كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية
فَصْلٌ فِي قِصّةِ الْحُدَيْبِيَةِ
[ مَتَى حَدَثَتْ ]
قَالَ
نَافِعٌ : كَانَتْ سَنَةُ سِتّ فِي ذِي الْقِعْدَةِ وَهَذَا هُوَ
الصّحِيحُ وَهُوَ قَوْلُ الزّهْرِيّ وَقَتَادَةَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ
وَمُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ . وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ
عَنْ أَبِيهِ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى
الْحُدَيْبِيَةِ فِي رَمَضَانَ وَكَانَتْ فِي شَوّالٍ وَهَذَا وَهْمٌ
وَإِنّمَا كَانَتْ غَزَاةُ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ وَقَدْ قَالَ أَبُو
الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ إنّهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَلَى
الصّوَابِ .
[ كَمْ اعْتَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَيَاتِهِ ]
[
ص 256 ] الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ . صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلّهُنّ فِي ذِي
الْقِعْدَةِ فَذَكَرَ مِنْهَا عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ .
[ كَمْ كَانَ مَعَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم ]
وَكَانَ
مَعَهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ هَكَذَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ
جَابِرٍ وَعَنْهُ فِيهِمَا : كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَة وَفِيهِمَا
: عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى : " كُنّا أَلْفًا
وَثَلَاثَمِائَةٍ " قَالَ قَتَادَةُ : قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ
: كَمْ كَانَ الّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرّضْوَانِ ؟ قَالَ خَمْسَ
عَشْرَةَ مِائَةٍ . قَالَ قُلْتُ فَإِنّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ قَالَ
كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ قَالَ يَرْحَمُهُ اللّهُ أَوْهَمَ هُوَ
حَدّثَنِي أَنّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةٍ . قُلْت : وَقَدْ
صَحّ عَنْ جَابِرٍ الْقَوْلَانِ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُمْ نَحَرُوا عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ فَقِيلَ
لَهُ كَمْ كُنْتُمْ ؟ قَالَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ بِخَيْلِنَا
وَرَجْلِنَا يَعْنِي فَارِسَهُمْ وَرَاجِلَهُمْ وَالْقَلْبُ إلَى هَذَا
أَمْيَلُ وَهُوَ قَوْلُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ
وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فِي أَصَحّ [ ص 257 ] الْمُسَيّبِ بْنِ
حَزْنٍ قَالَ شُعْبَةُ : عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ
عَنْ أَبِيهِ كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
تَحْتَ الشّجَرَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ . وَغَلِطَ غَلَطًا بَيّنًا
مَنْ قَالَ كَانُوا سَبْعَمِائَةٍ وَعُذْرُهُ أَنّهُمْ نَحَرُوا
يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ بدنه وَالْبَدَنَةُ قَدْ جَاءَ إجْزَاؤُهَا عَنْ
سَبْعَةٍ وَعَنْ عَشْرَةٍ وَهَذَا لَا يَدُلّ عَلَى مَا قَالَهُ هَذَا
الْقَائِلُ فَإِنّهُ قَدْ صَرّحَ بِأَنّ الْبَدَنَةَ كَانَتْ فِي هَذِهِ
الْعُمْرَةِ عَنْ سَبْعَةٍ فَلَوْ كَانَتْ السّبْعُونَ عَنْ جَمِيعِهِمْ
لَكَانُوا أَرْبَعَمِائَةٍ وَتِسْعِينَ رَجُلًا وَقَدْ قَالَ فِي تَمَامِ
الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ إنّهُمْ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ
فَصْلٌ [ تَقْلِيدُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْهَدْيَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَبَعْثُهُ
عَيْنًا لَهُ ابْنَ خُزَاعَةَ إلَى قُرَيْشٍ ]
[ اسْتِشَارَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ فِيمَا يَفْعَلُهُ ]
[ رُؤْيَتُهُمْ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَفِرَارُهُ مِنْهُمْ ]
[ بِرَوْكِ الْقَصْوَاءِ ]
[ نُزُولُهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ ]
فَلَمّا
كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلّدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَبَعَثَ
بَيْنَ يَدَيْهِ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ يُخْبِرُهُ عَنْ قُرَيْشٍ
حَتّى إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ عُسْفَانَ أَتَاهُ عَيْنُهُ فَقَالَ إنّي
تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيّ قَدْ جَمَعُوا لَك الْأَحَابِيشَ وَجَمَعُوا
لَك جُمُوعًا وَهُمْ مُقَاتِلُوك وَصَادّوك عَنْ الْبَيْتِ وَمَانِعُوك
وَاسْتَشَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ
وَقَالَ أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيلَ إلَى ذَرَارِيّ هَؤُلَاءِ الّذِينَ
أَعَانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ
مَحْرُوبِينَ وَإِنْ يَجِيئُوا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللّهُ أَمْ
تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ ؟
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ إنّمَا جِئْنَا
مُعْتَمِرِينَ وَلِمَ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنْ مَنْ حَالَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ قَاتَلْنَاهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرُوحُوا إذًا فَرَاحُوا حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ
الطّرِيقِ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّ خَالِدَ
بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةً [ ص 258 ]
شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتّى إذَا هُمْ بِقَتَرَةِ الْجَيْشِ فَانْطَلَقَ
يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ وَسَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حَتّى إذَا كَانَ بِالثّنِيّةِ الّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ
مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فَقَالَ النّاسُ حَلْ حَلْ فَأَلَحّتْ
فَقَالُوا : خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ فَقَالَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ وَمَا
ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ثُمّ قَالَ
وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطّةً يُعَظّمُونَ فِيهَا
حُرُمَاتِ اللّه إلّا أَعْطَيْتُهُمْ إيّاهَا ثُمّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ
بِهِ فَعَدَلَ حَتّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ
قَلِيلِ الْمَاءُ إنّمَا يَتَبَرّضُهُ النّاسُ تَبَرّضًا فَلَمْ
يُلْبِثْهُ النّاسُ أَنْ نَزَحُوهُ فَشَكَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَطَشَ فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ
ثُمّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيهِ قَالَ فَوَاَللّهِ مَا زَالَ
يَجِيشُ لَهُمْ بِالرّيّ حَتّى صَدَرُوا عَنْهُ .
[ إرْسَالُ عُثْمَانَ إلَى قُرَيْشٍ ]
وَفَزِعَتْ
قُرَيْشٌ لِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ فَأَحَبّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ
فَدَعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَيْهِمْ فَقَالَ يَا
رَسُولَ اللّهِ لَيْسَ لِي بِمَكّةَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ يَغْضَبُ
لِي إنْ أُوذِيت فَأَرْسِلْ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ فَإِنّ عَشِيرَتَهُ
بِهَا وَإِنّهُ مُبَلّغٌ مَا أَرَدْت فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ فَأَرْسَلَهُ إلَى قُرَيْشٍ
وَقَالَ أَخْبِرْهُمْ أَنّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالٍ وَإِنّمَا جِئْنَا
عُمّارًا وَادْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ
رِجَالًا بِمَكّةَ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ فَيَدْخُلَ
عَلَيْهِمْ وَيُبَشّرُهُمْ بِالْفَتْحِ وَيُخْبِرَهُمْ أَنّ اللّهَ عَزّ
وَجَلّ مُظْهِرٌ دِينَهُ بِمَكّةَ حَتّى لَا يُسْتَخْفَى فِيهَا
بِالْإِيمَانِ فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ فَمَرّ عَلَى قُرَيْشٍ بِبَلْدَحَ
فَقَالُوا : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ فَقَالَ [ ص 259 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَدْعُوكُمْ إلَى اللّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ وَأُخْبِرُكُمْ
أَنّا لِمَ نَأْتِ لِقِتَالٍ وَإِنّمَا جِئْنَا عُمّارًا فَقَالُوا : قَدْ
سَمِعْنَا مَا تَقُولُ فَانْفُذْ لِحَاجَتِك وَقَامَ إلَيْهِ أَبَانُ بْنُ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَرَحّبَ بِهِ وَأَسْرَجَ فَرَسَهُ فَحَمَلَ
عُثْمَانَ عَلَى الْفَرَسِ وَأَجَارَهُ وَأَرْدَفَهُ أَبَانُ حَتّى جَاءَ
مَكّةَ وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ عُثْمَانُ ؟ خَلَصَ
عُثْمَانُ قَبْلَنَا إلَى الْبَيْتِ وَطَافَ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَظُنّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَنَحْنُ
مَحْصُورُونَ " فَقَالُوا : وَمَا يَمْنَعُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ وَقَدْ
خَلَصَ ؟ قَالَ " ذَاكَ ظَنّي بِهِ أَلّا يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ حَتَى
نَطُوفَ مَعَهُ
[ بَيْعَةُ الرّضْوَانِ ]
وَاخْتَلَطَ
الْمُسْلِمُونَ بِالْمُشْرِكِينَ فِي أَمْرِ الصّلْحِ فَرَمَى رَجُلٌ مِنْ
أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ رَجُلًا مِنْ الْفَرِيقِ الْآخَرِ وَكَانَتْ
مَعْرَكَةً وَتَرَامَوْا بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ وَصَاحَ الْفَرِيقَانِ
كِلَاهُمَا وَارْتَهَنَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْ فِيهِمْ
وَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ عُثْمَانَ
قَدْ قُتِلَ فَدَعَا إلَى الْبَيْعَةِ فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ تَحْتَ الشّجَرَةِ
فَبَايَعُوهُ عَلَى أَلّا يَفِرّوا فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِ نَفْسِهِ وَقَالَ هَذِهِ عَنْ عُثْمَان
[ رُجُوعُ عُثْمَانَ ]
وَلَمّا
تَمّتْ الْبَيْعَةُ رَجَعَ عُثْمَانُ فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ
اشْتَفَيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ مِنْ الطّوَافِ بِالْبَيْتِ فَقَالَ
بِئْسَ مَا ظَنَنْتُمْ بِي وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ مَكَثْتُ
بِهَا سَنَةً وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُقِيمٌ
بِالْحُدَيْبِيَةِ مَا طُفْتُ بِهَا حَتّى يَطُوفَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَقَدْ دَعَتْنِي قُرَيْشٌ إلَى
الطّوَافِ بِالْبَيْتِ فَأَبَيْت فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ أَعْلَمَنَا بِاَللّهِ
وَأَحْسَنَنَا ظَنّا وَكَانَ عُمَرُ آخِذًا بِيَدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْبَيْعَةِ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَبَايَعَهُ
الْمُسْلِمُونَ كُلّهُمْ إلّا الْجَدّ بْنَ قَيْسٍ [ ص 260 ] وَكَانَ
مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ آخِذًا بِغُصْنِهَا يَرْفَعُهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ أَوّلَ مَنْ بَايَعَهُ أَبُو
سِنَانٍ الْأَسَدِيّ وَبَايَعَهُ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ ثَلَاثَ
مَرّاتٍ فِي أَوّلِ النّاسِ وَأَوْسَطِهِمْ وَآخِرِهِمْ .
[ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ ]
فَبَيْنَمَا
هُمْ كَذَلِكَ إذْ جَاءَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ فِي نَفَرٍ
مِنْ خُزَاعَةَ وَكَانُوا عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ فَقَالَ إنّي تَرَكْتُ كَعْبَ
بْنَ لُؤَيّ وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ
الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ وَهُمْ مُقَاتِلُوك
وَصَادّوك عَنْ الْبَيْتِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إنّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ وَلَكِنْ جِئْنَا
مُعْتَمِرِينَ وَإِنّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمْ الْحَرْبُ وَأَضَرّتْ
بِهِمْ فَإِنْ شَاءُوا مَادَدْتهمْ وَيُخَلّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النّاسِ
وَإِنْ شَاءُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ فَعَلُوا
وَإِلّا فَقَدْ جَمّوا وَإِنْ هُمْ أَبَوْا إلّا الْقِتَالَ فَوَاَلّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتّى تَنْفَرِدَ
سَالِفَتِي أَوْ لَيُنْفِذَنّ اللّهُ أَمْرَه
[ إرْسَالُ عُرْوَةَ الثّقَفِيّ إلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
بُدَيْلُ سَأَبْلُغُهُمْ مَا تَقُولُ فَانْطَلَقَ حَتّى أَتَى قُرَيْشًا
فَقَالَ إنّي قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرّجُلِ وَقَدْ
سَمِعْتُهُ يَقُولُ قَوْلًا فَإِنْ شِئْتُمْ عَرَضْتُهُ عَلَيْكُمْ .
فَقَالَ سُفَهَاؤُهُمْ لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُحَدّثَنَا عَنْهُ
بِشَيْءٍ . وَقَالَ ذَوُو الرّأْيِ مِنْهُمْ هَاتِ مَا سَمِعْته قَالَ
سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا . فَحَدّثَهُمْ بِمَا قَالَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ
الثّقَفِيّ : إنّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطّةَ رُشْدٍ
فَاقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ فَقَالُوا : ائْتِهِ فَأَتَاهُ فَجَعَلَ
يُكَلّمُهُ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْوًا
مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْ
مُحَمّدٌ أَرَأَيْتَ لَوْ اسْتَأْصَلْتَ قَوْمَك هَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ
مِنْ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَهْلَهُ قَبْلَك ؟ وَإِنْ تَكُنْ الْأُخْرَى
فَوَاَللّهِ إنّي لَأَرَى وُجُوهًا وَأَرَى أَوْشَابًا مِنْ النّاسِ
خَلِيقًا أَنْ يَفِرّوا وَيَدَعُوك فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ اُمْصُصْ
بَظْرَ اللّاتِ أَنَحْنُ نَفِرّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ . قَالَ مَنْ ذَا ؟
قَالُوا : أَبُو بَكْرٍ . قَالَ أَمَا وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا
يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُك وَجَعَلَ
يُكَلّمُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكُلّمَا [ ص 261 ]
أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عِنْدَ رَأْسِ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَهُ السّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ
فَكُلّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ إلَى لِحْيَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السّيْفِ وَقَالَ أَخّرْ يَدَكَ عَنْ
لِحْيَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَفَعَ
عُرْوَةُ رَأْسَهُ وَقَالَ مَنْ ذَا ؟ قَالُوا : الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ . فَقَالَ أَيْ غُدَرُ أَوَلَسْت أَسْعَى فِي غَدْرَتِك ؟
وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَقَتَلَهُمْ
وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمّ جَاءَ فَأَسْلَمَ . فَقَالَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ وَأَمّا الْمَالُ
فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْء
[ إرْسَالُ مِكْرَزٍ إلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
[ رَدّ أَبِي جَنْدَلٍ إلَى الْمُشْرِكِينَ ]
ثُمّ
إنّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعَيْنَيْهِ فَوَاَللّهِ مَا تَنَخّمَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نُخَامَةً إلّا وَقَعَتْ فِي كَفّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ فَدَلّكَ بِهَا جِلْدَهُ وَوَجْهَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ
ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى
وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا
يُحِدّونَ إلَيْهِ النّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ فَرَجَعَ عُرْوَةُ إلَى
أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيْ قَوْمُ وَاَللّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى
الْمُلُوكِ عَلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنّجَاشِيّ وَاَللّهِ مَا
رَأَيْتُ مَلِكًا يُعَظّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظّمُ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ
مُحَمّدًا وَاَللّهِ إنْ تَنَخّمَ نُخَامَةً إلّا وَقَعَتْ فِي كَفّ
رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلّكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ
ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى
وُضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا
يُحِدّونَ إلَيْهِ النّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ
خُطّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ
دَعُونِي آتِهِ فَقَالُوا : ائْتِهِ فَلَمّا أَشْرَفَ عَلَى النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ . قَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا فُلَانٌ " وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ
يُعَظّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ فَبَعَثُوهَا لَهُ
وَاسْتَقْبَلَهُ الْقَوْمُ يُلَبّونَ فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ "
سُبْحَانَ اللّهِ مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدّوا عَنْ الْبَيْتِ
فَرَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلّدَتْ
وَأُشْعِرَتْ وَمَا أَرَى أَنْ يُصَدّوا عَنْ الْبَيْتِ فَقَامَ مِكْرَزُ
بْنُ حَفْصٍ فَقَالَ دَعُونِي آتِهِ . فَقَالُوا : ائْتِهِ فَلَمّا
أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا
مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ فَجَعَلَ يُكَلّمُ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَيْنَا هُوَ يُكَلّمُهُ إذْ
جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَدْ سُهّلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ فَقَالَ هَاتِ اُكْتُبْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا فَدَعَا الْكَاتِبَ فَقَالَ " اُكْتُبْ
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ " . فَقَالَ [ ص 262 ] كُنْتَ
تَكْتُبُ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ وَاَللّهِ لَا نَكْتُبُهَا إلّا بِسْمِ
اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ اُكْتُبْ بِاسْمِكَ اللّهُمّ " ثُمّ قَالَ اُكْتُبْ هَذَا مَا
قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ فَقَالَ سُهَيْلٌ فَوَاَللّهِ
لَوْ كُنّا نَعْلَمُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاك وَلَكِنْ اُكْتُبْ
مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إنّي رَسُولُ اللّهِ وَإِنْ كَذّبْتُمُونِي اُكْتُبْ مُحَمّدُ
بْنُ عَبْدِ اللّه فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى
أَنْ تُخَلّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَنَطُوفَ بِهِ " فَقَالَ
سُهَيْلٌ وَاَللّهِ لَا تَتَحَدّثُ الْعَرَبُ أَنّا أُخِذْنَا ضَغْطَةً
وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَكَتَبَ فَقَالَ سُهَيْلٌ
عَلَى أَنْ لَا يَأْتِيكَ مِنّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِك إلّا
رَدَدْتَهُ إلَيْنَا فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ سُبْحَانَ اللّهِ كَيْفَ
يُرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا بَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ
إذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي
قُيُودِهِ قَدْ خَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكّةَ حَتّى رَمَى بِنَفْسِهِ
بَيْنَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ سُهَيْلٌ هَذَا يَا مُحَمّدُ
أَوّلُ مَا أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدّهُ إلَيّ فَقَالَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ
فَقَالَ فَوَاَللّهِ إذًا لَا أُصَالِحُك عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا فَقَالَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَأَجِزْهُ لِي " قَالَ مَا
أَنَا بِمُجِيزِهِ لَك . قَالَ " بَلَى فَافْعَلْ " قَالَ مَا أَنَا
بِفَاعِلٍ . قَالَ مِكْرَزٌ بَلَى قَدْ أَجَزْنَاهُ فَقَالَ أَبُو
جَنْدَلٍ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أُرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ
جِئْتُ مُسْلِمًا أَلَا تَرَوْنَ مَا لَقِيتُ وَكَانَ قَدْ عُذّبَ فِي
اللّهِ عَذَابًا شَدِيدًا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : وَاَللّهِ مَا
شَكَكْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إلّا يَوْمَئِذٍ فَأَتَيْتُ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَسْت نَبِيّ اللّهِ حَقّا ؟ قَالَ بَلَى قُلْتُ
أَلَسْنَا عَلَى الْحَقّ وَعَدُوّنَا عَلَى الْبَاطِلِ ؟ قَالَ بَلَى .
فَقُلْتُ عَلَامَ نُعْطِيَ الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا إذًا وَنَرْجِعُ
وَلَمّا يَحْكُمُ اللّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَعْدَائِنَا ؟ فَقَالَ إنّي
رَسُولُ اللّهِ وَهُوَ نَاصِرِي وَلَسْتُ أَعْصِيهِ قُلْتُ أَوَلَسْت
كُنْتَ تُحَدّثُنَا أَنّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَالَ "
بَلَى أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ ؟ " قُلْتُ لَا . قَالَ
" فَإِنّكَ آتِيهِ وَمُطّوّفٌ بِهِ " . قَالَ فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ
فَقُلْتُ لَهُ كَمَا قُلْتُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَرَدّ عَلَيّ أَبُو بَكْرٍ كَمَا رَدّ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَوَاءً وَزَادَ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ
حَتّى تَمُوتَ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَعَلَى [ ص 263 ] قَالَ عُمَرُ
فَعَمِلْت لِذَلِكَ أَعْمَالًا . فَلَمّا فَرَغَ مِنْ قَضِيّةِ الْكِتَابِ
قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُومُوا فَانْحَرُوا
ثُمّ احْلِقُوا فَوَاَللّهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ حَتّى
قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرّاتٍ فَلَمّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَامَ
فَدَخَلَ عَلَى أُمّ سَلَمَة َ فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنْ النّاسِ
فَقَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُحِبّ ذَلِكَ ؟ اُخْرُجْ
ثُمّ لَا تُكَلّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتّى تَنْحَرَ بُدْنَك
وَتَدْعُوَ حَالِقَك فَيَحْلِقَكَ فَقَامَ فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلّمْ
أَحَدًا مِنْهُمْ حَتّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ
فَحَلَقَهُ فَلَمّا رَأَى النّاسُ ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَجَعَلَ
بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا
غَمّا ثُمّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ {
يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ
مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ } حَتّى بَلَغَ { بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ }
[ الْمُمْتَحِنَةُ 10 ] فَطَلّقَ عُمَرُ يَوْمئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا
لَهُ فِي الشّرْكِ فَتَزَوّجَ إحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ وَالْأُخْرَى
صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَفِي مَرْجِعِهِ
أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ { إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا
لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخّرَ
وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا
وَيَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْرًا عَزِيزًا } [ الْفَتْحُ 31 ] فَقَالَ عُمَرُ
أَوَفَتْحٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ الصّحَابَةُ
هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَمَا لَنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ
وَجَلّ { هُوَ الّذِي أَنْزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ }
[ الْفَتْحُ 4 ]
[ قِصّةُ أَبِي بَصِير]
وَلَمّا رَجَعَ إلَى
الْمَدِينَةِ جَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مُسْلِمًا
فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِهِ رَجُلَيْنِ وَقَالُوا : الْعَهْدَ الّذِي
جَعَلْت لَنَا فَدَفَعَهُ إلَى الرّجُلَيْنِ فَخَرَجَا بِهِ حَتّى بَلَغَا
ذَا الْحُلَيْفَة ِ فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ فَقَالَ
أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرّجُلَيْنِ وَاَللّهِ إنّي لَأَرَى سَيْفَكَ
هَذَا جَيّدًا فَاسْتَلّهُ الْآخَرُ فَقَالَ أَجَلْ وَاَللّهِ إنّهُ
لَجَيّدٌ لَقَدْ جَرّبْتُ بِهِ ثُمّ جَرّبْت فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ :
أَرِنِي أَنْظُرْ إلَيْهِ فَأَمْكَنَهُ مِنْهُ فَضَرَبَهُ بِهِ حَتّى [ ص
264 ] بَرَدَ وَفَرّ الْآخَرُ يَعْدُو حَتّى بَلَغَ الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ
الْمَسْجِدَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ
رَآهُ " لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا " فَلَمّا انْتَهَى إلَى النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ قُتِلَ وَاَللّهِ صَاحِبِي وَإِنّي
لَمَقْتُولٌ فَجَاءَ أَبُو بَصِيرٍ فَقَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ قَدْ
وَاَللّهِ أَوْفَى اللّهُ ذِمّتَك قَدْ رَدَدْتنِي إلَيْهِمْ فَأَنْجَانِي
اللّهُ مِنْهُمْ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ "
وَيْلُ أُمّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ " فَلَمّا سَمِعَ
ذَلِكَ عَرَفَ أَنّهُ سَيَرُدّهُ إلَيْهِمْ فَخَرَجَ حَتّى أَتَى سِيفَ
الْبَحْرِ وَيَنْفَلِتُ مِنْهُمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فَلَحِقَ
بِأَبِي بَصِيرٍ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ قُرَيْشٍ رَجُلٌ قَدْ أَسْلَمَ إلّا
لَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ حَتّى اجْتَمَعَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ فَوَاَللّهِ
لَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ لِقُرَيْشٍ خَرَجَتْ إلَى الشّامِ إلّا
اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ فَأَرْسَلَتْ
قُرَيْشٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تُنَاشِدُهُ
اللّهَ وَالرّحِمَ لَمّا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ فَمَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ
فَهُوَ آمِنٌ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { وَهُوَ الّذِي كَفّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ مِنْ
بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } حَتّى بَلَغَ حَمِيّةَ
الْجَاهِلِيّةِ [ الْفَتْحُ 24 ] وَكَانَتْ حَمِيّتُهُمْ أَنّهُمْ لَمْ
يُقِرّوا أَنّهُ نَبِيّ اللّهِ وَلَمْ يُقِرّوا بِبِسْمِ اللّهِ
الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَيْتِ .
[ فَوْرُ بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْمَاءِ بِبَرَكَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قُلْتُ
فِي " الصّحِيحِ " : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
تَوَضّأَ وَمَجّ فِي بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ فَمِهِ فَجَاشَتْ
بِالْمَاء كَذَلِكَ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَسَلَمَةُ بْنُ
الْأَكْوَعِ فِي " الصّحِيحَيْنِ " . [ ص 265 ] وَقَالَ عُرْوَةُ عَنْ
مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنّهُ غَرَزَ
فِيهَا سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِه وَهُوَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَيْضًا .
وَفِي مَغَازِي أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ تَوَضّأَ فِي الدّلْوِ
وَمَضْمَضَ فَاهُ ثُمّ مَجّ فِيهِ وَأَمَرَ أَنْ يُصَبّ فِي الْبِئْرِ
وَنَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ وَأَلْقَاهُ فِي الْبِئْرِ وَدَعَا
اللّهَ تَعَالَى فَفَارَتْ بِالْمَاءِ حَتّى جَعَلُوا يَغْتَرِفُونَ
بِأَيْدِيهِمْ مِنْهَا وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شِقّهَا فَجَمَعَ بَيْنَ
الْأَمْرَيْنِ وَهَذَا أَشْبَهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ فَوْرُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَفِي
" صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : عَنْ جَابِرٍ قَالَ عَطِشَ النّاسُ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ
يَدَيْهِ رَكْوَةٌ يَتَوَضّأُ مِنْهَا إذْ جَهَشَ النّاسُ نَحْوَهُ
فَقَالَ مَا لَكُمْ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عِنْدَنَا مَاءٌ
نَشْرَبُ وَلَا مَا نَتَوَضّأُ إلّا مَا بَيْنَ يَدَيْك فَوَضَعَ يَدَهُ
فِي الرّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ
أَمْثَالَ الْعُيُونِ فَشَرِبُوا وَتَوَضّئُوا وَكَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ
مِائَةٍ وَهَذِهِ غَيْرُ قِصّةِ الْبِئْرِ .
[ هُطُولُ الْمَطَرِ ]
وَفِي
هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَصَابَهُمْ لَيْلَةً مَطَرٌ فَلَمّا صَلّى النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّبْحَ قَالَ أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ
رَبّكُمْ اللّيْلَةَ ؟ " قَالُوا : اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ "
أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ فَأَمّا مَنْ قَالَ
مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ
بِالْكَوْكَبِ وَأَمّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا
فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَب
فَصْلٌ [ مَا جَرَى عَلَيْهِ الصّلْحُ ]
[
ص 266 ] مَكّةَ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ وَأَنْ يَأْمَنَ
النّاسُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَأَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ عَامَهُ ذَلِكَ
حَتّى إذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ قَدِمَهَا وَخَلّوْا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ مَكّةَ فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثًا وَأَنْ لَا يَدْخُلَهَا إلّا
بِسِلَاحِ الرّاكِبِ وَالسّيُوفِ فِي الْقِرَبِ وَأَنّ مَنْ أَتَانَا مِنْ
أَصْحَابِكَ لَمْ نَرُدّهُ عَلَيْك وَمَنْ أَتَاكَ مِنْ أَصْحَابِنَا
رَدّدَتْهُ عَلَيْنَا وَأَنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ عَيْبَةً مَكْفُوفَةً
وَأَنّهُ لَا إسْلَالَ وَلَا إغْلَالَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ
نُعْطِيهِمْ هَذَا ؟ فَقَالَ مَنْ أَتَاهُمْ مِنّا فَأَبْعَدَهُ اللّهُ
وَمَنْ أَتَانَا مِنْهُمْ فَرَدَدْنَاهُ إلَيْهِمْ جَعَلَ اللّهُ لَهُ
فَرَجًا وَمَخْرَجًا
[ فِدْيَةُ الْأَذَى لِمَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ ]
وَفِي
قِصّةِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْزَلَ اللّهُ - عَزّ وَجَلّ - فِدْيَةَ
الْأَذَى لِمَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ بِالصّيَامِ أَوْ الصّدَقَةِ أَوْ
النّسُكِ فِي شَأْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ . وَفِيهَا دَعَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْمُحَلّقِينَ بِالْمَغْفِرَةِ
ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصّرِينَ مَرّةً . وَفِيهَا نَحَرُوا الْبَدَنَةَ عَنْ
سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ . وَفِيهَا أَهْدَى رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي جُمْلَةِ هَدْيِهِ جَمَلًا كَانَ
لِأَبِي جَهْلٍ كَانَ فِي أَنْفِهِ بُرّةٌ مِنْ فِضّةٍ لِيَغِيظَ بِهِ
الْمُشْرِكِينَ . وَفِيهَا أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ وَدَخَلَتْ
خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَعَهْدِهِ وَدَخَلَتْ بَنُو بَكْرٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ
وَكَانَ فِي الشّرْطِ أَنّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ [ ص 267 ] صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ
قُرَيْشٍ دَخَلَ .
[ عَدَمُ رَدّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُمّ كُلْثُوم ٍ بِنْتَ عُقْبَةَ إلَى الْمُشْرِكِينَ ]
وَلَمّا
رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ جَاءَهُ نِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ مِنْهُنّ أُمّ
كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَجَاءَ أَهْلُهَا
يَسْأَلُونَهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالشّرْطِ
الّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يُرْجِعْهَا إلَيْهِمْ وَنَهَاهُ اللّهُ
عَزّ وَجَلّ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ هَذَا نَسْخٌ لِلشّرْطِ فِي النّسَاءِ .
وَقِيلَ تَخْصِيصٌ لِلسّنّةِ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ عَزِيزٌ جِدّا . وَقِيلَ
لَمْ يَقَعْ الشّرْطُ إلّا عَلَى الرّجَالِ خَاصّةً وَأَرَادَ
الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُعَمّمُوهُ فِي الصّنْفَيْنِ فَأَبَى اللّهُ ذَلِكَ .
فَصْلٌ فِي بَعْضِ مَا فِي قِصّةِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْفَوَائِدِ الْفِقْهِيّةِ
فَمِنْهَا
: اعْتِمَارُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَشْهُرِ
الْحَجّ فَإِنّهُ خَرَجَ إلَيْهَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ .
[ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ كَمَا أَنّ
الْإِحْرَامَ بِالْحَجّ كَذَلِكَ فَإِنّهُ أَحْرَمَ بِهِمَا مِنْ ذِي
الْحُلَيْفَةِ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مَيْلٌ أَوْ نَحْوُهُ
وَأَمّا حَدِيثُ مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ غُفِرَ
لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخّر وَفِي لَفْظٍ كَانَتْ
كَفّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذّنُوبِ فَحَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ وَقَدْ
اُضْطُرِبَ فِيهِ إسْنَادًا وَمَتْنًا اضْطِرَابًا شَدِيدًا . وَمِنْهَا :
أَنّ سَوْقَ الْهَدْيِ مَسْنُونٌ فِي الْعُمْرَةِ الْمُفْرَدَةِ كَمَا
هُوَ مَسْنُونٌ فِي الْقِرَانِ . وَمِنْهَا : أَنّ إشْعَارَ الْهَدْيِ
سُنّةٌ لَا مُثْلَةٌ مَنْهِيّ عَنْهَا . [ ص 268 ]
[ اسْتِحْبَابُ مُغَايَظَةِ أَعْدَاءِ اللّهِ ]
وَمِنْهَا
: اسْتِحْبَابُ مُغَايَظَةِ أَعْدَاءِ اللّهِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْدَى فِي جُمْلَةِ هَدْيِهِ جَمَلًا لِأَبِي
جَهْلٍ فِي أَنْفِهِ بُرّةٌ مِنْ فِضّةٍ يَغِيظُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ { وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ
أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ } [ الْفَتْحُ 29 ]
وَقَالَ عَزّ وَجَلّ { ذَلِكَ بِأَنّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا
نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا
يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَيْلًا إِلّا كُتِبَ
لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ } [ التّوْبَةُ 120 ] . وَمِنْهَا : أَنّ أَمِيرَ
الْجَيْشِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْعَثَ الْعُيُونَ أَمَامَهُ نَحْوَ
الْعَدُوّ .
[ الِاسْتِعَانَةُ بِالْمُشْرِكِ ]
وَمِنْهَا : أَنّ
الِاسْتِعَانَةَ بِالْمُشْرِكِ الْمَأْمُونِ فِي الْجِهَادِ جَائِزَةٌ
عِنْدَ الْحَاجَةِ لِأَنّ عَيْنَهُ الْخُزَاعِيّ كَانَ كَافِرًا إذْ ذَاكَ
وَفِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ أَنّهُ أَقْرَبُ إلَى اخْتِلَاطِهِ
بِالْعَدُوّ وَأَخْذِهِ أَخْبَارَهُمْ .
[ اسْتِحْبَابُ الشّورَى ]
وَمِنْهَا
: اسْتِحْبَابُ مَشُورَةِ الْإِمَامِ رَعِيّتَهُ وَجَيْشَهُ اسْتِخْرَاجًا
لِوَجْهِ الرّأْيِ وَاسْتِطَابَةً لِنَفُوسِهِمْ وَأَمْنًا لِعَتَبِهِمْ
وَتَعَرّفًا لِمَصْلَحَةٍ يَخْتَصّ بِعِلْمِهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ
وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ الرّبّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَشَاوِرْهُمْ
فِي الْأَمْرِ } [ آل عِمْرَانَ 159 ] وَقَدْ مَدَحَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عِبَادَهُ بِقَوْلِهِ { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } [
الشّورَى : 38 ] .
[ رَدّ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ وَلَوْ نُسِبَ إلَى غَيْرِ الْمُكَلّفِ ]
وَمِنْهَا
: جَوَازُ سَبْيِ ذَرَارِيّ الْمُشْرِكِينَ إذَا انْفَرَدُوا عَنْ
رِجَالِهِمْ قَبْلَ مُقَاتَلَةِ الرّجَالِ . وَمِنْهَا : رَدّ الْكَلَامِ
الْبَاطِلِ وَلَوْ نُسِبَ إلَى غَيْرِ مُكَلّفٍ فَإِنّهُمْ لَمّا قَالُوا
: خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ يَعْنِي حَرَنَتْ وَأَلَحّتْ فَلَمْ تَسِرْ
وَالْخِلَاءُ فِي الْإِبِلِ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَالْمَدّ نَظِيرُ
الْحِرَانِ فِي الْخَيْلِ فَلَمّا نَسَبُوا إلَى النّاقَةِ مَا لَيْسَ
مِنْ خُلُقِهَا وَطَبْعِهَا رَدّهُ عَلَيْهِمْ وَقَالَ مَا خَلَأَتْ وَمَا
ذَاكَ لَهَا بِخُلُق ثُمّ أَخْبَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ
سَبَبِ بُرُوكِهَا وَأَنّ الّذِي حَبَسَ الْفِيلَ عَنْ مَكّةَ حَبَسَهَا
لِلْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ الّتِي ظَهَرَتْ بِسَبَبِ حَبْسِهَا وَمَا
جَرَى بَعْدَهُ . [ ص 269 ] وَمِنْهَا : أَنّ تَسْمِيَةَ مَا يُلَابِسُهُ
الرّجُلُ مِنْ مَرَاكِبِهِ وَنَحْوِهَا سُنّةٌ .
[ اسْتِحْبَابُ الْحَلِفِ عَلَى الْخَبَرِ الدّينِيّ الّذِي يُرَادُ تَأْكِيدُهُ ]
وَمِنْهَا
: جَوَازُ الْحَلِفِ بَلْ اسْتِحْبَابُهُ عَلَى الْخَبَرِ الدّينِيّ
الّذِي يُرِيدُ تَأْكِيدَهُ وَقَدْ حُفِظَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَلِفُ فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ مَوْضِعًا
وَأَمَرَهُ اللّهُ تَعَالَى بِالْحَلِفِ عَلَى تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَ
بِهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي ( سُورَةِ يُونُسَ ) و ( سَبَأٍ ) و (
التّغَابُنِ ) .
إذَا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْبِدَعِ
وَالْفُجُورِ وَالْبُغَاةُ وَالظّلَمَةُ أَمْرًا يُعَظّمُونَ فِيهِ
حُرْمَةً مِنْ حُرُمَاتِ اللّهِ أُعِينُوا عَلَيْهِ
وَمِنْهَا : أَنّ
الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَالْبُغَاةِ
وَالظّلَمَةِ إذَا طَلَبُوا أَمْرًا يُعَظّمُونَ فِيهِ حُرْمَةً مِنْ
حُرُمَاتِ اللّهِ تَعَالَى أُجِيبُوا إلَيْهِ وَأُعْطُوهُ وَأُعِينُوا
عَلَيْهِ وَإِنْ مَنَعُوا غَيْرَهُ فَيُعَاوَنُونَ عَلَى مَا فِيهِ
تَعْظِيمُ حُرُمَاتِ اللّهِ تَعَالَى لَا عَلَى كُفْرِهِمْ وَبَغْيِهِمْ
وَيُمْنَعُونَ مِمّا سِوَى ذَلِكَ فَكُلّ مَنْ الْتَمَسَ الْمُعَاوَنَةَ
عَلَى مَحْبُوبٍ لِلّهِ تَعَالَى مُرْضٍ لَهُ أُجِيبَ إلَى ذَلِكَ
كَائِنًا مَنْ كَانَ مَا لَمْ يَتَرَتّبْ عَلَى إعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ
الْمَحْبُوبِ مَبْغُوضٌ لِلّهِ أَعْظَمَ مِنْهُ وَهَذَا مِنْ أَدَقّ
الْمَوَاضِعِ وَأَصْعَبِهَا وَأَشَقّهَا عَلَى النّفُوسِ وَلِذَلِكَ ضَاقَ
عَنْهُ مِنْ الصّحَابَةِ مَنْ ضَاقَ وَقَالَ عُمَرُ مَا قَالَ حَتّى
عَمِلَ لَهُ أَعْمَالًا بَعْدَهُ وَالصّدّيقُ تَلَقّاهُ بِالرّضَى
وَالتّسْلِيمِ حَتّى كَانَ قَلْبُهُ فِيهِ عَلَى قَلْبِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَجَابَ عُمَرَ عَمّا سَأَلَ عَنْهُ
مِنْ ذَلِكَ بِعَيْنِ جَوَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى أَنّ الصّدّيقَ رَضِيَ اللّه عَنْهُ
أَفْضَلُ الصّحَابَةِ وَأَكْمَلُهُمْ وَأَعْرَفُهُمْ بِاَللّهِ تَعَالَى
وَرَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَعْلَمُهُمْ بِدِينِهِ
وَأَقْوَمُهُمْ بِمَحَابّهِ وَأَشَدّهُمْ مُوَافَقَةً لَهُ وَلِذَلِكَ
لَمْ يَسْأَلْ عُمَرَ عَمّا عَرَضَ لَهُ إلّا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصِدّيقَهُ خَاصّةً دُونَ سَائِرِ أَصْحَابِهِ . [ ص
270 ] وَمِنْهَا : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَدَلَ
ذَاتَ الْيَمِينِ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ . قَالَ الشّافِعِيّ : بَعْضُهَا
مِنْ الْحِلّ وَبَعْضُهَا مِنْ الْحَرَمِ .
[ مُضَاعَفَةُ الصّلَاةِ بِمَكّةَ تَتَعَلّقُ بِجَمِيعِ الْحَرَمِ لَا يُخَصّ بِهَا الْمَسْجِدُ ]
وَرَوَى
الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُصَلّي فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُضْطَرِبٌ فِي
الْحِل وَفِي هَذَا كَالدّلَالَةِ عَلَى أَنّ مُضَاعَفَةَ الصّلَاةِ
بِمَكّةَ تَتَعَلّقُ بِجَمِيعِ الْحَرَمِ لَا يُخَصّ بِهَا الْمَسْجِدُ
الّذِي هُوَ مَكَانُ الطّوَافِ وَأَنّ قَوْلَهُ صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي كَقَوْلِهِ
تَعَالَى : { فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } [ التّوْبَةُ 28
] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ الْإِسْرَاءُ : 1 ] وَكَانَ الْإِسْرَاءُ
مِنْ بَيْتِ أُمّ هَانِئٍ . وَمِنْهَا : أَنّ مَنْ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ
مَكّةَ فَإِنّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْحِلّ وَيُصَلّيَ فِي
الْحَرَمِ وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَصْنَعُ . وَمِنْهَا : جَوَازُ
ابْتِدَاءِ الْإِمَامِ بِطَلَبِ صُلْحِ الْعَدُوّ إذَا رَأَى
الْمَصْلَحَةَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ وَلَا يَتَوَقّفُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ
يَكُونَ ابْتِدَاءُ الطّلَبِ مِنْهُمْ .
[ سُنّيّةُ الْقِيَامِ بِالسّيْفِ عَلَى رَأْسِ الْقَائِدِ عِنْدَ قُدُومِ رُسُلِ الْعَدُوّ ]
وَفِي
قِيَامِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّيْفِ وَلَمْ يَكُنْ عَادَتَهُ أَنْ
يُقَامَ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ قَاعِدٌ سُنّةٌ يُقْتَدَى بِهَا عِنْدَ
قُدُومِ رُسُلِ الْعَدُوّ مِنْ إظْهَارِ الْعِزّ وَالْفَخْرِ وَتَعْظِيمِ
الْإِمَامِ وَطَاعَتِهِ وَوِقَايَتِهِ بِالنّفُوسِ وَهَذِهِ هِيَ
الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ عِنْدَ قُدُومِ رُسُلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
الْكَافِرِينَ وَقُدُومِ رُسُلِ الْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ هَذَا النّوْعِ الّذِي ذَمّهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَوْلِهِ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَتَمَثّلَ لَهُ الرّجَالُ
قِيَامًا فَلْيَتَبَوّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النّارِ كَمَا أَنّ الْفَخْرَ
وَالْخُيَلَاءَ فِي الْحَرْبِ [ ص 271 ]
[ مَالُ المشّرْكِ الْمُعَاهَدِ مَعْصُومٌ ]
وَفِي
قَوْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْمُغِيرَةِ أَمّا
الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ وَأَمّا الْمَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ
دَلِيلٌ عَلَى أَنّ مَالَ الْمُشْرِكِ الْمُعَاهَدِ مَعْصُومٌ وَأَنّهُ
لَا يُمْلَكُ بَلْ يُرَدّ عَلَيْهِ فَإِنّ الْمُغِيرَةَ كَانَ قَدْ
صَحِبَهُمْ عَلَى الْأَمَانِ ثُمّ غَدَرَ بِهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ
فَلَمْ يَتَعَرّضْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِأَمْوَالِهِمْ وَلَا ذَبّ عَنْهَا وَلَا ضَمِنَهَا لَهُمْ لِأَنّ ذَلِكَ
كَانَ قَبْلَ إسْلَامِ الْمُغِيرَةِ .
[ جَوَازُ التّصْرِيحِ بِاسْمِ الْعَوْرَةِ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ]
وَفِي
قَوْلِ الصّدّيقِ لِعُرْوَةَ اُمْصُصْ بَظْرَ اللّات دَلِيلٌ عَلَى
جَوَازِ التّصْرِيحِ بِاسْمِ الْعَوْرَةِ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ
تَقْتَضِيهَا تِلْكَ الْحَالُ كَمَا أَذِنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُصَرّحَ لِمَنْ ادّعَى دَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ
بِهُنّ أَبِيهِ وَيُقَالُ لَهُ اعْضَضْ أَيْرَ أَبِيك وَلَا يُكَنّى لَهُ
فَلِكُلّ مَقَامٍ مَقَالٌ .
[ احْتِمَالُ قِلّةِ أَدَبِ رَسُولِ الْكُفّارِ ]
وَمِنْهَا
: احْتِمَالُ قِلّةِ أَدَبِ رَسُولِ الْكُفّارِ وَجَهْلُهُ وَجَفْوَتُهُ
وَلَا يُقَابَلُ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْعَامّةِ
وَلَمْ يُقَابِلْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُرْوَةَ عَلَى
أَخْذِهِ بِلِحْيَتِهِ وَقْتَ خِطَابِهِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ عَادَةَ
الْعَرَبِ لَكِنّ الْوَقَارَ وَالتّعْظِيمَ خِلَافُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ
لَمْ يُقَابِلْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَسُولَيْ
مُسَيْلِمَةَ حِينَ قَالَا : نَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَقَالَ
لَوْلَا أَنّ الرّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمَا وَمِنْهَا :
طَهَارَةُ النّخَامَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ رَأْسٍ أَوْ صَدْرٍ .
وَمِنْهَا : طَهَارَةُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ . وَمِنْهَا :
اسْتِحْبَابُ التّفَاؤُلِ وَأَنّهُ لَيْسَ مِنْ الطّيَرَةِ الْمَكْرُوهَةِ
لِقَوْلِهِ لَمّا جَاءَ سُهَيْلٌ " سُهّلَ أَمْرُكُمْ " . [ ص 272 ]
[ يُغْنِي فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إذَا عُرِفَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ عَنْ ذِكْرِ الْجَدّ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إذَا عُرِفَ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ
أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ الْجَدّ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَزِدْ عَلَى مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ
وَقَنِعَ مِنْ سُهَيْلٍ بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ خَاصّةً
وَاشْتِرَاطُ ذِكْرِ الْجَدّ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَمّا اشْتَرَى الْعَدّاءُ
بْنُ خَالِدٍ مِنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْغُلَامَ فَكَتَبَ
لَهُ هَذَا مَا اشْتَرَى الْعَدّاءُ بْنُ خَالِدِ بْنِ هَوْذَة فَذَكَرَ
جَدّهُ فَهُوَ زِيَادَةُ بَيَانٍ تَدُلّ عَلَى أَنّهُ جَائِزٌ لَا بَأْسَ
بِهِ وَلَا تَدُلّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ وَلَمّا لَمْ يَكُنْ فِي الشّهْرَةِ
بِحَيْثُ يُكْتَفَى بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ ذَكَرَ جَدّهُ فَيُشْتَرَطُ
ذِكْرُ الْجَدّ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ
وَعِنْدَ عَدَمِ الِاشْتِرَاكِ اُكْتُفِيَ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَاسْمِ
الْأَبِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَمِنْهَا : أَنّ مُصَالَحَةَ
الْمُشْرِكِينَ بِبَعْضِ مَا فِيهِ ضَيْمٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَائِزَةٌ
لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَدَفْعِ مَا هُوَ شَرّ مِنْهُ فَفِيهِ دَفْعُ
أَعْلَى الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا . وَمِنْهَا : أَنّ
مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ نَذَرَهُ أَوْ وَعَدَ غَيْرَهُ بِهِ
وَلَمْ يُعَيّنْ وَقْتًا لَا بِلَفْظِهِ وَلَا بِنِيّتِهِ لَمْ يَكُنْ
عَلَى الْفَوْرِ بَلْ عَلَى التّرَاخِي . وَمِنْهَا : أَنّ الْحِلَاقَ
نُسُكٌ وَأَنّهُ أَفْضَلُ مِنْ التّقْصِيرِ وَأَنّهُ نُسُكٌ فِي
الْعُمْرَةِ كَمَا هُوَ نُسُكٌ فِي الْحَجّ وَأَنّهُ نُسُكٌ فِي عُمْرَةِ
الْمَحْصُورِ كَمَا هُوَ نُسُكٌ فِي عُمْرَةِ غَيْرِهِ .
[ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْصَرِ الْقَضَاءُ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ الْمُحْصَرَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ مِنْ الْحِلّ أَوْ
الْحَرَمِ وَأَنّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَاعِدَ مَنْ يَنْحَرُهُ
فِي الْحَرَمِ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ وَأَنّهُ لَا يَتَحَلّلُ حَتّى [
ص 273 ] { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ } [ الْفَتْحُ
25 ] . وَمِنْهَا : أَنّ الْمَوْضِعَ الّذِي نَحَرَ فِيهِ الْهَدْيَ كَانَ
مِنْ الْحِلّ لَا مِنْ الْحَرَمِ لِأَنّ الْحَرَمَ كُلّهُ مَحِلّ
الْهَدْيِ . وَمِنْهَا : أَنّ الْمُحْصَرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ
لِأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ
وَالنّحْرِ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ وَالْعُمْرَةُ
مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً وَلَا قَضَاءً عَنْ
عُمْرَةِ الْإِحْصَارِ فَإِنّهُمْ كَانُوا فِي عُمْرَةِ الْإِحْصَارِ
أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَكَانُوا فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ دُونَ
ذَلِكَ وَإِنّمَا سُمّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضِيّةِ وَالْقَضَاءِ لِأَنّهَا
الْعُمْرَةُ الّتِي قَاضَاهُمْ عَلَيْهَا فَأُضِيفَتْ الْعُمْرَةُ إلَى
مَصْدَرِ فِعْلِهِ .
[ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْفَوْرِ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْفَوْرِ وَإِلّا لَمْ يَغْضَبْ
لِتَأْخِيرِهِمْ الِامْتِثَالَ عَنْ وَقْتِ الْأَمْرِ وَقَدْ اُعْتُذِرَ
عَنْ تَأْخِيرِهِمْ الِامْتِثَالَ بِأَنّهُمْ كَانُوا يَرْجُونَ النّسْخَ
فَأَخّرُوا مُتَأَوّلِينَ لِذَلِكَ وَهَذَا الِاعْتِذَارُ أَوْلَى أَنْ
يُعْتَذَرَ عَنْهُ وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَوْ فَهِمَ مِنْهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَشْتَدّ غَضَبُهُ لِتَأْخِيرِ
أَمْرِهِ وَيَقُولُ مَا لِي لَا أَغْضَبُ وَأَنَا آمُرُ بِالْأَمْرِ فَلَا
أُتّبَعُ وَإِنّمَا كَانَ تَأْخِيرُهُمْ مِنْ السّعْيِ الْمَغْفُورِ لَا
الْمَشْكُورِ وَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ وَأَوْجَبَ
لَهُمْ الْجَنّةَ .
[ الْأَصْلُ مُشَارَكَةُ أُمّتِهِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَحْكَامِ إلّا مَا خَصّهُ الدّلِيلُ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ الْأَصْلَ مُشَارَكَةُ أُمّتِهِ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ إلّا مَا
خَصّهُ الدّلِيلُ وَلِذَلِكَ قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ اُخْرُجْ وَلَا
تُكَلّمْ أَحَدًا حَتّى تَحْلِقَ رَأْسَك وَتَنْحَرَ هَدْيَك وَعَلِمَتْ
أَنّ النّاسَ سَيُتَابِعُونَهُ . فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ فَعَلُوا ذَلِكَ
اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ وَلَمْ يَمْتَثِلُوهُ حِينَ أَمَرَهُمْ بِهِ ؟
قِيلَ هَذَا هُوَ السّبَبُ الّذِي لِأَجْلِهِ ظَنّ مَنْ ظَنّ أَنّهُمْ
أَخّرُوا الِامْتِثَالَ طَمَعًا فِي النّسْخِ فَلَمّا فَعَلَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ عَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنّهُ حُكْمٌ
مُسْتَقِرّ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَقَدْ تَقَدّمَ فَسَادُ هَذَا الظّنّ
وَلَكِنْ لَمّا تَغَيّظَ عَلَيْهِمْ وَخَرَجَ وَلَمْ يُكَلّمْهُمْ
وَأَرَاهُمْ أَنّهُ بَادَرَ إلَى امْتِثَالِ مَا أُمِرَ بِهِ وَأَنّهُ
لَمْ يُؤَخّرْ كَتَأْخِيرِهِمْ وَأَنّ اتّبَاعَهُمْ لَهُ وَطَاعَتَهُمْ
تُوجِبُ اقْتِدَاءَهُمْ بِهِ بَادَرُوا حِينَئِذٍ إلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ
وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ . [ ص 274 ] وَمِنْهَا : جَوَازُ صُلْحِ الْكُفّارِ
عَلَى رَدّ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَلّا يُرَدّ مَنْ
ذَهَبَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ هَذَا فِي غَيْرِ النّسَاءِ وَأَمّا
النّسَاءُ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ رَدّهِنّ إلَى الْكُفّارِ وَهَذَا
مَوْضِعُ النّسْخِ خَاصّةً فِي هَذَا الْعَقْدِ بِنَصّ الْقُرْآنِ وَلَا
سَبِيلَ إلَى دَعْوَى النّسْخِ فِي غَيْرِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ .
[ خُرُوجُ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزّوْجِ مُتَقَوّمٌ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ خُرُوجَ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزّوْجِ مُتَقَوّمٌ وَلِذَلِكَ
أَوْجَبَ اللّهُ سُبْحَانَهُ رَدّ الْمَهْرِ عَلَى مَنْ هَاجَرَتْ
امْرَأَتُهُ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَعَلَى مَنْ ارْتَدّتْ
امْرَأَتُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا اسْتَحَقّ الْكُفّارُ عَلَيْهِمْ
رَدّ مُهُورِ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنّ
ذَلِكَ حُكْمُهُ الّذِي حَكَمَ بِهِ بَيْنَهُمْ ثُمّ لَمْ يَنْسَخْهُ
شَيْءٌ وَفِي إيجَابِهِ رَدّ مَا أَعْطَى الْأَزْوَاجُ مِنْ ذَلِكَ
دَلِيلٌ عَلَى تَقَوّمِهِ بِالْمُسَمّى لَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ .
وَمِنْهَا : أَنّ رَدّ مَنْ جَاءَ مِنْ الْكُفّارِ إلَى الْإِمَامِ لَا
يَتَنَاوَلُ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا إلَى غَيْرِ بَلَدِ
الْإِمَامِ وَأَنّهُ إذَا جَاءَ إلَى بَلَدِ الْإِمَامِ لَا يَجِبُ
عَلَيْهِ رَدّهُ بِدُونِ الطّلَبِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَمْ يَرُدّ أَبَا بَصِيرٍ حِينَ جَاءَهُ وَلَا أَكْرَهَهُ عَلَى
الرّجُوعِ وَلَكِنْ لَمّا جَاءُوا فِي طَلَبِهِ مَكّنَهُمْ مِنْ أَخْذِهِ
وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَى الرّجُوعِ . وَمِنْهَا أَنّ الْمُعَاهَدِينَ إذَا
تَسَلّمُوهُ وَتَمَكّنُوا مِنْهُ فَقَتَلَ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ
يَضْمَنْهُ بِدِيَةٍ وَلَا قَوَدٍ وَلَمْ يَضْمَنْهُ الْإِمَامُ بَلْ
يَكُونُ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ حُكْمَ قَتْلِهِ لَهُمْ فِي دِيَارِهِمْ
حَيْثُ لَا حُكْمَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ فَإِنّ أَبَا بَصِيرٍ قَتَلَ
أَحَدَ الرّجُلَيْنِ الْمُعَاهَدَيْنِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَهِيَ مِنْ
حُكْمِ الْمَدِينَةِ وَلَكِنْ كَانَ قَدْ تَسَلّمُوهُ وَفُصِلَ عَنْ يَدِ
الْإِمَامِ وَحُكْمِهِ . وَمِنْهَا : أَنّ الْمُعَاهَدِينَ إذَا عَاهَدُوا
الْإِمَامَ فَخَرَجَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ فَحَارَبَتْهُمْ وَغَنِمَتْ
أَمْوَالَهُمْ وَلَمْ يَتَحَيّزُوا إلَى الْإِمَامِ لَمْ يَجِبْ عَلَى
الْإِمَامِ دَفْعُهُمْ عَنْهُمْ وَمَنْعُهُمْ مِنْهُمْ وَسَوَاءٌ دَخَلُوا
فِي عَقْدِ الْإِمَامِ وَعَهْدِهِ وَدِينِهِ أَوْ لَمْ يَدْخُلُوا
وَالْعَهْدُ الّذِي كَانَ بَيْنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ عَهْدًا [ ص 275 ] أَبِي بَصِيرٍ
وَأَصْحَابِهِ وَبَيْنَهُمْ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ بَيْنَ بَعْضِ
مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَبَعْضِ أَهْلِ الذّمّةِ مِنْ النّصَارَى
وَغَيْرِهِمْ عَهْدٌ جَازِ لِمَلِكٍ آخَرَ مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ
أَنْ يَغْزُوَهُمْ وَيَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ كَمَا أَفْتَى بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي نَصَارَى
مَلَطْيَةَ وَسَبْيِهِمْ مُسْتَدِلّا بِقِصّةِ أَبِي بَصِيرٍ مَعَ
الْمُشْرِكِينَ .
فَصْلٌ فِي الْإِشَارَةِ إلَى بَعْضِ الْحِكَمِ الّتِي تَضَمّنَتْهَا هَذِهِ الْهُدْنَةُ
وَهِيَ
أَكْبَرُ وَأَجَلّ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهَا إلّا اللّهُ الّذِي أَحْكَمَ
أَسْبَابَهَا فَوَقَعَتْ الْغَايَةُ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي اقْتَضَتْهُ
حِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ .
[ مُقَدّمَةٌ لِلْفَتْحِ ]
فَمِنْهَا :
أَنّهَا كَانَتْ مُقَدّمَةً بَيْنَ يَدَيْ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ الّذِي
أَعَزّ اللّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَجُنْدَهُ وَدَخَلَ النّاسُ بِهِ فِي دِينِ
اللّهِ أَفْوَاجًا فَكَانَتْ هَذِهِ الْهُدْنَةُ بَابًا لَهُ وَمِفْتَاحًا
وَمُؤْذِنًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهَذِهِ عَادَةُ اللّهِ سُبْحَانَهُ فِي
الْأُمُورِ الْعِظَامِ الّتِي يَقْضِيهَا قَدَرًا وَشَرْعًا أَنْ يُوَطّئَ
لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا مُقَدّمَاتٍ وَتَوْطِئَاتٍ تُؤْذِنُ بِهَا
وَتَدُلّ عَلَيْهَا .
[ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ هَذِهِ الْهُدْنَةَ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ فَإِنّ
النّاسَ أَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ
بِالْكُفّارِ وَبَادَءُوهُمْ بِالدّعْوَةِ وَأَسْمَعُوهُمْ الْقُرْآنَ
وَنَاظَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ جَهْرَةً آمِنِينَ وَظَهَرَ مَنْ كَانَ
مُخْتَفِيًا بِالْإِسْلَامِ وَدَخَلَ فِيهِ فِي مُدّةَ الْهُدْنَةِ مَنْ
شَاءَ اللّهُ أَنْ يَدْخُلَ وَلِهَذَا سَمّاهُ اللّهُ فَتْحًا مُبِينًا .
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : قَضَيْنَا لَك قَضَاءً عَظِيمًا وَقَالَ
مُجَاهِدٌ : هُوَ مَا قَضَى اللّهُ لَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ . وَحَقِيقَةُ
الْأَمْرِ أَنّ الْفَتْحَ - فِي اللّغَةِ - فَتْحُ الْمُغْلَقِ وَالصّلْحُ
الّذِي حَصَلَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ كَانَ مَسْدُودًا
مُغْلَقًا حَتّى فَتَحَهُ اللّهُ وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ فَتْحِهِ صَدّ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ عَنْ
الْبَيْتِ وَكَانَ فِي الصّورَةِ الظّاهِرَةِ ضَيْمًا وَهَضْمًا
لِلْمُسْلِمِينَ وَفِي الْبَاطِنِ عِزّا وَفَتْحًا وَنَصْرًا وَكَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْظُرُ إلَى مَا
وَرَاءَهُ مِنْ الْفَتْحِ الْعَظِيمِ وَالْعِزّ وَالنّصْرِ مِنْ وَرَاءِ
سِتْرٍ رَقِيقٍ وَكَانَ يُعْطِي الْمُشْرِكِينَ كُلّ [ ص 276 ] صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْلَمُ مَا فِي ضِمْنِ هَذَا الْمَكْرُوهِ
مِنْ مَحْبُوبٍ { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ }
[ الْبَقَرَةُ 216 ] .
وَرُبّمَا كَانَ مَكْرُوهُ النّفُوسِ إلَى
مَحْبُوبِهَا سَبَبًا مَا مِثْلُهُ سَبَبٌ
فَكَانَ
يَدْخُلُ عَلَى تِلْكَ الشّرُوطِ دُخُولَ وَاثِقٍ بِنَصْرِ اللّهِ لَهُ
وَتَأْيِيدِهِ وَأَنّ الْعَاقِبَةَ لَهُ وَأَنّ تِلْكَ الشّرُوطَ
وَاحْتِمَالَهَا هُوَ عَيْنُ النّصْرَةِ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْجُنْدِ
الّذِي أَقَامَهُ الْمُشْتَرِطُونَ وَنَصَبُوهُ لِحَرْبِهِمْ وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ فَذَلّوا مِنْ حَيْثُ طَلَبُوا الْعِزّ وَقُهِرُوا مِنْ
حَيْثُ أَظْهَرُوا الْقُدْرَةَ وَالْفَخْرَ وَالْغَلَبَةَ وَعَزّ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِ مِنْ
حَيْثُ انْكَسَرُوا لِلّهِ وَاحْتَمَلُوا الضّيْمَ لَهُ وَفِيهِ فَدَارَ
الدّوْرُ وَانْعَكَسَ الْأَمْرُ وَانْقَلَبَ الْعِزّ بِالْبَاطِلِ ذُلّا
بِحَقّ وَانْقَلَبَتْ الْكَسْرَةُ لِلّهِ عِزّا بِاَللّهِ وَظَهَرَتْ
حِكْمَةُ اللّهِ وَآيَاتُهُ وَتَصْدِيقُ وَعْدِهِ وَنُصْرَةُ رَسُولِهِ
عَلَى أَتَمّ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا الّتِي لَا اقْتِرَاحَ لِلْعُقُولِ
وَرَاءَهَا .
[زِيَادَةُ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ ]
وَمِنْهَا :
مَا سَبّبَهُ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ
وَالْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ عَلَى مَا أَحَبّوا وَكَرِهُوا وَمَا
حَصَلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الرّضَى بِقَضَاءِ اللّهِ وَتَصْدِيقِ
مَوْعُودِهِ وَانْتِظَارِ مَا وُعِدُوا بِهِ وَشُهُودِ مِنّةِ اللّهِ
وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِالسّكِينَةِ الّتِي أَنْزَلَهَا فِي
قُلُوبِهِمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إلَيْهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ الّتِي
تُزَعْزَعُ لَهَا الْجِبَالُ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
سَكِينَتِهِ مَا اطْمَأَنّتْ بِهِ قُلُوبُهُمْ وَقَوِيَتْ بِهِ
نُفُوسُهُمْ وَازْدَادُوا بِهِ إيمَانًا . وَمِنْهَا : أَنّهُ سُبْحَانَهُ
جَعَلَ هَذَا الْحُكْمَ الّذِي حَكَمَ بِهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
سَبَبًا لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَغْفِرَةِ لِرَسُولِهِ مَا تَقَدّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخّرَ وَلِإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ
وَلِهِدَايَتِهِ الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَنَصْرِهِ النّصْرَ الْعَزِيزَ
وَرِضَاهُ بِهِ وَدُخُولِهِ تَحْتَهُ وَانْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِهِ مَعَ مَا
فِيهِ مِنْ الضّيْمِ وَإِعْطَاءِ مَا سَأَلُوهُ كَانَ مِنْ الْأَسْبَابِ
الّتِي نَالَ بِهَا الرّسُولُ وَأَصْحَابُهُ ذَلِكَ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ
اللّهُ سُبْحَانَهُ جَزَاءً وَغَايَةً وَإِنّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى
فِعْلٍ قَامَ بِالرّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ حُكْمِهِ تَعَالَى
وَفَتْحِهِ . وَتَأَمّلْ كَيْفَ وَصَفَ - سُبْحَانَهُ - النّصْرَ بِأَنّهُ
عَزِيزٌ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ ثُمّ ذَكَرَ [ ص 277 ] أَشَدّ الْقَلَقِ
فَهِيَ أَحْوَجَ مَا كَانَتْ إلَى السّكِينَةِ فَازْدَادُوا بِهَا
إيمَانًا إلَى إيمَانِهِمْ ثُمّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَيْعَتَهُمْ
لِرَسُولِهِ وَأَكّدَهَا بِكَوْنِهَا بَيْعَةً لَهُ سُبْحَانَهُ وَأَنّ
يَدَهُ تَعَالَى كَانَتْ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ إذْ كَانَتْ يَدُ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَذَلِكَ وَهُوَ رَسُولُهُ
وَنَبِيّهُ فَالْعَقْدُ مَعَهُ عَقْدٌ مَعَ مُرْسِلِهِ وَبَيْعَتُهُ
بَيْعَتُهُ فَمَنْ بَايَعَهُ فَكَأَنّمَا بَايَعَ اللّهَ وَيَدُ اللّهِ
فَوْقَ يَدِهِ وَإِذَا كَانَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينَ اللّهِ فِي
الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبّلَهُ فَكَأَنّمَا صَافَحَ اللّهَ
وَقَبّلَ يَمِينَهُ فَيَدُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- أَوْلَى بِهَذَا مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثُمّ أَخْبَرَ أَنّ نَاكِثَ
هَذِهِ الْبَيْعَةِ إنّمَا يَعُودُ نَكْثُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَنّ
لِلْمُوفِي بِهَا أَجْرًا عَظِيمًا فَكُلّ مُؤْمِنٍ فَقَدْ بَايَعَ اللّهَ
عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ بَيْعَةً عَلَى الْإِسْلَامِ وَحُقُوقِهِ
فَنَاكِثٌ وَمُوفٍ . ثُمّ ذَكَرَ حَالَ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ مِنْ
الْأَعْرَابِ وَظَنّهُمْ أَسْوَأَ الظّنّ بِاَللّهِ أَنّهُ يَخْذُلُ
رَسُولَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَجُنْدَهُ وَيُظْفِرُ بِهِمْ عَدُوّهُمْ
فَلَنْ يَنْقَلِبُوا إلَى أَهْلِيهِمْ وَذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِمْ بِاَللّهِ
وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَجَهْلِهِمْ بِرَسُولِهِ
وَمَا هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُعَامِلَهُ بِهِ رَبّهُ وَمَوْلَاهُ . ثُمّ
أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ رِضَاهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ بِدُخُولِهِمْ
تَحْتَ الْبَيْعَةِ لِرَسُولِهِ وَأَنّهُ [ ص 278 ] وَكَمَالِ
الِانْقِيَادِ وَالطّاعَةِ وَإِيثَارِ اللّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى مَا
سِوَاهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ السّكِينَةَ وَالطّمَأْنِينَةَ وَالرّضَى فِي
قُلُوبِهِمْ وَأَثَابَهُمْ عَلَى الرّضَى بِحُكْمِهِ وَالصّبْرِ
لِأَمْرِهِ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا
وَكَانَ أَوّلُ الْفَتْحِ وَالْمَغَانِمِ فَتْحَ خَيْبَرَ وَمَغَانِمَهَا
ثُمّ اسْتَمَرّتْ الْفُتُوحُ وَالْمَغَانِمُ إلَى انْقِضَاءِ الدّهْرِ .
[ مَعْنَى فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ ]
وَوَعَدَهُمْ
سُبْحَانَهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ
عَجّلَ لَهُمْ هَذِهِ الْغَنِيمَةَ وَفِيهَا قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا :
أَنّهُ الصّلْحُ الّذِي جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوّهِمْ وَالثّانِي
: أَنّهَا فَتْحُ خَيْبَرَ وَغَنَائِمُهَا ثُمّ قَالَ { وَكَفّ أَيْدِيَ
النّاسِ عَنْكُمْ } [ الْفَتْحُ 20 ] فَقِيلَ أَيْدِيَ أَهْلِ مَكّةَ أَنْ
يُقَاتِلُوهُمْ وَقِيلَ أَيْدِيَ الْيَهُودِ حِينَ هَمّوا بِأَنْ
يَغْتَالُوا مَنْ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الصّحَابَةِ مِنْهَا .
وَقِيلَ هَمّ أَهْلِ خَيْبَرَ وَحُلَفَاؤُهُمْ الّذِينَ أَرَادُوا
نَصْرَهُمْ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ . وَالصّحِيحُ تَنَاوُلُ الْآيَةِ
لِلْجَمِيعِ . وَقَوْلُهُ { وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } قِيلَ
هَذِهِ الْفِعْلَةُ الّتِي فَعَلَهَا بِكُمْ وَهِيَ كَفّ أَيْدِي
أَعْدَائِكُمْ عَنْكُمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ فَإِنّهُمْ حِينَئِذٍ كَانَ
أَهْلُ مَكّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا وَأَهْلُ خَيْبَرَ وَمَنْ حَوْلَهَا
وَأَسَدٌ وَغَطَفَانُ وَجُمْهُورُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ أَعْدَاءً لَهُمْ
وَهُمْ بَيْنَهُمْ كَالشّامَةِ فَلَمْ يَصِلُوا إلَيْهِمْ بِسُوءٍ فَمِنْ
آيَاتِ اللّهِ سُبْحَانَهُ كَفّ أَيْدِي أَعْدَائِهِمْ عَنْهُمْ فَلَمْ
يَصِلُوا إلَيْهِمْ بِسُوءٍ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَشِدّةِ عَدَاوَتِهِمْ
وَتَوَلّي حِرَاسَتِهِمْ وَحِفْظِهِمْ فِي مَشْهَدِهِمْ وَمَغِيبِهِمْ
وَقِيلَ هِيَ فَتْحُ خَيْبَرَ جَعَلَهَا آيَةً لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ
وَعَلَامَةً عَلَى مَا بَعْدَهَا مِنْ الْفُتُوحِ فَإِنّ اللّهَ
سُبْحَانَهُ وَعَدَهُمْ مَغَانِمَ كَثِيرَةً وَفُتُوحًا عَظِيمَةً
فَعَجّلَ لَهُمْ فَتْحَ خَيْبَرَ وَجَعَلَهَا آيَةً لِمَا بَعْدَهَا
وَجَزَاءً لِصَبْرِهِمْ وَرِضَاهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَشُكْرَانًا
وَلِهَذَا خَصّ بِهَا وَبِغَنَائِمِهَا مَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ .
ثُمّ قَالَ { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } فَجَمَعَ لَهُمْ
إلَى النّصْرَ وَالظّفَرَ وَالْغَنَائِمَ وَالْهِدَايَةَ فَجَعَلَهُمْ
مَهْدِيّينَ مَنْصُورِينَ غَانِمِينَ ثُمّ وَعَدَهُمْ مَغَانِمَ كَثِيرَةً
وَفُتُوحًا أُخْرَى لَمْ يَكُونُوا ذَلِكَ الْوَقْتَ قَادِرِينَ عَلَيْهَا
فَقِيلَ هِيَ مَكّةُ وَقِيلَ هِيَ فَارِسُ وَالرّومُ [ ص 279 ] وَقِيلَ
الْفُتُوحُ الّتِي بَعْدَ خَيْبَرَ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ
وَمَغَارِبهَا . ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّ الْكُفّارَ لَوْ
قَاتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ لَوَلّى الْكُفّارُ الْأَدْبَارَ غَيْرَ
مَنْصُورِينَ وَأَنّ هَذِهِ سُنّتُهُ فِي عِبَادِهِ قَبْلَهُمْ وَلَا
تَبْدِيلَ لِسُنّتِهِ . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَاتَلُوهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ
وَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُوَلّوا الْأَدْبَارَ ؟ قِيلَ هَذَا
وَعْدٌ مُعَلّقٌ بِشَرْطٍ مَذْكُورٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَهُوَ
الصّبْرُ وَالتّقْوَى وَفَاتَ هَذَا الشّرْطُ يَوْمَ أُحُدٍ بِفَشَلِهِمْ
الْمُنَافِي لِلصّبْرِ وَتَنَازُعِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ الْمُنَافِي
لِلتّقْوَى فَصَرَفَهُمْ عَنْ عَدُوّهِمْ وَلَمْ يَحْصُلْ الْوَعْدُ
لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ . ثُمّ ذَكَرَ - سُبْحَانَهُ - أَنّهُ هُوَ الّذِي
كَفّ أَيْدِيَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَ
الْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ الْبَالِغَةِ
الّتِي مِنْهَا : أَنّهُ كَانَ فِيهِمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ قَدْ آمَنُوا
وَهُمْ يَكْتُمُونَ إيمَانَهُمْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ
فَلَوْ سَلّطَكُمْ عَلَيْهِمْ لَأَصَبْتُمْ أُولَئِكَ بِمَعَرّةِ
الْجَيْشِ وَكَانَ يُصِيبُكُمْ مِنْهُمْ مَعَرّةُ الْعُدْوَانِ
وَالْإِيقَاعِ بِمَنْ لَا يَسْتَحِقّ الْإِيقَاعَ بِهِ وَذَكَرَ
سُبْحَانَهُ حُصُولَ الْمَعَرّةِ بِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ
الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمُسْتَخْفِينَ بِهِمْ لِأَنّهَا مُوجَبُ
الْمَعَرّةِ الْوَاقِعَةِ مِنْهُمْ بِهِمْ وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ
أَنّهُمْ لَوْ زَايَلُوهُمْ وَتَمَيّزُوا مِنْهُمْ لَعَذّبَ أَعْدَاءَهُ
عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدّنْيَا إمّا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَإِمّا
بِغَيْرِهِ وَلَكِنْ دَفَعَ عَنْهُمْ هَذَا الْعَذَابَ لِوُجُودِ
هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ كَمَا كَانَ يَدْفَعُ
عَنْهُمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ وَرَسُولُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ . ثُمّ
أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمّا جَعَلَهُ الْكُفّارُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ
حَمِيّةِ الْجَاهِلِيّةِ الّتِي مَصْدَرُهَا الْجَهْلُ وَالظّلْمُ الّتِي
لِأَجْلِهَا صَدّوا رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ عَنْ بَيْتِهِ وَلَمْ يُقِرّوا
بِبِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَلَمْ يُقِرّوا لِمُحَمّدٍ
بِأَنّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ
تَحَقّقِهِمْ صِدْقَهُ وَتَيَقّنِهِمْ صِحّةَ رِسَالَتِهِ بِالْبَرَاهِينِ
الّتِي شَاهَدُوهَا وَسَمِعُوا بِهَا فِي مُدّةِ عِشْرِينَ سَنَةً
وَأَضَافَ هَذَا الْجَعْلَ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ
كَمَا يُضَافُ إلَيْهِمْ سَائِرُ أَفْعَالِهِمْ الّتِي هِيَ
بِقُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ . ثُمّ أَخْبَرَ - سُبْحَانَهُ - أَنّهُ
أَنْزَلَ فِي قَلْبِ رَسُولِهِ وَأَوْلِيَائِهِ مِنْ السّكِينَةِ مَا هُوَ
[ ص 280 ] حَمِيّةِ الْجَاهِلِيّةِ فَكَانَتْ السّكِينَةُ حَظّ رَسُولِهِ
وَحِزْبِهِ وَحَمِيّةُ الْجَاهِلِيّةِ حَظّ الْمُشْرِكِينَ وَجُنْدِهِمْ
ثُمّ أَلْزَمَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ كَلِمَةَ التّقْوَى وَهِيَ جِنْسٌ
يَعُمّ كُلّ كَلِمَةٍ يُتّقَى اللّهُ بِهَا وَأَعْلَى نَوْعِهَا كَلِمَةُ
الْإِخْلَاصِ وَقَدْ فُسّرَتْ بِبِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
وَهِيَ الْكَلِمَةُ الّتِي أَبَتْ قُرَيْشٌ أَنْ تَلْتَزِمَهَا
فَأَلْزَمَهَا اللّهُ أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ وَإِنّمَا حَرَمَهَا
أَعْدَاءَهُ صِيَانَةً لَهَا عَنْ غَيْرِ كُفْئِهَا وَأَلْزَمَهَا مَنْ
هُوَ أَحَقّ بِهَا وَأَهْلُهَا فَوَضَعَهَا فِي مَوْضِعَهَا وَلَمْ
يُضَيّعْهَا بِوَضْعِهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا وَهُوَ الْعَلِيمُ
بِمَحَالّ تَخْصِيصِهِ وَمَوَاضِعِهِ . ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ
صَدَقَ رَسُولَهُ رُؤْيَاهُ فِي دُخُولِهِمْ الْمَسْجِدَ آمِنِينَ
وَأَنّهُ سَيَكُونُ وَلَا بُدّ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ آنَ وَقْتُ
ذَلِكَ فِي هَذَا الْعَامِ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ عَلِمَ مِنْ مَصْلَحَةِ
تَأْخِيرِهِ إلَى وَقْتِهِ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ فَأَنْتُمْ
أَحْبَبْتُمْ اسْتِعْجَالَ ذَلِكَ وَالرّبّ تَعَالَى يَعْلَمُ مِنْ
مَصْلَحَةِ التّأْخِيرِ وَحِكْمَتِهِ مَا لَمْ تَعْلَمُوهُ فَقَدّمَ
بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا تَوْطِئَةً لَهُ وَتَمْهِيدًا .
ثُمّ أَخْبَرَهُمْ بِأَنّهُ هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ فَقَدْ تَكَفّلَ
اللّهُ لِهَذَا الْأَمْرِ بِالتّمَامِ وَالْإِظْهَارِ عَلَى جَمِيعِ
أَدْيَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَفِي هَذَا تَقْوِيَةٌ لِقُلُوبِهِمْ
وَبِشَارَةٌ لَهُمْ وَتَثْبِيتٌ وَأَنْ يَكُونُوا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ هَذَا
الْوَعْدِ الّذِي لَا بُدّ أَنْ يُنْجِزَهُ فَلَا تَظُنّوا أَنّ مَا
وَقَعَ مِنْ الْإِغْمَاضِ وَالْقَهْرِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ نُصْرَةً
لِعَدُوّهِ وَلَا تَخَلّيًا عَنْ رَسُولِهِ وَدِينِهِ كَيْفَ وَقَدْ
أَرْسَلَهُ بِدِينِهِ الْحَقّ وَوَعْدِهِ أَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى كُلّ
دِينٍ سِوَاهُ . ثُمّ ذَكَرَ - سُبْحَانَهُ - رَسُولَهُ وَحِزْبَهُ
الّذِينَ اخْتَارَهُمْ لَهُ وَمَدَحَهُمْ بِأَحْسَنِ الْمَدْحِ وَذَكَرَ
صِفَاتِهِمْ فِي التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَكَانَ فِي هَذَا أَعْظَمُ
الْبَرَاهِينِ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِالتّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
وَالْقُرْآنِ وَأَنّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي الْكُتُبِ
الْمُتَقَدّمَةِ بِهَذِهِ الصّفَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِيهِمْ لَا كَمَا
يَقُولُ الْكُفّارُ عَنْهُمْ إنّهُمْ مُتَغَلّبُونَ طَالِبُو مُلْكٍ
وَدُنْيَا وَلِهَذَا لَمّا رَآهُمْ نَصَارَى الشّامِ وَشَاهَدُوا
هَدْيَهُمْ وَسِيرَتَهُمْ وَعَدْلَهُمْ وَعِلْمَهُمْ وَرَحْمَتَهُمْ
وَزُهْدَهُمْ فِي الدّنْيَا وَرَغْبَتَهُمْ فِي الْآخِرَةِ قَالُوا : مَا
[ ص 281 ] الْمَسِيحَ بِأَفْضَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَكَانَ هَؤُلَاءِ
النّصَارَى أَعْرَفَ بِالصّحَابَةِ وَفَضْلِهِمْ مِنْ الرّافِضَةِ
أَعْدَائِهِمْ وَالرّافِضَهُ تَصِفُهُمْ بِضِدّ مَا وَصَفَهُمْ اللّهُ
بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا و : { مَنْ يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ
الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُرْشِدًا } [
الْكَهْفُ 17 ] .
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ
قَالَ مُوسَى
بْنُ عُقْبَةَ : وَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ مَكَثَ بِهَا عِشْرِينَ
لَيْلَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا ثُمّ خَرَجَ غَازِيًا إلَى خَيْبَرَ
وَكَانَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ وَعَدَهُ إيّاهَا وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : كَانَ فَتْحُ خَيْبَرَ فِي السّنَةِ السّادِسَةِ
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنّهَا فِي السّابِعَةِ . وَقَطَعَ أَبُو مُحَمّدِ
بْنُ حَزْمٍ : بِأَنّهَا كَانَتْ فِي السّادِسَةِ بِلَا شَكّ وَلَعَلّ
الْخِلَافَ مَبْنِيّ عَلَى أَوّلِ التّارِيخِ هَلْ هُوَ شَهْرُ رَبِيعٍ
الْأَوّلِ شَهْرُ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ أَوْ مِنْ الْمُحَرّمِ فِي
أَوّلِ السّنَةِ ؟ وَلِلنّاسِ فِي هَذَا طَرِيقَانِ . فَالْجُمْهُورُ
عَلَى أَنّ التّارِيخَ وَقَعَ مِنْ الْمُحَرّمِ وَأَبُو مُحَمّدِ بْنُ
حَزْمٍ : يَرَى أَنّهُ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ حِينَ قَدِمَ
وَكَانَ أَوّلُ مَنْ أَرّخَ بِالْهِجْرَةِ يَعْلَى بْنُ أُمَيّةَ
بِالْيَمَنِ كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ
وَقِيلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ سَنَةَ سِتّ
عَشْرَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ . وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي
الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرِ
بْنِ مَخْرَمَةَ أَنّهُمَا حَدّثَاهُ جَمِيعًا قَالَا : انْصَرَفَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فَنَزَلَتْ
عَلَيْهِ سُورَةُ الْفَتْحِ فِيمَا بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ
فَأَعْطَاهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهَا خَيْبَرَ { وَعَدَكُمُ اللّهُ
مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ } [ الْفَتْحُ
20 ] خَيْبَرُ فَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْمَدِينَةَ فِي ذِي الْحِجّةِ فَأَقَامَ بِهَا [ ص 282 ] سَارَ إلَى
خَيْبَرَ فِي الْمُحَرّمِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِالرّجِيعِ وَادٍ بَيْنَ خَيْبَرَ وَغَطَفَانَ فَتَخَوّفَ أَنْ
تَمُدّهُمْ غَطَفَانُ فَبَاتَ بِهِ حَتَى أَصْبَحَ فَغَدَا إلَيْهِمْ
انْتَهَى
[ قُدُومُ أَبِي هُرَيْرَةَ ]
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَة َ وَقَدِمَ أَبُو هُرَيْرَةَ
حِينَئِذٍ الْمَدِينَةَ فَوَافَى سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ فِي صَلَاةِ
الصّبْحِ فَسَمِعَهُ يَقْرَأُ فِي الرّكْعَةِ الْأُولَى - كهيعص وَفِي
الثّانِيَةِ وَيْلٌ لِلْمُطَفّفِينَ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ وَيْلٌ لِأَبِي
فُلَانٍ لَهُ مِكْيَالَانِ إذَا اكْتَالَ اكْتَالَ بِالْوَافِي وَإِذَا
كَالَ كَالَ بِالنّاقِصِ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَتَى سِبَاعًا
فَزَوّدَهُ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَكَلّمَ الْمُسْلِمِينَ فَأَشْرَكُوهُ وَأَصْحَابَهُ فِي
سُهْمَانِهِمْ .
[ قِصّةُ عَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ ]
وَقَالَ
سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ : " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلًا فَقَالَ رَجُلٌ
مِنْ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ : أَلَا تُسْمِعُنَا مِنْ
هُنَيْهَاتِكَ وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلًا شَاعِرًا ؟ فَنَزَلَ يَحْدُو
بِالْقَوْمِ يَقُولُ
اللّهُمّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
وَلَا تَصَدّقْنَا وَلَا صَلّيْنَا
فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا
وَثَبّتْ الْأَقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا
وَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
إنّا إذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا
صّيَاحِ عَوّلُوا عَلَيْنَا
وَبِالوَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ هَذَا السّائِقُ " ؟
قَالُوا : عَامِرٌ . فَقَالَ " رَحِمَهُ اللّهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ
الْقَوْمِ : وَجَبَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْلَا أَمْتَعَتْنَا بِهِ .
قَالَ فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ حَتّى أَصَابَتْنَا
مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ ثُمّ إنّ اللّهَ تَعَالَى فَتَحَ عَلَيْهِمْ فَلَمّا
أَمْسَوْا أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 283 ] مَا هَذِهِ النّيرَانُ عَلَى أَيّ
شَيْءٍ تُوقِدُونَ ؟ " قَالُوا : عَلَى لَحْمٍ . قَالَ " عَلَى أَيّ
لَحْمٍ ؟ قَالُوا : عَلَى لَحْمِ حُمْرٍ إنْسِيّةٍ . فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا "
فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ أَوَنُهْرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا ؟
فَقَالَ " أَوْ ذَاكَ فَلَمّا تَصَافّ الْقَوْمُ خَرَجَ مَرْحَبٌ يَخْطُرُ
بِسَيْفِهِ وَهُوَ يَقُولُ
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَرْحَب ُ
شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرّبُ
إذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهّبُ
فَنَزَلَ إلَيْهِ عَامِرٌ وَهُوَ يَقُولُ قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي عَامِر ُ شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُغَامِرُ
فَاخْتَلَفَا
ضَرْبَتَيْنِ فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ فِي تُرْسِ عَامِرٍ فَذَهَبَ
عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ وَكَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ فَرَجَعَ
عَلَيْهِ ذُبَابُ سَيْفِهِ فَأَصَابَ عَيْنَ رُكْبَتِهِ فَمَاتَ مِنْهُ
فَقَالَ سَلَمَةُ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَعَمُوا أَنّ
عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ فَقَالَ كَذَبَ مَنْ قَالَهُ إنّ لَهُ
أَجْرَيْنِ وَجَمَعَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ إنّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ قَلّ
عَرَبِيّ مَشَى بِهَا مِثْلَهُ " .
فَصْلٌ [ الْقُدُومُ إلَى خَيْبَرَ ]
وَلَمّا
قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْبَرَ صَلّى
بِهَا الصّبْحَ وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ فَخَرَجَ أَهْلُ خَيْبَرَ
بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ وَلَا يَشْعُرُونَ بَلْ خَرَجُوا
لِأَرْضِهِمْ فَلَمّا رَأَوْا الْجَيْشَ قَالُوا : مُحَمّدٌ وَاَللّهِ
مُحَمّدٌ وَالْخَمِيسُ ثُمّ رَجَعُوا هَارِبِينَ إلَى حُصُونِهِمْ فَقَالَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ
خَيْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنّا إذَا نَزَلْنَا
بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ [ ص 284 ] وَلَمّا دَنَا
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَشْرَفَ عَلَيْهَا قَالَ "
قِفُوا " فَوَقَفَ الْجَيْشُ فَقَالَ اللّهُمّ رَبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ
وَمَا أَظْلَلْنَ وَرَبّ الْأَرَضِينَ السّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبّ
الشّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ فَإِنّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ
الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ
شَرّ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَشَرّ أَهْلِهَا وَشَرّ مَا فِيهَا أَقْدِمُوا
بِسْمِ اللّهِ
[ إعْطَاءُ الرّايَةِ لِعَلِيّ ]
وَلَمّا كَانَتْ
لَيْلَةُ الدّخُولِ قَالَ لَأُعْطِيَنّ هِذّ الرّايَةَ غَدًا رَجُلًا
يُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبّهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللّهُ
عَلَى يَدَيْهِ فَبَاتَ النّاسُ يَدُوكُونَ أَيّهُمْ يُعْطَاهَا فَلَمّا
أَصْبَحَ النّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كُلّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ أَيْنَ عَلِيّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ ؟ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ يَشْتَكِي
عَيْنَيْهِ قَالَ فَأَرْسِلُوا إلَيْهِ فَأُتِيَ بَهْ فَبَصَقَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ
فَبَرَأَ حَتّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرّايَةَ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتّى يَكُونُوا مِثْلَنَا ؟
قَالَ اُنْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمّ
اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ
مِنْ حَقّ اللّهِ فِيهِ فَوَاَللّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللّهُ بِكَ رَجُلًا
وَاحِدًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النّعَمِ [ ص 285 ]
[ مَنْ قَتَلَ مَرْحَبًا الْيَهُودِيّ ]
فَخَرَجَ مَرْحَبٌ وَهُوَ يَقُولُ
أَنَا الّذِي سَمّتْنِي أُمّي مَرْحَبُ
شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرّبُ
إذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهّبُ
فَبَرَزَ إلَيْهِ عَلِيّ وَهُوَ يَقُولُ أَنَا الّذِي سَمّتْنِي أُمّي حَيْدَرَهْ كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ
أُوفِيهِمُ بِالصّاعِ كَيْلَ السّنْدَرَهْ
فَضَرَبَ
مَرْحَبًا فَفَلَقَ هَامَتَهُ وَكَانَ الْفَتْحُ . وَلَمّا دَنَا عَلِيّ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ حُصُونِهِمْ اطّلَعَ يَهُودِيّ مِنْ رَأْسِ
الْحِصْنِ فَقَالَ مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ أَنَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
. فَقَالَ الْيَهُودِيّ عَلَوْتُمْ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى . هَكَذَا
فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ هُوَ الّذِي قَتَلَ مَرْحَبًا [ ص 286 ] وَقَالَ مُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ : عَنْ الزّهْرِيّ وَأَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ .
وَيُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ
بْنُ سَهْلٍ أَحَدِ بَنِي حَارِثَة َ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ
أَنّ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَة َ هُوَ الّذِي قَتَلَهُ قَالَ جَابِرٌ فِي
حَدِيثِهِ خَرَجَ مَرْحَبٌ الْيَهُودِيّ مِنْ حِصْنِ خَيْبَرَ قَدْ جَمَعَ
سِلَاحَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ مَنْ يُبَارِزُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ لِهَذَا ؟ فَقَالَ مُحَمّدُ
بْنُ مَسْلَمَةَ : أَنَا لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا وَاَللّهِ
الْمَوْتُورُ الثّائِرُ قَتَلُوا أَخِي بِالْأَمْسِ يَعْنِي مَحْمُودَ
بْنَ مَسْلَمَةَ وَكَانَ قُتِلَ بِخَيْبَرَ فَقَالَ قُمْ إلَيْهِ اللّهُمّ
أَعِنْهُ عَلَيْهِ فَلَمّا دَنَا أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ دَخَلَتْ
بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ فَجَعَلَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلُوذُ بِهَا مِنْ
صَاحِبِهِ كُلّمَا لَاذَ بِهَا مِنْهُ اقْتَطَعَ صَاحِبُهُ بِسَيْفِهِ مَا
دُونَهُ مِنْهَا حَتّى بَرَزَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ
وَصَارَتْ بَيْنَهُمَا كَالرّجُلِ الْقَائِمِ مَا فِيهَا فَنَنٌ ثُمّ
حَمَلَ عَلَى مُحَمّدٍ فَضَرَبَهُ فَاتّقَاهُ بِالدّرَقَةِ فَوَقَعَ
سَيْفُهُ فِيهَا فَعَضّتْ بَهْ فَأَمْسَكَتْهُ وَضَرَبَهُ مُحَمّدُ بْنُ
مَسْلَمَةَ فَقَتَلَهُ وَكَذَلِكَ قَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَلّامَةَ ومجمع
بْنُ حَارِثَةَ : إنّ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ قَتَلَ مَرْحَبًا . قَالَ
الْوَاقِدِيّ : وَقِيلَ إن ّ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ ضَرَبَ سَاقَيْ
مَرْحَبٍ فَقَطَعَهُمَا فَقَالَ مَرْحَبٌ : أَجْهِزْ عَلَيّ يَا مُحَمّدُ
فَقَالَ مُحَمّدٌ : ذُقْ الْمَوْتَ كَمَا ذَاقَهُ أَخِي مَحْمُودٌ
وَجَاوَزَهُ وَمَرّ بِهِ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ
وَأَخَذَ سَلَبَهُ فَاخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَلَبِهِ فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَة َ : يَا
رَسُولَ اللّهِ مَا قَطَعْتُ رِجْلَيْهِ ثُمّ تَرَكْتُهُ إلّا لِيَذُوقَ
الْمَوْتَ وَكُنْت قَادِرًا أَنْ أُجْهِزَ عَلَيْهِ فَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ صَدَقَ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ رِجْلَيْهِ
فَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُحَمّدَ بْنَ
مَسْلَمَةَ سَيْفَهُ وَرُمْحَهُ وَمِغْفَرَهُ وَبَيْضَتَهُ وَكَانَ عِنْدَ
آلِ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ سَيْفُهُ فِيهِ كِتَابٌ لَا يُدْرَى مَا
فِيهِ حَتّى قَرَأَهُ يَهُودِيّ فَإِذَا فِيهِ
هَذَا سَيْفُ مَرْحَبْ
مَنْ يَذُقْهُ يَعْطَبْ
[قَتْل الزّبَيْرِ أَخَا مَرْحَبٍ ]
[
ص 287 ] خَرَجَ [ بَعْدَ مَرْحَبٍ أَخُوهُ ] يَاسِرُ فَبَرَزَ إلَيْهِ
الزّبَيْرُ فَقَالَت صَفِيّةُ أُمّهُ يَا رَسُولَ اللّهِ يَقْتُلُ ابْنِي
؟ قَالَ " بَلْ ابْنُكِ يَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ " فَقَتَلَهُ
الزّبَيْرُ .
[ حِصَارُ حِصْنِ الْقَمُوصِ وَفِيهِ النّهْيُ عَنْ أَكْلِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ ]
[ قِصّةُ الْعَبْدِ الّذِي أَسْلَمَ ثُمّ اُسْتُشْهِدَ وَلَمْ يُصَلّ سَجْدَةً قَطّ ]
قَالَ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ : ثُمّ دَخَلَ الْيَهُودُ حِصْنًا لَهُمْ مَنِيعًا
يُقَالُ لَهُ الْقَمُوصُ فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَتْ أَرْضًا
وَخْمَةً شَدِيدَةَ الْحَرّ فَجَهِدَ الْمُسْلِمُونَ جَهْدًا شَدِيدًا
فَذَبَحُوا الْحُمُرَ فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَنْ أَكْلِهَا وَجَاءَ عَبْدٌ أَسْوَدُ حَبَشِيّ مِنْ أَهْلِ
خيبر كان فِي غَنَمٍ لِسَيّدِهِ فَلَمّا رَأَى أَهْلَ خَيْبَرَ قَدْ
أَخَذُوا السّلَاحَ سَأَلَهُمْ مَا تُرِيدُونَ ؟ قَالُوا : نُقَاتِلُ
هَذَا الّذِي يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ ذِكْرُ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأ َقْبَلَ بِغَنَمِهِ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَاذَا تَقُولُ
وَمَا تَدْعُو إلَيْهِ ؟ قَالَ أَدْعُو إلَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ تَشْهَدَ
أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ وَأَنْ لَا تَعْبُدَ
إلّا اللّهَ . قَالَ الْعَبْدُ فَمَا لِي إنْ شَهِدْتُ وَآمَنْتُ
بِاَللّهِ عَزّ وَجَلّ ؟ قَالَ لَكَ الْجَنّةُ إنْ مِتّ عَلَى ذَلِكَ
فَأَسْلَمَ ثُمّ قَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ إنّ هَذِهِ الْغَنَمَ عِنْدِي
أَمَانَةٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَخْرِجْهَا مِنْ عِنْدِكَ وَارْمِهَا بِالْحَصْبَاءِ فَإِنّ اللّهَ
سَيُؤَدّي عَنْكَ أَمَانَتَكَ فَفَعَلَ فَرَجَعَتْ الْغَنَمُ إلَى
سَيّدِهَا فَعَلِمَ الْيَهُودِيّ أَنّ غُلَامَهُ قَدْ أَسْلَم فَقَامَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ فَوَعَظَهُمْ
وَحَضّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فَلَمّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ
وَالْيَهُودُ قُتِلَ فِيمَنْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ فَاحْتَمَلَهُ
الْمُسْلِمُونَ إلَى مُعَسْكَرِهِمْ فَأُدْخِلَ فِي الْفُسْطَاطِ
فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اطّلَعَ
فِي الْفُسْطَاطِ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ لَقَدْ
أَكْرَمَ اللّهُ هَذَا الْعَبْدَ وَسَاقَهُ إلَى خَيْرٍ وَلَقَدْ رَأَيْتُ
عِنْدَ رَأْسِهِ اثْنَتَيْنِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَلَمْ يُصَلّ لِلّهِ
سَجْدَةً قَطّ
[ قِصّةُ اسْتِشْهَادِ رَجُلٍ ]
قَالَ حَمّادُ بْنُ
سَلَمَةَ : عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أ َتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي رَجُلٌ
أَسْوَدُ اللّوْنِ قَبِيحُ الْوَجْهِ مُنْتِنُ الرّيحِ لَا مَالَ لِي
فَإِنْ قَاتَلْتُ هَؤُلَاءِ حَتّى أُقْتَلَ أَأَدْخُلُ الْجَنّةَ ؟ قَالَ
نَعَمْ فَتَقَدّمَ فَقَاتَلَ حَتّى قتل فأتى عَلَيْهِ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مَقْتُولٌ فَقَالَ لَقَدْ أَحْسَنَ
اللّهُ وَجْهَك وَطَيّبَ ريحك وكثر مَالَكَ ثُمّ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ
زَوْجَتَيْهِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ يَنْزِعَانِ جُبّتَهُ عَنْهُ
يَدْخُلَانِ فِيمَا بَيْنَ جِلْدِهِ وَجُبّتِهِ [ ص 288 ]
[ قِصّةُ أَعْرَابِيّ اُسْتُشْهِدَ ]
وَقَالَ
شَدّادُ بْنُ الْهَادِ : جَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأعراب إلى النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَآمَنَ بِهِ وَاتّبَعَهُ فَقَالَ أُهَاجِرُ
مَعَك فَأَوْصَى بِهِ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَلَمّا كَانَتْ غَزْوَةُ
خَيْبَرَ غَنِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْئًا
فَقَسَمَهُ وَقَسَمَ لِلْأَعْرَابِيّ فَأَعْطَى أَصْحَابَهُ مَا قَسَمَهُ
لَهُ وَكَانَ يَرْعَى ظَهْرَهُمْ فَلَمّا جَاءَ دَفَعُوهُ إلَيْهِ فَقَالَ
مَا هَذَا ؟ قَالُوا : قَسْمٌ قَسَمَهُ لَكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ قَسْمٌ
قَسَمْتُهُ لَكَ قَالَ مَا عَلَى هَذَا اتّبَعْتُك وَلَكِنْ اتّبَعْتُك
عَلَى أَنْ أُرْمَى هَا هُنَا وَأَشَارَ إلَى حَلْقِهِ بِسَهْمٍ فَأَمُوتَ
فَأَدْخُلَ الْجَنّةَ فَقَالَ إنْ تَصْدُقْ اللّهَ يَصْدُقْكَ ثُمّ نَهَضَ
إلَى قِتَالِ الْعَدُوّ فَأُتِيَ بِهِ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مَقْتُولٌ فَقَالَ أَهْوَ هُوَ ؟ قَالُوا :
نَعَمْ . قَالَ صَدَقَ اللّهَ فَصَدَقَهُ فَكَفّنَهُ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي جُبّتِهِ ثُمّ قَدّمَهُ فَصَلّى عَلَيْهِ
وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ لَهُ اللّهُمّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا
فِي سَبِيلِك قُتِلَ شَهِيدًا وَأَنَا عَلَيْهِ شَهِيدٌ
[ فَتْحُ قَلْعَةِ الزّبَيْرِ ]
[ الصّلْحُ مَعَ مَنْ كَانَ فِي حِصْنِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
ثُمّ نَكْثُهُمْ الْعَهْدَ بِتَغْيِيبِ مَسْكِ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ ]
قَالَ
الْوَاقِدِيّ [ ص 289 ] وَتَحَوّلَتْ الْيَهُودُ إلَى قَلْعَةِ الزّبَيْرِ
: حِصْنٍ مَنِيعٍ فِي رَأْسِ قُلّةٍ فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ
الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ عزال فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ إنّك لَوْ
أَقَمْتَ شَهْرًا مَا بَالَوْا إنّ لَهُمْ شَرَابًا وَعُيُونًا تَحْتَ
الْأَرْضِ يَخْرُجُونَ بِاللّيْلِ فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا ثُمّ يَرْجِعُونَ
إلَى قَلْعَتِهِمْ فَيَمْتَنِعُونَ مِنْك فَإِنْ قَطَعْت مَشْرَبَهُمْ
عَلَيْهِمْ أَصْحَرُوا لَك فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى مَائِهِمْ فَقَطَعَهُ عَلَيْهِمْ فَلَمّا قُطِعَ عَلَيْهِمْ
خَرَجُوا فَقَاتَلُوا أَشَدّ الْقِتَالِ وَقُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
نَفَرٌ وَأُصِيبَ نَحْوُ الْعَشَرَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَافْتَتَحَهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ تَحَوّلَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَهْلِ الْكُتَيْبَةِ
وَالْوَطِيحِ وَالسّلَالِمِ حِصْنِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ فَتَحَصّنَ
أَهْلُهُ أَشَدّ التّحَصّنِ وَجَاءَهُمْ كُلّ فَلّ كَانَ انْهَزَمَ مِنْ
النّطَاةِ وَالشّقّ فَإِنّ خَيْبَرَ كَانَتْ جَانِبَيْنِ الْأَوّلُ الشّقّ
وَالنّطَاةُ وَهُوَ الّذِي افْتَتَحَهُ أَوّلًا وَالْجَانِبُ الثّانِي :
الْكُتَيْبَةُ وَالْوَطِيحُ وَالسّلَالِمُ فَجَعَلُوا لَا يَخْرُجُونَ
مِنْ حُصُونِهِمْ حَتّى هَمّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِمْ الْمَنْجَنِيقَ فَلَمّا أَيْقَنُوا
بِالْهَلَكَةِ وَقَدْ حَصَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّلْحَ وَأَرْسَلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْزِلْ فَأُكَلّمَك ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " نَعَمْ "
فَنَزَلَ ابْنُ أَبِي الحقيق فصالح رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلَى حَقْنِ دِمَاءِ مَنْ فِي حُصُونِهِمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ
وَتَرْكِ الذّرّيّةِ لَهُمْ وَيَخْرُجُونَ مِنْ خَيْبَرَ وَأَرْضِهَا
بِذَرَارِيّهِمْ وَيُخَلّونَ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَبَيْنَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَأَرْضٍ وَعَلَى
الصّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْكُرَاعِ وَالْحَلْقَةِ إلّا ثَوْبًا
عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ " وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رسوله إن
كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا " فَصَالَحُوهُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ حَمّادُ بْنُ
سَلَمَةَ : أَنْبَأَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ [ ص 290 ] أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَاتَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ حَتّى أَلْجَأَهُمْ إلَى قَصْرِهِمْ
فَغَلَبَ عَلَى الزّرْعِ وَالنّخْلِ وَالْأَرْضِ فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ
يُجْلُوا مِنْهَا وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ وَلِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ وَاشْتَرَطَ
عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَكْتُمُوا وَلَا يُغَيّبُوا شَيْئًا فَإِنْ فَعَلُوا
فَلَا ذِمّةَ لَهُمْ وَلَا عَهْدَ فَغَيّبُوا مَسْكًا فِيهِ مَالٌ
وَحُلِيّ لِحُيَيّ بْنِ أَخْطَب َ كَانَ احْتَمَلَهُ مَعَهُ إلَى خَيْبَرَ
حِينَ أُجْلِيَتْ النّضِيرُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِعَمّ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ : مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَيّ الّذِي
جَاءَ بِهِ مِنْ النّضِيرِ؟ . قَالَ أَذْهَبَتْهُ النّفَقَاتُ
وَالْحُرُوبُ فَقَالَ الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ
" فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللّهِ إلَى الزّبَيْرِ فَمَسّهُ بِعَذَابٍ وَقَدْ
كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ خَرِبَةً فَقَالَ " قَدْ رَأَيْتُ حُيَيّا
يَطُوفُ فِي خَرِبَةٍ هَا هُنَا فَذَهَبُوا فَطَافُوا فَوَجَدُوا
الْمَسْكَ فِي الْخَرِبَةِ فَقَتَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ ابْنَيْ أَبِي الْحُقَيْقِ وَأَحَدُهُمَا زَوْجُ صَفِيّةَ بِنْتِ
حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ وَسَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ وَقَسَمَ أَمْوَالَهُمْ بِالنّكْثِ
الّذِي نَكَثُوا وَأَرَادَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْهَا فَقَالُوا : يَا
مُحَمّدُ دَعْنَا نَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ نُصْلِحُهَا وَنَقُومُ
عَلَيْهَا فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْكُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا لِأَصْحَابِهِ غِلْمَانٌ
يَقُومُونَ عَلَيْهَا وَكَانُوا لَا يَفْرُغُونَ يَقُومُونَ عَلَيْهَا
فَأَعْطَاهُمْ خيبر على أَنّ لَهُمْ الشّطْرَ مِنْ كُلّ زَرْعٍ وَكُلّ
ثَمَرٍ مَا بَدَا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ
يُقِرّهُمْ . وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَخْرُصُهُ عَلَيْهِمْ
كَمَا تَقَدّمَ . وَلَمْ يَقْتُلْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بَعْدَ الصّلْحِ إلّا ابْنَيْ أَبِي الْحُقَيْقِ لِلنّكْثِ
الّذِي نَكَثُوا فَإِنّهُمْ شَرَطُوا إنْ غَيّبُوا أَوْ كَتَمُوا فَقَدْ
بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ فَغَيّبُوا فَقَالَ
لَهُمْ أَيْنَ الْمَالُ الّذِي خَرَجْتُمْ بِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ حِينَ
أَجْلَيْنَاكُمْ ؟ قَالُوا : ذَهَبَ فَحَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ فَاعْتَرَفَ
ابْنُ عَمّ كِنَانَةَ عَلَيْهِمَا بِالْمَالِ حِينَ دَفَعَهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الزّبَيْرِ يُعَذّبُهُ
فَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِنَانَةَ إلَى
مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فَقَتَلَهُ وَيُقَالُ إنّ كِنَانَةَ هُوَ كَانَ
قَتَلَ أَخَاهُ مَحْمُودَ بْنَ مَسْلَمَةَ خَيْبَرَ عَلَى أَنّ لَهُمْ
الشّطْرَ مِنْ كُلّ زَرْعٍ وَكُلّ ثَمَرٍ مَا بَدَا لِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُقِرّهُمْ [ ص 290 ] وَكَانَ عَبْدُ
اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَخْرُصُهُ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقَدّمَ . وَلَمْ
يَقْتُلْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ الصّلْحِ
إلّا ابْنَيْ أَبِي الْحُقَيْقِ لِلنّكْثِ الّذِي نَكَثُوا فَإِنّهُمْ
شَرَطُوا إنْ غَيّبُوا أَوْ كَتَمُوا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمّةُ
اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ فَغَيّبُوا فَقَالَ لَهُمْ أَيْنَ الْمَالُ
الّذِي خَرَجْتُمْ بِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ حِينَ أَجْلَيْنَاكُمْ ؟
قَالُوا : ذَهَبَ فَحَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ فَاعْتَرَفَ ابْنُ عَمّ
كِنَانَةَ عَلَيْهِمَا بِالْمَالِ حِينَ دَفَعَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الزّبَيْرِ يُعَذّبُهُ فَدَفَعَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِنَانَةَ إلَى مُحَمّدِ بْنِ
مَسْلَمَةَ فَقَتَلَهُ وَيُقَالُ إنّ كِنَانَةَ هُوَ كَانَ قَتَلَ أَخَاهُ
مَحْمُودَ بْنَ مَسْلَمَةَ .
[ زَوَاجُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصَفِيّةَ ]
وَسَبَى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَفِيّةَ بِنْتَ حُيَيّ
بْنِ أَخْطَبَ وَابْنَةَ عَمّتِهَا وَكَانَتْ صَفِيّةُ تَحْتَ كِنَانَةَ
بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَكَانَتْ عَرُوسًا حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِالدّخُولِ
فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَذْهَبَ بِهَا إلَى رَحْلِهِ فَمَرّ بِهَا
بِلَالٌ وَسْطَ الْقَتْلَى فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ أَذَهَبَتْ الرّحْمَةُ مِنْكَ يَا بَلَالُ
وَعَرَضَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَتْ فَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ وَأَعْتَقَهَا
وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا وَبَنَى بِهَا فِي الطّرِيقِ وَأَوْلَمَ
عَلَيْهَا وَرَأَى بِوَجْهِهَا خُضْرَةً فَقَالَ مَا هَذَا ؟ قَالَتْ يَا
رَسُولَ اللّهِ أُرِيتُ قَبْلَ قُدُومِك عَلَيْنَا كَأَنّ الْقَمَرَ زَالَ
مِنْ مَكَانِهِ فَسَقَطَ فِي حَجْرِي وَلَا وَاَللّهِ مَا أَذْكُرُ مِنْ
شَأْنِك شَيْئًا فَقَصَصْتهَا عَلَى زَوْجِي فَلَطَمَ وَجْهِي وَقَالَ
تُمَنّينَ هَذَا الْمَلِكَ الّذِي بِالْمَدِينَةِ [ ص 291 ] وَشَكّ
الصّحَابَةُ هَلْ اتّخَذَهَا سُرّيّةً أَوْ زَوْجَةً ؟ فَقَالُوا :
اُنْظُرُوا إنْ حَجّبَهَا فَهِيَ إحْدَى نِسَائِهِ وَإِلّا فَهِيَ مِمّا
مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمّا رَكِبَ جَعَلَ ثَوْبَهُ الّذِي ارْتَدَى بِهِ
عَلَى ظَهْرِهَا وَوَجْهِهَا ثُمّ شَدّ طَرَفَهُ تَحْتَهُ فَتَأَخّرُوا
عَنْهُ فِي الْمَسِيرِ وَعَلِمُوا أَنّهَا إحْدَى نِسَائِهِ وَلِمَا
قَدِمَ لِيَحْمِلهَا عَلَى الرّحْلِ أَجَلّتْهُ أَنْ تَضَعَ قَدَمَهَا
عَلَى فَخِذِهِ فَوَضَعَتْ رُكْبَتَهَا عَلَى فَخِذِهِ ثُمّ رَكِبَتْ .
وَلَمّا بَنَى بِهَا بَاتَ أَبُو أَيّوبَ لَيْلَتَهُ قَائِمًا قَرِيبًا
مِنْ قُبّتِهِ آخِذًا بِقَائِمِ السّيْفِ حَتّى أَصْبَحَ فَلَمّا رَأَى
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَبّرَ أَبُو أَيّوب َ
حِينَ رَآهُ قَدْ خَرَجَ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَا لَك يَا أَبَا أَيّوبَ ؟ فَقَالَ لَهُ أَرِقْتُ لَيْلَتِي
هَذِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لَمّا دَخَلْتَ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ ذَكَرْتُ
أَنّك قَتَلْتَ أَبَاهَا وَأَخَاهَا وَزَوْجَهَا وَعَامّةَ عَشِيرَتِهَا
فَخِفْتُ أَنْ تَغْتَالَك فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَقَالَ لَهُ مَعْرُوفًا
فَصْلٌ [ قَسْمُ خَيْبَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ]
[هَلْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ صُلْحًا أَمْ عَنْوَةً ؟]
وَقَسَمَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْبَرَ عَلَى سِتّةٍ
وَثَلَاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ كُلّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ فَكَانَتْ
ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَسِتّمِائَةِ سَهْمٍ فَكَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ النّصْفُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ
أَلْفٌ وَثَمَانُمِائَةِ سَهْمٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ سَهْمٌ كَسَهْمِ أَحَدِ الْمُسْلِمِينَ وَعَزَلَ النّصْفَ
الْآخَرَ وَهُوَ أَلْفٌ وَثَمَانُمِائَةِ سَهْمٍ لِنَوَائِبِهِ وَمَا
يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ :
وَهَذَا لِأَنّ خَيْبَرَ فُتِحَ شَطْرُهَا عَنْوَةً وَشَطْرُهَا صُلْحًا
فَقَسَمَ مَا فُتِحَ عَنْوَةً بَيْنَ أَهْلِ الْخُمُسِ وَالْغَانِمِينَ
وَعَزَلَ مَا فُتِحَ صُلْحًا لِنَوَائِبِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ
أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ . [ ص 292 ] أَصْلِ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ
أَنّهُ يَجِبُ قَسْمُ الْأَرْضِ الْمُفْتَتَحَةِ عَنْوَةً كَمَا تُقْسَمُ
سَائِرُ الْمَغَانِمِ فَلَمّا لَمْ يَجِدْهُ قَسَمَ النّصْفَ مِنْ
خَيْبَرَ قَالَ إنّهُ فُتِحَ صُلْحًا . وَمَنْ تَأَمّلَ السّيَرَ
وَالْمَغَازِيَ حَقّ التّأَمّلِ تَبَيّنَ لَهُ أَنّ خَيْبَرَ إنّمَا
فُتِحَتْ عَنْوَةً وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
اسْتَوْلَى عَلَى أَرْضِهَا كُلّهَا بِالسّيْفِ عَنْوَةً وَلَوْ فُتِحَ
شَيْءٌ مِنْهَا صُلْحًا لَمْ يُجْلِهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهَا فَإِنّهُ لَمّا عَزَمَ عَلَى إخْرَاجِهِمْ
مِنْهَا قَالُوا : نَحْنُ أَعْلَمُ بِالْأَرْضِ مِنْكُمْ دَعُونَا نَكُونُ
فِيهَا وَنَعْمُرُهَا لَكُمْ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَهَذَا
صَرِيحٌ جِدّا فِي أَنّهَا إنّمَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَدْ حَصَلَ بَيْنَ
الْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ بِهَا مِنْ الْحِرَابِ وَالْمُبَارَزَةِ
وَالْقَتْلِ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ وَلَكِنْ لَمّا
أُلْجِئُوا إلَى حِصْنِهِمْ نَزَلُوا عَلَى الصّلْحِ الّذِي بَذَلُوهُ
أَنّ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ الصّفْرَاءَ
وَالْبَيْضَاءَ وَالْحَلْقَةَ وَالسّلَاحَ وَلَهُمْ رِقَابُهُمْ
وَذُرّيّتُهُمْ وَيُجْلُوا مِنْ الْأَرْضِ فَهَذَا كَانَ الصّلْحَ وَلَمْ
يَقَعْ بَيْنَهُمْ صُلْحٌ أَنّ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ لِلْيَهُودِ
وَلَا جَرَى ذَلِكَ الْبَتّةَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ
نُقِرّكُمْ مَا شِئْنَا فَكَيْفَ يُقِرّهُمْ فِي أَرْضِهِمْ مَا شَاءَ ؟
وَلَمّا كَانَ عُمَرُ أَجْلَاهُمْ كُلّهُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَلَمْ
يُصَالِحْهُمْ أَيْضًا عَلَى أَنّ الْأَرْضَ لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهَا
خَرَاجٌ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ هَذَا لَمْ يَقَعْ فَإِنّهُ لَمْ يَضْرِبْ
عَلَى خَيْبَرَ خَرَاجًا الْبَتّةَ .
[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ فَتْحَهَا عَنْوَةً وَبَيَانُ حُكْمِ الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً ]
فَالصّوَابُ
الّذِي لَا شَكّ فِيهِ أَنّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَالْإِمَامُ مُخَيّرٌ
فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ بَيْنَ قَسْمِهَا وَوَقْفِهَا أَوْ قَسْمِ
بَعْضِهَا وَوَقْفِ الْبَعْضِ وَقَدْ فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَنْوَاعَ الثّلَاثَةَ فَقَسَمَ قُرَيْظَةَ
وَالنّضِيرَ وَلَمْ يَقْسِمْ مَكّةَ وَقَسَمَ شَطْرَ خَيْبَرَ وَتَرَكَ
شَطْرَهَا وَقَدْ تَقَدّمَ تَقْرِيرُ كَوْنِ مَكّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً
بِمَا لَا مَدْفَعَ لَهُ .
[ لَمْ يَغِبْ عَنْ خَيْبَرَ مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ إلّا جَابِرٌ ]
وَإِنّمَا
قُسِمَتْ عَلَى أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةِ سَهْمٍ لِأَنّهَا كَانَتْ
طُعْمَةً مِنْ اللّهِ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ
وَمَنْ غَابَ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَكَانَ مَعَهُمْ
مِائَتَا فَرَسٍ لِكُلّ فَرَسٍ سَهْمَانِ فَقُسِمَتْ عَلَى أَلْفٍ
وَثَمَانِمِائَةِ سَهْمٍ وَلَمْ يَغِبْ عَنْ خَيْبَرَ مِنْ أَهْلِ
الْحُدَيْبِيَةِ إلّا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فَقَسَمَ لَهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَسَهْمِ مَنْ حَضَرَهَا . [ ص 293
]
[ الِاخْتِلَافُ فِي أَسْهُمِ الرّاجِلِ وَالْفَارِسِ ]
وَقَسَمَ
لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرّاجِلِ سَهْمًا وَكَانُوا أَلْفًا
وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَفِيهِمْ مِائَتَا فَارِسٍ هَذَا هُوَ الصّحِيحُ
الّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ . وَرَوَى عَبْدُ اللّهِ الْعُمَرِيّ عَنْ
نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَر َ أَنّهُ أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ
وَالرّاجِلَ سَهْمًا قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ كَأَنّهُ سَمِعَ
نَافِعًا يَقُولُ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرّاجِلِ سَهْمًا فَقَالَ
لِلْفَارِسِ وَلَيْسَ يَشُكّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَقَدّمِ
عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ عَلَى أَخِيهِ فِي الْحِفْظِ وَقَدْ
أَنْبَأَنَا الثّقَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ
الْوَاسِطِيّ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ
عُمَر َ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ضَرَبَ
لِلْفَرَسِ بِسَهْمَيْنِ وَلِلْفَارِسِ بِسَهْمٍ . ثُمّ رَوَى مِنْ
حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ سَهْمُ لَهُ وَسَهْمَانِ
لِفَرَسِهِ وَهُوَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الثّوْرِيّ
وَأَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ .
ضَرَبَ لِلْفَرَسِ
بِسَهْمَيْنِ وَلِلْفَارِسِ بِسَهْمٍ ثُمّ رَوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي
مُعَاوِيَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ا بْنِ
عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم َ أَسْهَمَ
لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُم : سَهْمُ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ
وَهُوَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الثّوْرِيّ وَأَبُو
أُسَامَةَ عَنْ عبيد الله . قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ وَرَوَى
مُجَمّعُ بْنُ جَارِيَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَسَمَ سِهَامَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَكَانَ
الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ
فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرّاجِلَ سَهْمًا [ ص 294 ] قَالَ
الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ وَمُجَمّعُ بْنُ يَعْقُوبَ يَعْنِي رَاوِيَ
هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمّهِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ
يَزِيدَ عَنْ عَمّهِ مُجَمّعِ بْنِ جَارِيَةَ شَيْخٌ لَا يُعْرَفُ
فَأَخَذْنَا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُبَيْدِ اللّهِ وَلَمْ نَرَ لَهُ
مِثْلَهُ خَبَرًا يُعَارِضُهُ وَلَا يَجُوزُ رَدّ خَبَرٍ إلّا بِخَبَرٍ
مِثْلِهِ . قَالَ الْبَيْهَقِيّ : وَاَلّذِي رَوَاهُ مُجَمّعُ بْنُ
يَعْقُوبَ بِإِسْنَادِهِ فِي عَدَدِ الْجَيْشِ وَعَدَدِ الْفُرْسَانِ قَدْ
خُولِفَ فِيهِ فَفِي رِوَايَةِ جَابِرٍ وَأَهْلِ الْمَغَازِي : أَنّهُمْ
كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَهُمْ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ وَفِي
رِوَايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ وَبَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ
وَأَهْلِ الْمَغَازِي : أَنّ الْخَيْلَ كَانَتْ مِائَتَيْ فَرَسٍ وَكَانَ
لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمٌ وَلِكُلّ رَاجِلٍ سَهْمٌ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : حَدِيثُ أَبِي مُعَاوِيَةَ أَصَحّ وَالْعَمَلُ
عَلَيْهِ وَأَرَى الْوَهْمَ فِي حَدِيثِ مُجَمّعٍ أَنّهُ قَالَ
ثَلَاثَمِائَةِ فَارِسٍ وَإِنّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ . وَقَدْ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَمَعَنَا فَرَسٌ فَأَعْطَى كُلّ إنْسَانٍ مِنّا
سَهْمًا وَأَعْطَى الْفَرَسَ سَهْمَيْنِ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي
إسْنَادِهِ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ مسعود وهو الْمَسْعُودِيّ وَفِيهِ ضَعْفٌ . وَقَدْ
رُوِيَ الْحَدِيثُ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ أَتَيْنَا رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مَعَنَا فَرَسٌ
فَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا .
فَصْلُ [ قُدُومِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْأَشْعَرِيّينَ ]
وَفِي
هَذِهِ الْغَزْوَةِ قَدِمَ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْنُ
عَمّهِ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ [ ص 295 ]
الْأَشْعَرِيّونَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ قيس أبو مُوسَى وَأَصْحَابُهُ
وَكَانَ فِيمَنْ قَدِمَ مَعَهُمْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ . قَالَ أَبُو
مُوسَى : بَلَغَنَا مَخْرَجُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي
أَنَا أَصْغَرُهُمَا أحدهما أبو رُهْمٍ وَالْآخَرُ أَبُو بُرْدَةَ فِي
بِضْعٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي فَرَكِبْنَا سَفِينَةً
فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إلَى النّجَاشِيّ بِالْحَبَشَةِ فَوَافَقْنَا
جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابَهُ عِنْدَهُ فَقَالَ جَعْفَرٌ :
إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَنَا وَأَمَرَنَا
بِالْإِقَامَةِ فَأَقِيمُوا مَعَنَا فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتْي قَدِمْنَا
جَمِيعًا فَوَافَقْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَنَا وَمَا قَسَمَ لِأَحَدٍ غَابَ
عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ شَيْئًا إلّا لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ إلّا لِأَصْحَابِ
سَفِينَتِنَا مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ وَكَانَ
نَاسٌ يَقُولُونَ لَنَا : سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ قَالَ وَدَخَلَتْ
أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ عَلَى حَفْصَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا عُمَرُ
فَقَالَ مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَتْ أَسْمَاءُ . فَقَالَ عُمَرُ :
سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ نَحْنُ أَحَقّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْكُمْ فَغَضِبَتْ وَقَالَتْ يَا عُمَر ُ كَلّا
وَاَللّهِ لَقَدْ كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ وَكُنّا فِي أَرْض
الْبُعَدَاءِ الْبُغَضَاءِ وَذَلِكَ فِي اللّهِ وَفِي رَسُولِهِ وَاَيْمُ
اللّهِ لَا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتّى أَذْكُرَ مَا
قُلْتَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَحْنُ كُنّا
نُؤْذَى وَنَخَافُ وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهِ لَا أَكْذِبُ وَلَا أَزِيغُ وَلَا أَزِيدُ
عَلَى ذَلِكَ فَلَمّا جَاءَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ عُمَرَ قَالَ كَذَا وَكَذَا . فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا قُلْتِ لَهُ ؟ قَالَت
: قُلْت لَهُ كَذَا وَكَذَا . فَقَالَ لَيْسَ بِأَحَقّ بِي منكم وله
وَلِأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَكُمْ أَنْتُمْ أَهْلَ السّفِينَةِ
هِجْرَتَانِ وَكَانَ أَبُو مُوسَى وَأَصْحَابُ السّفِينَةِ يَأْتُونَ
أَسْمَاءَ أَرْسَالًا يَسْأَلُونَهَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ مَا مِنْ
الدّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ وَلَا أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ
مِمّا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " . [
ص 296 ] جَعْفَرٌ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
تَلَقّاهُ وَقَبّلَ جَبْهَتَهُ وَقَالَ وَاَللّهِ مَا أَدْرِي بِأَيّهِمَا
أَفْرَحُ بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ ؟ .
[ ضَعْفُ قِصّةِ حَجَلَانِ جَعْفَرٍ إعْظَامًا لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَبُطْلَانُ جَعْلِهَا مُسْتَنَدًا لِلرّقْصِ ]
وَأَمّا
مَا رُوِيَ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ أَنّ جَعْفَرًا لَمّا نَظَرَ إلَى
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَجَلَ يَعْنِي : مَشَى عَلَى
رِجْلٍ وَاحِدَةٍ إعْظَامًا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَجَعَلَهُ أَشْبَاهُ الدّبَابِ الرّقّاصُونَ أَصْلًا لَهُمْ فِي
الرّقْصِ فَقَالَ الْبَيْهَقِيّ وَقَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيق الثّوْرِيّ
عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَفِي إسْنَادِهِ إلَى الثّوْرِيّ
مَنْ لَا يُعْرَفُ . قُلْت : وَلَوْ صَحّ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا حُجّةٌ
عَلَى جَوَازِ التّشَبّهِ بِالدّبَابِ وَالتّكَسّرِ وَالتّخَنّثِ فِي
الْمَشْيِ الْمُنَافِي لِهَدْيِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَإِنّ هَذَا لَعَلّهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ الْحَبَشَةِ
تَعْظِيمًا لِكُبَرَائِهَا كَضَرْبِ الْجُوكِ عِنْدَ التّرْكِ وَنَحْوِ
ذَلِك فَجَرَى جَعْفَرٌ عَلَى تِلْكَ الْعَادَةِ وَفَعَلَهَا مَرّةً ثُمّ
تَرَكَهَا لِسُنّةِ الْإِسْلَامِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ الْقَفْزِ
وَالتّكَسّرِ وَالتّثَنّي وَالتّخَنّثِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
[ عَدَمُ إعَانَةِ بَنِي فَزَارَةَ أَهْلَ خَيْبَرَ اتّفَاقًا مَعَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
قَالَ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ : كَانَتْ بَنُو فَزَارَةَ مِمّنْ قَدِمَ عَلَى
أَهْلِ خَيْبَر لِيُعِينُوهُمْ فَرَاسَلَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلّا يُعِينُوهُمْ وَأَنْ يَخْرُجُوا عَنْهُمْ
وَلَكُمْ مِنْ خيبر كذا وَكَذَا فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَلَمّا فَتَحَ اللّهُ
عَلَيْهِ خَيْبَرَ أَتَاهُ مَنْ كَانَ ثَمّ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ
فَقَالُوا : وَعْدَك الّذِي وَعَدْتنَا فَقَالَ لَكُمْ ذُو الرّقَيْبَةِ
جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ خَيْبَرَ فَقَالُوا : إذًا نُقَاتِلُك . فَقَالَ
مَوْعِدُكُمْ كَذَا فَلَمّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجُوا هَارِبِينَ
[ قِصّةُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ ]
وَقَالَ
الْوَاقِدِيّ : قَالَ أَبُو شُيَيْمٍ الْمُزَنِيّ - وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ
فَحَسُنَ إسْلَامُهُ - لَمّا نَفَرْنَا إلَى أَهْلِنَا مَعَ عُيَيْنَةَ
بْنِ حِصْن ٍ رَجَعَ بِنَا عُيَيْنَةُ فَلَمّا كَانَ دُونَ خَيْبَرَ
عَرّسْنَا مِنْ اللّيْلِ فَفَزِعْنَا . فَقَالَ عُيَيْنَةُ : أَبْشِرُوا
إنّي أَرَى اللّيْلَةَ فِي النّوْمِ أَنّنِي أُعْطِيت ذَا الرّقَيْبَةِ
جَبَلًا بِخَيْبَرَ قَدْ وَاَللّهِ أَخَذْتُ بِرَقَبَةِ مُحَمّدٍ فَلَمّا
قَدِمْنَا خَيْبَرَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ فَوَجَدَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ . فَقَالَ يَا مُحَمّدُ
أَعْطِنِي مَا غَنِمْتَ مِنْ حُلَفَائِي فَإِنّي انْصَرَفْتُ عَنْكُ
وَقَدْ فَرَغْنَا لَك فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كَذَبْتَ وَلَكِنّ الصّيَاحَ الّذِي سَمِعْتَ نَفّرَكَ إلَى
أَهْلِكَ " . قَالَ أَجْزِنِي : يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ " لَك ذُو
الرّقَيْبَةِ . قَالَ وَمَا ذُو الرّقَيْبَةِ ؟ قَالَ الْجَبَلُ الّذِي
رَأَيْتَ فِي النّوْمِ أَنّك أَخَذْته [ ص 297 ] عُيَيْنَةُ فَلَمّا
رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ جَاءَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ أَلَمْ
أَقُلْ لَك : إنّك تُوضِعُ فِي غَيْرِ شَيْءٍ وَاَللّهِ لَيَظْهَرَنّ
مُحَمّدٌ عَلَى مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَهُودُ كَانُوا
يُخْبِرُونَنَا بِهَذَا أَشْهَدَ لَسَمِعْتُ أَبَا رَافِعٍ سَلّامَ بْنَ
أَبِي الْحُقَيْقِ يَقُولُ إنّا نَحْسُدُ مُحَمّدًا عَلَى النّبُوّةِ
حَيْثُ خَرَجَتْ مِنْ بَنِي هَارُونَ وَهُوَ نَبِيّ مُرْسَلٌ وَيَهُودُ
لَا تُطَاوِعُنِي عَلَى هَذَا وَلَنَا مِنْهُ ذِبْحَانِ وَاحِدٌ
بِيَثْرِبَ وَآخَرُ بِخَيْبَرَ قَالَ الْحَارِثُ : قُلْت لِسَلّامٍ :
يَمْلِكُ الْأَرْضَ جَمِيعًا ؟ قَالَ نَعَمْ وَالتّوْرَاةِ الّتِي
أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى وَمَا أُحِبّ أَنْ تَعْلَمَ يَهُودُ بِقَوْلِي
فِيهِ .
فَصْلٌ [ قِصّةُ سَمّ يَهُودِيّةٍ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَفِي
هَذِهِ الْغَزَاةِ سُمّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَهْدَتْ لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْيَهُودِيّةُ امْرَأَةُ
سَلّامِ بْنِ مِشْكَمٍ شَاةً مَشْوِيّةً قَدْ سَمّتْهَا وَسَأَلَتْ أَيّ
اللّحْمِ أَحَبّ إلَيْهِ ؟ فَقَالُوا : الذّرَاعُ فَأَكْثَرَتْ مِنْ
السّمّ فِي الذّرَاعِ فَلَمّا انْتَهَشَ مِنْ ذِرَاعِهَا أَخْبَرَهُ
الذّرَاعُ بِأَنّهُ مَسْمُومٌ فَلَفَظَ الْأَكْلَةَ ثُمّ قَالَ "
اجْمَعُوا لِي مِنْ هَا هُنَا مِنْ الْيَهُودِ فَجَمَعُوا لَهُ فَقَالَ
لَهُمْ " إنّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيّ فِيهِ ؟
" قَالُوا : نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَنْ أَبُوكُمْ ؟ " قَالُوا : أَبُونَا
فُلَانٌ . قَالَ " كَذَبْتُمْ أَبُوكُمْ فُلَانٌ " . قَالُوا : صَدَقْتَ
وَبَرِرْت قَالَ " هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيّ عَنْ شَيْءٍ إنْ سَأَلْتُكُمْ
عَنْهُ ؟ " قَالُوا : نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ وَإِنْ كَذَبْنَاك
عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَنْ أَهْلُ النّارِ ؟ " فَقَالُوا :
نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمّ تَخْلُفُونَنَا فِيهَا . فَقَالَ لَهُمْ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اخْسَئُوا فِيهَا
فَوَاَللّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَدًا " ثُمّ قَالَ " هَلْ
أَنْتُمْ صَادِقِيّ عَنْ شَيْءٍ إنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ ؟ " قَالُوا :
نَعَمْ . قَالَ " أَجَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشّاةِ سُمّا ؟ " قَالُوا :
نَعَمْ . قَالَ " فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ " قَالُوا : أَرَدْنَا
إنْ كُنْت كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ مِنْك وَإِنْ كُنْت نَبِيّا لَمْ يَضُرّك
[ ص 298 ]
[ قَتْلُ الْيَهُودِيّةِ لَمّا مَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ ]
وَجِيءَ
بِالْمَرْأَةِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَتْ أَرَدْتُ قَتْلَكَ . فَقَالَ مَا كَانَ اللّهُ لِيُسَلّطَكِ
عَلَيّ " قَالُوا : أَلَا نَقْتُلُهَا ؟ قَالَ لَا وَلَمْ يَتَعَرّضْ
لَهَا وَلَمْ يُعَاقِبْهَا وَاحْتَجَمَ عَلَى الْكَاهِلِ وَأَمَرَ مَنْ
أَكَلَ مِنْهَا فَاحْتَجَمَ فَمَاتَ بَعْضُهُمْ وَاخْتُلِفَ فِي قَتْلِ
الْمَرْأَةِ فَقَالَ الزّهْرِيّ : أَسْلَمَتْ فَتَرَكَهَا ذَكَرَهُ عَبْدُ
الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْهُ ثُمّ قَالَ مَعْمَرٌ وَالنّاسُ تَقُولُ
قَتَلَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ أَبُو دَاوُدَ
: حَدّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيّة َ قَالَ حَدّثَنَا خَالِدٌ عَنْ مُحَمّدِ
بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيّةً
وَذَكَرَ الْقِصّةَ وَقَالَ فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ
مَعْرُورٍ فَأَرْسَلَ إلَى الْيَهُودِيّةِ مَا حَمَلَك عَلَى الّذِي
صَنَعْتِ ؟ قَالَ جَابِرٌ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُتِلَت قُلْت : كِلَاهُمَا مُرْسَلٌ وَرَوَاهُ
حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مُتّصِلًا " أَنّهُ قَتَلَهَا لَمّا مَاتَ بِشْرُ
بْنُ الْبَرَاءِ " . وَقَدْ وُفّقَ بَيْنَ الرّوَايَتَيْنِ بِأَنّهُ لَمْ
يَقْتُلْهَا أَوّلًا فَلَمّا مَاتَ بِشْرٌ قَتَلَهَا . وَقَدْ اُخْتُلِفَ
هَلْ أَكَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهَا أَوْ لَمْ
يَأْكُلْ ؟ وَأَكْثَرُ الرّوَايَاتِ أَنّهُ أَكَلَ مِنْهَا وَبَقِيَ
بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ حَتّى قَالَ فِي وَجَعِهِ الّذِي مَاتَ
فِيهِ مَا زِلْتُ أَجِدُ مِنْ الْأُكْلَةِ الّتِي أَكَلْتُ مِنْ الشّاةِ
يَوْمَ خَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ الْأَبْهَرِ مِنّي [ ص 299 ]
قَالَ الزّهْرِيّ : فَتُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ شَهِيدًا .
[ التّرَاهُنُ بَيْنَ قُرَيْشٍ فِيمَنْ يَنْتَصِرُ فِي خَيْبَرَ ]
قَالَ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُ وَكَانَ بَيْنَ قُرَيْشٍ حِينَ سَمِعُوا
بِخُرُوجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى خَيْبَرَ
تَرَاهُنٌ عَظِيمٌ وَتَبَايُعٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَظْهَرُ مُحَمّدٌ
وَأَصْحَابُهُ وَمِنْهُمْ يَقُولُ يَظْهَرُ الْحَلِيفَانِ وَيَهُودُ
خَيْبَرُ وَكَانَ الْحَجّاجُ بْن عِلَاطٍ السّلَمِيّ قَدْ أَسْلَمَ
وَشَهِدَ فَتْحَ خَيْبَرَ وَكَانَتْ تَحْتَهُ أُمّ شَيْبَةَ أُخْتُ بَنِي
عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ وَكَانَ الْحَجّاجُ مُكْثِرًا مِنْ الْمَالِ
كَانَتْ لَهُ مَعَادِنُ بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ فَلَمّا ظَهَرَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى خَيْبَرَ قَالَ الْحَجّاجُ بْنُ
عِلَاطٍ : إنّ لِي ذَهَبًا عِنْدَ امْرَأَتِي وَإِنْ تَعْلَمْ هِيَ
وَأَهْلُهَا بِإِسْلَامِي فَلَا مَالَ لِي فَأْذَنْ لِي فَلَأُسْرِعُ
السّيْرَ وَأَسْبِقُ الْخَبَرَ وَلَأُخْبِرَنّ أَخْبَارًا إذَا قَدِمْت
أَدْرَأُ بِهَا عَنْ مَالِي وَنَفْسِي فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا قَدِمَ مَكّةَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ
أَخْفِي عَلَيّ وَاجْمَعِي مَا كَانَ لِي عِنْدَك مِنْ مَالٍ فَإِنّي
أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْ غَنَائِمِ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ
فَإِنّهُمْ قَدْ اُسْتُبِيحُوا وَأُصِيبَتْ أَمْوَالُهُمْ وَإِنّ
مُحَمّدًا قَدْ أُسِرَ وَتَفَرّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنّ الْيَهُودَ
قَدْ أَقْسَمُوا : لَتَبْعَثَنّ بِهِ إلَى مَكّةَ ثُمّ لَتَقْتُلَنّهُ
بِقَتْلَاهُمْ بِالْمَدِينَةِ وَفَشَا ذَلِكَ بِمَكّةَ وَاشْتَدّ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وَبَلَغَ مِنْهُمْ وَأَظْهَرَ الْمُشْرِكُونَ الْفَرَحَ
وَالسّرُورَ فَبَلَغَ الْعَبّاسَ عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَجَلَةُ النّاسِ وَجَلَبَتُهُمْ وَإِظْهَارُهُمْ
السّرُورَ فَأَرَادَ أَنْ يَقُومَ وَيَخْرُجَ فَانْخَزَلَ ظَهْرُهُ فَلَمْ
يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ فَدَعَا ابْنًا لَهُ يُقَالُ لَهُ قُثَمُ
وَكَانَ يُشْبِهُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَعَلَ
الْعَبّاسُ يَرْتَجِزُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ لِئَلّا يَشْمَتَ بِهِ
أَعْدَاءُ اللّهِ حِبّي قُثَمْ حِبّي قُثَم ْ شَبِيهُ ذِي الْأَنْفِ
الْأَشَم
نَبِيّ رَبّي ذِي النّعَم بِرَغْمِ أَنْفِ مَنْ رَغَمْ
[ ص
300 ] دَارِهِ رِجَالٌ كَثِيرُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ
مِنْهُمْ الْمُظْهِرُ لِلْفَرَحِ وَالسّرُورِ وَمِنْهُمْ الشّامِتُ
الْمُغْرِي وَمِنْهُمْ مَنْ بِهِ مِثْلُ الْمَوْتِ مِنْ الْحُزْنِ
وَالْبَلَاءِ فَلَمّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ رَجَزَ الْعَبّاسِ
وَتَجَلّدَهُ طَابَتْ نَفُوسُهُمْ وَظَنّ الْمُشْرِكُونَ أَنّهُ قَدْ
أَتَاهُ مَا لَمْ يَأْتِهِمْ ثُمّ أَرْسَلَ الْعَبّاسُ غُلَامًا لَهُ إلَى
الْحَجّاجِ وَقَالَ لَهُ اُخْلُ بَهْ وَقُلْ لَهُ وَيْلَك مَا جِئْتَ بَهْ
وَمَا تَقُولُ فَاَلّذِي وَعَدَ اللّهُ خَيْرٌ مِمّا جِئْتَ بِهِ ؟
فَلَمّا كَلّمَهُ الْغُلَامُ قَالَ لَهُ اقْرَأْ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ
السّلَامَ وَقُلْ لَهُ فَلْيَخْلُ بِي فِي بَعْضِ بُيُوتِهِ حَتّى آتِيَهُ
فَإِنّ الْخَبَرَ عَلَى مَا يَسُرّهُ فَلَمّا بَلَغَ الْعَبْدُ بَابَ
الدّارِ قَالَ أَبْشِرْ يَا أَبَا الْفَضْلِ فَوَثَبَ الْعَبّاسُ فَرَحًا
كَأَنّهُ لَمْ يُصِبْهُ بَلَاءٌ قَطّ حَتّى جَاءَهُ وَقَبّلَ مَا بَيْنَ
عَيْنَيْهِ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ الْحَجّاجِ فَأَعْتَقَهُ ثُمّ قَالَ
أَخْبِرْنِي . قَالَ يَقُولُ لَك الْحَجّاجُ : اُخْلُ بِهِ فِي بَعْضِ
بُيُوتِك حَتّى يَأْتِيَكَ ظُهْرًا فَلَمّا جَاءَهُ الْحَجّاجُ وَخَلَا
بَهْ أَخَذَ عَلَيْهِ لَتَكْتُمَنّ خَبَرِي فَوَافَقَهُ عَبّاسٌ عَلَى
ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الْحَجّاجُ : جِئْتُ وَقَدْ افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْبَرَ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ وَجَرَتْ
فِيهَا سِهَامُ اللّهِ وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَدْ اصْطَفَى صَفِيّةَ بِنْتَ حُيَيّ لِنَفْسِهِ وَأَعْرَسَ
بِهَا وَلَكِنْ جِئْتُ لِمَالِي أَرَدْت أَنْ أَجْمَعَهُ وَأَذْهَبَ بَهْ
وَإِنّي اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنْ أَقُولَ فَأَذِنَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا شِئْت فَأَخْفِ عَلَيّ
ثَلَاثًا ثُمّ اُذْكُرْ مَا شِئْت . قَالَ فَجَمَعَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ
مَتَاعَهُ ثُمّ انْشَمَرَ رَاجِعًا فَلَمّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ أَتَى
الْعَبّاسُ امْرَأَةَ الْحَجّاجِ فَقَالَ مَا فَعَلَ زَوْجُكِ ؟ قَالَتْ
ذَهَبَ وَقَالَتْ لَا يَحْزُنْك اللّهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ شَقّ
عَلَيْنَا الّذِي بَلَغَك . فَقَالَ أَجَلْ لَا يَحْزُنُنِي اللّهُ وَلَمْ
يَكُنْ بِحَمْدِ اللّهِ إلّا مَا أُحِبّ فَتَحَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ
خَيْبَرَ وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللّهِ وَاصْطَفَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم َ صَفِيّةَ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ لَكِ فِي
زَوْجِك حَاجَةٌ فَالْحَقِي بِهِ . قَالَتْ أَظُنّك وَاَللّهِ صَادِقًا .
قَالَ فَإِنّي وَاَللّهِ صَادِقٌ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا أَقُولُ لَك .
قَالَتْ فَمَنْ أَخْبَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ الّذِي أَخْبَرَكِ بِمَا
أَخْبَرَك ثُمّ ذَهَبَ حَتَى أَتَى مَجَالِسَ قُرَيْشٍ فَلَمّا رَأَوْهُ
قَالُوا : هَذَا وَاَللّهِ التّجَلّدُ يَا أَبَا الْفَضْلِ وَلَا يُصِيبُك
إلّا خَيْرٌ . قَالَ أَجَلْ لَمْ يُصِبْنِي إلّا خَيْرٌ وَالْحَمْدُ
لِلّهِ أَخْبَرَنِي الْحَجّاجُ بِكَذَا وَكَذَا وَقَدْ سَأَلَنِي أَنْ
أَكْتُمَ [ ص 301 ] فَرَدّ اللّهُ مَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ كَآبَةٍ
وَجَزَعٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
مَوَاضِعِهِمْ حَتّى دَخَلُوا عَلَى الْعَبّاسِ فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ
فَأَشْرَقَتْ وُجُوهُ الْمُسْلِمِينَ .
فَصْلٌ فِيمَا كَانَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيّةِ
[جَوَازُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ]
فَمِنْهَا
مُحَارَبَةُ الْكُفّارِ وَمُقَاتَلَتُهُمْ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ
فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجَعَ مِنْ
الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْحِجّةِ فَمَكَثَ بِهَا أَيّامًا ثُمّ سَارَ
إلَى خَيْبَرَ فِي الْمُحَرّمِ كَذَلِكَ قَالَ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ
عَنْ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَكَذَلِكَ قَالَ
الْوَاقِدِيّ : خَرَجَ فِي أَوّلِ سَنَةِ سَبْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ
وَلَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ نَظَرٌ فَإِنّ خُرُوجَهُ كَانَ فِي
أَوَاخِرِ الْمُحَرّمِ لَا فِي أَوّلِهِ وَفَتْحُهَا إنّمَا كَانَ فِي
صَفَرَ . وَأَقْوَى مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بَيْعَةُ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ عِنْدَ الشّجَرَةِ بَيْعَةَ
الرّضْوَانِ عَلَى الْقِتَالِ وَأَلّا يَفِرّوا وَكَانَتْ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ وَلَكِنْ لَا دَلِيلَ فِي ذَلِكَ لِأَنّهُ إنّمَا بَايَعَهُمْ
عَلَى ذَلِكَ لَمّا بَلَغَهُ أَنّهُمْ قَدْ قَتَلُوا عُثْمَانَ وَهُمْ
يُرِيدُونَ قِتَالَهُ فَحِينَئِذٍ بَايَعَ الصّحَابَةَ وَلَا خِلَافَ فِي
جَوَازِ الْقِتَالِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ إذَا بَدَأَ الْعَدُوّ إنّمَا
الْخِلَافُ أَنْ يُقَاتَلَ فِيهِ ابْتِدَاءً فَالْجُمْهُورُ جَوّزُوهُ
وَقَالُوا : تَحْرِيمُ الْقِتَالِ فِيهِ مَنْسُوخٌ وَهُوَ مَذْهَبُ
الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ رَحِمَهُمْ اللّهُ . وَذَهَبَ عَطَاءٌ
وَغَيْرُهُ إلَى أَنّهُ ثَابِتٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَكَانَ عَطَاءٌ
يَحْلِفُ بِاَللّهِ مَا يَحِلّ الْقِتَالُ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا
نَسَخَ تَحْرِيمَهُ شَيْءٌ . وَأَقْوَى مِنْ هَذَيْنِ الِاسْتِدْلَالَيْنِ
الِاسْتِدْلَالُ بِحِصَارِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِلطّائِفِ فَإِنّهُ خَرَجَ إلَيْهَا فِي أَوَاخِرِ شَوّالٍ فَحَاصَرَهُمْ
بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَبَعْضُهَا كَانَ فِي ذِي [ ص 302 ] فَتَحَ
مَكّةَ لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ وَأَقَامَ بِهَا بَعْدَ الْفَتْحِ
تِسْعَ عَشْرَةَ يَقْصُرُ الصّلَاة فَخَرَجَ إلَى هَوَازِنَ وَقَدْ بَقِيَ
مِنْ شَوّالٍ عِشْرُونَ يَوْمًا فَفَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ هَوَازِنَ
وَقَسَمَ غَنَائِمَهَا ثُمّ ذَهَبَ مِنْهَا إلَى الطّائِفِ فَحَاصَرَهَا
بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَهَذَا يَقْتَضِي أَنّ بَعْضَهَا فِي ذِي
الْقَعْدَةِ بِلَا شَكّ . وَقَدْ قِيلَ إنّمَا حَاصَرَهُمْ بِضْعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وَهُوَ الصّحِيحُ بِلَا شَكّ
وَهَذَا عَجِيبٌ مِنْهُ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا التّصْحِيحُ وَالْجَزْمُ
بِهِ ؟ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصّةِ
الطّائِفِ قَالَ فَحَاصَرْنَاهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَاسْتَعْصَوْا
وَتَمَنّعُوا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَهَذَا الْحِصَارُ وَقَعَ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ بِلَا رَيْبٍ وَمَعَ هَذَا فَلَا دَلِيلَ فِي الْقِصّةِ
لِأَنّ غَزْوَ الطّائِفِ كَانَ مِنْ تَمَامِ غَزْوَةِ هَوَازِنَ وَهُمْ
بَدَءُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْقِتَالِ
وَلَمّا انْهَزَمُوا دَخَلَ مَلِكُهُمْ وَهُوَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ
النّضْرِيّ مَعَ ثَقِيفٍ فِي حِصْنِ الطّائِفِ مُحَارِبِينَ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانَ غَزْوُهُمْ مِنْ تَمَامِ
الْغَزْوَةِ الّتِي شَرَعَ فِيهَا وَاَللّه أَعْلَمُ .
[ لَيْسَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ مَنْسُوخٌ ]
وَقَالَ
اللّهُ تَعَالَى فِي ( سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ
نُزُولًا وَلَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحِلّوا شَعَائِرَ اللّهِ وَلَا الشّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ
وَلَا الْقَلَائِدَ } [ الْمَائِدَةَ 2 ] . وَقَالَ فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ
قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ } [ الْبَقَرَةَ 217 ]
فَهَاتَانِ آيَتَانِ مَدَنِيّتَانِ بَيْنَهُمَا فِي النّزُولِ نَحْوُ
ثَمَانِيَةِ أَعْوَامٍ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللّهِ وَلَا سُنّةِ
رَسُولِهِ نَاسِخٌ لِحُكْمِهِمَا وَلَا أَجْمَعَتْ الْأُمّةُ عَلَى
نَسْخِهِ وَمَنْ اسْتَدَلّ عَلَى نَسْخِهِ [ ص 303 ] { وَقَاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافّةً } [ التّوْبَةَ 36 ] وَنَحْوِهَا مِنْ
الْعُمُومَاتِ فَقَدْ اسْتَدَلّ عَلَى النّسْخِ بِمَا لَا يَدُلّ عَلَيْهِ
وَمَنْ اسْتَدَلّ عَلَيْهِ بِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ فِي سِرّيّةٍ إلَى أَوْطَاسٍ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ فَقَدْ اسْتَدَلّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لِأَنّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ
تَمَامِ الْغَزْوَةِ الّتِي بَدَأَ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ بِالْقِتَالِ
وَلَمْ يَكُنْ ابْتِدَاءٌ مِنْهُ لِقِتَالِهِمْ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا
: قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرّاجِلِ
سَهْمٌ وَقَدْ تَقَدّمَ تَقْرِيرُهُ . وَمِنْهَا : أَنّهُ يَجُوزُ
لِآحَادِ الْجَيْشِ إذَا وَجَدَ طَعَامًا أَنْ يَأْكُلَهُ وَلَا
يُخَمّسَهُ كَمَا أَخَذَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُغَفّلِ جِرَابَ الشّحْمِ
الّذِي دُلّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ وَاخْتُصّ بِهِ بِمَحْضَرِ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَمِنْهَا : أَنّهُ إذَا لَحِقَ مَدَدٌ
بِالْجَيْشِ بَعْد تَقَضّي الْحَرْبِ فَلَا سَهْمَ لَهُ إلّا بِإِذْنِ
الْجَيْشِ وَرِضَاهُمْ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَلّمَ أَصْحَابَهُ فِي أَهْلِ السّفِينَةِ حِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ
بِخَيْبَرَ - جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ - أَنْ يُسْهِمَ لَهُمْ فَأَسْهَمَ
لَهُمْ .
فَصْلُ [ تَحْرِيمِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيّةِ ]
وَمِنْهَا
تَحْرِيمُ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيّةِ صَحّ عَنْهُ تَحْرِيمُهَا
يَوْمَ خَيْبَرَ وَصَحّ عَنْهُ تَعْلِيلُ التّحْرِيمِ بِأَنّهَا رِجْسٌ
وَهَذَا مُقَدّمٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الصّحَابَةِ إنّمَا
حَرّمَهَا لِأَنّهَا كَانَتْ ظَهْرَ الْقَوْمِ وَحَمُولَتَهُمْ فَلَمّا
قِيلَ لَهُ فَنِيَ الظّهْرُ وَأُكِلَتْ الْحُمُرُ حَرّمَهَا وَعَلَى
قَوْلِ مَنْ قَالَ إنّمَا حَرّمَهَا لِأَنّهَا لَمْ تُخَمّسْ وَعَلَى
قَوْلِ مَنْ قَالَ إنّمَا حَرّمَهَا لِأَنّهَا كَانَتْ حَوْلَ الْقَرْيَةِ
وَكَانَتْ تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ وَكُلّ هَذَا فِي " الصّحِيحِ " لَكِنّ
قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهَا رِجْسٌ
مُقَدّمٌ عَلَى هَذَا كُلّهِ لِأَنّهُ مِنْ ظَنّ الرّاوِي وَقَوْلِهِ
بِخِلَافِ التّعْلِيلِ بِكَوْنِهَا رِجْسًا . [ ص 304 ] { قُلْ لَا أَجِدُ
فِي مَا أُوحِيَ إِلَيّ مُحَرّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ
يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنّهُ
رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ } [ الْأَنْعَام : 145 ]
فَإِنّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ حُرّمَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ
الْمَطَاعِمِ إلّا هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ وَالتّحْرِيمُ كَانَ يَتَجَدّدُ
شَيْئًا فَشَيْئًا فَتَحْرِيمُ الْحُمُرِ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْرِيمٌ
مُبْتَدَأٌ لِمَا سَكَتَ عَنْهُ النّصّ لَا أَنّهُ رَافِعٌ لِمَا
أَبَاحَهُ الْقُرْآنُ وَلَا مُخَصّصَ لِعُمُومِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَكُونَ نَاسِخًا . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلُ [ تَرْجِيحِ الْمُصَنّفِ تَحْرِيمَ الْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ ]
وَلَمْ
تُحَرّمْ الْمُتْعَةُ يَوْمَ خَيْبَرَ وَإِنّمَا كَانَ تَحْرِيمُهَا عَامَ
الْفَتْحِ هَذَا هُوَ الصّوَابُ وَقَدْ ظَنّ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنّهُ حَرّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَاحْتَجّوا بِمَا فِي "
الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ " أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ
مُتْعَةِ النّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ
الْإِنْسِيّةِ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " أَيْضًا : أَن عَلِيّا رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ سَمِعَ ابْنَ عَبّاسٍ يُلَيّنُ فِي مُتْعَةِ النّسَاءِ
فَقَالَ مَهْلًا يَا ابْنَ عَبّاسٍ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ " نَهَى عَنْهَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ لُحُومِ
الْحُمُرِ الْإِنْسِيّةِ وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيّ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النّسَاءِ
يَوْمَ خَيْبَرَ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيّةِ . [ ص 305
] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَاحَهَا عَامَ الْفَتْحِ ثُمّ
حَرّمَهَا قَالُوا : حُرّمَتْ ثُمّ أُبِيحَتْ ثُمّ حُرّمَتْ . قَالَ
الشّافِعِيّ : لَا أَعْلَمُ شَيْئًا حُرّمَ ثُمّ أُبِيحَ ثُمّ حُرّمَ إلّا
الْمُتْعَةَ قَالُوا : نُسِخَتْ مَرّتَيْنِ وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ
آخَرُونَ وَقَالُوا : لَمْ تُحَرّمْ إلّا عَامَ الْفَتْحِ وَقَبْلَ ذَلِكَ
كَانَتْ مُبَاحَةً . قَالُوا : وَإِنّمَا جَمَعَ عَلِيّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بَيْنَ الْإِخْبَارِ بِتَحْرِيمِهَا
وَتَحْرِيمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ لِأَنّ ابْنَ عَبّاسٍ كَانَ
يُبِيحُهُمَا فَرَوَى لَهُ عَلِيّ تَحْرِيمَهُمَا عَنْ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَدّا عَلَيْهِ وَكَانَ تَحْرِيمُ الْحُمُرِ
يَوْمَ خَيْبَرَ بِلَا شَكّ وَقَدْ ذَكَرَ يَوْمَ خَيْبَرَ ظَرْفًا
لِتَحْرِيمِ الْحُمُرِ وَأَطْلَقَ تَحْرِيمَ الْمُتْعَةِ وَلَمْ
يُقَيّدْهُ بِزَمَنٍ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ " بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ يَوْمَ
خَيْبَرَ وَحَرّمَ مُتْعَةَ النّسَاءِ وَفِي لَفْظٍ حَرّمَ مُتْعَةَ
النّسَاءِ وَحَرّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ
هَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مُفَصّلًا مُمَيّزًا فَظَنّ
بَعْضُ الرّوَاةِ أَنّ يَوْمَ خَيْبَرَ زَمَنٌ لِلتّحْرِيمَيْنِ
فَقَيّدَهُمَا بَهْ ثُمّ جَاءَ بَعْضُهُمْ فَاقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِ
الْمُحَرّمَيْنِ وَهُوَ تَحْرِيمُ الْحُمُرِ وَقَيّدَهُ بِالظّرْفِ فَمِنْ
هَا هُنَا نَشَأَ الْوَهْمُ . وَقِصّةُ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا
الصّحَابَةُ يَتَمَتّعُونَ بِالْيَهُودِيّاتِ وَلَا اسْتَأْذَنُوا فِي
ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا نَقَلَهُ
أَحَدٌ قَطّ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَلَا كَانَ لِلْمُتْعَةِ فِيهَا
ذِكْرٌ الْبَتّةَ لَا فِعْلًا وَلَا تَحْرِيمًا بِخِلَافِ غَزَاةِ
الْفَتْحِ فَإِنّ قِصّةَ الْمُتْعَةِ كَانَتْ فِيهَا فِعْلًا وَتَحْرِيمًا
مَشْهُورَةً وَهَذِهِ الطّرِيقَةُ أَصَحّ الطّرِيقَتَيْنِ . وَفِيهَا
طَرِيقَةٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَمْ يُحَرّمْهَا تَحْرِيمًا عَامًا الْبَتّةَ بَلْ حَرّمَهَا
عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا وَأَبَاحَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا
وَهَذِهِ كَانَتْ طَرِيقَةَ ابْنِ عَبّاسٍ حَتّى كَانَ يُفْتِي بِهَا
وَيَقُولُ هِيَ كَالْمَيْتَةِ وَالدّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ تُبَاحُ
عِنْدَ الضّرُورَةِ وَخَشْيَةِ الْعَنَتِ فَلَمْ يَفْهَمْ عَنْهُ أَكْثَرُ
النّاسِ ذَلِكَ وَظَنّوا أَنّهُ أَبَاحَهَا إبَاحَةً مُطْلَقَةً
وَشَبّبُوا فِي ذَلِكَ بِالْأَشْعَارِ فَلَمّا رَأَى ابْنُ عَبّاسٍ ذَلِك
رَجَعَ إلَى الْقَوْلِ بِالتّحْرِيمِ .
فَصْلٌ [جَوَازُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ بِجُزْءٍ مِمّا يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ ]
[
ص 306 ] جَوَازُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ بِجُزْءٍ مِمّا يَخْرُجُ
مِنْ الْأَرْضِ مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ كَمَا عَامَلَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَمَرّ
ذَلِكَ إلَى حِينِ وَفَاتِهِ لَمْ يُنْسَخْ الْبَتّةَ وَاسْتَمَرّ عَمَلُ
خُلَفَائِهِ الرّاشِدِينَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ
الْمُؤَاجَرَةِ فِي شَيْءٍ بَلْ مِنْ بَابِ الْمُشَارَكَةِ وَهُوَ نَظِيرُ
الْمُضَارَبَةِ سَوَاءً فَمَنْ أَبَاحَ الْمُضَارَبَةَ وَحَرّمَ ذَلِكَ
فَقَدْ فَرّقَ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ .
فَصْلٌ [عَدَمُ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْبَذْرِ مِنْ رَبّ الْأَرْضِ ]
وَمِنْهَا
أَنّهُ دَفَعَ إلَيْهِمْ الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِمْ الْبَذْرَ وَلَا كَانَ يَحْمِلُ
إلَيْهِمْ الْبَذْرَ مِنْ الْمَدِينَةِ قَطْعًا فَدَلّ عَلَى أَنّ
هَدْيَهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْبَذْرِ مِنْ رَبّ الْأَرْضِ
وَأَنّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامِلِ وَهَذَا كَانَ هَدْيَ
خُلَفَائِهِ الرّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ وَكَمَا أَنّهُ هُوَ الْمَنْقُولُ
فَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْقِيَاسِ فَإِنّ الْأَرْضَ بِمَنْزِلَةِ رَأْسِ
الْمَالِ فِي الْقِرَاضِ وَالْبَذْرُ يَجْرِي مَجْرَى سَقْيِ الْمَاءِ
وَلِهَذَا يَمُوتُ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُرْجَعُ إلَى صَاحِبِهِ وَلَوْ
كَانَ بِمَنْزِلَةِ رَأْسِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَاشْتُرِطَ عَوْدُهُ
إلَى صَاحِبِهِ وَهَذَا يُفْسِدُ الْمُزَارَعَةَ فَعُلِمَ أَنّ الْقِيَاسَ
الصّحِيحَ هُوَ الْمُوَافِقُ لِهَدْيِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخُلَفَائِهِ الرّاشِدِينَ فِي ذَلِكَ . وَاَللّهُ
أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا : خَرْصُ الثّمَارِ عَلَى رُءُوسِ
النّخْلِ وَقِسْمَتُهَا كَذَلِكَ وَأَنّ الْقِسْمَةَ لَيْسَتْ بَيْعًا .
وَمِنْهَا : الِاكْتِفَاءُ بِخَارِصٍ وَاحِدٍ وَقَاسِمٍ وَاحِدٍ .
وَمِنْهَا : جَوَازُ عَقْدِ الْمُهَادَنَةِ عَقْدًا جَائِزًا لِلْإِمَامِ
فَسْخُهُ مَتَى شَاءَ . وَمِنْهَا : جَوَازُ تَعْلِيقِ عَقْدِ الصّلْحِ
وَالْأَمَانِ بِالشّرْطِ كَمَا عَقَدَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُغَيّبُوا وَلَا يَكْتُمُوا . [ ص
307 ]
[جَوَازُ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ فِعْلِهِ ]
وَمِنْهَا :
الْأَخْذُ في الْأَحْكَامِ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ كَمَا قَالَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِكِنَانَةَ الْمَالُ كَثِيرٌ
وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ فَاسْتَدَلّ بِهَذَا عَلَى كَذِبِهِ فِي قَوْلِهِ
أَذْهَبَتْهُ الْحُرُوبُ وَالنّفَقَةُ . وَمِنْهَا : أَنّ مَنْ كَانَ
الْقَوْلُ قَوْلَهُ إذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى كَذِبِهِ لَمْ
يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ وَنُزّلَ مَنْزِلَةَ الْخَائِنِ .
[إذَا خَالَفَ أَهْلُ الذّمّةِ شَيْئًا مِمّا شُرِطَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ ذِمّةٌ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ أَهْلَ الذّمّةِ إذَا خَالَفُوا شَيْئًا مِمّا شُرِطَ عَلَيْهِمْ
لَمْ يَبْقَ لَهُمْ ذِمّةٌ وَحَلّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لِأَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَقَدَ لِهَؤُلَاءِ
الْهُدْنَةَ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يُغَيّبُوا وَلَا يَكْتُمُوا
فَإِنْ فَعَلُوا حَلّتْ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ فَلَمّا لَمْ يَفُوا
بِالشّرْطِ اسْتَبَاحَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَبِهَذَا اقْتَدَى
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ فِي الشّرُوطِ الّتِي
اشْتَرَطَهَا عَلَى أَهْلِ الذّمّةِ فَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَنّهُمْ مَتَى
خَالَفُوا شَيْئًا مِنْهَا فَقَدْ حَلّ لَهُ مِنْهُمْ مَا يَحِلّ مِنْ
أَهْلِ الشّقَاقِ وَالْعَدَاوَةِ .
[جَوَازُ الْأَخْذِ فِي الْأَحْكَامِ بِالْقَرَائِنِ ]
وَمِنْهَا
: جَوَازُ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ فِعْلِهِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَهُمْ بِكَسْرِ الْقُدُورِ ثُمّ نَسَخَهُ عَنْهُمْ
بِالْأَمْرِ بِغَسْلِهَا . وَمِنْهَا : أَنّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ
لَا يَطْهُرُ بِالذّكَاةِ لَا جِلْدُهُ وَلَا لَحْمُهُ وَأَنّ ذَبِيحَتَهُ
بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ وَأَنّ الذّكَاةَ إنّمَا تَعْمَلُ فِي مَأْكُولِ
اللّحْمِ .
[الْغُلُولُ قَبْلَ الْقَسْمِ لَا يَمْلِكُ وَإِنْ كَانَ دُونَ الْحَقّ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ مَنْ أَخَذَ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا قَبْلَ قِسْمَتِهَا لَمْ
يَمْلِكْهُ وَإِنْ كَانَ دُونَ حَقّهِ وَأَنّهُ إنّمَا يَمْلِكُهُ
بِالْقِسْمَةِ وَلِهَذَا قَالَ فِي صَاحِبِ الشّمْلَةِ الّتِي غَلّهَا :
إنّهَا تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا وَقَالَ لِصَاحِبِ الشّرَاكِ الّذِي
غَلّهُ شِرَاكٌ مِنْ نَار [ ص 308 ] أَرْضِ الْعَنْوَةِ بَيْنَ
قِسْمَتِهَا وَتَرْكِهَا وَقَسْمِ بَعْضِهَا وَتَرْكِ بَعْضِهَا .
[اسْتِحْبَابُ التّفَاؤُلِ ]
وَمِنْهَا
: جَوَازُ التّفَاؤُلِ بَلْ اسْتِحْبَابُهُ بِمَا يَرَاهُ أَوْ يَسْمَعُهُ
مِمّا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَإِعْلَامِهِ كَمَا
تَفَاءَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرُؤْيَةِ
الْمَسَاحِي وَالْفُؤُوسِ وَالْمَكَاتِلِ مَعَ أَهْلِ خَيْبَرَ فَإِنّ
ذَلِكَ فَأْلٌ فِي خَرَابِهَا .
[جَوَازُ إجْلَاءِ أَهْلِ الذّمّةِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْهُمْ ]
وَمِنْهَا
: جَوَازُ إجْلَاءِ أَهْلِ الذّمّةِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا
اُسْتُغْنِيَ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ نُقِرّكُمْ مَا أَقَرّكُمْ اللّه وَقَالَ لِكَبِيرِهِمْ كَيْفَ
بِكَ إذَا رَقَصَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ نَحْوَ الشّامِ يَوْمًا ثُمّ يَوْمًا
وَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَهَذَا مَذْهَبُ مُحَمّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطّبَرِيّ وَهُوَ قَوْلٌ قَوِيّ
يَسُوغُ الْعَمَلُ بِهِ إذَا رَأَى الْإِمَامُ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ .
وَلَا يُقَالُ أَهْلُ خَيْبَرَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ ذِمّةٌ بَلْ كَانُوا
أَهْلَ هُدْنَةٍ فَهَذَا كَلَامٌ لَا حَاصِلَ تَحْتَهُ فَإِنّهُمْ كَانُوا
أَهْلَ ذِمّةٍ قَدْ أَمِنُوا بِهَا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
أَمَانًا مُسْتَمِرّا نَعَمْ لَمْ تَكُنْ الْجِزْيَةُ قَدْ شُرِعَتْ
وَنَزَلَ فَرْضُهَا وَكَانُوا أَهْلَ ذِمّةٍ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ فَلَمّا
نَزَلَ فَرْضُ الْجِزْيَةِ اُسْتُؤْنِفَ ضَرْبُهَا عَلَى مَنْ يُعْقَدُ
لَهُ الذّمّةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ فَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ
أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ لِكَوْنِهِمْ لَيْسُوا أَهْلَ ذِمّةٍ بَلْ
لِأَنّهَا لَمْ تَكُنْ نَزَلَ فَرْضُهَا بَعْدُ . وَأَمّا كَوْنُ
الْعَقْدِ غَيْرَ مُؤَبّدٍ فَذَاكَ لِمُدّةِ إقْرَارِهِمْ فِي أَرْضِ
خَيْبَرَ لَا لِمُدّةِ حَقْنِ دِمَائِهِمْ ثُمّ يَسْتَبِيحُهَا الْإِمَامُ
مَتَى شَاءَ فَلِهَذَا قَالَ نُقِرّكُمْ مَا أَقَرّكُمْ اللّهُ أَوْ مَا
شِئْنَا وَلَمْ يَقُلْ نَحْقِنُ دِمَاءَكُمْ مَا شِئْنَا وَهَكَذَا كَانَ
عَقْدُ الذّمّةِ لِقُرَيْظَةَ وَالنّضِيرِ عَقْدًا مَشْرُوطًا بِأَنْ لَا
يُحَارِبُوهُ وَلَا يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ وَمَتَى فَعَلُوا فَلَا ذِمّةَ
لَهُمْ وَكَانُوا أَهْلَ ذِمّةٍ بِلَا جِزْيَةٍ إذْ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ
فَرْضُهَا إذْ ذَاكَ وَاسْتَبَاحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ سَبْيَ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ وَجَعَلَ نَقْضَ الْعَهْدِ
سَارِيًا فِي حَقّ النّسَاءِ وَالذّرّيّةِ وَجَعَلَ حُكْمَ السّاكِتِ
وَالْمُقِرّ حُكْمَ النّاقِضِ وَالْمُحَارِبِ وَهَذَا مُوجَبُ هَدْيِهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَهْلِ الذّمّةِ بَعْدَ الْجِزْيَةِ
أَيْضًا أَنْ يَسْرِي نَقْضُ الْعَهْدِ فِي [ ص 309 ] وَنِسَائِهِمْ
وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ النّاقِضُونَ طَائِفَةً لَهُمْ شَوْكَةٌ
وَمَنَعَةٌ أَمّا إذَا كَانَ النّاقِضُ وَاحِدًا مِنْ طَائِفَةٍ لَمْ
يُوَافِقْهُ بَقِيّتُهُمْ فَهَذَا لَا يَسْرِي النّقْضُ إلَى زَوْجَتِهِ
وَأَوْلَادِهِ كَمَا أَنّ مَنْ أَهْدَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ دِمَاءَهُمْ مِمّنْ كَانَ يَسُبّهُ لَمْ يَسُبّ نِسَاءَهُمْ
وَذُرّيّتَهُمْ فَهَذَا هَدْيُهُ فِي هَذَا وَهُوَ الّذِي لَا مَحِيدَ
عَنْهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
[جَوَازُ جَعْلِ عِتْقِ الرّجُلِ أَمَتَهُ صَدَاقًا لَهَا بِغَيْرِ إذْنِهَا وَبِلَا شُهُودٍ وَلَا وَلِيّ غَيْرِهِ ]
وَمِنْهَا
: جَوَازُ عِتْقِ الرّجُلِ أَمَتَهُ وَجَعْلِ عِتْقِهَا صَدَاقًا لَهَا
وَيَجْعَلُهَا زَوْجَتَهُ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَلَا شُهُودٍ وَلَا وَلِيّ
غَيْرِهِ وَلَا لَفْظِ إنْكَاحٍ وَلَا تَزْوِيجٍ كَمَا فَعَلَ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصَفِيّةَ وَلَمْ يَقِلْ قَطّ هَذَا خَاصّ بِي
وَلَا أَشَارَ إلَى ذَلِك مَعَ عِلْمِهِ بِاقْتِدَاءِ أُمّتِهِ بَهْ
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ إنّ هَذَا لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ
بَلْ رَوَوْا الْقِصّةَ وَنَقَلُوهَا إلَى الْأُمّةِ وَلَمْ يَمْنَعُوهُمْ
وَلَا رَسُولُ اللّه صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الِاقْتِدَاءِ
بِهِ فِي ذَلِكَ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ لَمّا خَصّهُ فِي النّكَاحِ
بِالْمَوْهُوبَةِ قَالَ { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } [
الْأَحْزَابَ 50 ] ؛ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لَهُ مِنْ دُونِ
أُمّتِهِ لَكَانَ هَذَا التّخْصِيصُ أَوْلَى بِالذّكْرِ لِكَثْرَةِ ذَلِكَ
مِنْ السّادَاتِ مَعَ إمَائِهِمْ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ الّتِي تَهَبُ
نَفْسَهَا لِلرّجُلِ لِنُدْرَتِهِ وَقِلّتِهِ أَوْ مِثْلُهُ فِي
الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ وَلَا سِيّمَا وَالْأَصْلُ مُشَارَكَةُ
الْأُمّةِ لَهُ وَاقْتِدَاؤُهَا بَهْ فَكَيْفَ يَسْكُتُ عَنْ مَنْعِ
الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الّذِي لَا يَجُوزُ مَعَ
قِيَامِ مُقْتَضَى الْجَوَازِ هَذَا شِبْهُ الْمُحَالِ وَلَمْ تَجْتَمِعْ
الْأُمّةُ عَلَى عَدَمِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ذَلِكَ فَيَجِبُ
الْمَصِيرُ إلَى إجْمَاعِهِمْ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . وَالْقِيَاسُ
الصّحِيحُ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ فَإِنّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا
وَمَنْفَعَةَ وَطْئِهَا وَخِدْمَتِهَا فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقّهُ مِنْ
مِلْكِ الرّقَبَةِ وَيَسْتَبْقِيَ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ أَوْ نَوْعًا
مِنْهَا كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَخْدِمَهُ
مَا عَاشَ فَإِذَا أَخْرَجَ الْمَالِكُ رَقَبَةَ مِلْكِهِ وَاسْتَثْنَى
نَوْعًا مِنْ مَنْفَعَتِهِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ فِي عَقْدِ
الْبَيْعِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنْهُ فِي عَقْدِ النّكَاحِ وَلَمّا كَانَتْ
مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ لَا تُسْتَبَاحُ إلّا بِعَقْدِ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ
يَمِينٍ وَكَانَ إعْتَاقُهَا يُزِيلُ مِلْكَ الْيَمِينِ عَنْهَا كَانَ
مِنْ ضَرُورَةِ اسْتِبَاحَةِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ جَعْلُهَا زَوْجَةً
وَسَيّدُهَا كَانَ يَلِي [ ص 310 ] شَاءَ بِغَيْرِ رِضَاهَا فَاسْتَثْنَى
لِنَفْسِهِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ مِنْهَا وَلَمّا كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ
عَقْدُ النّكَاحِ مَلَكَهُ لِأَنّ بَقَاءَ مِلْكِهِ الْمُسْتَثْنَى لَا
يَتِمّ إلّا بِهِ فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ الصّحِيحِ الْمُوَافِقِ
لِلسّنَةِ الصّحِيحَةِ وَاَللّهِ أَعْلَمُ .
[جَوَازُ كَذِبِ
الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ إذَا كَانَ يَتَوَصّلُ
بِالْكَذِبِ إلَى حَقّهِ مَا لَمْ يَتَضَمّنْ ضَرَرَ ذَلِكَ الْغَيْرِ ]
وَمِنْهَا
: جَوَازُ كَذِبِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ إذَا لَمْ
يَتَضَمّنْ ضَرَرَ ذَلِكَ الْغَيْرِ إذَا كَانَ يَتَوَصّلُ بِالْكَذِبِ
إلَى حَقّهِ كَمَا كَذَبَ الْحَجّاجُ بْنُ عِلَاطٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
حَتّى أَخَذَ مَالَهُ مِنْ مَكّةَ مِنْ غَيْرِ مَضَرّةٍ لَحِقَتْ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ وَأَمّا مَا نَالَ مَنْ بِمَكّةَ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَذَى وَالْحُزْنِ فَمَفْسَدَةٌ يَسِيرَةٌ
فِي جَنْبِ الْمَصْلَحَةِ الّتِي حَصَلَتْ بِالْكَذِبِ وَلَا سِيّمَا
تَكْمِيلُ الْفَرَحِ وَالسّرُورِ وَزِيَادَةُ الْإِيمَانِ الّذِي حَصَلَ
بِالْخَبَرِ الصّادِقِ بَعْدَ هَذَا الْكَذِبِ فَكَانَ الْكَذِبُ سَبَبًا
فِي حُصُولِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَنَظِيرُ هَذَا الْإِمَامُ
وَالْحَاكِمُ يُوهِمُ الْخَصْمَ خِلَافَ الْحَقّ لِيَتَوَصّلَ بِذَلِكَ
إلَى اسْتِعْلَامِ الْحَقّ كَمَا أَوْهَمَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ
إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ بِشَق الْوَلَدِ نِصْفَيْنِ حَتّى تَوَصّلَ
بِذَلِكَ إلَى مَعْرِفَةِ عَيْنِ الْأُمّ وَمِنْهَا : جَوَازُ بِنَاءِ
الرّجُلِ بِامْرَأَتِهِ فِي السّفَرِ وَرُكُوبِهَا مَعَهُ عَلَى دَابّةٍ
بَيْنَ الْجَيْشِ . وَمِنْهَا : أَنّ مَنْ قَتَلَ غَيْرَهُ بِسُمّ
يَقْتُلُ مِثْلُهُ قُتِلَ بِهِ قِصَاصًا كَمَا قُتِلَتْ الْيَهُودِيّةُ
بِبِشْرِ بْن الْبَرَاءِ . وَمِنْهَا : جَوَازُ الْأَكْلِ مِنْ ذَبَائِحِ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَحِلّ طَعَامِهِمْ .
[الِاخْتِلَافُ فِي مُوجِبِ قَتْلِ الْيَهُودِيّةِ ]
وَمِنْهَا
: قَبُولُ هَدِيّةِ الْكَافِرِ . فَإِنْ قِيلَ فَلَعَلّ الْمَرْأَةَ
قُتِلَتْ لِنَقْضِ الْعَهْدِ لِحِرَابِهَا بِالسّمّ لَا قِصَاصًا قِيلَ
لَوْ كَانَ قَتْلُهَا لِنَقْضِ الْعَهْدِ لَقُتِلَتْ مِنْ حِينِ أَقَرّتْ
أَنّهَا سَمّتْ الشّاةَ وَلَمْ يَتَوَقّفْ قَتْلُهَا عَلَى مَوْتِ
الْآكِلِ مِنْهَا . [ ص 311 ] قِيلَ فَهَلّا قُتِلَتْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ
؟ قِيلَ هَذَا حَجّةُ مَنْ قَالَ إنّ الْإِمَامَ مُخَيّرٌ فِي نَاقِضِ
الْعَهْدِ كَالْأَسِيرِ . فَإِنْ قِيلَ فَأَنْتُمْ تُوجِبُونَ قَتْلَهُ
حَتْمًا كَمَا هُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَإِنّمَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى
وَمَنْ تَبِعَهُ قَالُوا : يُخَيّرُ الْإِمَامُ فِيهِ قِيلَ إنْ كَانَتْ
قِصّةُ الشّاةِ قَبْلَ الصّلْحِ فَلَا حُجّةَ فِيهَا وَإِنْ كَانَتْ
بَعْدَ الصّلْحِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ بِقَتْلِ
الْمُسْلِمِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَرَ النّقْضَ بِهِ فَظَاهِرٌ
وَمَنْ رَأَى النّقْضَ بِهِ فَهَلْ يَتَحَتّمُ قَتْلُهُ أَوْ يُخَيّرُ
فِيهِ أَوْ يُفْصَلُ بَيْنَ بَعْضِ الْأَسْبَابِ النّاقِضَةِ وَبَعْضِهَا
فَيَتَحَتّمُ قَتْلُهُ بِسَبَبِ السّبَبِ وَيُخَيّرُ فِيهِ إذَا نَقَضَهُ
بِحِرَابِهِ وَلُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ نَقَضَهُ بِسِوَاهُمَا
كَالْقَتْلِ وَالزّنَى بِالْمُسْلِمَةِ وَالتّجَسّسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
وَإِطْلَاعِ الْعَدُوّ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ ؟ فَالْمَنْصُوصُ تَعَيّنُ
الْقَتْلِ وَعَلَى هَذَا فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ لَمّا سَمّتْ الشّاةَ
صَارَتْ بِذَلِكَ مُحَارِبَةً وَكَانَ قَتْلُهَا مُخَيّرًا فِيهِ فَلَمّا
مَاتَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السّمّ قُتِلَتْ حَتْمًا إمّا قِصَاصًا
وَإِمّا لِنَقْضِ الْعَهْدِ بِقَتْلِهَا الْمُسْلِمَ فَهَذَا مُحْتَمَلٌ .
وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[هَلْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ عَنْوَةً أَمْ صُلْحًا ؟ وَالْأَحْكَامُ الْمُتَرَتّبَةُ عَلَى ذَلِكَ ]
وَاخْتُلِفَ
فِي فَتْحِ خَيْبَرَ : هَلْ كَانَ عَنْوَةً أَوْ كَانَ بَعْضُهَا صُلْحًا
وَبَعْضُهَا عَنْوَةً ؟ فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَزَا خَيْبَرَ
فَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً فَجُمِعَ السّبْيُ وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
سَأَلْتُ ابْنَ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً بَعْدَ الْقِتَالِ
وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ : بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً
بَعْدَ الْقِتَالِ وَنَزَلَ مَنْ نَزَلَ مَنْ أَهْلِهَا عَلَى الْجَلَاءِ
بَعْدَ الْقِتَالِ [ ص 312 ] قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ : هَذَا هُوَ
الصّحِيحُ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ أَنّهَا كَانَتْ عَنْوَةً كُلّهَا
مَغْلُوبًا عَلَيْهَا بِخِلَافِ فَدَكٍ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَسَمَ جَمِيعَ أَرْضِهَا عَلَى الْغَانِمِينَ
لَهَا الْمُوجِفِينَ عَلَيْهَا بِالْخَيْلِ وَالرّكَابِ وَهُمْ أَهْلُ
الْحُدَيْبِيَةِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ أَنّ أَرْضَ خَيْبَرَ
مَقْسُومَةٌ وَإِنّمَا اخْتَلَفُوا : هَلْ تُقْسَمُ الْأَرْضُ إذَا
غُنِمَتْ الْبِلَادُ أَوْ تُوقَفُ ؟ فَقَالَ الْكُوفِيّونَ : الْإِمَامُ
مُخَيّرٌ بَيْنَ قِسْمَتِهَا كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَرْضِ خَيْبَرَ وَمِنْ إيقَافِهَا كَمَا فَعَلَ
عُمَرُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ . وَقَالَ الشّافِعِيّ : تُقْسَمُ الْأَرْضُ
كُلّهَا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
خَيْبَرَ لِأَنّ الْأَرْضَ غَنِيمَةٌ كَسَائِرِ أَمْوَالِ الْكُفّارِ .
وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى إيقَافِهَا اتّبَاعًا لِعُمَرَ لِأَنّ الْأَرْضَ
مَخْصُوصَةٌ مِنْ سَائِرِ الْغَنِيمَةِ بِمَا فَعَلَ عُمَرُ فِي جَمَاعَةٍ
مِنْ الصّحَابَةِ مِنْ إيقَافِهَا لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لَوْلَا أَنْ يُتْرَكَ آخِرُ النّاسِ لَا
شَيْءَ لَهُمْ مَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ قَرْيَةً إلّا قَسَمْتُهَا
سُهْمَانًا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
خيبر سهمانا وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ أَرْضَ خَيْبَرَ قُسِمَتْ كُلّهَا
سُهْمَانًا كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ . وَأَمّا مَنْ قَالَ إنّ خَيْبَرَ
كَانَ بَعْضُهَا صُلْحًا وَبَعْضُهَا عَنْوَةً فَقَدْ وَهِمَ وَغَلِطَ
وَإِنّمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ الشّبْهَةُ بِالْحِصْنَيْنِ اللّذَيْنِ
أَسْلَمَهُمَا أَهْلُهُمَا فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ فَلَمّا لَمْ يَكُنْ
أَهْلٌ ذَيْنِكَ الْحِصْنَيْنِ مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالذّرّيّةِ [
ص 313 ] وَلَعَمْرِي إنّ ذَلِكَ فِي الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالذّرّيّةِ
كَضَرْبٍ مِنْ الصّلْحِ وَلَكِنّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا أَرْضَهُمْ إلّا
بِالْحِصَارِ وَالْقِتَالِ فَكَانَ حُكْمُ أَرْضِهِمَا حُكْمَ سَائِرِ
أَرْضِ خَيْبَرَ كُلّهَا عَنْوَةً غَنِيمَةً مَقْسُومَةً بَيْنَ أَهْلِهَا
. وَرُبّمَا شُبّهَ عَلَى مَنْ قَالَ إنّ نِصْفَ خَيْبَرَ صُلْحٌ
وَنِصْفَهَا عَنْوَةٌ بِحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ
يَسَارٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَسَمَ
خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ : نِصْفًا لَهُ وَنِصْفًا لِلْمُسْلِمِينَ قَالَ
أَبُو عُمَرَ : وَلَوْ صَحّ هَذَا لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنّ النّصْفَ لَهُ
مَعَ سَائِرِ مَنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ النّصْفِ مَعَهُ لِأَنّهَا قُسِمَتْ
عَلَى سِتّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا فَوَقَعَ السّهْمُ لِلنّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
سَهْمًا وَوَقَعَ سَائِرُ النّاسِ فِي بَاقِيهَا وَكُلّهُمْ مِمّنْ شَهِدَ
الْحُدَيْبِيَة َ ثُمّ خَيْبَرَ وَلَيْسَتْ الْحُصُونُ الّتِي أَسْلَمَهَا
أَهْلُهَا بَعْدَ الْحِصَارِ وَالْقِتَالِ صُلْحًا وَلَوْ كَانَتْ صُلْحًا
لَمَلَكَهَا أَهْلُهَا كَمَا يَمْلِكُ أَهْلُ الصّلْحِ أَرْضَهُمْ
وَسَائِرَ أَمْوَالِهِمْ فَالْحَقّ فِي هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ
دُونَ مَا قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ
هَذَا آخِرُ كَلَامِ أَبِي عُمَرَ . قُلْت : ذَكَرَ مَالِكٌ عَنْ ابْنِ
شِهَاب ٍ أَنّ خَيْبَرَ كَانَ بَعْضُهَا عَنْوَةً وَبَعْضُهَا صُلْحًا
وَالْكُتَيْبَةُ أَكْثَرُهَا عَنْوَةً وَفِيهَا صُلْحٌ . قَالَ مَالِكٌ :
وَالْكُتَيْبَةُ أَرْضُ خَيْبَرَ وَهُوَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ عَذْقٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ : أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ افْتَتَحَ بَعْضَ خَيْبَرَ عَنْوَةً
فَصْلٌ [ الِانْصِرَافُ إلَى وَادِي الْقُرَى ]
ثُمّ
انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَيْبَرَ
إلَى وَادِي الْقُرَى وَكَانَ بِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ [ ص 314 ]
[ قَتْلُ مِدْعَمٍ عَبْدِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيَانُ أَنّهُ كَانَ غَالّا]
الْيَهُودِ
وَقَدْ انْضَافَ إلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعَرَبِ فَلَمّا نَزَلُوا
اسْتَقْبَلَهُمْ يَهُودُ بِالرّمْيِ وَهُمْ عَلَى غَيْرِ تَعْبِئَةٍ
فَقُتِلَ مِدْعَمٌ عَبْدُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَ النّاسُ هَنِيئًا لَهُ الْجَنّةُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَلّا وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّ الشّمْلَةَ
الّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنْ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا
الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا فَلَمّا سَمِعَ بِذَلِكَ
النّاسُ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ
[ فَتْحُ وَادِي الْقُرَى ]
[ مُصَالَحَةُ يَهُودِ تَيْمَاءَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
[ إخْرَاجُ عُمَرَ يَهُودَ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ]
فَعَبّأَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ
وَصَفّهُمْ وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَرَايَةً إلَى
الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَرَايَةً إلَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ
وَرَايَةً إلَى عَبّادِ بْنِ بِشْرٍ ثُمّ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ
وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُمْ إنْ أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ
وَحَقَنُوا دِمَاءَهُمْ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللّهِ فَبَرَزَ رَجُلٌ
مِنْهُمْ فَبَرَزَ إلَيْهِ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ فَقَتَلَهُ ثُمّ
بَرَزَ آخَرُ فَقَتَلَهُ ثُمّ بَرَزَ آخَرُ فَبَرَزَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَتَلَهُ حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ
أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا كُلّمَا قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ دَعَا مَنْ بَقِيَ
إلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ الصّلَاةُ تَحْضُرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ
فَيُصَلّي بِأَصْحَابِهِ ثُمّ يَعُودُ فَيَدَعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ
وَإِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ فَقَاتَلَهُمْ حَتّى أَمْسَوْا وَغَدَا
عَلَيْهِمْ فَلَمْ تَرْتَفِعْ الشّمْسُ قَيْدَ رُمْحٍ حَتّى أَعْطَوْا مَا
بِأَيْدِيهِمْ وَفَتَحَهَا عَنْوَةً وَغَنّمَهُ اللّهُ أَمْوَالَهُمْ
وَأَصَابُوا أَثَاثًا وَمَتَاعًا كَثِيرًا وَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِوَادِي الْقُرَى أَرْبَعَةَ أَيّامٍ وَقَسَمَ
مَا أَصَابَ عَلَى أَصْحَابِهِ بِوَادِي الْقُرَى وَتَرَكَ الْأَرْضَ
وَالنّخْلَ بِأَيْدِي الْيَهُودِ وَعَامَلَهُمْ عَلَيْهَا فَلَمّا بَلَغَ
يَهُودَ تَيْمَاءَ مَا وَاطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ وَوَادِي الْقُرَى صَالَحُوا
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَقَامُوا
بِأَمْوَالِهِمْ فَلَمّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ أَخْرَجَ يَهُودَ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ وَلَمْ يُخْرِجْ أَهْلَ
تَيْمَاءَ
[ الرّجُوعُ إلَى الْمَدِينَةِ ]
[ ص 315 ] وَوَادِي
الْقُرَى لِأَنّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي أَرْضِ الشّامِ وَيُرَى أَنّ مَا
دُونَ وَادِي الْقُرَى إلَى الْمَدِينَةِ حِجَازٌ وَأَنّ مَا وَرَاءَ
ذَلِكَ مِنْ الشّامِ وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ .
[ نَوْمُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْفَجْرِ ]
فَلَمّا
كَانَ بِبَعْضِ الطّرِيقِ سَارَ لَيْلَهُ حَتّى إذَا كَانَ بِبَعْضِ
الطّرِيقِ أَدْرَكَهُمْ الْكَرَى عَرّسَ وَقَالَ لِبِلَالٍ : اكْلَأْ
لَنَا اللّيْلَ [ فَصَلّى بِلَالٌ مَا قُدّرَ لَهُ وَنَامَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمّا تَقَارَبَ
الْفَجْرُ اسْتَنَدَ بِلَالٌ إلَى رَاحِلَتِهِ مُوَاجِهَ الْفَجْرِ ]
فَغَلَبَتْ بِلَالًا عَيْنَاهُ وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إلَى رَاحِلَتِهِ فَلَمْ
يَسْتَيْقِظْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا بِلَالٌ
وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتّى ضَرَبَتْهُمْ الشّمْسُ فَكَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوّلَهُمْ اسْتِيقَاظًا
فَفَزِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " أَيْ
بِلَال " ؟ فَقَالَ أَخَذَ بِنَفْسِي الّذِي أَخَذَ بِنَفْسِك بِأَبِي
أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ شَيْئًا
حَتّى خَرَجُوا مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي ثُمّ قَالَ هَذَا وَادٍ بِهِ
شَيْطَانٌ فَلَمّا جَاوَزَهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَنْزِلُوا وَأَنْ
يَتَوَضّئُوا ثُمّ صَلّى سُنّةَ الْفَجْرِ ثُمّ أَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ
الصّلَاةَ وَصَلّى بِالنّاسِ ثُمّ انْصَرَفَ إلَيْهِمْ وَقَدْ رَأَى مِنْ
فَزَعِهِمْ وَقَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا
وَلَوْ شَاءَ لَرَدّهَا إلَيْنَا فِي حِينٍ غَيْرِ هَذَا فَإِذَا رَقَدَ
أَحَدُكُمْ عَنْ الصّلَاةِ أَوْ نَسِيَهَا ثُمّ فَزِعَ إلَيْهَا
فَلْيُصَلّهَا كَمَا كَانَ يُصَلّيهَا فِي وَقْتِهَ ا ثُمّ الْتَفَتَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَبِي بَكْر ٍ
فَقَالَ إنّ الشّيْطَانَ أَتَى بِلَالًا وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي
فَأَضْجَعَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُهَدّئُهُ كَمَا يُهَدّأُ الصّبِيّ حَتّى
نَامَ ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِلَالًا
فَأَخْبَرَهُ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَبَا بَكْرٍ .
[ الِاخْتِلَافُ فِي زَمَنِ هَذِهِ الْقِصّةِ ]
وَقَدْ
رُوِيَ أَنّ هَذِهِ الْقِصّةَ كَانَتْ فِي مَرْجِعِهِمْ مِنْ
الْحُدَيْبِيَةِ وَرُوِيَ أَنّهَا كَانَتْ [ ص 316 ] غَزْوَةِ تَبُوكَ
وَقَدْ رَوَى قِصّةَ النّوْمِ عَنْ صَلَاةِ الصّبْحِ عِمْرَانُ بْنُ
حُصَيْنٍ وَلَمْ يُوَقّتْ مُدّتَهَا وَلَا ذَكَرَ فِي أَيّ غَزْوَةٍ
كَانَتْ وَكَذَلِكَ رَوَاهَا أَبُو قَتَادَةَ كِلَاهُمَا فِي قِصّةٍ
طَوِيلَةٍ مَحْفُوظَةٍ . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّ
ذَلِكَ كَانَ بِطَرِيقِ مَكّةَ وَهَذَا مُرْسَلٌ . وَقَدْ رَوَى شُعْبَةُ
عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدّادٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ أَبِي
عَلْقَمَةَ قَالَ سَمِعْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ أَقْبَلْنَا
مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَمَنَ
الْحُدَيْبِيَةِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ
يَكْلَؤُنَا ؟ فَقَالَ بِلَالٌ أَنَا فَذَكَرَ الْقِصّةَ . لَكِنْ قَدْ
اضْطَرَبَتْ الرّوَاةُ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ
بْنُ مَهْدِيّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ جَامِعٍ إنّ الْحَارِسَ فِيهَا كَانَ
ابْنَ مَسْعُودٍ وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْهُ إنّ الْحَارِسَ كَانَ بِلَالًا
وَاضْطَرَبَتْ الرّوَايَةُ فِي تَارِيخِهَا فَقَالَ الْمُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ : عَنْ شُعْبَةَ عَنْهُ إنّهَا كَانَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ
وَقَالَ غَيْرُهُ عَنْهُ إنّهَا كَانَتْ فِي مَرْجِعِهِمْ مِنْ
الْحُدَيْبِيَةِ فَدَلّ عَلَى وَهْمٍ وَقَعَ فِيهَا وَرِوَايَةُ
الزّهْرِيّ عَنْ سَعِيدٍ سَالِمَةٌ مِنْ ذَلِكَ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ فِي فِقْهِ هَذِهِ الْقِصّةِ
فِيهَا : أَنّ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَوَقْتُهَا حِينَ يَسْتَيْقِظُ أَوْ يَذْكُرُهَا . [ ص 317 ]
[ السّنَنُ الرّوَاتِبُ تُقْضَى ]
وَفِيهَا
: أَنّ السّنَنَ الرّوَاتِبَ تُقْضَى كَمَا تُقْضَى الْفَرَائِضُ وَقَدْ
قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُنّةَ الْفَجْرِ
مَعَهَا وَقَضَى سُنّةَ الظّهْرِ وَحْدَهَا وَكَانَ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَاءَ السّنَنِ الرّوَاتِبِ مَعَ الْفَرَائِضِ .
[ الْفَائِتَةُ يُؤَذّنُ لَهَا وَيُقَامُ ]
وَفِيهَا
: أَنّ الْفَائِتَةَ يُؤَذّنُ لَهَا وَيُقَامُ فَإِنّ فِي بَعْضِ طُرُقِ
هَذِهِ الْقِصّةِ أَنّهُ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالصّلَاةِ وَفِي
بَعْضِهَا فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذّنَ وَأَقَامَ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ .
وَفِيهَا : قَضَاءُ الْفَائِتَةِ جَمَاعَةً .
[ الْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ ]
وَفِيهَا
: قَضَاؤُهَا عَلَى الْفَوْرِ لِقَوْلِهِ فَلْيُصَلّهَا إذَا ذَكَرَهَا
وَإِنّمَا أَخّرَهَا عَنْ مَكَانِ مُعَرّسِهِمْ قَلِيلًا لِكَوْنِهِ
مَكَانًا فِيهِ شَيْطَانٌ فَارْتَحَلَ مِنْهُ إلَى مَكَانٍ خَيْرٍ مِنْهُ
وَذَلِكَ لَا يُفَوّتُ الْمُبَادَرَةَ إلَى الْقَضَاءِ فَإِنّهُمْ فِي
شُغْلِ الصّلَاةِ وَشَأْنِهَا .
[ اجْتِنَابُ الصّلَاةِ فِي أَمْكِنَةِ الشّيْطَانِ ]
وَفِيهَا
: تَنْبِيهٌ عَلَى اجْتِنَابِ الصّلَاةِ فِي أَمْكِنَةِ الشّيْطَانِ
كَالْحَمّامِ وَالْحُشّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنّ هَذِهِ مَنَازِلُهُ
الّتِي يَأْوِي إلَيْهَا وَيَسْكُنُهَا فَإِذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَرَكَ الْمُبَادَرَةَ إلَى الصّلَاةِ فِي
ذَلِكَ الْوَادِي وَقَالَ إنّ بِهِ شَيْطَانًا فَمَا الظّنّ بِمَأْوَى
الشّيْطَانِ وَبَيْتِهِ .
فَصْلٌ [ رَدّ الْمُهَاجِرِينَ مَنَائِحَ الْأَنْصَارِ ]
وَلَمّا
رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ
رَدّ الْمُهَاجِرُونَ إلَى الْأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ الّتِي كَانُوا
مَنَحُوهُمْ إيّاهَا مِنْ النّخِيلِ حِينَ صَارَ لَهُمْ بِخَيْبَرَ مَالٌ
وَنَخِيلٌ فَكَانَتْ أُمّ سُلَيْمٍ - وَهِيَ أُمّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -
أَعْطَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِذَاقًا
فَأَعْطَاهُنّ أُمّ أَيْمَنَ مَوْلَاتَهُ وَهِيَ أُمّ أُسَامَةَ بْنِ
زَيْدٍ فَرَدّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أُمّ
سُلَيْمٍ عِذَاقَهَا وَأَعْطَى أُمّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنّ مِنْ حَائِطِهِ
مَكَانَ كُلّ عَذْقٍ عَشَرَةً " .
فَصْلٌ [السّرَايَا بَيْنَ مَقْدَمِهِ مِنْ خَيْبَرَ إلَى شَوّالٍ ]
وَأَقَامَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ
مَقْدَمِهِ مِنْ خَيْبَرَ إلَى شَوّالٍ وَبَعَثَ فِي [ ص 318 ] السّرَايَا
.
[سَرِيّةُ الصّدّيقِ إلَى بَنِي فَزَارَةَ ]
فَمِنْهَا : "
سَرِيّةُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيق ِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إلَى نَجْدٍ
قِبَلَ بَنِي فَزَارَةَ وَمَعَهُ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ فَوَقَعَ فِي
سَهْمِهِ جَارِيَةٌ حَسْنَاءُ فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفَادَى بِهَا أَسْرَى مِنْ
الْمُسْلِمِينَ كَانُوا بِمَكّةَ " .
[سَرِيّةُ عُمَرَ نَحْوَ هَوَازِنَ ]
وَمِنْهَا
: سَرِيّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي ثَلَاثِينَ
رَاكِبًا نَحْوَ هَوَازِنَ فَجَاءَهُمْ الْخَبَرُ فَهَرَبُوا وَجَاءُوا
مَحَالّهُمْ فَلَمْ يَلْقَ مِنْهُمْ أَحَدًا فَانْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى
الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ الدّلِيلُ هَلْ لَك فِي جَمْعٍ مِنْ خَثْعَمَ
جَاءُوا سَائِرِينَ وَقَدْ أَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ ؟ فَقَالَ عُمَرُ لَمْ
يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهِمْ وَلَمْ
يَعْرِضْ لَهُمْ .
[سَرِيّةُ ابْنِ رَوَاحَةَ إلَى يَسِيرِ بْنِ رِزَامَ الْيَهُودِيّ ]
وَمِنْهَا
: سَرِيّةُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا فِيهِمْ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ إلَى يَسِيرِ بْنِ رِزَامَ الْيَهُودِيّ
فَإِنّهُ بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ
يَجْمَعُ غَطَفَانَ لِيَغْزُوَهُ بِهِمْ فَأَتَوْهُ بِخَيْبَرَ فَقَالُوا
: أَرْسَلَنَا إلَيْك رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِيَسْتَعْمِلَك عَلَى خَيْبَرَ فَلَمْ يَزَالُوا - حَتّى تَبِعَهُمْ فِي
ثَلَاثِينَ رَجُلًا مَعَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَدِيفٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ فَلَمّا بَلَغُوا قَرْقَرَة نِيَارٍ - وَهِيَ مِنْ
خَيْبَرَ عَلَى سِتّةِ أَمْيَالٍ - نَدِمَ يَسِيرُ فَأَهْوَى بِيَدِهِ
إلَى سَيْفِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فَفَطِنَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ
بْنُ أُنَيْسٍ فَزَجَرَ بَعِيرَهُ ثُمّ اقْتَحَمَ عَنْ الْبَعِيرِ يَسُوقُ
الْقَوْمَ حَتّى إذَا اسْتَمْكَنَ مِنْ يَسِيرَ ضَرَبَ رِجْلَهُ
فَقَطَعَهَا وَاقْتَحَمَ يَسِيرُ وَفِي يَدِهِ مِخْرَشٌ مِنْ شَوْحَطٍ
فَضَرَبَ بِهِ وَجْهَ عَبْدِ اللّهِ فَشَجّهُ مَأْمُومَةً فَانْكَفَأَ
كُلّ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَدِيفِهِ فَقَتَلَهُ غَيْرَ
رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ أَعْجَزَهُمْ شَدّا وَلَمْ يُصَبْ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ وَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَصَقَ فِي شَجّةِ [ ص 319 ] عَبْدِ اللّهِ بْنِ
أُنَيْسٍ فَلَمْ تَقِحْ وَلَمْ تُؤْذِهِ حَتّى مَاتَ .
[سَرِيّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيّ إلَى بَنِي مُرّةَ بِفَدَكٍ ]
وَمِنْهَا
: سَرِيّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيّ إلَى بَنِي مُرّةَ
بِفَدَكٍ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَلَقِيَ رِعَاءَ
الشّاءِ فَاسْتَاقَ الشّاءَ وَالنّعَمَ وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ
فَأَدْرَكَهُ الطّلَبُ عِنْدَ اللّيْلِ فَبَاتُوا يَرْمُونَهُمْ
بِالنّبْلِ حَتّى فَنِيَ نَبْلُ بَشِيرٍ وَأَصْحَابِهِ فَوَلّى مِنْهُمْ
مَنْ وَلّى وَأُصِيبَ مِنْهُمْ مَنْ أُصِيبَ وَقَاتَلَ بَشِيرٌ قِتَالًا
شَدِيدًا وَرَجَعَ الْقَوْمُ بِنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ وَتَحَامَلَ
بَشِيرٌ حَتّى انْتَهَى إلَى فَدَكٍ فَأَقَامَ عِنْدَ يَهُودَ حَتّى
بَرِئَتْ جِرَاحُهُ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ .
[سَرِيّةُ أُسَامَةَ إلَى الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ ]
ثُمّ
بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَرِيّةً إلَى
الْحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ وَفِيهِمْ أُسَامَةُ بْن زَيْدٍ فَلَمّا
دَنَا مِنْهُمْ بَعَثَ الْأَمِيرُ الطّلَائِعَ فَلَمّا رَجَعُوا
بِخَبَرِهِمْ أَقْبَلَ حَتّى إذَا دَنَا مِنْهُمْ لَيْلًا وَقَدْ
احْتَلَبُوا وَهَدَءُوا قَامَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا
هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللّهِ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ وَأَنْ تُطِيعُونِي وَلَا تَعْصُونِي وَلَا تُخَالِفُوا
أَمْرِي فَإِنّهُ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ ثُمّ رَتّبَهُمْ وَقَالَ
يَا فُلَانُ أَنْتَ وَفُلَانٌ وَيَا فُلَانُ أَنْتَ وَفُلَانٌ لَا
يُفَارِقْ كُلّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ وَزَمِيلَهُ وَإِيّاكُمْ أَنْ
يَرْجِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَأَقُولُ أَيْنَ صَاحِبُك ؟ فَيَقُولُ لَا
أَدْرِي فَإِذَا كَبّرْت فَكَبّرُوا وَجَرّدُوا السّيُوفَ ثُمّ كَبّرُوا
وَحَمَلُوا حَمْلَةً وَاحِدَةً وَأَحَاطُوا بِالْقَوْمِ وَأَخَذَتْهُمْ
سُيُوفُ اللّهِ فَهُمْ يَضَعُونَهَا مِنْهُمْ حَيْثُ شَاءُوا
وَشِعَارُهُمْ أَمِتْ أَمِتْ
[قَتَلَ أُسَامَةُ رَجُلًا قَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ عِنْدَمَا لَحَمَهُ بِالسّيْفِ ]
وَخَرَجَ
أُسَامَةُ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِرْدَاسُ بْنُ
نَهِيكَ فَلَمّا دَنَا مِنْهُ وَلَحَمَهُ بِالسّيْفِ قَالَ لَا إلَهَ إلّا
اللّهُ فَقَتَلَهُ ثُمّ اسْتَاقُوا الشّاءَ وَالنّعَمَ وَالذّرّيّةَ
وَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ عَشَرَةَ أَبْعِرَةٍ لِكُلّ رَجُلٍ أَوْ
عِدْلَهَا مِنْ النّعَمِ فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُخْبِرَ بِمَا صَنَعَ أُسَامَةُ فَكَبُرَ
ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَقَتَلْته بَعْدَ مَا قَالَ لَا إلَهَ إلّا
اللّهُ ؟ فَقَالَ إنّمَا قَالَهَا مُتَعَوّذًا قَالَ فَهَلّا شَقَقْت عَنْ
قَلْبِهِ " ثُمّ قَالَ مَنْ لَكَ بِلَا إلَهَ إلّا اللّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَمَا زَالَ يُكَرّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتّى تَمَنّى أَنْ
يَكُونَ أَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أُعْطِي اللّهَ
عَهْدًا أَلّا أَقْتُلَ رَجُلًا يَقُولُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدِي فَقَالَ أُسَامَةُ
بَعْدَك [ ص 320 ]
فَصْلٌ [سَرِيّةُ غَالِبٍ الْكَلْبِيّ إلَى بَنِي الْمُلَوّحِ ]
وَبَعَثَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ
اللّهِ الْكَلْبِيّ إلَى بَنِي الْمُلَوّحِ بِالْكَدِيدِ وَأَمَرَهُ أَنْ
يُغِيرَ عَلَيْهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ
عُتْبَةَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْجُهَنِيّ عَنْ جُنْدُبِ
بْنِ مَكِيثٍ الْجُهَنِيّ قَالَ كُنْتُ فِي سَرِيّتِهِ فَمَضَيْنَا حَتّى
إذَا كُنّا بِقُدَيْدٍ لَقِينَا بِهِ الْحَارِثَ بْنَ مَالِكِ بْنِ
الْبَرْصَاءِ اللّيْثِيّ فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ إنّمَا جِئْتُ لِأُسْلِمَ
فَقَالَ لَهُ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ إنْ كُنْتَ إنّمَا جِئْتَ
لِتُسْلِمَ فَلَا يَضُرّك رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى
غَيْرِ ذَلِكَ اسْتَوْثَقْنَا مِنْك فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا وَخَلّفَ
عَلَيْهِ رُوَيْجِلًا أَسْوَدَ وَقَالَ لَهُ اُمْكُثْ مَعَهُ حَتّى نَمُرّ
عَلَيْك فَإِذَا عَازّكَ فَاحْتَزّ رَأْسَهُ فَمَضَيْنَا حَتّى أَتَيْنَا
بَطْنَ الْكَدِيدِ فَنَزَلْنَاهُ عَشِيّةً بَعْدَ الْعَصْرِ فَبَعَثَنِي
أَصْحَابِي إلَيْهِ فَعَمَدْتُ إلَى تَلّ يُطْلِعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ
فَانْبَطَحْتُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ قَبْلَ غُرُوبِ الشّمْسِ فَخَرَجَ رَجُلٌ
مِنْهُمْ فَنَظَرَ فَرَآنِي مُنْبَطِحًا عَلَى التّلّ فَقَالَ
لِامْرَأَتِهِ إنّي لَأَرَى سَوَادًا عَلَى هَذَا التّلّ مَا رَأَيْتُهُ
فِي أَوّلِ النّهَارِ فَانْظُرِي لَا تَكُونُ الْكِلَابُ اجْتَرّتْ بَعْضَ
أَوْعِيَتِك فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ لَا وَاَللّهِ لَا أَفْقِدُ شَيْئًا .
قَالَ فَنَاوِلِينِي قَوْسِي وَسَهْمَيْنِ مِنْ نَبْلِي [ ص 321 ]
فَرَمَانِي بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِي جَنْبِي فَنَزَعْتُهُ فَوَضَعْتُهُ
وَلَمْ أَتَحَرّكْ ثُمّ رَمَانِي بِالْآخَرِ فَوَضَعَهُ فِي رَأْسِ
مَنْكِبِي فَنَزَعْته فَوَضَعْتُهُ وَلَمْ أَتَحَرّكْ فَقَالَ
لِامْرَأَتِهِ أَمَا وَاَللّهِ لَقَدْ خَالَطَهُ سِهَامِي وَلَوْ كَانَ
رَبِيئَةً لَتَحَرّكَ فَإِذَا أَصْبَحْت فَابْتَغِي سَهْمَيّ فَخُذِيهِمَا
لَا تَمْضُغْهُمَا الْكِلَابُ عَلَيّ قَالَ فَأَمْهَلْنَاهُمْ حَتّى إذَا
رَاحَتْ رَوَائِحُهُمْ وَاحْتَلَبُوا وَسَكَنُوا وَذَهَبَتْ عَتَمَةُ
اللّيْلِ شَنَنّا عَلَيْهِمْ الْغَارَةَ فَقَتَلْنَا مَنْ قَتَلْنَا
وَاسْتَقْنَا النّعَمَ فَوَجّهْنَا قَافِلِينَ بِهِ وَخَرَجَ صَرِيخُهُمْ
إلَى قَوْمِهِمْ وَخَرَجْنَا سِرَاعًا حَتّى نَمُرّ بِالْحَارِثِ بْنِ
مَالِكٍ وَصَاحِبِهِ فَانْطَلَقْنَا بِهِ مَعَنَا وَأَتَانَا صَرِيخُ
النّاسِ فَجَاءَنَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ حَتّى إذَا لَمْ يَكُنْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ إلّا بَطْنُ الْوَادِي مِنْ قُدَيْدٍ أَرْسَلَ
اللّهُ عَزّ وَجَلّ مِنْ حَيْثُ شَاءَ سَيْلًا لَا وَاَللّهِ مَا
رَأَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ مَطَرًا فَجَاءَ بِمَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ
يَقْدَمُ عَلَيّ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ وُقُوفًا يَنْظُرُونَ إلَيْنَا مَا
يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَحْدُوهَا
فَذَهَبْنَا سِرَاعًا حَتّى أَسْنَدْنَاهَا فِي الْمُشَلّلِ ثُمّ
حَدَرْنَاهَا عَنْهُ فَأَعْجَزْنَا الْقَوْمَ بِمَا فِي أَيْدِينَا .
وَقَدْ قِيلَ إنّ هَذِهِ السّرِيّةَ هِيَ السّرِيّةُ الّتِي قَبْلَهَا .
وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [سَرِيّةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ إلَى جَمْعِ يَمَنَ وَغَطَفَانَ وَحَيّانَ ]
ثُمّ
قَدِمَ حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ وَكَانَ دَلِيلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى خَيْبَرَ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَا وَرَاءَك ؟ " قَالَ تَرَكْتُ جَمْعًا مِنْ يَمَنَ
وَغَطَفَانَ وَحَيّانَ وَقَدْ بَعَثَ إلَيْهِمْ عُيَيْنَةُ إمّا أَنْ
تَسِيرُوا إلَيْنَا وَإِمّا أَنْ نَسِيرَ إلَيْكُمْ فَأَرْسَلُوا إلَيْهِ
أَنْ سِرْ إلَيْنَا وَهُمْ يُرِيدُونَك أَوْ بَعْضَ أَطْرَافِك فَدَعَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
فَذَكَرَ لَهُمَا ذَلِكَ فَقَالَا جَمِيعًا : ابْعَثْ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ
فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَبَعَثَ مَعَهُ ثَلَاثَمِائَةِ [ ص 322 ]
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا اللّيْلَ وَيَكْمُنُوا النّهَارَ وَخَرَجَ
مَعَهُمْ حُسَيْلٌ دَلِيلًا فَسَارُوا اللّيْلَ وَكَمَنُوا النّهَارَ
حَتّى أَتَوْا أَسْفَلَ خَيْبَرَ حَتّى دَنَوْا مِنْ الْقَوْمِ
فَأَغَارُوا عَلَى سَرْحِهِمْ وَبَلَغَ الْخَبَرُ جَمْعَهُمْ فَتَفَرّقُوا
فَخَرَجَ بَشِيرٌ فِي أَصْحَابِهِ حَتّى أَتَى مَحَالّهُمْ فَيَجِدُهَا
لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ فَرَجَعَ بِالنّعَمِ فَلَمّا كَانُوا بِسِلَاحٍ
لَقُوا عَيْنًا لِعُيَيْنَةَ فَقَتَلُوهُ ثُمّ لَقُوا جَمْعَ عُيَيْنَةَ
وَعُيَيْنَةُ لَا يَشْعُرُ بِهِمْ فَنَاوَشُوهُمْ ثُمّ انْكَشَفَ جَمْعُ
عُيَيْنَةَ وَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ فَقَدِمُوا بِهِمَا عَلَى
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَا فَأَرْسَلَهُمَا .
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ لِعُيَيْنَةَ وَقَدْ لَقِيَهُ مُنْهَزِمًا
تَعْدُو بِهِ فَرَسُهُ قِفْ . قَالَ لَا أَقْدِرُ خَلْفِي الطّلَبُ
فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ أَمَا آنَ لَك أَنْ تُبْصِرَ بَعْضَ مَا أَنْتَ
عَلَيْهِ وَأَنّ مُحَمّدًا قَدْ وَطِئَ الْبِلَادَ وَأَنْتَ تُوضِعُ فِي
غَيْرِ شَيْءٍ ؟ قَالَ الْحَارِثُ فَأَقَمْتُ مِنْ حِينِ زَالَتْ الشّمْسُ
إلَى اللّيْلِ وَمَا أَرَى أَحَدًا وَلَا طَلَبُوهُ إلّا الرّعْبَ الّذِي
دَخَلَهُ .
فَصْلٌ [سَرِيّةُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ ]
وَبَعَثَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ
الْأَسْلَمِيّ فِي سَرِيّةٍ وَكَانَ مِنْ قِصّتِهِ مَا ذَكَرَ ابْنُ
إسْحَاقَ أَنّ رَجُلًا مِنْ جُشْمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ يُقَالُ لَهُ قَيْسُ
بْنُ رِفَاعَةَ أَوْ رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ أَقْبَلَ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ
حَتّى نَزَلُوا بِالْغَابَةِ يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ قَيْسًا عَلَى
مُحَارَبَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ ذَا
اسْمٍ وَشَرَفٍ فِي جُشْمٍ قَالَ فَدَعَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ اُخْرُجُوا
إلَى هَذَا الرّجُلِ حَتّى تَأْتُوا مِنْهُ بِخَبَرٍ وَعِلْمٍ فَقَدّمَ
إلَيْنَا شَارِفًا عَجْفَاءَ فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَحَدَنَا فَوَاَللّهِ
مَا قَامَتْ بِهِ ضَعْفًا حَتّى دَعّمَهَا الرّجَالُ مِنْ خَلْفِهَا
بِأَيْدِيهِمْ حَتّى اسْتَقَلّتْ وَمَا كَادَتْ وَقَالَ تَبْلُغُوا عَلَى
هَذِهِ فَخَرَجْنَا وَمَعَنَا سِلَاحُنَا مِنْ النّبْلِ وَالسّيُوفِ حَتّى
إذَا جِئْنَا قَرِيبًا مِنْ الْحَاضِرِ مَعَ غُرُوبِ الشّمْسِ فَكَمَنْتُ
فِي نَاحِيَةٍ وَأَمَرْتُ صَاحِبَيّ فَكَمَنّا فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِنْ
حَاضِرِ الْقَوْمِ قُلْت لَهُمَا : إذَا سَمِعْتُمَانِي قَدْ كَبّرْت
وَشَدَدْتُ فِي [ ص 323 ] نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ فَكَبّرَا وَشِدّا مَعِي
فَوَاَللّهِ إنّا كَذَلِكَ نَنْتَظِرُ أَنْ نَرَى غِرّةً أَوْ نَرَى
شَيْئًا وَقَدْ غَشِيَنَا اللّيْلُ حَتّى ذَهَبَتْ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ
وَقَدْ كَانَ لَهُمْ رَاعٍ قَدْ سَرَحَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَأَبْطَأَ
عَلَيْهِمْ حَتّى تَخَوّفُوا عَلَيْهِ فَقَامَ صَاحِبُهُمْ رِفَاعَةُ بْنُ
قَيْسٍ فَأَخَذَ سَيْفَهُ فَجَعَلَهُ فِي عُنُقِهِ وَقَالَ وَاَللّهِ
لَأَتْبَعَنّ أَثَرَ رَاعِينَا هَذَا وَاَللّهِ لَقَدْ أَصَابَهُ شَرّ
فَقَالَ نَفَرٌ مِمّنْ مَعَهُ وَاَللّهِ لَا تَذْهَبُ نَحْنُ نَكْفِيك
فَقَالَ وَاَللّهِ لَا يَذْهَبُ إلّا أَنَا . قَالُوا : فَنَحْنُ مَعَك
وَقَالَ وَاَللّهِ لَا يَتْبَعُنِي مِنْكُمْ أَحَدٌ وَخَرَجَ حَتّى يَمُرّ
بِي فَلَمّا أَمْكَنَنِي نَفَحْته بِسَهْمٍ فَوَضَعْتُهُ فِي فُؤَادِهِ
فَوَاَللّهِ مَا تَكَلّمَ فَوَثَبْتُ إلَيْهِ فَاحْتَزَزْتُ رَأْسَهُ ثُمّ
شَدَدْتُ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ وَكَبّرْت وَشَدّ صَاحِبَايَ
فَكَبّرَا فَوَاَللّهِ مَا كَانَ إلّا النّجَاءُ مِمّنْ كَانَ فِيهِ
عِنْدَك عِنْدَك بِكُلّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ نِسَائِهِمْ
وَأَبْنَائِهِمْ وَمَا خَفّ مَعَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَاسْتَقْنَا
إبِلًا عَظِيمَةً وَغَنَمًا كَثِيرَةً فَجِئْنَا بِهَا إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجِئْتُ بِرَأْسِهِ أَحْمِلُهُ
مَعِي فَأَعْطَانِي مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا فِي
صَدَاقِي فَجَمَعْتُ إلَيّ أَهْلِي وَكُنْتُ قَدْ تَزَوّجْتُ امْرَأَةً
مِنْ قَوْمِي فَأَصْدَقْتهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَجِئْتُ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى نِكَاحِي فَقَالَ
وَاَللّهِ مَا عِنْدِي مَا أُعِينُك فَلَبِثْتُ أَيّامًا ثُمّ ذَكَرَ
هَذِهِ السّرِيّةَ .
فَصْلٌ [سَرِيّةٌ إلَى إِضَمٍ وَقَتْلُ عَامِرِ
بْنِ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيّ مِنْ قِبَلِ مُحَلّمِ بْنِ جَثّامَةَ
بَعْدَ سَلَامِهِ عَلَيْهِمْ بِتَحِيّةِ الْإِسْلَامِ ]
وَبَعَثَ
سَرِيّةً إلَى إِضَمٍ وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ وَمُحَلّمُ بْنُ
جَثّامَةَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَمَرّ بِهِمْ عَامِرُ بْنُ
الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ مَعَهُ مُتَيّعٌ لَهُ
وَوَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ بِتَحِيّةِ الْإِسْلَامِ
فَأَمْسَكُوا عَنْهُ وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ
فَقَتَلَهُ لِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَأَخَذَ بَعِيرَهُ
وَمُتَيّعَهُ فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ فَنَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ {
يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
فَتَبَيّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السّلَامَ لَسْتَ
مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَعِنْدَ اللّهِ
مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنّ اللّهُ
عَلَيْكُمْ فَتَبَيّنُوا إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا }
[ ص 324 ] النّسَاء : 94 ] فَلَمّا قَدِمُوا أُخْبِرَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ آمَنْتُ بِاَللّهِ
؟ وَلَمّا كَانَ عَامُ خَيْبَرَ جَاءَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ يَطْلُبُ
بِدَمِ عَامِرِ بْنِ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيّ وَهُوَ سَيّدُ قَيْسٍ
وَكَانَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ يَرُدّ عَنْ مُحَلّمِ وَهُوَ سَيّدٌ
خِنْدِفٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقَوْمِ
عَامِرٍ هَلْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا الْآنَ مِنّا خَمْسِينَ بَعِيرًا
وَخَمْسِينَ إذَا رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ ؟ فَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ
بَدْرٍ : وَاَللّهِ لَا أَدَعُهُ حَتّى أُذِيقَ نِسَاءَهُ مِنْ
الْحُرْقَةِ مِثْلَ مَا أَذَاقَ نِسَائِي فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتّى رَضُوا
بِالدّيَةِ فَجَاءُوا بِمُحَلّمٍ حَتّى يَسْتَغْفِرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ
اللّهُمّ لَا تَغْفِرْ لِمُحَلّمٍ وَقَالَهَا ثَلَاثًا فَقَامَ وَإِنّهُ
لَيَتَلَقّى دُمُوعَهُ بِطَرَفِ ثَوْبِه قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَزَعَمَ
قَوْمُهُ أَنّهُ اسْتَغْفَرَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحَدّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النّضْرِ قَالَ لَمْ يَقْبَلُوا الدّيَةَ حَتّى
قَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَخَلَا بِهِمْ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ
قَيْسٍ سَأَلَكُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَتِيلًا تَتْرُكُونَهُ لِيُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ النّاسِ فَمَنَعْتُمُوهُ
إيّاهُ . أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَغْضَبَ عَلَيْكُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَغْضَبَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِغَضَبِهِ أَوْ
يَلْعَنَكُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَيَلْعَنَكُمْ اللّهُ بِلَعْنَتِهِ وَاَللّهِ لَتُسْلِمُنّهُ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ لَآتِيَنّ
بِخَمْسِينَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ كُلّهُمْ يَشْهَدُونَ أَنّ الْقَتِيلَ مَا
صَلّى قَطّ فَلَأَطُلّنّ دَمَهُ فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ أَخَذُوا الدّيَةَ .
[ ص 325 ]
فَصْلٌ فِي سَرِيّةِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حُذَافَةَ السّهْمِيّ
ثَبَتَ
فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ قَالَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [
النّسَاءَ 59 ] فِي عَبْدِ اللّهِ بْنِ حُذَافَةَ السّهْمِيّ بَعَثَهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَرِيّةٍ .
[ أَمْرُ ابْنِ حُذَافَةَ مَنْ مَعَهُ دُخُولَ النّارِ ]
وَثَبَتَ
فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ السّلَمِيّ عَنْ عَلِيّ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى سَرِيّةٍ بَعَثَهُمْ
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا قَالَ فَأَغْضَبُوهُ فِي
شَيْءٍ فَقَالَ اجْمَعُوا لِي حَطَبًا فَجَمَعُوا فَقَالَ أَوْقِدُوا
نَارًا فَأَوْقَدُوا ثُمّ قَالَ أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا ؟ قَالُوا :
بَلَى قَالَ فَادْخُلُوهَا قَالَ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ
وَقَالُوا : إنّمَا فَرَرْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْ النّارِ فَسَكَنَ غَضَبُهُ وَطُفِئَتْ النّارُ فَلَمّا
قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَكَرُوا
ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إنّمَا
الطّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ وَهَذَا هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ
السّهْمِيّ . [ ص 326 ]
[مَعْنَى قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا ]
فَإِنْ
قِيلَ فَلَوْ دَخَلُوهَا دَخَلُوهَا طَاعَةً لِلّهِ وَرَسُولِهِ فِي
ظَنّهِمْ فَكَانُوا مُتَأَوّلِينَ مُخْطِئِينَ فَكَيْفَ يُخَلّدُونَ
فِيهَا ؟ قِيلَ لَمّا كَانَ إلْقَاءُ نُفُوسِهِمْ فِي النّارِ مَعْصِيَةً
يَكُونُونَ بِهَا قَاتِلِي أَنْفُسِهِمْ فَهَمّوا بِالْمُبَادَرَةِ
إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ مِنْهُمْ هَلْ هُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ
أَوْ مَعْصِيَةٌ ؟ كَانُوا مُقْدِمِينَ عَلَى مَا هُوَ مُحَرّمٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا تَسُوغُ طَاعَةُ وَلِيّ الْأَمْرِ فِيهِ لِأَنّهُ لَا
طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ فَكَانَتْ طَاعَةُ مَنْ
أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ النّارِ مَعْصِيَةً لِلّهِ وَرَسُولِهِ فَكَانَتْ
هَذِهِ الطّاعَةُ هِيَ سَبَبَ الْعُقُوبَةِ لِأَنّهَا نَفْسُ
الْمَعْصِيَةِ فَلَوْ دَخَلُوهَا لَكَانُوا عُصَاةً لِلّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِنْ كَانُوا مُطِيعِينَ لِوَلِيّ الْأَمْرِ فَلَمْ تَدْفَعْ
طَاعَتُهُمْ لِوَلِيّ الْأَمْرِ مَعْصِيَتَهُمْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ
لِأَنّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ مُسْتَحِقّ
لِلْوَعِيدِ وَاَللّهُ قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ فَلَيْسَ
لَهُمْ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى هَذَا النّهْيِ طَاعَةً لِمَنْ لَا تَجِبُ
طَاعَتُهُ إلّا فِي الْمَعْرُوفِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا حُكْمَ مَنْ
عَذّبَ نَفْسَهُ طَاعَةً لِوَلِيّ الْأَمْرِ فَكَيْفَ مَنّ عَذّبَ
مُسْلِمًا لَا يَجُوزُ تَعْذِيبُهُ طَاعَةً لِوَلِيّ الْأَمْرِ .
وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الصّحَابَةُ الْمَذْكُورُونَ لَوْ دَخَلُوهَا
لَمَا خَرَجُوا مِنْهَا مَعَ قَصْدِهِمْ طَاعَةَ اللّهِ وَرَسُولِهِ
بِذَلِكَ الدّخُولِ فَكَيْفَ بِمَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْ
الطّاعَةِ الرّغْبَةُ وَالرّهْبَةُ الدّنْيَوِيّةُ . وَإِذَا كَانَ
هَؤُلَاءِ لَوْ دَخَلُوهَا لَمَا خَرَجُوا مِنْهَا مَعَ كَوْنِهِمْ
قَصَدُوا طَاعَةَ الْأَمِيرِ وَظَنّوا أَنّ ذَلِكَ طَاعَةٌ لِلّهِ
وَرَسُولِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ دَخَلَهَا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُلَبّسِينَ [ ص
327 ] الشّيَاطِينِ وَأَوْهَمُوا الْجُهّالَ أَنّ ذَلِكَ مِيرَاثٌ مِنْ
إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَأَنّ النّارَ قَدْ تَصِيرُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا
وَسَلَامًا كَمَا صَارَتْ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَخِيَارُ هَؤُلَاءِ
مَلْبُوسٌ عَلَيْهِ يَظُنّ أَنّهُ دَخَلَهَا بِحَالٍ رَحْمَانِيّ
وَإِنّمَا دَخَلَهَا بِحَالٍ شَيْطَانِيّ فَإِذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ
بِذَلِكَ فَهُوَ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِهِ فَهُوَ
مُلَبّسٌ عَلَى النّاسِ يُوهِمُهُمْ أَنّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الرّحْمَنِ
وَهُوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الشّيْطَانِ وَأَكْثَرُهُمْ يَدْخُلُهَا بِحَالٍ
بُهْتَانِيّ وَتَحَيّلٍ إنْسَانِيّ فَهُمْ فِي دُخُولِهَا فِي الدّنْيَا
ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ مَلْبُوسٌ عَلَيْهِ وَمُلَبّسٌ وَمُتَحَيّلٌ وَنَارُ
الْآخِرَةِ أَشَدّ عَذَابًا وَأَبْقَى .
فَصْلٌ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيّةِ
قَالَ
نَافِعٌ كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَقَالَ سُلَيْمَانُ
التّيْمِيّ : لَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْ خَيْبَرَ بَعَثَ السّرَايَا وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ حَتّى
اسْتَهَلّ ذُو الْقَعْدَةِ ثُمّ نَادَى فِي النّاسِ بِالْخُرُوجِ . قَالَ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ : ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ
مُعْتَمِرًا فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَهُوَ الشّهْرُ الّذِي
صَدّهُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّى إذَا
بَلَغَ يَأْجُجَ وَضَعَ الْأَدَاةَ كُلّهَا الْحَجَفَ وَالْمَجَانّ
وَالنّبْلَ وَالرّمَاحَ وَدَخَلُوا بِسِلَاحِ الرّاكِبِ السّيُوفِ
وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَعْفَرَ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ إلَى مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ
حَزْنٍ الْعَامِرِيّةِ فَخَطَبَهَا إلَيْهِ فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَى
الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَكَانَتْ أُخْتُهَا أُمّ الْفَضْلِ
تَحْتَهُ فَزَوّجَهَا الْعَبّاسُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ اكْشِفُوا عَنْ الْمَنَاكِبِ وَاسْعَوْا فِي
الطّوَافِ لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ وَقُوّتَهُمْ . وَكَانَ
يُكَايِدُهُمْ بِكُلّ مَا اسْتَطَاعَ فَوَقَفَ أَهْلُ مَكّةَ : الرّجَالُ
وَالنّسَاءُ [ ص 328 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ
وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ
يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَرْتَجِزُ
مُتَوَشّحًا بِالسّيْفِ يَقُولُ
خَلّوا بَنِي الْكُفّارِ عَنْ سَبِيلِهِ
قَدْ أَنْزَلَ الرّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ
فِي صُحُفٍ تُتْلَى عَلَى رَسُولِهِ
يَا رَبّ إنّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ
إنّي رَأَيْتُ الْحَقّ فِي قَبُولِهِ
الْيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ
ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ
وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ
وَتَغَيّبَ
رِجَالٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَنَقًا وَغَيْظًا فَأَقَامَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ ثَلَاثًا فَلَمّا
أَصْبَحَ مِنْ الْيَوْمِ الرّابِعِ أَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو
وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَجْلِسِ الْأَنْصَارِ يَتَحَدّثُ مَعَ سَعْدِ بْنِ
عُبَادَةَ فَصَاحَ حُوَيْطِبٌ نُنَاشِدُك اللّهَ وَالْعَقْدَ لَمَا
خَرَجْتَ مِنْ أَرْضِنَا فَقَدْ مَضَتْ الثّلَاثُ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ
عُبَادَةَ : كَذَبْتَ لَا أُمّ لَك لَيْسَتْ بِأَرْضِكَ وَلَا أَرْضِ
آبَائِك وَاَللّهِ لَا نَخْرُجُ ثُمّ نَادَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حُوَيْطِبًا أَوْ سُهَيْلًا فَقَالَ إنّي قَدْ نَكَحْتُ
مِنْكُمْ امْرَأَةً فَمَا يَضُرّكُمْ أَنْ أَمْكُثَ حَتّى أَدْخُلَ بِهَا
وَنَضَعَ الطّعَامَ فَنَأْكُلُ وَتَأْكُلُونَ مَعَنَا فَقَالُوا :
نُنَاشِدُك اللّهَ وَالْعَقْدَ إلّا خَرَجْتَ عَنّا فَأَمَرَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا رَافِعٍ فَأَذّنَ
بِالرّحِيلِ وَرَكِبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
حَتّى نَزَلَ بَطْنَ سَرِفَ فَأَقَامَ بِهَا وَخَلّفَ أَبَا رَافِعٍ
لِيَحْمِلَ مَيْمُونَةَ إلَيْهِ حِين يُمْسِي فَأَقَامَ حَتّى قَدِمَتْ
مَيْمُونَةُ وَمَنْ مَعَهَا وَقَدْ لَقُوا أَذًى وَعَنَاءً مِنْ سُفَهَاءِ
الْمُشْرِكِينَ وَصِبْيَانِهِمْ [ ص 329 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِمَيْمُونَةَ بِسَرِفَ فَبَنَى بِهَا بِسَرِفَ ثُمّ أَدْلَجَ وَسَارَ
حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَقَدّرَ اللّهُ أَنْ يَكُونَ قَبْرُ
مَيْمُونَةَ بِسَرِفَ حَيْثُ بَنَى بِهَا .
[فَصْلٌ بَيَانُ خَطَإِ مَنْ قَالَ تَزَوّجَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ]
وَأَمّا
قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ : " إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ
حَلَالٌ فَمِمّا اُسْتُدْرِكَ عَلَيْهِ وَعُدّ مِنْ وَهْمِهِ قَالَ
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ : وَوَهِمَ ابْنُ عَبّاسٍ وَإِنْ كَانَتْ
خَالَتَهُ مَا تَزَوّجَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
إلّا بَعْدَ مَا حَلّ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ . وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ
الْأَصَمّ عَنْ مَيْمُونَةَ تَزَوّجَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَحْنُ حَلَالَانِ بِسَرِفَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ تَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ
وَكُنْت الرّسُولَ بَيْنَهُمَا صَحّ ذَلِكَ عَنْهُ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيّبِ : هَذَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ يَزْعُمُ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَكَحَ [ ص 330 ] صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ وَكَانَ الْحِلّ وَالنّكَاحُ جَمِيعًا فَشُبّهَ
ذَلِكَ عَلَى النّاسِ . وَقَدْ قِيلَ إنّهُ تَزَوّجَهَا قَبْلَ أَنْ
يُحْرِمَ وَفِي هَذَا نَظَرٌ إلّا أَنْ يَكُونَ وَكّلَ فِي الْعَقْدِ
عَلَيْهَا قَبْلَ إحْرَامِهِ وَأَظُنّ الشّافِعِيّ ذَكَرَ ذَلِكَ قَوْلًا
فَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ . أَحَدُهَا : أَنّهُ تَزَوّجَهَا بَعْدَ حِلّهِ
مِنْ الْعُمْرَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَيْمُونَةَ نَفْسِهَا وَقَوْلُ السّفِيرِ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ
أَبُو رَافِعٍ وَقَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ
النّقْلِ . وَالثّانِي : أَنّهُ تَزَوّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَجَمَاعَةٍ . وَالثّالِثُ
أَنّهُ تَزَوّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ . وَقَدْ حُمِلَ قَوْلُ ابْنِ
عَبّاسٍ أَنّهُ تَزَوّجَهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى أَنّهُ تَزَوّجَهَا فِي
الشّهْرِ الْحَرَامِ لَا فِي حَالِ الْإِحْرَامِ قَالُوا : وَيُقَالُ
أَحْرَمَ الرّجُلُ إذَا عَقَدَ الْإِحْرَامَ وَأَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي
الشّهْرِ الْحَرَامِ وَإِنْ كَانَ حَلَالًا بِدَلِيلِ قَوْلِ الشّاعِرِ
قَتَلُوا ابْنَ عَفّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا
وَرِعًا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَقْتُولَا
وَإِنّمَا
قَتَلُوهُ فِي الْمَدِينَةِ حَلَالًا فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ . وَقَدْ
رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا
يَخْطُبُ وَلَوْ قُدّرَ تَعَارُضُ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ هَا هُنَا
لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْقَوْلِ لِأَنّ الْفِعْلَ مُوَافِقٌ [ ص 331 ]
لَكَانَ رَافِعًا لِمُوجَبِ الْقَوْلِ وَالْقَوْلُ رَافِعٌ لِمُوجَبِ
الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيّةِ فَيَلْزَمُ تَغْيِيرُ الْحُكْمِ مَرّتَيْنِ
وَهُوَ خِلَافُ قَاعِدَةِ الْأَحْكَامِ وَاَللّه أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ اخْتِلَافُ عَلِيّ وَزَيْدٍ وَجَعْفَرٍ فِي حَضَانَةِ بِنْتِ حَمْزَةَ ]
وَلَمّا
أَرَادَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكّةَ
تَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي : يَا عَمّ يَا عَمّ
فَتَنَاوَلَهَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَأَخَذَ
بِيَدِهَا وَقَالَ لِفَاطِمَةَ دُونَكِ ابْنَةَ عَمّك فَحَمَلَتْهَا
فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ فَقَالَ عَلِيّ أَنَا
أَخَذْتهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمّي وَقَالَ جَعْفَرٌ ابْنَةُ عَمّي
وَخَالَتُهَا تَحْتِي وَقَالَ زَيْدٌ ابْنَةُ أَخِي فَقَضَى بِهَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَالَتِهَا : وَقَالَ الْخَالَةُ
بِمَنْزِلَةِ الْأُمّ وَقَالَ لِعَلِيّ أَنْتَ مِنّي وَأَنَا مِنْكَ
وَقَالَ لِجَعْفَرٍ أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي وَقَالَ لِزَيْدٍ أَنْتَ
أَخُونَا وَمَوْلَانَا مُتّفَقٌ عَلَى صِحّتِهِ .
[الْفِقْهُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْقِصّةِ الْخَالَةُ مُقَدّمَةٌ فِي الْحَضَانَةِ ]
وَفِي
هَذِهِ الْقِصّةِ مِنْ الْفِقْهِ أَنّ الْخَالَةَ مُقَدّمَةٌ فِي
الْحَضَانَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَقَارِبِ بَعْدَ الْأَبَوَيْنِ .
[ تَزَوّجُ الْحَاضِنَةِ بِقَرِيبٍ مِنْ الطّفْلِ لَا يُسْقِطُ حَضَانَتَهَا ]
وَأَنّ
تَزَوّجَ الْحَاضِنَةِ بِقَرِيبٍ مِنْ الطّفْلِ لَا يُسْقِطُ حَضَانَتَهَا
. نَصّ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ عَلَى
أَنّ تَزْوِيجَهَا لَا يُسْقِطُ حَضَانَتَهَا فِي الْجَارِيَةِ خَاصّةً
وَاحْتَجّ بِقِصّةِ بِنْتِ حَمْزَةَ هَذِهِ وَلَمّا كَانَ ابْنُ الْعَمّ
لَيْسَ مَحْرَمًا لَمْ يُفَرّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيّ فِي
ذَلِكَ وَقَالَ تَزَوّجُ الْحَاضِنَةِ لَا يُسْقِطُ حَضَانَتَهَا
لِلْجَارِيَةِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيّ : لَا يَكُونُ تَزَوّجُهَا
مُسْقِطًا لِحَضَانَتِهَا بِحَالٍ ذَكَرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ أُنْثَى .
[ الِاخْتِلَافُ فِي سُقُوطِ الْحَضَانَةِ بِالنّكَاحِ ]
وَقَدْ
اُخْتُلِفَ فِي سُقُوطِ الْحَضَانَةِ بِالنّكَاحِ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَقْوَالٍ . [ ص 332 ] كَانَ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ
وَالشّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ
عَنْهُ . وَالثّانِي : لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ
وَابْنِ حَزْمٍ . وَالثّالِثُ إنْ كَانَ الطّفْلُ بِنْتًا لَمْ تَسْقُطْ
الْحَضَانَةُ وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا سَقَطَتْ وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ
أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنّا : إذَا
تَزَوّجَتْ الْأُمّ وَابْنُهَا صَغِيرٌ أُخِذَ مِنْهَا قِيلَ لَهُ
وَالْجَارِيَةُ مِثْلُ الصّبِيّ ؟ قَالَ لَا الْجَارِيَةُ تَكُونُ مَعَهَا
إلَى سَبْعِ سِنِينَ وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً أُخْرَى عَنْهُ
أَنّهَا أَحَقّ بِالْبِنْتِ وَإِنْ تَزَوّجَتْ إلَى أَنْ تَبْلُغَ .
وَالرّابِعُ أَنّهَا إذَا تَزَوّجَتْ بِنَسِيبٍ مِنْ الطّفْلِ لَمْ
تَسْقُطْ حَضَانَتُهَا وَإِنْ تَزَوّجَتْ بِأَجْنَبِيّ سَقَطَتْ ثُمّ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا
: أَنّهُ يَكْفِي كَوْنُهُ نَسِيبًا فَقَطْ مَحْرَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ
مَحْرَمٍ وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَإِطْلَاقِهِمْ .
الثّانِي : أَنّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَعَ ذَلِكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ
وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيّةِ . الثّالِثُ أَنّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ
أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطّفْلِ وِلَادَةٌ بِأَنْ يَكُونَ جَدّا
لِلطّفْلِ وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ
وَالشّافِعِيّ .
[ الِاخْتِلَافُ فِي تَقْدِيمِ الْخَالَةِ عَلَى الْعَمّةِ ]
وَفِي
الْقِصّةِ حُجّةٌ لِمَنْ قَدّمَ الْخَالَةَ عَلَى الْعَمّةِ وَقَرَابَةَ
الْأُمّ عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ فَإِنّهُ قَضَى بِهَا لِخَالَتِهَا
وَقَدْ كَانَتْ صَفِيّةُ عَمّتُهَا مَوْجُودَةً إذْ ذَاكَ وَهَذَا قَوْلُ
الشّافِعِيّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى
الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ .
[ حُجّةُ مَنْ قَدّمَ الْعَمّةَ عَلَى الْخَالَةِ ]
وَعَنْهُ
رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنّ الْعَمّةَ مُقَدّمَةٌ عَلَى الْخَالَةِ - وَهِيَ
اخْتِيَارُ شَيْخِنَا - وَكَذَلِكَ نِسَاءُ الْأَبِ يُقَدّمْنَ عَلَى
نِسَاءِ الْأُمّ لِأَنّ الْوِلَايَةَ عَلَى الطّفْلِ فِي الْأَصْلِ
لِلْأَبِ وَإِنّمَا قُدّمَتْ عَلَيْهِ الْأُمّ لِمَصْلَحَةِ الطّفْلِ
وَكَمَالِ تَرْبِيَتِهِ وَشَفَقَتِهَا وَحُنُوّهَا وَالْإِنَاثُ أَقْوَمُ
بِذَلِكَ مِنْ الرّجَالِ فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إلَى النّسَاءِ فَقَطْ
أَوْ الرّجَالِ فَقَطْ كَانَتْ قَرَابَةُ الْأَبِ أَوْلَى مِنْ قَرَابَةِ
الْأُمّ كَمَا يَكُونُ الْأَبُ أَوْلَى مِنْ كُلّ ذَكَرٍ سِوَاهُ وَهَذَا
قَوِيّ جِدّا . [ ص 333 ] وَيُجَابُ عَنْ تَقْدِيمِ خَالَةِ ابْنَةِ
حَمْزَةَ عَلَى عَمّتِهَا بِأَنّ الْعَمّةَ لَمْ تَطْلُبْ الْحَضَانَةَ
وَالْحَضَانَةُ حَقّ لَهَا يُقْضَى لَهَا بِهِ بِطَلَبِهِ بِخِلَافِ
الْخَالَةِ فَإِنّ جَعْفَرًا كَانَ نَائِبًا عَنْهَا فِي طَلَبِ
الْحَضَانَةِ وَلِهَذَا قَضَى بِهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَهَا فِي غَيْبَتِهَا . وَأَيْضًا فَكَمَا أَنّ لِقَرَابَةِ
الطّفْلِ أَنْ يَمْنَعَ الْحَاضِنَةَ مِنْ حَضَانَةِ الطّفْلِ إذَا
تَزَوّجَتْ فَلِلزّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ أَخْذِهِ وَتَفَرّغِهَا
لَهُ فَإِذَا رَضِيَ الزّوْجُ بِأَخْذِهِ حَيْثُ لَا تَسْقُطُ
حَضَانَتُهَا لِقَرَابَتِهِ أَوْ لِكَوْنِ الطّفْلِ أُنْثَى عَلَى
رِوَايَةٍ مُكّنَتْ مِنْ أَخْذِهِ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَالْحَقّ لَهُ
وَالزّوْجُ هَا هُنَا قَدْ رَضِيَ وَخَاصَمَ فِي الْقِصّةِ وَصَفِيّةُ
لَمْ يَكُنْ مِنْهَا طَلَبٌ . وَأَيْضًا فَابْنُ الْعَمّ لَهُ حَضَانَةُ
الْجَارِيَةِ الّتِي لَا تُشْتَهَى فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بَلْ وَإِنْ
كَانَتْ تُشْتَهَى فَلَهُ حَضَانَتُهَا أَيْضًا وَتُسَلّمُ إلَى امْرَأَةٍ
ثِقَةٍ يَخْتَارُهَا هُوَ أَوْ إلَى مَحْرَمِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ
لِأَنّهُ قَرِيبٌ مِنْ عَصَبَاتِهَا وَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْأَجَانِبِ
وَالْحَاكِمِ وَهَذِهِ إنْ كَانَتْ طِفْلَةً فَلَا إشْكَالَ وَإِنْ
كَانَتْ مِمّنْ يُشْتَهَى فَقَدْ سُلّمَتْ إلَى خَالَتِهَا فَهِيَ
وَزَوْجُهَا مَنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[مَعْنَى
قَوْلِ زَيْدٍ ابْنَةُ أَخِي وَبَيَانُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَاخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ مَرّةً
وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَنْصَارِ فِي الْمَرّةِ الثّانِيَةِ]
وَقَوْلُ
زَيْدٍ ابْنَةُ أَخِي يُرِيدُ الْإِخَاءَ الّذِي عَقَدَهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُ وَبَيْن حَمْزَةَ لَمّا وَاخَى
بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ فَإِنّهُ وَاخَى بَيْنَ أَصْحَابِهِ مَرّتَيْنِ
فَوَاخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ قَبْلَ
الْهِجْرَةِ عَلَى الْحَقّ وَالْمُوَاسَاةِ وَآخَى بَيْن أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَبَيْنَ حَمْزَةَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَبَيْنَ عُثْمَانَ
وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَبَيْنَ الزّبَيْرِ وَابْنِ مَسْعُودٍ
وَبَيْنَ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَبِلَالٍ وَبَيْنَ مُصْعَبِ بْنِ
عُمَيْرٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ وَبَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ
وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَبَيْنَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ
وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ . وَالْمَرّةُ الثّانِيَةُ آخَى بَيْنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بَعْدَ
مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ .
فَصْلٌ [ الِاخْتِلَافُ فِي تَسْمِيَتِهَا بِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ هَلْ مِنْ الْقَضَاءِ أَوْ مِنْ الْمُقَاضَاةِ ]
وَاخْتُلِفَ
فِي تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْعُمْرَةِ بِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ هَلْ هُوَ
لِكَوْنِهَا قَضَاءً لِلْعُمْرَةِ الّتِي صُدّوا عَنْهَا أَوْ مِنْ
الْمُقَاضَاةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ تَقَدّمَا قَالَ الْوَاقِدِيّ :
حَدّثَنِي [ ص 334 ] عَبْدُ اللّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْعُمْرَةُ قَضَاءً وَلَكِنْ كَانَ
شَرْطًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْتَمِرُوا فِي الشّهْرِ الّذِي
حَاصَرَهُمْ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ .
[ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِيمَا يَتَرَتّبُ عَلَى مَنْ أُحْصِرَ عَنْ الْعُمْرَةِ وَبَيَانُ حُجَجِهِمْ ]
وَاخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا : أَنّ
مَنْ أُحْصِرَ عَنْ الْعُمْرَةِ يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ وَالْقَضَاءُ
وَهَذَا إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ بَلْ أَشْهَرُهَا عَنْهُ .
وَالثّانِي : لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ وَهُوَ قَوْلُ
الشّافِعِيّ وَمَالِكٍ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَرِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ
عَنْ أَحْمَدَ . وَالثّالِثُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالرّابِعُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا
هَدْيَ وَهُوَ إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ . فَمَنْ أَوْجَبَ
عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْهَدْيَ احْتَجّ بِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابَهُ نَحَرُوا الْهَدْيَ حِينَ صُدّوا عَنْ
الْبَيْتِ ثُمّ قَضَوْا مِنْ قَابِلٍ قَالُوا : وَالْعُمْرَةُ تَلْزَمُ
بِالشّرُوعِ فِيهَا وَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ إلّا بِفِعْلِهَا وَنَحْرِ
الْهَدْيِ لِأَجْلِ التّحَلّلِ قَبْلَ تَمَامِهَا وَقَالُوا : وَظَاهِرُ
الْآيَةِ يُوجِبُ الْهَدْيَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } [ الْبَقَرَةَ 196 ] . وَمَنْ لَمْ
يُوجِبْهُمَا قَالُوا : لَمْ يَأْمُرْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الّذِينَ أُحْصِرُوا مَعَهُ بِالْقَضَاءِ وَلَا أَحَدًا مِنْهُمْ
وَلَا وَقَفَ الْحِلّ عَلَى نَحْرِهِمْ الْهَدْيَ بَلْ أَمَرَهُمْ أَنْ
يَحْلِقُوا رُءُوسَهُمْ وَأَمَرَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَنْحَرَ
هَدْيَهُ . وَمَنْ أَوْجَبَ الْهَدْيَ دُونَ الْقَضَاءِ احْتَجّ
بِقَوْلِهِ { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }
وَمَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ دُونَ الْهَدْيِ احْتَجّ بِأَنّ الْعُمْرَةَ
تَلْزَمُ بِالشّرُوعِ فَإِذَا أُحْصِرَ جَازَ لَهُ تَأْخِيرُهَا لِعُذْرِ
الْإِحْصَارِ فَإِذَا زَالَ الْحَصْرُ أَتَى بِهَا بِالْوُجُوبِ السّابِقِ
وَلَا يُوجِبُ تَخَلّلُ التّحَلّلِ بَيْنَ الْإِحْرَامِ بِهَا أَوّلًا
وَبَيْنَ فِعْلِهَا فِي وَقْتِ الْإِمْكَانِ شَيْئًا وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ
يَرُدّ هَذَا الْقَوْلَ وَيُوجِبُ الْهَدْيَ دُونَ الْقَضَاءِ لِأَنّهُ
جَعَلَ الْهَدْيَ هُوَ جَمِيعُ مَا عَلَى الْمُحْصَرِ فَدَلّ عَلَى أَنّهُ
يُكْتَفَى بِهِ مِنْهُ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ الِاخْتِلَافُ فِي وَقْتِ النّحْرِ لِلْمُحْصَرِ ]
[
ص 335 ] نَحْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا أُحْصِرَ
بِالْحُدَيْبِيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْمُحْصَرَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ
وَقْتَ حَصْرِهِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ إذَا كَانَ مُحْرِمًا
بِعُمْرَةٍ وَإِنْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا فَفِيهِ قَوْلَانِ
أَحَدُهُمَا : أَنّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَهُوَ الصّحِيحُ لِأَنّهُ أَحَدُ
النّسُكَيْنِ فَجَازَ الْحِلّ مِنْهُ وَنَحْرُ هَدْيِهِ وَقْتَ حَصْرِهِ
كَالْعُمْرَةِ لِأَنّ الْعُمْرَةَ لَا تَفُوتُ وَجَمِيعُ الزّمَانِ وَقْتٌ
لَهَا فَإِذَا جَازَ الْحِلّ مِنْهَا وَنَحْرُ هَدْيِهَا مِنْ غَيْرِ
خَشْيَةِ فَوَاتِهَا فَالْحَجّ الّذِي يُخْشَى فَوَاتُهُ أَوْلَى وَقَدْ
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ إنّهُ لَا يَحِلّ وَلَا يَنْحَرُ
الْهَدْيَ إلَى يَوْمِ النّحْرِ وَوَجْهُ هَذَا أَنّ لِلْهَدْيِ مَحِلّ
زَمَانٍ وَمَحِلّ مَكَانٍ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ مَحِلّ الْمَكَانِ لَمْ
يَسْقُطْ عَنْهُ مَحِلّ الزّمَانِ لِتَمَكّنِهِ مِنْ الْإِتْيَانِ
بِالْوَاجِبِ فِي مَحِلّهِ الزّمَانِيّ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا
يَجُوزُ لَهُ التّحَلّلُ قَبْلَ يَوْمِ النّحْرِ لِقَوْلِهِ { وَلَا
تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلّهُ } [
الْبَقَرَةَ 196 ] .
فَصْلٌ [ هَلْ يَتَحَلّلُ الْمُحْصَرُ بِعُمْرَةٍ ]
وَفِي
نَحْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَحِلّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ
الْمُحْصَرَ بِالْعُمْرَةِ يَتَحَلّلُ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللّهُ أَنّ الْمُعْتَمِرَ لَا
يَتَحَلّلُ لِأَنّهُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ وَهَذَا تَبْعُدُ صِحّتُهُ
عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللّهُ لِأَنّ الْآيَةَ إنّمَا نَزَلَتْ فِي
الْحُدَيْبِيَة ِ وَكَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَصْحَابُهُ كُلّهُمْ مُحْرِمِينَ بِعُمْرَةٍ وَحَلّوا كُلّهُمْ وَهَذَا
مِمّا لَا يَشُكّ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
فَصْلٌ [ هَلْ يَنْحَرُ الْمُحْصَرُ هَدْيَهُ حَيْثُ أُحْصِرَ مِنْ حِلّ أَوْ حَرَمٍ ؟ ]
وَفِي
ذَبْحِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ مِنْ
الْحِلّ بِالِاتّفَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْمُحْصَرَ يَنْحَرُ هَدْيَهُ
حَيْثُ أُحْصِرَ مِنْ حِلّ أَوْ حَرَمٍ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ
وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَالشّافِعِيّ . وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ
رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنّهُ لَيْسَ لَهُ نَحْرُ هَدْيِهِ إلّا فِي الْحَرَمِ
فَيَبْعَثُهُ إلَى الْحَرَمِ وَيُوَاطِئُ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَنْحَرَهُ
فِي وَقْتٍ يَتَحَلّلُ فِيهِ [ ص 336 ] ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التّابِعِينَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَهَذَا إنْ صَحّ عَنْهُمْ فَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى الْحَصْرِ الْخَاصّ
وَهُوَ أَنْ يَتَعَرّضَ ظَالِمٌ لِجَمَاعَةٍ أَوْ لِوَاحِدٍ وَأَمّا
الْحَصْرُ الْعَامّ فَالسّنّةُ الثّابِتَةُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَدُلّ عَلَى خِلَافِهِ وَالْحُدَيْبِيَةُ مِنْ
الْحِلّ بِاتّفَاقِ النّاسِ وَقَدْ قَالَ الشّافِعِيّ : بَعْضُهَا مِنْ
الْحِلّ وَبَعْضُهَا مِنْ الْحَرَمِ قُلْت : وَمُرَادُهُ أَنّ
أَطْرَافَهَا مِنْ الْحَرَمِ وَإِلّا فَهِيَ مِنْ الْحِلّ بِاتّفَاقِهِمْ
. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ فِي الْمُحْصَرِ
إذَا قَدَرَ عَلَى أَطْرَافِ الْحَرَمِ هَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْحَرَ
فِيهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لَهُمْ . وَالصّحِيحُ أَنّهُ لَا يَلْزَمُهُ
لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحَرَ هَدْيَهُ فِي
مَوْضِعِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَطْرَافِ الْحَرَمِ وَقَدْ أَخْبَرَ
اللّهُ سُبْحَانَهُ أَنّ الْهَدْيَ كَانَ مَحْبُوسًا عَنْ بُلُوغِ
مَحِلّهِ وَنَصَبَ الْهَدْيَ بِوُقُوعِ فِعْلِ الصّدّ عَلَيْهِ أَيْ
صَدّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَصَدّوا الْهَدْيَ عَنْ بُلُوغِ
مَحِلّهِ وَمَعْلُومٌ أَنّ صَدّهُمْ وَصَدّ الْهَدْيِ اسْتَمَرّ ذَلِكَ
الْعَامَ وَلَمْ يَزُلْ فَلَمْ يَصِلُوا فِيهِ إلَى مَحِلّ إحْرَامِهِمْ
وَلَمْ يَصِلْ الْهَدْيُ إلَى مَحِلّ نَحْرِهِ وَاَللّه أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ
وَهِيَ
بِأَدْنَى الْبَلْقَاءِ مِنْ أَرْضِ الشّامِ وَكَانَتْ فِي جُمَادَى
الْأُولَى سَنَةَ ثَمَانٍ وَكَانَ سَبَبُهَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ الْحَارِثَ بْنَ عُمَيْرٍ الْأَزْدِيّ
أَحَدَ بَنِي لِهْبٍ بِكِتَابِهِ إلَى الشّامِ إلَى مَلِكِ الرّومِ أَوْ
بُصْرَى فَعَرَضَ لَهُ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْغَسّانِيّ
فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا ثُمّ قَدّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَلَمْ يُقْتَلْ
لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَسُولٌ غَيْرُهُ
فَاشْتَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ فَبَعَثَ الْبُعُوثَ
وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَقَالَ إنْ أُصِيبَ
فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النّاسِ فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ [ ص
337 ] فَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَتَجَهّزَ النّاسُ وَهُمْ
ثَلَاثَةُ آلَافٍ فَلَمّا حَضَرَ خُرُوجُهُمْ وَدّعَ النّاسُ أُمَرَاءَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَلّمُوا عَلَيْهِمْ
فَبَكَى عَبْدُ اللّه بْنُ رَوَاحَةَ فَقَالُوا : مَا يُبْكِيك ؟ فَقَالَ
أَمَا وَاَللّهِ مَا بِي حُبّ الدّنْيَا وَلَا صَبَابَةٌ بِكُمْ وَلَكِنّي
سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْرَأُ آيَةً
مِنْ كِتَابِ اللّهِ يَذْكُرُ فِيهَا النّار { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلّا
وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبّكَ حَتْمًا مَقْضِيّا } [ مَرْيَمَ : 71 ]
فَلَسْت أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصّدَرِ بَعْدَ الْوُرُودِ ؟ فَقَالَ
الْمُسْلِمُونَ صَحِبَكُمْ اللّهُ بِالسّلَامَةِ وَدَفَعَ عَنْكُمْ
وَرَدّكُمْ إلَيْنَا صَالِحِينَ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ :
لَكِنّنِي أَسْأَلُ الرّحْمَنَ مَغْفِرَةً وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ
تَقْذِفُ الزّبَدَا
أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرّانَ مُجْهِزَةً بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الْأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حَتّى يُقَالَ إذَا مَرّوا عَلَى جَدَثِي يَا أَرْشَدَ اللّهُ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
ثُمّ
مَضَوْا حَتّى نَزَلُوا مَعَانَ فَبَلَغَ النّاسَ أَنّ هِرَقْلَ
بِالْبَلْقَاءِ فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنْ الرّومِ وَانْضَمّ إلَيْهِمْ مِنْ
لَخْمٍ وَجُذَامَ وَبَلْقَيْنِ وَبَهْرَاءَ وَبَلِيّ مِائَةُ أَلْفٍ
فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ أَقَامُوا عَلَى مَعَانَ
لَيْلَتَيْنِ يَنْظُرُونَ فِي أَمْرِهِمْ وَقَالُوا : نَكْتُبُ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنُخْبِرُهُ بِعَدَدِ
عَدُوّنَا فَإِمّا أَنْ يُمِدّنَا بِالرّجَالِ وَإِمّا أَنْ يَأْمُرَنَا
بِأَمْرِهِ فَنَمْضِيَ لَهُ فَشَجّعَ النّاسَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ فَقَالَ يَا قَوْمِ وَاَللّهِ إنّ الّذِي تَكْرَهُونَ لَلّتِي
خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ الشّهَادَةُ وَمَا نُقَاتِلُ النّاسَ بِعَدَدٍ
وَلَا قُوّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ مَا نُقَاتِلُهُمْ إلّا بِهَذَا الدّينِ
الّذِي أَكْرَمَنَا بِهِ اللّهُ فَانْطَلِقُوا فَإِنّمَا هِيَ إحْدَى
الْحُسْنَيَيْنِ إمّا ظَفَرٌ وَإِمّا شَهَادَةٌ . فَمَضَى النّاسُ حَتّى
إذَا كَانُوا بِتُخُومِ الْبَلْقَاءِ لَقِيَتْهُمْ الْجُمُوعُ بِقَرْيَةٍ
يُقَالُ لَهَا : [ ص 338 ] فَدَنَا الْعَدُوّ وَانْحَازَ الْمُسْلِمُونَ
إلَى مُؤْتَةَ فَالْتَقَى النّاسُ عِنْدَهَا فَتَعَبّى الْمُسْلِمُونَ
ثُمّ اقْتَتَلُوا وَالرّايَةُ فِي يَدِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَلَمْ
يَزَلْ يُقَاتِلُ بِهَا حَتّى شَاطَ فِي رِمَاحِ الْقَوْمِ وَخَرّ
صَرِيعًا وَأَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ بِهَا حَتّى إذَا أَرْهَقَهُ
الْقِتَالُ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهَا ثُمّ قَاتَلَ حَتّى
قُتِلَ فَكَانَ جَعْفَرٌ أَوّلَ مَنْ عَقَرَ فَرَسَهُ فِي الْإِسْلَامِ
عِنْدَ الْقِتَالِ فَقُطِعَتْ يَمِينُهُ فَأَخَذَ الرّايَةَ بِيَسَارِهِ .
فَقُطِعَتْ يَسَارُهُ فَاحْتَضَنَ الرّايَةَ حَتّى قُتِلَ وَلَهُ ثَلَاثٌ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ
وَتَقَدّمَ بِهَا وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ فَجَعَلَ يَسْتَنْزِلُ نَفْسَهُ
وَيَتَرَدّدُ بَعْضَ التّرَدّدِ ثُمّ نَزَلَ فَأَتَاهُ ابْنُ عَمّ لَهُ
بِعَرْقٍ مِنْ لَحْمٍ فَقَالَ شُدّ بِهَا صُلْبَك فَإِنّك قَدْ لَقِيت فِي
أَيّامِكَ هَذِهِ مَا لَقِيت فَأَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ فَانْتَهَسَ مِنْهَا
نَهْسَةً ثُمّ سَمِعَ الْحَطْمَةَ فِي نَاحِيَةِ النّاسِ فَقَالَ وَأَنْتَ
فِي الدّنْيَا ثُمّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ ثُمّ أَخَذَ سَيْفَهُ
وَتَقَدّمَ فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ ثُمّ أَخَذَ الرّايَةَ ثَابِتُ بْنُ
أَقْرَمَ أَخُو بَنِي عَجْلَانَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ
اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ قَالُوا : أَنْتَ قَالَ مَا أَنَا
بِفَاعِلٍ فَاصْطَلَحَ النّاسُ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَلَمّا
أَخَذَ الرّايَةَ دَافَعَ الْقَوْمَ وَحَاشَ بِهِمْ ثُمّ انْحَازَ
بِالْمُسْلِمِينَ وَانْصَرَفَ بِالنّاسِ .
[ مَنْ الْمُنْتَصِرُ ؟ ]
وَقَدْ
ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ أَنّ الْهَزِيمَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
وَاَلّذِي فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " أَنّ الْهَزِيمَةَ كَانَتْ عَلَى
الرّومِ . وَالصّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّ كُلّ فِئَةٍ
انْحَازَتْ عَنْ الْأُخْرَى .
[ إطْلَاعُ اللّهِ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِخَبَرِ أَصْحَابِهِ ]
[ إخْبَارُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ دُخُولِ الْأُمَرَاءِ الثّلَاثَةِ الْجَنّةَ ]
وَأَطْلَعَ
اللّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَهُ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ
فَأَخْبَرَ بِهِ أَصْحَابَهُ وَقَالَ لَقَدْ رُفِعُوا إلَيّ فِي الْجَنّةِ
فِيمَا يَرَى النّائِمُ عَلَى سُرُرٍ مِنْ ذَهَبٍ فَرَأَيْتُ فِي [ ص 339
] عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ازْوِرَارًا عَنْ سَرِيرِ صَاحِبَيْهِ "
فَقُلْت : " عَمّ هَذَا ؟ " فَقِيلَ لِي : مَضَيَا وَتَرَدّدَ عَبْدُ
اللّهِ بَعْضَ التّرَدّدِ ثُمّ مَضَى . وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ
ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ جُدْعَانَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُثّلَ لِي جَعْفَرٌ
وَزَيْدٌ وَابْنُ رَوَاحَةَ فِي خَيْمَةٍ مِنْ دُرّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
عَلَى سَرِيرٍ فَرَأَيْتُ زَيْدًا وَابْنَ رَوَاحَةَ فِي أَعْنَاقِهِمَا
صُدُودٌ وَرَأَيْتُ جَعْفَرًا مُسْتَقِيمًا لَيْسَ فِيهِ صُدُودٌ قَالَ
فَسَأَلْتُ أَوْ قِيلَ لِي : إنّهُمَا حِينَ غَشِيَهُمَا الْمَوْتُ
أَعْرَضَا أَوْ كَأَنّهُمَا صَدّا بِوُجُوهِهِمَا وَأَمّا جَعْفَرٌ
فَإِنّهُ لَمْ يَفْعَلْ وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي جَعْفَرٍ إنّ اللّهَ أَبْدَلَهُ بِيَدَيْهِ جَنَاحَيْنِ
يَطِيرُ بِهِمَا فِي الْجَنّةِ حَيْثُ شَاءَ
[ جِرَاحَاتُ جَعْفَرٍ ]
قَالَ
أَبُو عُمَرَ وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ وَجَدْنَا مَا
بَيْنَ صَدْرِ جَعْفَرٍ وَمَنْكِبَيْهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْهُ تِسْعِينَ
جِرَاحَةً مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِالسّيْفِ وَطَعْنَةٍ بِالرّمْحِ
[ إخْبَارُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَسُولَ مُؤْتَةَ عَمّا حَدَثَ فِيهَا ]
وَقَالَ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ : قَدِمَ يَعْلَى بْنُ منية عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِخَبَرِ أَهْلِ مُؤْتَةَ فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ شِئْتَ فَأَخْبِرْنِي
وَإِنْ شِئْتَ أَخْبَرْتُكَ قَالَ أَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللّهِ
فَأَخْبَرَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَبَرَهُمْ كُلّهُ
وَوَصَفَهُمْ لَهُ فَقَالَ وَاَلّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ مَا تَرَكْتَ
مِنْ حَدِيثِهِمْ حَرْفًا وَاحِدًا لَمْ تَذْكُرْهُ وَإِنّ أَمْرَهُمْ
لَكَمَا ذَكَرْت فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ "
إنّ اللّهَ رَفَعَ لِي الْأَرْضَ حَتّى رَأَيْتُ مُعْتَرَكَهُمْ
[ شُهَدَاءُ مُؤْتَةَ ]
وَاسْتُشْهِدَ
يَوْمَئِذٍ جَعْفَرٌ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ [ ص 340 ] وَمَسْعُودُ بْنُ الْأَوْسِ وَوَهْبُ بْنُ سَعْدِ
بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَعَبّادُ بْنُ قَيْسٍ وَحَارِثَةُ بْنُ النّعْمَانِ
وَسُرَاقَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطِيّةَ وَأَبُو كُلَيْبٍ وَجَابِرٌ
ابْنَا عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ وَعَامِرٌ وَعَمْرٌو ابْنَا سَعِيدِ بْنِ
الْحَارِثِ وَغَيْرُهُمْ .
[ إنْشَادُ ابْنِ رَوَاحَةَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنّهُ
حُدّثَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ كُنْتُ يَتِيمًا لِعَبْدِ اللّهِ
بْنِ رَوَاحَةَ فِي حِجْرِهِ فَخَرَجَ بِي فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ مُرْدِفِي
عَلَى حَقِيبَةِ رَحْلِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَيَسِيرُ لَيْلَةً إذْ
سَمِعْتُهُ وَهُوَ يُنْشِدُ
إذَا أَدْنَيْتِنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي
مَسِيرَةَ أَرْبَعٍ بَعْدَ الْحِسَاءِ
فَشَأْنَكِ فَانْعَمِي وَخَلَاكِ ذَمّ
وَلَا أَرْجِعْ إلَى أَهْلِي وَرَائِي
وَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ وَغَادَرُونِي
بِأَرْضِ الشّامِ مُسْتَنْهَى الثّوَاءِ
فَصْلٌ [ وَهْمٌ فِي التّرْمِذِيّ بِإِنْشَادِ ابْنِ رَوَاحَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ ]
وَقَدْ
وَقَعَ فِي التّرْمِذِيّ وَغَيْرِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ مَكّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ
رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ يُنْشِدُ . خَلّوا بَنِي الْكُفّارِ عَنْ
سَبِيلِهِ
الْأَبْيَاتَ . وَهَذَا وَهْمٌ فَإِنّ ابْنَ رَوَاحَةَ
قُتِلَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَهِيَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِأَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ وَإِنّمَا كَانَ يُنْشَدُ بَيْنَ يَدَيْهِ شِعْرُ ابْنِ
رَوَاحَةَ وَهَذَا مِمّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ النّقْلِ .
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السّلَاسِلِ
وَهِيَ
وَرَاءَ وَادِي الْقُرَى بِضَمّ السّينِ الْأُولَى وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ
وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ [ ص 341 ] الْمَدِينَةِ عَشَرَةُ أَيّامٍ وَكَانَتْ
فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ . قَالَ ابْنُ سَعْدٍ : بَلَغَ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ جَمْعًا مِنْ
قُضَاعَةَ قَدْ تَجَمّعُوا يُرِيدُونَ أَنْ يُدْنُوا إلَى أَطْرَافِ
الْمَدِينَةِ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً أَبْيَضَ وَجَعَلَ مَعَهُ
رَايَةً سَوْدَاءَ وَبَعَثَهُ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ سَرَاةِ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَعَهُمْ ثَلَاثُونَ فَرَسًا وَأَمَرَهُ
أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَنْ مَرّ بِهِ مِنْ بَلِيّ وَعُذْرَةَ وَبَلْقَيْنِ
فَسَارَ اللّيْلَ وَكَمَنَ النّهَارَ فَلَمّا قَرُبَ مِنْ الْقَوْمِ
بَلَغَهُ أَنّ لَهُمْ جَمْعًا كَثِيرًا فَبَعَثَ رَافِعَ بْنَ مَكِيثٍ
الْجُهَنِيّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَسْتَمِدّهُ فَبَعَثَ إلَيْهِ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرّاحِ فِي
مِائَتَيْنِ وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَبَعَثَ لَهُ سَرَاةَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ
بِعَمْرٍو وَأَنْ يَكُونَا جَمِيعًا وَلَا يَخْتَلِفَا فَلَمّا لَحِقَ
بِهِ أَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَؤُمّ النّاسَ فَقَالَ عَمْرٌو :
إنّمَا قَدِمْتَ عَلَيّ مَدَدًا وَأَنَا الْأَمِيرُ فَأَطَاعَهُ أَبُو
عُبَيْدَةَ فَكَانَ عَمْرٌو يُصَلّي بِالنّاسِ وَسَارَ حَتّى وَطِئَ
بِلَادَ قُضَاعَةَ فَدَوّخَهَا حَتّى أَتَى إلَى أَقْصَى بِلَادِهِمْ .
وَلَقِيَ فِي آخِرِ ذَلِكَ جَمْعًا فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ
فَهَرَبُوا فِي الْبِلَادِ وَتَفَرّقُوا وَبَعَثَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ
الْأَشْجَعِيّ بَرِيدًا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ بِقُفُولِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ وَمَا كَانَ فِي
غَزَاتِهِمْ . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ نُزُولَهُمْ عَلَى مَاءٍ لِجُذَامَ
يُقَالُ لَهُ السّلْسَلُ قَالَ وَبِذَلِكَ سُمّيَتْ ذَاتَ السّلَاسِلِ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ أَبِي عَدِيّ عَنْ
دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ جَيْشَ ذَاتِ السّلَاسِلِ فَاسْتَعْمَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى
الْمُهَاجِرِينَ وَاسْتَعْمَلَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى الْأَعْرَابِ
وَقَالَ لَهُمَا : " تَطَاوَعَا " قَالَ وَكَانُوا أُمِرُوا أَنْ
يُغِيرُوا عَلَى بَكْرٍ فَانْطَلَقَ عَمْرٌو وَأَغَارَ عَلَى قُضَاعَةَ
لِأَنّ بَكْرًا أَخْوَالُهُ قَالَ فَانْطَلَقَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ
إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ اسْتَعْمَلَك عَلَيْنَا وَإِنّ ابْنَ فُلَانٍ قَدْ اتّبَعَ
أَمْرَ الْقَوْمِ فَلَيْسَ لَك [ ص 342 ] فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : إنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَنَا أَنْ
نَتَطَاوَعَ فَأَنَا أُطِيعُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَإِنْ عَصَاهُ عَمْرٌو .
فَصْلٌ [ قِصّةُ تَيَمّمِ ابْنِ الْعَاصِ مِنْ الْجَنَابَةِ ]
وَفِي
هَذِهِ الْغَزْوَةِ احْتَلَمَ أَمِيرُ الْجَيْشِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ
وَكَانَتْ لَيْلَةً بَارِدَةً فَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَاءِ
فَتَيَمّمَ وَصَلّى بِأَصْحَابِهِ الصّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا عَمْرُو صَلّيْتَ
بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ ؟ " . فَأَخْبَرَهُ بِاَلّذِي مَنَعَهُ
مِنْ الِاغْتِسَالِ وَقَالَ إنّي سَمِعْتُ اللّهَ يَقُولُ { وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [ النّسَاءَ
29 ] فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ
يَقُلْ شَيْئًا وَقَدْ احْتَجّ بِهَذِهِ الْقِصّةِ مَنْ قَالَ إنّ
التّيَمّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ سَمّاهُ جُنُبًا بَعْدَ تَيَمّمِهِ وَأَجَابَ مَنْ نَازَعَهُمْ
فِي ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ أَحَدُهَا : أَنّ الصّحَابَةَ لَمّا
شَكَوْهُ قَالُوا : صَلّى بِنَا الصّبْحَ وَهُوَ جُنُبٌ فَسَأَلَهُ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ صَلّيْتَ
بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ ؟ اسْتِفْهَامًا وَاسْتِعْلَامًا فَلَمّا
أَخْبَرَهُ بِعُذْرِهِ وَأَنّهُ تَيَمّمَ لِلْحَاجَةِ أَقَرّهُ عَلَى
ذَلِكَ . الثّانِي : أَنّ الرّوَايَةَ اخْتَلَفَتْ عَنْهُ فَرُوِيَ عَنْهُ
فِيهَا أَنّهُ غَسَلَ مَغَابِنَهُ وَتَوَضّأَ وُضُوءَهُ لِلصّلَاةِ ثُمّ
صَلّى بِهِمْ وَلَمْ يُذْكَرْ التّيَمّمُ وَكَأَنّ هَذِهِ الرّوَايَةَ
أَقْوَى مِنْ رِوَايَةِ التّيَمّمِ قَالَ عَبْدُ الْحَقّ وَقَدْ ذَكَرَهَا
وَذَكَرَ رِوَايَةَ التّيَمّمِ قَبْلَهَا ثُمّ قَالَ وَهَذَا أَوْصَلُ
مِنْ الْأَوّلِ لِأَنّهُ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ
الْمِصْرِيّ عَنْ أَبِي الْقَيْسِ مَوْلَى [ ص 343 ] وَالْأُولَى الّتِي
فِيهَا التّيَمّمُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا أَبَا قَيْسٍ .
الثّالِثُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرَادَ أَنْ
يَسْتَعْلِمَ فِقْهَ عَمْرٍو فِي تَرْكِهِ الِاغْتِسَالَ فَقَالَ لَهُ
صَلّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ ؟ فَلَمّا أَخْبَرَهُ أَنّهُ
تَيَمّمَ لِلْحَاجَةِ عَلِمَ فِقْهَهُ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وَيَدُلّ
عَلَيْهِ أَنّ مَا فَعَلَهُ عَمْرٌو مِنْ التّيَمّمِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ
- خَشْيَةَ الْهَلَاكِ بِالْبَرْدِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ وَالصّلَاةُ
بِالتّيَمّمِ فِي هَذِهِ الْحَالِ جَائِزَةٌ غَيْرُ مُنْكَرٍ عَلَى
فَاعِلِهَا فَعُلِمَ أَنّهُ أَرَادَ اسْتِعْلَامَ فِقْهِهِ وَعِلْمِهِ .
وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي سَرِيّةِ الْخَبَطِ
وَكَانَ
أَمِيرُهَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَكَانَتْ فِي رَجَبَ سَنَةَ
ثَمَانٍ فِيمَا أَنْبَأَنَا بِهِ الْحَافِظُ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمّدُ
بْنُ سَيّدِ النّاسِ فِي كِتَابِ " عُيُونِ الْأَثَرِ " لَهُ وَهُوَ
عِنْدِي وَهْمٌ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . قَالُوا :
بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ
بْنَ الْجَرّاحِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ وَفِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ إلَى حَيّ مِنْ
جُهَيْنَةَ بِالْقِبْلِيّةِ مِمّا يَلِي سَاحِلَ الْبَحْرِ وَبَيْنَهَا
وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ خَمْسُ لَيَالٍ فَأَصَابَهُمْ فِي الطّرِيقِ جُوعٌ
شَدِيدٌ فَأَكَلُوا الْخَبَطَ وَأَلْقَى إلَيْهِمْ الْبَحْرُ حُوتًا
عَظِيمًا فَأَكَلُوا مِنْهُ ثُمّ انْصَرَفُوا وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا
وَفِي هَذَا نَظَرٌ فَإِنّ فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ
قَالَ " بَعَثَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ أَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ
نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتّى أَكَلْنَا
الْخَبَطَ فَسُمّيَ جَيْشَ الْخَبَطِ فَنَحَرَ رَجُلٌ ثَلَاثَ جَزَائِرَ
ثُمّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ ثُمّ إنّ
أَبَا عُبَيْدَةَ نَهَاهُ فَأَلْقَى إلَيْنَا الْبَحْرُ دَابّةً يُقَالُ
لَهَا : الْعَنْبَرُ فَأَكَلْنَا مِنْهَا نِصْفَ شَهْرٍ وَادّهَنّا مِنْ
وَدَكِهَا حَتّى [ ص 344 ] وَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلْعًا مِنْ
أَضْلَاعِهِ فَنَظَرَ إلَى أَطْوَلِ رَجُلٍ فِي الْجَيْشِ وَأَطْوَلِ
جَمَلٍ فَحُمِلَ عَلَيْهِ وَمَرّ تَحْتَهُ وَتَزَوّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ
وَشَائِقَ فَلَمّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ هُوَ رِزْقٌ
أَخْرَجَهُ اللّهُ لَكُمْ فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ
تُطْعِمُونَا ؟ فَأَرْسَلْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْهُ فَأَكَلَ .
[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ أَنّهَا قَبْلَ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَيْسَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ ]
قُلْتُ
وَهَذَا السّيَاقُ يَدُلّ عَلَى أَنّ هَذِهِ الْغَزْوَةَ كَانَتْ قَبْلَ
الْهُدْنَةِ وَقَبْلَ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ فَإِنّهُ مِنْ حِينِ
صَالَحَ أَهْلَ مَكّة َ بِالْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَكُنْ يَرْصُدُ لَهُمْ
عِيرًا بَلْ كَانَ زَمَنَ أَمْنٍ وَهُدْنَةٍ إلَى حِينِ الْفَتْحِ
وَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ سَرِيّةُ الْخَبَطِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ
مَرّتَيْنِ مَرّةً قَبْلَ الصّلْحِ وَمَرّةً بَعْدَهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي فِقْهِ هَذِهِ الْقِصّةِ
لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ غَزَا فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ
وَلَا أَغَارَ فِيهِ وَلَا بَعَثَ فِيه
سَرِيّةً
فَفِيهَا جَوَازُ الْقِتَالِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ إنْ كَانَ ذِكْرُ
التّارِيخِ فِيهَا بِرَجَبَ مَحْفُوظًا وَالظّاهِرُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ
- أَنّهُ وَهْمٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ إذْ لَمْ يُحْفَظْ عَنْ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ غَزَا فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ وَلَا
أَغَارَ فِيهِ وَلَا بَعَثَ فِيهِ سَرِيّةً وَقَدْ عَيّرَ الْمُشْرِكُونَ
الْمُسْلِمِينَ بِقِتَالِهِمْ فِي أَوّلِ رَجَبَ فِي قِصّةِ الْعَلَاءِ
بْنِ الْحَضْرَمِيّ فَقَالُوا : اسْتَحَلّ مُحَمّدٌ الشّهْرَ الْحَرَامَ
وَأَنْزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ
قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } الْآيَةَ [ الْبَقَرَةَ 217 ]
وَلَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ هَذَا بِنَصّ [ ص 345 ] الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَلَا
أَجْمَعَتْ الْأُمّةُ عَلَى نَسْخِهِ وَقَدْ اُسْتُدِلّ عَلَى تَحْرِيمِ
الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا
انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التّوْبَةَ 5 ] وَلَا حُجّةَ فِي هَذَا لِأَنّ
الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ هَا هُنَا هِيَ أَشْهُرُ التّسْيِيرِ الْأَرْبَعَةِ
الّتِي سَيّرَ اللّهُ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ فِي الْأَرْضِ يَأْمَنُونَ
فِيهَا وَكَانَ أَوّلُهَا يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ عَاشِرَ ذِي
الْحِجّةِ وَآخِرُهَا عَاشِرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ هَذَا هُوَ الصّحِيحُ فِي
الْآيَةِ لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا . وَفِيهَا :
جَوَازُ أَكْلِ وَرَقِ الشّجَرِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَكَذَلِكَ عُشْبُ
الْأَرْضِ . وَفِيهَا : جَوَازُ نَهْيِ الْإِمَامِ وَأَمِيرِ الْجَيْشِ
لِلْغُزَاةِ عَنْ نَحْرِ ظُهُورِهِمْ وَإِنْ احْتَاجُوا إلَيْهِ خَشْيَةَ
أَنْ يَحْتَاجُوا إلَى ظَهْرِهِمْ عِنْدَ لِقَاءِ عَدُوّهِمْ وَيَجِبُ
عَلَيْهِمْ الطّاعَةُ إذَا نَهَاهُمْ .
[ جَوَازُ أَكْلِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ ]
وَفِيهَا
: جَوَازُ أَكْلِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ وَأَنّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي
قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدّمُ } [
الْمَائِدَةَ 3 ] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أُحِلّ لَكُمْ صَيْدُ
الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ } [ الْمَائِدَةَ 5 ] وَقَدْ صَحّ
عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ وَجَمَاعَةٍ
مِنْ الصّحَابَةِ أَنّ صَيْدَ الْبَحْرِ مَا صِيدَ مِنْهُ وَطَعَامَهُ مَا
مَاتَ فِيهِ وَفِي السّنَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا :
أُحِلّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمّا الْمَيْتَتَانِ فَالسّمَكُ
وَالْجَرَادُ وَأَمّا الدّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطّحَالُ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَهَذَا الْمَوْقُوفُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ لِأَنّ قَوْلَ الصّحَابِيّ
أُحِلّ لَنَا كَذَا وَحُرّمَ [ ص 346 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَتَحْرِيمِهِ . فَإِنْ قِيلَ فَالصّحَابَةُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ
كَانُوا مُضْطَرّينَ وَلِهَذَا لَمّا هَمّوا بِأَكْلِهَا قَالُوا : إنّهَا
مَيْتَةٌ وَقَالُوا : نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَنَحْنُ مُضْطَرّونَ فَأَكَلُوا وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُمْ
لَوْ كَانُوا مُسْتَغْنِينَ عَنْهَا لَمَا أَكَلُوا مِنْهَا . قِيلَ لَا
رَيْبَ أَنّهُمْ كَانُوا مُضْطَرّينَ وَلَكِنْ هَيّأَ اللّهُ لَهُمْ مِنْ
الرّزْقِ أَطْيَبَهُ وَأَحَلّهُ وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ قَدِمُوا : " هَلْ بَقِيَ مَعَكُمْ
مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ ؟ " قَالُوا : نَعَمْ فَأَكَلَ مِنْهُ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ " إنّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ
اللّهُ لَكُمْ " وَلَوْ كَانَ هَذَا رِزْقَ مُضْطَرّ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ
ثُمّ لَوْ كَانَ أَكْلُهُمْ مِنْهَا لِلضّرُورَةِ فَكَيْفَ سَاغَ لَهُمْ
أَنْ يَدّهِنُوا مِنْ وَدَكِهَا وَيُنَجّسُوا بِهِ ثِيَابَهُمْ
وَأَبْدَانَهُمْ وَأَيْضًا فَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يُجَوّزُ
الشّبَعَ مِنْ الْمَيْتَةِ إنّمَا يُجَوّزُونَ مِنْهَا سَدّ الرّمَقِ
وَالسّرِيّةُ أَكَلَتْ مِنْهَا حَتّى ثَابَتْ إلَيْهِمْ أَجْسَامُهُمْ
وَسَمِنُوا وَتَزَوّدُوا مِنْهَا . فَإِنْ قِيلَ إنّمَا يَتِمّ لَكُمْ
الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْقِصّةِ إذَا كَانَتْ تِلْكَ الدّابّةُ قَدْ
مَاتَتْ فِي الْبَحْرِ ثُمّ أَلْقَاهَا مَيْتَةً وَمِنْ الْمَعْلُومِ
أَنّهُ كَمَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْبَحْرُ قَدْ
جَزَرَ عَنْهَا وَهِيَ حَيّةٌ فَمَاتَتْ بِمُفَارَقَةِ الْمَاءِ وَذَلِكَ
ذَكَاتُهَا وَذَكَاةُ حَيَوَانِ الْبَحْرِ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِ
هَذَا الِاحْتِمَالِ كَيْفَ وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ فَجَزَرَ
الْبَحْرُ عَنْ حُوتٍ كَالظّرِبِ قِيلَ هَذَا الِاحْتِمَالُ مَعَ بُعْدِهِ
جِدّا فَإِنّهُ يَكَادُ يَكُونُ خَرْقًا لِلْعَادَةِ فَإِنّ مِثْلَ هَذِهِ
الدّابّةِ إذَا كَانَتْ حَيّةً إنّمَا تَكُونُ فِي لُجّةِ الْبَحْرِ
وَثَبَجِهِ دُونَ سَاحِلِهِ وَمَا رَقّ مِنْهُ وَدَنَا مِنْ الْبَرّ
وَأَيْضًا فَإِنّهُ لَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي الْحِلّ لِأَنّهُ إذَا شُكّ
فِي السّبَبِ الّذِي مَاتَ بِهِ الْحَيَوَانُ هَلْ هُوَ سَبَبٌ مُبِيحٌ
لَهُ أَوْ غَيْرُ مُبِيحٍ ؟ لَمْ يَحِلّ الْحَيَوَانُ كَمَا قَالَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّيْدِ يُرْمَى بِالسّهْمِ
ثُمّ يُوجَدُ فِي الْمَاءِ وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا
تَأْكُلْهُ فَإِنّكَ لَا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُك فَلَوْ
كَانَ الْحَيَوَانُ الْبَحْرِيّ حَرَامًا إذَا مَاتَ فِي الْبَحْرِ لَمْ
يُبَحْ . وَهَذَا مِمّا لَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْأَئِمّةِ .
وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ النّصُوصُ مَعَ الْمُبِيحِينَ
لَكَانَ الْقِيَاسُ الصّحِيحُ [ ص 347 ] الْمَيْتَةَ إنّمَا حُرّمَتْ
لِاحْتِقَانِ الرّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ وَالدّمِ الْخَبِيثِ فِيهَا
وَالذّكَاةُ لَمّا كَانَتْ تُزِيلُ ذَلِكَ الدّمَ وَالْفَضَلَاتِ كَانَتْ
سَبَبَ الْحِلّ وَإِلّا فَالْمَوْتُ لَا يَقْتَضِي التّحْرِيمَ فَإِنّهُ
حَاصِلٌ بِالذّكَاةِ كَمَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهَا وَاذَا لَمْ يَكُنْ فِي
الْحَيَوَانِ دَمٌ وَفَضَلَاتٌ تُزِيلُهَا الذّكَاةُ لَمْ يُحَرّمْ
بِالْمَوْتِ وَلَمْ يُشْتَرَطْ لِحِلّهِ ذَكَاةٌ كَالْجَرَادِ وَلِهَذَا
لَا يُنَجّسُ بِالْمَوْتِ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كَالذّبَابِ
وَالنّحْلَةِ وَنَحْوِهِمَا وَالسّمَكُ مِنْ هَذَا الضّرْبِ فَإِنّهُ لَوْ
كَانَ لَهُ دَمٌ وَفَضَلَاتٌ تَحْتَقِنُ بِمَوْتِهِ لَمْ يَحِلّ
لِمَوْتِهِ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ وَلَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ مَوْتِهِ فِي
الْمَاءِ وَمَوْتِهِ خَارِجَهُ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ مَوْتَهُ فِي
الْبَرّ لَا يُذْهِبُ تِلْكَ الْفَضَلَاتِ الّتِي تُحَرّمُهُ عِنْدَ
الْمُحَرّمِينَ إذَا مَاتَ فِي الْبَحْرِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي
الْمَسْأَلَةِ نُصُوصٌ لَكَانَ هَذَا الْقِيَاسُ كَافِيًا وَاَللّهُ
أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي الْوَقَائِعِ فِي حَيَاتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَفِيهَا
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي الْوَقَائِعِ فِي حَيَاةِ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِقْرَارِهِ عَلَى ذَلِكَ
لَكِنّ هَذَا كَانَ فِي حَالِ الْحَاجَةِ إلَى الِاجْتِهَادِ وَعَدَمِ
تَمَكّنِهِمْ مِنْ مُرَاجَعَةِ النّصّ وَقَدْ اجْتَهَدَ أَبُو بَكْرٍ
وَعُمَر ُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِدّةٍ مِنْ الْوَقَائِعِ وَأَقَرّهُمَا
عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ فِي قَضَايَا جُزْئِيّةٍ مُعَيّنَةٍ لَا فِي
أَحْكَامٍ عَامّةٍ وَشَرَائِعَ كُلّيّةٍ فَإِنّ هَذَا لَمْ يَقَعْ مِنْ
أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ فِي حُضُورِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْبَتّةَ .
فَصْلٌ فِي الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ
الّذِي أَعَزّ
اللّهُ بِهِ دِينَهُ وَرَسُولَهُ وَجُنْدَهُ وَحِزْبَهُ الْأَمِينَ
وَاسْتَنْقَذَ بِهِ بَلَدَهُ وَبَيْتَهُ الّذِي جَعَلَهُ هُدًى
لِلْعَالَمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَهُوَ
الْفَتْحُ الّذِي اسْتَبْشَرَ بِهِ أَهْلُ السّمَاءِ وَضَرَبَتْ أَطْنَابُ
عِزّهِ عَلَى مَنَاكِبِ الْجَوْزَاءِ وَدَخَلَ النّاسُ بِهِ فِي دِينِ
اللّهِ أَفْوَاجًا وَأَشْرَقَ بِهِ وَجْهُ الْأَرْضِ ضِيَاءً
وَابْتِهَاجًا خَرَجَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِكَتَائِبِ الْإِسْلَامِ وَجُنُودِ الرّحْمَنِ سَنَةَ ثَمَانٍ لِعَشَرٍ
مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا رُهْمٍ
كُلْثُوم َ بْنَ حُصَيْنٍ الْغِفَارِيّ . وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ : بَلْ
اسْتَعْمَلَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُمّ مَكْتُومٍ [ ص 348 ]
[سَبَبُهُ هُوَ إعَانَةُ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ الدّاخِلَةِ فِي عَهْدِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ]
وَكَانَ
السّبَبُ الّذِي جَرّ إلَيْهِ وَحَدَا إلَيْهِ فِيمَا ذَكَرَ إمَامُ
أَهْلِ السّيَرِ وَالْمَغَازِي وَالْأَخْبَارِ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ
بْنِ يَسَارٍ أَنّ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ ابْنِ كِنَانَةَ
عَدَتْ عَلَى خُزَاعَةَ وَهُمْ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ الْوَتِيرُ :
فَبَيّتُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَكَانَ الّذِي هَاجَ ذَلِكَ أَنّ
رَجُلًا مِنْ بَنِي الْحَضْرَمِيّ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ عَبّادٍ
خَرَجَ تَاجِرًا فَلَمّا تَوَسّطَ أَرْضَ خُزَاعَةَ عَدَوْا عَلَيْهِ
فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَالَهُ فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ مِنْ
بَنِي خُزَاعَةَ فَقَتَلُوهُ فَعَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى بَنِي الْأَسْوَدِ
وَهُمْ سَلْمَى وَكُلْثُومٌ وَذُؤَيْبٌ فَقَتَلُوهُمْ بِعَرَفَةَ عِنْدَ
أَنْصَابِ الْحَرَمِ هَذَا كُلّهُ قَبْلَ الْمَبْعَثِ فَلَمّا بُعِثَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَاءَ الْإِسْلَامُ
حَجَزَ بَيْنَهُمْ وَتَشَاغَلَ النّاسُ بِشَأْنِهِ فَلَمّا كَانَ صُلْحُ
الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَبَيْنَ قُرَيْشٍ وَقَعَ الشّرْطُ أَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي
عَقْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَهْدِهِ فَعَلَ
وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ فَعَلَ
فَدَخَلَتْ بَنُو بَكْر ٍ فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ وَدَخَلَتْ
خُزَاعَةُ فِي عَقْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَعَهْدِهِ فَلَمّا اسْتَمَرّتْ الْهُدْنَةُ اغْتَنَمَهَا بَنُو بَكْرٍ
مِنْ خُزَاعَةَ وَأَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ الثّأْرَ الْقَدِيمَ
[ خُرُوجُ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّ لِطَلَبِ النّصْرَةِ مِنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم]
فَخَرَجَ
نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدّيْلِيّ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي بَكْر ٍ
فَبَيّتَ خُزَاعَةَ وَهُمْ عَلَى الْوَتِيرِ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ
رِجَالًا وَتَنَاوَشُوا وَاقْتَتَلُوا وَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ بَنِي بَكْرٍ
بِالسّلَاحِ وَقَاتَلَ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مَنْ قَاتَلَ مُسْتَخْفِيًا
لَيْلًا ذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْهُمْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ
وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى وَمِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ حَتّى حَازَوْا
خُزَاعَةَ إلَى الْحَرَمِ فَلَمّا انْتَهَوْا إلَيْهِ قَالَتْ بَنُو بَكْر
ٍ يَا نَوْفَلُ إنّا قَدْ دَخَلْنَا الْحَرَمَ إلَهَك إلَهَك . فَقَالَ
كَلِمَةً عَظِيمَةً لَا إلَهَ لَهُ الْيَوْمَ يَا بَنِي بَكْرٍ أَصِيبُوا
ثَأْرَكُمْ فَلَعَمْرِي إنّكُمْ لَتُسْرَقُونَ فِي الْحَرَمِ أَفَلَا
تُصِيبُونَ ثَأْرَكُمْ فِيهِ ؟ فَلَمّا دَخَلَتْ خُزَاعَةُ مَكّةَ
لَجَئُوا إلَى دَارِ بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ وَدَارِ
مَوْلًى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ رَافِعٌ وَيَخْرُجُ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ
الْخُزَاعِيّ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ
بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ
يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا
حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمُ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا
ثُمّتَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللّهُ نَصْرًا أَبَدَا
وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا
أَبْيَضَ مِثْلَ الْبَدْرِ يَسْمُو صُعُدَا
إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا
إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكّدَا
وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رَصَدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدَا
وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدَا
وَقَتَلُونَا
رُكّعًا وَسُجّدَا [ ص 349 ] فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ نُصِرْتَ يَا عَمْرُو بْنَ سَالِمٍ ثُمّ عَرَضَتْ
سَحَابَةٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّ
هَذِهِ السّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ ثُمّ خَرَجَ
بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَةَ حَتّى قَدِمُوا عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا
أُصِيبَ مِنْهُمْ وَبِمُظَاهَرَةِ قُرَيْشٍ بَنِي بَكْرٍ عَلَيْهِمْ ثُمّ
رَجَعُوا إلَى مَكّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِلنّاسِ كَأَنّكُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ وَقَدْ جَاءَ لِيَشُدّ
الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدّةِ . وَمَضَى بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ فِي
أَصْحَابِهِ حَتّى لَقُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ بِعُسْفَانَ وَقَدْ
بَعَثَتْهُ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِيَشُدّ الْعَقْدَ وَيَزِيدَ فِي الْمُدّةِ وَقَدْ رَهِبُوا الّذِي
صَنَعُوا فَلَمّا لَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ قَالَ
مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْت يَا بُدَيْلُ ؟ فَظَنّ أَنّهُ أَتَى النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ سِرْتُ فِي خُزَاعَةَ فِي هَذَا
السّاحِلِ وَفِي بَطْنِ هَذَا الْوَادِي قَالَ أَوَمَا جِئْتَ مُحَمّدًا ؟
قَالَ لَا فَلَمّا رَاحَ بُدَيْلٌ إلَى مَكّةَ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ :
لَئِنْ كَانَ جَاءَ الْمَدِينَةَ لَقَدْ عَلَفَ بِهَا النّوَى فَأَتَى
مَبْرَكَ رَاحِلَتِهِ فَأَخَذَ مِنْ بَعْرِهَا فَفَتّهُ فَرَأَى فِيهَا
النّوَى فَقَالَ أَحْلِفُ بِاَللّهِ لَقَدْ جَاءَ بُدَيْلٌ مُحَمّدًا .
[خُرُوجُ أَبِي سُفْيَانَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيُثَبّتَ الْعَقْدَ وَرُجُوعُهُ بِالْخَيْبَةِ ]
[
ص 350 ] خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ عَلَى
ابْنَتِهِ أُمّ حَبِيبَةَ فَلَمّا ذَهَبَ لِيَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَوَتْهُ عَنْهُ فَقَالَ
يَا بُنَيّةُ مَا أَدْرِي أَرَغِبْت بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ أَمْ
رَغِبْت بِهِ عَنّي ؟ قَالَتْ بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنْتَ مُشْرِكٌ نَجَسٌ فَقَالَ وَاَللّهِ
لَقَدْ أَصَابَك بَعْدِي شَرّ . ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَلّمَهُ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ
شَيْئًا ثُمّ ذَهَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَكَلّمَهُ أَنْ يُكَلّمَ لَهُ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَا أَنَا
بِفَاعِلٍ ثُمّ أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فَكَلّمَهُ فَقَالَ أَنَا
أَشْفَعُ لَكُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟
فَوَاَللّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إلّا الذّرّ لَجَاهَدْتُكُمْ بِهِ ثُمّ
جَاءَ فَدَخَلَ عَلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ
وَحَسَنٌ غُلَامٌ يَدِبّ بَيْنَ يَدَيْهِمَا فَقَالَ يَا عَلِيّ إنّك
أَمَسّ الْقَوْمِ بِي رَحِمًا وَإِنّي قَدْ جِئْتُ فِي حَاجَةٍ فَلَا
أَرْجِعَنّ كَمَا جِئْتُ خَائِبًا اشْفَعْ لِي إلَى مُحَمّدٍ فَقَالَ
وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ وَاَللّهِ لَقَدْ عَزَمَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ
نُكَلّمَهُ فِيهِ فَالْتَفَتَ إلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ " هَلْ لَكِ أَنْ
تَأْمُرِي ابْنَك هَذَا فَيُجِيرُ بَيْنَ النّاسِ فَيَكُونَ سَيّدَ
الْعَرَبِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ ؟ قَالَتْ وَاَللّهِ مَا يَبْلُغُ ابْنِي
ذَاكَ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النّاسِ وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَا أَبَا الْحَسَن ِ إنّي
أَرَى الْأُمُورَ قَدْ اشْتَدّتْ عَلَيّ فَانْصَحْنِي قَالَ وَاَللّهِ مَا
أَعْلَمُ لَك شَيْئًا يُغْنِي عَنْك وَلَكِنّك سَيّدُ بَنِي كِنَانَة َ
فَقُمْ فَأَجِرْ بَيْنَ النّاسِ ثُمّ الْحَقْ بِأَرْضِك قَالَ أَوَتَرَى
ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنّي شَيْئًا قَالَ لَا وَاَللّهِ مَا أَظُنّهُ
وَلَكِنّي مَا أَجِدُ لَك غَيْرَ ذَلِكَ فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي
الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّي قَدْ أَجَرْت بَيْنَ النّاسِ
ثُمّ رَكِبَ بَعِيرَهُ فَانْطَلَقَ فَلَمّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا
: مَا وَرَاءَك ؟ قَالَ جِئْت مُحَمّدًا فَكَلّمْته فَوَاَللّهِ مَا رَدّ
عَلَيّ شَيْئًا ثُمّ جِئْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ
خَيْرًا ثُمّ جِئْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فَوَجَدْته أَعْدَى الْعَدُوّ
ثُمّ جِئْت عَلِيّا فَوَجَدْته أَلْيَنَ الْقَوْمِ قَدْ أَشَارَ عَلَيّ
بِشَيْءٍ صَنَعْته فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِي هَلْ يُغْنِي عَنّي شَيْئًا
أَمْ لَا ؟ قَالُوا : وَبِمَ أَمَرَك ؟ قَالَ أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ
بَيْنَ النّاسِ فَفَعَلْت فَقَالُوا : فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمّدٌ ؟
قَالَ لَا . قَالُوا : وَيْلَك [ ص 351 ] زَادَ الرّجُلُ عَلَى أَنْ
لَعِبَ بِك قَالَ لَا وَاَللّهِ مَا وَجَدْت غَيْرَ ذَلِكَ .
[ تَجْهِيزُ الْجَيْشِ ]
وَأَمَرَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ بِالْجَهَازِ
وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُجَهّزُوهُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى
ابْنَتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَهِيَ تُحَرّكُ بَعْضَ
جَهَازِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَيْ
بُنَيّةَ أَمَرَكُنّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِتَجْهِيزِهِ ؟ قَالَتْ نَعَمْ فَتَجَهّزَ قَالَ فَأَيْنَ تَرَيْنَهُ
يُرِيدُ قَالَتْ لَا وَاَللّهِ مَا أَدْرِي . ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْلَمَ النّاسَ أَنّهُ سَائِرٌ إلَى
مَكّةَ فَأَمَرَهُمْ بِالْجِدّ وَالتّجْهِيزِ وَقَالَ اللّهُمّ خُذْ
الْعُيُونَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتّى نَبْغَتَهَا فِي
بِلَادِهَا فَتَجَهّزَ النّاسُ .
كِتَابَةُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى قُرَيْشٍ بِمَسِيرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ
وَإِخْبَارُ الْوَحْيِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِذَلِكَ
فَكَتَبَ
حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى قُرَيْشٍ كِتَابًا يُخْبِرُهُمْ
بِمَسِيرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ ثُمّ
أَعْطَاهُ امْرَأَةً وَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تُبَلّغَهُ
قُرَيْشًا فَجَعَلَتْهُ فِي قُرُونٍ فِي رَأْسِهَا ثُمّ خَرَجَتْ بِهِ
وَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخَبَرُ مِنْ
السّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ فَبَعَثَ عَلِيّا وَالزّبَيْرَ . وَغَيْرُ
ابْنِ إسْحَاقَ يَقُولُ بَعَثَ عَلِيّا وَالْمِقْدَادَ وَالزّبَيْرَ
فَقَالَ انْطَلِقَا حَتّى تَأْتِيَا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنّ بِهَا
ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ إلَى قُرَيْشٍ فَانْطَلَقَا تَعَادَى بِهِمَا
خَيْلُهُمَا حَتّى وَجَدَا الْمَرْأَةَ بِذَلِكَ الْمَكَانِ
فَاسْتَنْزَلَاهَا وَقَالَا : مَعَكِ كِتَابٌ ؟ فَقَالَتْ مَا مَعِي
كِتَابٌ فَفَتّشَا رَحْلَهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا فَقَالَ لَهَا عَلِيّ
- رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَحْلِفُ بِاَللّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا كَذَبْنَا وَاَللّهِ لَتُخْرِجِنّ
الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرّدَنّكِ فَلَمّا رَأَتْ الْجِدّ مِنْهُ قَالَتْ
أَعْرِضْ فَأَعْرَضَ فَحَلّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا فَاسْتَخْرَجَتْ
الْكِتَابَ مِنْهَا فَدَفَعَتْهُ إلَيْهِمَا فَأَتَيَا بِهِ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ
أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَاطِبًا فَقَالَ مَا هَذَا يَا حَاطِبُ ؟
فَقَالَ لَا تَعْجَلْ عَلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ إنّي
لَمُؤْمِنٌ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا ارْتَدَدْت وَلَا بَدّلْت
وَلَكِنّي كُنْتُ امْرَءًا مُلْصَقًا [ ص 352 ] قُرَيْشٍ لَسْت مِنْ
أَنْفُسِهِمْ وَلِي فِيهِمْ أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ وَوَلَدٌ وَلَيْسَ لِي
فِيهِمْ قَرَابَةٌ يَحْمُونَهُمْ وَكَانَ مَنْ مَعَك لَهُمْ قَرَابَاتٌ
يَحْمُونَهُمْ فَأَحْبَبْتُ إذْ فَاتَنِي ذَلِكَ أَنْ أَتّخِذَ عِنْدَهُمْ
يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ :
دَعْنِي يَا رَسُولَ اللّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنّهُ قَدْ خَانَ اللّهَ
وَرَسُولَهُ وَقَدْ نَافَقَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إنّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ لَعَلّ
اللّهَ قَدْ اطّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ اللّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَهُوَ صَائِمٌ وَالنّاسُ صِيَامٌ حَتّى إذَا كَانُوا
بِالْكَدِيدِ - وَهُوَ الّذِي تُسَمّيهِ النّاسُ الْيَوْمَ قُدَيْدًا -
أَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النّاسُ مَعَهُ .
[ لِقَاؤُهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَبّاسَ وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ ابْنَ
عَمّهِ وَعَبْدَ اللّهِ ابْنَ أَبِي أُمَيّةَ ابْنَ عَمّتِهِ ]
ثُمّ
مَضَى حَتّى نَزَلَ مَرّ الظّهْرَانِ وَهُوَ بَطْنُ مَرّ وَمَعَهُ
عَشَرَةُ آلَافٍ وَعَمّى اللّهُ الْأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ فَهُمْ عَلَى
وَجَلٍ وَارْتِقَابٍ وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَخْرُجُ يَتَحَسّسُ
الْأَخْبَارَ فَخَرَجَ هُوَ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَبُدَيْلُ بْنُ
وَرْقَاءَ يَتَحَسّسُونَ الْأَخْبَارَ وَكَانَ الْعَبّاسُ قَدْ خَرَجَ
قَبْلَ ذَلِكَ بِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ مُسْلِمًا مُهَاجِرًا فَلَقِيَ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْجُحْفَةِ وَقِيلَ
فَوْقَ ذَلِكَ وَكَانَ مِمّنْ لَقِيَهُ فِي الطّرِيقِ ابْنُ عَمّهِ أَبُو
سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ لَقِيَاهُ
بِالْأَبْوَاءِ وَهُمَا ابْنُ عَمّهِ وَابْنُ عَمّتِهِ فَأَعْرَضَ
عَنْهُمَا لِمَا كَانَ يَلْقَاهُ مِنْهُمَا مِنْ شِدّةِ الْأَذَى
وَالْهَجْوِ فَقَالَتْ لَهُ أُمّ سَلَمَةَ لَا يَكُنْ ابْنُ عَمّكَ
وَابْنُ عَمّتِك أَشْقَى النّاسِ بِك وَقَالَ عَلِيّ لِأَبِي سُفْيَانَ
فِيمَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ ائْتِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ فَقُلْ لَهُ مَا قَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ
لِيُوسُفَ { تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنّا
لَخَاطِئِينَ } [ يُوسُفَ 91 ] [ ص 353 ] يَكُونَ أَحَدٌ أَحْسَنَ مِنْهُ
قَوْلًا فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ
يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ } [ يُوسُفَ 92 ]
فَأَنْشَدَهُ أَبُو سُفْيَانَ أَبْيَاتًا مِنْهَا :
لَعَمْرُك إنّي حِينَ أَحْمِلُ رَايَةً
لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللّاتِ خَيْلَ مُحَمّد
لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ
فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدَى فَأَهْتَدِي
هَدَانِي هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي وَدَلّنِي
عَلَى اللّهِ مَنْ طَرّدْتُ كُلّ مُطَرّد
فَضَرَبَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدْرَهُ وَقَالَ أَنْتَ
طَرّدْتَنِي كُلّ مُطَرّدٍ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَيُقَالُ
إنّهُ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مُنْذُ أَسْلَمَ حَيَاءً مِنْهُ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُحِبّهُ وَشَهِدَ لَهُ بِالْجَنّةِ وَقَالَ
أَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَلَفًا مِنْ حَمْزَةَ وَلَمّا حَضَرَتْهُ
الْوَفَاةُ قَالَ لَا تَبْكُوا عَلَيّ فَوَاَللّهِ مَا نَطَقْت
بِخَطِيئَةٍ مُنْذُ أَسْلَمْتُ
[إيقَادُ النّيرَانِ بِمَرّ الظّهْرَانِ ]
فَلَمّا
نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ الظّهْرَانِ
نَزَلَهُ عِشَاءً فَأَمَرَ الْجَيْشَ فَأَوْقَدُوا النّيرَانَ فَأُوقِدَتْ
عَشَرَةُ آلَافِ نَارٍ وَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلَى الْحَرَسِ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
[ لِقَاء الْعَبّاسِ أَبَا سُفْيَانَ وَرُكُوبُهُ مَعَهُ إلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَرَكِبَ
الْعَبّاسُ بَغْلَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْبَيْضَاءَ وَخَرَجَ يَلْتَمِسُ لَعَلّهُ يَجِدُ بَعْضَ الْحَطّابَةِ
أَوْ أَحَدًا يُخْبِرُ قُرَيْشًا لِيَخْرُجُوا يَسْتَأْمِنُونَ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عَنْوَةً
قَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَسِيرُ عَلَيْهَا إذْ سَمِعْتُ كَلَامَ أَبِي
سُفْيَانَ وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ وَأَبُو
سُفْيَانَ يَقُولُ مَا رَأَيْتُ كَاللّيْلَةِ [ ص 354 ] نِيرَانًا قَطّ
وَلَا عَسْكَرًا قَالَ يَقُولُ بُدَيْلٌ هَذِهِ وَاَللّهِ خُزَاعَةُ
حَمَشَتْهَا الْحَرْبُ فَيَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ خُزَاعَةُ أَقَلّ
وَأَذَلّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانَهَا وَعَسْكَرَهَا قَالَ
فَعَرَفْتُ صَوْتَهُ فَقُلْت : أَبَا حَنْظَلَةَ فَعَرَفَ صَوْتِي فَقَالَ
أَبَا الْفَضْل ِ ؟ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ مَا لَك فِدَاك أَبِي وَأُمّي ؟
قَالَ قُلْتُ هَذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
النّاسِ وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ وَاَللّهِ قَالَ فَمَا الْحِيلَةُ فِدَاك
أَبِي وَأُمّي ؟ قُلْت : وَاَللّهِ لَئِنْ ظَفِرَ بِك لَيَضْرِبَنّ
عُنُقَك فَارْكَبْ فِي عَجُزِ هَذِهِ الْبَغْلَةِ حَتّى آتِيَ بِكَ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْتَأْمِنُهُ لَك
فَرَكِبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ قَالَ فَجِئْتُ بِهِ فَكُلّمَا
مَرَرْتُ بِهِ عَلَى نَارٍ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا : " مَنْ
هَذَا ؟ " فَإِذَا رَأَوْا بَغْلَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَأَنَا عَلَيْهَا قَالُوا : عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ حَتّى مَرَرْتُ بِنَارِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطّابِ فَقَالَ مَنْ هَذَا ؟ وَقَامَ إلَيّ فَلَمّا رَأَى أَبَا
سُفْيَانَ عَلَى عَجُزِ الدّابّةِ قَالَ أَبُو سُفْيَان َ عَدُوّ اللّهِ
الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ
ثُمّ خَرَجَ يَشْتَدّ نَحْوَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَرَكَضْتُ الْبَغْلَةَ فَسَبَقَتْ فَاقْتَحَمْتُ عَنْ
الْبَغْلَةِ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا
أَبُو سُفْيَانَ فَدَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي قَدْ أَجَرْته ثُمّ جَلَسْتُ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخَذْتُ
بِرَأْسِهِ فَقُلْتُ وَاَللّهِ لَا يُنَاجِيهِ اللّيْلَةَ أَحَدٌ دُونِي
فَلَمّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِي شَأْنِهِ قُلْتُ مَهْلًا يَا عُمَرُ
فَوَاَللّهِ لَوْ كَانَ مِنْ رِجَالِ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْب ٍ مَا
قُلْتَ مِثْلَ هَذَا قَالَ مَهْلًا يَا عَبّاس ُ " فَوَاَللّهِ
لَإِسْلَامُكَ كَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ إسْلَامِ الْخَطّابِ لَوْ أَسْلَمَ
وَمَا بِي إلّا أَنّي قَدْ عَرَفْتُ أَنّ إسْلَامَكَ كَانَ أَحَبّ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ إسْلَامِ الْخَطّابِ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اذْهَبْ بِهِ يَا
عَبّاسُ إلَى رَحْلِك فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَأْتِنِي بِهِ فَذَهَبْت
فَلَمّا أَصْبَحْت غَدَوْتُ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَالَ " وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ
تَعْلَمَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ؟ " قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي
مَا أَحْلَمَك وَأَكْرَمَك وَأَوْصَلَك لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ
مَعَ اللّهِ إلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى شَيْئًا بَعْدُ قَالَ وَيْحَكَ
يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنّي رَسُولُ
اللّهِ ؟ " قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي مَا أَحْلَمَك وَأَكْرَمَك
وَأَوْصَلَك أَمّا هَذِهِ فَإِنّ فِي النّفْسِ حَتّى الْآنَ مِنْهَا
شَيْئًا فَقَالَ لَهُ الْعَبّاسُ وَيْحَكَ أَسْلِمْ وَاشْهَدْ أَنْ لَا
إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ قَبْلَ أَنْ تُضْرَبَ
عُنُقُك فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ [ ص 355 ] الْعَبّاسُ :
يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبّ الْفَخْرَ
فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا قَالَ نَعَم مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ
فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ
دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ وَأَمَرَ الْعَبّاسَ أَنْ
يَحْبِسَ أَبَا سُفْيَانَ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ
حَتّى تَمُرّ بِهِ جُنُودُ اللّهِ فَيَرَاهَا فَفَعَلَ فَمَرّتْ
الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا كُلّمَا مَرّتْ بِهِ قَبِيلَةٌ قَالَ يَا
عَبّاسُ مَنْ هَذِهِ ؟ فَأَقُولُ سُلَيْمٌ قَالَ فَيَقُولُ مَا لِي
وَلِسُلَيْمٍ ثُمّ تَمُرّ بِهِ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ يَا عَبّاسُ مَنْ
هَؤُلَاءِ ؟ فَأَقُولُ مُزَيْنَةُ فَيَقُولُ مَا لِي وَلِمُزَيْنَةَ حَتّى
نَفِدَتْ الْقَبَائِلُ مَا تَمُرّ بِهِ قَبِيلَةٌ إلّا سَأَلَنِي عَنْهَا
فَإِذَا أَخْبَرْتُهُ بِهِمْ قَالَ مَا لِي وَلِبَنِي فُلَانٍ حَتّى مَرّ
بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي كَتِيبَتِهِ
الْخَضْرَاءِ فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ لَا يُرَى مِنْهُمْ
إلّا الْحَدَقُ مِنْ الْحَدِيدِ قَالَ سُبْحَانَ اللّهِ يَا عَبّاسُ مَنْ
هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ قُلْتُ هَذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ قَالَ مَا لِأَحَدٍ
بِهَؤُلَاءِ قِبَلٌ وَلَا طَاقَةٌ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ يَا أَبَا
الْفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْيَوْمَ عَظِيمًا قَالَ
قُلْتُ يَا أَبَا سُفْيَانَ إنّهَا النّبُوّةُ قَالَ فَنَعَمْ إذًا قَالَ
قُلْتُ النّجَاءُ إلَى قَوْمِك . وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَنْصَارِ مَعَ
سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَلَمّا مَرّ بِأَبِي سُفْيَانَ قَالَ لَهُ
الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمَ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ
الْيَوْمَ أَذَلّ اللّهُ قُرَيْشًا . فَلَمّا حَاذَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ
أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدٌ ؟ قَالَ وَمَا قَالَ فَقَالَ كَذَا
وَكَذَا فَقَالَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : يَا رَسُولَ
اللّهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ الْيَوْمَ يَوْمٌ
تُعَظّمُ فِيهِ الْكَعْبَةُ الْيَوْمَ يَوْمٌ أَعَزّ اللّهُ فِيهِ
قُرَيْشًا . ثُمّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 356 ] سَعْدٍ فَنَزَعَ مِنْهُ اللّوَاءَ وَدَفَعَهُ إلَى قَيْسٍ
ابْنِهِ وَرَأَى أَنّ اللّوَاءَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ سَعْدٍ إذْ صَارَ إلَى
ابْنِهِ قَالَ أَبُو عُمَرَ وَرُوِيَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَمّا نَزَعَ مِنْهُ الرّايَةَ دَفَعَهَا إلَى الزّبَيْرِ .
[رُجُوعُ أَبِي سُفْيَانَ إلَى قُرَيْشٍ ]
وَمَضَى
أَبُو سُفْيَان َ حَتّى إذَا جَاءَ قُرَيْشًا صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَذَا مُحَمّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا لَا قِبَلَ
لَكُمْ بِهِ فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَان َ فَهُوَ آمِنٌ فَقَامَتْ
إلَيْهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَأَخَذَتْ بِشَارِبِهِ فَقَالَتْ
اُقْتُلُوا الْحَمِيتَ الدّسِمَ الْأَحْمَشَ السّاقَيْنِ قُبّحَ مِنْ
طَلِيعَةِ قَوْمٍ قَالَ وَيْلَكُمْ لَا تَغُرّنّكُمْ هَذِهِ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ فَإِنّهُ قَدْ جَاءَكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ مَنْ
دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ
فَهُوَ آمِنٌ قَالُوا : قَاتَلَك اللّهُ وَمَا تُغْنِي عَنّا دَارُك قَالَ
وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ
فَهُوَ آمِنٌ فَتَفَرّقَ النّاسُ إلَى دُورِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ .
[دُخُولُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ]
وَسَارَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَخَلَ مَكّةَ مِنْ
أَعْلَاهَا وَضُرِبَتْ لَهُ هُنَالِكَ قُبّةٌ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَهَا
مِنْ أَسْفَلِهَا وَكَانَ عَلَى الْمُجَنّبَةِ الْيُمْنَى وَفِيهَا
أَسْلَمُ وَسُلَيْمٌ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَقَبَائِلُ
مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الرّجّالَةِ
وَالْحُسّرِ وَهُمْ الّذِينَ لَا سِلَاحَ مَعَهُمْ وَقَالَ لِخَالِدٍ
وَمَنْ مَعَهُ إنْ عَرَضَ لَكُمْ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَاحْصُدُوهُمْ
حَصْدًا حَتّى تُوَافُونِي عَلَى الصّفَا فَمَا عَرَضَ لَهُمْ أَحَدٌ إلّا
أَنَامُوهُ .
[مُقَاتَلَةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ ]
وَتَجَمّعَ
سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ وَأَخِفّاؤُهَا مَعَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ
وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو بِالْخَنْدَمَةِ
لِيُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ
أَخُو بَنِي بَكْر ٍ يُعِدّ سِلَاحًا قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ لِمَاذَا تُعِدّ مَا
أَرَى ؟ قَالَ لِمُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ قَالَتْ وَاَللّهِ مَا يَقُومُ
لِمُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ قَالَ إنّي وَاَللّهِ لَأَرْجُو أَنْ
أُخْدِمَك بَعْضَهُمْ ثُمّ قَالَ
إنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَالِي عِلّه
هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلّهْ
وَذُو
غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السّلّه [ ص 357 ] الْخَنْدَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ
وَعِكْرِمَةَ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فَلَمّا لَقِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ
نَاوَشُوهُمْ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ فَقُتِلَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ
الْفِهْرِيّ وَخُنَيْسُ بْنُ خَالِدِ بْنِ رَبِيعَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
وَكَانَا فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَشَذّا عَنْهُ فَسَلَكَا
طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِهِ فَقُتِلَا جَمِيعًا وَأُصِيبَ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ نَحْوُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ثُمّ انْهَزَمُوا
وَانْهَزَمَ حِمَاسٌ صَاحِبُ السّلَاحِ حَتّى دَخَلَ بَيْتَهُ فَقَالَ
لِامْرَأَتِهِ أَغْلِقِي عَلَيّ بَابِي فَقَالَتْ وَأَيْنَ مَا كُنْت
تَقُولُ ؟ فَقَالَ
إنّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ
إذْ فَرّ صَفْوَانُ وَفَرّ عِكْرِمَهْ
وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ
ضَرْبًا فَلَا نَسْمَعُ إلّا غَمْغَمَهْ
لَهُمْ نَهِيتٌ حَوْلَنَا وَهَمْهَمَهْ
لَمْ
تَنْطِقِي فِي اللّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ :
أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَخَلَ مَكّةَ
فَبَعَثَ الزّبَيْرَ عَلَى إحْدَى الْمُجَنّبَتَيْنِ وَبَعَثَ خَالِدَ
بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنّبَةِ الْأُخْرَى وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَة
بْنَ الْجَرّاحِ عَلَى الْحُسّرِ وَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي وَرَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي كَتِيبَتِهِ قَالَ وَقَدْ
وَبّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشًا لَهَا فَقَالُوا : نُقَدّمُ هَؤُلَاءِ
فَإِنْ كَانَ لِقُرَيْشٍ شَيْءٌ كُنّا مَعَهُمْ وَإِنْ أُصِيبُوا
أَعْطَيْنَا الّذِي سُئِلْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ فَقُلْتُ لَبّيْكَ رَسُولَ
اللّهِ وَسَعْدَيْكَ فَقَالَ اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ وَلَا يَأْتِينِي
إلّا أَنْصَارِي فَهَتَفَ بِهِمْ فَجَاءُوا فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " أَتَرَوْنَ إلَى أَوْبَاشِ
قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ " ثُمّ قَالَ بِيَدَيْهِ إحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى : " اُحْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتّى تُوَافُونِي بِالصّفَا "
فَانْطَلَقْنَا فَمَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنّا أَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ إلّا
شَاءَ وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ وَجّهَ إلَيْنَا شَيْئًا [ ص 358 ] صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحَجُونِ عِنْدَ مَسْجِدِ الْفَتْحِ .
[ دُخُولُ الْمَسْجِدِ ]
ثُمّ
نَهَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُهَاجِرُونَ
وَالْأَنْصَارُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ وَحَوْلَهُ حَتّى دَخَلَ
الْمَسْجِدَ فَأَقْبَلَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمّ
طَافَ بِالْبَيْتِ وَفِي يَدِهِ قَوْسٌ وَحَوْلَ الْبَيْتِ وَعَلَيْهِ
ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتّونَ صَنَمًا فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِالْقَوْسِ
وَيَقُولُ { جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ
زَهُوقًا } الْإِسْرَاءَ : 81 ] { جَاءَ الْحَقّ وَمَا يُبْدِئُ
الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } [ سَبَأَ 49 ] وَالْأَصْنَامُ تَتَسَاقَطُ
عَلَى وُجُوهِهَا .
[دُخُولُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْكَعْبَةَ ]
وَكَانَ
طَوَافُهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا يَوْمَئِذٍ
فَاقْتَصَرَ عَلَى الطّوَافِ فَلَمّا أَكْمَلَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ
طَلْحَةَ فَأَخَذَ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ فَأَمَرَ بِهَا
فَفُتِحَتْ فَدَخَلَهَا فَرَأَى فِيهَا الصّوَرَ وَرَأَى فِيهَا صُورَةَ
إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ فَقَالَ
قَاتَلَهُمْ اللّهُ وَاَللّهِ إنْ اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطّ وَرَأَى فِي
الْكَعْبَةِ حَمَامَةً مِنْ عَيْدَانٍ فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ وَأَمَرَ
بِالصّوَرِ فَمُحِيَتْ . ثُمّ أَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ وَعَلَى
أُسَامَةَ وَبِلَالٍ فَاسْتَقْبَلَ الْجِدَارَ الّذِي يُقَابِلُ الْبَابَ
حَتّى إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَدْرُ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ وَقَفَ
وَصَلّى هُنَاكَ ثُمّ دَارَ فِي الْبَيْتِ وَكَبّرَ فِي نَوَاحِيهِ
وَوَحّدَ اللّهَ ثُمّ فَتَحَ الْبَابَ وَقُرَيْشٌ قَدْ مَلَأَتْ
الْمَسْجِدَ صُفُوفًا يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يَصْنَعُ فَأَخَذَ
بِعِضَادَتَيْ الْبَابِ وَهُمْ تَحْتَهُ [ ص 359 ] فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا
اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ
وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ
دَمٍ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ
وَسِقَايَةَ الْحَاجّ أَلَا وَقَتْلُ الْخَطَإِ شِبْهُ الْعَمْدِ السّوْطُ
وَالْعَصَا فَفِيهِ الدّيَةُ مُغَلّظَةً مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ
أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ
إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا
بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ " ثُمّ تَلَا هَذِهِ
الْآيَةَ { يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [
الْحُجُرَاتِ 13 ] ثُمّ قَالَ " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنّي
فَاعِلٌ بِكُمْ ؟ " قَالُوا : خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ
قَالَ " فَإِنّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ { لَا
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ . [ ص
360 ]
[إبْقَاءُ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ فِي آلِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ ]
ثُمّ
جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ إلَيْهِ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اجْمَعْ
لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السّقَايَةِ صَلّى اللّهُ عَلَيْك فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ
طَلْحَةَ " ؟ فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ " هَاكَ مِفْتَاحَكَ يَا
عُثْمَانُ الْيَوْمَ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ . وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ فِي
الطّبَقَاتِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ قَالَ كُنّا نَفْتَحُ
الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ
فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمًا
يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ مَعَ النّاسِ فَأَغْلَظْتُ لَهُ
وَنِلْتُ مِنْهُ فَحَلُمَ عَنّي ثُمّ قَالَ " يَا عُثْمَانُ لَعَلّك
سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْت
فَقُلْتُ لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ وَذَلّتْ فَقَالَ بَلْ
عَمَرَتْ وَعَزّتْ يَوْمَئِذٍ وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ فَوَقَعَتْ كَلِمَتُهُ
مِنّي مَوْقِعًا ظَنَنْتُ يَوْمَئِذٍ أَنّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إلَى مَا
قَالَ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ قَالَ يَا عُثْمَانُ ائْتِنِي
بِالْمِفْتَاحِ فَأَتَيْتُهُ بِهِ فَأَخَذَهُ مِنّي ثُمّ دَفَعَهُ إلَيّ
وَقَالَ خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلّا
ظَالِمٌ يَا عُثْمَانُ إنّ اللّهَ اسْتَأْمَنَكُمْ عَلَى بَيْتِهِ
فَكُلُوا مِمّا يَصِلُ إلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ بِالْمَعْرُوفِ "
قَالَ فَلَمّا وَلّيْت نَادَانِي فَرَجَعْتُ إلَيْهِ فَقَالَ " أَلَمْ
يَكُنْ الّذِي قُلْتُ لَكَ ؟ " قَالَ فَذَكَرْت قَوْلَهُ لِي بِمَكّةَ
قَبْلَ الْهِجْرَةِ لَعَلّك سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ بِيَدِي أَضَعُهُ
حَيْثُ شِئْت فَقُلْتُ بَلَى أَشْهَدُ أَنّكَ رَسُولُ اللّهِ [ ص 361 ]
وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ أَنّ الْعَبّاسَ تَطَاوَلَ يَوْمَئِذٍ
لِأَخْذِ الْمِفْتَاحِ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَرَدّهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ
[أَذَانُ بِلَالٍ عَلَى الْكَعْبَةِ ]
وَأَمَرَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِلَالًا أَنْ يَصْعَدَ
فَيُؤَذّنَ عَلَى الْكَعْبَةِ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب ٍ وَعَتّابُ
بْنُ أَسِيدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَأَشْرَافُ قُرَيْشٍ جُلُوسٌ
بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ عَتّابٌ لَقَدْ أَكْرَمَ اللّهُ أَسِيدًا
أَلّا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا فَيَسْمَعَ مِنْهُ مَا يُغِيظُهُ فَقَالَ
الْحَارِثُ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنّهُ حَقّ لَاتّبَعْته
فَقَالَ أَبُو سُفْيَان َ أَمَا وَاَللّهِ لَا أَقُولُ شَيْئًا لَوْ
تَكَلّمْت لَأَخْبَرَتْ عَنّي هَذِهِ الْحَصْبَاءُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُمْ " قَدْ عَلِمْتُ
الّذِي قُلْتُمْ " ثُمّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فَقَالَ الْحَارِثُ
وَعَتّابٌ نَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ وَاَللّهِ مَا اطّلَعَ عَلَى
هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا فَنَقُولَ أَخْبَرَك
فَصْلٌ [صَلَاةُ الْفَتْحِ ]
ثُمّ
دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَارَ أُمّ هَانِئِ
بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ فَاغْتَسَلَ وَصَلّى ثَمَانَ رَكَعَاتٍ فِي
بَيْتِهَا وَكَانَتْ ضُحًى فَظَنّهَا مَنْ ظَنّهَا صَلَاةَ الضّحَى
وَإِنّمَا هَذِهِ صَلَاةُ الْفَتْحِ وَكَانَ أُمَرَاءُ الْإِسْلَامِ إذَا
فَتَحُوا حِصْنًا أَوْ بَلَدًا صَلّوْا عَقِيبَ الْفَتْحِ هَذِهِ
الصّلَاةَ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَفِي الْقِصّةِ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّهَا بِسَبَبِ الْفَتْحِ شُكْرًا
لِلّهِ عَلَيْهِ فَإِنّهَا قَالَتْ مَا رَأَيْتُهُ صَلّاهَا قَبْلَهَا
وَلَا بَعْدَهَا .
وَأَجَارَتْ أُمّ هَانِئٍ حَمَوَيْنِ لَهَا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمّ هَانِئٍ [ ص 362 ]
فَصْلٌ [ مَنْ أَمَرَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِهِمْ ]
ولَمّا اسْتَقَرّ الْفَتْحُ أَمّنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ كُلّهُمْ إلّا تِسْعَةَ نَفَرٍ فَإِنّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَعَبْدُ الْعُزّى بْنُ خَطَلٍ وَالْحَارِثُ بْنُ نُفَيْلِ بْنِ وَهْبِ وَمَقِيسُ بْنُ صُبَابَةَ وَهَبّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَقَيْنَتَانِ لِابْنِ خَطَلٍ كَانَتَا تُغَنّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَارَةُ مَوْلَاةٌ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ .
[ابْنُ أَبِي السّرْحِ ]
فَأَمّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَأَسْلَمَ فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ فَاسْتَأْمَنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَبِلَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ أَمْسَكَ عَنْهُ رَجَاءَ أَنْ يَقُومَ إلَيْهِ بَعْضُ الصّحَابَةِ فَيَقْتُلُهُ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَهَاجَرَ ثُمّ ارْتَدّ وَرَجَعَ إلَى مَكّةَ .
[عكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ ]
وَأَمّا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ أَنْ فَرّ فَأَمّنَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَدِمَ وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ . أَمّا ابْنُ خَطَلٍ وَالْحَارِثُ وَمَقِيسٌ وَإِحْدَى الْقَيْنَتَيْنِ فَقُتِلُوا وَكَانَ مَقِيسٌ قَدْ أَسْلَمَ ثُمّ ارْتَدّ وَقَتَلَ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَمَا هَبّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ فَهُوَ الّذِي عَرَضَ لِزَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ هَاجَرَتْ فَنَخَسَ بِهَا حَتّى سَقَطَتْ عَلَى صَخْرَةٍ وَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا فَفَرّ ثُمّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ . وَاسْتُؤْمِنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسَارَةَ وَلِإِحْدَى الْقَيْنَتَيْنِ فَأَمّنَهُمَا فَأَسْلَمَتَا .
[خُطْبَةُ الْفَتْحِ ]
فَلَمّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ خَطِيبًا فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجّدَهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يَحِلّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا أَوْ يَعْضُدَ بِهَا شَجَرَةً فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُولُوا : إنّ اللّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَإِنّمَا حَلّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ فَلْيُبَلّغْ الشّاهِدُ الْغَائِبَ [ ص 363 ]
[إيثَارُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ عَلَى مَكّةَ ]
وَلَمّا فَتَحَ اللّهُ مَكّةَ عَلَى رَسُولِهِ وَهِيَ بَلَدُهُ وَوَطَنُهُ وَمَوْلِدُهُ قَالَ الْأَنْصَارُ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَتَرَوْنَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الصّفَا رَافِعًا يَدَيْهِ ؟ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ مَاذَا قُلْتُمْ ؟ قَالُوا : لَا شَيْءَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتّى أَخْبَرُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَاذَ اللّهِ الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ
[ مَنْ هَمّ بِقَتْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَهُمْ فَضَالَةُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ الْمُلَوّحِ أَنْ يَقْتُلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَلَمّا دَنَا مِنْهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفَضَالَةُ ؟ قَالَ نَعَمْ فَضَالَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ مَاذَا كُنْتَ تُحَدّثُ بِهِ نَفْسَك ؟ قَالَ لَا شَيْءَ كُنْتُ أَذْكُرُ اللّهَ فَضَحِكَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ " اسْتَغْفِرْ اللّهَ " ثُمّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَسَكَنَ قَلْبُهُ وَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ وَاَللّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتّى مَا خَلَقَ اللّهُ شَيْئًا أَحَبّ إلَيّ مِنْه قَالَ فَضَالَةُ فَرَجَعْتُ إلَى أَهْلِي فَمَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ كُنْتُ أَتَحَدّثُ إلَيْهَا فَقَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ فَقُلْت : لَا وَانْبَعَثَ فَضَالَةُ يَقُولُ
قَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ فَقُلْتُ لَا
يَأْبَى عَلَيْك اللّهُ وَالْإِسْلَامُ
لَوْ قَدْ رَأَيْتِ مُحَمّدًا وَقَبِيلَهُ
بِالْفَتْحِ يَوْمَ تُكَسّرُ الْأَصْنَامُ
لَرَأَيْتِ دِينَ اللّهِ أَضْحَى بَيّنًا
وَالشّرْكُ يَغْشَى وَجْهَهُ الْإِظْلَامُ
[فِرَارُ صَفْوَانَ وَعِكْرِمَةَ ]
[ ص 364 ] وَفَرّ يَوْمَئِذٍ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَأَمّا صَفْوَانُ فَاسْتَأْمَنَ لَهُ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمّنَهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَتَهُ الّتِي دَخَلَ بِهَا مَكّةَ فَلَحِقَهُ عُمَيْرٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ فَرَدّهُ فَقَالَ اجْعَلْنِي فِيهِ بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ فَقَالَ أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ .
[إسْلَامُ زَوْجَةِ عِكْرِمَةَ ]
وَكَانَتْ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ فَأَسْلَمَتْ وَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمّنَهُ فَلَحِقَتْ بِهِ بِالْيَمَنِ فَأَمّنَتْهُ فَرَدّتْهُ وَأَقَرّهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ وَصَفْوَانُ عَلَى نِكَاحِهِمَا الْأَوّلِ . ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَمِيمَ بْنَ أَسِيدٍ الْخُزَاعِيّ فَجَدّدَ أَنْصَابَ الْحَرَمِ .
[كَسْرُ الْأَوْثَانِ ]
وَبَثّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَرَايَاهُ إلَى الْأَوْثَانِ الّتِي كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَكُسّرَتْ كُلّهَا مِنْهَا اللّاتُ وَالْعُزّى وَمَنَاةُ الثّالِثَةُ الْأُخْرَى وَنَادَى مُنَادِيهِ بِمَكّةَ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدَعْ فِي بَيْتِهِ صَنَمًا إلّا كَسَرَهُ
[هَدْمُ خَالِدٍ لِلْعُزّى ]
فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى الْعُزّى لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِيَهْدِمَهَا فَخَرَجَ إلَيْهَا فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا مِنْ أَصْحَابِهِ حَتّى انْتَهَوْا إلَيْهَا فَهَدَمَهَا ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا ؟ " قَالَ لَا قَالَ " فَإِنّكَ لَمْ تَهْدِمْهَا فَارْجِعْ إلَيْهَا فَاهْدِمْهَا فَرَجَعَ خَالِدٌ وَهُوَ مُتَغَيّظٌ فَجَرّدَ سَيْفَهُ فَخَرَجَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ عُرْيَانَةُ سَوْدَاءُ نَاشِرَةُ الرّأْسِ فَجَعَلَ السّادِنُ يَصِيحُ بِهَا فَضَرَبَهَا خَالِدٌ فَجَزَلَهَا بِاثْنَتَيْنِ وَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ " نَعَمْ تِلْكَ الْعُزّى وَقَدْ أَيِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ فِي بِلَادِكُمْ أَبَدًا " وَكَانَتْ بِنَخْلَةَ وَكَانَتْ لِقُرَيْشٍ وَجَمِيعِ بَنِي كِنَانَة َ [ ص 365 ] وَكَانَتْ أَعْظَمَ أَصْنَامِهِمْ وَكَانَ سَدَنَتُهَا بَنِي شَيْبَانَ .
[هَدْمُ ابْنِ الْعَاصِ لِسُوَاعٍ ]
ثُمّ بَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إلَى سُوَاعٍ وَهُوَ صَنَمٌ لِهُذَيْلٍ لِيَهْدِمَهُ قَالَ عَمْرٌو : فَانْتَهَيْتُ إلَيْهِ وَعِنْدَهُ السّادِنُ فَقَالَ مَا تُرِيدُ ؟ قُلْتُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ أَهْدِمَهُ فَقَالَ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ قُلْت : لِمَ ؟ قَالَ تُمْنَعُ . قُلْتُ حَتّى الْآنَ أَنْتَ عَلَى الْبَاطِلِ وَيْحَك فَهَلْ يَسْمَعُ أَوْ يُبْصِرُ ؟ قَالَ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَكَسَرْته وَأَمَرْتُ أَصْحَابِي فَهَدَمُوا بَيْتَ خِزَانَتِهِ فَلَمْ نَجِدْ فِيهِ شَيْئًا ثُمّ قُلْتُ لِلسّادِنِ كَيْفَ رَأَيْتَ ؟ قَالَ أَسْلَمْتُ لِلّهِ .
[هَدْمُ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ لِمَنَاةَ]
ثُمّ بَعَثَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيّ إلَى مَنَاةَ وَكَانَتْ بِالْمُشَلّلِ عِنْد قُدَيْدٍ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَغَسّانَ وَغَيْرِهِمْ فَخَرَجَ فِي عِشْرِينَ فَارِسًا حَتّى انْتَهَى إلَيْهَا وَعِنْدَهَا سَادِنٌ فَقَالَ السّادِنُ مَا تُرِيدُ ؟ قُلْتُ هَدْمَ مَنَاةَ قَالَ أَنْتَ وَذَاكَ فَأَقْبَلَ سَعْدٌ يَمْشِي إلَيْهَا وَتَخْرُجُ إلَيْهِ امْرَأَةٌ عُرْيَانَةُ سَوْدَاءُ ثَائِرَةُ الرّأْسِ تَدْعُو بِالْوَيْلِ وَتَضْرِبُ صَدْرَهَا فَقَالَ لَهَا السّادِنُ مَنَاةُ دُونَك بَعْضَ عُصَاتِك فَضَرَبَهَا سَعْدٌ فَقَتَلَهَا وَأَقْبَلَ إلَى الصّنَمِ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ فَهَدَمَهُ وَكَسَرُوهُ وَلَمْ يَجِدُوا فِي خِزَانَتِهِ شَيْئًا .
ذِكْرُ سَرِيّةِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إلَى بَنِي جُذَيْمَة َ
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ : وَلَمّا رَجَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ هَدْمِ الْعُزّى وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُقِيمٌ بِمَكّةَ بَعَثَهُ إلَى بَنِي جُذَيْمَةَ دَاعِيًا إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا فَخَرَجَ فِي ثَلَاثمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَبَنِي سُلَيْمٍ فَانْتَهَى إلَيْهِمْ فَقَالَ مَا أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : مُسْلِمُونَ قَدْ صَلّيْنَا وَصَدّقْنَا بِمُحَمّدٍ وَبَنَيْنَا الْمَسَاجِدَ فِي سَاحَتِنَا وَأَذّنّا فِيهَا قَالَ فَمَا بَالُ السّلَاحِ عَلَيْكُمْ ؟ قَالُوا : إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ [ ص 366 ] الْعَرَبِ عَدَاوَةً فَخِفْنَا أَنْ تَكُونُوا هُمْ وَقَدْ قِيلَ إنّهُمْ قَالُوا صَبَأْنَا وَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا : أَسْلَمْنَا قَالَ فَضَعُوا السّلَاحَ فَوَضَعُوهُ فَقَالَ لَهُمْ اسْتَأْسِرُوا فَاسْتَأْسَرَ الْقَوْمُ فَأَمَرَ بَعْضَهُمْ فَكَتّفَ بَعْضًا وَفَرّقَهُمْ فِي أَصْحَابِهِ فَلَمّا كَانَ فِي السّحَرِ نَادَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ : مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فَلْيَضْرِبْ عُنُقَهُ فَأَمّا بَنُو سُلَيْمٍ فَقَتَلُوا مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ وَأَمّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَأَرْسَلُوا أَسْرَاهُمْ فَبَلَغَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا صَنَعَ خَالِدٌ فَقَالَ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمّا صَنَعَ خَالد " وَبَعَثَ عَلِيّا يُودِي لَهُمْ قَتْلَاهُمْ وَمَا ذَهَبَ مِنْهُمْ وَكَانَ بَيْنَ خَالِدٍ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَلَامٌ وَشَرّ فِي ذَلِكَ فَبَلَغَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَهْلًا يَا خَالِدُ دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي فَوَاَللّهِ لَوْ كَانَ لَكَ أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمّ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللّهِ مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا رَوْحَتَهُ