كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية
فَصْل [ إنْشَادُ حَسّانَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ]
وَكَانَ
حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَدْ قَالَ فِي عُمْرَةِ
الْحُدَيْبِيَةِ : عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ
إلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلَاءُ
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ
تُعَفّيهَا الرّوَامِسُ وَالسّمَاءُ
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ
خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفٍ
يُؤَرّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
لَشَعْثَاءَ الّتِي قَدْ تَيّمَتْهُ
فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا شِفَاءُ
كَأَنّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ
يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
إذَا مَا الْأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا
فَهُنّ لِطَيّبِ الرّاحِ الْفِدَاءُ
نُوَلّيهَا الْمَلَامَةَ إنْ أَلَمْنَا
إذَا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لِحَاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا
وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللّقَاءُ
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إنْ لَمْ تَرَوْهَا
تُثِيرُ النّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ
يُنَازِعْنَ الْأَعِنّةَ مُصْعِدَاتٍ
عَلَى أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظّمَاءُ
تَظَلّ جِيَادُنَا مُتَمَطّرَاتٍ
تُلَطّمُهُنّ بِالْخُمُرِ النّسَاءُ
فَإِمّا تُعْرِضُوا عَنّا اعْتَمَرْنَا
وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
وَإِلّا فَاصْبِرُوا لِجِلَادِ يَوْمٍ
يُعِزّ اللّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وجِبْرِيلٌ رَسُولُ اللّهِ فِينَا وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وَقَالَ اللّهُ قَدْ أَرْسَلْتُ عَبْدًا
يَقُولُ الْحَقّ إنْ نَفَعَ الْبَلَاءُ
شَهِدْتُ بِهِ فَقُومُوا صَدّقُوهُ فَقُلْتُمْ لَا نَقُومُ وَلَا نَشَاءُ
وَقَالَ اللّهُ قَدْ سَيّرْت جُنْدًا
هُمْ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللّقَاءُ
لَنَا فِي كُلّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدّ
سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا
وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدّمَاءُ
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنّي
مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ
بِأَنّ سُيُوفَنَا تَرَكَتْكَ عَبْدًا
وَعَبْدُ الدّارِ سَادَتُهَا الْإِمَاءُ
هَجَوْتَ مُحَمّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ
وَعِنْدَ اللّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ
فَشَرّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
هَجَوْتَ مُبَارَكًا بَرّا حَنِيفًا
أَمِينَ اللّهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللّهِ مِنْكُمْ
وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
فَإِنّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي
لِعِرْضِ مُحَمّدٍ . مِنْكُمْ وِقَاءُ
لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيهِ
وَبَحْرِي لَا تُكَدّرُهُ الدّلَاءُ
فَصْلٌ فِي الْإِشَارَةِ إلَى مَا فِي الْغَزْوَةِ مِنْ الْفِقْهِ وَاللّطَائِفِ
[
مِنْ شَأْنِهِ سُبْحَانَهُ تَقْدِيمُ مُقَدّمَاتٍ بَيْنَ يَدَيْ
الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ تَكُونُ كَالْمَدْخَلِ إلَيْهَا الْمُنَبّهَةِ
لَهَا كَقِصّةِ الْمَسِيحِ وَنَسْخِ الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهِمَا ]
كَانَتْ
صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ مُقَدّمَةً وَتَوْطِئَةً بَيْنَ يَدَيْ هَذَا
الْفَتْحِ الْعَظِيمِ أَمِنَ النّاسُ بِهِ وَكَلّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
وَنَاظَرَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَتَمَكّنَ مَنْ اخْتَفَى مِنْ
الْمُسْلِمِينَ بِمَكّةَ مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ وَالدّعْوَةِ إلَيْهِ
وَالْمُنَاظَرَةِ عَلَيْهِ وَدَخَلَ بِسَبَبِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ فِي
الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا سَمّاهُ اللّهُ فَتْحًا فِي قَوْلِهِ { إِنّا
فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } [ الْفَتْح : 1 ] ، نَزَلَتْ فِي
شَأْنِ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَوَفَتْحٌ
هُوَ ؟ قَالَ " نَعَمْ " . وَأَعَادَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذِكْرَ
كَوْنِهِ فَتْحًا ، فَقَالَ { لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا
بِالْحَقّ } إلَى قَوْلِهِ { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ
دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا } [ الْفَتْحِ 27 ] وَهَذَا شَأْنُهُ -
سُبْحَانَهُ - أَنْ يُقَدّمَ بَيْنَ يَدَيْ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ
مُقَدّمَاتٍ تَكُونُ كَالْمَدْخَلِ إلَيْهَا ، الْمُنَبّهَةِ عَلَيْهَا ،
كَمَا قَدّمَ بَيْنَ يَدَيْ قِصّةِ الْمَسِيحِ وَخَلْقِهِ مِنْ غَيْرِ
أَبٍ قِصّةِ زَكَرِيّا ، وَخَلْقِ الْوَلَدِ لَهُ مَعَ كَوْنِهِ كَبِيرًا
لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَكَمَا قَدّمَ بَيْنَ يَدَيْ نَسْخِ الْقِبْلَةِ
قِصّةَ الْبَيْتِ وَبِنَائِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَالتّنْوِيهِ بِهِ وَذِكْرِ
بَانِيهِ وَتَعْظِيمِهِ وَمَدْحِهِ وَوَطّأَ قَبْلَ ذَلِك كُلّهِ بِذِكْرِ
النّسْخِ وَحِكْمَتِهِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ وَقُدْرَتِهِ الشّامِلَةِ
لَهُ وَهَكَذَا مَا قَدّمَ بَيْنَ يَدَيْ مَبْعَثِ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قِصّةِ الْفِيلِ وَبِشَارَاتِ الْكُهّانِ بِهِ
وَغَيْرِ ذَلِك ، وَكَذَلِك الرّؤْيَا الصّالِحَةُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَتْ مُقَدّمَةً بَيْنَ يَدَيْ [ ص 370 ]
كَانَتْ مُقَدّمَةً بَيْنَ يَدَيْ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَمَنْ تَأَمّلَ
أَسْرَارَ الشّرْعِ وَالْقَدَرِ رَأَى مِنْ ذَلِك مَا تَبْهَرُ حِكْمَتُهُ
الْأَلْبَابَ .
فَصْلٌ
وَفِيهَا : أَنّ أَهْلَ الْعَهْدِ إذَا
حَارَبُوا مَنْ هُمْ فِي ذِمّةِ الْإِمَامِ وَجِوَارِهِ وَعَهْدِهِ
صَارُوا حَرْبًا لَهُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ
عَهْدٌ فَلَهُ أَنْ يُبَيّتَهُمْ فِي دِيَارِهِمْ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ
يُعْلِمَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنّمَا يَكُونُ الْإِعْلَامُ إذَا خَافَ
مِنْهُمْ الْخِيَانَةَ فَإِذَا تَحَقّقَهَا ، صَارُوا نَابِذِينَ
لِعَهْدِهِ .
فَصْلٌ [ انْتِقَاضُ عَهْدِ الرّدْءِ وَالْمُبَاشِرِينَ إذَا رَضُوا بِذَلِك ]
وَفِيهَا
: انْتِقَاضُ عَهْدِ جَمِيعِهِمْ بِذَلِك ، رِدْئِهِمْ وَمُبَاشِرِيهِمْ
إذَا رَضُوا بِذَلِكَ وَأَقَرّوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ فَإِنّ
الّذِينَ أَعَانُوا بَنِي بَكْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْضُهُمْ لَمْ
يُقَاتِلُوا كُلّهُمْ مَعَهُمْ وَمَعَ هَذَا فَغَزَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلّهُمْ وَهَذَا كَمَا أَنّهُمْ دَخَلُوا
فِي عَقْدِ الصّلْحِ تَبَعًا ، وَلَمْ يَنْفَرِدْ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
بِصُلْحٍ إذْ قَدْ رَضُوا بِهِ وَأَقَرّوا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ
نَقْضِهِمْ لِلْعَهْدِ هَذَا هَدْيُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الّذِي لَا شَكّ فِيهِ كَمَا تَرَى . وَطَرْدُ هَذَا جَرَيَانُ
هَذَا الْحُكْمِ عَلَى نَاقِضِي الْعَهْدِ مِنْ أَهْلِ الذّمّةِ إذَا
رَضِيَ جَمَاعَتُهُمْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
مَا يَنْقُضُ عَهْدَهُ كَمَا أَجْلَى عُمَرُ يَهُودَ خَيْبَرٍ لَمّا عَدَا
بَعْضُهُمْ عَلَى ابْنِهِ وَرَمَوْهُ مِنْ ظَهْرِ دَارٍ فَفَدَعُوا يَدَهُ
بَلْ قَدْ قَتَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَمِيعَ
مُقَاتِلَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ كُلّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ هَلْ نَقَضَ الْعَهْدَ أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِك أَجْلَى بَنِي
النّضِيرِ كُلّهُمْ وَإِنّمَا كَانَ الّذِي هَمّ بِالْقَتْلِ رَجُلَانِ
وَكَذَلِك فَعَلَ بِبَنِي قَيْنُقَاعَ حَتّى اسْتَوْهَبَهُمْ مِنْهُ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ، فَهَذِهِ سِيرَتُهُ وَهَدْيُهُ الّذِي لَا
شَكّ فِيهِ وَقَدْ أَجَمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنّ حُكْمَ الرّدْءِ
حُكْمُ الْمُبَاشِرِ فِي الْجِهَادِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي قِسْمَةِ
الْغَنِيمَةِ وَلَا فِي الثّوَابِ مُبَاشَرَةُ كُلّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ
الْقِتَالَ . وَهَذَا حُكْمُ قُطّاعِ الطّرِيقِ حُكْمُ رِدْئِهِمْ حُكْمُ
مُبَاشِرِهِمْ لِأَنّ الْمُبَاشِرَ إنّمَا [ ص 371 ] شَكّ فِيهِ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَحْمَدَ ، وَمَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَغَيْرِهِمْ .
فَصْلٌ
وَفِيهَا
: جَوَازُ صُلْحِ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى وَضْعِ الْقِتَالِ عَشْرَ
سِنِينَ وَهَلْ يَجُوزُ فَوْقَ ذَلِك ؟ الصّوَابُ أَنّهُ يَجُوزُ
لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ كَمَا إذَا كَانَ
بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَعَدُوّهُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ وَفِي الْعَقْدِ
لَمّا زَادَ عَنْ الْعَشْرِ مَصْلَحَةٌ لِلْإِسْلَامِ .
فَصْلٌ
وَفِيهَا
: أَنّ الْإِمَامَ وَغَيْرَهُ إذَا سُئِلَ مَا لَا يَجُوزُ بَذْلُهُ أَوْ
لَا يَجِبُ فَسَكَتَ عَنْ بِذَلِهِ لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ بَذْلًا لَهُ
فَإِنّ أَبَا سُفْيَانَ سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ فَسَكَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ وَلَمْ يَكُنْ بِهَذَا
السّكُوتِ مُعَاهِدًا لَهُ .
فَصْلٌ [ رَسُولُ الْكُفّارِ لَا يُقْتَلُ ]
وَفِيهَا
: أَنّ رَسُولَ الْكُفّارِ لَا يُقْتَلُ فَإِنّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ
مِمّنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ انْتِقَاضِ الْعَهْدِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ كَانَ رَسُولَ
قَوْمِهِ إلَيْهِ .
فَصْلٌ
وَفِيهَا : جَوَازُ تَبْيِيتِ الْكُفّارِ
وَمُغَافَضَتُهُمْ فِي دِيَارِهِمْ إذَا كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ
الدّعْوَةُ وَقَدْ كَانَتْ سَرَايَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يُبَيّتُونَ الْكُفّارَ وَيُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ بِإِذْنِهِ
بَعْدَ أَنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَتُهُ .
فَصْلٌ [ جَوَازُ قَتْلِ الْجَاسُوسِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا ]
وَفِيهَا
: جَوَازُ قَتْلِ الْجَاسُوسِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا لِأَنّ عُمَرَ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَتْلَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ لَمّا بَعَثَ يُخْبِرُ
أَهْلَ مَكّةَ بِالْخَبَرِ وَلَمْ يَقُلْ [ ص 372 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَا يَحِلّ قَتْلُهُ إنّهُ مُسْلِمٌ بَلْ قَالَ وَمَا يُدْرِيكَ
لَعَلّ اللّهَ قَدْ اطّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ، فَقَالَ اعْمَلُوا مَا
شِئْتُمْ بَدْرٍ ، فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَأَجَابَ بِأَنّ فِيهِ
مَانِعًا مِنْ قَتْلِهِ وَهُوَ شُهُودُهُ بَدْرًا ، وَفِي الْجَوَابِ
بِهَذَا كَالتّنْبِيهِ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ جَاسُوسٍ لَيْسَ لَهُ مِثْلُ
هَذَا الْمَانِعِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَدَ ، وَقَالَ الشّافِعِيّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا
يُقْتَلُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالْفَرِيقَانِ يَحْتَجّونَ
بِقِصّةِ حَاطِبٍ وَالصّحِيحُ أَنّ قَتْلَهُ رَاجِعٌ إلَى رَأْيِ
الْإِمَامِ فَإِنْ رَأَى فِي قَتْلِهِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ
قَتَلَهُ وَإِنْ كَانَ اسْتِبْقَاؤُهُ أَصْلَحَ اسْتَبَقَاهُ . وَاَللّهُ
أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ جَوَازُ تَجْرِيدِ الْمَرْأَةِ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامّةِ ]
وَفِيهَا
: جَوَازُ تَجْرِيدِ الْمَرْأَةِ كُلّهَا وَتَكْشِيفِهَا لِلْحَاجَةِ
وَالْمَصْلَحَةِ الْعَامّةِ فَإِنّ عَلِيّا وَالْمِقْدَادَ قَالَا
لِلظّعِينَةِ لتُخْرِجِنّ الْكِتَابَ أَوْ لِنَكْشِفَنّك ، وَإِذَا جَازَ
تَجْرِيدُهَا لِحَاجَتِهَا إلَى ذَلِكَ حَيْثُ تَدْعُو إلَيْهَا ،
فَتَجْرِيدُهَا لِمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى .
فَصْلٌ
وَفِيهَا
: أَنّ الرّجُلَ إذَا نَسَبَ الْمُسْلِمَ إلَى النّفَاقِ وَالْكُفْرِ
مُتَأَوّلًا وَغَضَبًا لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ لَا لِهَوَاهُ
وَحَظّهِ فَإِنّهُ لَا يَكْفُرُ بِذَلِكَ بَلْ لَا يَأْثَمُ بِهِ بَلْ
يُثَابُ عَلَى نِيّتِهِ وَقَصْدِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ
وَالْبِدَعِ فَإِنّهُمْ يُكَفّرُونَ وَيُبَدّعُونَ لِمُخَالَفَةِ
أَهْوَائِهِمْ وَنِحَلِهِمْ وَهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِمّنْ كَفّرُوهُ
وَبَدّعُوهُ .
فَصْلٌ
[ الْكَبِيرَةُ الْعَظِيمَةُ مِمّا دُونَ الشّرْكِ قَدْ تُكَفّرُ بِالْحَسَنَةِ الْكَبِيرَةِ الْمَاحِيَةِ ٌ]
وَفِيهَا
: أَنّ الْكَبِيرَةَ الْعَظِيمَةَ مِمّا دُونَ الشّرْكِ قَدْ تُكَفّرُ
بِالْحَسَنَةِ الْكَبِيرَةِ الْمَاحِيَةِ كَمَا وَقَعَ الْجَسّ مِنْ
حَاطِبٍ مُكَفّرًا بِشُهُودِهِ بَدْرًا ، فَإِنّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
هَذِهِ الْحَسَنَةُ الْعَظِيمَةُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَتَضَمّنَتْهُ مِنْ
مَحَبّةِ اللّهِ لَهَا وَرِضَاهُ بِهَا ، وَفَرَحِهِ بِهَا ،
وَمُبَاهَاتِهِ لِلْمَلَائِكَةِ بِفَاعِلِهَا ، أَعْظَمُ مِمّا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ سَيّئَةُ الْجَسّ مِنْ الْمَفْسَدَةِ وَتَضَمّنَتْهُ
مِنْ بُغْضِ اللّهِ لَهَا ، فَغُلّبَ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ
فَأَزَالَهُ [ ص 373 ] وَأَبْطَلَ مُقْتَضَاهُ وَهَذِهِ حِكْمَةُ اللّهِ
فِي الصّحّةِ وَالْمَرَضِ النّاشِئَيْنِ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ
الْمُوجِبَيْنِ لِصِحّةِ الْقَلْبِ وَمَرَضِهِ وَهِيَ نَظِيرُ حِكْمَتِهِ
تَعَالَى فِي الصّحّةِ وَالْمَرَضِ اللّاحِقَيْنِ لِلْبَدَنِ فَإِنّ
الْأَقْوَى مِنْهُمَا يَقْهَرُ الْمَغْلُوبَ وَيَصِيرُ الْحُكْمُ لَهُ
حَتّى يَذْهَبَ أَثَرُ الْأَضْعَفِ فَهَذِهِ حِكْمَتُهُ فِي خَلْقِهِ
وَقَضَائِهِ وَتِلْكَ حِكْمَتُهُ فِي شِرْعِهِ وَأَمْرِهِ . وَهَذَا كَمَا
أَنّهُ ثَابِتٌ فِي مَحْوِ السّيّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ } [ هُودٍ : 14 ]
، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } [ النّسَاءِ 3ُ1 ] ، وَقَوْلِهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَتْبِعْ السّيّئَةَ الْحَسَنَةَ
تَمْحُهَا فَهُوَ ثَابِتٌ فِي عَكْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا
أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنّ
وَالْأَذَى } [ الْبَقَرَةِ 264 ] ، وَقَوْلِهِ { يَا أَيّهَا الّذِينَ
آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلَا
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [ الْحُجُرَاتِ 2 ] .
وَقَوْلِ عَائِشَةَ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَنّهُ لَمّا بَاعَ
بِالْعِينَةِ إنّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَنْ يَتُوب وَكَقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي "
صَحِيحِهِ " [ ص 374 ] مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُه إلَى
غَيْرِ ذَلِك مِنْ النّصُوصِ وَالْآثَارِ الدّالّةِ عَلَى تَدَافُعِ
الْحَسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ وَإِبْطَالِ بَعْضِهَا بَعْضًا ، وَذَهَابِ
أَثَرِ الْقَوِيّ مِنْهَا بِمَا دُونَهُ وَعَلَى هَذَا مَبْنَى
الْمُوَازَنَةِ وَالْإِحْبَاطِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَقُوّةُ الْإِحْسَانِ
وَمَرَضُ الْعِصْيَانِ مُتَصَاوِلَانِ وَمُتَحَارِبَانِ وَلِهَذَا
الْمَرَضِ مَعَ هَذِهِ الْقُوّةِ حَالَةُ تَزَايُدٍ وَتَرَامٍ إلَى
الْهَلَاكِ وَحَالَةُ انْحِطَاطٍ وَتَنَاقُصٍ وَهِيَ خَيْرُ حَالَاتِ
الْمَرِيضِ وَحَالَةُ وُقُوفٍ وَتَقَابُلٍ إلَى أَنْ يَقْهَرَ أَحَدُهُمَا
الْآخَرَ وَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الْبُحْرَانِ وَهُوَ سَاعَةُ
الْمُنَاجَزَةِ فَحَظّ الْقَلْبِ أَحَدُ الْخُطّتَيْنِ إمّا السّلَامَةُ
وَإِمّا الْعَطَبُ وَهَذَا الْبُحْرَانُ يَكُونُ وَقْتَ فِعْلِ
الْوَاجِبَاتِ الّتِي تُوجِبُ رِضَى الرّبّ تَعَالَى وَمَغْفِرَتَهُ أَوْ
تُوجِبُ سُخْطَهُ وَعُقُوبَتَهُ وَفِي الدّعَاءِ النّبَوِيّ أَسْأَلُكَ
مُوجِبَاتِ رَحْمَتِك وَقَالَ عَنْ طَلْحَةَ يَوْمئِذٍ أَوْجَبَ طَلْحَةُ
وَرُفِعَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلٌ وَقَالُوا
: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ قَدْ أَوَجَبَ فَقَالَ أَعْتِقُوا عَنْه وَفِي
الْحَدِيثِ الصّحِيحِ أَتَدْرُونَ مَا الْمُوجِبَتَانِ ؟ " قَالُوا :
اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ " مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللّهِ
شَيْئًا دَخَلَ الْجَنّةَ ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاَللّهِ شَيْئًا
دَخَلَ النّارَ [ ص 375 ] الْمُنَجّي قَطْعًا . وَكَمَا أَنّ الْبَدَنَ
قَدْ تَعْرِضُ لَهُ أَسْبَابٌ رَدِيئَةٌ لَازِمَةٌ تُوهِنُ قُوّتَهُ
وَتُضْعِفُهَا ، فَلَا يَنْتَفِعُ مَعَهَا بِالْأَسْبَابِ الصّالِحَةِ
وَالْأَغْذِيَةِ النّافِعَةِ بَلْ تُحِيلُهَا تِلْكَ الْمَوَادّ
الْفَاسِدَةُ إلَى طَبْعِهَا وَقُوّتِهَا ، فَلَا يَزْدَادُ بِهَا إلّا
مَرَضًا ، وَقَدْ تَقُومُ بِهِ مَوَادّ صَالِحَةٌ وَأَسْبَابٌ مُوَافِقَةٌ
تُوجِبُ قُوّتَهُ وَتُمَكّنُهُ مِنْ الصّحّةِ وَأَسْبَابِهَا ، فَلَا
تَكَادُ تَضُرّهُ الْأَسْبَابُ الْفَاسِدَةُ بَلْ تُحِيلُهَا تِلْكَ
الْمَوَادّ الْفَاضِلَةُ إلَى طَبْعِهَا ، فَهَكَذَا مَوَادّ صِحّةِ
الْقَلْبِ وَفَسَادِهِ .
[ قُوّةُ إيمَانِ حَاطِبٍ فِي شُهُودِ بَدْرٍ مَحَتْ مَا صَنَع ]
فَتَأَمّلْ
قُوّةَ إيمَانِ حَاطِبٍ الّتِي حَمَلَتْهُ عَلَى شُهُودِ بَدْر ٍ ،
وَبَذْلِهِ نَفْسَهُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَإِيثَارِهِ اللّهَ وَرَسُولَهُ عَلَى قَوْمِهِ وَعَشِيرَتِهِ
وَقَرَابَتِهِ وَهُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ الْعَدُوّ وَفِي بَلَدِهِمْ
وَلَمْ يَثْنِ ذَلِكَ عِنَانَ عَزْمِهِ وَلَا فَلّ مِنْ حَدّ إيمَانِهِ
وَمُوَاجَهَتِهِ لِلْقِتَالِ لِمَنْ أَهْلُهُ وَعَشِيرَتُهُ وَأَقَارِبُهُ
عِنْدَهُمْ فَلَمّا جَاءَ مَرَضُ الْجَسّ بَرَزَتْ إلَيْهِ هَذِهِ
الْقُوّةُ وَكَانَ الْبُحْرَانُ صَالِحًا فَانْدَفَعَ الْمَرَضُ وَقَامَ
الْمَرِيضُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ قَلَبَةٌ وَلَمّا رَأَى الطّبِيبُ
قُوّةَ إيمَانِهِ قَدْ اسْتَعْلَتْ عَلَى مَرَضِ جَسّهِ وَقَهَرَتْهُ
قَالَ لِمَنْ أَرَادَ فَصْدَهُ لَا يَحْتَاجُ هَذَا الْعَارِضُ إلَى
فِصَادٍ وَمَا يُدْريِكَ لَعَلّ اللّهَ اطّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ،
فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَعَكَسَ هَذَا
ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التّمِيمِيّ وَأَضْرَابُهُ مِنْ الْخَوَارِجِ
الّذِينَ بَلَغَ اجْتِهَادُهُمْ فِي الصّلَاةِ وَالصّيَامِ وَالْقِرَاءَةِ
إلَى حَدّ يَحْقِرُ أَحَدُ الصّحَابَةِ عَمَلَهُ مَعَهُ كَيْفَ قَالَ
فِيهِمْ " لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ وَقَالَ
اُقْتُلُوهُمْ فَإِنّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللّهِ لِمَنْ
قَتَلَهُمْ . وَقَالَ شَرّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السّمَاءِ فَلَمْ
يَنْتَفِعُوا بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ مَعَ تِلْكَ الْمَوَادّ
الْفَاسِدَةِ الْمُهْلِكَةِ وَاسْتَحَالَتْ فَاسِدَةً . [ ص 376 ] حَالِ
إبْلِيسَ لَمّا كَانَتْ الْمَادّةُ الْمُهْلِكَةُ كَامِنَةً فِي نَفْسِهِ
لَمْ يَنْتَفِعْ مَعَهَا بِمَا سَلَفَ مِنْ طَاعَاتِهِ وَرَجَعَ إلَى
شَاكِلَتِهِ وَمَا هُوَ أَوْلَى بِهِ وَكَذَلِكَ الّذِي آتَاهُ اللّهُ
آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا ، فَأَتْبَعَهُ الشّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ
الْغَاوِينَ وَأَضْرَابُهُ وَأَشْكَالُهُ فَالْمُعَوّلُ عَلَى السّرَائِرِ
وَالْمَقَاصِدِ وَالنّيّاتِ وَالْهِمَمِ فَهِيَ الْإِكْسِيرُ الّذِي
يَقْلِبُ نُحَاسَ الْأَعْمَالِ ذَهَبًا ، أَوْ يَرُدّهَا خَبَثًا ،
وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . وَمَنْ لَهُ لُبّ وَعَقْلٌ يَعْلَمُ قَدْرَ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَشِدّةَ حَاجَتِهِ إلَيْهَا ، وَانْتِفَاعَهُ بِهَا
، وَيَطّلِعُ مِنْهَا عَلَى بَابٍ عَظِيمٍ مِنْ أَبْوَابِ مَعْرِفَةِ
اللّهِ سُبْحَانَهُ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَثَوَابِهِ
وَعِقَابِهِ وَأَحْكَامِ الْمُوَازَنَةِ وَإِيصَالِ اللّذّةِ وَالْأَلَمِ
إلَى الرّوحِ وَالْبَدَنِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَتَفَاوُتُ
الْمَرَاتِبِ فِي ذَلِكَ بِأَسْبَابٍ مُقْتَضِيَةٍ بَالِغَةٍ مِمّنْ هُوَ
قَائِمٌ عَلَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ .
فَصْلٌ [ جَوَازُ مُبَاغَتَةِ الْمُعَاهِدِينَ إذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ ]
وَفِي
هَذِهِ الْقِصّةِ جَوَازُ مُبَاغَتَةِ الْمُعَاهِدِينَ إذَا نَقَضُوا
الْعَهْدَ وَالْإِغَارَةُ عَلَيْهِمْأَلّا يُعْلِمَهُمْ بِمَسِيرِهِ
إلَيْهِمْ وَأَمّا مَا دَامُوا قَائِمِينَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ فَلَا
يَجُوزُ ذَلِك حَتّى يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ .
فَصْلٌ [ اسْتِحْبَابُ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ لِرُسُلِ الْعَدُوّ إذَا جَاءُوا إلَى الْإِمَامِ ]
وَفِيهَا
: جَوَازُ بَلْ اسْتِحْبَابُ كَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ وَقُوّتُهُمْ
وَشَوْكَتُهُمْ وَهَيْئَتُهُمْ لِرُسُلِ الْعَدُوّ إذَا جَاءُوا إلَى
الْإِمَامِ كَمَا يَفْعَلُ مُلُوكُ الْإِسْلَامِ كَمَا أَمَرَ النّبِيّ
صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِيقَادِ النّيرَانِ لَيْلَةَ الدّخُولِ
إلَى مَكّةَ ، وَأَمَرَ الْعَبّاس ُ أَنْ يَحْبِسَ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ
خَطْمِ الْجَبَلِ وَهُوَ مَا تَضَايَقَ مِنْهُ حَتّى عُرِضَتْ عَلَيْهِ
عَسَاكِرُ الْإِسْلَامِ وَعِصَابَةُ التّوْحِيدِ وَجُنْدُ اللّهِ
وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ خَاصِكِيّةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَهُمْ فِي السّلَاحِ مِنْهُمْ إلّا الْحَدَقُ ثُمّ أَرْسَلَهُ
فَأَخْبَرَ قُرَيْشًا بِمَا رَأَى .
فَصْلٌ [ جَوَازُ دُخُولِ مَكّةَ لِلْقِتَالِ الْمُبَاحِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ]
[ هَلْ يَجُوزُ دُخُولُ مَكّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِمَنْ لَمْ يُرِدْ الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ ]
[
ص 377 ] مَكّةَ لِلْقِتَالِ الْمُبَاحِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ كَمَا دَخَلَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمُونَ وَهَذَا
لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا خِلَافَ أَنّهُ لَا يَدْخُلُهَا مَنْ أَرَادَ
الْحَجّ أَوْ الْعُمْرَةَ إلّا بِإِحْرَامٍ وَاخْتُلِفَ فِيمَا سِوَى
ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الدّخُولُ لِحَاجَةٍ مُتَكَرّرَةٍ كَالْحَشّاشِ
وَالْحَطّابِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا : لَا يَجُوزُ
دُخُولُهَا إلّا بِإِحْرَامٍ وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَالشّافِعِيّ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْهِ . وَالثّانِي : أَنّهُ كَالْحَشّاشِ وَالْحَطّابِ
فَيَدْخُلُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشّافِعِيّ
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . وَالثّالِثُ أَنّهُ إنْ كَانَ دَاخِلَ
الْمَوَاقِيتِ جَازَ دُخُولُهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَإِنْ كَانَ خَارِجَ
الْمَوَاقِيتِ لَمْ يَدْخُلْ إلّا بِإِحْرَامٍ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي
حَنِيفَةَ وَهَدْيُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَعْلُومٌ فِي الْمُجَاهِدِ وَمُرِيدِ النّسُكِ وَأَمّا مَنْ عَدَاهُمَا
فَلَا وَاجِبَ إلّا مَا أَوْجَبَهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ أَجْمَعَتْ
عَلَيْهِ الْأُمّةُ .
فَصْلٌ [ فُتِحَتْ مَكّةُ عَنْوَةً وَالْخِلَافُ فِي قَسْمِ الْغَنَائِمِ ]
وَفِيهَا
الْبَيَانُ الصّرِيحُ بِأَنّ مَكّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً كَمَا ذَهَبَ
إلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ
إلّا عَنْ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَسِيَاقُ
الْقِصّةِ أَوْضَحُ شَاهِدٍ لِمَنْ تَأَمّلَهُ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ
وَلَمّا اسْتَهْجَنَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيّ الْقَوْلَ بِأَنّهَا
فُتِحَتْ صُلْحًا ، حَكَى قَوْلَ الشّافِعِيّ أَنّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً
فِي " وَسِيطِهِ " ، وَقَالَ هَذَا مَذْهَبُهُ . قَالَ أَصْحَابُ الصّلْحِ
لَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً لَقَسَمَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا قَسَمَ خَيْبَرَ ، وَكَمَا قَسَمَ
سَائِرَ الْغَنَائِمِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ فَكَانَ يُخَمّسُهَا
وَيَقْسِمُهَا ، قَالُوا : وَلَمّا اسْتَأْمَنَ أَبُو سُفْيَانَ لِأَهْلِ
مَكّةَ لَمّا أَسْلَمَ ، فَأَمّنَهُمْ كَانَ هَذَا عَقْدَ صُلْحٍ مَعَهُمْ
قَالُوا : وَلَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً لَمَلَكَ الْغَانِمُونَ رِبَاعَهَا
وَدُورَهَا ، وَكَانُوا أَحَقّ بِهَا [ ص 378 ] وَجَازَ إخْرَاجُهُمْ
مِنْهَا ، فَحَيْثُ لَمْ يَحْكُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِيهَا بِهَذَا الْحُكْمِ بَلْ لَمْ يَرُدّ عَلَى
الْمُهَاجِرِينَ دُورَهُمْ الّتِي أُخْرِجُوا مِنْهَا ، وَهِيَ بِأَيْدِي
الّذِينَ أَخْرَجُوهُمْ وَأَقَرّهُمْ عَلَى بَيْعِ الدّورِ وَشِرَائِهَا
وَإِجَارَتِهَا وَسُكْنَاهَا ، وَالِانْتِفَاعِ بِهَا ، وَهَذَا مُنَافٍ
لِأَحْكَامِ فُتُوحِ الْعَنْوَةِ وَقَدْ صَرّحَ بِإِضَافَةِ الدّورِ إلَى
أَهْلِهَا ، فَقَالَ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ،
وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ قَالَ أَرْبَابُ الْعَنْوَةِ لَوْ
كَانَ قَدْ صَالَحَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِأَمَانِهِ الْمُقَيّدِ بِدُخُولِ
كُلّ وَاحِدٍ دَارَهُ وَإِغْلَاقِهِ بَابَهُ وَإِلْقَائِهِ سِلَاحَهُ
فَائِدَةٌ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ حَتّى قَتَلَ
مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَلَمَا قَتَلَ مَقِيسَ بْنَ
صُبَابَةَ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ خَطَلٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمَا ، فَإِنّ
عَقْدَ الصّلْحِ لَوْ كَانَ قَدْ وَقَعَ لَاسْتُثْنِيَ فِيهِ هَؤُلَاءِ
قَطْعًا ، وَلَنُقِلَ هَذَا وَهَذَا ، وَلَوْ فُتِحَتْ صُلْحًا ، لَمْ
يُقَاتِلْهُمْ وَقَدْ قَالَ فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُولُوا : إنّ اللّهَ أَذِنَ
لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا الْإِذْنَ
الْمُخْتَصّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا هُوَ
الْإِذْنُ فِي الْقِتَالِ لَا فِي الصّلْحِ فَإِنّ الْإِذْنَ فِي الصّلْحِ
عَامّ . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ فَتْحُهَا صُلْحًا ، لَمْ يَقُلْ إنّ
اللّهَ قَدْ أَحَلّهَا لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَإِنّهَا إذَا فُتِحَتْ
صُلْحًا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى حُرْمَتِهَا ، وَلَمْ تَخْرُجْ
بِالصّلْحِ عَنْ الْحُرْمَةِ وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنّهَا فِي تِلْكَ
السّاعَةِ لَمْ تَكُنْ حَرَامًا ، وَأَنّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ سَاعَةِ
الْحَرْبِ عَادَتْ إلَى حُرْمَتِهَا الْأُولَى . وَأَيْضًا فَإِنّهَا لَوْ
فُتِحَتْ صُلْحًا لَمْ يُعَبّئْ جَيْشَهُ خَيّالَتَهُمْ وَرَجّالَتَهُمْ
مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَمَعَهُمْ السّلَاحُ وَقَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ
: اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ " ، فَهَتَفَ بِهِمْ فَجَاءُوا ،
فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ "
أَتَرْونَ إلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ " ، ثُمّ قَالَ
بِيَدَيْهِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى : " اُحْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتّى
تُوَافُونِي عَلَى الصّفَا " ، حَتّى قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَا رَسُولَ
اللّهِ أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَنْ أَغْلَقَ
بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَهَذَا مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مَعَ الصّلْحِ فَإِنْ
كَانَ قَدْ تَقَدّمَ صُلْحٌ - وَكَلّا - فَإِنّهُ يَنْتَقِضُ بِدُونِ
هَذَا . [ ص 379 ] فَكَيْفَ يَكُونُ صُلْحًا ، وَإِنّمَا فُتِحَتْ
بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالرّكَابِ وَلَمْ يَحْبِسْ اللّهُ خَيْلَ
رَسُولِهِ وَرِكَابَهُ عَنْهَا ، كَمَا حَبَسَهَا يَوْمَ صُلْحِ
الْحُدَيْبِيَةِ ، فَإِنّ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَانَ يَوْمَ الصّلْحِ حَقًا ،
فَإِنّ الْقَصْوَاءَ لَمّا بَرَكَتْ بِهِ قَالُوا : خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ
قَالَ مَا خَلَأَتْ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا
حَابِسُ الْفِيلِ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطّةً
يُعَظّمُونَ فِيهَا حُرْمَةً مِنْ حُرُمَاتِ اللّهِ إلّا
أَعْطَيْتُهُمُوهَا وَكَذَلِكَ جَرَى عَقْدُ الصّلْحِ بِالْكِتَابِ وَالشّهُودِ
وَمَحْضَرِ مَلَإٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُسْلِمُونَ
يَوْمَئِذٍ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ فَجَرَى مِثْلُ هَذَا الصّلْحِ فِي
يَوْمِ الْفَتْحِ وَلَا يُكْتَبُ وَلَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ وَلَا
يَحْضُرُهُ أَحَدٌ ، وَلَا يُنْقَلُ كَيْفِيّتُهُ وَالشّرُوطُ فِيهِ هَذَا
مِنْ الْمُمْتَنِعِ الْبَيّنِ امْتِنَاعُهُ وَتَأَمّلْ قَوْلَهُ إنّ
اللّهَ حَبَسَ عَنْ مَكّةَ الْفِيلَ ، وَسَلّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ
وَالْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنّ قَهْرَ رَسُولِهِ
وَجَنَدِهِ الْغَالِبِينَ لِأَهْلِهَا أَعْظَمُ مِنْ قَهْرِ الْفِيلِ
الّذِي كَانَ يَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً فَحَبَسَهُ عَنْهُمْ
وَسَلّطَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ حَتّى فَتَحُوهَا
عَنْوَةً بَعْدَ الْقَهْرِ وَسُلْطَانِ الْعَنْوَةِ وَإِذْلَالِ الْكُفْرِ
وَأَهْلِهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَجَلّ قَدْرًا ، وَأَعْظَمَ خَطَرًا ،
وَأَظْهَرَ آيَةً وَأَتَمّ نُصْرَةً وَأَعْلَى كَلِمَةً مِنْ أَنْ
يُدْخِلَهُمْ تَحْتَ رِقّ الصّلْحِ وَاقْتِرَاحِ الْعَدُوّ وَشُرُوطِهِمْ
وَيَمْنَعُهُمْ سُلْطَانَ الْعَنْوَةِ وَعِزّهَا وَظَفَرَهَا فِي أَعْظَمِ
فَتْحٍ فَتَحَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَعَزّ بِهِ دِينَهُ وَجَعَلَهُ آيَةً
لِلْعَالَمِينَ . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهَا لَوْ فُتِحَتْ
عَنْوَةً لَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَهَذَا مَبْنِيّ عَلَى أَنّ
الْأَرْضَ دَاخِلَةٌ فِي الْغَنَائِمِ الّتِي قَسَمَهَا اللّهُ
سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بَعْدَ تَخْمِيسِهَا ، وَجُمْهُورُ
الصّحَابَةِ وَالْأَئِمّةِ بَعْدَهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَأَنّ
الْأَرْضَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي الْغَنَائِمِ الّتِي تَجِبُ قِسْمَتُهَا
، وَهَذِهِ كَانَتْ سِيرَةَ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ فَإِنّ بِلَالًا
وَأَصْحَابَهُ لَمّا طَلَبُوا مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ الْأَرْضَ الّتِي افْتَتَحُوهَا عَنْوَةً
وَهِيَ الشّامُ وَمَا حَوْلَهَا ، وَقَالُوا لَهُ خُذْ خُمُسَهَا
وَاقْسِمْهَا ، فَقَالَ عُمَرُ هَذَا غَيْرُ الْمَالِ وَلَكِنْ أَحْبِسُهُ
فَيْئًا يَجْرِي عَلَيْكُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ بِلَالٌ
وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ اقْسِمْهَا بَيْنَنَا ، فَقَالَ
عُمَرُ [ ص 380 ] اللّهُمّ اكْفِنِي بِلَالًا وَذَوِيهِ فَمَا حَالَ
الْحَوْلُ وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ ثُمّ وَافَقَ سَائِرُ الصّحَابَةِ -
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ - عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - عَلَى ذَلِكَ
وَكَذَلِك جَرَى فِي فُتُوحِ مِصْرَ وَالْعِرَاقِ ، وَأَرْضِ فَارِسَ ،
وَسَائِرِ الْبِلَادِ الّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً لَمْ يَقْسِمْ مِنْهَا
الْخُلَفَاءُ الرّاشِدُونَ قَرْيَةً وَاحِدَةً . وَلَا يَصِحّ أَنْ
يُقَالَ إنّهُ اسْتَطَابَ نُفُوسَهُمْ وَوَقَفَهَا بِرِضَاهُمْ فَإِنّهُمْ
قَدْ نَازَعُوهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ يَأْبَى عَلَيْهِمْ وَدَعَا عَلَى
بِلَالٍ وَأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ - وَكَانَ الّذِي رَآهُ
وَفَعَلَهُ عَيْنَ الصّوَابِ وَمَحْضَ التّوْفِيقِ إذْ لَوْ قُسِمَتْ
لَتَوَارَثَهَا وَرَثَةُ أُولَئِكَ وَأَقَارِبُهُمْ فَكَانَتْ الْقَرْيَةُ
وَالْبَلَدُ تَصِيرُ إلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ صَبِيّ صَغِيرٍ
وَالْمُقَاتِلَةُ لَا شَيْءَ بِأَيْدِيهِمْ فَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ
الْفَسَادِ وَأَكْبَرُهُ وَهَذَا هُوَ الّذِي خَافَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ مِنْهُ فَوَفّقَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ لِتَرْكِ قِسْمَةِ الْأَرْضِ
وَجَعَلَهَا وَقْفًا عَلَى الْمُقَاتِلَةِ تَجْرِي عَلَيْهِمْ فَيْئًا
حَتّى يَغْزُوَ مِنْهَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ وَظَهَرَتْ بَرَكَةُ
رَأْيِهِ وَيُمْنُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَوَافَقَهُ جُمْهُورُ
الْأَئِمّةِ . وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيّةِ إبْقَائِهَا بِلَا قِسْمَةٍ
فَظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَكْثَرُ نُصُوصِهِ عَلَى أَنّ
الْإِمَامَ مُخَيّرٌ فِيهَا تَخْيِيرَ مَصْلَحَةٍ لَا تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ
فَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ قِسْمَتَهَا ، قَسَمَهَا ،
وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ أَنْ يَقِفَهَا عَلَى جَمَاعَتِهِمْ وَقَفَهَا ،
وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ قِسْمَةَ الْبَعْضِ وَوَقْفَ الْبَعْضِ فَعَلَهُ
فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَلَ
الْأَقْسَامَ الثّلَاثَةَ فَإِنّهُ قَسَمَ أَرْضَ قُرَيْظَةَ وَالنّضِيرِ
وَتَرَكَ قِسْمَةَ مَكّةَ ، وَقَسَمَ بَعْضَ خَيْبَرَ ، وَتَرَكَ
بَعْضَهَا لِمَا يَنُوبُهُ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . وَعَنْ
أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ أَنّهَا تَصِيرُ وَقْفًا بِنَفْسِ الظّهُورِ
وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْشِئَ الْإِمَامُ
وَقْفَهَا ، وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ
أَنّهُ يَقْسِمُهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ
الْمَنْقُولَ إلّا أَنْ يَتْرُكُوا حُقُوقَهُمْ مِنْهَا ، وَهِيَ مَذْهَبُ
الشّافِعِيّ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْإِمَامُ مُخَيّرٌ بَيْنَ
الْقِسْمَةِ وَبَيْنَ أَنْ يُقِرّ أَرْبَابَهَا فِيهَا بِالْخَرَاجِ
وَبَيْنَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ عَنْهَا وَيُنْفِذَ إلَيْهَا قَوْمًا آخَرِينَ
يَضْرِبُ عَلَيْهِمْ الْخَرَاجَ . [ ص 381 ] رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
بِمُخَالِفٍ لِلْقُرْآنِ فَإِنّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي
الْغَنَائِمِ الّتِي أَمَرَ اللّهُ بِتَخْمِيسِهَا وَقِسْمَتِهَا ،
وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ إنّهَا غَيْرُ الْمَالِ وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَنّ
إبَاحَةَ الْغَنَائِمِ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِ هَذِهِ الْأُمّةِ بَلْ هُوَ
مِنْ خَصَائِصِهَا ، كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
الْحَدِيثِ الْمُتّفَقِ عَلَى صِحّتِهِ وَأُحِلّتْ لِي الْغَنَائِمُ ،
وَلَمْ تَحِلّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَقَدْ أَحَلّ اللّهُ سُبْحَانَهُ
الْأَرْضَ الّتِي كَانَتْ بِأَيْدِي الْكُفّارِ لِمَنْ قَبْلَنَا مِنْ
أَتْبَاعِ الرّسُلِ إذَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا عَنْوَةً كَمَا أَحَلّهَا
لِقَوْمِ مُوسَى ، فَلِهَذَا قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ { يَا قَوْمِ
ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلَا
تَرْتَدّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [
الْمَائِدَةَ 21 ] فَمُوسَى وَقَوْمُهُ قَاتَلُوا الْكُفّارَ
وَاسْتَوْلَوْا عَلَى دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَجَمَعُوا
الْغَنَائِمَ ثُمّ نَزَلَتْ النّارُ مِنْ السّمَاءِ فَأَكَلَتْهَا ،
وَسَكَنُوا الْأَرْضَ وَالدّيَارَ وَلَمْ تُحَرّمْ عَلَيْهِمْ فَعُلِمَ
أَنّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْغَنَائِمِ وَأَنّهَا لِلّهِ يُورِثُهَا مَنْ
يَشَاءُ .
فَصْلٌ [ يُمْنَعُ قِسْمَةُ مَكّةَ لِأَنّهَا دَارُ نُسُكٍ ]
وَأَمّا
مَكّةُ ، فَإِنّ فِيهَا شَيْئًا آخَرَ يَمْنَعُ مِنْ قِسْمَتِهَا وَلَوْ
وَجَبَتْ قِسْمَةُ مَا عَدَاهَا مِنْ الْقُرَى ، وَهِيَ أَنّهَا لَا
تُمْلَكُ فَإِنّهَا دَارُ النّسُكِ وَمُتَعَبّدُ الْخَلْقِ وَحَرَمُ
الرّبّ تَعَالَى الّذِي جَعَلَهُ لِلنّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ
وَالْبَادِ فَهِيَ وَقْفٌ مِنْ اللّهِ عَلَى الْعَالَمِينَ وَهُمْ فِيهَا
سَوَاءٌ وَمِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ قَالَ تَعَالَى : { إِنّ الّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
الّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ
يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [
الْحَجّ 25 ] ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُنَا ، الْمُرَادُ بِهِ
الْحَرَمُ كُلّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ
فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [
التّوْبَةَ 28 ] ، فَهَذَا الْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ كُلّهُ وَقَوْلُهُ
سُبْحَانَهُ { سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } [ الْإِسْرَاءَ :
1 ] ، وَفِي الصّحِيحِ إنّهُ أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمّ هَانِئٍ
وَقَالَ [ ص 382 ] { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ الْبَقَرَةَ 196 ] ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ
حُضُورَ نَفْسِ مَوْضِعِ الصّلَاةِ اتّفَاقًا ، وَإِنّمَا هُوَ حُضُورُ
الْحَرَمِ وَالْقُرْبُ مِنْهُ وَسِيَاقُ آيَةِ الْحَجّ تَدُلّ عَلَى
ذَلِكَ فَإِنّهُ قَالَ { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وَهَذَا لَا يَخْتَصّ بِمَقَامِ
الصّلَاةِ قَطْعًا ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ كُلّهُ فَاَلّذِي
جَعَلَهُ لِلنّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ هُوَ الّذِي
تَوَعّدَ مَنْ صَدّ عَنْهُ وَمَنْ أَرَادَ الْإِلْحَادَ بِالظّلْمِ فِيهِ
فَالْحَرَمُ وَمَشَاعِرُهُ كَالصّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَالْمَسْعَى
وَمِنًى ، وَعَرَفَةَ ، وَمُزْدَلِفَةَ ، لَا يَخْتَصّ بِهَا أَحَدٌ دُونَ
أَحَدٍ ، بَلْ هِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النّاسِ إذْ هِيَ مَحَلّ
نُسُكِهِمْ وَمُتَعَبّدِهِمْ فَهِيَ مَسْجِدٌ مِنْ اللّهِ وَقَفَهُ
وَوَضَعَهُ لِخَلْقِهِ وَلِهَذَا امْتَنَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُبْنَى لَهُ بَيْتٌ بِمِنًى يُظِلّهُ مِنْ
الْحَرّ وَقَالَ مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ
[ جُمْهُورُ الْأَئِمّةِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ أَرَاضِي مَكّةَ وَلَا إجَارَةِ بُيُوتِهَا ]
وَلِهَذَا
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْأَئِمّةِ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنّهُ لَا
يَجُوزُ بَيْعُ أَرَاضِي مَكّةَ ، وَلَا إجَارَةُ بُيُوتِهَا ، هَذَا
مَذْهَبُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاء ٍ فِي أَهْلِ مَكّةَ ، وَمَالِكٍ فِي أَهْلِ
الْمَدِينَةِ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَسُفْيَانَ
الثّوْرِيّ ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ
رَاهْوَيْهِ . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ
عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ ، قَالَ كَانَتْ رِبَاعُ مَكّةَ تُدْعَى
السّوَائِبَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ وَمَنْ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ
. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ : مَنْ أَكَلَ أُجُورَ
بُيُوتِ مَكّةَ ، فَإِنّمَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنّمَ رَوَاهُ
الدّارَقُطْنِيّ مَرْفُوعًا إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَفِيهِ إنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ ، فَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَأَكْلُ
ثَمَنِهَا . [ ص 383 ] وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدّثَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُوسٍ وَمُجَاهِدٍ ، أَنّهُمْ قَالُوا :
يُكْرَهُ أَنْ تُبَاعَ رِبَاعُ مَكّةَ أَوْ تُكْرَى بُيُوتُهَا . وَذَكَرَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ ، قَالَ مَنْ
أَكَلَ مِنْ كِرَاءِ بُيُوتِ مَكّةَ ، فَإِنّمَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ
نَارًا . وَقَالَ أَحْمَدُ حَدّثَنَا هُشَيْمٌ ، حَدّثَنَا حَجّاجٌ عَنْ
مُجَاهِدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ نُهِيَ عَنْ إجَارَةِ
بُيُوتِ مَكّةَ وَعَنْ بَيْعِ رِبَاعِهَا . وَذَكَرَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ
نُهِيَ عَنْ إجَارَةِ بُيُوتِ مَكّةَ . وَقَالَ أَحْمَدَ حَدّثَنَا
إسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ حَدّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ قَالَ كَتَبَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى أَمِيرِ أَهْلِ مَكّةَ يَنْهَاهُمْ
عَنْ إجَارَةِ بُيُوتِ مَكّةَ ، وَقَالَ إنّهُ حَرَامٌ . وَحَكَى أَحْمَدُ
عَن ْ عُمَر َ أَنّهُ نَهَى أَنْ يَتّخِذَ أَهْلُ مَكّةَ لِلدّورِ
أَبْوَابًا ، لِيَنْزِل الْبَادِي حَيْثُ شَاءَ وَحَكَى عَنْ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ نَهَى أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُ
دُورِ مَكّةَ ، فَنَهَى مَنْ لَا بَابَ لِدَارِهِ أَنْ يَتّخِذَ لَهَا
بَابًا ، وَمَنْ لِدَارِهِ بَابٌ أَنْ يُغْلِقَهُ وَهَذَا فِي أَيّامِ
الْمَوْسِمِ . قَالَ الْمُجَوّزُونَ لِلْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ الدّلِيلُ
عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ كِتَابُ اللّهِ وَسُنّةُ رَسُولِهِ وَعَمَلُ
أَصْحَابِهِ وَخُلَفَائِهِ الرّاشِدِينَ . قَالَ اللّهُ تَعَالَى : {
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ } [ الْحَشْرَ 8 ] ، وَقَالَ { فَالّذِينَ هَاجَرُوا
وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } [ آلَ عِمْرَانَ 195 ] ، وَقَالَ {
إِنّمَا يَنْهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدّينِ
وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } [ الْمُمْتَحِنَةَ 9 ] فَأَضَافَ
الدّورَ إلَيْهِمْ وَهَذِهِ إضَافَةُ تَمْلِيكٍ وَقَالَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ قِيلَ لَهُ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا
بِدَارِك بِمَكّةَ ؟ فَقَالَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ
وَلَمْ يَقُلْ إنّهُ لَا دَارَ لِي ، بَلْ أَقَرّهُمْ عَلَى الْإِضَافَةِ
وَأَخْبَرَ أَنّ عَقِيلًا اسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَلَمْ يَنْزِعْهَا مِنْ
يَدِهِ وَإِضَافَةُ دُورِهِمْ إلَيْهِمْ فِي الْأَحَادِيثِ أَكْثَرُ مِنْ
أَنْ تُذْكَرَ كَدَارِ أُمّ هَانِئٍ ، وَدَارِ خَدِيجَةَ ، وَدَارِ أَبِي
أَحْمَدَ بْنِ جَحْش ٍ
[ ص 384 ] وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَهَا كَمَا
يَتَوَارَثُونَ الْمَنْقُولَ وَلِهَذَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِل وَكَانَ
عَقِيلٌ هُوَ وَرِثَ دُورَ أَبِي طَالِبٍ فَإِنّهُ كَانَ كَافِرًا ،
وَلَمْ يَرِثْهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لِاخْتِلَافِ الدّينِ
بَيْنَهُمَا ، فَاسْتَوْلَى عَقِيلٌ عَلَى الدّورِ . وَلَمْ يَزَالُوا
قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَبَعْدَهَا ، بَلْ قَبْل الْمَبْعَثِ وَبَعْدَهُ مَنْ
مَاتَ وَرِثَتْهُ دَارُهُ إلَى الْآنَ وَقَدْ بَاعَ صَفْوَانُ بْنُ
أُمَيّةَ دَارًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَاِتّخَذَهَا سِجْنًا ، وَإِذَا جَازَ
الْبَيْعُ وَالْمِيرَاثُ فَالْإِجَارَةُ أَجْوَزُ وَأَجْوَزُ فَهَذَا
مَوْقِفُ أَقْدَامِ الْفَرِيقَيْنِ كَمَا تَرَى ، وَحُجَجُهُمْ فِي
الْقُوّةِ وَالظّهُورِ لَا تُدْفَعُ وَحُجَجُ اللّهِ وَبَيّنَاتُهُ لَا
يُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا بَلْ يُصَدّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَيَجِبُ
الْعَمَلُ بِمُوجَبِهَا كُلّهَا ، وَالْوَاجِبُ اتّبَاعُ الْحَقّ أَيْنَ
كَانَ .
[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ مَنْعَ الْإِجَارَةِ وَجَوَازَ الْبَيْعِ ]
فَالصّوَابُ
الْقَوْلُ بِمُوجَبِ الْأَدِلّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَأَنّ الدّورَ
تُمْلَكُ وَتُوهَبُ وَتُوَرّثُ وَتُبَاعُ وَيَكُونُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِي
الْبِنَاءِ لَا فِي الْأَرْضِ وَالْعَرْصَةِ فَلَوْ زَالَ بِنَاؤُهُ لَمْ
يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَرْضَ وَلَهُ أَنْ يَبْنِيَهَا وَيُعِيدَهَا
كَمَا كَانَتْ وَهُوَ أَحَقّ بِهَا يَسْكُنُهَا وَيُسْكِنُ فِيهَا مَنْ
شَاءَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَى مَنْفَعَةِ السّكْنَى بِعَقْدِ
الْإِجَارَةِ فَإِنّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ إنّمَا يَسْتَحِقّ أَنْ
يُقَدّمَ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِ وَيَخْتَصّ بِهَا لِسَبْقِهِ وَحَاجَتِهِ
فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعَاوِضَ عَلَيْهَا
، كَالْجُلُوسِ فِي الرّحَابِ وَالطّرُقِ الْوَاسِعَةِ وَالْإِقَامَةِ
عَلَى الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْأَعْيَانِ
الْمُشْتَرَكَةِ الّتِي مَنْ سَبَقَ إلَيْهَا ، فَهُوَ أَحَقّ بِهَا مَا
دَامَ يَنْتَفِعُ فَإِذَا اسْتَغْنَى ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعَاوِضَ
وَقَدْ صَرّحَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنّ الْبَيْعَ وَنَقْلَ
الْمِلْكِ فِي رِبَاعِهَا إنّمَا يَقَعُ عَلَى الْبِنَاءِ لَا عَلَى
الْأَرْضِ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ .
[ نَظَائِرُ فِي الشّرِيعَةِ لِمَنْعِ الْإِجَارَةِ وَجَوَازِ الْبَيْعِ ]
فَإِنْ
قِيلَ فَقَدْ مَنَعْتُمْ الْإِجَارَةَ وَجَوّزْتُمْ الْبَيْعَ فَهَلْ
لِهَذَا نَظِيرٌ فِي الشّرِيعَةِ وَالْمَعْهُودُ فِي الشّرِيعَةِ أَنّ
الْإِجَارَةَ أَوْسَعُ مِنْ الْبَيْعِ فَقَدْ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ
وَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ كَالْوَقْفِ وَالْحُرّ فَأَمّا الْعَكْسُ فَلَا
عَهْدَ لَنَا بِهِ ؟ قِيلَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ
عَقْدٌ مُسْتَقِلّ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْآخَرِ فِي جَوَازِهِ
وَامْتِنَاعِهِ وَمَوْرِدُهُمَا مُخْتَلِفٌ وَأَحْكَامُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ
وَإِنّمَا جَازَ الْبَيْعُ لِأَنّهُ وَارِدٌ عَلَى الْمَحَلّ الّذِي كَانَ
الْبَائِعُ [ ص 385 ] أَخَصّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الْبِنَاءُ
وَأَمّا الْإِجَارَةُ فَإِنّمَا تَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ
مُشْتَرَكَةٌ وَلِلسّابِقِ إلَيْهَا حَقّ التّقَدّمِ دُونَ الْمُعَاوَضَةِ
فَلِهَذَا أَجَزْنَا الْبَيْعَ دُونَ الْإِجَارَةِ فَإِنْ أَبَيْتُمْ إلّا
النّظِيرَ قِيلَ هَذَا الْمُكَاتَبُ يَجُوزُ لِسَيّدِهِ بَيْعُهُ
وَيَصِيرُ مُكَاتَبًا عِنْدَ مُشْتَرِيهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ إجَارَتُهُ
إذْ فِيهَا إبْطَالُ مَنَافِعِهِ وَأَكْسَابِهِ الّتِي مَلَكَهَا بِعَقْدِ
الْكِتَابَةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . عَلَى أَنّهُ لَا يُمْنَعُ الْبَيْعُ
وَإِنْ كَانَتْ مَنَافِعُ أَرْضِهَا وَرِبَاعِهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ فَإِنّهَا تَكُونُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي كَذَلِك
مُشْتَرَكَةَ الْمَنْفَعَةِ إنْ احْتَاجَ سَكَنَ وَإِنْ اسْتَغْنَى ،
أَسْكَنَ كَمَا كَانَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ فَلَيْسَ فِي بَيْعِهَا
إبْطَالُ اشْتِرَاكِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا
أَنّهُ لَيْسَ فِي بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إبْطَالُ مِلْكِهِ لِمَنَافِعِهِ
الّتِي مَلَكَهَا بِعَقْدِ الْمُكَاتَبَةِ وَنَظِيرُ هَذَا جَوَازُ بَيْعِ
أَرْضِ الْخَرَاجِ الّتِي وَقَفَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلَى
الصّحِيحِ الّذِي اسْتَقَرّ الْحَالُ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ الْأُمّةِ
قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، فَإِنّهَا تَنْتَقِل إلَى الْمُشْتَرِي خَرَاجِيّةً
كَمَا كَانَتْ عِنْدَ الْبَائِعِ وَحَقّ الْمُقَاتِلَةِ إنّمَا هُوَ فِي
خَرَاجِهَا ، وَهُوَ لَا يَبْطُلُ بِالْبَيْعِ وَقَدْ اتّفَقَتْ الْأُمّةُ
عَلَى أَنّهَا تُورَثُ فَإِنْ كَانَ بُطْلَانُ بَيْعِهَا لِكَوْنِهَا
وَقْفًا ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ وَقْفِيّتُهَا مُبْطِلَةً
لِمِيرَاثِهَا ، وَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ جَعْلِهَا صَدَاقًا
فِي النّكَاحِ فَإِذَا جَازَ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهَا بِالصّدَاقِ
وَالْمِيرَاثِ وَالْهِبَةِ جَازَ الْبَيْعُ فِيهَا قِيَاسًا وَعَمَلًا ،
وَفِقْهًا . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ هَلْ يُضْرَبُ الْخَرَاجُ عَلَى مَزَارِعِ مَكّةَ كَسَائِرِ أَرْضِ الْعَنْوَةِ ؟ ]
فَإِذَا
كَانَتْ مَكّةُ قَدْ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَهَلْ يُضْرَبُ الْخَرَاجُ عَلَى
مَزَارِعِهَا كَسَائِرِ أَرْضِ الْعَنْوَةِ وَهَلْ يَجُوزُ لَكُمْ أَنْ
تَفْعَلُوا ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ
لِأَصْحَابِ الْعَنْوَةِ أَحَدُهُمَا : الْمَنْصُوصُ الْمَنْصُورُ الّذِي
لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِغَيْرِهِ أَنّهُ لَا خَرَاجَ عَلَى مَزَارِعِهَا
وَإِنْ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَإِنّهَا أَجَلّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُضْرَبَ
عَلَيْهَا الْخَرَاجُ لَا سِيمَا وَالْخَرَاجُ هُوَ جِزْيَةُ الْأَرْضِ
وَهُوَ عَلَى الْأَرْضِ كَالْجِزْيَةِ عَلَى الرّءُوسِ وَحَرَمُ الرّبّ
أَجَلّ قَدْرًا وَأَكْبَرُ مِنْ أَنْ تُضْرَبَ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ وَمَكّةُ
بِفَتْحِهَا عَادَتْ إلَى مَا [ ص 386 ] وَضَعَهَا اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ
كَوْنِهَا حَرَمًا آمِنًا يَشْتَرِكُ فِيهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ إذْ هُوَ
مَوْضِعُ مَنَاسِكِهِمْ وَمُتَعَبّدِهِمْ وَقِبْلَةُ أَهْلِ الْأَرْضِ .
وَالثّانِي - وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ - أَنّ عَلَى
مَزَارِعِهَا الْخَرَاجُ كَمَا هُوَ عَلَى مَزَارِعِ غَيْرِهَا مِنْ
أَرْضِ الْعَنْوَةِ وَهَذَا فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِنَصّ أَحْمَدَ رَحِمَهُ
اللّهُ وَمَذْهَبِهِ وَلِفِعْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَخُلَفَائِهِ الرّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِهِ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُمْ فَلَا الْتِفَاتَ إلَيْهِ وَاَللّه أَعْلَمُ . وَقَدْ بَنَى
بَعْضُ الْأَصْحَابِ تَحْرِيمَ بَيْعِ رِبَاعِ مَكّةَ عَلَى كَوْنِهَا
فُتِحَتْ عَنْوَةً وَهَذَا بِنَاءٌ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنّ مَسَاكِنَ
أَرْضِ الْعَنْوَةِ تُبَاعُ قَوْلًا وَاحِدًا ، فَظَهَرَ بُطْلَانُ هَذَا
الْبِنَاءِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ تَعْيِينُ قَتْلِ السّابّ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَفِيهَا
: تَعْيِينُ قَتْلِ السّابّ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَأَنّ قَتْلَهُ حَدّ لَا بُدّ مِنْ اسْتِيفَائِهِ فَإِنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُؤَمّنْ مَقِيسَ بْنَ
صُبَابَةَ ، وَابْنَ خَطَلٍ ، وَالْجَارِيَتَيْنِ اللّتَيْنِ كَانَتَا
تُغَنّيَانِ بِهِجَائِهِ مَعَ أَنّ نِسَاءَ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا
يُقْتَلْنَ كَمَا لَا تُقْتَلُ الذّرّيّةُ وَقَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ
هَاتَيْنِ الْجَارِيَتَيْنِ وَأَهْدَرَ دَمَ أُمّ وَلَدِ الْأَعْمَى لَمّا
قَتَلَهَا سَيّدُهَا لِأَجْلِ سِبّهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَقَتَلَ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيّ ، وَقَالَ مَنْ
لِكَعْبٍ فَإِنّهُ قَدْ آذَى اللّهَ وَرَسُولَهُ " وَكَانَ يَسُبّهُ
وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ وَلَا يُعْلَمُ لَهُمْ
فِي الصّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَإِنّ الصّدّيقَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
قَالَ لِأَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيّ وَقَدْ هَمّ بِقَتْلِ مَنْ سَبّهُ
لَمْ يَكُنْ هَذَا لِأَحَدٍ غَيْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَمَرّ عُمَرُ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - بِرَاهِبٍ فَقِيلَ لَهُ
هَذَا يَسُبّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَقَالَ
لَوْ سَمِعْتُهُ لَقَتَلْتُهُ ، إنّا لَمْ نُعْطِهِمْ الذّمّةَ عَلَى أَنْ
يَسُبّوا نَبِيّنَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 387 ]
الْمُحَارَبَةَ بِسَبّ نَبِيّنَا أَعْظَمُ أَذِيّةً وَنِكَايَةً لَنَا
مِنْ الْمُحَارَبَةِ بِالْيَدِ وَمَنْعِ دِينَارِ جِزْيَةٍ فِي السّنَةِ
فَكَيْفَ يُنْقَضُ عَهْدُهُ وَيُقْتَلُ بِذَلِكَ دُونَ السّبّ وَأَيّ
نِسْبَةٍ لِمَفْسَدَةِ مَنْعِهِ دِينَارًا فِي السّنَةِ إلَى مَفْسَدَةِ
مَنْعِ مُجَاهَرَتِهِ بِسَبّ نَبِيّنَا أَقْبَحَ سَبّ عَلَى رُءُوسِ
الْأَشْهَادِ بَلْ لَا نِسْبَةَ لِمَفْسَدَةِ مُحَارَبَتِهِ بِالْيَدِ
إلَى مَفْسَدَةِ مُحَارَبَتِهِ بِالسّبّ فَأَوْلَى مَا انْتَقَضَ بِهِ
عَهْدُهُ وَأَمَانُهُ سَبّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُ بِشَيْءٍ أَعْظَمَ مِنْهُ إلّا سِبّهُ
الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُقْتَضَى النّصُوصِ
وَإِجْمَاعُ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ -
وَعَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ دَلِيلًا .
[لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخِيَارُ فِي حَيَاتِهِ لِقَتْلِ مَنْ سَبّهُ ]
فَإِنْ
قِيلَ فَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَقْتُلْ عَبْدَ
اللّهِ بْنَ أُبَيّ وَقَدْ قَالَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ
لِيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ وَلَمْ يَقْتُلْ ذَا
الْخُوَيْصِرَةِ التّمِيمِيّ وَقَدْ قَالَ لَهُ اعْدِلْ فَإِنّكَ لَمْ
تَعْدِلْ وَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ قَالَ لَهُ يَقُولُونَ إنّك تَنْهَى عَنْ
الْغَيّ وَتَسْتَخْلِي بِهِ وَلَمْ يَقْتُلْ الْقَائِلَ لَهُ إنّ هَذِهِ
الْقِسْمَةَ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللّهِ وَلَمْ يَقْتُلْ مَنْ قَالَ
لَهُ لَمّا حَكَمَ لِلزّبَيْرِ بِتَقْدِيمِهِ فِي السّقْيِ أَنْ كَانَ
ابْنَ عَمّتِك ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِمّنْ كَانَ يَبْلُغُهُ عَنْهُمْ
أَذًى لَهُ وَتَنَقّصٌ .
مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ قَتْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ سَبّهُ تَأْلِيفُ النّاسِ
وَعَدَمُ بُلُوغِهِمْ أَنّهُ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ
قِيلَ
الْحَقّ كَانَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ
وَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقّهُ كَمَا أَنّ الرّبّ
تَعَالَى لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقّهُ وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ وَلَيْسَ
لِأَحَدٍ أَنْ يُسْقِطَ حَقّهُ تَعَالَى بَعْدَ وُجُوبِهِ كَيْفَ وَقَدْ
كَانَ فِي تَرْكِ قَتْلِ مَنْ ذَكَرْتُمْ وَغَيْرِهِمْ مَصَالِحُ
عَظِيمَةٌ فِي حَيَاتِهِ زَالَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ تَأْلِيفِ النّاسِ
وَعَدَمِ تَنْفِيرِهِمْ عَنْهُ فَإِنّهُ لَوْ بَلَغَهُمْ أَنّهُ يَقْتُلُ
أَصْحَابَهُ لَنَفَرُوا ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا بِعَيْنِهِ وَقَالَ
لِعُمَرَ لَمّا أَشَارَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ :
لَا يَبْلُغُ النّاسَ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَه [ ص 388 ]
وَجَمْعِ الْقُلُوبِ عَلَيْهِ كَانَتْ أَعْظَمَ عِنْدَهُ وَأَحَبّ إلَيْهِ
مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْحَاصِلَةِ بِقَتْلِ مَنْ سَبّهُ وَآذَاهُ وَلِهَذَا
لَمّا ظَهَرَتْ مَصْلَحَةُ الْقَتْلِ وَتَرَجّحَتْ جِدّا ، قَتَلَ السّابّ
كَمَا فَعَلَ بِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ ، فَإِنّهُ جَاهَرَ
بِالْعَدَاوَةِ وَالسّبّ فَكَانَ قَتْلُهُ أَرْجَحَ مِنْ إبْقَائِهِ
وَكَذَلِك قَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ ، وَمَقِيسٍ وَالْجَارِيَتَيْنِ وَأُمّ
وَلَدِ الْأَعْمَى ، فَقَتَلَ لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَكَفّ
لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ فَإِذَا صَارَ الْأَمْرُ إلَى نُوّابِهِ
وَخُلَفَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُسْقِطُوا حَقّهُ .
فَصْلٌ فِيمَا فِي خُطْبَتِهِ الْعَظِيمَةِ ثَانِيَ يَوْمِ الْفَتْحِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ
[ تَحْرِيمُ اللّهِ لِمَكّةَ ]
فَمِنْهَا
قَوْلُهُ إنّ مَكّةَ حَرّمَهَا اللّهُ ، وَلَمْ يُحَرّمْهَا النّاسُ
فَهَذَا تَحْرِيمٌ شَرْعِيّ قَدَرِيّ سَبَقَ بِهِ قَدَرُهُ يَوْمَ خَلَقَ
هَذَا الْعَالَمَ ثُمّ ظَهَرَ بِهِ عَلَى لِسَانِ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ
وَمُحَمّدٍ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا كَمَا فِي "
الصّحِيحِ " عَنْهُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ اللّهُمّ
إنّ إبْرَاهِيمَ خَلِيلَكَ حَرّمَ مَكّةَ ، وَإِنّي أُحَرّمُ الْمَدِينَةَ
فَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ ظُهُورِ التّحْرِيمِ السّابِقِ يَوْمَ خَلَقَ
السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى لِسَانِ إبْرَاهِيمَ وَلِهَذَا لَمْ
يُنَازِعْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيمِهَا ، وَإِنْ
تَنَازَعُوا فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ ، وَالصّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ
تَحْرِيمُهَا ، إذْ قَدْ صَحّ فِيهِ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ حَدِيثًا عَنْ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا مَطْعَنَ فِيهَا
بِوَجْهٍ . [ ص 389 ]
[ تَحْرِيمُ سَفْكِ الدّمِ فِيهَا ]
وَمِنْهَا
: قَوْلُهُ فَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا هَذَا
التّحْرِيمُ لِسَفْكِ الدّمِ الْمُخْتَصّ بِهَا ، وَهُوَ الّذِي يُبَاحُ
فِي غَيْرِهَا ، وَيَحْرُمُ فِيهَا لِكَوْنِهَا حَرَمًا ، كَمَا أَنّ
تَحْرِيمَ عَضْدِ الشّجَرِ بِهَا ، وَاخْتِلَاءِ خَلَائِهَا ،
وَالْتِقَاطِ لُقَطَتِهَا ، هُوَ أَمْرٌ مُخْتَصّ بِهَا ، وَهُوَ مُبَاحٌ
فِي غَيْرِهَا ، إذْ الْجَمِيعُ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ وَنِظَامٍ وَاحِدٍ
وَإِلّا بَطَلَتْ فَائِدَةُ التّخْصِيصِ وَهَذَا أَنْوَاعٌ
[ لَا تُقَاتَلُ الطّائِفَةُ الْمُمْتَنِعَةُ بِهَا مِنْ مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ ]
أَحَدُهَا
- وَهُوَ الّذِي سَاقَهُ أَبُو شُرَيْحٍ الْعَدَوِيّ لِأَجْلِهِ - أَنّ
الطّائِفَةَ الْمُمْتَنِعَةَ بِهَا مِنْ مُبَايَعَةِ الْإِمَامِ لَا
تُقَاتَلُ لَا سِيمَا إنْ كَانَ لَهَا تَأْوِيلٌ كَمَا امْتَنَعَ أَهْلُ
مَكّةَ مِنْ مُبَايَعَةِ يَزِيدَ وَبَايَعُوا ابْنَ الزّبِيرِ ، فَلَمْ
يَكُنْ قِتَالُهُمْ وَنَصْبُ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهِمَا ، وَإِحْلَالُ
حَرَمِ اللّهِ جَائِزًا بِالنّصّ وَالْإِجْمَاعِ وَإِنّمَا خَالَفَ فِي
ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْفَاسِقُ وَشِيعَتُهُ وَعَارَضَ نَصّ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرَأْيِهِ وَهَوَاهُ
فَقَالَ إنّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا ، فَيُقَالُ لَهُ هُوَ لَا
يُعِيذُ عَاصِيًا مِنْ عَذَابِ اللّهِ وَلَوْ لَمْ يُعِذْهُ مِنْ سَفْكِ
دَمِهِ لَمْ يَكُنْ حَرَمًا بِالنّسْبَةِ إلَى الْآدَمِيّينَ وَكَانَ
حَرَمًا بِالنّسْبَةِ إلَى الطّيْرِ وَالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ وَهُوَ
لَمْ يَزَلْ يُعِيذُ الْعُصَاةَ مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللّهِ
عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَقَامَ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنّمَا لَمْ
يُعِذْ مَقِيسَ بْنَ صُبَابَةَ ، وَابْنَ خَطَلٍ ، وَمَنْ سُمّيَ
مَعَهُمَا ، لِأَنّهُ فِي تِلْكَ السّاعَةِ لَمْ يَكُنْ حَرَمًا ، بَلْ
حِلّا ، فَلَمّا انْقَضَتْ سَاعَةُ الْحَرْبِ عَادَ إلَى مَا وُضِعَ
عَلَيْهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ . وَكَانَتْ
الْعَرَبُ فِي [ ص 390 ] أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ فِي الْحَرَمِ ، فَلَا
يَهِيجُهُ وَكَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ خَاصّيّةَ الْحَرَمِ الّتِي صَارَ
بِهَا حَرَمًا ، ثُمّ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَكّدَ ذَلِكَ وَقَوّاهُ
وَعَلِمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ مِنْ الْأُمّةِ
مَنْ يَتَأَسّى بِهِ فِي إحْلَالِهِ بِالْقِتَالِ وَالْقَتْلِ فَقَطَعَ
الْإِلْحَاقَ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخّصَ لِقَتَالِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُولُوا : " إنّ اللّهَ
أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكَ وَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَتَى
حَدّا أَوْ قِصَاصًا خَارِجَ الْحَرَمِ يُوجِبُ الْقَتْلَ ثُمّ لَجَأَ
إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إقَامَتُهُ عَلَيْهِ فِيهِ . وَذَكَرَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ
لَوْ وَجَدْتُ فِيهِ قَاتِلَ الْخَطّابِ مَا مَسِسْتُهُ حَتّى يَخْرُجَ
مِنْهُ وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ لَوْ
لَقِيتُ فِيهِ قَاتِلَ عُمَرَ مَا نَدَهْتُهُ وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ،
أَنّهُ قَالَ لَوْ لَقِيتُ قَاتِلَ أَبِي فِي الْحَرَمِ مَا هِجْتُهُ
حَتّى يَخْرُجَ مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ التّابِعِينَ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ بَلْ لَا يُحْفَظُ عَنْ تَابِعِيّ وَلَا صَحَابِيّ خِلَافُهُ
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ ، وَالْإِمَامُ أَحْمَد ُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ
الْحَدِيثِ . وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشّافِعِيّ إلَى أَنّهُ يُسْتَوْفَى
مِنْهُ فِي الْحَرَمِ ، كَمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِي الْحِلّ وَهُوَ
اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَاحْتُجّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِعُمُومِ
النّصُوصِ الدّالّةِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي كُلّ
مَكَانٍ وَزَمَانٍ وَبِأَن النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ ، وَهُوَ مُتَعَلّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَبِمَا
يُرْوَى عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّ
الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارّا بِدَمٍ وَلَا بِخَرْبَةٍ
وَبِأَنّهُ لَوْ كَانَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النّفْسِ
لَمْ يُعِذْهُ الْحَرَمُ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إقَامَتِهِ عَلَيْهِ
وَبِأَنّهُ لَوْ أَتَى فِيهِ بِمَا يُوجِبُ حَدّا أَوْ قِصَاصًا ، لَمْ
يُعِذْهُ الْحَرَمُ ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إقَامَتِهِ عَلَيْهِ
فَكَذَلِكَ إذَا أَتَاهُ خَارِجَهُ ثُمّ لَجَأَ إلَيْهِ إذْ كَوْنُهُ
حَرَمًا بِالنّسْبَةِ إلَى عِصْمَتِهِ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ
الْأَمْرَيْنِ [ ص 391 ] أُبِيحَ قَتْلُهُ لِفَسَادِهِ فَلَمْ يَفْتَرِقْ
الْحَالُ بَيْنَ قَتْلِهِ لَاجِئًا إلَى الْحَرَمِ ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ
قَدْ أَوْجَبَ مَا أُبِيحَ قَتْلُهُ فِيهِ كَالْحَيّةِ وَالْحِدَأَةِ
وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَلِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلّ وَالْحَرَمِ فَنَبّهَ
بِقَتْلِهِنّ فِي الْحِلّ وَالْحَرَمِ عَلَى الْعِلّةِ وَهِيَ فِسْقُهُنّ
وَلَمْ يَجْعَلْ الْتِجَاءَهُنّ إلَى الْحَرَمِ مَانِعًا مِنْ قَتْلِهِنّ
وَكَذَلِك فَاسِقُ بَنِي آدَمَ الّذِي قَدْ اسْتَوْجَبَ الْقَتْلَ . قَالَ
الْأَوّلُونَ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَدِلّةِ
وَلَا سِيمَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [ آلَ
عِمْرَانَ 97 ] ، وَهَذَا إمّا خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ لِاسْتِحَالَةِ
الْخُلْفِ فِي خَبَرِهِ تَعَالَى ، وَإِمّا خَبَرٌ عَنْ شَرْعِهِ
وَدِينِهِ الّذِي شَرَعَهُ فِي حَرَمِهِ وَإِمّا إخْبَارٌ عَنْ الْأَمْرِ
الْمَعْهُودِ الْمُسْتَمِرّ فِي حَرَمِهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ
وَالْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا
جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطّفُ النّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [
الْعَنْكَبُوتَ 67 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا إِنْ نَتّبِعِ
الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّنْ لَهُمْ
حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَيْءٍ } [ الْقَصَصَ 57
] وَمَا عَدَا هَذَا مِنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ فَلَا يُلْتَفَتُ
إلَيْهِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } مِنْ
النّارِ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ كَانَ آمِنًا مِنْ الْمَوْتِ عَلَى غَيْرِ
الْإِسْلَامِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَكَمْ مِمّنْ دَخَلَهُ وَهُوَ فِي قَعْرِ
الْجَحِيمِ . وَأَمّا الْعُمُومَاتُ الدّالّةُ عَلَى اسْتِيفَاءِ
الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي كُلّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ فَيُقَالُ أَوّلًا :
لَا تَعَرّضَ فِي تِلْكَ الْعُمُومَاتِ لِزَمَانِ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا
مَكَانِهِ كَمَا لَا تَعَرّضَ فِيهَا لِشُرُوطِهِ وَعَدَمِ مَوَانِعِهِ
فَإِنّ اللّفْظَ لَا يَدُلّ عَلَيْهَا بِوَضْعِهِ وَلَا بِتَضَمّنِهِ
فَهُوَ مُطْلَقٌ بِالنّسْبَةِ إلَيْهَا ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ لِلْحُكْمِ
شَرْطٌ أَوْ مَانِعٌ لَمْ يَقُلْ إنّ تَوَقّفَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ
تَخْصِيصٌ لِذَلِكَ الْعَامّ فَلَا يَقُولُ مُحَصّلٌ إنّ قَوْلَهُ
تَعَالَى : { وَأُحِلّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } [ النّسَاءَ 24ُ ]
مَخْصُوصٌ بِالْمَنْكُوحَةِ فِي عِدّتِهَا ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ
وَلِيّهَا ، أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَهَكَذَا النّصُوصُ الْعَامّةُ فِي
اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا تَعَرّضَ فِيهَا لِزَمَنِهِ
وَلَا مَكَانِهِ وَلَا شَرْطِهِ وَلَا مَانِعِهِ وَلَوْ قُدّرَ تَنَاوُلُ
اللّفْظِ [ ص 392 ] لَوَجَبَ تَخْصِيصُهُ بِالْأَدِلّةِ الدّالّةِ عَلَى
الْمَنْعِ لِئَلّا يَبْطُلَ مُوجَبُهَا ، وَوَجَبَ حَمْلُ اللّفْظِ
الْعَامّ عَلَى مَا عَدَاهَا كَسَائِرِ نَظَائِرِهِ وَإِذَا خَصّصْتُمْ
تِلْكَ الْعُمُومَاتِ بِالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ وَالْمَرِيضِ الّذِي
يُرْجَى بُرْؤُهُ وَالْحَالِ الْمُحَرّمَةِ لِلِاسْتِيفَاءِ كَشِدّةِ
الْمَرَضِ أَوْ الْبَرْدِ أَوْ الْحَرّ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ
تَخْصِيصِهَا بِهَذِهِ الْأَدِلّةِ ؟ وَإِنْ قُلْتُمْ لَيْسَ ذَلِكَ
تَخْصِيصًا ، بَلْ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِهَا ، كِلْنَا لَكُمْ بِهَذَا
الصّاعِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ . وَأَمّا قَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ ، فَقَدْ
تَقَدّمَ أَنّهُ كَانَ فِي وَقْتِ الْحِلّ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَطَعَ الْإِلْحَاقَ وَنَصّ عَلَى أَنّ ذَلِكَ مِنْ
خَصَائِصِهِ وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّمَا
أُحِلّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ صَرِيحٌ فِي أَنّهُ إنّمَا أُحِلّ لَهُ
سَفْكُ دَمٍ حَلَالٍ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فِي تِلْكَ السّاعَةِ خَاصّةً
إذْ لَوْ كَانَ حَلَالًا فِي كُلّ وَقْتٍ لَمْ يَخْتَصّ بِتِلْكَ
السّاعَةِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّ الدّمَ الْحَلَالَ فِي غَيْرِهَا
حَرَامٌ فِيهَا ، فِيمَا عَدَا تِلْكَ السّاعَةَ وَأَمّا قَوْلُهُ
الْحَرَمُ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا فَهُوَ مِنْ كَلَامِ لْفَاسِقِ عَمْرِو
بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ ، يَرُدّ بِهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ رَوَى لَهُ أَبُو شُرَيْحٍ الْكَعْبِيّ
هَذَا الْحَدِيثَ كَمَا جَاءَ مُبَيّنًا فِي " الصّحِيحِ " فَكَيْفَ
يُقَدّمُ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَأَمّا قَوْلُكُمْ لَوْ كَانَ الْحَدّ وَالْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ
النّفْسِ لَمْ يُعِذْهُ الْحَرَمُ مِنْهُ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا
قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، فَمَنْ مَنَعَ الِاسْتِيفَاءَ نَظَرَ إلَى عُمُومِ
الْأَدِلّةِ الْعَاصِمَةِ بِالنّسْبَةِ إلَى النّفْسِ وَمَا دُونَهَا ،
وَمَنْ فَرّقَ قَالَ سَفْكُ الدّمِ إنّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْقَتْلِ
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِهِ فِي الْحَرَمِ تَحْرِيمُ مَا دُونَهُ
لِأَنّ حُرْمَةَ النّفْسِ أَعْظَمُ وَالِانْتِهَاكَ بِالْقَتْلِ أَشَدّ
قَالُوا : وَلِأَنّ الْحَدّ بِالْجَلْدِ أَوْ الْقَطْعِ يَجْرِي مَجْرَى
التّأْدِيبِ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ كَتَأْدِيبِ السّيّدِ عَبْدَهُ
وَظَاهِرُ هَذَا الْمَذْهَبِ أَنّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ النّفْسِ وَمَا
دُونَهَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَجَدْتهَا
لِحَنْبَلٍ عَنْ عَمّهِ أَنّ الْحُدُودَ كُلّهَا تُقَامُ فِي الْحَرَمِ
إلّا الْقَتْلَ قَالَ وَالْعَمَلُ عَلَى أَنّ كُلّ جَانٍ دَخَلَ الْحَرَمَ
لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدّ حَتّى يَخْرُجَ مِنْهُ قَالُوا :
وَحِينَئِذٍ فَنُجِيبُكُمْ بِالْجَوَابِ الْمُرَكّبِ وَهُوَ أَنّهُ إنْ
كَانَ بَيْنَ النّفْسِ وَمَا دُونَهَا فِي ذَلِكَ فَرْقٌ مُؤَثّرٌ بَطَلَ
الْإِلْزَامُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مُؤَثّرٌ سَوّيْنَا [
ص 393 ] وَبَطَلَ الِاعْتِرَاضُ فَتَحَقّقَ بُطْلَانُهُ عَلَى
التّقْدِيرَيْنِ . قَالُوا : وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ الْحَرَمَ لَا
يُعِيذُ مَنْ انْتَهَكَ فِيهِ الْحُرْمَةَ إذْ أَتَى فِيهِ مَا يُوجِبُ
الْحَدّ فَكَذَلِكَ اللّاجِئُ إلَيْهِ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرّقَ
اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالصّحَابَةُ بَيْنَهُمَا ، فَرَوَى الْإِمَامُ
أَحْمَدُ ، حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ ، حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ
طَاوُوسٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ مَنْ سَرَقَ أَوْ
قَتَلَ فِي الْحِلّ ثُمّ دَخَلَ الْحَرَمَ ، فَإِنّهُ لَا يُجَالَسُ وَلَا
يُكَلّمُ وَلَا يُؤْوَى ، وَلَكِنّهُ يُنَاشَدُ حَتّى يَخْرُجَ فَيُؤْخَذَ
فَيُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدّ وَإِنْ سَرَقَ أَوْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ ،
أُقِيمَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ وَذَكَرَ الْأَثْرَمُ ، عَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ أَيْضًا : مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي الْحَرَمِ ، أُقِيمَ
عَلَيْهِ مَا أَحْدَثَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ وَقَدْ أَمَرَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ بِقَتْلِ مَنْ قَاتَلَ فِي الْحَرَمِ ، فَقَالَ { وَلَا
تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ
فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } [ الْبَقَرَةَ 191 ] .
[ الْفَرَقُ بَيْنَ اللّاجِئِ وَالْمُنْتَهِكِ ]
وَالْفَرَقُ
بَيْنَ اللّاجِئِ وَالْمُنْتَهِكِ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا : أَنّ
الْجَانِيَ فِيهِ هَاتِكٌ لِحُرْمَتِهِ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْجِنَايَةِ
فِيهِ بِخِلَافِ مَنْ جَنَى خَارِجَهُ ثُمّ لَجَأَ إلَيْهِ فَإِنّهُ
مُعَظّمٌ لِحُرْمَتِهِ مُسْتَشْعِرٌ بِهَا بِالْتِجَائِهِ إلَيْهِ
فَقِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بَاطِلٌ . الثّانِي : أَنّ
الْجَانِيَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُفْسِدِ الْجَانِي عَلَى بِسَاطِ
الْمَلِكِ فِي دَارِهِ وَحَرَمِهِ وَمَنْ جَنَى خَارِجَهُ ثُمّ لَجَأَ
إلَيْهِ فَإِنّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَنَى خَارِجَ بِسَاطِ السّلْطَانِ
وَحَرَمِهِ ثُمّ دَخَلَ إلَى حَرَمِهِ مُسْتَجِيرًا . الثّالِثُ أَنّ
الْجَانِيَ فِي الْحَرَمِ قَدْ انْتَهَكَ حُرْمَةَ اللّهِ سُبْحَانَهُ
وَحُرْمَةَ بَيْتِهِ وَحَرَمِهِ فَهُوَ هَاتِكٌ لِحُرْمَتَيْنِ بِخِلَافِ
غَيْرِهِ . الرّابِعُ أَنّهُ لَوْ لَمْ يُقَمْ الْحَدّ عَلَى الْجُنَاةِ
فِي الْحَرَمِ ، لَعَمّ الْفَسَادُ وَعَظُمَ الشّرّ فِي حَرَمِ اللّهِ
فَإِنّ أَهْلَ الْحَرَمِ كَغَيْرِهِمْ فِي الْحَاجَةِ إلَى صِيَانَةِ
نَفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَلَوْ لَمْ يُشْرَعْ
الْحَدّ فِي حَقّ مَنْ ارْتَكَبَ الْجَرَائِمَ فِي الْحَرَمِ ،
لَتَعَطّلَتْ حُدُودُ اللّهِ وَعَمّ الضّرَرُ لِلْحَرَمِ وَأَهْلِهِ . [ ص
394 ] الْحَرَمِ بِمَنْزِلَةِ التّائِبِ الْمُتَنَصّلِ اللّاجِئِ إلَى
بَيْتِ الرّبّ تَعَالَى ، الْمُتَعَلّقِ بِأَسْتَارِهِ فَلَا يُنَاسِبُ
حَالُهُ وَلَا حَالُ بَيْتِهِ وَحَرَمِهِ أَنْ يُهَاجَ بِخِلَافِ
الْمُقْدِمِ عَلَى انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ فَظَهَرَ سِرّ الْفَرْقِ
وَتَبَيّنَ أَنّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ هُوَ مَحْضُ الْفِقْهِ .
وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّهُ حَيَوَانٌ مُفْسِدٌ فَأُبِيحَ قَتْلُهُ فِي
الْحِلّ وَالْحَرَمِ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ فَلَا يَصِحّ الْقِيَاسُ
فَإِنّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ طَبْعُهُ الْأَذَى ، فَلَمْ يُحَرّمْهُ
الْحَرَمُ لِيَدْفَعَ أَذَاهُ عَنْ أَهْلِهِ وَأَمّا الْآدَمِيّ
فَالْأَصْلُ فِيهِ الْحُرْمَةُ وَحُرْمَتُهُ عَظِيمَةٌ وَإِنّمَا أُبِيحَ
لِعَارِضٍ فَأَشْبَهَ الصّائِلَ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْمُبَاحَةِ مِنْ
الْمَأْكُولَاتِ فَإِنّ الْحَرَمَ يَعْصِمُهَا . وَأَيْضًا فَإِنّ حَاجَةَ
أَهْلِ الْحَرَمِ إلَى قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالْحَيّةِ
وَالْحِدَأَةِ كَحَاجَةِ أَهْلِ الْحِلّ سَوَاءً فَلَوْ أَعَاذَهَا
الْحَرَمُ لَعَظُمَ عَلَيْهِمْ الضّرَرُ بِهَا .
فَصْلٌ [ هَلْ يَجُوزُ قَلْعُ شَجَرِ مَكّةَ الّذِي أَنْبَتَهُ الْآدَمِيّ ؟]
وَمِنْهَا
: قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يُعْضَدُ بِهَا شَجَرٌ
وَفِي اللّفْظِ الْآخَرِ وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا وَفِي لَفْظٍ فِي "
صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : وَلَا يُخْبَطُ شَوْكُهَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ
أَنّ الشّجَرَ الْبَرّيّ الّذِي لَمْ يُنْبِتْهُ الْآدَمِيّ عَلَى
اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ مُرَادٌ مِنْ هَذَا اللّفْظِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا
أَنْبَتَهُ الْآدَمِيّ مِنْ الشّجَرِ فِي الْحَرَمِ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ وَهِيَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ : أَحَدُهَا : أَنّ لَهُ قَلْعَهُ
وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ ، وَأَبِي
الْخَطّابِ وَغَيْرِهِمَا . وَالثّانِي : أَنّهُ لَيْسَ لَهُ قَلْعُهُ
وَإِنْ فَعَلَ فَفِيهِ الْجَزَاءُ بِكُلّ حَالٍ وَهُوَ قَوْلُ [ ص 395 ]
الشّافِعِيّ ، وَهُوَ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْبَنّاءِ فِي " خِصَالِهِ "
. الثّالِثُ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا أَنْبَتَهُ فِي الْحِلّ ثُمّ غَرَسَهُ
فِي الْحَرَمِ ، وَبَيْنَ مَا أَنْبَتَهُ فِي الْحَرَمِ أَوّلًا ،
فَالْأَوّلُ لَا جَزَاءَ فِيهِ وَالثّانِي : لَا يُقْلَعُ وَفِيهِ
الْجَزَاءُ بِكُلّ حَالٍ وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي . وَفِيهِ قَوْلٌ
رَابِعٌ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُنْبِتُ الْآدَمِيّ جِنْسَهُ
كَاللّوْزِ وَالْجَوْزِ وَالنّخْلِ وَنَحْوِهِ وَمَا لَا يُنْبِتُ
الْآدَمِيّ جِنْسَهُ كَالدّوْحِ وَالسّلَمِ وَنَحْوِهِ فَالْأَوّلُ
يَجُوزُ قَلْعُهُ وَلَا جَزَاءَ فِيهِ وَالثّانِي : لَا يَجُوزُ وَفِيهِ
الْجَزَاءُ . قَالَ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " : وَالْأَوْلَى الْأَخْذُ
بِعُمُومِ الْحَدِيثِ فِي تَحْرِيمِ الشّجَرِ كُلّهِ إلّا مَا أَنْبَتَ
الْآدَمِيّ مِنْ جِنْسِ شَجَرِهِمْ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا أَنْبَتُوهُ
مِنْ الزّرْعِ وَالْأَهْلِيّ مِنْ الْحَيَوَانِ فَإِنّنَا إنّمَا
أَخْرَجَنَا مِنْ الصّيْدِ مَا كَانَ أَصْلُهُ إنْسِيّا دُونَ مَا
تَأَنّسَ مِنْ الْوَحْشِيّ كَذَا هَا هُنَا ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ
بِاخْتِيَارِ هَذَا الْقَوْلِ الرّابِعِ فَصَارَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ جِدّا فِي تَحْرِيمِ قَطْعِ
الشّوْكِ وَالْعَوْسَجِ وَقَالَ الشّافِعِيّ : لَا يَحْرُمُ قَطْعُهُ
لِأَنّهُ يُؤْذِي النّاسَ بِطَبْعِهِ فَأَشْبَهَ السّبَاعَ وَهَذَا
اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ
عَطَاءٍ وَمُجَاهَدٍ وَغَيْرِهِمَا . وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا وَفِي اللّفْظِ الْآخَرِ لَا يُخْتَلَى
شَوْكُهَا صَرِيحٌ فِي الْمَنْعِ وَلَا يَصِحّ قِيَاسُهُ عَلَى السّبَاعِ
الْعَادِيَةِ فَإِنّ تِلْكَ تَقْصِدُ بِطَبْعِهَا الْأَذَى ، وَهَذَا لَا
يُؤْذِي مَنْ لَمْ يَدْنُ مِنْهُ . وَالْحَدِيثُ لَمْ يُفَرّقْ بَيْنَ
الْأَخْضَرِ وَالْيَابِسِ وَلَكِنْ قَدْ جَوّزُوا قَطْعَ الْيَابِسِ
قَالُوا : لِأَنّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيّتِ وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ
وَعَلَى هَذَا فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلّ عَلَى أَنّهُ إنّمَا أَرَادَ
الْأَخْضَرَ فَإِنّهُ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ تَنْفِيرِ الصّيْدِ وَلَيْسَ
فِي أَخْذِ الْيَابِسِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الشّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ
الّتِي تُسَبّحُ بِحَمْدِ رَبّهَا ، وَلِهَذَا غَرَسَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى [ ص 396 ] وَقَالَ لَعَلّهُ يُخَفّفُ
عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا
[ هَلْ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِمَا انْقَلَعَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِقَلْعِ قَالِعٍ ؟ ]
وَفِي
الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ إذَا انْقَلَعَتْ الشّجَرَةُ بِنَفْسِهَا
، أَوْ انْكَسَرَ الْغُصْنُ جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِأَنّهُ لَمْ
يَعْضُدْهُ هُوَ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا
تَقُولُونَ فِيمَا إذَا قَلَعَهَا قَالِعٌ ثُمّ تَرَكَهَا ، فَهَلْ
يَجُوزُ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا ؟ قِيلَ قَدْ سُئِلَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ مَنْ شَبّهَهُ
بِالصّيْدِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِحَطَبِهَا ، وَقَالَ لَمْ أَسْمَعْ إذَا
قَطَعَهُ يَنْتَفِعُ بِهِ . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِ
الْقَاطِعِ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِأَنّهُ قُطِعَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ
فَأُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَمَا لَوْ قَلَعَتْهُ الرّيحُ وَهَذَا
بِخِلَافِ الصّيْدِ إذَا قَتَلَهُ مُحْرِمٌ حَيْثُ يَحْرُمُ عَلَى
غَيْرِهِ فَإِنّ قَتْلَ الْمُحْرِمِ لَهُ جَعَلَهُ مَيْتَةً . وَقَوْلُهُ
فِي اللّفْظِ الْآخَرِ وَلَا يُخْبَطُ شَوْكُهَا صَرِيحٌ أَوْ كَالصّرِيحِ
فِي تَحْرِيمِ قَطْعِ الْوَرَقِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ
اللّهُ - وَقَالَ الشّافِعِيّ : لَهُ أَخْذُهُ وَيُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ
وَالْأَوّلُ أَصَحّ لِظَاهِرِ النّصّ وَالْقِيَاسِ فَإِنّ مَنْزِلَتَهُ
مِنْ الشّجَرَةِ مَنْزِلَةُ رِيشِ الطّائِرِ مِنْهُ وَأَيْضًا فَإِنّ
أَخْذَ الْوَرَقِ ذَرِيعَةٌ إلَى يُبْسِ الْأَغْصَانِ فَإِنّهُ لِبَاسُهَا
وَوِقَايَتُهَا .
[ لَا يُقْلَعُ حَشِيشُ مَكّةَ مَا دَامَ رَطْبًا ]
وَقَوْلُهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا لَا خِلَافَ
أَنّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ دُونَ مَا
أَنْبَتَهُ الْآدَمِيّونَ وَلَا يَدْخُلُ الْيَابِسُ فِي الْحَدِيثِ بَلْ
هُوَ لِلرّطْبِ خَاصّةً فَإِنّ الْخَلَا بِالْقَصْرِ الْحَشِيشُ الرّطْبُ
مَا دَامَ رَطْبًا ، فَإِذَا يَبِسَ فَهُوَ حَشِيشٌ وَأَخْلَتْ الْأَرْضُ
كَثُرَ خَلَاهَا ، وَاخْتِلَاءُ الْخَلَى : قَطْعُهُ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ
كَانَ ابْنُ عُمَر َ يَخْتَلِي لِفَرَسِهِ أَيْ يَقْطَعُ لَهَا الْخَلَى ،
وَمِنْهُ سُمّيَتْ الْمِخْلَاةُ وَهِيَ وِعَاءُ الْخَلَى ، وَالْإِذْخِرُ
مُسْتَثْنًى بِالنّصّ وَفِي تَخْصِيصِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ دَلِيلٌ عَلَى
إرَادَةِ [ ص 397 ] فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ يَتَنَاوَلُ الْحَدِيثُ الرّعْيَ
أَمْ لَا ؟ قِيلَ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : لَا يَتَنَاوَلُهُ
فَيَجُوزُ الرّعْيُ وَهَذَا قَوْلُ الشّافِعِيّ . وَالثّانِي :
يَتَنَاوَلُهُ بِمَعْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ بِلَفْظِهِ فَلَا
يَجُوزُ الرّعْيُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْقَوْلَانِ
لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ . قَالَ الْمُحَرّمُونَ وَأَيّ فَرْقٍ بَيْنَ
اخْتِلَائِهِ وَتَقْدِيمِهِ لِلدّابّةِ وَبَيْنَ إرْسَالِ الدّابّةِ
عَلَيْهِ تَرْعَاهُ ؟ قَالَ الْمُبِيحُونَ لَمّا كَانَتْ عَادَةُ
الْهَدَايَا أَنْ تَدْخُلَ الْحَرَمَ ، وَتَكْثُرَ فِيهِ وَلَمْ يُنْقَلْ
قَطّ أَنّهَا كَانَتْ تُسَدّ أَفْوَاهُهَا ، دَلّ عَلَى جَوَازِ الرّعْيِ
. قَالَ الْمُحَرّمُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يُرْسِلَهَا تَرْعَى ،
وَيُسَلّطَهَا عَلَى ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ تَرْعَى بِطَبْعِهَا مِنْ
غَيْرِ أَنْ يُسَلّطَهَا صَاحِبُهَا ، وَهُوَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
يَسُدّ أَفْوَاهَهَا ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسُدّ أَنْفَهُ
فِي الْإِحْرَامِ عَنْ شَمّ الطّيبِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ
يَتَعَمّدَ شَمّهُ وَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ
السّيْرِ خَشْيَةَ أَنْ يُوطِئَ صَيْدًا فِي طَرِيقِهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ
لَهُ أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ نَظَائِرُهُ . فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ
يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ أَخْذُ الْكَمْأَةِ وَالْفَقْعِ وَمَا كَانَ
مُغَيّبًا فِي الْأَرْضِ ؟ قِيلَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ لِأَنّهُ
بِمَنْزِلَةِ الثّمَرَةِ وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : يُؤْكَلُ مِنْ شَجَرِ
الْحَرَمِ الضّغَابِيسُ وَالْعِشْرِقُ .
فَصْلٌ [ لَا يُنَفّرُ صَيْدُهَا ]
وَقَوْلُهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يُنَفّرُ صَيْدُهَا صَرِيحٌ فِي
تَحْرِيمِ التّسَبّبِ إلَى قَتْلِ الصّيْدِ وَاصْطِيَادِهِ بِكُلّ سَبَبٍ
حَتّى إنّهُ لَا يُنَفّرُهُ عَنْ مَكَانِهِ لِأَنّهُ حَيَوَانٌ مُحْتَرَمٌ
فِي هَذَا [ ص 398 ] الْمَكَانِ قَدْ سَبَقَ إلَى مَكَانٍ فَهُوَ أَحَقّ
بِهِ فَفِي هَذَا أَنّ الْحَيَوَانَ الْمُحْتَرَمَ إذَا سَبَقَ إلَى
مَكَانٍ لَمْ يُزْعَجْ عَنْهُ .
فَصْلٌ [ لَا تُمْلَكُ لُقَطَةُ الْحَرَمِ ]
وَقَوْلُهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إلّا مَنْ
عَرّفَهَا وَفِي لَفْظٍ وَلَا تَحِلّ سَاقِطَتُهَا إلّا لِمُنْشِدٍ فِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنّ لُقَطَةَ الْحَرَمِ لَا تُمْلَكُ بِحَالٍ وَأَنّهَا
لَا تُلْتَقَط إلّا لِلتّعْرِيفِ لَا لِلتّمْلِيكِ وَإِلّا لَمْ يَكُنْ
لِتَخْصِيصِ مَكّةَ بِذَلِكَ فَائِدَةٌ أَصْلًا ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي
ذَلِكَ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَة َ لُقَطَةُ الْحِلّ وَالْحَرَمِ
سَوَاءٌ وَهَذَا إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَأَحَدُ
قَوْلَيْ الشّافِعِيّ ، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبّاسٍ ،
وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الرّوَايَةِ
الْأُخْرَى ، وَالشّافِعِيّ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ
الْتِقَاطُهَا لِلتّمْلِيكِ وَإِنّمَا يَجُوزُ لِحِفْظِهَا لِصَاحِبِهَا ،
فَإِنْ الْتَقَطَهَا ، عَرّفَهَا أَبَدًا حَتّى يَأْتِيَ صَاحِبُهَا ،
وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ،
وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِيهِ وَالْمُنْشِدُ
الْمُعَرّفُ وَالنّاشِدُ الطّالِبُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ إصَاخَةُ النّاشِدِ
لِلْمُنْشِدِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " : أَنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ لُقَطَةِ الْحَاجّ
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : يَعْنِي يَتْرُكُهَا حَتّى يَجِدَهَا صَاحِبُهَا .
قَالَ شَيْخُنَا : وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ مَكّةَ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ سَائِرِ الْآفَاقِ فِي ذَلِكَ أَنّ النّاسَ يَتَفَرّقُونَ
عَنْهَا إلَى الْأَقْطَارِ الْمُخْتَلِفَةِ فَلَا يَتَمَكّنُ صَاحِبُ
الضّالّةِ مِنْ طَلَبِهَا وَالسّؤَالِ عَنْهَا ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ
الْبِلَادِ .
فَصْلٌ [ لَا يَتَعَيّنُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ ]
[
ص 399 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْخُطْبَةِ وَمَنْ قُتِلَ
لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النّظَرَيْنِ ، إمّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمّا
أَنْ يَأْخُذَ الدّيَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْوَاجِبَ بِقَتْلِ
الْعَمْدِ لَا يَتَعَيّنُ فِي الْقِصَاصِ بَلْ هُوَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ
إمّا الْقِصَاصُ وَإِمّا الدّيَةُ . وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
وَهِيَ رِوَايَاتٌ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ . أَحَدُهَا : أَنّ
الْوَاجِبَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ إمّا الْقِصَاصُ وَإِمّا الدّيَةُ
وَالْخِيرَةُ فِي ذَلِكَ إلَى الْوَلِيّ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ
الْعَفْوِ مَجّانًا ، وَالْعَفْوِ إلَى الدّيَةِ وَالْقِصَاصِ وَلَا
خِلَافَ فِي تَخْيِيرِهِ بَيْنَ هَذِهِ الثّلَاثَةِ . وَالرّابِعُ
الْمُصَالَحَةُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الدّيَةِ فِيهِ وَجْهَانِ .
أَشْهَرُهُمَا مَذْهَبًا : جَوَازُهُ . وَالثّانِي : لَيْسَ لَهُ
الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ إلّا الدّيَةَ أَوْ دُونَهَا ، وَهَذَا أَرْجَحُ
دَلِيلًا ، فَإِنْ اخْتَارَ الدّيَةَ سَقَطَ الْقَوَدُ وَلَمْ يَمْلِكْ
طَلَبَهُ بَعْدُ وَهَذَا مَذْهَبُ الشّافِعِيّ ، وَإِحْدَى
الرّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ . وَالْقَوْلُ الثّانِي : أَنّ مُوجَبَهُ
الْقَوَدُ عَيْنًا ، وَأَنّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ إلَى الدّيَةِ
إلّا بِرِضَى الْجَانِي ، فَإِنْ عَدَلَ إلَى الدّيَةِ وَلَمْ يَرْضَ
الْجَانِي ، فَقَوَدُهُ بِحَالِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي
الرّوَايَةِ الْأُخْرَى وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَالْقَوْلُ الثّالِثُ أَنّ
مُوجَبَهُ الْقَوَدُ عَيْنًا مَعَ التّخْيِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدّيَةِ
وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْجَانِي ، فَإِذَا عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ إلَى
الدّيَةِ فَرَضِيَ الْجَانِي ، فَلَا إشْكَالَ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ فَلَهُ
الْعَوْدُ إلَى الْقِصَاصِ عَيْنًا ، فَإِنْ عَفَا عَنْ الْقَوَدِ
مُطْلَقًا ، فَإِنْ قُلْنَا : الْوَاجِبُ أَحَدُ الشّيْئَيْنِ فَلَهُ
الدّيَةُ وَإِنْ قُلْنَا : الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ عَيْنًا ، سَقَطَ حَقّهُ
مِنْهَا . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَا لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ ؟
قُلْنَا : فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : تَسْقُطُ الدّيَةُ وَهُوَ
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُمْ الْقِصَاصُ
عَيْنًا ، وَقَدْ زَالَ مَحَلّ اسْتِيفَائِهِ بِفِعْلِ اللّهِ تَعَالَى ،
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ الْجَانِي ، فَإِنّ أَرْشَ
الْجِنَايَةِ لَا يَنْتَقِلُ إلَى ذِمّةِ السّيّدِ وَهَذَا بِخِلَافِ
تَلَفِ الرّهْنِ وَمَوْتِ الضّامِنِ حَيْثُ [ ص 400 ] ذِمّةِ الرّاهِنِ
وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ الْوَثِيقَةِ . وَقَالَ
الشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ تَتَعَيّنُ الدّيَةُ فِي تَرِكَتِهِ لِأَنّهُ
تَعَذّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ إسْقَاطٍ فَوَجَبَ الدّيَةُ
لِئَلّا يَذْهَبَ الْوَرَثَةُ مِنْ الدّمِ وَالدّيَةِ مَجّانًا . فَإِنْ
قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ لَوْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ ثُمّ اخْتَارَ بَعْدَهُ
الْعَفْوَ إلَى الدّيَةِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ قُلْنَا : هَذَا فِيهِ
وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنّ الْقِصَاصَ أَعْلَى ،
فَكَانَ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى الْأَدْنَى . وَالثّانِي : لَيْسَ لَهُ
ذَلِكَ لِأَنّهُ لَمّا اخْتَارَ الْقِصَاصَ فَقَدْ أَسْقَطَ الدّيَةَ
بِاخْتِيَارِهِ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعُودَ إلَيْهَا بَعْدَ
إسْقَاطِهَا . فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَجْمَعُونَ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ
وَبَيْنَ قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ قَتَلَ عَمْدًا ،
فَهُوَ قَوَدٌ قِيلَ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ فَإِنّ هَذَا
يَدُلّ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ بِقَتْلِ الْعَمْدِ وَقَوْلُهُ " فَهُوَ
بِخَيْرِ النّظَرَيْنِ " يَدُلّ عَلَى تَخْيِيرِهِ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ
هَذَا الْوَاجِبِ لَهُ وَبَيْنَ أَخْذِ بَدَلِهِ وَهُوَ الدّيَةُ فَأَيّ
تَعَارُضٍ ؟ وَهَذَا الْحَدِيثُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ } [ الْبَقَرَةَ 178 ] ، وَهَذَا لَا يَنْفِي
تَخْيِيرَ الْمُسْتَحِقّ لَهُ بَيْنَ مَا كُتِبَ لَهُ وَبَيْنَ بَدَلِهِ .
وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ إبَاحَةُ قَطْعِ الْإِذْخِرِ ]
وَقَوْلُهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْخُطْبَةِ " إلّا الْإِذْخِرَ " ،
بَعْدَ قَوْلِ الْعَبّاسِ لَهُ إلّا الْإِذْخِرَ يَدُلّ عَلَى
مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : إبَاحَةُ قَطْعِ الْإِذْخِرِ . [ ص 401 ]
[ لَا يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ نِيّتُهُ مِنْ أَوّلِ الْكَلَامِ وَلَا قَبْلَ فَرَاغِهِ ]
وَالثّانِيَةُ
أَنّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَنْوِيَهُ مِنْ أَوّلِ
الْكَلَامِ وَلَا قَبْلَ فَرَاغِهِ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَوْ كَانَ نَاوِيًا لِاسْتِثْنَاءِ الْإِذْخِرِ مِنْ أَوّلِ
كَلَامِهِ أَوْ قَبْلَ تَمَامِهِ لَمْ يَتَوَقّفْ اسْتِثْنَاؤُهُ لَهُ
عَلَى سُؤَالِ الْعَبّاسِ لَهُ ذَلِكَ وَإِعْلَامِهِ أَنّهُمْ لَا بُدّ
لَهُمْ مِنْهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَنَظِيرُ هَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ مِنْ أُسَارَى
بَدْرٍ بَعْدَ أَنْ ذَكّرَهُ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ ، فَقَالَ لَا
يَنْفَلِتَنّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ
فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إلّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ ، فَإِنّي
سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ فَقَالَ " إلّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ
" وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ فِي
الصّورَتَيْنِ مِنْ أَوّلِ كَلَامِهِ . وَنَظِيرُهُ أَيْضًا قَوْلُ
الْمَلَكِ لِسُلَيْمَانَ لَمّا قَالَ لَأَطُوفَنّ اللّيْلَةَ عَلَى
مِائَةِ امْرَأَةٍ تَلِدُ كُلّ امْرَأَةٍ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ
اللّهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ قُلْ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، فَلَمْ
يَقُلْ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ قَالَ إنْ
شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، لَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَجْمَعُونَ
وَفِي لَفْظٍ لَكَانَ دَرَكًا لِحَاجَتِهِ فَأَخْبَرَ أَنّ هَذَا
الِاسْتِثْنَاءَ لَوْ وَقَعَ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَنَفَعَهُ
وَمَنْ يَشْتَرِطُ النّيّةَ يَقُولُ لَا يَنْفَعُهُ . وَنَظِيرُ هَذَا
قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهِ لَأَغْزُوَنّ
قُرَيْشًا ، وَاَللّهِ لَأَغْزُوَنّ قُرَيْشًا ثَلَاثًا ، ثُمّ سَكَتَ
ثُمّ قَالَ إنْ شَاءَ اللّهُ فَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ بَعْدَ سُكُوتٍ وَهُوَ
يَتَضَمّنُ إنْشَاءَ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْكَلَامِ
وَالسّكُوتِ عَلَيْهِ وَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ
الصّوَابُ بِلَا رَيْبٍ وَالْمُصِيرُ إلَى مُوجَبِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
الصّحِيحَةِ الصّرِيحَةِ أَوْلَى . وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . [ ص 402 ]
فَصْلٌ [ الدّلِيلُ عَلَى كِتَابَةِ الْعِلْمِ ]
وَفِي
الْقِصّةِ أَنّ رَجُلًا مِنْ الصّحَابَةِ يُقَال لَهُ أَبُو شَاهٍ ، قَامَ
فَقَالَ اُكْتُبُوا لِي ، فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ يُرِيدُ خُطْبَتَهُ فَفِيهِ دَلِيلٌ
عَلَى كِتَابَةِ الْعِلْمِ وَنَسْخِ النّهْيِ عَنْ كِتَابَةِ الْحَدِيثِ
فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَنْ كَتَبَ عَنّي
شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ وَهَذَا كَانَ فِي أَوّلِ
الْإِسْلَامِ خَشْيَةَ أَنْ يَخْتَلِطَ الْوَحْيُ الّذِي يُتْلَى
بِالْوَحْيِ الّذِي لَا يُتْلَى ، ثُمّ أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ
لِحَدِيثِهِ . وَصَحّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنّهُ كَانَ
يَكْتُبُ حَدِيثَهُ وَكَانَ مِمّا كَتَبَهُ صَحِيفَةٌ تُسَمّى الصّادِقَةَ
وَهِيَ الّتِي رَوَاهَا حَفِيدُهُ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ
عَنْهُ وَهِيَ مِنْ أَصَحّ الْأَحَادِيثِ وَكَانَ بَعْضُ أَئِمّةِ أَهْلِ
الْحَدِيثِ يَجْعَلُهَا فِي دَرَجَةِ أَيّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ وَالْأَئِمّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ احْتَجّوا بِهَا .
فَصْلٌ [ الصّلَاةُ فِي الْمَكَانِ الْمُصَوّرِ أَشَدّ كَرَاهَةً مِنْ الصّلَاةِ فِي الْحَمّامِ ]
وَفِي
الْقِصّةِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ
وَصَلّى فِيهِ وَلَمْ يَدْخُلْهُ حَتّى مُحِيَتْ الصّوَرُ مِنْهُ .
فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَةِ الصّلَاةِ فِي الْمَكَانِ الْمُصَوّرِ
وَهَذَا أَحَقّ بِالْكَرَاهَةِ مِنْ الصّلَاةِ فِي الْحَمّامِ لِأَنّ
كَرَاهَةَ الصّلَاةِ فِي الْحَمّامِ إمّا لِكَوْنِهِ مَظِنّةَ النّجَاسَةِ
وَإِمّا لِكَوْنِهِ بَيْتَ الشّيْطَانِ وَهُوَ الصّحِيحُ وَأَمّا مَحَلّ
الصّوَرِ فَمَظِنّةُ الشّرْكِ غَالِبُ شِرْكِ الْأُمَمِ كَانَ مِنْ جِهَةِ
الصّوَرِ وَالْقُبُورِ .
فَصْلٌ [ جَوَازُ لُبْسِ السّوَادِ ]
وَفِي
الْقِصّةِ أَنّهُ دَخَلَ مَكّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ ، فَفِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ [ ص 403 ] جَعَلَ خُلَفَاءُ بَنِي
الْعَبّاسِ لُبْسَ السّوَادِ شِعَارًا لَهُمْ وَلِوُلَاتِهِمْ
وَقُضَاتِهِمْ وَخُطَبَائِهِمْ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لَمْ يَلْبَسْهُ لِبَاسًا رَاتِبًا ، وَلَا كَانَ شِعَارَهُ فِي
الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَالْمَجَامِعِ الْعِظَامِ الْبَتّةَ وَإِنّمَا
اتّفَقَ لَهُ لُبْسُ الْعِمَامَةِ السّوْدَاءِ يَوْمَ الْفَتْحِ دُونَ
سَائِرِ الصّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَائِرُ لِبَاسِهِ يَوْمَئِذٍ
السّوَادَ بَلْ كَانَ لِوَاؤُهُ أَبْيَضَ .
فَصْلٌ [ مَتَى حُرّمَتْ مُتْعَةُ النّسَاءِ ؟]
وَمِمّا
وَقَعَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ إبَاحَةُ مُتْعَةِ النّسَاءِ ثُمّ
حَرّمَهَا قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكّةَ ، وَاخْتُلِفَ فِي الْوَقْتِ
الّذِي حُرّمَتْ فِيهِ الْمُتْعَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا
: أَنّهُ يَوْمَ خَيْبَرَ ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
مِنْهُمْ الشّافِعِيّ وَغَيْرُهُ . وَالثّانِي : أَنّهُ عَامَ فَتْحِ
مَكّةَ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَطَائِفَةٍ . وَالثّالِثُ
أَنّهُ عَامَ حُنَيْنٍ ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْقَوْلُ
الثّانِي ، لِاتّصَالِ غَزَاةِ حُنَيْنٍ بِالْفَتْحِ . وَالرّابِعُ أَنّهُ
عَامَ حَجّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ الرّوَاةِ سَافَرَ
فِيهِ وَهْمُهُ مِنْ فَتْحِ مَكّةَ إلَى حَجّةِ الْوَدَاعِ كَمَا سَافَرَ
وَهْمُ مُعَاوِيَةَ مِنْ عُمْرَةِ الْجِعِرّانَةِ إلَى حَجّةِ الْوَدَاعِ
حَيْثُ قَالَ قَصّرْت عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِمِشْقَصٍ عَلَى الْمَرْوَةِ فِي حَجّتِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي الْحَجّ
وَسَفَرُ الْوَهْمِ مِنْ زَمَانٍ إلَى زَمَانٍ وَمِنْ مَكَانٍ إلَى
مَكَانٍ وَمِنْ وَاقِعَةٍ إلَى وَاقِعَةٍ كَثِيرًا مَا يَعْرِضُ
لِلْحُفّاظِ فَمَنْ دُونَهُمْ .
[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ تَحْرِيمَ الْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ ]
وَالصّحِيحُ
أَنّ الْمُتْعَةَ إنّمَا حُرّمَتْ عَامَ الْفَتْحِ لِأَنّهُ قَدْ ثَبَتَ
فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنّهُمْ اسْتَمْتَعُوا عَامَ الْفَتْحِ مَعَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِذْنِهِ وَلَوْ كَانَ
التّحْرِيمُ زَمَنَ خَيْبَرَ ، لَزِمَ النّسْخُ مَرّتَيْنِ وَهَذَا لَا
عَهْدَ بِمِثْلِهِ فِي الشّرِيعَةِ الْبَتّةَ وَلَا يَقَعُ مِثْلُهُ
فِيهَا ، وَأَيْضًا : فَإِنّ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمَاتٌ
وَإِنّمَا كُنّ يَهُودِيّاتٍ وَإِبَاحَةُ نِسَاءِ أَهْلِ [ ص 404 ]
أُبِحْنَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ بِقَوْلِهِ { الْيَوْمَ
أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَطَعَامُ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلّ
لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [
الْمَائِدَةَ 5 ] ، وَهَذَا مُتّصِلٌ بِقَوْلِهِ { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ } [ الْمَائِدَةَ 3 ] ، وَبِقَوْلِهِ { الْيَوْمَ يَئِسَ
الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } [ الْمَائِدَةَ 3 ] ، وَهَذَا كَانَ
فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ حَجّةِ الْوَدَاعِ أَوْ فِيهَا ، فَلَمْ
تَكُنْ إبَاحَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ ثَابِتَةً زَمَنَ خَيْبَرَ ،
وَلَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ رَغْبَةٌ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِنِسَاءِ
عَدُوّهِمْ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَ الْفَتْحِ اُسْتُرِقّ مَنْ
اُسْتُرِقّ مِنْهُنّ وَصِرْنَ إمَاءً لِلْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ قِيلَ
فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ
عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : " أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النّسَاءِ يَوْمَ خَيْبَرَ ، وَعَنْ أَكْلِ
لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيّةِ " وَهَذَا صَحِيحٌ صَرِيحٌ ؟ . قِيلَ
هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ صَحّتْ رِوَايَتُهُ بِلَفْظَيْنِ هَذَا أَحَدُهُمَا
. وَالثّانِي : الِاقْتِصَارُ عَلَى نَهْيِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ
الْأَهْلِيّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ ، هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ
الزّهْرِيّ . قَالَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ : قَالَ سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ : يَعْنِي أَنّهُ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ
زَمَنَ خَيْبَرَ ، لَا عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ
وَفِي " التّمْهِيدِ " : ثُمّ قَالَ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ النّاسِ
انْتَهَى ، فَتَوَهّمَ بَعْضُ الرّوَاةِ أَنّ يَوْمَ خَيْبَرَ ظَرْفٌ
لِتَحْرِيمِهِنّ فَرَوَاهُ حَرّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْمُتْعَةَ زَمَنَ خَيْبَرَ ، وَالْحُمُرَ الْأَهْلِيّةَ
وَاقْتَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى رِوَايَةِ بَعْضِ الْحَدِيثِ فَقَالَ حَرّمَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُتْعَةَ زَمَنَ
خَيْبَرَ ، فَجَاءَ بِالْغَلَطِ الْبَيّنِ . فَإِنْ قِيلَ فَأَيّ
فَائِدَةٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ التّحْرِيمَيْنِ إذَا لَمْ يَكُونَا قَدْ
وَقَعَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَأَيْنَ الْمُتْعَةُ مِنْ تَحْرِيمِ
الْحُمُرِ ؟ قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - مُحْتَجّا بِهِ عَلَى ابْنِ عَمّهِ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ عَبّاسٍ فِي [ ص 405 ] كَانَ يُبِيحُ الْمُتْعَةَ وَلُحُومَ
الْحُمُرِ فَنَاظَرَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ
وَرَوَى لَهُ التّحْرِيمَيْنِ وَقَيّدَ تَحْرِيمَ الْحُمُرِ بِزَمَنِ
خَيْبَرَ ، وَأَطْلَقَ تَحْرِيمَ الْمُتْعَةِ وَقَالَ إنّك امْرُؤٌ
تَائِهٌ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرّمَ
الْمُتْعَةَ وَحَرّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ
كَمَا قَالَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ النّاسِ
فَرَوَى الْأَمْرَيْنِ مُحْتَجّا عَلَيْهِ بِهِمَا ، لَا مُقَيّدًا
لَهُمَا بِيَوْمِ خَيْبَرَ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ . وَلَكِنْ هَاهُنَا
نَظَرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّهُ هَلْ حَرّمَهَا تَحْرِيمَ الْفَوَاحِشِ الّتِي
لَا تُبَاحُ بِحَالٍ أَوْ حَرّمَهَا عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا ،
وَأَبَاحَهَا لِلْمُضْطَرّ ؟ هَذَا هُوَ الّذِي نَظَرَ فِيهِ ابْنُ
عَبّاسٍ وَقَالَ أَنَا أَبَحْتُهَا لِلْمُضْطَرّ كَالْمَيْتَةِ وَالدّمِ
فَلَمّا تَوَسّعَ فِيهَا مَنْ تَوَسّعَ وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ الضّرُورَةِ
أَمْسَكَ ابْنُ عَبّاسٍ عَنْ الْإِفْتَاءِ بِحِلّهَا ، وَرَجَعَ عَنْهُ .
وَقَدْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَى إبَاحَتَهَا وَيَقْرَأُ { يَا أَيّهَا
الّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرّمُوا طَيّبَاتِ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكُمْ } [
الْمَائِدَةَ 8ُ7 ] ، فَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْهُ قَالَ كُنّا نَغْزُو
مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَيْسَ لَنَا
نِسَاءٌ فَقُلْنَا : أَلَا نَخْتَصِي ؟ فَنَهَانَا ، ثُمّ رَخّصَ لَنَا
أَنْ نَنْكِحَ الْمَرْأَةَ بِالثّوْبِ إلَى أَجَلٍ ثُمّ قَرَأَ عَبْدُ
اللّهِ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرّمُوا طَيّبَاتِ مَا
أَحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لَا يُحِبّ
الْمُعْتَدِينَ } [ الْمَائِدَةَ 8ُ7 ] . وَقِرَاءَةُ عَبْدِ اللّهِ
هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ هَذَا الْحَدِيثِ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ
أَحَدُهُمَا : الرّدّ عَلَى مَنْ يُحَرّمُهَا ، وَأَنّهَا لَوْ لَمْ
تَكُنْ مِنْ الطّيّبَاتِ لَمَا أَبَاحَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَالثّانِي : أَنْ يَكُونَ أَرَادَ آخِرَ هَذِهِ
الْآيَةِ وَهُوَ الرّدّ عَلَى مَنْ أَبَاحَهَا مُطْلَقًا ، وَأَنّهُ
مُعْتَدّ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا
رَخّصَ فِيهَا لِلضّرُورَةِ وَعِنْدَ الْحَاجَةِ فِي الْغَزْوِ وَعِنْدَ
عَدَمِ النّسَاءِ وَشِدّةِ الْحَاجَةِ إلَى الْمَرْأَةِ . فَمَنْ رَخّصَ
فِيهَا فِي الْحَضَرِ مَعَ كَثْرَةِ النّسَاءِ وَإِمْكَانِ النّكَاحِ
الْمُعْتَادِ فَقَدْ اعْتَدَى ، وَاَللّهُ لَا يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ .
فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ بِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ
" مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ [ ص 406 ] وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ، قَالَا :
خَرَجَ عَلَيْنَا مُنَادِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَذِنَ
لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا يَعْنِي : مُتْعَةَ النّسَاءِ قِيلَ هَذَا
كَانَ زَمَنَ الْفَتْحِ قَبْلَ التّحْرِيمِ ثُمّ حَرّمَهَا بَعْدَ ذَلِكَ
بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
الْأَكْوَعِ قَالَ رَخّصَ لَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَامَ أَوْطَاسٍ فِي الْمُتْعَةِ ثَلَاثًا ، ثُمّ نَهَى عَنْهَا
. وَعَامُ أَوْطَاسٍ : هُوَ عَامُ الْفَتْحِ لِأَنّ غَزَاةَ أَوْطَاسٍ
مُتّصِلَةٌ بِفَتْحِ مَكّةَ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ،
قَالَ كُنّا نَسْتَمْتِعُ بِالْقَبْضَةِ مِنْ التّمْرِ وَالدّقِيقِ
الْأَيّامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَبِي بَكْرٍ حَتّى نَهَى عَنْهَا عُمَرُ فِي شَأْنِ عَمْرِو بْنِ
حُرَيْثٍ وَفِيمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ مُتْعَتَانِ كَانَتَا
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنَا
أَنْهَى عَنْهُمَا : مُتْعَةُ النّسَاءِ وَمُتْعَةُ الْحَجّ قِيلَ النّاسُ
فِي هَذَا طَائِفَتَانِ طَائِفَةٌ تَقُولُ إنّ عُمَرَ هُوَ الّذِي
حَرّمَهَا وَنَهَى عَنْهَا ، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِاتّبَاعِ مَا سَنّهُ الْخُلَفَاءُ الرّاشِدُونَ
وَلَمْ تَرَ هَذِهِ الطّائِفَةُ تَصْحِيحَ حَدِيثِ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ
فِي تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ عَامَ الْفَتْحِ فَإِنّهُ مِنْ رِوَايَةِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الرّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ
وَقَدْ تَكَلّمَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ ، وَلَمْ يَرَ الْبُخَارِيّ إخْرَاجَ
حَدِيثٍ فِي " صَحِيحِهِ " مَعَ شِدّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَكَوْنِهِ
أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ صَحّ عِنْدَهُ لَمْ يَصْبِرْ
عَنْ إخْرَاجِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ قَالُوا : وَلَوْ [ ص 407 ] يَخْفَ
عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ حَتّى يَرْوِيَ أَنّهُمْ فَعَلُوهَا ، وَيَحْتَجّ
بِالْآيَةِ وَأَيْضًا وَلَوْ صَحّ لَمْ يَقُلْ عُمَرُ إنّهَا كَانَتْ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا
أَنْهَى عَنْهَا ، وَأُعَاقِبُ عَلَيْهَا ، بَلْ كَانَ يَقُولُ إنّهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرّمَهَا وَنَهَى عَنْهَا . قَالُوا :
وَلَوْ صَحّ لَمْ تُفْعَلْ عَلَى عَهْدِ الصّدّيقِ وَهُوَ عَهْدُ
خِلَافَةِ النّبُوّةِ حَقّا . وَالطّائِفَةُ الثّانِيَةُ رَأَتْ صِحّةَ
حَدِيثِ سَبْرَةَ وَلَوْ لَمْ يَصِحّ فَقَدْ صَحّ حَدِيثُ عَلِيّ - رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ - أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
حَرّمَ مُتْعَةَ النّسَاءِ فَوَجَبَ حَمْلُ حَدِيثِ جَابِرٍ عَلَى أَنّ
الّذِي أَخْبَرَ عَنْهَا بِفِعْلِهَا لَمْ يَبْلُغْهُ التّحْرِيمُ وَلَمْ
يَكُنْ قَدْ اشْتَهَرَ حَتّى كَانَ زَمَنُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
فَلَمّا وَقَعَ فِيهَا النّزَاعُ ظَهَرَ تَحْرِيمُهَا وَاشْتَهَرَ
وَبِهَذَا تَأْتَلِفُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِيهَا . وَبِاَللّهِ
التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ [ جَوَازُ إجَارَةِ الْمَرْأَةِ وَأَمَانِهَا لِلرّجُلَيْنِ ]
وَفِي
قِصّةِ الْفَتْحِ مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ إجَارَةِ الْمَرْأَةِ
وَأَمَانِهَا لِلرّجُلِ وَالرّجُلَيْنِ كَمَا أَجَازَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَانَ أُمّ هَانِئٍ لِحَمَوَيْهَا .
[ جَوَازُ قَتْلِ الْمُرْتَدّ الّذِي تَغَلّظَتْ رِدّتُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ ]
وَفِيهَا
مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ قَتْلِ الْمُرْتَدّ الّذِي تَغَلّظَتْ رِدّتُهُ
مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ فَإِنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي
سَرْحٍ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ
لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ ارْتَدّ وَلَحِقَ
بِمَكّةَ ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ أَتَى بِهِ عُثْمَانُ بْنُ
عَفّانَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُبَايِعَهُ
فَأَمْسَكَ عَنْهُ طَوِيلًا ، ثُمّ بَايَعَهُ وَقَالَ إنّمَا أَمْسَكْت
عَنْهُ لِيَقُومَ إلَيْهِ بَعْضُكُمْ ، فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ لَهُ
رَجُلٌ هَلّا أَوْمَأْت إلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ فَقَالَ مَا يَنْبَغِي
لِنَبِيّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ فَهَذَا كَانَ قَدْ
تَغَلّظَ كُفْرُهُ بِرِدّتِهِ بَعْدَ إيمَانِهِ وَهِجْرَتِهِ وَكِتَابَةِ
الْوَحْيِ ثُمّ ارْتَدّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ يَطْعَنُ عَلَى
الْإِسْلَامِ وَيَعِيبُهُ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يُرِيدُ قَتْلَهُ فَلَمّا جَاءَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ [ ص
408 ] وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ الرّضَاعَةِ لَمْ يَأْمُرْ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِهِ حَيَاءً مِنْ عُثْمَانَ وَلَمْ
يُبَايِعْهُ لِيَقُومَ إلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَيَقْتُلَهُ فَهَابُوا
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى
قَتْلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَاسْتَحَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عُثْمَانَ وَسَاعَدَ الْقَدَرُ السّابِقُ لِمَا
يُرِيدُ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِعَبْدِ اللّهِ مِمّا ظَهَرَ مِنْهُ بَعْدَ
ذَلِكَ مِنْ الْفُتُوحِ فَبَايَعَهُ وَكَانَ مِمّنْ اسْتَثْنَى اللّهُ
بِقَوْلِهِ { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ
وَشَهِدُوا أَنّ الرّسُولَ حَقّ وَجَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنّ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ
فِيهَا لَا يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ إِلّا
الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ } [ آلَ عِمْرَانَ 86 - 89 ] ، وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَا يَنْبَغِي لِنَبِيّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُن
أَيْ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُخَالِفُ
ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ وَلَا سِرّهُ عَلَانِيَتَهُ وَإِذَا نُفّذَ حُكْمُ
اللّهِ وَأَمْرُهُ لَمْ يُومِ بِهِ بَلْ صَرّحَ بِهِ وَأَعْلَنَهُ
وَأَظْهَرَهُ .
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ
وَتُسَمّى غَزْوَةَ
أَوْطَاسٍ وَهُمَا مَوْضِعَانِ بَيْنَ مَكّةَ وَالطّائِفِ ، فَسُمّيَتْ
الْغَزْوَةُ بِاسْمِ مَكَانِهَا ، وَتُسَمّى غَزْوَةَ هَوَازِنَ ،
لِأَنّهُمْ الّذِينَ أَتَوْا لِقِتَالِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ
بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا فَتَحَ اللّهُ
عَلَيْهِ مِنْ مَكّةَ ، جَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النّصْرِيّ ،
وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلّهَا ، وَاجْتَمَعَتْ
إلَيْهِ مُضَرُ وَجُشَمُ كُلّهَا ، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ ، وَنَاسٌ مِنْ
بَنِي هِلَالٍ ، وَهُمْ قَلِيلٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ
إلّا هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلَا [ ص 409 ]
دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ إلّا رَأْيُهُ
وَمُعْرِفَتُهُ بِالْحَرْبِ وَكَانَ شُجَاعًا مُجَرّبًا ، وَفِي ثَقِيفٍ
سَيّدَانِ لَهُمْ وَفِي الْأَحْلَافِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَفِي
بَنِي مَالِكٍ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بْنُ
الْحَارِثِ وَجِمَاعُ أَمْرِ النّاسِ إلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ
، فَلَمّا أَجْمَعَ السّيْرَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ سَاقَ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ
فَلَمّا نَزَلَ بِأَوْطَاسٍ اجْتَمَعَ إلَيْهِ النّاسُ وَفِيهِمْ دُرَيْدُ
بْنُ الصّمّةِ ، فَلَمّا نَزَلَ قَالَ بِأَيّ وَادٍ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا :
بِأَوْطَاسٍ . قَالَ نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ لَا حَزْنٌ ضِرْسٌ وَلَا
سَهْلٌ دَهْسٌ مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ
وَبُكَاءَ الصّبِيّ وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ قَالُوا : سَاقَ مَالِكُ بْنُ
عَوْفٍ مَعَ النّاسِ نِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ . قَالَ
أَيْنَ مَالِكٌ ؟ قِيلَ هَذَا مَالِكٌ وَدُعِيَ لَهُ . قَالَ يَا مَالِكُ
إنّك قَدْ أَصْبَحْتَ رَئِيسَ قَوْمِك ، وَإِنّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ
مَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيّامِ مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ
وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ قَالَ
سُقْتُ مَعَ النّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ . قَالَ
وَلِمَ ؟ قَالَ أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ أَهْلَهُ
وَمَالَهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ . فَقَالَ رَاعِي ضَأْنٍ وَاَللّهِ وَهَلْ
يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ إنّهَا إنْ كَانَتْ لَك لَمْ يَنْفَعْك إلّا
رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ فُضِحْتَ فِي
أَهْلِك وَمَالِك ، ثُمّ قَالَ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَاب ٌ ؟ قَالُوا
: لَمْ يَشْهَدْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ . قَالَ غَابَ الْحَدّ وَالْجِدّ لَوْ
كَانَ يَوْمَ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ
وَلَوَدِدْت أَنّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ فَمَنْ
شَهِدَهَا مِنْكُمْ ؟ قَالُوا : عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ ، وَعَوْفُ بْنُ
عَامِرٍ ؟ قَالَ ذَانِكَ الْجَذَعَانِ مِنْ عَامِرٍ لَا يَنْفَعَانِ وَلَا
يَضُرّانِ . يَا مَالِكُ إنّك لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ الْبَيْضَةِ
بَيْضَةِ هَوَازِنَ [ ص 410 ] كَانَتْ لَك ، لَحِقَ بِك مَنْ وَرَاءَك ،
إنْ كَانَتْ عَلَيْك ، أَلْفَاك ذَلِكَ وَقَدْ أَحْرَزْتَ أَهْلَك
وَمَالَك . قَالَ وَاَللّهِ لَا أَفْعَلُ إنّك قَدْ كَبِرْت وَكَبِرَ
عَقْلُكَ وَاَللّهِ لَتُطِيعُنّنِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ ، أَوْ
لَأَتّكِئَنّ عَلَى هَذَا السّيْفِ حَتّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي ،
وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا ذِكْرٌ وَرَأْيٌ فَقَالُوا :
أَطَعْنَاك ، فَقَالَ دُرَيْدٌ هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ
يَفُتْنِي . يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ أَخُبّ فِيهَا وَأَضَع
أَقُودُ وَطْفَاءَ الزّمَعْ كَأَنّهَا شَاةٌ صَدَعْ
ثُمّ
قَالَ مَالِكٌ لِلنّاسِ إذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ
سُيُوفِكُمْ ثُمّ شُدّوا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَبَعَثَ عُيُونًا مِنْ
رِجَالِهِ فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرّقَتْ أَوْصَالُهُمْ قَالَ وَيْلَكُمْ
مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا : رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ
بُلْقٍ وَاَللّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى ،
فَوَاَللّهِ مَا رَدّهُ ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا
يُرِيدُ . وَلَمّا سَمِعَ بِهِمْ نَبِيّ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ
الْأَسْلَمِيّ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النّاسِ فَيُقِيمَ فِيهِمْ
حَتّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ ثُمّ يَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ فَانْطَلَقَ
ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فَدَخَلَ فِيهِمْ حَتّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ
جَمَعُوا لَهُ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَسَمِعَ مِنْ مَالِكٍ وَأَمْرِ هَوَازِنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ ثُمّ
أَقْبَلَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ . فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّيْرَ إلَى هَوَازِنَ ، ذُكِرَ لَهُ أَنّ عِنْدَ
صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ أَدْرَاعًا وَسِلَاحًا ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ
وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فَقَالَ يَا أَبَا أُمَيّةَ أَعِرْنَا
سِلَاحَك هَذَا نَلْقَى فِيهِ عَدُوّنَا غَدًا ، فَقَالَ صَفْوَانُ
أَغَصْبًا يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ " بَلْ عَارِيّةٌ مَضْمُونَةٌ حَتّى
نُؤَدّيَهَا إلَيْكَ " ، فَقَالَ لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ فَأَعْطَاهُ
مِائَةَ دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنْ السّلَاحِ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ
حَمْلَهَا ، فَفَعَلَ [ ص 411 ] خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ ، مَعَ عَشَرَةِ
آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ فَفَتَحَ اللّهُ بِهِمْ
مَكّةَ ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ، وَاسْتَعْمَلَ عَتّابَ بْنَ
أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ أَمِيرًا ، ثُمّ مَضَى يُرِيدُ لِقَاءَ هَوَازِنَ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ،
عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ ، قَالَ لَمّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ ، انْحَدَرْنَا فِي
وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إنّمَا نَنْحَدِرُ
فِيهِ انْحِدَارًا . قَالَ وَفِي عَمَايَةِ الصّبْحِ وَكَانَ الْقَوْمُ
سَبَقُونَا إلَى الْوَادِي ، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ
وَأَحْنَائِهِ وَمَضَايِقِهِ قَدْ أَجْمَعُوا ، وَتَهَيّئُوا ، وَأَعَدّوا
فَوَاَللّهِ مَا رَاعَنَا - وَنَحْنُ مُنْحَطّونَ - إلّا الْكَتَائِبُ
قَدْ شَدّوا عَلَيْنَا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَانْشَمَرَ النّاسُ
رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ ، وَانْحَازَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمّ
قَالَ إلَى أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ هَلُمّ إلَيّ أَنَا رَسُولُ اللّهِ
أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَبَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيّ وَالْعَبّاسُ وَأَبُو
سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُهُ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبّاسِ ،
وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، وَأَيْمَنُ
ابْنُ أُمّ أَيْمَنَ ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ . قَالَ وَرَجُلٌ مِنْ
هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي
رَأْسِ رُمْحٍ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ ، وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ إذَا
أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ وَإِذَا فَاتَهُ النّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ
لِمَنْ وَرَاءَهُ فَاتّبَعُوهُ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ [ ص 412 ] أَهْوَى
عَلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ
يُرِيدَانِهِ قَالَ فَأَتَى عَلِيّ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَيْ
الْجَمَلِ فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيّ عَلَى
الرّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ
فَانْجَعَفَ عَنْ رَحْلِهِ قَالَ فَاجْتَلَدَ النّاسُ . قَالَ فَوَاَللّهِ
مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتّى وَجَدُوا
الْأُسَارَى عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ وَرَأَى مَنْ
كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ جُفَاةِ
أَهْلِ مَكّةَ الْهَزِيمَةَ تَكَلّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي
أَنْفُسِهِمْ مِنْ الضّغْنِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ : لَا
تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ وَإِنّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ
فِي كِنَانَتِهِ وَصَرَخَ جَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ - وَقَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : صَوَابُهُ كَلَدَةُ - أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ فَقَالَ
لَهُ صَفْوَانُ أَخُوهُ لِأُمّهِ وَكَانَ بَعْدُ مُشْرِكًا : اُسْكُتْ
فَضّ اللّهُ فَاك ، فَوَاَللّهِ لَأَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ ،
أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ . وَذَكَرَ ابْنُ
سَعْدٍ عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَبِيّ ، قَالَ لَمّا كَانَ
عَامُ الْفَتْحِ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَكّةَ عَنْوَةً قُلْت : أَسِيرُ مَعَ قُرَيْشٍ إلَى هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ
فَعَسَى إنْ اخْتَلَطُوا أَنْ أُصِيبَ مِنْ مُحَمّدٍ غِرّةً فَأَثْأَرَ
مِنْهُ فَأَكُونَ أَنَا الّذِي قُمْتُ بِثَأْرِ قُرَيْشٍ كُلّهَا ،
وَأَقُولُ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ أَحَدٌ إلّا
اتّبَعَ مُحَمّدًا ، مَا تَبِعْتُهُ أَبَدًا ، وَكُنْت مُرْصِدًا لَمّا
خَرَجْتُ لَهُ لَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ فِي نَفْسِي إلّا قُوّةً فَلَمّا
اخْتَلَطَ النّاسُ اقْتَحَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَنْ بَغْلَتِهِ فَأَصْلَتَ السّيْفَ فَدَنَوْتُ أُرِيدُ مَا
أُرِيدُ مِنْهُ وَرَفَعْتُ سَيْفِي حَتّى كِدْتُ أُشْعِرَهُ إيّاهُ
فَرُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ كَالْبَرْقِ كَادَ يَمْحَشُنِي ،
فَوَضَعْتُ يَدَيّ عَلَى بَصَرِي خَوْفًا عَلَيْهِ فَالْتَفَتَ إلَيّ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَادَانِي : يَا شَيْبُ
اُدْنُ مِنّي " فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَمَسَحَ صَدْرِي ، ثُمّ قَالَ "
اللّهُمّ أَعِذْهُ مِنْ الشّيْطَانِ " قَالَ فَوَاَللّهِ لَهُوَ كَانَ
سَاعَتَئِذٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ سَمْعِي ، وَبَصَرِي ، وَنَفْسِي ،
وَأَذْهَبَ اللّهُ مَا كَانَ فِي نَفْسِي ، ثُمّ قَالَ " اُدْنُ فَقَاتِل
[ ص 413 ] بِنَفْسِي كُلّ شَيْءٍ وَلَوْ لَقِيتُ تِلْكَ السّاعَةَ أَبِي
لَوْ كَانَ حَيّا لَأَوْقَعْتُ بِهِ السّيْفَ فَجَعَلْت أَلْزَمُهُ
فِيمَنْ لَزِمَهُ حَتّى تَرَاجَعَ الْمُسْلِمُونَ فَكَرّوا كَرّةَ رَجُلٍ
وَاحِدٍ وَقُرّبَتْ بَغْلَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَاسْتَوَى عَلَيْهَا ، وَخَرَجَ فِي أَثَرِهِمْ حَتّى
تَفَرّقُوا فِي كُلّ وَجْهٍ وَرَجَعَ إلَى مُعَسْكَرِهِ فَدَخَلَ
خِبَاءَهُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ غَيْرِي حُبّا
لِرُؤْيَةِ وَجْهِهِ وَسُرُورًا بِهِ فَقَالَ يَا شَيْبُ الّذِي أَرَادَ
اللّهُ بِكَ خَيْرٌ مِمّا أَرَدْتَ لِنَفْسِكَ " ، ثُمّ حَدّثَنِي بِكُلّ
مَا أَضْمَرْتُ فِي نَفْسِي مَا لَمْ أَكُنْ أَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ قَطّ
قَالَ فَقُلْتُ فَإِنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَنّكَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قُلْت : اسْتَغْفِرْ
لِي . فَقَالَ " غَفَرَ اللّهُ لَكَ وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي
الزّهْرِيّ ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبّاسِ ، عَنْ أَبِيهِ الْعَبّاسِ
بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، قَالَ إنّي لَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ آخِذٌ بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ قَدْ
شَجَرْتُهَا بِهَا ، وَكُنْت امْرَءًا جَسِيمًا شَدِيدَ الصّوْتِ قَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ حَيْنَ رَأَى مَا
رَأَى مِنْ النّاسِ إلَى أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ " قَالَ فَلَمْ أَرَ
النّاسَ يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ فَقَالَ " يَا عَبّاسُ اُصْرُخْ يَا
مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السّمُرَةِ " ،
فَأَجَابُوا : لَبّيْكَ لَبّيْكَ قَالَ فَيَذْهَبُ الرّجُلُ لِيُثْنِيَ
بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُ دِرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا
فِي عُنُقِهِ وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَقَوْسَهُ وَتُرْسَهُ وَيَقْتَحِمُ
عَنْ بَعِيرِهِ وَيُخَلّي سَبِيلَهُ وَيَؤُمّ الصّوْتَ حَتّى يَنْتَهِيَ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا اجْتَمَعَ
إلَيْهِ مِنْهُمْ مِائَةٌ اسْتَقْبَلُوا النّاسَ فَاقْتَتَلُوا فَكَانَتْ
الدّعْوَةُ أَوّلَ مَا كَانَتْ يَا لَلْأَنْصَارِ ثُمّ خَلَصَتْ آخِرًا :
يَا لَلْخَزْرَجِ وَكَانُوا صُبُرًا عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَشْرَفَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَكَائِبِهِ فَنَظَرَ إلَى
مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ وَهُمْ يَجْتَلِدُونَ فَقَالَ الْآنَ حَمِيَ
الْوَطِيسُ وَزَادَ غَيْرُهُ . [ ص 414 ] أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبْ أَنَا
ابْنُ عَبْدِ المُطّلِبْ
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : ثُمّ أَخَذَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهَا .
فِي وُجُوهِ الْكُفّارِ ثُمّ قَالَ انْهَزَمُوا وَرَبّ مُحَمّدٍ فَمَا
هُوَ إلّا أَنْ رَمَاهُمْ فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدّهُمْ كَلِيلًا ،
وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا . وَفِي لَفْظٍ لَهُ إنّهُ نَزَلَ عَنْ
الْبَغْلَةِ ثُمّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ ثُمّ
اسْتَقْبَلَ بِهَا وُجُوهَهُمْ وَقَالَ شَاهَتْ الْوُجُوهُ فَمَا خَلَقَ
اللّهُ مِنْهُمْ إنْسَانًا إلّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا بِتِلْكَ
الْقَبْضَةِ فَوَلّوْا مُدْبِرِينَ . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ
جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، قَالَ لَقَدْ رَأَيْت - قَبْلَ هَزِيمَةِ
الْقَوْمِ وَالنّاسُ يَقْتَتِلُونَ يَوْمَ حُنَيْنٍ - مِثْلَ الْبِجَادِ
الْأَسْوَدِ أَقْبَلَ مِنْ السّمَاءِ حَتّى سَقَطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الْقَوْمِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا نَمْلٌ أَسْوَدُ مَبْثُوثٌ قَدْ مَلَأَ
الْوَادِيَ فَلَمْ يَكُنْ إلّا هَزِيمَةَ الْقَوْمِ فَلَمْ أَشُكّ أَنّهَا
الْمَلَائِكَةُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا انْهَزَمَ
الْمُشْرِكُونَ أَتَوْا الطّائِفَ ، وَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ
وَعَسْكَرَ بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسٍ وَتَوَجّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ
، وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي آثَارِ
مَنْ تَوَجّهَ قِبَلَ أَوْطَاسٍ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ فَأَدْرَكَ
مِنْ النّاسِ بَعْضَ مَنْ انْهَزَمَ فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ فَرُمِيَ
بِسَهْمٍ فَقُتِلَ فَأَخَذَ الرّايَةَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَهُوَ
ابْنُ أَخِيهِ فَقَاتَلَهُمْ فَفَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ فَهَزَمَهُمْ
اللّهُ وَقَتَلَ قَاتِلَ أَبِي عَامِرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ
وَأَهْلِهِ وَاجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ
وَاسْتَغْفَرَ لِأَبِي مُوسَى . [ ص 415 ] ثَقِيفٍ ، وَأَمَرَ رَسُولُ
اللّه صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّبْيِ وَالْغَنَائِمِ أَنْ
تُجْمَعَ فَجُمِعَ ذَلِكَ كُلّهُ وَوَجّهُوهُ إلَى الْجِعِرّانَةِ ،
وَكَانَ السّبْيُ سِتّةَ آلَافِ رَأْسٍ وَالْإِبِلُ أَرْبَعَةً
وَعِشْرِينَ أَلْفًا ، وَالْغَنَمُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفَ
شَاةٍ وَأَرْبَعَةَ آلَافِ أُوقِيّةً فِضّةً فَاسْتَأْنَى بِهِمْ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ
مُسْلِمِينَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً .
[ أَعْطَى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ
أَوّلَ النّاسِ مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ]
ثُمّ
بَدَأَ بِالْأَمْوَالِ فَقَسَمَهَا ، وَأَعْطَى الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ
أَوّلَ النّاسِ فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَرْبَعِينَ
أُوقِيّةً وَمِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَقَالَ ابْنِي يَزِيدُ ؟ فَقَالَ "
أعْطوُهُ أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً وَمِائَةً مِنْ الْإِبِلِ " ، فَقَالَ
ابْنِي مُعَاوِيَةُ ؟ قَالَ " أَعْطُوهُ أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً وَمِائَةً
مِنْ الْإِبِلِ " ، وَأَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مِائَةً مِنْ
الْإِبِلِ ثُمّ سَأَلَهُ مِائَةً أُخْرَى فَأَعْطَاهُ وَأَعْطَى النّضْرَ
بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَعْطَى
الْعَلَاءَ بْنَ حَارِثَةَ الثّقَفِيّ خَمْسِينَ وَذَكَرَ أَصْحَابَ
الْمِائَةِ - وَأَصْحَابَ الْخَمْسِينَ - وَأَعْطَى الْعَبّاسَ بْنَ
مِرْدَاسٍ أَرْبَعِينَ فَقَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا ، فَكَمّلَ لَهُ
الْمِائَةَ . ثُمّ أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِإِحْصَاءِ الْغَنَائِمِ
وَالنّاسِ ثُمّ فَضّهَا عَلَى النّاسِ فَكَانَتْ سِهَامُهُمْ لِكُلّ
رَجُلٍ أَرْبَعًا مِنْ الْإِبِلِ وَأَرْبَعِينَ شَاةً . فَإِنْ كَانَ
فَارِسًا أَخَذَ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةَ شَاةٍ .
[ إرْضَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَنْصَارَ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ
مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ لَمّا
أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَعْطَى مِنْ
تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ ، وَفِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ
يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيّ مِنْ
الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ حَتّى
قَالَ قَائِلُهُمْ لَقِيَ وَاَللّهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَقَالَ يَا
رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا
عَلَيْك فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الّذِي [ ص
416 ] الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ
مِنْهَا شَيْءٌ . قَالَ فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ " قَالَ
يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَنَا إلّا مِنْ قَوْمِي . قَالَ فَاجْمَعْ لِي
قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ ؟ قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا ، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدّهُمْ
فَلَمّا اجْتَمَعُوا ، أَتَى سَعْدٌ فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ لَك هَذَا
الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ
أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي
عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ
ضُلّالًا فَهَدَاكُمْ اللّهُ بِي ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللّهُ بِي ،
وَأَعْدَاءً فَأَلّفَ اللّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ؟ " قَالُوا : اللّهُ
وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ . ثُمّ قَالَ " أَلَا تُجِيبُونِي يَا
مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؟ قَالُوا : بِمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللّهِ
لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ . قَالَ " أَمَا وَاَللّهِ لَوْ
شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذّبًا
فَصَدّقْنَاكَ وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ
وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ أَوَجَدْتُمْ عَلَيّ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ
فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْتُ بِهَا قَوْمًا
لِيُسْلِمُوا ، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا
مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاءِ وَالْبَعِيرِ
وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ فَوَاَلّذِي نَفْسُ
مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بَهْ خَيْرٌ مِمّا يَنْقَلِبُونَ
بِهِ وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَلَوْ
سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَوَادِيًا ، وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا
وَوَادِيًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ وَوَادِيَهَا ، الْأَنْصَارُ
شِعَارٌ وَالنّاسُ دِثَارٌ اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ
الْأَنْصَارِ ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ " قَالَ فَبَكَى
الْقَوْمُ حَتّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَسْمًا وَحَظّا ، ثُمّ انْصَرَفَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَفَرّقُوا
[ قُدُومُ أُخْتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ ]
وَقَدِمَتْ
الشّيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى أُخْتُ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ [ ص 417 ] فَقَالَتْ يَا
رَسُولَ اللّهِ إنّي أُخْتُك مِنْ الرّضَاعَةِ قَالَ وَمَا عَلَامَةُ
ذَلِكَ ؟ قَالَتْ عَضّةٌ عَضَضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي ، وَأَنَا
مُتَوَرّكَتُك . قَالَ فَعَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْعَلَامَةَ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ وَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ
وَخَيّرَهَا ، فَقَالَ إنْ أَحْبَبْتِ الْإِقَامَةَ فَعِنْدِي مُحَبّبَةً
مُكَرّمَةً وَإِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُمَتّعَكِ فَتَرْجِعِي إلَى قَوْمِكِ
" ؟ قَالَتْ بَلْ تُمَتّعُنِي وَتَرُدّنِي إلَى قَوْمِي ، فَفَعَلَ
فَزَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ أَنّهُ أَعْطَاهَا غُلَامًا يُقَالُ لَهُ
مَكْحُولٌ وَجَارِيَةً فَزَوّجَتْ إحْدَاهُمَا مِنْ الْآخَرِ فَلَمْ
يَزَلْ فِيهِمْ مِنْ نَسْلِهِمَا بَقِيّةٌ . وَقَالَ أَبُو عُمَرَ
فَأَسْلَمَتْ فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
ثَلَاثَةَ أَعْبُدٍ وَجَارِيَةً وَنَعَمًا ، وَشَاءً وَسَمّاهَا حُذَافَةَ
. وَقَالَ وَالشّيْمَاءُ لَقَبٌ .
فَصْلٌ [ قُدُومُ وَفْدِ هَوَازِنَ ]
وَقَدِمَ
وَفْدُ هَوَازِنَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، وَرَأْسُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ ،
وَفِيهِمْ أَبُو بُرْقَانَ عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَمُنّ عَلَيْهِمْ بِالسّبْيِ
وَالْأَمْوَالِ فَقَالَ إنّ مَعِي مَنْ تَرَوْنَ ، وَإِنّ أَحَبّ
الْحَدِيثِ إلَيّ أَصْدَقُهُ فَأَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبّ
إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ ؟ " قَالُوا : مَا كُنّا نَعْدِلُ
بِالْأَحْسَابِ شَيْئًا فَقَالَ إذَا صَلّيْتُ الْغَدَاةَ فَقُومُوا
فَقُولُوا : إنّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى الْمُؤْمِنِينَ وَنَسْتَشْفِعُ بِالْمُؤْمِنِينَ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَرُدّوا عَلَيْنَا
سَبْيَنَا " ، فَلَمّا صَلّى الْغَدَاةَ قَامُوا فَقَالُوا ذَلِكَ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا مَا كَانَ لِي
وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَهُوَ لَكُمْ وَسَأَسْأَلُ لَكُمْ
النّاسَ فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ : مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ
لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ الْأَقْرَعُ
بْنُ حَابِسٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ ، فَلَا ، وَقَالَ عُيَيْنَةُ
بْنُ حِصْنٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا وَقَالَ الْعَبّاسُ بْنُ
مِرْدَاسٍ : أَمَا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ ، فَلَا ، فَقَالَتْ بَنُو
سُلَيْمٍ : مَا كَانَ لَنَا ، فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ الْعَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ : وَهّنْتُمُونِي ،
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّ هَؤُلَاءِ
الْقَوْمَ قَدْ جَاءُوا مُسْلِمِينَ وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ
سَبْيَهُمْ وَقَدْ خَيّرْتُهُمْ فَلَمْ يَعْدِلُوا بِالْأَبْنَاءِ
وَالنّسَاءِ شَيْئًا ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنّ شَيْءٌ فَطَابَتْ
نَفْسُهُ بِأَنْ يَرُدّهُ فَسَبِيلُ ذَلِكَ وَمَنْ أَحَبّ أَنْ
يَسْتَمْسِكَ بِحَقّهِ فَلْيَرُدّ عَلَيْهِمْ وَلَهُ بِكُلّ فَرِيضَةٍ
سِتّ فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ مَا يَفِيءُ اللّهُ عَلَيْنَا ، فَقَالَ
النّاسُ قَدْ طَيّبْنَا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
. فَقَالَ إنّا لَا نَعْرِفُ مَنْ رَضِيَ مِنْكُمْ مِمّنْ لَمْ يَرْضَ
فَارْجِعُوا حَتّى يَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ فَرَدّوا
عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ [ ص 418 ] أَحَدٌ غَيْرُ
عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ فَإِنّهُ أَبَى أَنْ يَرُدّ عَجُوزًا صَارَتْ فِي
يَدَيْهِ ثُمّ رَدّهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَكَسَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّبْيَ قُبْطِيّةً قُبْطِيّةً .
فَصْلٌ فِي الْإِشَارَةِ إلَى بَعْضِ مَا تَضَمّنَتْهُ هَذِهِ الْغَزْوَةُ مِنْ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيّةِ وَالنّكَتِ الْحِكْمِيّةِ
[ تَسَبّبَتْ حَرْبُ هَوَازِنَ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي إظْهَارِ أَمْرِ اللّهِ ]
كَانَ
اللّهُ عَزّ وَجَلّ قَدْ وَعَدَ رَسُولَهُ وَهُوَ صَادِقُ الْوَعْدِ
أَنّهُ إذَا فَتَحَ مَكّةَ ، دَخَلَ النّاسُ فِي دِينِهِ أَفْوَاجًا ،
وَدَانَتْ لَهُ الْعَرَبُ بِأَسْرِهَا ، فَلَمّا تَمّ لَهُ الْفَتْحُ
الْمُبِينُ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالَى أَنْ أَمْسَكَ قُلُوبَ
هَوَازِنَ وَمَنْ تَبِعَهَا عَنْ الْإِسْلَامِ وَأَنْ يَجْمَعُوا
وَيَتَأَلّبُوا لِحَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَالْمُسْلِمِينَ لِيَظْهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَتَمَامُ إعْزَازِهِ
لِرَسُولِهِ وَنَصْرِهِ لِدِينِهِ وَلِتَكُونَ غَنَائِمُهُمْ شُكْرَانًا
لِأَهْلِ الْفَتْحِ وَلِيُظْهِرَ اللّهُ - سُبْحَانَهُ - رَسُولَهُ
وَعِبَادَهُ وَقَهْرَهُ لِهَذِهِ الشّوْكَةِ الْعَظِيمَةِ الّتِي لَمْ
يَلْقَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَهَا ، فَلَا يُقَاوِمُهُمْ بَعْدُ أَحَدٌ
مِنْ الْعَرَبِ ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الّتِي
تَلُوحُ لِلْمُتَأَمّلِينَ وَتَبْدُو لِلْمُتَوَسّمِينَ . وَاقْتَضَتْ
حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ أَذَاقَ الْمُسْلِمِينَ أَوّلًا مَرَارَةَ
الْهَزِيمَةِ وَالْكَسْرَةِ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ
وَقُوّةِ شَوْكَتِهِمْ لِيُطامِنَ رُءُوسًا رُفِعَتْ بِالْفَتْحِ وَلَمْ
تَدْخُلْ [ ص 419 ] بَلَدَهُ وَحَرَمَهُ كَمَا دَخَلَهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاضِعًا رَأْسَهُ مُنْحَنِيًا عَلَى
فَرَسِهِ حَتّى إنّ ذَقْنَهُ تَكَادُ تَمَسّ سُرُجَهُ تَوَاضُعًا لِرَبّهِ
وَخُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ وَاسْتِكَانَةً لِعِزّتِهِ أَنْ أَحَلّ لَهُ
حَرَمَهُ وَبَلَدَهُ وَلَمْ يَحِلّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا لِأَحَدٍ
بَعْدَهُ وَلِيُبَيّنَ سُبْحَانَهُ لِمَنْ قَالَ لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ
عَنْ قِلّةٍ أَنّ النّصْرَ إنّمَا هُوَ مِنْ عِنْدِهِ وَأَنّهُ مَنْ
يَنْصُرُهُ فَلَا غَالِبَ لَهُ وَمَنْ يَخْذُلُهُ فَلَا نَاصِرَ لَهُ
غَيْرُهُ وَأَنّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الّذِي تَوَلّى نَصْرَ رَسُولِهِ
وَدِينِهِ لَا كَثْرَتُكُمْ الّتِي أَعْجَبَتْكُمْ فَإِنّهَا لَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ شَيْئًا ، فَوَلّيْتُمْ مُدْبِرِينَ فَلَمّا انْكَسَرَتْ
قُلُوبُهُمْ أُرْسِلَتْ إلَيْهَا خِلَعُ الْجَبْرِ مَعَ بَرِيدِ النّصْرِ
{ ثُمّ أَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } وَقَدْ اقْتَضَتْ
حِكْمَتُهُ أَنّ خِلَعَ النّصْرِ وَجَوَائِزَهُ إنّمَا تَفِيضُ عَلَى
أَهْلِ الِانْكِسَارِ { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنّ عَلَى الّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [
الْقَصَصَ 6 ] .
[ الْإِكْرَامُ بِالْغَنَائِمِ الْكَثِيرَةِ بَعْدَ أَنْ مُنِعُوا غَنَائِمَ مَكّةَ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمّا مَنَعَ الْجَيْشَ غَنَائِمَ مَكّةَ ،
فَلَمْ يَغْنَمُوا مِنْهَا ذَهَبًا ، وَلَا فِضّةً وَلَا مَتَاعًا ، وَلَا
سَبْيًا ، وَلَا أَرْضًا كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ ، عَنْ وَهْبِ بْنِ
مُنَبّهٍ ، قَالَ سَأَلْت جَابِرًا : هَلْ غَنِمُوا يَوْمَ الْفَتْحِ
شَيْئًا ؟ قَالَ لَا وَكَانُوا قَدْ فَتَحُوهَا بِإِيجَافِ الْخَيْلِ
وَالرّكَابِ وَهُمْ عَشَرَةُ آلَافٍ وَفِيهِمْ حَاجَةٌ إلَى مَا يَحْتَاجُ
إلَيْهِ الْجَيْشُ مِنْ أَسْبَابِ الْقُوّةِ فَحَرّكَ سُبْحَانَهُ قُلُوبَ
الْمُشْرِكِينَ لِغَزْوِهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ إخْرَاجَ
أَمْوَالِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ وَسَبْيِهِمْ مَعَهُمْ نُزُلًا ،
وَضِيَافَةً وَكَرَامَةً لِحِزْبِهِ وَجُنْدِهِ وَتَمّمَ تَقْدِيرَهُ
سُبْحَانَهُ بِأَنْ أَطْمَعَهُمْ فِي الظّفَرِ وَأَلَاحَ لَهُمْ مَبَادِئَ
النّصْرِ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ، فَلَمّا أَنْزَلَ
اللّهُ نَصْرَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَبَرَدَتْ الْغَنَائِمُ
لِأَهْلِهَا ، وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللّهِ وَرَسُولِهِ قِيلَ لَا
حَاجَةَ لَنَا فِي دِمَائِكُمْ وَلَا فِي نِسَائِكُمْ وَذَرَارِيّكُمْ
فَأَوْحَى اللّهُ سُبْحَانَهُ إلَى قُلُوبِهِمْ التّوْبَةَ وَالْإِنَابَةَ
فَجَاءُوا مُسْلِمِينَ . فَقِيلَ إنّ مِنْ شُكْرِ إسْلَامِكُمْ
وَإِتْيَانِكُمْ أَنْ نَرُدّ عَلَيْكُمْ [ ص 420 ] نِسَاءَكُمْ
وَأَبْنَاءَكُمْ وَسَبْيَكُمْ وَ { إِنْ يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ
خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الْأَنْفَالَ 70 ] .
[ اشْتِرَاكُ الْمَلَائِكَةِ فِي غَزْوَتَيْ بَدْرٍ وَحُنَيْنٍ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ غَزْوَ الْعَرَبِ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ
، وَخَتَمَ غَزْوَهُمْ بِغَزْوَةِ حُنَيْنٍ ، وَلِهَذَا يُقْرَنُ بَيْنَ
هَاتَيْنِ الْغَزَاتَيْنِ بِالذّكْرِ فَيُقَالُ بَدْرٌ وَحُنَيْنٌ ،
وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا سَبْعُ سِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ قَاتَلَتْ
بِأَنْفُسِهَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَاتَيْنِ الْغَزَاتَيْنِ
وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَمَى فِي وُجُوهِ
الْمُشْرِكِينَ بِالْحَصْبَاءِ فِيهِمَا ، وَبِهَاتَيْنِ الْغَزَاتَيْنِ
طُفِئَت جَمْرَةُ الْعَرَبِ لِغَزْوِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فَالْأُولَى : خَوّفَتْهُمْ
وَكَسَرَتْ مِنْ حَدّهِمْ وَالثّانِيَةُ اسْتَفْرَغَتْ قُوَاهُمْ
وَاسْتَنْفَدَتْ سِهَامَهُمْ وَأَذَلّتْ جَمْعَهُمْ حَتّى لَمْ يَجِدُوا
بُدّا مِنْ الدّخُولِ فِي دِينِ اللّهِ . وَمِنْهَا : أَنّ اللّهَ
سُبْحَانَهُ جَبَرَ بِهَا أَهْلَ مَكّةَ ، وَفَرّحَهُمْ بِمَا نَالُوهُ
مِنْ النّصْرِ وَالْمَغْنَمِ فَكَانَتْ كَالدّوَاءِ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ
كَسْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ عَيْنَ جَبْرِهِمْ وَعَرّفَهُمْ تَمَامَ
نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنْ شَرّ هَوَازِنَ ،
فَإِنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهِمْ طَاقَةٌ وَإِنّمَا نُصِرُوا
عَلَيْهِمْ بِالْمُسْلِمِينَ وَلَوْ أُفْرِدُوا عَنْهُمْ لَأَكَلَهُمْ
عَدُوّهُمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ الّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا
إلّا اللّهُ تَعَالَى .
فَصْلٌ [ إيجَابُ بَعْثِ الْعُيُونِ وَالسّيْرِ إلَى الْعَدُوّ إذَا سَمِعَ بِقَصْدِهِ لَهُ ]
وَفِيهَا
: مِنْ الْفِقْهِ أَنّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْعَثَ
الْعُيُونَ وَمَنْ يَدْخُلُ بَيْنَ عَدُوّهِ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ
وَأَنّ الْإِمَامَ إذَا سَمِعَ بِقَصْدِ عَدُوّهِ لَهُ وَفِي جَيْشِهِ
قُوّةٌ وَمَنَعَةٌ لَا يَقْعُدُ يَنْتَظِرُهُمْ بَلْ يَسِيرُ إلَيْهِمْ
كَمَا سَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى
هَوَازِنَ حَتّى لَقِيَهُمْ بِحُنَيْنٍ .
[ جَوَازُ اسْتِعَارَةِ سِلَاحِ الْمُشْرِكِينَ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ الْإِمَامَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِيرَ سِلَاحَ الْمُشْرِكِينَ
وَعُدّتَهُمْ لِقِتَالِ عَدُوّهِ كَمَا اسْتَعَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَدْرَاعَ صَفْوَانَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ
.
[ مِنْ تَمَامِ التّوَكّلِ اسْتِعْمَالُ الْأَسْبَابِ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ مِنْ تَمَامِ التّوَكّلِ اسْتِعْمَالَ الْأَسْبَابِ الّتِي
نَصَبَهَا اللّهُ لِمُسَبّبَاتِهَا قَدَرًا وَشَرْعًا ، فَإِنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابَهُ أَكْمَلُ الْخَلْقِ
تَوَكّلًا ، وَإِنّمَا كَانُوا يَلْقَوْنَ عَدُوّهُمْ وَهُمْ
مُتَحَصّنُونَ بِأَنْوَاعِ السّلَاحِ وَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ، وَالْبَيْضَةُ [ ص 421 ] أَنْزَلَ
اللّهُ عَلَيْهِ { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ } [ الْمَائِدَةَ 67
] . وَكَثِيرٌ مِمّنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ وَلَا رُسُوخَ فِي الْعِلْمِ
يَسْتَشْكِلُ هَذَا ، وَيَتَكَايَسُ فِي الْجَوَابِ تَارَةً بِأَنّ هَذَا
فَعَلَهُ تَعْلِيمًا لِلْأُمّةِ وَتَارَةً بِأَنّ هَذَا كَانَ قَبْلَ
نُزُولِ الْآيَةِ . وَوَقَعَتْ فِي مِصْرَ مَسْأَلَةٌ سَأَلَ عَنْهَا
بَعْضُ الْأُمَرَاءِ وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ أَبُو
الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ " أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ بَعْدَ أَنْ أَهْدَتْ لَهُ
الْيَهُودِيّةُ الشّاةَ الْمَسْمُومَةَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا قُدّمَ لَهُ
حَتّى يَأْكُلَ مِنْهُ مَنْ قَدّمَهُ . قَالُوا : وَفِي هَذَا أُسْوَةٌ
لِلْمُلُوكِ فِي ذَلِكَ . فَقَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ هَذَا
وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ }
فَإِذَا كَانَ اللّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ الْعِصْمَةَ فَهُوَ
يَعْلَمُ أَنّهُ لَا سَبِيلَ لِبَشَرٍ إلَيْهِ . وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ
بِأَنّ هَذَا يَدُلّ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ وَبَعْضُهُمْ بِأَنّ هَذَا
كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فَلَمّا نَزَلَتْ لَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ
ذَلِكَ بَعْدَهَا . وَلَوْ تَأَمّلَ هَؤُلَاءِ أَنّ ضَمَانَ اللّهِ لَهُ
الْعِصْمَةَ لَا يُنَافِي تَعَاطِيَهُ لِأَسْبَابِهَا ، لَأَغْنَاهُمْ
عَنْ هَذَا التّكَلّفِ فَإِنّ هَذَا الضّمَانَ لَهُ مِنْ رَبّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى لَا يُنَاقِضُ احْتِرَاسَهُ مِنْ النّاسِ وَلَا يُنَافِيهِ
كَمَا أَنّ إخْبَارَ اللّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ بِأَنّهُ يُظْهِرُ دِينَهُ
عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَيُعْلِيهِ لَا يُنَاقِضُ أَمْرَهُ بِالْقِتَالِ
وَإِعْدَادِ الْعُدّةِ وَالْقُوّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ وَالْأَخْذِ
بِالْجِدّ وَالْحَذَرِ وَالِاحْتِرَاسِ مِنْ عَدُوّهِ وَمُحَارَبَتِهِ
بِأَنْوَاعِ الْحَرْبِ وَالتّوْرِيَةِ فَكَانَ إذَا أَرَادَ الْغَزْوَةَ
وَرّى بِغَيْرِهَا ، وَذَلِكَ لِأَنّ هَذَا إخْبَارٌ مِنْ اللّهِ
سُبْحَانَهُ عَنْ عَاقِبَةِ حَالِهِ وَمَآلِهِ بِمَا يَتَعَاطَاهُ مِنْ
الْأَسْبَابِ الّتِي جَعَلَهَا اللّهُ مُفْضِيَةً إلَى ذَلِكَ
مُقْتَضِيَةً لَهُ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْلَمُ
بِرَبّهِ وَأَتْبَعُ لِأَمْرِهِ مِنْ أَنْ يُعَطّلَ الْأَسْبَابَ الّتِي
جَعَلَهَا اللّهُ لَهُ بِحِكْمَتِهِ مُوجِبَةً لِمَا وَعَدَهُ بِهِ مِنْ
النّصْرِ وَالظّفَرِ إظْهَارِ دِينِهِ وَغَلَبَتِهِ لِعَدُوّهِ وَهَذَا
كَمَا أَنّهُ سُبْحَانَهُ ضَمِنَ لَهُ حَيَاتَهُ حَتّى يُبَلّغَ
رِسَالَاتِهِ وَيُظْهِرَ دِينَهُ وَهُوَ يَتَعَاطَى أَسْبَابَ الْحَيَاةِ
مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ وَهَذَا
مَوْضِعٌ يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ حَتّى آلَ ذَلِكَ
بِبَعْضِهِمْ إلَى أَنّ تَرْكَ الدّعَاءِ وَزَعَمَ أَنّهُ لَا فَائِدَةَ
فِيهِ لِأَنّ الْمَسْئُولَ إنْ كَانَ قَدْ قُدّرَ نَالَهُ وَلَا بُدّ
وَإِنْ لَمْ يُقَدّرْ لَمْ يَنَلْهُ فَأَيّ فَائِدَةٍ فِي الِاشْتِغَالِ
بِالدّعَاءِ ؟ [ ص 422 ] تَكَايَسَ فِي الْجَوَابِ بِأَنْ قَالَ الدّعَاءُ
عِبَادَةٌ فَيُقَالُ لِهَذَا الْغَالِطِ بَقِيَ عَلَيْك قِسْمٌ آخَرُ -
وَهُوَ الْحَقّ - أَنّهُ قَدْ قَدّرَ لَهُ مَطْلُوبَهُ بِسَبَبٍ إنْ
تَعَاطَاهُ حَصَلَ لَهُ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ عَطّلَ السّبَبَ فَاتَهُ
الْمَطْلُوبُ وَالدّعَاءُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي حُصُولِ
الْمَطْلُوبِ وَمَا مِثْلُ هَذَا الْغَالِطِ إلّا مِثْلُ مَنْ يَقُولُ
وَإِنْ كَانَ اللّهُ قَدْ قَدّرَ لِي الشّبَعَ فَأَنَا أَشْبَعُ أَكَلْتُ
أَوْ لَمْ آكُلْ إنْ لَمْ يُقَدّرْ لِي الشّبَعَ لَمْ أَشْبَعْ أَكَلْتُ
أَوْ لَمْ آكُلْ فَمَا فَائِدَةُ الْأَكْلِ ؟ وَأَمْثَالُ هَذِهِ
التّرّهَاتِ الْبَاطِلَةِ الْمُنَافِيَةِ لِحِكْمَةِ اللّهِ تَعَالَى
وَشَرْعِهِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ [ هَلْ الْعَارِيّةُ مَضْمُونَةٌ ]
؟
وَفِيهَا : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَرَطَ
لِصَفْوَانَ فِي الْعَارِيّةِ الضّمَانَ فَقَالَ بَلْ عَارِيّةٌ
مَضْمُونَةٌ فَهَلْ هَذَا إخْبَارٌ عَنْ شَرْعِهِ فِي الْعَارِيّةِ
وَوَصْفٌ لَهَا بِوَصْفٍ شَرَعَهُ اللّهُ فِيهَا ، وَأَنّ حُكْمَهَا
الضّمَانُ كَمَا يُضْمَنُ الْمَغْصُوبُ أَوْ إخْبَارٌ عَنْ ضَمَانِهَا
بِالْأَدَاءِ بِعَيْنِهَا ، وَمَعْنَاهُ أَنّي ضَامِنٌ لَك تَأْدِيَتَهَا
، وَأَنّهَا لَا تَذْهَبُ بَلْ أَرُدّهَا إلَيْك بِعَيْنِهَا ؟ هَذَا
مِمّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ . فَقَالَ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ
بِالْأَوّلِ وَأَنّهَا مَضْمُونَةٌ بِالتّلَفِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَمَالِكٌ بِالثّانِي ، وَأَنّهَا مَضْمُونَةٌ بِالرّدّ عَلَى تَفْصِيلٍ
فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ أَنّ الْعَيْنَ إنْ كَانَتْ مِمّا لَا
يُغَابُ عَلَيْهِ كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ لَمْ تُضْمَنْ بِالتّلَفِ
إلّا أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِمّا يُغَابُ عَلَيْهِ
كَالْحُلِيّ وَنَحْوِهِ ضُمِنَتْ بِالتّلَفِ إلّا أَنْ يَأْتِيَ
بِبَيّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى التّلَفِ وَسِرّ مَذْهَبِهِ أَنّ الْعَارِيّةَ
أَمَانَةٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إلّا أَنّهُ
لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُخَالِفُ الظّاهِرَ فَلِذَلِكَ فُرّقَ
بَيْنَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ . وَمَأْخَذُ
الْمَسْأَلَةِ أَنّ قَوْلَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِصَفْوَانَ
" بَلْ عَارِيّةٌ مَضْمُونَةٌ هَلْ أَرَادَ بِهِ أَنّهَا مَضْمُونَةٌ
بِالرّدّ أَوْ بِالتّلَفِ ؟ أَيْ أَضْمَنُهَا إنْ تَلِفَتْ أَوْ أَضْمَنُ
لَك رَدّهَا ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ فِي ضَمَانِ الرّدّ
أَظْهَرُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا : أَنّ فِي اللّفْظِ الْآخَرِ "
بَلْ عَارِيّةٌ مُؤَدّاةٌ " ، فَهَذَا يُبَيّنُ أَنّ قَوْلَهُ [ ص 423 ]
الثّانِي : أَنّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ تَلَفِهَا ، وَإِنّمَا سَأَلَهُ
هَلْ تَأْخُذُهَا مِنّي أَخْذَ غَصْبٍ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ؟
فَقَالَ " لَا بَلْ أَخْذَ عَارِيّةٍ أُؤَدّيهَا إلَيْك " . وَلَوْ كَانَ
سَأَلَهُ عَنْ تَلَفِهَا وَقَالَ أَخَافُ أَنْ تَذْهَبَ لَنَاسَبَ أَنْ
يَقُولَ أَنَا ضَامِنٌ لَهَا إنْ تَلِفَتْ . الثّالِثُ أَنّهُ جَعَلَ
الضّمَانَ صِفَةً لَهَا نَفْسِهَا ، وَلَوْ كَانَ ضَمَانَ تَلَفٍ لَكَانَ
الضّمَانُ لِبَدَلِهَا ، فَلَمّا وَقَعَ الضّمَانُ عَلَى ذَاتِهَا ، دَلّ
عَلَى أَنّهُ ضَمَانُ أَدَاءٍ . فَإِنْ قِيلَ فَفِي الْقِصّةِ أَنّ بَعْضَ
الدّرُوعِ ضَاعَ فَعَرَضَ عَلَيْهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنْ يَضْمَنَهَا ، فَقَالَ أَنَا الْيَوْمَ فِي الْإِسْلَامِ
أَرْغَبُ قِيلَ هَلْ عَرَضَ عَلَيْهِ أَمْرًا وَاجِبًا أَوْ أَمْرًا
جَائِزًا مُسْتَحَبّا الْأَوْلَى فِعْلُهُ وَهُوَ مِنْ مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ وَالشّيَمِ وَمِنْ مَحَاسِنِ الشّرِيعَةِ ؟ وَقَدْ
يَتَرَجّحُ الثّانِي بِأَنّهُ عَرَضَ عَلَيْهِ الضّمَانَ وَلَوْ كَانَ
الضّمَانُ وَاجِبًا ، لَمْ يَعْرِضْهُ عَلَيْهِ بَلْ كَانَ يَفِي لَهُ
بِهِ وَيَقُول : هَذَا حَقّك ، كَمَا لَوْ كَانَ الذّاهِبُ بِعَيْنِهِ
مَوْجُودًا ، فَإِنّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَعْرِضَ عَلَيْهِ رَدّهُ
فَتَأَمّلْهُ .
فَصْلٌ [ جَوَازُ عَقْرِ مَرْكُوبِ الْعَدُوّ إذَا كَانَ عَوْنًا عَلَى قَتْلِهِ ]
وَفِيهَا
: جَوَازُ عَقْرِ فَرَسِ الْعَدُوّ وَمَرْكُوبِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ
عَوْنًا عَلَى قَتْلِهِ كَمَا عَقَرَ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
جَمَلَ حَامِلِ رَايَةِ الْكُفّارِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَعْذِيبِ
الْحَيَوَانِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ .
[ عَفْوُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمّنْ هَمّ بِقَتْلِهِ ]
وَفِيهَا
: عَفْوُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمّنْ هَمّ
بِقَتْلِهِ وَلَمْ يُعَاجِلْهُ بَلْ دَعَا لَهُ وَمَسَحَ صَدْرَهُ حَتّى
عَادَ ، كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ .
[ إخْبَارُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْبَةَ بِمَا أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ وَثَبَاتِهِ وَقَدْ تَوَلّى عَنْهُ النّاسُ ]
وَمِنْهَا
: مَا ظَهَرَ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ مِنْ مُعْجِزَاتِ النّبُوّةِ وَآيَاتِ
الرّسَالَةِ مِنْ إخْبَارِهِ لِشَيْبَةَ بِمَا أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ
وَمِنْ ثَبَاتِهِ وَقَدْ تَوَلّى عَنْهُ النّاسُ وَهُوَ يَقُولُ أَنَا
النّبِيّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطّلِبْ
وَقَدْ
اسْتَقْبَلَتْهُ كَتَائِبُ الْمُشْرِكِينَ . وَمِنْهَا : إيصَالُ اللّهِ
قَبْضَتَهُ الّتِي رَمَى بِهَا إلَى عُيُونِ أَعْدَائِهِ عَلَى الْبُعْدِ
مِنْهُ [ ص 424 ] رَآهُمْ الْعَدُوّ جَهْرَةً وَرَآهُمْ بَعْضُ
الْمُسْلِمِينَ .
[ جَوَازُ انْتِظَارِ إسْلَامِ الْكُفّارِ حَتّى تُرَدّ عَلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ قَبْلَ قَسْمِهَا ]
وَمِنْهَا
: جَوَازُ انْتِظَارِ الْإِمَامِ بِقَسْمِ الْغَنَائِمِ إسْلَامَ
الْكُفّارِ وَدُخُولَهُمْ فِي الطّاعَةِ فَيَرُدّ عَلَيْهِمْ
غَنَائِمَهُمْ وَسَبْيَهُمْ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إنّ
الْغَنِيمَةَ إنّمَا تُمْلَكُ بِالْقِسْمَةِ لَا بِمُجَرّدِ
الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا ، إذْ لَوْ مَلَكَهَا الْمُسْلِمُونَ بِمُجَرّدِ
الِاسْتِيلَاءِ لَمْ يَسْتَأْنِ بِهِمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِيَرُدّهَا عَلَيْهِمْ وَعَلَى هَذَا فَلَوْ مَاتَ أَحَدٌ مِنْ
الْغَانِمِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَوْ إحْرَازِهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ
رُدّ نَصِيبُهُ عَلَى بَقِيّةِ الْغَانِمِينَ دُونَ وَرَثَتِهِ وَهَذَا
مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، لَوْ مَاتَ قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ لَمْ يَكُنْ
لِوَرَثَتِهِ شَيْءٌ وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَسَهْمُهُ
لِوَرَثَتِهِ .
فَصْلٌ [ هَلْ الْعَطَاءُ الّذِي أَعْطَاهُ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقُرَيْشٍ وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ
أَصْلِ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ الْخُمُسِ أَوْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ]
؟
وَهَذَا الْعَطَاءُ الّذِي أَعْطَاهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِقُرَيْشٍ ، وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ هَلْ هُوَ مِنْ أَصْلِ
الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ الْخُمُسِ أَوْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ؟ فَقَالَ
الشّافِعِيّ وَمَالِكٌ : هُوَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ وَهُوَ سَهْمُهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي جَعَلَهُ اللّهُ لَهُ مِنْ
الْخُمُسِ وَهُوَ غَيْرُ الصّفِيّ وَغَيْرُ مَا يُصِيبُهُ مِنْ
الْمَغْنَمِ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ
يَسْتَأْذِنْ الْغَانِمِينَ فِي تِلْكَ الْعَطِيّةِ . وَلَوْ كَانَ
الْعَطَاءُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ لَاسْتَأْذَنَهُمْ لِأَنّهُمْ
مَلَكُوهَا بِحَوْزِهَا وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا ، وَلَيْسَ مِنْ
أَصْلِ الْخُمُسِ لِأَنّهُ مَقْسُومٌ عَلَى خَمْسَةٍ فَهُوَ إذًا مِنْ
خُمُسِ الْخُمُسِ . وَقَدْ نَصّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنّ النّفْلَ
يَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ وَهَذَا الْعَطَاءُ هُوَ
مِنْ النّفْلِ نَفّلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهِ
رُءُوسَ الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ لِيَتَأَلّفَهُمْ بِهِ وَقَوْمَهُمْ
عَلَى الْإِسْلَامِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ تَنْفِيلِ الثّلُثِ
بَعْدَ الْخُمُسِ وَالرّبُعِ بَعْدَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْوِيَةِ
الْإِسْلَامِ وَشَوْكَتِهِ وَأَهْلِهِ وَاسْتِجْلَابِ عَدُوّهِ إلَيْهِ
هَكَذَا وَقَعَ سَوَاءٌ كَمَا قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الّذِي نَفّلَهُمْ
لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَإِنّهُ لَأَبْغَضُ الْخَلْقِ إلَيّ فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتّى إنّهُ
لَأَحَبّ الْخَلْقِ إلَيّ فَمَا ظَنّك بِعَطَاءٍ قَوّى الْإِسْلَامَ
وَأَهْلَهُ وَأَذَلّ الْكُفْرَ وَحِزْبَهُ وَاسْتَجْلَبَ بِهِ قُلُوبَ
رُءُوسِ الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ الّذِينَ إذَا غَضِبُوا ، غَضِبَ
لِغَضَبِهِمْ أَتْبَاعُهُمْ وَإِذَا [ ص 425 ] لِرِضَاهُمْ . فَإِذَا
أَسْلَمَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَتَخَلّفْ عَنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِمْ
فَلِلّهِ مَا أَعْظَمَ مَوْقِعَ هَذَا الْعَطَاءِ وَمَا أَجْدَاهُ
وَأَنْفَعَهُ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنّ الْأَنْفَالَ
لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ يَقْسِمُهَا رَسُولُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ لَا
يَتَعَدّى الْأَمْرَ فَلَوْ وَضَعَ الْغَنَائِمَ بِأَسْرِهَا فِي
هَؤُلَاءِ لِمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ الْعَامّةِ لَمَا خَرَجَ عَنْ
الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْعَدْلِ وَلَمَا عَمِيَتْ أَبْصَارُ ذِي
الْخُوَيْصِرَةِ التّمِيمِيّ وَأَضْرَابِهِ عَنْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ
وَالْحِكْمَةِ . قَالَ لَهُ قَائِلُهُمْ اعْدِلْ فَإِنّكَ لَمْ تَعْدِلْ .
وَقَالَ مُشَبّهُهُ إنّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ
اللّهِ وَلَعَمْرُ اللّهِ إنّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ
بِرَسُولِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِرَبّهِ وَطَاعَتِهِ لَهُ وَتَمَامِ عَدْلِهِ
وَإِعْطَائِهِ لِلّهِ وَمَنْعِهِ لِلّهِ وَلِلّهِ - سُبْحَانَهُ - أَنْ
يَقْسِمَ الْغَنَائِمَ كَمَا يُحِبّ وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا
الْغَانِمِينَ جُمْلَةً كَمَا مَنَعَهُمْ غَنَائِمَ مَكّةَ ، وَقَدْ
أَوْجَفُوا عَلَيْهَا بِخَيْلِهِمْ وَرِكَابِهِمْ وَلَهُ أَنْ يُسَلّطَ
عَلَيْهَا نَارًا مِنْ السّمَاءِ تَأْكُلُهَا ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلّهِ
أَعْدَلُ الْعَادِلِينَ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَمَا فَعَلَ مَا
فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ عَبَثًا ، وَلَا قَدّرَهُ سُدًى ، بَلْ هُوَ عَيْنُ
الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالرّحْمَةِ مَصْدَرُهُ كَمَالُ
عِلْمِهِ وَعِزّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلَقَدْ أَتَمّ
نِعْمَتَهُ عَلَى قَوْمٍ رَدّهُمْ إلَى مَنَازِلِهِمْ بِرَسُولِهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُودُونَهُ إلَى دِيَارِهِمْ وَأَرْضَى مَنْ
لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ هَذِهِ النّعْمَةِ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ كَمَا
يُعْطَى الصّغِيرُ مَا يُنَاسِبُ عَقْلَهُ وَمَعْرِفَتَهُ وَيُعْطَى
الْعَاقِلُ اللّبِيبُ مَا يُنَاسِبُهُ وَهَذَا فَضْلُهُ وَلَيْسَ هُوَ
سُبْحَانَهُ تَحْتَ حَجْرِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَيُوجِبُونَ عَلَيْهِ
بِعُقُولِهِمْ وَيُحَرّمُونَ وَرَسُولُهُ مُنَفّذٌ لِأَمْرِهِ . فَإِنْ
قِيلَ فَلَوْ دَعَتْ حَاجَةُ الْإِمَامِ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ
إلَى مِثْلِ هَذَا مَعَ عَدُوّهِ هَلْ يَسُوغُ لَهُ ذَلِكَ ؟ قِيلَ
الْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ يَتَصَرّفُ لِمَصَالِحِهِمْ
وَقِيَامِ الدّينِ . فَإِنْ تَعَيّنَ ذَلِكَ لِلدّفْعِ عَنْ الْإِسْلَامِ
وَالذّبّ عَنْ حَوْزَتِهِ وَاسْتِجْلَابِ رُءُوسِ أَعْدَائِهِ إلَيْهِ
لِيَأْمَنَ الْمُسْلِمُونَ شَرّهُمْ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ تَعَيّنَ
عَلَيْهِ وَهَلْ تُجَوّزُ الشّرِيعَةُ غَيْرَ هَذَا ، فَإِنّهُ وَإِنْ
كَانَ فِي الْحِرْمَانِ مَفْسَدَةٌ فَالْمَفْسَدَةُ الْمُتَوَقّعَةُ مِنْ
فَوَاتِ تَأْلِيفِ هَذَا الْعَدُوّ أَعْظَمُ وَمَبْنَى الشّرِيعَةِ عَلَى
دَفْعِ أَعْلَى الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا ، [ ص 426 ]
أَدْنَاهُمَا ، بَلْ بِنَاءُ مَصَالِحِ الدّنْيَا وَالدّينِ عَلَى
هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ . وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ [ جَوَازُ بَيْعِ الرّقِيقِ وَالْحَيَوَانِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ نَسِيئَةً وَمُتَفَاضِلًا ]
وَفِيهَا
: أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَنْ لَمْ يُطَيّبْ
نَفْسَهُ فَلَهُ بِكُلّ فَرِيضَةٍ سِتّ فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ مَا يَفِيءُ
اللّهُ عَلَيْنَا . فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الرّقِيقِ
بَلْ الْحَيَوَانِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ نَسِيئَةً وَمُتَفَاضِلًا . وَفِي "
السّنَنِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُجَهّزَ جَيْشًا ،
فَنَفِدَتْ الْإِبِلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى قَلَائِصِ
الصّدَقَةِ وَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إلَى إبِلِ
الصّدَقَةِ وَفِي " السّنَنِ " عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّه نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ
نَسِيئَةً وَرَوَاهُ التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ
وَصَحّحَهُ . وَفِي التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ الْحَجّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ
عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَيَوَانُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ لَا يَصْلُحُ
نَسِيئًا ، وَلَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ قَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ
حَسَنٌ . [ ص 427 ] أَحْمَدَ . أَحَدُهَا : جَوَازُ ذَلِكَ مُتَفَاضِلًا ،
وَمُتَسَاوِيًا نَسِيئَةً وَيَدًا بِيَدٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
وَالشّافِعِيّ . وَالثّانِي : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ نَسِيئَةً وَلَا
مُتَفَاضِلًا . وَالثّالِثُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ النّسَاءِ
وَالتّفَاضُلِ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ مَعَ أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ قَوْلُ
مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - وَالرّابِعُ إنْ اتّحَدَ الْجِنْسُ جَازَ
التّفَاضُلُ وَحَرُمَ النّسَاءُ وَإِنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ جَازَ
التّفَاضُلُ وَالنّسَاءُ . وَلِلنّاسِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
وَالتّأْلِيفِ بَيْنَهَا ثَلَاثَةُ مَسَالِكَ أَحَدُهَا : تَضْعِيفُ
حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ لِأَنّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ سِوَى
حَدِيثَيْنِ لَيْسَ هَذَا مِنْهُمَا ، وَتَضْعِيفُ حَدِيثِ الْحَجّاجِ
بْنِ أَرْطَاةَ . وَالْمَسْلَكُ الثّانِي : دَعْوَى النّسْخِ وَإِنْ لَمْ
يَتَبَيّنْ الْمُتَأَخّرُ مِنْهَا مِنْ الْمُتَقَدّمِ وَلِذَلِكَ وَقَعَ
الِاخْتِلَافُ . وَالْمَسْلَكُ الثّالِثُ حَمْلُهَا عَلَى أَحْوَالٍ
مُخْتَلِفَةٍ وَهُوَ أَنّ النّهْيَ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ
بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً إنّمَا كَانَ لِأَنّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى
النّسِيئَةِ فِي الرّبَوِيّاتِ فَإِنّ الْبَائِعَ إذَا رَأَى مَا فِي
هَذَا الْبَيْعِ مِنْ الرّبْحِ لَمْ تَقْتَصِرْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ بَلْ
تَجُرّهُ إلَى بَيْعِ الرّبَوِيّ كَذَلِك ، فَسَدّ عَلَيْهِمْ الذّرِيعَةَ
وَأَبَاحَهُ يَدًا بِيَدٍ وَمَنَعَ مِنْ النّسَاءِ فِيهِ وَمَا حَرُمَ
لِلذّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ كَمَا أَبَاحَ مِنْ
الْمُزَابَنَةِ الْعَرَايَا لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَأَبَاحَ مَا
تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْهَا ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحَيَوَانِ
بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً مُتَفَاضِلًا فِي هَذِهِ الْقِصّةِ وَفِي
حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ إنّمَا وَقَعَ فِي الْجِهَادِ وَحَاجَةُ [ ص 428 ]
تَجْهِيزِ الْجَيْشِ ، وَمَعْلُومٌ أَنّ مَصْلَحَةَ تَجْهِيزِهِ أَرْجَحُ
مِنْ الْمَفْسَدَةِ فِي بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً
وَالشّرِيعَةُ لَا تُعَطّلُ الْمَصْلَحَةَ الرّاجِحَةَ لِأَجْلِ
الْمَرْجُوحَةِ وَنَظِيرُ هَذَا جَوَازُ لُبْسِ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ
وَجَوَازُ الْخُيَلَاءِ فِيهَا ، إذْ مَصْلَحَةُ ذَلِكَ أَرْجَحُ مِنْ
مَفْسَدَةِ لُبْسِهِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ لِبَاسُهُ الْقَبَاءَ الْحَرِيرَ
الّذِي أَهْدَاهُ لَهُ مَلِكُ أَيْلَةَ سَاعَةً ثُمّ نَزْعُهُ
لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ فِي تَأْلِيفِهِ وَجَبْرِهِ وَكَانَ هَذَا
بَعْدَ النّهْيِ عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ كَمَا بَيّنّاهُ مُسْتَوْفًى فِي
كِتَابِ " التّخْيِيرِ فِيمَا يَحِلّ وَيَحْرُمُ مِنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ
" وَبَيّنّا أَنّ هَذَا كَانَ عَامَ الْوُفُودِ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَنّ
النّهْيَ عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنّهُ
نَهَى عُمَرَ عَنْ لُبْسِ الْحُلّةِ الْحَرِيرِ الّتِي أَعْطَاهُ إيّاهَا
، فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكّةَ وَهَذَا كَانَ قَبْلَ
الْفَتْحِ وَلِبَاسُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَدِيّةَ مَلِكِ
أَيْلَةَ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ وَنَظِيرُ هَذَا نَهْيُهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الصّلَاةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَبَعْدَ
الْعَصْرِ سَدّا لِذَرِيعَةِ التّشَبّهِ بِالْكُفّارِ وَأَبَاحَ مَا فِيهِ
مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ مِنْ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ وَقَضَاءِ السّنَنِ
وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَتَحِيّةِ الْمَسْجِدِ لِأَنّ مَصْلَحَةَ
فِعْلِهَا أَرْجَحُ مِنْ مَفْسَدَةِ النّهْيِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
وَفِي الْقِصّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إذَا جَعَلَا
بَيْنَهُمَا أَجَلًا غَيْرَ مَحْدُودٍ جَازَ إذَا اتّفَقَا عَلَيْهِ
وَرَضِيَا بِهِ وَقَدْ نَصّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِهِ فِي رِوَايَةٍ
عَنْهُ فِي الْخِيَارِ مُدّةً غَيْرَ مَحْدُودَةٍ أَنّهُ يَكُون جَائِزًا
حَتّى يَقْطَعَاهُ وَهَذَا هُوَ الرّاجِحُ إذْ لَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ
وَلَا عُذْرَ وَكُلّ مِنْهُمَا قَدْ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ وَرِضًى
بِمُوجَبِ الْعَقْدِ فَكِلَاهُمَا فِي الْعِلْمِ بِهِ سَوَاءٌ فَلَيْسَ
لِأَحَدِهِمَا مَزِيّةٌ عَلَى الْآخَرِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا .
فَصْلٌ [ هَلْ الْأَسْلَابُ مُسْتَحَقّةٌ بِالشّرْعِ أَوْ بِالشّرْطِ ؟ ]
وَفِي
هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَنّهُ قَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا ، لَهُ عَلَيْهِ
بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ وَقَالَهُ فِي غَزْوَةٍ أُخْرَى قَبْلَهَا ،
فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ هَذَ السّلَبُ مُسْتَحَقّ بِالشّرْعِ أَوْ
بِالشّرْطِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ . [ ص
429 ] شَرَطَهُ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَشْرِطْهُ وَهُوَ قَوْلُ
الشّافِعِيّ . وَالثّانِي : أَنّهُ لَا يُسْتَحَقّ إلّا بِشَرْطِ
الْإِمَامِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ
اللّهُ لَا يُسْتَحَقّ إلّا بِشَرْطِ الْإِمَامِ بَعْدَ الْقِتَالِ .
فَلَوْ نَصّ قَبْلَهُ لَمْ يَجُزْ . قَالَ مَالِكٌ وَلَمْ يَبْلُغْنِي
أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ذَلِكَ إلّا يَوْمَ
حُنَيْنٍ ، وَإِنّمَا نَفّلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بَعْدَ أَنْ بَرَدَ الْقِتَالُ . وَمَأْخَذُ النّزَاعِ أَنّ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ هُوَ الْإِمَامَ وَالْحَاكِمَ ،
وَالْمُفْتِيَ وَهُوَ الرّسُولُ فَقَدْ يَقُولُ الْحُكْمَ بِمَنْصِبِ
الرّسَالَةِ فَيَكُونُ شَرْعًا عَامّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
كَقَوْلِهِ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ
رَدّ وَقَوْلِهِ مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ الزّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ وَكَحُكْمِهِ
بِالشّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَبِالشّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ وَقَدْ
يَقُولُ بِمَنْصِبِ الْفَتْوَى ، كَقَوْلِهِ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ
امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ ، وَقَدْ شَكَتْ إلَيْهِ شُحّ زَوْجِهَا ،
وَأَنّهُ لَا يُعْطِيهَا مَا يَكْفِيهَا : خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ
بِالْمَعْرُوفِ فَهَذِهِ فُتْيَا لَا حُكْمٌ إذْ لَمْ يَدْعُ بِأَبِي
سُفْيَانَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ جَوَابِ الدّعْوَى ، وَلَا سَأَلَهَا
الْبَيّنَةَ . وَقَدْ يَقُولُهُ بِمَنْصِبِ الْإِمَامَةِ فَيَكُونُ
مَصْلَحَةً لِلْأُمّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ الْمَكَانِ وَعَلَى
تِلْكَ الْحَالِ فَيَلْزَمُ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَئِمّةِ مُرَاعَاةُ
ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الْمَصْلَحَةِ الّتِي رَاعَاهَا النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَمَانًا وَمَكَانًا وَحَالًا ، وَمِنْ هَا
هُنَا تَخْتَلِفُ الْأَئِمّةُ فِي [ ص 430 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كَقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا
فَلَهُ سَلَبُهُ هَلْ قَالَهُ بِمَنْصِبِ الْإِمَامَةِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ
مُتَعَلّقًا بِالْأَئِمّةِ أَوْ بِمَنْصِبِ الرّسَالَةِ وَالنّبُوّةِ
فَيَكُونَ شَرْعًا عَامّا ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا
مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ هَلْ هُوَ شَرْعٌ عَامّ لِكُلّ أَحَدٍ ، أَذِنَ
فِيهِ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ أَوْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْأَئِمّةِ
فَلَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ إلّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ؟ عَلَى
الْقَوْلَيْنِ فَالْأَوّلُ لِلشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ
مَذْهَبِهِمَا . وَالثّانِي : لِأَبِي حَنِيفَةَ وَفَرّقَ مَالِكٌ بَيْنَ
الْفَلَوَاتِ الْوَاسِعَةِ وَمَا لَا يَتَشَاحّ فِيهِ النّاسُ وَبَيْنَ
مَا يَقَعُ فِيهِ التّشَاحّ فَاعْتُبِرَ إذْنُ الْإِمَامِ فِي الثّانِي
دُونَ الْأَوّلِ .
فَصْلٌ [الِاكْتِفَاءُ فِي الْأَسْلَابِ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ ]
وَقَوْلُهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ " دَلِيلٌ عَلَى
مَسْأَلَتَيْنِ . إحْدَاهُمَا : أَنّ دَعْوَى الْقَاتِلِ أَنّهُ قَتَلَ
هَذَا الْكَافِرَ لَا تُقْبَلُ فِي اسْتِحْقَاقِ سَلَبِهِ . الثّانِيَةُ
الِاكْتِفَاءُ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الدّعْوَى بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ مِنْ
غَيْرِ يَمِينٍ لِمَا ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ
خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ
حُنَيْنٍ ، فَلَمّا الْتَقَيْنَا ، كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ
فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَدَرْت إلَيْهِ حَتّى أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ
فَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ وَأَقْبَلَ عَلَيّ فَضَمّنِي ضَمّةً
وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ ثُمّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ
فَأَرْسَلَنِي ، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فَقَالَ مَا لِلنّاسِ
؟ فَقُلْت : أَمْرُ اللّهِ ثُمّ إنّ النّاسَ رَجَعُوا ، وَجَلَسَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا
لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ " ، قَالَ فَقُمْتُ فَقُلْت :
مَنْ يَشْهَدُ لِي ؟ ثُمّ جَلَسْت ، ثُمّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ
فَقُمْت فَقُلْت : مَنْ يَشْهَدُ لِي ؟ ثُمّ قَالَ ذَلِكَ الثّالِثَةَ
فَقُمْت ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَا
لَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ ؟ " فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ " الْقِصّةَ فَقَالَ
رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : صَدَقَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ
الْقَتِيلِ عِنْدِي ، فَأَرْضِهِ مِنْ حَقّهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
الصّدّيقُ : لَاهَا اللّهِ إذًا لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ [ ص 431 ]
أُسْدِ اللّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيك سَلَبَهُ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " صَدَقَ
فَأَعْطِهِ إيّاهُ " ، فَأَعْطَانِي ، فَبِعْتُ الدّرْعَ فَابْتَعْت بِهِ
مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ فَإِنّهُ لَأَوّلُ مَالٍ تَأَثّلْتُهُ فِي
الْإِسْلَامِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ هَذَا أَحَدُهَا ،
وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . وَالثّانِي : أَنّهُ لَا بُدّ مِنْ
شَاهِدٍ وَيَمِينٍ كَإِحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَالثّالِثُ
- وَهُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - أَنّهُ لَا بُدّ مِنْ
شَاهِدَيْنِ لِأَنّهَا دَعْوَى قَتْلٍ فَلَا تُقْبَلُ إلّا بِشَاهِدَيْنِ .
[ لَا يُشْتَرَطُ فِي الشّهَادَةِ التّلَفّظُ بِلَفْظِ أَشْهَدُ ]
وَفِي
الْقِصّةِ دَلِيلٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنّهُ لَا
يُشْتَرَطُ فِي الشّهَادَةِ التّلَفّظُ بِلَفْظِ " أَشْهَدُ " وَهَذَا
أَصَحّ الرّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ فِي الدّلِيلِ وَإِنْ كَانَ
الْأَشْهَرُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ الِاشْتِرَاطَ وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ .
قَالَ شَيْخُنَا : وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ
وَالتّابِعِينَ اشْتِرَاطُ لَفْظِ الشّهَادَةِ وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ
: شَهِدَ عِنْدِي رِجَالٌ مَرْضِيّونَ وَأَرْضَاهُمْ عِنْدِي عُمَرُ أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ الصّلَاةِ
بَعْدَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الصّبْحِ . وَمَعْلُومٌ أَنّهُمْ لَمْ
يَتَلَفّظُوا لَهُ بِلَفْظِ أَشْهَدُ إنّمَا كَانَ مُجَرّدَ إخْبَارٍ .
وَفِي حَدِيثِ مَاعِزٍ فَلَمّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ
رَجَمَهُ وَإِنّمَا كَانَ مِنْهُ مُجَرّدُ إخْبَارٍ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ
إقْرَارٌ وَكَذَلِك قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَيّ شَيْءٍ أَكْبَرُ
شَهَادَةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيّ
هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنّكُمْ
لَتَشْهَدُونَ أَنّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ } [
الْأَنْعَامَ 19 ] ، وَقَوْلُهُ { قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا
وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
أَنّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } [ الْأَنْعَامَ 130 ] . وَقَوْلُهُ {
لَكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ
وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا } [ النّسَاءَ
166 ] . وَقَوْلُهُ { أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي
قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ
الشّاهِدِينَ } [ آلَ عِمْرَانَ 81 ] ، وَقَوْلُهُ { شَهِدَ اللّهُ أَنّهُ
لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا
بِالْقِسْطِ } [ آلَ عِمْرَانَ 18 ] ، إلَى [ ص 432 ] وَقَدْ تَنَازَعَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَعَلِيّ بْنُ الْمَدِينِيّ فِي الشّهَادَةِ
لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنّةِ فَقَالَ عَلِيّ أَقُولُ هُمْ فِي الْجَنّةِ ،
وَلَا أَقُولُ أَشْهَدُ أَنّهُمْ فِي الْجَنّةِ . فَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ مَتَى قُلْتَ هُمْ فِي الْجَنّةِ فَقَدْ شَهِدْتَ وَهَذَا
تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِأَنّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الشّهَادَةِ لَفْظُ
أَشْهَدُ . وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ مِنْ أَبْيَنِ الْحُجَجِ فِي ذَلِكَ
. فَإِنْ قِيلَ إخْبَارُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ السّلَبُ إنّمَا كَانَ
إقْرَارًا بِقَوْلِهِ هُوَ عِنْدِي ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الشّهَادَةِ
فِي شَيْءٍ . قِيلَ تَضَمّنَ كَلَامُهُ شَهَادَةً وَإِقْرَارًا بِقَوْلِهِ
" صَدَقَ " ، شَهَادَةً لَهُ بِأَنّهُ قَتَلَهُ وَقَوْلُهُ هُوَ " عِنْدِي
" إقْرَارٌ مِنْهُ بِأَنّهُ عِنْدَهُ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إنّمَا قَضَى بِالسّلَبِ بَعْدَ الْبَيّنَةِ وَكَانَ تَصْدِيقُ
هَذَا هُوَ الْبَيّنَةَ .
فَصْلٌ [ جَمِيعُ السّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَلَا يُخَمّسُ ]
وَقَوْلُهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَلَهُ سَلَبُهُ " دَلِيلٌ عَلَى أَنّ
لَهُ سَلَبَهُ كُلّهُ غَيْرَ مُخَمّسٍ وَقَدْ صَرّحَ بِهَذَا فِي قَوْلِهِ
لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ لَمّا قَتَلَ قَتِيلًا : لَهُ سَلَبُهُ
أَجْمَعُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ هَذَا أَحَدُهَا .
وَالثّانِي : أَنّهُ يُخَمّسُ كَالْغَنِيمَةِ وَهَذَا قَوْلُ
الْأَوْزَاعِيّ وَأَهْلِ الشّامِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ
لِدُخُولِهِ فِي آيَةِ الْغَنِيمَةِ . وَالثّالِثُ أَنّ الْإِمَامَ إنْ
اسْتَكْثَرَهُ خَمّسَهُ وَإِنْ اسْتَقَلّهُ لَمْ يُخَمّسْهُ وَهُوَ قَوْلُ
إسْحَاقَ وَفَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، فَرَوَى سَعِيدٌ فِي "
سُنَنِهِ " عَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، أَنّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ بَارَزَ
مَرْزُبَانَ الْمَرَازِبَةِ بِالْبَحْرَيْنِ فَطَعَنَهُ فَدَقّ صُلْبَهُ
وَأَخَذَ سِوَارَيْهِ وَسَلَبَهُ فَلَمّا صَلّى عُمَرُ الظّهْرَ أَتَى
الْبَرَاءَ فِي دَارِهِ فَقَالَ إنّا كُنّا لَا نُخَمّسُ السّلَبَ ،
وَإِنّ سَلَبَ الْبَرَاءِ قَدْ بَلَغَ مَالًا ، وَأَنَا خَامِسُهُ فَكَانَ
أَوّلَ سَلَبٍ خُمّسَ فِي الْإِسْلَامِ سَلَبُ الْبَرَاءِ وَبَلَغَ
ثَلَاثِينَ أَلْفًا . وَالْأَوّلُ أَصَحّ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 433 ] لَمْ يُخَمّسْ السّلَبَ وَقَالَ هُوَ
لَهُ أَجْمَعُ وَمَضَتْ عَلَى ذَلِكَ سُنّتُهُ وَسُنّةُ الصّدّيقِ
بَعْدَهُ وَمَا رآَه عُمَرُ اجْتِهَادٌ مِنْهُ أَدّاهُ إلَيْهِ رَأْيُهُ .
وَالْحَدِيثُ يَدُلّ عَلَى أَنّهُ مِنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ فَإِنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى بِهِ لِلْقَاتِلِ وَلَمْ
يَنْظُرْ فِي قِيمَتِهِ وَقَدْرِهِ وَاعْتِبَارِ خُرُوجِهِ مِنْ خُمُسِ
الْخُمُسِ وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ وَيَدُلّ عَلَى
أَنّهُ يَسْتَحِقّهُ مَنْ يُسْهَمُ لَهُ وَمَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ مِنْ
صَبِيّ وَامْرَأَةٍ وَعَبْدٍ وَمُشْرِكٍ وَقَالَ الشّافِعِيّ فِي أَحَدِ
قَوْلَيْهِ لَا يَسْتَحِقّ السّلَبَ إلّا مَنْ يَسْتَحِقّ السّهْمَ لِأَنّ
السّهْمَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَسْتَحِقّهُ الْعَبْدُ
وَالصّبِيّ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُشْرِكُ فَالسّلَبُ أَوْلَى ، وَالْأَوّلُ
أَصَحّ لِلْعُمُومِ وَلِأَنّهُ جَارٍ مَجْرَى قَوْلِ الْإِمَامِ مَنْ
فَعَلَ كَذَا وَكَذَا ، أَوْ دَلّ عَلَى حِصْنٍ أَوْ جَاءَ بِرَأْسٍ
فَلَهُ كَذَا مِمّا فِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْجِهَادِ وَالسّهْمُ
مُسْتَحَقّ بِالْحُضُورِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِعْلٌ وَالسّلَبُ
مُسْتَحَقّ بِالْفِعْلِ فَجَرَى مَجْرَى الْجَعَالَةِ .
فَصْلٌ [ يَسْتَحِقّ الْقَاتِلُ سَلَبَ جَمِيعِ مَنْ قَتَلَهُ وَإِنْ كَثُرُوا ]
وَفِيهِ
دَلَالَةٌ عَلَى أَنّهُ يَسْتَحِقّ سَلَبَ جَمِيعِ مَنْ قَتَلَهُ وَإِنْ
كَثُرُوا . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ أَنّ أَبَا طَلْحَةَ قَتَلَ
يَوْمَ حُنَيْنٍ عِشْرِينَ رَجُلًا ، فَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ .
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ الطّائِفِ
فِي
شَوّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ قَالَ ابْنُ سَعْدٍ : قَالُوا : وَلَمّا أَرَادَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَسِيرَ إلَى الطّائِفِ
، بَعَثَ الطّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو إلَى ذِي الْكَفّيْنِ صَنَمِ عَمْرِو
بْنِ حُمَمَةَ الدّوْسِيّ ، يَهْدِمُهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَمِدّ
قَوْمَهُ وَيُوَافِيَهُ بِالطّائِفِ فَخَرَجَ سَرِيعًا إلَى قَوْمِهِ
فَهَدَمَ ذَا الْكَفّيْنِ وَجَعَلَ يَحُشّ النّارَ فِي وَجْهِهِ
وَيُحَرّقُهُ وَيَقُولُ [ ص 434 ]
يَا ذَا الْكَفّيْنِ لَسْتُ مِنْ عُبّادِكَا
مِيلَادُنَا أَقْدَمُ مِنْ مِيلَادِكَا
إنّي حَشَشْتُ النّارَ فِي فُؤَادِكَا
وَانْحَدَرَ
مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ سِرَاعًا ، فَوَافَوْا النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالطّائِفِ بَعْدَ مَقْدَمِهِ
بِأَرْبَعَةِ أَيّامٍ وَقَدِمَ بِدَبّابَةٍ وَمَنْجَنِيقٍ . قَالَ ابْنُ
سَعْدٍ : وَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْ حُنَيْنٍ يُرِيدُ الطّائِفَ ، قَدِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى
مُقَدّمَتِهِ وَكَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ رَمّوا حِصْنَهُمْ وَأَدْخَلُوا
فِيهِ مَا يَصْلُحُ لَهُمْ لِسَنَةٍ فَلَمّا انْهَزَمُوا مِنْ أَوْطَاسٍ ،
دَخَلُوا حِصْنَهُمْ وَأَغْلَقُوهُ عَلَيْهِمْ وَتَهَيّئُوا لِلْقِتَالِ
وَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَزَلَ قَرِيبًا
مِنْ حِصْنِ الطّائِفِ ، وَعَسْكَرَ هُنَاكَ فَرَمَوْا الْمُسْلِمِينَ
بِالنّبْلِ رَمْيًا شَدِيدًا ، كَأَنّهُ رِجْلُ جَرَادٍ حَتّى أُصِيبَ
نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِجِرَاحَةٍ وَقُتِلَ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ
رَجُلًا ، فَارْتَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
إلَى مَوْضِعِ مَسْجِدِ الطّائِفِ الْيَوْمَ وَكَانَ مَعَهُ مِنْ
نِسَائِهِ أُمّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ فَضَرَبَ لَهُمَا قُبّتَيْنِ وَكَانَ
يُصَلّي بَيْنَ الْقُبّتَيْنِ مُدّةَ حِصَارِ الطّائِفِ ، فَحَاصَرَهُمْ
ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : بِضْعًا
وَعِشْرِينَ لَيْلَةً .
[ أَوّلُ مَنْجَنِيقٍ رُمِيَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ ]
وَنَصَبَ
عَلَيْهِمْ الْمَنْجَنِيقَ وَهُوَ أَوّلُ مَا رُمِيَ بِهِ فِي
الْإِسْلَامِ . وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ : حَدّثَنَا قَبِيصَةُ ، حَدّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ مَكْحُولٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطّائِفِ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا [ ص 435 ]
[ قَطْعُ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : حَتّى إذَا كَانَ يَوْمُ الشّدْخَةِ عِنْدَ جِدَارِ
الطّائِفِ ، دَخَلَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحْتَ دَبّابَةٍ ثُمّ دَخَلُوا بِهَا إلَى جِدَارِ
الطّائِفِ لِيُحْرِقُوهُ فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ
الْحَدِيدِ مُحْمَاةً بِالنّارِ فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا ، فَرَمَتْهُمْ
ثَقِيفٌ بِالنّبْلِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا ، فَأَمَرَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ ،
فَوَقَعَ النّاسُ فِيهَا يَقْطَعُونَ . قَالَ ابْنُ سَعْدٍ : فَسَأَلُوهُ
أَنْ يَدَعَهَا لِلّهِ وَلِلرّحِمِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَإِنّي أَدَعُهَا لِلّهِ وَلِلرّحِمِ " فَنَادَى
مُنَادِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيّمَا عَبْدٍ
نَزَلَ مِنْ الْحِصْنِ وَخَرَجَ إلَيْنَا فَهُوَ حُرّ فَخَرَجَ مِنْهُمْ
بَضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرَةَ ، فَأَعْتَقَهُمْ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَفَعَ كُلّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَمُونُهُ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى
أَهْلِ الطّائِفِ مَشَقّةً شَدِيدَةً .
[ رَحِيلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الطّائِفِ دُونَ فَتْحِهَا ]
وَلَمْ
يُؤْذَنْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي فَتْحِ
الطّائِفِ ، وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدّيلِيّ ، فَقَالَ مَا تَرَى ؟ فَقَالَ
ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ إنْ أَقَمْتَ عَلَيْهِ أَخَذْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ
لَمْ يَضُرّك . فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، فَأَذّنَ فِي النّاسِ بِالرّحِيلِ فَضَجّ
النّاسُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا : نَرْحَلُ وَلَمْ يُفْتَحْ عَلَيْنَا
الطّائِفُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ فَغَدَوْا فَأَصَابَتْ الْمُسْلِمِينَ
جِرَاحَاتٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّا
قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللّهُ فَسُرّوا بِذَلِكَ وَأَذْعَنُوا ،
وَجَعَلُوا يَرْحَلُونَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَضْحَكُ فَلَمّا ارْتَحَلُوا وَاسْتَقَلّوا ، قَالَ قُولُوا : آيِبُونَ
تَائِبُونَ ، عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ وَقِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ
اُدْعُ اللّهَ عَلَى ثَقِيفٍ . فَقَالَ اللّهُمّ اهْدِ ثَقِيفًا وائْتِ
بِهِمْ [ ص 436 ]
[ عُمْرَةُ الْجِعِرّانَةِ ]
وَاسْتُشْهِدَ مَعَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالطّائِفِ جَمَاعَةٌ
ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
الطّائِفِ إلَى الْجِعِرّانَةِ ، ثُمّ دَخَلَ مِنْهَا مُحْرِمًا
بِعُمْرَةٍ فَقَضَى عُمْرَتَهُ ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ .
فَصْلٌ [ وَفْدُ ثَقِيفٍ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْمَدِينَةَ مِنْ تَبُوكَ فِي رَمَضَانَ وَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ
الشّهْرِ وَفْدُ ثَقِيفٍ وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا انْصَرَفَ عَنْهُمْ اتّبَعَ
أَثَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتّى أَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ
الْمَدِينَةَ ، فَأَسْلَمَ وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى قَوْمِهِ
بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كَمَا يَتَحَدّثُ قَوْمُك أَنّهُمْ قَاتِلُوك ، وَعَرَفَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ فِيهِمْ نَخْوَةَ
الِامْتِنَاعِ الّذِي كَانَ مِنْهُمْ فَقَالَ عُرْوَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ
؟ أَنَا أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِهِمْ وَكَانَ فِيهِمْ كَذَلِكَ
مُحَبّبًا مُطَاعًا ، فَخَرَجَ يَدْعُو قَوْمَهُ إلَى الْإِسْلَامِ
رَجَاءَ أَلّا يُخَالِفُوهُ لِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ فَلَمّا أَشْرَفَ
لَهُمْ عَلَى عُلّيّةٍ لَهُ وَقَدْ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ
وَأَظْهَرَ لَهُمْ دِينَهُ رَمَوْهُ بِالنّبْلِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ
فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ فَقِيلَ لِعُرْوَةَ مَا تَرَى فِي دَمِك ؟
قَالَ كَرَامَةٌ أَكْرَمَنِي اللّهُ بِهَا ، وَشَهَادَةٌ سَاقَهَا اللّهُ
إلَيّ فَلَيْسَ فِيّ إلّا مَا فِي الشّهَدَاءِ الّذِينَ قُتِلُوا مَعَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ
عَنْكُمْ فَادْفِنُونِي مَعَهُمْ فَدَفَنُوهُ مَعَهُمْ فَزَعَمُوا أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فِيهِ إنّ مَثَلَهُ
فِي قَوْمِهِ كَمَثَلِ صَاحِبِ يس فِي قَوْمِهِ ثُمّ أَقَامَتْ ثَقِيفٌ
بَعْدَ قَتْلِ عُرْوَةَ أَشْهُرًا ، ثُمّ إنّهُمْ ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ
وَرَأَوْا أَنّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ
الْعَرَبِ ، وَقَدْ بَايَعُوا وَأَسْلَمُوا ، فَأَجْمَعُوا أَنْ
يُرْسِلُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلًا ،
كَمَا أَرْسَلُوا عُرْوَةَ فَكَلّمُوا عَبْدَ يَالَيْلَ بْنَ عَمْرِو بْنِ
عُمَيْرٍ ، وَكَانَ فِي سِنّ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ
ذَلِكَ فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَخَشِيَ [ ص 437 ] فَقَالَ لَسْت بِفَاعِلٍ
حَتّى تُرْسِلُوا مَعِي رِجَالًا ، فَأَجْمَعُوا أَنْ يَبْعَثُوا مَعَهُ
رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَحْلَافِ وَثَلَاثَةً مِنْ بَنِي مَالِكٍ
فَيَكُونُونَ سِتّةً فَبَعَثُوا مَعَهُ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرِو بْنِ
وَهْبٍ ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ غَيْلَانَ ، وَمِنْ بَنِي مَالِكٍ عُثْمَانَ
بْنَ أَبِي الْعَاصِ ، وَأَوْسَ بْنَ عَوْفٍ ، وَنُمَيْرَ بْنَ خَرَشَةَ ،
فَخَرَجَ بِهِمْ فَلَمّا دَنَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَنَزَلُو قَنَاةً
لَقُوا بِهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ ، فَاشْتَدّ لِيُبَشّرَ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ فَلَقِيَهُ
أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ أَقْسَمَتْ عَلَيْك بِاَللّهِ لَا تَسْبِقْنِي إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَكُونَ أَنَا
أُحَدّثُهُ فَفَعَلَ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ ثُمّ
خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَرَوّحَ الظّهْرَ مَعَهُمْ
وَأَعْلَمَهُمْ كَيْفَ يُحَيّونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَلَمْ يَفْعَلُوا إلّا بِتَحِيّةِ الْجَاهِلِيّةِ فَلَمّا
قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ضَرَبَ
عَلَيْهِمْ قُبّةً فِي نَاحِيَةِ مَسْجِدِهِ كَمَا يَزْعُمُونَ . وَكَانَ
خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ هُوَ الّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى
اكْتَتَبُوا كِتَابَهُمْ وَكَانَ خَالِدٌ هُوَ الّذِي كَتَبَهُ وَكَانُوا
لَا يَأْكُلُونَ طَعَامًا يَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى يَأْكُلَ مِنْهُ خَالِدٌ حَتّى أَسْلَمُوا
.
[ بَعْثُ الْمُغِيرَةِ وَأَبِي سُفْيَانَ لِهَدْمِ اللّاتِ ]
وَقَدْ
كَانَ فِيمَا سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنْ يَدَعَ لَهُمْ الطّاغِيَةَ ، وَهِيَ اللّاتُ لَا يَهْدِمُهَا ثَلَاثَ
سِنِينَ فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَلَيْهِمْ فَمَا بَرِحُوا يَسْأَلُونَهُ سَنَةً سَنَةً وَيَأْبَى
عَلَيْهِمْ حَتّى سَأَلُوهُ شَهْرًا وَاحِدًا بَعْدَ قُدُومِهِمْ فَأَبَى
عَلَيْهِمْ أَنْ يَدَعَهَا شَيْئًا مُسَمّى ، وَإِنّمَا يُرِيدُونَ
بِذَلِكَ فِيمَا يُظْهِرُونَ أَنْ يَسْلَمُوا بِتَرْكِهَا مِنْ
سُفَهَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ وَيَكْرَهُونَ أَنْ
يُرَوّعُوا قَوْمَهُمْ بِهَدْمِهَا حَتّى يَدْخُلَهُمْ الْإِسْلَامُ
فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَنْ
يَبْعَثَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ
يَهْدِمَانِهَا ، وَقَدْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ مَعَ تَرْكِ الطّاغِيَةِ
أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ الصّلَاةِ وَأَنْ لَا يَكْسِرُوا أَوْثَانَهُمْ
بِأَيْدِيهِمْ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَمّا كَسْرُ أَوْثَانِكُمْ بِأَيْدِيكُمْ ، فَسَنُعْفِيكُمْ مِنْهُ
وَأَمّا الصّلَاةُ فَلَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ فَلَمّا
أَسْلَمُوا وَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كِتَابًا ، أَمّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ ، [
ص 438 ] وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنّا ، وَذَلِك أَنّهُ كَانَ مِنْ
أَحْرَصِهِمْ عَلَى التّفَقّهِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَعَلّمِ الْقُرْآنِ .
فَلَمّا فَرَغُوا مِنْ أَمْرِهِمْ وَتَوَجّهُوا إلَى بِلَادِهِمْ
رَاجِعِينَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَعَهُمْ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فِي
هَدْمِ الطّاغِيَةِ ، فَخَرَجَا مَعَ الْقَوْمِ حَتّى إذَا قَدِمُوا
الطّائِفَ ، أَرَادَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنْ يُقَدّمَ أَبَا
سُفْيَانَ فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ اُدْخُلْ
أَنْتَ عَلَى قَوْمِك ، وَأَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَالِهِ بِذِي
الْهَدْمِ فَلَمّا دَخَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، عَلَاهَا
يَضْرِبُهَا بِالْمِعْوَلِ وَقَامَ دُونَهُ بَنُو مُعَتّبٍ خَشْيَةَ أَنْ
يُرْمَى أَوْ يُصَابَ كَمَا أُصِيبَ عُرْوَةُ وَخَرَجَ نِسَاءُ ثَقِيفٍ
حُسّرًا يَبْكِينَ عَلَيْهَا ، وَيَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ -
وَالْمُغِيرَةُ يَضْرِبُهَا بِالْفَأْسِ - " واهًا لَك واهًا لَك "
فَلَمّا هَدَمَهَا الْمُغِيرَةُ وَأَخَذَ مَالَهَا وَحُلِيّهَا ، أَرْسَلَ
إلَى أَبِي سُفْيَانَ مَجْمُوعَ مَالِهَا مِنْ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ
وَالْجَزْعِ .
[ قُدُومُ رَجُلَيْنِ مِنْ ثَقِيفٍ وَقَضَاءُ الدّيْنِ عَنْهُمَا ]
وَقَدْ
كَانَ أَبُو مَلِيحِ بْنُ عُرْوَةَ وَقَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ قَدِمَا
عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ وَفْدِ
ثَقِيفٍ حَيْنَ قُتِلَ عُرْوَةُ يُرِيدَانِ فِرَاقَ ثَقِيفٍ ، وَأَنْ لَا
يُجَامِعَاهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا ، فَأَسْلَمَا ، فَقَالَ لَهُمَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَوَلّيَا مَنْ شِئْتُمَا
" قَالَا : نَتَوَلّى اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " وَخَالَكُمَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ "
فَقَالَا : وَخَالَنَا أَبَا سُفْيَانَ فَلَمّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطّائِف
ِ ، سَأَلَ أَبُو مَلِيحٍ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنْ يَقْضِيَ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ
الطّاغِيَةِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ : وَعَنْ
الْأَسْوَدِ يَا رَسُولَ اللّهِ فَاقْضِهِ - وَعُرْوَةُ وَالْأَسْوَدُ
أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمّ - فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إنّ الْأَسْوَدَ مَاتَ مُشْرِكًا فَقَالَ قَارِبُ بْنُ
الْأَسْوَدِ : يَا رَسُولَ اللّهِ لَكِنْ تَصِلُ مُسْلِمًا ذَا قَرَابَةٍ
يَعْنِي نَفْسَهُ وَإِنّمَا الدّيْنُ [ ص 439 ] فَأَمَرَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ عُرْوَةَ
وَالْأَسْوَدِ مِنْ مَالِ الطّاغِيَةِ ، فَفَعَلَ . وَكَانَ كِتَابُ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي كَتَبَ لَهُمْ
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ
اللّهِ إلَى الْمُؤْمِنِينَ ، إنّ عِضَاهَ وَجّ وَصَيْدَهُ حَرَامٌ لَا
يُعْضَدُ مَنْ وُجِدَ يَصْنَعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنّهُ يُجْلَدُ
وَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ فَإِنْ تَعَدّى ذَلِكَ فَإِنّهُ يُؤْخَذُ فَيُبْلَغُ
بِهِ إلَى النّبِيّ مُحَمّدٍ وَإِنّ هَذَا أَمْرُ النّبِيّ مُحَمّدٍ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ
سَعِيدٍ بِأَمْرِ الرّسُولِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ فَلَا
يَتَعَدّاهُ أَحَدٌ ، فَيَظْلِمَ نَفْسَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مُحَمّدٌ
رَسُولُ اللّهِ . فَهَذِهِ قِصّةُ ثَقِيفٍ مِنْ أَوّلِهَا إلَى آخِرِهَا ،
سُقْنَاهَا كَمَا هِيَ وَإِنْ تَخَلّلَ بَيْنَ غَزْوِهَا وَإِسْلَامِهَا
غَزَاةُ تَبُوك َ وَغَيْرُهَا ، لَكِنْ آثَرْنَا أَنْ لَا نَقْطَعَ
قِصّتَهُمْ وَأَنْ يَنْتَظِمَ أَوّلُهَا بِآخِرِهَا لِيَقَعَ الْكَلَامُ
عَلَى فِقْهِ هَذِهِ الْقِصّةِ وَأَحْكَامِهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ .
[ جَوَازُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ]
فَنَقُولُ
فِيهَا مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ،
وَنَسْخُ تَحْرِيمِ ذَلِكَ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ فِي أَوَاخِرِ شَهْرِ
رَمَضَانَ بَعْدَ مُضِيّ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْهُ وَالدّلِيلُ
عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ
عَنْ خَالِدٍ الْحَذّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ
عَنْ شَدّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنّهُ مَرّ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَمَنَ الْفَتْحِ عَلَى رَجُلٍ يَحْتَجِمُ بِالْبَقِيعِ
لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدَيّ
فَقَالَ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَهَذَا أَصَحّ مِنْ قَوْلِ
مَنْ قَالَ إنّهُ خَرَجَ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ [ ص 440 ] إنّ اللّهَ
كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ وَأَقَامَ بِمَكّةَ تِسْعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصّلَاةَ ثُمّ خَرَجَ إلَى هَوَازِنَ ،
فَقَاتَلَهُمْ وَفَرَغَ مِنْهُمْ ثُمّ قَصَدَ الطّائِفَ ، فَحَاصَرَهُمْ
بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ وَثَمَانِ
عَشْرَةَ لَيْلَةً فِي قَوْلِ ابْنِ سَعْدٍ ، وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فِي
قَوْلِ مَكْحُولٍ . فَإِذَا تَأَمّلْت ذَلِكَ عَلِمْت أَنّ بَعْضَ مُدّةِ
الْحِصَارِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَلَا بُدّ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ لَمْ
يَبْتَدِئْ الْقِتَالَ إلّا فِي شَوّالٍ فَلَمّا شَرَعَ فِيهِ لَمْ
يَقْطَعْهُ لِلشّهْرِ الْحَرَامِ وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنّهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْتَدَأَ قِتَالًا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ
وَفُرّقَ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالِاسْتِدَامَةِ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا
: جَوَازُ غَزْوِ الرّجُلِ وَأَهْلُهُ مَعَهُ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ أُمّ
سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ . وَمِنْهَا : جَوَازُ نَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَى
الْكُفّارِ وَرَمْيِهِمْ بِهِ وَإِنْ أَفْضَى إلَى قَتْلِ مَنْ لَمْ
يُقَاتِلْ مِنْ النّسَاءِ وَالذّرّيّةِ . وَمِنْهَا : جَوَازُ قَطْعِ
شَجَرِ الْكُفّارِ إذَا كَانَ ذَلِكَ يُضْعِفُهُمْ وَيَغِيظُهُمْ وَهُوَ
أَنْكَى فِيهِمْ .
[ إذَا أَبَقَ الْعَبْدُ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَحِقَ بِالْمُسْلِمِينَ صَارَ حُرّا ] ؟
وَمِنْهَا
: أَنّ الْعَبْدَ إذَا أَبَقَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلَحِقَ
بِالْمُسْلِمِينَ صَارَ حُرّا . قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، عَنْ الْحَجّاجِ عَنْ مِقْسَمٍ ، عَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يُعْتِقُ الْعَبِيدَ إذَا جَاءُوا قَبْلَ مَوَالِيهِمْ وَرَوَى سَعِيدُ
بْنُ مَنْصُورٍ أَيْضًا ، قَالَ قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَبْدِ وَسَيّدِهِ [ ص 441 ] قَضَى أَنّ
الْعَبْدَ إذَا خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ سَيّدِهِ أَنّهُ حُرّ
فَإِنْ خَرَجَ سَيّدُهُ بَعْدَهُ لَمْ يُرَدّ عَلَيْهِ وَقَضَى أَنّ
السّيّدَ إذَا خَرَجَ قَبْلَ الْعَبْدِ ثُمّ خَرَجَ الْعَبْدُ رُدّ عَلَى
سَيّدِهِ . وَعَنْ الشّعْبِيّ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، قَالَ
سَأَلْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَرُدّ
عَلَيْنَا أَبَا بَكْرَةَ وَكَانَ عَبْدًا لَنَا أَتَى رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا ، فَأَسْلَمَ
فَأَبَى أَنْ يَرُدّهُ عَلَيْنَا ، فَقَالَ هُوَ طَلِيقُ اللّهِ ، ثُمّ
طَلِيقُ رَسُولِهِ فَلَمْ يَرُدّهُ عَلَيْنَا . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ :
وَهَذَا قَوْلُ كُلّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا
: أَنّ الْإِمَامَ إذَا حَاصَرَ حِصْنًا ، وَلَمْ يُفْتَحْ عَلَيْهِ
وَرَأَى مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الرّحِيلِ عَنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ
مُصَابَرَتُهُ وَجَازَ لَهُ تَرْكُ مُصَابَرَتِهِ وَإِنّمَا تَلْزَمُ
الْمُصَابَرَةُ إذَا كَانَ فِيهَا مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى
مَفْسَدَتِهَا .
فَصْلٌ
وَمِنْهَا : أَنّهُ أَحْرَمَ مِنْ
الْجِعِرّانَةِ بِعُمْرَةٍ وَكَانَ دَاخِلًا إلَى مَكّةَ ، وَهَذِهِ هِيَ
السّنّةُ لِمَنْ دَخَلَهَا مِنْ طَرِيقِ الطّائِفِ وَمَا يَلِيهِ وَأَمّا
مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِمّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْخُرُوجِ
مِنْ مَكّةَ إلَى الْجِعِرّانَةِ لِيُحْرِمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ ثُمّ
يَرْجِعُ إلَيْهَا ، فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْبَتّةَ وَلَا
اسْتَحَبّهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَإِنّمَا يَفْعَلُهُ عَوَامّ
النّاسِ زَعَمُوا أَنّهُ اقْتِدَاءٌ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَغَلِطُوا ، فَإِنّهُ إنّمَا أَحْرَمَ مِنْهَا دَاخِلًا إلَى
مَكّةَ ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إلَى الْجِعِرّانَةِ لِيُحْرِمَ مِنْهَا
، فَهَذَا لَوْنٌ وَسُنّتُهُ لَوْنٌ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ [ اسْتِجَابَةُ دُعَائِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِسْلَامِ ثَقِيفٍ ]
وَمِنْهَا
: اسْتِجَابَةُ اللّهِ لِرَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
دُعَاءَهُ لِثَقِيفٍ أَنْ يَهْدِيَهُمْ وَيَأْتِيَ بِهِمْ وَقَدْ [ ص 442
] أَرْسَلَهُ إلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَمَعَ هَذَا كُلّهِ
فَدَعَا لَهُمْ وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ رَأْفَتِهِ
وَرَحْمَتِهِ وَنَصِيحَتِهِ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ [ كَمَالُ مَحَبّةِ الصّدّيقِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَمِنْهَا
: كَمَالُ مَحَبّةِ الصّدّيقِ لَهُ وَقَصْدُهُ التّقَرّبَ إلَيْهِ
وَالتّحَبّبَ بِكُلّ مَا يُمْكِنُهُ وَلِهَذَا نَاشَدَ الْمُغِيرَةَ أَنْ
يَدَعَهُ هُوَ يُبَشّرُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِقُدُومِ وَفْدِ الطّائِفِ ، لِيَكُونَ هُوَ الّذِي بَشّرَهُ وَفَرّحَهُ
بِذَلِكَ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ يَجُوزُ لِلرّجُلِ أَنْ يَسْأَلَ
أَخَاهُ أَنْ يُؤْثِرَهُ بِقُرْبَةٍ مِنْ الْقُرَبِ وَأَنّهُ يَجُوزُ
لِلرّجُلِ أَنْ يُؤْثِرَ بِهَا أَخَاهُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ
الْفُقَهَاءِ لَا يَجُوزُ الْإِيثَارُ بِالْقُرَبِ لَا يَصِحّ . وَقَدْ
آثَرَتْ عَائِشَةُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ بِدَفْنِهِ فِي بَيْتِهَا
جِوَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَأَلَهَا عُمَرُ
ذَلِكَ فَلَمْ تَكْرَهْ لَهُ السّؤَالَ وَلَا لَهَا الْبَذْلَ وَعَلَى
هَذَا ، فَإِذَا سَأَلَ الرّجُلُ غَيْرَهُ أَنْ يُؤْثِرَهُ بِمَقَامِهِ
فِي الصّفّ الْأَوّلِ لَمْ يُكْرَهُ لَهُ السّؤَالُ وَلَا لِذَلِكَ
الْبَذْلُ وَنَظَائِرُهُ . وَمَنْ تَأَمّلَ سِيرَةَ الصّحَابَةِ
وَجَدَهُمْ غَيْرَ كَارِهِينَ لِذَلِكَ وَلَا مُمْتَنِعِينَ مِنْهُ وَهَلْ
هَذَا إلّا كَرَمٌ وَسَخَاءٌ وَإِيثَارٌ عَلَى النّفْسِ بِمَا هُوَ
أَعْظَمُ مَحْبُوبَاتِهَا تَفْرِيحًا لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَتَعْظِيمًا
لِقَدْرِهِ وَإِجَابَةً لَهُ إلَى مَا سَأَلَهُ وَتَرْغِيبًا لَهُ فِي
الْخَيْرِ وَقَدْ يَكُونُ ثَوَابُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ
رَاجِحًا عَلَى ثَوَابِ تِلْكَ الْقُرْبَةِ فَيَكُونُ الْمُؤْثِرُ بِهَا
مِمّنْ تَاجَرَ فَبَذَلَ قُرْبَةً وَأَخَذَ أَضْعَافَهَا ، وَعَلَى هَذَا
فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْثِرَ صَاحِبُ الْمَاءِ بِمَائِهِ أَنْ
يَتَوَضّأَ بِهِ وَيَتَيَمّمَ هُوَ إذَا كَانَ لَا بُدّ مِنْ تَيَمّمِ
أَحَدِهِمَا ، فَآثَرَ أَخَاهُ وَحَازَ فَضِيلَةَ الْإِيثَارِ وَفَضِيلَةَ
الطّهْرِ بِالتّرَابِ وَلَا يَمْنَعُ هَذَا كِتَابٌ وَلَا سُنّةٌ وَلَا
مَكَارِمُ أَخْلَاقٍ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا اشْتَدّ الْعَطَشُ بِجَمَاعَةٍ
وَعَايَنُوا التّلَفَ وَمَعَ بَعْضِهِمْ مَاءٌ فَآثَرَ عَلَى نَفْسِهِ
وَاسْتَسْلَمَ لِلْمَوْتِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ، وَلَمْ يُقَلْ إنّهُ
قَاتِلٌ لِنَفْسِهِ وَلَا أَنّهُ فَعَلَ مُحَرّمًا ، بَلْ هَذَا غَايَةُ
الْجُودِ وَالسّخَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الْحَشْرَ 9 ] ، وَقَدْ
جَرَى هَذَا بِعَيْنِهِ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الصّحَابَةِ فِي فُتُوحِ الشّامِ
، وَعُدّ ذَلِكَ مِنْ مَنَاقِبِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ وَهَلْ إهْدَاءُ
الْقُرَبِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا [ ص 443 ]
فَصْلٌ [ لَا يَجُوزُ إبْقَاءُ مَوَاضِعِ الشّرْكِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى هَدْمِهَا ]
وَمِنْهَا
: أَنّهُ لَا يَجُوزُ إبْقَاءُ مَوَاضِعِ الشّرْكِ وَالطّوَاغِيتِ بَعْدَ
الْقُدْرَةِ عَلَى هَدْمِهَا وَإِبْطَالِهَا يَوْمًا وَاحِدًا ، فَإِنّهَا
شَعَائِرُ الْكُفْرِ وَالشّرْكِ وَهِيَ أَعْظَمُ الْمُنْكَرَاتِ فَلَا
يَجُوزُ الْإِقْرَارُ عَلَيْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ الْبَتّةَ وَهَذَا
حُكْمُ الْمَشَاهِدِ الّتِي بُنِيَتْ عَلَى الْقُبُورِ الّتِي اُتّخِذَتْ
أَوْثَانًا وَطَوَاغِيتَ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَالْأَحْجَارُ
الّتِي تُقْصَدُ لِلتّعْظِيمِ وَالتّبَرّكِ وَالنّذْرِ وَالتّقْبِيلِ لَا
يَجُوزُ إبْقَاءُ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مَعَ الْقُدْرَةِ
عَلَى إزَالَتِهِ وَكَثِيرٌ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ اللّاتِ وَالْعُزّى ،
وَمَنَاةَ الثّالِثَةِ الْأُخْرَى ، أَوْ أَعْظَمُ شِرْكًا عِنْدَهَا ،
وَبِهَا ، وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ
أَرْبَابِ هَذِهِ الطّوَاغِيتِ يَعْتَقِدُ أَنّهَا تَخْلُقُ وَتَرْزُقُ
وَتُمِيتُ وَتُحْيِي ، وَإِنّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ عِنْدَهَا وَبِهَا
مَا يَفْعَلُهُ إخْوَانُهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الْيَوْمَ عِنْدَ
طَوَاغِيتِهِمْ فَاتّبَعَ هَؤُلَاءِ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ
وَسَلَكُوا سَبِيلَهُمْ حَذْوَ الْقُذّةِ بِالْقُذّةِ وَأَخَذُوا
مَأْخَذَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَغَلَبَ الشّرْكُ
عَلَى أَكْثَرِ النّفُوسِ لِظُهُورِ الْجَهْلِ وَخَفَاءِ الْعِلْمِ
فَصَارَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا ، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا ، وَالسّنّةُ
بِدْعَةً وَالْبِدْعَةُ سُنّةً وَنَشَأَ فِي ذَلِكَ الصّغِيرُ وَهَرِمَ
عَلَيْهِ الْكَبِيرُ وَطُمِسَتْ الْأَعْلَامُ وَاشْتَدّتْ غَرْبَةُ
الْإِسْلَامِ وَقَلّ الْعُلَمَاءُ وَغَلَبَ السّفَهَاءُ وَتَفَاقَمَ
الْأَمْرُ وَاشْتَدّ الْبَأْسُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ
وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ وَلَكِنْ لَا تَزَالُ
طَائِفَةٌ مِنْ الْعِصَابَةِ الْمُحَمّدِيّةِ بِالْحَقّ قَائِمِينَ
وَلِأَهْلِ الشّرْكِ وَالْبِدَعِ مُجَاهِدِينَ إلَى أَنْ يَرِثَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ، وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ .
فَصْلٌ [ جَوَازُ صَرْفِ الْأَمْوَالِ الّتِي فِي مَوَاضِعِ الشّرْكِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ]
وَمِنْهَا
: جَوَازُ صَرْفِ الْإِمَامِ الْأَمْوَالَ الّتِي تَصِيرُ إلَى هَذِهِ
الْمَشَاهِدِ وَالطّوَاغِيتِ فِي الْجِهَادِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ
فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ أَمْوَالَ
هَذِهِ [ ص 444 ] أَخَذَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَمْوَالَ اللّاتِ ، وَأَعْطَاهَا لِأَبِي سُفْيَانَ يَتَأَلّفُهُ بِهَا ،
وَقَضَى مِنْهَا دَيْنَ عُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ وَكَذَلِك يَجِبُ عَلَيْهِ
أَنْ يَهْدِمَ هَذِهِ الْمَشَاهِدَ الّتِي بُنِيَتْ عَلَى الْقُبُورِ
الّتِي اُتّخِذَتْ أَوْثَانًا ، وَلَهُ أَنْ يُقْطِعَهَا لِلْمُقَاتِلَةِ
أَوْ يَبِيعَهَا وَيَسْتَعِينَ بِأَثْمَانِهَا عَلَى مَصَالِحِ
الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِك الْحُكْمُ فِي أَوْقَافِهَا ، فَإِنْ وَقَفَهَا
، فَالْوَقْفُ عَلَيْهَا بَاطِلٌ وَهُوَ مَالٌ ضَائِعٌ فَيُصْرَفُ فِي
مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنّ الْوَقْفَ لَا يَصِحّ إلّا فِي قُرْبَةٍ
وَطَاعَةٍ لِلّهِ وَرَسُولِهِ فَلَا يَصِحّ الْوَقْفُ عَلَى مَشْهَدٍ
وَلَا قَبْرٍ يُسْرَجُ عَلَيْهِ وَيُعَظّمُ وَيُنْذَرُ لَهُ وَيُحَجّ
إلَيْهِ وَيُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَيُتّخَذُ وَثَنًا مِنْ دُونِهِ
وَهَذَا مِمّا لَا يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمّةِ الْإِسْلَامِ
وَمَنْ اتّبَعَ سَبِيلَهُمْ .
فَصْلٌ [ وَادِي وَجّ حَرَمٌ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ وَادِيَ وَجّ - وَهُوَ وَادٍ بِالطّائِفِ - حَرَمٌ يَحْرُمُ
صَيْدُهُ وَقَطْعُ شَجَرِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ
وَالْجُمْهُورُ قَالُوا : لَيْسَ فِي الْبِقَاعِ حَرَمٌ إلّا مَكّةُ
وَالْمَدِينَةُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ خَالَفَهُمْ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ
، وَقَالَ الشّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللّهُ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَجّ
حَرَمٌ يَحْرُمُ صَيْدُهُ وَشَجَرُهُ وَاحْتَجّ لِهَذَا الْقَوْلِ
بِحَدِيثَيْنِ أَحَدُهُمَا هَذَا الّذِي تَقَدّمَ وَالثّانِي : حَدِيثُ
عُرْوَةَ بْنِ الزّبِيرِ ، عَنْ أَبِيهِ الزّبِيرِ أَنّ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّ صَيْدَ وَجّ وَعِضَاهَهُ حَرَمٌ
مُحَرّمٌ لِلّهِ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ . وَهَذَا
الْحَدِيثُ يُعْرَفُ بِمُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ إنْسَانٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ . قَالَ الْبُخَارِيّ فِي " تَارِيخِهِ " : لَا
يُتَابَعُ عَلَيْهِ . قُلْت : وَفِي سَمَاعِ عُرْوَةَ مِنْ أَبِيهِ نَظَرٌ
وَإِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ بَعْثُ الْمُصَدّقِينَ لِجَلْبِ الصّدَقَاتِ ]
[
ص 445 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ وَدَخَلَتْ سَنَةُ
تِسْعٍ بَعَثَ الْمُصَدّقِينَ يَأْخُذُونَ الصّدَقَاتِ مِنْ الْأَعْرَابِ
. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ : ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْمُصَدّقِينَ قَالُوا : لَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هِلَالَ الْمُحَرّمِ سَنَةَ تِسْعٍ بَعَثَ
الْمُصَدّقِينَ يُصَدّقُونَ الْعَرَبَ فَبَعَثَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ
إلَى بَنِي تَمِيمٍ وَبَعَثَ يَزِيدَ بْنَ الْحُصَيْنِ إلَى أَسْلَمَ
وَغِفَارٍ وَبَعَثَ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ الْأَشْهَلِيّ إلَى سُلَيْمٍ
وَمُزَيْنَةَ وَبَعَثَ رَافِعَ بْنَ مُكَيْثٍ إلَى جُهَيْنَةَ وَبَعَثَ
عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إلَى بَنِي فَزَارَةَ وَبَعَثَ الضّحّاكَ بْنَ
سُفْيَانَ إلَى بَنِي كِلَاب ٍ وَبَعَثَ بِشْرَ بْنَ سُفْيَانَ إلَى بَنِي
كَعْبٍ وَبَعَثَ ابْنَ اللّتْبِيّةِ الْأَزْدِيّ إلَى بَنِي ذُبْيَان َ
وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُصَدّقِينَ
أَنْ يَأْخُذُوا الْعَفْوَ مِنْهُمْ وَيَتَوَقّوْا كَرَائِمَ
أَمْوَالِهِمْ . قِيلَ وَلَمّا قَدِمَ ابْنُ اللّتْبِيّةِ حَاسَبَهُ
وَكَانَ فِي هَذَا حُجّةٌ عَلَى مُحَاسَبَةِ الْعُمّالِ وَالْأُمَنَاءِ
فَإِنْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُمْ عَزَلَهُمْ وَوَلّى أَمِينًا . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَبَعَثَ الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيّةَ إلَى صَنْعَاءَ
فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْعَنْسِيّ وَهُوَ بِهَا وَبَعَثَ زِيَادَ بْنَ
لَبِيدٍ إلَى حَضْرَمَوْتَ وَبَعَثَ عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ إلَى طَيّئٍ
وَبَنِي أَسَدٍ وَبَعَثَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي
حَنْظَلَةَ وَفَرّقَ صَدَقَاتِ بَنِي سَعْدٍ عَلَى رَجُلَيْنِ فَبَعَثَ
الزّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ وَقَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ عَلَى
نَاحِيَةٍ وَبَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ
وَبَعَثَ عَلِيّا - رِضْوَانُ اللّهِ [ ص 446 ] نَجْرَانَ لِيَجْمَعَ
صَدَقَاتِهِمْ وَيَقْدَمَ عَلَيْهِ بِجِزْيَتِهِمْ .
فَصْلٌ فِي السّرَايَا وَالْبُعُوثِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ
[ سَرِيّةُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ إلَى بَنِي تَمِيمٍ ]
[ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ ]
ذِكْرُ
سَرِيّةِ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ إلَى بَنِي تَمِيمٍ
وَذَلِكَ فِي الْمُحَرّمِ مِنْ هَذِهِ السّنَةِ بَعَثَهُ إلَيْهِمْ فِي
سَرِيّةِ لِيَغْزُوَهُمْ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا لَيْسَ فِيهِمْ
مُهَاجِرِيّ وَلَا أَنْصَارِيّ فَكَانَ يَسِيرُ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ
النّهَارَ فَهَجَمَ عَلَيْهِمْ فِي صَحْرَاءَ وَقَدْ سَرّحُوا
مَوَاشِيَهُمْ فَلَمّا رَأَوْا الْجَمْعَ وَلّوْا فَأُخِذَ مِنْهُمْ
أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ امْرَأَةً وَثَلَاثِينَ
صَبِيّا فَسَاقَهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ فَأُنْزِلُوا فِي دَارِ رَمْلَةَ
بِنْتِ الْحَارِثِ فَقَدِمَ فِيهِمْ عِدّةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عُطَارِدُ
بْنُ حَاجِبٍ وَالزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ
وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِس ٍ وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ وَنُعَيْمُ بْنُ
سَعْدٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ وَرَبَاحُ بْنُ الْحَارِثِ فَلَمّا
رَأَوْا نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيّهُمْ بَكَوْا إلَيْهِمْ فَعَجِلُوا
فَجَاءُوا إلَى بَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَادَوْا
: يَا مُحَمّدُ اُخْرُجْ إلَيْنَا فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَقَامَ بِلَالٌ الصّلَاةَ وَتَعَلّقُوا بِرَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُكَلّمُونَهُ فَوَقَفَ مَعَهُمْ
ثُمّ مَضَى فَصَلّى الظّهْرَ ثُمّ جَلَسَ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ
فَقَدّمُوا عُطَارِدَ بْنَ حَاجِبٍ فَتَكَلّمَ وَخَطَبَ فَأَمَرَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ
فَأَجَابَهُمْ وَأَنْزَلَ اللّهُ فِيهِمْ { إِنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ
مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنّهُمْ
صَبَرُوا حَتّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الْحُجُرَاتُ 45 ] فَرَدّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَسْرَى وَالسّبْيَ فَقَامَ
الزّبْرِقَانُ شَاعِرُ بَنِي تَمِيمٍ فَأَنْشَدَ مُفَاخِرًا : نَحْنُ
الْكِرَامُ فَلَا حَيّ يُعَادِلُنَا مِنّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ
الْبِيَعُ
وَكَمْ قَسَرْنَا مِنْ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمْ عِنْدَ النّهَابِ وَفَضْلُ الْعِزّ يُتّبَعُ
وَنَحْنُ يُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مُطْعِمُنَا مِنْ الشّوَاءِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ الْقَزَعُ
بِمَا تَرَى النّاسَ تَأْتِينَا سَرَاتُهُمْ مِنْ كُلّ أَرْضٍ هُوِيّا ثُمّ نَصْطَنِعُ
فَنَنْحَرُ الْكُومَ عُبْطًا فِي أَرُومَتِنَا لِلنّازِلِينَ إذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا
فَلَا تَرَانَا إلَى حَيّ نُفَاخِرُهُمْ إلّا اسْتَفَادُوا فَكَانُوا الرّأْسَ يُقْتَطَع
فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فِي ذَاكَ نَعْرِفُهُ فَيَرْجِعُ الْقَوْمُ وَالْأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ
إنّا أَبَيْنَا وَلَا يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ إنّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ
[
ص 447 ] فَقَامَ شَاعِرُ الْإِسْلَامِ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَجَابَهُ
عَلَى الْبَدِيهَةِ إنّ الذّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ قَدْ
بَيّنُوا سُنّةً لِلنّاسِ تُتّبَعُ
يَرْضَى بِهَا كُلّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ تَقْوَى الْإِلَهَ وَكُلّ الْخَيْرِ مُصْطَنَعُ
قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا ضَرّوا عَدُوّهُمُ أَوْ حَاوَلُوا النّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيّةٌ تِلْكَ فِيهِمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ إنّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرّهَا الْبِدَعُ
إنْ كَانُوا فِي النّاسِ سَبّاقُونَ بَعْدَهُمْ فَكُلّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعٌ
لَا يَرْقَعُ النّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفّهُمُ عِنْدَ الدّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا
إنْ سَابَقُوا النّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمْ أَوْ وَزَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنّدَى مَتَعُوا
أَعِفّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحِيّ عِفّتُهُمْ لَا يَطْبَعُونَ وَلَا يُرْدِيهِمْ الطّمَعُ
لَا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفَضْلِهِمْ وَلَا يَمَسّهُمْ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعٌ
إذَا نَصَبْنَا لِحَيّ لَمْ نَدِبّ لَهُمْ كَمَا يَدِبّ إلَى الْوَحْشِيّةِ الذّرُعُ
نَسْمُوا إذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا إذَا الزّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا
لَا يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوّهُمُ وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا جَوْرٌ وَلَا هَلَعُ
كَأَنّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ أُسْدٌ بِحِلْيَةٍ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعُ
خُذْ مِنْهُمْ مَا أَتَوْا عَفْوًا إذَا غَضِبُوا وَلَا يَكُنْ هَمّكَ الْأَمْرَ الّذِي مَنَعُوا
فَإِنّ فِي حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ شَرّا يُخَاضُ عَلَيْهِ السّمّ وَالسّلَعُ
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللّهِ شِيعَتُهُمْ إذَا تَفَاوَتَتْ الْأَهْوَاءُ وَالشّيَعُ
أَهْدَى لَهُمْ مِدْحَتِي قَلْبٌ يُوَازِرُهُ فِيمَا أَحَبّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ
فَإِنّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمْ إنْ جَدّ بِالنّاسِ جِدّ الْقَوْلِ أَوْ شَمَعُوا
[
ص 448 ] فَلَمّا فَرَغَ حَسّانُ قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ إنّ هَذَا
الرّجُلَ لَمُؤَتّى لَهُ لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا
وَلَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا وَلَأَصْوَاتُهُمْ أَعْلَى مِنْ
أَصْوَاتِنَا ثُمّ أَسْلَمُوا فَأَجَازَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَحْسَنَ جَوَائِزَهُمْ .
فَصْلٌ [ رِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ لِوَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ دَخَلُوا
الْمَسْجِدَ وَنَادَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنْ اُخْرُجْ إلَيْنَا يَا مُحَمّدُ فَآذَى ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ صِيَاحِهِمْ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالُوا
: جِئْنَا لِنُفَاخِرَك فَأْذَنْ لِشَاعِرِنَا وَخَطِيبِنَا قَالَ نَعَمْ
قَدْ أَذِنْتُ لِخَطِيبِكُمْ فَلْيَقُمْ فَقَامَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ
فَقَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي جَعَلَنَا مُلُوكًا الّذِي لَهُ
الْفَضْلُ عَلَيْنَا وَاَلّذِي وَهَبَ لَنَا أَمْوَالًا عِظَامًا نَفْعَلُ
فِيهَا الْمَعْرُوفَ وَجَعَلَنَا أَعَزّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَكْثَرَهُ
عَدَدًا وَأَيْسَرَهُ عُدّةً فَمَنْ مِثْلُنَا فِي النّاسِ ؟ أَلَسْنَا
رُءُوسَ النّاسِ وَأُولِي فَضْلِهِمْ فَمَنْ فَاخَرَنَا فَلْيُعِدّ مِثْلَ
مَا عَدَدْنَا فَلَوْ شِئْنَا لَأَكْثَرْنَا مِنْ [ ص 449 ] تَأْتُوا
بِمِثْلِ قَوْلِنَا أَوْ أَمْرٍ أَفْضَلَ مِنْ أَمْرِنَا ثُمّ جَلَسَ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِثَابِتِ بْنِ
قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ : " قُمْ فَأَجِبْهُ " فَقَامَ فَقَالَ الْحَمْدُ
لِلّهِ الّذِي السّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ خَلْقُهُ قَضَى فِيهِنّ أَمْرَهُ
وَوَسِعَ كُرْسِيّهُ عِلْمُهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَطّ إلّا مِنْ
فَضْلِهِ ثُمّ كَانَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا وَاصْطَفَى
مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ رَسُولًا أَكْرَمَهُ نَسَبًا وَأَصْدَقَهُ حَدِيثًا
وَأَفْضَلَهُ حَسَبًا فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا وَائْتَمَنَهُ عَلَى
خَلْقِهِ وَكَانَ خِيرَةَ اللّهِ مِنْ الْعَالَمِينَ ثُمّ دَعَا النّاسَ
إلَى الْإِيمَانِ بِاَللّهِ فَآمَنَ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ
ذَوِي رَحَمِهِ أَكْرَمُ النّاسِ أَحْسَابًا وَأَحْسَنُهُمْ وُجُوهًا
وَخَيْرُ النّاسِ فِعْلًا ثُمّ كَانَ أَوّلَ الْخَلْقِ إجَابَةً
وَاسْتِجَابَةً لِلّهِ حِينَ دَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْنُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ وَوُزَرَاءُ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نُقَاتِلُ النّاسَ حَتّى
يُؤْمِنُوا فَمَنْ آمَنَ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ مَنَعَ مَالَهُ وَدَمَهُ
وَمَنْ نَكَثَ جَاهَدْنَاهُ فِي اللّهِ أَبَدًا وَكَانَ قَتْلُهُ
عَلَيْنَا يَسِيرًا أَقُولُ هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللّهَ الْعَظِيمَ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ ثُمّ ذَكَرَ
قِيَامَ الزّبْرِقَانِ وَإِنْشَادَهُ وَجَوَابَ حَسّانَ لَهُ
بِالْأَبْيَاتِ الْمُتَقَدّمَةِ فَلَمّا فَرَغَ حَسّانُ مِنْ قَوْلِهِ
قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِس ٍ إنّ هَذَا الرّجُلَ خَطِيبُهُ أَخْطَبُ
مِنْ خَطِيبِنَا وَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا وَأَقْوَالُهُمْ
أَعْلَى مِنْ أَقْوَالِنَا ثُمّ أَجَازَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَحْسَنَ جَوَائِزَهُمْ .
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ سَرِيّةِ قُطْبَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ حديدة إلَى خَثْعَمٍ
وَكَانَتْ
فِي صَفَرَ سَنَةَ تِسْعٍ . قَالَ ابْنُ سَعْدٍ : قَالُوا : بَعَثَ
رَسُولُ اللّهِ قُطْبَةَ بْنَ عَامِرٍ فِي عِشْرِينَ رَجُلًا إلَى حَيّ
مِنْ خَثْعَمٍ بِنَاحِيَةِ تَبَالَةَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنّ الْغَارَةَ
فَخَرَجُوا عَلَى عَشَرَةِ أَبْعِرَةٍ يَعْتَقِبُونَهَا فَأَخَذُوا
رَجُلًا فَسَأَلُوهُ فَاسْتَعْجَمَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ يَصِيحُ
بِالْحَاضِرَةِ وَيُحَذّرُهُمْ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ ثُمّ أَقَامُوا حَتّى
نَامَ الْحَاضِرَةُ [ ص 450 ] قُطْبَةُ بْنُ عَامِرٍ مَنْ قَتَلَ
وَسَاقُوا النّعَمَ وَالنّسَاءَ وَالشّاءَ إلَى الْمَدِينَةِ وَفِي
الْقِصّةِ أَنّهُ اجْتَمَعَ الْقَوْمُ وَرَكِبُوا فِي آثَارِهِمْ
فَأَرْسَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ سَيْلًا عَظِيمًا حَالَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَاقُوا النّعَمَ وَالشّاءَ
وَالسّبْيَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَعْبُرُوا
إلَيْهِمْ حَتّى غَابُوا عَنْهُمْ .
فَصْلٌ ذِكْرُ سَرِيّةِ الضّحّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ إلَى
بَنِي كِلَابٍ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ تِسْعٍ
قَالُوا
: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَيْشًا إلَى
بَنِي كِلَابٍ وَعَلَيْهِمْ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَوْفٍ
الطّائِيّ وَمَعَهُ الْأَصْيَدُ بْنُ سَلَمَةَ فَلَقُوهُمْ بِالزّجّ زُجّ
لَاوَةَ فَدَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَبَوْا فَقَاتَلُوهُمْ
فَهَزَمُوهُمْ فَلَحِقَ الْأَصْيَدُ أَبَاهُ سَلَمَةُ وَسَلَمَةُ عَلَى
فَرَسٍ لَهُ فِي غَدِيرٍ بِالزّجّ فَدَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ
وَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ فَسَبّهُ وَسَبّ دِينَهُ فَضَرَبَ الْأَصْيَدُ
عُرْقُوبَيْ فَرَسِ أَبِيهِ فَلَمّا وَقَعَ الْفَرَسُ عَلَى عُرْقُوبَيْهِ
ارْتَكَزَ سَلَمَةُ عَلَى الرّمْحِ فِي الْمَاءِ ثُمّ اسْتَمْسَكَ حَتّى
جَاءَ أَحَدُهُمْ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ ابْنُهُ .
فَصْلٌ ذِكْرُ سَرِيّةِ عَلْقَمَةَ بْنِ مُجَزّزٍ الْمُدْلِجِيّ إلَى
الْحَبَشَةِ سَنَةَ تِسْعٍ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَر
قَالُوا
: فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ
نَاسًا مِنْ الْحَبَشَةِ تَرَايَاهُمْ أَهْلُ جَدّةَ فَبَعَثَ إلَيْهِمْ
عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزّزٍ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ فَانْتَهَى إلَى جَزِيرَةٍ
فِي الْبَحْرِ وَقَدْ خَاضَ إلَيْهِمْ الْبَحْرُ فَهَرَبُوا مِنْهُ
فَلَمّا رَجَعَ تَعَجّلَ بَعْضُ الْقَوْمِ إلَى أَهْلِيهِمْ فَأَذِنَ
لَهُمْ فَتَعَجّلَ [ ص 451 ] عَبْدُ اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ السّهْمِيّ
فَأَمّرَهُ عَلَى مَنْ تَعَجّلَ وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ فَنَزَلُوا
بِبَعْضِ الطّرِيقِ وَأَوْقَدُوا نَارًا يَصْطَلُونَ عَلَيْهَا فَقَالَ
عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ إلّا تَوَاثَبْتُمْ فِي هَذِهِ النّارِ فَقَامَ
بَعْضُ الْقَوْمِ فَتَجَهّزُوا حَتّى ظَنّ أَنّهُمْ وَاثِبُونَ فِيهَا
فَقَالَ اجْلِسُوا إنّمَا كُنْتُ أَضْحَكُ مَعَكُمْ فَذَكَرُوا ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَنْ أَمَرَكُمْ
بِمَعْصِيَةٍ فَلَا تُطِيعُوهُ قُلْت : فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَلِيّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ سَرِيّةً وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا فَأَغْضَبُوهُ فَقَالَ
اجْمَعُوا لِي حَطَبًا فَجَمَعُوا فَقَالَ أَوْقِدُوا نَارًا ثُمّ قَالَ
أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ
تَسْمَعُوا لِي ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ فَادْخُلُوهَا فَنَظَرَ
بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ وَقَالُوا : إنّمَا فَرَرْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّارِ فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتّى
سَكَنَ غَضَبُهُ وَطُفِئَتْ النّارُ فَلَمّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَوْ دَخَلُوهَا
مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا وَقَالَ لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةِ اللّهِ
إنّمَا الطّاعَةُ فِي الْمَعْرُوف فَهَذَا فِيهِ أَنّ الْأَمِيرَ كَانَ
مِنْ الْأَنْصَارِ وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
هُوَ الّذِي أَمَرَهُ وَأَنّ الْغَضَبَ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى : { أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [ النّسَاءُ 99 ] قَالَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللّهِ
بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَرِيّةٍ فَإِمّا أَنْ [ ص 452 ] يَكُونَ
حَدِيثُ عَلِيّ هُوَ الْمَحْفُوظَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ سَرِيّةِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
إلَى صَنَمِ طَيّئٍ لِيَهْدِمَهُ فِي هَذِهِ السّنَةِ
[ قِصّةُ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ الطّائِيّ ]
قَالُوا
: وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى
مِائَةِ بَعِيرٍ وَخَمْسِينَ فَرَسًا وَمَعَهُ رَايَةٌ سَوْدَاءُ لِوَاءٌ
أَبْيَضُ إلَى الْفُلُسِ وَهُوَ صَنَمُ طَيّئٍ لِيَهْدِمَهُ فَشَنّوا
الْغَارَةَ عَلَى مَحَلّةِ آلِ حَاتِمٍ مَعَ الْفَجْرِ فَهَدَمُوهُ
وَمَلَئُوا أَيْدِيَهُمْ مِنْ السّبْيِ وَالنّعَمِ وَالشّاءِ وَفِي
السّبْيِ أُخْتُ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ وَهَرَبَ عَدِيّ إلَى الشّامِ
وَوَجَدُوا فِي خِزَانَتِهِ ثَلَاثَةَ أَسْيَافٍ وَثَلَاثَةَ أَدْرَاعٍ
فَاسْتَعْمَلَ عَلَى السّبْيِ أَبَا قَتَادَةَ وَعَلَى الْمَاشِيَةِ
وَالرّثّةِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَتِيكٍ وَقَسَمَ الْغَنَائِمَ فِي
الطّرِيقِ وَعَزَلَ الصّفِيّ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَلَمْ يَقْسِمْ عَلَى آلِ حَاتِمٍ حَتّى قَدِمَ بِهِمْ
الْمَدِينَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ : مَا
كَانَ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ أَشَدّ كَرَاهِيَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنّي حِينَ سَمِعْتُ بِهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكُنْت امْرَءًا شَرِيفًا وَكُنْت نَصْرَانِيّا
وَكُنْت أَسِيرُ فِي قَوْمِي بِالْمِرْبَاعِ وَكُنْت فِي نَفْسِي عَلَى
دِينٍ وَكُنْت مَلِكًا فِي قَوْمِي فَلَمّا سَمِعْتُ بِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَرِهْته فَقُلْت لِغُلَامٍ عَرَبِيّ
كَانَ لِي وَكَانَ رَاعِيًا لِإِبِلِي : لَا أَبَا لَك اُعْدُدْ لِي مِنْ
إبِلِي أَجْمَالًا ذُلُلًا سِمَانًا فَاحْبِسْهَا قَرِيبًا مِنّي فَإِذَا
سَمِعْتَ بِجَيْشٍ لِمُحَمّدٍ قَدْ وَطِئَ هَذِهِ الْبِلَادَ فَآذِنّي
فَفَعَلَ ثُمّ إنّهُ أَتَانِي ذَاتَ غَدَاةٍ فَقَالَ يَا عَدِيّ مَا
كُنْتَ صَانِعًا إذَا غَشِيَتْك خَيْلُ مُحَمّدٍ فَاصْنَعْهُ الْآنَ
فَإِنّي قَدْ رَأَيْتُ رَايَاتٍ فَسَأَلْت عَنْهَا فَقَالُوا : هَذِهِ
جُيُوشُ مُحَمّدٍ قَالَ فَقُلْت : فَقَرّبْ إلَيّ أَجْمَالِي فَقَرّبَهَا
فَاحْتَمَلْتُ بِأَهْلِي وَوَلَدِي ثُمّ قُلْت : أَلْحَقُ بِأَهْلِ دِينِي
مِنْ النّصَارَى [ ص 453 ] بِالشّامِ وَخَلّفْتُ بِنْتًا لِحَاتِمٍ فِي
الْحَاضِرَةِ فَلَمّا قَدِمَتْ الشّامَ أَقَمْت بِهَا وَتَحَالَفَنِي
خَيْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتُصِيبُ ابْنَةَ
حَاتِمٍ فِيمَنْ أَصَابَتْ فَقَدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَبَايَا مِنْ طَيّئٍ وَقَدْ بَلَغَ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَرَبِي إلَى الشّامِ فَمَرّ بِهَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ
اللّهِ غَابَ الْوَافِدُ وَانْقَطَعَ الْوَالِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ
كَبِيرَةٌ مَا بِي مِنْ خِدْمَةٍ فَمُنّ عَلَيّ مَنّ اللّهُ عَلَيْك قَالَ
" مَنْ وَافِدُك ؟ " قَالَتْ عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ . قَالَ " الّذِي فَرّ
مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ ؟ " قَالَتْ فَمُنّ عَلَيّ . قَالَ فَلَمّا
رَجَعَ وَرَجُلٌ إلَى جَنْبِهِ يَرَى أَنّهُ عَلِيّ قَالَ سَلِيهِ
الْحَمْلَانِ قَالَتْ فَسَأَلْته فَأَمَرَ لَهَا بِه قَالَ عَدِيّ
فَأَتَتْنِي أُخْتِي فَقَالَتْ لَقَدْ فَعَلَ فِعْلَةً مَا كَانَ أَبُوك
يَفْعَلُهَا ائْتِهِ رَاغِبًا أَوْ رَاهِبًا فَقَدْ أَتَاهُ فُلَانٌ
فَأَصَابَ مِنْهُ وَأَتَاهُ فُلَانٌ فَأَصَابَ مِنْهُ . قَالَ عَدِيّ
فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ الْقَوْمُ هَذَا
عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ وَجِئْتُ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلَا كِتَابٍ فَلَمّا
دُفِعْتُ إلَيْهِ أَخَذَ بِيَدَيّ وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ إنّي
أَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللّهُ يَدَهُ فِي يَدِي قَالَ فَقَامَ لِي
فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيّ فَقَالَا : إنّ لَنَا إلَيْكَ
حَاجَةً فَقَامَ مَعَهُمَا حَتّى قَضَى حَاجَتَهُمَا ثُمّ أَخَذَ بِيَدَيّ
حَتّى أَتَى دَارَهُ فَأَلْقَتْ لَهُ الْوَلِيدَةُ وِسَادَةً فَجَلَسَ
عَلَيْهَا وَجَلَسَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ
ثُمّ قَالَ مَا يُفِرّكَ أَيُفِرّكَ أَنْ تَقُولَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ
فَهَلْ تَعْلَمُ مَنْ إلَهٍ سِوَى اللّهِ ؟ " قَالَ قُلْت : لَا . قَالَ
ثُمّ تَكَلّمَ سَاعَةً ثُمّ قَالَ " إنّمَا تَفِرّ أَنْ يُقَالَ اللّهُ
أَكْبَرُ وَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا أَكْبَرُ مِنْ اللّهِ ؟ " قَالَ قُلْت :
لَا . قَالَ " فَإِنّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَإِنّ النّصَارَى
ضَالّونَ " قَالَ فَقُلْت : إنّي حَنِيفٌ مُسْلِمٌ . قَالَ فَرَأَيْتُ
وَجْهَهُ يَنْبَسِطُ فَرَحًا . قَالَ ثُمّ أَمَرَنِي فَأَنْزَلْتُ عِنْدَ
رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَجَعَلْت أَغْشَاهُ آتِيهِ طَرَفَيْ النّهَارِ
قَالَ فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إذْ جَاءَ قَوْمٌ فِي ثِيَابٍ مِنْ
الصّوفِ مِنْ هَذِهِ النّمَارِ قَالَ فَصَلّى وَقَامَ فَحَثّ عَلَيْهِمْ
ثُمّ قَالَ " يَا أَيّهَا النّاسُ ارْضَخُوا مِنْ الْفَضْلِ وَلَوْ
بِصَاعٍ وَلَوْ بِنِصْفِ صَاعٍ وَلَوْ بِقَبْضَةٍ وَلَوْ بِبَعْضِ
قَبْضَةٍ يَقِي أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ حَرّ جَهَنّمَ أَوْ النّارَ وَلَوْ
بِتَمْرَةٍ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ
طَيّبَةٍ فَإِنّ أَحَدَكُمْ لَاقِي اللّهَ وَقَائِلٌ لَهُ مَا أَقُولُ
لَكُمْ أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ مَالًا وَوَلَدًا ؟ فَيَقُولُ بَلَى [ ص 454
] حَرّ جَهَنّمَ لِيَقِ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ النّارَ وَلَوْ بِشِقّ
تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيّبَةٍ فَإِنّي لَا أَخَافُ
عَلَيْكُمْ الْفَاقَةَ فَإِنّ اللّهَ نَاصِرُكُمْ وَمُعْطِيكُمْ حَتّى
تَسِيرَ الظّعِينَةُ مَا بَيْنَ يَثْرِبَ وَالْحَيْرَةِ وَأَكْثَرَ مَا
يُخَافُ عَلَى مَطِيّتِهَا السّرَقَ قَالَ [ ص 455 ] نَفْسِي : فَأَيْنَ
لُصُوصُ طَيّئٍ
زاد المعاد-الجزء الثالث
فَصْلٌ ذِكْرُ قِصّةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَوَكَانَتْ فِيمَا بَيْنَ رُجُوعِهِ مِنْ الطّائِفِ وَغَزْوَةِ تَبُوكَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الطّائِفِ كَتَبَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرٍ إلَى أَخِيهِ كَعْبٍ يُخْبِرُهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتَلَ رِجَالًا بِمَكّةَ مِمّنْ كَانَ يَهْجُوهُ وَيُؤْذِيهِ وَأَنّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ ابْنُ الزّبَعْرَى وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ قَدْ هَرَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ فَإِنْ كَانَتْ لَك فِي نَفْسِك حَاجَةٌ فَطِرْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُ لَا يَقْتُلُ أَحَدًا جَاءَهُ تَائِبًا مُسْلِمًا وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَانْجُ إلَى نَجَائِك [ ص 456 ] كَعْبٌ قَدْ قَالَ أَلَا أَبْلِغَا عَنّي بُجَيْرًا رِسَالَةً فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْتَ وَيْحَكَ هَلْ لَكَا
فَبَيّنْ لَنَا إنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفَاعِلٍ عَلَى أَيّ شَيْءٍ غَيْرَ ذَلِكَ دَلّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفٍ وَلَا قَائِلٍ إمّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا
سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيّةً فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلّكَا
قَالَ وَبُعِثَ بِهَا إلَى بُجَيْرٍ فَلَمّا أَتَتْ بُجَيْرًا كَرِهَ أَنْ يَكْتُمَهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَنْشَدَهُ إيّاهَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَقَاكَ الْمَأْمُونُ صَدَقَ وَإِنّهُ لَكَذُوبٌ أَنَا الْمَأْمُونُ وَلَمّا سَمِعَ عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا عَلَيْهِ " فَقَالَ أَجَلْ . قَالَ لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلَا أُمّه ثُمّ قَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبٍ مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَكَ فِي الّتِي تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلًا وَهِيَ أَحْزَمُ
إلَى اللّهِ لَا الْعُزّى وَلَا اللّاتِ وَحْدَهُ فَتَنْجُو إذَا كَانَ النّجَاءُ وَتَسْلَمُ
لَدَى يَوْمَ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ مِنْ النّاسِ إلّا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِمُ
فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ وَدِينُ أَبِي سُلْمَى عَلَيّ مُحَرّمُ
فَلَمّا بَلَغَ كَعْبًا الْكِتَابَ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَرْجَفَ بِهِ مَنْ كَانَ فِي حَاضِرِهِ مِنْ عَدُوّهِ فَقَالَ هُوَ مَقْتُولٌ فَلَمّا لَمْ يَجِدْ مِنْ شَيْءٍ بُدّا قَالَ قَصِيدَتَهُ الّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَكَرَ خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ بِهِ مِنْ عَدُوّهِ ثُمّ خَرَجَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ كَمَا ذُكِرَ لِي فَغَدَا بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ صَلّى الصّبْحُ فَصَلّى مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ أَشَارَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ هَذَا رَسُولُ اللّهِ فَقُمْ إلَيْهِ فَاسْتَأْمِنْهُ فَذُكِرَ لِي أَنّهُ قَامَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى جَلَسَ إلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَك تَائِبًا مُسْلِمًا فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إنْ أَنَا جِئْتُك بِهِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ . قَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ . [ ص 457 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنّهُ وَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْنِي وَعَدُوّ اللّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعْهُ عَنْكُ فَقَدْ جَاءَ تَائِبًا نَازِعًا عَمّا كَانَ عَلَيْهِ قَالَ فَغَضِبَ كَعْبٌ عَلَى هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ لِمَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُمْ وَذَلِكَ أَنّهُ لَمْ يَتَكَلّمْ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلّا بِخَيْرٍ [ ص 458 ] فَقَالَ قَصِيدَتَهُ اللّامِيّةَ الّتِي يَصِفُ فِيهَا مَحْبُوبَتَهُ وَنَاقَتَهُ الّتِي أَوّلُهَا : بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ مُتَيّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
يَسْعَى الْغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُمْ إنّكَ يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
وَقَالَ كُلّ صَدِيقٍ كُنْتُ آمُلُهُ لَا أُلْهِيَنّكَ إنّي عَنْكَ مَشْغُولُ
فَقُلْتُ خَلّوا طَرِيقِي لَا أَبَا لَكُمْ فَكُلّ مَا قَدّرَ الرّحْمَنُ مَفْعُولُ
كُلّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
نُبّئْتُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ أَوْعَدَنِي وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ مَأْمُولُ
مَهْلًا هَدَاكَ الّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الْ قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظُ وَتَفْصِيلُ
لَا تَأْخُذَنّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيّ الْأَقَاوِيلُ
لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الْفِيلُ
لَظَلّ تُرْعَدُ مِنْ خَوْفٍ بَوَادِرُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَسُولِ اللّهِ تَنْوِيلُ
حَتّى وَضَعْتُ يَمِينِي مَا أُنَازِعُهَا فِي كَفّ ذِي نَقِمَاتٍ قَوْلُهُ الْقِيل
فَلَهْوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إذْ أُكَلّمُهُ وَقِيلَ إنّكَ مَنْسُوبٌ وَمَسْئُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَرّاءِ الْأَرْضِ مُخْدَرُهُ فِي بَطْنِ عَثّرَ غَيْلٌ دُونَهُ غَيْلُ
يَغْدُو فَيُلْحِمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا لَحْمٌ مِنْ النّاسِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
إذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْقَرْنَ إلّا وَهُوَ مَفْلُولُ
مِنْهُ تَظَلّ سِبَاعُ الْجَوّ نَافِرَةً وَلَا تَمَشّى بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ
وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَة مُضَرّجُ الْبَزّ وَالدّرْسَانِ مَأْكُولُ
إنّ الرّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ مُهَنّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللّهِ مَسْلُولُ
فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ لَمّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشُفٌ عِنْدَ اللّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ
يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزّهْرِ يَعْصِمُهُمْ ضَرْبٌ إذَا عَرّدَ السّودُ التّنَابِيلُ
شُمّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ مِنْ نَسْجِ دَاوُد فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكّتْ لَهَا حَلَقٌ كَأَنّهَا حَلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ
لَيْسُوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمْ قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إذَا نِيلُوا
لَا يَقَعُ الطّعْنُ إلّا فِي نُحُورِهِمُ وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ
[ ص 459 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ : فَلَمّا قَالَ كَعْبٌ : " إذَا عَرّدَ السّودُ التّنَابِيلُ " وَإِنّمَا عَنَى مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَمّا كَانَ صَاحِبُنَا صُنِعَ بِهِ مَا صُنِعَ وَخَصّ الْمُهَاجِرِينَ بِمِدْحَتِهِ غَضِبَتْ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ يَمْدَحُ الْأَنْصَارَ فِي قَصِيدَتِهِ الّتِي يَقُولُ فِيهَا : مَنْ سَرّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ
وَرِثُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ إنّ الْخِيَارَ هُمْ بَنُو الْأَخْيَار
الْبَاذِلِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيّهِمْ يَوْمَ الْهِيَاجِ وَسَطْوَةِ الْجَبّارِ
وَالذّائِدِينَ النّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِمْ بِالْمَشْرَفِيّ وَبِالْقَنَا الْخَطّارِ
وَالْبَائِعِينَ نَفُوسَهُمْ لِنَبِيّهِمْ لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعَانُقٍ وَكِرَارِ
يَتَطَهّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكًا لَهُمْ بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا مِنْ الْكُفّارِ
وَإِذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوكَ إلَيْهِمْ أَصْبَحْتَ عِنْدَ مَعَاقِلِ الْأَعْفَار
قَوْمٌ إذَا خَوَتْ النّجُومُ فَإِنّهُمْ لِلطّارِقِينَ النّازِلِينَ مَقَارِي
[ ص 460 ] وَكَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ مِنْ فُحُولِ الشّعَرَاءِ هُوَ وَأَبُوهُ وَابْنُهُ عُقْبَةُ وَابْنُ ابْنِهِ الْعَوّامُ بْنُ عُقْبَةَ وَمِمّا يُسْتَحْسَنُ لِكَعْبٍ قَوْلُهُ لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ لَأَعْجَبَنِي سَعْيُ الْفَتَى وَهُوَ مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ
يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا فَالنّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمّ مُنْتَشِرُ
وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ لَا تَنْتَهِي الْعَيْنُ حَتّى يَنْتَهِيَ الْأَثَرُ
وَمِمّا يُسْتَحْسَنُ لَهُ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تُحْدَى بِهِ النّاقَةُ الْأَدْمَاءُ مُعْتَجِرًا لِلْبُرْدِ كَالْبَدْرِ جُلّيَ لَيْلَةَ الظّلْمِ
فَفِي عِطَافَيْهِ أَوْ أَثْنَاءِ بُرْدَتِهِ مَا يَعْلَمُ اللّهُ مِنْ دِينٍ وَمِنْ كَرَمِ
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ
وَكَانَتْ
فِي شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ فِي
زَمَنِ عُسْرَةٍ [ ص 461 ] وَجِدْبٍ مِنْ الْبِلَادِ وَحِينَ طَابَتْ
الثّمَارُ وَالنّاسُ يُحِبّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ
وَيَكْرَهُونَ شُخُوصَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَلّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إلّا كَنّى
عَنْهَا وَوَرّى بِغَيْرِهَا إلّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ
لِبُعْدِ الشّقّةِ وَشِدّةِ الزّمَانِ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جَهَازِهِ لِلْجَدّ
بْنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي سَلَمَةَ : يَا جَدّ هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي
جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ ؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَوَتَأْذَنُ لِي
وَلَا تَفْتِنّي ؟ فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنّهُ مَا مِنْ
رَجُلٍ بِأَشَدّ عَجَبًا بِالنّسَاءِ مِنّي وَإِنّي أَخْشَى إنْ رَأَيْتُ
نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ قَدْ أَذِنْتُ لَكَ
فَفِيهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا
تَفْتِنّي } [ التّوْبَةُ 49 ] . وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ فَأَنْزَلَ اللّهُ
فِيهِمْ { وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ } الْآيَةَ [ التّوْبَةُ
81 ] . ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَدّ فِي
سَفَرِهِ وَأَمَرَ النّاس بِالْجَهَازِ وَحَضّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى
النّفَقَةِ وَالْحُمْلَانِ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَحَمَلَ رِجَالٌ مِنْ
أَهْلِ الْغِنَى وَاحْتَسَبُوا وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ فِي
ذَلِكَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ مِثْلَهَا . قُلْت :
كَانَتْ ثَلَاثُمِائَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا
وَعُدّتِهَا وَأَلْفَ دِينَارٍ عَيْنًا . [ ص 462 ]
[ اسْتِحْمَالُ الْبَكّائِينَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ]
وَذَكَرَ
ابْنُ سَعْدٍ قَالَ بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنّ الرّومَ قَدْ جَمَعَتْ جُمُوعًا كَثِيرَةً بِالشّامِ وَأَنّ هِرَقْلَ
قَدْ رَزَقَ أَصْحَابَهُ لِسَنَةٍ وَأَجْلَبَتْ مَعَهُ لَخْمٌ وَجُذَامٌ
وَعَامِلَةُ وَغَسّانُ وَقَدّمُوا مُقَدّمَاتِهِمْ إلَى الْبَلْقَاءِ
وَجَاءَ الْبَكّاءُونَ وَهُمْ سَبْعَةٌ يَسْتَحْمِلُونَ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ
عَلَيْهِ فَتَوَلّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدّمْعِ حَزَنًا أَنْ
لَا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ . وَهُمْ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعُلْبَةُ
بْنُ زَيْدٍ وَأَبُو لَيْلَى الْمَازِنِيّ وَعَمْرُو بْنُ عَنَمَةَ
وَسَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ وَالْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ . وَفِي بَعْضِ
الرّوَايَاتِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مُغَفّلٍ : وَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ الْبَكّاءُونَ بَنُو مُقَرّنٍ السّبْعَةُ وَهُمْ
مِنْ مُزَيْنَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ : يُعَدّ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ
الْحُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ . وَأَرْسَلَ أَبَا مُوسَى أَصْحَابُهُ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَحْمِلَهُمْ فَوَافَاهُ
غَضْبَانُ فَقَالَ وَاَللّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ وَلَا أَجِدُ مَا
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ثُمّ أَتَاهُ إبِلٌ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ ثُمّ
قَالَ مَا أَنَا حَمَلْتُكُمْ وَلَكِنّ اللّهَ حَمَلَكُمْ وَإِنّي
وَاَللّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا
إلّا كَفّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الّذِي هُوَ خَيْرٌ
فَصْلٌ [ قِصّةُ عُلْبَةَ بْنِ زَيْدٍ ]
وَقَامَ
عُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ فَصَلّى مِنْ اللّيْلِ وَبَكَى وَقَالَ اللّهُمّ
إنّك قَدْ أَمَرْتَ [ ص 463 ] عِنْدِي مَا أَتَقَوّى بِهِ مَعَ رَسُولِك
وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِك مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ وَإِنّي
أَتَصَدّقُ عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ بِكُلّ مَظْلِمَةٍ أَصَابَنِي فِيهَا مِنْ
مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ ثُمّ أَصْبَحَ مَعَ النّاسِ فَقَالَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيْنَ الْمُتَصَدّقُ هَذِهِ
اللّيْلَةَ . فَلَمْ يَقُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ ثُمّ قَالَ أَيْنَ
الْمُتَصَدّقُ فَلْيَقُمْ فَقَامَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبْشِرْ فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ
بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ فِي الزّكَاةِ الْمُتَقَبّلَةِ
[ الْمُعَذّرُونَ مِنْ الْأَعْرَابِ ]
وَجَاءَ
الْمُعَذّرُونَ مِنْ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ فَلَمْ يَعْذِرْهُمْ
. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ : وَهُمْ اثْنَانِ وَثَمَانُونَ رَجُلًا وَكَانَ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُول َ قَدْ عَسْكَرَ عَلَى ثَنِيّةِ
الْوَدَاعِ فِي حُلَفَائِهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ فَكَانَ
يُقَالُ لَيْسَ عَسْكَرُهُ بِأَقَلّ الْعَسْكَرَيْنِ . وَاسْتَخْلَفَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ
مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيّ . وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
سِبَاعُ بْنُ عُرْفُظَةَ وَالْأَوّلُ أَثْبَتُ .
[ تَخَلّفُ جَمْعِ ابْنِ أُبَيّ وَبَعْضِ الصّحَابَةِ ]
فَلَمّا
سَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَخَلّفَ عَبْدُ
اللّهِ بْنُ أُبَيّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ وَتَخَلّفَ نَفَرٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ شَكّ وَلَا ارْتِيَابٍ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ
مَالِكٍ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ وَمُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ وَأَبُو
خَيْثَمَةَ السّالِمِيّ وَأَبُو ذَرّ ثُمّ لَحِقَهُ أَبُو خَيْثَمَةَ
وَأَبُو ذَرّ وَشَهِدَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنْ النّاسِ وَالْخَيْلُ عَشَرَةُ آلَافِ فَرَسٍ
وَأَقَامَ بِهَا عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصّلَاةَ وَهِرَقْلُ
يَوْمَئِذٍ بِحِمْصٍ .
[ اسْتِخْلَافُ عَلِيّ عَلَى الْمَدِينَةِ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 464 ] وَلَمّا أَرَادَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخُرُوجَ خَلّفَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى
أَهْلِهِ فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا : مَا خَلّفَهُ إلّا
اسْتِثْقَالًا وَتَخَفّفًا مِنْهُ فَأَخَذَ عَلِيّ رَضِيَ اللّه عَنْهُ
سِلَاحَهُ ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجُرُف ِ فَقَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ زَعَمَ
الْمُنَافِقُونَ أَنّك إنّمَا خَلّفْتنِي لِأَنّك اسْتَثْقَلْتنِي
وَتَخَفّفْتَ مِنّي فَقَالَ كَذَبُوا وَلَكِنّي خَلّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ
وَرَائِي فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِك أَفَلَا تَرْضَى
أَنْ تَكُونَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ؟ إلّا أَنّهُ لَا
نَبِيّ بَعْدِي فَرَجَعَ عَلِيّ إلَى الْمَدِينَة
[ لِحَاقُ أَبِي خَيْثَمَةَ بِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
ثُمّ
إنّ أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ سَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيّامًا إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارّ
فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ قَدْ
رَشّتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا وَبَرّدَتْ لَهُ مَاءً
وَهَيّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا فَلَمّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ
الْعَرِيشِ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الضّحّ وَالرّيحِ
وَالْحَرّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلّ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيّأٍ
وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ فِي مَالِهِ مُقِيمٌ ؟ مَا هَذَا بِالنّصْفِ ثُمّ
قَالَ وَاَللّهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتّى أَلْحَقَ
بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهَيّئَا لِي زَادًا
فَفَعَلَتَا ثُمّ قَدّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ ثُمّ خَرَجَ فِي طَلَبِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَدْرَكَهُ حِينَ
نَزَلَ تَبُوكَ وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ عُمَيْرُ بْنُ
وَهْبٍ الْجُمَحِيّ فِي الطّرِيقِ يَطْلُبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَرَافَقَا حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ تَبُوكَ قَالَ
أَبُو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ إنّ لِي ذَنْبًا فَلَا عَلَيْك
أَنْ تَتَخَلّفَ عَنّي حَتّى آتِيَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَفَعَلَ حَتّى إذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ قَالَ النّاسُ هَذَا رَاكِبٌ
عَلَى الطّرِيقِ مُقْبِلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ
وَاَللّهِ أَبُو خَيْثَمَةَ . فَلَمّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلّمَ عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا خَيْثَمَةَ
فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَبَرَهُ
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا
وَدَعَا لَهُ بِخَيْر [ ص 465 ]
[ الْمُرُورُ بِدِيَارِ ثَمُودَ وَالنّهْيُ عَنْ شُرْبِ مَائِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ لِلْوُضُوءِ وَالْأَكْلِ ]
وَقَدْ
كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ مَرّ
بِالْحِجْرِ بِدِيَارِ ثَمُودَ قَالَ لَا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا
شَيْئًا وَلَا تَتَوَضّئُوا مِنْهُ لِلصّلَاةِ وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ
عَجَنْتُمُوهُ فَاعْلِفُوهُ الْإِبِلَ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا
وَلَا يَخْرُجَنّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ فَفَعَلَ
النّاسُ إلّا أَنّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ خَرَجَ أَحَدُهُمَا
لِحَاجَتِهِ وَخَرَجَ الْآخَرُ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ فَأَمّا الّذِي
خَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَإِنّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ وَأَمّا الّذِي
خَرَجَ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ فَاحْتَمَلَتْهُ الرّيحُ حَتّى طَرَحَتْهُ
بِجَبَلَيْ طَيّئٍ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ لَا يَخْرُجَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ إلّا وَمَعَهُ صَاحِبُهُ ثُمّ دَعَا لِلّذِي خُنِقَ عَلَى
مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ وَأَمّا الْآخَرُ فَأَهْدَتْهُ طَيّئٌ لِرَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ قُلْت :
وَاَلّذِي فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ :
انْطَلَقْنَا حَتّى قَدِمْنَا تَبُوكَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَتَهُبّ عَلَيْكُمْ اللّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ
فَلَا يَقُمْ مِنْكُمْ أَحَدٌ فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدّ
عِقَالَهُ فَهَبّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَقَامَ رَجُلٌ فَحَمَلَتْهُ الرّيحُ
حَتّى أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيّئ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَلَغَنِي عَنْ
الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ لَمّا مَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِالْحَجَرِ سَجّى ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَاسْتَحَثّ
رَاحِلَتَهُ ثُمّ قَالَ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ الّذِينَ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ إلّا وَأَنْتُمْ بَاكُونَ خَوْفًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا
أَصَابَهُمْ قُلْت : فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا تَدْخُلُوا
عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُعَذّبِينَ إلّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لَا
يُصِيبُكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ [ ص 466 ] صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " :
أَنّهُ أَمَرَهُمْ بِإِلْقَاءِ الْعَجِينِ وَطَرْحِهِ وَفِي " صَحِيحِ
مُسْلِمٍ " : أَنّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ
وَأَنْ يُهَرِيقُوا الْمَاءَ وَيَسْتَقُوا مِنْ الْبِئْرِ الّتِي كَانَتْ
تَرِدُهَا النّاقَةُ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ أَيْضًا وَقَدْ حَفِظَ
رَاوِيهِ مَا لَمْ يَحْفَظْهُ مَنْ رَوَى الطّرْحَ . وَذَكَرَ
الْبَيْهَقِيّ أَنّهُ نَادَى فِيهِمْ الصّلَاةُ جَامِعَةٌ فَلَمّا
اجْتَمَعُوا قَالَ عَلَامَ تَدْخُلُونَ عَلَى قَوْمٍ غَضِبَ اللّهُ
عَلَيْهِمْ " فَنَادَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ نَعْجَبُ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ
اللّهِ فَقَالَ أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِمَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ ؟
رَجُلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يُنَبّئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُمْ وَمَا هُوَ
كَائِنٌ بَعْدَكُمْ اسْتَقِيمُوا وَسَدّدُوا فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ
لَا يَعْبَأُ بِعَذَابِكُمْ شَيْئًا وَسَيَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ لَا
يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ شَيْئًا
فَصْلٌ [اسْتِسْقَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَصْبَحَ النّاسُ وَلَا مَاءَ مَعَهُمْ فَشَكَوْا
ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَعَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَرْسَلَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ حَتّى ارْتَوَى النّاسُ وَاحْتَمَلُوا
حَاجَتَهُمْ مِنْ الْمَاءِ .
[إخْبَارُ اللّهِ نَبِيّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكَانِ نَاقَتِهِ ]
[
ص 467 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَارَ حَتّى إذَا كَانَ بِبَعْضِ
الطّرِيقِ ضَلّتْ نَاقَتُهُ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ وَكَانَ
مُنَافِقًا : أَلَيْسَ يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ وَيُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ
السّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ رَجُلًا يَقُولُ وَذَكَرَ مَقَالَتَهُ
وَإِنّي وَاَللّهِ لَا أَعْلَمُ إلّا مَا عَلّمَنِي اللّهُ وَقَدْ دَلّنِي
اللّهُ عَلَيْهَا وَهِيَ فِي الْوَادِي فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ
حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا فَانْطَلِقُوا حَتّى تَأْتُونِي بِهَا
فَذَهَبُوا فَأَتَوْهُ بِهَا وَفِي طَرِيقِهِ تِلْكَ خَرَصَ حَدِيقَةَ
الْمَرْأَةِ بِعَشَرَةِ أَوْسُقٍ
[ تَخَلّفَ بَعْضُهُمْ فِي الطّرِيقِ ]
ثُمّ
مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَعَلَ يَتَخَلّفُ
عَنْهُ الرّجُلُ فَيَقُولُونَ تَخَلّفَ فُلَانٌ . فَيَقُولُ دَعُوهُ
فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللّهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ
غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللّهُ مِنْهُ
[إبْطَاءُ بَعِيرِ أَبِي ذَرّ ]
وَتَلَوّمَ
عَلَى أَبِي ذَرّ بَعِيرُهُ فَلَمّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ
عَلَى ظَهْرِهِ ثُمّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَاشِيًا وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا الرّجُلَ يَمْشِي
عَلَى الطّرِيقِ وَحْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كُنْ أَبَا ذَرّ فَلَمّا تَأَمّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا : يَا
رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ هُوَ أَبُو ذَرّ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَحِمَ اللّهُ أَبَا ذَرّ يَمْشِي وَحْدَهُ
وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ
[ مَوْتُ أَبِي ذَرّ وَحْدَهُ ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ الْأَسْلَمِيّ
عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ [ ص 468 ] الْقُرَظِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ قَالَ لَمّا نَفَى عُثْمَانُ أَبَا ذَرّ إلَى الرّبَذَةِ
وَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إلّا امْرَأَتُهُ
وَغُلَامُهُ فَأَوْصَاهُمَا : أَنْ غَسّلَانِي وَكَفّنَانِي ثُمّ ضَعَانِي
عَلَى قَارِعَةِ الطّرِيقِ فَأَوّلُ رَكْبٍ يَمُرّ بِكُمْ فَقُولُوا :
هَذَا أَبُو ذَرّ صَاحِبُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ فَلَمّا مَاتَ فَعَلَا ذَلِكَ بِهِ ثُمّ
وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطّرِيقِ وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عُمّارًا فَلَمْ
يَرُعْهُمْ إلّا بِالْجِنَازَةِ عَلَى ظَهْرِ الطّرِيقِ قَدْ كَادَتْ
الْإِبِلُ تَطَؤُهَا وَقَامَ إلَيْهِمْ الْغُلَامُ فَقَالَ هَذَا أَبُو
ذَرّ صَاحِبُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ قَالَ فَاسْتَهَلّ عَبْدُ اللّهِ يَبْكِي
وَيَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَمْشِي
وَحْدَك وَتَمُوتُ وَحْدَك وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ ثُمّ نَزَلَ هُوَ
وَأَصْحَابُهُ فَوَارَوْهُ ثُمّ حَدّثَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
حَدِيثَهُ وَمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي مَسِيرِهِ إلَى تَبُوكَ . قُلْت : وَفِي هَذِهِ الْقِصّةِ
نَظَرٌ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبّانَ فِي " صَحِيحِهِ "
وَغَيْرُهُ فِي قِصّةِ وَفَاتِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
الْأَشْتَرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمّ ذَرّ قَالَتْ لَمّا حَضَرَتْ أَبَا
ذَرّ الْوَفَاةُ بَكَيْت فَقَالَ مَا يُبْكِيك ؟ فَقُلْت : مَا لِي لَا
أَبْكِي وَأَنْتَ تَمُوتُ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ وَلَيْسَ عِنْدِي
ثَوْبٌ يَسَعُك كَفَنًا وَلَا يَدَانِ لِي فِي تَغْيِيبِك ؟ قَالَ
أَبْشِرِي وَلَا تَبْكِي فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ لَيَمُوتَنّ رَجُلٌ
مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ النّفَرِ إلّا وَقَدْ
مَاتَ فِي قَرْيَةٍ وَجَمَاعَةٍ فَأَنَا ذَلِكَ الرّجُلُ فَوَاَللّهِ مَا
كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْت فَأَبْصِرِي الطّرِيقَ . فَقُلْت : أَنّى وَقَدْ
ذَهَبَ الْحَاجّ وَتَقَطّعَتْ الطّرُقُ ؟ فَقَالَ اذْهَبِي فَتَبَصّرِي .
قَالَتْ فَكُنْتُ أُسْنِدُ إلَى الْكَثِيبِ أَتَبَصّرُ ثُمّ أَرْجِعُ
فَأُمَرّضُهُ فَبَيْنَا أَنَا وَهُوَ كَذَلِكَ إذْ أَنَا بِرِجَالٍ عَلَى
رِحَالِهِمْ كَأَنّهُمْ الرّخَمُ تَخُبّ بِهِمْ رَوَاحِلُهُمْ قَالَتْ
فَأَشَرْتُ إلَيْهِمْ فَأَسْرِعُوا إلَيّ حَتّى وَقَفُوا عَلَيّ فَقَالُوا
: يَا أَمَةَ اللّهِ مَا لَك ؟ قُلْت : امْرُؤٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
يَمُوتُ تُكَفّنُونَهُ قَالُوا : وَمَنْ هُوَ ؟ قُلْت : أَبُو ذَرّ .
قَالُوا : صَاحِبُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قُلْت
: نَعَمْ فَفَدّوْهُ بِآبَائِهِمْ وَأُمّهَاتِهِمْ وَأَسْرَعُوا إلَيْهِ
حَتّى دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ أَبْشِرُوا فَإِنّي سَمِعْتُ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا
فِيهِمْ لَيَمُوتَنّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ يَشْهَدُهُ
عِصَابَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النّفَرِ رَجُلٌ
إلّا وَقَدْ هَلَكَ فِي جَمَاعَةٍ . وَاَللّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْت
إنّهُ لَوْ كَانَ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُنِي كَفَنًا لِي أَوْ لِامْرَأَتِي
لَمْ أُكَفّنْ إلّا فِي ثَوْبٍ هُوَ لِي أَوْ لَهَا فَإِنّي أَنْشُدُكُمْ
اللّهَ أَنْ لَا يُكَفّنَنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ كَانَ أَمِيرًا أَوْ
عَرِيفًا أَوْ بَرِيدًا أَوْ نَقِيبًا وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النّفَرِ
أَحَدٌ إلّا وَقَدْ قَارَفَ بَعْضَ مَا قَالَ إلّا فَتًى مِنْ
الْأَنْصَارِ قَالَ أَنَا يَا عَمّ أُكَفّنُك فِي رِدَائِي هَذَا وَفِي
ثَوْبَيْنِ مِنْ عَيْبَتِي مِنْ غَزْلِ أُمّي . قَالَ أَنْتَ فَكَفّنّي
فَكَفّنَهُ الْأَنْصَارِيّ وَقَامُوا عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ فِي نَفَرٍ
كُلّهُمْ يَمَانٍ [ ص 469 ]
[ قِصّةُ رَهْطٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ ]
رَجَعْنَا
إلَى قِصّةِ تَبُوكَ وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ
وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَمِنْهُمْ
رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ حَلِيفٌ لِبَنِي سَلَمَةَ يُقَالُ لَهُ مَخْشِيّ
بْنُ حُمَيّرٍ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَتَحْسَبُونَ جَلّادَ بَنِي
الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ؟ وَاَللّهِ
لَكَأَنّا بِكُمْ غَدًا مُقَرّنِينَ فِي الْحِبَالِ إرْجَافًا
وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ . فَقَالَ مَخْشِيّ بْنُ حُمَيّرٍ :
وَاَللّهِ لَوَدِدْت أَنّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلّ مِنّا
مِائَةَ جَلْدَةٍ وَإِنّا نَنْفَلِتُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآنٌ
لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ . وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ : أَدْرِكْ الْقَوْمَ فَإِنّهُمْ قَدْ
احْتَرَقُوا فَسَلْهُمْ عَمّا قَالُوا ؟ فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلْ
قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا فَانْطَلَقَ إلَيْهِمْ عَمّارٌ فَقَالَ لَهُمْ
ذَلِكَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ : كُنّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ فَأَنْزَلَ اللّهُ فِيهِمْ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } [ التّوْبَةُ 65 ]
فَقَالَ مَخْشِيّ بْنُ حُمَيّرٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ قَعَدَ بِي اسْمِي
وَاسْمُ أَبِي فَكَانَ الّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
وَتَسَمّى عَبْدَ الرّحْمَنِ وَسَأَلَ اللّهَ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيدًا لَا
يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ فَقُتِلَ
يَوْمَ الْيَمَامَة ِ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ .
الْيَمَامَةِ
ِ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ . [ ص 470 ] وَذَكَرَ ابْنُ عَائِذٍ فِي "
مَغَازِيهِ " أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَزَلَ
تَبُوكَ فِي زَمَانٍ قَلّ مَاؤُهَا فِيهِ فَاغْتَرَفَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَرْفَةً بِيَدِهِ مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ
بِهَا فَاهُ ثُمّ بَصَقَهُ فِيهَا فَفَارَتْ عَيْنُهَا حَتّى امْتَلَأَتْ
فَهِيَ كَذَلِكَ حَتّى السّاعَةَ .
[ نَهْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ مَسّ عَيْنِ تَبُوكَ حَتّى يَأْتِيَ ]
قُلْت
: فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " إنّهُ قَالَ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَيْهَا :
إنّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى عَيْنَ تَبُوكَ
وَإِنّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتّى يُضْحِيَ النّهَارُ فَمَنْ جَاءَهَا
فَلَا يَمَسّن مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتّى آتِيَ قَالَ فَجِئْنَاهَا
وَقَدْ سَبَقَ إلَيْهَا رَجُلَانِ وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشّرَاكِ تَبِضّ
بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ هَلْ مَسِسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا ؟ قَالَا : نَعَمْ
فَسَبّهُمَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ لَهُمَا مَا
شَاءَ اللّهُ أَنْ يَقُولَ ثُمّ غَرَفُوا مِنْ الْعَيْنِ قَلِيلًا
قَلِيلًا حَتّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ وَغَسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمّ أَعَادَهُ
فِيهَا فَجَرَتْ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ حَتّى اسْتَقَى النّاسُ
ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُوشِكُ يَا
مُعَاذُ إنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تُرَى مَا هَا هُنَا قَدْ مُلِئَ
جِنَانًا
فَصْلٌ [ الصّلْحُ مَعَ صَاحِبِ أَيْلَةَ ]
وَلَمّا
انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى تَبُوكَ
أَتَاهُ صَاحِبُ أَيْلَةَ فَصَالَحَهُ وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ وَأَتَاهُ
أَهْلُ جَرْبَا وَأَذْرُحَ فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ وَكَتَبَ لَهُمْ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا فَهُوَ
عِنْدَهُمْ وَكَتَبَ لِصَاحِبِ أَيْلَةَ : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ
الرّحِيمِ هَذَا أَمَنَةٌ مِنْ اللّهِ وَمُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ
لِيُحَنّةَ بْنِ رُؤْبَة َ وَأَهْلِ أَيْلَةَ سُفُنِهِمْ وَسَيّارَتِهِمْ
فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمّةُ اللّهِ وَمُحَمّدٌ النّبِيّ وَمَنْ
كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشّام ِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَهْلِ
الْبَحْرِ فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا فَإِنّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ
دُونَ نَفْسِهِ وَإِنّهُ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنْ النّاسِ وَإِنّهُ لَا
يَحِلّ أَنْ يَمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ وَلَا طَرِيقًا يَرِدُونَهُ
مِنْ بَحْرٍ أَوْ بَرّ . [ ص 471 ]
فَصْلٌ فِي بَعْثِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ وَهُوَ
أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ وَكَانَ
نَصْرَانِيّا وَكَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَالِدٍ إنّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ
فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتّى إذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ
وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَافِيَةٍ وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ وَمَعَهُ
امْرَأَتُهُ فَبَاتَتْ الْبَقَرُ تَحُكّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْقَصْرِ
فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا قَطّ ؟ قَالَ لَا
وَاَللّهِ . قَالَتْ فَمَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ ؟ قَالَ لَا أَحَدَ فَنَزَلَ
فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ لَهُ وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ
بَيْتِهِ فِيهِمْ أَخٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ حَسّانُ فَرَكِبَ وَخَرَجُوا
مَعَهُ بِمَطَارِدِهِمْ فَلَمّا خَرَجُوا تَلَقّتْهُمْ خَيْلُ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخَذَتْهُ وَقَتَلُوا أَخَاهُ
وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ مُخَوّصٍ بِالذّهَبِ
فَاسْتَلَبَهُ خَالِدٌ فَبَعَثَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ ثُمّ إنّ خَالِدًا قَدِمَ
بِأُكَيْدِرٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ ثُمّ خَلّى سَبِيلَهُ
فَرَجَعَ إلَى قَرْيَتِهِ . وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ : بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدًا فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ
فَارِسًا فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدّمَ . قَالَ وَأَجَارَ خَالِدٌ
أُكَيْدِرًا مِنْ الْقَتْلِ حَتّى يَأْتِيَ بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ دُومَةَ الْجَنْدَلِ
فَفَعَلَ وَصَالَحَهُ عَلَى أَلْفَيْ بَعِيرٍ وَثَمَانِمِائَةِ رَأْسٍ
وَأَرْبَعِمِائَةِ دِرْعٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ رُمْحٍ فَعَزَلَ لِلنّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَفِيّةُ خَالِصًا ثُمّ قَسَمَ
الْغَنِيمَةَ فَأَخْرَجَ الْخُمُسَ فَكَانَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَسَمَ مَا بَقِيَ فِي أَصْحَابِهِ فَصَارَ لِكُلّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ خُمُسُ فَرَائِضَ . وَذَكَرَ ابْنُ عَائِذٍ فِي هَذَا
الْخَبَرِ أَنّ أُكَيْدِرًا قَالَ عَنْ الْبَقَرِ وَاَللّهِ مَا
رَأَيْتهَا قَطّ [ ص 472 ] أَتَتْنَا إلّا الْبَارِحَةَ وَلَقَدْ كُنْتُ
أُضْمِرُ لَهَا الْيَوْمَيْنِ وَالثّلَاثَةَ وَلَكِنْ قَدّرَ اللّهُ .
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ : وَاجْتَمَعَ أُكَيْدِرٌ وَيُحَنّةُ عِنْدَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَعَاهُمَا إلَى
الْإِسْلَامِ فَأَبَيَا وَأَقَرّا بِالْجِزْيَةِ فَقَاضَاهُمَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى قَضِيّةِ دَوْمَةَ وَعَلَى
تَبُوكَ وَعَلَى أَيْلَةَ وَعَلَى تَيْمَاءَ وَكَتَبَ لَهُمَا كِتَابًا .
[ الرّجُوعُ مِنْ تَبُوكَ ]
[ هَلْ قِصّةُ النّهْيِ عَنْ الشّرْبِ مِنْ وَادِي الْمُشَقّقِ وَعَيْنِ تَبُوكَ قِصّةٌ وَاحِدَةٌ ]
رَجَعْنَا
إلَى قِصّةِ تَبُوكَ : قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَبُوكَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَمْ
يُجَاوِزْهَا ثُمّ انْصَرَفَ قَافِلًا إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ فِي
الطّرِيقِ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ وَشَلٍ يُرْوِي الرّاكِبَ وَالرّاكِبَيْنِ
وَالثّلَاثَةَ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ وَادِي الْمُشَقّقِ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ سَبَقَنَا إلَى ذَلِكَ
الْمَاءِ فَلَا يَسْتَقِيَنّ مِنْهُ شَيْئًا حَتّى نَأْتِيَهُ قَالَ
فَسَبَقَهُ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَاسْتَقَوْا فَلَمْ يَرَ
فِيهِ شَيْئًا فَقَالَ مَنْ سَبَقَنَا إلَى هَذَا الْمَاءِ ؟ فَقِيلَ لَهُ
يَا رَسُولَ اللّهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ . فَقَالَ أَوَلَمْ أَنْهَهُمْ أَنْ
يَسْتَقُوا مِنْهُ شَيْئًا حَتّى آتِيَهُ ثُمّ لَعَنَهُمْ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَعَا عَلَيْهِمْ ثُمّ نَزَلَ فَوَضَعَ
يَدَهُ تَحْتَ الْوَشَلِ فَجَعَلَ يَصُبّ فِي يَدِهِ مَا شَاءَ اللّهُ
أَنْ يَصُبّ ثُمّ نَضَحَهُ بِهِ وَمَسَحَهُ بِيَدِهِ وَدَعَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَدْعُوَ
بِهِ فَانْخَرَقَ مِنْ الْمَاءِ - كَمَا يَقُولُ مِنْ سَمْعِهِ - مَا إنّ
لَهُ حِسّا كَحِسّ الصّوَاعِقِ فَشَرِبَ النّاسُ وَاسْتَقَوْا حَاجَتَهُمْ
مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَئِنْ
بَقِيتُمْ أَوْ مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ لَيَسْمَعَنّ بِهَذَا الْوَادِي
وَهُوَ أَخْصَبُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ قُلْت : ثَبَتَ فِي "
صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ لَهُمْ إنّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللّهُ عَيْنَ تَبُوكَ
وَإِنّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتّى يُضْحِيَ النّهَارُ فَمَنْ جَاءَهَا
فَلَا يَمَسّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا الْحَدِيثُ وَقَدْ تَقَدّمَ .
فَإِنْ كَانَتْ الْقِصّةُ وَاحِدَةً فَالْمَحْفُوظُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَتْ قِصّتَيْنِ فَهُوَ مُمْكِنٌ .
[ قِصّةُ ذِي الْبِجَادَيْنِ ]
قَالَ
وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ أَنّ
عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُحَدّثُ قَالَ قُمْت مِنْ جَوْفِ
اللّيْلِ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
غَزْوَةِ تَبُوكَ فَرَأَيْت شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ
الْعَسْكَرِ فَاتّبَعْتُهَا أَنْظُرُ إلَيْهَا فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 473 ] وَأَبُو بَكْر ٍ وَعُمَرُ
وَإِذَا عَبْدُ اللّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ الْمُزَنِيّ قَدْ مَاتَ وَإِذَا
هُمْ قَدْ حَفَرُوا لَهُ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي حُفْرَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُدْلِيَانِهِ إلَيْهِ وَهُوَ
يَقُولُ أَدْنِيَا إلَيّ أَخَاكُمَا فَدَلّيَاهُ إلَيْهِ فَلَمّا هَيّأَهُ
لِشِقّهِ قَالَ اللّهُمّ إنّي قَدْ أَمْسَيْتُ رَاضِيًا عَنْهُ فَارْضَ
عَنْهُ قَالَ يَقُولُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : يَا لَيْتَنِي
كُنْتُ صَاحِبَ الْحُفْرَةِ .
[ ثَوَابُ مَنْ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ ]
وَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرْجِعَهُ مِنْ غَزْوَةِ
تَبُوكَ : إنّ بِالْمَدِينَةِ لَأَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا
قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ؟ قَالَ " نَعَمْ
حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ
فَصْلٌ فِي خُطْبَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَبُوكَ وَصَلَاتِهِ
ذَكَرَ
الْبَيْهَقِيّ فِي " الدّلَائِلِ " وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ
بْنِ عَامِرٍ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَاسْتَرْقَدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْلَةً لَمّا كَانَ مِنْهَا عَلَى لَيْلَةٍ فَلَمْ
يَسْتَيْقِظْ فِيهَا حَتّى كَانَتْ الشّمْسُ قِيدَ رُمْحٍ قَالَ أَلَمْ
أَقُلْ لَكَ يَا بِلَالُ أكلأ لَنَا الْفَجْرَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ
ذَهَبَ بِي مِنْ النّوْمِ الّذِي ذَهَبَ بِك فَانْتَقَلَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ غَيْرَ بَعِيدٍ
ثُمّ صَلّى ثُمّ ذَهَبَ بَقِيّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ
بِتَبُوكَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ
قَالَ أَمّا بَعْدُ فَإِنّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللّهِ وَأَوْثَقَ
الْعُرَى كَلِمَةُ التّقْوَى وَخَيْرَ الْمِلَلِ مِلّةُ إبْرَاهِيمَ
وَخَيْرَ السّنَنِ سُنّةُ مُحَمّدٍ وَأَشْرَفَ الْحَدِيثِ ذِكْرُ اللّهِ
وَأَحْسَنَ الْقَصَصِ هَذَا الْقُرْآنُ وَخَيْرَ الْأُمُورِ عَوَازِمُهَا
وَشَرّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ
الْأَنْبِيَاءِ وَأَشْرَفَ الْمَوْتِ قَتْلُ الشّهَدَاءِ وَأَعْمَى
الْعَمَى الضّلَالَةُ بَعْدَ الْهُدَى وَخَيْرَ الْأَعْمَالِ مَا نَفَعَ
وَخَيْرَ الْهُدَى مَا اُتّبِعَ وَشَرّ الْعَمَى عَمَى الْقَلْبِ
وَالْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السّفْلَى وَمَا قَلّ وَكَفَى
خَيْرٌ مِمّا كَثُرَ وَأَلْهَى وَشَرّ الْمَعْذِرَةِ حِينَ يَحْضُرُ
الْمَوْتُ وَشَرّ النّدَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ النّاسِ مَنْ
لَا يَأْتِي الْجُمُعَةَ إلّا دُبُرًا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَذْكُرُ
اللّهَ إلّا هَجْرًا وَمِنْ أَعْظَمِ الْخَطَايَا اللّسَانُ الْكَذّابُ
وَخَيْرُ الْغِنَى غِنَى النّفْسِ وَخَيْرُ الزّادِ التّقْوَى وَرَأْسُ
الْحُكْمِ مَخَافَةُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَخَيْرُ مَا وَقَرَ فِي
الْقُلُوبِ الْيَقِينُ وَالِارْتِيَابُ مِنْ الْكُفْرِ وَالنّيَاحَةُ مِنْ
عَمَلِ الْجَاهِلِيّةِ وَالْغُلُولُ مِنْ جُثَا جَهَنّمَ وَالسّكْرُ كَيّ
مِنْ النّارِ وَالشّعْرُ مِنْ إبْلِيسَ وَالْخَمْرُ جِمَاعُ الْإِثْمِ
وَشَرّ الْمَأْكَلِ مَالُ الْيَتِيمُ وَالسّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ
وَالشّقِيّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمّهِ وَإِنّمَا يَصِيرُ أَحَدُكُمْ
إلَى مَوْضِعِ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ وَالْأَمْرُ إلَى الْآخِرَةِ وَمَلَاكُ
الْعَمَلِ خَوَاتِمُهُ وَشَرّ الرّوَايَا رَوَايَا الْكَذِبِ وَكُلّ مَا
هُوَ آتٍ قَرِيبٌ وَسِبَابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ
وَأَكْلُ لَحْمِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللّهِ وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ
دَمِهِ وَمَنْ يَتَأَلّ عَلَى اللّهِ يُكَذّبْهُ وَمَنْ يَغْفِرْ يُغْفَرْ
لَهُ وَمَنْ يَعْفُ يَعْفُ اللّهُ عَنْهُ وَمَنْ يَكْظِمْ الْغَيْظَ
يَأْجُرْهُ اللّهُ وَمَنْ يَصْبِرْ عَلَى الرّزِيّةِ يُعَوّضُهُ اللّهُ
وَمَنْ يَبْتَغِ السّمْعَةَ يُسَمّعْ اللّهُ بِهِ وَمَنْ يَتَصَبّرْ
يُضْعِفْ اللّهُ لَهُ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ يُعَذّبْهُ اللّهُ ثُمّ
اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا [ ص 474 ]
[ قِصّةُ رَجُلٍ مَرّ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يُصَلّي فَدَعَا بِقَطْعِ أَثَرِهِ ]
[
ص 475 ] وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
وَهْبٍ : أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ
أَبِيهِ أَنّهُ نَزَلَ بِتَبُوكَ وَهُوَ حَاجّ فَإِذَا رَجُلٌ مُقْعَدٌ
فَسَأَلْتُهُ عَنْ أَمْرِهِ قَالَ سَأُحَدّثُك حَدِيثًا فَلَا تُحَدّثْ
بِهِ مَا سَمِعْت أَنّي حَيّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ نَزَلَ بِتَبُوكَ إلَى نَخْلَةٍ فَقَالَ هَذِهِ قِبْلَتُنَا ثُمّ
صَلّى إلَيْهَا قَالَ فَأَقْبَلْتُ وَأَنَا غُلَامٌ أَسْعَى حَتّى
مَرَرْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَقَالَ قَطَعَ صَلَاتَنَا قَطْعَ اللّهُ
أَثَرَهُ قَالَ فَمَا قُمْتُ عَلَيْهِمَا إلَى يَوْمِي هَذَا ثُمّ سَاقَهُ
أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
عَنْ مَوْلًى لِيَزِيدَ بْنِ نِمْرَانَ عَن يَزِيدَ بْنِ نِمْرَانَ قَالَ
رَأَيْت رَجُلًا بِتَبُوكَ مُقْعَدًا فَقَالَ مَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ
يُصَلّي فَقَالَ اللّهُمّ اقْطَعْ أَثَرَهُ فَمَا مَشَيْتُ عَلَيْهِمَا
بَعْدُ وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ وَاَلّذِي قَبْلَهُ ضَعْفٌ .
فَصْلٌ فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الصّلَاتَيْنِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ
قَالَ
أَبُو دَاوُد : حَدّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدّثَنَا اللّيْثُ
عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطّفَيْلِ عَنْ عَامِرِ بْنِ
وَاثِلَةَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ
الشّمْسُ أَخّرَ الظّهْرَ حَتّى يَجْمَعَهَا إلَى الْعَصْرِ
فَيُصَلّيهِمَا جَمِيعًا وَإِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الْمَغْرِبِ أَخّرَ
الْمَغْرِبَ حَتّى يُصَلّيَهَا مَعَ الْعِشَاءِ وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ
الْمَغْرِبِ عَجّلَ الْعِشَاءَ فَصَلّاهَا مَعَ الْمَغْرِبِ وَقَالَ
التّرْمِذِيّ : إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشّمْسِ عَجّلَ الْعَصْرَ
إلَى الظّهْرِ وَصَلّى الظّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ؛ وَقَالَ حَدِيثٌ
حَسَنٌ غَرِيبٌ . وَقَالَ أَبُو دَاوُد : هَذَا [ ص 476 ] وَقَالَ أَبُو
مُحَمّدٍ ابْنُ حَزْمٍ : لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ
لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ سَمَاعًا مِنْ أَبِي الطّفَيْلِ . . وَقَالَ
الْحَاكِمُ فِي حَدِيثِ أَبِي الطّفَيْلِ هَذَا : هُوَ حَدِيثٌ رُوَاتُهُ
أَئِمّةٌ ثِقَاتٌ وَهُوَ شَاذّ الْإِسْنَادِ وَالْمَتْنُ لَا نَعْرِفُ
لَهُ عِلّةٌ نُعَلّلُهُ بِهَا فَنَظَرْنَا فَإِذَا الْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ
وَذَكَرَ عَنْ الْبُخَارِيّ : قُلْت لِقُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ : مَعَ
مَنْ كَتَبْتَ عَنْ اللّيْثِ حَدِيثَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ
أَبِي الطّفَيْلِ ؟ قَالَ كَتَبْتُهُ مَعَ خَالِدٍ الْمَدَائِنِيّ وَكَانَ
خَالِدٌ الْمَدَائِنِيّ يُدْخِلُ الْأَحَادِيثَ عَلَى الشّيُوخِ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا : حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ
يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَوْهِبٍ الرّمْلِيّ حَدّثَنَا مُفَضّلُ
بْن فَضَالَةَ وَاللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ
أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطّفَيْلِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ فِي غَزْوَةِ
تَبُوكَ إذَا زَاغَتْ الشّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ
الظّهْرِ وَالْعَصْرِ وَفِي الْمَغْرِبِ مِثْلَ ذَلِكَ إنْ غَابَتْ
الشّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
وَإِنْ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشّمْسُ أَخّرَ الْمَغْرِبَ حَتّى
يَنْزِلَ لِلْعِشَاءِ ثُمّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا . وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ
: ضَعِيفٌ عِنْدَهُمْ ضَعّفَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد ُ وَابْنُ مَعِينٍ
وَأَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَكَانَ لَا
يُحَدّثُ عَنْهُ وَضَعّفَهُ النّسَائِيّ أَيْضًا وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
الْبَزّارُ : لَمْ أَرَ أَحَدًا تَوَقّفَ عَنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ
سَعْدٍ وَلَا اعْتَلّ عَلَيْهِ بِعِلّةٍ تُوجِبُ التّوَقّفَ عَنْهُ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : حَدِيثُ الْمُفَضّلِ وَاللّيْثِ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ
[ ص 477 ]
فَصْلٌ فِي رُجُوعِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْ تَبُوكَ وَمَا هَمّ الْمُنَافِقُونَ بِهِ مِنْ الْكَيْدِ
بِهِ وَعِصْمَةُ اللّهِ إيّاهُ
ذَكَرَ أَبُو الْأُسُودِ فِي "
مَغَازِيهِ " عَنْ عُرْوَةَ قَالَ وَرَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ إلَى الْمَدِينَةِ حَتّى إذَا
كَانَ بِبَعْضِ الطّرِيق مَكَرَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ نَاسٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَتَآمَرُوا أَنْ يَطْرَحُوهُ مِنْ
رَأْسِ عَقَبَةٍ فِي الطّرِيقِ فَلَمّا بَلَغُوا الْعَقَبَةَ أَرَادُوا
أَنْ يَسْلُكُوهَا مَعَهُ فَلَمّا غَشِيَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرَ خَبَرَهُمْ فَقَالَ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ
يَأْخُذَ بِبَطْنِ الْوَادِي فَإِنّهُ أَوْسَعُ لَكُمْ وَأَخَذَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَقَبَةَ وَأَخَذَ النّاسُ
بِبَطْنِ الْوَادِي إلّا النّفَرَ الّذِينَ هَمّوا بِالْمَكْرِ بِرَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا سُمِعُوا بِذَلِكَ
اسْتَعَدّوا وَتَلَثّمُوا وَقَدْ هَمّوا بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَأَمَرَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حُذَيْفَةَ بْنَ
الْيَمَانِ وَعَمّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَمَشَيَا مَعَهُ وَأَمَرَ عَمّارًا
أَنْ يَأْخُذَ بِزِمَامِ النّاقَةِ وَأَمَرَ حُذَيْفَةَ أَنْ يَسُوقَهَا
فَبَيْنَا هُمْ يَسِيرُونَ إذْ سَمِعُوا وَكْزَةَ الْقَوْمِ مِنْ
وَرَائِهِمْ قَدْ غَشَوْهُ فَغَضِبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَأَمَرَ حُذَيْفَةَ أَنْ يَرُدّهُمْ وَأَبْصَرَ حُذَيْفَةُ
غَضَبَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَجَعَ وَمَعَهُ
مِحْجَنٌ وَاسْتَقْبَلَ وُجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ فَضَرَبَهَا ضَرْبًا
بِالْمِحْجَنِ وَأَبْصَرَ الْقَوْمَ وَهُمْ مُتَلَثّمُونَ وَلَا يَشْعُرُ
إلّا أَنّ ذَلِكَ فِعْلُ الْمُسَافِرِ فَأَرْعَبَهُمْ اللّهُ سُبْحَانَهُ
حِينَ أَبْصَرُوا حُذَيْفَةَ وَظَنّوا أَنّ مَكْرَهُمْ قَدْ ظَهَرَ
عَلَيْهِ فَأَسْرَعُوا حَتّى خَالَطُوا النّاسَ وَأَقْبَلَ حُذَيْفَةُ
حَتّى أَدْرَكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا
أَدْرَكَهُ قَالَ اضْرِبْ الرّاحِلَةَ يَا حُذَيْفَةُ وَامْشِ أَنْتَ يَا
عَمّارُ فَأَسْرَعُوا حَتّى اسْتَوَوْا بِأَعْلَاهَا فَخَرَجُوا مِنْ
الْعَقَبَةِ يَنْتَظِرُونَ النّاسَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِحُذَيْفَةَ هَلْ عَرَفْتَ مِنْ هَؤُلَاءِ الرّهْطِ
أَوْ الرّكْبِ أَحَدًا ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ عَرَفْتُ رَاحِلَةَ فُلَانٍ
وَفُلَانٍ وَقَالَ كَانَتْ ظُلْمَةُ اللّيْلِ وَغَشِيَتْهُمْ وَهُمْ
مُتَلَثّمُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
هَلْ عَلِمْتُمْ مَا كَانَ شَأْنُ الرّكْبِ وَمَا أَرَادُوا ؟ قَالُوا :
لَا وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ فَإِنّهُمْ مَكَرُوا لِيَسِيرُوا
مَعِي حَتّى إذَا اطّلَعْتُ فِي الْعَقَبَةِ طَرَحُونِي مِنْهَا قَالُوا :
أَوَلَا تَأْمُرُ بِهِمْ يَا رَسُولَ اللّهِ إذًا فَنَضْرِبَ
أَعْنَاقَهُمْ قَالَ أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدّثَ النّاسُ وَيَقُولُوا : إنّ
مُحَمّدًا قَدْ وَضَعَ يَدَهُ فِي أَصْحَابِهِ فَسَمّاهُمْ لَهُمَا
وَقَالَ اُكْتُمَاهُمْ [ ص 478 ] وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذِهِ
الْقِصّةِ إنّ اللّهَ قَدْ أَخْبَرَنِي بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ
آبَائِهِمْ وَسَأُخْبِرُك بِهِمْ إنْ شَاءَ اللّهُ غَدًا عِنْدَ وَجْهِ
الصّبْحِ فَانْطَلِقْ حَتّى إذَا أَصْبَحْتُ فَاجْمَعْهُمْ فَلَمّا
أَصْبَحَ قَالَ اُدْعُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُبَيّ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي
سَرْحٍ وَأَبَا خَاطِرٍ الْأَعْرَابِيّ وَعَامِرًا وَأَبَا عَامِرٍ
وَالْجُلَاسَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ الصّامِتِ وَهُوَ الّذِي قَالَ لَا
نَنْتَهِي حَتّى نَرْمِيَ مُحَمّدًا مِنْ الْعَقَبَةِ اللّيْلَةَ وَإِنْ
كَانَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ خَيْرًا مِنّا إنّا إذًا لَغَنَمٌ وَهُوَ
الرّاعِي وَلَا عَقْلَ لَنَا وَهُوَ الْعَاقِلُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ
مُجَمّعَ بْنَ حَارِثَةَ وَمُلَيْحًا التّيْمِيّ وَهُوَ الّذِي سَرَقَ
طِيبَ الْكَعْبَةِ وَارْتَدّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَانْطَلَقَ هَارِبًا فِي
الْأَرْضِ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ حِصْنَ
بْنَ نُمَيْرٍ الّذِي أَغَارَ عَلَى تَمْرِ الصّدَقَةِ فَسَرَقَهُ وَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيْحَكَ مَا
حَمَلَكَ عَلَى هَذَا ؟ فَقَالَ حَمَلَنِي عَلَيْهِ أَنّي ظَنَنْتُ أَنّ
اللّهَ لَا يُطْلِعُك عَلَيْهِ فَأَمّا إذَا أَطْلَعَك اللّهُ عَلَيْهِ
وَعَلِمْته فَأَنَا أَشْهَدُ الْيَوْمَ أَنّك رَسُولُ اللّهِ وَإِنّي لَمْ
أُؤْمِنْ بِك قَطّ قَبْلَ هَذِهِ السّاعَةِ فَأَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَثْرَتَهُ وَعَفَا عَنْهُ وَأَمَرَهُ
أَنْ يَدْعُوَ طُعَيْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ
عُيَيْنَةَ وَهُوَ الّذِي قَالَ لِأَصْحَابِهِ اسْهَرُوا هَذِهِ
اللّيْلَةَ تَسْلَمُوا الدّهْرَ كُلّهُ فَوَاَللّهِ مَا لَكَمَ أَمْرٌ
دُونَ أَنْ تَقْتُلُوا هَذَا الرّجُلَ فَدَعَاهُ [ ص 479 ] فَقَالَ
وَيْحَكَ مَا كَانَ يَنْفَعُكَ مِنْ قَتْلِي لَوْ أَنّي قُتِلْتُ ؟
فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ فَوَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لَا نَزَالُ
بِخَيْرِ مَا أَعْطَاك اللّهُ النّصْرَ عَلَى عَدُوّك إنّمَا نَحْنُ
بِاَللّهِ وَبِك فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَقَالَ اُدْعُ مُرّةَ بْنَ الرّبِيعِ وَهُوَ الّذِي قَالَ
نَقْتُلُ الْوَاحِدَ الْفَرْدَ فَيَكُونُ النّاسُ عَامّةً بِقَتْلِهِ
مُطْمَئِنّينَ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَ وَيْحَكَ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ الّذِي قُلْت ؟ فَقَالَ
يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ كُنْتُ قُلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إنّك لَعَالِمٌ
بِهِ وَمَا قُلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَجَمَعَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا الّذِينَ
حَارَبُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَأَخْبَرَهُمْ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَوْلِهِمْ
وَمَنْطِقِهِمْ وَسِرّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ وَأَطْلَعَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ نَبِيّهُ عَلَى ذَلِكَ بِعِلْمِهِ وَمَاتَ الِاثْنَا عَشَرَ
مُنَافِقِينَ مُحَارِبِينَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزّ
وَجَلّ { وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا } [ التّوْبَةُ 74 ] وَكَانَ
أَبُو عَامِرٍ رَأْسَهُمْ وَلَهُ بَنَوْا مَسْجِدَ الضّرَارِ وَهُوَ
الّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ الرّاهِبُ فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْفَاسِقَ وَهُوَ أَبُو حَنْظَلَةَ غَسِيلُ
الْمَلَائِكَةِ فَأَرْسَلُوا إلَيْهِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَلَمّا قَدِمَ
عَلَيْهِمْ أَخْزَاهُ اللّهُ وَإِيّاهُمْ فَانْهَارَتْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ
فِي نَارِ جَهَنّمَ .
فَصْلٌ [ بَيَانُ وَهْمِ ابْنِ إسْحَاقَ فِي رِوَايَتِهِ هَذِهِ ]
قُلْت
: وَفِي سِيَاقِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ
أَحَدُهَا : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَسَرّ إلَى
حُذَيْفَةَ أَسْمَاءَ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ وَلَمْ يُطْلِعْ
عَلَيْهِمْ أَحَدًا غَيْرَهُ وَبِذَلِكَ كَانَ يُقَالُ لِحُذَيْفَةَ إنّهُ
صَاحِبُ السّرّ الّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ
وَلَا غَيْرُهُ يَعْلَمُ أَسْمَاءَهُمْ وَكَانَ إذَا مَاتَ الرّجُلُ
وَشَكّوا فِيهِ يَقُولُ عُمَرُ اُنْظُرُوا فَإِنْ صَلّى عَلَيْهِ
حُذَيْفَةُ وَإِلّا فَهُوَ مُنَافِقٌ مِنْهُمْ الثّانِي : مَا ذَكَرْنَاهُ
مِنْ قَوْلِهِ فِيهِمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ وَهُوَ وَهْمٌ ظَاهِرٌ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ نَفْسُهُ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُبَيّ
تَخَلّفَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ . [ ص 480 ] الثّالِثُ أَنّ قَوْلَهُ
وَسَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَهْمٌ أَيْضًا وَخَطَأٌ ظَاهِرٌ فَإِنّ
سَعْدَ بْنَ أَبِي سَرْحٍ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ إسْلَامٌ الْبَتّةَ
وَإِنّمَا ابْنُهُ عَبْدُ اللّهِ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ ثُمّ
ارْتَدّ وَلَحِقَ بِمَكّةَ حَتّى اسْتَأْمَنَ لَهُ عُثْمَانُ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ الْفَتْحِ فَأَمّنَهُ وَأَسْلَمَ
فَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ
يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ هَؤُلَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ
الْبَتّةَ فَمَا أَدْرِي مَا هَذَا الْخَطَأُ الْفَاحِشُ . الرّابِعُ
قَوْلُهُ وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ رَأْسَهُمْ وَهَذَا وَهْمٌ ظَاهِرٌ لَا
يَخْفَى عَلَى مَنْ دُونَ ابْنِ إسْحَاقَ بَلْ هُوَ نَفْسُهُ قَدْ ذَكَرَ
قِصّةَ أَبِي عَامِرٍ هَذَا فِي قِصّةِ الْهِجْرَةِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنّ أَبَا عَامِرٍ لَمّا هَاجَرَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ إلَى مَكّةَ
بِبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَلَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ خَرَجَ إلَى الطّائِفِ فَلَمّا أَسْلَمَ أَهْلُ
الطّائِفِ خَرَجَ إلَى الشّامِ فَمَاتَ بِهَا طَرِيدًا وَحِيدًا غَرِيبًا
فَأَيْنَ كَانَ الْفَاسِقُ وَغَزْوَةُ تَبُوكَ ذَهَابًا وَإِيَابًا .