التّرْمِذِيّ " عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُول :
مَنْ لَبِسَ ثَوْبًا جَدِيدًا فَقَالَ " الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي كَسَانِي
مَا أُوَارِي بِهِ عَوْرَتِي ، وَأَتَجَمّلُ بِهِ فِي حَيَاتِي ، ثُمّ
عَمَدَ إلَى الثّوْبِ الّذِي أَخْلَقَ فَتَصَدّقَ بِهِ كَانَ فِي حِفْظِ
اللّهِ وَفِي كَنَفِ اللّهِ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ حَيّا وَمَيّتًا وَصَحّ
عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لِأُمّ خَالِدٍ لَمّا أَلْبَسَهَا الثّوْبَ
الْجَدِيدَ أَبْلِي وَأَخْلِقِي ، ثُمّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي مَرّتَيْن ِ
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
رَأَى عَلَى عُمَرَ ثَوْبًا فَقَالَ أَجَدِيدٌ هَذَا ،أَمْ غَسِيلٌ ؟
فَقَالَ بَلْ غَسِيلٌ فَقَالَ " الْبَسْ جَدِيدًا ، وَعِشْ حَمِيدًا ،
وَمُتْ شَهِيدًا [ ص 347 ]
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ دُخُولِهِ إلَى مَنْزِلِهِ
لَمْ
يَكُنْ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَفْجَأَ أَهْلَهُ بَغْتَةً
يَتَخَوّنُهُمْ وَلَكِنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِهِ عَلَى عِلْمٍ
مِنْهُمْ بِدُخُولِهِ وَكَانَ يُسَلّمُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ إذَا دَخَلَ
بَدَأَ بِالسّؤَالِ أَوْ سَأَلَ عَنْهُمْ وَرُبّمَا قَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ
مَنْ غَدَاء ؟ وَرُبّمَا سَكَتَ حَتّى يُحْضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا
تَيَسّرَ . وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ
كَانَ يَقُولُ إذَا انْقَلَبَ إلَى بَيْتِهِ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي
كَفَانِي ، وَآوَانِي ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَطْعَمَنِي وَسَقَانِي
، وَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي مَنّ عَلَيّ فَأَفْضَلَ أَسْأَلُكَ أَنْ
تُجِيرَنِي مِنْ النّارِ [ ص 348 ] وَثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لِأَنَس ٍ إذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلّمْ
يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِكَ قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ
حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِي " السّنَنِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إذَا وَلَجَ الرّجُلُ بَيْتَهُ فَلْيَقُلْ : اللّهُمّ إنّي
أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ بِسْمِ اللّهِ
وَلَجْنَا ، وَعَلَى اللّهِ رَبّنَا تَوَكّلْنَا ، ثُمّ لْيُسَلّمْ عَلَى
أَهْلِهِ وَفِيهَا عَنْهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَةٌ
كُلّهُمْ ضَامِنٌ عَلَى اللّهِ رَجُلٌ خَرَجَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللّهِ
فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللّهِ حَتّى يَتَوَفّاهُ فَيُدْخِلَهُ الْجَنّةَ
أَوْ يَرُدّهُ بِمَا نَالَ مَنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَرَجُلٌ رَاحَ إلَى
الْمَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللّهِ حَتّى يَتَوَفّاهُ فَيُدْخِلَهُ
الْجَنّةَ أَوْ يَرُدّهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَرَجُلٌ
دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلَامٍ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللّهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا دَخَلَ الرّجُلُ
بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ
الشّيْطَانُ لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ
يَذْكُرْ اللّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشّيْطَانُ أَدْرَكْتُمْ
الْمَبِيتَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ
أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ . [ ص 349 ]
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الذّكْرِ عِنْدَ دُخُولِهِ الْخَلَاءَ
ثَبَتَ
عَنْهُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِهِ
الْخَلَاءَ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ .
وَذَكَرَ أَحَمْدُ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ مَنْ دَخَلَ الْخَلَاءَ أَنْ
يَقُولَ ذَلِكَ . وَيُذْكَرُ عَنْهُ لَا يَعْجِزْ أَحَدُكُمْ إذَا دَخَلَ
مِرْفَقَهُ أَنْ يَقُولَ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الرّجْسِ
النّجِسِ الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ . [ ص 350 ] صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ سَتْرُ مَا بَيْنَ الْجِنّ وَعَوْرَاتِ
بَنِي آدَمَ إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْكَنِيفَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ
اللّهِ . وَثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ رَجُلًا
سَلّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبُولُ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ . وَأَخْبَرَ أَنّ
اللّهَ سُبْحَانَهُ يَمْقُتُ الْحَدِيثَ عَلَى الْغَائِطِ فَقَالَ لَا
يَخْرُجْ الرّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَنْ
عَوْرَاتِهِمَا يَتَحَدّثَانِ فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ يَمْقُتُ عَلَى
ذَلِكَ .
[ النّهْيُ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارِهَا بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ ]
وَقَدْ
تَقَدّمَ أَنّهُ كَانَ لَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَلَا
يَسْتَدْبِرُهَا بِبَوْلٍ وَلَا بِغَائِطٍ وَأَنّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي
حَدِيثِ أَبِي أَيّوبَ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيّ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ،
وَمَعْقِلِ بْنِ أَبِي مَعْقِلٍ ، وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
جُزْءٍ الزّبَيْدِيّ ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، وَعَبْدِ اللّهِ
بْنِ عُمَرَ [ ص 351 ] رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَعَامّةُ هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ صَحِيحَةٌ وَسَائِرُهَا حَسَنٌ وَالْمُعَارِضُ لَهَا إمّا
مَعْلُولُ السّنَدِ وَإِمّا ضَعِيفُ الدّلَالَةِ فَلَا يُرَدّ صَرِيحُ
نَهْيِهِ الْمُسْتَفِيضُ عَنْهُ بِذَلِكَ كَحَدِيثِ عِرَاكٍ عَنْ
عَائِشَةَ ، ذُكِرَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ
أُنَاسًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِفُرُوجِهِمْ
فَقَالَ أَوَقَدْ فَعَلُوهَا حَوّلُوا مَقْعَدَتِي قِبَلَ الْقِبْلَةِ
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ . وَقَالَ هُوَ أَحْسَنُ مَا رُوِيَ فِي
الرّخْصَةِ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا ، وَلَكِنّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ
طَعَنَ فِيهِ الْبُخَارِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمّةِ الْحَدِيثِ وَلَمْ
يُثْبِتُوهُ وَلَا يَقْتَضِي كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ تَثْبِيتَهُ
وَلَا تَحْسِينَهُ قَالَ التّرْمِذِيّ فِي كِتَابِ " الْعِلَلِ الْكَبِير
ِ" لَهُ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ
الْبُخَارِيّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ
اضْطِرَابٌ وَالصّحِيحُ عِنْدِي عَنْ عَائِشَةَ مِنْ قَوْلِهَا انْتَهَى .
قُلْت : وَلَهُ عِلّةٌ أُخْرَى ، وَهِيَ انْقِطَاعُهُ بَيْنَ عِرَاك ٍ
وَعَائِشَةَ ، فَإِنّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا ، وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ
الْوَهّابِ الثّقَفِيّ عَنْ خَالِدٍ الْحَذّاءِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ
عَائِشَةَ ، وَلَهُ عِلّةٌ أُخْرَى ، وَهِيَ ضَعْفُ خَالِدِ بْنِ أَبِي
الصّلْتِ . وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ : نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةُ بِبَوْلٍ
فَرَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا وَهَذَا
الْحَدِيثُ اسْتَغْرَبَهُ التّرْمِذِيّ بَعْدَ تَحْسِينِهِ وَقَالَ
التّرْمِذِيّ فِي كِتَابِ " الْعِلَلِ " : سَأَلْت مُحَمّدًا يَعْنِي
الْبُخَارِيّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ
رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُ
الْبُخَارِيّ صِحّتَهُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، لَمْ يَدُلّ عَلَى صِحّتِهِ
فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ صِحّتَهُ فِي نَفْسِهِ فَهِيَ
وَاقِعَةُ عَيْنٍ حُكْمُهَا حُكْمُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَر َ لَمّا رَأَى "
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ
مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ " ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا سِتّةً نَسْخٌ
[ ص 352 ] لِمَكَانٍ أَوْ غَيْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ بَيَانًا ، لِأَنّ
النّهْيَ لَيْسَ عَلَى التّحْرِيمِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْجَزْمِ
بِوَاحِدٍ مَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى التّعْيِينِ وَإِنْ كَانَ حَدِيثُ
جَابِرٍ لَا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَ الثّانِيَ مِنْهَا ، فَلَا سَبِيلَ إلَى
تَرْكِ أَحَادِيثِ النّهْيِ الصّحِيحَةِ الصّرِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ
بِهَذَا الْمُحْتَمَلِ . وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ : إنّمَا نُهِيَ عَنْ
ذَلِكَ فِي الصّحْرَاءِ فَهْمٌ مِنْهُ لِاخْتِصَاصِ النّهْيِ بِهَا ،
وَلَيْسَ بِحِكَايَةِ لَفْظِ النّهْيِ وَهُوَ مُعَارَضٌ بِفَهْمِ أَبِي
أَيّوبَ لِلْعُمُومِ مَعَ سَلَامَةِ قَوْلِ أَصْحَابِ الْعُمُومِ مِنْ
التّنَاقُضِ الّذِي يَلْزَمُ الْمُفَرّقِينَ بَيْنَ الْفَضَاءِ
وَالْبُنْيَانِ فَإِنّهُ يُقَالُ لَهُمْ مَا حَدّ الْحَاجِزِ الّذِي
يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَهُ فِي الْبُنْيَانِ ؟ وَلَا سَبِيلَ إلَى ذِكْرِ حَدّ
فَاصِلٍ وَإِنْ جَعَلُوا مُطْلَقَ الْبُنْيَانِ مُجَوّزًا لِذَلِكَ
لَزِمَهُمْ جَوَازُهُ فِي الْفَضَاءِ الّذِي يَحُولُ بَيْنَ الْبَائِلِ
وَبَيْنَهُ جَبَلٌ قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ كَنَظِيرِهِ فِي الْبُنْيَانِ
وَأَيْضًا فَإِنّ النّهْيَ تَكْرِيمٌ لِجِهَةِ الْقِبْلَةِ وَذَلِكَ لَا
يَخْتَلِفُ بِفَضَاءٍ وَلَا بُنْيَانٍ وَلَيْسَ مُخْتَصّا بِنَفْسِ
الْبَيْتِ فَكَمْ مِنْ جَبَلٍ وَأَكَمَةٍ حَائِلٌ بَيْنَ الْبَائِلِ
وَبَيْنَ الْبَيْتِ بِمِثْلِ مَا تَحُولُ جُدْرَانُ الْبُنْيَانِ
وَأَعْظَمُ وَأَمّا جِهَةُ الْقِبْلَةِ فَلَا حَائِلَ بَيْنَ الْبَائِلِ
وَبَيْنَهَا ، وَعَلَى الْجِهَةِ وَقَعَ النّهْيُ لَا عَلَى الْبَيْتِ
نَفْسِهِ فَتَأَمّلْهُ .
فَصْلٌ [ دُعَاءُ الْخُرُوجِ مِنْ الْخَلَاءِ ]
وَكَانَ
إذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ قَالَ غُفْرَانَكَ وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ
كَانَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَذْهَبَ عَنّي الْأَذَى ،
وَعَافَانِي ذَكَرَهُ ابْنُ مَاجَهْ . [ ص 353 ]
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَذْكَارِ الْوُضُوءِ
ثَبَتَ
عَنْهُ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ وَضَعَ يَدَيْهِ فِي
الْإِنَاءِ الّذِي فِيهِ الْمَاءُ ثُمّ قَالَ لِلصّحَابَةِ تَوَضّئُوا
بِسْمِ اللّهِ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لِجَابِر ٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ نَادِ بِوَضُوءٍ " فَجِيءَ بِالْمَاءِ فَقَالَ " خُذْ يَا جَابِرُ
فَصُبّ عَلَيّ وَقُلْ بِسْمِ اللّهِ " قَالَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ
بِسْمِ اللّهِ قَالَ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ
وَذَكَرَ أَحْمَدُ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ
زَيْدٍ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ لَا وُضُوءَ
لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَفِي أَسَانِيدِهَا لِينٌ .
وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ أَسْبَغَ
الْوُضُوءَ ثُمّ قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنّةِ الثّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مَنْ أَيّهَا
شَاءَ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ . [ ص 354 ] وَزَادَ التّرْمِذِيّ بَعْدَ
التّشَهّدِ اللّهُمّ اجْعَلْنِي مِنْ التّوّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ
الْمُتَطَهّرِينَ وَزَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : ثُمّ رَفَعَ نَظَرَهُ
إلَى السّمَاءِ وَزَاد ابْنُ مَاجَهْ مَعَ أَحْمَدَ قَوْلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ
مَرّاتٍ . وَذَكَرَ بَقِيّ بْنُ مَخْلَدٍ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ مَرْفُوعًا مَنْ تَوَضّأَ فَفَرَغَ مِنْ
وُضُوئِهِ ، ثُمّ قَالَ سُبْحَانَكَ اللّهُمّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ
لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ كُتِبَ فِي رَقّ
وَطُبِعَ عَلَيْهَا بِطَابِعٍ ثُمّ رُفِعَتْ تَحْتَ الْعَرْشِ فَلَمْ
يُكْسَرْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَرَوَاهُ النّسَائِيّ فِي " كِتَابِهِ
الْكَبِيرِ " مِنْ كَلَامِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي ّ وَقَالَ
النّسَائِيّ : بَابٌ مَا يَقُولُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ وُضُوئِهِ
فَذَكَرَ بَعْضَ مَا تَقَدّمَ . ثُمّ ذَكَرَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ أَتَيْتُ [ ص 355 ] صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضّأَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ
وَيَدْعُو : اللّهُمّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، وَوَسّعْ لِي فِي دَارِي ،
وَبَارِكْ لِي فِي رِزْقِي فَقُلْتُ يَا نَبِيّ اللّهِ سَمِعْتُك تَدْعُو
بِكَذَا وَكَذَا ، قَالَ " وَهَلْ تَرَكْت مِنْ شَيْءٍ ؟ وَقَالَ ابْنُ
السّنّيّ : بَابٌ مَا يَقُولُ بَيْنَ ظَهْرَانِي وُضُوئِهِ . ..
فَذَكَرَهُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَذَانِ وَأَذْكَارِهِ
[ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَذَانِ ]
ثَبَتَ
عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ سَنّ التّأْذِينَ
بِتَرْجِيعٍ وَبِغَيْرِ تَرْجِيعٍ وَشَرَعَ الْإِقَامَةَ مَثْنَى
وَفُرَادَى ، وَلَكِنّ الّذِي صَحّ عَنْهُ تَثْنِيَةُ كَلِمَةِ
الْإِقَامَةِ " قَدْ قَامَتْ الصّلَاةُ " وَلَمْ يَصِحّ عَنْهُ
إفْرَادُهَا الْبَتّةَ وَكَذَلِكَ صَحّ عَنْهُ تَكْرَارُ لَفْظِ
التّكْبِيرِ فِي أَوّلِ الْأَذَانِ أَرْبَعًا ، وَلَمْ يَصِحّ عَنْهُ
الِاقْتِصَارُ عَلَى مَرّتَيْنِ وَأَمّا حَدِيثُ أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ
يَشْفَعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ فَلَا يُنَافِي الشّفْعَ
بِأَرْبَعٍ وَقَدْ صَحّ التّرْبِيعُ صَرِيحًا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ زَيْدٍ ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، وَأَبِي مَحْذُورَةَ ، رَضِيَ
اللّهُ عَنْهمُ . وَأَمّا إفْرَادُ الْإِقَامَةِ فَقَدْ صَحّ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا اسْتِثْنَاءُ كَلِمَةِ الْإِقَامَةِ
فَقَالَ إنّمَا كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّتَيْنِ مَرّتَيْنِ وَالْإِقَامَةُ مَرّةً
مَرّةً غَيْرَ أَنّهُ يَقُولُ " قَدْ قَامَتْ الصّلَاةُ قَدْ قَامَتْ
الصّلَاةُ وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ أَنَسٍ : أُمِرَ بِلَالٌ
أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ ، وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ إلّا الْإِقَامَةَ
وَصَحّ [ ص 356 ] عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَيْدٍ وَعُمَرَ فِي الْإِقَامَةِ
قَدْ قَامَتْ الصّلَاةُ قَدْ قَامَتْ الصّلَاةُ وصح مَنْ حَدِيثِ أَبِي
مَحْذُورَةَ تَثْنِيَةُ كَلِمَةِ الْإِقَامَةِ مَعَ سَائِرِ كَلِمَاتِ
الْأَذَانِ . وَكُلّ هَذِهِ الْوُجُوهِ جَائِزَةٌ مُجْزِئَةٌ لَا
كَرَاهَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَلَ مِنْ
بَعْضٍ فَالْإِمَامُ أَحْمَد ُ أَخَذَ بِأَذَانِ بِلَالٍ وَإِقَامَتِهِ
وَالشّافِعِيّ أَخَذَ بِأَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَإِقَامَةِ بِلَالٍ
وَأَبُو حَنِيفَةَ أَخَذَ بِأَذَانِ بِلَالٍ وَإِقَامَةِ أَبِي
مَحْذُورَةَ وَمَالِكٌ أَخَذَ بِمَا رَأَى عَلَيْهِ عَمَل َ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ مَنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى التّكْبِيرِ فِي الْأَذَانِ
مَرّتَيْنِ وَعَلَى كَلِمَةِ الْإِقَامَةِ مَرّةً وَاحِدَةً رَحِمَهُمْ
اللّهُ كُلّهُمْ فَإِنّهُمْ اجْتَهَدُوا فِي مُتَابَعَةِ السّنّةِ .
فَصْلٌ [ الذّكْرُ عِنْدَ الْأَذَانِ وَبَعْدَهُ ]
وَأَمّا
هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الذّكْرِ عِنْدَ الْأَذَانِ
وَبَعْدَهُ فَشَرَعَ لِأُمّتِهِ مِنْهُ خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ . أَحَدُهَا :
أَنْ يَقُولَ السّامِعُ كَمَا يَقُول الْمُؤَذّنُ إلّا فِي لَفْظِ " حَيّ
عَلَى الصّلَاةِ " " حَيّ عَلَى الْفَلَاحِ " فَإِنّهُ صَحّ عَنْهُ
إبْدَالُهُمَا ب " لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ " وَلَمْ
يَجِئْ عَنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ " حَيّ عَلَى الصّلَاةِ " "
حَيّ عَلَى الْفَلَاحِ " وَلَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْحَيْعَلَةِ
وَهَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي صَحّ عَنْهُ
إبْدَالُهُمَا بِالْحَوْقَلَةِ وَهَذَا مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ
الْمُطَابِقَةِ لِحَالِ الْمُؤَذّنِ وَالسّامِعِ فَإِنّ كَلِمَاتِ
الْأَذَانِ ذِكْرٌ فَسُنّ لِلسّامِعِ أَنْ يَقُولَهَا ، وَكَلِمَةُ
الْحَيْعَلَةِ دُعَاءٌ إلَى الصّلَاةِ لِمَنْ سَمِعَهُ فَسُنّ لِلسّامِعِ
أَنْ [ ص 357 ] الْإِعَانَةِ وَهِيَ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا
بِاَللّهِ " الْعَلِيّ الْعَظِيمِ . الثّانِي : أَنْ يَقُولَ وَأَنَا
أَشْهَدُ أَلّا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ
رَضِيتُ بِاَللّهِ رَبّا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمّدٍ
رَسُولًا وَأَخْبَرَ أَنّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ .
الثّالِثُ أَنْ يُصَلّيَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ إجَابَةِ الْمُؤَذّنِ وَأَكْمَلُ مَا يُصَلّى
عَلَيْهِ بِهِ وَيَصِلُ إلَيْهِ هِيَ الصّلَاةُ الْإِبْرَاهِيمِيّةُ كَمَا
عَلّمَهُ أُمّتَهُ أَنْ يُصَلّوا عَلَيْهِ فَلَا صَلَاةَ عَلَيْهِ
أَكْمَلُ مِنْهَا وَإِنْ تَحَذْلَقَ الْمُتَحَذْلِقُونَ . الرّابِعُ أَنْ
يَقُولَ بَعْدَ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ اللّهُمّ رَبّ هَذِهِ الدّعْوَةِ
التّامّةِ ، وَالصّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمّدًا الْوَسِيلَةَ
وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الّذِي وَعَدْتَهُ إنّكَ
لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ هَكَذَا جَاءَ بِهَذَا اللّفْظِ " مَقَامًا
مَحْمُودًا " بِلَا أَلِفٍ وَلَا لَامٍ وَهَكَذَا صَحّ عَنْهُ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 358 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قُلْ كَمَا يَقُولُونَ يَعْنِي الْمُؤَذّنِينَ فَإِذَا انْتَهَيْتَ فَسَلْ
تُعْطَهُ وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَنْ قَالَ حِينَ يُنَادِي الْمُنَادِي : اللّهُمّ رَبّ هَذِهِ
الدّعْوَةِ التّامّةِ وَالصّلَاةِ النّافِعَةِ صَلّ عَلَى مُحَمّدٍ
وَارْضَ عَنْهُ رِضًى لَا سَخَطَ بَعْدَهُ اسْتَجَابَ اللّهُ لَهُ
دَعْوَتَهُ وَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : عَلّمَنِي
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ أَقُولَ عِنْدَ
أَذَانِ الْمَغْرِبِ اللّهُمّ إنّ هَذَا إقْبَالُ لَيْلِكَ ، وَإِدْبَارُ
نَهَارِكَ وَأَصْوَاتُ دُعَاتِكَ فَاغْفِرْ لِي ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ .
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي
أُمَامَةَ يَرْفَعُهُ أَنّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ قَالَ اللّهُمّ
رَبّ هَذِهِ الدّعْوَةِ التّامّةِ الْمُسْتَجَابَةِ ، وَالْمُسْتَجَابِ
لَهَا ، دَعْوَةِ الْحَقّ وَكَلِمَةِ التّقْوَى ، تَوَفّنِي عَلَيْهَا
وَأَحْيِنِي عَلَيْهَا ، وَاجْعَلْنِي مِنْ صَالِحِي أَهْلِهَا عَمَلًا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
مَوْقُوفًا عَلَيْهِ . [ ص 359 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ
كَانَ يَقُولُ عِنْدَ كَلِمَةِ الْإِقَامَةِ أَقَامَهَا اللّهُ
وَأَدَامَهَا وَفِي السّنَنِ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الدّعَاءُ لَا يُرَدّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ " قَالُوا : فَمَا
نَقُولُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " سَلُوا اللّهَ الْعَافِيَةَ فِي
الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَفِيهَا عَنْهُ سَاعَتَانِ
يَفْتَحُ اللّهُ فِيهِمَا أَبْوَابَ السّمَاءِ ، وَقَلّمَا تُرَدّ عَلَى
دَاعٍ دَعْوَتُهُ عِنْدَ حُضُورِ النّدَاءِ وَالصّفّ فِي سَبِيلِ اللّهِ [
ص 360 ] أَمَرَ فِي الْكُسُوفِ بِالْفَزَعِ إلَى ذِكْرِ اللّهِ تَعَالَى ،
وَأَنّهُ كَانَ يُسَبّحُ فِي صَلَاتِهَا قَائِمًا رَافِعًا يَدَيْهِ
يُهَلّلُ وَيُكَبّرُ وَيَحْمَدُ وَيَدْعُو حَتّى حُسِرَ عَنْ الشّمْسِ
وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ الدّعَاءُ فِي الْعَشْرِ ]
وَكَانَ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُكْثِرُ الدّعَاءَ فِي عَشْرِ ذِي
الْحِجّةِ وَيَأْمُرُ فِيهِ بِالْإِكْثَارِ مَنْ التّهْلِيلِ
وَالتّكْبِيرِ وَالتّحْمِيدِ .
[التّكْبِيرُ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى عَصْرِ ثَالِثِ أَيّامِ التّشْرِيقِ ]
وَيُذْكَرُ
عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يُكَبّرُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ
إلَى الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيّامِ التّشْرِيقِ فَيَقُولُ اللّهُ أَكْبَرُ
اللّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَاَللّهُ أَكْبَرُ وَلِلّهِ
الْحَمْدُ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحّ إسْنَادُهُ فَالْعَمَلُ
عَلَيْهِ وَلَفْظُهُ هَكَذَا يَشْفَعُ التّكْبِيرَ وَأَمّا كَوْنُهُ
ثَلَاثًا ، فَإِنّمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبّاسٍ مِنْ
فِعْلِهِمَا ثَلَاثًا فَقَطْ وَكِلَاهُمَا [ ص 361 ] قَالَ الشّافِعِيّ :
إنْ زَادَ فَقَالَ اللّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ
كَثِيرًا ، وَسُبْحَانَ اللّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ، لَا إلَهَ إلّا
اللّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلّا إيّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ
كَرِهَ الْكَافِرُونَ لَا إلَه إلّا اللّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ
وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ لَا إلَه إلّا اللّهُ
وَاَللّهُ أَكْبَرُ كَانَ حَسَنًا .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الذّكْرِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ
يُذْكَرُ
عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ اللّهُمّ أَهِلّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ
وَالْإِيمَانِ ، وَالسّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ رَبّي وَرَبّك اللّهُ قَالَ
التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ
عِنْدَ رُؤْيَتِهِ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُمّ أَهِلّهُ عَلَيْنَا
بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ وَالتّوْفِيقِ
لِمَا يُحِبّ رَبّنَا وَيَرْضَى ، رَبّنَا وَرَبّكَ اللّهُ ذَكَرَهُ
الدّارِمِيّ . وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ قَتَادَةَ أَنّهُ بَلَغَهُ
أَنّ نَبِيّ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا رَأَى
الْهِلَالَ قَالَ هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ، هِلَالُ خَيْرٍ وَرُشْدٍ ،
آمَنْتُ بِاَلّذِي خَلَقَكَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ ثُمّ يَقُولُ الْحَمْدُ
لِلّهِ الّذِي ذَهَبَ بِشَهْرِ كَذَا ، وَجَاءَ بِشَهْرِ كَذَا وَفِي
أَسَانِيدِهَا لِينٌ . [ ص 362 ] أَبِي دَاوُدَ وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ
سُنَنِهِ أَنّهُ قَالَ لَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَذْكَارِ الطّعَامِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ
كَانَ
إذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي الطّعَامِ قَالَ " بِسْمِ اللّهِ " وَيَأْمُرُ
الْآكِلَ بِالتّسْمِيَةِ وَيَقُول : إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَذْكُرْ
اسْمَ اللّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللّهِ فِي
أَوّلهِ فَلْيَقُلْ بِسْمِ اللّهِ فِي أَوّلِهِ وَآخِرِهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ
. وَالصّحِيحُ وُجُوبُ التّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ وَهُوَ أَحَدُ
الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ ، وَأَحَادِيثُ الْأَمْرِ بِهَا
صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ وَلَا مُعَارِضَ لَهَا ، وَلَا إجْمَاعَ يُسَوّغُ
مُخَالَفَتَهَا وَيُخْرِجُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا ، وَتَارِكُهَا شَرِيكُهُ
الشّيْطَانُ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ .
فَصْلٌ [ هَلْ تَزُولُ مُشَارَكَةُ الشّيْطَانِ لِلْآكِلِينَ بِتَسْمِيَةِ أَحَدِهِمْ ] ؟
وَهَاهُنَا
مَسْأَلَةٌ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهَا ، وَهِيَ أَنّ الْآكِلِينَ إذَا
كَانُوا جَمَاعَةً [ ص 363 ] مُشَارَكَةُ الشّيْطَانِ لَهُمْ فِي
طَعَامِهِمْ بِتَسْمِيَتِهِ وَحْدَهُ أَمْ لَا تَزُولُ إلّا بِتَسْمِيَةِ
الْجَمِيعِ ؟ فَنَصّ الشّافِعِيّ عَلَى إجْزَاءِ تَسْمِيَةِ الْوَاحِدِ
عَنْ الْبَاقِينَ وَجَعَلَهُ أَصْحَابُهُ كَرَدّ السّلَامِ وَتَشْمِيتِ
الْعَاطِسِ وَقَدْ يُقَالُ لَا تُرْفَعُ مُشَارَكَةُ الشّيْطَانِ
لِلْآكِلِ إلّا بِتَسْمِيَتِهِ هُوَ وَلَا يَكْفِيهِ تَسْمِيَةُ غَيْرِهِ
وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ إنّا حَضَرْنَا مَعَ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَعَامًا ، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ
كَأَنّمَا تُدْفَعُ فَذَهَبَتْ لِتَضَعَ يَدَهَا فِي الطّعَامِ فَأَخَذَ
رَسُولُ اللّهِ صلى اللّهُ عليه وسلم بيدها ، ثُمّ جاء أَعْرَابِيّ
كَأَنّمَا يُدْفَعُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ الشّيْطَانَ لَيَسْتَحِلّ الطّعَامَ أَنْ
لَا يُذْكَرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنّهُ جَاءَ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ
لِيَسْتَحِلّ بِهَا ، فَأَخَذْتُ بِيَدِهَا ، فَجَاءَ بِهَذَا
الْأَعْرَابِيّ لِيَسْتَحِلّ بِهِ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَاَلّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ إنّ يَدَهُ لَفِي يَدِي مَعَ يَدَيْهِمَا ثُمّ ذَكَرَ اسْمَ
اللّهِ وَأَكَلَ وَلَوْ كَانَتْ تَسْمِيَةُ الْوَاحِدِ تَكْفِي ، لَمَا
وَضَعَ الشّيْطَانُ يَدَهُ فِي ذَلِكَ الطّعَامِ . وَلَكِنْ قَدْ يُجَابُ
بِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَضَعَ
يَدَهُ وَسَمّى بَعْدُ وَلَكِنّ الْجَارِيَةَ ابْتَدَأَتْ بِالْوَضْعِ
بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَكَذَلِكَ الْأَعْرَابِيّ ، فَشَارَكَهُمَا
الشّيْطَانُ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنّ الشّيْطَانَ شَارَكَ مَنْ لَمْ
يُسَمّ بَعْدَ تَسْمِيَةِ غَيْرِهِ ؟ فَهَذَا مِمّا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ
لَكِنْ قَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ وَصَحّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَة َ
قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْكُلُ
طَعَامًا فِي سِتّةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَجَاءَ أَعْرَابِيّ ، فَأَكَلَهُ
بِلُقْمَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَمَا إنّهُ لَوْ سَمّى لَكَفَاكُمْ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأُولَئِكَ السّتّةَ سَمّوْا ، [
ص 364 ] فَأَكَلَ وَلَمْ يُسَمّ شَارَكَهُ الشّيْطَانُ فِي أَكْلِهِ
فَأَكَلَ الطّعَامَ بِلُقْمَتَيْنِ وَلَوْ سَمّى لَكَفَى الْجَمِيعَ .
وَأَمّا مَسْأَلَةُ رَدّ السّلَامِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ
فَفِيهَا
نَظَرٌ وَقَدْ صَحّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ
قَالَ إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللّهَ فَحَقّ عَلَى كُلّ مَنْ
سَمِعَهُ أَنْ يُشَمّتَهُ وَإِنْ سَلِمَ الْحُكْمُ فِيهِمَا ، فَالْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْأَكْلِ ظَاهِرٌ فَإِنّ الشّيْطَانَ
إنّمَا يَتَوَصّلُ إلَى مُشَارَكَةِ الْآكِلِ فِي أَكْلِهِ إذَا لَمْ
يُسَمّ فَإِذَا سَمّى غَيْرُهُ لَمْ تُجِزْ تَسْمِيَةُ مَنْ سَمّى عَمّنْ
لَمْ يُسَمّ مِنْ مُقَارَنَةِ الشّيْطَانِ لَهُ فَيَأْكُلُ مَعَهُ بَلْ
تَقِلّ مُشَارَكَةُ الشّيْطَانِ بِتَسْمِيَةِ بَعْضِهِمْ وَتَبْقَى
الشّرِكَةُ بَيْنَ مَنْ لَمْ يُسَمّ وَبَيْنَهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمّيَ عَلَى طَعَامِهِ ، فَلْيَقْرَأْ { قُلْ هُوَ
اللّهُ أَحَدٌ } إذَا فَرَغَ وَفِي ثُبُوتِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ .
وَكَانَ
إذَا رُفِعَ الطّعَامُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلّهِ
حَمْدًا كَثِيرًا طَيّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرَ مَكْفِيّ وَلَا
مُوَدّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبّنَا عَزّ وَجَل ذَكَرَهُ
الْبُخَارِيّ . [ ص 365 ] كَانَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي
أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ وَكَانَ يَقُولُ
الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى وَسَوّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ
مَخْرَجًا وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ الْحَمْدُ
لِلّهِ الّذِي كَفَانَا وَآوَانَا وَذَكَرَ التّرْمِذِيّ عَنْهُ أَنّهُ
قَالَ مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَطْعَمَنِي
هَذَا مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنّي وَلَا قُوّةٍ غَفَرَ اللّهُ لَهُ مَا
تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ
إذَا قُرّبَ إلَيْهِ الطّعَامُ قَالَ بِسْمِ اللّهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ
طَعَامِهِ قَالَ " اللّهُمّ أَطْعَمْتَ وَسَقَيْتَ وَأَغْنَيْتَ
وَأَقْنَيْتَ وَهَدَيْتَ وَأَحْيَيْتَ فَلَك الْحَمْدُ عَلَى مَا
أَعْطَيْتَ " وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ . وَفِي " السّنَنِ " عَنْهُ أَنّهُ
كَانَ يَقُولُ إذَا فَرَغَ " الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي مَنّ عَلَيْنَا
وَهَدَانَا ، وَاَلّذِي أَشْبَعَنَا وَأَرْوَانَا ، وَمِنْ كُلّ
الْإِحْسَانِ آتَانَا " حَدِيثٌ حَسَنٌ . [ ص 366 ] وَفِي " السّنَنِ "
عَنْهُ أَيْضًا إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُل اللّهُمّ
بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ . وَمَنْ سَقَاهَ
اللّهُ لَبَنًا ، فَلْيَقُلْ اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا
مِنْهُ فَإِنّهُ لَيْسَ شَيْءٌ وَيُجْزِئُ عَنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ
غَيْرُ اللّبَنِ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ إذَا
شَرِبَ فِي الْإِنَاءِ تَنَفّسَ ثَلَاثَةَ أَنْفَاسٍ وَيَحْمَدُ اللّهَ
فِي كُلّ نَفَسٍ وَيَشْكُرُهُ فِي آخِرِهِنّ
فَصْلٌ [ أَحْكَامُ الدّعْوَةِ إلَى الطّعَامِ ]
وَكَانَ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ رُبّمَا
يَسْأَلُهُمْ هَلْ عِنْدَكُمْ طَعَامٌ ؟ وَمَا عَابَ طَعَامًا قَطّ ، بَلْ
كَانَ إذَا اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ وَسَكَتَ
وَرُبّمَا قَالَ أَجِدُنِي أَعَافُهُ إنّي لَا أَشْتَهِيهِ [ ص 367 ]
وَكَانَ يَمْدَحُ الطّعَامَ أَحْيَانًا ، كَقَوْلِهِ لَمّا سَأَلَ
أَهْلَهُ الْإِدَامَ فَقَالُوا : مَا عِنْدَنَا إلّا خَلّ ، فَدَعَا بِهِ
فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ الْأُدْمُ الْخَلّ وَلَيْسَ
فِي هَذَا تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَى اللّبَنِ وَاللّحْمِ وَالْعَسَلِ
وَالْمَرَقِ وَإِنّمَا هُوَ مَدْحٌ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ الّتِي
حَضَرَ فِيهَا ، وَلَوْ حَضَرَ لَحْمٌ أَوْ لَبَنٌ كَانَ أَوْلَى
بِالْمَدْحِ مِنْهُ وَقَالَ هَذَا جَبْرًا وَتَطْيِيبًا لِقَلْبِ مَنْ
قَدّمَهُ لَا تَفْضِيلًا لَهُ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الْإِدَامِ .
وَكَانَ إذَا قُرّبَ إلَيْهِ طَعَامٌ وَهُوَ صَائِمٌ قَالَ إنّي صَائِمٌ
وَأَمَرَ مَنْ قُرّبَ إلَيْهِ الطّعَامُ وَهُوَ صَائِمٌ أَنْ يُصَلّيَ
أَيْ يَدْعُو لِمَنْ قَدّمَهُ وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا أَنْ يَأْكُلَ
مِنْهُ . وَكَانَ إذَا دُعِيَ لِطَعَامٍ وَتَبِعَهُ أَحَدٌ ، أَعْلَمَ
بِهِ رَبّ الْمَنْزِلِ وَقَالَ إنّ هَذَا تَبِعَنَا ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ
تَأْذَنَ لَهُ وَإِنْ شِئْتَ رَجَعَ وَكَانَ يَتَحَدّثُ عَلَى طَعَامِهِ
كَمَا تَقَدّمَ فِي حَدِيثِ الْخَلّ وَكَمَا قَالَ لِرَبِيبِهِ عُمَرَ
بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَهُوَ يُؤَاكِلُهُ سَمّ اللّهَ وَكُلْ مِمّا يَلِيك
. [ ص 368 ] كَانَ يُكَرّرُ عَلَى أَضْيَافِهِ عَرْضَ الْأَكْلِ
عَلَيْهِمْ مِرَارًا ، كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْكَرَمِ كَمَا فِي
حَدِيثِ أَبِي هَرِيرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيّ فِي قِصّةِ شُرْبِ اللّبَنِ
وَقَوْلِهِ لَهُ مِرَارًا : اشْرَبْ " ، فَمَا زَالَ يَقُولُ اشْرَبْ
حَتّى قَالَ وَاَلّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ لَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا
وَكَانَ إذَا أَكَلَ عِنْدَ قَوْمٍ لَمْ يَخْرُجْ حَتّى يَدْعُوَ لَهُمْ
فَدَعَا فِي مَنْزِلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُسْرٍ ، فَقَالَ اللّهُمّ
بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ
ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ . وَدَعَا فِي مَنْزِلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ
أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصّائِمُونَ ، وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ
وَصَلّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ لَمّا دَعَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ
التّيْهَانِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَأَكَلُوا ، فَلَمّا فَرَغُوا قَالَ
أَثِيبُوا أَخَاكُمْ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا إثَابَتُهُ ؟
قَالَ " إنّ الرّجُلَ إذَا دُخِلَ بَيْتُهُ فَأُكِلَ طَعَامُهُ وَشُرِبَ
شَرَابُهُ فَدَعَوْا لَهُ فَذَلِكَ إثَابَتُهُ . وَصَحّ عَنْهُ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ دَخَلَ مَنْزِلَهُ لَيْلَةً فَالْتَمَسَ
طَعَامًا فَلَمْ يَجِدْهُ فَقَالَ اللّهُمّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِي ،
وَاسْقِ مَنْ سَقَانِي . [ ص 369 ] عَمْرَو بْنَ الْحَمِقِ سَقَاهُ
لَبَنًا فَقَالَ اللّهُمّ أَمْتِعْهُ بِشَبَابِهِ فَمَرّتْ عَلَيْهِ
ثَمَانُونَ سَنَةً لَمْ يَرَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ . وَكَانَ يَدْعُو لِمَنْ
يُضِيفُ الْمَسَاكِينَ وَيُثْنِي عَلَيْهِمْ فَقَالَ مَرّةً أَلَا رَجُلٌ
يُضِيفُ هَذَا رَحِمَهُ اللّهُ وَقَالَ لِلْأَنْصَارِيّ وَامْرَأَتِهِ
اللّذَيْنِ آثَرَا بِقُوتِهِمَا وَقُوتِ صِبْيَانِهِمَا ضَيْفَهُمَا :
لَقَدْ عَجِبَ اللّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللّيْلَةَ
[ عَدَمُ الْأَنَفَةِ مِنْ مُؤَاكَلَةِ أَيّ إنْسَانٍ ]
وَكَانَ
لَا يَأْنَفُ مِنْ مُؤَاكَلَةِ أَحَدٍ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ،
حُرّا أَوْ عَبْدًا ، أَعْرَابِيّا أَوْ مُهَاجِرًا ، حَتّى لَقَدْ رَوَى
أَصْحَابُ السّنَنِ عَنْهُ أَنّهُ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَوَضَعَهَا
مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ فَقَالَ كُلْ بِسْمِ اللّهِ ثِقَةً بِاَللّهِ ،
وَتَوَكّلًا عَلَيْهِ
[ الْأَكْلُ بِالْيَمِينِ ]
وَكَانَ يَأْمُرُ
بِالْأَكْلِ بِالْيَمِينِ وَيَنْهَى عَنْ الْأَكْلِ بِالشّمَالِ وَيَقُولُ
إنّ الشّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ
وَمُقْتَضَى هَذَا تَحْرِيمُ الْأَكْلِ بِهَا ، وَهُوَ الصّحِيحُ فَإِنّ
الْآكِلَ بِهَا ، إمّا شَيْطَانٌ وَإِمّا مُشَبّهٌ بِهِ . وَصَحّ عَنْهُ
أَنّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أَكَلَ [ ص 370 ] فَأَكَلَ بِشِمَالِهِ كُلْ
بِيَمِينِكَ ، فَقَالَ لَا أَسْتَطِيعُ فَقَالَ لَا اسْتَطَعْتَ فَمَا
رَفَعَ يَدَهُ إلَى فِيهِ بَعْدَهَا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ، لَمَا
دَعَا عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ كِبْرُهُ حَمَلَهُ عَلَى تَرْكِ
امْتِثَالِ الْأَمْرِ فَذَلِك أَبْلَغُ فِي الْعِصْيَانِ وَاسْتِحْقَاقِ
الدّعَاءِ عَلَيْهِ . وَأَمَرَ مَنْ شَكَوْا إلَيْهِ أَنّهُمْ لَا
يَشْبَعُونَ أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِهِمْ وَلَا يَتَفَرّقُوا ،
وَأَنْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكُ لَهُمْ فِيهِ وَصَحّ
عَنْهُ أَنّهُ قَالَ إنّ اللّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ يَأْكُلُ
الْأَكْلَةَ يَحْمَدُه عَلَيْهَا ، وَيَشْرَبُ الشّرْبَةَ يَحْمَدُهُ
عَلَيْهَا وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ أَذِيبُوا طَعَامَكُمْ بِذِكْرِ
اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَالصّلَاةِ وَلَا تَنَامُوا عَلَيْهِ فَتَقْسُوَ
قُلُوبُكُمْ وَأَحْرَى بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا
وَالْوَاقِعُ فِي التّجْرِبَةِ يَشْهَدُ بِهِ . [ ص 371 ]
فَصْلٌ فِي هَدْيهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي السّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ
ثَبَتَ
عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنّ أَفْضَلَ الْإِسْلَامِ وَخَيْرَهُ إطْعَامُ الطّعَامِ
وَأَنْ تَقْرَأَ السّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِف
. وَفِيهِمَا أَنّ آدَمَ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ لَمّا خَلَقَهُ
اللّهُ قَالَ لَهُ اذْهَبْ إلَى أُولَئِكَ النّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ
فَسَلّمْ عَلَيْهِمْ وَاسْتَمِعْ مَا يُحَيّونَكَ بِهِ فَإِنّهَا
تَحِيّتُكَ وَتَحِيّةُ ذُرّيّتِكَ فَقَالَ السّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا
: السّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللّهِ فَزَادُوهُ " وَرَحْمَةُ اللّهِ .
وَفِيهِمَا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ بِإِفْشَاءِ
السّلَامِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُمْ إذَا أَفْشَوْا السّلَامَ بَيْنَهُمْ
تَحَابّوا ، وَأَنّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ حَتّى يُؤْمِنُوا ،
وَلَا يُؤْمِنُونَ حَتّى يَتَحَابّوا . وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِي "
صَحِيحِهِ " قَالَ عَمّارٌ ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنّ فَقَدْ جَمَعَ
الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السّلَامِ لِلْعَالِمِ
وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ [ ص 372 ]
[ فَضَائِلُ الْإِنْصَافِ ]
وَقَدْ
تَضَمّنَتْ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ أُصُولَ الْخَيْرِ وَفُرُوعَهُ فَإِنّ
الْإِنْصَافَ يُوجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءَ حُقُوقِ اللّهِ كَامِلَةً
مُوَفّرَةً وَأَدَاءِ حُقُوقِ النّاسِ كَذَلِكَ وَأَنْ لَا يُطَالِبَهُمْ
بِمَا لَيْسَ لَهُ وَلَا يُحَمّلَهُمْ فَوْقَ وُسْعِهِمْ وَيُعَامِلَهُمْ
بِمَا يُحِبّ أَنْ يُعَامِلُوهُ بِهِ وَيُعْفِيَهُمْ مِمّا يُحِبّ أَنْ
يُعْفُوهُ مِنْهُ وَيَحْكُمَ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ
لِنَفْسِهِ وَعَلَيْهَا ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا إنْصَافُهُ نَفْسَهُ مِنْ
نَفْسِهِ فَلَا يَدّعِي لَهَا مَا لَيْسَ لَهَا ، وَلَا يُخْبِثُهَا
بِتَدْنِيسِهِ لَهَا ، وَتَصْغِيرِهِ إيّاهَا ، وَتَحْقِيرِهَا بِمَعَاصِي
اللّهِ وَيُنَمّيهَا وَيُكَبّرُهَا وَيَرْفَعُهَا بِطَاعَةِ اللّه
وَتَوْحِيدِهِ وَحُبّهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ
وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ وَمُحَابّهِ عَلَى
مُرَاضِي الْخَلْقِ وَمُحَابّهِمْ وَلَا يَكُونُ بِهَا مَعَ الْخَلْقِ
وَلَا مَعَ اللّهِ بَلْ يَعْزِلُهَا مِنْ الْبَيْنِ كَمَا عَزَلَهَا
اللّهُ وَيَكُونُ بِاَللّهِ لَا بِنَفْسِهِ فِي حُبّهِ وَبُغْضِهِ
وَعَطَائِهِ وَمَنْعِهِ وَكَلَامِهِ وَسُكُوتِهِ وَمَدْخَلِهِ
وَمَخْرَجِهِ فَيُنْجِي نَفْسَهُ مِنْ الْبَيْنِ وَلَا يَرَى لَهَا
مَكَانَةً يَعْمَلُ عَلَيْهَا ، فَيَكُونُ مِمّنْ ذَمّهُمْ اللّهُ
بِقَوْلِهِ { اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } [ الْأَنْعَامُ 135 ]
فَالْعَبْدُ الْمَحْضُ لَيْسَ لَهُ مَكَانَةٌ يَعْمَلُ عَلَيْهَا ،
فَإِنّهُ مُسْتَحَقّ الْمَنَافِعِ وَالْأَعْمَالِ لِسَيّدِهِ وَنَفْسُهُ
مِلْكٌ لِسَيّدِهِ فَهُوَ عَامِلٌ عَلَى أَنْ يُؤَدّيَ إلَى سَيّدِهِ [ ص
373 ] مَكَانَةٌ أَصْلًا ، بَلْ قَدْ كُوتِبَ عَلَى حُقُوقٍ مُنَجّمَةٍ
كُلّمَا أَدّى نَجْمًا حَلّ عَلَيْهِ نَجْمٌ آخَرُ وَلَا يَزَالُ
الْمُكَاتَبُ عَبْدًا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ نُجُومِ
الْكِتَابَةِ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ إنْصَافَهُ مِنْ نَفْسِهِ يُوجِبُ
عَلَيْهِ مَعْرِفَةَ رَبّهِ وَحَقّهُ عَلَيْهِ وَمَعْرِفَةَ نَفْسِهِ
وَمَا خُلِقَتْ لَهُ وَأَنْ لَا يُزَاحِمَ بِهَا مَالِكَهَا ،
وَفَاطِرَهَا وَيَدّعِي لَهَا الْمَلَكَةَ وَالِاسْتِحْقَاقَ وَيُزَاحِمُ
مُرَادَ سَيّدِهِ وَيَدْفَعَهُ بِمُرَادِهِ هُوَ أَوْ يُقَدّمُهُ
وَيُؤْثِرَهُ عَلَيْهِ أَوْ يَقْسِمُ إرَادَتَهُ بَيْنَ مُرَادِ سَيّدِهِ
وَمُرَادِهِ وَهِيَ قِسْمَةٌ ضِيزَى ، مِثْلَ قِسْمَةِ الّذِينَ قَالُوا :
{ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ
لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ
يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الْأَنْعَامُ 136 ]
. [ ص 374 ] فَكَيْفَ يَطْلُبُ الْإِنْصَافَ مِمّنْ وَصْفُهُ الظّلْمُ
وَالْجَهْلُ ؟ وَكَيْفَ يُنْصِفُ الْخَلْقَ مَنْ لَمْ يُنْصِفْ الْخَالِقَ
؟ كَمَا فِي أَثَرٍ إلَهِيّ يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ ابْنَ آدَمَ مَا
أَنْصَفْتَنِي ، خَيْرِي إلَيْكَ نَازِلٌ وَشَرّكَ إلَيّ صَاعِدٌ كَمْ
أَتَحَبّبُ إلَيْكَ بِالنّعَمِ وَأَنَا غَنِيّ عَنْكَ وَكَمْ تَتَبَغّضُ
إلَيّ بِالْمَعَاصِي وَأَنْتَ فَقِيرٌ إلَيّ وَلَا يَزَالُ الْمَلَكُ
الْكَرِيمُ يَعْرُجُ إلَيّ مِنْكَ بِعَمَلٍ قَبِيحٍ .
وَفِي أَثَرٍ
آخَرَ ابْنَ آدَمَ مَا أَنْصَفْتَنِي ، خَلَقْتُكَ وَتَعْبُدُ غَيْرِي ،
وَأَرْزُقُكَ وَتَشْكُرُ سِوَايَ . ثُمّ كَيْفَ يُنْصِفُ غَيْرَهُ مَنْ
لَمْ يُنْصِفْ نَفْسَهُ وَظَلَمَهَا أَقْبَحَ الظّلْمِ وَسَعَى فِي
ضَرَرِهَا أَعْظَمَ السّعْيِ وَمَنَعَهَا أَعْظَمَ لَذّاتِهَا مِنْ حَيْثُ
ظَنّ أَنّهُ يُعْطِيهَا إيّاهَا ، فَأَتْعَبَهَا كُلّ التّعَبِ
وَأَشْقَاهَا كُلّ الشّقَاءِ مِنْ حَيْثُ ظَنّ أَنّهُ يُرِيحُهَا
وَيُسْعِدُهَا ، وَجَدّ كُلّ الْجِدّ فِي حِرْمَانِهَا حَظّهَا مِنْ
اللّهِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ يُنِيلُهَا حُظُوظَهَا ، وَدَسّاهَا كُلّ
التّدْسِيَةِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ يُكَبّرُهَا وَيُنَمّيهَا ،
وَحَقّرَهَا كُلّ التّحْقِيرِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ يُعَظّمُهَا ،
فَكَيْفَ يُرْجَى الْإِنْصَافُ مِمّنْ هَذَا إنْصَافُهُ لِنَفْسِهِ ؟ إذَا
كَانَ هَذَا فِعْلَ الْعَبْدِ بِنَفْسِهِ فَمَاذَا تَرَاهُ بِالْأَجَانِبِ
يَفْعَلُ .
وَالْمَقْصُودُ أَنّ قَوْلَ عَمّارٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ
نَفْسِك ، وَبَذْلُ السّلَامِ لِلْعَالِمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ
الْإِقْتَارِ كَلَامٌ جَامِعٌ لِأُصُولِ الْخَيْرِ وَفُرُوعِهِ .
[ بَذْلُ السّلَامِ ]
وَبَذْلُ
السّلَامِ لِلْعَالِمِ يَتَضَمّنُ تَوَاضُعَهُ وَأَنّهُ لَا يَتَكَبّرُ
عَلَى أَحَدٍ ، بَلْ يَبْذُلُ السّلَامَ لِلصّغِيرِ وَالْكَبِيرِ
وَالشّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَمَنْ يَعْرِفْهُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ
وَالْمُتَكَبّرُ [ ص 375 ] فَكَيْفَ يَبْذُلُ السّلَامَ لِكُلّ أَحَدٍ .
[ الْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ ]
وَأَمّا
الْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ فَلَا يَصْدُرُ إلّا عَنْ قُوّةِ ثِقَةٍ
بِاَللّهِ وَأَنّ اللّهَ يُخْلِفُهُ مَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ قُوّةِ يَقِينٍ
وَتَوَكّلٍ وَرَحْمَةٍ وَزُهْدٍ فِي الدّنْيَا ، وَسَخَاءِ نَفْسٍ بِهَا ،
وَوُثُوقٍ بِوَعْدِ مَنْ وَعَدَهُ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ،
وَتَكْذِيبًا بِوَعْدِ مَنْ يَعِدُهُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرْ بِالْفَحْشَاءِ
وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ [ السّلَامُ عَلَى الصّبْيَانِ وَالنّسْوَانِ ]
وَثَبَتَ
عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّه مَرّ بِصِبْيَانٍ فَسَلّمَ
عَلَيْهِمْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ . وَذَكَرَ التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ "
عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ يَوْمًا بِجَمَاعَةِ نِسْوَةٍ
فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتّسْلِيمِ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : عَنْ أَسْمَاءَ
بِنْتِ يَزِيدَ مَرّ عَلَيْنَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي نِسْوَةٍ فَسَلّمَ عَلَيْنَا وَهِيَ رِوَايَةُ حَدِيثِ التّرْمِذِيّ ،
وَالظّاهِرُ أَنّ الْقِصّةَ وَاحِدَةٌ وَأَنّهُ سَلّمَ عَلَيْهِنّ
بِيَدِهِ . [ ص 376 ] وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : أَنّ الصّحَابَةَ
كَانُوا يَنْصَرِفُونَ مِنْ الْجُمُعَةِ فَيَمُرّونَ عَلَى عَجُوزٍ فِي
طَرِيقِهِمْ فَيُسَلّمُونَ عَلَيْهَا ، فَتُقَدّمُ لَهُمْ طَعَامًا مِنْ
أُصُولِ السّلْقِ وَالشّعِيرِ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ فِي مَسْأَلَةِ
السّلَامِ عَلَى النّسَاءِ يُسَلّمُ عَلَى الْعَجُوزِ وَذَوَاتِ
الْمَحَارِمِ دُونَ غَيْرِهِنّ .
فَصْلٌ
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي "
صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " وَغَيْرِهِ تَسْلِيمُ الصّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ
، وَالْمَارّ عَلَى الْقَاعِدِ وَالرّاكِبِ عَلَى الْمَاشِي ،
وَالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِير وَفِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " عَنْهُ
يُسَلّمُ الْمَاشِي عَلَى الْقَائِمِ وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزّارِ "
عَنْهُ يُسَلّمُ الرّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي عَلَى
الْقَاعِدِ وَالْمَاشِيَانِ أَيّهُمَا بَدَأَ فَهُوَ أَفْضَلُ وَفِي "
سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْهُ إنّ أَوْلَى النّاسِ بِاَللّهِ مَنْ
بَدَأَهُمْ بِالسّلَام [ ص 377 ] وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّلَامُ عِنْدَ الْمَجِيءِ إلَى الْقَوْمِ
وَالسّلَامُ عِنْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُمْ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ
إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيُسَلّمْ ، وَإِذَا قَامَ فَلْيُسَلّمْ
وَلَيْسَتْ الْأُولَى أَحَقّ مِنْ الْآخِرَةِ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ
عَنْهُ إذَا لَقِيَ أَحَدُكُمْ صَاحِبَهُ فَلْيُسَلّمْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ
حَالَ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ ثُمّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلّمْ
عَلَيْهِ أَيْضًا وَقَالَ أَنَسٌ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَمَاشَوْنَ فَإِذَا اسْتَقْبَلَتْهُمْ
شَجَرَةٌ أَوْ أَكَمَةٌ تَفَرّقُوا يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَإِذَا
الْتَقَوْا مِنْ وَرَائِهَا ، سَلّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ .
[ تَحِيّةُ الْمَسْجِدِ قَبْلَ السّلَامِ ]
وَمِنْ
هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الدّاخِلَ إلَى الْمَسْجِدِ
يَبْتَدِئُ بِرَكْعَتَيْنِ تَحِيّةَ الْمَسْجِدِ ثُمّ يَجِيءُ فَيُسَلّمُ
عَلَى الْقَوْمِ فَتَكُونُ تَحِيّةُ الْمَسْجِدِ قَبْلَ تَحِيّةِ أَهْلِهِ
فَإِنّ تِلْكَ حَقّ اللّهِ تَعَالَى ، وَالسّلَامُ عَلَى الْخَلْقِ هُوَ
حَقّ لَهُمْ وَحَقّ اللّهِ فِي مِثْلِ هَذَا أَحَقّ بِالتّقْدِيمِ
بِخِلَافِ الْحُقُوقِ الْمَالِيّةِ فَإِنّ فِيهَا نِزَاعًا مَعْرُوفًا ،
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا حَاجَةُ الْآدَمِيّ [ ص 378 ] وَكَانَتْ عَادَةُ
الْقَوْمِ مَعَهُ هَكَذَا ، يَدْخُلُ أَحَدُهُمْ الْمَسْجِدَ فَيُصَلّي
رَكْعَتَيْنِ ثُمّ يَجِيءُ فَيُسَلّمُ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ
أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي
الْمَسْجِدِ يَوْمًا قَالَ رِفَاعَةُ وَنَحْنُ مَعَهُ إذْ جَاءَ رَجُلٌ
كَالْبَدَوِيّ فَصَلّى ، فَأَخَفّ صَلَاتَهُ ثُمّ انْصَرَفَ فَسَلّمَ
عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَال النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَلَيْكَ فَارْجِعْ فَصَلّ فَإِنّكَ لَمْ
تُصَلّ . .. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ وَلَمْ
يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَأْخِيرَ السّلَامِ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى مَا بَعْدَ الصّلَاةِ . وَعَلَى هَذَا : فَيُسَنّ لِدَاخِلِ
الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ فِيهِ جَمَاعَةٌ ثَلَاثُ تَحِيّاتٍ مُتَرَتّبَةٌ
أَنْ يَقُولَ عِنْدَ دُخُولهِ بِسْمِ اللّهِ وَالصّلَاةُ عَلَى رَسُولِ
اللّهِ . ثُمّ يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ تَحِيّةَ الْمَسْجِدِ . ثُمّ يُسَلّمُ
عَلَى الْقَوْمِ .
فَصْلٌ
وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ
بِاللّيْلِ يُسَلّمُ تَسْلِيمًا لَا يُوقِظُ النّائِمَ . وَيُسْمِعُ
الْيَقْظَانَ ذَكَرَه مُسْلِمٌ .
فَصْلٌ
وَذَكَرَ التّرْمِذِيّ
عَنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ السّلَامُ قَبْلَ الْكَلَام [ ص 379 ] لَا
تَدْعُوا أَحَدًا إلَى الطّعَامِ حَتّى يُسَلّمَ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ
إسْنَادُهُ وَمَا قَبْلَهُ ضَعِيفًا ، فَالْعَمَلُ عَلَيْهِ .
[ السّلَامُ قَبْلَ السّؤَالِ ]
وَقَدْ
رَوَى أَبُو أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ أَحْسَنَ مِنْهُ حَدِيثَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوّادٍ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَر َ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّلَامُ قَبْلَ
السّؤَالِ ، فَمَنْ بَدَأَكُمْ بِالسّؤَالِ قَبْلَ السّلَامِ فَلَا
تُجِيبُوهُ وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ لَا يَأْذَنُ لِمَنْ لَمْ
يَبْدَأْ بِالسّلَامِ . وَيُذْكَرُ عنه : لا تَأْذَنُوا لِمَنْ لَمْ
يَبْدَأْ بِالسّلَامِ وَأَجْوَدُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ التّرْمِذِيّ عَنْ
كَلَدَةَ بِنْ حَنْبَلٍ ، أَنّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ بَعَثَهُ بِلَبَنٍ
وَلِبَإٍ وَجَدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَعْلَى الْوَادِي
قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلّمْ ، وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ فَقَال
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ارْجِعْ فَقُلْ السّلَامُ
عَلَيْكُمْ أَأَدْخُل ؟ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ . [ ص 380 ]
وَكَانَ إذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلْ الْبَابَ مِنْ
تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ
فَيَقُولُ السّلَامُ عَلَيْكُمْ السّلَامُ عَلَيْكُمْ
فَصْلٌ [ تَحْمِيلُ السّلَامِ لِلْغَائِبِينَ ]
وَكَانَ
يُسَلّمُ بِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ يُوَاجِهُهُ ، وَيُحَمّلُ السّلَامَ
لِمَنْ يُرِيدُ السّلَامَ عَلَيْهِ مِنْ الْغَائِبِينَ عَنْهُ
وَيَتَحَمّلُ السّلَامَ لِمَنْ يُبَلّغْهُ إلَيْهِ كَمَا تَحَمّلَ
السّلَامَ مِنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ عَلَى صِدّيقَةِ النّسَاءِ خَدِيجَةَ
بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا لَمّا قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ
هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْكَ بِطَعَامٍ ، فَاقْرَأْ [ عَلَيْهَا ]
السّلَامَ مِنْ رَبّهَا ، [ وَمِنّي ] وَبَشّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنّة
وَقَالَ لِلصّدّيقَةِ الثّانِيَةِ بِنْتِ الصّدّيقِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا : هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السّلَامَ "
فَقَالَتْ وَعَلَيْهِ السّلَامُ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتهُ يَرَى مَا
لَا أَرَى [ ص 381 ]
فَصْلٌ [ صِيغَةُ السّلَامِ ]
وَكَانَ
هَدْيُهُ انْتِهَاءَ السّلَامِ إلَى " وَبَرَكَاتُهُ " فَذَكَرَ
النّسَائِيّ عَنْهُ أَنّ رَجُلًا جَاءَ فَقَالَ السّلَامُ عَلَيْكُمْ
فَرَدّ عَلَيْهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ "
عَشْرَةٌ " ثُمّ جَلَسَ ثُمّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السّلَامُ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَةُ اللّهِ فَرَدّ عَلَيْهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَقَالَ " عِشْرُونَ " ثُمّ جَلَسَ وَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ
السّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَرَدّ عَلَيْهِ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ " ثَلَاثُونَ "
رَوَاهُ النّسَائِيّ ، وَالتّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ وَحَسّنَهُ . وَذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ
بْنِ أَنَسٍ ، وَزَادَ فِيهِ ثُمّ أَتَى آخَرُ فَقَالَ السّلَامُ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ فَقَالَ "
أَرْبَعُونَ " فَقَالَ هَكَذَا تَكُونُ الْفَضَائِلُ . وَلَا يَثْبُتُ
هَذَا الْحَدِيثُ . فَإِنّ لَهُ ثَلَاثَ عِلَلٍ إحْدَاهَا : أَنّهُ مِنْ
رِوَايَةِ أَبِي مَرْحُومٍ عَبْدِ الرّحِيمِ بْنِ مَيْمُونٍ ، وَلَا
يُحْتَجّ بِهِ . الثّانِيَةُ إنّ فِيهِ أَيْضًا سَهْلَ بْنَ مُعَاذٍ
وَهُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ . الثّالِثَةُ أَنّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي مَرْيَمَ
أَحَدَ رُوَاتِهِ لَمْ يَجْزِمْ بِالرّوَايَةِ بَلْ قَالَ أَظُنّ أَنّي
سَمِعْتُ نَافِعَ بْنَ يَزِيدَ . [ ص 382 ] وَأَضْعَفُ مِنْ هَذَا
الْحَدِيثُ الْآخَرُ عَنْ أَنَسٍ : كَانَ رَجُلٌ يَمُرّ بِالنّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ السّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللّهِ
، فَيَقُولُ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " وَعَلَيْكَ
السّلَامُ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوَانُهُ
" فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ تُسَلّمُ عَلَى هَذَا سَلَامًا مَا
تُسَلّمُهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِك ؟ فَقَالَ " وَمَا يَمْنَعُنِي
مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَنْصَرِفُ بِأَجْرِ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ،
وَكَانَ يَرْعَى عَلَى أَصْحَابِه
فَصْلٌ [ السّلَامُ ثَلَاثًا ]
وَكَانَ
مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُسَلّمَ ثَلَاثًا
كَمَا فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا تَكَلّمَ بِكَلِمَةٍ
أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتّى تُفْهَمَ عَنْهُ وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ
فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ سَلّمَ ثَلَاثًا وَلَعَلّ هَذَا كَانَ هَدْيَهُ فِي
السّلَامِ عَلَى الْجَمْعِ الْكَثِيرِ الّذِينَ لَا يَبْلُغُهُمْ سَلَامٌ
وَاحِدٌ أَوْ هَدْيَهُ فِي إسْمَاعِ السّلَامِ الثّانِي وَالثّالِثِ إنْ
ظَنّ أَنّ الْأَوّلَ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْإِسْمَاعُ كَمَا سَلّمَ لَمّا
انْتَهَى إلَى مَنْزِلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ثَلَاثًا ، فَلَمّا لَمْ
يُجِبْهُ أَحَدٌ رَجَعَ وَإِلّا فَلَوْ كَانَ هَدْيُهُ الدّائِمُ
التّسْلِيمَ ثَلَاثًا لَكَانَ أَصْحَابُهُ يُسَلّمُونَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ
وَكَانَ يُسَلّمُ عَلَى كُلّ مَنْ لَقِيَهُ ثَلَاثًا ، وَإِذَا دَخَلَ
بَيْتَهُ ثَلَاثًا ، وَمَنْ تَأَمّلَ هَدْيَهُ عَلِمَ أَنّ الْأَمْرَ
لَيْسَ كَذَلِكَ وَأَنّ تَكْرَارَ السّلَامِ كَانَ مِنْهُ أَمْرًا
عَارِضًا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 383 ]
فَصْلٌ [ رَدّ السّلَامِ ]
وَكَانَ
يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسّلَامِ وَإِذَا سَلّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ،
رَدّ عَلَيْهِ مِثْلَ تَحِيّتِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا عَلَى الْفَوْرِ
مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ إلّا لِعُذْرٍ مِثْلَ حَالَةِ الصّلَاةِ وَحَالَةِ
قَضَاءِ الْحَاجَةِ . وَكَانَ يُسْمِعُ الْمُسْلِمَ رَدّهُ عَلَيْهِ
وَلَمْ يَكُنْ يَرُدّ بِيَدِهِ وَلَا رَأْسِهِ وَلَا أُصْبُعِهِ إلّا فِي
الصّلَاةِ فَإِنّهُ كَانَ يَرُدّ عَلَى مَنْ سَلّمَ عَلَيْهِ إشَارَةً
ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي عِدّةِ أَحَادِيثَ وَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ مَا
يُعَارِضُهَا إلّا بِشَيْءٍ بَاطِلٍ لَا يَصِحّ عَنْهُ كَحَدِيثٍ
يَرْوِيهِ أَبُو غَطَفَانَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ أَشَارَ فِي صَلَاتِهِ إشَارَةً
تُفْهَمُ عَنْهُ فَلْيُعِدْ صَلَاتَهُ قَالَ الدّارَقُطْنِيّ : قَالَ
لَنَا ابْنُ أَبِي دَاوُدَ أَبُو غَطَفَانَ هَذَا رَجُلٌ مَجْهُولٌ .
وَالصّحِيحُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ
يُشِيرُ فِي الصّلَاةِ رَوَاهُ أَنَسٌ وَجَابِر وَغَيْرُهُمَا عَنْ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَصْلٌ [ كَرَاهِيَةُ قَوْلِ الْمُبْتَدِئِ " عَلَيْك السّلَامُ "]
وَكَانَ
هَدْيُهُ فِي ابْتِدَاءِ السّلَامِ أَنْ يَقُولَ " السّلَامُ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَةُ اللّهِ " وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الْمُبْتَدِئُ عَلَيْك
السّلَامُ . قَالَ أَبُو جَرِيّ الْهُجَيْمِيّ : أَتَيْتُ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْتُ عَلَيْكَ السّلَامُ يَا رَسُولَ اللّهِ
فَقَالَ لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السّلَامُ فَإِنّ عَلَيْكَ السّلَامُ
تَحِيّةُ الْمَوْتَى حَدِيثٌ [ ص 384 ] وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا الْحَدِيثُ
عَلَى طَائِفَةٍ وَظَنّوهُ مُعَارَضًا لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي السّلَامِ عَلَى الْأَمْوَاتِ بِلَفْظِ السّلَامُ
عَلَيْكُمْ بِتَقْدِيمِ السّلَامِ فَظَنّوا أَنّ قَوْلَهُ فَإِنّ عَلَيْكَ
السّلَامُ تَحِيّةُ الْمَوْتَى إخْبَارٌ عَنْ الْمَشْرُوعِ وَغَلِطُوا فِي
ذَلِكَ غَلَطًا أَوْجَبَ لَهُمْ ظَنّ التّعَارُضِ وَإِنّمَا مَعْنَى
قَوْلِهِ فَإِنّ عَلَيْكَ السّلَامُ تَحِيّةُ الْمَوْتَى إخْبَارٌ عَنْ
الْوَاقِعِ لَا الْمَشْرُوعُ أَيْ إنّ الشّعَرَاءَ وَغَيْرَهُمْ يُحَيّونَ
الْمَوْتَى بِهَذِهِ اللّفْظَةِ كَقَوْلِ قَائِلِهِمْ عَلَيْكَ سَلَامُ
اللّهِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحّمَا
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُه هُلْكَ وَاحِد وَلَكِنّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدّمَا
صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُحَيّ بِتَحِيّةِ الْأَمْوَاتِ وَمِنْ
كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ لَمْ يَرُدّ عَلَى الْمُسَلّمِ بِهَا . [ ص 385 ]
[
بَحْثٌ فِي الرّدّ عَلَى الْمُسَلّمِ ب " وَعَلَيْك السّلَامُ "
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الرّدّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ ]
وَكَانَ
يَرُدّ عَلَى الْمُسَلّمِ " وَعَلَيْكَ السّلَامُ " بِالْوَاوِ
وَبِتَقْدِيمِ " عَلَيْكَ " عَلَى لَفْظِ السّلَامِ . وَتَكَلّمَ النّاسُ
هَاهُنَا فِي مَسْأَلَةٍ وَهِيَ لَوْ حَذَفَ الرّادّ " الْوَاوَ " فَقَالَ
" عَلَيْكَ السّلَامُ " هَلْ يَكُونُ صَحِيحًا ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ الْمُتَوَلّي وَغَيْرُهُ لَا يَكُونُ جَوَابًا ، وَلَا يَسْقُطُ
بِهِ فَرْضُ الرّدّ لِأَنّهُ مُخَالِفٌ لِسُنّةِ الرّدّ وَلِأَنّهُ لَا
يُعْلَمُ هَلْ هُوَ رَدّ ، أَوْ ابْتِدَاءُ تَحِيّةٍ ؟ فَإِنّ صُورَتَهُ
صَالِحَةٌ لَهُمَا ، وَلِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ إذَا سَلّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ ، فَقُولُوا : "
وَعَلَيْكُم فَهَذَا تَنْبِيهٌ مِنْهُ عَلَى وُجُوبِ الْوَاوِ فِي الرّدّ
عَلَى أَهْلِ [ ص 386 ] تَقْتَضِي تَقْرِيرَ الْأَوّلِ وَإِثْبَاتَ
الثّانِي ، فَإِذَا أُمِرَ بِالْوَاوِ فِي الرّدّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ
الّذِينَ يَقُولُونَ السّامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَ إذَا سَلّمَ عَلَيْكُمْ
أَهْلُ الْكِتَابِ ، فَقُولُوا : " وَعَلَيْكُمْ فَذِكْرُهَا فِي الرّدّ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى
إلَى أَنّ ذَلِكَ رَدّ صَحِيحٌ كَمَا لَوْ كَانَ بِالْوَاوِ وَنَصّ
عَلَيْهِ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ وَاحْتَجّ
لِهَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ
إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا
قَالَ سَلَامٌ } ( الذاريات : 24 ) ، أَيْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا بُدّ
مِنْ هَذَا ، وَلَكِنْ حَسُنَ الْحَذْفُ فِي الرّدّ لِأَجْلِ الْحَذْفِ
فِي الِابْتِدَاءِ وَاحْتَجّوا بِمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ خَلَقَ
اللّهُ آدَمَ طُولُهُ سِتّونَ ذِرَاعًا ، فَلَمّا خَلَقَهُ قَالَ لَهُ
اذْهَبْ فَسَلّمْ عَلَى أُولَئِكَ النّفَرِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ
فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيّونَكَ فِإنّهَا تَحِيّتُكَ وَتَحِيّةُ ذُرّيّتِكَ
فَقَالَ السّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالُوا : السّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ
اللّهِ فَزَادُوهُ " وَرَحْمَةُ اللّهِ فَقَدْ أَخْبَرَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ هَذِهِ تَحِيّتُهُ وَتَحِيّةُ ذُرّيّتِهِ
قَالُوا : وَلِأَنّ الْمُسَلّمَ عَلَيْهِ مَأْمُورٌ أَنْ يُحَيّ
الْمُسَلّمَ بِمِثْلِ تَحِيّتِهِ عَدْلًا ، وَبِأَحْسَنَ مِنْهَا فَضْلًا
، فَإِذَا رَدّ عَلَيْهِ بِمِثْلِ سَلَامِهِ كَانَ قَدْ أَتَى بِالْعَدْلِ
. وَأَمّا قَوْلُهُ إذَا سَلّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا :
وَعَلَيْكُمْ فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي لَفْظَةِ " الْوَاوِ
" فِيهِ فَرُوِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا : بِالْوَاوِ قَال َ
أَبُو دَاوُدَ :
[ ص 387 ] عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ ، وَرَوَاهُ
الثّوْرِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ ، فَقَالَ فِيهِ
فَعَلَيْكُمْ وَحَدِيثُ سُفْيَانَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " وَرَوَاهُ
النّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
دِينَارٍ بِإِسْقَاطِ " الْوَاوِ " ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ
وَالنّسَائِيّ : فَقُلْ عَلَيْك بِغَيْرِ وَاوٍ . وَقَالَ الْخَطّابِيّ :
عَامّةُ الْمُحَدّثِينَ يَرْوُونَهُ وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ وَكَانَ
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَرْوِيهِ عَلَيْكُمْ بِحَذْفِ الْوَاوِ وَهُوَ
الصّوَابُ وَذَلِك أَنّهُ إذَا حَذَفَ الْوَاوَ صَارَ قَوْلُهُمْ الّذِي
قَالُوهُ بِعَيْنِهِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمْ وَبِإِدْخَالِ الْوَاوِ يَقَعُ
الِاشْتِرَاكُ مَعَهُمْ وَالدّخُولُ فِيمَا قَالُوا ؛ لِأَنّ الْوَاوَ
حَرْفٌ لِلْعَطْفِ وَالِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الشّيْئَيْنِ . انْتَهَى
كَلَامُهُ . وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَمْرِ الْوَاوِ لَيْسَ بِمُشْكِلٍ
فَإِنّ " السّامَ " الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنّهُ الْمَوْتُ وَالْمُسَلّمُ
وَالْمُسَلّمُ عَلَيْهِ مُشْتَرِكُونَ فِيهِ فَيَكُونُ فِي الْإِتْيَانِ
بِالْوَاوِ بَيَانٌ لِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ وَإِثْبَاتِ الْمُشَارَكَةِ
وَفِي حَذْفِهَا إشْعَارٌ بِأَنّ الْمُسَلّمَ أَحَقّ بِهِ وَأَوْلَى مِنْ
الْمُسَلّمِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْإِتْيَانُ بِالْوَاوِ
هُوَ الصّوَابَ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ حَذْفِهَا ، كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ
وَغَيْرُهُ وَلَكِنْ قَدْ فُسّرَ السّامُ بِالسّآمَةِ وَهِيَ الْمَلَالَةُ
وَسَآمَةُ الدّينِ قَالُوا : وَعَلَى هَذَا فَالْوَجْهُ حَذْفُ الْوَاوِ
وَلَا بُدّ وَلَكِنّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ هَذِهِ اللّفْظَةِ
فِي اللّغَةِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إنّ الْحَبّةَ السّوْدَاءَ
شِفَاءٌ مِنْ كُلّ دَاءٍ إلّا السّامَ وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنّهُ
الْمَوْتُ . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَحَذْلِقِينَ [ ص 388 ] جَمْعُ
سَلِمَةَ وَرَدّ هَذَا الرّدّ مُتَعَيّنٌ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي السّلَامِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ
صَحّ
عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا تَبْدَءُوهُمْ
بِالسّلَامِ وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي الطّرِيقِ فَاضْطَرّوهُمْ إلَى
أَضْيَقِ الطّرِيق لَكِنْ قَدْ قِيلَ إنّ هَذَا كَانَ فِي قَضِيّةٍ
خَاصّةٍ لَمّا سَارُوا إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ لَا تَبْدَءُوهُمْ
بِالسّلَام فَهَلْ هَذَا حُكْمٌ عَامّ لِأَهْلِ الذّمّةِ مُطْلَقًا ، أَوْ
يَخْتَصّ بِمَنْ كَانَتْ حَالُهُ بِمِثْلِ حَالِ أُولَئِكَ ؟ هَذَا
مَوْضِعُ نَظَرٍ وَلَكِنْ قَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النّصَارَى بِالسّلَامِ وَإِذَا
لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي الطّرِيقِ فَاضْطَرّوهُ إلَى أَضْيَقِهِ
وَالظّاهِرُ أَنّ هَذَا حُكْمٌ عَامّ . وَقَدْ اخْتَلَفَ السّلَفُ
وَالْخَلَفُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَبْدَءُونَ بِالسّلَامِ
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى جَوَازِ ابْتِدَائِهِمْ كَمَا يُرَدّ عَلَيْهِمْ
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْنِ مُحَيْرِيز
، وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ لَكِنْ صَاحِبُ
هَذَا الْوَجْهِ قَالَ يُقَالُ لَهُ السّلَامُ عَلَيْكَ فَقَطْ بِدُونِ
ذِكْرِ الرّحْمَةِ وَبِلَفْظِ الْإِفْرَادِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَجُوزُ
الِابْتِدَاءُ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ مِنْ حَاجَةٍ تَكُونُ لَهُ إلَيْهِ
أَوْ خَوْفٍ مِنْ أَذَاهُ أَوْ لِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا ، أَوْ لِسَبَبٍ
يَقْتَضِي ذَلِكَ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النّخَعِيّ ،
وَعَلْقَمَةَ . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : إنْ سَلّمْتَ فَقَدْ سَلّمَ
الصّالِحُونَ وَإِنْ تَرَكْتَ فَقَدْ تَرَكَ الصّالِحُونَ . [ ص 389 ]
وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الرّدّ عَلَيْهِمْ فَالْجُمْهُورُ عَلَى
وُجُوبِهِ وَهُوَ الصّوَابُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَجِبُ الرّدّ
عَلَيْهِمْ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَأَوْلَى ،
وَالصّوَابُ الْأَوّلُ وَالْفَرْقُ أَنّا مَأْمُورُونَ بِهَجْرِ أَهْلِ
الْبِدَعِ تَعْزِيرًا لَهُمْ وَتَحْذِيرًا مِنْهُمْ بِخِلَافِ أَهْلِ
الذّمّةِ . فَصْلٌ وَثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ
مَرّ عَلَى مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ،
وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ ، فَسَلّمَ
عَلَيْهِمْ . وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ كَتَبَ إلَى هِرَقْلَ وَغَيْرِهِ
السّلَامُ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى
فَصْلٌ [ هَلْ رِدّ السّلَامِ فَرْضُ كِفَايَةٍ ]
؟
وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ يُجْزِئُ
عَنْ الْجَمَاعَةِ إذَا مَرّوا أَنْ يُسَلّمَ أَحَدُهُمْ وَيُجْزِئُ عَنْ
الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدّ أَحَدُهُم فَذَهَبَ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ
قَالَ إنّ - 390 - الرّدّ فَرْضُ كِفَايَةٍ يَقُومُ فِيهِ الْوَاحِدُ
مَقَامَ الْجَمِيعِ لَكِنْ مَا أَحْسَنَهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا ، فَإِنّ
هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ
خَالِدٍ الْخُزَاعِيّ الْمَدَنِيّ . قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرّازِيّ
مَدَنِيّ ضَعِيفٌ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرّازِيّ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ
وَقَالَ الْبُخَارِيّ فِيهِ نَظَرٌ . وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ لَيْسَ
بِالْقَوِيّ .
فَصْلٌ [ رَدّ السّلَامِ عَلَى الْمُرْسِلِ وَالْمُبَلّغِ ]
وَكَانَ
مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا بَلّغَهُ أَحَدٌ
السّلَامَ عَنْ غَيْرِهِ أَنْ يَرُدّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُبَلّغِ كَمَا
فِي " السّنَنِ أَنّ رَجُلًا قَالَ لَهُ إنّ أَبِي يُقْرِئُكَ السّلَامَ
فَقَالَ لَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السّلَامُ
[ تَرْكُ السّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدّا عَلَى مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا ]
وَكَانَ
مِنْ هَدْيِهِ تَرْكُ السّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدّا عَلَى مَنْ أَحْدَثَ
حَدَثًا حَتّى يَتُوبَ مِنْهُ كَمَا هَجَرَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ
وَصَاحِبَيْهِ ، وَكَانَ كَعْبٌ يُسَلّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَدْرِي هَلْ
حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدّ السّلَامِ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ [ ص 391 ]
وَسَلّمَ عَلَيْهِ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، وَقَدْ خَلّقَهُ أَهْلُهُ
بِزَعْفَرَانٍ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ فَقَالَ اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا
عَنْك وَهَجَرَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ شَهْرَيْنِ وَبَعْضَ الثّالِثِ
لَمّا قَالَ لَهَا : أَعْطِي صَفِيّةَ ظَهْرًا لَمّا اعْتَلّ بَعِيرُهَا
فَقَالَتْ أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيّةَ ؟ ذَكَرَهُمَا أَبُو
دَاوُدَ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاسْتِئْذَانِ
وَصَحّ
عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ الِاسْتِئْذَانُ
ثَلَاثٌ فَإِنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلّا فَارْجِعْ وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ
أَجْلِ الْبَصَرِ وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ
أَرَادَ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الّذِي نَظَرَ إلَيْهِ مِنْ جُحْرٍ فِي
حُجْرَتِهِ [ ص 392 ] وَقَالَ إنّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ
الْبَصَرِ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَوْ أَنّ امْرَأً اطّلَعَ عَلَيْكَ
بِغَيْرِ إذْنٍ فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ
عَلَيْكَ جُنَاحٌ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مَنْ اطّلَعَ عَلَى قَوْمٍ
فِي بَيْتِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ، فَقَدْ حَلّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا
عَيْنَهُ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مَنْ اطّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ
بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ، فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ
[ التّسْلِيمُ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ ]
وَصَحّ
عَنْهُ التّسْلِيمُ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ فِعْلًا وَتَعْلِيمًا ،
وَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ أَأَلِجُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِرَجُلٍ اُخْرُجْ إلَى هَذَا ،
فَعَلّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ " . فَقَالَ لَهُ قُلْ السّلَامُ عَلَيْكُمْ
أَأَدْخُلُ ؟ فَسَمِعَهُ الرّجُلُ فَقَالَ السّلَامُ عَلَيْكُمْ
أَأَدْخُلُ ؟ فَأَذِنَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَدَخَلَ وَلَمّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
وَهُوَ فِي مَشْرُبَتِهِ مُؤْلِيًا مِنْ نِسَائِهِ قَالَ السّلَامُ
عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللّهِ ، السّلَامُ عَلَيْكُمْ أَيَدْخُلُ عُمَر ؟ [
ص 393 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِكَلَدَةَ بْنِ حَنْبَلٍ لَمّا
دَخَلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسَلّمْ ارْجِعْ فَقُلْ السّلَامُ عَلَيْكُمْ
أَأَدْخُل ؟ وَفِي هَذِهِ السّنَنِ رَدّ عَلَى مَنْ قَالَ وَيُقَدّمُ
الِاسْتِئْذَانُ عَلَى السّلَامِ وَرَدّ عَلَى مَنْ قَالَ إنْ وَقَعَتْ
عَيْنُهُ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ قَبْلَ دُخُولِهِ بَدَأَ بِالسّلَامِ
وَإِنْ لَمْ تَقَعْ عَيْنُهُ عَلَيْهِ بَدَأَ بِالِاسْتِئْذَانِ
وَالْقَوْلَانِ مُخَالِفَانِ لِلسّنّةِ .
[ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثًا ]
وَكَانَ
مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا
وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ انْصَرَفَ وَهُوَ رَدّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنْ ظَنّ
أَنّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا ، زَادَ عَلَى الثّلَاثِ وَرَدّ عَلَى مَنْ
قَالَ يُعِيدُهُ بِلَفْظٍ آخَرَ وَالْقَوْلَانِ مُخَالِفَانِ لِلسّنّةِ .
فَصْلٌ [ ذِكْرُ الْمُسْتَأْذِنِ مَا يَدُلّ عَلَيْهِ ]
وَكَانَ
مِنْ هَدْيِهِ أَنّ الْمُسْتَأْذِنَ إذَا قِيلَ لَهُ مَنْ أَنْتَ ؟ يَقُول
: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ أَوْ يَذْكُرُ كُنْيَتَهُ أَوْ لَقَبَهُ وَلَا
يَقُولُ أَنَا ، كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي لَيْلَةِ
الْمِعْرَاجِ لَمّا اسْتَفْتَحَ بَابَ السّمَاءِ فَسَأَلُوهُ مَنْ ؟
فَقَالَ جِبْرِيلُ . وَاسْتَمَرّ ذَلِكَ فِي كُلّ سَمَاءٍ سَمَاءٍ .
وَكَذَلِكَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " لَمّا جَلَسَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْبُسْتَانِ وَجَاءَ أَبُو بَكْر ٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ فَاسْتَأْذَنَ فَقَالَ مَنْ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ، ثُمّ جَاءَ
عُمَرُ ، فَاسْتَأْذَنَ فَقَالَ مَنْ ؟ قَالَ عُمَرُ ثُمّ عُثْمَان ُ
كَذَلِك [ ص 394 ] الصّحِيحَيْنِ " ، عَنْ جَابِرٍ ، أَتَيْتُ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَقَقْتُ الْبَابَ فَقَالَ " مَنْ ذَا ؟
" فَقُلْت : أَنَا ، فَقَالَ " أَنَا أَنَا " ، كَأَنّهُ كَرِهَهَا
وَلَمّا اسْتَأْذَنَتْ أُمّ هَانِئٍ ، قَالَ لَهَا : " مَنْ هَذِهِ ؟ "
قَالَتْ أُمّ هَانِئٍ فَلَمْ يَكْرَهْ ذِكْرَهَا الْكُنْيَةَ وَكَذَلِكَ
لَمّا قَالَ لِأَبِي ذَرّ : " مَنْ هَذَا ؟ " قَالَ أَبُو ذَر وَكَذَلِكَ
لَمّا قَالَ لِأَبِي قَتَادَةَ " مَنْ هَذَا ؟ " قَالَ أَبُو قَتَادَةَ
فَصْلٌ [ رَسُولُ الرّجُلِ إلَى الرّجُلِ إذْنُهُ ]
أَبُو
دَاوُدَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ
عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : رَسُولُ الرّجُلِ إلَى
الرّجُلِ إذْنُهُ وَفِي لَفْظٍ إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ ،
ثُمّ جَاءَ مَعَ الرّسُولِ فَإِنّ ذَلِكَ إذْنٌ لَهُ وَهَذَا الْحَدِيثُ
فِيهِ مَقَالٌ قَالَ أَبُو عَلِيّ اللّؤْلُؤِيّ : [ ص 395 ] أَبَا دَاوُدَ
يَقُولُ قَتَادَةُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي رَافِعٍ . وَقَالَ
الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " : وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ
أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ " هُوَ إذْنُهُ " فَذَكَرَهُ تَعْلِيقًا لِأَجْلِ
الِانْقِطَاعِ فِي إسْنَادِهِ . وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَابِ
حَدِيثًا يَدُلّ عَلَى أَنّ اعْتِبَارَ الِاسْتِئْذَانِ بَعْدَ الدّعْوَةِ
وَهُوَ حَدِيثُ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ دَخَلْتُ مَعَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَجَدْتُ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ
اذْهَبْ إلَى أَهْلِ الصّفّةِ فَادْعُهُمْ إلَيّ " قَالَ فَأَتَيْتُهُمْ
فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا ، فَاسْتَأْذَنُوا ، فَأَذِنَ لَهُمْ
فَدَخَلُوا وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ بِأَنّ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى
حَالَيْنِ فَإِنْ جَاءَ الدّاعِي عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ
لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِئْذَانٍ وَإِنْ تَرَاخَى مَجِيئُهُ عَنْ
الدّعْوَةِ وَطَالَ الْوَقْتُ احْتَاجَ إلَى اسْتِئْذَانٍ . وَقَالَ
آخَرُونَ إنْ كَانَ عِنْدَ الدّاعِي مَنْ قَدْ أَذِنَ لَهُ قَبْلَ مَجِيءِ
الْمَدْعُوّ لَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِئْذَانٍ آخَرَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُ مَنْ قَدْ أَذِنَ لَهُ لَمْ يَدْخُلْ حَتّى يَسْتَأْذِنَ .
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا دَخَلَ إلَى
مَكَانٍ يُحِبّ الِانْفِرَادَ فِيهِ أَمَرَ مَنْ يُمْسِكُ الْبَابَ فَلَمْ
يَدْخُلْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إلّا بِإِذْنٍ .
فَصْلٌ [ اسْتِئْذَانُ الْمَمَالِيكِ وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ فِي الْعَوْرَاتِ الثّلَاثِ ]
وَأَمّا
الِاسْتِئْذَانُ الّذِي أَمَرَ اللّهُ بِهِ الْمَمَالِيكَ وَمَنْ لَمْ
يَبْلُغْ الْحُلُمَ فِي الْعَوْرَاتِ الثّلَاثِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَوَقْتَ
الظّهِيرَةِ وَعِنْدَ النّوْمِ فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَأْمُرُ بِهِ
وَيَقُولُ تَرَكَ النّاسُ الْعَمَلَ بِهَا ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ الْآيَةُ
مَنْسُوخَةٌ وَلَمْ تَأْتِ بِحُجّةٍ . [ ص 396 ] وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
أَمْرُ نَدْبٍ وَإِرْشَادٍ لَا حَتْمٍ وَإِيجَابٍ وَلَيْسَ مَعَهَا مَا
يَدُلّ عَلَى صَرْفِ الْأَمْرِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
الْمَأْمُورُ بِذَلِكَ النّسَاءُ خَاصّةً وَأَمّا الرّجَالُ
فَيَسْتَأْذِنُونَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَهَذَا ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ
فَإِنّ جَمْعَ " الّذِينَ " لَا يَخْتَصّ بِهِ الْمُؤَنّثُ وَإِنْ جَازَ
إطْلَاقُهُ عَلَيْهِنّ مَعَ الذّكُورِ تَغْلِيبًا . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
عَكْسَ هَذَا : إنّ الْمَأْمُورَ بِذَلِكَ الرّجَالُ دُونَ النّسَاءِ
نَظَرًا إلَى لَفْظِ " الّذِينَ " فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَكِنْ سِيَاقُ
الْآيَةِ يَأْبَاهُ فَتَأَمّلْهُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَانَ الْأَمْرُ
بِالِاسْتِئْذَانِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِلْحَاجَةِ ثُمّ زَالَتْ
وَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ بِعِلّةٍ زَالَ بِزَوَالِهَا ، فَرَوَى أَبُو
دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " أَنّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالُوا
لِابْنِ عَبّاسٍ يَا ابْنَ عَبّاسٍ كَيْفَ تَرَى هَذِهِ الْآيَةَ الّتِي
أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا ، وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ { يَا
أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الّذِينَ مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ } الْآيَةُ [ النّورُ 58 ] . فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : إنّ
اللّهَ حَكِيمٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبّ السّتْرَ ، وَكَانَ
النّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سُتُورٌ وَلَا حِجَالٌ فَرُبّمَا دَخَلَ
الْخَادِمُ أَوْ الْوَلَدُ أَوْ يَتِيمَةُ الرّجُلِ وَالرّجُلُ عَلَى
أَهْلِهِ فَأَمَرَهُمْ اللّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ
فَجَاءَهُمْ اللّهُ بِالسّتُورِ وَالْخَيْرِ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَعْمَلُ
بِذَلِكَ بَعْدُ وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ثُبُوتَ هَذَا عَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ ، وَطَعَنَ فِي عِكْرِمَةَ وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا ، وَطَعَنَ
فِي عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطّلِبِ ، وَقَدْ احْتَجّ
بِهِ صَاحِبَا الصّحِيحِ فَإِنْكَارُ هَذَا تَعَنّتٌ وَاسْتِبْعَادٌ لَا
وَجْهَ لَهُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ عَامّةٌ لَا
مُعَارِضَ لَهَا وَلَا دَافِعَ وَالْعَمَلُ بِهَا وَاجِبٌ وَإِنْ تَرَكَهُ
أَكْثَرُ النّاسِ . [ ص 397 ] كَانَ هُنَاكَ مَا يَقُومُ مَقَامَ
الِاسْتِئْذَانِ مِنْ فَتْحِ بَابٍ فَتْحُهُ دَلِيلٌ عَلَى الدّخُولِ أَوْ
رَفْعِ سِتْرٍ أَوْ تَرَدّدِ الدّاخِلِ وَالْخَارِجِ وَنَحْوِهِ أَغْنَى
ذَلِكَ عَنْ الِاسْتِئْذَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ
فَلَا بُدّ مِنْهُ وَالْحُكْمُ مُعَلّلٌ بِعِلّةٍ قَدْ أَشَارَتْ إلَيْهَا
الْآيَةُ فَإِذَا وُجِدَتْ وُجِدَ الْحُكْمُ وَإِذَا انْتَفَتْ انْتَفَى ،
وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَذْكَارِ الْعُطَاسِ
ثَبَتَ
عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ اللّهَ يُحِبّ الْعُطَاسَ
وَيَكْرَهُ التّثَاؤُبَ ، فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللّهَ
كَانَ حَقّا عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَرْحَمُكَ
اللّهُ ، وَأَمّا التّثَاؤُبُ فَإِنّمَا هُوَ مِنْ الشّيْطَانِ فَإِذَا
تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدّهُ مَا اسْتَطَاَع ، فَإِنّ أَحَدَكُمْ
إذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشّيْطَانُ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ .
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " صَحِيحِهِ " : إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ
الْحَمْدُ لِلّهِ وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ
اللّهُ ، فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللّهُ ، فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُمْ
اللّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ :
أَنّهُ عَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ فَشَمّتَ أَحَدَهُمَا ، وَلَمْ يُشَمّتْ
الْآخَرَ فَقَال الّذِي لَمْ يُشَمّتْهُ عَطَسَ فُلَانٌ فَشَمّتَهُ
وَعَطَسْتُ فَلَمْ تُشَمّتْنِي ، فَقَالَ هَذَا حَمِدَ اللّهَ وَأَنْتَ
لَمْ تَحْمَدْ اللّهَ [ ص 398 ] وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "
: إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللّهَ فَشَمّتُوهُ ، فَإِنْ لَمْ
يَحْمَدْ اللّهَ فَلَا تُشَمّتُوهُ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " صَحِيحِهِ " :
مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ حَقّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتّ :
إذَا لَقِيته ، فَسَلّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا
اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ وَحَمِدَ اللّهَ فَشَمّتْهُ
وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ
عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ
لِلّهِ عَلَى كُلّ حَالٍ وَلْيَقُلْ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ
اللّهُ ، وَلْيَقُلْ هُوَ يَهْدِيكُمْ اللّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُم وَرَوَى
التّرْمِذِي ّ ، أَنّ رَجُلًا عَطَسَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ ، فَقَالَ
الْحَمْدُ لِلّهِ وَالسّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ . فَقَال ابْنُ عُمَرَ
وَأَنَا أَقُولُ الْحَمْدُ لِلّهِ وَالسّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَيْسَ هَكَذَا عَلّمَنَا رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنْ عَلّمَنَا أَنْ نَقُولَ
الْحَمْدُ لِلّهِ عَلَى كُلّ حَال [ ص 399 ] وَذَكَرَ مَالِكٌ ، عَنْ
نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ " كَانَ إذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ يَرْحَمُكَ
اللّه ، قَالَ يَرْحَمُنَا اللّهُ وَإِيّاكُمْ وَيَغْفِرُ لَنَا وَلَكُم
[ حُكْمُ التّشْمِيتِ ]
فَظَاهِرُ
الْحَدِيثِ الْمَبْدُوءِ بِهِ أَنّ التّشْمِيتَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلّ
مَنْ سَمِعَ الْعَاطِسَ يَحْمَدُ اللّهَ وَلَا يُجْزِئُ تَشْمِيتُ
الْوَاحِدِ عَنْهُمْ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ
ابْنُ أَبِي زَيْدٍ ، وَأَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيّ الْمَالِكِيّانِ ،
وَلَا دَافِعَ لَهُ .
[ لَيْسَ مَحَلّ السّلَامِ عِنْدَ الْعُطَاسِ ]
وَقَدْ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ : أَنّ رَجُلًا عَطَسَ عِنْدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ السّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَلَيْكَ السّلَامُ وَعَلَى أُمّك َ "
ثُمّ قَالَ " إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَحْمَدْ اللّهَ " قَالَ
فَذَكَرَ بَعْضَ الْمَحَامِدِ وَلْيَقُلْ لَهُ مَنْ عِنْدَهُ يَرْحَمُكَ
اللّهُ ، وَلْيَرُدّ - يَعْنِي عَلَيْهِمْ - يَغْفِرُ اللّهُ لَنَا
وَلَكُم وَفِي السّلَامِ عَلَى أُمّ هَذَا الْمُسَلّمِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ
وَهِيَ إشْعَارُهُ بِأَنّ سَلَامَهُ قَدْ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَوْقِعِهِ
اللّائِقِ بِهِ كَمَا وَقَعَ هَذَا السّلَامُ عَلَى أُمّهِ فَكَمَا أَنّ
سَلَامَهُ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ كَذَلِكَ سَلَامُهُ هُوَ .
[ مَعَانِي كَلِمَةِ أُمّي ]
وَنُكْتَةٌ
أُخْرَى أَلْطَفُ مِنْهَا ، وَهِيَ تَذْكِيرُهُ بِأُمّهِ وَنَسَبِهِ
إلَيْهَا ، فَكَأَنّهُ أُمّيّ مَحْضٌ [ ص 400 ] أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي
الْأُمّيّ أَنّهُ الْبَاقِي عَلَى نِسْبَتِهِ إلَى الْأُمّ . وَأَمّا
النّبِيّ الْأُمّيّ : فَهُوَ الّذِي لَا يُحِسنُ الْكِتَابَةَ وَلَا
يَقْرَأُ الْكِتَابَ . وَأَمّا الْأُمّيّ الّذِي لَا تَصِحّ الصّلَاةُ
خَلْفَهُ فَهُوَ الّذِي لَا يُصَحّحُ الْفَاتِحَةَ وَلَوْ كَانَ عَالِمًا
بِعُلُومٍ كَثِيرَةٍ . وَنَظِيرُ ذِكْرِ الْأُمّ هَاهُنَا ذِكْرُ هَنِ
الْأَبِ لِمَنْ تَعَزّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيّةِ فَيُقَالُ لَهُ اعضُضْ
هَنَ أَبِيكَ وَكَانَ ذِكْرُ هَنِ الْأَبِ هَاهُنَا أَحْسَنَ تَذْكِيرًا
لِهَذَا الْمُتَكَبّرِ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ بِالْعُضْوِ الّذِي
خَرَجَ مِنْهُ وَهُوَ هَنُ أَبِيهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَدّى
طَوْرَهُ كَمَا أَنّ ذِكْرَ الْأُمّ هَاهُنَا أَحْسَنُ تَذْكِيرًا لَهُ
بِأَنّهُ بَاقٍ عَلَى أُمّيّتِهِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ
رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
[ عِلّةُ الْحَمْدِ بَعْدَ الْعُطَاسِ ]
[ مَعْنَى التّشْمِيتِ ]
وَلَمّا
كَانَ الْعَاطِسُ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ بِالْعُطَاسِ نِعْمَةٌ وَمَنْفَعَةٌ
بِخُرُوجِ الْأَبْخِرَةِ الْمُحْتَقِنَةِ فِي دِمَاغِهِ الّتِي لَوْ
بَقِيَتْ فِيهِ أَحْدَثَتْ لَهُ أَدْوَاءً عَسِرَةً شُرِعَ لَهُ حَمْدُ
اللّهِ عَلَى هَذِهِ النّعْمَةِ مَعَ بَقَاءِ أَعْضَائِهِ عَلَى
الْتِئَامِهَا وَهَيْئَتِهَا بَعْدَ هَذِهِ الزّلْزَلَةِ الّتِي هِيَ
لِلْبَدَنِ كَزَلْزَلَةِ الْأَرْضِ لَهَا ، وَلِهَذَا يُقَالُ سَمّتَهُ
وَشَمّتَهُ بِالسّينِ وَالشّينِ فَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَهُ
أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ . قَالَ وَكُلّ دَاعٍ بِخَيْرٍ فَهُوَ
مُشَمّتٌ وَمُسَمّتٌ . وَقِيلَ بِالْمُهْمَلَةِ دُعَاءٌ لَهُ بِحُسْنِ
السّمْتِ وَبِعَوْدِهِ إلَى حَالَتِهِ مِنْ السّكُونِ وَالدّعَةِ فَإِنّ
الْعُطَاسَ يُحْدِثُ فِي الْأَعْضَاءِ حَرَكَةً وَانْزِعَاجًا .
وَبِالْمُعْجَمَةِ دُعَاءٌ لَهُ بِأَنْ يَصْرِفَ اللّهُ عَنْهُ مَا
يُشَمّتُ بِهِ أَعْدَاءَهُ فَشَمّتَهُ إذَا أَزَالَ عَنْهُ الشّمَاتَةَ "
ك " قَرّدَ الْبَعِيرَ إذَا أَزَالَ [ ص 401 ] وَقِيلَ هُوَ دُعَاءٌ لَهُ
بِثَبَاتِهِ عَلَى قَوَائِمِهِ فِي طَاعَةِ اللّهِ مَأْخُوذٌ مِنْ
الشّوَامِتِ وَهِيَ الْقَوَائِمُ . وَقِيلَ هُوَ تَشْمِيتٌ لَهُ
بِالشّيْطَانِ لِإِغَاظَتِهِ بِحَمْدِ اللّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْعُطَاسِ
وَمَا حَصَلَ لَهُ بِهِ مِنْ مُحَابّ اللّهِ فَإِنّ اللّهَ يُحِبّهُ
فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ اللّهَ وَحَمِدَهُ سَاءَ ذَلِكَ الشّيْطَانُ
مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا : نَفْسُ الْعُطَاسِ الّذِي يُحِبّهُ اللّهُ
وَحَمْدُ اللّهِ عَلَيْهِ وَدُعَاءُ الْمُسْلِمِينَ لَهُ بِالرّحْمَةِ
وَدُعَاؤُهُ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَإِصْلَاحُ الْبَالِ وَذَلِك كُلّهُ
غَائِظٌ لِلشّيْطَانِ مُحْزِنٌ لَهُ فَتَشْمِيتُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْظِ
عَدُوّهِ وَحُزْنِهِ وَكَآبَتِهِ فَسُمّيَ الدّعَاءُ لَهُ بِالرّحْمَةِ
تَشْمِيتًا لَهُ لِمَا فِي ضِمْنِهِ مِنْ شَمَاتَتِهِ بِعَدُوّهِ وَهَذَا
مَعْنًى لَطِيفٌ إذَا تَنَبّهَ لَهُ الْعَاطِسُ وَالْمُشَمّتُ انْتَفَعَا
بِهِ وَعَظُمَتْ عِنْدَهُمَا مَنْفَعَةُ نِعْمَةِ الْعُطَاسِ فِي
الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ وَتَبَيّنَ السّرّ فِي مَحَبّةِ اللّهِ لَهُ
فَلِلّهِ الْحَمْدُ الّذِي هُوَ أَهْلُهُ كَمَا يَنْبَغِي لِكَرِيمِ
وَجْهِهِ وَعِزّ جَلَالِهِ .