كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية
[ جَوَازُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ ]
ثُمّ فِي دَفْعِهِ
إلَيْهِمْ الْأَرْضَ عَلَى النّصْفِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى جَوَازِ
الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَكَوْنُ الشّجَرِ نَخْلًا لَا أَثَرَ
لَهُ أَلْبَتّةَ فَحُكْمُ الشّيْءِ حُكْمُ نَظِيرِهِ فَبَلَدٌ شَجَرُهُمْ
الْأَعْنَابُ وَالتّينُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الثّمَارِ فِي الْحَاجَةِ إلَى
ذَلِكَ حُكْمُهُ حُكْمُ بَلَدٍ شَجَرُهُمْ النّخْلُ سَوَاءٌ وَلَا فَرْقَ
. [ ص 131 ] وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ
الْبَذْرِ مِنْ رَبّ الْأَرْضِ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَالَحَهُمْ عَنْ الشّطْرِ وَلَمْ يُعْطِهِمْ بَذْرًا
أَلْبَتّةَ وَلَا كَانَ يُرْسِلُ إلَيْهِمْ بِبَذْرٍ وَهَذَا مَقْطُوعٌ
بِهِ مِنْ سِيرَتِهِ حَتّى قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إنّهُ لَوْ
قِيلَ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مِنْ الْعَامِلِ لَكَانَ أَقْوَى مِنْ
الْقَوْلِ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مِنْ رَبّ الْأَرْضِ لِمُوَافَقَتِهِ
لِسُنّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَهْلِ
خَيْبَرَ . وَالصّحِيحُ أَنّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامِلِ
وَأَنْ يَكُونَ مِنْ رَبّ الْأَرْضِ وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَخْتَصّ بِهِ
أَحَدُهُمَا ، وَاَلّذِينَ شَرَطُوهُ مِنْ رَبّ الْأَرْضِ لَيْسَ مَعَهُمْ
حُجّةٌ أَصْلًا أَكْثَرَ مِنْ قِيَاسِهِمْ الْمُزَارَعَةَ عَلَى
الْمُضَارَبَةِ قَالُوا : كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ
يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ الْمَالِكِ وَالْعَمَلُ مِنْ الْمُضَارِبِ
فَهَكَذَا فِي الْمُزَارَعَةِ وَكَذَلِكَ فِي الْمُسَاقَاةِ يَكُونُ
الشّجَرُ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا مِنْ الْآخَرِ وَهَذَا
الْقِيَاسُ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجّةً عَلَيْهِمْ أَقْرَبُ مِنْ أَنْ
يَكُونَ حُجّةً لَهُمْ فَإِنّ فِي الْمُضَارَبَةِ يَعُودُ رَأْسُ الْمَالِ
إلَى الْمَالِكِ وَيَقْتَسِمَانِ الْبَاقِيَ وَلَوْ شُرِطَ ذَلِكَ فِي
الْمُزَارَعَةِ فَسَدَتْ عِنْدَهُمْ فَلَمْ يُجْرُوا الْبَذْرَ مَجْرَى
رَأْسِ الْمَالِ بَلْ أَجْرَوْهُ مَجْرَى سَائِرِ الْبَقْلِ فَبَطَلَ
إلْحَاقُ الْمُزَارَعَةِ بِالْمُضَارَبَةِ عَلَى أَصْلِهِمْ . وَأَيْضًا
فَإِنّ الْبَذْرَ جَارٍ مَجْرَى الْمَاءِ وَمَجْرَى الْمَنَافِعِ فَإِنّ
الزّرْعَ لَا يَتَكَوّنُ وَيَنْمُو بِهِ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدّ مِنْ
السّقْيِ وَالْعَمَلِ وَالْبَذْرُ يَمُوتُ فِي الْأَرْضِ وَيُنْشِئُ
اللّهُ الزّرْعَ مِنْ أَجْزَاءٍ أُخَرَ تَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْمَاءِ
وَالرّيحِ وَالشّمْسِ وَالتّرَابِ وَالْعَمَلِ فَحُكْمُ الْبَذْرِ حُكْمُ
هَذِهِ الْأَجْزَاءِ . وَأَيْضًا فَإِنّ الْأَرْضَ نَظِيرُ رَأْسِ
الْمَالِ فِي الْقِرَاضِ وَقَدْ دَفَعَهَا مَالِكُهَا إلَى الْمُزَارِعِ
وَبَذْرُهَا وَحَرْثُهَا وَسَقْيُهَا نَظِيرُ عَمَلِ الْمُضَارِبِ وَهَذَا
يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُزَارِعُ أَوْلَى بِالْبَذْرِ مِنْ رَبّ
الْأَرْضِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْمُضَارِبِ فَاَلّذِي جَاءَتْ بِهِ
السّنّةُ هُوَ الصّوَابُ الْمُوَافِقُ لِقِيَاسِ الشّرْعِ وَأُصُولِهِ . [
ص 132 ]
[ جَوَازُ عَقْدِ الْهُدْنَةِ ]
وَفِي الْقِصّةِ دَلِيلٌ
عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ بَلْ
مَا شَاءَ الْإِمَامُ وَلَمْ يَجِئْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَنْسَخُ هَذَا
الْحُكْمَ أَلْبَتّةَ فَالصّوَابُ جَوَازُهُ وَصِحّتُهُ وَقَدْ نَصّ
عَلَيْهِ الشّافِعِيّ فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيّ ، وَنَصّ عَلَيْهِ
غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمّةِ وَلَكِنْ لَا يَنْهَضُ إلَيْهِمْ
وَيُحَارِبُهُمْ حَتّى يُعْلِمَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ لِيَسْتَوُوا هُمْ
وَهُوَ فِي الْعِلْمِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ .
[ جَوَازُ تَعْزِيرِ الْمُتّهَمِ ]
وَفِيهَا
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْزِيرِ الْمُتّهَمِ بِالْعُقُوبَةِ وَأَنّ
ذَلِكَ مِنْ السّيَاسَاتِ الشّرْعِيّةِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ
قَادِرًا عَلَى أَنْ يَدُلّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلَى مَوْضِعِ الْكَنْزِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ وَلَكِنْ أَرَادَ
أَنْ يَسُنّ لِلْأُمّةِ عُقُوبَةَ الْمُتّهَمِينَ وَيُوَسّعَ لَهُمْ
طُرُقَ الْأَحْكَامِ رَحْمَةً بِهِمْ وَتَيْسِيرًا لَهُمْ .
[ جَوَازُ الْأَخْذِ بِالْقَرَائِنِ ]
وَفِيهَا
دَلِيلٌ عَلَى الْأَخْذِ بِالْقَرَائِنِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحّةِ
الدّعْوَى وَفَسَادِهَا ، لِقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِسَعْيَةَ لَمّا ادّعَى نَفَادَ الْمَالِ الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ
أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ
[ اعْتِبَارُ الْقَرَائِنِ ]
وَكَذَلِكَ
فَعَلَ نَبِيّ اللّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فِي اسْتِدْلَالِهِ
بِالْقَرِينَةِ عَلَى تَعْيِينِ أُمّ الطّفْلِ الّذِي ذَهَبَ بِهِ
الذّئْبُ وَادّعَتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ أَنّهُ ابْنُهَا
، وَاخْتَصَمَتَا فِي الْآخَرِ فَقَضَى بِهِ دَاوُدُ لِلْكُبْرَى ،
فَخَرَجَتَا إلَى سُلَيْمَانَ ، فَقَالَ بِمَ قَضَى بَيْنَكُمَا نَبِيّ
اللّهِ ، فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسّكّينِ أَشُقّهُ
بَيْنَكُمَا ، فَقَالَتْ الصّغْرَى : لَا تَفْعَلْ رَحِمَك اللّهُ هُوَ
ابْنُهَا ، فَقَضَى بِهِ لِلصّغْرَى فَاسْتَدَلّ بِقَرِينَةِ الرّحْمَةِ
وَالرّأْفَةِ الّتِي فِي قَلْبِهَا ، وَعَدَمِ سَمَاحَتِهَا بِقَتْلِهِ
وَسَمَاحَةِ الْأُخْرَى بِذَلِكَ لِتَصِيرَ أُسْوَتُهَا فِي فَقْدِ
الْوَلَدِ عَلَى أَنّهُ ابْنُ الصّغْرَى . فَلَوْ اتّفَقَتْ مِثْلُ هَذِهِ
الْقَضِيّةِ فِي شَرِيعَتِنَا ، لَقَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ
وَمَالِكٍ رَحِمَهُمْ اللّهُ عَمِلَ فِيهَا بِالْقَافَةِ وَجَعَلُوا
الْقَافَةَ سَبَبًا لِتَرْجِيحِ الْمُدّعِي لِلنّسَبِ رَجُلًا كَانَ أَوْ
امْرَأَةً . [ ص 133 ] قَالَ أَصْحَابُنَا : وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَدَتْ
مُسْلِمَةٌ وَكَافِرَةٌ وَلَدَيْنِ وَادّعَتْ الْكَافِرَةُ وَلَدَ
الْمُسْلِمَةِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا أَحْمَدُ ، فَتَوَقّفَ فِيهَا .
فَقِيلَ لَهُ تَرَى الْقَافَةَ ؟ فَقَالَ مَا أَحْسَنَهَا ، فَإِنْ لَمْ
تُوجَدْ قَافَةٌ وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا حَاكِمٌ بِمِثْلِ حُكْمِ سُلَيْمَان
، لَكَانَ صَوَابًا ، وَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْقُرْعَةِ فَإِنّ
الْقُرْعَةَ إنّمَا يُصَارُ إلَيْهَا إذَا تَسَاوَى الْمُدّعِيَانِ مِنْ
كُلّ وَجْهٍ وَلَمْ يَتَرَجّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَوْ
تَرَجّحَ بِيَدٍ أَوْ شَاهِدٍ وَاحِدٍ أَوْ قَرِينَةٍ ظَاهِرَةٍ مِنْ
لَوْثٍ أَوْ نُكُولِ خَصْمِهِ عَنْ الْيَمِينِ أَوْ مُوَافَقَةِ شَاهِدِ
الْحَالِ لِصِدْقِهِ كَدَعْوَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الزّوْجَيْنِ مَا
يَصْلُحُ لَهُ مِنْ قُمَاشِ الْبَيْتِ وَالْآنِيَةِ وَدَعْوَى كُلّ
وَاحِدٍ مِنْ الصّانِعِينَ آلَاتِ صَنْعَتِهِ وَدَعْوَى حَاسِرِ الرّأْسِ
عَنْ الْعِمَامَةِ عِمَامَةَ مَنْ بِيَدِهِ عِمَامَةٌ وَهُوَ يَشْتَدّ
عَدْوًا ، وَعَلَى رَأْسِهِ أُخْرَى ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ قُدّمَ ذَلِكَ
كُلّهُ عَلَى الْقُرْعَةِ . وَمِنْ تَرَاجِمِ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ
النّسَائِيّ عَلَى قِصّةِ سُلَيْمَانَ ( هَذَا بَابُ الْحُكْمُ يُوهِمُ
خِلَافَ الْحَقّ لِيَسْتَعْلِمَ بِهِ الْحَقّ ) وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَقُصّ عَلَيْنَا هَذِهِ الْقِصّةَ لِنَتّخِذَهَا
سَمَرًا ، بَلْ لِنَعْتَبِرَ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ بَلْ الْحُكْمُ
بِالْقَسَامَةِ وَتَقْدِيمِ أَيْمَانِ مُدّعِي الْقَتْلِ هُوَ مِنْ هَذَا
اسْتِنَادًا إلَى الْقَرَائِنِ الظّاهِرَةِ بَلْ وَمِنْ هَذَا رَجْمُ
الْمُلَاعَنَةِ إذَا الْتَعَنَ الزّوْجُ وَنَكَلَتْ عَنْ الِالْتِعَانِ .
فَالشّافِعِيّ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمَا اللّهُ يَقْتُلَانِهَا بِمُجَرّدِ
الْتِعَانِ الزّوْجِ وَنُكُولِهَا اسْتِنَادًا إلَى اللّوْثِ الظّاهِرِ
الّذِي حَصَلَ بِالْتِعَانِهِ وَنُكُولِهَا .
[ قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيّةِ فِي السّفَرِ ]
وَمِنْ
هَذَا مَا شَرَعَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَنَا مِنْ قَبُولِ
شَهَادَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيّةِ فِي
السّفَرِ وَأَنّ وَلِيّيْ الْمَيّتِ إذَا اطّلَعَا عَلَى خِيَانَةٍ [ ص
134 ] جَازَ لَهُمَا أَنْ يَحْلِفَا وَيَسْتَحِقّا مَا حَلَفَا عَلَيْهِ
وَهَذَا لَوْثٌ فِي [ ص 135 ] وَأَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْهُ وَعَلَى
هَذَا إذَا اطّلَعَ الرّجُلُ الْمَسْرُوقُ مَالُهُ عَلَى بَعْضِهِ فِي
يَدِ خَائِنٍ مَعْرُوفٍ بِذَلِكَ وَلَمْ يَتَبَيّنْ أَنّهُ اشْتَرَاهُ
مِنْ غَيْرِهِ جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنّ بَقِيّةَ مَالِهِ عِنْدَهُ
وَأَنّهُ صَاحِبُ السّرِقَةِ اسْتِنَادًا إلَى اللّوْثِ الظّاهِرِ
وَالْقَرَائِنِ الّتِي تَكْشِفُ الْأَمْرَ وَتُوَضّحُهُ وَهُوَ نَظِيرُ
حَلِفِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فِي الْقَسَامَةِ أَنّ فُلَانًا قَتَلَهُ
سَوَاءٌ بَلْ أَمْرُ الْأَمْوَالِ أَسْهَلُ وَأَخَفّ وَلِذَلِكَ ثَبَتَ
بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَدَعْوَى وَنُكُولٍ
بِخِلَافِ الدّمَاءِ . فَإِذَا جَازَ إثْبَاتُهَا بِاللّوْثِ فَإِثْبَاتُ
الْأَمْوَالِ بِهِ بِالطّرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَالْقُرْآنُ
وَالسّنّةُ يَدُلّانِ عَلَى هَذَا وَهَذَا ، وَلَيْسَ مَعَ مَنْ ادّعَى
نَسْخَ مَا دَلّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ ذَلِكَ حُجّةٌ أَصَلًا ، فَإِنّ
هَذَا الْحُكْمَ فِي ( سُورَةِ الْمَائِدَةِ ) ، وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا
نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ حَكَمَ بِمُوجِبِهَا أَصْحَابُ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَهُ كَأَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِي ّ وَأَقَرّهُ الصّحَابَةُ .
[ اسْتِدْلَالُ الشّاهِدِ فِي قِصّةِ يُوسُفَ بِقَرِينَةِ قَدّ الْقَمِيصِ ]
وَمِنْ
هَذَا أَيْضًا مَا حَكَاهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي قِصّةِ يُوسُفَ مِنْ
اسْتِدْلَالِ الشّاهِدِ بِقَرِينَةِ قَدّ الْقَمِيصِ مِنْ دُبُرٍ عَلَى
صِدْقِهِ وَكَذِبِ الْمَرْأَةِ وَأَنّهُ كَانَ هَارِبًا مُولِيًا ،
فَأَدْرَكَتْهُ الْمَرْأَةُ مِنْ وَرَائِهِ فَجَبَذَتْهُ فَقَدّتْ
قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ فَعَلِمَ بَعْلُهَا وَالْحَاضِرُونَ صِدْقَهُ
وَقَبِلُوا هَذَا الْحُكْمَ وَجَعَلُوا الذّنْبَ ذَنْبَهَا ، وَأَمَرُوهَا
بِالتّوْبَةِ وَحَكَاهُ اللّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - حِكَايَةَ
مُقَرّرٍ لَهُ غَيْرِ مُنْكِرٍ وَالتّأَسّي بِذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ فِي
إقْرَارِ اللّهِ لَهُ وَعَدَمِ إنْكَارِهِ لَا فِي مُجَرّدِ حِكَايَتِهِ
فَإِنّهُ إذَا أَخْبَرَ بِهِ مُقِرّا عَلَيْهِ وَمُثْنِيًا عَلَى
فَاعِلِهِ وَمَادِحًا لَهُ دَلّ عَلَى رِضَاهُ بِهِ وَأَنّهُ مُوَافِقٌ
لِحُكْمِهِ وَمَرْضَاتِهِ فَلْيُتَدَبّرْ هَذَا الْمَوْضِعُ فَإِنّهُ
نَافِعٌ جِدّا ، وَلَوْ تَتَبّعْنَا مَا فِي الْقُرْآنِ وَالسّنّةِ
وَعَمَلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ
مِنْ ذَلِكَ لَطَالَ وَعَسَى أَنْ نُفْرِدَ فِيهِ مُصَنّفًا شَافِيًا إنْ
شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . وَالْمَقْصُودُ التّنْبِيهُ عَلَى هَدْيِهِ
وَاقْتِبَاسُ الْأَحْكَامِ مِنْ سِيرَتِهِ وَمَغَازِيهِ وَوَقَائِعِهِ
صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ . [ ص 136 ] وَلَمّا أَقَرّ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ فِي
الْأَرْضِ كَانَ يَبْعَثُ كُلّ عَامٍ مَنْ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ الثّمَارَ
فَيَنْظُرُ كَمْ يُجْنَى مِنْهَا ، فَيُضَمّنُهُمْ نَصِيبَ الْمُسْلِمِينَ
وَيَتَصَرّفُونَ فِيهَا [ ص 137 ]
[ جَوَازُ خَرْصِ الثّمَارِ الْبَادِي صَلَاحُهَا ]
وَكَانَ
يَكْتَفِي بِخَارِصٍ وَاحِدٍ . فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ خَرْصِ
الثّمَارِ الْبَادِي صَلَاحُهَا كَثَمَرِ النّخْلِ وَعَلَى جَوَازِ
قِسْمَةِ الثّمَارِ خَرْصًا عَلَى رُءُوسِ النّخْلِ وَيَصِيرُ نَصِيبُ
أَحَدِ الشّرِيكَيْنِ مَعْلُومًا وَإِنْ لَمْ يَتَمَيّزْ بَعْدُ
لِمَصْلَحَةِ النّمَاءِ وَعَلَى أَنّ الْقِسْمَةَ إفْرَازٌ لَا بَيْعٌ
وَعَلَى جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِخَارِصٍ وَاحِدٍ وَقَاسِمٍ وَاحِدٍ
وَعَلَى أَنّ لِمَنْ الثّمَارُ فِي يَدِهِ أَنْ يَتَصَرّفَ فِيهَا بَعْدَ
الْخَرْصِ وَيَضْمَنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ الّذِي خَرَصَ عَلَيْهِ . فَلَمّا
كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ ، ذَهَبَ عَبْدُ اللّه ِ ابْنُهُ إلَى مَالِهِ
بِخَيْبَرَ ، فَعَدَوْا عَلَيْهِ فَأَلْقَوْهُ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ
فَفَكّوا يَدَهُ فَأَجْلَاهُمْ عُمَرُ مِنْهَا إلَى الشّامِ ، وَقَسَمَهَا
بَيْنَ مَنْ كَانَ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ .
فَصْلٌ [ عَقْدُ الذّمّةِ وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ ]
وَأَمّا
هَدْيُهُ فِي عَقْدِ الذّمّةِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ فَإِنّهُ لَمْ
يَأْخُذْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْكُفّارِ جِزْيَةً إلّا بَعْدَ نُزُولِ (
سُورَةِ بَرَاءَةٌ ) فِي السّنَةِ الثّامِنَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ فَلَمّا
نَزَلَتْ آيَةُ الْجِزْيَةِ أَخَذَهَا مِنْ الْمَجُوسِ ، وَأَخَذَهَا مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَخَذَهَا مِنْ النّصَارَى ، وَبَعَثَ مُعَاذًا
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إلَى الْيَمَنِ ، فَعَقَدَ لِمَنْ لَمْ يُسْلِمْ
مِنْ يَهُودِهَا الذّمّةَ وَضَرَبَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَلَمْ
يَأْخُذْهَا مِنْ يَهُودِ خَيْبَرَ ، فَظَنّ بَعْضُ الْغَالِطِينَ
الْمُخْطِئِينَ أَنّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصّ بِأَهْلِ خَيْبَرَ ، وَأَنّهُ
لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ وَإِنْ أُخِذَتْ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَهَذَا مِنْ عَدَمِ فِقْهِهِ فِي السّيَرِ وَالْمَغَازِي ،
فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَاتَلَهُمْ
وَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يُقِرّهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا شَاءَ وَلَمْ
تَكُنْ الْجِزْيَةُ نَزَلَتْ بَعْدُ فَسَبَقَ عَقْدُ صُلْحِهِمْ
وَإِقْرَارُهُمْ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ نُزُولَ الْجِزْيَةِ ثُمّ أَمَرَهُ
اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُقَاتِلَ أَهْلَ الْكِتَابِ حَتّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا يَهُودُ خَيْبَرَ إذْ
ذَاكَ لِأَنّ الْعَقْدَ [ ص 138 ] كَانَ قَدِيمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ
عَلَى إقْرَارِهِمْ وَأَنْ يَكُونُوا عُمّالًا فِي الْأَرْضِ بِالشّطْرِ
فَلَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ وَطَالَبَ سِوَاهُمْ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ مِمّنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَقْدٌ
كَعَقْدِهِمْ بِالْجِزْيَةِ كَنَصَارَى نَجْرَانَ ، وَيَهُودِ الْيَمَنِ ،
وَغَيْرِهِمْ فَلَمّا أَجْلَاهُمْ عُمَرُ إلَى الشّامِ ، تَغَيّرَ ذَلِكَ
الْعَقْدُ الّذِي تَضَمّنَ إقْرَارَهُمْ فِي أَرْضِ خَيْبَرَ ، وَصَارَ
لَهُمْ حُكْمُ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .
[ بَيَانُ تَزْوِيرِ طَائِفَةٍ مِنْ الْيَهُودِ كِتَابًا فِيهِ إسْقَاطُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجِزْيَة ]َ
وَلَمّا
كَانَ فِي بَعْضِ الدّوَلِ الّتِي خَفِيَتْ فِيهَا السّنّةُ
وَأَعْلَامُهَا ، أَظْهَرَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ كِتَابًا قَدْ عَتّقُوهُ
وَزَوّرُوهُ وَفِيهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَسْقَطَ عَنْ يَهُودِ خَيْبَرَ الْجِزْيَةَ وَفِيهِ شَهَادَةُ عَلِيّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ
الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ فَرَاجَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ جَهِلَ
سُنّةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَغَازِيَهُ
وَسِيَرَهُ وَتَوَهّمُوا ، بَلْ ظَنّوا صِحّتَهُ فَجَرَوْا عَلَى حُكْمِ
هَذَا الْكِتَابِ الْمُزَوّرِ حَتّى أُلْقِيَ إلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ
ابْنِ تَيْمِيّةَ - قَدّسَ اللّهُ رُوحَهُ - وَطُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُعِينَ
عَلَى تَنْفِيذِهِ وَالْعَمَلِ عَلَيْهِ فَبَصَقَ عَلَيْهِ وَاسْتَدَلّ
عَلَى كَذِبِهِ بِعَشَرَةِ أَوْجُهٍ مِنْهَا : أَنّ فِيهِ شَهَادَةَ
سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَسَعْدٌ تُوُفّيَ قَبْلَ خَيْبَرَ قَطْعًا .
وَمِنْهَا : أَنّ فِي الْكِتَابِ أَنّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمْ الْجِزْيَةَ
وَالْجِزْيَةُ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ بَعْدُ وَلَا يَعْرِفُهَا الصّحَابَةُ
حِينَئِذٍ فَإِنّ نُزُولَهَا كَانَ عَامَ تَبُوكَ بَعْدَ خَيْبَرَ
بِثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ . وَمِنْهَا : أَنّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمْ الْكُلَفَ
وَالسّخَرَ وَهَذَا مُحَالٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِ كُلَفٌ وَلَا
سُخَرٌ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ وَقَدْ أَعَاذَهُ اللّهُ
وَأَعَاذَ أَصْحَابَهُ مِنْ أَخْذِ الْكُلَفِ وَالسّخَرِ وَإِنّمَا هِيَ
مِنْ وَضْعِ الْمُلُوكِ الظّلَمَةِ وَاسْتَمَرّ الْأَمْرُ عَلَيْهَا .
وَمِنْهَا : أَنّ هَذَا الْكِتَابَ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ فَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسّيَرِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ
وَالسّنّةِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْإِفْتَاءِ وَلَا
أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التّفْسِيرِ وَلَا أَظْهَرُوهُ فِي زَمَانِ السّلَفِ
لِعِلْمِهِمْ أَنّهُمْ إنْ زَوّرُوا مِثْلَ ذَلِكَ عَرَفُوا كَذِبَهُ
وَبُطْلَانَهُ فَلَمّا اسْتَخَفّوا بَعْضَ الدّوَلِ فِي وَقْتِ فِتْنَةٍ
وَخَفَاءِ بَعْضِ السّنّةِ زَوّرُوا ذَلِكَ وَعَتّقُوهُ وَأَظْهَرُوهُ
وَسَاعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَمَعُ بَعْضِ الْخَائِنِينَ لِلّهِ
وَلِرَسُولِهِ وَلَمْ يَسْتَمِرّ لَهُمْ ذَلِكَ حَتّى كَشَفَ اللّهُ
أَمْرَهُ وَبَيّنَ خُلَفَاءُ الرّسُلِ بُطْلَانَهُ وَكَذِبَهُ . [ ص 139 ]
فَصْلٌ [ هَلْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ غَيْرِ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ وَالنّصَارَى ]
فَلَمّا
نَزَلَتْ آيَةُ الْجِزْيَةِ أَخَذَهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْ ثَلَاثِ طَوَائِفَ مِنْ الْمَجُوسِ ، وَالْيَهُودِ ، وَالنّصَارَى ،
وَلَمْ يَأْخُذْهَا مِنْ عُبّادِ الْأَصْنَامِ . فَقِيلَ لَا يَجُوزُ
أَخْذُهَا مِنْ كَافِرٍ غَيْرِ هَؤُلَاءِ وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ
اقْتِدَاءً بِأَخْذِهِ وَتَرْكِهِ . وَقِيلَ بَلْ تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفّارِ كَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ مِنْ
الْعَجَمِ دُونَ الْعَرَبِ ، وَالْأَوّلُ قَوْلُ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ
اللّهُ وَأَحْمَدَ ، فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ . وَالثّانِي : قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللّهُ فِي الرّوَايَةِ
الْأُخْرَى . وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الثّانِي : يَقُولُونَ إنّمَا لَمْ
يَأْخُذْهَا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ؛ لِأَنّهَا إنّمَا نَزَلَ
فَرْضُهَا بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَتْ دَارَةُ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَبْقَ
فِيهَا مُشْرِكٌ فَإِنّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكّةَ ، وَدُخُولِ
الْعَرَبِ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجًا ، فَلَمْ يَبْقَ بِأَرْضِ
الْعَرَبِ مُشْرِكٌ وَلِهَذَا غَزَا بَعْدَ الْفَتْحِ تَبُوكَ ، وَكَانُوا
نَصَارَى ، وَلَوْ كَانَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُشْرِكُونَ لَكَانُوا
يَلُونَهُ وَكَانُوا أَوْلَى بِالْغَزْوِ مِنْ الْأَبْعَدِينَ . وَمَنْ
تَأَمّلَ السّيَرَ وَأَيّامَ الْإِسْلَامِ عَلِمَ أَنّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ
فَلَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ لِعَدَمِ مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ لَا
لِأَنّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا ، قَالُوا : وَقَدْ أَخَذَهَا مِنْ
الْمَجُوسِ ، وَلَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ وَلَا يَصِحّ أَنّهُ كَانَ
لَهُمْ كِتَابٌ وَرُفِع وَهُوَ حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ وَلَا
يَصِحّ سَنَدُهُ . وَلَا فَرْقَ بَيْنَ عُبّادِ النّارِ وَعُبّادِ
الْأَصْنَامِ بَلْ أَهْلُ الْأَوْثَانِ أَقْرَبُ حَالًا مِنْ عُبّادِ
النّارِ وَكَانَ فِيهِمْ مِنْ التّمَسّكِ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ مَا لَمْ
يَكُنْ فِي عُبّادِ النّارِ بَلْ عُبّادُ النّارِ أَعْدَاءُ إبْرَاهِيمَ
الْخَلِيلِ ، فَإِذَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ فَأَخْذُهَا مِنْ
عُبّادِ الْأَصْنَامِ أَوْلَى ، وَعَلَى ذَلِكَ تَدُلّ سُنّةُ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي " صَحِيحِ
مُسْلِمٍ " أَنّهُ قَالَ إذَا لَقِيتَ عَدُوّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى خِلَالٍ ثَلَاثٍ فَأَيّتُهُنّ أَجَابُوكَ
إلَيْهَا ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفّ عَنْهُمْ " . ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ
يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ الْجِزْيَةِ أَوْ يُقَاتِلَهُمْ [ ص
140 ] وَقَالَ الْمُغِيرَةُ لِعَامِلِ كِسْرَى : أَمَرَنَا نَبِيّنَا أَنْ
نُقَاتِلَكُمْ حَتّى تَعْبُدُوا اللّهَ ، أَوْ تُؤَدّوا الْجِزْيَةَ
وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقُرَيْشٍ : هَلْ
لَكُمْ فِي كَلِمَةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَرَبُ ، وَتُؤَدّي
الْعَجَمُ إلَيْكُمْ بِهَا الْجِزْيَةَ . قَالُوا : مَا هِيَ ؟ قَالَ "
لَا إلَهَ إلّا اللّهُ
فَصْلٌ
وَلَمّا كَانَ فِي مَرْجِعِهِ مِنْ
تَبُوكَ ، أَخَذَتْ خَيْلُهُ أُكَيْدِرَ دُومَةَ ، فَصَالَحَهُ عَلَى
الْجِزْيَةِ وَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ " . [ ص 141 ]
[ صُلْحُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ أَهْلِ نَجْرَان َ ]
وَصَالَحَ
أَهْلَ نَجْرَانَ مِنْ النّصَارَى عَلَى أَلْفَيْ حُلّةٍ . النّصْف فِي
صَفَرٍ وَالْبَقِيّةُ فِي رَجَبٍ يُؤَدّونَهَا إلَى الْمُسْلِمِينَ
وَعَارِيّةٍ ثَلَاثِينَ دِرْعًا ، وَثَلَاثِينَ فَرَسًا ، وَثَلَاثِينَ
بَعِيرًا ، وَثَلَاثِينَ مِنْ كُلّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ السّلَاحِ
يَغْزُونَ بِهَا ، وَالْمُسْلِمُونَ ضَامِنُونَ لَهَا حَتّى يَرُدّوهَا
عَلَيْهِمْ إنْ كَانَ بِالْيَمَنِ كَيْدٌ أَوْ غَدْرَةٌ عَلَى أَلّا
تُهْدَمَ لَهُمْ بِيعَةٌ وَلَا يُخْرَجَ لَهُمْ قَسّ وَلَا يُفْتَنُوا
عَنْ دِينِهِمْ مَا لَمْ يُحْدِثُوا حَدَثًا أَوْ يَأْكُلُوا الرّبَا
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِقَاضِ عَهْدِ الذّمّةِ بِإِحْدَاثِ
الْحَدَثِ وَأَكْلِ الرّبَا إذَا كَانَ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ . وَلَمّا
وَجّهَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ ، أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلّ
مُحْتَلِمٍ دِينَارًا أَوْ قِيمَتَهُ مِنْ الْمَعَافِرِيّ وَهِيَ ثِيَابٌ
تَكُونُ بِالْيَمَنِ
[ الْجِزْيَةُ تُقَدّرُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ ]
وَفِي
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْجِزْيَةَ غَيْرُ مُقَدّرَةِ الْجِنْسِ وَلَا
الْقَدْرِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ثِيَابًا وَذَهَبًا وَحُلَلًا ،
وَتَزِيدُ وَتَنْقُصُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ وَاحْتِمَالِ مَنْ
تُؤْخَذُ مِنْهُ وَحَالِهِ فِي الْمَيْسَرَةِ وَمَا عِنْدَهُ مِنْ
الْمَالِ . [ ص 142 ]
[ تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ بِغَيْرِ اعْتِبَارٍ لِآبَائِهِمْ ]
وَلَمْ
يُفَرّقْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا
خُلَفَاؤُهُ فِي الْجِزْيَةِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، بَلْ
أَخَذَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ نَصَارَى
الْعَرَبِ ، وَأَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرٍ ، وَكَانُوا عَرَبًا ،
فَإِنّ الْعَرَبَ أُمّةٌ لِي لَهَا فِي الْأَصْلِ كِتَابٌ وَكَانَتْ كُلّ
طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَدِينُ بِدِينِ مَنْ جَاوَرَهَا مِنْ الْأُمَمِ
فَكَانَتْ عَرَبُ الْبَحْرَيْنِ مَجُوسًا لِمُجَاوَرَتِهَا فَارِسَ ،
وَتَنُوخَ ، وَبُهْرَةَ ، وَبَنُو تَغْلِبَ نَصَارَى لِمُجَاوَرَتِهِمْ
لِلرّومِ وَكَانَتْ قَبَائِلُ مِنْ الْيَمَنِ يَهُودَ لِمُجَاوَرَتِهِمْ
لِيَهُودِ الْيَمَنِ ، فَأَجْرَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَحْكَامَ الْجِزْيَةِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ آبَاءَهُمْ وَلَا مَتَى
دَخَلُوا فِي دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ هَلْ كَانَ دُخُولُهُمْ قَبْلَ
النّسْخِ وَالتّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَهُ وَمِنْ أَيْنَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ
وَكَيْفَ يَنْضَبِطُ وَمَا الّذِي دَلّ عَلَيْهِ ؟ وَقَدْ ثَبَتَ فِي
السّيَرِ وَالْمَغَازِي ، أَنّ مِنْ الْأَنْصَارِ مَنْ تَهَوّدَ
أَبْنَاؤُهُمْ بَعْدَ النّسْخِ بِشَرِيعَةِ عِيسَى ، وَأَرَادَ آبَاؤُهُمْ
إكْرَاهَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { لَا
إِكْرَاهَ فِي الدّينِ } [ الْبَقَرَةُ 256 ] وَفِي قَوْلِهِ لِمُعَاذٍ :
خُذْ مِنْ كُلّ حَالِمٍ دِينَارًا دَلِيلٌ عَلَى أَنّهَا لَا تُؤْخَذُ
مِنْ صَبِيّ وَلَا امْرَأَةٍ . فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ
بِالْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي " مُصَنّفِهِ " وَأَبُو
عُبَيْدٍ فِي " الْأَمْوَالِ " أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَمَرَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْيَمَنِ
الْجِزْيَةَ مِنْ كُلّ حَالِمٍ أَوْ حَالِمَةٍ زَادَ أَبُو عُبَيْدٍ :
عَبْدًا أَوْ أَمَةً دِينَارًا أَوْ قِيمَتَهُ مِنْ الْمَعَافِرِيّ "
فَهَذَا فِيهِ أَخْذُهَا مِنْ الرّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْحُرّ
وَالرّقِيقِ ؟ قِيلَ [ ص 143 ] الزّيَادَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، لَمْ
يَذْكُرْهَا سَائِرُ الرّوَاةِ وَلَعَلّهَا مِنْ تَفْسِيرِ بَعْضِ
الرّوَاةِ . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُد َ
وَالتّرْمِذِيّ ، وَالنّسَائِيّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَغَيْرُهُمْ هَذَا
الْحَدِيثَ فَاقْتَصَرُوا عَلَى قَوْلِهِ أَمَرَهُ " أَنْ يَأْخُذَ مِنْ
حَالِمٍ دِينَارًا " وَلَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الزّيَادَةَ وَأَكْثَرُ
مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْجِزْيَةَ الْعَرَبُ مِنْ النّصَارَى وَالْيَهُودِ ، وَالْمَجُوسِ ،
وَلَمْ يَكْشِفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ مَتَى دَخَلَ فِي دِينِهِ وَكَانَ
يَعْتَبِرُهُمْ بِأَدْيَانِهِمْ لَا بِآبَائِهِمْ .
فَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ سِيَاقِ هَدْيِهِ مَعَ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ
مِنْ حِينِ بُعِثَ إلَى حِينِ لَقِيَ اللّهَ عَزّ وَجَل
أَوّلَ
مَا أَوْحَى إلَيْهِ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِ
رَبّهِ الّذِي خَلَقَ وَذَلِكَ أَوّلَ نُبُوّتِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ
يَقْرَأَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ إذْ ذَاكَ بِتَبْلِيغٍ ثُمّ
أَنْزَلَ عَلَيْهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } [
الْمُدّثّرُ 1 ، 2 ] فَنَبّأَهُ بِقَوْلِهِ { اقْرَأْ } وَأَرْسَلَهُ ب {
يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ } ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ
الْأَقْرَبِينَ ثُمّ أَنْذَرَ قَوْمَهُ ثُمّ أَنْذَرَ مَنْ حَوْلَهُمْ
مِنْ الْعَرَبِ ، ثُمّ أَنْذَرَ الْعَرَبَ قَاطِبَةً ثُمّ أَنْذَرَ
الْعَالَمِينَ فَأَقَامَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بَعْدَ نُبُوّتِهِ
يُنْذِرُ بِالدّعْوَةِ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا جِزْيَةٍ وَيُؤْمَرُ
بِالْكَفّ وَالصّبْرِ وَالصّفْحِ . ثُمّ أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ
وَأُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ
قَاتَلَهُ وَيَكُفّ عَمّنْ اعْتَزَلَهُ وَلَمْ يُقَاتِلْهُ ثُمّ أَمَرَهُ
بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتّى يَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ ثُمّ كَانَ
الْكُفّارُ مَعَهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ
أَهْلُ صُلْحٍ وَهُدْنَةٍ وَأَهْلُ حَرْبٍ وَأَهْلُ ذِمّةٍ فَأُمِرَ
بِأَنْ يُتِمّ لِأَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ عَهْدَهُمْ وَأَنْ يُوفِيَ
لَهُمْ بِهِ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ فَإِنْ خَافَ مِنْهُمْ
خِيَانَةً نَبَذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ حَتّى
يُعْلِمَهُمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَأُمِرَ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ نَقَضَ
عَهْدَهُ . وَلَمّا نَزَلَتْ ( سُورَةُ بَرَاءَةٌ ) نَزَلَتْ بِبَيَانِ
حُكْمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ كُلّهَا ، فَأَمَرَهُ فِيهَا أَنْ " يُقَاتِلَ
عَدُوّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أَوْ
يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَرَهُ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفّارِ
وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ فَجَاهَدَ الْكُفّارَ
بِالسّيْفِ وَالسّنَانِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْحُجّةِ وَاللّسَانِ . [ ص
144 ]
[ الْفَرْقُ بَيْنَ أَشْهُرِ التّسْيِيرِ الْحُرُمِ وَبَيْنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ]
وَأَمَرَهُ
فِيهَا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ عُهُودِ الْكُفّارِ وَنَبْذِ عُهُودِهِمْ
إلَيْهِمْ وَجَعَلَ أَهْلَ الْعَهْدِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ
قِسْمًا أَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ الّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُ وَلَمْ
يَسْتَقِيمُوا لَهُ فَحَارَبَهُمْ وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ . وَقِسْمًا لَهُمْ
عَهْدٌ مُؤَقّتٌ لَمْ يَنْقُضُوهُ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ
أَنْ يُتِمّ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدّتِهِمْ . وَقِسْمًا لَمْ يَكُنْ
لَهُمْ عَهْدٌ وَلَمْ يُحَارِبُوهُ أَوْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ مُطْلَقٌ
فَأُمِرَ أَنْ يُؤَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِذَا انْسَلَخَتْ
قَاتَلَهُمْ وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي
قَوْلِهِ { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التّوْبَةُ 2
] وَهِيَ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [ التّوْبَةُ 5 ]
فَالْحُرُمُ هَا هُنَا : هِيَ أَشْهُرُ التّسْيِيرِ أَوّلُهَا يَوْمُ
الْأَذَانِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجّةِ وَهُوَ يَوْمُ
الْحَجّ الْأَكْبَرِ الّذِي وَقَعَ فِيهِ التّأْذِينُ بِذَلِكَ وَآخِرُهَا
الْعَاشِرُ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَلَيْسَتْ هِيَ الْأَرْبَعَةَ
الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ { إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ
اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التّوْبَةُ 36 ] فَإِنّ تِلْكَ
وَاحِدٌ فَرْدٌ وَثَلَاثَةٌ سَرْدٌ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو
الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمُ . وَلَمْ يُسَيّرْ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ
الْأَرْبَعَةِ فَإِنّ هَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنّهَا غَيْرُ مُتَوَالِيَةٍ
وَهُوَ إنّمَا أَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمّ أَمَرَهُ بَعْدَ
انْسِلَاخِهَا أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فَقَتَلَ النّاقِضَ لِعَهْدِهِ وَأَجّلَ
مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ أَوْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمّ لِلْمُوفِي بِعَهْدِهِ عَهْدَهُ إلَى مُدّتِهِ
فَأَسْلَمَ هَؤُلَاءِ كُلّهُمْ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى كُفْرِهِمْ إلَى
مُدّتِهِمْ وَضَرَبَ عَلَى أَهْلِ الذّمّةِ الْجِزْيَةَ . [ ص 145 ]
فَاسْتَقَرّ أَمْرُ الْكُفّارِ مَعَهُ بَعْدَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُحَارِبِينَ لَهُ وَأَهْلِ عَهْدٍ وَأَهْلِ ذِمّةٍ
ثُمّ آلَتْ حَالُ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ إلَى الْإِسْلَامِ
فَصَارُوا مَعَهُ قِسْمَيْنِ مُحَارِبِينَ وَأَهْلَ ذِمّةٍ
وَالْمُحَارِبُونَ لَهُ خَائِفُونَ مِنْهُ فَصَارَ أَهْلُ الْأَرْضِ
مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ بِهِ وَمُسَالِمٌ لَهُ
آمِنٌ وَخَائِفٌ مُحَارِبٌ . وَأَمّا سِيرَتُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ
فَإِنّهُ أُمِرَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلَ
سَرَائِرَهُمْ إلَى اللّهِ وَأَنْ يُجَاهِدَهُمْ بِالْعِلْمِ وَالْحُجّةِ
وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ وَيُغْلِظَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يُبَلّغَ
بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ إلَى نُفُوسِهِمْ وَنَهَاهُ أَنْ يُصَلّيَ
عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَقُومَ عَلَى قُبُورِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنّهُ إنْ
اسْتَغْفَرَ لَهُمْ فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ فَهَذِهِ سِيرَتُهُ فِي
أَعْدَائِهِ مِنْ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ .
فَصْلٌ [ سِيرَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ ]
وَأَمّا
سِيرَتُهُ فِي أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِرَ
نَفْسَهُ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَأَلّا تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْهُمْ وَأَمَرَهُ أَنْ
يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وَيُشَاوِرَهُمْ فِي الْأَمْرِ
وَأَنْ يُصَلّيَ عَلَيْهِمْ . وَأَمَرَهُ بِهَجْرِ مَنْ عَصَاهُ
وَتَخَلّفَ عَنْهُ حَتّى يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ طَاعَتَهُ كَمَا هَجَرَ
الثّلَاثَةَ الّذِينَ . خُلّفُوا . وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ
عَلَى مَنْ أَتَى مُوجِبَاتِهَا مِنْهُمْ وَأَنْ يَكُونُوا عِنْدَهُ فِي
ذَلِكَ سَوَاءٌ شَرِيفُهُمْ وَدَنِيئُهُمْ .
[ مَعْنَى خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ]
وَأَمَرَهُ
فِي دَفْعِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ بِأَنْ يَدْفَعَ بِاَلّتِي
هِيَ أَحْسَنُ فَيُقَابِلَ إسَاءَةَ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ
وَجَهْلَهُ بِالْحِلْمِ وَظُلْمَهُ بِالْعَفْوِ وَقَطِيعَتَهُ بِالصّلَةِ
وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَادَ عَدُوّهُ كَأَنّهُ وَلِيّ
حَمِيمٌ . وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِهِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنّ
بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاَللّهِ مِنْهُمْ وَجَمَعَ لَهُ هَذَيْنِ
الْأَمْرَيْنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ( سُورَةِ
الْأَعْرَافِ ) و ( الْمُؤْمِنُونَ ) [ ص 146 ] فَقَالَ فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ
بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الْأَعْرَافِ 199 - 200 ] فَأَمَرَهُ
بِاتّقَاءِ شَرّ الْجَاهِلِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَبِاتّقَاءِ شَرّ
الشّيْطَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ وَجَمَعَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالشّيَمَ كُلّهَا ، فَإِنّ وَلِيّ الْأَمْرِ
لَهُ مَعَ الرّعِيّةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ فَإِنّهُ لَا بُدّ لَهُ مِنْ
حَقّ عَلَيْهِمْ يَلْزَمُهُمْ الْقِيَامُ بِهِ وَأَمْرٍ يَأْمُرُهُمْ بِهِ
وَلَا بُدّ مِنْ تَفْرِيطٍ وَعُدْوَانٍ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي حَقّهِ
فَأُمِرَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْحَقّ الّذِي عَلَيْهِمْ مَا طَوّعَتْ
بِهِ أَنْفُسُهُمْ وَسَمَحَتْ بِهِ وَسَهُلَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَشُقّ
وَهُوَ الْعَفْوُ الّذِي لَا يَلْحَقُهُمْ بِبَذْلِهِ ضَرَرٌ وَلَا
مَشَقّةٌ وَأُمِرَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْعُرْفِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ
الّذِي تَعْرِفُهُ الْعُقُولُ السّلِيمَةُ وَالْفِطَرُ الْمُسْتَقِيمَةُ
وَتُقِرّ بِحُسْنِهِ وَنَفْعِهِ وَإِذَا أَمَرَ بِهِ يَأْمُرُ
بِالْمَعْرُوفِ أَيْضًا لَا بِالْعُنْفِ وَالْغِلْظَةِ . وَأَمَرَهُ أَنْ
يُقَابِلَ جَهْلَ الْجَاهِلِينَ مِنْهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ دُونَ
أَنْ يُقَابِلَهُ بِمِثْلِهِ فَبِذَلِكَ يَكْتَفِي شَرّهُمْ . وَقَالَ
تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ { قُلْ رَبّ إِمّا تُرِيَنّي مَا
يُوعَدُونَ رَبّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظّالِمِينَ وَإِنّا
عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ
أَحْسَنُ السّيّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبّ أَعُوذُ
بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَنْ يَحْضُرُونِ }
[ الْمُؤْمِنُونَ 93 - 97 ] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم فُصّلَتْ {
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ
أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ
حَمِيمٌ وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا الّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا
ذُو حَظّ عَظِيمٍ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ
فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فُصّلَتْ 134
] فَهَذِهِ سِيرَتُهُ مَعَ أَهْلِ الْأَرْضِ إنْسِهِمْ وَجِنّهِمْ
مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ .
فَصْلٌ فِي سِيَاقِ مَغَازِيهِ وَبُعُوثِهِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَار
[ سَرِيّةُ حَمْزَةَ إلَى سَيْفِ الْبَحْرِ ]
وَكَانَ
أَوّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ رَسُو لُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى رَأْسِ
سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرِهِ وَكَانَ لِوَاءً أَبْيَضَ وَكَانَ
حَامِلُهُ أَبُو مَرْثَدٍ كَنّازُ بْنُ الْحُصَيْنِ الْغَنَوِيّ حَلِيفَ
حَمْزَةَ وَبَعَثَهُ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ خَاصّةً
يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ جَاءَتْ مِنْ الشّامِ ، وَفِيهَا أَبُو
جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ . فَبَلَغُوا سَيْفَ
الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ ، فَالْتَقَوْا وَاصْطَفّوا
لِلْقِتَالِ فَمَشَى مَجْدِي بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِي ، وَكَانَ حَلِيفًا
لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا ، بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ حَتّى حَجَزَ
بَيْنَهُمْ وَلَمْ يَقْتَتِلُوا . [ ص 147 ]
فَصْلٌ [ سَرِيّةُ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطّلِب]
[ سَعْدٌ هُوَ أَوّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ ]
ثُمّ
بَعَثَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطّلِبِ فِي سَرِيّةٍ إلَى
بَطْنِ رَابِغٍ فِي شَوّالٍ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مِنْ
الْهِجْرَةِ وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً أَبْيَضَ وَحَمَلَهُ مِسْطَحُ بْنُ
أُثَاثَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانُوا فِي
سِتّينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ أَنْصَارِيّ فَلَقِيَ أَبَا
سُفْيَانَ بْنَ حَرْب ٍ ، وَهُوَ فِي مِائَتَيْنِ عَلَى بَطْنِ رَابِغٍ ،
عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْجُحْفَةِ ، وَكَانَ بَيْنَهُمْ الرّمْيُ
وَلَمْ يَسُلّوا السّيُوفَ وَلَمْ يَصْطَفّوا لِلْقِتَالِ وَإِنّمَا
كَانَتْ مُنَاوَشَةً وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ فِيهِمْ وَهُوَ
أَوّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللّه ثُمّ انْصَرَفَ
الْفَرِيقَانِ عَلَى حَامِيَتِهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ
عَلَى الْقَوْمِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْل ٍ ، وَقَدّمَ سَرِيّةَ
عُبَيْدَةَ عَلَى سَرِيّةِ حَمْزَةَ .
فَصْلٌ [ سَرِيّةُ سَعْدٍ إلَى بَطْنِ رَابِغٍ ]
ثُمّ
بَعَثَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ إلَى الْخَرّارِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ
عَلَى رَأْسِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً أَبْيَضَ
وَحَمَلَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو ، وَكَانُوا عِشْرِينَ رَاكِبًا
يَعْتَرِضُونَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ ، وَعَهِدَ أَنْ لَا يُجَاوِزَ
الْخَرّارَ ، فَخَرَجُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ فَكَانُوا يَكْمُنُونَ
بِالنّهَارِ وَيَسِيرُونَ بِاللّيْلِ حَتّى صَبّحُوا الْمَكَانَ صَبِيحَةَ
خَمْسٍ فَوَجَدُوا الْعِيرَ قَدْ مَرّتْ بِالْأَمْسِ [ ص 148 ]
فَصْلٌ [ غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ وَهِيَ أَوّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا بِنَفْسِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
ثُمّ
غَزَا بِنَفْسِهِ غَزْوَةَ الْأَبْوَاءِ ، وَيُقَالُ لَهَا : وَدّانَ ،
وَهِيَ أَوّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا بِنَفْسِهِ وَكَانَتْ فِي صَفَرٍ عَلَى
رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرِهِ وَحَمَلَ لِوَاءَهُ
حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ أَبْيَضَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ، وَخَرَجَ فِي الْمُهَاجِرِينَ
خَاصّةً يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ ، فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا ، وَفِي
هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَادَعَ مَخْشِيّ بْنَ عَمْرٍو الضّمْرِيّ وَكَانَ
سَيّدَ بَنِي ضَمْرَةَ فِي زَمَانِهِ عَلَى أَلّا يَغْزُو بَنِي ضَمْرَةَ
، وَلَا يَغْزُوهُ وَلَا أَنْ يُكَثّرُوا عَلَيْهِ جَمْعًا ، وَلَا
يُعِينُوا عَلَيْهِ عَدُوّا ، وَكَتَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا ،
وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً .
فَصْلٌ [ غَزْوَةُ بُوَاطَ ]
ثُمّ
غَزَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بُوَاطَ فِي شَهْرِ
رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ
مُهَاجَرِهِ وَحَمَلَ لِوَاءَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، وَكَانَ
أَبْيَضَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ ،
وَخَرَجَ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ
، فِيهَا أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيّ ، وَمِائَةُ رَجُلٍ مِنْ
قُرَيْشٍ ، وَأَلْفَانِ وَخَمْسِمِائَةِ بَعِيرٍ فَبَلَغَ بُوَاطًا ،
وَهُمَا جَبَلَانِ فَرْعَانِ أَصْلُهُمَا وَاحِدٌ مِنْ جِبَالِ جُهَيْنَةَ
، مِمّا يَلِي طَرِيقَ [ ص 149 ] الشّامِ ، وَبَيْنَ بُوَاطَ
وَالْمَدِينَةِ نَحْوُ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ فَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا فَرَجَعَ .
فَصْلٌ [ خُرُوجُهُ فِي طَلَبِ كُرْزٍ الْفِهْرِيّ ]
ثُمّ
خَرَجَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مُهَاجَرِهِ يَطْلُبُ
كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْفِهْرِيّ ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَانَ أَبْيَضَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ، وَكَانَ كُرْزٌ قَدْ أَغَارَ عَلَى
سَرْحِ الْمَدِينَةِ ، فَاسْتَاقَهُ وَكَانَ يَرْعَى بِالْحِمَى ،
فَطَلَبَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى بَلَغَ
وَادِيًا يُقَالُ لَهُ سَفْوَانَ مِنْ نَاحِيَةِ بَدْرٍ ، وَفَاتَهُ
كُرْزٌ وَلَمْ يَلْحَقْهُ فَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ .
فَصْلٌ [ غَزْوَةُ الْعَشِيرَةِ ]
ثُمّ
خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ عَلَى رَأْسِ سِتّةَ عَشَرَ شَهْرًا ، وَحَمَلَ لِوَاءَهُ
حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ أَبْيَضَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
الْمَدِينَةِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ - عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيّ ،
وَخَرَجَ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَيُقَالُ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُكْرِهْ أَحَدًا عَلَى الْخُرُوجِ وَخَرَجُوا
عَلَى ثَلَاثِينَ بَعِيرًا يَعْتَقِبُونَهَا يَعْتَرِضُونَ عِيرًا
لِقُرَيْشٍ ذَاهِبَةً إلَى الشّامِ ، وَقَدْ كَانَ جَاءَهُ الْخَبَرُ
بِفُصُولِهَا مِنْ مَكّةَ فِيهَا أَمْوَالٌ لِقُرَيْشٍ ، فَبَلَغَ ذَا
الْعَشِيرَةِ ، وَقِيلَ الْعُشَيْرَاءُ بِالْمَدّ . وَقِيلَ الْعَسِيرَةِ
بِالْمُهْمَلَةِ وَهِيَ بِنَاحِيَةِ يَنْبُعَ ، وَبَيْنَ يَنْبُعَ
وَالْمَدِينَةِ تِسْعَةُ بُرُدٍ فَوَجَدَ الْعِيرَ قَدْ فَاتَتْهُ
بِأَيّامٍ وَهَذِهِ هِيَ الْعِيرُ الّتِي خَرَجَ فِي طَلَبِهَا حِينَ
رَجَعَتْ مِنْ الشّامِ ، وَهِيَ الّتِي وَعَدَهُ اللّهُ إيّاهَا ، أَوْ
الْمُقَاتِلَةُ وَذَاتُ الشّوْكَةِ وَوَفّى لَهُ بِوَعْدِهِ . وَفِي
هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَادَعَ بَنِي مُدْلِج ٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي
ضَمْرَةَ . قَالَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ الْحَافِظُ : وَفِي
هَذِهِ الْغَزْوَةِ كَنّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَلِيّا أَبَا [ ص 150 ] قَالَ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ ؟ إنّمَا كَنّاهُ أَبَا تُرَابٍ بَعْدَ نِكَاحِهِ فَاطِمَةَ ،
وَكَانَ نِكَاحُهَا بَعْدَ بَدْرٍ ، فَإِنّهُ لَمّا دَخَلَ عَلَيْهَا
وَقَالَ " أَيْنَ ابْنُ عَمّكِ ؟ " قَالَتْ خَرَجَ مُغَاضِبًا ، فَجَاءَ
إلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَهُ مُضْطَجِعًا فِيهِ وَقَدْ لَصِقَ بِهِ
التّرَابَ فَجَعَلَ يَنْفُضُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ " اجْلِسْ أَبَا تُرَابٍ
اجْلِسْ أَبَا تُرَابٍ وَهُوَ أَوّلُ يَوْمٍ كُنّيَ فِيهِ أَبَا تُرَابٍ .
فَصْلٌ [ سَرِيّةُ نَخْلَةَ ]
[ أَوّلُ خُمُسٍ وَأَوّلُ قَتِيلٍ وَأَوّلُ أَسِيرَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ ]
[ الْقِتَالُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ]
[ مَعْنَى الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ ]
ثُمّ
بَعَثَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَحْشٍ الْأَسَدِيّ إلَى نَخْلَةَ فِي رَجَبٍ
عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ الْهِجْرَةِ فِي اثْنَيْ
عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كُلّ اثْنَيْنِ يَعْتَقِبَانِ عَلَى
بَعِيرٍ فَوَصَلُوا إلَى بَطْنِ نَخْلَةَ يَرْصُدُونَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ ،
وَفِي هَذِهِ السّرِيّةِ سَمّى عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَحْشٍ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَتَبَ لَهُ كِتَابًا ، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِيهِ حَتّى يَسِيرَ
يَوْمَيْنِ ثُمّ يَنْظُرَ فِيهِ وَلَمّا فَتَحَ الْكِتَابَ وَجَدَ فِيهِ "
إذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا ، فَامْضِ حَتّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ
بَيْنَ مَكّةَ وَالطّائِفِ ، فَتَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا ، وَتَعْلَمَ
لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ فَقَالَ سَمْعًا وَطَاعَةً وَأَخْبَرَ
أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَبِأَنّهُ لَا يَسْتَكْرِهُهُمْ فَمَنْ أَحَبّ
الشّهَادَةَ فَلْيَنْهَضْ وَمَنْ كَرِهَ الْمَوْتَ فَلْيَرْجِعْ وَأَمّا
أَنَا فَنَاهِضٌ فَمَضَوْا كُلّهُمْ فَلَمّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ
الطّرِيقِ أَضَلّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ
بَعِيرًا لَهُمَا كَانَا يَعْتَقِبَانِهِ فَتَخَلّفَا فِي طَلَبِهِ
وَبَعُدَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ حَتّى نَزَلَ بِنَخْلَةَ فَمَرّتْ
بِهِ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَأَدَمًا وَتِجَارَةً فِيهَا
عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيّ ، وَعُثْمَانُ وَنَوْفَلٌ ابْنَا عَبْدِ
اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى بَنِي
الْمُغِيرَة ِ فَتَشَاوَرَ الْمُسْلِمُونَ وَقَالُوا : نَحْنُ فِي آخِرِ
يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ الشّهْرِ الْحَرَامِ فَإِنْ قَاتَلْنَاهُمْ
انْتَهَكْنَا الشّهْرَ الْحَرَامَ وَإِنْ تَرَكْنَاهُمْ اللّيْلَةَ
دَخَلُوا الْحَرَمَ ، ثُمّ أَجْمَعُوا عَلَى مُلَاقَاتِهِمْ فَرَمَى
أَحَدُهُمْ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيّ فَقَتَلَهُ [ ص 151 ] كَانَ فِي
الْإِسْلَامِ وَأَوّلُ قَتِيلٍ فِي الْإِسْلَامِ وَأَوّلُ أَسِيرَيْنِ فِي
الْإِسْلَامِ وَأَنْكَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَلَيْهِمْ مَا فَعَلُوهُ وَاشْتَدّ تَعَنّتُ قُرَيْشٍ وَإِنْكَارُهُمْ
ذَلِكَ وَزَعَمُوا أَنّهُمْ قَدْ وَجَدُوا مَقَالًا ، فَقَالُوا : قَدْ
أَحَلّ مُحَمّدٌ الشّهْرَ الْحَرَامَ وَاشْتَدّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
ذَلِكَ حَتّى أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ
الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ؟ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَنْ
سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ
أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ } [ الْبَقَرَةِ 217 ] يَقُولُ سُبْحَانَهُ هَذَا الّذِي
أَنْكَرْتُمُوهُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا ، فَمَا
ارْتَكَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ مِنْ الْكُفْرِ بِاَللّهِ وَالصّدّ عَنْ
سَبِيلِهِ وَعَنْ بَيْتِهِ وَإِخْرَاجِ الْمُسْلِمِينَ الّذِينَ هُمْ
أَهْلُهُ مِنْهُ وَالشّرْكِ الّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَالْفِتْنَةِ
الّتِي حَصَلَتْ مِنْكُمْ بِهِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ مِنْ قِتَالِهِمْ
فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ وَأَكْثَرُ السّلَفِ فَسّرُوا الْفِتْنَةَ هَا
هُنَا بِالشّرْكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لَا
تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ الْبَقَرَةِ 193 ] وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ {
ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا وَاللّهِ رَبّنَا مَا
كُنّا مُشْرِكِينَ } [ الْأَنْعَامِ 23 ] أَيْ لَمْ يَكُنْ مَآلُ
شِرْكِهِمْ وَعَاقِبَتُهُ وَآخِرُ أَمْرِهِمْ إلّا أَنْ تَبَرّءُوا مِنْهُ
وَأَنْكَرُوهُ . وَحَقِيقَتُهَا : أَنّهَا الشّرْكُ الّذِي يَدْعُو
صَاحِبُهُ إلَيْهِ وَيُقَاتِلُ عَلَيْهِ وَيُعَاقِبُ مَنْ لَمْ يَفْتَتِنْ
بِهِ وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُمْ وَقْتَ عَذَابِهِمْ بِالنّارِ
وَفِتْنَتِهِمْ بِهَا : ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ :
تَكْذِيبَكُمْ . وَحَقِيقَتُهُ ذُوقُوا نِهَايَةَ فِتْنَتِكُمْ
وَغَايَتَهَا ، وَمَصِيرَ أَمْرِهَا ، كَقَوْلِهِ { ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ
تَكْسِبُونَ } [ الزّمَرِ 24 ] وَكَمَا فَتَنُوا عِبَادَهُ عَلَى الشّرْكِ
فُتِنُوا عَلَى النّارِ وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنّ الّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ لَمْ يَتُوبُوا } [ الْبُرُوجِ 10 ] فُسّرَتْ
الْفِتْنَةُ هَا هُنَا بِتَعْذِيبِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ وَإِحْرَاقِهِمْ
إيّاهُمْ بِالنّارِ وَاللّفْظُ أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ وَحَقِيقَتُهُ [ ص 152
] { وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } وَقَوْلِ مُوسَى : { إِنْ
هِيَ إِلّا فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ
} [ الْأَعْرَافِ 155 ] فَتِلْكَ بِمَعْنًى آخَرَ وَهِيَ بِمَعْنَى
الِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ وَالِابْتِلَاءِ مِنْ اللّهِ لِعِبَادِهِ
بِالْخَيْرِ وَالشّرّ بِالنّعَمِ وَالْمَصَائِبِ فَهَذِهِ لَوْنٌ
وَفِتْنَةُ الْمُشْرِكِينَ لَوْنٌ وَفِتْنَةُ الْمُؤْمِنِ فِي مَالِهِ
وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ لَوْنٌ آخَرُ وَالْفِتْنَةُ الّتِي يُوقِعُهَا
بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَالْفِتْنَةِ الّتِي أَوْقَعَهَا بَيْنَ
أَصْحَابِ عَلِيّ وَمُعَاوِيَةَ ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفّينَ ،
وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حَتّى يَتَقَاتَلُوا وَيَتَهَاجَرُوا لَوْنٌ
آخَرُ وَهِيَ الْفِتْنَةُ الّتِي قَالَ فِيهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَتَكُونُ فِتْنَةٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ
الْقَائِمِ ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي
فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السّاعِي وَأَحَادِيثُ الْفِتْنَةِ الّتِي أَمَرَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهَا بِاعْتِزَالِ
الطّائِفَتَيْنِ هِيَ هَذِهِ الْفِتْنَةُ . وَقَدْ تَأْتِي الْفِتْنَةُ
مُرَادًا بِهَا الْمَعْصِيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنّي } [ التّوْبَةِ 49 ] ، يَقُولُهُ
الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ ، لَمّا نَدَبَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى تَبُوكَ ، يَقُولُ ائْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ
وَلَا تَفْتِنّي بِتَعَرّضِي لِبَنَاتِ بَنِي الْأَصْفَرِ فَإِنّي لَا
أَصْبِرُ عَنْهُنّ قَالَ تَعَالَى : { أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } [
التّوْبَةِ 49 ] أَيْ وَقَعُوا فِي فِتْنَةِ النّفَاقِ وَفَرّوا إلَيْهَا
مِنْ فِتْنَةِ بَنَاتِ الْأَصْفَرِ . وَالْمَقْصُودُ أَنّ اللّهَ
سُبْحَانَهُ حَكَمَ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ بِالْعَدْلِ
وَالْإِنْصَافِ وَلَمْ يُبْرِئْ أَوْلِيَاءَهُ مِنْ ارْتِكَابِ الْإِثْمِ
بِالْقِتَالِ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ بَلْ أَخْبَرَ أَنّهُ كَبِيرٌ [ ص
153 ] أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ مُجَرّدِ الْقِتَالِ فِي الشّهْرِ
الْحَرَامِ فَهُمْ أَحَقّ بِالذّمّ وَالْعَيْبِ وَالْعُقُوبَةِ لَا
سِيّمَا وَأَوْلِيَاؤُهُ كَانُوا مُتَأَوّلِينَ فِي قِتَالِهِمْ ذَلِكَ
أَوْ مُقَصّرِينَ نَوْعَ تَقْصِيرٍ يَغْفِرُهُ اللّهُ لَهُمْ فِي جَنْبِ
مَا فَعَلُوهُ مِنْ التّوْحِيدِ وَالطّاعَاتِ وَالْهِجْرَةِ مَعَ
رَسُولِهِ وَإِيثَارِ مَا عِنْدَ اللّهِ فَهُمْ كَمَا قِيلَ
وَإِذَا الْحَبِيبُ أَتَى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ
جَاءَتْ مَحَاسِنُهُ بِأَلْفِ شَفِيعٍ
فَكَيْفَ يُقَاسُ بِبَغِيضٍ عَدُوّ جَاءَ بِكُلّ قَبِيحٍ وَلَمْ يَأْتِ بِشَفِيعٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَحَاسِنِ .
فَصْلٌ [ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ ]
وَلَمّا كَانَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السّنَةِ حُوّلَتْ الْقِبْلَةُ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ .
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى
فَلَمّا
كَانَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السّنَةِ بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَبَرُ الْعِيرِ الْمُقْبِلَةِ مِنْ الشّامِ
لِقُرَيْشٍ صُحْبَةَ أَبِي سُفْيَانَ ، وَهِيَ الْعِيرُ الّتِي خَرَجُوا
فِي طَلَبِهَا لَمّا خَرَجَتْ مِنْ مَكّةَ ، وَكَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِينَ
رَجُلًا ، وَفِيهَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ لِقُرَيْشٍ ، فَنَدَبَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ لِلْخُرُوجِ إلَيْهَا ،
وَأَمَرَ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا بِالنّهُوضِ وَلَمْ يَحْتَفِلْ
لَهَا احْتِفَالًا بَلِيغًا ، لِأَنّهُ خَرَجَ مُسْرِعًا فِي
ثَلَاثِمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنْ
الْخَيْلِ إلّا فَرَسَانِ فَرَسٌ لِلزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ ، وَفَرَسٌ
لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِي ّ ، وَكَانَ مَعَهُمْ
سَبْعُونَ بَعِيرًا يَعْتَقِبُ الرّجُلَانِ وَالثّلَاثَةُ عَلَى
الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَعَلِيّ ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ ،
يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، وَابْنُهُ وَكَبْشَةُ
مَوَالِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْتَقِبُونَ
بَعِيرًا [ ص 154 ] وَأَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ
عَوْفٍ ، يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ
وَعَلَى الصّلَاةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ ، فَلَمّا كَانَ بِالرّوْحَاءِ
رَدّ أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِر ِ ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى
الْمَدِينَةِ ، وَدَفَعَ اللّوَاءَ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ ،
وَالرّايَةَ الْوَاحِدَةَ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَالْأُخْرَى
الّتِي لِلْأَنْصَارِ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَجَعَلَ عَلَى
السّاقَةِ قَيْسَ بْنَ أَبِي صَعْصَعَةَ ، وَسَارَ فَلَمّا قَرُبَ مِنْ
الصّفْرَاءِ ، بَعَثَ بَسْبَسَ بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيّ ، وَعَدِيّ بْنَ
أَبِي الزّغْبَاءِ إلَى بَدْرٍ يَتَجَسّسَانِ أَخْبَارَ الْعِيرِ .
وَأَمّا أَبُو سُفْيَانَ ، فَإِنّهُ بَلَغَهُ مَخْرَجَ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَصْدَهُ إيّاهُ فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ
بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيّ إلَى مَكّةَ ، مُسْتَصْرِخًا لِقُرَيْشٍ
بِالنّفِيرِ إلَى عِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوهُ مِنْ مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ
وَبَلَغَ الصّرِيخُ أَهْلَ مَكّةَ ، فَنَهَضُوا مُسْرِعِينَ وَأَوْعَبُوا
فِي الْخُرُوجِ فَلَمْ يَتَخَلّفْ مِنْ أَشْرَافِهِمْ أَحَدٌ سِوَى أَبِي
لَهَبٍ ، فَإِنّهُ عَوّضَ عَنْهُ رَجُلًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ
وَحَشَدُوا فِيمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ
يَتَخَلّفْ عَنْهُمْ أَحَدٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إلّا بَنِي عَدِي ّ ،
فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، وَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
كَمَا قَالَ تَعَالَى : { بَطَرًا وَرِئَاءَ النّاسِ وَيَصُدّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللّهِ } [ الْأَنْفَالِ 47 ] وَأَقْبَلُوا كَمَا قَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِحَدّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ
تُحَادّهُ وَتُحَادّ رَسُولَه وَجَاءُوا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ وَعَلَى
حَمِيّةٍ وَغَضَبٍ وَحَنَقٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَأَصْحَابِهِ لِمَا يُرِيدُونَ مِنْ أَخْذِ عِيرِهِمْ وَقَتْلِ
مَنْ فِيهَا ، وَقَدْ أَصَابُوا بِالْأَمْسِ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيّ ،
وَالْعِيرَ الّتِي كَانَتْ مَعَهُ فَجَمَعَهُمْ اللّهُ عَلَى غَيْرِ
مِيعَادٍ كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ
لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا
كَانَ مَفْعُولًا } [ الْأَنْفَالِ 42 ] وَلَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُرُوجُ قُرَيْشٍ ، اسْتَشَارَ
أَصْحَابَهُ فَتَكَلّمَ الْمُهَاجِرُونَ فَأَحْسَنُوا ، ثُمّ
اسْتَشَارَهُمْ ثَانِيًا ، فَتَكَلّمَ الْمُهَاجِرُونَ فَأَحْسَنُوا ،
ثُمّ اسْتَشَارَهُمْ ثَالِثًا ، [ ص 155 ] الْأَنْصَارُ أَنّهُ
يَعْنِيهِمْ فَبَادَرَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَأَنّك تُعَرّضُ بِنَا ؟ وَكَانَ إنّمَا
يَعْنِيهِمْ لِأَنّهُمْ بَايَعُوهُ عَلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ
الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ فِي دِيَارِهِمْ فَلَمّا عَزَمَ عَلَى
الْخُرُوجِ اسْتَشَارَهُمْ لِيَعْلَمَ مَا عِنْدَهُمْ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ
لَعَلّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى حَقّا عَلَيْهَا أَنْ
لَا يَنْصُرُوك إلّا فِي دِيَارِهَا ، وَإِنّي أَقُولُ عَنْ الْأَنْصَارِ
، وَأُجِيبُ عَنْهُمْ فَاظْعَنْ حَيْثُ شِئْت ، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ
وَاقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ
وَأَعْطِنَا مَا شِئْتَ وَمَا أَخَذْتَ مِنّا كَانَ أَحَبّ إلَيْنَا مِمّا
تَرَكْتَ وَمَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لِأَمْرِكَ
فَوَاَللّهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتّى تَبْلُغَ الْبَرْكَ مِنْ غِمْدَانَ ،
لَنَسِيرَنّ مَعَكَ وَوَاللّهِ لَئِنْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا
الْبَحْرَ خُضْنَاهُ مَعَكَ . وَقَالَ لَهُ الْمِقْدَادُ : لَا نَقُولُ
لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى : اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّكَ
فَقَاتِلَا إنّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ
وَعَنْ شِمَالِكَ وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ . فَأَشْرَقَ
وَجْهُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسُرّ بِمَا
سَمِعَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَالَ سِيرُوا وَأَبْشِرُوا ، فَإِنّ اللّهَ
قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ وَإِنّي قَدْ رَأَيْتُ مَصَارِعَ
الْقَوْمِ [ ص 156 ]
[ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا زُهْرِيّ ]
فَسَارَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَدْرٍ ، وَخَفَضَ
أَبُو سُفْيَان َ فَلَحِقَ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ وَلَمّا رَأَى أَنّهُ قَدْ
نَجَا ، وَأَحْرَزَ الْعِيرَ كَتَبَ إلَى قُرَيْشٍ : أَنْ ارْجِعُوا ،
فَإِنّكُمْ إنّمَا خَرَجْتُمْ لِتُحْرِزُوا عِيرَكُمْ فَأَتَاهُمْ
الْخَبَرُ وَهُمْ بِالْجُحْفَة ِ فَهَمّوا بِالرّجُوعِ فَقَالَ أَبُو
جَهْلٍ : وَاَللّهِ لَا نَرْجِعُ حَتّى نَقْدَمَ بَدْرًا ، فَنُقِيمَ
بِهَا ، وَنُطْعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِنْ الْعَرَبِ ، وَتَخَافُنَا
الْعَرَبُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَشَارَ الْأَخْنَسُ بْنُ شُرَيْقٍ عَلَيْهِمْ
بِالرّجُوعِ فَعَصَوْهُ فَرَجَعَ هُوَ وَبَنُو زُهْرَةَ ، فَلَمْ يَشْهَدْ
بَدْرًا زُهْرِيّ فَاغْتَبَطَتْ بَنُو زُهْرَةَ بَعْدُ بِرَأْيِ
الْأَخْنَسِ فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مُطَاعًا مُعَظّمًا ، وَأَرَادَتْ
بَنُو هَاشِمٍ الرّجُوعَ فَاشْتَدّ عَلَيْهِمْ أَبُو جَهْلٍ وَقَالَ لَا
تُفَارِقُنَا هَذِهِ الْعِصَابَةُ حَتّى نَرْجِعَ فَسَارُوا ، وَسَارَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ عَشِيّا
أَدْنَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ بَدْرٍ ، فَقَالَ أَشِيرُوا عَلَيّ فِي
الْمَنْزِلِ فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ : يَا رَسُولَ اللّهِ
أَنَا عَالِمٌ بِهَا وَبِقُلُبِهَا ، إنْ رَأَيْتَ أَنْ نَسِيرَ إلَى
قُلُبٍ قَدْ عَرَفْنَاهَا ، فَهِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ عَذْبَةٌ
فَنَنْزِلَ عَلَيْهَا وَنَسْبِقَ الْقَوْمَ إلَيْهَا وَنُغَوّرَ مَا
سِوَاهَا مِنْ الْمِيَاهِ . وَسَارَ الْمُشْرِكُونَ سِرَاعًا يُرِيدُونَ
الْمَاءَ وَبَعَثَ عَلِيّا وَسَعْدًا وَالزّبَيْرَ إلَى بَدْرٍ
يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ فَقَدِمُوا بِعَبْدَيْنِ لِقُرَيْشٍ ، وَرَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَائِمٌ يُصَلّي ، فَسَأَلَهُمَا
أَصْحَابُهُ مَنْ أَنْتُمَا ؟ قَالَا : نَحْنُ سُقَاةٌ لِقُرَيْشٍ ،
فَكَرِهَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ وَوَدّوا لَوْ كَانَا لِعِيرِ أَبِي سُفْيَان
َ فَلَمّا سَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ
لَهُمَا : أَخْبِرَانِي أَيْنَ قُرَيْشٌ ؟ قَالَا : [ ص 157 ] وَرَاءَ
هَذَا الْكَثِيبِ . فَقَالَ كَمْ الْقَوْمُ ؟ فَقَالَا : لَا عِلْمَ لَنَا
، فَقَالَ كَمْ يَنْحَرُونَ كُلّ يَوْمٍ ؟ فَقَالَا : يَوْمًا عَشَرًا ،
وَيَوْمًا تِسْعًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْقَوْمُ مَا بَيْنَ تِسْعِمِائَةٍ إلَى الْأَلْفِ فَأَنْزَلَ
اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ مَطَرًا وَاحِدًا ، فَكَانَ
عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَابِلًا شَدِيدًا مَنَعَهُمْ مِنْ التّقَدّمِ
وَكَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَلّا طَهّرَهُمْ بِهِ وَأَذْهَبَ عَنْهُمْ
رِجْسَ الشّيْطَانِ وَوَطّأَ بِهِ الْأَرْضَ وَصَلّبَ بِهِ الرّمْلَ
وَثَبّتَ الْأَقْدَامَ وَمَهّدَ بِهِ الْمَنْزِلَ وَرَبَطَ بِهِ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَسَبَقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَصْحَابُهُ إلَى الْمَاءِ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ شَطْرَ اللّيْلِ
وَصَنَعُوا الْحِيَاضَ ثُمّ غَوّرُوا مَا عَدَاهَا مِنْ الْمِيَاهِ
وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ
عَلَى الْحِيَاضِ . وَبُنِيَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَرِيشٌ يَكُونُ فِيهَا عَلَى تَلّ يُشْرِفُ عَلَى الْمَعْرَكَةِ
وَمَشَى فِي مَوْضِعِ الْمَعْرَكَةِ وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ هَذَا
مَصْرَعُ فُلَانٍ ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ
إنْ شَاءَ اللّهُ فَمَا تَعَدّى أَحَد مِنْهُمْ مَوْضِعَ إشَارَتِهِ
فَلَمّا طَلَعَ الْمُشْرِكُونَ وَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ جَاءَتْ
بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، جَاءَتْ تُحَادّك ، وَتُكَذّبُ رَسُولَكَ "
، وَقَامَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَاسْتَنْصَرَ رَبّهُ وَقَالَ اللّهُمّ
أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي ، اللّهُمّ إنّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ
وَوَعْدَكَ " ، فَالْتَزَمَهُ الصّدّيقُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا
رَسُولَ اللّهِ أَبْشِرْ فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُنْجِزَنّ
اللّهُ لَكَ مَا وَعَدَك [ ص 158 ]
[ مَعْنَى مُرْدِفِينَ ]
وَاسْتَنْصَرَ
الْمُسْلِمُونَ اللّهَ وَاسْتَغَاثُوهُ وَأَخْلَصُوا لَهُ وَتَضَرّعُوا
إلَيْهِ فَأَوْحَى اللّهُ إلَى مَلَائِكَتِهِ { أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُوا
الّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ } [
الْأَنْفَالِ 12 ] ، وَأَوْحَى اللّهُ إلَى رَسُولِهِ { أَنّي مُمِدّكُمْ
بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ } [ الْأَنْفَالِ 9 ] قُرِئَ
بِكَسْرِ الدّالِ وَفَتْحِهَا ، فَقِيلَ الْمَعْنَى إنّهُمْ رِدْفٌ لَكُمْ
. وَقِيلَ يُرْدِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْسَالًا لَمْ يَأْتُوا دَفْعَةً
وَاحِدَةً . فَإِنْ قِيلَ هَا هُنَا ذَكَرَ أَنّهُ أَمَدّهُمْ بِأَلْفٍ
وَفِي ( سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ) قَالَ { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ
أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا
وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ
آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوّمِينَ } [ آلِ عِمْرَانَ 124 ] فَكَيْفَ
الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ؟
[ الِاخْتِلَافُ فِي إمْدَادِ اللّهِ لَهُمْ ]
قِيلَ
قَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا الْإِمْدَادِ الّذِي بِثَلَاثَةِ آلَافٍ
وَاَلّذِي بِالْخَمْسَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ كَانَ
يَوْمَ أُحُدٍ ، وَكَانَ إمْدَادًا مُعَلّقًا عَلَى شَرْطٍ فَلَمّا فَاتَ
شَرْطُهُ فَاتَ الْإِمْدَادُ وَهَذَا قَوْلُ الضّحّاكِ وَمُقَاتِلٍ
وَإِحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ . وَالثّانِي : أَنّهُ كَانَ
يَوْمَ بَدْرٍ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ،
وَقَتَادَةَ . [ ص 159 ] عِكْرِمَةَ ، اخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ
الْمُفَسّرِينَ . وَحُجّةُ هَؤُلَاءِ أَنّ السّيَاقَ يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ
فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ
وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ فَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ
تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ
بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا } [ آلِ عِمْرَانَ 123 - 125 ] إلَى أَنْ قَالَ {
وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ } أَيّ هَذَا الْإِمْدَادَ إلّا بُشْرَى لَكُمْ
وَلِتَطْمَئِنّ قُلُوبُكُمْ بِهِ قَالَ هَؤُلَاءِ فَلَمّا اسْتَغَاثُوا ،
أَمَدّهُمْ بِتَمَامِ ثَلَاثَةِ آلَافٍ ثُمّ أَمَدّهُمْ بِتَمَامِ
خَمْسَةِ آلَافٍ لَمّا صَبَرُوا وَاتّقُوا ، فَكَانَ هَذَا التّدْرِيجُ
وَمُتَابَعَةُ الْإِمْدَادِ أَحْسَنَ مَوْقِعًا ، وَأَقْوَى لِنُفُوسِهِمْ
وَأَسَرّ لَهَا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ مَرّةً وَاحِدَةً وَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ مُتَابَعَةِ الْوَحْيِ وَنُزُولِهِ مَرّةً بَعْدَ مَرّةٍ .
وَقَالَتْ الْفِرْقَةُ الْأُولَى : الْقِصّةُ فِي سِيَاقِ أُحُدٍ ،
وَإِنّمَا أَدْخَلَ ذِكْرَ بَدْرٍ اعْتِرَاضًا فِي أَثْنَائِهَا ،
فَإِنّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ
الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ
هَمّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللّهُ وَلِيّهُمَا
وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ آلِ عِمْرَانَ 121 ]
ثُمّ قَالَ { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ
فَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ آلِ عِمْرَانَ 123 ] ،
فَذَكّرَهُمْ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِمْ لَمّا نَصَرَهُمْ بِبَدْرٍ وَهُمْ
أَذِلّةٌ ثُمّ عَادَ إلَى قِصّةِ أُحُدٍ ، وَأَخْبَرَ عَنْ قَوْلِ
رَسُولِهِ لَهُمْ { أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ
بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ } ثُمّ وَعَدَهُمْ
أَنّهُمْ إنْ صَبَرُوا وَاتّقُوا ، أَمَدّهُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ فَهَذَا
مِنْ قَوْلِ رَسُولِهِ وَالْإِمْدَادُ الّذِي بِبَدْرٍ مِنْ قَوْلِهِ
تَعَالَى ، وَهَذَا بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَإِمْدَادُ بَدْرٍ بِأَلْفٍ
وَهَذَا مُعَلّقٌ عَلَى شَرْطٍ وَذَلِكَ مُطْلَقٌ وَالْقِصّةُ فِي (
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ) هِيَ قِصّةُ أُحُدٍ مُسْتَوْفَاةٌ مُطَوّلَةٌ
وَبَدْرٌ ذُكِرَتْ فِيهَا اعْتِرَاضًا ، وَالْقِصّةُ فِي سُورَةِ
الْأَنْفَالِ قِصّةُ بَدْرٍ مُسْتَوْفَاةٌ مُطَوّلَةٌ فَالسّيَاقُ فِي (
آلِ عِمْرَانَ ) غَيْرُ السّيَاقِ فِي الْأَنْفَالِ . يُوَضّحُ هَذَا أَنّ
قَوْلَهُ { وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا } [ آلِ عِمْرَانَ 125 ]
قَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ : إنّهُ يَوْمُ أُحُدٍ ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ
يَكُونَ الْإِمْدَادُ الْمَذْكُورُ فِيهِ فَلَا يَصِحّ قَوْلُهُ إنّ
الْإِمْدَادَ بِهَذَا الْعَدَدِ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَإِتْيَانُهُمْ
مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يَوْمَ أُحُدٍ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 160 ]
فَصْلٌ وَبَاتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي
إلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ هُنَاكَ وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ السّابِعَ
عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ فِي السّنَةِ الثّانِيَةِ فَلَمّا أَصْبَحُوا ،
أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ فِي كَتَائِبِهَا ، وَاصْطَفّ الْفَرِيقَانِ فَمَشَى
حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فِي قُرَيْشٍ ، أَنْ
يَرْجِعُوا وَلَا يُقَاتِلُوا ، فَأَبَى ذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ ، وَجَرَى
بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُتْبَةَ كَلَامٌ أَحْفَظُهُ وَأَمَر َ أَبُو جَهْلٍ
أَخَا عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيّ أَنْ يَطْلُبَ دَمَ أَخِيهِ عَمْرٍو ،
فَكَشَفَ عَنْ اسْتِهِ وَصَرَخَ وَاعَمْرَاه ، فَحَمِيَ الْقَوْمُ
وَنَشِبَتْ الْحَرْبُ وَعَدّلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الصّفُوفَ ثُمّ رَجَعَ إلَى الْعَرِيشِ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ
خَاصّةً وَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى
بَابِ الْعَرِيشِ يَحْمُونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ .
[ طَلَبُ الْمُبَارَزَةِ ]
وَخَرَجَ عُتْبَةُ
وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ ، يَطْلُبُونَ
الْمُبَارَزَةَ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : عَبْدُ
اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَعَوْفٌ وَمُعَوّذٌ ابْنَا عَفْرَاءَ ،
فَقَالُوا لَهُمْ مَنْ أَنْتُمْ ؟ فَقَالُوا : مِنْ الْأَنْصَارِ .
قَالُوا : أَكْفَاءٌ كِرَامٌ وَإِنّمَا نُرِيدُ بَنِي عَمّنَا ، فَبَرَزَ
إلَيْهِمْ عَليّ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَحَمْزَةُ ، فَقَتَلَ
عَلِيّ قِرْنَهُ الْوَلِيدَ وَقَتَلَ حَمْزَةُ قِرْنَهُ عُتْبَةَ وَقِيلَ
شَيْبَةُ وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَقِرْنُهُ ضَرْبَتَيْنِ فَكَرّ عَلِيّ
وَحَمْزَةُ عَلَى قِرْنِ عُبَيْدَةَ فَقَتَلَاهُ وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ
وَقَدْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ فَلَمْ يَزَلْ ضَمِنًا حَتّى مَاتَ
بِالصّفْرَاءِ . [ ص 161 ] وَكَانَ عَلِيّ يُقْسِمُ بِاَللّهِ لَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبّهِمْ }
الْآيَةُ [ الْحَجّ 19 ] .
[ اشْتِدَادُ الْقِتَالِ ]
ثُمّ حَمِيَ
الْوَطِيسُ وَاسْتَدَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ وَاشْتَدّ الْقِتَالُ وَأَخَذَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الدّعَاءِ
وَالِابْتِهَالِ وَمُنَاشَدَةِ رَبّهِ عَزّ وَجَلّ حَتّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ
عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَرَدّهُ عَلَيْهِ الصّدّيقُ وَقَالَ بُغْضَ
مُنَاشَدَتِكَ رَبّكَ فَإِنّهُ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَغْفَى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إغْفَاءَةً وَاحِدَةً
وَأَخَذَ الْقَوْمَ النّعَاسُ فِي حَالِ الْحَرْبِ ثُمّ رَفَعَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأْسَهُ فَقَالَ أَبْشِرْ يَا
أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ عَلَى ثَنَايَاهُ النّقْعُ وَجَاءَ النّصْرُ
وَأَنْزَلَ اللّهُ جُنْدَهُ وَأَيّدَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ
وَمَنَحَهُمْ أَكْتَافَ الْمُشْرِكِينَ أَسْرًا وَقَتْلًا ، فَقَتَلُوا
مِنْهُمْ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ . [ ص 162 ]
فَصْلٌ [ ظُهُورُ إبْلِيسَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ الْكِنَانِيّ وَوَسْوَسَتُهُ لِقُرَيْشٍ ]
وَلَمّا
عَزَمُوا عَلَى الْخُرُوجِ ذَكَرُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي
كِنَانَة َ مِنْ الْحَرْبِ فَتَبَدّى لَهُمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ
سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيّ ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي
كِنَانَةَ ، فَقَالَ لَهُمْ لَا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النّاسِ
وَإِنّي جَارٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَأْتِيَكُمْ كِنَانَةُ بِشَيْءٍ
تَكْرَهُونَهُ فَخَرَجُوا وَالشّيْطَانُ جَارٌ لَهُمْ لَا يُفَارِقُهُمْ
فَلَمّا تَعَبّئُوا لِلْقِتَالِ وَرَأَى عَدُوّ اللّهِ جُنْدَ اللّهِ قَدْ
نَزَلَتْ مِنْ السّمَاءِ فَرّ وَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ فَقَالُوا : إلَى
أَيْنَ يَا سُرَاقَةُ ؟ أَلَمْ تَكُنْ قُلْتَ إنّك جَارٌ لَنَا لَا
تُفَارِقُنَا ؟ فَقَالَ إنّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إنّي أَخَافُ اللّهَ
وَاَللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَصَدَقَ فِي قَوْلِهِ إنّي أَرَى مَا لَا
تَرَوْنَ وَكَذَبَ فِي قَوْلِهِ إنّي أَخَافُ اللّهَ وَقِيلَ كَانَ
خَوْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَهْلَكَ مَعَهُمْ وَهَذَا أَظْهَرُ .
وَلَمّا رَأَى الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ قِلّةَ حِزْبِ
اللّهِ وَكَثْرَةَ أَعْدَائِهِ ظَنّوا أَنّ الْغَلَبَةَ إنّمَا هِيَ
بِالْكَثْرَةِ وَقَالُوا : { غَرّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ } [ الْأَنْفَالِ
149 ] ، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّ النّصْرَ بِالتّوَكّلِ عَلَيْهِ لَا
بِالْكَثْرَةِ وَلَا بِالْعَدَدِ وَاَللّهُ عَزِيزٌ لَا يُغَالَبُ حَكِيمٌ
يَنْصُرُ مَنْ يَسْتَحِقّ النّصْرَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ، فَعِزّتُهُ
وَحِكْمَتُهُ أَوْجَبَتْ نَصْرَ الْفِئَةِ الْمُتَوَكّلَةِ عَلَيْهِ .
[ اسْتِشْهَادُ عُمَيْرِ بْنِ الْحُمَامِ ]
وَلَمّا
دَنَا الْعَدُوّ وَتَوَاجَهَ الْقَوْمُ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ فَوَعَظَهُمْ وَذَكّرَهُمْ بِمَا لَهُمْ
فِي الصّبْرِ وَالثّبَاتِ مِنْ النّصْرِ وَالظّفْرِ الْعَاجِلِ وَثَوَابِ
اللّهِ الْآجِلِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّ اللّهَ قَدْ أَوْجَبَ الْجَنّةَ
لِمَنْ اُسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِهِ فَقَامَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ ،
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ جَنّةٌ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ؟
قَالَ نَعَمْ . قَالَ بَخٍ بَخٍ يَا رَسُولَ اللّهِ ، قَالَ مَا
يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ ؟ قَالَ لَا وَاَللّهِ يَا رَسُولَ
اللّهِ إلّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا ، قَالَ فَإِنّكَ مِنْ
أَهْلِهَا قَالَ فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ
مِنْهُنّ ثُمّ قَالَ لَئِنْ حَيِيتُ حَتّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إنّهَا
لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التّمْرِ ثُمّ
قَاتَلَ حَتَى قُتِلَ . فَكَانَ أَوّلَ قَتِيلٍ [ ص 163 ]
[ شَأْنُ وَمَا رَمَيْت إذْ رَمَيْت ]
وَأَخَذَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِلْءَ كَفّهِ مِنْ
الْحَصْبَاءِ فَرَمَى بِهَا وُجُوهَ الْعَدُوّ فَلَمْ تَتْرُكْ رَجُلًا
مِنْهُمْ إلّا مَلَأَتْ عَيْنَيْهِ وَشُغِلُوا بِالتّرَابِ فِي
أَعْيُنِهِمْ وَشُغِلَ الْمُسْلِمُونَ بِقَتْلِهِمْ فَأَنْزَلَ اللّهُ فِي
شَأْنِ هَذِهِ الرّمْيَةِ عَلَى رَسُولِهِ . { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلَكِنّ اللّهَ رَمَى } [ الْأَنْفَالِ 17 ] وَقَدْ ظَنّ
طَائِفَةٌ أَنّ الْآيَةَ دَلّتْ عَلَى نَفْيِ الْفِعْلِ عَنْ الْعَبْدِ
وَإِثْبَاتِهِ لِلّهِ وَأَنّهُ هُوَ الْفَاعِلُ حَقِيقَةً وَهَذَا غَلَطٌ
مِنْهُمْ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ . وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَثْبَتَ
لِرَسُولِهِ ابْتِدَاءَ الرّمْيِ وَنَفَى عَنْهُ الْإِيصَالَ الّذِي لَمْ
يَحْصُلْ بِرَمْيَتِهِ فَالرّمْيُ يُرَادُ بِهِ الْحَذْفُ وَالْإِيصَالُ
فَأَثْبَتَ لِنَبِيّهِ الْحَذْفَ وَنَفَى عَنْهُ الْإِيصَالَ . [ ص 164 ]
[ مُشَارَكَةُ الْمَلَائِكَةِ ]
وَكَانَتْ
الْمَلَائِكَةُ يَوْمَئِذٍ تُبَادِرُ الْمُسْلِمِينَ إلَى قَتْلِ
أَعْدَائِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسّوْطِ فَوْقَهُ
وَصَوْتُ الْفَارِسِ فَوْقَهُ يَقُولُ أَقْدِمْ حَيْزُومَ إذْ نَظَرَ إلَى
الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ مُسْتَلْقِيًا ، فَنَظَرَ إلَيْهِ فَإِذَا هُوَ
قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشُقّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السّوْطِ فَاخْضَرّ
ذَلِكَ أَجْمَعُ فَجَاءَ الْأَنْصَارِيّ فَحَدّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ صَدَقْتَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ
السّمَاءِ الثّالِثَةِ وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيّ : إنّي
لَأَتْبَعُ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِأَضْرِبَهُ إذْ وَقَعَ رَأْسُهُ
قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ سَيْفِي ، فَعَرَفْتُ أَنّهُ قَدْ قَتَلَهُ
غَيْرِي . وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِالْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ أَسِيرًا ، فَقَالَ الْعَبّاسُ إنّ هَذَا وَاَللّهِ مَا
أَسَرَنِي ، لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النّاسِ
وَجْهًا ، عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ مَا أَرَاهُ فِي الْقَوْمِ فَقَالَ
الْأَنْصَارِيّ أَنَا أَسِرْتُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ اُسْكُتْ
فَقَدْ أَيّدَكَ اللّهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ وَأُسِرَ مِنْ بَنِي عَبْدِ
الْمُطّلِبِ ثَلَاثَةٌ الْعَبّاسُ وَعُقَيْلٌ وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ .
[ قِصّةُ إبْلِيسَ مَعَ أَبِي جَهْلٍ ]
وَذَكَرَ
الطّبَرَانِيّ فِي " مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ " عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ
، قَالَ [ ص 165 ] لَمّا رَأَى إبْلِيسُ مَا تَفْعَلُ الْمَلَائِكَةُ
بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْر ٍ ، أَشْفَقَ أَنْ يَخْلُصَ الْقَتْلُ
إلَيْهِ فَتَشَبّثَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ، وَهُوَ يَظُنّهُ
سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ فَوَكَزَ فِي صَدْرِ الْحَارِثِ فَأَلْقَاهُ ثُمّ
خَرَجَ هَارِبًا حَتّى أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ
وَقَالَ اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ نَظْرَتَك إيّايَ وَخَافَ أَنْ يَخْلُصَ
إلَيْهِ الْقَتْلُ فَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ يَا
مَعْشَرَ النّاسِ لَا ، يَهْزِمَنّكُمْ خِذْلَانُ سُرَاقَةَ إيّاكُمْ
فَإِنّهُ كَانَ عَلَى مِيعَادٍ مِنْ مُحَمّدٍ وَلَا يَهُولَنّكُمْ قَتْلُ
عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ فَإِنّهُمْ قَدْ عَجّلُوا ، فَوَاللّاتِ
وَالْعُزّى ، لَا نَرْجِعُ حَتّى نَقْرِنَهُمْ بِالْحِبَالِ وَلَا
أُلْفِيَنّ رَجُلًا مِنْكُمْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْهُمْ وَلَكِنْ خُذُوهُمْ
أَخْذًا حَتّى نُعَرّفَهُمْ سُوءَ صَنِيعِهِمْ
[ دُعَاءُ أَبِي جَهْلٍ لِرَبّهِ ]
وَاسْتَفْتَحَ
أَبُو جَهْلٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ اللّهُمّ أَقْطَعْنَا
لِلرّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُهُ فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ اللّهُمّ
أَيّنَا كَانَ أَحَبّ إلَيْكَ وَأَرْضَى عِنْدَكَ فَانْصُرْهُ الْيَوْمَ
فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ
الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا
نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ
وَأَنّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الْأَنْفَالِ 19 ]
[ كَرَاهَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لِأَسِرْ الْمُشْرِكِينَ ]
وَلَمّا
وَضَعَ الْمُسْلِمُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الْعَدُوّ يَقْتُلُونَ
وَيَأْسِرُونَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَاقِفٌ عَلَى بَابِ الْخَيْمَةِ
الّتِي فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهِيَ
الْعَرِيشُ مُتَوَشّحًا بِالسّيْفِ فِي نَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، رَأَى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي وَجْهِ سَعْدِ بْنِ
مُعَاذٍ الْكَرَاهِيَةَ لِمَا يَصْنَعُ النّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَأَنّكَ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ النّاسُ ؟
قَالَ أَجَلْ وَاَللّهِ كَانَتْ أَوّلَ وَقْعَةٍ أَوْقَعَهَا اللّهُ
بِالْمُشْرِكِينَ وَكَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبّ إلَيّ مِنْ
اسْتِبْقَاءِ الرّجَالِ
[ إجْهَازُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى أَبِي جَهْلٍ ]
وَلَمّا
بَرَدَتْ الْحَرْبُ وَوَلّى الْقَوْمُ مُنْهَزِمِينَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ يَنْظُرُ لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو
جَهْلٍ ؟ " فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ
ابْنَا عَفْرَاءَ حَتّى بَرَدَ وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَقَالَ أَنْتَ
أَبُو جَهْلٍ ؟ فَقَالَ لِمَنْ الدّائِرَةُ الْيَوْمَ ؟ فَقَالَ لِلّهِ
وَلِرَسُولِهِ وَهَلْ أَخْزَاكَ اللّهُ يَا عَدُوّ اللّهِ ؟ فَقَالَ وَهَل
فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ ؟ فَقَتَلَهُ عَبْدُ اللّهِ ثُمّ أَتَى
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ قَتَلْتُهُ فَقَالَ
اللّهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ فَرَدّدَهَا ثَلَاثًا ، ثُمّ قَالَ
اللّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ
عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ انْطَلِقْ أَرِنِيهِ "
فَانْطَلَقْنَا فَأَرَيْته إيّاهُ فَقَالَ سس هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ
الْأُمّةِ
[ قَتْلُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ وَابْنِهِ ]
[ ص 166 ]
وَأَسَرَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أُمَيّةَ بْنَ خَلَف ٍ وَابْنَهُ
عَلِيّا ، فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ وَكَانَ أُمَيّةُ يُعَذّبُهُ بِمَكّةَ
فَقَالَ رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا ،
ثُمّ اسْتَوْخَى جَمَاعَةً مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَاشْتَدّ عَبْدُ
الرّحْمَنِ بِهِمَا يُحْرِزُهُمَا مِنْهُمْ فَأَدْرَكُوهُمْ فَشَغَلَهُمْ
عَنْ أُمَيّةَ بِابْنِهِ فَفَرَغُوا مِنْهُ ثُمّ لَحِقُوهُمَا ، فَقَالَ
لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ اُبْرُكْ فَبَرَكَ فَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ
فَضَرَبُوهُ بِالسّيُوفِ مِنْ تَحْتِهِ حَتَى قَتَلُوهُ وَأَصَابَ بَعْضُ
السّيُوف رِجْلَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، قَالَ لَهُ أُمَيّةُ
قَبْلَ ذَلِكَ مَنْ الرّجُلُ الْمُعَلّمُ فِي صَدْرِهِ بِرِيشَةِ
نَعَامَةٍ ؟ فَقَالَ ذَلِكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَقَالَ
ذَاكَ الّذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ وَكَانَ مَعَ عَبْدِ الرّحْمَنِ
أَدْرَاعٌ قَدْ اسْتَلَبَهَا ، فَلَمّا رَآهُ أُمَيّةُ قَالَ لَهُ أَنَا
خَيْرٌ لَكَ مِنْ هَذِهِ الْأَدْرَاعِ فَأَلْقَاهَا وَأَخَذَهُ فَلَمّا
قَتَلَهُ الْأَنْصَارُ ، كَانَ يَقُولُ يَرْحَمُ اللّهُ بِلَالًا ،
فَجَعَنِي بِأَدْرَاعِي وَبِأَسِيرِي
[ انْقِطَاعُ سَيْفِ عُكّاشَةَ ]
وَانْقَطَعَ
يَوْمَئِذٍ سَيْفُ عُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ ، فَأَعْطَاهُ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جِذْلًا مِنْ حَطَبٍ فَقَالَ دُونَكَ هَذَا
فَلَمّا أَخَذَهُ عُكّاشَةُ وَهَزّهُ عَادَ فِي يَدِهِ سَيْفًا طَوِيلًا
شَدِيدًا أَبْيَضَ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يُقَاتِلُ بِهِ حَتّى قُتِلَ
فِي الرّدّةِ أَيّامَ أَبِي بَكْرٍ . [ ص 167 ]
[ قَتْلُ الزّبَيْرِ عُبَيْدَةَ بِحَرْبَتِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْحَرْبَةِ ]
وَلَقِيَ
الزّبَيْرُ عُبَيْدَةَ بْنَ سَعِيدٍ بْنِ الْعَاصِ ، وَهُوَ مُدَجّجٌ فِي
السّلَاحِ لَا يُرَى مِنْهُ إلّا الْحَدَقُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ الزّبَيْرُ
بِحَرْبَتِهِ فَطَعَنَهُ فِي عَيْنِهِ فَمَاتَ فَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى
الْحَرْبَةِ ثُمّ تَمَطّى ، فَكَانَ الْجَهْدُ أَنْ نَزَعَهَا ، وَقَدْ
انْثَنَى طَرَفَاهَا ، قَالَ عُرْوَةُ فَسَأَلَهُ إيّاهَا رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعْطَاهُ إيّاهَا ، فَلَمّا قُبِضَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَهَا ، ثُمّ
طَلَبَهَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَاهُ إيّاهَا ، فَلَمّا قُبِضَ أَبُو
بَكْرٍ سَأَلَهُ إيّاهَا عُمَرُ فَأَعْطَاهُ إيّاهَا ، فَلَمّا قُبِضَ
عُمَرُ أَخَذَهَا ، ثُمّ طَلَبَهَا عُثْمَانُ فَأَعْطَاهُ إيّاهَا ،
فَلَمّا قُبِضَ عُثْمَانُ وَقَعَتْ عِنْدَ آلِ عَلِيّ فَطَلَبَهَا عَبْدُ
اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتّى قُتِلَ .
[ فَقْءُ عَيْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ ]
وَقَالَ
رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ : رُمِيتُ بِسَهْمٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَفُقِئَتْ
عَيْنِي ، فَبَصَقَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَدَعَا لِي ، فَمَا آذَانِي مِنْهَا شَيْءٌ
[ وُقُوفُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْقَتْلَى ]
وَلَمّا
انْقَضَتْ الْحَرْبُ أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حَتّى وَقَفَ عَلَى الْقَتْلَى فَقَالَ [ ص 168 ] بِئْسَ
عَشِيرَةُ النّبِيّ كُنْتُمْ لِنَبِيّكُمْ ، كَذّبْتُمُونِي ، وَصَدّقَنِي
النّاسُ وَخَذَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النّاسُ وَأَخْرَجْتُمُونِي
وَآوَانِي النّاسُ ثُمّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا إلَى قَلِيبٍ مِنْ
قُلُبِ بَدْرٍ ، فَطُرِحُوا فِيهِ ثُمّ وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ يَا
عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَيَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَيَا فُلَانُ
وَيَا فُلَانُ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبّكُمْ حَقّا ، فَإِنّي
وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ :
يَا رَسُولَ اللّهِ مَا تُخَاطِبُ مِنْ أَقْوَامٍ قَدْ جَيّفُوا ؟ فَقَالَ
وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ
مِنْهُمْ وَلَكِنّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْجَوَابَ ثُمّ أَقَامَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثًا ،
وَكَانَ إذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِعَرْصَتِهِمْ ثَلَاثًا
[ رُجُوعُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ بَدْرٍ ]
ثُمّ
ارْتَحَلَ مُؤَيّدًا مَنْصُورًا ، قَرِيرَ الْعَيْنِ بِنَصْرِ اللّهِ لَهُ
وَمَعَهُ الْأُسَارَى وَالْمَغَانِمُ فَلَمّا كَانَ بِالصّفْرَاءِ ،
قَسَمَ الْغَنَائِمَ وَضَرَبَ عُنُقَ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
كَلَدَةَ ، ثُمّ لَمّا نَزَلَ بِعِرْقِ الظّبْيَةِ ، ضَرَبَ عُنُقَ
عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ . وَدَخَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ مُؤَيّدًا مُظَفّرًا مَنْصُورًا قَدْ خَافَهُ كُلّ
عَدُوّ لَهُ الْمَدِينَةَ وَحَوْلَهَا ، فَأَسْلَمَ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَحِينَئِذٍ دَخَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ
الْمُنَافِقُ وَأَصْحَابُهُ فِي الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا .
[ جُمْلَةُ مَنْ حَضَرَ بَدْرًا ]
وَجُمْلَةُ
مَنْ حَضَرَ بَدْرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ
عَشَرَ رَجُلًا ، مِنْ الْمُهَاجِرِينَ سِتّةٌ وَثَمَانُونَ وَمِنْ
الْأَوْسِ أَحَدٌ وَسِتّونَ وَمِنْ الْخَزْرَجِ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ
وَإِنّمَا قَلّ عَدَدُ الْأَوْسِ عَنْ الْخَزْرَجِ ، وَإِنْ كَانُوا
أَشَدّ مِنْهُمْ وَأَقْوَى شَوْكَةً وَأَصْبَرَ عِنْدَ اللّقَاءِ لِأَنّ
مَنَازِلَهُمْ كَانَتْ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ ، وَجَاءَ النّفِيرُ [ ص
169 ] وَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَتْبَعُنَا
إلّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَاسْتَأْذَنَهُ رِجَالٌ ظُهُورُهُمْ
فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ أَنْ يَسْتَأْنِيَ بِهِمْ حَتّى يَذْهَبُوا إلَى
ظُهُورِهِمْ فَأَبَى وَلَمْ يَكُنْ عَزْمُهُمْ عَلَى اللّقَاءِ وَلَا
أَعَدّوا لَهُ عُدّتَهُ وَلَا تَأَهّبُوا لَهُ أُهْبَتَهُ وَلَكِنْ جَمَعَ
اللّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ .
[ شُهَدَاءُ الْمُسْلِمِينَ ]
وَاسْتُشْهِدَ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا : سِتّةٌ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ وَسِتّةٌ مِنْ الْخَزْرَجِ ، وَاثْنَانِ مِنْ الْأَوْسِ ،
وَفَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ شَأْنِ
بَدْر ٍ وَالْأُسَارَى فِي شَوّالٍ .
فَصْلٌ [ غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ ]
ثُمّ
نَهَضَ بِنَفْسِهِ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ
فَرَاغِهِ بِسَبْعَةِ أَيّامٍ إلَى غَزْوِ بَنِي سُلَيْمٍ ، وَاسْتَعْمَلَ
عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عَرْفَطَةَ ، وَقِيلَ ابْنَ أُمّ
مَكْتُومٍ ، فَبَلَغَ مَاءً يُقَالُ لَهُ الْكُدْرُ ، فَأَقَامَ عَلَيْهِ
ثَلَاثًا ، ثُمّ انْصَرَفَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا .
فَصْلٌ [ غَزْوَةُ السّوِيقِ ]
وَلَمّا
رَجَعَ فَلّ الْمُشْرِكِينَ إلَى مَكّةَ مَوْتُورِينَ مَحْزُونِينَ نَذَرَ
أَبُو سُفْيَانَ أَنْ لَا يَمَسّ رَأْسَهُ مَاءٌ حَتّى يَغْزُوَ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ
حَتّى أَتَى الْعَرِيضَ فِي طَرَفِ الْمَدِينَةِ ، وَبَاتَ لَيْلَةً
وَاحِدَةً عِنْدَ سِلَامِ بْنِ مِشْكَمٍ الْيَهُودِيّ فَسَقَاهُ الْخَمْرَ
وَبَطَنَ لَهُ مِنْ خَبَرِ النّاسِ فَلَمّا أَصْبَحَ قَطَعَ أَصْوَارًا
مِنْ النّخْلِ [ ص 170 ] الْأَنْصَارِ وَحَلِيفًا لَهُ ثُمّ كَرّ رَاجِعًا
، وَنَذِرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَخَرَجَ
فِي طَلَبِهِ فَبَلَغَ قَرْقَرَةَ الْكُدْرِ ، وَفَاتَهُ أَبُو سُفْيَانَ
وَطَرَحَ الْكُفّارُ سَوِيقًا كَثِيرًا مِنْ أَزْوَادِهِمْ يَتَخَفّفُونَ
بِهِ فَأَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ فَسُمّيَتْ غَزْوَةَ السّوِيقِ ، وَكَانَ
ذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ . فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيّةَ ذِي الْحِجّةِ ثُمّ
غَزَا نَجْدًا يُرِيدُ غَطَفَانَ ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ
عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَأَقَامَ هُنَاكَ صَفَرًا
كُلّهُ مِنْ السّنَةِ الثّالِثَةِ ثُمّ انْصَرَفَ وَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا .
فَصْلٌ [ غَزْوَةُ الْفُرْعِ ]
فَأَقَامَ
بِالْمَدِينَةِ رَبِيعًا الْأَوّلَ ثُمّ خَرَجَ يُرِيدُ قُرَيْشًا ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ ، فَبَلَغَ
بَحْرَانَ مَعْدِنًا بِالْحِجَاز ِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرْعِ ، وَلَمْ
يَلْقَ حَرْبًا ، فَأَقَامَ هُنَالِكَ رَبِيعًا الْآخَرَ وَجُمَادَى
الْأُولَى ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى الْمَدِينَةِ .
فَصْلٌ [ غَزْوَةُ بَنِي قَيْنُقَاعَ ]
ثُمّ
غَزَا بَنِي قَيْنُقَاعَ ، وَكَانُوا مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ ،
فَنَقَضُوا عَهْدَهُ فَحَاصَرَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ لَيْلَةً حَتّى
نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَشَفَعَ فِيهِمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ،
وَأَلَحّ عَلَيْهِ فَأَطْلَقَهُمْ لَهُ وَهُمْ قَوْمُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
سَلَامٍ ، وَكَانُوا سَبْعَمِائَةِ مُقَاتِلٍ وَكَانُوا صَاغَةً
وَتُجّارًا .
فَصْلٌ فِي قَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ
[ ص 171
] وَكَانَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ وَأُمّهُ مِنْ بَنِي النّضِير ِ
وَكَانَ شَدِيدَ الْأَذَى لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَكَانَ يُشَبّبُ فِي أَشْعَارِهِ بِنِسَاءِ الصّحَابَةِ فَلَمّا
كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ ذَهَبَ إلَى مَكّةَ وَجَعَلَ يُؤَلّبُ عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ
ثُمّ رَجَعَ الى الْمَدِينَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَف ِ
فَإِنّهُ قَدْ آذَى اللّهَ وَرَسُولَهُ " فَانْتُدِبَ لَهُ مُحَمّدُ بْنُ
مَسْلَمَةَ وَعَبّادُ بْنُ بِشْر ٍ وَأَبُو نَائِلَةَ وَاسْمُهُ سلكان
بْنُ سَلَامَةَ وَهُوَ أَخُو كَعْبٍ مِنْ الرّضَاعِ وَالْحَارِثُ بْنُ
أَوْسٍ وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْر ٍ وَأَذِنَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَقُولُوا مَا شَاءُوا مِنْ كَلَامٍ
يَخْدَعُونَهُ بَهْ فَذَهَبُوا إلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ
وَشَيّعَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَقِيعِ
الْغَرْقَدِ فَلَمّا انْتَهَوْا إلَيْهِ قَدّمُوا سلكان بْنَ سَلَامَةَ
إلَيْهِ فَأَظْهَرَ لَهُ مُوَافَقَتَهُ عَلَى الِانْحِرَافِ عَنْ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَشَكَا إلَيْهِ ضِيقَ حَالِهِ
فَكَلّمَهُ فِي أَنْ يَبِيعَهُ وَأَصْحَابَهُ طَعَامًا وَيَرْهَنُونَهُ
سِلَاحَهُمْ فَأَجَابَهُمْ إلَى ذَلِكَ . وَرَجَعَ سلكان إلَى أَصْحَابِهِ
فَأَخْبَرَهُمْ فَأَتَوْهُ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ مِنْ حِصْنِهِ فَتَمَاشَوْا
فَوَضَعُوا عَلَيْهِ سُيُوفَهُمْ وَوَضَعَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ
مِغْوَلًا كَانَ مَعَهُ فِي ثِنَتِهِ فَقَتَلَهُ وَصَاحَ عَدُوّ اللّهِ
صَيْحَةً شَدِيدَةً أَفْزَعَتْ مَنْ حَوْلَهُ . وَأَوْقَدُوا النّيرَانَ
وَجَاءَ الْوَفْدُ حَتّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي وَجُرِحَ
الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ بِبَعْضِ سُيُوفِ أَصْحَابِهِ فَتَفَلَ عَلَيْهِ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَرِئَ فَأَذِنَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَتْلِ مَنْ وَجَدَ مِنْ
الْيَهُودِ لِنَقْضِهِمْ عَهْدَهُ وَمُحَارَبَتِهِمْ اللّهَ وَرَسُولَهُ [
ص 172 ]
فَصْلٌ فِي [ غَزْوَةِ أُحُدٍ ]
[ مَشُورَتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ فِي الْخُرُوجِ ]
وَلَمّا
قَتَلَ اللّهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ بِبَدْر وَأُصِيبُوا بِمُصِيبَةٍ لَمْ
يُصَابُوا بِمِثْلِهَا وَرَأَسَ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ
لِذَهَابِ أَكَابِرِهِمْ وَجَاءَ كَمَا ذَكَرْنَا إلَى أَطْرَافِ
الْمَدِينَةِ فِي غَزْوَةِ السّوِيقُ وَلَمْ يَنَلْ مَا فِي نَفْسِهِ
أَخَذَ يُؤَلّبُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَجْمَعُ الْجُمُوعَ فَجَمَعَ قَرِيبًا مِنْ
ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْحُلَفَاءِ وَالْأَحَابِيشِ وَجَاءُوا
بِنِسَائِهِمْ لِئَلّا يَفِرّوا وَلِيُحَامُوا عَنْهُنّ ثُمّ أَقْبَلَ
بِهِمْ نَحْوَ الْمَدِينَةِ . فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ
بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ عَيْنَيْنُ وَذَلِكَ فِي [ ص 173 ] وَاسْتَشَارَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ أَيَخْرُجُ
إلَيْهِمْ أَمْ يَمْكُثُ فِي الْمَدِينَةِ ؟ وَكَانَ رَأْيُهُ أَلّا
يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ وَأَنْ يَتَحَصّنُوا بِهَا فَإِنْ
دَخَلُوهَا قَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَفْوَاهِ الْأَزِقّةِ
وَالنّسَاءُ مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا الرّأْيِ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ وَكَانَ هُوَ الرّأْيَ فَبَادَرَ جَمَاعَةٌ
مِنْ فُضَلَاءِ الصّحَابَةِ مِمّنْ فَاتَهُ الْخُرُوجُ يَوْمَ بَدْرٍ
وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ وَأَلَحّوا عَلَيْهِ فِي ذَلِك
وَأَشَارَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ بِالْمُقَامِ فِي الْمَدِينَةِ
وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ الصّحَابَةِ فَأَلَحّ أُولَئِكَ عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَهَضَ وَدَخَلَ
بَيْتَهُ وَلَبِسَ لَامَتَهُ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ انْثَنَى عَزْمُ
أُولَئِكَ وَقَالُوا : أَكْرَهَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلَى الْخُرُوجِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ أَحْبَبْتَ
أَنْ تَمْكُثَ فِي الْمَدِينَةِ فَافْعَلْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا يَنْبَغِي لِنَبِيّ إذَا لَبِسَ لَامَتَهُ
أَنْ يَضَعَهَا حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوّهِ
[ رُؤْيَاهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
فَخَرَجَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَلْفٍ مِنْ
الصّحَابَةِ وَاسْتَعْمَلَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ عَلَى الصّلَاةِ بِمَنْ
بَقِيَ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ رَأَى رُؤْيَا وَهُوَ
بِالْمَدِينَةِ رَأَى أَنّ فِي سَيْفِهِ ثَلْمَةً وَرَأَى أَنّ بَقَرًا
تُذْبَحُ وَأَنّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَتَأَوّلَ
الثّلْمَةَ فِي سَيْفِهِ بِرَجُلٍ يُصَابُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ
وَتَأَوّلَ الْبَقَرَ بِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقْتَلُونَ وَتَأَوّلَ
الدّرْعَ بِالْمَدِينَةِ .
[ انْخِزَالُ بْنُ أُبَيّ بِنَحْوِ ثُلُثِ الْعَسْكَرِ ]
فَخَرَجَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلَمّا صَارَ بِالشّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ
وَأُحُدٍ انْخَزَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ بِنَحْوِ ثُلُثِ
الْعَسْكَرِ وَقَالَ تُخَالِفُنِي وَتَسْمَعُ مِنْ غَيْرِي فَتَبِعَهُمْ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَالِدُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ يُوَبّخُهُمْ وَيَحُضّهُمْ عَلَى الْعَسْكَرِ الرّجُوعَ وَيَقُولُ
تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ ادْفَعُوا . قَالُوا : لَوْ
نَعْلَمُ أَنّكُمْ [ ص 174 ] وَسَبّهُمْ وَسَأَلَهُ قَوْمٌ مِنْ
الْأَنْصَارِ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِحُلَفَائِهِمْ مِنْ يَهُودَ فَأَبَى
وَسَلَكَ حَرّةَ بَنِي حَارِثَةَ وَقَالَ مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا
عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كُثُبٍ ؟ فَخَرَجَ بِهِ بَعْضُ الْأَنْصَارِ حَتّى
سَلَكَ فِي حَائِطٍ لِبَعْضِ الْمُنَافِقِينَ وَكَانَ أَعْمَى فَقَامَ
يَحْثُو التّرَابَ فِي وُجُوهِ الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُ لَا أُحِلّ لَكَ
أَنْ تَدْخُلَ فِي حَائِطِي إنْ كُنْتَ رَسُولَ اللّه فَابْتَدَرَهُ
الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ فَقَالَ لَا تَقْتُلُوهُ فَهَذَا أَعْمَى
الْقَلْبِ أَعْمَى الْبَصَرِ وَنَفَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ الشّعْبَ مِنْ أُحُدٍ فِي عُدْوَةِ
الْوَادِي وَجَعَلَ ظَهْرَهُ إلَى أُحُدٍ وَنَهَى النّاسَ عَنْ الْقِتَالِ
حَتّى يَأْمُرَهُمْ فَلَمّا أَصْبَحَ يَوْمَ السّبْتِ تَعَبّى لِلْقِتَالِ
وَهُوَ فِي سَبْعِمِائَةٍ فِيهِمْ خَمْسُونَ فَارِسًا وَاسْتَعْمَلَ عَلَى
الرّمَاةِ - وَكَانُوا خَمْسِينَ - عَبْدَ اللّهِ بْنَ جُبَيْرٍ
وَأَمَرَهُ وَأَصْحَابَهُ أَنْ يَلْزَمُوا مَرْكَزَهُمْ وَأَلّا
يُفَارِقُوهُ وَلَوْ رَأَى الطّيْرَ تَتَخَطّفُ الْعَسْكَرَ وَكَانُوا
خَلْفَ الْجَيْشِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْضَحُوا الْمُشْرِكِينَ بِالنّبْلِ
لِئَلّا يَأْتُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ .
[ مُشَارَكَةُ الشّبَابِ ]
فَظَاهَرَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ
يَوْمَئِذٍ وَأَعْطَى اللّوَاءَ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ وَجَعَلَ عَلَى
إحْدَى الْمَجْنَبَتَيْنِ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ وَعَلَى الْأُخْرَى
الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو وَاسْتَعْرَضَ الشّبَابَ يَوْمَئِذٍ فَرَدّ مَنْ
اسْتَصْغَرَهُ عَنْ الْقِتَالِ وَكَانَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
عُمَرَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأُسَيْدُ بْنُ ظَهِيرٍ وَالْبَرَاءُ
بْنُ عَازِبٍ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ [ ص 175 ] وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ
وَعَرَابَةُ بْنُ أَوْسٍ وَعَمْرُو بْنُ حَزْمٍ وَأَجَازَ مَنْ رَآهُ
مُطِيقًا وَكَانَ مِنْهُمْ سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ
وَلَهُمَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً . فَقِيلَ أَجَازَ مَنْ أَجَازَ
لِبُلُوغِهِ بِالسّنّ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَرَدّ مَنْ رَدّ لِصِغَرِهِ
عَنْ سِنّ الْبُلُوغِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنّمَا أَجَازَ مَنْ أَجَازَ
لِإِطَاقَتِهِ وَرَدّ مَنْ رَدّ لِعَدَمِ إطَاقَتِهِ وَلَا تَأْثِيرَ
لِلْبُلُوغِ وَعَدَمِهِ فِي ذَلِكَ قَالُوا : وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ
حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فَلَمّا رَآنِي مُطِيقًا أَجَازَنِي وَتَعِبَتْ
قُرَيْشٌ لِلْقِتَالِ وَهُمْ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَفِيهِمْ مِائَتَا
فَارِسٍ فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَلَى
الْمَيْسَرَةِ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَيْفَهُ إلَى أَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ
بْنِ خَرَشَة َ وَكَانَ شُجَاعًا بَطَلًا يَخْتَالُ عِنْدَ الْحَرْبِ .
[ خَبَرُ أَبِي عَامِرٍ الْفَاسِقِ ]
وَكَانَ
أَوّلَ مَنْ بَدَرَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ
وَاسْمُهُ عَبْدُ عَمْرِو بْنِ صَيْفِيّ وَكَانَ يُسَمّى : الرّاهِبَ
فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْفَاسِقَ
وَكَانَ رَأْسَ الْأَوْسِ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَمّا جَاءَ الْإِسْلَامُ
شَرّقَ بِهِ وَجَاهَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِالْعَدَاوَةِ فَخَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَذَهَبَ إلَى قُرَيْشٍ
يُؤَلّبُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَيَحُضّهُمْ عَلَى قِتَالِهِ وَوَعَدَهُمْ بِأَنّ قَوْمَهُ إذَا رَأَوْهُ
أَطَاعُوهُ وَمَالُوا مَعَهُ فَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيَ الْمُسْلِمِينَ
فَنَادَى قَوْمَهُ وَتَعَرّفَ إلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ لَا أَنْعَمَ
اللّهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ . فَقَالَ لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي
بَعْدِي شَرّ ثُمّ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالًا شَدِيدًا وَكَانَ
شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ أَمِتْ [ ص 176 ] وَأَبْلَى يَوْمَئِذٍ
أَبُو دُجَانَةَ الْأَنْصَارِيّ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ وَأَسَدُ
اللّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَعَلِيّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَسُ بْنُ النّضْرِ وَسَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ .
عِصْيَانُ الرّمَاةِ لِأَمْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَانْتِهَازُ
الْمُشْرِكِينَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ
[ مَا أُصِيبَ بِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم ]
وَكَانَتْ
الدّوْلَةُ أَوّلَ النّهَارِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفّار فَانْهَزَمَ
عَدُوّ اللّهِ وَوَلّوْا مُدْبِرِينَ حَتّى انْتَهَوْا إلَى نِسَائِهِمْ
فَلَمّا رَأَى الرّمَاةُ هَزِيمَتَهُمْ تَرَكُوا مَرْكَزَهُمْ الّذِي
أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِحِفْظِهِ
وَقَالُوا : يَا قَوْمُ الْغَنِيمَةُ فَذَكّرَهُمْ أَمِيرُهُمْ عَهْدَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يَسْمَعُوا
وَظَنّوا أَنْ لَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ رَجْعَةٌ فَذَهَبُوا فِي طَلَبِ
الْغَنِيمَةِ وَأَخْلَوْ الثّغْرَ وَكَرّ فُرْسَانُ الْمُشْرِكِينَ
فَوَجَدُوا الثّغْرَ خَالِيًا قَدْ خَلَا مِنْ الرّمَاةِ فَجَازُوا مِنْهُ
وَتَمَكّنُوا حَتّى أَقْبَلَ آخِرُهُمْ فَأَحَاطُوا بِالْمُسْلِمِينَ
فَأَكْرَمَ اللّهُ مَنْ أَكْرَمَ مِنْهُمْ بِالشّهَادَةِ وَهُمْ سَبْعُونَ
وَتَوَلّى الصّحَابَةُ وَخَلَصَ الْمُشْرِكُونَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَرَحُوا وَجْهَهُ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ
الْيُمْنَى وَكَادَتْ السّفْلَى وَهَشّمُوا الْبَيْضَةَ عَلَى رَأْسِهِ
وَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى وَقَعَ لِشِقّهِ وَسَقَطَ فِي حُفْرَةٍ
مِنْ الْحُفَرِ الّتِي كَانَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ يَكِيدُ بِهَا
الْمُسْلِمِينَ فَأَخَذَ عَلِيّ بِيَدِهِ وَاحْتَضَنَهُ طَلْحَةُ بْنُ
عُبَيْدِ اللّهِ وَكَانَ الّذِي تَوَلّى أَذَاهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَمْرُو بْنُ قَمِئَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ وَقِيلَ
إنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ شِهَابٍ الزّهْرِيّ عَمّ مُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمِ
بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ هُوَ الّذِي شَجّهُ .
[ قَتْلُ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ ]
[ شَأْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ ]
وَقُتِلَ
مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فَدَفَعَ اللّوَاءَ إلَى عَلِيّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَنَشِبَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ حِلَقِ الْمِغْفَرِ فِي
وَجْهِهِ فَانْتَزَعَهُمَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ [ ص 177 ]
وَعَضّ عَلَيْهِمَا حَتّى سَقَطَتْ ثِنْيَتَاهُ مِنْ شِدّةِ غَوْصِهِمَا
فِي وَجْهِهِ وَامْتَصّ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ وَالِدُ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيّ الدّمَ مِنْ وَجْنَتِهِ وَأَدْرَكَهُ الْمُشْرِكُونَ
يُرِيدُونَ مَا اللّهُ حَائِلٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَحَالَ دُونَهُ
نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ نَحْوُ عَشْرَةٍ حَتّى قُتِلُوا ثُمّ
جَالَدَهُمْ طَلْحَةُ حَتّى أَجْهَضَهُمْ عَنْهُ وَتَرّسَ أَبُو دُجَانَةَ
عَلَيْهِ بِظَهْرِهِ وَالنّبْلُ يَقَعُ فِيهِ وَهُوَ لَا يَتَحَرّكُ
وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ النّعْمَانِ فَأَتَى بِهَا
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَدّهَا عَلَيْهِ
بِيَدِهِ وَكَانَتْ أَصَحّ عَيْنَيْهِ وَأَحْسَنَهُمَا وَصَرَخَ
الشّيْطَانُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ وَوَقَعَ
ذَلِكَ فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفَرّ أَكْثَرُهُمْ
وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا .
[ ُقَتْل أَنَسِ بْنِ النّضْرِ ]
[ وَجَرْحُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ]
وَمَرّ
أَنَسُ بْنُ النّضْر ِ بِقَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَلْقَوْا
بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ مَا تَنْتَظِرُونَ ؟ فَقَالُوا : قُتِلَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَا تَصْنَعُونَ فِي
الْحَيَاةِ بَعْدَهُ ؟ قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ ثُمّ
اسْتَقْبَلَ النّاسَ وَلَقِيَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ يَا سَعْدُ
إنّي لَأَجِدُ رِيحَ الْجَنّةِ مِنْ دُونِ أُحُدٍ فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ
وَوُجِدَ بِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ الرّحْمَنِ
بْنُ عَوْفٍ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ جِرَاحَةً [ ص 178 ]
[ قَتْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُبَيّ بْنَ خَلَفٍ ]
وَأَقْبَلَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْوَ الْمُسْلِمِينَ
وَكَانَ أَوّلُ مَنْ عَرَفَهُ تَحْتَ الْمِغْفَرِ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ
فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَبْشِرُوا هَذَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ
اُسْكُتْ وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَنَهَضُوا مَعَهُ إلَى
الشّعْبِ الّذِي نَزَلَ فِيهِ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيّ
وَالْحَارِثُ بْنُ الصّمّةِ الْأَنْصَارِيّ وَغَيْرُهُمْ فَلَمّا
اسْتَنَدُوا إلَى الْجَبَلِ أَدْرَكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُبَيّ بْنَ خَلَفٍ عَلَى جَوَادٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ
الْعَوْذ زَعَمَ عَدُوّ اللّهِ أَنّهُ يَقْتُلُ عَلَيْهِ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا اقْتَرَبَ مِنْهُ تَنَاوَلَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَرْبَةَ مِنْ
الْحَارِثِ بْنِ الصّمّةِ فَطَعَنَهُ بِهَا فَجَاءَتْ فِي تَرْقُوَتِهِ
فَكَرّ عَدُوّ اللّهِ مُنْهَزِمًا فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ وَاَللّهِ
مَا بِك مِنْ بَأْسٍ فَقَالَ وَاَللّهِ لَوْ كَانَ مَا بِي بِأَهْلِ ذِي
الْمِجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعُونَ وَكَانَ يَعْلِفُ فَرَسَهُ بِمَكّةَ
وَيَقُولُ أَقْتُلُ عَلَيْهِ مُحَمّدًا فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ
اللّهُ تَعَالَى فَلَمّا طَعَنَهُ تَذَكّرَ عَدُوّ اللّهِ قَوْلَهُ أَنَا
قَاتِلُهُ فَأَيْقَنَ بِأَنّهُ مَقْتُولٌ مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ فَمَاتَ
مِنْهُ فِي طَرِيقِهِ بِسَرِفٍ مَرْجِعَهُ إلَى مَكّةَ . [ ص 179 ] عَلِيّ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَاءٍ لِيَشْرَبَ
مِنْهُ فَوَجَدَهُ آجِنًا فَرَدّهُ وَغَسَلَ عَنْ وَجْهِهِ الدّمَ وَصَبّ
عَلَى رَأْسِهِ . فَأَرَادَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنْ يَعْلُوَ صَخْرَةً هُنَالِكَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ لِمَا بِهِ
فَجَلَسَ طَلْحَةُ تَحْتَهُ حَتّى صَعِدَهَا وَحَانَتْ الصّلَاةُ فَصَلّى
بِهِمْ جَالِسًا وَصَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَحْتَ لِوَاءِ الْأَنْصَارِ .
[ حَنْظَلَةُ غَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ ]
وَشَدّ
حَنْظَلَةُ الْغَسِيلُ وَهُوَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ عَلَى أَبِي
سُفْيَانَ فَلَمّا تَمَكّنَ مِنْهُ حَمَلَ عَلَى حَنْظَلَةَ شَدّادُ بْنُ
الْأَسْوَدِ فَقَتَلَه وَكَانَ جُنُبًا فَإِنّهُ سَمِعَ الصّيْحَةَ وَهُوَ
عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ إلَى الْجِهَادِ فَأَخْبَرَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ أَنّ
الْمَلَائِكَةَ تُغَسّلُهُ ثُمّ قَالَ سَلُوا أَهْلَهُ ؟ مَا شَأْنُهُ ؟
فَسَأَلُوا امْرَأَتَهُ فَأَخْبَرَتْهُمْ الْخَبَر . وَجَعَلَ
الْفُقَهَاءُ هَذَا حُجّةً أَنّ الشّهِيدَ إذَا قُتِلَ جُنُبًا يُغَسّلُ
اقْتِدَاءً بِالْمَلَائِكَةِ .
[ أُمّ عِمَارَةَ ]
وَقَتَلَ
الْمُسْلِمُونَ حَامِلَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَرَفَعَتْهُ لَهُمْ
عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيّهُ حَتّى اجْتَمَعُوا إلَيْهِ
وَقَاتَلَتْ أُمّ عِمَارَةَ وَهِيَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ
الْمَازِنِيّةُ قِتَالًا شَدِيدًا وَضَرَبَتْ عَمْرَو بْنَ قَمِئَةَ
بِالسّيْفِ ضَرَبَاتٍ فَوَقَتْهُ دِرْعَانِ كَانَتَا عَلَيْهِ وَضَرَبَهَا
عمرو بِالسّيْفِ فَجَرَحَهَا جُرْحًا شَدِيدًا عَلَى عَاتِقِهَا .
[ شَهَادَةُ الْأُصَيْرِمِ مَعَ أَنّهُ لَمْ يُصَلّ صَلَاةً قَطّ ]
وَكَانَ
عَمْرُو بْنُ ثَابِتٍ الْمَعْرُوفُ بِالْأُصَيْرِمِ مِنْ بَنِي عَبْدِ
الْأَشْهَل ِ يَأْبَى الْإِسْلَامَ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُد ٍ قَذَفَ
اللّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِهِ لِلْحُسْنَى الّتِي سَبَقَتْ [ ص 180 ]
فَأَسْلَمَ وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَلَحِقَ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَقَاتَلَ فَأُثْبِتَ بِالْجِرَاحِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ
بِأَمْرِهِ فَلَمّا انْجَلَتْ الْحَرْبُ طَافَ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ
فِي الْقَتْلَى يَلْتَمِسُونَ قَتْلَاهُمْ فَوَجَدُوا الْأُصَيْرِمَ
وَبِهِ رَمَقٌ يَسِيرُ فَقَالُوا : وَاَللّهِ إنّ هَذَا الْأُصَيْرِمُ مَا
جَاءَ بِهِ لَقَدْ تَرَكْنَاهُ وَإِنّهُ لَمُنْكِرٌ لِهَذَا الْأَمْرِ
ثُمّ سَأَلُوهُ مَا الّذِي جَاءَ بِك ؟ أَحَدَبٌ عَلَى قَوْمِك أَمْ
رَغْبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ ؟ فَقَالَ بَلْ رَغْبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ
آمَنْتُ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ قَاتَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَصَابَنِي مَا تَرَوْنَ وَمَاتَ مِنْ
وَقْتِهِ فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنّة قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : وَلَمْ
يُصَلّ لِلّهِ صَلَاةً قَطّ .
[مُنَادَاةُ أَبِي سُفْيَانَ لِلْمُسْلِمِينَ ]
وَلَمّا
انْقَضَتْ الْحَرْبُ أَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى الْجَبَلِ فَنَادَى :
أَفِيكُمْ مُحَمّدٌ ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ فَقَالَ أَفِيكُمْ ابْنُ أَبِي
قُحَافَةَ ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ . فَقَالَ أَفِيكُمْ عُمَرُ بْنُ
الْخَطّابِ ؟ فَلَمْ يُجِيبُوهُ وَلَمْ يَسْأَلْ إلّا عَنْ هَؤُلَاءِ
الثّلَاثَةِ لِعِلْمِهِ وَعِلْمِ قَوْمِهِ أَنّ قِوَامَ الْإِسْلَامِ
بِهِمْ فَقَالَ أَمّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُمْ فَلَمْ يَمْلِكْ
عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ يَا عَدُوّ اللّهِ إنّ الّذِينَ ذَكَرْتهمْ
أَحْيَاءٌ وَقَدْ أَبْقَى اللّهُ لَكَ مَا يَسُوءُك فَقَالَ قَدْ كَانَ
فِي الْقَوْمِ مُثْلَةٌ لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي ثُمّ قَالَ
اُعْلُ هُبَلُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا
تُجِيبُونَهُ ؟ فَقَالُوا : مَا نُقُولُ ؟ قَالَ قُولُوا : اللّهُ أَعْلَى
وَأَجَلّ ثُمّ قَالَ لَنَا الْعُزّى وَلَا عُزّى لَكُمْ . قَالَ أَلَا
تُجِيبُونَهُ ؟ قَالُوا : مَا نَقُولُ ؟ قَالَ قُولُوا : اللّهُ
مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ [ ص 181 ] فَأَمَرَهُمْ بِجَوَابِهِ
عِنْدَ افْتِخَارِهِ بِآلِهَتِهِ وَبِشِرْكِهِ تَعْظِيمًا لِلتّوْحِيدِ
وَإِعْلَامًا بِعِزّةِ مَنْ عَبَدَهُ الْمُسْلِمُونَ وَقُوّةِ جَانِبِهِ
وَأَنّهُ لَا يُغْلَبُ وَنَحْنُ حِزْبُهُ وَجُنْدُهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ
بِإِجَابَتِهِ حِينَ قَالَ أَفِيكُمْ مُحَمّدٌ ؟ أَفِيكُمْ ابْنُ أَبِي
قُحَافَةَ ؟ أَفِيكُمْ عُمَرُ ؟ بَلْ قَدْ رُوِيَ أَنّهُ نَهَاهُمْ عَنْ
إجَابَتِهِ وَقَالَ لَا تُجِيبُوهُ لِأَنّ كَلْمَهُمْ لَمْ يَكُنْ بَرَدَ
بَعْدُ فِي طَلَبِ الْقَوْمِ وَنَارُ غَيْظِهِمْ بَعْدُ مُتَوَقّدَةٌ
فَلَمّا قَالَ لِأَصْحَابِهِ أَمّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُمْ
حَمِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ وَاشْتَدّ غَضَبُهُ وَقَالَ كَذَبْت يَا
عَدُوّ اللّهِ فَكَانَ فِي هَذَا الْإِعْلَامُ مِنْ الْإِذْلَالِ
وَالشّجَاعَةِ وَعَدَمِ الْجُبْنِ وَالتّعَرّفِ إلَى الْعَدُوّ فِي تِلْكَ
الْحَالِ مَا يُؤْذِنُهُمْ بِقُوّةِ الْقَوْمِ وَبَسَالَتِهِمْ وَأَنّهُمْ
لَمْ يَهِنُوا وَلَمْ يَضْعُفُوا وَأَنّهُ وَقَوْمُهُ جَدِيرُونَ بِعَدَمِ
الْخَوْفِ مِنْهُمْ وَقَدْ أَبْقَى اللّهُ لَهُمْ مَا يَسُوءُهُمْ
مِنْهُمْ وَكَانَ فِي الْإِعْلَامِ بِبَقَاءِ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَةِ
وَهْلَةٌ بَعْدَ ظَنّهِ وَظَنّ قَوْمِهِ أَنّهُمْ قَدْ أُصِيبُوا مِنْ
الْمَصْلَحَةِ وَغَيْظِ الْعَدُوّ وَحِزْبِهِ وَالْفَتّ فِي عَضُدِهِ مَا
لَيْسَ فِي جَوَابِهِ حِينَ سَأَلَ عَنْهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا فَكَانَ
سُؤَالُهُ عَنْهُمْ وَنَعْيُهُمْ لِقَوْمِهِ آخِرَ سِهَامِ الْعَدُوّ
وَكَيْدِهِ فَصَبَرَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى
اسْتَوْفَى كَيْدَهُ ثُمّ اُنْتُدِبَ لَهُ عُمَرُ فَرَدّ سِهَامَ كَيْدِهِ
عَلَيْهِ وَكَانَ تَرْكُ الْجَوَابِ أَوّلًا عَلَيْهِ أَحْسَنَ وَذِكْرُهُ
ثَانِيًا أَحْسَنُ وَأَيْضًا فَإِنّ فِي تَرْكِ إجَابَتِهِ حِينَ سَأَلَ
عَنْهُمْ إهَانَةً لَهُ وَتَصْغِيرًا لِشَأْنِهِ فَلَمّا مَنّتْهُ
نَفْسُهُ مَوْتَهُمْ وَظَنّ أَنّهُمْ قَدْ قُتِلُوا وَحَصَلَ لَهُ
بِذَلِكَ مِنْ الْكِبْرِ وَالْأَشَرِ مَا حَصَلَ كَانَ فِي جَوَابِهِ
إهَانَةٌ لَهُ وَتَحْقِيرٌ وَإِذْلَالٌ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مُخَالِفًا
لِقَوْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تُجِيبُوهُ
فَإِنّهُ إنّمَا نَهَى عَنْ إجَابَتِهِ حِينَ سَأَلَ أَفِيكُمْ مُحَمّد ؟
أَفِيكُمْ فُلَانٌ ؟ أَفِيكُمْ فُلَانٌ ؟ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ إجَابَتِهِ
حِينَ قَالَ أَمّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا وَبِكُلّ حَالٍ فَلَا
أَحْسَنَ مِنْ تَرْكِ إجَابَتِهِ أَوّلًا وَلَا أَحْسَنَ مِنْ إجَابَتِهِ
ثَانِيًا . ثُمّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ
وَالْحَرْبُ سِجَالٌ فَأَجَابَهُ عُمَرُ فَقَالَ لَا سَوَاءٌ قَتْلَانَا
فِي الْجَنّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النّار [ ص 182 ]
[ نَصْرُ اللّهِ رَسُولَهُ يَوْمَ أُحُدٍ ]
وَقَالَ
ابْنُ عَبّاسٍ : مَا نُصِرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي مَوْطِنٍ نَصْرَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ
فَقَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ يُنْكِرُ كِتَابُ اللّهِ إنّ اللّهَ
يَقُولُ { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ } [ آل عِمْرَانَ 152 ] قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : وَالْحِسّ
الْقَتْلُ وَلَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَلِأَصْحَابِهِ أَوّلَ النّهَارِ حَتّى قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ
الْمُشْرِكِينَ سَبْعَةٌ أَوْ تِسْعَة وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
[ النّعَاسُ فِي أُحُدٍ ]
وَأَنْزَلَ
اللّهُ عَلَيْهِمْ النّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ فِي غَزَاةِ بَدْرٍ وَأُحُد
ٍ وَالنّعَاسُ فِي الْحَرْبِ وَعِنْدَ الْخَوْفِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْنِ
وَهُوَ مِنْ اللّهِ وَفِي الصّلَاةِ وَمَجَالِسِ الذّكْرِ وَالْعِلْمِ
مِنْ الشّيْطَانِ .
دِفَاعُ مَلَكَيْنِ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَقَاتَلَتْ
الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَفِي " الصّحِيحَيْن ِ " : عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ
قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ
أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلَانِ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ
كَأَشَدّ الْقِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ
دِفَاعُ سَبْعَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَفِي
" صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُفْرِدَ
يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ
فَلَمّا رَهِقُوهُ قَالَ مَنْ يَرُدّهُمْ عَنّا وَلَهُ الْجَنّةُ أَوْ
هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنّةِ فَتَقَدّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ
فَقَاتَلَ حَتَى قُتِلَ ثُمّ رَهِقُوهُ فَقَالَ مَنْ يَرُدّهُمْ عَنّا
وَلَهُ الْجَنّةُ أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنّةِ فَتَقَدّمَ رَجُلٌ
مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَى قُتِلَ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّى
قُتِلَ السّبْعَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا وَهَذَا يُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ بِسُكُونِ
[ ص 183 ] وَوَجْهُ النّصْبِ أَنّ الْأَنْصَارَ لَمّا خَرَجُوا
لِلْقِتَالِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ حَتّى قُتِلُوا وَلَمْ يَخْرُجْ
الْقُرَشِيّانِ قَالَ ذَلِكَ أَيْ مَا أَنْصَفَتْ قُرَيْشٌ الْأَنْصَارَ .
وَوَجْهُ الرّفْعِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَصْحَابِ الّذِينَ
فَرّوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى
أُفْرِدَ فِي النّفَرِ الْقَلِيلِ فَقُتِلُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ
فَلَمْ يُنْصِفُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ
ثَبَتَ مَعَهُ .
دِفَاعُ طَلْحَةَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَزْعُ أَبِي عُبَيْدَةَ
حَلْقَةَ الْمِغْفَرِ مِنْ جَبِينِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَفِي
" صَحِيحِ ابْنِ حِبّانَ " عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ
الصّدّيقُ : لَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْصَرَفَ النّاسُ كُلّهُمْ عَنْ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكُنْتُ أَوّلَ مَنْ فَاءَ إلَى
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَأَيْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ
رَجُلًا يُقَاتِلُ عَنْهُ وَيَحْمِيهِ قُلْتُ كُنْ طَلْحَةَ فِدَاكَ أَبِي
وَأُمّي كُنْ طَلْحَةَ فِدَاكَ أَبِي وَأُمّي . فَلَمْ أَنْشِبْ أَنْ
أَدْرَكَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ وَإِذَا هُوَ يَشْتَدّ
كَأَنّهُ طَيْرٌ حَتّى لَحِقَنِي فَدَفَعْنَا إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِذَا طَلْحَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَرِيعًا فَقَالَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دُونَكُمْ أَخَاكُمْ فَقَدْ أوجب
وقد رُمِيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي جَبِينِهِ
وَرُوِيَ فِي وَجْنَتِهِ حَتَى غَابَتْ حَلْقَةٌ مِنْ حَلَقِ الْمِغْفَرِ
فِي وَجْنَتِهِ فَذَهَبْتُ لِأَنْزِعَهَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ نَشَدْتُك بِاَللّهِ يَا
أَبَا بَكْرٍ إلّا تَرَكْتنِي ؟ قَالَ فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ السّهْمَ
بِفِيهِ فَجَعَلَ يُنَضْنِضُهُ كَرَاهَةَ أَنْ يُؤْذِيَ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ اسْتَلّ السّهْمَ بِفِيهِ فَنَدَرَتْ
ثَنِيّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ثُمّ ذَهَبْتُ لِآخُذَ
الْآخَرَ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ نَشَدْتُكَ بِاَللّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ
إلّا تَرَكْتِنِي ؟ قَالَ فَأَخَذَهُ فَجَعَلَ يُنَضْنِضُهُ حَتَى
اسْتَلّهُ فَنَدَرَتْ ثَنِيّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ الْأُخْرَى ثُمّ قَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دُونَكُمْ أَخَاكُمْ
فَقَدْ أَوْجَبَ قَالَ فَأَقْبَلْنَا عَلَى طَلْحَةَ نُعَالِجُهُ وَقَدْ
أَصَابَتْهُ بِضْعَةَ عَشَرَ ضَرْبَةً [ ص 184 ]
[ سَهْمٌ سَعْدٍ ]
وَفِي
" مَغَازِي الْأُمَوِيّ " : أَنّ الْمُشْرِكِينَ صَعِدُوا عَلَى الْجَبَلِ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسَعْدٍ "
اُجْنُبْهُمْ " يَقُولُ اُرْدُدْهُمْ . فَقَالَ كَيْفَ أَجْنُبُهُمْ
وَحْدِي ؟ فَقَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا فَأَخَذَ سَعْدٌ سَهْمًا مِنْ
كِنَانَتِهِ فَرَمَى بِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ قَالَ ثُمّ أَخَذْتُ سَهْمِي
أَعْرِفُهُ فَرَمَيْتُ بِهِ آخَرَ فَقَتَلْته ثُمّ أَخَذْتُهُ أَعْرِفُهُ
فَرَمَيْتُ بِهِ آخَرَ فَقَتَلْته فَهَبَطُوا مِنْ مَكَانِهِمْ فَقُلْتُ
هَذَا سَهْمٌ مُبَارَكٌ فَجَعَلْته فِي كِنَانَتِي فَكَانَ عِنْدَ سَعْدٍ
حَتّى مَاتَ ثُمّ كَانَ عِنْدَ بَنِيهِ .
[ غَسْلُ عَلِيّ وَفَاطِمَةَ جُرْحَ النّبِيّ ]
صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي حَازِمٍ
أَنّهُ سُئِلَ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ كَانَ يَسْكُبُ الْمَاءَ
وَبِمَا دُووِيَ كَانَتْ فَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَغْسِلُهُ وَعَلِيّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ الْمَاءَ بِالْمِجَنّ فَلَمّا رَأَتْ فَاطِمَةُ
أَنّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدّمَ إلّا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ
حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا فَأَلْصَقَتْهَا فَاسْتَمْسَكَ الدّمُ
نُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ }
وَفِي
" الصّحِيحِ " : أَنّهُ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجّ فِي رَأْسِهِ
فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجّوا
وَجْهَ نَبِيّهِمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُم فَأَنْزَلَ
اللّهُ عَزّ وَجَلّ { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنّهُمْ ظَالِمُونَ } [ آل عِمْرَانَ 128
] .
[ عَدَمُ انْهِزَامِ أَنَسِ بْنِ النّضْرِ عِنْدَمَا انْهَزَمَ النّاس ُ ]
وَلَمّا
انْهَزَمَ النّاسُ لَمْ يَنْهَزِمْ أَنَسُ بْنُ النّضْرِ . وَقَالَ
اللّهُمّ إنّي أَعْتَذِرُ إلَيْكَ مِمّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي
الْمُسْلِمِينَ وَأَبْرَأُ إلَيْكَ مِمّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ يَعْنِي
الْمُشْرِكِينَ ثُمّ تَقَدّمَ فَلَقِيَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ
أَيْنَ يَا أَبَا عُمَرَ ؟ فَقَالَ أَنَسٌ وَاهَا لِرِيحِ الْجَنّةِ يَا
سَعْدُ إنّي أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ ثُمّ مَضَى فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتّى
قُتِلَ فَمَا عُرِفَ حَتّى عَرَفَتْهُ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ وَبِهِ بِضْعٌ
وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ
وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ [ ص 185 ] وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ أَوّلَ
النّهَارِ كَمَا تَقَدّمَ فَصَرَخَ فِيهِمْ إبْلِيسُ أَيْ عِبَادَ اللّهِ
أَخْزَاكُمْ اللّهُ فَارْجِعُوا مِنْ الْهَزِيمَةِ فَاجْتَلِدُوا .
[ قَتْلُ الْمُسْلِمِينَ وَالِدَ حُذَيْفَةَ وَهُمْ يَظُنّونَهُ مُشْرِكًا ]
وَنَظَرَ
حُذَيْفَةُ إلَى أَبِيهِ وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ وَهُمْ
يَظُنّونَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ أَيْ عِبَادَ اللّهِ أَبِي
فَلَمْ يَفْهَمُوا قَوْلَهُ حَتّى قَتَلُوهُ فَقَالَ يَغْفِرُ اللّهُ
لَكُمْ فَأَرَادَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ
يَدِيَهُ فَقَالَ قَدْ تَصَدّقْتُ بِدِيَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
فَزَادَ ذَلِكَ حُذَيْفَةَ خَيْرًا عِنْدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّم
[ إقْرَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّلَامَ لِسَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ وَهُوَ بَيْنَ الْقَتْلَى ]
وَقَالَ
زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَوْمَ أُحُدٍ أَطْلُبُ سَعْدَ بْنَ الرّبِيعِ فَقَالَ لِي : إنْ
رَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنّي السّلَامَ وَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ قَالَ
فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى فَأَتَيْته وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ
وَفِيهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ
بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ فَقُلْت : يَا سَعْدُ إنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السّلَامَ وَيَقُولُ
لَك : أَخْبِرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَقَالَ وَعَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّلَامُ قُلْ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ
أَجِدُ رِيحَ الْجَنّةِ وَقُلْ لِقَوْمِيَ الْأَنْصَارِ : لَا عُذْرَ
لَكُمْ عِنْدَ اللّهِ إنْ خُلِصَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ وَفَاضَتْ نَفْسُهُ مِنْ
وَقْتِه [ ص 186 ]
[ نُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا مُحَمّدٌ إِلّا رَسُولٌ } ]
وَمَرّ
رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُوَ
يَتَشَحّطُ فِي دَمِهِ فَقَالَ يَا فُلَانُ أَشَعَرْت أَنّ مُحَمّدًا قَدْ
قُتِلَ ؟ فَقَالَ الْأَنْصَارِيّ إنْ كَانَ مُحَمّدٌ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ
بَلّغَ فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ فَنَزَلَ { وَمَا مُحَمّدٌ إِلّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ } الْآيَةُ [ آل عِمْرَانَ
142 ]
[ تَعْبِيرُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُؤْيَا وَالِدِ جَابِرٍ بِالشّهَادَةِ ]
وَقَالَ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو بْن حَرَامٍ : رَأَيْتُ فِي النّوْمِ قَبْلَ
أُحُدٍ مُبَشّرَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ يَقُولُ لِي : أَنْتَ قَادِمٌ
عَلَيْنَا فِي أَيّامٍ فَقُلْتُ وَأَيْنَ أَنْتَ ؟ فَقَالَ فِي الْجَنّةِ
نَسْرَحُ فِيهَا كَيْفَ نَشَاءُ . قُلْت لَهُ أَلَمْ تُقْتَلْ يَوْمَ
بَدْرٍ ؟ قَالَ بَلَى ثُمّ أُحْيِيت فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ هَذِهِ الشّهَادَةُ يَا أَبَا
جَابِرٍ
[ دُعَاؤُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَيْثَمَةَ بِالشّهَادَةِ ]
وَقَالَ
خَيْثَمَةُ أَبُو سَعْدٍ وَكَانَ ابْنُهُ اُسْتُشْهِدَ مَعَ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ : لَقَدْ
أَخْطَأَتْنِي وَقْعَةُ بَدْرٍ وَكُنْتُ وَاَللّهِ عَلَيْهَا حَرِيصًا
حَتّى سَاهَمْتُ ابْنِي فِي الْخُرُوجِ فَخَرَجَ سَهْمُهُ فَرُزِقَ
الشّهَادَةَ وَقَدْ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ ابْنِي فِي النّوْمِ فِي
أَحْسَنِ صُورَةٍ يَسْرَحُ فِي ثِمَارِ الْجَنّةِ وَأَنْهَارِهَا
وَيَقُولُ الْحَقْ بِنَا تُرَافِقْنَا فِي الْجَنّةِ فَقَدْ وَجَدْتُ مَا
وَعَدَنِي رَبّي حَقّا وَقَدْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ أَصْبَحْتُ
مُشْتَاقًا إلَى مُرَافَقَتِهِ فِي الْجَنّةِ وَقَدْ كَبِرَتْ سِنّي
وَرَقّ عَظْمِي وَأَحْبَبْتُ لِقَاءَ رَبّي فَادْعُ اللّهَ يَا رَسُولَ
اللّهِ أَنْ يَرْزُقَنِي الشّهَادَةَ وَمُرَافَقَةَ سَعْدٍ فِي الْجَنّةِ
فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِذَلِكَ
فَقُتِلَ بِأُحُدٍ شَهِيدًا
[ دُعَاءُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ لِنَفْسِهِ بِالشّهَادَةِ ]
وَقَالَ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ اللّهُمّ إنّي أُقْسِمُ
عَلَيْكَ أَنْ أَلْقَى الْعَدُوّ غَدًا فَيَقْتُلُونِي ثُمّ يَبْقُرُوا
بَطْنِي وَيَجْدَعُوا أَنْفِي وَأُذُنِي ثُمّ تَسْأَلُنِي : فِيمَ ذَلِكَ
فَأَقُولُ فِيكَ [ ص 187 ]
[ اسْتِشْهَادُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ ]
وَكَانَ
عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ وَكَانَ لَهُ
أَرْبَعَةُ بَنِينَ شَبَابٌ يَغْزُونَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا غَزَا فَلَمّا تَوَجّهَ إلَى أُحُدٍ أَرَادَ أَنْ
يَتَوَجّهَ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ بَنُوهُ إنّ اللّهَ قَدْ جَعَلَ لَك
رُخْصَةً فَلَوْ قَعَدْتَ وَنَحْنُ نَكْفِيك وَقَدْ وَضَعَ اللّهُ عَنْكَ
الْجِهَادَ . فَأَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بَنِيّ
هَؤُلَاءِ يَمْنَعُونِي أَنْ أَخْرُجَ مَعَك وَوَاللّهِ إنّي لَأَرْجُو
أَنْ أَسْتَشْهِدَ فَأَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنّةِ فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا أَنْت فَقَدْ
وَضَعَ اللّهُ عَنْكَ الْجِهَادَ وَقَالَ لِبَنِيهِ وَمَا َلَيْكُمْ أَنْ
تَدَعُوهُ لَعَلّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ أَنْ يَرْزُقَهُ الشّهَادَة فَخَرَجَ
مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُتِلَ يَوْمَ
أُحُدٍ شَهِيدًا .
[ أَنَسُ بْنُ النّضْرِ وَقِتَالُهُ ]
وَانْتَهَى
أَنَسُ بْنُ النّضْر ِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ وَطَلْحَةَ بْنِ
عُبَيْدِ اللّهِ فِي رِجَالٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَقَدْ
أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ مَا يُجْلِسُكُمْ ؟ فَقَالُوا : قُتِلَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ فَمَا تَصْنَعُونَ
بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ ؟ فَقُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ اسْتَقْبَلَ
الْقَوْمَ فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ [ ص 188 ]
[ طَعْنُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُبَيّ بْنَ خَلَفٍ بِحَرْبَةٍ ]
وَأَقْبَلَ
أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ عَدُوّ اللّهِ وَهُوَ مُقَنّعٌ فِي الْحَدِيدِ يَقُولُ
لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا مُحَمّدٌ وَكَانَ حَلَفَ بِمَكّةَ أَنْ يَقْتُلَ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ
بْنُ عُمَيْرٍ فَقُتِلَ مُصْعَبٌ وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَرْقُوَةَ أُبَيّ بْنِ خَلَفٍ مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ
سَابِغَةِ الدّرْعِ وَالْبَيْضَةِ فَطَعَنَهُ بِحَرْبَتِهِ فَوَقَعَ عَنْ
فَرَسِهِ فَاحْتَمَلَهُ أَصْحَابُهُ وَهُوَ يَخُورُ خُوَارَ الثّوْرِ
فَقَالُوا : مَا أَجْزَعَك ؟ إنّمَا هُوَ خَدْشٌ فَذَكَرَ لَهُمْ قَوْلَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إنْ شَاءَ
اللّهُ تَعَالَى فَمَاتَ بِرَابِغٍ .
[ رُؤْيَةُ ابْنِ عُمَرَ أُبَيّ بْنَ خَلَفٍ ]
قَالَ
ابْنُ عُمَرَ : إنّي لَأَسِيرُ بِبَطْنِ رَابِغٍ بَعْدَ هُوَيّ مِنْ
اللّيْلِ إذَا نَارٌ تَأَجّجُ لِي فَيَمّمْتهَا وَإِذَا رَجُلٌ يَخْرُجُ
مِنْهَا فِي سِلْسِلَةٍ يَجْتَذِبُهَا يَصِيحُ الْعَطَشَ وَإِذَا رَجُلٌ
يَقُولُ لَا تَسْقِهِ هَذَا قَتِيلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ هَذَا أُبَيّ بْنُ خَلَف
[ صَرْفُ اللّهِ نَظَرَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ]
وَقَالَ
نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ : سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ
شَهِدْتُ أُحُدًا فَنَظَرْتُ إلَى النّبْلِ يَأْتِي مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ
وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَطُهَا كُلّ ذَلِكَ
يُصْرَفُ عَنْهُ وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ شِهَابٍ الزّهْرِيّ
يَقُولُ يَوْمَئِذٍ دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا
وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى جَنْبِهِ مَا
مَعَهُ أَحَدٌ ثُمّ جَاوَزَهُ فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ صَفْوَانُ فَقَالَ
وَاَللّهِ مَا رَأَيْته أَحْلِفُ بِاَللّهِ إنّهُ مِنّا مَمْنُوعٌ
فَخَرَجْنَا أَرْبَعَةً فَتَعَاهَدْنَا وَتَعَاقَدْنَا عَلَى قَتْلِهِ
فَلَمْ نَخْلُصْ إلَى ذَلِكَ .
[ مَصّ مَالِكٍ وَالِدِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ جُرْحَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَلَمّا
مَصّ مَالِكٌ أَبُو أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ جُرْحَ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَنْقَاهُ قَالَ لَهُ مُجّهُ "
قَالَ وَاَللّهِ لَا أَمُجّهُ أَبَدًا ثُمّ أَدْبَرَ . فَقَالَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى رَجُلٍ
مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ فَلْيَنْظُرْ إلَى هَذَا [ ص 189 ]
[ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمُ تَمْحِيصٍ ]
قَالَ
الزّهْرِيّ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ
وَغَيْرُهُمْ كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ بَلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ اخْتَبَرَ
اللّهُ عَزّ وَجَلّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَظْهَرَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ
مِمّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ بِلِسَانِهِ وَهُوَ مُسْتَخْفٍ
بِالْكُفْرِ فَأَكْرَمَ اللّهُ فِيهِ مَنْ أَرَادَ كَرَامَتَهُ
بِالشّهَادَةِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ فَكَانَ مِمّا نَزَلَ مِنْ
الْقُرْآنِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ سِتّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ أَوّلُهَا
: { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ
لِلْقِتَالِ } [ آل عِمْرَانَ 121 ] إلَى آخِرِ الْقِصّةِ .
فَصْلٌ فِيمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْغَزَاةُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْفِقْهِ
[ الْجِهَادُ يَلْزَمُ بِالشّرُوعِ فِيهِ ]
مِنْهَا
: أَنّ الْجِهَادَ يَلْزَمُ بِالشّرُوعِ فِيهِ حَتّى إنّ مَنْ لَبِسَ
لَامَتَهُ وَشَرَعَ فِي أَسْبَابِهِ وَتَأَهّبَ لِلْخُرُوجِ لَيْسَ لَهُ
أَنْ يَرْجِعَ عَنْ الْخُرُوجِ حَتّى يُقَاتِلَ عَدُوّهُ وَمِنْهَا :
أَنّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا طَرَقَهُمْ عَدُوّهُمْ فِي
دِيَارِهِمْ الْخُرُوجُ إلَيْهِ بَلْ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَلْزَمُوا
دِيَارَهُمْ وَيُقَاتِلُوهُمْ فِيهَا إذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْصَرَ لَهُمْ
عَلَى عَدُوّهِمْ كَمَا أَشَارَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ أُحُد ٍ . وَمِنْهَا : جَوَازُ
سُلُوكِ الْإِمَامِ بِالْعَسْكَرِ فِي بَعْضِ أَمْلَاكِ رَعِيّتِهِ إذَا
صَادَفَ ذَلِكَ طَرِيقَهُ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْمَالِكُ . وَمِنْهَا :
أَنّهُ لَا يَأْذَنُ لِمَنْ لَا يُطِيقُ الْقِتَالَ مِنْ الصّبْيَانِ
غَيْرِ الْبَالِغِينَ بَلْ يَرُدّهُمْ إذَا خَرَجُوا كَمَا رَدّ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْنَ عُمَرَ وَمَنْ مَعَهُ .
وَمِنْهَا : جَوَازُ الْغَزْوِ بِالنّسَاءِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِنّ فِي
الْجِهَادِ . وَمِنْهَا : جَوَازُ الِانْغِمَاسِ فِي الْعَدُوّ كَمَا
انْغَمَسَ أَنَسُ بْنُ النّضْرِ وَغَيْرُهُ . وَمِنْهَا : أَنّ الْإِمَامَ
إذَا أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ صَلّى بِهِمْ قَاعِدًا وَصَلّوْا وَرَاءَهُ
قُعُودًا [ ص 190 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَذِهِ
الْغَزْوَةِ وَاسْتَمَرّتْ عَلَى ذَلِكَ سُنّتُهُ إلَى حِينِ وَفَاتِهِ
[ جَوَازُ دُعَاءِ الرّجُلِ أَنْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ]
وَمِنْهَا
: جَوَازُ دُعَاءِ الرّجُلِ أَنّ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَتَمَنّيه
ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَمَنّي الْمَوْتِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ كَمَا
قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ : اللّهُمّ لَقّنِي مِنْ الْمُشْرِكِينَ
رَجُلًا عَظِيمًا كُفْرُهُ شَدِيدًا حَرَدُهُ فَأُقَاتِلُهُ فَيَقْتُلُنِي
فِيك وَيَسْلُبُنِي ثُمّ يَجْدَعُ أَنْفِي وَأُذُنِي فَإِذَا لَقِيتُك
فَقُلْتَ يَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَحْشٍ فِيمَ جُدِعْت ؟ قُلْت : فِيك يَا
رَب
[ الْمُنْتَحِرُ مِنْ أَهْلِ النّارِ ]
وَمِنْهَا : أَنّ
الْمُسْلِمَ إذَا قَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النّارِ لِقَوْلِهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قُزْمَانَ الّذِي أَبْلَى يَوْمَ
أُحُدٍ بَلَاءً شَدِيدًا فَلَمّا اشْتَدّتْ بِهِ الْجِرَاحُ نَحَرَ
نَفْسَهُ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم هُوَ مِنْ أَهْلِ النّار
[ ص 191 ]
[ لَا يُغَسّلُ الشّهِيدُ وَلَا يُكَفّنُ وَلَا يُصَلّى عَلَيْهِ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ السّنّةَ فِي الشّهِيدِ أَنّهُ لَا يُغَسّلُ وَلَا يُصَلّى
عَلَيْهِ وَلَا يُكَفّنُ فِي [ ص 192 ] وَمِنْهَا : أَنّهُ إذَا كَانَ
جُنُبًا غُسّلَ كَمَا غَسّلَتْ الْمَلَائِكَةُ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي
عَامِرٍ .
[ يُدْفَنُ الشّهَدَاءُ فِي مَصَارِعِهِمْ ]
وَمِنْهَا :
أَنّ السّنّةَ فِي الشّهَدَاءِ أَنْ يُدْفَنُوا فِي مَصَارِعِهِمْ وَلَا
يُنْقَلُوا إلَى مَكَانٍ آخَرَ فَإِنّ قَوْمًا مِنْ الصّحَابَةِ نَقَلُوا
قَتْلَاهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْأَمْرِ بِرَدّ الْقَتْلَى إلَى
مَصَارِعِهِمْ قَالَ جَابِرٌ بَيْنَا أَنَا فِي النّظّارَةِ إذْ جَاءَتْ
عَمّتِي بِأَبِي وَخَالِي عَادَلَتْهُمَا عَلَى نَاضِحٍ فَدَخَلَتْ
بِهِمَا الْمَدِينَةَ لِنَدْفِنَهُمَا فِي مَقَابِرِنَا وَجَاءَ رَجُلٌ
يُنَادِي : أَلَا إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا بِالْقَتْلَى فَتَدْفِنُوهَا فِي
مَصَارِعِهَا حَيْثُ قُتِلَتْ . قَالَ فَرَجَعْنَا بِهِمَا فَدَفَنّاهُمَا
فِي الْقَتْلَى حَيْثُ قُتِلَا فَبَيْنَا أَنَا فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ
بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ يَا جَابِرُ وَاَللّهِ
لَقَدْ أَثَارَ أَبَاكَ عُمّالَ مُعَاوِيَةَ فَبَدَا فَخَرَجَ طَائِفَةٌ
مِنْهُ قَالَ فَأَتَيْته فَوَجَدْتُهُ عَلَى النّحْوِ الّذِي تَرَكْتُهُ
لَمْ يَتَغَيّرْ مِنْهُ شَيْءٌ . قَالَ فَوَارَيْته فَصَارَتْ سُنّةً فِي
الشّهَدَاءِ أَنْ يُدْفَنُوا فِي مَصَارِعِهِمْ [ ص 193 ]
[ يَجُوزُ دَفْنُ الثّلَاثَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ ]
وَمِنْهَا
: جَوَازُ دَفْنِ الرّجُلَيْنِ أَوْ الثّلَاثَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ
فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَدْفِنُ
الرّجُلَيْنِ وَالثّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ وَيَقُولُ أَيّهُمْ أَكْثَرُ
أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أَشَارُوا إلَى رَجُلٍ قَدّمَهُ فِي اللّحْد
وَدَفَنَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَرَام ٍ وَعَمْرَو بْنَ
الْجَمُوحِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَحَبّةِ
فَقَالَ ادْفِنُوا هَذَيْنَ الْمُتَحَابّيْنِ فِي الدّنْيَا فِي قَبْرٍ
وَاحِدٍ [ ص 194 ]
[ حَفْرُ قَبْرِ وَالِدِ جَابِرٍ بَعْدَ سِتّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً ]
ثُمّ
حُفِرَ عَنْهُمَا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَيَدُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ عَلَى جُرْحِهِ كَمَا وَضَعَهَا حِينَ جُرِحَ
فَأُمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جُرْحِهِ فَانْبَعَثَ الدّمُ فَرُدّتْ إلَى
مَكَانِهَا فَسَكَنَ الدّمُ . وَقَالَ جَابِرٌ رَأَيْتُ أَبِي فِي
حُفْرَتِهِ حِينَ حُفِرَ عَلَيْهِ كَأَنّهُ نَائِمٌ وَمَا تَغَيّرَ مِنْ
حَالِهِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ . وَقِيلَ لَهُ أَفَرَأَيْتَ أَكْفَانَهُ ؟
فَقَالَ إنّمَا دُفِنَ فِي نَمِرَةٍ خُمّرَ وَجْهُهُ وَعَلَى رِجْلَيْهِ
الْحَرْمَلُ فَوَجَدْنَا النّمِرَةَ كَمَا هِيَ وَالْحَرْمَلُ عَلَى
رِجْلَيْهِ عَلَى هَيْئَتِهِ وَبَيْنَ ذَلِكَ سِتّ وَأَرْبَعُونَ سَنَة
[ هَلْ دَفْنُ الشّهَدَاءِ فِي ثِيَابِهِمْ عَلَى الْوُجُوبِ ]
وَقَدْ
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَمْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنْ يُدْفَنَ شُهَدَاءُ أُحُدٍ فِي ثِيَابِهِمْ هَلْ هُوَ عَلَى
وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ وَالْأَوْلَوِيّهِ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ ؟
عَلَى قَوْلَيْنِ الثّانِي : أَظْهَرُهُمَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَصْحَابِ
الشّافِعِيّ وَأَحْمَد َ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رَوَى يَعْقُوبُ بْنُ
شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ جَيّدٍ أَنّ [ ص 195 ] صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَوْبَيْنِ لِيُكَفّنَ فِيهِمَا حَمْزَةَ فَكَفّنَهُ
فِي أَحَدِهِمَا وَكَفّنَ فِي الْآخَرِ رَجُلًا آخَرَ . قِيلَ حَمْزَةُ
كَانَ الْكُفّارُ قَدْ سَلَبُوهُ وَمَثّلُوا بِهِ وَبَقَرُوا عَنْ
بَطْنِهِ وَاسْتَخْرَجُوا كَبِدَهُ فَلِذَلِكَ كُفّنَ فِي كَفَنٍ آخَرَ .
وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الضّعْفِ نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ يُغَسّلُ
الشّهِيدُ وَسُنّةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَوْلَى بِالِاتّبَاعِ .
[ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ لَا يُصَلّى عَلَيْهِ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ شَهِيدَ الْمَعْرَكَةِ لَا يُصَلّى عَلَيْهِ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُصَلّ عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ
وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ أَنّهُ صَلّى عَلَى أَحَدٍ مِمّنْ اُسْتُشْهِدَ
مَعَهُ فِي مَغَازِيهِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرّاشِدُونَ وَنُوّابُهُمْ
مِنْ بَعْدِهِمْ . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْن ِ "
مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى
الْمَيّتِ ثُمّ انْصَرَفَ إلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : صَلّى
رَسُولُ اللّه صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ قِيلَ
أَمّا صَلَاتُهُ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ مِنْ
قَتْلِهِمْ قُرْبَ مَوْتِهِ كَالْمُوَدّعِ لَهُمْ وَيُشْبِهُ هَذَا
خُرُوجَهُ إلَى الْبَقِيعِ قَبْلَ مَوْتِهِ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ
كَالْمُوَدّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ فَهَذِهِ كَانَتْ تَوْدِيعًا
مِنْهُ لَهُمْ لَا أَنّهَا سُنّةُ الصّلَاةِ عَلَى الْمَيّتِ وَلَوْ كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يُؤَخّرْهَا ثَمَانِ سِنِينَ لَا سِيّمَا عِنْدَ
مَنْ [ ص 196 ] يُصَلّى عَلَى الْقَبْرِ أَوْ يُصَلّى عَلَيْهِ إلَى
شَهْرٍ . وَمِنْهَا : أَنّ مَنْ عَذَرَهُ اللّهُ فِي التّخَلّفِ عَنْ
الْجِهَادِ لِمَرَضٍ أَوْ عَرَجٍ يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ وَإِنْ
لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كَمَا خَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وَهُوَ
أَعْرَجُ .
[ مَنْ قُتِلَ فِي الْجِهَادِ مَظْنُونًا كُفْرُهُ فَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ دِيَتُهُ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ الْمُسْلِمِينَ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ فِي الْجِهَادِ
يَظُنّونَهُ كَافِرًا فَعَلَى الْإِمَامِ دِيَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ
لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرَادَ أَنْ
يَدِيَ الْيَمَانَ أَبَا حُذَيْفَةَ فَامْتَنَعَ حُذَيْفَةُ مِنْ أَخْذِ
الدّيَةِ وَتَصَدّقَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْحِكَمِ وَالْغَايَاتِ الْمَحْمُودَةِ الّتِي كَانَتْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ
وَقَدْ
أَشَارَ اللّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إلَى أُمّهَاتِهَا
وَأُصُولِهَا فِي سُورَةِ ( آل عِمْرَانَ حَيْثُ افْتَتَحَ الْقِصّةَ
بِقَوْلِهِ { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ الْمُؤْمِنِينَ
مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عِمْرَانَ 121 ] إلَى تَمَامِ سِتّينَ آيَةً
.
[ تَعْرِيفُهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيَةِ ]
فَمِنْهَا :
تَعْرِيفُهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيَةِ وَالْفَشَلِ وَالتّنَازُعِ
وَأَنّ الّذِي أَصَابَهُمْ إنّمَا هُوَ بِشُؤْمِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ
بِإِذْنِهِ حَتّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ
وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبّونَ مِنْكُمْ مَنْ
يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ
عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } [ آلُ عِمْرَانَ 152
] . فَلَمّا ذَاقُوا عَاقِبَةَ مَعْصِيَتِهِمْ لِلرّسُولِ وَتَنَازُعِهِمْ
وَفَشَلِهِمْ كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَشَدّ حَذَرًا وَيَقَظَةً
وَتَحَرّزًا مِنْ أَسْبَابِ الْخِذْلَانِ .
[ وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ حِكْمَةَ اللّهِ وَسُنّتَهُ فِي رُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ جَرَتْ
بِأَنْ يُدَالُوا مَرّةً وَيُدَالَ عَلَيْهِمْ أُخْرَى لَكِنْ تَكُونُ
لَهُمْ الْعَاقِبَةُ فَإِنّهُمْ لَوْ انْتَصَرُوا دَائِمًا دَخَلَ
مَعَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَغَيْرُهُمْ وَلَمْ يَتَمَيّزْ الصّادِقُ مِنْ
غَيْرِهِ وَلَوْ اُنْتُصِرَ عَلَيْهِمْ دَائِمًا لَمْ [ ص 197 ] جَمَعَ
لَهُمْ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِيَتَمَيّزَ مَنْ يَتّبِعُهُمْ
وَيُطِيعُهُمْ لِلْحَقّ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِمّنْ يَتّبِعُهُمْ عَلَى
الظّهُورِ وَالْغَلَبَةِ خَاصّةً .
[ الرّسُلُ تُبْتَلَى ثُمّ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ هَذَا مِنْ أَعْلَامِ الرّسُلِ كَمَا قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي
سُفْيَانَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ كَيْفَ الْحَرْبُ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ ؟ قَالَ سِجَالٌ يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرّةَ
وَنُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى قَالَ كَذَلِكَ الرّسُلُ تُبْتَلَى ثُمّ
تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَة
[ تَمَيّزُ الْمُؤْمِنِ الصّادِقِ مِنْ الْمُنَافِقِ الْكَاذِبِ ]
وَمِنْهَا
: أَنْ يَتَمَيّزَ الْمُؤْمِنُ الصّادِقُ مِنْ الْمُنَافِقِ الْكَاذِبِ
فَإِنّ الْمُسْلِمِينَ لَمّا أَظْهَرَهُمْ اللّهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ
يَوْمَ بَدْرٍ وَطَارَ لَهُمْ الصّيتُ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ
ظَاهِرًا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ بَاطِنًا فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ
اللّهِ عَزّ وَجَلّ أَنْ سَبّبَ لِعِبَادِهِ مِحْنَةً مَيّزَتْ بَيْنَ
الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فَأَطْلَعَ الْمُنَافِقُونَ رُءُوسَهُمْ فِي
هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَتَكَلّمُوا بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ وَظَهَرَتْ
مُخَبّآتُهُمْ وَعَادَ تَلْوِيحُهُمْ تَصْرِيحًا وَانْقَسَمَ النّاسُ إلَى
كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ وَمُنَافِقٍ انْقِسَامًا ظَاهِرًا وَعَرَفَ
الْمُؤْمِنُونَ أَنّ لَهُمْ عَدُوّا فِي نَفْسِ دُورِهِمْ وَهُمْ مَعَهُمْ
لَا يُفَارِقُونَهُمْ فَاسْتَعَدّوا لَهُمْ وَتَحَرّزُوا مِنْهُمْ . قَالَ
اللّهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا
أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ وَمَا كَانَ
اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ
رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } [ آل عِمْرَانَ 179 ] أَيْ مَا كَانَ اللّهُ
لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْتِبَاسِ الْمُؤْمِنِينَ
بِالْمُنَافِقِينَ حَتّى يَمِيزَ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ
النّفَاقِ كَمَا مَيّزَهُمْ بِالْمِحْنَةِ يَوْمَ أُحُدٍ { وَمَا كَانَ
اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } الّذِي يَمِيزُ بِهِ بَيْنَ
هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَإِنّهُمْ مُتَمَيّزُونَ فِي غَيْبِهِ وَعِلْمِهِ
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يَمِيزَهُمْ تَمْيِيزًا مَشْهُودًا
فَيَقَعُ مَعْلُومُهُ الّذِي هُوَ غَيْبٌ شَهَادَةً . وَقَوْلُهُ {
وَلَكِنّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } اسْتِدْرَاكٌ
لِمَا نَفَاهُ مِنْ اطّلَاعِ خَلْقِهِ عَلَى الْغَيْبِ سِوَى الرّسُلِ
فَإِنّهُ يُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْبِهِ كَمَا قَالَ {
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلّا مَنِ
ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } [ الْجِنّ : 27 ] فَحَظّكُمْ أَنْتُمْ
وَسَعَادَتُكُمْ فِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الّذِي يُطْلِعُ عَلَيْهِ [
ص 198 ]
[ اسْتِخْرَاجُ عُبُودِيّةِ أَوْلِيَائِهِ فِي السّرّاءِ وَالضّرّاءِ ]
وَمِنْهَا
: اسْتِخْرَاجُ عُبُودِيّةِ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ فِي السّرّاءِ
وَالضّرّاءِ وَفِيمَا يُحِبّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ وَفِي حَالِ ظَفَرِهِمْ
وَظَفَرِ أَعْدَائِهِمْ بِهِمْ فَإِذَا ثَبَتُوا عَلَى الطّاعَةِ
وَالْعُبُودِيّةِ فِيمَا يُحِبّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ فَهُمْ عَبِيدُهُ
حَقّا وَلَيْسُوا كَمَنْ يَعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ
السّرّاءِ وَالنّعْمَةِ وَالْعَافِيَةِ .
[ حِكْمَةُ تَبَدّلِ الْأَحْوَالِ ]
وَمِنْهَا
: أَنّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ نَصَرَهُمْ دَائِمًا وَأَظْفَرَهُمْ
بِعَدُوّهِمْ فِي كُلّ مَوْطِنٍ وَجَعَلَ لَهُمْ التّمْكِينَ وَالْقَهْرَ
لِأَعْدَائِهِمْ أَبَدًا لَطَغَتْ نُفُوسُهُمْ وَشَمَخَتْ وَارْتَفَعَتْ
فَلَوْ بَسَطَ لَهُمْ النّصْرَ وَالظّفَرَ لَكَانُوا فِي الْحَالِ الّتِي
يَكُونُونَ فِيهَا لَوْ بَسَطَ لَهُمْ الرّزْقَ فَلَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ
إلّا السّرّاءُ وَالضّرّاءُ وَالشّدّةُ وَالرّخَاءُ وَالْقَبْضُ
وَالْبَسْطُ فَهُوَ الْمُدَبّرُ لِأَمْرِ عِبَادِهِ كَمَا يَلِيقُ
بِحِكْمَتِهِ إنّهُ بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ .
[ الْخُضُوعُ لِجَبَرُوتِهِ تَعَالَى ]
وَمِنْهَا
: أَنّهُ إذَا امْتَحَنَهُمْ بِالْغَلَبَةِ وَالْكَسْرَةِ وَالْهَزِيمَةِ
ذَلّوا وَانْكَسَرُوا وَخَضَعُوا فَاسْتَوْجَبُوا مِنْهُ الْعِزّ
وَالنّصْرَ فَإِنّ خُلْعَةَ النّصْرِ إنّمَا تَكُونُ مَعَ وِلَايَةِ
الذّلّ وَالِانْكِسَارِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ
بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ } [ آل عِمْرَانَ 123 ] وَقَالَ { وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ
شَيْئًا } [ التّوْبَةُ 25 ] فَهُوَ - سُبْحَانَهُ - إذَا أَرَادَ أَنْ
يُعِزّ عَبْدَهُ وَيَجْبُرَهُ وَيَنْصُرَهُ كَسَرَهُ أَوّلًا وَيَكُونُ
جَبْرُهُ لَهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مِقْدَارِ ذُلّهِ وَانْكِسَارِهِ .
[ رَفْعُ مَنَازِلِهِمْ ]
وَمِنْهَا
: أَنّهُ سُبْحَانَهُ هَيّأَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مَنَازِلَ فِي
دَارِ كَرَامَتِهِ لَمْ تَبْلُغْهَا أَعْمَالُهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا
بَالِغِيهَا إلّا بِالْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ فَقَيّضَ لَهُمْ
الْأَسْبَابَ الّتِي تُوصِلُهُمْ إلَيْهَا مِنْ ابْتِلَائِهِ
وَامْتِحَانِهِ كَمَا وَفّقَهُمْ لِلْأَعْمَالِ الصّالِحَةِ الّتِي هِيَ
مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ وُصُولِهِمْ إلَيْهَا .
[ تَحْرِيضُهُمْ عَلَى الْجِدّ فِي الْعُبُودِيّةِ لِلّهِ ]
وَمِنْهَا
: أَنّ النّفُوسَ تَكْتَسِبُ مِنْ الْعَافِيَةِ الدّائِمَةِ وَالنّصْرِ
وَالْغِنَى طُغْيَانًا وَرُكُونًا إلَى الْعَاجِلَةِ وَذَلِكَ مَرَضٌ
يَعُوقُهَا عَنْ جِدّهَا فِي سَيْرِهَا إلَى اللّهِ وَالدّارِ الْآخِرَةِ
فَإِذَا أَرَادَ بِهَا رَبّهَا وَمَالِكُهَا وَرَاحِمُهَا كَرَامَتَهُ
قَيّضَ لَهَا مِنْ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ مَا يَكُونُ دَوَاءً
لِذَلِكَ الْمَرَضِ الْعَائِقِ عَنْ السّيْرِ الْحَثِيثِ إلَيْهِ
فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَلَاءُ وَالْمِحْنَةُ [ ص 199 ] تَرَكَهُ
لَغَلَبَتْهُ الْأَدْوَاءُ حَتّى يَكُونَ فِيهَا هَلَاكُهُ . وَمِنْهَا :
أَنّ الشّهَادَةَ عِنْدَهُ مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ أَوْلِيَائِهِ
وَالشّهَدَاءُ هُمْ خَوَاصّهُ وَالْمُقَرّبُونَ مِنْ عِبَادِهِ وَلَيْسَ
بَعْدَ دَرَجَةِ الصّدّيقِيّةِ إلّا الشّهَادَةُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ
يُحِبّ أَنْ يَتّخِذَ مِنْ عِبَادِهِ شُهَدَاءَ تُرَاقُ دِمَاؤُهُمْ فِي
مَحَبّتِهِ وَمَرْضَاتِهِ وَيُؤْثِرُونَ رِضَاهُ وَمَحَابّهُ عَلَى
نُفُوسِهِمْ وَلَا سَبِيلَ إلَى نَيْلِ هَذِهِ الدّرَجَةِ إلّا
بِتَقْدِيرِ الْأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إلَيْهَا مِنْ تَسْلِيطِ
الْعَدُوّ .
[ إهْلَاكُ الْأَعْدَاءِ بَعْدَ ازْدِيَادِ بَغْيِهِمْ ]
[ بَسْطُ الْآيَاتِ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا ]
وَمِنْهَا
: أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ أَعْدَاءَهُ
وَيَمْحَقَهُمْ قَيّضَ لَهُمْ الْأَسْبَابَ الّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا
هَلَاكَهُمْ وَمَحْقَهُمْ وَمِنْ أَعْظَمِهَا بَعْدَ كُفْرِهِمْ
بَغْيُهُمْ وَطُغْيَانُهُمْ وَمُبَالَغَتُهُمْ فِي أَذَى أَوْلِيَائِهِ
وَمُحَارَبَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ وَالتّسَلّطِ عَلَيْهِمْ فَيَتَمَحّصُ
بِذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَعُيُوبِهِمْ وَيَزْدَادُ
بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ مِنْ أَسْبَابِ مَحْقِهِمْ وَهَلَاكِهِمْ وَقَدْ
ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ { وَلَا تَهِنُوا
وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ
الْأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ
آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لَا يُحِبّ الظّالِمِينَ
وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [ آل
عِمْرَانَ 139 140 ] فَجَمَعَ لَهُمْ فِي هَذَا الْخِطَابِ بَيْنَ
تَشْجِيعِهِمْ وَتَقْوِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَإِحْيَاءِ عَزَائِمِهِمْ
وَهِمَمِهِمْ وَبَيْنَ حُسْنِ التّسْلِيَةِ وَذِكْرِ الْحِكَمِ
الْبَاهِرَةِ الّتِي اقْتَضَتْ إدَالَةَ الْكُفّارِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ {
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } [ آل
عِمْرَانَ 140 ] فَقَدَ اسْتَوَيْتُمْ فِي الْقَرْحِ وَالْأَلَمِ
وَتَبَايَنْتُمْ فِي الرّجَاءِ وَالثّوَابِ كَمَا قَالَ { إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ فَإِنّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ
اللّهِ مَا لَا يَرْجُونَ } [ النّسَاءُ 104 ] فَمَا بَالُكُمْ تَهِنُونَ
وَتَضْعُفُونَ عِنْدَ الْقَرْحِ وَالْأَلَمِ فَقَدْ أَصَابَهُمْ ذَلِكَ
فِي سَبِيلِ الشّيْطَانِ وَأَنْتُمْ أُصِبْتُمْ فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءِ
مَرْضَاتِي .
[ وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ ]
ثُمّ أَخْبَرَ أَنّهُ يُدَاوِلُ أَيّامَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدّنْيَا بَيْنَ النّاسِ وَأَنّهَا عَرَضٌ حَاضِرٌ [ ص 200 ]
[ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ]
ثُمّ
ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يَتَمَيّزَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ
الْمُنَافِقِينَ فَيَعْلَمُهُمْ عِلْمَ رُؤْيَةٍ وَمُشَاهَدَةٍ بَعْدَ
أَنْ كَانُوا مَعْلُومِينَ فِي غَيْبِهِ وَذَلِكَ الْعِلْمُ الْغَيْبِيّ
لَا يَتَرَتّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَإِنّمَا يَتَرَتّبُ
الثّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمَعْلُومِ إذَا صَارَ مُشَاهَدًا
وَاقِعًا فِي الْحِسّ .
[ حُبّ اللّهِ لِلشّهَدَاءِ ]
ثُمّ ذَكَرَ
حِكْمَةً أُخْرَى وَهِيَ اتّخَاذُهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ
فَإِنّهُ يُحِبّ الشّهَدَاءَ مِنْ عِبَادِهِ وَقَدْ أَعَدّ لَهُمْ أَعْلَى
الْمَنَازِلِ وَأَفْضَلَهَا وَقَدْ اتّخَذَهُمْ لِنَفْسِهِ فَلَا بُدّ
أَنْ يُنِيلَهُمْ دَرَجَةَ الشّهَادَةِ . وَقَوْلُهُ { وَاللّهُ لَا
يُحِبّ الظّالِمِينَ } [ آل عِمْرَانَ 140 ] تَنْبِيهٌ لَطِيفُ
الْمَوْقِعِ جِدّا عَلَى كَرَاهَتِهِ وَبُغْضِهِ لِلْمُنَافِقِينَ
الّذِينَ اِنْخَذَلُوا عَنْ نَبِيّهِ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَشْهَدُوهُ
وَلَمْ يَتّخِذْ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ لِأَنّهُ لَمْ يُحِبّهُمْ
فَأَرْكَسَهُمْ وَرَدّهُمْ لِيَحْرِمَهُمْ مَا خَصّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا أَعْطَاهُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْهُمْ
فَثَبّطَ هَؤُلَاءِ الظّالِمِينَ عَنْ الْأَسْبَابِ الّتِي وَفّقَ لَهَا
أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ .
[ وَلِيُمَحّصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا ]
ثُمّ
ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى فِيمَا أَصَابَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَهُوَ
تَمْحِيصُ الّذِينَ آمَنُوا وَهُوَ تَنْقِيَتُهُمْ وَتَخْلِيصُهُمْ مِنْ
الذّنُوبِ وَمِنْ آفَاتِ النّفُوسِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ خَلّصَهُمْ
وَمَحّصَهُمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَتَمَيّزُوا مِنْهُمْ فَحَصَلَ لَهُمْ
تَمْحِيصَانِ تَمْحِيصٌ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَتَمْحِيصٌ مِمّنْ كَانَ
يُظْهِرُ أَنّهُ مِنْهُمْ وَهُوَ عَدُوّهُمْ .
[ وَيَمْحَقُ الْكَافِرِينَ ]
[ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا . ...]
[ ولَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ . ..... ]
ثُمّ
ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى وَهِيَ مَحْقُ الْكَافِرِينَ بِطُغْيَانِهِمْ
وَبَغْيِهِمْ وَعُدْوَانِهِمْ ثُمّ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ حُسْبَانَهُمْ
وَظَنّهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنّةَ بِدُونِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ
وَالصّبْرِ عَلَى أَذَى أَعْدَائِهِ وَإِنّ هَذَا مُمْتَنِعٌ بِحَيْثُ
يُنْكَرُ عَلَى مَنْ ظَنّهُ وَحَسِبَهُ . فَقَالَ { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا
مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ } [ آل عِمْرَانَ 142 ] أَيْ وَلَمّا
يَقَعْ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَيَعْلَمُهُ فَإِنّهُ لَوْ وَقَعَ لَعَلِمَهُ
فَجَازَاكُمْ عَلَيْهِ بِالْجَنّةِ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ عَلَى الْوَاقِعِ
الْمَعْلُومِ لَا عَلَى مُجَرّدِ الْعِلْمِ فَإِنّ اللّهَ لَا يَجْزِي
الْعَبْدَ عَلَى مُجَرّدِ عِلْمِهِ فِيهِ دُونَ أَنْ يَقَعَ مَعْلُومُهُ
ثُمّ وَبّخَهُمْ عَلَى [ ص 201 ] هَزِيمَتِهِمْ مِنْ أَمْرٍ كَانُوا
يَتَمَنّوْنَهُ وَيَوَدّونَ لِقَاءَهُ فَقَالَ { وَلَقَدْ كُنْتُمْ
تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [ آل عِمْرَانَ 143 ] . قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ :
وَلَمّا أَخْبَرَهُمْ اللّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيّهِ بِمَا
فَعَلَ بِشُهَدَاءِ بَدْرٍ مِنْ الْكَرَامَةِ رَغِبُوا فِي الشّهَادَةِ
فَتَمَنّوْا قِتَالًا يَسْتَشْهِدُونَ فِيهِ فَيَلْحَقُونَ إخْوَانَهُمْ
فَأَرَاهُمْ اللّهُ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ وَسَبّبَهُ لَهُمْ فَلَمْ
يَلْبَثُوا أَنْ انْهَزَمُوا إلّا مَنْ شَاءَ اللّهُ مِنْهُمْ فَأَنْزَلَ
اللّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ }
[ وَمَا مُحَمّدٌ إلّا رَسُولٌ ...... أَفَإِنْ مَاتَ ]
[ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلّا بِإِذْنِ اللّهِ . ...]
[ وَكَأَيّنْ مِنْ نَبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ . ....]
وَمِنْهَا
: أَنّ وَقْعَةَ أُحُدٍ كَانَتْ مُقَدّمَةً وَإِرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ
مَوْتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَثَبّتَهُمْ
وَوَبّخَهُمْ عَلَى انْقِلَابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ إنْ مَاتَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ قُتِلَ بَلْ الْوَاجِبُ لَهُ
عَلَيْهِمْ أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى دِينِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَيَمُوتُوا
عَلَيْهِ أَوْ يُقْتَلُوا فَإِنّهُمْ إنّمَا يَعْبُدُونَ رَبّ مُحَمّدٍ
وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوتُ فَلَوْ مَاتَ مُحَمّدٌ أَوْ قُتِلَ لَا يَنْبَغِي
لَهُمْ أَنْ يَصْرِفَهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ فَكُلّ
نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَمَا بُعِثَ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِيُخَلّدَ لَا هُوَ وَلَا هُمْ بَلْ لِيَمُوتُوا عَلَى
الْإِسْلَامِ وَالتّوْحِيدِ فَإِنّ الْمَوْتَ لَا بُدّ مِنْهُ سَوَاءٌ
مَاتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ بَقِيَ
وَلِهَذَا وَبّخَهُمْ عَلَى رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ
لَمّا صَرَخَ الشّيْطَانُ إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ فَقَالَ { وَمَا
مُحَمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ
مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ
عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ
الشّاكِرِينَ } [ آل عِمْرَانَ 144 ] وَالشّاكِرُونَ هُمْ الّذِينَ
عَرَفُوا قَدْرَ النّعْمَةِ فَثَبَتُوا عَلَيْهَا حَتّى مَاتُوا أَوْ
قُتِلُوا فَظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الْعِتَابِ وَحُكْمُ هَذَا الْخِطَابِ
يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَارْتَدّ
مَنْ ارْتَدّ عَلَى عَقِبَيْهِ وَثَبَتَ الشّاكِرُونَ عَلَى دِينِهِمْ
فَنَصَرَهُمْ اللّهُ وَأَعَزّهُمْ وَظَفّرَهُمْ بِأَعْدَائِهِمْ وَجَعَلَ
الْعَاقِبَةَ لَهُمْ ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ جَعَلَ لِكُلّ
نَفْسٍ أَجَلًا لَا بُدّ أَنْ تَسْتَوْفِيَهُ ثُمّ تَلْحَقَ بِهِ فَيَرِدُ
النّاسُ كُلّهُمْ حَوْضَ الْمَنَايَا مَوْرِدًا وَاحِدًا وَإِنْ
تَنَوّعَتْ أَسْبَابُهُ وَيَصْدُرُونَ عَنْ مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ
مَصَادِرَ شَتّى فَرِيقٌ فِي الْجَنّةِ وَفَرِيقٌ فِي السّعِيرِ ثُمّ
أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ أَنْبِيَائِهِ
قُتِلُوا وَقُتِلَ مَعَهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ [ ص 202 ] وَهَنَ مَنْ
بَقِيَ مِنْهُمْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا
اسْتَكَانُوا وَمَا وَهَنُوا عِنْدَ الْقَتْلِ وَلَا ضَعُفُوا وَلَا
اسْتَكَانُوا بَلْ تَلَقّوْا الشّهَادَةَ بِالْقُوّةِ وَالْعَزِيمَةِ
وَالْإِقْدَامِ فَلَمْ يَسْتَشْهِدُوا مُدْبِرِينَ مُسْتَكِينِينَ
أَذِلّةً بَلْ اُسْتُشْهِدُوا أَعِزّةً كِرَامًا مُقْبِلِينَ غَيْرَ
مُدْبِرِينَ وَالصّحِيحُ أَنّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ الْفَرِيقَيْنِ
كِلَيْهِمَا . ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمّا اسْتَنْصَرَتْ بِهِ
الْأَنْبِيَاءُ وَأُمَمُهُمْ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنْ اعْتِرَافِهِمْ
وَتَوْبَتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ رَبّهُمْ أَنْ يُثَبّتَ
أَقْدَامَهُمْ وَأَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَقَالَ { وَمَا
كَانَ قَوْلَهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدّنْيَا وَحُسْنَ
ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ } [ آل عِمْرَانَ 147
] لَمّا عَلِمَ الْقَوْمُ أَنّ الْعَدُوّ إنّمَا يُدَالُ عَلَيْهِمْ
بِذُنُوبِهِمْ وَأَنّ الشّيْطَانَ إنّمَا يَسْتَزِلّهُمْ وَيَهْزِمُهُمْ
بِهَا وَأَنّهَا نَوْعَانِ تَقْصِيرٌ فِي حَقّ أَوْ تَجَاوُزٌ لِحَدّ
وَأَنّ النّصْرَةَ مَنُوطَةٌ بِالطّاعَةِ قَالُوا : رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا
ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا ثُمّ عَلِمُوا أَنّ رَبّهُمْ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنْ لَمْ يُثَبّتْ أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرْهُمْ
لَمْ يَقْدِرُوا هُمْ عَلَى تَثْبِيتِ أَقْدَامِ أَنْفُسِهِمْ وَنَصْرِهَا
عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَسَأَلُوهُ مَا يَعْلَمُونَ أَنّهُ بِيَدِهِ
دُونَهُمْ وَأَنّهُ إنْ لَمْ يُثَبّتْ أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرْهُمْ لَمْ
يَثْبُتُوا وَلَمْ يَنْتَصِرُوا فَوَفّوْا الْمَقَامَيْنِ حَقّهُمَا :
مَقَامَ الْمُقْتَضِي وَهُوَ التّوْحِيدُ وَالِالْتِجَاءُ إلَيْهِ
سُبْحَانَهُ وَمَقَامَ إزَالَةِ الْمَانِعِ مِنْ النّصْرَةِ وَهُوَ
الذّنُوبُ وَالْإِسْرَافُ ثُمّ حَذّرَهُمْ سُبْحَانَهُ مِنْ طَاعَةِ
عَدُوّهِمْ وَأَخْبَرَ أَنّهُمْ إنْ أَطَاعُوهُمْ خَسِرُوا الدّنْيَا
وَالْآخِرَةَ وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ الّذِينَ
أَطَاعُوا الْمُشْرِكِينَ لَمّا انْتَصَرُوا وَظَفِرُوا يَوْمَ أُحُدٍ .
ثُمّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ خَيْرُ
النّاصِرِينَ فَمَنْ وَالَاهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ .
[ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُوا الرّعْبَ . .. ]
ثُمّ
أَخْبَرَهُمْ أَنّهُ سَيُلْقِي فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ الرّعْبَ الّذِي
يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْهُجُومِ عَلَيْهِمْ وَالْإِقْدَامِ عَلَى حَرْبِهِمْ
وَأَنّهُ يُؤَيّدُ حِزْبَهُ بِجُنْدٍ مِنْ الرّعْبِ يَنْتَصِرُونَ بِهِ
عَلَى [ ص 203 ] أَشَدّ شَيْءٍ خَوْفًا وَرُعْبًا وَاَلّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِالشّرْكِ لَهُمْ الْأَمْنُ وَالْهُدَى
وَالْفَلَاحُ وَالْمُشْرِكُ لَهُ الْخَوْفُ وَالضّلَالُ وَالشّقَاءُ .
[ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ ]
ثُمّ
أَخْبَرَهُمْ أَنّهُ صَدَقَهُمْ وَعْدَهُ فِي نُصْرَتِهِمْ عَلَى
عَدُوّهِمْ وَهُوَ الصّادِقُ الْوَعْدِ وَأَنّهُمْ لَوْ اسْتَمَرّوا عَلَى
الطّاعَةِ وَلُزُومِ أَمْرِ الرّسُولِ لَاسْتَمَرّتْ نُصْرَتُهُمْ
وَلَكِنْ انْخَلَعُوا عَنْ الطّاعَةِ وَفَارَقُوا مَرْكَزَهُمْ
فَانْخَلَعُوا عَنْ عِصْمَةِ الطّاعَةِ فَفَارَقَتْهُمْ النّصْرَةُ
فَصَرَفَهُمْ عَنْ عَدُوّهِمْ عُقُوبَةً وَابْتِلَاءً وَتَعْرِيفًا لَهُمْ
بِسُوءِ عَوَاقِبِ الْمَعْصِيَةِ وَحُسْنِ عَاقِبَةِ الطّاعَةِ . ثُمّ
أَخْبَرَ أَنّهُ عَفَا عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلّهِ وَأَنّهُ ذُو فَضْلٍ
عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . قِيلَ لِلْحَسَنِ كَيْفَ يَعْفُو
عَنْهُمْ وَقَدْ سَلّطَ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ حَتّى قَتَلُوا مِنْهُمْ
مَنْ قَتَلُوا وَمَثّلُوا بِهِمْ وَنَالُوا مِنْهُمْ مَا نَالُوهُ ؟
فَقَالَ لَوْلَا عَفْوُهُ عَنْهُمْ لَاسْتَأْصَلَهُمْ وَلَكِنْ بِعَفْوِهِ
عَنْهُمْ دَفَعَ عَنْهُمْ عَدُوّهُمْ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُجْمِعِينَ
عَلَى اسْتِئْصَالِهِم
[ إذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ . ...]
[ شَرْحُ فَأَثَابَكُمْ غَمّا بِغَمّ ]
ثُمّ
ذَكّرَهُمْ بِحَالِهِمْ وَقْتَ الْفِرَارِ مُصْعِدِينَ أَيْ جَادّينَ فِي
الْهَرَبِ وَالذّهَابِ فِي الْأَرْضِ أَوْ صَاعِدِينَ فِي الْجَبَلِ لَا
يَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نَبِيّهِمْ وَلَا أَصْحَابِهِمْ وَالرّسُولُ
يَدْعُوهُمْ فِي أُخْرَاهُمْ إلَى عِبَادِ اللّهِ أَنَا رَسُولُ اللّهِ
فَأَثَابَهُمْ بِهَذَا الْهَرَبِ وَالْفِرَارِ غَمّا بَعْدَ غَمّ غَمّ
الْهَزِيمَةِ وَالْكَسْرَةِ وَغَمّ صَرْخَةِ الشّيْطَانِ فِيهِمْ بِأَنّ
مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ . وَقِيلَ جَازَاكُمْ غَمّا بِمَا غَمَمْتُمْ
رَسُولَهُ بِفِرَارِكُمْ عَنْهُ وَأَسْلَمْتُمُوهُ إلَى عَدُوّهِ
فَالْغَمّ الّذِي حَصَلَ لَكُمْ جَزَاءً عَلَى الْغَمّ الّذِي
أَوْقَعْتُمُوهُ بِنَبِيّهِ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ أَظْهَرُ لِوُجُوهٍ
أَحَدُهَا : أَنّ قَوْلَهُ { لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ
وَلَا مَا أَصَابَكُمْ } تَنْبِيهٌ عَلَى حِكْمَةِ هَذَا الْغَمّ بَعْدَ
الْغَمّ وَهُوَ أَنْ يُنْسِيَهُمْ الْحُزْنَ عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ [ ص
204 ] أَصَابَهُمْ مِنْ الْهَزِيمَةِ وَالْجِرَاحِ فَنَسُوا بِذَلِكَ
السّبَبَ وَهَذَا إنّمَا يَحْصُلُ بِالْغَمّ الّذِي يَعْقُبُهُ غَمّ آخَرُ
. الثّانِي : أَنّهُ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ فَإِنّهُ حَصَلَ لَهُمْ غَمّ
فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ ثُمّ أَعْقَبَهُ غَمّ الْهَزِيمَةِ ثُمّ غَمّ
الْجِرَاحِ الّتِي أَصَابَتْهُمْ ثُمّ غَمّ الْقَتْلِ ثُمّ غَمّ
سَمَاعِهِمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ
قُتِلَ ثُمّ غَمّ ظُهُورِ أَعْدَائِهِمْ عَلَى الْجَبَلِ فَوْقَهُمْ
وَلَيْسَ الْمُرَادُ غَمّيْنَ اثْنَيْنِ خَاصّةً بَلْ غَمّا مُتَتَابِعًا
لِتَمَامِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ . الثّالِثُ أَنّ قَوْلَهُ "
بِغَمّ " مِنْ تَمَامِ الثّوَابِ لَا أَنّهُ سَبَبُ جَزَاءِ الثّوَابِ
وَالْمَعْنَى : أَثَابَكُمْ غَمّا مُتّصِلًا بِغَمّ جَزَاءً عَلَى مَا
وَقَعَ مِنْهُمْ مَنْ الْهُرُوبِ وَإِسْلَامِهِمْ نَبِيّهُمْ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابَهُ وَتَرْكِ اسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ وَهُوَ
يَدْعُوهُمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ لَهُ فِي لُزُومِ مَرْكَزِهِمْ
وَتَنَازُعِهِمْ فِي الْأَمْرِ وَفَشَلِهِمْ وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ
الْأُمُورِ يُوجِبُ غَمّا يَخُصّهُ فَتَرَادَفَتْ عَلَيْهِمْ الْغُمُومُ
كَمَا تَرَادَفَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُهَا وَمُوجِبَاتُهَا وَلَوْلَا أَنْ
تَدَارَكَهُمْ بِعَفْوِهِ لَكَانَ أَمْرًا آخَرَ . وَمِنْ لُطْفِهِ بِهِمْ
وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنّ هَذِهِ الْأُمُورَ الّتِي صَدَرَتْ
مِنْهُمْ كَانَتْ مِنْ مُوجِبَاتِ الطّبَاعِ وَهِيَ مِنْ بَقَايَا
النّفُوسِ الّتِي تَمْنَعُ مِنْ النّصْرَةِ الْمُسْتَقِرّةِ فَقَيّضَ
لَهُمْ بِلُطْفِهِ أَسْبَابًا أَخْرَجَهَا مِنْ الْقُوّةِ إلَى الْفِعْلِ
فَتَرَتّبَ عَلَيْهَا آثَارُهَا الْمَكْرُوهَةُ فَعَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنّ
التّوْبَةَ مِنْهَا وَالِاحْتِرَازَ مِنْ أَمْثَالِهَا وَدَفْعَهَا
بِأَضْدَادِهَا أَمْرٌ مُتَعَيّنٌ لَا يَتِمّ لَهُمْ الْفَلَاحُ
وَالنّصْرَةُ الدّائِمَةُ الْمُسْتَقِرّةُ إلّا بِهِ فَكَانُوا أَشَدّ
حَذَرًا بَعْدَهَا وَمَعْرِفَةً بِالْأَبْوَابِ الّتِي دَخَلَ عَلَيْهِمْ
مِنْهَا .
وَرُبّمَا صَحّتْ الْأَجْسَامُ بِالْعِلَلِ
[ ثُمّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُعَاسًا]
[ مَعْنَى ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ ]
ثُمّ
إنّهُ تَدَارَكَهُمْ سُبْحَانَهُ بِرَحْمَتِهِ وَخَفّفَ عَنْهُمْ ذَلِكَ
الْغَمّ وَغَيّبَهُ عَنْهُمْ بِالنّعَاسِ الّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ
أَمْنًا مِنْهُ وَرَحْمَةً وَالنّعَاسُ فِي الْحَرْبِ عَلَامَةُ
النّصْرَةِ [ ص 205 ] وَالْأَمْنِ كَمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ
بَدْر ٍ وَأَخْبَرَ أَنّ مَنْ لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ النّعَاسُ فَهُوَ
مِمّنْ أَهَمّتْهُ نَفْسُهُ لَا دِينُهُ وَلَا نَبِيّهُ وَلَا أَصْحَابُهُ
وَأَنّهُمْ يَظُنّونَ بِاَللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ
وَقَدْ فُسّرَ هَذَا الظّنّ الّذِي لَا يَلِيقُ بِاَللّهِ بِأَنّهُ
سُبْحَانَهُ لَا يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَأَنّ أَمْرَهُ سَيَضْمَحِلّ
وَأَنّهُ يُسْلِمُهُ لِلْقَتْلِ وَقَدْ فُسّرَ بِظَنّهِمْ أَنّ مَا
أَصَابَهُمْ لَمْ يَكُنْ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ وَلَا حِكْمَةَ لَهُ
فِيهِ فَفُسّرَ بِإِنْكَارِ الْحِكْمَةِ وَإِنْكَارِ الْقَدَرِ
وَإِنْكَارِ أَنْ يُتِمّ أَمْرَ رَسُولِهِ وَيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ
كُلّهِ وَهَذَا هُوَ ظَنّ السّوْءِ الّذِي ظَنّهُ الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُشْرِكُونَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ( سُورَةِ الْفَتْحِ
حَيْثُ يَقُولُ { وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ
وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظّانّينَ بِاللّهِ ظَنّ السّوْءِ
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوْءِ وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ
وَأَعَدّ لَهُمْ جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [ الْفَتْحُ 6 ] وَإِنّمَا
كَانَ هَذَا ظَنّ السّوْءِ وَظَنّ الْجَاهِلِيّةِ الْمَنْسُوبَ إلَى
أَهْلِ الْجَهْلِ وَظَنّ غَيْرِ الْحَقّ لِأَنّهُ ظَنّ غَيْرِ مَا يَلِيقُ
بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَذَاتِهِ الْمُبَرّأَةِ
مِنْ كُلّ عَيْبٍ وَسُوءٍ بِخِلَافِ مَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ
وَتَفَرّدِهِ بِالرّبُوبِيّةِ وَالْإِلَهِيّهِ وَمَا يَلِيقُ بِوَعْدِهِ
الصّادِقِ الّذِي لَا يُخْلِفُهُ وَبِكَلِمَتِهِ الّتِي سَبَقَتْ
لِرُسُلِهِ أَنّهُ يَنْصُرُهُمْ وَلَا يَخْذُلُهُمْ وَلِجُنْدِهِ
بِأَنّهُمْ هُمْ الْغَالِبُونَ فَمَنْ ظَنّ بِأَنّهُ لَا يَنْصُرُ
رَسُولَهُ وَلَا يُتِمّ أَمْرَهُ وَلَا يُؤَيّدُهُ وَيُؤَيّدُ حِزْبَهُ
وَيُعْلِيهِمْ وَيُظْفِرُهُمْ بِأَعْدَائِهِ وَيُظْهِرُهُمْ عَلَيْهِمْ
وَأَنّهُ لَا يَنْصُرُ دِينَهُ وَكِتَابَهُ وَأَنّهُ يُدِيلُ الشّرْكَ
عَلَى التّوْحِيدِ وَالْبَاطِلَ عَلَى الْحَقّ إدَالَةً مُسْتَقِرّةً
يَضْمَحِلّ مَعَهَا التّوْحِيدُ وَالْحَقّ اضْمِحْلَالًا لَا يَقُومُ
بَعْدَهُ أَبَدًا فَقَدْ ظَنّ بِاَللّهِ ظَنّ السّوْءِ وَنَسَبَهُ إلَى
خِلَافِ مَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَصِفَاتِهِ وَنُعُوتِهِ
فَإِنّ حَمْدَهُ وَعِزّتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَإِلَهِيّتَهُ تَأْبَى ذَلِكَ
وَتَأْبَى أَنْ يُذَلّ حِزْبُهُ وَجُنْدُهُ وَأَنْ تَكُونَ النّصْرَةُ
الْمُسْتَقِرّةُ وَالظّفَرُ الدّائِمُ لِأَعْدَائِهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ
الْعَادِلِينَ بِهِ فَمَنْ ظَنّ بِهِ ذَلِكَ فَمَا عَرَفَهُ وَلَا عَرَفَ
أَسَمَاءَهُ وَلَا عَرَفَ صِفَاتِهِ وَكَمَالَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ
أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ فَمَا عَرَفَهُ وَلَا عَرَفَ
رُبُوبِيّتَهُ وَمُلْكَهُ وَعَظَمَتَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ
يَكُونَ قَدّرَ مَا قَدّرَهُ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ لِحِكْمَةٍ [ ص 206 ]
صَدَرَ عَنْ مَشِيئَةٍ مُجَرّدَةٍ عَنْ حِكْمَةٍ وَغَايَةٍ مَطْلُوبَةٍ
هِيَ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ فَوْتِهَا وَأَنّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ
الْمَكْرُوهَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهَا لَا يَخْرُجُ تَقْدِيرُهَا عَنْ
الْحِكْمَةِ لِإِفْضَائِهَا إلَى مَا يُحِبّ وَإِنْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً
لَهُ فَمَا قَدّرَهَا سُدًى وَلَا أَنْشَأَهَا عَبَثًا وَلَا خَلَقَهَا
بَاطِلًا { ذَلِكَ ظَنّ الّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلّذِينَ كَفَرُوا
مِنَ النّارِ } [ ص : 27 ] وَأَكْثَرُ النّاسِ يَظُنّونَ بِاَللّهِ غَيْرَ
الْحَقّ ظَنّ السّوْءِ فِيمَا يَخْتَصّ بِهِمْ وَفِيمَا يَفْعَلُهُ
بِغَيْرِهِمْ وَلَا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ إلّا مَنْ عَرَفَ اللّهَ
وَعَرَفَ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَعَرَفَ مُوجِبَ حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ
فَمَنْ قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَأَيِسَ مِنْ رُوحِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ
ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ جَوّزَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَذّبَ أَوْلِيَاءَهُ مَعَ
إحْسَانِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ وَيُسَوّيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ
فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ
خَلْقَهُ سُدًى مُعَطّلِينَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنّهْيِ وَلَا يُرْسِلَ
إلَيْهِمْ رُسُلَهُ وَلَا يُنْزِلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ بَلْ يَتْرُكُهُمْ
هَمَلًا كَالْأَنْعَامِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ
أَنّهُ لَنْ يَجْمَعَ عَبِيدَهُ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِلثّوَابِ
وَالْعِقَابِ فِي دَارٍ يُجَازِي الْمُحْسِنَ فِيهَا بِإِحْسَانِهِ
وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ وَيُبَيّنَ لِخَلْقِهِ حَقِيقَةَ مَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ وَيُظْهِرَ لِلْعَالَمِينَ كُلّهِمْ صِدْقَهُ وَصِدْقَ
رُسُلِهِ وَأَنّ أَعْدَاءَهُ كَانُوا هُمْ الْكَاذِبِينَ فَقَدْ ظَنّ بِهِ
ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ أَنّهُ يُضِيعُ عَلَيْهِ عَمَلَهُ الصّالِحَ
الّذِي عَمِلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ عَلَى امْتِثَالِ
أَمْرِهِ وَيُبْطِلُهُ عَلَيْهِ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ أَنّهُ
يُعَاقِبُهُ بِمَا لَا صُنْعَ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ
وَلَا إرَادَةَ فِي حُصُولِهِ بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَى فِعْلِهِ هُوَ
سُبْحَانَهُ بِهِ أَوْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَيّدَ
أَعْدَاءَهُ الْكَاذِبِينَ عَلَيْهِ بِالْمُعْجِزَاتِ الّتِي يُؤَيّدُ
بِهَا أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَيُجْرِيهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ يُضِلّونَ
بِهَا عِبَادَهُ وَأَنّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ كُلّ شَيْءٍ حَتّى تَعْذِيبُ
مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي طَاعَتِهِ فَيُخَلّدُهُ فِي [ ص 207 ] أَسْفَلَ
السّافِلِينَ وَيُنَعّمُ مَنْ اسْتَنْفَدَ عُمُرَهُ فِي عَدَاوَتِهِ
وَعَدَاوَةِ رُسُلِهِ وَدِينِهِ فَيَرْفَعُهُ إلَى أَعْلَى عِلّيّينَ
وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ عِنْدَهُ فِي الْحُسْنِ سَوَاءٌ وَلَا يُعْرَفُ
امْتِنَاعُ أَحَدِهِمَا وَوُقُوعُ الْآخَرِ إلّا بِخَبَرٍ صَادِقٍ وَإِلّا
فَالْعَقْلُ لَا يَقْضِي بِقُبْحِ أَحَدِهِمَا وَحُسْنِ الْآخَرِ فَقَدْ
ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ أَخْبَرَ عَنْ
نَفْسِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ بِمَا ظَاهِرُهُ بَاطِلٌ وَتَشْبِيهٌ
وَتَمْثِيلٌ وَتَرْكُ الْحَقّ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ وَإِنّمَا رَمَزَ
إلَيْهِ رُمُوزًا بَعِيدَةً وَأَشَارَ إلَيْهِ إشَارَاتٍ مُلْغِزَةً لَمْ
يُصَرّحْ بِهِ وَصَرّحَ دَائِمًا بِالتّشْبِيهِ وَالتّمْثِيلِ
وَالْبَاطِلِ وَأَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ ان يُتْعِبُوا أَذْهَانَهُمْ
وَقُوَاهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ فِي تَحْرِيفِ كَلَامِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ
وَتَأْوِيلِهِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَيَتَطّلَبُوا لَهُ وُجُوهَ
الِاحْتِمَالَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ وَالتّأْوِيلَاتِ الّتِي هِيَ
بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِي أَشْبَهُ مِنْهَا بِالْكَشْفِ وَالْبَيَانِ
وَأَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى عُقُولِهِمْ
وَآرَائِهِمْ لَا عَلَى كِتَابِهِ بَلْ أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ لَا
يَحْمِلُوا كَلَامَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُونَ مِنْ خِطَابِهِمْ
وَلُغَتِهِمْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يُصَرّحَ لَهُمْ بِالْحَقّ
الّذِي يَنْبَغِي التّصْرِيحُ بِهِ وَيُرِيحَهُمْ مِنْ الْأَلْفَاظِ
الّتِي تُوقِعُهُمْ فِي اعْتِقَادِ الْبَاطِلِ فَلَمْ يَفْعَلْ بَلْ
سَلَكَ بِهِمْ خِلَافَ طَرِيقِ الْهُدَى وَالْبَيَانِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ
ظَنّ السّوْءِ فَإِنّهُ إنْ قَالَ إنّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى التّعْبِيرِ
عَنْ الْحَقّ بِاللّفْظِ الصّرِيحَ الّذِي عَبّرَ بِهِ هُوَ وَسَلَفُهُ
فَقَدْ ظَنّ بِقُدْرَتِهِ الْعَجْزَ وَإِنْ قَالَ إنّهُ قَادِرٌ وَلَمْ
يُبَيّنْ وَعَدَلَ عَنْ الْبَيَانِ وَعَنْ التّصْرِيحِ بِالْحَقّ إلَى مَا
يُوهِمُ بَلْ يُوقِعُ فِي الْبَاطِلِ الْمُحَالِ وَالِاعْتِقَادِ
الْفَاسِدِ فَقَدْ ظَنّ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ ظَنّ السّوْءِ وَظَنّ
أَنّهُ هُوَ وَسَلَفُهُ عَبّرُوا عَنْ الْحَقّ بِصَرِيحِهِ دُونَ اللّهِ
وَرَسُولِهِ وَأَنّ الْهُدَى وَالْحَقّ فِي كَلَامِهِمْ وَعِبَارَاتِهِمْ
. وَأَمّا كَلَامُ اللّهِ فَإِنّمَا يُؤْخَذُ مِنْ ظَاهِرِهِ التّشْبِيهُ
وَالتّمْثِيلُ وَالضّلَالُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُتَهَوّكِينَ [ ص 208 ]
ظَنّ السّوْءِ وَمِنْ الظّانّينَ بِهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ
. وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ وَلَا
يَقْدِرُ عَلَى إيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ .
وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ كَانَ مُعَطّلًا مِنْ الْأَزَلِ إلَى الْأَبَدِ
عَنْ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يُوصَفُ حِينَئِذٍ بِالْقُدْرَةِ عَلَى
الْفِعْلِ ثُمّ صَارَ قَادِرًا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا
فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ لَا يَسْمَعُ
وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَعْلَمُ الْمَوْجُودَاتِ وَلَا عَدَدَ السّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلَا النّجُومِ وَلَا بَنِي آدَمَ وَحَرَكَاتِهِمْ
وَأَفْعَالَهُمْ وَلَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ فِي
الْأَعْيَانِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ أَنّهُ لَا
سَمْعَ لَهُ وَلَا بَصَرَ وَلَا عِلْمَ لَهُ وَلَا إرَادَةَ وَلَا كَلَامَ
يَقُولُ بِهِ وَأَنّهُ لَمْ يُكَلّمْ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ وَلَا
يَتَكَلّمُ أَبَدًا وَلَا قَالَ وَلَا يَقُولُ وَلَا لَهُ أَمْرٌ وَلَا
نَهْيٌ يَقُومُ بِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ
أَنّهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ وَأَنّ
نِسْبَةَ ذَاتِهِ تَعَالَى إلَى عَرْشِهِ كَنِسْبَتِهَا إلَى أَسْفَلِ
السّافِلِينَ وَإِلَى الْأَمْكِنَةِ الّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا
وَأَنّهُ أَسْفَلُ كَمَا أَنّهُ أَعْلَى فَقَدْ ظَنّ بِهِ أَقْبَحَ الظّنّ
وَأَسْوَأَهُ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ لَيْسَ يُحِبّ الْكُفْرَ
وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَيُحِبّ الْفَسَادَ كَمَا يُحِبّ
الْإِيمَانَ وَالْبِرّ وَالطّاعَةَ وَالْإِصْلَاحَ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ
السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ لَا يُحِبّ وَلَا يَرْضَى وَلَا
يَغْضَبُ وَلَا يَسْخَطُ وَلَا يُوَالِي [ ص 209 ] أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ
وَلَا يَقْرُبُ مِنْهُ أَحَدٌ وَأَنّ ذَوَاتَ الشّيَاطِينِ فِي الْقُرْبِ
مِنْ ذَاتِهِ كَذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرّبِينَ وَأَوْلِيَائِهِ
الْمُفْلِحِينَ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ أَنّهُ
يُسَوّي بَيْنَ الْمُتَضَادّيْنِ أَوْ يُفَرّقُ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ
مِنْ كُلّ وَجْهٍ أَوْ يُحْبِطُ طَاعَاتِ الْعُمْرِ الْمَدِيدِ
الْخَالِصَةِ الصّوَابِ بِكَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ تَكُونُ بَعْدَهَا
فَيَخْلُدُ فَاعِلُ تِلْكَ الطّاعَاتِ فِي النّارِ أَبَدَ الْآبِدِينَ
بِتِلْكَ الْكَبِيرَةِ وَيُحْبِطُ بِهَا جَمِيعَ طَاعَاتِهِ وَيُخَلّدُهُ
فِي الْعَذَابِ كَمَا يُخَلّدُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ
وَقَدْ اسْتَنْفَدَ سَاعَاتِ عُمْرِهِ فِي مَسَاخِطِهِ وَمُعَادَاةِ
رُسُلِهِ وَدِينِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَبِالْجُمْلَةِ
فَمَنْ ظَنّ بِهِ خِلَافَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ
رُسُلُهُ أَوْ عَطّلَ حَقَائِقَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَتْهُ
بِهِ رُسُلُهُ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ أَنّ لَهُ
وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا أَوْ أَنّ أَحَدًا يَشْفَعُ عِنْدَهُ بِدُونِ
إذْنِهِ أَوْ أَنّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ وَسَائِطَ يَرْفَعُونَ
حَوَائِجَهُمْ إلَيْهِ أَوْ أَنّهُ نَصَبَ لِعِبَادِهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ
دُونِهِ يَتَقَرّبُونَ بِهِمْ إلَيْهِ وَيَتَوَسّلُونَ بِهِمْ إلَيْهِ
وَيَجْعَلُونَهُمْ وَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَيَدْعُونَهُمْ
وَيُحِبّونَهُمْ كَحُبّهِ وَيَخَافُونَهُمْ وَيَرْجُونَهُمْ فَقَدْ ظَنّ
بِهِ أَقْبَحَ الظّنّ وَأَسْوَأَهُ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ يَنَالُ مَا
عِنْدَهُ بِمَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ كَمَا يَنَالُهُ بِطَاعَتِهِ
وَالتّقَرّبِ إلَيْهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ خِلَافَ حِكْمَتِهِ وَخِلَافَ
مُوجَبِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَهُوَ مِنْ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ
بِهِ أَنّهُ إذَا تَرَكَ لِأَجْلِهِ شَيْئًا لَمْ يُعَوّضْهُ خَيْرًا
مِنْهُ أَوْ مَنْ فَعَلَ لِأَجْلِهِ شَيْئًا لَمْ يُعْطِهِ أَفْضَلَ
مِنْهُ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ
يَغْضَبُ عَلَى عَبْدِهِ وَيُعَاقِبُهُ وَيَحْرِمُهُ بِغَيْرِ جُرْمٍ
وَلَا [ ص 210 ] الْمَشِيئَةِ وَمَحْضِ الْإِرَادَةِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ
ظَنّ السّوْءِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ إذَا صَدَقَهُ فِي الرّغْبَةِ
وَالرّهْبَةِ وَتَضَرّعَ إلَيْهِ وَسَأَلَهُ وَاسْتَعَانَ بِهِ وَتَوَكّلَ
عَلَيْهِ أَنّهُ يُخَيّبُهُ وَلَا يُعْطِيهِ مَا سَأَلَهُ فَقَدْ ظَنّ
بِهِ ظَنّ السّوْءِ وَظَنّ بِهِ خِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ . وَمَنْ ظَنّ
بِهِ أَنّهُ يُثِيبُهُ إذَا عَصَاهُ بِمَا يُثِيبُهُ بِهِ إذَا أَطَاعَهُ
وَسَأَلَهُ ذَلِكَ فِي دُعَائِهِ فَقَدْ ظَنّ بِهِ خِلَافَ مَا
تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ وَخِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ وَمَا لَا
يَفْعَلُهُ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ إذَا أَغْضَبَهُ وَأَسْخَطَهُ
وَأَوْضَعَ فِي مَعَاصِيهِ ثُمّ اتّخَذَ مِنْ دُونِهِ وَلِيّا وَدَعَا
مَنْ دُونِهِ مَلَكًا أَوْ بَشَرًا حَيّا أَوْ مَيّتًا يَرْجُو بِذَلِكَ
أَنْ يَنْفَعَهُ عِنْدَ رَبّهِ وَيُخَلّصَهُ مِنْ عَذَابِهِ فَقَدْ ظَنّ
بِهِ ظَنّ السّوْءِ وَذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي بُعْدِهِ مِنْ اللّهِ وَفِي
عَذَابِهِ . وَمَنْ ظَنّ بِهِ أَنّهُ يُسَلّطُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمّدٍ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْدَاءَهُ تَسْلِيطًا مُسْتَقِرّا
دَائِمًا فِي حَيَاتِهِ وَفِي مَمَاتِهِ وَابْتَلَاهُ بِهِمْ لَا
يُفَارِقُونَهُ فَلَمّا مَاتَ اسْتَبَدّوا بِالْأَمْرِ دُونَ وَصِيّةٍ
وَظَلَمُوا أَهْلَ بَيْتِهِ وَسَلَبُوهُمْ حَقّهُمْ وَأَذَلّوهُمْ
وَكَانَتْ الْعِزّةُ وَالْغَلَبَةُ وَالْقَهْرُ لِأَعْدَائِهِ
وَأَعْدَائِهِمْ دَائِمًا مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وَلَا ذَنْبٍ
لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ الْحَقّ وَهُوَ يَرَى قَهْرَهُمْ لَهُمْ
وَغَصْبَهُمْ إيّاهُمْ حَقّهُمْ وَتَبْدِيلَهُمْ دِينَ نَبِيّهِمْ وَهُوَ
يَقْدِرُ عَلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ وَجُنْدِهِ وَلَا
يَنْصُرُهُمْ وَلَا يُدِيلُهُمْ بَلْ يُدِيلُ أَعْدَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ
أَبَدًا أَوْ أَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ حَصَلَ هَذَا
بِغَيْرِ قُدْرَتِهِ وَلَا مَشِيئَتِهِ ثُمّ جَعَلَ الْمُبَدّلِينَ
لِدِينِهِ مُضَاجِعِيهِ فِي حُفْرَتِهِ تُسَلّمُ أُمّتُهُ عَلَيْهِ
وَعَلَيْهِمْ كُلّ وَقْتٍ كَمَا تَظُنّهُ الرّافِضَةُ فَقَدْ ظَنّ بِهِ
أَقْبَحَ الظّنّ وَأَسْوَأَهُ سَوَاءٌ قَالُوا : إنّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ
يَنْصُرَهُمْ وَيَجْعَلَ لَهُمْ الدّوْلَةَ وَالظّفَرَ أَوْ أَنّهُ غَيْرُ
قَادِرٍ عَلَى ذَلِكَ فَهُمْ قَادِحُونَ فِي قُدْرَتِهِ أَوْ فِي
حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ وَذَلِكَ مِنْ ظَنّ السّوْءِ بِهِ وَلَا رَيْبَ
أَنّ الرّبّ الّذِي فَعَلَ هَذَا بَغِيضٌ إلَى مَنْ ظَنّ بِهِ [ ص 211 ]
وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَفْعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ لَكِنْ رَفَوْا هَذَا
الظّنّ الْفَاسِدَ بِخَرْقٍ أَعْظَمَ مِنْهُ وَاسْتَجَارُوا مِنْ
الرّمْضَاءِ بِالنّارِ فَقَالُوا : لَمْ يَكُنْ هَذَا بِمَشِيئَةِ اللّهِ
وَلَا لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى دَفْعِهِ وَنَصْرِ أَوْلِيَائِهِ فَإِنّهُ لَا
يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ وَلَا هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ
قُدْرَتِهِ فَظَنّوا بِهِ ظَنّ إخْوَانِهِمْ الْمَجُوسِ وَالثّنَوِيّةِ
بِرَبّهِمْ وَكُلّ مُبْطِلٍ وَكَافِرٍ وَمُبْتَدِعٍ مَقْهُورٍ مُسْتَذَلّ
فَهُوَ يَظُنّ بِرَبّهِ هَذَا الظّنّ وَأَنّهُ أَوْلَى بِالنّصْرِ
وَالظّفَرِ وَالْعُلُوّ مِنْ خُصُومِهِ فَأَكْثَرُ الْخَلْقِ بَلْ
كُلّهُمْ إلّا مَنْ شَاءَ اللّهُ يَظُنّونَ بِاَللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ
السّوْءِ فَإِنّ غَالِبَ بَنِي آدَمَ يَعْتَقِدُ أَنّهُ مَبْخُوسُ الْحَقّ
نَاقِصُ الْحَظّ وَأَنّهُ يَسْتَحِقّ فَوْقَ مَا أَعْطَاهُ اللّهُ
وَلِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ ظَلَمَنِي رَبّي وَمَنَعَنِي مَا أَسْتَحِقّهُ
وَنَفْسُهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهُوَ بِلِسَانِهِ يُنْكِرُهُ
وَلَا يَتَجَاسَرُ عَلَى التّصْرِيحِ بِهِ وَمَنْ فَتّشَ نَفْسَهُ
وَتَغَلْغَلَ فِي مَعْرِفَةِ دَفَائِنِهَا وَطَوَايَاهَا رَأَى ذَلِكَ
فِيهَا كَامِنًا كُمُونَ النّارِ فِي الزّنَادِ فَاقْدَحْ زِنَادَ مَنْ
شِئْت يُنْبِئْك شَرَارُهُ عَمّا فِي زِنَادِهِ وَلَوْ فَتّشْت مَنْ
فَتّشْته لَرَأَيْت عِنْدَهُ تَعَتّبًا عَلَى الْقَدَرِ وَمَلَامَةً لَهُ
وَاقْتِرَاحًا عَلَيْهِ خِلَافَ مَا جَرَى بِهِ وَأَنّهُ كَانَ يَنْبَغِي
أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا فَمُسْتَقِلّ وَمُسْتَكْثِرٌ وَفَتّشْ نَفْسَك
هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ ذَلِكَ .
فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ
وَإِلّا فَإِنّي لَا إِخَالُك نَاجِيًا
فَلْيَعْتَنِ
اللّبِيبُ النّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَلْيَتُبْ إلَى
اللّهِ تَعَالَى وَلِيَسْتَغْفِرْهُ كُلّ وَقْتٍ مِنْ ظَنّهِ بِرَبّهِ
ظَنّ السّوْءِ وَلْيَظُنّ السّوءَ بِنَفْسِهِ الّتِي هِيَ مَأْوَى كُلّ
سُوءٍ وَمَنْبَعُ كُلّ شَرّ الْمُرَكّبَةُ عَلَى الْجَهْلِ وَالظّلْمِ
فَهِيَ أَوْلَى بِظَنّ السّوءِ مِنْ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَأَعْدَلِ
الْعَادِلِينَ وَأَرْحَمِ الرّاحِمِينَ الْغَنِيّ الْحَمِيدِ الّذِي لَهُ
الْغِنَى التّامّ وَالْحَمْدُ التّامّ وَالْحِكْمَةُ التّامّةُ
الْمُنَزّهُ عَنْ كُلّ سُوءٍ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ
وَأَسْمَائِهِ فَذَاتُهُ لَهَا الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ كُلّ وَجْهٍ
وَصِفَاتُهُ كَذَلِكَ وَأَفْعَالُهُ كَذَلِكَ كُلّهَا حِكْمَةٌ
وَمَصْلَحَةٌ وَرَحْمَةٌ وَعَدْلٌ وَأَسْمَاؤُهُ كُلّهَا حُسْنَى [ ص 212 ]
فَلَا تَظُنّنّ بِرَبّك ظَنّ سَوْءٍ فَإِنّ اللّهَ أَوْلَى بِالْجَمِيلِ
وَلَا تَظُنّنّ بِنَفْسِكَ قَطّ خَيْرًا وَكَيْفَ بِظَالِمٍ جَانٍ جَهُولِ
وَقُلْ يَا نَفْسُ مَأْوَى كُلّ سُوءٍ أَيُرْجَى الْخَيْرُ مِنْ مَيْتٍ بَخِيلِ
وَظُنّ بِنَفْسِكَ السّوآى تَجِدْهَا كَذَاكَ وَخَيْرُهَا كَالْمُسْتَحِيلِ
وَمَا بِكَ مِنْ تُقًى فِيهَا وَخَيْرٍ فَتِلْكَ مَوَاهِبُ الرّبّ الْجَلِيلِ
وَلَيْسَ بِهَا وَلَا مِنْهَا وَلَكِنْ مِنْ الرّحْمَنِ فَاشْكُرْ لِلدّلِيلِ
وَالْمَقْصُودِ
مَا سَاقَنَا إلَى هَذَا الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِهِ { وَطَائِفَةٌ قَدْ
أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ
الْجَاهِلِيّةِ } [ آل عِمْرَانَ 154 ] ثُمّ أَخْبَرَ عَنْ الْكَلَامِ
الّذِي صَدَرَ عَنْ ظَنّهِمْ الْبَاطِلِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ { هَلْ لَنَا
مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ } [ آل عِمْرَانَ 154 ] وَقَوْلُهُمْ { لَوْ
كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } [ آل
عِمْرَانَ 154 ] فَلَيْسَ مَقْصُودُهُمْ بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى
وَالثّانِيَةِ إثْبَاتَ الْقَدَرِ وَرَدّ الْأَمْرِ كُلّهِ إلَى اللّهِ
وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَقْصُودَهُمْ بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى لَمَا ذُمّوا
عَلَيْهِ وَلَمَا حَسُنَ الرّدّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ { قُلْ إِنّ
الْأَمْرَ كُلّهُ لِلّهِ } [ سُورَةُ آلُ عِمْرَانَ ] وَلَا كَانَ
مَصْدَرَ هَذَا الْكَلَامِ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ وَلِهَذَا قَالَ غَيْرُ
وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسّرِينَ إنّ ظَنّهُمْ الْبَاطِلَ هَا هُنَا : هُوَ
التّكْذِيبُ بِالْقَدَرِ وَظَنّهُمْ أَنّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ إلَيْهِمْ
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ
تَبَعًا لَهُمْ يَسْمَعُونَ مِنْهُمْ لَمَا أَصَابَهُمْ الْقَتْلُ
وَلَكَانَ النّصْرُ وَالظّفَرُ لَهُمْ فَأَكْذَبَهُمْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ
فِي هَذَا الظّنّ الْبَاطِلِ الّذِي هُوَ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ وَهُوَ
الظّنّ الْمَنْسُوبُ إلَى أَهْلِ الْجَهْلِ الّذِينَ يَزْعُمُونَ بَعْدَ
نَفَاذِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ الّذِي لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ نَفَاذِهِ
أَنّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى دَفْعِهِ وَأَنّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ
إلَيْهِمْ لَمَا نَفَذَ الْقَضَاءُ فَأَكْذَبَهُمْ اللّهُ بِقَوْلِهِ {
قُلْ إِنّ الْأَمْرَ كُلّهُ لِلّهِ } فَلَا يَكُونُ إلّا مَا سَبَقَ بِهِ
قَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ وَجَرَى بِهِ عِلْمُهُ وَكِتَابُهُ السّابِقُ وَمَا
شَاءَ اللّهُ كَانَ وَلَا بُدّ شَاءَ النّاسُ أَمْ أَبَوْا وَمَا لَمْ
يَشَأْ لَمْ يَكُنْ شَاءَهُ النّاسُ أَمْ لَمْ يَشَاءُوهُ وَمَا جَرَى
عَلَيْكُمْ مِنْ الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ فَبِأَمْرِهِ الْكَوْنِيّ
الّذِي لَا سَبِيلَ إلَى دَفْعِهِ سَوَاءٌ كَانَ لَكُمْ مِنْ الْأَمْرِ
شَيْءٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَأَنّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ
وَقَدْ كُتِبَ الْقَتْلُ عَلَى بَعْضِكُمْ لَخَرَجَ الّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ مِنْ بُيُوتِهِمْ إلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلَا بُدّ
سَوَاءٌ كَانَ لَهُمْ مِنْ الْأَمْرِ [ ص 213 ] أَظْهَرِ الْأَشْيَاءِ
إبْطَالًا لِقَوْلِ الْقَدَرِيّةِ النّفَاةِ الّذِينَ يُجَوّزُونَ أَنْ
يَقَعَ مَا لَا يَشَاؤُهُ اللّهُ وَأَنْ يَشَاءَ مَا لَا يَقَعُ .
فَصْلٌ [ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ ]
ثُمّ
أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ حِكْمَةٍ أُخْرَى فِي هَذَا التّقْدِيرِ هِيَ
ابْتِلَاءُ مَا فِي صُدُورِهِمْ وَهُوَ اخْتِبَارُ مَا فِيهَا مِنْ
الْإِيمَانِ وَالنّفَاقِ فَالْمُؤْمِنُ لَا يَزْدَادُ بِذَلِكَ إلّا
إيمَانًا وَتَسْلِيمًا وَالْمُنَافِقُ وَمَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ لَا
بُدّ أَنْ يَظْهَرَ مَا فِي قَلْبِهِ عَلَى جَوَارِحِهِ وَلِسَانِهِ .
[ وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ]
ثُمّ
ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى : وَهُوَ تَمْحِيصُ مَا فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ تَخْلِيصُهُ وَتَنْقِيَتُهُ وَتَهْذِيبُهُ فَإِنّ
الْقُلُوبَ يُخَالِطُهَا بِغَلَبَاتِ الطّبَائِعِ ؟ وَمَيْلِ النّفُوسِ
وَحُكْمِ الْعَادَةِ وَتَزْيِينِ الشّيْطَانِ وَاسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ
مَا يُضَادّ مَا أُودِعَ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ
وَالْبِرّ وَالتّقْوَى فَلَوْ تُرِكَتْ فِي عَافِيَةٍ دَائِمَةٍ
مُسْتَمِرّةٍ لَمْ تَتَخَلّصْ مِنْ هَذِهِ الْمُخَالَطَةِ وَلَمْ
تَتَمَحّصْ مِنْهُ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الْعَزِيزِ أَنْ قَيّضَ لَهَا
مِنْ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا مَا يَكُونُ كَالدّوَاءِ الْكَرِيهِ لِمَنْ
عَرَضَ لَهُ دَاءٌ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ طَبِيبُهُ بِإِزَالَتِهِ
وَتَنْقِيَتِهِ مِنْ جَسَدِهِ وَإِلّا خِيفَ عَلَيْهِ مِنْهُ الْفَسَادُ
وَالْهَلَاكُ فَكَانَتْ نِعْمَتُهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ
الْكَسْرَةِ وَالْهَزِيمَةِ وَقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ تُعَادِلُ
نِعْمَتُهُ عَلَيْهِمْ بِنَصْرِهِمْ وَتَأْيِيدِهِمْ وَظَفَرِهِمْ
بِعَدُوّهِمْ فَلَهُ عَلَيْهِمْ النّعْمَةُ التّامّةُ فِي هَذَا وَهَذَا .
[ إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ ]
ثُمّ
أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ تَوَلّي مَنْ تَوَلّى مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ الصّادِقِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَأَنّهُ بِسَبَبِ
كَسْبِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ فَاسْتَزَلّهُمْ الشّيْطَانُ بِتِلْكَ
الْأَعْمَالِ حَتّى تَوَلّوْا فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ جُنْدًا عَلَيْهِمْ
ازْدَادَ بِهَا عَدُوّهُمْ قُوّةً فَإِنّ الْأَعْمَالَ جُنْدٌ لِلْعَبْدِ
وَجُنْدٌ عَلَيْهِ وَلَا بُدّ فَلِلْعَبْدِ كُلّ وَقْتٍ سَرِيّةٌ مِنْ
نَفْسِهِ تَهْزِمُهُ أَوْ تَنْصُرُهُ فَهُوَ يَمُدّ عَدُوّهُ
بِأَعْمَالِهِ مِنْ حَيْثُ يَظُنّ أَنّهُ يُقَاتِلُهُ بِهَا وَيَبْعَثُ
إلَيْهِ سَرِيّةً تَغْزُوهُ مَعَ عَدُوّهِ مِنْ حَيْثُ يَظُنّ أَنّهُ
يَغْزُو عَدُوّهُ فَأَعْمَالُ الْعَبْدِ تَسُوقُهُ قَسْرًا إلَى
مُقْتَضَاهَا مِنْ الْخَيْرِ وَالشّرّ وَالْعَبْدُ لَا يَشْعُرُ أَوْ
يَشْعُرُ وَيَتَعَامَى فَفِرَارُ الْإِنْسَانِ مِنْ عَدُوّهِ وَهُوَ
يُطِيقُهُ إنّمَا هُوَ بِجُنْدٍ مِنْ عَمَلِهِ بَعَثَهُ لَهُ الشّيْطَانُ
وَاسْتَزَلّهُ بِهِ [ ص 214 ]
[ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ ]
[ أَوَلَمّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ]
[ إثْبَاتُ الْقَدَرِ وَالسّبَبِ ]
ثُمّ
أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنّهُ عَفَا عَنْهُمْ لِأَنّ هَذَا الْفِرَارَ لَمْ
يَكُنْ عَنْ نِفَاقٍ وَلَا شَكّ وَإِنّمَا كَانَ عَارِضًا عَفَا اللّهُ
عَنْهُ فَعَادَتْ شَجَاعَةُ الْإِيمَانِ وَثَبَاتُهُ إلَى مَرْكَزِهَا
وَنِصَابِهَا ثُمّ كَرّرَ عَلَيْهِمْ سُبْحَانَهُ أَنّ هَذَا الّذِي
أَصَابَهُمْ إنّمَا أُتُوا فِيهِ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ وَبِسَبَبِ
أَعْمَالِهِمْ فَقَالَ { أَوَلَمّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ
أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّى هَذَا ؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِكُمْ إِنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عِمْرَانَ 165
] وَذَكَرَ هَذَا بِعَيْنِهِ فِيمَا هُوَ أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ فِي السّوَرِ
الْمَكّيّةِ فَقَالَ { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [ الشّورَى : 30 ] وَقَالَ { مَا
أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيّئَةٍ
فَمِنْ نَفْسِكَ } [ النّسَاءُ 79 ] فَالْحَسَنَةُ وَالسّيّئَةُ هَا هُنَا
: النّعْمَةُ وَالْمُصِيبَةُ فَالنّعْمَةُ مِنْ اللّهِ مَنّ بِهَا عَلَيْك
وَالْمُصِيبَةُ إنّمَا نَشَأَتْ مِنْ قِبَلِ نَفْسِك وَعَمَلِك
فَالْأَوّلُ فَضْلُهُ وَالثّانِي عَدْلُهُ وَالْعَبْدُ يَتَقَلّبُ بَيْنَ
فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ جَارٍ عَلَيْهِ فَضْلُهُ مَاضٍ فِيهِ حُكْمُهُ عَدْلٌ
فِيهِ قَضَاؤُهُ . وَخَتَمَ الْآيَةَ الْأُولَى بِقَوْلِهِ { إِنّ اللّهَ
عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } بَعْدَ قَوْلِهِ { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِكُمْ } إعْلَامًا لَهُمْ بِعُمُومِ قُدْرَتِهِ مَعَ عَدْلِهِ
وَأَنّهُ عَادِلٌ قَادِرٌ وَفِي ذَلِكَ إثْبَاتُ الْقَدَرِ وَالسّبَبِ
فَذَكَرَ السّبَبَ وَأَضَافَهُ إلَى نُفُوسِهِمْ وَذَكَرَ عُمُومَ
الْقُدْرَةِ وَأَضَافَهَا إلَى نَفْسِهِ فَالْأَوّلُ يَنْفِي الْجَبْرَ
وَالثّانِي يَنْفِي الْقَوْلَ بِإِبْطَالِ الْقَدَرِ فَهُوَ يُشَاكِلُ
قَوْلَهُ { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ
إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ } [ التّكْوِيرُ 30 ] .
[ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ ]
[ وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ نَافَقُوا ]
وَفِي
ذِكْرِ قُدْرَتِهِ هَا هُنَا نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنّ هَذَا
الْأَمْرَ بِيَدِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ وَأَنّهُ هُوَ الّذِي لَوْ شَاءَ
لَصَرَفَهُ عَنْكُمْ فَلَا تَطْلُبُوا كَشْفَ أَمْثَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ
وَلَا تَتّكِلُوا عَلَى سِوَاهُ وَكَشَفَ هَذَا الْمَعْنَى وَأَوْضَحَهُ
كُلّ الْإِيضَاحِ بِقَوْلِهِ { وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى
الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ } وَهُوَ الْإِذْنُ الْكَوْنِيّ
الْقَدَرِيّ لَا الشّرْعِيّ الدّينِيّ كَقَوْلِهِ فِي السّحْرِ { وَمَا
هُمْ بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ } [ الْبَقَرَةُ
102 ] ثُمّ أَخْبَرَ عَنْ حِكْمَةِ هَذَا التّقْدِيرِ وَهِيَ أَنْ
يَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ عِلْمَ عِيَانٍ وَرُؤْيَةٍ
يَتَمَيّزُ فِيهِ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْآخَرِ تَمْيِيزًا
ظَاهِرًا وَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ هَذَا التّقْدِيرِ [ ص 215 ] رَدّ اللّهِ
عَلَيْهِمْ وَجَوَابَهُ لَهُمْ وَعَرَفُوا مُؤَدّى النّفَاقِ وَمَا
يَئُولُ إلَيْهِ وَكَيْفَ يُحْرَمُ صَاحِبُهُ سَعَادَةَ الدّنْيَا
وَالْآخِرَةِ فَيَعُودُ عَلَيْهِ بِفَسَادِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ
فَلَلّهِ كَمْ مِنْ حِكْمَةٍ فِي ضِمْنِ هَذِهِ الْقِصّةِ بَالِغَةٍ
وَنِعْمَةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَابِغَةٍ وَكَمْ فِيهَا مِنْ تَحْذِيرٍ
وَتَخْوِيفٍ وَإِرْشَادٍ وَتَنْبِيهٍ وَتَعْرِيفٍ بِأَسْبَابِ الْخَيْرِ
وَالشّرّ وَمَا لَهُمَا وَعَاقِبَتُهُمَا .
[ وَلَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا ]
[ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللّهِ ]
[ لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ]
ثُمّ
عَزّى نَبِيّهُ وَأَوْلِيَاءَهُ عَمّنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فِي سَبِيلِهِ
أَحْسَنَ تَعْزِيَةٍ وَأَلْطَفَهَا وَأَدْعَاهَا إلَى الرّضَى بِمَا
قَضَاهُ لَهَا فَقَالَ { وَلَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ
بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ
يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ } [ آل عِمْرَانَ 169 - 170 ] فَجَمَعَ لَهُمْ إلَى
الْحَيَاةِ الدّائِمَةِ مَنْزِلَةَ الْقُرْبِ مِنْهُ وَأَنّهُمْ عِنْدَهُ
وَجَرَيَانَ الرّزْقِ الْمُسْتَمِرّ عَلَيْهِمْ وَفَرَحِهِمْ بِمَا
آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَهُوَ فَوْقَ الرّضَى بَلْ هُوَ كَمَالُ الرّضَى
وَاسْتِبْشَارُهُمْ بِإِخْوَانِهِمْ الّذِينَ بِاجْتِمَاعِهِمْ بِهِمْ
يَتِمّ سُرُورُهُمْ وَنَعِيمُهُمْ وَاسْتِبْشَارُهُمْ بِمَا يُجَدّدُ
لَهُمْ كُلّ وَقْتٍ مَنْ نِعْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ وَذَكّرَهُمْ
سُبْحَانَهُ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ الْمِحْنَةِ بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ
مِنَنِهِ وَنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ الّتِي إنْ قَابَلُوا بِهَا كُلّ مِحْنَةٍ
تَنَالهُمْ وَبَلِيّةٍ تَلَاشَتْ فِي جَنْبِ هَذِهِ الْمِنّةِ
وَالنّعْمَةِ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا أَثَرٌ الْبَتّةَ وَهِيَ مِنّتُهُ
عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ إلَيْهِمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمْ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُنْقِذُهُمْ مِنْ الضّلَالِ الّذِي كَانُوا فِيهِ قَبْلَ
إرْسَالِهِ إلَى الْهُدَى وَمِنْ الشّقَاءِ إلَى الْفَلَاحِ وَمِنْ
الظّلْمَةِ إلَى النّورِ وَمِنْ الْجَهْلِ إلَى الْعِلْمِ فَكُلّ بَلِيّةٍ
وَمِحْنَةٍ تَنَالُ الْعَبْدَ بَعْدَ حُصُولِ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ
لَهُ أَمْرٌ يَسِيرٌ جِدّا فِي جَنْبِ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ كَمَا يَنَالُ
النّاسَ بِأَذَى الْمَطَرِ فِي جَنْبِ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ مِنْ
الْخَيْرِ فَأَعْلَمَهُمْ أَنّ سَبَبَ الْمُصِيبَةِ مِنْ عِنْدِ
أَنْفُسِهِمْ لِيَحْذَرُوا وَأَنّهَا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ لِيُوَحّدُوا
وَيَتّكِلُوا وَلَا يَخَافُوا غَيْرَهُ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا لَهُمْ
فِيهَا مِنْ الْحِكَمِ لِئَلّا يَتّهِمُوهُ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ
وَلِيَتَعَرّفَ إلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ
وَسَلّاهُمْ بِمَا أَعْطَاهُمْ مِمّا هُوَ أَجَلّ قَدْرًا وَأَعْظَمُ
خَطَرًا مِمّا فَاتَهُمْ مِنْ النّصْرِ وَالْغَنِيمَةِ وَعَزّاهُمْ [ ص
216 ] نَالُوهُ مِنْ ثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ لِيُنَافِسُوهُمْ فِيهِ
وَلَا يَحْزَنُوا عَلَيْهِمْ فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ
وَكَمَا يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزّ جَلَالِهِ .
فَصْلٌ [ خُرُوجُ عَلِيّ فِي آثَارِ الْمُشْرِكِينَ ]
وَلَمّا
انْقَضَتْ الْحَرْبُ انْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ فَظَنّ الْمُسْلِمُونَ
أَنّهُمْ قَصَدُوا الْمَدِينَةَ لِإِحْرَازِ الذّرَارِيّ وَالْأَمْوَالِ
فَشَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ اُخْرُجْ فِي
آثَارِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَاذَا يُرِيدُونَ
فَإِنْ هُمْ جَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ
يُرِيدُونَ مَكّةَ وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ
فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ
أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنّ إلَيْهِمْ ثُمّ لَأُنَاجِزَنّهُمْ فِيهَا قَالَ
عَلِيّ : فَخَرَجْتُ فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ
فَجَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ وَوَجّهُوا إلَى مَكّةَ
وَلَمّا عَزَمُوا عَلَى الرّجُوعِ إلَى مَكّةَ أَشْرَفَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ أَبُو سُفْيَانَ ثُمّ نَادَاهُمْ مَوْعِدُكُمْ الْمَوْسِمُ
بِبَدْرٍ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " قُولُوا :
نَعَمْ قَدْ فَعَلْنَا " قَالَ أَبُو سُفْيَانَ " فَذَلِكُمْ الْمَوْعِدُ
" ثُمّ انْصَرَفَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمّا كَانَ فِي بَعْضِ الطّرِيقِ
تَلَاوَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَمْ
تَصْنَعُوا شَيْئًا أَصَبْتُمْ شَوْكَتَهُمْ وَحْدَهُمْ ثُمّ
تَرَكْتُمُوهُمْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُمْ رُءُوسٌ يَجْمَعُونَ لَكُمْ
فَارْجِعُوا حَتّى نَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَادَى فِي النّاسِ وَنَدَبَهُمْ
إلَى الْمَسِيرِ إلَى لِقَاءِ عَدُوّهِمْ وَقَالَ " لَا يَخْرُجْ مَعَنَا
إلّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ " فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ :
أَرْكَبُ مَعَك ؟ قَالَ " لَا فَاسْتَجَابَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا
بِهِمْ مِنْ الْقَرْحِ الشّدِيدِ وَالْخَوْفِ وَقَالُوا : سَمْعًا
وَطَاعَةً . وَاسْتَأْذَنَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَقَالَ يَا
رَسُولَ اللّهِ إنّي أُحِبّ أَلّا تَشْهَدَ مَشْهَدًا إلّا كُنْتُ مَعَك
وَإِنّمَا خَلّفَنِي أَبِي عَلَى بَنَاتِهِ . فَأْذَنْ لِي أَسِيرُ مَعَك
فَأَذِنَ لَهُ فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ حَتّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ " وَأَقْبَلَ
مَعْبَدُ بْنُ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ بِأَبِي
سُفْيَانَ فَيُخَذّلُهُ [ ص 217 ] فَقَالَ مَا وَرَاءَك يَا مَعْبَدُ ؟
فَقَالَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ قَدْ تَحَرّقُوا عَلَيْكُمْ وَخَرَجُوا
فِي جَمْعٍ لَمْ يَخْرُجُوا فِي مِثْلِهِ . وَقَدْ نَدِمَ مَنْ كَانَ
تَخَلّفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِمْ فَقَالَ مَا تَقُولُ ؟ فَقَالَ مَا
أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتّى يَطْلُعَ أَوّلُ الْجَيْشِ مِنْ وَرَاءِ
هَذِهِ الْأَكَمَةِ . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَاَللّهِ لَقَدْ
أَجْمَعْنَا الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَهُمْ . قَالَ فَلَا
تَفْعَلْ فَإِنّي لَك نَاصِحٌ فَرَجَعُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ إلَى مَكّةَ
وَلَقِيَ أَبُو سُفْيَانَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ
فَقَالَ هَلْ لَك أَنْ تُبْلِغَ مُحَمّدًا رِسَالَةً وَأُوقِرَ لَك
رَاحِلَتَكَ زَبِيبًا إذَا أَتَيْتَ إلَى مَكّةَ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ
أَبْلِغْ مُحَمّدًا أَنّا قَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرّةَ لِنَسْتَأْصِلَهُ
وَنَسْتَأْصِلَ أَصْحَابَهُ فَلَمّا بَلَغَهُمْ قَوْلُهُ قَالُوا : {
حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ
اللّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتّبَعُوا رِضْوَانَ اللّهِ
وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [ آل عِمْرَانَ 174 ] [ ص 218 ]
فَصْلٌ [ سَرِيّةُ أَبِي سَلَمَةَ إلَى بَنِي أَسَدٍ ]
وَكَانَتْ
وَقْعَةُ أُحُدٍ يَوْمَ السّبْتِ فِي سَابِعِ شَوّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ
كَمَا تَقَدّمَ فَرَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
إلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا بَقِيّةَ شَوّالٍ وَذَا الْقِعْدَةِ
وَذَا الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمُ فَلَمّا اسْتَهَلّ هِلَالُ الْمُحَرّمِ
بَلَغَهُ أَنّ طَلْحَةَ وَسَلَمَةَ ابْنَيْ خُوَيْلِدٍ قَدْ سَارَا فِي
قَوْمِهِمَا وَمَنْ أَطَاعَهُمَا يَدْعُوَانِ بَنِي أَسَدِ بْنِ
خُزَيْمَةَ إلَى حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَبَعَثَ أَبَا سَلَمَةَ وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَبَعَثَ مَعَهُ مِائَةً
وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ فَأَصَابُوا
إبِلًا وَشَاءً وَلَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا فَانْحَدَرَ أَبُو سَلَمَةَ
بِذَلِكَ كُلّهِ إلَى الْمَدِينَةِ . فَصْلٌ بَعْثُهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُنَيْسٍ لِقَتْلِ ابْنِ نُبَيْحٍ
الْهُذَلِيّ فَلَمّا كَانَ خَامِسُ الْمُحَرّمِ بَلَغَهُ أَنّ خَالِدَ
بْنَ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِي ّ قَدْ جَمَعَ لَهُ الْجُمُوعَ
فَبَعَثَ إلَيْهِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُنَيْسٍ فَقَتَلَهُ قَالَ عَبْدُ
الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ : وَجَاءَهُ بِرَأْسِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَأَعْطَاهُ عَصًا فَقَالَ هَذِهِ آيَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَمّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ تُجْعَلَ
مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ ثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً
وَقَدِمَ يَوْمَ السّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ الْمُحَرّمِ [ ص 219 ]
[ يَوْمَ الرّجِيعِ ]
[ سُنّةُ صَلَاةِ الْقَتْلِ ]
فَلَمّا
كَانَ صَفَرٌ قَدِمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارَةِ وَذَكَرُوا
أَنّ فِيهِمْ إسْلَامًا وَسَأَلُوهُ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ مَنْ
يُعَلّمُهُمْ الدّينَ وَيُقْرِئُهُمْ الْقُرْآنُ فَبَعَثَ مَعَهُمْ سِتّةَ
نَفَرٍ فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ وَقَالَ الْبُخَارِيّ : كَانُوا
عَشْرَةً وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ
وَفِيهِمْ خُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ فَذَهَبُوا مَعَهُمْ فَلَمّا كَانُوا
بِالرّجِيعِ وَهُوَ مَاءٌ لِهُذَيْلٍ بِنَاحِيَةِ الْحِجَازِ غَدَرُوا
بِهِمْ وَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ هُذَيْلًا فَجَاءُوا حَتّى أَحَاطُوا
بِهِمْ فَقَتَلُوا عَامّتَهُمْ وَاسْتَأْسَرُوا خُبَيْبَ بْنَ عَدِيّ
وَزَيْدَ بْنَ الدّثِنَةِ فَذَهَبُوا بِهِمَا وَبَاعُوهُمَا بِمَكّةَ
وَكَانَا قَتَلَا مِنْ رُءُوسِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَمّا خُبَيْبٌ
فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ مَسْجُونًا ثُمّ أَجْمَعُوا قَتْلَهُ فَخَرَجُوا بِهِ
مِنْ الْحَرَمِ إلَى التّنْعِيمِ فَلَمّا أَجْمَعُوا عَلَى صَلْبِهِ قَالَ
دَعُونِي حَتّى أَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ فَتَرَكُوهُ فَصَلّاهُمَا فَلَمّا
سَلّمَ قَالَ وَاَللّهِ لَوْلَا أَنْ تَقُولُوا إنّ مَا بِي جَزَعٌ
لَزِدْت ثُمّ قَالَ " اللّهُمّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا
وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا ثُمّ قَالَ لَقَدْ أَجْمَعَ الْأَحْزَابُ
حَوْلِي وَأَلّبُوا قَبَائِلَهُمْ وَاسْتَجْمَعُوا كُلّ مَجْمَعِ
وَكُلّهُمُ مُبْدِي الْعَدَاوَةَ جَاهِدٌ عَلَيّ لِأَنّي فِي وَثَاقٍ بِمَضْيَعِ
وَقَدْ قَرّبُوا أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَقُرّبْتُ مِنْ جِذْعٍ طَوِيلٍ مُمَنّعِ
إلَى اللّهِ أَشْكُو غُرْبَتِي بَعْدَ كُرْبَتِي وَمَا أَرْصَدَ الْأَحْزَابُ لِي عِنْدَ مَصْرَعِي
فَذَا الْعَرْشِ صَبّرْنِي عَلَى مَا يُرَادُ بِي فَقَدْ بَضَعُوا لَحْمِي وَقَدْ يَاسَ مَطْمَعِي
وَقَدْ خَيّرُونِي الْكُفْرَ وَالْمَوْتُ دُونَهُ فَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْنَايَ مِنْ غَيْرِ مَجْزَعِ
وَمَا بِي حِذَارُ الْمَوْتِ إنّي لَمَيّتٌ وَإِنّ إلَى رَبّي إيَابِي وَمَرْجِعِي
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَيّ شِقّ كَانَ فِي اللّهِ مَضْجَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزّعِ
فَلَسْتُ بِمُبْدٍ لِلْعَدُوّ تَخَشّعًا وَلَا جَزَعًا إنّي إلَى اللّهِ مَرْجِعِي
[
ص 220 ] فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ أَيَسُرّك أَنّ مُحَمّدًا عِنْدَنَا
تُضْرَبُ عُنُقُهُ وَإِنّك فِي أَهْلِكُ فَقَالَ لَا وَاَللّهِ مَا
يَسُرّنِي أَنّي فِي أَهْلِي وَأَنّ مُحَمّدًا فِي مَكَانِهِ الّذِي هُوَ
فِيهِ تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ . وَفِي " الصّحِيحِ " : أَنّ
خُبَيْبًا أَوّلُ مَنْ سَنّ الرّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ . وَقَدْ
نَقَلَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرّ عَنْ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ
أَنّهُ بَلَغَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَنّهُ صَلّاهُمَا فِي قِصّةٍ
ذَكَرَهَا وَكَذَلِكَ صَلّاهُمَا حُجْرُ بْنُ عَدِيّ حِينَ أَمَرَ
مُعَاوِيَةُ بِقَتْلِهِ بِأَرْضِ عَذْرَاءَ مِنْ أَعْمَالِ دِمَشْقَ .
ثُمّ صَلَبُوا خُبَيْبًا وَوَكّلُوا بِهِ مَنْ يَحْرُسُ جُثّتَهُ فَجَاءَ
عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ فَاحْتَمَلَهُ بِجِذْعِهِ لَيْلًا
فَذَهَبَ بِهِ فَدَفَنَهُ . وَرُؤِيَ خُبَيْبٌ وَهُوَ أَسِيرٌ يَأْكُلُ
قِطْفًا مِنْ الْعِنَبِ وَمَا بِمَكّةَ ثَمَرَةٌ وَأَمّا زَيْدُ بْن [ ص
221 ] الدّثِنَةِ فَابْتَاعَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فَقَتَلَهُ
بِأَبِيهِ . وَأَمّا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فَذَكَرَ سَبَبَ هَذِهِ
الْوَقْعَةِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ
هَؤُلَاءِ الرّهْطَ يَتَحَسّسُونَ لَهُ أَخْبَارَ قُرَيْشٍ
فَاعْتَرَضَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ .
فَصْلٌ [ بِئْرُ مَعُونَةَ ]
وَفِي
هَذَا الشّهْرِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ صَفَرٌ مِنْ السّنَةِ الرّابِعَةِ
كَانَتْ وَقْعَةُ بِئْرِ مَعُونَةَ وَمُلَخّصُهَا أَنّ أَبَا بَرَاءٍ
عَامِرَ بْنَ مَالِك ٍ الْمَدْعُوّ مُلَاعِبَ الْأَسِنّةِ قَدِمَ عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فَدَعَاهُ
إلَى الْإِسْلَام فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَبْعُدْ فَقَالَ يَا رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ بَعَثْتَ أَصْحَابَك إلَى
أَهْلِ نَجْدٍ يَدْعُونَهُمْ إلَى دِينِك لَرَجَوْتُ أَنْ يُجِيبُوهُمْ .
فَقَالَ إنّي أَخَافُ عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْد فَقَالَ أَبُو بَرَاءٍ :
أَنَا جَارٌ لَهُمْ فَبَعَثَ مَعَهُ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فِي قَوْلِ ابْنِ
إسْحَاقَ . وَفِي الصّحِيحِ " أَنّهُمْ كَانُوا سَبْعِينَ " وَاَلّذِي فِي
الصّحِيحِ هُوَ الصّحِيحُ . وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو
- أَحَدَ بَنِي سَاعِدَةَ الْمُلَقّبَ بِالْمُعْنِقِ لِيَمُوتَ -
وَكَانُوا مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ وَفُضَلَائِهِمْ وِسَادَاتِهِمْ
وَقُرّائِهِمْ فَسَارُوا حَتّى نَزَلُوا بِئْرَ مَعُونَةَ وَهِيَ بَيْنَ
أَرْضِ بَنِي عَامِر ٍ وَحَرّةِ بَنِي سُلَيْمٍ فَنَزَلُوا هُنَاكَ ثُمّ
بَعَثُوا حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ أَخَا أُمّ سُلَيْمٍ بِكِتَابِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى عَدُوّ اللّهِ عَامِرِ بْنِ
الطّفَيْلِ فَلَمْ يَنْظُرْ فِيهِ وَأَمَرَ رَجُلًا فَطَعَنَهُ
بِالْحَرْبَةِ مِنْ خَلْفِهِ فَلَمّا أَنْفَذَهَا فِيهِ وَرَأَى الدّمَ
قَالَ فُزْتُ وَرَبّ الْكَعْبَةِ ثُمّ اسْتَنْفَرَ عَدُوّ اللّهِ
لِفَوْرِهِ بَنِي عَامِرٍ إلَى قِتَالِ الْبَاقِينَ فَلَمْ يُجِيبُوهُ
لِأَجْلِ جِوَارِ أَبِي بَرَاءٍ [ ص 223 ] بَنِي سُلَيْمٍ فَأَجَابَتْهُ
عُصَيّةُ وَرِعْلٌ وَذَكْوَانُ فَجَاءُوا حَتّى أَحَاطُوا بِأَصْحَابِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَاتَلُوا حَتّى
قُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ إلّا كَعْبَ بْنَ زَيْدِ بْن النّجّارِ فَإِنّهُ
ارْتَثّ بَيْنَ الْقَتْلَى فَعَاشَ حَتَى قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَق ِ
وَكَانَ عَمْرُو بْن أُمَيّةَ الضّمْرِيّ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عُقْبَةَ
بْنِ عَامِرٍ فِي سَرْحِ الْمُسْلِمِينَ فَرَأَيَا الطّيْرَ تَحُومُ عَلَى
مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ فَنَزَلَ الْمُنْذِرُ بْنُ مُحَمّدٍ فَقَاتَلَ
الْمُشْرِكِينَ حَتّى قُتِلَ مَعَ أَصْحَابِهِ وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ
أُمَيّةَ الضّمْرِيّ فَلَمّا أَخْبَرَ أَنّهُ مِنْ مُضَرَ جَزّ عَامِرٌ
نَاصِيَتَهُ وَأَعْتَقَهُ عَنْ رَقَبَةٍ كَانَتْ عَلَى أُمّهِ وَرَجَعَ
عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ فَلَمّا كَانَ بِالْقَرْقَرَةِ مِنْ صَدْرِ قَنَاةٍ
نَزَلَ فِي ظِلّ شَجَرَةٍ وَجَاءَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي كِلَاب ٍ
فَنَزَلَا مَعَهُ فَلَمّا نَامَا فَتَكَ بِهِمَا عَمْرٌو وَهُوَ يَرَى
أَنّهُ قَدْ أَصَابَ ثَأْرًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَإِذَا مَعَهُمَا عَهْدٌ
مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ
فَلَمّا قَدِمَ أَخْبَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِمَا فَعَلَ فَقَالَ لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ لَأَدِيَنّهُمَا
[ غَزْوَةُ بَنِي النّضِيرِ ]
فَكَانَ
هَذَا سَبَبُ غَزْوَةِ بَنِي النّضِيرِ فَإِنّهُ خَرَجَ إلَيْهِمْ
لِيُعِينُوهُ فِي دِيَتِهِمَا لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنْ الْحِلْفِ
فَقَالُوا : نَعَمْ وَجَلَسَ هُوَ وَأَبُو بَكْر ٍ وَعُمَرُ وَعَلِيّ
وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَاجْتَمَعَ الْيَهُودُ وَتَشَاوَرُوا
وَقَالُوا : مَنْ رَجُلٌ يُلْقِي عَلَى مُحَمّدٍ هَذِهِ الرّحَى
فَيَقْتُلَهُ ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَاهَا عَمْرُو بْنُ جِحَاشٍ لَعَنَهُ
اللّهُ وَنَزَلَ جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ رَبّ الْعَالَمِينَ عَلَى
رَسُولِهِ يُعْلِمُهُ بِمَا هَمّوا بِهِ فَنَهَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ وَقْتِهِ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ ثُمّ
تَجَهّزَ وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ لِحَرْبِهِمْ فَحَاصَرَهُمْ سِتّ لَيَالٍ
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ وَذَلِكَ فِي
رَبِيعٍ الْأُولَى .
[ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ]
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ :
وَحِينَئِذٍ حُرّمَتْ الْخَمْرُ وَنَزَلُوا عَلَى أَنّ لَهُمْ مَا
حَمَلَتْ إبِلُهُمْ [ ص 223 ] أَكَابِرُهُمْ كَحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ
وَسَلَامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ إلَى خَيْبَرَ وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ إلَى الشّامِ وَأَسْلَمَ مِنْهُمْ رَجُلَانِ فَقَطْ يَامِينُ
بْنُ عَمْرٍو وَأَبُو سَعْدِ بْنُ وَهْبٍ فَأَحْرَزَا أَمْوَالَهُمَا
وَقَسّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْوَالَ بَنِي
النّضِير ِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوّلِينَ خَاصّةً لِأَنّهَا
كَانَتْ مِمّا لَمْ يُوجِفْ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا
رِكَابٍ إلّا أَنّهُ أَعْطَى أَبَا دُجَانَةَ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ
الْأَنْصَارِيّيْنِ لِفَقْرِهِمَا .
[ نُزُولُ سُورَةِ الْحَشْرِ ]
وَفِي
هَذِهِ الْغَزْوَةِ نَزَلَتْ سُورَةُ الْحَشْرِ هَذَا الّذِي ذَكَرْنَاهُ
هُوَ الصّحِيحُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسّيَرِ .
[ غَزَوَاتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ الْيَهُودِ ]
وَزَعَمَ
مُحَمّد بْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ أَنّ غَزْوَةَ بَنِي النّضِيرِ كَانَتْ
بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتّةِ أَشْهُرٍ وَهَذَا وَهْمٌ مِنْهُ أَوْ غَلَطٌ
عَلَيْهِ بَلْ الّذِي لَا شَكّ فِيهِ أَنّهَا كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ
وَاَلّتِي كَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتّةِ أَشْهُرٍ هِيَ غَزْوَةُ بَنِي
قَيْنُقَاعٍ وَقُرَيْظَةُ بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَخَيْبَرُ بَعْدَ
الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ لَهُ مَعَ الْيَهُودِ أَرْبَعُ غَزَوَاتٍ
أَوّلُهَا : غَزْوَةُ بَنِي قَيْنُقَاعٍ بَعْدَ بَدْرٍ وَالثّانِيَةُ
بَنِي النّضِيرِ بَعْدَ أُحُدٍ وَالثّالِثَةُ قُرَيْظَةُ بَعْدَ
الْخَنْدَق ِ وَالرّابِعَةُ خَيْبَرُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ .
فَصْلٌ
وَقَنَتَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى
الّذِينَ قَتَلُوا الْقُرّاءَ أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ بَعْدَ
الرّكُوعِ ثُمّ تَرَكَهُ لَمّا جَاءُوا تَائِبِينَ مُسْلِمِينَ .
فَصْلٌ [ غَزْوَةُ ذَاتِ الرّقَاعِ ]
[ مَتَى شُرِعَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ ]
[
ص 224 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِنَفْسِهِ غَزْوَةَ ذَاتِ
الرّقَاعِ وَهِيَ غَزْوَةُ نَجْدٍ فَخَرَجَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ
السّنَةِ الرّابِعَةِ وَقِيلَ فِي الْمُحَرّمِ يُرِيدُ مُحَارِبَ وَبَنِي
ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ غَطَفَانَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ
أَبَا ذَرّ الْغِفَارِيّ وَقِيلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ وَخَرَجَ فِي
أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ . وَقِيلَ سَبْعِمِائَةٍ فَلَقِيَ
جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ فَتَوَاقَفُوا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ
إلّا أَنّهُ صَلّى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ صَلَاةَ الْخَوْفِ هَكَذَا قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السّيَرِ وَالْمَغَازِي فِي
تَارِيخِ هَذِهِ الْغَزَاةِ وَصَلَاةِ الْخَوْفِ بِهَا وَتَلَقّاهُ
النّاسُ عَنْهُمْ وَهُوَ مُشْكِلٌ جِدّا فَإِنّهُ قَدْ صَحّ أَنّ
الْمُشْرِكِينَ حَبَسُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ حَتّى غَابَتْ الشّمْسُ وَفِي
" السّنَنِ " و " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " وَالشّافِعِيّ رَحِمَهُمَا اللّهُ
أَنّهُمْ حَبَسُوهُ عَنْ صَلَاةِ الظّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ فَصْلَاهُنّ جَمِيعًا [ ص 225 ] وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ
صَلَاةِ الْخَوْفِ وَالْخَنْدَقُ بَعْد َ ذَاتِ الرّقَاعِ سَنَةَ خَمْسٍ .
وَالظّاهِرُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوّلُ صَلَاةٍ
صَلّاهَا لِلْخَوْفِ بِعُسْفَانَ كَمَا قَالَ أَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ :
كُنّا مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعُسْفَانَ فَصَلّى
بِنَا الظّهْرَ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ فَقَالُوا : لَقَدْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ غَفْلَةً ثُمّ قَالُوا
: إنّ لَهُمْ صَلَاةً بَعْدَ هَذِهِ هِيَ أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ فَنَزَلَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ بَيْنَ
الظّهْرِ وَالْعَصْرِ فَصَلّى بِنَا الْعَصْرَ فَفَرّقَنَا فِرْقَتَيْنِ
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السّنَنِ . وَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ : كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
نَازِلًا بَيْنَ ضَجَنَانَ وَعُسْفَانَ مُحَاصِرًا لِلْمُشْرِكَيْنِ
فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ إنّ لِهَؤُلَاءِ صَلَاةً هِيَ أَحَبّ إلَيْهِمْ
مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ثُمّ مِيلُوا
عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً فَجَاءَ جِبْرِيلُ فَأَمَرَهُ أَنْ
يُقَسّمَ أَصْحَابَهُ نِصْفَيْنِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ التّرْمِذِيّ
: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنّ غَزْوَةَ
عُسْفَانَ كَانَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَقَدْ صَحّ عَنْهُ أَنّهُ صَلّى
صَلَاةَ الْخَوْفِ بِذَاتِ الرّقَاعِ فَعُلِمَ أَنّهَا بَعْدَ الْخَنْدَق
ِ وَبَعْدَ عُسْفَانَ وَيُؤَيّدُ هَذَا أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا
مُوسَى الْأَشْعَرِيّ شَهِدَا ذَاتَ الرّقَاعِ كَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ
" عَنْ [ ص 226 ] أَبِي مُوسَى أَنّهُ شَهِدَ غَزْوَةَ ذَاتِ الرّقَاعِ
وَأَنّهُمْ كَانُوا يَلُفّونَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ الْخِرَقَ لَمّا
نُقِبَتْ . وَأَمّا أَبُو هُرَيْرَةَ فَفِي " الْمُسْنَدِ " و " السّنَنِ
" أَنّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ سَأَلَهُ هَلْ صَلّيْتَ مَعَ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلَاةَ الْخَوْفِ ؟ قَالَ نَعَمْ
قَالَ مَتَى ؟ قَالَ عَامَ غَزْوَةِ نَجْدٍ .
[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ أَنّ ذَاتَ الرّقَاعِ كَانَتْ بَعْدَ خَيْبَرَ ]
وَهَذَا
يَدُلّ عَلَى أَنّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرّقَاعِ بَعْدَ خَيْبَرَ وَأَنّ مَنْ
جَعَلَهَا قَبْلَ الْخَنْدَقِ فَقَدْ وَهِمَ وَهْمًا ظَاهِرًا وَلَمّا
لَمْ يَفْطَنْ بَعْضُهُمْ لِهَذَا ادّعَى أَنّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرّقَاعِ
كَانَتْ مَرّتَيْنِ فَمَرّةً قَبْلَ الْخَنْدَقِ وَمَرّةً بَعْدَهَا عَلَى
عَادَتِهِمْ فِي تَعْدِيدِ الْوَقَائِعِ إذَا اخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهَا
أَوْ تَارِيخُهَا وَلَوْ صَحّ لِهَذَا الْقَائِلِ مَا ذَكَرَهُ وَلَا
يَصِحّ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ
فِي الْمَرّةِ الْأُولَى لِمَا تَقَدّمَ مِنْ قِصّةِ عُسْفَانَ
وَكَوْنِهَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَلَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا عَنْ هَذَا
بِأَنّ تَأْخِيرَ يَوْمِ الْخَنْدَقِ جَائِزٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَأَنّ فِي
حَالِ الْمُسَايَفَةَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصّلَاةِ إلَى أَنْ يَتَمَكّنَ
مِنْ فِعْلِهَا وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ
رَحِمَهُ اللّهُ وَغَيْرِهِ لَكِنْ لَا حِيلَةَ لَهُمْ فِي قِصّةِ
عُسْفَانَ أَنّ أَوّلَ صَلَاةٍ صَلّاهَا لِلْخَوْفِ بِهَا وَأَنّهَا
بَعْدَ الْخَنْدَقِ . فَالصّوَابُ تَحْوِيلُ غَزْوَةِ ذَاتِ الرّقَاعِ
مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى مَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ بَلْ بَعْدَ خَيْبَرَ
وَإِنّمَا ذَكَرْنَاهَا هَا هُنَا تَقْلِيدًا لِأَهْلِ الْمَغَازِي
وَالسّيَرِ ثُمّ تَبَيّنَ لَنَا وَهْمُهُمْ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
وَمِمّا يَدُلّ عَلَى أَنّ غَزْوَةَ ذَاتِ الرّقَاعِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ
مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ جَابِرٍ قَالَ أَقْبَلْنَا
مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا كُنّا
بِذَاتِ الرّقَاعِ قَالَ كُنّا إذَا أَتَيْنَا عَلَى شَجَرَةٍ ظَلِيلَةٍ
تَرَكْنَاهَا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَاءَ
رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَسَيْفُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُعَلّقٌ بِالشّجَرَةِ فَأَخَذَ السّيْفَ فَاخْتَرَطَهُ
فَذَكَرَ الْقِصّةَ وَقَالَ فَنُودِيَ بِالصّلَاةِ فَصَلّى بِطَائِفَةٍ
رَكْعَتَيْنِ ثُمّ تَأَخّرُوا وَصَلّى بِالطّائِفَةِ الْأُخْرَى
رَكْعَتَيْنِ فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ [ ص 227 ] وَصَلَاةُ
الْخَوْفِ إنّمَا شُرِعَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ بَلْ هَذَا يَدُلّ عَلَى
أَنّهَا بَعْدَ عُسْفَانَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ قِصّةُ بَيْعِ جَابِرٍ جَمَلَهُ مِنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
وَقَدْ
ذَكَرُوا أَنّ قِصّةَ بَيْعِ جَابِرٍ جَمَلَهُ مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَتْ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرّقَاعِ . وَقِيلَ فِي
مَرْجِعِهِ مِنْ تَبُوكَ وَلَكِنْ فِي إخْبَارِهِ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تِلْكَ الْقَضِيّةِ أَنّهُ تَزَوّجَ امْرَأَةً
ثَيّبًا تَقُومُ عَلَى أَخَوَاتِهِ وَتَكْفُلُهُنّ إشْعَارٌ بِأَنّهُ
بَادَرَ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ وَلَمْ يُؤَخّرْ إلَى عَامِ
تَبُوكَ و اللّهُ أَعْلَمُ .
[ حِرْصُ الصّحَابَةِ عَلَى إتْمَامِ الصّلَاةِ ]
وَفِي
مَرْجِعِهِمْ مِنْ غَزْوَةِ ذَاتِ الرّقَاعِ سَبَوْا امْرَأَةً مِنْ
الْمُشْرِكِينَ فَنَذَرَ زَوْجُهَا أَلّا يَرْجِعَ حَتّى يُهْرِيقَ دَمًا
فِي أَصْحَابِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَاءَ لَيْلًا
وَقَدْ أَرْصَدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
رَجُلَيْنِ رَبِيئَةً لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعَدُوّ وَهُمَا عَبّادُ
بْنُ بِشْر ٍ وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَضَرَبَ عَبّادًا وَهُوَ قَائِمٌ
يُصَلّي بِسَهْمٍ فَنَزَعَهُ وَلَمْ يُبْطِلْ صَلَاتَهُ حَتّى رَشَقَهُ
بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَلَمْ يَنْصَرِفْ مِنْهَا حَتَى سَلّمَ فَأَيْقَظَ
صَاحِبَهُ فَقَالَ سُبْحَانَ [ ص 228 ] فَقَالَ إنّي كُنْتُ فِي سُورَةٍ
فَكَرِهْتُ أَنْ أَقْطَعَهَا .
[ الرّدّ عَلَى مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ]
وَقَالَ
مُوسَى بْنُ عقبة في " مَغَازِيهِ " : وَلَا يُدْرَى مَتَى كَانَتْ هَذِهِ
الْغَزْوَةُ قَبْلَ بَدْرٍ أَوْ بَعْدَهَا أَوْ فِيمَا بَيْنَ بَدْرٍ
وَأُحُد ٍ أَوْ بَعْدَ أُحُدٍ . وَلَقَدْ أَبْعَدَ جِدّا إذْ جَوّزَ أَنْ
تَكُونَ قَبْلَ بَدْرٍ وَهَذَا ظَاهِرُ الْإِحَالَةِ وَلَا قَبْلَ أُحُدٍ
وَلَا قَبْلَ الْخَنْدَقِ كَمَا تَقَدّمَ بَيَانُهُ .
فَصْلٌ [ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْآخِرَةُ ]
وَقَدْ
تَقَدّمَ أَنّ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ أُحُدٍ :
مَوْعِدُكُمْ وَإِيّانَا الْعَامُ الْقَابِلُ بِبَدْرٍ فَلَمّا كَانَ
شَعْبَانُ وَقِيلَ ذُو الْقِعْدَةِ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ خَرَجَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِمَوْعِدِهِ فِي أَلْفٍ
وَخَمْسِمِائَةٍ وَكَانَتْ الْخَيْلُ عَشَرَةَ أَفْرَاسٍ وَحَمّلَ
لِوَاءَهُ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ
عَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَانْتَهَى إلَى بَدْرٍ فَأَقَامَ بِهَا
ثَمَانِيَةَ أَيّامٍ يَنْتَظِرُ الْمُشْرِكِينَ وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَان َ
بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ مَكّةَ وَهُمْ أَلْفَانِ وَمَعَهُمْ خَمْسُونَ
فَرَسًا فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى مَرّ الظّهْرَانِ - عَلَى مَرْحَلَةٍ
مِنْ مَكّةَ - قَالَ لَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ : إنّ الْعَامَ عَامُ جَدْبٍ
وَقَدْ رَأَيْتُ أَنّي أَرْجِعُ بِكَمْ فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ
وَأَخْلَفُوا الْمَوْعِدَ فَسُمّيَتْ هَذِهِ بَدْرَ الْمَوْعِدِ وَتُسَمّى
بَدْرَ الثّانِيَةِ .
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ
وَهِيَ
بِضَمّ الدّالِ وَأَمّا دَوْمَةُ بِالْفَتْحِ فَمَكَانٌ آخَرُ . خَرَجَ
إلَيْهَا [ ص 229 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ
سَنَةَ خَمْسٍ وَذَلِكَ أَنّهُ بَلَغَهُ أَنّ بِهَا جَمْعًا كَثِيرًا
يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوَا مِنْ الْمَدِينَةِ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ
الْمَدِينَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَهِيَ مِنْ دِمَشْقَ عَلَى خَمْسِ
لَيَالٍ فَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ
الْغِفَارِيّ وَخَرَجَ فِي أَلْفٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَهُ دَلِيلٌ
مِنْ بَنِي عُذْرَةَ يُقَالُ لَهُ مَذْكُورٌ فَلَمّا دَنَا مِنْهُمْ إذَا
هُمْ مُغَرّبُونَ وَإِذَا آثَارُ النّعَمِ وَالشّاءِ فَهَجَمَ عَلَى
مَاشِيَتِهِمْ وَرُعَاتِهِمْ فَأَصَابَ مَنْ أَصَابَ وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ
وَجَاءَ الْخَبَرُ أَهْلَ دُومَةِ الْجَنْدَلِ فَتَفَرّقُوا وَنَزَلَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِسَاحَتِهِمْ فَلَمْ
يَجِدْ فِيهَا أَحَدًا فَأَقَامَ بِهَا أَيّامًا وَبَثّ السّرَايَا
وَفَرّقَ الْجُيُوشَ فَلَمْ يُصِبْ مِنْهُمْ أَحَدًا فَرَجَعَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ وَوَادَعَ فِي
تِلْكَ الْغَزْوَةِ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ .
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ
[ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ ]
وَكَانَتْ
فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبَبُهَا : أَنّهُ لَمّا بَلَغَهُ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْحَارِثَ بْنَ [ ص 230 ] أَبِي ضِرَارٍ
سَيّدَ بَنِي الْمُصْطَلِق ِ سَارَ فِي قَوْمِهِ وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ
مِنْ الْعَرَبِ يُرِيدُونَ حَرْبَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَبَعَثَ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيّ يَعْلَمُ
لَهُ ذَلِكَ فَأَتَاهُمْ وَلَقِيَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ
وَكَلّمَهُ وَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ فَنَدَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ النّاسَ فَأَسْرَعُوا فِي الْخُرُوجِ وَخَرَجَ مَعَهُمْ
جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَخْرُجُوا فِي غَزَاةٍ قَبْلَهَا
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَقِيلَ أَبَا
ذَرّ وَقِيلَ نُمَيْلَةَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ اللّيْثِيّ وَخَرَجَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَعْبَانَ وَبَلَغَ الْحَارِثَ
بْنَ أَبِي ضِرَارٍ وَمَنْ مَعَهُ مَسِيرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَتْلَهُ عَيْنَهُ الّذِي كَانَ وَجّهَهُ
لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِ وَخَبَرِ الْمُسْلِمِينَ فَخَافُوا خَوْفًا
شَدِيدًا وَتَفَرّقَ عَنْهُمْ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ
وَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى
الْمُرَيْسِيعِ وَهُوَ مَكَانُ الْمَاءِ فَضَرَبَ عَلَيْهِ قُبّتَهُ
وَمَعَهُ عَائِشَةُ وَأُمّ سَلَمَةَ فَتَهَيّئُوا لِلْقِتَالِ وَصَفّ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ وَرَايَةُ
الْمُهَاجِرِينَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيق ِ وَرَايَةُ الْأَنْصَارِ
مَعَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَتَرَامَوْا بِالنّبْلِ سَاعَةً ثُمّ أَمَرَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ فَحَمَلُوا
حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ النّصْرَةُ وَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ
وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَسَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّسَاءَ وَالذّرَارِيّ وَالنّعَمَ وَالشّاءَ وَلَمْ
يُقْتَلْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلّا رَجُلٌ وَاحِدٌ هَكَذَا قَالَ عَبْدُ
الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ فِي " سِيرَتِهِ " وَغَيْرُهُ وَهُوَ وَهْمٌ
فَإِنّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَإِنّمَا أَغَارَ عَلَيْهِمْ
عَلَى الْمَاءِ فَسَبَى ذَرَارِيّهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ كَمَا فِي [ ص 231
] أَغَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَنِي
الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُونَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . .. " .
[ زَوَاجُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ ]
وَكَانَ
مِنْ جُمْلَةِ السّبْيِ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ سَيّدِ الْقَوْمِ
وَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَكَاتَبَهَا فَأَدّى عَنْهَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَزَوّجَهَا فَأَعْتَقَ
الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِ هَذَا التّزْوِيجِ مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مَنْ
بُنِيَ الْمُصْطَلِقِ قَدْ أَسْلَمُوا وَقَالُوا : أَصْهَارُ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
[ فَقْدُ عَائِشَةَ الْعِقْدَ وَمَا تَلَاهُ مِنْ أُمُورٍ ]
قَالَ
ابْنُ سَعْدٍ : وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ سَقَطَ عِقْدٌ لِعَائِشَةَ
فَاحْتَبَسُوا عَلَى طَلَبِهِ فَنَزَلَتْ آيَةُ التّيَمّمِ . وَذَكَرَ
الطّبَرَانِيّ فِي " مُعْجَمِهِ " مِنْ حَدِيثِ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ
عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ وَلَمّا كَانَ مِنْ أَمْرِ عِقْدِي مَا
كَانَ قَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَخَرَجْتُ مَعَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزَاةٍ أُخْرَى فَسَقَطَ أَيْضًا عِقْدِي
حَتّى حَبَسَ الْتِمَاسُهُ النّاسَ وَلَقِيتُ مِنْ أَبِي بَكْر ٍ مَا
شَاءَ اللّهُ وَقَالَ لِي : يَا بُنَيّةُ فِي كُلّ سَفَرٍ تَكُونِينَ
عَنَاءً وَبَلَاءً وَلَيْسَ مَعَ النّاسِ مَاءٌ فَأَنْزَلَ اللّهُ
الرّخْصَةَ فِي التّيَمّمِ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ قِصّةَ الْعِقْدِ
الّتِي نَزَلَ التّيَمّمُ لِأَجْلِهَا بَعْدَ [ ص 232 ] كَانَتْ قِصّةُ
الْإِفْكِ بِسَبَبِ فَقْدِ الْعِقْدِ وَالْتِمَاسِهِ فَالْتَبَسَ عَلَى
بَعْضِهِمْ إحْدَى الْقِصّتَيْنِ بِالْأُخْرَى وَنَحْنُ نُشِيرُ إلَى
قِصّةِ الْإِفْكِ .
[ حَادِثَةُ الْإِفْكِ ]
اسْتِشَارَتُهُ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ فِي فِرَاقِهَا وَذَلِكَ أَنّ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا كَانَتْ قَدْ خَرَجَ بِهَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ
بِقُرْعَةٍ أَصَابَتْهَا وَكَانَتْ تِلْكَ عَادَتَهُ مَعَ نِسَائِهِ
فَلَمّا رَجَعُوا مِنْ الْغَزْوَةِ نَزَلُوا فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ
فَخَرَجَتْ عَائِشَةُ لِحَاجَتِهَا ثُمّ رَجَعَتْ فَفَقَدَتْ عِقْدًا
لِأُخْتِهَا كَانَتْ أَعَارَتْهَا إيّاهُ فَرَجَعَتْ تَلْتَمِسُهُ فِي
الْمَوْضِعِ الّذِي فَقَدَتْهُ فِيهِ فَجَاءَ النّفَرُ الّذِينَ كَانُوا
يُرَحّلُونَ هَوْدَجَهَا فَظَنّوهَا فِيهِ فَحَمَلُوا الْهَوْدَجَ وَلَا
يُنْكِرُونَ خِفّتَهُ لِأَنّهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا كَانَتْ فَتِيّةَ
السّنّ لَمْ يَغْشَهَا اللّحْمُ الّذِي كَانَ يُثْقِلُهَا وَأَيْضًا
فَإِنّ النّفَرَ لَمّا تَسَاعَدُوا عَلَى حَمْلِ الْهَوْدَجِ لَمْ
يُنْكِرُوا خِفّتَهُ وَلَوْ كَانَ الّذِي حَمَلَهُ وَاحِدًا أَوْ
اثْنَيْنِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمَا الْحَالُ فَرَجَعَتْ عَائِشَةُ إلَى
مَنَازِلِهِمْ وَقَدْ أَصَابَتْ الْعِقْدَ فَإِذَا لَيْسَ بِهَا دَاعٍ
وَلَا مُجِيبٌ فَقَعَدَتْ فِي الْمَنْزِلِ وَظَنّتْ أَنّهُمْ
سَيَفْقِدُونَهَا فَيَرْجِعُونَ فِي طَلَبِهَا وَاَللّهُ غَالِبٌ عَلَى
أَمْرِهِ يُدَبّرُ الْأَمْرَ فَوْقَ عَرْشِهِ كَمَا يَشَاءُ فَغَلَبَتْهَا
عَيْنَاهَا فَنَامَتْ فَلَمْ تَسْتَيْقِظْ إلّا بِقَوْلِ صَفْوَانَ بْنِ
الْمُعَطّلِ : إنّا لِلّهِ وَإِنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ زَوْجَةُ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ صَفْوَانُ قَدْ عَرّسَ فِي
أُخْرَيَاتِ الْجَيْشِ لِأَنّهُ كَانَ كَثِيرَ النّوْمِ كَمَا جَاءَ
عَنْهُ فِي " صَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ " . وَفِي " السّنَنِ " : [ ص 233 ]
رَآهَا عَرَفَهَا وَكَانَ يَرَاهَا قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ
فَاسْتَرْجَعَ وَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَقَرّبَهَا إلَيْهَا فَرَكِبَتْهَا
وَمَا كَلّمَهَا كَلِمَةً وَاحِدَةً وَلَمْ تَسْمَعْ مِنْهُ إلّا
اسْتِرْجَاعَهُ ثُمّ سَارَ بِهَا يَقُودُهَا حَتّى قَدِمَ بِهَا وَقَدْ
نَزَلَ الْجَيْشُ فِي نَحْرِ الظّهِيرَةِ فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ النّاسُ
تَكَلّمَ كُلّ مِنْهُمْ بِشَاكِلَتِهِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ وَوَجَدَ
الْخَبِيثُ عَدُوّ اللّهِ ابْنُ أُبَيّ مُتَنَفّسًا فَتَنَفّسَ مِنْ
كَرْبِ النّفَاقِ وَالْحَسَدِ الّذِي بَيْنَ ضُلُوعِهِ فَجَعَلَ
يَسْتَحْكِي الْإِفْكَ وَيَسْتَوْشِيهِ وَيُشِيعُهُ وَيُذِيعُهُ
وَيَجْمَعُهُ وَيُفَرّقُهُ وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَقَرّبُونَ بِهِ
إلَيْهِ فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَفَاضَ أَهْلُ الْإِفْكِ فِي
الْحَدِيثِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَاكِتٌ لَا
يَتَكَلّمُ ثُمّ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي فِرَاقِهَا فَأَشَارَ
عَلَيْهِ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنْ يُفَارِقَهَا وَيَأْخُذَ
غَيْرَهَا تَلْوِيحًا لَا تَصْرِيحًا وَأَشَارَ عَلَيْهِ أُسَامَةُ
وَغَيْرُهُ بِإِمْسَاكِهَا وَأَلّا يَلْتَفِتَ إلَى كَلَامِ الْأَعْدَاءِ
فِعْلِيّ لَمّا رَأَى أَنّ مَا قِيلَ مَشْكُوكٌ فِيهِ أَشَارَ بِتَرْكِ
الشّكّ وَالرّيبَةِ إلَى الْيَقِينِ لِيَتَخَلّصَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْهَمّ وَالْغَمّ الّذِي لَحِقَهُ مِنْ
كَلَامِ النّاسِ فَأَشَارَ بِحَسْمِ الدّاءِ وَأُسَامَةُ لَمّا عَلِمَ
حُبّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا وَلِأَبِيهَا
وَعَلِمَ مِنْ عِفّتِهَا وَبَرَاءَتِهَا وَحَصَانَتِهَا وَدِيَانَتِهَا
مَا هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ مِنْهُ وَعَرَفَ مِنْ كَرَامَةِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى رَبّهِ
وَمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ وَدِفَاعِهِ عَنْهُ أَنّهُ لَا يَجْعَلُ رَبّةَ
بَيْتِهِ وَحَبِيبَتَهُ مِنْ النّسَاءِ وَبِنْتَ صِدّيقِهِ
بِالْمَنْزِلَةِ الّتِي أَنْزَلَهَا بِهِ أَرْبَابُ الْإِفْكِ وَأَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَكْرَمُ عَلَى رَبّهِ
وَأَعَزّ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ تَحْتَهُ امْرَأَةً بَغِيّا
وَعَلِمَ أَنّ الصّدّيقَةَ حَبِيبَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَكْرَمُ عَلَى رَبّهَا مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَهَا
بِالْفَاحِشَةِ وَهِيَ تَحْتَ رَسُوله وَمَنْ قَوِيَتْ مَعْرِفَتُهُ
لِلّهِ وَمَعْرِفَتُهُ لِرَسُولِهِ وَقَدْرِهِ عِنْدَ اللّهِ فِي قَلْبِهِ
قَالَ كَمَا قَالَ أَبُو أَيّوب َ وَغَيْرُهُ مِنْ سَادَاتِ الصّحَابَةِ
لَمّا سَمِعُوا ذَلِكَ { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } [ النّورُ
16 ] . [ ص 234 ] عَمّا لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ لِرَسُولِهِ
وَخَلِيلِهِ وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ امْرَأَةً خَبِيثَةً بَغِيّا
فَمَنْ ظَنّ بِهِ سُبْحَانَهُ هَذَا الظّنّ فَقَدْ ظَنّ بِهِ ظَنّ
السّوْءِ وَعَرَفَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ أَنّ
الْمَرْأَةَ الْخَبِيثَةَ لَا تَلِيقُ إلّا بِمِثْلِهَا كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } [ النّورُ 26 ] فَقَطَعُوا
قَطْعًا لَا يَشُكّونَ فِيهِ أَنّ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ وَفِرْيَةٌ
ظَاهِرَةٌ .
[ الْحِكَمُ مِنْ تَوَقّفِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَمْرِهَا ]
فَإِنْ
قِيلَ فَمَا بَالُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
تَوَقّفَ فِي أَمْرِهَا وَسَأَلَ عَنْهَا وَبَحَثَ وَاسْتَشَارَ وَهُوَ
أَعْرَفُ بِاَللّهِ وَبِمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ وَبِمَا يَلِيقُ بِهِ
وَهَلّا قَالَ { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } كَمَا قَالَهُ
فُضَلَاءُ الصّحَابَةِ ؟
[ الِامْتِحَانُ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ]
فَالْجَوَابُ
أَنّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الّتِي جَعَلَ اللّهُ
هَذِهِ الْقِصّةَ سَبَبًا لَهَا وَامْتِحَانًا وَابْتِلَاءً لِرَسُولِهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلِجَمِيعِ الْأُمّةِ إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ لِيَرْفَعَ بِهَذِهِ الْقِصّةِ أَقْوَامًا وَيَضَعَ بِهَا
آخَرِينَ وَيَزِيدُ اللّهُ الّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَإِيمَانًا وَلَا
يَزِيدُ الظّالِمِينَ إلّا خَسَارًا وَاقْتَضَى تَمَامُ الِامْتِحَانِ
وَالِابْتِلَاءِ أَنْ حُبِسَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْوَحْيُ شَهْرًا فِي شَأْنِهَا لَا يُوحَى إلَيْهِ فِي ذَلِكَ
شَيْءٌ لِتَتِمّ حِكْمَتُهُ الّتِي قَدّرَهَا وَقَضَاهَا وَتَظْهَرَ عَلَى
أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَيَزْدَادَ الْمُؤْمِنُونَ الصّادِقُونَ إيمَانًا
وَثَبَاتًا عَلَى الْعَدْلِ وَالصّدْقِ وَحُسْنِ الظّنّ بِاَللّهِ
وَرَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَالصّدّيقِينَ مِنْ عِبَادِهِ وَيَزْدَادَ
الْمُنَافِقُونَ إفْكًا وَنِفَاقًا وَيَظْهَرَ لِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ سَرَائِرُهُمْ وَلِتَتِمّ الْعُبُودِيّةُ الْمُرَادَةُ
مِنْ الصّدّيقَةِ وَأَبَوَيْهَا وَتَتِمّ نِعْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِمْ
وَلِتَشْتَدّ الْفَاقَةُ وَالرّغْبَةُ مِنْهَا وَمِنْ أَبَوَيْهَا
وَالِافْتِقَارُ إلَى اللّهِ وَالذّلّ لَهُ وَحُسْنُ الظّنّ بِهِ
وَالرّجَاءُ لَهُ وَلِيَنْقَطِعَ رَجَاؤُهَا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ
وَتَيْأَسَ مِنْ حُصُولِ النّصْرَةِ وَالْفَرَجِ عَلَى يَدِ أَحَدٍ مِنْ
الْخَلْقِ وَلِهَذَا وَفّتْ هَذَا الْمَقَامَ حَقّهُ لَمّا قَالَ لَهَا
أَبَوَاهَا : قُومِي إلَيْهِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ
بَرَاءَتَهَا فَقَالَتْ وَاَللّهِ لَا أَقُومُ إلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ
إلّا اللّهَ هُوَ الّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي
[ حَبْسُ الْوَحْيِ لِتَمْحِيصِ الْقَضِيّةِ وَازْدِيَادِ حَاجَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ ]
وَأَيْضًا
فَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ حَبْسِ الْوَحْيِ شَهْرًا أَنّ الْقَضِيّةَ
مُحّصَتْ [ ص 235 ] وَتَمَحّضَتْ وَاسْتَشْرَفَتْ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ
أَعْظَمَ اسْتِشْرَافٍ إلَى مَا يُوحِيهِ اللّهُ إلَى رَسُولِهِ فِيهَا
وَتَطَلّعَتْ إلَى ذَلِكَ غَايَةَ التّطَلّعِ فَوَافَى الْوَحْيُ أَحْوَجَ
مَا كَانَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَالصّدّيقُ وَأَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
فَوَرَدَ عَلَيْهِمْ وُرُودَ الْغَيْثِ عَلَى الْأَرْضِ أَحْوَجَ مَا
كَانَتْ إلَيْهِ فَوَقَعَ مِنْهُمْ أَعْظَمَ مَوْقِعٍ وَأَلْطَفَهُ
وَسُرّوا بِهِ أَتَمّ السّرُورِ وَحَصَلَ لَهُمْ بِهِ غَايَةُ الْهَنَاءِ
فَلَوْ أَطْلَعَ اللّهُ رَسُولَهُ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ مِنْ أَوّلِ
وَهْلَةٍ وَأَنْزَلَ الْوَحْيَ عَلَى الْفَوْرِ بِذَلِكَ لَفَاتَتْ هَذِهِ
الْحِكَمُ وَأَضْعَافُهَا بَلْ أَضْعَافُ أَضْعَافِهَا . إظْهَارُ اللّهِ
مَنْزِلَتَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عِنْدَهُ
وَأَيْضًا فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَحَبّ أَنْ يُظْهِرَ مَنْزِلَةَ
رَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ عِنْدَهُ وَكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ وَأَنْ
يُخْرِجَ رَسُولَهُ عَنْ هَذِهِ الْقَضِيّةِ وَيَتَوَلّى هُوَ بِنَفْسِهِ
الدّفَاعَ وَالْمُنَافَحَةَ عَنْهُ وَالرّدّ عَلَى أَعْدَائِهِ وَذَمّهِمْ
وَعَيْبِهِمْ بِأَمْرٍ لَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ عَمَلٌ وَلَا يُنْسَبُ
إلَيْهِ بَلْ يَكُونُ هُوَ وَحْدَهُ الْمُتَوَلّي لِذَلِكَ الثّائِرُ
لِرَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ .
[ ثُبُوتُ بَرَاءَةِ عَائِشَةَ الصّدّيقَةِ ]
وَأَيْضًا
فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ هُوَ
الْمَقْصُودَ بِالْأَذَى وَاَلّتِي رُمِيَتْ زَوْجَتُهُ فَلَمْ يَكُنْ
يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَشْهَدَ بِبَرَاءَتِهَا مَعَ عِلْمِهِ أَوْ ظَنّهِ
الظّنّ الْمُقَارِبَ لِلْعِلْمِ بِبَرَاءَتِهَا وَلَمْ يَظُنّ بِهَا
سُوءًا قَطّ وَحَاشَاهُ وَحَاشَاهَا وَلِذَلِكَ لَمّا اسْتَعْذَرَ مِنْ
أَهْلِ الْإِفْكِ قَالَ مَنْ يَعْذِرُنِي فِي رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ
فِي أَهْلِي وَاَللّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إلّا خَيْرًا وَلَقَدْ
ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلّا خَيْرًا وَمَا كَانَ
يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلّا مَعِي فَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْقَرَائِنِ
الّتِي تَشْهَدُ بِبَرَاءَةِ الصّدّيقَةِ أَكْثَرَ مِمّا عِنْدَ
الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنْ لِكَمَالِ صَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ وَرِفْقِهِ
وَحُسْنِ ظَنّهِ بِرَبّهِ وَثِقَتِهِ بِهِ وَفّى مَقَامَ الصّبْرِ
وَالثّبَاتِ وَحُسْنِ الظّنّ بِاَللّهِ حَقّهُ حَتّى جَاءَهُ الْوَحْيُ
بِمَا أَقَرّ عَيْنَهُ وَسَرّ قَلْبَهُ وَعَظّمَ قَدْرَهُ وَظَهَرَ
لِأُمّتِهِ احْتِفَالُ رَبّهِ بِهِ وَاعْتِنَاؤُهُ بِشَأْنِهِ .
[ حَدّ الْقَذْفِ وَالسّبَبُ فِي عَدَمِ حَدّ ابْنِ أُبَيّ ]
وَلَمّا
جَاءَ الْوَحْيُ بِبَرَاءَتِهَا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَنْ صَرّحَ بِالْإِفْكِ فَحُدّوا ثَمَانِينَ
ثَمَانِينَ وَلَمْ يَحُدّ الْخَبِيثَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُبَيّ مَعَ
أَنّهُ رَأْسُ أَهْلِ الْإِفْكِ فَقِيلَ [ ص 236 ] وَقِيلَ بَلْ كَانَ
يَسْتَوْشِي الْحَدِيثَ وَيَجْمَعُهُ وَيَحْكِيهِ وَيُخْرِجُهُ فِي
قَوَالِبِ مَنْ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ وَقِيلَ الْحَدّ لَا يَثْبُتُ إلّا
بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِبَيّنَةٍ وَهُوَ لَمْ يُقِرّ بِالْقَذْفِ وَلَا
شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَإِنّهُ إنّمَا كَانَ يَذْكُرُهُ بَيْنَ
أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَذْكُرُهُ بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ . وَقِيلَ حَدّ الْقَذْفِ حَقّ الْآدَمِيّ لَا يُسْتَوْفَى
إلّا بِمُطَالَبَتِهِ وَإِنْ قِيلَ إنّهُ حَقّ لِلّهِ فَلَا بُدّ مِنْ
مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ وَعَائِشَةُ لَمْ تُطَالِبْ بِهِ ابْنَ أُبَيّ .
وَقِيلَ بَلْ تَرَكَ حَدّهُ لِمَصْلَحَةٍ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ إقَامَتِهِ
كَمَا تَرَكَ قَتْلَهُ مَعَ ظُهُورِ نِفَاقِهِ وَتَكَلّمِهِ بِمَا يُوجِبُ
قَتْلَهُ مِرَارًا وَهِيَ تَأْلِيفُ قَوْمِهِ وَعَدَمُ تَنْفِيرِهِمْ عَنْ
الْإِسْلَامِ فَإِنّهُ كَانَ مُطَاعًا فِيهِمْ رَئِيسًا عَلَيْهِمْ فَلَمْ
تُؤْمَنْ إثَارَةُ الْفِتْنَةِ فِي حَدّهِ وَلَعَلّهُ تُرِكَ لِهَذِهِ
الْوُجُوهِ كُلّهَا .
[ مَنْ حُدّ فِي حَادِثَةِ الْإِفْكِ ]
فَجُلِدَ
مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَة َ وَحَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَحَمْنَةُ بِنْتُ
جَحْشٍ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الصّادِقِينَ تَطْهِيرًا لَهُمْ
وَتَكْفِيرًا وَتُرِكَ عَبْدُ اللّهِ بْن أُبَيّ إذًا فَلَيْسَ هُوَ مِنْ
أَهْلِ ذَاكَ .
فَصْلٌ [ قُوّةُ إيمَانِ عَائِشَةَ ]
وَمَنْ
تَأَمّلَ قَوْلَ الصّدّيقَةِ وَقَدْ نَزَلَتْ بَرَاءَتُهَا فَقَالَ لَهَا
أَبَوَاهَا : قُومِي إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَتْ وَاَللّهِ لَا أَقُومُ إلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ إلّا اللّهَ
عَلِمَ مَعْرِفَتَهَا وَقُوّةَ إيمَانِهَا وَتَوْلِيَتَهَا النّعْمَةَ
لِرَبّهَا وَإِفْرَادَهُ بِالْحَمْدِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ
وَتَجْرِيدَهَا التّوْحِيدَ وَقُوّةَ جَأْشِهَا وَإِدْلَالَهَا
بِبَرَاءَةِ سَاحَتِهَا وَأَنّهَا لَمْ تَفْعَلْ مَا يُوجِبُ قِيَامَهَا
فِي مَقَامِ الرّاغِبِ فِي الصّلْحِ الطّالِبِ لَهُ وَثِقَتُهَا
بِمَحَبّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا قَالَتْ
مَا قَالَتْ إدْلَالًا لِلْحَبِيبِ عَلَى حَبِيبِهِ وَلَا سِيّمَا فِي
مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ الّذِي هُوَ أَحْسَنُ مَقَامَاتِ الْإِدْلَالِ
فَوَضَعْتُهُ مَوْضِعَهُ وَلَلّهِ مَا كَانَ أَحَبّهَا إلَيْهِ حِينَ
قَالَتْ لَا أَحْمَدُ إلّا اللّهَ فَإِنّهُ هُوَ الّذِي أَنْزَلَ
بَرَاءَتِي وَلَلّهِ ذَلِكَ الثّبَاتُ وَالرّزَانَةُ مِنْهَا وَهُوَ
أَحَبّ شَيْءٍ إلَيْهَا وَلَا صَبْرَ لَهَا عَنْهُ وَقَدْ تَنَكّرَ قَلْبُ
حَبِيبِهَا لَهَا شَهْرًا ثُمّ صَادَفَتْ الرّضَى [ ص 237 ] بِرِضَاهُ
وَقُرْبِهِ مَعَ شِدّةِ مَحَبّتِهَا لَهُ وَهَذَا غَايَةُ الثّبَاتِ
وَالْقُوّةِ .
فَصْلٌ
الِاخْتِلَافُ فِيمَنْ أَجَابَ طَلَبَهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعَذْرِهِ فِي رَجُلٍ بَلَغَهُ أَذَاهُ
فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَكَذَا فِي مَتَى كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي
الْمُصْطَلِقِ
[ نُزُولُ الْحِجَابِ ]
وَفِي هَذِهِ الْقَضِيّةِ
أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا قَالَ مَنْ
يَعْذِرُنِي فِي رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي ؟ " قَامَ سَعْدُ
بْنُ مُعَاذٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَقَالَ أَنَا أُعْذِرُكَ
مِنْهُ يَا رَسُولَ اللّهِ وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ فَإِنّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ لَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّهُ تُوُفّيَ عُقَيْبَ حُكْمِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ
عُقَيْبَ الْخَنْدَقِ وَذَلِكَ سَنَةَ خَمْسٍ عَلَى الصّحِيحِ وَحَدِيثُ
الْإِفْكِ لَا شَكّ أَنّهُ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ هَذِهِ
وَهِيَ غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ وَالْجُمْهُورُ عِنْدَهُمْ أَنّهَا
كَانَتْ بَعْدَ الْخَنْدَقِ سَنَةَ سِتّ فَاخْتَلَفَتْ طُرُقُ النّاسِ فِي
الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ فَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ :
غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ كَانَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ قَبْلَ الْخَنْدَقِ
حَكَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيّ . وَقَالَ الْوَاقِدِيّ : كَانَتْ سَنَةَ
خَمْسٍ . قَالَ وَكَانَتْ قُرَيْظَةُ وَالْخَنْدَقُ بَعْدَهَا . وَقَالَ
الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ : اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ
وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْمُرَيْسِيعُ قَبْلَ الْخَنْدَقِ وَعَلَى
هَذَا فَلَا إشْكَالَ وَلَكِنّ النّاسَ عَلَى خِلَافِهِ . وَفِي حَدِيثِ
الْإِفْكِ مَا يَدُلّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنّ عَائِشَةَ
قَالَتْ إنّ الْقَضِيّةَ كَانَتْ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ وَآيَةُ
الْحِجَابِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَزَيْنَبُ إذْ
ذَاكَ كَانَتْ تَحْتَهُ فَإِنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
سَأَلَهَا عَنْ عَائِشَةَ فَقَالَتْ " أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي "
قَالَتْ عَائِشَةُ وَهِيَ الّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ
التّوَارِيخِ أَنّ تَزْوِيجَهُ بِزَيْنَبَ كَانَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ
سَنَةَ خَمْسٍ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَصِحّ قَوْلُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ .
وَقَالَ مُحَمّد بْنُ إسْحَاقَ إنّ غَزْوَةَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ كَانَتْ
فِي سَنَةِ سِتّ بَعْدَ الْخَنْدَقِ وَذَكَرَ فِيهَا حَدِيثَ الْإِفْكِ
إلّا أَنّهُ قَالَ [ ص 238 ] الزّهْرِيّ عَنْ عبيد الله بْنِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ . فَقَالَ
فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ فَقَالَ أَنَا أَعْذِرُك مِنْهُ فَرَدّ
عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ .
قَالَ أَبُو مُحَمّدِ بْنُ حَزْمٍ : وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ الّذِي لَا
شَكّ فِيهِ وَذِكْرُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَهْمٌ لِأَنّ سَعْدَ بْنَ
مُعَاذٍ مَاتَ إثْرَ فَتْحِ بَنِي قُرَيْظَةَ بِلَا شَكّ وَكَانَتْ فِي
آخِرِ ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ السّنَةِ الرّابِعَةِ وَغَزْوَةُ بَنِي
الْمُصْطَلِقِ فِي شَعْبَانَ مِنْ السّنَةِ السّادِسَةِ بَعْدَ سَنَةٍ
وَثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مَوْتِ سَعْدٍ وَكَانَتْ الْمُقَاوَلَةُ
بَيْنَ الرّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بَعْدَ الرّجُوعِ مِنْ غَزْوَةِ
بَنِي الْمُصْطَلِقِ بِأَزْيَدَ مِنْ خَمْسِينَ لَيْلَةً . قُلْت :
الصّحِيحُ أَنّ الْخَنْدَقَ كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ كَمَا سَيَأْتِي .
فَصْلٌ
وَمِمّا
وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ أَنّ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيّ عَنْ
أَبِي وَائِلٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ سَأَلْتُ أُمّ رُومَانَ عَنْ حَدِيثِ
الْإِفْكِ فَحَدّثَتْنِي . قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ
فَإِنّ أُمّ رُومَانَ مَاتَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي قَبْرِهَا وَقَالَ مَنْ سَرّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى امْرَأَةٍ
مِنْ الْحُورِ الْعِينِ فَلْيَنْظُرْ إلَى هَذِهِ قَالُوا : وَلَوْ كَانَ
مَسْرُوقٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي حَيَاتِهَا وَسَأَلَهَا لَلَقِيَ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَمِعَ مِنْهُ
وَمَسْرُوقٌ إنّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالُوا : وَقَدْ رَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ
أُمّ رُومَانَ حَدِيثًا غَيْرَ هَذَا فَأَرْسَلَ الرّوَايَةَ عَنْهَا
فَظَنّ بَعْضُ الرّوَاةِ أَنّهُ سَمِعَ مِنْهَا فَحَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ
عَلَى السّمَاعِ قَالُوا : وَلَعَلّ مَسْرُوقًا قَالَ سُئِلَتْ أُمّ
رُومَانَ فَتَصَحّفَتْ عَلَى بَعْضِهِمْ سَأَلَتْ لِأَنّ مِنْ النّاسِ
مَنْ [ ص 239 ] حَالٍ . وَقَالَ آخَرُونَ كُلّ هَذَا لَا يَرُدّ
الرّوَايَةَ الصّحِيحَةَ الّتِي أَدْخَلَهَا البخاري في " صَحِيحِهِ "
وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيّ وَغَيْرُهُ إنّ مَسْرُوقًا
سَأَلَهَا وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَاتَ وَلَهُ ثَمَانٍ
وَسَبْعُونَ سَنَةً وَأُمّ رُومَانَ أَقْدَمُ مَنْ حَدّثَ عَنْهُ قَالُوا
: وَأَمّا حَدِيثُ مَوْتِهَا فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنُزُولِهِ فِي قَبْرِهَا فَحَدِيثٌ لَا يَصِحّ
وَفِيهِ عِلّتَانِ تَمْنَعَانِ صِحّتَهُ إحْدَاهُمَا : رِوَايَةُ عَلِيّ
بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ لَهُ وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ لَا يُحْتَجّ
بِحَدِيثِهِ وَالثّانِيَةُ أَنّهُ رَوَاهُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّد
عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْقَاسِمُ لَمْ يُدْرِكْ
زَمَنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَيْفَ يُقَدّمُ
هَذَا عَلَى حَدِيثٍ إسْنَادُهُ كَالشّمْسِ يَرْوِيهِ البخاري في "
صَحِيحِهِ " وَيَقُولُ فِيهِ مَسْرُوقٌ : سَأَلْتُ أُمّ رُومَانَ
فَحَدّثَتْنِي وَهَذَا يَرُدّ أَنْ يَكُونَ اللّفْظُ سُئِلَتْ . وَقَدْ
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ " مَعْرِفَةِ الصّحَابَةِ " : قَدْ
قِيلَ إنّ أُمّ رُومَانَ تُوُفّيَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ وَهْمٌ .
فَصْلٌ [ هَلْ الْجَارِيَةُ الشّاهِدَةُ عَلَى عَائِشَةَ هِيَ بَرِيرَةُ ]
وَمِمّا
وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ أَنّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنّ عَلِيّا
قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا اسْتَشَارَهُ سَلْ
الْجَارِيَةَ تَصْدُقْك فَدَعَا بَرِيرَةَ فَسَأَلَهَا فَقَالَتْ مَا
عَلِمْتُ عَلَيْهَا إلّا مَا يَعْلَمُ الصّائِغُ عَلَى التّبْرِ أَوْ
كَمَا قَالَتْ وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ هَذَا فَإِنّ بَرِيرَةَ إنّمَا
كَاتَبَتْ وَعَتَقَتْ بَعْدَ هَذَا بِمُدّةٍ طَوِيلَةٍ وَكَانَ الْعَبّاسُ
عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ ذَاكَ فِي
الْمَدِينَةِ وَالْعَبّاسُ إنّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ
وَلِهَذَا قَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ
شَفَعَ إلَى بَرِيرَةَ : أَنْ تُرَاجِعَ زَوْجَهَا فَأَبَتْ . أَنْ
تُرَاجِعَهُ يَا عَبّاسُ " أَلّا تَعْجَبُ مِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا
وَحُبّهِ لَهَا فَفِي قِصّةِ الْإِفْكِ لَمْ تَكُنْ بَرِيرَةُ عِنْدَ
عَائِشَةَ وَهَذَا الّذِي ذَكَرُوهُ إنْ كَانَ لَازِمًا فَيَكُونُ
الْوَهْمُ مِنْ تَسْمِيَتِهِ الْجَارِيَةَ بَرِيرَةَ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ
عَلِيّ سَلْ بَرِيرَةَ وَإِنّمَا [ ص 240 ] قَالَ فَسَلْ الْجَارِيَةَ
تَصْدُقْك فَظَنّ بَعْضُ الرّوَاةِ أَنّهَا بَرِيرَةُ فَسَمّاهَا بِذَلِكَ
وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ بِأَنْ يَكُونَ طَلَبُ مُغِيثٍ لَهَا اسْتَمَرّ إلَى
بَعْدِ الْفَتْحِ وَلَمْ يَيْأَسْ مِنْهَا زَالَ الْإِشْكَالُ وَاَللّهُ
أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
[ قَوْلُ ابْنِ أُبَيّ ( لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى
الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ ] وَفِي
مَرْجِعِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ قَالَ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ ابْنُ
أُبَيّ : لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لِيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ
مِنْهَا الْأَذَلّ فَبَلّغَهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَم َ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَاءَ ابْنُ أُبَيّ يَعْتَذِرُ
وَيَحْلِفُ مَا قَالَ فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَصْدِيقَ زَيْدٍ فِي سُورَةِ
الْمُنَافِقِينَ فَأَخَذَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِأُذُنِهِ فَقَالَ أَبْشِرْ فَقَدْ صَدَقَكَ الله ثم قَالَ هَذَا الّذِي
وَفّى لِلّهِ بِأُذُنِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللّهِ مُرْ
عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَالَ " فَكَيْفَ إذَا
تَحَدّثَ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ
وَكَانَتْ
فِي سَنَةِ خَمْسٍ مِنْ الْهِجْرَةِ فِي شَوّالٍ عَلَى أَصَحّ
الْقَوْلَيْنِ إذْ لَا خِلَافَ أَنّ أُحُدًا كَانَتْ فِي شَوّالٍ سَنَةَ
ثَلَاثٍ وَوَاعَدَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَهُوَ سَنَةُ أَرْبَعٍ ثُمّ
أَخْلَفُوهُ لِأَجْلِ جَدْبِ تِلْكَ السّنَةِ فَرَجَعُوا فَلَمّا كَانَتْ
سَنَةُ خَمْسٍ جَاءُوا لِحَرْبِهِ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ السّيَرِ
وَالْمَغَازِي . [ ص 241 ] مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَقَالَ بَلْ كَانَتْ
سَنَةَ أَرْبَعٍ . قَالَ أَبُو مُحَمّدِ بْنُ حَزْمٍ : وَهَذَا هُوَ
الصّحِيحُ الّذِي لَا شَكّ فِيهِ وَاحْتُجّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّهُ عُرِضَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً
فَلَمْ يُجِزْهُ ثُمّ عُرِضَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ ابْنُ
خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَهُ . قَالَ فَصَحّ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ
بَيْنَهُمَا إلّا سَنَةٌ وَاحِدَةٌ . وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا بِجَوَابَيْنِ
أَحَدُهُمَا : أَنّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَدّهُ لَمّا اسْتَصْغَرَهُ عَنْ الْقِتَالِ
وَأَجَازَهُ لَمّا وَصَلَ إلَى السّنّ الّتِي رَآهُ فِيهَا مُطِيقًا
وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَنْفِي تَجَاوُزَهَا بِسَنَةٍ أَوْ نَحْوِهَا .
الثّانِي : أَنّهُ لَعَلّهُ كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي أَوّلِ الرّابِعَةَ
عَشْرَةَ وَيَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي آخِرِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ .
فَصْلٌ
وَكَانَ
سَبَبُ غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ أَنّ الْيَهُودَ لَمّا رَأَوْا انْتِصَارَ
الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ وَعَلِمُوا بِمِيعَادِ
أَبِي سُفْيَانَ لِغَزْوِ الْمُسْلِمِينَ فَخَرَجَ لِذَلِك ثُمّ رَجَعَ
لِلْعَامِ الْمُقْبِلِ خَرَجَ أَشْرَافُهُمْ كَسَلَامِ بْنِ أَبِي
الْحُقَيْقِ وَسَلَامِ بْنِ مِشْكَمٍ وَكِنَانَةَ بْنِ الرّبِيعِ
وَغَيْرِهِمْ إلَى قُرَيْشٍ بِمَكّةَ يُحَرّضُونَهُمْ عَلَى غَزْوِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 242 ] قُرَيْشٌ ثُمّ
خَرَجُوا إلَى غَطَفَانَ فَدَعَوْهُمْ فَاسْتَجَابُوا لَهُمْ ثُمّ طَافُوا
فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَدْعُونَهُمْ إلَى ذَلِكَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ
مَنْ اسْتَجَابَ فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وَقَائِدُهُمْ أَبُو سُفْيَانُ فِي
أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَوَافَتْهُمْ بَنُو سُلَيْمٍ بِمَرّ الظّهْرَانِ
وَخَرَجَتْ بَنُو أَسَدٍ وَفَزَارَةُ وَأَشْجَعُ وَبَنُو مُرّةَ وَجَاءَتْ
غَطَفَانُ وَقَائِدُهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ . وَكَانَ مَنْ وَافَى
الْخَنْدَقَ مِنْ الْكُفّارِ عَشَرَةَ آلَافٍ .
[ رَأْيُ سَلْمَانَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ ]
فَلَمّا
سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَسِيرِهِمْ
إلَيْهِ اسْتَشَارَ الصّحَابَةَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ سَلْمَانُ
الْفَارِسِيّ بِحَفْرِ خَنْدَقٍ يَحُولُ بَيْنَ الْعَدُوّ وَبَيْنَ
الْمَدِينَةِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَبَادَرَ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَعَمِلَ بِنَفْسِهِ فِيهِ
وَبَادَرُوا هُجُومَ الْكُفّارِ عَلَيْهِمْ وَكَانَ فِي حَفْرِهِ مِنْ
آيَاتِ نُبُوّتِهِ وَأَعْلَامِ رِسَالَتِهِ مَا قَدْ تَوَاتَرَ الْخَبَرُ
بِهِ وَكَانَ حَفْرُ الْخَنْدَقِ أَمَامَ سِلْعٍ وَسِلْعٌ : جَبَلٌ خَلْفَ
ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَالْخَنْدَقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفّارِ .
وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ثَلَاثَةِ
آلَافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَتَحَصّنَ بِالْجَبَلِ مِنْ خَلْفِهِ
وَبِالْخَنْدَقِ أَمَامَهُمْ . وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : خَرَجَ فِي
سَبْعِمِائَةٍ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ خُرُوجِهِ يَوْمَ أُحُدٍ . وَأَمَرَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالنّسَاءِ وَالذّرَارِيّ
فَجُعِلُوا فِي آطَامِ الْمَدِينَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا ابْنَ أُمّ
مَكْتُومٍ .
[ نَقْضُ بَنِي قُرَيْظَةَ الْعَهْدَ بِتَحْرِيضٍ مِنْ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ ]
وَانْطَلَقَ
حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَدَنَا مِنْ حِصْنِهِمْ
فَأَبَى كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ أَنْ يَفْتَحَ لَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُكَلّمُهُ
حَتّى فَتَحَ لَهُ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَقَدْ جِئْتُكَ بِعِزّ
الدّهْرِ جِئْتُكَ بِقُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَأَسَدٍ عَلَى قَادَتِهَا
لِحَرْبِ مُحَمّدٍ قَالَ كَعْبٌ جِئْتنِي وَاَللّهِ بِذُلّ الدّهْرِ
وَبِجَهَامٍ قَدْ هَرَاقَ مَاؤُهُ فَهُوَ يَرْعُدُ وَيَبْرُقُ لَيْسَ
فِيهِ شَيْءٌ . فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتّى نَقَضَ الْعَهْدَ الّذِي
بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَدَخَلَ مَعَ [ ص 243 ] مُحَارَبَتِهِ فَسُرّ بِذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ
وَشَرَطَ كَعْبٌ عَلَى حُيَيّ أَنّهُ إنْ لَمْ يَظْفَرُوا بِمُحَمّدٍ أَنْ
يَجِيءَ حَتّى يَدْخُلَ مَعَهُ فِي حِصْنِهِ فَيُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُ
فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ وَوَفّى لَهُ بِهِ . وَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَبَرُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَنَقْضُهُمْ
لِلْعَهْدِ فَبَعَثَ إلَيْهِمْ السّعْدَيْنِ وَخَوّاتَ بْنَ جُبَيْرٍ
وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ لِيَعْرِفُوا : هَلْ هُمْ عَلَى
عَهْدِهِمْ أَوْ قَدْ نَقَضُوهُ ؟ فَلَمّا دَنَوْا مِنْهُمْ فَوَجَدُوهُمْ
عَلَى أَخْبَثِ مَا يَكُونُ وَجَاهَرُوهُمْ بِالسّبّ وَالْعَدَاوَةِ
وَنَالُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَانْصَرَفُوا عَنْهُمْ وَلَحَنُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَحْنًا يُخْبِرُونَهُ أَنّهُمْ قَدْ نَقَضُوا
الْعَهْدَ وَغَدَرُوا فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ ذَلِكَ اللّهُ
أَكْبَرُ أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ وَاشْتَدّ الْبَلَاءُ
وَنَجَمَ النّفَاقُ وَاسْتَأْذَنَ بَعْضُ بَنِي حَارِثَةَ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الذّهَابِ إلَى الْمَدِينَةِ
وَقَالُوا : { إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ
يُرِيدُونَ إِلّا فِرَارًا } [ الْأَحْزَابُ 13 ] وَهَمّ بَنُو سَلَمَةَ
بِالْفَشَلِ ثُمّ ثَبّتَ اللّهُ الطّائِفَتَيْنِ . وَأَقَامَ
الْمُشْرِكُونَ مُحَاصِرِينَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ شَهْرًا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ لِأَجْلِ مَا حَالَ
اللّهُ بِهِ مِنْ الْخَنْدَقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلّا
أَنّ فَوَارِسَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدّ
وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ أَقْبَلُوا نَحْوَ الْخَنْدَقِ فَلَمّا وَقَفُوا
عَلَيْهِ قَالُوا : إنّ هَذِهِ مَكِيدَةٌ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ
تَعْرِفُهَا ثُمّ تَيَمّمُوا مَكَانًا ضَيّقًا مِنْ الْخَنْدَقِ
فَاقْتَحَمُوهُ وَجَالَتْ بِهِمْ خَيْلُهُمْ فِي السّبْخَةِ بَيْنَ
الْخَنْدَقِ وَسِلْعٍ وَدَعَوْا إلَى الْبِرَازِ فَانْتُدِبَ لِعَمْرٍو
عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَبَارَزَهُ فَقَتَلَهُ
اللّهُ عَلَى يَدَيْهِ وَكَانَ مِنْ شُجْعَانِ الْمُشْرِكِينَ
وَأَبْطَالِهِمْ وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ إلَى أَصْحَابِهِمْ وَكَانَ
شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ " حم لَا يُنْصَرُونَ [ ص 244 ]
[هَمّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصُلْحِ غَطَفَانَ عَلَى ثُلُثِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ ]
وَلَمّا
طَالَتْ هَذِهِ الْحَالُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَرَادَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُصَالِحَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ
وَالْحَارِثَ بْنَ عَوْفٍ رَئِيسَيْ غَطَفَانَ عَلَى ثُلُثِ ثِمَارِ
الْمَدِينَةِ وَيَنْصَرِفَا بِقَوْمِهِمَا وَجَرَتْ الْمُرَاوَضَةُ عَلَى
ذَلِكَ فَاسْتَشَارَ السّعْدَيْنِ فِي ذَلِكَ فَقَالَا : يَا رَسُولَ
اللّهِ إنْ كَانَ اللّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا فَسَمْعًا وَطَاعَةً وَإِنْ
كَانَ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنَا فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ لَقَدْ كُنّا
نَحْنُ وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى الشّرْكِ بِاَللّهِ وَعِبَادَةِ
الْأَوْثَانِ وَهُمْ لَا يَطْمَعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا ثَمَرَةً
إلّا قَرًى أَوْ بَيْعًا فَحِينَ أَكْرَمَنَا اللّهُ بِالْإِسْلَامِ
وَهَدَانَا لَهُ وَأَعَزّنَا بِك نُعْطِيهِمْ أَمْوَالَنَا ؟ وَاَللّهِ
لَا نُعْطِيهِمْ إلّا السّيْفَ فَصَوّبَ رَأْيَهُمَا وَقَالَ إنّمَا هُوَ
شَيْءٌ أَصْنَعُهُ لَكُمْ لَمّا رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ
قَوْسٍ وَاحِدَةٍ
[خُدْعَةُ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَيَهُودَ ]
[ نَصْرُ اللّهِ لِلْمُسْلِمِينَ ]
ثُمّ
إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ - وَلَهُ الْحَمْدُ - صَنَعَ أَمْرًا مِنْ
عِنْدِهِ خَذَلَ بِهِ الْعَدُوّ وَهَزَمَ جُمُوعَهُمْ وَفَلّ حَدّهُمْ
فَكَانَ مِمّا هَيّأَ مِنْ ذَلِكَ أَنّ رَجُلًا مِنْ غَطَفَانَ يُقَالُ
لَهُ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ جَاءَ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ
اللّهِ إنّي قَدْ أَسْلَمْت فَمُرْنِي بِمَا شِئْتُ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا أَنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ
فَخَذّلْ عَنّا مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ فَذَهَبَ مِنْ
فَوْرِهِ ذَلِكَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَ عَشِيرًا لَهُمْ فِي
الْجَاهِلِيّةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِإِسْلَامِهِ
فَقَالَ يَا بَنِي قُرَيْظَةَ إنّكُمْ قَدْ حَارَبْتُمْ مُحَمّدًا وَإِنّ
قُرَيْشًا إنْ أَصَابُوا فُرْصَةً انْتَهَزُوهَا وَإِلّا انْشَمَرُوا إلَى
بِلَادِهِمْ رَاجِعِينَ وَتَرَكُوكُمْ وَمُحَمّدًا فَانْتَقَمَ مِنْكُمْ
قَالُوا : فَمَا الْعَمَلُ يَا نُعَيْمُ ؟ قَالَ لَا تُقَاتِلُوا مَعَهُمْ
حَتّى يُعْطُوكُمْ رَهَائِنَ قَالُوا : لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرّأْيِ ثُمّ
مَضَى عَلَى وَجْهِهِ إلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ تَعْلَمُونَ وُدّي
لَكُمْ وَنُصْحِي لَكُمْ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ إنّ يَهُودَ قَدْ
نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ نَقْضِ عَهْدِ مُحَمّد
وَأَصْحَابِهِ وَإِنّهُمْ قَدْ رَاسَلُوهُ أَنّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْكُمْ
رَهَائِنَ يَدْفَعُونَهَا إلَيْهِ ثُمّ يُمَالِئُونَهُ عَلَيْكُمْ فَإِنْ
سَأَلُوكُمْ رَهَائِنَ فَلَا تُعْطُوهُمْ ثُمّ ذَهَبَ إلَى غَطَفَانَ
فَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمّا كَانَ لَيْلَةُ السّبْتِ مِنْ
شَوّالٍ بَعَثُوا إلَى الْيَهُودِ : إنّا لَسْنَا بِأَرْضِ مُقَامٍ وَقَدْ
هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفّ فَانْهَضُوا بِنَا حَتّى نُنَاجِزَ [ ص 245 ]
فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ الْيَهُودُ : إنّ الْيَوْمَ يَوْمُ السّبْتِ وَقَدْ
عَلِمْتُمْ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَنَا حِينَ أَحْدَثُوا فِيهِ وَمَعَ
هَذَا فَإِنّا لَا نُقَاتِلُ مَعَكُمْ حَتّى تَبْعَثُوا إلَيْنَا
رَهَائِنَ فَلَمّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِذَلِكَ قَالَتْ قُرَيْشُ :
صَدَقَكُمْ وَاَللّهِ نُعَيْمٌ فَبَعَثُوا إلَى يَهُودَ إنّا وَاَللّهِ
لَا نُرْسِلُ إلَيْكُمْ أَحَدًا فَاخْرُجُوا مَعَنَا حَتّى نُنَاجِزَ
مُحَمّدًا فَقَالَتْ قُرَيْظَةُ صَدَقَكُمْ وَاَللّهِ نُعَيْمٌ
فَتَخَاذَلَ الْفَرِيقَانِ وَأَرْسَلَ اللّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ
جُنْدًا مِنْ الرّيحِ فَجَعَلَتْ تُقَوّضُ خِيَامَهُمْ وَلَا تَدَعُ
لَهُمْ قِدْرًا إلّا كَفَأَتْهَا وَلَا طُنُبًا إلّا قَلَعَتْهُ وَلَا
يَقِرّ لَهُمْ قَرَارٌ وَجُنْدُ اللّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ
يُزَلْزِلُونَهُمْ وَيُلْقُونَ فِي قُلُوبِهِمْ الرّعْبَ وَالْخَوْفَ
وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حُذَيْفَةَ
بْنَ الْيَمَانِ يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِمْ فَوَجَدَهُمْ عَلَى هَذِهِ
الْحَالِ وَقَدْ تَهَيّئُوا لِلرّحِيلِ فَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ بِرَحِيلِ الْقَوْمِ
فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ رَدّ
اللّهُ عَدُوّهُ بِغَيْظِهِ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَاهُ اللّهُ
قِتَالَهُمْ فَصَدَقَ وَعْدَهُ وَأَعَزّ جُنْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ
وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ وَوَضَعَ السّلَاحَ
فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فِي بَيْتِ
أُمّ سَلَمَةَ فَقَالَ أَوَضَعْتُمْ السّلَاحَ إنّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ
تَضَعْ بَعْدُ أَسْلِحَتَهَا انْهَضْ إلَى غَزْوَةِ هَؤُلَاءِ يَعْنِي
بَنِي قُرَيْظَةَ فَنَادَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَنْ كَانَ سَامِعًا مُطِيعًا فَلَا يُصَلّيَنّ الْعَصْرَ إلّا فِي بَنِي
قُرَيْظَةَ فَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ سِرَاعًا وَكَانَ [ ص 246 ] أَمْرِهِ
وَأَمْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ مَا قَدّمْنَاهُ وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ وَيَوْمَ قُرَيْظَةَ نَحْوُ عَشْرَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
فَصْلٌ [اغْتِيَالُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَبَا رَافِعٍ ]
وَقَدْ
قَدّمْنَا أَنّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ مِمّنْ أَلّبَ الْأَحْزَابَ عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يُقْتَلْ مَعَ
بَنِي قُرَيْظَةَ كَمَا قُتِلَ صَاحِبُهُ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ وَرَغِبَتْ
الْخَزْرَجُ فِي قَتْلِهِ مُسَاوَاةً لِلْأَوْسِ فِي قَتْلِ كَعْبِ بْنِ
الْأَشْرَفِ وَكَانَ اللّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَدْ جَعَلَ
هَذَيْنَ الْحَيّيْنِ يَتَصَاوَلَانِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْخَيْرَاتِ فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي قَتْلِهِ
فَأَذِنَ لَهُمْ فَانْتُدِبَ لَهُ رِجَالٌ كُلّهُمْ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ
وَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَتِيكٍ وَهُوَ أَمِيرُ الْقَوْمِ وَعَبْدُ
اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ وَأَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رَبْعِيّ
وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ وَخُزَاعِيّ بْنُ أَسْوَدَ فَسَارُوا حَتّى
أَتَوْهُ فِي خَيْبَرَ فِي دَارٍ لَهُ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ لَيْلًا
فَقَتَلُوهُ وَرَجَعُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَكُلّهُمْ ادّعَى قَتْلَهُ فَقَالَ أَرُونِي أَسْيَافَكُمْ "
فَلَمّا أَرَوْهُ إيّاهَا قَالَ لَسَيْفُ عَبْدِ اللّهِ بْن أُنَيْسٍ "
هَذَا الّذِي قَتَلَهُ أَرَى فِيهِ أَثَرَ الطّعَامِ
فَصْلٌ غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ
ثُمّ
خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَنِي
لِحْيَانَ بَعْدَ قُرَيْظَةَ بِسِتّةِ أَشْهُرٍ لِيَغْزُوَهُمْ فَخَرَجَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مِائَتَيْ رَجُلٍ
وَأَظْهَرَ أَنّهُ يُرِيدُ الشّامَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى [ ص 247 ]
الْمَدِينَةَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ ثُمّ أَسْرَعَ السّيْرَ حَتّى انْتَهَى
إلَى بَطْنِ غَرّانَ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ بِلَادِهِمْ وَهُوَ بَيْنَ
أَمَجَ وَعُسْفَانَ حَيْثُ كَانَ مُصَابُ أَصْحَابِهِ فَتَرَحّمَ
عَلَيْهِمْ وَدَعَا لَهُمْ وَسَمِعَتْ بَنُو لِحْيَانَ فَهَرَبُوا فِي
رُءُوسِ الْجِبَالِ فَلَمْ يَقْدِرْ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ فَأَقَامَ
يَوْمَيْنِ بِأَرْضِهِمْ وَبَعَثَ السّرَايَا فَلَمْ يَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ فَسَارَ إلَى عُسْفَانَ فَبَعَثَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ إلَى
كُرَاعِ الْغَمِيمِ لِتَسْمَعَ بِهِ قُرَيْشٌ ثُمّ رَجَعَ إلَى
الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ عَنْهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً .
فَصْلٌ فِي سَرِيّةِ نَجْدٍ
[ إسْلَامُ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ ]
ثُمّ
بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْلًا قِبَلَ
نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ الْحَنِيفِيّ سَيّدِ بَنِي
حَنِيفَةَ فَرَبَطَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى
سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ وَمَرّ بِهِ فَقَالَ " مَا عِنْدَكَ
يَا ثُمَامَةُ ؟ " فَقَالَ يَا مُحَمّدُ إنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ
وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ
فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْت فَتَرَكَهُ ثُمّ مَرّ بِهِ مَرّةً أُخْرَى
فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَرَدّ عَلَيْهِ كَمَا رَدّ عَلَيْهِ أَوّلًا
ثُمّ مَرّ مَرّةً ثَالِثَةً فَقَالَ " أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ "
فَأَطْلَقُوهُ فَذَهَبَ إلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ
ثُمّ جَاءَهُ فَأَسْلَمَ وَقَالَ وَاَللّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إلَيّ مِنْ وَجْهِك فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُك
أَحَبّ الْوُجُوهِ إلَيّ وَاَللّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
دِينٌ أَبْغَضَ عَلَيّ مِنْ دِينِك فَقَدْ أَصْبَحَ دِينُك أَحَبّ
الْأَدْيَانِ إلَيّ وَإِنّ خَيْلَك أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ
الْعُمْرَةَ فَبَشّرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فَلَمّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا :
صَبَوْتَ يَا ثُمَامَةُ ؟ قَالَ لَا وَاَللّهِ وَلَكِنّي أَسْلَمْتُ مَعَ
مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا وَاَللّهِ لَا [ ص 248 ]
الْيَمَامَةِ حَبّةُ حِنْطَةٍ حَتّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَتْ الْيَمَامَةُ رِيفَ مَكّةَ
فَانْصَرَفَ إلَى بِلَادِهِ وَمَنَعَ الْحَمْلَ إلَى مَكّةَ حَتّى
جَهِدَتْ قُرَيْشُ فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَسْأَلُونَهُ بِأَرْحَامِهِمْ أَنْ يَكْتُبَ إلَى ثُمَامَةَ
يُخَلّي إلَيْهِمْ حَمْلَ الطّعَامِ فَفَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ الْغَابَةِ
ثُمّ
أَغَارَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ فِي بَنِي عَبْدِ اللّهِ
بْنِ غَطَفَانَ عَلَى لِقَاحِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الّتِي بِالْغَابَةِ فَاسْتَاقَهَا وَقَتَلَ رَاعِيَهَا وَهُوَ رَجُلٌ
مِنْ عُسْفَانَ وَاحْتَمَلُوا امْرَأَتَهُ قَالَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ
خَلَفٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي ذَرّ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدّا فَجَاءَ الصّرِيخُ
وَنُودِيَ يَا خَيْلَ اللّهِ ارْكَبِي وَكَانَ أَوّلَ مَا نُودِيَ بِهَا
وَرَكِبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُقَنّعًا فِي
الْحَدِيدِ فَكَانَ أَوّلَ مَنْ قَدِمَ إلَيْهِ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو
فِي الدّرْعِ وَالْمِغْفَرِ فَعَقَدَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّوَاءَ فِي رُمْحِهِ وَقَالَ " امْضِ حَتّى
تَلْحَقَك الْخُيُولُ إنّا عَلَى أَثَرِكَ " وَاسْتَخْلَفَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ وَأَدْرَكَ سَلَمَةُ
بْنُ الْأَكْوَعِ الْقَوْمَ وَهُوَ عَلَى رِجْلَيْهِ فَجَعَلَ يَرْمِيهِمْ
بِالنّبْلِ وَيَقُولُ
خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ
وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرّضّعِ
حَتّى
انْتَهَى إلَى ذِي قَرَدٍ وَقَدْ اسْتَنْقَذَ مِنْهُمْ جَمِيعَ اللّقَاحِ
وَثَلَاثِينَ بُرْدَةً قَالَ سَلَمَةُ فَلَحِقَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْخَيْلُ عِشَاءً فَقُلْتُ يَا رَسُولَ
اللّهِ إنّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ فَلَوْ بَعَثْتنِي فِي مِائَةِ رَجُلٍ
اسْتَنْقَذْتُ مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ السّرْحِ وَأَخَذْتُ [ ص 249 ]
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَلَكْت
فَأَسْجِحْ " ثُمّ قَالَ " إنّهُمْ الْآنَ لَيَقِرّونَ فِي غَطَفَانَ " .
وَذَهَبَ الصّرِيخُ بِالْمَدِينَةِ إلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ
فَجَاءَتْ الْأَمْدَادُ وَلَمْ تَزَلْ الْخَيْلُ تَأْتِي وَالرّجَالُ
عَلَى أَقْدَامِهِمْ وَعَلَى الْإِبِلِ حَتّى انْتَهَوْا إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِذِي قَرَدٍ . قَالَ عَبْدُ
الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ فَاسْتَنْقَذُوا عَشْرَ لِقَاحٍ وَأَفْلَتَ
الْقَوْمُ بِمَا بَقِيَ وَهُوَ عَشْرٌ . قُلْت : وَهَذَا غَلَطٌ بَيّنٌ
وَاَلّذِي فِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّهُمْ اسْتَنْقَذُوا اللّقَاحَ
كُلّهَا وَلَفْظُ مُسْلِمٍ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ سَلَمَةَ حَتّى مَا
خَلَقَ اللّهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ لِقَاحِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا خَلّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي وَاسْتَلَبْتُ
مِنْهُمْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً
فَصْلٌ [ كَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَتَوْهِيمُ مَنْ قَالَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ]
وَهَذِهِ
الْغَزْوَةُ كَانَتْ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ وَهِمَ فِيهَا
جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي وَالسّيَرِ فَذَكَرُوا أَنّهَا كَانَتْ
قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالدّلِيلُ عَلَى صِحّةِ مَا قُلْنَاهُ مَا
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ
قَالَ حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ قَالَ حَدّثَنِي إيَاسُ بْنُ
سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ زَمَنَ
الْحُدَيْبِيَةِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ خَرَجْتُ أَنَا وَرَبَاحٌ بِفَرَسٍ لِطَلْحَةَ أَنْدُبُهُ مَعَ
الْإِبِلِ فَلَمّا كَانَ بِغَلَسٍ أَغَارَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ
عُيَيْنَةَ عَلَى إبِلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَتَلَ رَاعِيَهَا وَسَاقَ الْقِصّةَ رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ
" بِطُولِهَا [ ص 250 ] وَوَهِمَ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ فِي "
سِيرَتِهِ " فِي ذَلِكَ وَهْمًا بَيّنًا فَذَكَرَ غَزَاةَ بَنِي لِحْيَانَ
بَعْدَ قُرَيْظَةَ بِسِتّةِ أَشْهُرٍ ثُمّ قَالَ لَمّا قَدِمَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ لَمْ يَمْكُثْ إلّا
لَيَالِيَ حَتّى أَغَارَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عُيَيْنَةَ وَذَكَرَ
الْقِصّةَ . وَاَلّذِي أَغَارَ عَبْدُ الرّحْمَنِ وَقِيلَ أَبُوهُ
عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ
قَوْلِ سَلَمَةَ قَدِمْت الْمَدِينَةَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ؟ .
[ سَرَايَا سَنَةِ سِتّ ]
[ سَرِيّةُ عُكَاشَةَ بْنِ مُحْصِنٍ إلَى الْغَمْرِ ]
وَقَدْ
ذَكَرَ الْوَاقِدِيّ عِدّةَ سَرَايَا فِي سَنَةِ سِتّ مِنْ الْهِجْرَةِ
قَبْلَ الْحُدَيْبِيَة ِ فَقَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ - أَوْ قَالَ الْآخِرِ - سَنَةَ
سِتّ مِنْ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ عُكَاشَةَ بْنَ مُحْصِنٍ الْأَسَدِيّ
فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا إلَى الْغَمْرِ وَفِيهِمْ ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ
وَسِبَاعُ بْنُ وَهْبٍ فَأَجَدّ السّيْرَ وَنَذِرَ الْقَوْمُ بِهِمْ
فَهَرَبُوا فَنَزَلَ عَلَى مِيَاهِهِمْ وَبَعَثَ الطّلَائِعَ فَأَصَابُوا
مَنْ دَلّهُمْ عَلَى بَعْضِ مَاشِيَتِهِمْ فَوَجَدُوا مِائَتَيْ بَعِيرٍ
فَسَاقُوهَا إلَى الْمَدِينَةِ .
[ سَرِيّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ إلَى ذِي الْقَصّةِ ]
وَبَعَثَ
سَرِيّةَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ إلَى ذِي الْقَصّةِ فَسَارُوا
لَيْلَتَهُمْ مُشَاةً وَوَافَوْهَا مَعَ الصّبْحِ فَأَغَارُوا عَلَيْهِمْ
فَأَعْجَزُوهُمْ هَرَبًا فِي الْجِبَالِ وَأَصَابُوا رَجُلًا وَاحِدًا
فَأَسْلَمَ .
[ سَرِيّةُ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ ]
[ ص 251 ]
مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ فِي عَشْرَةِ نَفَرٍ
سَرِيّةً فَكَمَنَ الْقَوْمُ لَهُمْ حَتّى نَامُوا فَمَا شَعَرُوا إلّا
بِالْقَوْمِ فَقُتِلَ أَصْحَابُ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ وَأَفْلَتَ
مُحَمّدٌ جَرِيحًا .
[ سَرِيّةُ زَيْدٍ إلَى الْجَمُومِ ]
وَفِي
هَذِهِ السّنَةِ - وَهِيَ سَنَةُ سِتّ - كَانَتْ سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ
حَارِثَةَ بِالْجَمُومِ فَأَصَابَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ يُقَالُ
لَهَا : حَلِيمَةُ فَدَلّتْهُمْ عَلَى مَحَلّةٍ مِنْ مَحَالّ بَنِي
سُلَيْمٍ فَأَصَابُوا نِعَمًا وَشَاءً وَأَسْرَى وَكَانَ فِي الْأَسْرَى
زَوْجُ حَلِيمَةَ فَلَمّا قَفَلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِمَا أَصَابَ
وَهَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْمُزَنِيّةِ
نَفْسَهَا وَزَوّجَهَا .
[ سَرِيّةُ زَيْدٍ إلَى الطّرَفِ ]
وَفِيهَا
- يَعْنِي : سَنَةَ سِتّ - كَانَتْ سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى
الطّرَفِ فِي جُمَادَى الْأُولَى إلَى بَنِي ثَعْلَبَة فِي خَمْسَةَ
عَشَرَ رَجُلًا فَهَرَبَتْ الْأَعْرَابُ وَخَافُوا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَارَ إلَيْهِمْ فَأَصَابَ مِنْ
نَعَمِهِمْ عِشْرِينَ بَعِيرًا وَغَابَ أَرْبَعَ لَيَالٍ .
[ سَرِيّةُ زَيْدٍ إلَى الْعِيصِ ]
[ إجَارَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا الْعَاصِ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ ]
وَفِيهَا
كَانَتْ سَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى الْعِيصِ فِي جُمَادَى
الْأُولَى وَفِيهَا : أُخِذَتْ الْأَمْوَالُ الّتِي كَانَتْ مَعَ أَبِي
الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ زَوْجِ زَيْنَبَ مَرْجِعَهُ مِنْ الشّامِ
وَكَانَتْ أَمْوَالُ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ
اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ حَزْمٍ قَالَ خَرَجَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ
الرّبِيعِ تَاجِرًا إلَى الشّامِ وَكَانَ رَجُلًا مَأْمُونًا وَكَانَتْ
مَعَهُ بَضَائِعُ لِقُرَيْشٍ فَأَقْبَلَ قَافِلًا فَلَقِيَتْهُ سَرِيّةٌ
لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْتَاقُوا عِيرَهُ
وَأَفْلَتَ وَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِمَا أَصَابُوا فَقَسّمَهُ بَيْنَهُمْ وَأَتَى أَبُو الْعَاصِ
الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْتَجَارَ بِهَا وَسَأَلَهَا أَنْ تَطْلُبَ لَهُ
مِنْ [ ص 252 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَدّ مَالِهِ عَلَيْهِ
وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ أَمْوَالِ النّاس فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّرِيّةَ فَقَالَ إنّ هَذَا الرّجُلَ مِنّا
حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ وَقَدْ أَصَبْتُمْ لَهُ مَالًا وَلِغَيْرِهِ
وَهُوَ فَيْءُ اللّهِ الّذِي أَفَاءَ عَلَيْكُمْ فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ
تَرُدّوا عَلَيْهِ فَافْعَلُوا وَإِنْ كَرِهْتُمْ فَأَنْتُمْ وَحَقّكُمْ
فَقَالُوا : بَلْ نَرُدّهُ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللّهِ فَرَدّوا عَلَيْهِ
مَا أَصَابُوا حَتّى إنّ الرّجُلَ لَيَأْتِي بِالشّنّ وَالرّجُلُ
بِالْإِدَاوَةِ وَالرّجُلُ بِالْحَبْلِ فَمَا تَرَكُوا قَلِيلًا
أَصَابُوهُ وَلَا كَثِيرًا إلّا رَدّوهُ عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ حَتّى
قَدِمَ مَكّةَ فَأَدّى إلَى النّاسِ بَضَائِعَهُمْ حَتّى إذَا فَرَغَ
قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ هَلْ بَقِيَ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ مَعِي مَالٌ
لَمْ أَرُدّهُ عَلَيْهِ ؟ قَالُوا : لَا فَجَزَاك اللّهُ خَيْرًا قَدْ
وَجَدْنَاك وَفِيّا كَرِيمًا فَقَالَ أَمَا وَاَللّهِ مَا مَنَعَنِي أَنْ
أُسْلِمَ قَبْلَ أَنْ أَقْدَمَ عَلَيْكُمْ إلّا تَخَوّفًا أَنْ تَظُنّوا
أَنّي إنّمَا أَسْلَمْتُ لِأَذْهَبَ بِأَمْوَالِكُمْ فَإِنّي أَشْهَدُ
أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .
[ رِوَايَةُ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ لِقِصّةِ أَبِي الْعَاصِ ]
وَهَذَا
الْقَوْلُ مِنْ الْوَاقِدِيّ وَابْنِ إسْحَاقَ يَدُلّ عَلَى أَنّ قِصّةَ
أَبِي الْعَاصِ كَانَتْ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ وَإِلّا فَبَعْدَ
الْهُدْنَةِ لَمْ تَتَعَرّضْ سَرَايَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقُرَيْشٍ . وَلَكِنْ زَعَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ
أَنّ قِصّةَ أَبِي الْعَاصِ كَانَتْ بَعْدَ الْهُدْنَةِ وَأَنّ الّذِي
أَخَذَ الْأَمْوَالَ أَبُو بَصِيرٍ وَأَصْحَابُهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَنّهُمْ
كَانُوا مُنْحَازِينَ بِسِيفِ الْبَحْرِ وَكَانَتْ لَا تَمُرّ بِهِمْ
عِيرٌ لِقُرَيْشٍ إلّا أَخَذُوهَا هَذَا قَوْلُ الزّهْرِيّ . قَالَ مُوسَى
بْنُ عُقْبَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ فِي قِصّةِ أَبِي بَصِيرٍ : وَلَمْ
يَزَلْ أَبُو جَنْدَلٍ وَأَبُو بَصِيرٍ وَأَصْحَابُهُمَا الّذِينَ
اجْتَمَعُوا إلَيْهِمَا هُنَالِكَ حَتّى مَرّ بِهِمْ أَبُو الْعَاصِ بْنُ
الرّبِيعِ وَكَانَتْ تَحْتَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَأَخَذُوهُمْ وَمَا
مَعَهُمْ وَأَسَرُوهُمْ وَلَمْ يَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا لِصِهْرِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَبِي الْعَاصِ
وَأَبُو الْعَاصِ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ خَدِيجَةَ
بِنْتِ خُوَيْلِدٍ لِأَبِيهَا وَأُمّهَا وَخَلّوْا سَبِيلَ أَبِي الْعَاصِ
فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى امْرَأَتِهِ زَيْنَبَ فَكَلّمَهَا أَبُو
الْعَاصِ فِي أَصْحَابِهِ الّذِينَ أَسَرَهُمْ أَبُو جَنْدَلٍ وَأَبُو
بَصِيرٍ وَمَا أَخَذُوا لَهُمْ فَكَلّمَتْ زَيْنَبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَلِكَ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَامَ فَخَطَبَ النّاسَ فَقَالَ [ ص 253 ]
إنّا صَاهَرْنَا أُنَاسًا وَصَاهَرْنَا أَبَا الْعَاصِ فَنِعْمَ الصّهْرُ
وَجَدْنَاهُ وَإِنّهُ أَقْبَلَ مِنْ الشّامِ فِي أَصْحَابٍ لَهُ مِنْ
قُرَيْشٍ فَأَخَذَهُمْ أَبُو جَنْدَلٍ وَأَبُو بَصِيرٍ وَأَخَذُوا مَا
كَانَ مَعَهُمْ وَلَمْ يَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا وَإِنّ زَيْنَبَ
بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ سَأَلَتْنِي أَنْ أُجِيرَهُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ
مُجِيرُونَ أَبَا الْعَاصِ وَأَصْحَابَهُ ؟ " فَقَالَ النّاسُ نَعَمْ
فَلَمّا بَلَغَ أَبَا جَنْدَلٍ وَأَصْحَابَهُ قَوْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَبِي الْعَاصِ وَأَصْحَابِهِ الّذِينَ
كَانُوا عِنْدَهُ مِنْ الْأَسْرَى رَدّ إلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ أَخَذَ
مِنْهُمْ حَتّى الْعِقَالَ وَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى أَبِي جَنْدَلٍ وَأَبِي بَصِيرٍ يَأْمُرُهُمْ أَنْ
يَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَيَأْمُرُ مَنْ مَعَهُمَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ
يَرْجِعُوا إلَى بِلَادِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَلّا يَتَعَرّضُوا لِأَحَدٍ
مِنْ قُرَيْشٍ وَعِيرِهَا فَقَدِمَ كُتّابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَبِي بَصِيرٍ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَمَاتَ
وَهُوَ عَلَى صَدْرِهِ وَدَفَنَهُ أَبُو جَنْدَلٍ مَكَانَهُ وَأَقْبَلَ
أَبُو جَنْدَلٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَمِنَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ .
[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُقْبَةَ ]
وَقَوْلُ
مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ : أَصْوَبُ وَأَبُو الْعَاصِ إنّمَا أَسْلَمَ زَمَنَ
الْهُدْنَةِ وَقُرَيْشٌ إنّمَا انْبَسَطَتْ عِيرُهَا إلَى الشّامِ زَمَنَ
الْهُدْنَةِ وَسِيَاقُ الزّهْرِيّ لِلْقِصّةِ بَيّنٌ ظَاهِرٌ أَنّهَا
كَانَتْ فِي زَمَنِ الْهُدْنَةِ .
[ سَرِيّةُ زَيْدٍ إلَى حِسْمَى وَهِيَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ ]
قَالَ
الْوَاقِدِيّ : وَفِيهَا أَقْبَلَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ
مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ وَقَدْ أَجَازَهُ بِمَالٍ وَكُسْوَةٍ فَلَمّا كَانَ
بِحِسْمَى لَقِيَهُ نَاسٌ مِنْ جُذَامٍ فَقَطَعُوا عَلَيْهِ الطّرِيقَ
فَلَمْ يَتْرُكُوا مَعَهُ شَيْئًا فَجَاءَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ فَأَخْبَرَهُ فَبَعَثَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ
إلَى حِسْمَى . قُلْت : وَهَذَا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بِلَا شَكّ .
[ سَرِيّةُ عَلِيّ إلَى فَدَكَ ]
قَالَ
الْوَاقِدِيّ : وَخَرَجَ عَلِيّ فِي مِائَةِ رَجُلٍ إلَى فَدَكَ إلَى حَيّ
مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَذَلِكَ أَنّهُ بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ بِهَا جَمْعًا يُرِيدُونَ أَنْ
يَمُدّوا يَهُودَ خَيْبَرَ فَسَارَ إلَيْهِمْ يَسِيرُ اللّيْلَ وَيَكْمُنُ
النّهَارَ فَأَصَابَ عَيْنًا لَهُمْ فَأَقَرّ لَهُ أَنّهُمْ بَعَثُوهُ
إلَى خَيْبَرَ فَعَرَضُوا عَلَيْهِمْ نُصْرَتَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلُوا
لَهُمْ ثَمَرَ خَيْبَرَ .
[ سَرِيّةُ ابْنِ عَوْفٍ إلَى دُومَةِ الْجَنْدَلِ ]
[
ص 254 ] قَالَ وَفِيهَا سَرِيّةُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إلَى
دُومَةِ الْجَنْدَلِ فِي شَعْبَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ أَطَاعُوك فَتَزَوّجْ ابْنَةَ مَلِكِهِمْ
فَأَسْلَمَ الْقَوْمُ وَتَزَوّجَ عَبْدُ الرّحْمَنِ تَمَاضُرَ بِنْتَ
الْأَصْبَغِ وَهِيَ أُمّ أَبِي سَلَمَةَ وَكَانَ أَبُوهَا رَأْسَهُمْ
وَمَلِكَهُمْ .
[ سَرِيّةُ كُرْزٍ إلَى الْعُرَنِيّينَ وَكَانَتْ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ ]
قَالَ
وَكَانَتْ سَرِيّةُ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ الْفِهْرِيّ إلَى الْعُرَنِيّينَ
الّذِينَ قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ فِي شَوّالٍ سَنَةَ سِتّ وَكَانَتْ السّرِيّةُ
عِشْرِينَ فَارِسًا . قُلْت : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهَا كَانَتْ
قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ كَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ كَمَا سَيَأْتِي
وَقِصّةُ الْعُرَنِيّينَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّ
رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا أَهْلُ ضَرْعٍ
وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ فَاسْتَوْخَمْنَا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ
لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِذَوْدٍ
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهَا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا
وَأَبْوَالِهَا فَلَمّا صَحّوا قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاسْتَاقُوا الذّوْدَ وَكَفَرُوا بَعْدَ
إسْلَامِهِمْ . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ سَمَلُوا عَيْنَ الرّاعِي
فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي طَلَبِهِمْ
فَأَمَرَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَتَرَكَهُمْ فِي
نَاحِيَةِ الْحَرّةِ حَتّى مَاتُوا [ ص 255 ] أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ
جَابِرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ
عَمّ عَلَيْهِمْ الطّرِيقَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ أَضْيَقَ مِنْ مَسْكِ
جَمَلٍ فَعَمّى اللّهُ عَلَيْهِمْ السّبِيلَ فَأُدْرِكُوا . وَذَكَرَ
الْقِصّةَ .
[ الْفِقْهُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ حَدِيثِ الْعُرَنِيّينَ ]
وَفِيهَا
مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ شُرْبِ أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَطَهَارَةُ بَوْلِ
مَأْكُولِ اللّحْمِ وَالْجَمْعُ لِلْمُحَارِبِ إذَا أَخَذَ الْمَالَ
وَقَتَلَ بَيْنَ قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ وَقَتْلِهِ وَأَنّهُ يُفْعَلُ
بِالْجَانِي كَمَا فَعَلَ فَإِنّهُمْ لَمّا سَمَلُوا عَيْنَ الرّاعِي
سَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنّ الْقِصّةَ مُحْكَمَةٌ
لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ
وَالْحُدُودُ نَزَلَتْ بِتَقْرِيرِهَا لَا بِإِبْطَالِهَا . وَاَللّهُ
أَعْلَمُ .