كتاب : زاد المعاد في هَدْي خير العباد
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية
فَصْلٌ [لَا نَفَقَةَ لِلْمُلَاعَنَةِ عَلَى الْمُلَاعِنِ وَلَا سُكْنَى ]
الْحُكْمُ
الْخَامِسُ أَنّهَا لَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ وَلَا سُكْنَى كَمَا
قَضَى بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَذَا
مُوَافِقٌ لِحُكْمِهِ فِي الْمَبْتُوتَةِ الّتِي لَا رَجْعَةَ لِزَوْجِهَا
عَلَيْهَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِهِ فِي ذَلِكَ وَأَنّهُ
مُوَافِقٌ لِكِتَابِ اللّهِ لَا مُخَالِفٌ لَهُ بَلْ سُقُوطُ النّفَقَةِ
وَالسّكْنَى لِلْمُلَاعَنَةِ أَوْلَى مِنْ سُقُوطِهَا لِلْمَبْتُوتَةِ
لِأَنّ الْمَبْتُوتَةَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدّتِهَا
وَهَذِهِ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى نِكَاحِهَا لَا فِي الْعِدّةِ وَلَا
بَعْدَهَا فَلَا وَجْهَ أَصْلًا لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا وَسُكْنَاهَا
وَقَدْ انْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ انْقِطَاعًا كُلّيّا . فَأَقْضِيَتُهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَكُلّهَا
تُوَافِقُ كِتَابَ اللّهِ وَالْمِيزَانَ الّذِي أَنْزَلَهُ لِيَقُومَ
النّاسُ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْقِيَاسُ الصّحِيحُ كَمَا سَتَقَرّ عَيْنُك
إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ عَنْ قَرِيبٍ . وَقَالَ
مَالِكٌ وَالشّافِعِيّ : لَهَا السّكْنَى . وَأَنْكَرَ الْقَاضِي
إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ هَذَا الْقَوْلَ إنْكَارًا شَدِيدًا .
وَقَوْلُهُ " مِنْ أَجْلِ أَنّهُمَا يَتَفَرّقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ
وَلَا مُتَوَفّى عَنْهَا " لَا يَدُلّ مَفْهُومُهُ عَلَى أَنّ كُلّ
مُطَلّقَةٍ وَمُتَوَفّى عَنْهَا لَهَا النّفَقَةُ وَالسّكْنَى وَإِنّمَا
يَدُلّ عَلَى أَنّ هَاتَيْنِ الْفُرْقَتَيْنِ قَدْ يَجِبُ مَعَهُمَا
نَفَقَةٌ وَسُكْنَى وَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ حَامِلًا فَلَهَا
ذَلِكَ فِي فُرْقَةِ الطّلَاقِ اتّفَاقًا وَفِي فُرْقَةِ الْمَوْتِ
ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا : أَنّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى
كَمَا لَوْ كَانَ حَائِلًا وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَة َ وَأَحْمَدَ
فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ وَالشّافِعِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لِزَوَالِ
سَبَبِ النّفَقَةِ بِالْمَوْتِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُرْجَى عَوْدُهُ فَلَمْ
يَبْقَ إلّا نَفَقَةُ قَرِيبٍ فَهِيَ فِي مَالِ الطّفْلِ إنْ كَانَ لَهُ
مَالٌ وَإِلّا فَعَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ . [ ص
357 ] وَالثّانِي : أَنّ لَهَا النّفَقَةَ وَالسّكْنَى فِي تَرِكَتِهِ
تُقَدّمُ بِهَا عَلَى الْمِيرَاثِ وَهَذَا إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ
أَحْمَد َ لِأَنّ انْقِطَاعَ الْعِصْمَةِ بِالْمَوْتِ لَا يَزِيدُ عَلَى
انْقِطَاعِهَا بِالطّلَاقِ الْبَائِنِ بَلْ انْقِطَاعُهَا بِالطّلَاقِ
أَشَدّ وَلِهَذَا تُغَسّلُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا بَعْدَ مَوْتِهِ عِنْدَ
جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ حَتّى الْمُطَلّقَةُ الرّجْعِيّةُ عِنْدَ أَحْمَدَ
وَمَالِكٍ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَإِذَا وَجَبَتْ النّفَقَةُ
وَالسّكْنَى لِلْبَائِنِ الْحَامِلِ فَوُجُوبُهَا لِلْمُتَوَفّى عَنْهَا
زَوْجُهَا أَوْلَى وَأَحْرَى . وَالثّالِثُ أَنّ لَهَا السّكْنَى دُونَ
النّفَقَةِ حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ
وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشّافِعِيّ إجْرَاءً لَهَا مَجْرَى الْمَبْتُوتَةِ فِي
الصّحّةِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَذِكْرِ
أَدِلّتِهَا وَالتّمْيِيزِ بَيْنَ رَاجِحِهَا وَمَرْجُوحِهَا إذْ
الْمَقْصُودُ أَنّ قَوْلَهُ " مِنْ أَجْلِ أَنّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ
غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفّى عَنْهَا زَوْجُهَا " إنّمَا يَدُلّ عَلَى
أَنّ الْمُطَلّقَةَ وَالْمُتَوَفّى عَنْهَا قَدْ يَجِبُ لَهُمَا الْقُوتُ
وَالْبَيْتُ فِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا إنْ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ
كَلَامِ الصّحَابِيّ وَالظّاهِرُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَنّهُ مُدْرَجٌ
مِنْ قَوْلِ الزّهْرِيّ .
فَصْلٌ [انْقِطَاعُ نَسَبِ وَلَدِ اللّعَانِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ ]
الْحُكْمُ
السّادِسُ انْقِطَاعُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ لِأَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى أَلّا يُدْعَى
وَلَدُهَا لِأَبٍ وَهَذَا هُوَ الْحَقّ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ
أَجَلّ فَوَائِدِ اللّعَانِ وَشَذّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ
الْمَوْلُودُ لِلْفِرَاشِ لَا يَنْفِيهِ اللّعَانُ الْبَتّةَ لِأَنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى أَنّ الْوَلَدَ
لِلْفِرَاشِ وَإِنّمَا يَنْفِي اللّعَانُ الْحَمْلَ فَإِنْ لَمْ
يُلَاعِنْهَا حَتّى وَلَدَتْ لَاعَنَ لِإِسْقَاطِ الْحَدّ فَقَطْ وَلَا
يَنْتَفِي وَلَدُهَا مِنْهُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي مُحَمّدِ بْنِ حُزَمٍ
وَاحْتُجّ عَلَيْهِ بِأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَضَى أَنّ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ قَالَ فَصَحّ أَنّ كُلّ مَنْ
وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَلَدٌ فَهُوَ وَلَدُهُ إلّا حَيْثُ نَفَاهُ
اللّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ
حَيْثُ يُوقِنُ بِلَا شَكّ أَنّهُ لَيْسَ وَلَدَهُ وَلَمْ يَنْفِهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا وَهِيَ حَامِلٌ بِاللّعَانِ فَقَطْ
فَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى لَحَاقِ النّسَبِ قَالَ وَلِذَلِكَ
قُلْنَا : إنّ صَدَقَتَهُ [ ص 358 ] { وَلَا تَكْسِبُ كُلّ نَفْسٍ إِلّا
عَلَيْهَا } [ الْأَنْعَامُ 164 ] فَوَجَبَ أَنّ إقْرَارَ الْأَبَوَيْنِ
يَصْدُقُ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ فَيَكُونُ كَسْبًا عَلَى غَيْرِهِمَا
وَإِنّمَا نَفَى اللّهُ سُبْحَانَهُ الْوَلَدَ إذَا أَكْذَبَتْهُ الْأُمّ
وَالْتَعَنَتْ هِيَ وَالزّوْجُ فَقَطْ فَلَا يَنْتَفِي فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ انْتَهَى كَلَامُهُ . وَهَذَا ضِدّ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ
إنّهُ لَا يَصِحّ اللّعَانُ عَلَى الْحَمْلِ حَتّى تَضَعَ كَمَا يَقُولُ
أَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالصّحِيحُ صِحّتُهُ عَلَى الْحَمْلِ وَعَلَى
الْوَلَدِ بَعْدَ وَضْعِهِ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَالشّافِعِيّ
فَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ . وَلَا تَنَافِي بَيْنَ هَذَا الْحُكْمِ
وَبَيْنَ الْحُكْمِ بِكَوْنِ الْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ بِوَجْهِ مَا فَإِنّ
الْفِرَاشَ قَدْ زَالَ بِاللّعَانِ وَإِنّمَا حَكَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ عِنْدَ تَعَارُضِ
الْفِرَاشِ وَدَعْوَى الزّانِي فَأَبْطَلَ دَعْوَى الزّانِي لِلْوَلَدِ
وَحَكَمَ بِهِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَهَا هُنَا صَاحِبُ الْفِرَاشِ قَدْ
نَفَى الْوَلَدَ عَنْهُ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ لَوْ لَاعَنَ
لِمُجَرّدِ نَفْيِ الْوَلَدِ مَعَ قِيَامِ الْفِرَاشِ فَقَالَ لَمْ تَزْنِ
وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ وَلَدِي ؟ . قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ
لِلشّافِعِيّ وَهُمَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ .
إحْدَاهُمَا : أَنّهُ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ
وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيّ . وَالثّانِيَةُ أَنّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ
لِنَفْيِ الْوَلَدِ فَيَنْتَفِي عَنْهُ بِلِعَانِهِ وَحْدَهُ وَهِيَ
اخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ بْنِ تَيْمِيّةَ وَهِيَ الصّحِيحَةُ .
فَإِنْ قِيلَ فَخَالَفْتُمْ حُكْمَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاش ِ قُلْنَا : مَعَاذَ اللّهِ بَلْ
وَافَقْنَا أَحْكَامَهُ حَيْثُ وَقَعَ غَيْرُنَا فِي خِلَافِ بَعْضِهَا
تَأْوِيلًا فَإِنّهُ إنّمَا حَكَمَ بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ حَيْثُ
ادّعَاهُ صَاحِبُ الْفِرَاشِ فَرَجّحَ دَعْوَاهُ بِالْفِرَاشِ وَجَعَلَهُ
لَهُ وَحَكَمَ بِنَفْيِهِ عَنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ حَيْثُ نَفَاهُ عَنْ
نَفْسِهِ وَقَطَعَ نَسَبَهُ مِنْهُ وَقَضَى أَلّا يُدْعَى [ ص 359 ]
وَقُلْنَا بِالْأَمْرَيْنِ وَلَمْ نُفَرّقْ تَفْرِيقًا بَارِدًا جِدّا
سَمِجًا لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ حَمْلًا وَنَفْيِهِ
مَوْلُودًا فَإِنّ الشّرِيعَةَ لَا تَأْتِي عَلَى هَذَا الْفَرْقِ
الصّورِيّ الّذِي لَا مَعْنَى تَحْتَهُ الْبَتّةَ وَإِنّمَا يَرْتَضِي
هَذَا مَنْ قَلّ نَصِيبُهُ مِنْ ذَوْقِ الْفِقْهِ وَأَسْرَارِ الشّرِيعَةِ
وَحِكَمِهَا وَمَعَانِيهَا وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَبِهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ [إلْحَاقُ وَلَدِ اللّعَانِ بِأُمّهِ ]
الْحُكْمُ
السّابِعُ إلْحَاقُ الْوَلَدِ بِأُمّهِ عِنْدَ انْقِطَاعِ نَسَبِهِ مِنْ
جِهَةِ أَبِيهِ وَهَذَا الْإِلْحَاقُ يُفِيدُ حُكْمًا زَائِدًا عَلَى
إلْحَاقِهِ بِهَا مَعَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ الْأَبِ وَإِلّا كَانَ
عَدِيمَ الْفَائِدَةِ فَإِنّ خُرُوجَ الْوَلَدِ مِنْهَا أَمْرٌ مُحَقّقٌ
فَلَا بُدّ فِي الْإِلْحَاقِ مِنْ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا
كَانَ حَاصِلًا مَعَ ثُبُوتِ النّسَبِ مِنْ الْأَبِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي
ذَلِكَ . فَقَالَتْ طَائِفَةٌ أَفَادَ هَذَا الْإِلْحَاقُ قَطْعَ تَوَهّمِ
انْقِطَاعِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ الْأُمّ كَمَا انْقَطَعَ مِنْ الْأَبِ
وَأَنّهُ لَا يُنْسَبُ إلَى أُمّ وَلَا إلَى أَب فَقَطَعَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا الْوَهْمَ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأُمّ
وَأَكّدَ هَذَا بِإِيجَابِهِ الْحَدّ عَلَى مَنْ قَذَفَهُ أَوْ قَذَفَ
أُمّهُ وَهَذَا قَوْلُ الشّافِعِيّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكُلّ
مَنْ لَا يَرَى أَنّ أُمّهُ وَعَصَبَاتِهَا لَهُ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
ثَانِيَةٌ بَلْ أَفَادَنَا هَذَا الْإِلْحَاقُ فَائِدَةً زَائِدَةً وَهِيَ
تَحْوِيلُ النّسَبِ الّذِي كَانَ إلَى أَبِيهِ إلَى أُمّهِ وَجَعْلُ
أُمّهِ قَائِمَةً مَقَامَ أَبِيهِ فِي ذَلِكَ فَهِيَ عَصَبَتُهُ
وَعَصَبَاتُهَا أَيْضًا عَصَبَتُهُ فَإِذَا مَاتَ حَازَتْ مِيرَاثَهُ
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيّ وَهَذَا الْقَوْلُ
هُوَ الصّوَابُ لِمَا رَوَى أَهْلُ السّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ
وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنّهُ قَالَ تَحُوزُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ مَوَارِيثَ : عَتِيقَهَا
وَلَقِيطَهَا وَوَلَدَهَا الّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَد ُ وَذَهَبَ إلَيْهِ . وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " :
مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ [ ص 360 ] جَدّهِ
عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ جَعَلَ مِيرَاثَ
ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِأُمّهِ وَلِوَرَثَتِهَا مِنْ بَعْدِهَا وَفِي "
السّنَنِ " أَيْضًا مُرْسَلًا : مِنْ حَدِيثِ مَكْحُولٍ قَالَ جَعَلَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِيرَاثَ ابْنِ
الْمُلَاعَنَةِ لِأُمّهِ وَلِوَرَثَتِهَا مِنْ بَعْدِهَا وَهَذِهِ
الْآثَارُ مُوَافِقَةٌ لِمَحْضِ الْقِيَاسِ فَإِنّ النّسَبَ فِي الْأَصْلِ
لِلْأَبِ فَإِذَا انْقَطَعَ مِنْ جِهَتِهِ صَارَ لِلْأُمّ كَمَا أَنّ
الْوَلَاءَ فِي الْأَصْلِ لِمُعْتِقِ الْأَبِ فَإِذَا كَانَ الْأَبُ
رَقِيقًا كَانَ لِمُعْتِقِ الْأُمّ . فَلَوْ أَعْتَقَ الْأَبَ بَعْدَ
هَذَا انْجَرّ الْوَلَاءُ مِنْ مَوَالِي الْأُمّ إلَيْهِ وَرَجَعَ إلَى
أَصْلِهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا كَذّبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ
وَاسْتَلْحَقَ الْوَلَدَ رَجَعَ النّسَبُ وَالتّعْصِيبُ مِنْ الْأُمّ
وَعَصَبَتِهَا إلَيْهِ . فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُوجَبُ
الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَهُوَ مَذْهَبُ حَبْرِ الْأُمّةِ وَعَالِمِهَا
عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَمَذْهَبُ إمَامَيْ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي
زَمَانِهِمَا أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ
وَعَلَيْهِ يَدُلّ الْقُرْآنُ بِأَلْطَفِ إيمَاءٍ وَأَحْسَنِهِ فَإِنّ
اللّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرّيّةِ إبْرَاهِيمَ بِوَاسِطَةِ
مَرْيَمَ أُمّهِ وَهِيَ مِنْ صَمِيمِ ذُرّيّةِ إبْرَاهِيمَ وَسَيَأْتِي
مَزِيدُ تَقْرِيرٍ لِهَذَا عِنْدَ ذِكْرِ أَقْضِيَةِ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَحْكَامِهِ فِي الْفَرَائِضِ إنْ شَاءَ
اللّهُ تَعَالَى . فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ
سَهْلٍ الّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " فِي قِصّةِ اللّعَانِ
وَفِي آخِرِهِ ثُمّ جَرَتْ السّنّةُ أَنْ يَرِثَ مِنْهَا وَتَرِثَ مِنْهُ
مَا فَرَضَ اللّهُ لَهَا ؟ قِيلَ نَتَلَقّاهُ بِالْقَبُولِ وَالتّسْلِيمِ
وَالْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُدْرَجًا مِنْ
كَلَامِ ابْنِ شِهَابٍ وَهُوَ الظّاهِرُ فَإِنّ تَعْصِيبَ الْأُمّ لَا
يُسْقِطُ مَا فَرَضَ اللّهَ لَهَا مِنْ وَلَدِهَا فِي كِتَابِهِ
وَغَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ كَالْأَبِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ لَهُ الْفَرْضُ
وَالتّعْصِيبُ فَهِيَ تَأْخُذُ فَرْضَهَا وَلَا بُدّ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ
أَخَذَتْهُ [ ص 361 ] قَائِلُونَ بِالْآثَارِ كُلّهَا فِي هَذَا الْبَابِ
بِحَمْدِ اللّهِ وَتَوْفِيقِهِ .
فَصْلٌ [يُحَدّ قَاذِفُهَا وَقَاذِفُ وَلَدِهَا ]
الْحُكْمُ
الثّامِنُ " أَنّهَا لَا تُرْمَى وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا وَمَنْ رَمَاهَا
أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدّ " وَهَذَا لِأَنّ لِعَانَهَا
نَفَى عَنْهَا تَحْقِيقَ مَا رُمِيَتْ بِهِ فَيُحَدّ قَاذِفُهَا وَقَاذِفُ
وَلَدِهَا هَذَا الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ
وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُمّةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ لَمْ
يَكُنْ هُنَاكَ وَلَدٌ نُفِيَ نَسَبُهُ حُدّ قَاذِفُهَا وَإِنْ كَانَ
هُنَاكَ وَلَدٌ نُفِيَ نَسَبُهُ لَمْ يُحَدّ قَاذِفُهَا وَالْحَدِيثُ
إنّمَا هُوَ فِيمَنْ لَهَا وَلَدٌ نَفَاهُ الزّوْجُ وَاَلّذِي أَوْجَبَ
لَهُ هَذَا الْفَرْقَ أَنّهُ مَتَى نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا فَقَدْ حَكَمَ
بِزِنَاهَا بِالنّسْبَةِ إلَى الْوَلَدِ فَأَثّرَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي
سُقُوطِ حَدّ الْقَذْفِ .
فَصْلٌ [لَا تَتَرَتّبُ الْأَحْكَامُ السّابِقَةُ إلّا بَعْدَ تَمَامِ اللّعَانِ ]
الْحُكْمُ
التّاسِعُ أَنّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إنّمَا تَرَتّبَتْ عَلَى لِعَانِهِمَا
مَعًا وَبَعْدَ أَنْ تَمّ اللّعَانَانِ فَلَا يَتَرَتّبُ شَيْءٌ مِنْهَا
عَلَى لِعَانِ الزّوْجِ وَحْدَهُ وَقَدْ خَرّجَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ
تَيْمِيّةَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ انْتِفَاءَ الْوَلَدِ بِلِعَانِ
الزّوْجِ وَحْدَهُ وَهُوَ تَخْرِيجٌ صَحِيحٌ فَإِنّ لِعَانَهُ كَمَا
أَفَادَ سُقُوطَ الْحَدّ وَعَارَ الْقَذْفِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ
لِعَانِهَا أَفَادَ سُقُوطَ النّسَبِ الْفَاسِدِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ
تُلَاعِنْ هِيَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنّ تَضَرّرَهُ بِدُخُولِ
النّسَبِ الْفَاسِدِ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ تَضَرّرِهِ بِحَدّ الْقَذْفِ
وَحَاجَتَهُ إلَى نَفْيِهِ عَنْهُ أَشَدّ مِنْ حَاجَتِهِ إلَى دَفْعِ
الْحَدّ فَلِعَانُهُ كَمَا اسْتَقَلّ بِدَفْعِ الْحَدّ اسْتَقَلّ بِنَفْيِ
الْوَلَدِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [وُجُوبُ النّفَقَةِ وَالسّكْنَى لِلْمُطَلّقَةِ وَالْمُتَوَفّى عَنْهَا إذَا كَانَتَا حَامِلَيْنِ ]
الْحُكْمُ
الْعَاشِرُ وُجُوبُ النّفَقَةِ وَالسّكْنَى لِلْمُطَلّقَةِ وَالْمُتَوَفّى
عَنْهَا إذَا كَانَتَا حَامِلَيْنِ فَإِنّهُ قَالَ " مِنْ أَجْلِ
أَنّهُمَا يَفْتَرِقَانِ عَنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفّى عَنْهَا "
فَأَفَادَ ذَلِكَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا : سُقُوطُ نَفَقَةِ الْبَائِنِ
وَسُكْنَاهَا إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا مِنْ الزّوْجِ . وَالثّانِي :
وُجُوبُهُمَا لَهَا وَلِلْمُتَوَفّى عَنْهَا إذَا كَانَتَا حَامِلَيْنِ
مِنْ الزّوْجِ .
فَصْلٌ [اعْتِبَارُ الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ فِي الْإِلْحَاقِ بِالنّسَبِ ]
[
ص 362 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ
كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا
وَكَذَا فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ إرْشَادٌ مِنْهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى اعْتِبَارِ الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ وَأَنّ
لِلشّبَهِ مَدْخَلًا فِي مَعْرِفَةِ النّسَبِ وَإِلْحَاقِ الْوَلَدِ
بِمَنْزِلَةِ الشّبَهِ وَإِنّمَا لَمْ يَلْحَقْ بِالْمُلَاعِنِ لَوْ
قُدّرَ أَنّ الشّبَهَ لَهُ لِمُعَارَضَةِ اللّعَانِ الّذِي هُوَ أَقْوَى
مِنْ الشّبَهِ لَهُ كَمَا تَقَدّمَ .
فَصْلٌ [مَنْ قَتَلَ رَجُلًا
فِي دَارِهِ مُدّعِيًا زِنَاهُ بِحَرِيمِهِ قُتِلَ بِهِ إنْ لَمْ يَأْتِ
بِبَيّنَةٍ أَوْ إقْرَارِ الْوَلِيّ ]
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ لَوْ
أَنّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ
بِه دَلِيلٌ عَلَى أَنّ مَنْ قَتَلَ رَجُلًا فِي دَارِهِ وَادّعَى أَنّهُ
وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ أَوْ حَرِيمِهِ قُتِلَ فِيهِ وَلَا يُقْبَلُ
قَوْلُهُ إذْ لَوْ قُبِلَ قَوْلُهُ لَأُهْدِرَتْ الدّمَاءُ وَكَانَ كُلّ
مَنْ أَرَادَ قَتْلَ رَجُلٍ أَدْخَلَهُ دَارَهُ وَادّعَى أَنّهُ وَجَدَهُ
مَعَ امْرَأَتِهِ . وَلَكِنْ هَاهُنَا مَسْأَلَتَانِ يَجِبُ التّفْرِيقُ
بَيْنَهُمَا . إحْدَاهُمَا : هَلْ يَسَعُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللّهِ تَعَالَى أَنْ يَقْتُلَهُ أَمْ لَا ؟ وَالثّانِي : هَلْ يُقْبَلُ
قَوْلُهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ أَمْ لَا ؟ وَبِهَذَا التّفْرِيقِ يَزُولُ
الْإِشْكَالُ فِيمَا نُقِلَ عَنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ فِي
ذَلِكَ حَتّى جَعَلَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ بَيْنَ
الصّحَابَةِ وَقَالَ مَذْهَبُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ لَا
يُقْتَلُ بِهِ وَمَذْهَبُ عَلِيّ : أَنّهُ يُقْتَلُ بِهِ وَاَلّذِي غَرّهُ
مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي " سُنَنِهِ أَنّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بَيْنَا هُوَ يَوْمًا يَتَغَدّى إذْ
جَاءَهُ رَجُلٌ يَعْدُو وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ مُلَطّخٌ بِدَمِ وَوَرَاءَهُ
قَوْمٌ يَعْدُونَ فَجَاءَ حَتّى جَلَسَ مَعَ عُمَرَ فَجَاءَ الْآخَرُونَ
فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنّ هَذَا قَتَلَ صَاحِبَنَا
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَا تَقُولُ ؟ فَقَالَ لَهُ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنّي ضَرَبْت بَيْنَ فَخِذَيْ امْرَأَتِي فَإِنْ
كَانَ بَيْنَهُمَا أحد فقد قَتَلْته فَقَالَ عُمَرُ مَا تَقُولُونَ ؟
فَقَالُوا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنّهُ ضَرَبَ بِالسّيْفِ فَوَقَعَ
فِي وَسَطِ الرّجُلِ وَفَخِذَيْ الْمَرْأَةِ فَأَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ سَيْفَهُ فَهَزّهُ ثُمّ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَقَالَ إنْ
عَادُوا فَعُدْ فَهَذَا مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ .
وَأَمّا عَلِيّ فَسُئِلَ عَمّنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا
فَقَتَلَهُ فَقَالَ إنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءُ فَلْيُعْطَ
بِرُمّتِهِ [ ص 363 ] فَظَنّ أَنّ هَذَا خِلَافُ الْمَنْقُولِ عَنْ عُمَرَ
فَجَعَلَهَا مَسْأَلَةَ خِلَافٍ بَيْنَ الصّحَابَةِ وَأَنْتَ إذَا
تَأَمّلْتَ حُكْمَيْهِمَا لَمْ تَجِدْ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافًا فَإِنّ
عُمَرَ إنّمَا أَسْقَطَ عَنْهُ الْقَوَدَ لَمّا اعْتَرَفَ الْوَلِيّ
بِأَنّهُ كَانَ مَعَ امْرَأَتِهِ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا وَاللّفْظُ
لِصَاحِبِ " الْمُغْنِي " : فَإِنْ اعْتَرَفَ الْوَلِيّ بِذَلِكَ فَلَا
قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ثُمّ سَاقَ الْقِصّةَ
وَكَلَامُهُ يُعْطِي أَنّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا
وَغَيْرَ مُحْصَنٍ وَكَذَلِكَ حُكْمُ عُمَرَ فِي هَذَا الْقَتِيلِ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا : " فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ " وَلَمْ يُفَرّقْ بَيْنَ
الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ "
الْمُسْتَوْعِبِ " قَدْ قَالَ وَإِنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا
يَنَالُ مِنْهَا مَا يُوجِبُ الرّجْمَ فَقَتَلَهُ وَادّعَى أَنّهُ
قَتَلَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ
إلّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيّنَةٍ بِدَعْوَاهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ
قَالَ وَفِي عَدَدِ الْبَيّنَةِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا : شَاهِدَانِ
اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ لِأَنّ الْبَيّنَةَ عَلَى الْوُجُودِ لَا عَلَى
الزّنَى وَالْأُخْرَى لَا يُقْبَلُ أَقَلّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَالصّحِيحُ
أَنّ الْبَيّنَةَ مَتَى قَامَتْ بِذَلِكَ أَوْ أَقَرّ بِهِ الْوَلِيّ
سَقَطَ الْقِصَاصُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَعَلَيْهِ يَدُلّ
كَلَامُ عَلِيّ فَإِنّهُ قَالَ فِيمَنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا
فَقَتَلَهُ إنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ " فَلْيُعْطَ
بِرُمّتِهِ وَهَذَا لِأَنّ هَذَا الْقَتْلَ لَيْسَ بِحَدّ لِلزّنَى وَلَوْ
كَانَ حَدّا لَمَا كَانَ بِالسّيْفِ وَلَاعْتُبِرَ لَهُ شُرُوطُ إقَامَةِ
الْحَدّ وَكَيْفِيّتُهُ وَإِنّمَا هُوَ عُقُوبَةٌ لِمَنْ تَعَدّى عَلَيْهِ
وَهَتَكَ حَرِيمَهُ وَأَفْسَدَ أَهْلَهُ وَكَذَلِكَ فَعَلَ الزّبَيْرُ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَمّا تَخَلّفَ عَنْ الْجَيْشِ وَمَعَهُ جَارِيَةٌ
لَهُ فَأَتَاهُ رَجُلَانِ فَقَالَا : أَعْطِنَا شَيْئًا فَأَعْطَاهُمَا
طَعَامًا كَانَ مَعَهُ فَقَالَا : خَلّ عَنْ الْجَارِيَةِ فَضَرَبَهُمَا
بِسَيْفِهِ فَقَطَعَهُمَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَكَذَلِكَ مَنْ اطّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ مَنْ ثُقْبٍ أَوْ شَقّ فِي الْبَابِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَنَظَرَ حُرْمَةً أَوْ عَوْرَةً فَلَهُمْ خَذْفُهُ وَطَعْنُهُ فِي عَيْنِهِ فَإِنْ انْقَلَعَتْ عَيْنُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنّهُمْ يَدْفَعُونَهُ وَلَا ضَمَان عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيل . [ ص 364 ] فَقَالَ يَدْفَعُهُ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلَ فَيَبْدَأُ بِقَوْلِهِ انْصَرِفْ وَاذْهَبْ وَإِلّا نَفْعَلْ بِك كَذَا . قُلْت : وَلَيْسَ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ وَلَا فِي السّنّةِ الصّحِيحَةِ مَا يَقْتَضِي هَذَا التّفْصِيلَ بَلْ الْأَحَادِيثُ الصّحِيحَةُ تَدُلّ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنّ فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَجُلًا اطّلَعَ مِنْ جُحْرٍ فِي بَعْضِ حُجَرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَامَ إلَيْهِ بِمِشْقَصِ أَوْ بِمَشَاقِصَ وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعَنَهُ فَأَيْنَ الدّفْعُ بِالْأَسْهَلِ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَخْتِلُهُ أَوْ يَخْتَبِئُ لَهُ وَيَخْتَفِي لِيَطْعَنَهُ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " أَيْضًا : مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْد ٍ أَنّ رَجُلًا اطّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِي يَدِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِدْرًى يَحُكّ بِهِ رَأْسَهُ فَلَمّا رَآهُ قَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ به في عَيْنِك إنّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَر وَفِيهِمَا أَيْضًا : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ أَنّ امْرَءًا اطّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةِ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ وَفِيهِمَا أَيْضًا : مَنْ اطّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ [ ص 365 ] ابْنِ تَيْمِيّةَ رَحِمَهُ اللّهُ وَقَالَ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ دَفْعِ الصّائِلِ بَلْ مِنْ بَابِ عُقُوبَةِ الْمُعْتَدِي الْمُؤْذِي وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ تَعَالَى قَتْلُ مَنْ اعْتَدَى عَلَى حَرِيمِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْصَنًا أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ كَمَا دَلّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَصْحَابِ وَفَتَاوَى الصّحَابَةِ وَقَدْ قَالَ الشّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْرٍ : يَسَعُهُ قَتْلُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ الزّانِي مُحْصَنًا جَعَلَاهُ مِنْ بَابِ الْحُدُودِ . وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ يُهْدَرُ دَمُهُ إذَا جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ وَلَمْ يَفْصِلَا بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ . وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مُحْصَنًا وَأَقَامَ الزّوْجُ الْبَيّنَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِلّا قُتِلَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إذَا قَامَتْ الْبَيّنَةُ فَالْمُحْصَنُ وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ سَوَاءٌ وَيُهْدَرُ دَمُهُ وَاسْتَحَبّ ابْنُ الْقَاسِمِ الدّيَةَ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ .
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتّفَقِ عَلَى صِحّتِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَن سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ الرّجُلَ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ ؟ فَقَالَ رَسُول اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَا " فَقَالَ سَعْدٌ بَلَى وَاَلّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اسْمَعُوا إلَى مَا يَقُولُ سَيّدُكُم وَفِي اللّفْظِ الْآخَرِ إنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ؟ قَالَ " نَعَمْ " قَالَ وَاَلّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ إنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلهُ بِالسّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اسْمَعُوا إلَى مَا يَقُولُ سَيّدُكُمْ إنّهُ لَغَيُورٌ وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللّهُ أَغْيَرُ مِنّي ؟ قُلْنَا : نَتَلَقّاهُ بِالْقَبُولِ وَالتّسْلِيمِ وَالْقَوْلِ بِمُوجَبِهِ وَآخِرُ الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ لَوْ قَتَلَهُ لَمْ يُقَدْ بِهِ لِأَنّهُ قَالَ بَلَى وَاَلّذِي أَكْرَمَكَ بِالْحَقّ وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ لَمَا أَقَرّهُ عَلَى هَذَا الْحَلِفِ وَلَمَا أَثْنَى عَلَى غَيْرَتِهِ وَلَقَالَ لَوْ قَتَلْتَهُ قُتِلْتَ بِهِ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ صَرِيحٌ فِي هَذَا فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ [ ص 366 ] أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ فَوَاَللّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللّهُ أَغْيَرُ مِنّي وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وَلَا نَهَاهُ عَنْ قَتْلِهِ لِأَنّ قَوْلَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حُكْمٌ مُلْزِمٌ وَكَذَلِكَ فَتْوَاهُ حُكْمٌ عَامّ لِلْأُمّةِ فَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِهِ لَكَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مِنْهُ بِأَنّ دَمَهُ هَدَرٌ فِي ظَاهِرِ الشّرْعِ وَبَاطِنِهِ وَوَقَعَتْ الْمَفْسَدَةُ الّتِي دَرَأَهَا اللّهُ بِالْقِصَاصِ وَتَهَالَكَ النّاسُ فِي قَتْلِ مَنْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ فِي دُورِهِمْ وَيَدّعُونَ أَنّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُمْ عَلَى حَرِيمِهِمْ فَسَدّ الذّرِيعَةَ وَحَمَى الْمَفْسَدَةَ وَصَانَ الدّمَاءَ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ وَيُقَادُ بِهِ فِي ظَاهِرِ الشّرْعِ فَلَمّا حَلَفَ سَعْدٌ أَنّهُ يَقْتُلُهُ وَلَا يَنْتَظِرُ بِهِ الشّهُودَ عَجِبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ غَيْرَتِهِ وَأَخْبَرَ أَنّهُ غَيُورٌ وَأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللّهُ أَشَدّ غَيْرَةً وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ . أَحَدُهُمَا : إقْرَارُهُ وَسُكُوتُهُ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ سَعْدٌ أَنّهُ جَائِزٌ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ وَنَهْيُهُ عَنْ قَتْلِهِ فِي ظَاهِرِ الشّرْعِ وَلَا يُنَاقِضُ أَوّلُ الْحَدِيثِ آخِرَهُ . وَالثّانِي : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ذَلِكَ كَالْمُنْكِرِ عَلَى سَعْدٍ فَقَالَ أَلَا تَسْمَعُونَ إلَى مَا يَقُولُ سَيّدُكُمْ يَعْنِي : أَنَا أَنْهَاهُ عَنْ قَتْلِهِ وَهُوَ يَقُولُ بَلَى وَاَلّذِي أَكْرَمَك بِالْحَقّ ثُمّ أَخْبَرَ عَنْ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ وَأَنّهُ شِدّةُ غَيْرَتِهِ ثُمّ قَالَ أَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاَللّهُ أَغْيَرُ مِنّي . وَقَدْ شَرَعَ إقَامَةَ الشّهَدَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ شِدّةِ غَيْرَتِهِ سُبْحَانَهُ فَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِحِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ وَرَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ فَاَللّهُ سُبْحَانَهُ مَعَ شِدّةِ غَيْرَتِهِ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ وَمَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ إقَامَةِ الشّهُودِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْقَتْلِ وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ وَقَدْ نَهَيْته عَنْ قَتْلِهِ وَقَدْ يُرِيدُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِكَلَامِهِ وَسِيَاقِ الْقِصّةِ .
فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
لُحُوقِ النّسَبِ بِالزّوْجِ إذَا خَالَفَ لَوْنُ وَلَدِهِ لَوْنَهُ
ثَبَتَ
عَنْهُ فِي " الصّحِيحَيْنِ أَنّ رَجُلًا قَالَ لَهُ إنّ امْرَأَتِي
وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ كَأَنّهُ يُعَرّضُ بِنَفْيِهِ فَقَالَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ " ؟
قَالَ نَعَمْ . قَالَ " مَا لَوْنُهَا ؟ " قَالَ حُمْرٌ . قَالَ " فَهَلْ
فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ " قَالَ نَعَمْ . قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَأَنّى أَتَاهَا ذَلِكَ ؟ " قَالَ لَعَلّهُ
يَا رَسُولَ اللّهِ يَكُونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ . فَقَالَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " وَهَذَا لَعَلّهُ يَكُونُ نَزَعَهُ عِرْقٌ . [
ص 367 ]
[ لَا يَجِبُ الْحَدّ بِالتّعْرِيضِ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ السّؤَالِ وَالِاسْتِفْتَاءِ ]
وَفِي
هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ أَنّ الْحَدّ لَا يَجِبُ بِالتّعْرِيضِ
إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ السّؤَالِ وَالِاسْتِفْتَاءِ وَمَنْ أَخَذَ
مِنْهُ أَنّهُ لَا يَجِبُ بِالتّعْرِيضِ وَلَوْ كَانَ عَلَى وَجْهِ
الْمُقَابَحَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ فَقَدْ أَبْعَدَ النّجْعَةَ وَرُبّ
تَعْرِيضٍ أَفْهَمُ وَأَوْجَعُ لِلْقَلْبِ وَأَبْلَغُ فِي النّكَايَةِ
مِنْ التّصْرِيحِ وَبِسَاطُ الْكَلَامِ وَسِيَاقُهُ يَرُدّ مَا ذَكَرُوهُ
مِنْ الِاحْتِمَالِ وَيَجْعَلُ الْكَلَامَ قَطْعِيّ الدّلَالَةِ عَلَى
الْمُرَادِ . وَفِيهِ أَنّ مُجَرّدَ الرّيبَةِ لَا يُسَوّغُ اللّعَانَ
وَنَفْيَ الْوَلَدِ . وَفِيهِ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ وَالْأَشْبَاهِ
وَالنّظَائِرِ فِي الْأَحْكَامِ وَمِنْ تَرَاجِمَ الْبُخَارِيّ فِي "
صَحِيحِهِ " عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بَابٌ مَنْ شَبّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا
بِأَصْلِ مُبَيّنٍ قَدْ بَيّنَ اللّهُ حُكْمَهُ لِيَفْهَمَ السّائِلُ
وَسَاقَ مَعَهُ حَدِيثَ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أُمّكَ دَيْنٌ ؟.
فَصْلٌ
فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ
وَأَنّ الْأَمَةَ تَكُونُ فِرَاشًا وَفِيمَنْ اسْتَلْحَقَ بَعْدَ مَوْتِ
أَبِيهِ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْن " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ وَعَبْدُ
بْنُ زَمْعَةَ فِي غُلَامٍ فَقَالَ سَعْدٌ هَذَا يَا رَسُولَ اللّهِ ابْنُ
أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ عَهِدَ إلَيّ أَنّهُ ابْنُهُ اُنْظُرْ
إلَى شَبَهِهِ وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ
اللّهِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ وَلِيدَتِهِ فَنَظَرَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَأَى شَبَهًا بَيّنًا
بِعُتْبَةَ فَقَالَ " هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ
لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحُجْر ُ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ
فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةُ قَطّ . [ ص 368 ] دُونَ وَجْهٍ وَهُوَ الّذِي
يُسَمّيهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ حُكْمًا بَيْنَ حُكْمَيْنِ وَفِي أَنّ
الْقَافَةَ حَقّ وَأَنّهَا مِنْ الشّرْعِ .
[ جِهَاتُ ثُبُوتِ النّسَبِ ]
فَأَمّا
ثُبُوتُ النّسَبِ بِالْفِرَاشِ فَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمّةُ وَجِهَاتُ
ثُبُوتِ النّسَبِ أَرْبَعَةٌ الْفِرَاشُ وَالِاسْتِلْحَاقُ وَالْبَيّنَةُ
وَالْقَافَةُ فَالثّلَاثَةُ الْأُوَلُ مُتّفَقٌ عَلَيْهَا وَاتّفَقَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنّ النّكَاحَ يَثْبُتُ بِهِ الْفِرَاشُ
وَاخْتَلَفُوا فِي التّسَرّي فَجَعَلَهُ جُمْهُورُ الْأُمّةِ مُوجِبًا
لِلْفِرَاشِ وَاحْتَجّوا بِصَرِيحِ حَدِيثِ عَائِشَة َ الصّحِيحِ وَأَنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى بِالْوَلَدِ لِزَمْعَةَ
وَصَرّحَ بِأَنّهُ صَاحِبُ الْفِرَاشِ وَجَعَلَ ذَلِكَ عِلّةً لِلْحُكْمِ
بِالْوَلَدِ لَهُ فَسَبَبُ الْحُكْمِ وَمَحَلّهُ إنّمَا كَانَ فِي
الْأَمَةِ فَلَا يَجُوزُ إخْلَاءُ الْحَدِيثِ مِنْهُ وَحَمْلُهُ عَلَى
الْحُرّةِ الّتِي لَمْ تُذْكَرْ الْبَتّةَ وَإِنّمَا كَانَ الْحُكْمُ فِي
غَيْرِهَا فَإِنّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ إلْغَاءَ مَا اعْتَبَرَهُ الشّارِعُ
وَعَلّقَ الْحُكْمَ بِهِ صَرِيحًا وَتَعْطِيلَ مَحَلّ الْحُكْمِ الّذِي
كَانَ لِأَجْلِهِ وَفِيهِ . ثُمّ لَوْ لَمْ يَرِدْ الْحَدِيثُ الصّحِيحُ
فِيهِ لَكَانَ هُوَ مُقْتَضَى الْمِيزَانِ الّذِي أَنْزَلَهُ اللّهُ
تَعَالَى لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَهُوَ التّسْوِيَةُ بَيْنَ
الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَإِنّ السّرّيّةَ فِرَاشٌ حِسّا وَحَقِيقَةً
وَحُكْمًا كَمَا أَنّ الْحُرّةَ كَذَلِكَ وَهِيَ تُرَادُ لِمَا تُرَادُ
لَهُ الزّوْجَةُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَالِاسْتِيلَادِ وَلَمْ يَزَلْ
النّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا يَرْغَبُونَ فِي السّرَارِيّ
لِاسْتِيلَادِهِنّ وَاسْتِفْرَاشِهِنّ وَالزّوْجَةُ إنّمَا سُمّيَتْ
فِرَاشًا لِمَعْنًى هِيَ وَالسّرّيّةُ فِيهِ عَلَى حَدّ سَوَاءٍ . [ ص 369
] وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَكُونُ الْأَمَةُ فِرَاشًا بِأَوّلِ
وَلَدٍ وَلَدَتْهُ مِنْ السّيّدِ فَلَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ إلّا إذَا
اسْتَلْحَقَهُ فَيَلْحَقَهُ حِينَئِذٍ بِالِاسْتِلْحَاقِ لَا بِالْفِرَاشِ
فَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَحِقَهُ إلّا أَنْ يَنْفِيَهُ فَعِنْدَهُمْ
وَلَدُ الْأَمَةِ لَا يَلْحَقُ السّيّدَ بِالْفِرَاشِ إلّا أَنْ
يَتَقَدّمَهُ وَلَدٌ مُسْتَلْحَقٌ وَمَعْلُومٌ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِزَمْعَةَ وَأَثْبَتَ نَسَبَهُ
مِنْهُ وَلَمْ يُثْبِتْ قَطّ أَنّ هَذِهِ الْأَمَةَ وَلَدَتْ لَهُ قَبْلَ
ذَلِكَ غَيْرَهُ وَلَا سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَنْ ذَلِكَ وَلَا اسْتَفْصَلَ فِيهِ . قَالَ مُنَازِعُوهُمْ لَيْسَ
لِهَذَا التّفْصِيلِ أَصْلٌ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنّةٍ وَلَا أَثَرٍ عَنْ
صَاحِبٍ وَلَا تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الشّرْعِ وَأُصُولُهُ قَالَتْ
الْحَنَفِيّةُ : وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ كَوْنَ الْأَمَةِ فِرَاشًا فِي
الْجُمْلَةِ وَلَكِنّهُ فَرَاشٌ ضَعِيفٌ وَهِيَ فِيهِ دُونَ الْحُرّةِ
فَاعْتَبَرْنَا مَا تَعْتِقُ بِهِ بِأَنْ تَلِدَ مِنْهُ وَلَدًا
فَيَسْتَلْحِقَهُ فَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَحِقَ بِهِ إلّا أَنْ
يَنْفِيَهُ وَأَمّا الْوَلَدُ الْأَوّلُ فَلَا يَلْحَقُهُ إلّا
بِالِاسْتِلْحَاقِ وَلِهَذَا قُلْتُمْ إنّهُ إذَا اسْتَلْحَقَ وَلَدًا
مِنْ أَمَتِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ مَا بَعْدَهُ إلّا بِاسْتِلْحَاقِ
مُسْتَأْنَفٍ بِخِلَافِ الزّوْجَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنّ عَقْدَ
النّكَاحِ إنّمَا يُرَادُ لِلْوَطْءِ وَالِاسْتِفْرَاشِ بِخِلَافِ مِلْكِ
الْيَمِينِ فَإِنّ الْوَطْءَ وَالِاسْتِفْرَاشَ فِيهِ تَابِعٌ وَلِهَذَا
يَجُوزُ وُرُودُهُ عَلَى مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا بِخِلَافِ
عَقْدِ النّكَاحِ . قَالُوا : وَالْحَدِيثُ لَا حُجّةَ لَكُمْ فِيهِ
لِأَنّ وَطْءَ زَمْعَةَ لَمْ يَثْبُتْ وَإِنّمَا أَلْحَقَهُ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَبْدٍ أَخًا لِأَنّهُ اسْتَلْحَقَهُ
فَأَلْحَقَهُ بِاسْتِلْحَاقِهِ لَا بِفِرَاشِ الْأَبِ . قَالَ
الْجُمْهُورُ إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ مَوْطُوءَةً فَهِيَ فِرَاشٌ
حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَاعْتِبَارُ وِلَادَتِهَا السّابِقَةِ فِي
صَيْرُورَتِهَا فِرَاشًا اعْتِبَارُ مَا لَا دَلِيلَ عَلَى اعْتِبَارِهِ
شَرْعًا وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَعْتَبِرْهُ فِي
فِرَاشِ زَمْعَةَ فَاعْتِبَارُهُ تَحَكّمٌ .
وَقَوْلُكُمْ إنّ الْأَمَةَ لَا تُرَادُ لِلْوَطْءِ فَالْكَلَامُ فِي الْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ الّتِي اُتّخِذَتْ سُرّيّةً وَفِرَاشًا وَجُعِلَتْ كَالزّوْجَةِ أَوْ أَحْظَى مِنْهَا لَا فِي أَمَتِهِ الّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرّضَاعِ وَنَحْوُهَا . [ ص 370 ] زَمْعَةَ لَمْ يَثْبُتْ حَتّى يُلْحَقَ بِهِ الْوَلَدُ لَيْسَ عَلَيْنَا جَوَابُهُ بَلْ جَوَابُهُ عَلَى مَنْ حَكَمَ بِلُحُوقِ الْوَلَدِ بِزَمْعَةَ وَقَالَ لِابْنِهِ هُوَ أَخُوك . وَقَوْلُكُمْ إنّمَا أَلْحَقَهُ بِالْأَخِ لِأَنّهُ اسْتَلْحَقَهُ بَاطِلٌ فَإِنّ الْمُسْتَلْحَقَ إنْ لَمْ يُقِرّ بِهِ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ لَمْ يَلْحَقْ بِالْمُقِرّ إلّا أَنْ يَشْهَدَ مِنْهُمْ اثْنَانِ أَنّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ الْمَيّتِ وَعَبْدٌ لَمْ يَكُنْ يُقِرّ لَهُ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ فَإِنّ سَوْدَةَ زَوْجَةَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُخْتُهُ وَهِيَ لَمْ تُقِرّ بِهِ وَلَمْ تَسْتَلْحِقْهُ وَحَتّى لَوْ أَقَرّتْ بِهِ مَعَ أَخِيهَا عَبْدٍ لَكَانَ ثُبُوتُ النّسَبِ بِالْفِرَاشِ لَا بِالِاسْتِلْحَاقِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَرّحَ عُقَيْبَ حُكْمِهِ بِإِلْحَاقِ النّسَبِ بِأَنّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ مُعَلّلًا بِذَلِكَ مُنَبّهًا عَلَى قَضِيّةٍ كُلّيّةٍ عَامّةٍ تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ وَغَيْرَهَا . ثُمّ جَوَابُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ الْبَاطِلِ الْمُحَرّمِ أَنّ ثُبُوتَ كَوْنِ الْأَمَةِ فِرَاشًا بِالْإِقْرَارِ مِنْ الْوَاطِئِ أَوْ وَارِثِهِ كَافٍ فِي لُحُوقِ النّسَبِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلْحَقَهُ بِهِ بِقَوْلِهِ ابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ كَيْفَ وَزَمْعَةُ كَانَ صِهْرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَابْنَتُهُ تَحْتَهُ فَكَيْفَ لَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ الْفِرَاشُ الّذِي يَلْحَقْ بِهِ النّسَبُ ؟ . وَأَمّا مَا نَقَضْتُمْ بِهِ عَلَيْنَا أَنّهُ إذَا اسْتَلْحَقَ وَلَدًا مِنْ أَمَتِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ مَا بَعْدَهُ إلّا بِإِقْرَارِ مُسْتَأْنَفٍ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ هَذَا أَحَدُهُمَا وَالثّانِي : أَنّهُ يَلْحَقُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْنِفْ إقْرَارًا وَمَنْ رَجّحَ الْقَوْلَ الْأَوّلَ قَالَ قَدْ يَسْتَبْرِئُهَا السّيّدُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَيَزُولُ حُكْمُ الْفِرَاشِ بِالِاسْتِبْرَاءِ فَلَا يَلْحَقُهُ مَا بَعْدُ الْأَوّلِ إلّا بِاعْتِرَافِ مُسْتَأْنَفٍ أَنّهُ وَطِئَهَا كَالْحَالِ فِي أَوّلِ وَلَدٍ وَمَنْ رَجّحَ الثّانِيَ قَالَ قَدْ يَثْبُتُ كَوْنُهَا فِرَاشًا أَوّلًا وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْفِرَاشِ حَتّى يَثْبُتَ مَا يُزِيلُهُ إذْ لَيْسَ هَذَا نَظِيرَ قَوْلِكُمْ إنّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِوَطْئِهَا حَتّى يَسْتَلْحِقَهُ وَأَبْطَلُ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنّهُ لَمْ يَلْحَقْهُ بِهِ أَخًا وَإِنّمَا جَعَلَهُ لَهُ عَبْدًا وَلِهَذَا أَتَى فِيهِ بِلَامِ التّمْلِيكِ فَقَالَ هُوَ لَكَ أَيْ مَمْلُوكٌ لَك وَقَوّى هَذَا الِاعْتِرَاضَ بِأَنّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ " هُوَ لَكَ عَبْدٌ " وَبِأَنّهُ أَمَرَ سَوْدَةَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ أَخًا لَهَا لَمَا أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ فَدَلّ عَلَى أَنّهُ أَجْنَبِيّ مِنْهَا .
قَالَ وَقَوْلُهُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ تَنْبِيهٌ عَلَى عَدَمِ لُحُوقِ نَسَبِهِ بِزَمْعَةَ أَيْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَمَةُ فِرَاشًا لَهُ لِأَنّ [ ص 371 ] سَوْدَةَ مِنْهُ قَالَ وَيُؤَكّدُهُ أَنّ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ " احْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنّهُ لَيْسَ لَك بِأَخٍ " قَالُوا : وَحِينَئِذٍ فَتَبَيّنَ أَنّا أَسْعَدُ بِالْحَدِيثِ وَبِالْقَضَاءِ النّبَوِيّ مِنْكُمْ . قَالَ الْجُمْهُورُ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ وَالْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانِ فَنَقُولُ - وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ - أَمّا قَوْلُكُمْ إنّهُ لَمْ يُلْحِقْهُ بِهِ أَخًا وَإِنّمَا جَعَلَهُ عَبْدًا يَرُدّهُ مَا رَوَاهُ مُحَمّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ لَك هُوَ أَخُوك يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ وَلَيْسَ اللّامُ لِلتّمْلِيكِ وَإِنّمَا هِيَ لِلِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِهِ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ فَأَمّا لَفْظَةُ قَوْلِهِ هُوَ لَك عَبْدٌ فَرِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ لَا تَصِحّ أَصْلًا . وَأَمّا أَمْرُهُ سَوْدَةَ بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ فَإِمّا أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ وَالْوَرَعِ لِمَكَانِ الشّبْهَةِ الّتِي أَوْرَثَهَا الشّبَهُ الْبَيّنُ بِعُتْبَةَ وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مُرَاعَاةً لِلشّبَهَيْنِ وَإِعْمَالًا لِلدّلِيلَيْنِ فَإِنّ الْفِرَاشَ دَلِيلُ لُحُوقِ النّسَبِ وَالشّبَهَ بِغَيْرِ صَاحِبِهِ دَلِيلُ نَفْيِهِ فَأَعْمَلَ أَمْرَ الْفِرَاشِ بِالنّسْبَةِ إلَى الْمُدّعِي لِقُوّتِهِ وَأَعْمَلَ الشّبَهَ بِعُتْبَةَ بِالنّسْبَةِ إلَى ثُبُوتِ الْمَحْرَمِيّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَوْدَةَ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ وَأَبْيَنِهَا وَأَوْضَحِهَا وَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ النّسَبِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَهَذَا الزّانِي يَثْبُتُ النّسَبُ مِنْهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَلَدِ فِي التّحْرِيمِ وَالْبَعْضِيّةِ دُونَ الْمِيرَاثِ وَالنّفَقَةِ وَالْوِلَايَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ يَتَخَلّفُ بَعْضُ أَحْكَامِ النّسَبِ عَنْهُ مَعَ ثُبُوتِهِ لِمَانِعِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الشّرِيعَةِ فَلَا يُنْكِرُ مَنْ تَخَلّفَ الْمَحْرَمِيّةَ بَيْنَ سَوْدَةَ وَبَيْنَ هَذَا الْغُلَامِ لِمَانِعِ الشّبَهِ بِعُتْبَةَ وَهَلْ هَذَا إلّا مَحْضُ الْفِقْهِ ؟ وَقَدْ عُلِمَ بِهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ " لَيْسَ لَكِ بِأَخٍ " لَوْ صَحّتْ هَذِهِ اللّفْظَةُ مَعَ أَنّهَا لَا تَصِحّ وَقَدْ ضَعّفَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَلَا نُبَالِي بِصِحّتِهَا مَعَ قَوْلِهِ لِعَبْدٍ هُوَ أَخُوك وَإِذَا جَمَعْت أَطْرَافَ كَلَامِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَرَنَتْ قَوْلَهُ " هُوَ أَخُوك " بِقَوْلِهِ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحُجْرُ تَبَيّنَ لَك بُطْلَانُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ التّأْوِيلِ وَأَنّ الْحَدِيثَ صَرِيحٌ فِي خِلَافِهِ لَا يَحْتَمِلُهُ بِوَجْهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَالْعَجَبُ أَنّ مُنَازِعِينَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَجْعَلُونَ الزّوْجَةَ فِرَاشًا لِمُجَرّدِ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزّوْجِ بُعْدَ [ ص 372 ] سُرّيّتَهُ الّتِي يَتَكَرّرُ اسْتِفْرَاشُهُ لَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا فِرَاشًا .
فَصْلٌ [ الِاخْتِلَافُ فِيمَا تَصِيرُ بِهِ الزّوْجَةُ فِرَاشًا ]
وَاخْتَلَفَ
الْفُقَهَاءُ فِيمَا تَصِيرُ بِهِ الزّوْجَةُ فِرَاشًا عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا : أَنّهُ نَفْسُ الْعَقْدِ وَإِنْ عُلِمَ أَنّهُ
لَمْ يَجْتَمِعْ بِهَا بَلْ لَوْ طَلّقَهَا عُقَيْبَهُ فِي الْمَجْلِسِ
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثّانِي : أَنّهُ الْعَقْدُ مَعَ
إمْكَانِ الْوَطْءِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ .
وَالثّالِثُ أَنّهُ الْعَقْدُ مَعَ الدّخُولِ الْمُحَقّقِ لَا إمْكَانُهُ
الْمَشْكُوكُ فِيهِ وَهَذَا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ
تَيْمِيّةَ وَقَالَ إنّ أَحْمَدَ أَشَارَ إلَيْهِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ
فَإِنّهُ نَصّ فِي رِوَايَتِهِ فِيمَنْ طَلّقَ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَأَتَتْ
امْرَأَتُهُ بِوَلَدِ فَأَنْكَرَهُ أَنّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ بِغَيْرِ
لِعَانٍ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ الْمَجْزُومُ بِهِ وَإِلّا فَكَيْفَ
تَصِيرُ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزّوْجُ وَلَمْ
يَبْنِ بِهَا لِمُجَرّدِ إمْكَانٍ بَعِيدٍ ؟ وَهَلْ يَعُدّ أَهْلُ
الْعُرْفِ وَاللّغَةِ الْمَرْأَةَ فِرَاشًا قَبْلَ الْبِنَاءِ بِهَا
وَكَيْفَ تَأْتِي الشّرِيعَةُ بِإِلْحَاقِ نَسَبٍ بِمَنْ لَمْ يَبْنِ
بِامْرَأَتِهِ وَلَا دَخَلَ بِهَا وَلَا اجْتَمَعَ بِهَا بِمُجَرّدِ
إمْكَانِ ذَلِكَ ؟ وَهَذَا الْإِمْكَانُ قَدْ يُقْطَعُ بِانْتِفَائِهِ
عَادَةً فَلَا تَصِيرُ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا إلّا بِدُخُولِ مُحَقّقٍ
وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . وَهَذَا الّذِي نَصّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ
حَرْبٍ هُوَ الّذِي تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُهُ وَأُصُولُ مَذْهَبِهِ
وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ الِاخْتِلَافُ فِيمَا تَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ فِرَاشًا ]
وَاخْتَلَفُوا
أَيْضًا فِيمَا تَصِيرُ بِهِ الْأَمَةُ فِرَاشًا فَالْجُمْهُورُ عَلَى
أَنّهَا لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إلّا بِالْوَطْءِ وَذَهَبَ بَعْضُ
الْمُتَأَخّرِينَ مِنْ الْمَالِكِيّةِ إلَى أَنّ الْأَمَةَ الّتِي
تُشْتَرَى لِلْوَطْءِ دُونَ الْخِدْمَةِ كَالْمُرْتَفِعَةِ الّتِي
يُفْهَمُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَنّهَا إنّمَا تُرَادُ لِلتّسَرّي
فَتَصِيرُ فِرَاشًا بِنَفْسِ الشّرَاءِ وَالصّحِيحُ أَنّ الْأَمَةَ
وَالْحُرّةَ لَا تَصِيرَانِ فِرَاشًا إلّا بِالدّخُولِ .
فَصْلٌ
فَهَذَا أَحَدُ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ الّتِي يَثْبُتُ بِهَا النّسَبُ وَهُوَ الْفِرَاشُ . [ ص 373 ]
[ الِاسْتِلْحَاقُ ]
الثّانِي
: الِاسْتِلْحَاقُ وَقَدْ اتّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنّ لِلْأَبِ
أَنْ يَسْتَلْحِقَ فَأَمّا الْجَدّ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَوْجُودًا لَمْ
يُؤَثّرْ اسْتِلْحَاقُهُ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا وَهُوَ كُلّ
الْوَرَثَةِ صَحّ إقْرَارُهُ وَثَبَتَ نَسَبُ الْمُقَرّ بِهِ وَإِنْ كَانَ
بَعْضَ الْوَرَثَةِ وَصَدَقُوهُ فَكَذَلِك وَإِلّا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ
إلّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الشّاهِدَيْنِ فِيهِ . وَالْحُكْمُ فِي الْأَخِ
كَالْحُكْمِ فِي الْجَدّ سَوَاءٌ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنّ مَنْ حَازَ
الْمَالَ يَثْبُتُ النّسَبُ بِإِقْرَارِهِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً
وَهَذَا أَصْلُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ لِأَنّ الْوَرَثَةَ
قَامُوا مَقَامَ الْمَيّتِ وَحَلّوا مَحَلّهُ . وَأَوْرَدَ بَعْضُ النّاسِ
عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنّهُ لَوْ كَانَ إجْمَاعُ الْوَرَثَةِ عَلَى
إلْحَاقِ النّسَبِ يُثْبِتُ النّسَبَ لَلَزِمَ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى
نَفْيِ حَمْلٍ مِنْ أَمَةٍ وَطِئَهَا الْمَيّتُ أَنْ يَحِلّوا مَحَلّهُ
فِي نَفْيِ النّسَبِ كَمَا حَلّوا مَحَلّهُ فِي إلْحَاقِهِ وَهَذَا لَا
يَلْزَمُ لِأَنّا اعْتَبَرْنَا جَمِيعَ الْوَرَثَةِ وَالْحَمْلُ مِنْ
الْوَرَثَةِ فَلَمْ يُجْمِعْ الْوَرَثَةُ عَلَى نَفْيِهِ . فَإِنْ قِيلَ
فَأَنْتُمْ اعْتَبَرْتُمْ فِي ثُبُوتِ النّسَبِ إقْرَارَ جَمِيعِ
الْوَرَثَةِ وَالْمُقِرّ هَاهُنَا إنّمَا هُوَ عَبْدٌ وَسَوْدَةُ لَمْ
تُقِرّ بِهِ وَهِيَ أُخْتُهُ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَلْحَقَهُ بِعَبْدِ بِاسْتِلْحَاقِهِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِلْحَاقِ
الْأَخِ وَثُبُوتِ النّسَبِ بِإِقْرَارِهِ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنّ
اسْتِلْحَاقَ أَحَدِ الْإِخْوَةِ كَافٍ . قِيلَ سَوْدَةُ لَمْ تَكُنْ
مُنْكِرَةً فَإِنّ عَبْدًا اسْتَلْحَقَهُ وَأَقَرّتْهُ سَوْدَةُ عَلَى
اسْتِلْحَاقِهِ وَإِقْرَارُهَا وَسُكُوتُهَا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ
الْمُتَعَدّي حُكْمُهُ إلَيْهَا مِنْ خَلْوَتِهِ بِهَا وَرُؤْيَتِهِ
إيّاهَا وَصَيْرُورَتِهِ أَخًا لَهَا تَصْدِيقٌ لِأَخِيهَا عَبْدٍ
وَإِقْرَارٌ بِمَا أَقَرّ بِهِ وَإِلّا لَبَادَرَتْ إلَى الْإِنْكَارِ
وَالتّكْذِيبِ فَجَرَى رِضَاهَا وَإِقْرَارُهَا مَجْرَى تَصْدِيقِهَا
هَذَا إنْ كَانَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهَا تَصْدِيقٌ صَرِيحٌ فَالْوَاقِعَةُ
وَاقِعَةُ عَيْنٍ وَمَتَى اسْتَلْحَقَ الْأَخُ أَوْ الْجَدّ أَوْ
غَيْرُهُمَا نَسَبَ مَنْ لَوْ أَقَرّ بِهِ مُوَرّثُهُمْ لَحِقَهُ ثَبَتَ
نَسَبُهُ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَا وَارِثٌ مُنَازِعٌ فَالِاسْتِلْحَاقُ
مُقْتَضٍ لِثُبُوتِ النّسَبِ وَمُنَازَعَةُ غَيْرِهِ مِنْ الْوَرَثَةِ
مَانِعٌ مِنْ الثّبُوتِ فَإِذَا وُجِدَ الْمُقْتَضِي وَلَمْ يَمْنَعْ
مَانِعٌ مِنْ اقْتِضَائِهِ تَرَتّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ . [ ص 374 ] حَازَ
الْمِيرَاثَ وَاسْتِلْحَاقَهُ هَلْ هُوَ إقْرَارُ خِلَافَةٍ عَنْ
الْمَيّتِ أَوْ إقْرَارُ شَهَادَةٍ ؟ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ فَمَذْهَبُ
أَحْمَد وَالشّافِعِيّ رَحِمَهُمَا اللّهُ أَنّهُ إقْرَارُ خِلَافَةٍ
فَلَا تُشْتَرَطُ عَدَالَةُ الْمُسْتَلْحِقِ بَلْ وَلَا إسْلَامُهُ بَلْ
يَصِحّ ذَلِكَ مِنْ الْفَاسِقِ وَالدّيّنِ وَقَالَتْ الْمَالِكِيّةُ :
هُوَ إقْرَارُ شَهَادَةٍ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ أَهْلِيّةُ الشّهَادَةِ
وَحَكَى ابْنُ الْقَصّارِ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ : أَنّ الْوَرَثَةَ إذَا
أَقَرّوا بِالنّسَبِ لَحِقَ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا
وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِك ٍ خِلَافُهُ .
فَصْلٌ
الثّالِثُ
الْبَيّنَةُ بِأَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنّهُ ابْنُهُ أَوْ أَنّهُ
وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ وَإِذَا شَهِدَ
بِذَلِكَ اثْنَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِ
بَقِيّتِهِمْ وَثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ .
فَصْلٌ
الرّابِعُ
الْقَافَةُ حُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَقَضَاؤُهُ بِاعْتِبَارِ الْقَافَةِ وَإِلْحَاقُ النّسَبِ بِهَا . ثَبَتَ
فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا
قَالَتْ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
ذَاتَ يَوْمٍ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ " أَلَمْ
تَرَيْ أَنّ مُجَزّزًا الْمُدْلِجِيّ نَظَرَ آنِفًا إلَى زَيْدِ بْنِ
حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطّيَا
رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ إنّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ
بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَسُرّ [ ص 375 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِقَوْلِ الْقَائِفِ وَلَوْ كَانَتْ كَمَا يَقُولُ الْمُنَازِعُونَ مِنْ
أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ كَالْكِهَانَةِ وَنَحْوِهَا لَمَا سُرّ بِهَا وَلَا
أُعْجِبَ بِهَا وَلَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْكِهَانَةِ . وَقَدْ صَحّ
عَنْهُ وَعِيدُ مَنْ صَدّقَ كَاهِنًا . قَالَ الشّافِعِيّ : وَالنّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَثْبَتَهُ عِلْمًا وَلَمْ يُنْكِرْهُ
وَلَوْ كَانَ خَطَأً لَأَنْكَرَهُ لِأَنّ فِي ذَلِكَ قَذْفُ
الْمُحْصَنَاتِ وَنَفْيَ الْأَنْسَابِ انْتَهَى . كَيْفَ وَالنّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ صَرّحَ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ
بِصِحّتِهَا وَاعْتِبَارِهَا فَقَالَ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ إنْ
جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ وَإِنْ
جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ فَلَمّا
جَاءَتْ بِهِ عَلَى شَبَهِ الّذِي رُمِيَتْ بِهِ قَالَ لَوْلَا
الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ وَهَلْ هَذَا إلّا اعْتِبَارٌ
لِلشّبَهِ وَهُوَ عَيْنُ الْقَافَةِ فَإِنّ الْقَائِفَ يَتْبَعُ أَثَرَ
الشّبَهِ وَيَنْظُرُ إلَى مَنْ يَتّصِلُ فَيَحْكُمُ بِهِ لِصَاحِبِ
الشّبَهِ وَقَدْ اعْتَبَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الشّبَهَ وَبَيّنَ سَبَبَهُ وَلِهَذَا لَمّا قَالَتْ لَهُ أُمّ سَلَمَةَ
أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ فَقَالَ " مِمّ يَكُونُ الشّبَهُ " .
وَأَخْبَرَ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ أَنّ مَاءَ الرّجُلِ إذَا سَبَقَ
مَاءَ الْمَرْأَةِ كَانَ الشّبَهُ لَهُ وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا مَاءَهُ
كَانَ الشّبَهُ لَهَا فَهَذَا اعْتِبَارٌ مِنْهُ لِلشّبَهِ شَرْعًا
وَقَدْرًا وَهَذَا أَقْوَى مَا يَكُونُ مِنْ طُرُقِ الْأَحْكَامِ أَنْ
يَتَوَارَدَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَالشّرْعُ وَالْقَدْرُ
وَلِهَذَا تَبِعَهُ خُلَفَاؤُهُ الرّاشِدُونَ فِي الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ
. قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ [ ص 376 ] فَقَالَ الْقَائِفُ قَدْ
اشْتَرَكَا فِيهِ جَمِيعًا فَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا . قَالَ الشّعْبِيّ :
وَعَلِيّ يَقُولُ هُوَ ابْنُهُمَا وَهُمَا أَبَوَاهُ يَرِثَانِهِ ذَكَرَهُ
سَعِيدُ أَيْضًا . وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيّبِ فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي طُهْرِ امْرَأَةٍ فَحَمَلَتْ
فَوَلَدَتْ غُلَامًا يُشْبِهُهُمَا فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطّابِ فَدَعَا الْقَافَةَ فَنَظَرُوا فَقَالُوا : نَرَاهُ
يُشْبِهُهُمَا فَأَلْحَقَهُ بِهِمَا وَجَعَلَهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ
وَلَا يُعْرَفُ قَطّ فِي الصّحَابَةِ مَنْ خَالَفَ عُمَرَ وَعَلِيّا
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا فِي ذَلِكَ بَلْ حَكَمَ عُمَرُ بِهَذَا فِي
الْمَدِينَةِ وَبِحَضْرَتِهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَلَمْ
يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ .
[ حُجَجُ مَنْ أَنْكَرَ ثُبُوتَ النّسَبِ بِالْقَافَةِ ]
قَالَتْ
الْحَنَفِيّةُ : قَدْ أَجْلَبْتُمْ عَلَيْنَا فِي الْقَافَةِ بِالْخَيْلِ
وَالرّجْلِ وَالْحُكْمُ بِالْقِيَافَةِ تَعْوِيلٌ عَلَى مُجَرّدِ الشّبَهِ
وَالظّنّ وَالتّخْمِينِ وَمَعْلُومٌ أَنّ الشّبَهَ قَدْ يُوجَدُ مِنْ
الْأَجَانِبِ وَيَنْتَفِي عَنْ الْأَقَارِبِ وَذَكَرْتُمْ قِصّةَ
أُسَامَةَ وَزَيْدَ وَنَسِيتُمْ قِصّةَ الّذِي وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ
غُلَامًا أَسْوَدَ يُخَالِفُ لَوْنَهُمَا فَلَمْ يُمَكّنْهُ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ نَفْيِهِ وَلَا جَعَلَ لِلشّبَهِ
وَلَا لِعَدَمِهِ أَثَرًا وَلَوْ كَانَ لِلشّبَهِ أَثَرٌ لَاكْتَفَى بِهِ
فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى اللّعَانِ وَلَكَانَ
يَنْتَظِرُ وِلَادَتَهُ ثُمّ يُلْحَقُ بِصَاحِبِ الشّبَهِ وَيَسْتَغْنِي
بِذَلِكَ عَنْ اللّعَانِ بَلْ كَانَ لَا يَصِحّ نَفْيُهُ مَعَ وُجُودِ
الشّبَهِ بِالزّوْجِ وَقَدْ دَلّتْ السّنّةُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ
عَلَى نَفْيِهِ عَنْ الْمُلَاعِنِ وَلَوْ كَانَ الشّبَهُ لَهُ فَإِنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَبْصِرُوهَا فَإِنْ
جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ وَهَذَا
قَالَهُ بَعْدَ اللّعَانِ وَنَفْيِ النّسَبِ عَنْهُ فَعُلِمَ أَنّهُ لَوْ
جَاءَ عَلَى الشّبَهِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ
وَإِنّمَا كَانَ مَجِيئُهُ عَلَى شَبَهِهِ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِ لَا
عَلَى لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ . قَالُوا : وَأَمّا قِصّةُ أُسَامَةَ
وَزَيْدٍ فَالْمُنَافِقُونَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِهِ مِنْ زَيْدٍ
[ ص 377 ] لِمُخَالَفَةِ لَوْنِهِ لَوْنَ أَبِيهِ وَلَمْ يَكُونُوا
يَكْتَفُونَ بِالْفِرَاشِ وَحُكْمِ اللّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَنّهُ ابْنُهُ
فَلَمّا شَهِدَ بِهِ الْقَائِفُ وَافَقَتْ شَهَادَتُهُ حُكْمَ اللّهِ
وَرَسُولِهِ فَسُرّ بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِمُوَافَقَتِهَا حُكْمَهُ وَلِتَكْذِيبِهَا قَوْلَ الْمُنَافِقِينَ لَا
أَنّهُ أَثْبَتَ نَسَبَهُ بِهَا فَأَيْنَ فِي هَذَا إثْبَاتُ النّسَبِ
بِقَوْلِ الْقَائِفِ ؟ قَالُوا : وَهَذَا مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الّتِي
ذُكِرَ فِيهَا اعْتِبَارُ الشّبَهِ فَإِنّهَا إنّمَا اعْتَبَرَتْ فِيهِ
الشّبَهَ بِنَسَبِ ثَابِتٍ بِغَيْرِ الْقَافَةِ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ
ذَلِكَ . قَالُوا : وَأَمّا حُكْمُ عُمَرَ وَعَلِيّ ٍ فَقَدْ اُخْتُلِفَ
عَلَى عُمَرَ فَرُوِيَ عَنْهُ مَا ذَكَرْتُمْ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّ
الْقَائِفَ لَمّا قَالَ لَهُ قَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ قَالَ وَالِ أَيّهمَا
شِئْت . فَلَمْ يَعْتَبِرْ قَوْلَ الْقَائِفِ . قَالُوا : وَكَيْفَ
تَقُولُونَ بِالشّبَهِ وَلَوْ أَقَرّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِأَخٍ
وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ وَالشّبَهُ مَوْجُودٌ لَمْ تُثْبِتُوا النّسَبَ
بِهِ وَقُلْتُمْ إنْ لَمْ تَتّفِقْ الْوَرَثَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ
لَمْ يَثْبُتْ النّسَبُ ؟
[ رَدّ الْمُثْبِتِينَ عَلَى النّافِينَ ]
قَالَ
أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْنَا الْقَوْلَ
بِالْقَافَةِ وَيَجْعَلَهَا مِنْ بَابِ الْحَدْسِ وَالتّخْمِينِ مَنْ
يُلْحِقُ وَلَدَ الْمَشْرِقِيّ بِمَنْ فِي أَقْصَى الْمَغْرِبِ مَعَ
الْقَطْعِ بِأَنّهُمَا لَمْ يَتَلَاقَيَا طَرْفَةَ عَيْنٍ وَيُلْحِقُ
الْوَلَدَ بِاثْنَيْنِ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنّهُ لَيْسَ ابْنًا
لِأَحَدِهِمَا وَنَحْنُ إنّمَا أَلْحَقْنَا الْوَلَدَ بِقَوْلِ الْقَائِفَ
الْمُسْتَنِدِ إلَى الشّبَهِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا وَقَدْرًا فَهُوَ
اسْتِنَادٌ إلَى ظَنّ غَالِبٍ وَرَأْيٍ رَاجِحٍ وَأَمَارَةٍ ظَاهِرَةٍ
بِقَوْلِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ
مِنْ قَوْلِ الْمُقَوّمِينَ وَهَلْ يُنْكِرُ مَجِيءَ كَثِيرٍ مِنْ
الْأَحْكَامِ مُسْتَنِدًا إلَى الْأَمَارَاتِ الظّاهِرَةِ وَالظّنُونِ
الْغَالِبَةِ ؟ وَأَمّا وُجُودُ الشّبَهِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ
وَانْتِفَاؤُهُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا [ ص 378 ]
أَسْوَدَ فَهُوَ حُجّةٌ عَلَيْكُمْ لِأَنّهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ
الْعَادَةَ الّتِي فَطَرَ اللّهُ عَلَيْهَا النّاسَ اعْتِبَارُ الشّبَهِ
وَأَنّ خِلَافَهُ يُوجِبُ رِيبَةً وَأَنّ فِي طِبَاعِ الْخَلْقِ إنْكَارَ
ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمّا عَارَضَ ذَلِكَ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ
الْفِرَاشُ كَانَ الْحُكْمُ لِلدّلِيلِ الْقَوِيّ وَكَذَلِكَ نَقُولُ
نَحْنُ وَسَائِرُ النّاسِ إنّ الْفِرَاشَ الصّحِيحَ إذَا كَانَ قَائِمًا
فَلَا يُعَارَضُ بِقَافَةِ وَلَا شَبَهٍ فَمُخَالَفَةُ ظَاهِرِ الشّبَهِ
لِدَلِيلِ أَقْوَى مِنْهُ - وَهُوَ الْفِرَاشُ - غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ
وَإِنّمَا الْمُسْتَنْكَرُ مُخَالَفَةُ هَذَا الدّلِيلِ الظّاهِرِ
بِغَيْرِ شَيْءٍ . وَأَمّا تَقْدِيمُ اللّعَانِ عَلَى الشّبَهِ
وَإِلْغَاءُ الشّبَهِ مَعَ وُجُودِهِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا هُوَ مِنْ
تَقْدِيمِ أَقْوَى الدّلِيلَيْنِ عَلَى أَضْعَفِهِمَا وَذَلِكَ لَا
يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشّبَهِ مَعَ عَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ كَالْبَيّنَةِ
تُقَدّمُ عَلَى الْيَدِ وَالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيّةِ وَيُعْمَلُ بِهِمَا
عِنْدَ عَدَمِهِمَا . وَأَمّا ثُبُوتُ نَسَبِ أُسَامَةَ مِنْ زَيْدٍ
بِدُونِ الْقِيَافَةِ فَنَحْنُ لَمْ نُثْبِتْ نَسَبَهُ بِالْقِيَافَةِ
وَالْقِيَافَةُ دَلِيلٌ آخَرُ مُوَافِقٌ لِدَلِيلِ الْفِرَاشِ فَسُرُورُ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفَرَحُهُ بِهَا
وَاسْتِبْشَارُهُ لِتَعَاضُدِ أَدِلّةِ النّسَبِ وَتَضَافُرِهَا لَا
لِإِثْبَاتِ النّسَبِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ
الْفَرَحِ بِظُهُورِ أَعْلَامِ الْحَقّ وَأَدِلّتِهِ وَتَكَاثُرِهَا
وَلَوْ لَمْ تَصْلُحْ الْقِيَافَةُ دَلِيلًا لَمْ يَفْرَحْ بِهَا وَلَمْ
يُسَرّ وَقَدْ كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَفْرَحُ
وَيُسَرّ إذَا تَعَاضَدَتْ عِنْدَهُ أَدِلّةُ الْحَقّ وَيُخْبِرُ بِهَا
الصّحَابَةَ وَيُحِبّ أَنْ يَسْمَعُوهَا مِنْ الْمُخْبِرِ بِهَا لِأَنّ
النّفُوسَ تَزْدَادُ تَصْدِيقًا بِالْحَقّ إذَا تَعَاضَدَتْ أَدِلّتُهُ
وَتُسَرّ بِهِ وَتَفْرَحُ وَعَلَى هَذَا فَطَرَ اللّهُ عِبَادَهُ فَهَذَا
حُكْمٌ اتّفَقَتْ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ وَالشّرْعَةُ وَبِاَللّهِ
التّوْفِيقُ . وَأَمّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ وَالِ
أَيّهمَا شِئْتُ فَلَا تُعْرَفُ صِحّتُهُ عَنْ [ ص 379 ] لَكَانَ قَوْلًا
عَنْهُ فَإِنّ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي غَايَةِ الصّحّةِ مَعَ أَنّ
قَوْلَهُ وَالِ أَيّهمَا شِئْت لَيْسَ بِصَرِيحِ فِي إبْطَالِ قَوْلِ
الْقَائِفِ وَلَوْ كَانَ صَرِيحًا فِي إبْطَالِ قَوْلِهِ لَكَانَ فِي
مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ إذَا أَلْحَقَهُ بِاثْنَيْنِ كَمَا يَقُولُهُ
الشّافِعِيّ وَمَنْ وَافَقَهُ . وَأَمّا إذَا أَقَرّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ
بِأَخٍ وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ فَإِنّمَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ
لِمُجَرّدِ الْإِقْرَارِ فَأَمّا إذَا كَانَ هُنَاكَ شَبَهٌ يَسْتَنِدُ
إلَيْهِ الْقَائِفُ فَإِنّهُ لَا يُعْتَبَرُ إنْكَارُ الْبَاقِينَ
وَنَحْنُ لَا نَقْصُرُ الْقَافَةَ عَلَى بَنِي مُدْلِجٍ وَلَا نَعْتَبِرُ
تَعَدّدَ الْقَائِفِ بَلْ يَكْفِي وَاحِدٌ عَلَى الصّحِيحِ بِنَاءً عَلَى
أَنّهُ خَبَرٌ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنّهُ شَهَادَةٌ
فَلَا بُدّ مِنْ اثْنَيْنِ وَلَفْظُ الشّهَادَةِ بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ
اللّفْظِ .
[ إذَا أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَب فَهَلْ يَلْحَقُ بِهِمْ ]
فَإِنْ
قِيلَ فَالْمَنْقُولُ عَنْ عُمَر أَنّهُ أَلْحَقَهُ بِأَبَوَيْنِ فَمَا
تَقُولُونَ فِيمَا إذَا أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِأَبَوَيْنِ هَلْ
تُلْحِقُونَهُ بِهِمَا أَوْ لَا تُلْحِقُونَهُ إلّا بِوَاحِدِ وَإِذَا
أَلْحَقْتُمُوهُ بِأَبَوَيْنِ فَهَلْ يَخْتَصّ ذَلِكَ بِاثْنَيْنِ أَمْ
يَلْحَقُ بِهِمْ وَإِنْ كَثُرُوا وَهَلْ حُكْمُ الِاثْنَيْنِ فِي ذَلِكَ
حُكْمُ الْأَبَوَيْنِ أَمْ مَاذَا حُكْمُهُمَا ؟ قِيلَ هَذِهِ مَسَائِلُ
فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقَالَ الشّافِعِيّ وَمَنْ
وَافَقَهُ لَا يَلْحَقُ بِأَبَوَيْنِ وَلَا يَكُونُ لِلرّجُلِ إلّا أَبٌ
وَاحِدٌ وَمَتَى أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِاثْنَيْنِ سَقَطَ قَوْلُهَا
وَقَالَ الْجُمْهُورُ بَلْ يَلْحَقُ بِاثْنَيْنِ ثُمّ اخْتَلَفُوا فَنَصّ
أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنّا بْنِ يَحْيَى : أَنّهُ يَلْحَقُ
بِثَلَاثَةِ وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَمُقْتَضَى هَذَا أَنّهُ
يَلْحَقُ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِ وَإِنْ كَثُرُوا لِأَنّهُ
إذَا جَازَ إلْحَاقُهُ بِاثْنَيْنِ جَازَ إلْحَاقُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لَكِنّهُ لَا يَقُولُ
بِالْقَافَةِ فَهُوَ يُلْحِقُهُ بِالْمُدّعِينَ وَإِنْ كَثُرُوا وَقَالَ
الْقَاضِي : يَجِبُ أَنْ لَا يَلْحَقَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَهُوَ
قَوْلُ مُحَمّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ لَا يَلْحَقُ
بِأَكْثَرَ مِنْ [ ص 380 ] أَبِي يُوسُفَ فَمَنْ لَمْ يُلْحِقْهُ
بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ قَالَ قَدْ أَجْرَى اللّهُ سُبْحَانَهُ عَادَتَهُ
أَنّ لِلْوَلَدِ أَبًا وَاحِدًا وَأُمّا وَاحِدَةً وَلِذَلِكَ يُقَالُ
فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَفُلَانُ بْنُ فُلَانَةَ فَقَطْ . وَلَوْ قِيلَ
فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَفُلَانُ لَكَانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا . وَعُدّ
قَذْفًا وَلِهَذَا إنّمَا يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ فُلَانُ
بْنُ فُلَانٍ ؟ وَهَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَلَمْ يُعْهَدْ
قَطّ فِي الْوُجُودِ نِسْبَةُ وَلَدٍ إلَى أَبَوَيْنِ قَطّ وَمَنْ
أَلْحَقَهُ بِاثْنَيْنِ احْتَجّ بِقَوْلِ عُمَرَ وَإِقْرَارِ الصّحَابَةِ
لَهُ عَلَى ذَلِكَ . وَبِأَنّ الْوَلَدَ قَدْ يَنْعَقِدُ مِنْ مَاءِ
رَجُلَيْنِ كَمَا يَنْعَقِدُ مِنْ مَاءِ الرّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ثُمّ
قَالَ أَبُو يُوسُفَ إنّمَا جَاءَ الْأَثَرُ بِذَلِكَ فَيُقْتَصَرُ
عَلَيْهِ . وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَتَعَدّى بِهِ ثَلَاثَةً لِأَنّ
أَحْمَد إنّمَا نَصّ عَلَى الثّلَاثَةِ وَالْأَصْلُ أَلّا يُلْحَقَ
بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ وَقَدْ دَلّ قَوْلُ عُمَرَ عَلَى إلْحَاقِهِ
بِاثْنَيْنِ مَعَ انْعِقَادِهِ مِنْ مَاءِ الْأُمّ فَدَلّ عَلَى إمْكَانِ
انْعِقَادِهِ مِنْ مَاءِ ثَلَاثَةٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَمَشْكُوكٌ
فِيهِ . قَالَ الْمُلْحِقُونَ لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إذَا جَازَ
تَخْلِيقُهُ مِنْ مَاءِ رَجُلَيْنِ وَثَلَاثَةٍ جَازَ خَلْقُهُ مِنْ مَاءِ
أَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةٍ وَلَا وَجْهَ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى ثَلَاثَةٍ
فَقَطْ بَلْ إمّا أَنْ يُلْحَقَ بِهِمْ وَإِنْ كَثُرُوا وَإِمّا أَنْ لَا
يُتَعَدّى بِهِ أَحَدٌ وَلَا قَوْلٌ سِوَى الْقَوْلَيْنِ وَاَللّهُ
أَعْلَمُ . فَإِنْ قِيلَ إذَا اشْتَمَلَ الرّحِمُ عَلَى مَاءِ الرّجُلِ
وَأَرَادَ اللّهُ أَنْ يَخْلُقَ مِنْهُ الْوَلَدَ انْضَمّ عَلَيْهِ
أَحْكَمَ انْضِمَامٍ وَأَتَمّهُ حَتّى لَا يَفْسُدَ فَكَيْفَ يَدْخُلُ
عَلَيْهِ مَاءٌ آخَرُ ؟ قِيلَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِلَ الْمَاءُ
الثّانِي إلَى حَيْثُ وَصَلَ الْأَوّلُ فَيَنْضَمّ عَلَيْهِمَا وَهَذَا
كَمَا أَنّ الْوَلَدَ يَنْعَقِدُ مِنْ مَاءِ الْأَبَوَيْنِ وَقَدْ سَبَقَ
مَاءُ الرّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ وَمَعَ هَذَا فَلَا
يَمْتَنِعُ وُصُولُ الْمَاءِ الثّانِي إلَى حَيْثُ وَصَلَ الْأَوّلُ
وَقَدْ عُلِمَ بِالْعَادَةِ أَنّ الْحَامِلَ إذَا تُوبِعَ وَطْؤُهَا جَاءَ
الْوَلَدُ عَبْلُ [ ص 381 ] أَلْهَمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ الدّوَابّ إذَا
حَمَلَتْ أَنْ لَا تُمَكّنَ الْفَحْلَ أَنْ يَنْزُوَ عَلَيْهَا بَلْ
تَنْفِرُ عَنْهُ كُلّ النّفَارِ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إنّ
الْوَطْءَ الثّانِيَ يَزِيدُ فِي سَمْعِ الْوَلَدِ وَبَصَرِهِ وَقَدْ
شَبّهَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِسَقْيِ الزّرْعِ
وَمَعْلُومٌ أَنّ سَقْيَهُ يَزِيدُ فِي ذَاتِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ لَوْ اسْتَلْحَقَ الزّانِي وَلَدًا لَا فِرَاشَ هُنَاكَ يُعَارِضُهُ فَهَلْ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ]
فَإِنْ
قِيلَ فَقَدْ دَلّ الْحَدِيثُ عَلَى حُكْمِ اسْتِلْحَاقِ الْوَلَدِ
وَعَلَى أَنّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ فَمَا تَقُولُونَ لَوْ اسْتَلْحَقَ
الزّانِي وَلَدًا لَا فِرَاشَ هُنَاكَ يُعَارِضُهُ هَلْ يَلْحَقُهُ
نَسَبُهُ وَيَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ النّسَبِ ؟ قِيلَ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ
جَلِيلَةٌ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهَا فَكَانَ إسْحَاقُ بْنُ
رَاهْوَيْهِ يَذْهَبُ إلَى أَنّ الْمَوْلُودَ مِنْ الزّنَى إذَا لَمْ
يَكُنْ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشٍ يَدّعِيهِ صَاحِبُهُ وَادّعَاهُ الزّانِي
أُلْحِقَ بِهِ وَأُوّلَ قَوْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ عَلَى أَنّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ عِنْدَ تَنَازُعِ
الزّانِي وَصَاحِبِ الْفِرَاشِ كَمَا تَقَدّمَ وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيّ رَوَاهُ عَنْهُ إسْحَاقُ بِإِسْنَادِهِ فِي رَجُلٍ زَنَى
بِامْرَأَةِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَادّعَى وَلَدَهَا فَقَالَ يُجْلَدُ
وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ وَهَذَا مَذْهَبُ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ
وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ذَكَرَ عَنْهُمَا أَنّهُمَا قَالَا : أَيّمَا
رَجُلٍ أَتَى إلَى غُلَامٍ يَزْعُمُ أَنّهُ ابْنٌ لَهُ وَأَنّهُ زَنَى
بِأُمّهِ وَلَمْ يَدّعِ ذَلِكَ الْغُلَامَ أَحَدُ فَهُوَ ابْنُهُ
وَاحْتَجّ سُلَيْمَانُ بِأَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ كَانَ يُلِيطُ
أَوْلَادَ الْجَاهِلِيّةِ بِمَنْ ادّعَاهُمْ فِي الْإِسْلَام وَهَذَا
الْمَذْهَبُ كَمَا تَرَاهُ قُوّةً وَوُضُوحًا وَلَيْسَ مَعَ الْجُمْهُورِ
أَكْثَرُ مِنْ الْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ وَصَاحِبُ هَذَا الْمَذْهَبِ أَوّلُ
قَائِلٍ بِهِ وَالْقِيَاسُ الصّحِيحُ يَقْتَضِيهِ فَإِنّ الْأَبَ أَحَدُ
الزّانِيَيْنِ وَهُوَ إذَا كَانَ يُلْحَقُ بِأُمّهِ وَيُنْسَبُ إلَيْهَا
وَتَرِثُهُ وَيَرِثُهَا وَيَثْبُتُ النّسَبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِ
أُمّهِ مَعَ كَوْنِهَا زَنَتْ بِهِ وَقَدْ [ ص 382 ] مَاءِ الزّانِيَيْنِ
وَقَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ وَاتّفَقَا عَلَى أَنّهُ ابْنُهُمَا فَمَا
الْمَانِعُ مِنْ لُحُوقِهِ بِالْأَبِ إذَا لَمْ يَدّعِهِ غَيْرُهُ ؟
فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَقَدْ قَالَ جُرَيْجٌ لِلْغُلَامِ الّذِي
زَنَتْ أُمّهُ بِالرّاعِي : مَنْ أَبُوك يَا غُلَامُ ؟ قَالَ فُلَانٌ
الرّاعِي وَهَذَا إنْطَاقٌ مِنْ اللّهِ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَذِبُ .
فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ ؟ قِيلَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِيهَا
حَدِيثَانِ نَحْنُ نَذْكُرُ شَأْنَهُمَا .
فَصْلٌ ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي اسْتِلْحَاقِ وَلَدِ الزّنَى وَتَوْرِيثِهِ
ذَكَرَ
أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا مُسَاعَاةَ فِي
الْإِسْلَام مَنْ سَاعَى فِي الْجَاهِلِيّةِ فَقَدْ لَحِقَ بِعَصَبَتِهِ
وَمَنْ ادّعَى وَلَدًا مِنْ غَيْرِ رِشْدَةِ فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ .
الْمُسَاعَاةُ الزّنَى وَكَانَ الْأَصْمَعِيّ يَجْعَلُهَا فِي الْإِمَاءِ
دُونَ الْحَرَائِرِ لِأَنّهُنّ يَسْعَيْنَ لِمَوَالِيهِنّ فَيَكْتَسِبْنَ
لَهُمْ وَكَانَ عَلَيْهِنّ ضَرَائِبُ مُقَرّرَةٌ فَأَبْطَلَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُسَاعَاةَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ
يُلْحِقْ النّسَبَ بِهَا وَعَفَا عَمّا كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْهَا
وَأَلْحَقَ النّسَبَ بِهِ . وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ يُقَالُ زَنَى الرّجُلُ
وَعَهَرَ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ فِي الْحُرّةِ وَالْأَمَةِ وَيُقَالُ فِي
الْأَمَةِ خَاصّةً قَدْ سَاعَاهَا . وَلَكِنْ فِي إسْنَادِ هَذَا
الْحَدِيثِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ فَلَا تَقُومُ بِهِ حُجّةٌ . وَرَوَى أَيْضًا
فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدّهِ " أَنّ [ ص 383 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى أَنّ كُلّ
مُسْتَلْحَقٍ اُسْتُلْحِقَ بَعْدَ أَبِيهِ الّذِي يُدْعَى لَهُ ادّعَاهُ
وَرَثَتُهُ فَقَضَى أَنّ كُلّ مَنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ يَمْلِكُهَا يَوْمَ
أَصَابَهَا فَقَدْ لَحِقَ بِمَنْ اسْتَلْحَقَهُ وَلَيْسَ لَهُ مِمّا
قُسّمَ قَبْلَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ وَمَا أَدْرَكَ مِنْ مِيرَاثٍ لَمْ
يُقَسّمْ فَلَهُ نَصِيبُهُ وَلَا يُلْحَقُ إذَا كَانَ أَبُوهُ الّذِي
يُدْعَى لَهُ أَنْكَرَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ لَمْ يَمْلِكْهَا أَوْ
مِنْ حُرّةٍ عَاهَرَ بِهَا فَإِنّهُ لَا يُلْحَقُ وَلَا يَرِثُ وَإِنْ
كَانَ الّذِي يُدْعَى لَهُ هُوَ ادّعَاهُ فَهُوَ مِنْ وَلَدِ زَنْيَةٍ
مِنْ حُرّةٍ كَانَ أَوْ أَمَةٍ . وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ وَلَدُ زِنًى
لِأَهْلِ أُمّهِ مَنْ كَانُوا حُرّةً أَوْ أُمّةً . وَذَلِكَ فِيمَا
اُسْتُلْحِقَ فِي أَوّلِ الْإِسْلَام فَمَا اقْتَسَمَ مِنْ مَالٍ قَبْلَ
الْإِسْلَام فَقَدْ مَضَى " وَهَذَا لِأَهْلِ الْحَدِيثِ فِي إسْنَادِهِ
مَقَالٌ لِأَنّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمّدِ بْنِ رَاشِدٍ الْمَكْحُولِيّ .
وَكَانَ قَوْمٌ فِي الْجَاهِلِيّةِ لَهُمْ إمَاءٌ بَغَايَا فَإِذَا وَلَدَتْ أَمَةُ أَحَدِهِمْ وَقَدْ وَطِئَهَا غَيْرُهُ بِالزّنَى فَرُبّمَا ادّعَاهُ سَيّدُهَا وَرُبّمَا ادّعَاهُ الزّانِي وَاخْتَصَمَا فِي ذَلِكَ حَتّى قَامَ الْإِسْلَامُ فَحَكَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْوَلَدِ لِلسّيّدِ لِأَنّهُ صَاحِبُ الْفِرَاشِ وَنَفَاهُ عَلَى الزّانِي . ثُمّ تَضَمّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أُمُورًا . مِنْهَا : أَنّ الْمُسْتَلْحَقَ إذَا اُسْتُلْحِقَ بَعْدَ أَبِيهِ الّذِي يُدْعَى لَهُ ادّعَاهُ وَرَثَتُهُ فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ أَمَةٍ يَمْلِكُهَا الْوَاطِئُ يَوْمَ أَصَابَهَا فَقَدْ لَحِقَ بِمَنْ اسْتَلْحَقَهُ يَعْنِي إذَا كَانَ الّذِي اسْتَلْحَقَهُ وَرَثَةُ مَالِكِ الْأَمَةِ وَصَارَ ابْنَهُ مِنْ يَوْمِئِذٍ لَيْسَ لَهُ مِمّا قُسّمَ قَبْلَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ لِأَنّ هَذَا تَجْدِيدُ حُكْمِ نَسَبِهِ وَمِنْ يَوْمئِذٍ يَثْبُتُ نَسَبُهُ فَلَا يَرْجِعُ بِمَا اُقْتُسِمَ قَبْلَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ إذْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْبُنُوّةِ ثَابِتًا وَمَا أَدْرَكَ مِنْ مِيرَاثٍ لَمْ يُقَسّمْ فَلَهُ نَصِيبُهُ مِنْهُ لِأَنّ الْحُكْمَ ثَبَتَ قَبْلَ قَسْمِهِ الْمِيرَاثَ فَيَسْتَحِقّ مِنْهُ نَصِيبَهُ [ ص 384 ] أَسْلَمَ عَلَى مِيرَاثٍ قَبْلَ قَسْمِهِ قُسِمَ لَهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد َ وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ قَسْمِ الْمِيرَاثِ فَلَا شَيْءَ لَهُ فَثُبُوتُ النّسَبِ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الْإِسْلَامِ بِالنّسْبَةِ إلَى الْمِيرَاثِ . قَوْلُهُ " وَلَا يَلْحَقُ إذَا كَانَ أَبُوهُ الّذِي يُدْعَى لَهُ أَنْكَرَهُ " هَذَا يُبَيّنُ أَنّ التّنَازُعَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَأَنّ الصّورَةَ الْأُولَى أَنْ يَسْتَلْحِقَهُ وَرَثَةُ أَبِيهِ الّذِي كَانَ يُدْعَى لَهُ وَهَذِهِ الصّورَةُ إذَا اسْتَلْحَقَهُ وَرَثَتُهُ وَأَبُوهُ الّذِي يُدْعَى لَهُ كَانَ يُنْكِرُ فَإِنّهُ لَا يُلْحَقُ لِأَنّ الْأَصْلَ الّذِي الْوَرَثَةُ خَلَفٌ عَنْهُ مُنْكِرٌ لَهُ فَكَيْفَ يُلْحَقُ بِهِ مَعَ إنْكَارِهِ ؟ فَهَذَا إذَا كَانَ مِنْ أَمَةٍ يَمْلِكُهَا أَمّا إذَا كَانَ مِنْ أَمَةٍ لَمْ يَمْلِكْهَا أَوْ مِنْ حُرّةٍ عَاهَرَ بِهَا فَإِنّهُ لَا يُلْحَقُ وَلَا يَرِثُ وَإِنْ ادّعَاهُ الْوَاطِئُ وَهُوَ وَلَدٌ زَنْيَةٍ مِنْ أَمَةٍ كَانَ أَوْ مِنْ حُرّةٍ وَهَذَا حُجّةُ الْجُمْهُورِ عَلَى إسْحَاقَ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ إنّهُ لَا يَلْحَقُ بِالزّانِي إذَا ادّعَاهُ وَلَا يَرِثُهُ وَأَنّهُ وَلَدُ زِنًى لِأَهْلِ أُمّهِ مَنْ كَانُوا حُرّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً . وَأَمّا مَا اُقْتُسِمَ مِنْ مَالٍ قَبْلَ الْإِسْلَام فَقَدْ مَضَى فَهَذَا الْحَدِيثُ يَرُدّ قَوْلَ إسْحَاقَ وَمَنْ وَافَقَهُ لَكِنّ فِيهِ مُحَمّدَ بْنَ رَاشِدٍ وَنَحْنُ نَحْتَجّ بِعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ فَلَا يُعَلّلُ الْحَدِيثُ بِهِ فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ تَعَيّنَ الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ وَإِلّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ إسْحَاقَ وَمَنْ مَعَهُ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
ذِكْرُ الْحُكْمِ الّذِي حَكَمَ بِهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
فِي الْجَمَاعَةِ الّذِينَ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ
ثُمّ
تَنَازَعُوا الْوَلَدَ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ ثُمّ بَلَغَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَضَحِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ ذَكَرَ أَبُو
دَاوُدَ وَالنّسَائِيّ فِي " سُنَنِهِمَا " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ الْخَلِيلِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللّه عَنْهُ قَالَ
كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَاءَ
رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيُمْنِ فَقَالَ إنّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ
الْيَمَنِ أَتَوْا عَلِيّا يَخْتَصِمُونَ إلَيْهِ فِي وَلَدٍ قَدْ
وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَقَالَ لِاثْنَيْن : طِيبَا
بِالْوَلَدِ لِهَذَا فَغَلَيَا ثُمّ قَالَ لِاثْنَيْنِ طِيبَا بِالْوَلَدِ
لِهَذَا فَغَلَيَا ثُمّ قَالَ لِاثْنَيْنِ طِيبَا بِالْوَلَدِ لِهَذَا
فَغَلَيَا فَقَالَ أَنْتُمْ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ إنّي مُقْرِعٌ
بَيْنَكُمْ فَمَنْ قُرِعَ فَلَهُ الْوَلَدُ وَعَلَيْهِ لِصَاحِبَيْهِ
ثُلْثَا الدّيَةِ فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَجَعَلَهُ لِمَنْ قُرِعَ
فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى بَدَتْ
أَضْرَاسُهُ أَوْ نَوَاجِذُهُ [ ص 385 ] يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ
الْكِنْدِيّ الْأَجْلَحُ وَلَا يُحْتَجّ بِحَدِيثِهِ لَكِنْ رَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ وَالنّسَائِيّ بِإِسْنَادِ كُلّهُمْ ثِقَاتٌ إلَى عَبْدِ خَيْرٍ
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ . قَالَ أُتِيَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
بِثَلَاثَةٍ وَهُوَ بِالْيَمَنِ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ
وَاحِدٍ فَسَأَلَ اثْنَيْنِ أَتُقِرّانِ لِهَذَا بِالْوَلَدِ ؟ قَالَا :
لَا حَتّى سَأَلَهُمْ جَمِيعًا فَجَعَلَ كُلّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا
: لَا فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِاَلّذِي صَارَتْ
عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلْثَيْ الدّيَةِ قَالَ فَذَكَرَ
ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَضَحِكَ حَتّى بَدَتْ
نَوَاجِذُهُ وَقَدْ أُعِلّ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَنّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ
خَيْرٍ بِإِسْقَاطِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَيَكُونُ مُرْسَلًا . قَالَ
النّسَائِيّ : وَهَذَا أَصْوَبُ . وَهَذَا أَعْجَبُ فَإِنّ إسْقَاطَ
زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَجْعَلُهُ مُرْسَلًا
فَإِنّ عَبْدَ خَيْرٍ أَدْرَكَ عَلِيّا وَسَمِعَ مِنْهُ وَعَلِيّ صَاحِبُ
الْقِصّةِ فَهَبْ أَنّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ لَا ذِكْرَ لَهُ فِي السّنَدِ
فَمِنْ أَيْنَ يَجِيءُ الْإِرْسَالُ إلّا أَنْ يُقَالَ عَبْدُ خَيْرٍ لَمْ
يُشَاهِدْ ضِحْكَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَلِيّ إذْ
ذَاكَ كَانَ بِالْيَمَنِ وَإِنّمَا شَاهَدَ ضِحْكَهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الصّحَابَةِ
وَعَبْدُ خَيْرٍ لَمْ يَذْكُرْ مَنْ شَاهَدَ ضَحِكَهُ فَصَارَ الْحَدِيثُ
بِهِ مُرْسَلًا . فَيُقَالُ إذًا : قَدْ صَحّ السّنَدُ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ مُتّصِلًا فَمَنْ رَجّحَ الِاتّصَالَ
لِكَوْنِهِ زِيَادَةً مِنْ الثّقَةِ فَظَاهِرٌ وَمَنْ رَجّحَ رِوَايَةَ
الْأَحْفَظِ وَالْأَضْبَطِ وَكَانَ التّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِهِ وَلَمْ
يَكُنْ عَلِيّ قَدْ أَخْبَرَهُ [ ص 386 ] تَكُونَ مُرْسَلَةً وَقَدْ
يَقْوَى الْحَدِيثُ بِرِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مُتّصِلًا .
[ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي حُكْمِ عَلِيّ ]
وَبَعْدُ
فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْحُكْمِ فَذَهَبَ إلَيْهِ إسْحَاقُ
بْنُ رَاهْوَيْهِ وَقَالَ هُوَ السّنّةُ فِي دَعْوَى الْوَلَدِ وَكَانَ
الشّافِعِيّ يَقُولُ بِهِ فِي الْقَدِيمِ وَأَمّا الْإِمَامُ أَحْمَدُ
فَسُئِلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَرَجّحَ عَلَيْهِ حَدِيثَ الْقَافَةِ
وَقَالَ حَدِيثُ الْقَافَةِ أَحَبّ إلَيّ . وَهَاهُنَا أَمْرَانِ
أَحَدُهُمَا : دُخُولُ الْقُرْعَةِ فِي النّسَبِ وَالثّانِي : تَغْرِيمُ
مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ ثُلْثَيْ دِيَةِ وَلَدِهِ لِصَاحِبَيْهِ .
وَأَمّا الْقُرْعَةُ فَقَدْ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ فُقْدَانِ مُرَجّحٍ
سِوَاهَا مِنْ بَيّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ قَافَةٍ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ
تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقّ بِالْقُرْعَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ إذْ هِيَ
غَايَةُ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ تَرْجِيحِ الدّعْوَى
وَلَهَا دُخُولٌ فِي دَعْوَى الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ الّتِي لَا
تَثْبُتُ بِقَرِينَةٍ وَلَا أَمَارَةٍ فَدُخُولُهَا فِي النّسَبِ الّذِي
يَثْبُتُ بِمُجَرّدِ الشّبَهِ الْخَفِيّ الْمُسْتَنِدِ إلَى قَوْلِ
الْقَائِفِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَأَمّا أَمْرُ الدّيَةِ فَمُشْكِلٌ جِدّا
فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمُوجِبِ الدّيَةِ وَإِنّمَا هُوَ تَفْوِيتُ
نَسَبِهِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ فَيُقَالُ وَطْءُ كُلّ وَاحِدٍ صَالِحٌ
لِجَعْلِ الْوَلَدِ لَهُ فَقَدْ فَوّتَهُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى
صَاحِبَيْهِ بِوَطْئِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَتَحَقّقْ مَنْ كَانَ لَهُ
الْوَلَدُ مِنْهُمْ فَلَمّا أَخْرَجَتْهُ الْقُرْعَةُ لِأَحَدِهِمْ صَارَ
مُفَوّتًا لِنَسَبِهِ عَنْ صَاحِبَيْهِ فَأُجْرِيَ ذَلِكَ مَجْرَى
إتْلَافِ الْوَلَدِ وَنَزَلَ الثّلَاثَةُ مَنْزِلَةَ أَبٍ وَاحِدٍ
فَحِصّةُ الْمُتْلِفِ مِنْهُ ثُلْثُ الدّيَةِ إذْ قَدْ عَادَ الْوَلَدُ
لَهُ فَيَغْرَمُ لِكُلّ مِنْ صَاحِبَيْهِ مَا يَخُصّهُ وَهُوَ ثُلْثُ
الدّيَةِ . وَوَجْهٌ آخَرُ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنّهُ لَمّا أَتْلَفَهُ
عَلَيْهِمَا بِوَطْئِهِ وَلُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ
قِيمَتِهِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ شَرْعًا هِيَ دِيَتُهُ فَلَزِمَهُ لَهُمَا
ثُلْثَا قِيمَتِهِ وَهِيَ ثُلْثَا الدّيَةِ وَصَارَ هَذَا كَمَنَ أَتْلَفَ
عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكَيْنِ لَهُ فَإِنّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ
ثُلْثَا الْقِيمَةِ لِشَرِيكَيْهِ فَإِتْلَافُ الْوَلَدِ الْحُرّ
عَلَيْهِمَا بِحُكْمِ الْقُرْعَةِ كَإِتْلَافِ الرّقِيقِ الّذِي
بَيْنَهُمْ . [ ص 387 ] قِيمَةَ أَوْلَادِهِ لِسَيّدِ الْأَمَةِ لَمّا
فَاتَ رِقّهُمْ عَلَى السّيّدِ لِحُرّيّتِهِمْ وَكَانُوا بِصَدَدِ أَنْ
يَكُونُوا أَرِقّاءَ وَهَذَا أَلْطَفُ مَا يَكُونُ مِنْ الْقِيَاسِ
وَأَدَقّهُ وَأَنْتَ إذَا تَأَمّلْتَ كَثِيرًا مِنْ أَقْيِسَةِ
الْفُقَهَاءِ وَتَشْبِيهَاتِهِمْ وَجَدْت هَذَا أَقْوَى مِنْهَا
وَأَلْطَفَ مَسْلَكًا وَأَدَقّ مَأْخَذًا وَلَمْ يَضْحَكْ مِنْهُ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُدًى . وَقَدْ يُقَالُ لَا تَعَارُضَ
بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ حَدِيثِ الْقَافَةِ بَلْ إنْ وُجِدَتْ الْقَافَةُ
تَعَيّنَ الْعَمَلُ بِهَا وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قَافَةٌ أَوْ أَشْكَلَ
عَلَيْهِمْ تَعَيّنُ الْعَمَلِ بِهَذَا الطّرِيقِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ ذِكْرُ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي الْوَلَدِ مَنْ أَحَقّ بِهِ فِي الْحَضَانَةِ
رَوَى
أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدّه ِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنّ
امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ
ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءٌ وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءٌ
وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءٌ وَإِنّ أَبَاهُ طَلّقَنِي فَأَرَادَ أَنْ
يَنْتَزِعَهُ مِنّي فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ " أَنْتِ أَحَقّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي . وَفِي "
الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنّ ابْنَةَ
حَمْزَةَ اخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدٌ . فَقَالَ عَلِيّ
أَنَا أَحَقّ بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمّي وَقَالَ جَعْفَرٌ ابْنَةُ عَمّي
وَخَالَتُهَا تَحْتِيّ وَقَالَ زَيْدٌ ابْنَةُ أَخِي فَقَضَى بِهَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَالَتِهَا وَقَالَ
الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمّ . [ ص 388 ] أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيّرَ
غُلَامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمّهِ . قَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى أَهْلُ السّنَنِ أَيْضًا : عَنْهُ أَنّ امْرَأَةً جَاءَتْ
فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِابْنِي
وَقَدْ سَقَانِي مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ وَقَدْ نَفَعَنِي فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اسْتَهِمَا عَلَيْهِ "
فَقَالَ زَوْجُهَا مَنْ يُحَاقّنِي فِي وَلَدِي ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " هَذَا أَبُوكَ وَهَذِهِ أُمّكَ وَخُذْ
بِيَدِ أَيّهِمَا شِئْتَ " فَأَخَذَ بِيَدِ أُمّهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ .
قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِي " سُنَنِ
النّسَائِيّ " : عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ سَلَمَةَ الْأَنْصَارِيّ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنّ جَدّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ
تُسْلِمَ فَجَاءَ بِابْنِ لَهُ صَغِيرٍ لَمْ يَبْلُغْ قَالَ فَأَجْلَسَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَبَ هَاهُنَا وَالْأُمّ
هَاهُنَا ثُمّ خَيّرَهُ وَقَالَ " اللّهُمّ اهْدِهِ " فَذَهَبَ إلَى
أَبِيهِ . [ ص 389 ] أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ وَقَالَ أَخْبَرَنِي جَدّي
رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ أَنّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ
فَأَتَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ ابْنَتِي
وَهِيَ فَطِيمٌ أَوْ شِبْهَهُ وَقَالَ رَافِعٌ ابْنَتِي فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اُقْعُدْ نَاحِيَةً "
وَقَالَ لَهَا : " اُقْعُدِي نَاحِيَةً " فَأَقْعَدَ الصّبِيّةَ
بَيْنَهُمَا ثُمّ قَالَ " اُدْعُوَاهَا " فَمَالَتْ إلَى أُمّهَا فَقَالَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اللّهُمّ اهْدِهَا " فَمَالَتْ
إلَى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا .
فَصْلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ
[ سُقُوطُ الْحَضَانَةِ بِالتّزْوِيجِ ]
أَمّا
الْحَدِيثُ الْأَوّلُ فَهُوَ حَدِيثٌ احْتَاجَ النّاسُ فِيهِ إلَى عَمْرِو
بْنِ شُعَيْبٍ وَلَمْ يَجِدُوا بُدّا مِنْ الِاحْتِجَاجِ هُنَا بِهِ
وَمَدَارُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَدِيثٌ فِي سُقُوطِ الْحَضَانَةِ بِالتّزْوِيجِ غَيْرَ
هَذَا وَقَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ
وَقَدْ صَرّحَ بِأَنّ الْجِدّ هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو فَبَطَلَ
قَوْلُ مَنْ يَقُولُ لَعَلّهُ مُحَمّدٌ وَالِدُ شُعَيْبٍ فَيَكُونُ
الْحَدِيثُ مُرْسَلًا . وَقَدْ صَحّ سَمَاعُ شُعَيْبٍ مِنْ جَدّهِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عَمْرٍو فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّهُ مُنْقَطِعٌ وَقَدْ
احْتَجّ بِهِ الْبُخَارِيّ خَارِجَ صَحِيحِهِ وَنَصّ عَلَى صِحّةِ
حَدِيثِهِ وَقَالَ كَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ الْحُمَيْدِيّ
وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَعَلِيّ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَحْتَجّونَ
بِحَدِيثِهِ فَمَنْ النّاسُ بَعْدَهُمْ ؟ هَذَا لَفْظُهُ . وَقَالَ
إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : هُوَ عِنْدَنَا كَأَيّوبِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ . وَحَكَى الْحَاكِمُ فِي " عُلُومِ الْحَدِيثِ " لَهُ
الِاتّفَاقَ عَلَى صِحّةِ حَدِيثِهِ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ : لَا
يُخْتَلَفُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ أَنّهَا صَحِيحَةٌ . وَقَوْلُهَا : "
كَانَ بَطْنِي وِعَاءً " إلَى آخِرِهِ إدْلَاءٌ مِنْهَا وَتَوَسّلٌ إلَى
اخْتِصَاصِهَا بِهِ كَمَا اخْتَصّ بِهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ
الثّلَاثَةِ وَالْأَبُ لَمْ يُشَارِكْهَا فِي ذَلِكَ فَنَبّهَتْ [ ص 390 ]
وَالْمُخَاصَمَةِ .
[ اعْتِبَارُ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ وَتَأْثِيرُهَا فِي الْأَحْكَامِ ]
وَفِي
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعَانِي وَالْعِلَلِ وَتَأْثِيرِهَا
فِي الْأَحْكَامِ وَإِنَاطَتِهَا بِهَا وَأَنّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَقِرّ
فِي الْفِطَرِ السّلِيمَةِ حَتّى فِطَرِ النّسَاءِ وَهَذَا الْوَصْفُ
الّذِي أَدْلَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ وَجَعَلَتْهُ سَبَبًا لِتَعْلِيقِ
الْحُكْمِ بِهِ قَدْ قَرّرَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَرَتّبَ عَلَيْهِ أَثَرَهُ وَلَوْ كَانَ بَاطِلًا أَلْغَاهُ بَلْ
تَرْتِيبُهُ الْحُكْمَ عُقَيْبَهُ دَلِيلٌ عَلَى تَأْثِيرِهِ فِيهِ
وَأَنّهُ سَبَبُهُ .
[ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ ]
وَاسْتُدِلّ
بِالْحَدِيثِ عَلَى الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ فَإِنّ الْأَبَ لَمْ
يُذْكَرْ لَهُ حُضُورٌ وَلَا مُخَاصَمَةٌ وَلَا دِلَالَةٌ فِيهِ لِأَنّهَا
وَاقِعَةُ عَيْنٍ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ حَاضِرًا فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ
غَائِبًا فَالْمَرْأَةُ إنّمَا جَاءَتْ مُسْتَفْتِيَةً أَفْتَاهَا
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمُقْتَضَى مَسْأَلَتِهَا
وَإِلّا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا عَلَى الزّوْجِ إنّهُ طَلّقَهَا حَتّى
يُحْكَمَ لَهَا بِالْوَلَدِ بِمُجَرّدِ قَوْلِهَا .
فَصْلٌ [ الْأُمّ أَحَقّ بِالْوَلَدِ مِنْ الْأَبِ ]
وَدَلّ
الْحَدِيثُ عَلَى أَنّهُ إذَا افْتَرَقَ الْأَبَوَانِ وَبَيْنَهُمَا
وَلَدٌ فَالْأُمّ أَحَقّ بِهِ مِنْ الْأَبِ مَا لَمْ يَقُمْ بِالْأُمّ مَا
يَمْنَعُ تَقْدِيمَهَا أَوْ بِالْوَلَدِ وَصْفٌ يَقْتَضِي تَخْيِيرَهُ
وَهَذَا مَا لَا يُعْرَفُ فِيهِ نِزَاعٌ وَقَدْ قَضَى بِهِ خَلِيفَةُ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ
بْنِ الْخَطّابِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ . فَلَمّا وَلِيَ
عُمَرُ قَضَى بِمِثْلِهِ فَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطّأِ " : عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنّهُ قَالَ سَمِعْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمّدٍ
يَقُولُ كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَوَلَدَتْ لَهُ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ ثُمّ
إنّ عُمَر َ فَارَقَهَا فَجَاءَ عُمَرُ قُبَاءَ فَوَجَدَ ابْنَهُ عَاصِمًا
يَلْعَبُ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَأَخَذَ بِعَضُدِهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ عَلَى الدّابّةِ فَأَدْرَكَتْهُ جَدّةُ الْغُلَامِ فَنَازَعَتْهُ
إيّاهُ حَتّى أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ الصّدِيق ِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
فَقَالَ عُمَرُ : ابْنِي . وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ ابْنِي فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ خَلّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَمَا رَاجَعَهُ
عُمَرُ الْكَلَامَ [ ص 391 ] قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ : هَذَا خَبَرٌ
مَشْهُورٌ مِنْ وُجُوهٍ مُنْقَطِعَةٍ وَمُتّصِلَةٍ تَلَقّاهُ أَهْلُ
الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ وَزَوْجَةُ عُمَرَ أُمّ ابْنِهِ
عَاصِمٍ هِيَ جَمِيلَةُ ابْنَةُ عَاصِمِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ أَبِي
الْأَقْلَحِ الْأَنْصَارِيّ . قَالَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ عُمَرَ
كَانَ مَذْهَبُهُ فِي ذَلِكَ خِلَافَ أَبِي بَكْرٍ وَلَكِنّهُ سَلّمَ
لِلْقَضَاءِ مِمّنْ لَهُ الْحُكْمُ وَالْإِمْضَاءُ ثُمّ كَانَ بَعْدُ فِي
خِلَافَتِهِ يَقْضِي بِهِ وَيُفْتِي وَلَمْ يُخَالِفْ أَبَا بَكْرٍ فِي
شَيْءٍ مِنْهُ مَا دَامَ الصّبِيّ صَغِيرًا لَا يُمَيّزُ وَلَا مُخَالِفَ
لَهُمَا مِنْ الصّحَابَةِ . وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ
جُرَيْجٍ أَنّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ عَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ قَالَ طَلّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ امْرَأَتَهُ
الْأَنْصَارِيّةَ أُمّ ابْنِهِ عَاصِمٍ فَلَقِيَهَا تَحْمِلُهُ بِمُحَسّرِ
وَقَدْ فُطِمَ وَمَشَى فَأَخَذَ بِيَدِهِ لِيَنْتَزِعَهُ مِنْهَا
وَنَازَعَهَا إيّاهُ حَتّى أَوْجَعَ الْغُلَامَ وَبَكَى وَقَالَ أَنَا
أَحَقّ بِابْنِي مِنْك فَاخْتَصَمَا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَضَى لَهَا بِهِ
وَقَالَ رِيحُهَا وَفِرَاشُهَا وَحِجْرُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْك حَتّى
يَشُبّ وَيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ وَمُحَسّرٌ : سُوقٌ بَيْنَ قُبَاءَ
وَالْمَدِينَةِ . وَذُكِرَ عَنْ الثّوْرِيّ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ
قَالَ خَاصَمَتْ امْرَأَةُ عُمَرَ عُمَرَ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُنّ وَكَانَ طَلّقَهَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
الْأُمّ أَعْطَفُ وَأَلْطَفُ وَأَرْحَمُ وَأَحْنَى وَأَرْأَفُ هِيَ أَحَقّ
بِوَلَدِهَا مَا لَمْ تَتَزَوّجْ . الْأُمّ أَعْطَفُ وَأَلْطَفُ
وَأَرْحَمُ وَأَحْنَى وَأَرْأَفُ هِيَ أَحَقّ بِوَلَدِهَا مَا لَمْ
تَتَزَوّجْ وَذُكِرَ عَنْ مُعَمّرٍ قَالَ سَمِعْتُ الزّهْرِيّ يَقُولُ إنّ
أَبَا بَكْرٍ قَضَى عَلَى عُمَرَ فِي ابْنِهِ مَعَ أُمّهِ وَقَالَ أَمّهُ
أَحَقّ بِهِ مَا لَمْ تَتَزَوّجْ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ
الرّوَايَةُ هَلْ كَانَتْ الْمُنَازَعَةُ وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْأُمّ [ ص 392 ] وَاحِدَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ إحْدَاهُمَا . قِيلَ
الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ لِأَنّهَا إنْ كَانَتْ مِنْ الْأُمّ
فَوَاضِحٌ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْجَدّةِ فَقَضَاءُ الصّدّيقِ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ لَهَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْأُمّ أَوْلَى .
فَصْلٌ [ يُقَدّمُ الْأَبُ فِي وِلَايَةِ الْمَالِ وَالنّكَاحِ وَتُقَدّمُ الْأُمّ فِي وِلَايَةِ الْحَضَانَةِ وَالرّضَاعِ ]
وَالْوِلَايَةُ
عَلَى الطّفْلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يُقَدّمُ فِيهِ الْأَبُ عَلَى الْأُمّ
وَمَنْ فِي جِهَتِهَا وَهِيَ وِلَايَةُ الْمَالِ وَالنّكَاحِ وَنَوْعٌ
تُقَدّمُ فِيهِ الْأُمّ عَلَى الْأَبِ وَهِيَ وِلَايَةُ الْحَضَانَةِ
وَالرّضَاعِ وَقُدّمَ كُلّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ فِيمَا جُعِلَ لَهُ مِنْ
ذَلِكَ لِتَمَامِ مَصْلَحَةِ الْوَلَدِ وَتُوقَفُ مَصْلَحَتُهُ عَلَى مَنْ
يَلِي ذَلِكَ مِنْ أَبَوَيْهِ وَتَحْصُلُ بِهِ كِفَايَتُهُ . وَلَمّا
كَانَ النّسَاءُ أَعْرَفَ بِالتّرْبِيَةِ وَأَقْدَرَ عَلَيْهَا وَأَصْبَرَ
وَأَرْأَفَ وَأَفْرَغَ لَهَا لِذَلِكَ قُدّمَتْ الْأُمّ فِيهَا عَلَى
الْأَبِ . وَلَمّا كَانَ الرّجَالُ أَقْوَمَ بِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ
الْوَلَدِ وَالِاحْتِيَاطِ لَهُ فِي الْبُضْعِ قُدّمَ الْأَبُ فِيهَا
عَلَى الْأُمّ فَتَقْدِيمُ الْأُمّ فِي الْحَضَانَةِ مِنْ مَحَاسِنِ
الشّرِيعَةِ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْأَطْفَالِ وَالنّظَرُ لَهُمْ وَتَقْدِيمُ
الْأَبِ فِي وِلَايَةِ الْمَالِ وَالتّزْوِيجِ كَذَلِكَ .
[ هَلْ يُقَدّمُ أَقَارِبُ الْأُمّ عَلَى أَقَارِبِ الْأَبِ فِي الْحَضَانَةِ ؟ ]
إذَا
عُرِفَ هَذَا فَهَلْ قُدّمَتْ الْأُمّ لِكَوْنِ جِهَتِهَا مُقَدّمَةً
عَلَى جِهَةِ الْأُبُوّةِ فِي الْحَضَانَةِ فَقُدّمَتْ لِأَجْلِ
الْأُمُومَةِ أَوْ قُدّمَتْ عَلَى الْأَبِ لِكَوْنِ النّسَاءِ أَقْوَمَ
بِمَقَاصِدِ الْحَضَانَةِ وَالتّرْبِيَةِ مِنْ الذّكُورِ فَيَكُونُ
تَقْدِيمُهَا لِأَجْلِ الْأُنُوثَةِ ؟ فَفِي هَذَا لِلنّاسِ قَوْلَانِ
وَهُمَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ يَظْهَرُ أَثَرُهُمَا فِي تَقْدِيمِ
نِسَاءِ الْعَصَبَةِ عَلَى أَقَارِبِ الْأُمّ أَوْ بِالْعَكْسِ كَأُمّ
الْأُمّ وَأُمّ الْأَبِ وَالْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُخْتِ مِنْ
الْأُمّ وَالْخَالَةِ وَالْعَمّةِ وَخَالَةِ الْأُمّ وَخَالَةِ الْأَبِ
وَمَنْ يُدْلِي مِنْ الْخَالَاتِ وَالْعَمّاتِ بِأُمّ وَمَنْ يُدْلِي
مِنْهُنّ بِأَبٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .
إحْدَاهُمَا تَقْدِيمُ أَقَارِبِ الْأُمّ عَلَى أَقَارِبِ الْأَبِ .
وَالثّانِيَةُ وَهِيَ أَصَحّ دَلِيلًا وَاخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ
ابْنِ تَيْمِيّةَ : تَقْدِيمُ أَقَارِبِ الْأَبِ وَهَذَا هُوَ الّذِي
ذَكَرَهُ الْخِرَقِيّ فِي " مُخْتَصَرِهِ " فَقَالَ وَالْأُخْتُ مِنْ
الْأَبِ أَحَقّ مِنْ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمّ وَأَحَقّ مِنْ الْخَالَةِ [ ص
393 ] وَخَالَةُ الْأَبِ أَحَقّ مِنْ خَالَةِ الْأُمّ وَعَلَى هَذَا
فَأُمّ الْأَبِ مُقَدّمَةٌ عَلَى أُمّ الْأُمّ كَمَا نَصّ عَلَيْهِ
أَحْمَدُ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ .
[ هَلْ لِأَقَارِبِ الْأُمّ مِنْ الرّجَالِ مَدْخَلٌ فِي الْحَضَانَةِ ]
وَعَلَى
هَذِهِ الرّوَايَةِ فَأَقَارِبُ الْأَبِ مِنْ الرّجَالِ مُقَدّمُونَ عَلَى
أَقَارِبِ الْأُمّ وَالْأَخُ لِلْأَبِ أَحَقّ مِنْ الْأَخِ لِلْأُمّ
وَالْعَمّ أَوْلَى مِنْ الْخَالِ هَذَا إنْ قُلْنَا : إنّ لِأَقَارِبِ
الْأُمّ مِنْ الرّجَالِ مَدْخَلًا فِي الْحَضَانَةِ وَفِي ذَلِكَ
وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ
لَا حَضَانَةَ إلّا لِرَجُلِ مِنْ الْعَصَبَةِ مَحْرَمٌ أَوْ لِامْرَأَةِ
وَارِثَةٍ أَوْ مُدْلِيَةٍ بِعَصَبَةِ أَوْ وَارِثٍ .
[ التّدْلِيلُ عَلَى تَقْدِيمِ جِهَةِ الْأُبُوّةِ فِي الْحَضَانَةِ ]
وَالثّانِي
: أَنّ لَهُمْ الْحَضَانَةَ وَالتّفْرِيعُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى رُجْحَانِ جِهَةِ
الْأُبُوّةِ عَلَى جِهَةِ الْأُمُومَةِ فِي الْحَضَانَةِ وَأَنّ الْأُمّ
إنّمَا قُدّمَتْ لِكَوْنِهَا أُنْثَى لَا لِتَقْدِيمِ جِهَتِهَا إذْ لَوْ
كَانَ جِهَتُهَا رَاجِحَةً لَتَرَجّحَ رِجَالُهَا وَنِسَاؤُهَا عَلَى
الرّجَالِ وَالنّسَاءِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَلَمّا لَمْ يَتَرَجّحْ
رِجَالُهَا اتّفَاقًا فَكَذَلِكَ النّسَاءُ وَمَا الْفَرْقُ الْمُؤَثّرُ ؟
وَأَيْضًا فَإِنّ أُصُولَ الشّرْعِ وَقَوَاعِدَهُ شَاهِدَةٌ بِتَقْدِيمِ
أَقَارِبِ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ وَوِلَايَةِ النّكَاحِ وَوِلَايَةِ
الْمَوْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُعْهَدْ فِي الشّرْعِ تَقْدِيمُ
قَرَابَةِ الْأُمّ عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ
فَمَنْ قَدّمَهَا فِي الْحَضَانَةِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ الدّلِيلِ .
[ عِلّةُ تَقْدِيمِ الْأُمّ فِي الْحَضَانَةِ ]
فَالصّوَابُ
فِي الْمَأْخَذِ هُوَ أَنّ الْأُمّ إنّمَا قُدّمَتْ لِأَنّ النّسَاءَ
أَرْفَقُ بِالطّفْلِ وَأَخْبَرُ بِتَرْبِيَتِهِ وَأَصْبَرُ عَلَى ذَلِكَ
وَعَلَى هَذَا فَالْجَدّةُ أُمّ الْأَبِ أَوْلَى مِنْ أُمّ الْأُمّ
وَالْأُخْتُ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِلْأُمّ وَالْعَمّةُ
أَوْلَى مِنْ الْخَالَةِ كَمَا نَصّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي إحْدَى
الرّوَايَتَيْنِ وَعَلَى هَذَا فَتُقَدّمُ أُمّ الْأَبِ عَلَى أَب الْأَبِ
كَمَا تُقَدّمُ الْأُمّ عَلَى الْأَبِ .
[ تَقْدِيم الْأُنْثَى عَلَى
الذّكَرِ حِينَ اتّفَاقِ الْقَرَابَةِ وَالدّرَجَةِ وَتَقْدِيمُ جِهَةِ
الْأَبِ حِينَ اتّفَاقِ الدّرَجَةِ وَاخْتِلَافِ الْقَرَابَةِ ]
وَإِذَا
تَقَرّرَ هَذَا الْأَصْلُ فَهُوَ أَصْلٌ مُطّرِدٌ مُنْضَبِطٌ لَا
تَتَنَاقَضُ فُرُوعُهُ بَلْ إنْ اتّفَقَتْ الْقَرَابَةُ وَالدّرَجَةُ
وَاحِدَةٌ قُدّمَتْ الْأُنْثَى عَلَى الذّكَرِ فَتُقَدّمُ الْأُخْتُ عَلَى
الْأَخِ [ ص 394 ] وَالْخَالَةُ عَلَى الْخَالِ وَالْجَدّةُ عَلَى الْجَدّ
وَأَصْلُهُ تَقْدِيمُ الْأُمّ عَلَى الْأَبِ . وَإِنْ اخْتَلَفَتْ
الْقَرَابَةُ قُدّمَتْ قَرَابَةُ الْأَبِ عَلَى قَرَابَةِ الْأُمّ
فَتُقَدّمُ الْأُخْتُ لِلْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأُمّ وَالْعَمّةُ
عَلَى الْخَالَةِ وَعَمّةُ الْأَبِ عَلَى خَالَتِهِ وَهَلُمّ جَرّا .
وَهَذَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الصّحِيحُ وَالْقِيَاسُ الْمُطّرِدُ وَهَذَا
هُوَ الّذِي قَضَى بِهِ سَيّدُ قُضَاةِ الْإِسْلَامِ شُرَيْحٌ كَمَا رَوَى
وَكِيعٌ فِي " مُصَنّفِهِ " عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْحَارِثِ قَالَ اخْتَصَمَ عَمّ وَخَالٌ إلَى شُرَيْحٍ فِي طِفْلٍ
فَقَضَى بِهِ لِلْعَمّ فَقَالَ الْخَالُ أَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ
مَالِي فَدَفَعَهُ إلَيْهِ شُرَيْحٌ .
[ بَيَانُ تَنَاقُضِ مَنْ قَدّمَ أُمّ أُمّ عَلَى أُمّ الْأَبِ
ثُمّ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَقْدِيمِ الْأُخْتِ لِلْأُمّ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْخَالَةِ عَلَى الْعَمّةِ ]
وَمَنْ
سَلَكَ غَيْرَ هَذَا الْمَسْلَكِ لَمْ يَجِدْ بُدّا مِنْ التّنَاقُضِ
مِثَالُهُ أَنّ الثّلَاثَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ
يُقَدّمُونَ أُمّ الْأُمّ عَلَى أُمّ الْأَبِ ثُمّ قَالَ الشّافِعِيّ فِي
ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ وَأَحْمَدُ فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ تُقَدّمُ
الْأُخْتُ لِلْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأُمّ فَتَرَكُوا الْقِيَاسَ
وَطَرَدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيّ وَابْنُ سُرَيْجٍ فَقَالُوا :
تُقَدّمُ الْأُخْتُ لِلْأُمّ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ . قَالُوا :
لِأَنّهَا تُدْلِي بِالْأُمّ وَالْأُخْتُ لِلْأَبِ بِالْأَبِ فَلَمّا
قُدّمَتْ الْأُمّ عَلَى الْأَبِ قُدّمَ مَنْ يُدْلِي بِهَا عَلَى مَنْ
يُدْلِي بِهِ وَلَكِنّ هَذَا أَشَدّ تَنَاقُضًا مِنْ الْأَوّلِ لِأَنّ
أَصْحَابَ الْقَوْلِ الْأَوّلِ جَرَوْا عَلَى الْقِيَاسِ وَالْأُصُولِ فِي
تَقْدِيمِ قَرَابَةِ الْأَبِ عَلَى قَرَابَةِ الْأُمّ وَخَالَفُوا ذَلِكَ
فِي أُمّ الْأُمّ وَأُمّ الْأَبِ وَهَؤُلَاءِ تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ وَقَدّمُوا الْقَرَابَةَ الّتِي أَخّرَهَا الشّرْعُ
وَأَخّرُوا الْقَرَابَةَ الّتِي قَدّمَهَا وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ
تَقْدِيمُهَا فِي كُلّ مَوْضِعٍ فَقَدّمُوهَا فِي مَوْضِعٍ وَأَخّرُوهَا
فِي غَيْرِهِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا وَمِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الشّافِعِيّ فِي
الْجَدِيدِ الْخَالَةَ عَلَى الْعَمّةِ مَعَ تَقْدِيمِهِ الْأُخْتَ
لِلْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأُمّ وَطُرِدَ قِيَاسُهُ فِي تَقْدِيمِ أُمّ
الْأُمّ عَلَى أُمّ الْأَبِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْأُخْتِ لِلْأُمّ
وَالْخَالَةِ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْعَمّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ
قَدّمَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ الْخَالَةَ عَلَى الْعَمّةِ وَقَدّمَ
الْأُخْتَ لِلْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأُمّ كَقَوْلِ الْقَاضِي
وَأَصْحَابهُ وَصَاحِبِ " الْمُغْنِي " : فَقَدْ تَنَاقَضُوا .
[ عِلّةُ تَقْدِيمِ الْعَمّةِ عَلَى الْخَالَةِ ]
[
ص 395 ] قِيلَ الْخَالَةُ تُدْلِي بِالْأُمّ وَالْعَمّةُ تُدْلِي
بِالْأَبِ فَكَمَا قُدّمَتْ الْأُمّ عَلَى الْأَب قُدّمَ مَنْ يُدْلِي
بِهَا وَيَزِيدُهُ بَيَانًا كَوْنُ الْخَالَةِ أُمّا كَمَا قَالَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَالْعَمّةُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ . قِيلَ
قَدْ بَيّنّا أَنّهُ لَمْ يُقَدّمْ الْأُمّ عَلَى الْأَبِ لِقُوّةِ
الْأُمُومَةِ وَتَقْدِيمِ هَذِهِ الْجِهَةِ بَلْ لِكَوْنِهَا أُنْثَى
فَإِذَا وُجِدَ عَمّةٌ وَخَالَةٌ فَالْمَعْنَى الّذِي قُدّمَتْ لَهُ
الْأُمّ مَوْجُودٌ فِيهِمَا وَامْتَازَتْ الْعَمّةُ بِأَنّهَا تُدْلِي
بِأَقْوَى الْقَرَابَتَيْنِ وَهِيَ قُرَابَةُ الْأَبِ وَالنّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى بِابْنَةِ حَمْزَةَ لِخَالَتِهَا وَقَالَ
الْخَالَةُ أُمّ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مُزَاحِمٌ مِنْ أَقَارِبِ
الْأَبِ تُسَاوِيهَا فِي دَرَجَتِهَا .
[ صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَقَتْلُهَا رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ ]
فَإِنْ
قِيلَ فَقَدْ كَانَ لَهَا عَمّةٌ وَهِيَ صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ أُخْتُ حَمْزَةَ وَكَانَتْ إذْ ذَاكَ مَوْجُودَةً فِي
الْمَدِينَةِ فَإِنّهَا هَاجَرَتْ وَشَهِدَتْ الْخَنْدَقَ وَقَتَلَتْ
رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ كَانَ يُطِيفُ بِالْحِصْنِ الّذِي هِيَ فِيهِ
وَهِيَ أَوّلُ امْرَأَةٍ قَتَلَتْ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَبَقِيَتْ
إلَى خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَدّمَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخَالَةَ عَلَيْهَا وَهَذَا يَدُلّ عَلَى
تَقْدِيمِ مَنْ فِي جِهَةِ الْأُمّ عَلَى مَنْ فِي جِهَةِ الْأَبِ . قِيلَ
إنّمَا يَدُلّ هَذَا إذَا كَانَتْ صَفِيّةُ قَدْ نَازَعَتْ مَعَهُمْ
وَطَلَبَتْ الْحَضَانَةَ فَلَمْ يَقْضِ لَهَا بِهَا بَعْدَ طَلَبِهَا
وَقَدّمَ عَلَيْهَا الْخَالَةَ هَذَا إذَا كَانَتْ لَمْ تُمْنَعْ مِنْهَا
لِعَجْزِهَا عَنْهَا فَإِنّهَا تُوُفّيَتْ سَنَةَ عِشْرِينَ عَنْ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً فَيَكُونُ لَهَا وَقْتَ هَذِهِ الْحُكُومَةِ بِضْعٌ
وَخَمْسُونَ سَنَةً فَيُحْتَمَلُ أَنّهَا تَرَكَتْهَا لِعَجْزِهَا عَنْهَا
وَلَمْ تَطْلُبْهَا مَعَ قُدْرَتِهَا وَالْحَضَانَةُ حَقّ لِلْمَرْأَةِ
فَإِذَا تَرَكَتْهَا انْتَقَلَتْ إلَى غَيْرِهَا . وَبِالْجُمْلَةِ
فَإِنّمَا يَدُلّ الْحَدِيثُ عَلَى تَقْدِيمِ الْخَالَةِ عَلَى الْعَمّةِ
إذَا ثَبَتَ أَنّ صَفِيّةَ خَاصَمَتْ فِي ابْنَةِ أَخِيهَا وَطَلَبَتْ
كَفَالَتَهَا فَقَدّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْخَالَةَ وَهَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ .
فَصْلٌ [ تَنَاقُضُ مَنْ قَدّمَ أُمّ أُمّ ثُمّ الْخَالَةَ عَلَى الْأَبِ وَأُمّ الْأَبِ ]
[ تَنَاقُضُ الرّوَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ فِي تَقْدِيمِ الْأُخْتِ عَنْ الْأُمّ ]
[
ص 396 ] مَالِكًا لَمّا قَدّمَ أُمّ الْأُمّ عَلَى أُمّ الْأَبِ قَدّمَ
الْخَالَةَ بَعْدَهَا عَلَى الْأَبِ وَأُمّهِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي
تَقْدِيمِ خَالَةِ الْخَالَةِ عَلَى هَؤُلَاءِ عَلَى وَجْهَيْنِ فَأَحَدُ
الْوَجْهَيْنِ تَقْدِيمُ خَالَةِ الْخَالَةِ عَلَى الْأَبِ نَفْسِهِ
وَعَلَى أُمّهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَكَيْفَ تُقَدّمُ
قَرَابَةُ الْأُمّ وَإِنْ بَعُدَتْ عَلَى الْأَبِ نَفْسِهِ وَعَلَى
قَرَابَتِهِ مَعَ أَنّ الْأَبَ وَأَقَارِبَهُ أَشْفَقُ عَلَى الطّفْلِ
وَأَرْعَى لِمَصْلَحَتِهِ مِنْ قَرَابَةِ الْأُمّ ؟ فَإِنّهُ لَيْسَ
إلَيْهِمْ بِحَالِ وَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِمْ بَلْ هُوَ أَجْنَبِيّ
مِنْهُمْ وَإِنّمَا نَسَبُهُ وَوَلَاؤُهُ إلَى أَقَارِبِ أَبِيهِ وَهُمْ
أَوْلَى بِهِ يَعْقِلُونَ عَنْهُ وَيُنْفِقُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ وَيَتَوَارَثُونَ بِالتّعْصِيبِ وَإِنْ بَعُدَتْ
الْقَرَابَةُ بَيْنَهُمْ بِخِلَافِ قَرَابَةِ الْأُمّ فَإِنّهُ لَا
يَثْبُتُ فِيهَا ذَلِكَ وَلَا تَوَارُثَ فِيهَا إلّا فِي أُمّهَاتِهَا
وَأَوّلُ دَرَجَةٍ مِنْ فُرُوعِهَا وَهُمْ وَلَدُهَا فَكَيْفَ تُقَدّمُ
هَذِهِ الْقَرَابَةُ عَلَى الْأَبِ وَمَنْ فِي جِهَتِهِ وَلَا سِيّمَا
إذَا قِيلَ بِتَقْدِيمِ خَالَةِ الْخَالَةِ عَلَى الْأَبِ نَفْسِهِ
وَعَلَى أُمّهِ فَهَذَا الْقَوْلُ مِمّا تَأْبَاهُ أُصُولُ الشّرِيعَةِ
وَقَوَاعِدُهَا وَهَذَا نَظِيرُ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ فِي
تَقْدِيمِ الْأُخْتِ عَلَى الْأُمّ وَالْخَالَةِ عَلَى الْأَبِ وَهَذَا
أَيْضًا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَمُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ . وَحُجّةُ هَذَا
الْقَوْلِ أَنّ كِلْتَيْهِمَا تُدْلِيَانِ بِالْأُمّ الْمُقَدّمَةِ عَلَى
الْأَبِ فَتُقَدّمَانِ عَلَيْهِ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحِ فَإِنّ الْأُمّ
لَمّا سَاوَتْ الْأَبَ فِي الدّرَجَةِ وَامْتَازَتْ عَلَيْهِ بِكَوْنِهَا
أَقْوَمَ بِالْحَضَانَةِ وَأَقْدَرَ عَلَيْهَا وَأَصْبَرَ قُدّمَتْ
عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأُخْتُ مِنْ الْأُمّ وَالْخَالَةُ مَعَ
الْأَبِ فَإِنّهُمَا لَا يُسَاوِيَانِهِ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَقْرَبَ إلَى
وَلَدِهِ مِنْهُ فَكَيْفَ تُقَدّمُ عَلَيْهِ بِنْتُ امْرَأَتِهِ أَوْ
أُخْتُهَا ؟ وَهَلْ جَعَلَ اللّهُ الشّفَقَةَ فِيهِمَا أَكْمَلَ مِنْهُ ؟
[ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ فِي فَهْمِ نَصّهِ السّابِقِ ]
ثُمّ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي فَهْمِ نَصّهِ هَذَا عَلَى
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : إنّمَا قَدّمَهَا عَلَى الْأَبِ
لِأُنُوثَتِهَا فَعَلَى هَذَا تُقَدّمُ نِسَاءُ الْحَضَانَةِ عَلَى كُلّ
رَجُلٍ فَتُقَدّمُ خَالَةُ الْخَالَةِ وَإِنْ عَلَتْ وَبِنْتُ الْأُخْتِ
عَلَى الْأَبِ . الثّانِي : أَنّ الْخَالَةَ وَالْأُخْتَ لِلْأُمّ لَمْ
تُدْلِيَا بِالْأَبِ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ [ ص 397 ] نِسَاءُ
الْحَضَانَةِ عَلَى كُلّ رَجُلٍ إلّا عَلَى مَنْ أَدْلَيْنَ بِهِ فَلَا
تُقَدّمْنَ عَلَيْهِ لِأَنّهُنّ فَرْعُهُ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا
تُقَدّمُ أُمّ الْأَبِ عَلَى الْأَبُ وَلَا الْأُخْتُ وَالْعَمّةُ
عَلَيْهِ وَتُقَدّمُ عَلَيْهِ أُمّ الْأُمّ وَالْخَالَةُ وَالْأُخْتُ
لِلْأُمّ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ جِدّا إذْ يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيمَ
قَرَابَةِ الْأُمّ الْبَعِيدَةِ عَلَى الْأَبِ وَأُمّهِ وَمَعْلُومٌ أَنّ
الْأَبَ إذَا قُدّمَ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ فَتَقْدِيمُهُ عَلَى
الْأُخْتِ لِلْأُمّ أَوْلَى لِأَنّ الْأُخْتَ لِلْأَبِ مُقَدّمَةٌ
عَلَيْهَا فَكَيْفَ تُقَدّمُ عَلَى الْأَبِ نَفْسِهِ ؟ هَذَا تَنَاقُضٌ
بَيّنٌ . الثّالِثُ تَقْدِيمُ نِسَاءِ الْأُمّ عَلَى الْأَبِ
وَأُمّهَاتِهِ وَسَائِرِ مَنْ فِي جِهَتِهِ قَالُوا : فَعَلَى هَذَا
فَكُلّ امْرَأَةٍ فِي دَرَجَةِ رَجُلٍ تُقَدّمُ عَلَيْهِ وَيُقَدّمُ مَنْ
أَدْلَى بِهَا عَلَى مَنْ أَدْلَى بِالرّجُلِ فَلَمّا قُدّمَتْ الْأُمّ
عَلَى الْأَبِ وَهِيَ فِي دَرَجَتِهِ قُدّمَتْ الْأُخْتُ مِنْ الْأُمّ
عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَقُدّمَتْ الْخَالَةُ عَلَى الْعَمّةِ .
هَذَا تَقْرِيرُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ تَيْمِيّةَ فِي "
مُحَرّرِهِ " مِنْ تَنْزِيلِ نَصّ أَحْمَدَ عَلَى هَذِهِ الْمَحَامِلِ
الثّلَاثِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِعَامّةِ نُصُوصِهِ فِي تَقْدِيمِ الْأُخْتِ
لِلْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأُمّ وَعَلَى الْخَالَةِ وَتَقْدِيمِ
خَالَةِ الْأَبِ عَلَى خَالَةِ الْأُمّ وَهُوَ الّذِي لَمْ يَذْكُرْ
الْخِرَقِيّ فِي " مُخْتَصَرِهِ " غَيْرَهُ وَهُوَ الصّحِيحُ وَخَرّجَهَا
ابْنُ عَقِيلٍ عَلَى الرّوَايَتَيْنِ فِي أُمّ الْأُمّ وَأُمّ الْأَبِ
وَلَكِنّ نَصّهُ مَا ذَكَرَهُ الْخِرَقِيّ وَهَذِهِ الرّوَايَةُ الّتِي
حَكَاهَا صَاحِبُ " الْمُحَرّرِ " ضَعِيفَةٌ مَرْجُوحَةٌ فَلِهَذَا
جَاءَتْ فُرُوعُهَا وَلَوَازِمُهَا أَضْعَفَ مِنْهَا بِخِلَافِ سَائِرِ
نُصُوصِهِ فِي جَادّةِ مَذْهَبِهِ .
فَصْلٌ [ ضَابِطٌ فِي الْحَضَانَةِ لِبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ ]
وَقَدْ
ضَبَطَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ هَذَا الْبَابَ بِضَابِطِ فَقَالَ كُلّ
عَصَبَةٍ فَإِنّهُ يُقَدّمُ عَلَى كُلّ امْرَأَةٍ هِيَ أَبْعَدُ مِنْهُ
وَيَتَأَخّرُ عَمّنْ هِيَ أَقْرَبُ مِنْهُ وَإِذَا تَسَاوَيَا فَعَلَى
وَجْهَيْنِ . فَعَلَى هَذَا الضّابِطِ يُقَدّمُ الْأَبُ عَلَى أُمّهِ
وَعَلَى أُمّ الْأُمّ وَمَنْ مَعَهَا وَيُقَدّمُ الْأَخُ عَلَى ابْنَتِهِ
وَعَلَى الْعَمّةِ وَالْعَمّ عَلَى عَمّةِ الْأَبِ وَتُقَدّمُ أُمّ
الْأَبِ عَلَى جَدّ الْأَبِ وَفِي تَقْدِيمِهَا عَلَى أَبٍ الْأَبِ
وَجْهَانِ . وَفِي تَقْدِيمِ الْأُخْتِ لِلْأَبِ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ
وَجْهَانِ وَفِي تَقْدِيمِ الْعَمّةِ عَلَى الْعَمّ وَجْهَانِ . [ ص 398 ]
مُسَاوَاتِهَا لَهُ وَامْتِيَازِهَا بِقُوّةِ أَسْبَابِ الْحَضَانَةِ
وَالتّرْبِيَةِ فِيهَا . وَاخْتُلِفَ فِي بَنَاتِ الْإِخْوَةِ
وَالْأَخَوَاتِ هَلْ يُقَدّمْنَ عَلَى الْخَالَاتِ وَالْعَمّاتِ أَوْ
تُقَدّمُ الْخَالَاتُ وَالْعَمّاتُ عَلَيْهِنّ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ
مَأْخَذُهُمَا : أَنّ الْخَالَةَ وَالْعَمّةَ تُدْلِيَانِ بِإِخْوَةِ
الْأُمّ وَالْأَبِ وَبَنَاتَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ يُدْلِينَ
بِبُنُوّةِ الْأَبِ فَمَنْ قَدّمَ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ رَاعَى قُوّةَ
الْبُنُوّةِ عَلَى الْأُخُوّةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَيّدِ بَلْ الصّوَابُ
تَقْدِيمُ الْعَمّةِ وَالْخَالَةِ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهَا
أَقْرَبُ إلَى الطّفْلِ مِنْ بَنَاتِ أَخِيهِ فَإِنّ الْعَمّةَ أُخْتُ
أَبِيهِ وَابْنَةَ الْأَخِ ابْنَةُ ابْنِ أَبِيهِ وَكَذَلِكَ الْخَالَةُ
أُخْتُ أُمّهِ وَبِنْتُ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمّ أَوْ لِأَبٍ بِنْتُ بِنْتِ
أُمّهِ أَوْ أَبِيهِ وَلَا رَيْبَ أَنّ الْعَمّةَ وَالْخَالَةَ أَقْرَبُ
إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْقَرَابَةِ . الثّانِي : أَنّ صَاحِبَ هَذَا
الْقَوْلِ إنْ طَرَدَ أَصْلَهُ لَزِمَهُ مَا لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ مِنْ
تَقْدِيمِ بِنْتِ بِنْتِ الْأُخْتِ وَإِنْ نَزَلَتْ عَلَى الْخَالَةِ
الّتِي هِيَ أُمّ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ الْقَوْلِ وَإِنْ خُصّ ذَلِكَ
بِبِنْتِ الْأُخْتِ دُونَ مَنْ سَفَلَ مِنْهَا تَنَاقَضَ . وَاخْتَلَفَ
أَصْحَابُ أَحْمَدَ أَيْضًا فِي الْجَدّ وَالْأُخْتِ لِلْأَبِ أَيّهُمَا
أَوْلَى ؟ فَالْمَذْهَبُ أَنّ الْجَدّ أَوْلَى مِنْهَا وَحَكَى الْقَاضِي
فِي " الْمُجَرّدِ " وَجْهًا : أَنّهَا أَوْلَى مِنْهُ وَهَذَا يَجِيءُ
عَلَى أَحَدِ التّأْوِيلَاتِ الّتِي تَأَوّلَ عَلَيْهَا الْأَصْحَابُ نَصّ
أَحْمَدَ وَقَدْ تَقَدّمَتْ .
فَصْلٌ [ بَيَانُ تَنَاقُضِ الضّابِطِ السّابِقِ ]
وَمِمّا
يُبَيّنُ صِحّةَ الْأَصْلِ الْمُتَقَدّمِ أَنّهُمْ قَالُوا : إذَا عَدِمَ
الْأُمّهَاتِ وَمَنْ فِي جِهَتهنّ انْتَقَلَتْ الْحَضَانَةُ إلَى
الْعَصَبَاتِ وَقُدّمَ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْهُمْ كَمَا فِي
الْمِيرَاثِ فَهَذَا جَارٍ عَلَى الْقِيَاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلّا
رَاعَيْتُمْ هَذَا فِي جِنْسَ الْقَرَابَةِ فَقَدّمْتُمْ الْقَرَابَةَ
الْقَوِيّةَ الرّاجِحَةَ عَلَى الضّعِيفَةِ الْمَرْجُوحَةِ كَمَا
فَعَلْتُمْ فِي الْعَصَبَاتِ ؟ [ ص 399 ] كَانَتْ لِأَبَوَيْنِ ثُمّ مِنْ
كَانَتْ لِأَبٍ ثُمّ مَنْ كَانَتْ لِأُمّ وَهَذَا صَحِيحٌ مُوَافِقٌ
لِلْأُصُولِ وَالْقِيَاسِ لَكِنْ إذَا ضُمّ هَذَا إلَى قَوْلِهِمْ
بِتَقْدِيمِ قَرَابَةِ الْأُمّ عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ جَاءَ التّنَاقُضُ
وَتِلْكَ الْفُرُوعُ الْمُشْكِلَةُ الْمُتَنَاقِضَةُ . وَأَيْضًا فَقَدْ
قَالُوا بِتَقْدِيمِ أُمّهَاتِ الْأَبِ وَالْجَدّ عَلَى الْخَالَاتِ
وَالْأَخَوَاتِ لِلْأُمّ وَهُوَ الصّوَابُ الْمُوَافِقُ لِأُصُولِ
الشّرْعِ لَكِنّهُ مُنَاقِضٌ لِتَقْدِيمِهِمْ أُمّهَاتِ الْأُمّ عَلَى
أُمّهَاتِ الْأَبِ وَيُنَاقِضُ تَقْدِيمَ الْخَالَةِ وَالْأُخْتِ لِلْأُمّ
عَلَى الْأَبِ كَمَا هُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ
اللّهُ وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشّافِعِيّ . وَلَا رَيْبَ أَنّ
الْقَوْلَ بِهِ أَطْرَدُ لِلْأَصْلِ لَكِنّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْ
قِيَاسِ الْأُصُولِ كَمَا تَقَدّمَ وَيَلْزَمُهُمْ مِنْ طَرْدِهِ أَيْضًا
تَقْدِيمُ مَنْ كَانَ مِنْ الْأَخَوَاتِ لِأُمّ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْهُنّ
لِأَبٍ وَقَدْ الْتَزَمَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيّ وَابْنُ
سُرَيْجٍ وَيَلْزَمُهُمْ مِنْ طَرْدِهِ أَيْضًا تَقْدِيمُ بِنْتِ
الْخَالَةِ عَلَى الْأُخْتِ لِلْأَبِ وَقَدْ الْتَزَمَهُ زُفَرُ وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ اسْتَشْنَعَ
ذَلِكَ فَقَدّمَ الْأُخْتَ لِلْأَبِ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَرَوَاهُ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ . وَيَلْزَمُهُمْ أَيْضًا مِنْ طَرْدِهِ تَقْدِيمُ
الْخَالَةِ وَالْأُخْتِ لِلْأُمّ عَلَى الْجَدّةِ أُمّ الْأَبِ وَهَذَا
فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَالْوَهَنِ وَقَدْ الْتَزَمَهُ زُفَرُ وَمِثْلُ
هَذَا مِنْ الْمَقَايِيسِ الّتِي حَذّرَ مِنْهَا أَبُو حَنِيفَةَ
أَصْحَابَهُ وَقَالَ لَا تَأْخُذُوا بِمَقَايِيسَ زُفَرَ فَإِنّكُمْ إنْ
أَخَذْتُمْ بِمَقَايِيسِ زُفَرَ حَرّمْتُمْ الْحَلَالَ وَحَلّلْتُمْ
الْحَرَامَ .
فَصْلٌ [ ضَابِطٌ آخَرُ فِي الْحَضَانَةِ لِبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَبَيَانُ تَنَاقُضِهِ ]
وَقَدْ
رَامَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ ضَبْطَ هَذَا الْبَابَ بِضَابِطِ زَعَمَ
أَنّهُ يَتَخَلّصُ بِهِ مِنْ التّنَاقُضِ فَقَالَ الِاعْتِبَارُ فِي
الْحَضَانَةِ بِالْوِلَادَةِ الْمُتَحَقّقَةِ وَهِيَ الْأُمُومَةُ ثُمّ
الْوِلَادَةُ الظّاهِرَةُ وَهِيَ الْأُبُوّةُ ثُمّ الْمِيرَاثُ . قَالَ
وَلِذَلِكَ تُقَدّمُ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأُمّ
وَعَلَى الْخَالَةِ لِأَنّهَا أَقْوَى إرْثًا مِنْهُمَا . قَالَ ثُمّ
الْإِدْلَاءُ فَتُقَدّمُ الْخَالَةُ عَلَى الْعَمّةِ لِأَنّ الْخَالَةَ
تُدْلِي بِالْأُمّ وَالْعَمّةَ تُدْلِي بِالْأَبِ فَذَكَرَ أَرْبَعَ [ ص
400 ] طَرِيقَةُ صَاحِبِ " الْمُسْتَوْعَبِ " وَمَا زَادَتْهُ هَذِهِ
الطّرِيقَةُ إلّا تَنَاقُضًا وَبُعْدًا عَنْ قَوَاعِدِ الشّرِيعَةِ وَهِيَ
مِنْ أَفْسَدِ الطّرُقِ وَإِنّمَا يَتَبَيّنُ فَسَادُهَا بِلَوَازِمِهَا
الْبَاطِلَةِ فَإِنّهُ إنْ أَرَادَ بِتَقْدِيمِ الْأُمُومَةِ عَلَى
الْأُبُوّةِ تَقْدِيمَ مَنْ فِي جِهَتِهَا عَلَى الْأَبِ وَمَنْ فِي
جِهَتِهِ كَانَتْ تِلْكَ اللّوَازِمُ الْبَاطِلَةُ الْمُتَقَدّمَةُ مِنْ
تَقْدِيمِ الْأُخْتِ لِلْأُمّ وَبِنْتِ الْخَالَةِ عَلَى الْأَبِ وَأُمّهِ
وَتَقْدِيمِ الْخَالَةِ عَلَى الْعَمّةِ وَتَقْدِيمِ خَالَةِ الْأُمّ
عَلَى الْأَبِ وَأُمّهِ وَتَقْدِيمِ بَنَاتِ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمّ عَلَى
أُمّ الْأَبِ وَهَذَا مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِنُصُوصِ إمَامِهِ فَهُوَ
مُخَالِفٌ لِأُصُولِ الشّرْعِ وَقَوَاعِدِهِ . وَإِنْ أَرَادَ أَنّ
الْأُمّ نَفْسَهَا تُقَدّمُ عَلَى الْأَبِ فَهَذَا حَقّ لَكِنّ الشّأْنَ
فِي مَنَاطِ هَذَا التّقْدِيمِ هَلْ هُوَ لِكَوْنِ الْأُمّ وَمَنْ فِي
جِهَتِهَا تُقَدّمُ عَلَى الْأَبِ وَمَنْ فِي جِهَتِهِ أَوْ لِكَوْنِهَا
أُنْثَى فِي دَرَجَةِ ذَكَرٍ وَكُلّ أُنْثَى كَانَتْ فِي دَرَجَةِ ذَكَرٍ
قُدّمَتْ عَلَيْهِ مَعَ تَقْدِيمِ قَرَابَةِ الْأَبِ عَلَى قَرَابَةِ
الْأُمّ ؟ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ كَمَا تَقَدّمَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ "
ثُمّ الْمِيرَاثُ " إنْ أَرَادَ بِهِ أَنّ الْمُقَدّمَ فِي الْمِيرَاثِ
مُقَدّمٌ فِي الْحَضَانَةِ فَصَحِيحٌ وَطَرْدُهُ تَقْدِيمُ قَرَابَةِ
الْأَبِ عَلَى قَرَابَةِ الْأُمّ لِأَنّهَا مُقَدّمَةٌ عَلَيْهَا فِي
الْمِيرَاثِ فَتُقَدّمُ الْأُخْتُ عَلَى الْعَمّةِ وَالْخَالَةِ .
وَقَوْلُهُ " وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْأُخْتِ لِلْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ
لِلْأُمّ وَالْخَالَةِ لِأَنّهَا أَقْوَى إرْثًا مِنْهُمَا فَيُقَالُ لَمْ
يَكُنْ تَقْدِيمُهَا لِأَجْلِ الْإِرْثِ وَقُوّتِهِ وَلَوْ كَانَ لِأَجْلِ
ذَلِكَ لَكَانَ الْعَصَبَاتُ أَحَقّ بِالْحَضَانَةِ مِنْ النّسَاءِ
فَيَكُونُ الْعَمّ أَوْلَى مِنْ الْخَالَةِ وَالْعَمّةِ وَهَذَا بَاطِلٌ .
فَصْلٌ [ ضَابِطُ الْحَضَانَةِ عِنْدَ ابْنِ قُدَامَةَ ]
وَقَدْ
ضَبَطَ الشّيْخُ فِي " الْمُغْنِي " هَذَا الْبَابَ بِضَابِطٍ آخَرَ
فَقَالَ فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى مِنْ أَهْلِ
الْحَضَانَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ . وَأَوْلَى
الْكُلّ بِهَا : الْأُمّ ثُمّ أُمّهَاتُهَا وَإِنْ عَلَوْنَ يُقَدّمُ
مِنْهُنّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ لِأَنّهُنّ نِسَاءٌ وِلَادَتُهُنّ
مُتَحَقّقَةٌ فَهُنّ فِي مَعْنَى الْأُمّ وَعَنْ أَحْمَدَ أَنّ أُمّ
الْأَبِ وَأُمّهَاتِهَا يُقَدّمْنَ عَلَى أُمّ الْأُمّ فَعَلَى هَذِهِ
الرّوَايَةِ يَكُونُ الْأَبُ أَوْلَى بِالتّقْدِيمِ لِأَنّهُنّ يُدْلِينَ
بِهِ فَيَكُونُ الْأَبُ [ ص 401 ] وَالْأُولَى هِيَ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا فَإِنّ الْمُقَدّمَ الْأُمّ ثُمّ أُمّهَاتُهَا ثُمّ الْأَبُ
ثُمّ أُمّهَاتُهُ ثُمّ الْجَدّ ثُمّ أُمّهَاتُهُ ثُمّ جَدّ الْأَبِ ثُمّ
أُمّهَاتُهُ وَإِنْ كُنّ غَيْرَ وَارِثَاتٍ لِأَنّهُنّ يُدْلِينَ
بِعَصَبَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ بِخِلَافِ أُمّ أَبِ الْأُمّ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَد َ رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنّ الْأُخْتَ مِنْ الْأُمّ
وَالْخَالَةَ أَحَقّ مِنْ الْأَبِ فَتَكُونُ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ
أَحَقّ مِنْهُ وَمِنْهُمَا وَمِنْ جَمِيعِ الْعَصَبَاتِ وَالْأُولَى هِيَ
الْمَشْهُورَةُ مِنْ الْمَذْهَبِ فَإِذَا انْقَرَضَ الْآبَاءُ
وَالْأُمّهَاتُ انْتَقَلَتْ الْحَضَانَةُ إلَى الْأَخَوَاتِ وَتُقَدّمُ
الْأُخْتُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ثُمّ الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ ثُمّ الْأُخْتُ
مِنْ الْأُمّ وَتُقَدّمُ الْأُخْتُ عَلَى الْأَخِ لِأَنّهَا امْرَأَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ فَقُدّمَتْ عَلَى مَنْ فِي دَرَجَتِهَا مِنْ
الرّجَالِ كَالْأُمّ تُقَدّمُ عَلَى الْأَبِ وَأُمّ الْأَبِ عَلَى أَبِ
الْأَبِ وَكُلّ جَدّةٍ فِي دَرَجَةِ جَدّ تُقَدّمُ عَلَيْهِ لِأَنّهَا
تَلِي الْحَضَانَةَ بِنَفْسِهَا وَالرّجُلُ لَا يَلِيهَا بِنَفْسِهِ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنّهُ يُقَدّمُ عَلَيْهَا لِأَنّهُ عَصَبَةٌ
بِنَفْسِهِ وَالْأَوّلُ أَوْلَى وَفِي تَقْدِيمِ الْأُخْتِ مِنْ
الْأَبَوَيْنِ أَوْ مِنْ الْأَبِ عَلَى الْجَدّ وَجْهَانِ وَإِذَا لَمْ
تَكُنْ أُخْتٌ فَالْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ أَوْلَى ثُمّ الْأَخُ لِلْأَبِ
ثُمّ ابْنَاهُمَا وَلَا حَضَانَةَ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمّ لِمَا ذَكَرْنَا
. فَإِذَا عُدِمُوا صَارَتْ الْحَضَانَةُ لِلْخَالَاتِ عَلَى الصّحِيحِ
وَتَرْتِيبُهُنّ فِيهَا كَتَرْتِيبِ الْأَخَوَاتِ وَلَا حَضَانَةَ
لِلْأَخْوَالِ فَإِذَا عُدِمُوا صَارَتْ لِلْعَمّاتِ وَيُقَدّمْنَ عَلَى
الْأَعْمَامِ كَتَقْدِيمِ الْأَخَوَاتِ عَلَى الْإِخْوَةِ ثُمّ لِلْعَمّ
لِلْأَبَوَيْنِ ثُمّ لِلْعَمّ لِلْأَبِ وَلَا حَضَانَةَ لِلْعَمّ مِنْ
الْأُمّ ثُمّ ابْنَاهُمَا ثُمّ إلَى خَالَاتِ الْأَبِ عَلَى قَوْلِ
الْخِرَقِيّ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ إلَى خَالَاتِ الْأُمّ ثُمّ إلَى
عَمّاتِ الْأَبِ وَلَا حَضَانَةَ لِعَمّاتِ الْأُمّ لِأَنّهُنّ يُدْلِينَ
بِأَبِ الْأُمّ وَلَا حَضَانَةَ لَهُ . وَإِنْ اجْتَمَعَ شَخْصَانِ أَوْ
أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ فِي دَرَجَةٍ قُدّمَ الْمُسْتَحِقّ
مِنْهُمْ بِالْقُرْعَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
[ الْمُؤَاخَذَاتُ عَلَى ضَابِطِ ابْنِ قُدَامَةَ ]
وَهَذَا
خَيْرٌ مِمّا قَبْلَهُ مِنْ الضّوَابِطِ وَلَكِنْ فِيهِ تَقْدِيمُ أُمّ
الْأُمّ وَإِنْ عَلَتْ عَلَى الْأَبِ وَأُمّهَاتِهِ فَإِنْ طَرّدَ
تَقْدِيمَ مَنْ فِي جِهَةِ الْأُمّ عَلَى مَنْ فِي جِهَةِ الْأَبِ جَاءَتْ
تِلْكَ اللّوَازِمُ الْبَاطِلَةُ وَهُوَ لَمْ يُطْرِدْهُ وَإِنْ قَدّمَ
بَعْضَ مَنْ فِي جِهَةِ الْأَبِ عَلَى بَعْضِ مَنْ فِي جِهَةِ الْأُمّ
كَمَا فَعَلَ طُولِبَ بِالْفَرْقِ وَبِمَنَاطِ التّقْدِيمِ . [ ص 402 ]
دُونَ الْأَخِ مِنْ الْأُمّ وَهُوَ فِي دَرَجَتِهَا وَمُسَاوٍ لَهَا مِنْ
كُلّ وَجْهٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأُنُوثَتِهَا وَهُوَ ذَكَرٌ انْتَقَضَ
بِرِجَالِ الْعَصَبَةِ كُلّهِمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ لَيْسَ
مِنْ الْعَصَبَةِ وَالْحَضَانَةُ لَا تَكُونُ لِرَجُلِ إلّا أَنْ يَكُونَ
مِنْ الْعَصَبَةِ . قِيلَ فَكَيْفَ جَعَلْتُمُوهَا لِنِسَاءِ ذَوِي
الْأَرْحَامِ مَعَ مُسَاوَاةِ قَرَابَتِهِنّ لِقَرَابَةِ مَنْ فِي
دَرَجَتِهِنّ مِنْ الذّكُورِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ ؟ فَإِمّا أَنْ
تَعْتَبِرُوا الْأُنُوثَةَ فَلَا تَجْعَلُوهَا لِلذّكَرِ أَوْ الْمِيرَاثَ
فَلَا تَجْعَلُوهَا لِغَيْرِ وَارِثٍ أَوْ الْقَرَابَةَ فَلَا تَمْنَعُوا
مِنْهَا الْأَخَ مِنْ الْأُمّ وَالْخَالَ وَأَبَا الْأُمّ أَوْ
التّعْصِيبَ فَلَا تُعْطُوهَا لِغَيْرِ عَصَبَةٍ . فَإِنْ قُلْتُمْ بَقِيَ
قِسْمٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُنَا وَهُوَ اعْتِبَارُ التّعْصِيبِ فِي
الذّكُورِ وَالْقَرَابَةِ فِي النّسَاءِ . قِيلَ هَذَا مُخَالِفٌ لِبَابِ
الْوِلَايَاتِ وَبَابِ الْمِيرَاثِ وَالْحَضَانَةُ وِلَايَةٌ عَلَى
الطّفْلِ فَإِنْ سَلَكْتُمْ بِهَا مَسْلَكَ الْوِلَايَاتِ فَخُصّوهَا
بِالْأَبِ وَالْجَدّ وَإِنْ سَلَكْتُمْ بِهَا مَسْلَكَ الْمِيرَاثِ فَلَا
تُعْطُوهَا لِغَيْرِ وَارِثٍ وَكِلَاهُمَا خِلَافُ قَوْلِكُمْ وَقَوْلِ
النّاسِ أَجْمَعِينَ . وَفِي كَلَامِهِ أَيْضًا : تَقْدِيمُ ابْنِ الْأَخِ
وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُ عَلَى الْخَالَةِ الّتِي هِيَ أُمّ وَهُوَ فِي
غَايَةِ الْبُعْدِ وَجُمْهُورُ الْأَصْحَابِ إنّمَا جَعَلُوا أَوْلَادَ
الْإِخْوَةِ بَعْدَ أَبِ الْأَبِ وَالْعَمّاتِ وَهُوَ الصّحِيحُ فَإِنّ
الْخَالَةَ أُخْتُ الْأُمّ وَبِهَا تُدْلِي وَالْأُمّ مُقَدّمَةٌ عَلَى
الْأَبِ وَابْنُ الْأَخِ إنّمَا يُدْلِي بِالْأَخِ الّذِي يُدْلِي
بِالْأَبِ فَكَيْفَ يُقَدّمُ عَلَى الْخَالَةِ وَكَذَا الْعَمّةُ أُخْتُ
الْأَبِ وَشَقِيقَتُهُ فَكَيْفَ يُقَدّمُ ابْنُ ابْنِهِ عَلَيْهَا .
[ ضَابِطُ الْحَضَانَةِ عِنْدَ ابْنِ تَيْمِيّةَ وَبَيَانُ صِحّتِهِ وَاطّرَادِهِ ]
وَقَدْ
ضَبَطَ هَذَا الْبَابَ شَيْخُنَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ
بِضَابِطِ آخَرَ . فَقَالَ أَقْرَبُ مَا يُضْبَطُ بِهِ بَابُ الْحَضَانَةِ
أَنْ يُقَالَ لَمّا كَانَتْ الْحَضَانَةُ وِلَايَةً تَعْتَمِدُ الشّفَقَةَ
وَالتّرْبِيَةَ وَالْمُلَاطَفَةَ كَانَ أَحَقّ النّاسِ بِهَا أَقْوَمَهُمْ
بِهَذِهِ الصّفَاتِ وَهُمْ أَقَارِبُهُ يُقَدّمُ مِنْهُمْ أَقْرَبُهُمْ
إلَيْهِ وَأَقْوَمُهُمْ بِصِفَاتِ الْحَضَانَةِ . فَإِنْ اجْتَمَعَ
مِنْهُمْ اثْنَانِ فَصَاعِدًا فَإِنْ اسْتَوَتْ دَرَجَتُهُمْ قُدّمَ
الْأُنْثَى عَلَى الذّكَرِ فَتُقَدّمُ الْأُمّ عَلَى الْأَبِ وَالْجَدّةُ
عَلَى [ ص 403 ] وَالْخَالَةُ عَلَى الْخَالِ وَالْعَمّةُ عَلَى الْعَمّ
وَالْأُخْتُ عَلَى الْأَخِ . فَإِنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ
قُدّمَ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْعَةِ يَعْنِي مَعَ اسْتِوَاءِ دَرَجَتِهِمَا
وَإِنْ اخْتَلَفَتْ دَرَجَتُهُمَا مِنْ الطّفْلِ فَإِنْ كَانُوا مِنْ
جِهَةٍ وَاحِدَةٍ قُدّمَ الْأَقْرَبُ إلَيْهِ فَتُقَدّمُ الْأُخْتُ عَلَى
ابْنَتِهَا وَالْخَالَةُ عَلَى خَالَةِ الْأَبَوَيْنِ وَخَالَةُ
الْأَبَوَيْنِ عَلَى خَالَةِ الْجَدّ وَالْجَدّةُ وَالْجَدّ أَبُو الْأُمّ
عَلَى الْأَخِ لِلْأُمّ هَذَا هُوَ الصّحِيحُ لِأَنّ جِهَةَ الْأُبُوّةِ
وَالْأُمُومَةِ فِي الْحَضَانَةِ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ الْأُخُوّةِ فِيهَا
. وَقِيلَ يُقَدّمُ الْأَخُ لِلْأُمّ لِأَنّهُ أَقْوَى مِنْ أَبِ الْأُمّ
فِي الْمِيرَاثِ . وَالْوَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَفِيهِ وَجْهٌ
ثَالِثٌ أَنّهُ لَا حَضَانَةَ لِلْأَخِ مِنْ الْأُمّ بِحَالِ لِأَنّهُ
لَيْسَ مِنْ الْعَصَبَاتِ وَلَا مِنْ نِسَاءِ الْحَضَانَةِ وَكَذَلِكَ
الْخَالُ أَيْضًا فَإِنّ صَاحِبَ هَذَا الْوَجْهِ يَقُولُ لَا حَضَانَةَ
لَهُ وَلَا نِزَاعَ أَنّ أَبَا الْأُمّ وَأُمّهَاتِهِ أَوْلَى مِنْ
الْخَالِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ جِهَتَيْنِ كَقَرَابَةِ الْأُمّ وَقَرَابَةِ
الْأَبِ مِثْلَ الْعَمّةِ وَالْخَالَةِ وَالْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُخْتِ
لِلْأُمّ وَأُمّ الْأَبِ وَأُمّ الْأُمّ وَخَالَةِ الْأَبِ وَخَالَةِ
الْأُمّ قُدّمَ مَنْ فِي جِهَةِ الْأَبِ فِي ذَلِكَ كُلّهِ عَلَى إحْدَى
الرّوَايَتَيْنِ فِيهِ . هَذَا كُلّهُ إذَا اسْتَوَتْ دَرَجَتُهُمْ أَوْ
كَانَتْ جِهَةُ الْأَبِ أَقْرَبَ إلَى الطّفْلِ وَأَمّا إذَا كَانَتْ
جِهَةُ الْأُمّ أَقْرَبَ وَقَرَابَةُ الْأَبِ أَبْعَدُ كَأُمّ الْأُمّ
وَأُمّ أَبِ الْأَبِ وَكَخَالَةِ الطّفْلِ وَعَمّةِ أَبِيهِ فَقَدْ
تَقَابَلَ التّرْجِيحَانِ وَلَكِنْ يُقَدّمُ الْأَقْرَبُ إلَى الطّفْلِ
لِقُوّةِ شَفَقَتِهِ وَحُنُوّهِ عَلَى شَفَقَةِ الْأَبْعَدِ وَمَنْ قَدّمَ
قَرَابَةَ الْأَبِ فَإِنّمَا يُقَدّمُهَا مَعَ مُسَاوَاةِ قَرَابَةِ
الْأُمّ لَهَا فَأَمّا إذَا كَانَتْ أَبْعَدَ مِنْهَا قُدّمَتْ قَرَابَةُ
الْأُمّ الْقَرِيبَةِ وَإِلّا لَزِمَ مِنْ تَقْدِيمِ الْقَرَابَةِ
الْبَعِيدَةِ لَوَازِمُ بَاطِلَةٌ لَا يَقُولُ بِهَا أَحَدٌ فَبِهَذَا
الضّابِطِ يُمْكِنُ حَصْرُ جَمِيعِ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ وَجَرْيُهَا
عَلَى الْقِيَاسِ الشّرْعِيّ وَاطّرَادُهَا وَمُوَافَقَتُهَا لِأُصُولِ
الشّرْعِ فَأَيّ مَسْأَلَةٍ وَرَدَتْ عَلَيْك أَمْكَنَ أَخْذُهَا مِنْ
هَذَا الضّابِطِ مَعَ كَوْنِهِ مُقْتَضَى الدّلِيلِ وَمَعَ سَلَامَتِهِ
مِنْ التّنَاقُضِ وَمُنَاقَضَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ وَبِاَللّهِ
التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ الْحَضَانَةُ حَقّ لِلْأُمّ وَهَلْ تَحِقّ لَهَا الْأُجْرَةُ
وَقَوْلُهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتِ أَحَقّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْحَضَانَةَ حَقّ [ ص 404 ] مَذْهَبِ أَحْمَد
وَمَالِكٍ وَيَنْبَنِي عَلَيْهِمَا : هَلْ لِمَنْ لَهُ الْحَضَانَةُ أَنْ
يُسْقِطَهَا فَيَنْزِلُ عَنْهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَأَنّهُ لَا يَجِبُ
عَلَيْهِ خِدْمَةُ الْوَلَدِ أَيّامَ حَضَانَتِهِ إلّا بِالْأُجْرَةِ إنْ
قُلْنَا : الْحَقّ لَهُ وَإِنْ قُلْنَا : الْحَقّ عَلَيْهِ وَجَبَ
خِدْمَتُهُ مَجّانًا . وَإِنْ كَانَ الْحَاضِنُ فَقِيرًا فَلَهُ
الْأُجْرَةُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ . وَإِذَا وَهَبَتْ الْحَضَانَةَ
لِلْأَبِ وَقُلْنَا : الْحَقّ لَهَا لَزِمَتْ الْهِبَةُ وَلَمْ تَرْجِعْ
فِيهَا وَإِنْ قُلْنَا : الْحَقّ عَلَيْهَا فَلَهَا الْعَوْدُ إلَى
طَلَبِهَا . وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا لَمْ
يَثْبُتْ بَعْدُ كَهِبَةِ الشّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ حَيْثُ لَا
تَلْزَمُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنّ الْهِبَةَ فِي الْحَضَانَةِ قَدْ
وُجِدَ سَبَبُهَا فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ وُجِدَ وَكَذَلِكَ إذَا
وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفَقَتَهَا لِزَوْجِهَا شَهْرًا أُلْزِمَتْ
الْهِبَةُ وَلَمْ تَرْجِعْ فِيهَا . هَذَا كُلّهُ كَلَامُ أَصْحَابِ
مَالِكٍ وَتَفْرِيعُهُمْ وَالصّحِيحُ أَنّ الْحَضَانَةَ حَقّ لَهَا
وَعَلَيْهَا إذَا احْتَاجَ الطّفْلُ إلَيْهَا وَلَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا
وَإِنْ اتّفَقَتْ هِيَ وَوَلِيّ الطّفْلِ عَلَى نَقْلِهَا إلَيْهِ جَازَ
وَالْمَقْصُودُ أَنّ فِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتِ
أَحَقّ بِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنّ الْحَضَانَةَ حَقّ لَهَا .
فَصْلٌ [ هَلْ سُقُوطُ الْحَضَانَةِ بِالنّكَاحِ لِلتّعْلِيلِ أَوْ لِلتّوْقِيتِ ؟ ]
وَقَوْلُهُ
مَا لَمْ تَنْكِحِي اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ تَعْلِيلٌ أَوْ تَوْقِيتٌ
عَلَى قَوْلَيْنِ يَنْبَنِي عَلَيْهِمَا : مَا لَوْ تَزَوّجَتْ وَسَقَطَتْ
حَضَانَتُهَا ثُمّ طَلُقَتْ فَهَلْ تَعُودُ الْحَضَانَةُ ؟ فَإِنْ قِيلَ
اللّفْظُ تَعْلِيلٌ عَادَتْ الْحَضَانَةُ بِالطّلَاقِ لِأَنّ الْحُكْمَ
إذَا ثَبَتَ بِعِلّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا وَعِلّةُ سُقُوطِ الْحَضَانَةِ
التّزْوِيجُ فَإِنْ طَلُقَتْ زَالَتْ الْعِلّةُ فَزَالَ حُكْمُهَا وَهَذَا
قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمْ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ
. ثُمّ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ الطّلَاقُ رَجْعِيّا هَلْ يَعُودُ
حَقّهَا بِمُجَرّدِهِ أَوْ يَتَوَقّفُ عَوْدُهَا عَلَى انْقِضَاءِ
الْعِدّةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَد َ
وَالشّافِعِيّ أَحَدُهُمَا : تَعُودُ بِمُجَرّدِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ
مَذْهَبِ الشّافِعِيّ . وَالثّانِي : لَا تَعُودُ حَتّى [ ص 405 ]
الْعِدّةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيّ وَهَذَا كُلّهُ
تَفْرِيعٌ عَلَى أَنّ قَوْلَهُ " مَا لَمْ تَنْكِحِي " تَعْلِيلٌ وَهُوَ
قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ
مَذْهَبِهِ إذَا تَزَوّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا لَمْ يَعُدْ حَقّهَا مِنْ
الْحَضَانَةِ وَإِنْ طَلُقَتْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَهَذَا بِنَاءً
عَلَى أَنّ قَوْلَهُ " مَا لَمْ تَنْكِحِي " لِلتّوْقِيتِ أَيْ حَقّك مِنْ
الْحَضَانَةِ مُوَقّتٌ إلَى حِينِ نِكَاحِك فَإِذَا نَكَحْت انْقَضَى
وَقْتُ الْحَضَانَةِ فَلَا تَعُودُ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِهَا كَمَا
لَوْ انْقَضَى وَقْتُهَا بِبُلُوغِ الطّفْلِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَعُودُ حَقّهَا إذَا فَارَقَهَا زَوْجُهَا
كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُغِيرَةِ وَابْنِ أَبِي حَازِمٍ
. قَالُوا : لِأَنّ الْمُقْتَضِيَ لِحَقّهَا مِنْ الْحَضَانَةِ هُوَ
قَرَابَتُهَا الْخَاصّةُ وَإِنّمَا عَارَضَهَا مَانِعُ النّكَاحِ لِمَا
يُوجِبُهُ مِنْ إضَاعَةِ الطّفْلِ وَاشْتِغَالِهَا بِحُقُوقِ الزّوْجِ
الْأَجْنَبِيّ مِنْهُ عَنْ مَصَالِحِهِ وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَغْذِيَتِهِ
وَتَرْبِيَتِهِ فِي نِعْمَةِ غَيْرِ أَقَارِبِهِ وَعَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ
مِنّةٌ وَغَضَاضَةٌ فَإِذَا انْقَطَعَ النّكَاحُ بِمَوْتِ أَوْ فُرْقَةٍ
زَالَ الْمَانِعُ وَالْمُقْتَضِي قَائِمٌ فَتَرَتّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ
وَهَكَذَا كُلّ مَنْ قَامَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ مَانِعٌ مِنْهَا
كَكُفْرِ أَوْ رِقّ أَوْ فِسْقٍ أَوْ بَدْوٍ فَإِنّهُ لَا حَضَانَةَ لَهُ
فَإِنْ زَالَتْ الْمَوَانِعُ عَادَ حَقّهُمْ مِنْ الْحَضَانَةِ فَهَكَذَا
النّكَاحُ وَالْفُرْقَةُ . وَأَمّا النّزَاعُ فِي عَوْدِ الْحَضَانَةِ
بِمُجَرّدِ الطّلَاقِ الرّجْعِيّ أَوْ بِوَقْفِهِ عَلَى انْقِضَاءِ
الْعِدّةِ فَمَأْخَذُهُ كَوْنُ الرّجْعِيّةِ زَوْجَةً فِي عَامّةِ
الْأَحْكَامِ فَإِنّهُ يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا التّوَارُثُ وَالنّفَقَةُ
وَيَصِحّ مِنْهَا الظّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَيُحَرّمُ أَنْ يَنْكِحَ
عَلَيْهَا أُخْتَهَا أَوْ عَمّتَهَا أَوْ خَالَتَهَا أَوْ أَرْبَعًا
سِوَاهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ فَمَنْ رَاعَى ذَلِكَ لَمْ تَعُدْ إلَيْهَا
الْحَضَانَةُ بِمُجَرّدِ الطّلَاقِ الرّجْعِيّ حَتّى تَنْقَضِيَ الْعِدّةُ
فَتَبِينُ حِينَئِذٍ وَمَنْ أَعَادَ الْحَضَانَةَ بِمُجَرّدِ الطّلَاقِ
قَالَ قَدْ عَزَلَهَا عَنْ فِرَاشِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا عَلَيْهِ قَسْمٌ
وَلَا لَهَا بِهِ شَغْلٌ وَالْعِلّةُ الّتِي سَقَطَتْ الْحَضَانَةُ
لِأَجْلِهَا قَدْ زَالَتْ بِالطّلَاقِ وَهَذَا هُوَ الّذِي رَجّحَهُ
الشّيْخُ فِي " الْمُغْنِي " وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيّ فَإِنّهُ
قَالَ وَإِذَا أُخِذَ الْوَلَدُ مِنْ الْأُمّ إذَا تَزَوّجَتْ ثُمّ
طَلُقَتْ رَجَعَتْ عَلَى حَقّهَا مِنْ كَفَالَتِهِ . [ ص 406 ]
فَصْلٌ [ هَلْ مُجَرّدُ عَقْدِ النّكَاحِ يُسْقِطُ الْحَضَانَةَ ؟]
وَقَوْلُهُ
مَا لَمْ تَنْكِحِي اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ مُجَرّدُ
الْعَقْدِ أَوْ الْعَقْدُ مَعَ الدّخُولِ ؟ وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ .
أَحَدُهُمَا : أَنّ بِمُجَرّدِ الْعَقْدِ تَزُولُ حَضَانَتُهَا وَهُوَ
قَوْلُ الشّافِعِيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ لِأَنّهُ بِالْعَقْدِ يَمْلِكُ
الزّوْجُ مَنَافِعَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَيَمْلِكُ نَفْعَهَا مِنْ
حَضَانَةِ الْوَلَدِ . وَالثّانِي : أَنّهَا لَا تَزُولُ إلّا بِالدّخُولِ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فَإِنّ بِالدّخُولِ يَتَحَقّقُ اشْتِغَالُهَا عَنْ
الْحَضَانَةِ وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ وَالْأَشْبَهُ
سُقُوطُ حَضَانَتِهَا بِالْعَقْدِ لِأَنّهَا حِينَئِذٍ صَارَتْ فِي
مَظِنّةِ الِاشْتِغَالِ عَنْ الْوَلَدِ وَالتّهَيّؤِ لِلدّخُولِ
وَأَخْذِهَا حِينَئِذٍ فِي أَسْبَابِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
فَصْلٌ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي سُقُوطِ الْحَضَانَةِ بِالنّكَاحِ
وَاخْتَلَفَ
النّاسُ فِي سُقُوطِ الْحَضَانَةِ بِالنّكَاحِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ
. أَحَدُهَا : سُقُوطُهَا بِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ الْمَحْضُونُ
ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَهَذَا مَذْهَبُ الشّافِعِيّ وَمَالِكٍ وَأَبِي
حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ
: أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَقَضَى بِهِ شُرَيْحٌ . وَالْقَوْلُ الثّانِي : أَنّهَا لَا تَسْقُطُ
بِالتّزْوِيجِ بِحَالِ وَلَا فَرْقَ فِي الْحَضَانَةِ بَيْنَ الْأَيّمِ
وَذَوَاتِ الْبَعْلِ وَحُكِيَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُحَمّدِ ابْنِ حَزْمٍ . الْقَوْلُ
الثّالِثُ أَنّ الطّفْلَ إنْ كَانَ بِنْتًا لَمْ تَسْقُطْ الْحَضَانَةُ
بِنِكَاحِ أُمّهَا وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا سَقَطَتْ وَهَذِهِ إحْدَى
الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللّهُ نَصّ عَلَيْهِ فِي
رِوَايَةِ مُهَنّا بْنِ يَحْيَى الشّامِيّ فَقَالَ إذَا تَزَوّجَتْ
الْأُمّ وَابْنُهَا صَغِيرٌ أُخِذَ مِنْهَا . قِيلَ لَهُ وَالْجَارِيَةُ
مِثْلُ الصّبِيّ ؟ قَالَ لَا الْجَارِيَةُ تَكُونُ مَعَ أُمّهَا إلَى
سَبْعِ سِنِينَ . وَعَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ فَهَلْ تَكُونُ عِنْدَهَا
إلَى سَبْعِ سِنِينَ أَوْ إلَى أَنْ تَبْلُغَ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : وَعَنْ أَحْمَدَ أَنّ الْأُمّ أَحَقّ
بِحَضَانَةِ الْبِنْتِ وَإِنْ تَزَوّجَتْ إلَى أَنْ تَبْلُغَ . [ ص 407 ]
وَالْقَوْلُ الرّابِعُ أَنّهَا إذَا تَزَوّجَتْ بِنَسِيبِ مِنْ الطّفْلِ
لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَتُهَا ثُمّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا : أَنّ الْمُشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ
الزّوْجُ نَسِيبًا لِلطّفْلِ فَقَطْ وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِ
أَحْمَدَ . الثّانِي : أَنّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ ذَا
رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ . الثّالِثُ
أَنّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الزّوْجِ وَبَيْنَ الطّفْلِ
إيلَادٌ بِأَنْ يَكُونَ جَدّا لِلطّفْلِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَبَعْضِ
أَصْحَابِ أَحْمَدَ فَهَذَا تَحْرِيرُ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ .
[ حُجّةُ مَنْ أَسْقَطَ الْحَضَانَةَ بِالتّزْوِيجِ مُطْلَقًا ]
فَأَمّا
حُجّةُ مَنْ أَسْقَطَ الْحَضَانَةَ بِالتّزْوِيجِ مُطْلَقًا فَثَلَاثُ
حُجَجٍ إحْدَاهَا : حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمُتَقَدّمُ ذِكْرُهُ
. الثّانِيَةُ اتّفَاقُ الصّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ
الصّدّيقِ لِعُمَرِ هِيَ أَحَقّ بِهِ مَا لَمْ تَتَزَوّجْ وَمُوَافَقَةُ
عُمَرَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصّحَابَةِ
أَلْبَتّةَ وَقَضَى بِهِ شُرَيْحٌ وَالْقُضَاةُ بَعْدَهُ إلَى الْيَوْمِ
فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ .
[ اعْتِرَاضُ ابْنِ حَزْمٍ عَلَى الْأَدِلّةِ السّابِقَةِ وَرَدّ الْمُصَنّفِ عَلَيْهِ ]
الثّالِثَةُ
مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرّزّاقِ : حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدّثَنَا أَبُو
الزّبَيْرِ عَنْ رَجُلٍ صَالِحٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ كَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ
الْأَنْصَارِتَحْتَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِفَقُتِلَ عَنْهَا يَوْمَ
أُحُدٍ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ فَخَطَبَهَا عَمّ وَلَدِهَا وَرَجُلٌ آخَرُ
إلَى أَبِيهَا فَأَنْكَحَ الْآخَرَ فَجَاءَتْ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ أَنْكَحَنِي أَبِي رَجُلًا لَا أُرِيدُهُ
وَتَرَكَ عَمّ وَلَدِي فَيُؤْخَذُ مِنّي وَلَدِي فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَاهَا فَقَالَ أَنْكَحْت فُلَانًا
فُلَانَةَ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ " أَنْتَ الّذِي لَا نِكَاحَ لَك اذْهَبِي
فَانْكِحِي عَمّ وَلَدِكِ فَلَمْ يُنْكِرْ أَخْذَ الْوَلَدِ مِنْهَا لَمّا
تَزَوّجَتْ بَلْ أَنْكَحَهَا عَمّ الْوَلَدِ لِتَبْقَى لَهَا الْحَضَانَةُ
فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِ الْحَضَانَةِ بِالنّكَاحِ وَبَقَائِهَا
إذَا تَزَوّجَتْ بِنَسِيبِ مِنْ الطّفْلِ . وَاعْتَرَضَ أَبُو مُحَمّدٍ
بْنُ حَزْمٍ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ صَحِيفَةٌ وَحَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ هَذَا مُرْسَلٌ وَفِيهِ
مَجْهُولٌ .
الْمَدِينَةِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ
قَالَ كَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ
الْأَنْصَارِ فَقُتِلَ عَنْهَا يَوْمَ أُحُدٍ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ
فَخَطَبَهَا عَمّ وَلَدِهَا وَرَجُلٌ آخَرُ إلَى أَبِيهَا فَأَنْكَحَ
الْآخَرَ فَجَاءَتْ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَتْ أَنْكَحَنِي أَبِي رَجُلًا لَا أُرِيدُهُ وَتَرَكَ عَمّ وَلَدِي
فَيُؤْخَذُ مِنّي وَلَدِي فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَبَاهَا فَقَالَ أَنْكَحْت فُلَانًا فُلَانَةَ ؟ قَالَ نَعَمْ
قَالَ " أَنْتَ الّذِي لَا نِكَاحَ لَك اذْهَبِي فَانْكِحِي عَمّ وَلَدِكِ
فَلَمْ يُنْكِرْ أَخْذَ الْوَلَدِ مِنْهَا لَمّا تَزَوّجَتْ بَلْ
أَنْكَحَهَا عَمّ الْوَلَدِ لِتَبْقَى لَهَا الْحَضَانَةُ فَفِيهِ دَلِيلٌ
عَلَى سُقُوطِ الْحَضَانَةِ بِالنّكَاحِ وَبَقَائِهَا إذَا تَزَوّجَتْ
بِنَسِيبِ مِنْ الطّفْلِ . وَاعْتَرَضَ أَبُو مُحَمّدٍ بْنُ حَزْمٍ عَلَى
هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ صَحِيفَةٌ
وَحَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ هَذَا مُرْسَلٌ وَفِيهِ مَجْهُولٌ . وَهَذَانِ
الِاعْتِرَاضَانِ ضَعِيفَانِ فَقَدْ بَيّنّا احْتِجَاجَ الْأَئِمّةِ
بِعَمْرٍو فِي [ ص 408 ] ابْنِ حَزْمٍ وَقَوْلُ الْبُخَارِيّ وَأَحْمَدَ
وَابْنِ الْمَدِينِيّ وَالْحُمَيْدِيّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ
وَأَمْثَالِهِمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى سِوَاهُمْ . وَأَمّا حَدِيثُ أَبِي
سَلَمَةَ هَذَا فَإِنّ أَبَا سَلَمَةَ مِنْ كِبَارِ التّابِعِينَ وَقَدْ
حَكَى الْقِصّةَ عَنْ الْأَنْصَارِيّةِ وَلَا يُنْكَرُ لِقَاؤُهُ لَهَا
فَلَا يَتَحَقّقُ الْإِرْسَالُ وَلَوْ تَحَقّقَ فَمُرْسَلٌ جَيّدٌ لَهُ
شَوَاهِدُ مَرْفُوعَةٌ وَمَوْقُوفَةٌ وَلَيْسَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ
وَحْدَهُ وَعَنَى بِالْمَجْهُولِ الرّجُلَ الصّالِحَ الّذِي شَهِدَ لَهُ
أَبُو الزّبَيْرِ بِالصّلَاحِ وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذِهِ الشّهَادَةَ لَا
تُعَرّفُ بِهِ وَلَكِنّ الْمَجْهُولَ إذَا عَدّلَهُ الرّاوِي عَنْهُ
الثّقَةُ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا عَلَى أَصَحّ
الْقَوْلَيْنِ فَإِنّ التّعْدِيلَ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ وَالْحُكْمِ
لَا مِنْ بَابِ الشّهَادَةِ وَلَا سِيّمَا التّعْدِيلَ فِي الرّوَايَةِ
فَإِنّهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِالْوَاحِدِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى أَصْلِ
نِصَابِ الرّوَايَةِ هَذَا مَعَ أَنّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ إنّ مُجَرّدَ
رِوَايَةِ الْعَدْلِ عَنْ غَيْرِهِ تَعْدِيلٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ يُصَرّحْ
بِالتّعْدِيلِ كَمَا هُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَأَمّا
إذَا رَوَى عَنْهُ وَصَرّحَ بِتَعْدِيلِهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ
الْجَهَالَةِ الّتِي تُرَدّ لِأَجْلِهَا رِوَايَتُهُ لَا سِيّمَا إذَا
لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِالرّوَايَةِ عَنْ الضّعَفَاءِ وَالْمُتّهَمِينَ
وَأَبُو الزّبَيْرِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَدْلِيسٌ فَلَيْسَ مَعْرُوفًا
بِالتّدْلِيسِ عَنْ الْمُتّهَمِينَ وَالضّعَفَاءِ بَلْ تَدْلِيسُهُ مَنْ
جِنْسِ تَدْلِيسِ السّلَفِ لَمْ يَكُونُوا يُدَلّسُونَ عَنْ مُتّهَمٍ
وَلَا مَجْرُوحٍ وَإِنّمَا كَثُرَ هَذَا النّوْعُ مِنْ التّدْلِيسِ فِي
الْمُتَأَخّرِينَ .
[ حُجّةُ ابْنِ حَزْمٍ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْحَضَانَةِ بِالتّزْوِيجِ ]
وَاحْتَجّ
أَبُو مُحَمّدٍ عَلَى قَوْلِهِ بِمَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيّ
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْن ِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَدِمَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ لَهُ
خَادِمٌ فَأَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي وَانْطَلَقَ بِي إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ
أَنَسًا غُلَامٌ كَيّسٌ فَلْيَخْدُمْك . قَالَ فَخَدَمْتُهُ فِي السّفَرِ
وَالْحَضَرِ وَذَكَرَ الْخَبَرَ . [ ص 409 ] قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ :
فَهَذَا أَنَسٌ فِي حَضَانَةِ أُمّهِ وَلَهَا زَوْجٌ وَهُوَ أَبُو
طَلْحَةَ بِعِلْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَذَا
الِاحْتِجَاجُ فِي غَايَةِ السّقُوطِ وَالْخَبَرُ فِي غَايَةِ الصّحّةِ
فَإِنّ أَحَدًا مِنْ أَقَارِبِ أَنَسٍ لَمْ يُنَازِعْ أُمّهُ فِيهِ إلَى
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ لَمْ
يُثْغِرْ وَلَمْ يَأْكُلْ وَحْدَهُ وَلَمْ يَشْرَبْ وَحْدَهُ وَلَمْ
يُمَيّزْ وَأُمّهُ مُزَوّجَةٌ فَحَكَمَ بِهِ لِأُمّهِ وَإِنّمَا يَتِمّ
الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْمُقَدّمَاتِ كُلّهَا وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَ لِأَنَسِ مِنْ
الْعُمُرِ عَشْرُ سِنِينَ فَكَانَ عِنْدَ أُمّهِ فَلَمّا تَزَوّجَتْ أَبَا
طَلْحَةَ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْ أَقَارِبِ أَنَسٍ يُنَازِعُهَا فِي
وَلَدِهَا وَيَقُولُ قَدْ تَزَوّجَتْ فَلَا حَضَانَةَ لَك وَأَنَا
أَطْلُبُ انْتِزَاعَهُ مِنْك وَلَا رَيْبَ أَنّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى
الْمَرْأَةِ الْمُزَوّجَةِ حَضَانَةُ ابْنِهَا إذَا اتّفَقَتْ هِيَ
وَالزّوْجُ وَأَقَارِبُ الطّفْلِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا رَيْبَ أَنّهُ لَا
يَجِبُ بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرّقَ بَيْنَ الْأُمّ وَوَلَدِهَا إذَا
تَزَوّجَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَاصِمَهَا مَنْ لَهُ الْحَضَانَةُ
وَيَطْلُبَ انْتِزَاعَ الْوَلَدِ فَالِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْقِصّةِ مِنْ
أَبْعَدِ الِاحْتِجَاجِ وَأَبْرَدِهِ . وَنَظِيرُ هَذَا أَيْضًا
احْتِجَاجُهُمْ بِأَنّ أُمّ سَلَمَةَ لَمّا تَزَوّجَتْ بِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ تَسْقُطْ كَفَالَتُهَا لِابْنِهَا
بَلْ اسْتَمَرّتْ عَلَى حَضَانَتِهَا فَيَا عَجَبًا مِنْ الّذِي نَازَعَ
أُمّ سَلَمَةَ فِي وَلَدِهَا وَرَغِبَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي حِجْرِ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَاحْتَجّ لِهَذَا الْقَوْلِ
أَيْضًا بِأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى
بِابْنَةِ حَمْزَةَ لِخَالَتِهَا وَهِيَ مُزَوّجَةٌ بِجَعْفَرِ فَلَا
رَيْبَ أَنّ لِلنّاسِ فِي قِصّةِ ابْنَةِ حَمْزَةَ ثَلَاثَ مَآخِذَ .
أَحَدُهَا : أَنّ النّكَاحَ لَا يُسْقِطُ الْحَضَانَةَ . الثّانِي : أَنّ
الْمَحْضُونَةَ إذَا كَانَتْ بِنْتًا فَنِكَاحُ أُمّهَا لَا يُسْقِطُ
حَضَانَتَهَا وَيُسْقِطُهَا إذَا كَانَ ذَكَرًا . الثّالِثُ أَنّ الزّوْجَ
إذَا كَانَ نَسِيبًا مِنْ الطّفْلِ لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَتُهَا وَإِلّا
سَقَطَتْ فَالِاحْتِجَاجُ بِالْقِصّةِ عَلَى أَنّ النّكَاحَ لَا يُسْقِطُ
الْحَضَانَةَ مُطْلَقًا لَا يَتِمّ إلّا بَعْدَ إبْطَالِ ذَيْنِك
الِاحْتِمَالَيْنِ الْآخَرَيْنِ .
فَصْلٌ
وَقَضَاؤُهُ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْوَلَدِ لِأُمّهِ وَقَوْلُهُ أَنْتِ أَحَقّ
بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ عُمُومُ الْقَضَاءِ
لِكُلّ أُمّ حَتّى يَقْضِيَ بِهِ لِلْأُمّ . وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً
أَوْ رَقِيقَةً أَوْ [ ص 410 ] دَلّ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ عَلَى اعْتِبَارِ
الْإِسْلَامِ وَالْحُرّيّةِ وَالدّيَانَةِ وَالْإِقَامَةِ لَمْ يَكُنْ
ذَلِكَ تَخْصِيصًا وَلَا مُخَالَفَةَ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ .
[ شُرُوطُ الْحَاضِنِ الِاتّفَاقُ فِي الدّينِ ]
وَقَدْ
اُشْتُرِطَ فِي الْحَاضِنِ سِتّةُ شُرُوطٍ اتّفَاقُهُمَا فِي الدّينِ
فَلَا حَضَانَةَ لِكَافِرِ عَلَى مُسْلِمٍ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا :
أَنّ الْحَاضِنَ حَرِيصٌ عَلَى تَرْبِيَةِ الطّفْلِ عَلَى دِينِهِ وَأَنْ
يَنْشَأَ عَلَيْهِ وَيَتَرَبّى عَلَيْهِ فَيَصْعُبُ بَعْدَ كِبَرِهِ
وَعَقْلِهِ انْتِقَالُهُ عَنْهُ وَقَدْ يُغَيّرُهُ عَنْ فِطْرَةِ اللّهِ
الّتِي فَطَرَ عَلَيْهَا عِبَادَهُ فَلَا يُرَاجِعْهَا أَبَدًا كَمَا
قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلّ مَوْلُودٍ يُولَدُ
عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوّدَانِهِ أَوْ يُنَصّرَانِهِ أَوْ
يُمَجّسَانِهِ . فَلَا يُؤْمَنُ تَهْوِيدُ الْحَاضِنِ وَتَنْصِيرُهُ
لِلطّفْلِ الْمُسْلِمِ . فَإِنْ قِيلَ الْحَدِيثُ إنّمَا جَاءَ فِي
الْأَبَوَيْنِ خَاصّةً . قِيلَ الْحَدِيثُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ إذْ
الْغَالِبُ الْمُعْتَادُ نُشُوءُ الطّفْلِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ فَإِنْ
فُقِدَ الْأَبَوَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا قَامَ وَلِيّ الطّفْلِ مِنْ
أَقَارِبِهِ مَقَامَهُمَا .
[ حُجّةُ مَنْ أَثْبَتَ الْحَضَانَةَ لِلْكَافِرَةِ عَلَى الْوَلَدِ الْمُسْلِمِ ]
الْوَجْهُ
الثّانِي : أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَطَعَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفّارِ وَجَعَلَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَهُمْ
أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ وَالْكُفّارَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَالْحَضَانَةُ
مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْمُوَالَاةِ الّتِي قَطَعَهَا اللّهُ بَيْنَ
الْفَرِيقَيْنِ . وَقَالَ أَهْلُ الرّأْيِ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو
ثَوْرٍ : تَثْبُتُ الْحَضَانَةُ لَهَا مَعَ كُفْرِهَا وَإِسْلَامِ
الْوَلَدِ وَاحْتَجّوا بِمَا رَوَى النّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ رَافِعِ بْنِ
سِنَانٍ أَنّهُ أَسْلَمَ وَأَبَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ تُسْلِمَ فَأَتَتْ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ ابْنَتِي وَهِيَ
فَطِيمٌ أَوْ يُشْبِهُهُ وَقَالَ رَافِعٌ ابْنَتِي فَقَالَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اُقْعُدْ نَاحِيَةً " وَقَالَ لَهَا : "
اُقْعُدِي نَاحِيَةً " وَقَالَ لَهُمَا : " اُدْعُوَاهَا " فَمَالَتْ
الصّبِيّةُ إلَى أُمّهَا فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
" اللّهُمّ اهْدِهَا " فَمَالَتْ إلَى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا [ ص 411 ]
قَالُوا : وَلِأَنّ الْحَضَانَةَ لِأَمْرَيْنِ الرّضَاعِ وَخِدْمَةِ
الطّفْلِ وَكِلَاهُمَا يَجُوزُ مِنْ الْكَافِرَةِ .
[ رَدّ الْمُسْقِطِينَ لِحَقّ الْحَضَانَةِ لِلْكَافِرَةِ عَلَى الْمُثْبِتِينَ ]
قَالَ
الْآخَرُونَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ
جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ رَافِعِ بْنِ سِنَانِ
الْأَنْصَارِيّ الْأَوْسِيّ وَقَدْ ضَعّفَهُ إمَامُ الْعِلَلِ يَحْيَى
بْنُ سَعِيدٍ الْقَطّانُ وَكَانَ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ يَحْمِلُ عَلَيْهِ
وَضَعّفَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْحَدِيثَ وَضَعّفَهُ غَيْرُهُ وَقَدْ
اضْطَرَبَ فِي الْقِصّةِ فَرَوَى أَنّ الْمُخَيّرَ كَانَ بِنْتًا وَرَوَى
أَنّهُ كَانَ ابْنًا . وَقَالَ الشّيْخُ فِي " الْمُغْنِي " : وَأَمّا
الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَلَا يُثْبِتُهُ
أَهْلُ النّقْلِ . وَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
ثُمّ إنّ الْحَدِيثَ قَدْ يُحْتَجّ بِهِ عَلَى صِحّةِ مَذْهَبِ مَنْ
اشْتَرَطَ الْإِسْلَامَ فَإِنّ الصّبِيّةَ لَمّا مَالَتْ إلَى أُمّهَا
دَعَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا بِالْهِدَايَةِ
فَمَالَتْ إلَى أَبِيهَا وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ كَوْنَهَا مَعَ
الْكَافِرِ خِلَافُ هُدَى اللّهِ الّذِي أَرَادَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ
اسْتَقَرّ جَعْلُهَا مَعَ أُمّهَا لَكَانَ فِيهِ حُجّةٌ بَلْ أَبْطَلَهُ
اللّهُ سُبْحَانَهُ بِدَعْوَةِ رَسُولِهِ .
[ اشْتِرَاطُ الْخُلُوّ مِنْ الْفِسْقِ فِي الْحَضَانَةِ ]
وَمِنْ
الْعَجَبِ أَنّهُمْ يَقُولُونَ لَا حَضَانَةَ لِلْفَاسِقِ فَأَيّ فِسْقٍ
أَكْبَرُ مِنْ الْكُفْرِ ؟ وَأَيْنَ الضّرَرُ الْمُتَوَقّعُ مِنْ
الْفَاسِقِ بِنُشُوءِ الطّفْلِ عَلَى طَرِيقَتِهِ إلَى الضّرَرِ
الْمُتَوَقّعِ مِنْ الْكَافِرِ مَعَ أَنّ الصّوَابَ أَنّهُ لَا تُشْتَرَطُ
الْعَدَالَةُ فِي الْحَاضِنِ قَطْعًا وَإِنْ شَرَطَهَا أَصْحَابُ أَحْمَدَ
وَالشّافِعِيّ وَغَيْرُهُمْ وَاشْتِرَاطُهَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ . [ ص
412 ] لَضَاعَ أَطْفَالُ الْعَالَمِ وَلَعَظُمَتْ الْمَشَقّةُ عَلَى
الْأُمّةِ وَاشْتَدّ الْعَنَتُ وَلَمْ يَزَلْ مِنْ حِينِ قَامَ
الْإِسْلَامُ إلَى أَنْ تَقُومَ السّاعَةُ أَطْفَالُ الْفُسّاقِ
بَيْنَهُمْ لَا يَتَعَرّضُ لَهُمْ أَحَدٌ فِي الدّنْيَا مَعَ كَوْنِهِمْ
الْأَكْثَرِينَ . وَمَتَى وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ انْتِزَاعُ الطّفْلِ
مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا بِفِسْقِهِ ؟ وَهَذَا فِي الْحَرَجِ
وَالْعُسْرِ - وَاسْتِمْرَارُ الْعَمَلِ الْمُتّصِلِ فِي سَائِرِ
الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ عَلَى خِلَافِهِ - بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ
الْعَدَالَةِ فِي وِلَايَةِ النّكَاحِ فَإِنّهُ دَائِمُ الْوُقُوعِ فِي
الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ وَالْقُرَى وَالْبَوَادِي مَعَ أَنّ أَكْثَرَ
الْأَوْلِيَاءِ الّذِينَ يَلُونَ ذَلِكَ فُسّاقٌ وَلَمْ يَزَلْ الْفِسْقُ
فِي النّاسِ وَلَمْ يَمْنَعْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصّحَابَةِ فَاسِقًا مِنْ تَرْبِيَةِ ابْنِهِ
وَحَضَانَتِهِ لَهُ وَلَا مِنْ تَزْوِيجِهِ مُوَلّيَتِهِ وَالْعَادَةُ
شَاهِدَةٌ بِأَنّ الرّجُلَ وَلَوْ كَانَ مِنْ الْفُسّاقِ فَإِنّهُ
يَحْتَاطُ لِابْنَتِهِ وَلَا يُضَيّعُهَا وَيَحْرِصُ عَلَى الْخَيْرِ
لَهَا بِجَهْدِهِ وَإِنْ قُدّرَ خِلَافُ ذَلِكَ فَهُوَ قَلِيلٌ
بِالنّسْبَةِ إلَى الْمُعْتَادِ وَالشّارِعُ يَكْتَفِي فِي ذَلِكَ
بِالْبَاعِثِ الطّبِيعِيّ وَلَوْ كَانَ الْفَاسِقُ مَسْلُوبَ الْحَضَانَةِ
وَوِلَايَةِ النّكَاحِ لَكَانَ بَيَانُ هَذَا لِلْأُمّةِ مِنْ أَهَمّ
الْأُمُورِ وَاعْتِنَاءُ الْأُمّةِ بِنَقْلِهِ وَتَوَارُثُ الْعَمَلِ بِهِ
مُقَدّمًا عَلَى كَثِيرٍ مِمّا نَقَلُوهُ وَتَوَارَثُوا الْعَمَلَ بِهِ
فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ تَضْيِيعُهُ وَاتّصَالُ الْعَمَلِ
بِخِلَافِهِ . وَلَوْ كَانَ الْفِسْقُ يُنَافِي الْحَضَانَةَ لَكَانَ مَنْ
زَنَى أَوْ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ أَتَى كَبِيرَةً فُرّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
أَوْلَادِهِ الصّغَارِ وَالْتُمِسَ لَهُمْ غَيْرُهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ اشْتِرَاطُ الْعَقْلِ فِي الْحَاضِنِ ]
نَعَمْ
الْعَقْلُ مُشْتَرَطٌ فِي الْحَضَانَةِ فَلَا حَضَانَةَ لِمَجْنُونٍ وَلَا
مَعْتُوهٍ وَلَا طِفْلٍ لِأَنّ هَؤُلَاءِ يَحْتَاجُونَ إلَى مَنْ
يَحْضُنُهُمْ وَيَكْفُلُهُمْ فَكَيْفَ يَكُونُونَ كَافِلِينَ لِغَيْرِهِمْ
.
[ الْحُرّيّةُ ]
وَأَمّا اشْتِرَاطُ الْحُرّيّةِ فَلَا يَنْتَهِضُ
عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَرْكَنُ الْقَلْبُ إلَيْهِ وَقَدْ اشْتَرَطَهُ
أَصْحَابُ الْأَئِمّةِ الثّلَاثَةِ . وَقَالَ مَالِكٌ فِي حُرّ لَهُ
وَلَدٌ مِنْ أَمَةٍ إنّ الْأُمّ أَحَقّ بِهِ إلّا أَنْ تُبَاعَ
فَتَنْتَقِلُ فَيَكُونُ الْأَبُ أَحَقّ بِهَا وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ
لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 413 ] قَالَ لَا
تُوَلّهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا وَقَالَ مَنْ فَرّقَ بَيْنَ
الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا فَرّقَ اللّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبّتِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدْ قَالُوا : لَا يَجُوزُ التّفْرِيقُ فِي
الْبَيْعِ بَيْنَ الْأُمّ وَوَلَدِهَا الصّغِيرِ فَكَيْفَ يُفَرّقُونَ
بَيْنَهُمَا فِي الْحَضَانَةِ ؟ وَعُمُومُ الْأَحَادِيثِ تَمْنَعُ مِنْ
التّفْرِيقِ مُطْلَقًا فِي الْحَضَانَةِ وَالْبَيْعِ وَاسْتِدْلَالُهُمْ
بِكَوْنِ مَنَافِعِهَا مَمْلُوكَةً لِلسّيّدِ فَهِيَ مُسْتَغْرِقَةٌ فِي
خِدْمَتِهِ فَلَا تَفْرُغُ لِحَضَانَةِ الْوَلَدِ مَمْنُوعٌ بَلْ حَقّ
الْحَضَانَةِ لَهَا تُقَدّمُ بِهِ فِي أَوْقَاتِ حَاجَةِ الْوَلَدِ عَلَى
حَقّ السّيّدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ سَوَاءٌ . وَأَمّا اشْتِرَاطُ
خُلُوّهَا مِنْ النّكَاحِ فَقَدْ تَقَدّمَ .
[ الْخُلُوّ مِنَ النّكَاحِ ]
وَهَاهُنَا
مَسْأَلَةٌ يَنْبَغِي التّنْبِيهُ عَلَيْهَا وَهِيَ أَنّا إذَا
أَسْقَطْنَا حَقّهَا مِنْ الْحَضَانَةِ بِالنّكَاحِ وَنَقَلْنَاهَا إلَى
غَيْرِهَا فَاتّفِقَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَاهَا لَمْ يَسْقُطْ
حَقّهَا مِنْ الْحَضَانَةِ وَهِيَ أَحَقّ بِهِ مِنْ الْأَجْنَبِيّ الّذِي
يَدْفَعُهُ الْقَاضِي إلَيْهِ وَتَرْبِيَتُهُ فِي حِجْرِ أُمّهِ
وَرَأْيِهِ أَصْلَحُ مِنْ تَرْبِيَتِهِ فِي بَيْتِ أَجْنَبِيّ مَحْضٍ لَا
قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا تُوجِبُ شَفَقَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَحُنُوّهُ وَمِنْ
الْمُحَالِ أَنْ تَأْتِيَ الشّرِيعَةُ بِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ بِمَفْسَدَةِ
أَعْظَمَ مِنْهَا بِكَثِيرِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لَمْ يَحْكُمْ حُكْمًا عَامّا كُلّيّا : أَنّ كُلّ امْرَأَةٍ تَزَوّجَتْ
سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ حَتّى يَكُونَ إثْبَاتُ
الْحَضَانَةِ لِلْأُمّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُخَالَفَةً لِلنّصّ .
[ اتّحَادُ الدّارِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الْحَاضِنِ ]
وَأَمّا
اتّحَادُ الدّارِ فَإِنْ كَانَ سَفَرُ أَحَدِهِمَا لِحَاجَةِ ثُمّ يَعُودُ
وَالْآخَرُ مُقِيمٌ فَهُوَ أَحَقّ بِهِ لِأَنّ السّفَرَ بِالْوَلَدِ
الطّفْلِ وَلَا سِيّمَا إنْ كَانَ رَضِيعًا إضْرَارٌ بِهِ وَتَضْيِيعٌ
لَهُ هَكَذَا أَطْلَقُوهُ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا سَفَرَ الْحَجّ مِنْ
غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُنْتَقِلًا عَنْ بَلَدِ الْآخَرِ [ ص
414 ] لِلْإِقَامَةِ وَالْبَلَدُ وَطَرِيقُهُ مَخُوفَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا
فَالْمُقِيمُ أَحَقّ وَإِنْ كَانَ هُوَ وَطَرِيقُهُ آمِنَيْنِ فَفِيهِ
قَوْلَانِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد َ إحْدَاهُمَا : أَنّ
الْحَضَانَةَ لِلْأَبِ لِيَتَمَكّنَ مِنْ تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ
وَتَأْدِيبِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِك ٍ وَالشّافِعِيّ
وَقَضَى بِهِ شُرَيْح ٌ . وَالثّانِيَةُ أَنّ الْأُمّ أَحَقّ . وَفِيهَا
قَوْلٌ ثَالِثٌ أَنّ الْمُنْتَقِلَ إنْ كَانَ هُوَ الْأَبَ فَالْأُمّ
أَحَقّ وَإِنْ كَانَ الْأُمّ فَإِنْ انْتَقَلَتْ إلَى الْبَلَدِ الّذِي
كَانَ فِيهِ أَصْلُ النّكَاحِ فَهِيَ أَحَقّ بِهِ وَإِنْ انْتَقَلَتْ إلَى
غَيْرِهِ فَالْأَبُ أَحَقّ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيّةِ . وَحَكَوْا عَنْ
أَبِي حَنِيفَة َ رِوَايَةً أُخْرَى : أَنّ نَقْلَهَا إنْ كَانَ مِنْ
بَلَدٍ إلَى قَرْيَةٍ فَالْأَبُ أَحَقّ وَإِنْ كَانَ مِنْ بَلَدٍ إلَى
بَلَدٍ فَهِيَ أَحَقّ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ كُلّهَا كَمَا تَرَى لَا يَقُومُ
عَلَيْهَا دَلِيلٌ يَسْكُنُ الْقَلْبُ إلَيْهِ فَالصّوَابُ النّظَرُ
وَالِاحْتِيَاطُ لِلطّفْلِ فِي الْأَصْلَحِ لَهُ وَالْأَنْفَعِ مِنْ
الْإِقَامَةِ أَوْ النّقْلَةِ فَأَيّهُمَا كَانَ أَنْفَعَ لَهُ وَأَصْوَنَ
وَأَحْفَظَ رُوعِيَ وَلَا تَأْثِيرَ لِإِقَامَةٍ وَلَا نُقْلَةٍ هَذَا
كُلّهُ مَا لَمْ يُرِدْ أَحَدُهُمَا بِالنّقْلَةِ مُضَارّةَ الْآخَرِ
وَانْتِزَاعَ الْوَلَدِ مِنْهُ . فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ لَمْ يَجِبْ
إلَيْهِ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ .
فَصْلٌ [ قَوْلُ مَنْ اشْتَرَطَ لِسُقُوطِ الْحَضَانَةِ مَعَ عَقْدِ النّكَاحِ وَالدّخُولِ حُكْمَ الْحَاكِمِ ]
وَقَوْلُهُ
أَنْتِ أَحَقّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي قِيلَ فِيهِ إضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ
مَا لَمْ تَنْكِحِي وَيَدْخُلْ بِك الزّوْجُ وَيَحْكُمْ الْحَاكِمُ
بِسُقُوطِ الْحَضَانَةِ . وَهَذَا تَعَسّفٌ بَعِيدٌ لَا يُشْعِرُ بِهِ
اللّفْظُ وَلَا يَدُلّ عَلَيْهِ بِوَجْهِ وَلَا هُوَ مِنْ دَلَالَةِ
الِاقْتِضَاءِ الّتِي تَتَوَقّفُ صِحّةُ الْمَعْنَى عَلَيْهَا وَالدّخُولُ
دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ " تَنْكِحِي " عِنْدَ مَنْ اعْتَبَرَهُ فَهُوَ
كَقَوْلِهِ { حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ
فَالْمُرَادُ بِالنّكَاحِ عِنْدَهُ الْعَقْدُ . وَأَمّا حُكْمُ الْحَاكِمِ
بِسُقُوطِ الْحَضَانَةِ فَذَاكَ إنّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ
التّنَازُعِ وَالْخُصُومَةِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ فَيَكُونُ
مُنَفّذًا لِحُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا
أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْقَفَ سُقُوطَ
الْحَضَانَةِ عَلَى حُكْمِهِ بَلْ قَدْ حَكَمَ هُوَ بِسُقُوطِهَا حَكَمَ
بِهِ الْحُكّامُ بَعْدَهُ أَوْ لَمْ يَحْكُمُوا . وَاَلّذِي دَلّ عَلَيْهِ
هَذَا الْحُكْمُ النّبَوِيّ أَنّ الْأُمّ أَحَقّ بِالطّفْلِ مَا لَمْ
يُوجَدْ مِنْهَا النّكَاحُ فَإِذَا نَكَحَتْ زَالَ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ
وَانْتَقَلَ الْحَقّ [ ص 415 ] طَلَبَهُ مَنْ لَهُ الْحَقّ وَجَبَ عَلَى
خَصْمِهِ أَنْ يَبْذُلَهُ لَهُ فَإِنْ امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ
عَلَيْهِ وَإِنْ أَسْقَطَ حَقّهُ أَوْ لَمْ يُطَالِبْ بِهِ بَقِيَ عَلَى
مَا كَانَ عَلَيْهِ أَوّلًا فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَامّةٌ مُسْتَفَادَةٌ
مِنْ غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ .
فَصْلٌ [ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي التّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ ]
وَقَدْ
احْتَجّ مَنْ لَا يَرَى التّخْيِيرَ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ بِظَاهِرِ هَذَا
الْحَدِيثِ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنّهُ قَالَ أَنْتِ أَحَقّ بِهِ
وَلَوْ خُيّرَ الطّفْلُ لَمْ تَكُنْ هِيَ أَحَقّ بِهِ إلّا إذَا
اخْتَارَهَا كَمَا أَنّ الْأَبَ لَا يَكُونُ أَحَقّ بِهِ إلّا إذَا
اخْتَارَهُ فَإِنْ قُدّرَ أَنْتِ أَحَقّ بِهِ إنْ اخْتَارَك . قُدّرَ
ذَلِكَ فِي جَانِبِ الْأَبِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
جَعَلَهَا أَحَقّ بِهِ مُطْلَقًا عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَة َ وَمَالِكٍ . وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ
وَمَذَاهِبَ النّاسِ فِيهَا وَالِاحْتِجَاجَ لِأَقْوَالِهِمْ وَنُرَجّحُ
مَا وَافَقَ حُكْمَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْهَا .
أَبِي حَنِيفَة َ وَمَالِك ٍ . وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ وَمَذَاهِبَ النّاسِ فِيهَا وَالِاحْتِجَاجَ
لِأَقْوَالِهِمْ وَنُرَجّحُ مَا وَافَقَ حُكْمَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهَا .
ذِكْرُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
ذَكَرَ
عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ عَنْ
ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ طَلّقَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ امْرَأَتَهُ فَذَكَرَ الْأَثَرَ
الْمُتَقَدّمَ وَقَالَ فِيهِ رِيحُهَا وَفِرَاشُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْك
حَتّى يَشِبّ وَيَخْتَارَ لِنَفْسِهِ فَحَكَمَ بِهِ لِأُمّهِ حِينَ لَمْ
يَكُنْ لَهُ تَمْيِيزٌ إلَى أَنْ يَشِبّ وَيُمَيّزَ وَيُخَيّرَ حِينَئِذٍ .
ذِكْرُ قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
قَالَ
الشّافِعِيّ : حَدّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
جَابِرٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ
عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ . خَيّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمّهِ وَقَالَ عَبْدُ
الرّزّاقِ : أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُبَيْدِ
بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ خَيّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ غُلَامًا مَا
بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمّهِ فَاخْتَارَ أُمّهُ فَانْطَلَقَتْ بِهِ . [ ص 416
] وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ أَيْضًا : عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيّوبَ عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ
قَالَ اُخْتُصِمَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ فِي غُلَامٍ فَقَالَ هُوَ
مَعَ أُمّهِ حَتّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ لِيَخْتَارَ . وَذَكَرَ
سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ
مُسْلِمٍ قَالَ اخْتَصَمُوا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ فِي يَتِيمٍ فَخَيّرَهُ فَاخْتَارَ أُمّهُ عَلَى عَمّهِ فَقَالَ
عُمَرُ إنّ لُطْفَ أُمّك خَيْرٌ مِنْ خِصْبِ عَمّكَ
ذِكْرُ قَوْلِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْه
قَالَ
الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ تَعَالَى : أَنْبَأَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ
عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الْجَرْمِيّ عَنْ عِمَارَةَ الْجَرْمِيّ
قَالَ خَيّرَنِي عَلِيّ بَيْنَ أُمّي وَعَمّي ثُمّ قَالَ لِأَخٍ لِي
أَصْغَرَ مِنّي : وَهَذَا أَيْضًا لَوْ بَلَغَ مَبْلَغَ هَذَا
لَخَيّرْتُهُ قَالَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ قَالَ إبْرَاهِيمُ عَنْ
يُونُسَ عَنْ عِمَارَةَ عَنْ عَلِيّ مِثْلَهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ
وَكُنْتُ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ . قَالَ يَحْيَى
الْقَطّانُ : حَدّثَنَا يُونُس بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْجَرْمِيّ حَدّثَنِي
عِمَارَةُ بْنُ رُوَيْبَةَ أَنّهُ تَخَاصَمَتْ فِيهِ أُمّهُ وَعَمّهُ إلَى
عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ فَخَيّرَنِي عَلِيّ
ثَلَاثًا كُلّهُنّ أَخْتَارُ أُمّي وَمَعِي أَخٌ لِي صَغِيرٌ فَقَالَ
عَلِيّ هَذَا إذَا بَلَغَ مَبْلَغَ هَذَا خُيّرَ
ذِكْرُ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
قَالَ
أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ : حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ [ ص 417 ] أَبِي مَيْمُونَةَ قَالَ
شَهِدْت أَبَا هُرَيْرَةَ خَيّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمّهِ
وَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيّرَ
غُلَامًا بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمّه
[ مَذْهَبُ ابْنِ رَاهْوَيْه ِ فِي التّخْيِيرِ ]
فَهَذَا
مَا ظَفِرْتُ بِهِ عَنْ الصّحَابَةِ . وَأَمّا الْأَئِمّةُ فَقَالَ حَرْبُ
بْنُ إسْمَاعِيلَ : سَأَلْت إسْحَاقَ بْنَ رَاهْوَيْهِ إلَى مَتَى يَكُونُ
الصّبِيّ وَالصّبِيّةُ مَعَ الْأُمّ إذَا طَلُقَتْ ؟ قَالَ أَحَبّ إلَيّ
أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأُمّ إلَى سَبْعِ سِنِينَ ثُمّ يُخَيّرُ . قُلْت
لَهُ أَتَرَى التّخْيِيرَ ؟ قَالَ شَدِيدًا . قُلْت : فَأَقَلّ مِنْ
سَبْعِ سِنِينَ لَا يُخَيّرُ ؟ قَالَ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ إلَى خَمْسٍ
وَأَنَا أَحَبّ إلَيّ سَبْعٌ .
[ مَذْهَبُ أَحْمَدَ ]
وَأَمّا
مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد َ فَإِمّا أَنْ يَكُونَ الطّفْلُ ذَكَرًا
أَوْ أُنْثَى فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَإِمّا أَنْ يَكُونَ ابْنَ سَبْعٍ
أَوْ دُونَهَا فَإِنْ كَانَ لَهُ دُونَ السّبْعِ فَأُمّهُ أَحَقّ
بِحَضَانَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ وَإِنْ كَانَ لَهُ سَبْعٌ فَفِيهِ
ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ . إحْدَاهَا - وَهِيَ الصّحِيحَةُ الْمَشْهُورَةُ مِنْ
مَذْهَبِهِ - أَنّهُ يُخَيّرُ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَصْحَابه فَإِنْ لَمْ
يَخْتَرْ وَاحِدًا مِنْهُمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ لِمَنْ قَرَعَ
وَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا ثُمّ عَادَ فَاخْتَارَ الْآخَرَ نُقِلَ
إلَيْهِ وَهَكَذَا أَبَدًا . وَالثّانِيَةُ أَنّ الْأَبَ أَحَقّ بِهِ مِنْ
غَيْرِ تَخْيِيرٍ . وَالثّالِثَةُ أَنّ الْأُمّ أَحَقّ بِهِ كَمَا قَبْلَ
السّبْعِ . وَأَمّا إذَا كَانَ أُنْثَى فَإِنْ كَانَ لَهَا دُونَ سَبْعِ
سِنِينَ فَأُمّهَا أَحَقّ بِهَا مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ وَإِنْ بَلَغَتْ
سَبْعًا فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنّ الْأُمّ أَحَقّ بِهَا إلَى
تِسْعِ سِنِينَ فَإِذَا بَلَغَتْ تِسْعًا فَالْأَبُ أَحَقّ بِهَا مِنْ
غَيْرِ تَخْيِيرٍ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ أَنّ الْأُمّ أَحَقّ
بِهَا حَتّى تَبْلُغَ وَلَوْ تَزَوّجَتْ الْأُمّ . وَعَنْهُ رِوَايَةٌ
خَامِسَةٌ أَنّهَا تُخَيّرُ بَعْدَ السّبْعِ كَالْغُلَامِ نَصّ عَلَيْهَا
وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ إنّمَا حَكَوْا ذَلِكَ [ ص 418 ]
[ مَذْهَبُ الشّافِعِيّ ]
وَقَالَ
الشّافِعِيّ : الْأُمّ أَحَقّ بِالطّفْلِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى إلَى
أَنْ يَبْلُغَا سَبْعَ سِنِينَ فَإِذَا بَلَغَا سَبْعًا وَهُمَا
يَعْقِلَانِ عَقْلَ مِثْلِهِمَا خُيّرَ كُلّ مِنْهُمَا بَيْنَ أَبِيهِ
وَأُمّهِ وَكَانَ مَعَ مَنْ اخْتَارَ .
[ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ]
وَقَالَ
مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا تَخْيِيرَ بِحَالِ ثُمّ اخْتَلَفَا فَقَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ الْأُمّ أَحَقّ بِالْجَارِيَةِ حَتّى تَبْلُغَ
وَبِالْغُلَامِ حَتّى يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ
وَحْدَهُ ثُمّ يَكُونَانِ عِنْدَ الْأَبِ وَمَنْ سِوَى الْأَبَوَيْنِ
أَحَقّ بِهِمَا حَتّى يَسْتَغْنِيَا وَلَا يُعْتَبَرُ الْبُلُوغُ وَقَالَ
مَالِكٌ الْأُمّ أَحَقّ بِالْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى حَثَى
يُثْغِرَ هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ : حَتّى
يَبْلُغَ وَلَا يُخَيّرُ بِحَالٍ .
[ مَذْهَبُ اللّيْثِ ]
وَقَالَ
اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : الْأُمّ أَحَقّ بِالِابْنِ حَتّى يَبْلُغَ ثَمَانَ
سِنِينَ وَبِالْبِنْتِ حَتّى تَبْلُغَ ثُمّ الْأَبُ أَحَقّ بِهِمَا بَعْدَ
ذَلِكَ .
[ مَذْهَبُ الْحَسَنِ بْنِ حَيّ ]
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ
حَيّ الْأُمّ أَوْلَى بِالْبِنْتِ حَتّى يَكْعُبَ ثَدْيَاهَا
وَبِالْغُلَامِ حَتّى يَيْفَعَ فَيُخَيّرَانِ بَعْدَ ذَلِكَ بَيْنَ
أَبَوَيْهِمَا الذّكَرُ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ .
[ مَذْهَبُ مَنْ قَالَ بِالتّخْيِيرِ فِي الْغُلَامِ دُونَ الْجَارِيَةِ ]
قَالَ
الْمُخَيّرُونَ فِي الْغُلَامِ دُونَ الْجَارِيَةِ قَدْ ثَبَتَ
التّخْيِيرُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْغُلَامِ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة : وَثَبَتَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ
وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ فِي الصّحَابَةِ
أَلْبَتّةَ وَلَا أَنْكَرَهُ مُنْكِرٌ . قَالُوا : وَهَذَا غَايَةٌ فِي
الْعَدْلِ الْمُمْكِنِ فَإِنّ الْأُمّ إنّمَا قُدّمَتْ فِي حَالِ الصّغَرِ
لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى التّرْبِيَةِ وَالْحَمْلِ وَالرّضَاعِ
وَالْمُدَارَاةِ الّتِي لَا تَتَهَيّأُ لِغَيْرِ النّسَاءِ وَإِلّا
فَالْأُمّ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فَكَيْفَ تُقَدّمُ عَلَيْهِ ؟ فَإِذَا
بَلَغَ الْغُلَامُ حَدّا يُعْرِبُ فِيهِ عَنْ نَفْسِهِ وَيَسْتَغْنِي عَنْ
الْحَمْلِ وَالْوَضْعِ وَمَا تُعَانِيهِ النّسَاءُ تَسَاوَى الْأَبَوَانِ
وَزَالَ السّبَبُ الْمُوجِبُ لِتَقْدِيمِ الْأُمّ وَالْأَبَوَانِ
مُتَسَاوِيَانِ فِيهِ فَلَا يُقَدّمُ أَحَدُهُمَا إلّا بِمُرَجّحِ
وَالْمُرَجّحُ إمّا مِنْ خَارِجٍ وَهُوَ الْقُرْعَةُ وَإِمّا مِنْ جِهَةِ
الْوَلَدِ وَهُوَ اخْتِيَارُهُ وَقَدْ جَاءَتْ السّنّةُ بِهَذَا وَهَذَا
وَقَدْ جَمَعَهُمَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فاعتبرناهما جَمِيعًا وَلَمْ
نَدْفَعْ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ . [ ص 419 ] يُصَارُ إلَيْهَا إذَا
تَسَاوَتْ الْحُقُوقُ مِنْ كُلّ وَجْهٍ وَلَمْ يَبْقَ مُرَجّحٌ سِوَاهَا
وَهَكَذَا فَعَلْنَا هَاهُنَا قَدّمْنَا أَحَدَهُمَا بِالِاخْتِيَارِ
فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ أَوْ اخْتَارَهُمَا جَمِيعًا عَدَلْنَا إلَى
الْقُرْعَةِ فَهَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُوَافَقَةُ السّنّةِ لَكَانَ
مِنْ أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ وَأَعْدَلِهَا وَأَقْطَعِهَا لِلنّزَاعِ
بِتَرَاضِي الْمُتَنَازِعَيْنِ . وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ فِي مَذْهَبِ
أَحْمَد وَالشّافِعِيّ أَنّهُ إذَا لَمْ يَخْتَرْ وَاحِدًا مِنْهُمَا
كَانَ عِنْدَ الْأُمّ بِلَا قُرْعَةٍ لِأَنّ الْحَضَانَةَ كَانَتْ لَهَا
وَإِنّمَا نَنْقُلُهُ عَنْهَا بِاخْتِيَارِهِ فَإِذَا لَمْ يَخْتَرْ
بَقِيَ عِنْدَهَا عَلَى مَا كَانَ . فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ قَدّمْتُمْ
التّخْيِيرَ عَلَى الْقُرْعَةِ وَالْحَدِيثُ فِيهِ تَقْدِيمُ الْقُرْعَةِ
أَوّلًا ثُمّ التّخْيِيرُ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنّ الْقُرْعَةَ طَرِيقٌ
شَرْعِيّ لِلتّقْدِيمِ عِنْدَ تَسَاوِي الْمُسْتَحِقّينَ وَقَدْ تَسَاوَى
الْأَبَوَانِ فَالْقِيَاسُ تَقْدِيمُ أَحَدِهِمَا بِالْقُرْعَةِ فَإِنْ
أَبَيَا الْقُرْعَةَ لَمْ يَبْقَ إلّا اخْتِيَارُ الصّبِيّ فَيُرَجّحُ
بِهِ فَمَا بَالُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالشّافِعِيّ قَدّمُوا التّخْيِيرَ
عَلَى الْقُرْعَةِ . قِيلَ إنّمَا قُدّمَ التّخْيِيرُ لِاتّفَاقِ
أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ وَعَمَلِ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ بِهِ
وَأَمّا الْقُرْعَةُ فَبَعْضُ الرّوَاةِ ذَكَرَهَا فِي الْحَدِيثِ
وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْهَا وَإِنّمَا كَانَتْ فِي بَعْضِ طُرُقِ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَحْدَهُ فَقُدّمَ التّخْيِيرُ عَلَيْهَا
فَإِذَا تَعَذّرَ الْقَضَاءُ بِالتّخْيِيرِ تَعَيّنَتْ الْقُرْعَةُ
طَرِيقًا لِلتّرْجِيحِ إذْ لَمْ يَبْقَ سِوَاهَا .
[ رَدّ الْمُخَيّرِينَ عَلَى مَنْ اقْتَصَرَ بِالتّخْيِيرِ عَلَى الْغُلَامِ ]
ثُمّ
قَالَ الْمُخَيّرُونَ لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ رَوَى النّسَائِيّ فِي "
سُنَنِهِ " وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ
رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ تَنَازَعَ هُوَ وَأُمّ
فِي ابْنَتِهِمَا وَأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَقْعَدَهُ نَاحِيَةً وَأَقْعَدَ الْمَرْأَةَ نَاحِيَةً وَأَقْعَدَ
الصّبِيّةَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ " اُدْعُوَاهَا " فَمَالَتْ إلَى أُمّهَا
فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اللّهُمّ اهْدِهَا "
فَمَالَتْ إلَى أَبِيهَا فَأَخَذَهَا قَالُوا : وَلَوْ لَمْ يَرِدْ هَذَا
الْحَدِيثُ لَكَانَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ [ ص
420 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ
رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ وَفِي قَوْلِهِ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي
عَبْدٍ بَلْ حَدِيثُ الْحَضَانَةِ أَوْلَى بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ
الذّكُورِيّةِ فِيهِ لِأَنّ لَفْظَ الصّبِيّ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ
الشّارِعِ إنّمَا الصّحَابِيّ حَكَى الْقِصّةَ وَأَنّهَا كَانَتْ فِي
صَبِيّ فَإِذَا نُقّحَ الْمَنَاطُ تَبَيّنَ أَنّهُ لَا تَأْثِيرَ
لِكَوْنِهِ ذَكَرًا .
[ رَدّ الْحَنَابِلَةِ عَلَى مَنْ أَجَازَ التّخْيِيرَ لِلذّكَرِ وَالْأُنْثَى ]
قَالَتْ
الْحَنَابِلَةُ : الْكَلَامُ مَعَكُمْ فِي مَقَامَيْنِ أَحَدُهُمَا :
اسْتِدْلَالُكُمْ بِحَدِيثِ رَافِعٍ وَالثّانِي : إلْغَاؤُكُمْ وَصْفَ
الذّكُورِيّةِ فِي أَحَادِيثِ التّخْيِيرِ . فَأَمّا الْأَوّلُ
فَالْحَدِيثُ قَدْ ضَعّفَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ وَضَعّفَ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَالثّوْرِيّ عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ جَعْفَرٍ
وَأَيْضًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّ
الْمُخَيّرَ كَانَ بِنْتًا وَرُوِيَ أَنّهُ كَانَ ابْنًا . فَقَالَ عَبْدُ
الرّزّاقِ : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتّيّ عَنْ عَبْدِ
الْحَمِيدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنّ أَبَوَيْهِ
اخْتَصَمَا إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحَدُهُمَا
مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ كَافِرٌ فَتَوَجّهَ إلَى الْكَافِرِ فَقَالَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اللّهُمّ اهْدِهِ " فَتَوَجّهَ إلَى
الْمُسْلِمِ فَقَضَى لَهُ بِهِ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيّ :
وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى أَنّهُ كَانَ غُلَامًا أَصَحّ . قَالُوا : وَلَوْ
سَلِمَ لَكُمْ أَنّهُ كَانَ أُنْثَى فَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ
فَإِنّ فِيهِ أَنّ أَحَدَهُمَا كَانَ مُسْلِمًا وَالْآخَرَ كَافِرًا
فَكَيْفَ تَحْتَجّونَ بِمَا لَا تَقُولُونَ بِهِ . قَالُوا : وَأَيْضًا [
ص 421 ] كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَفِي الْحَدِيثِ أَنّ الطّفْلَ كَانَ
فَطِيمًا وَهَذَا قَطْعًا دُونَ السّبْعِ وَالظّاهِرُ أَنّهُ دُونَ
الْخَمْسِ وَأَنْتُمْ لَا تُخَيّرُونَ مَنْ لَهُ دُونَ السّبْعِ فَظَهَرَ
أَنّهُ لَا يُمْكِنُكُمْ الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ رَافِعٍ هَذَا عَلَى
كُلّ تَقْدِيرٍ . فَبَقِيَ الْمَقَامُ الثّانِي وَهُوَ إلْغَاءُ وَصْفِ
الذّكُورَةِ فِي أَحَادِيثِ التّخْيِيرِ وَغَيْرِهَا فَنَقُولُ لَا رَيْبَ
أَنّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَكْفِي فِيهَا وَصْفُ الذّكُورَةِ أَوْ
وَصْفُ الْأُنُوثَةِ قَطْعًا وَمِنْهَا مَا لَا يَكْفِي فِيهِ بَلْ
يُعْتَبَرُ فِيهِ إمّا هَذَا وَإِمّا هَذَا فَيُلْغَى الْوَصْفُ فِي كُلّ
حُكْمٍ تَعَلّقَ بِالنّوْعِ الْإِنْسَانِيّ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ
الْأَفْرَادِ وَيُعْتَبَرُ وَصْفُ الذّكُورَةِ فِي كُلّ مَوْضِعٍ كَانَ
لَهُ تَأْثِيرٌ فِيهِ كَالشّهَادَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْوِلَايَةِ فِي
النّكَاحِ وَيُعْتَبَرُ وَصْفُ الْأُنُوثَةِ فِي كُلّ مَوْضِعٍ يَخْتَصّ
بِالْإِنَاثِ أَوْ يُقَدّمْنَ فِيهِ عَلَى الذّكُورِ كَالْحَضَانَةِ إذَا
اسْتَوَى فِي الدّرَجَةِ الذّكَرُ وَالْأُنْثَى قُدّمَتْ الْأُنْثَى .
بَقِيَ النّظَرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ شَأْنِ التّخْيِيرِ هَلْ
لِوَصْفِ الذّكُورَةِ تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ فَيُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الّذِي
تُعْتَبَرُ فِيهِ أَوْ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فَيُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الّذِي
يُلْغَى فِيهِ ؟ وَلَا سَبِيلَ إلَى جَعْلِهَا مِنْ الْقِسْمِ الْمُلْغَى
فِيهِ وَصْفُ الذّكُورَةِ لِأَنّ التّخْيِيرَ هَاهُنَا تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ
لَا تَخْيِيرُ رَأْيٍ وَمَصْلَحَةٍ وَلِهَذَا إذَا اخْتَارَ غَيْرَ مَنْ
اخْتَارَهُ أَوّلًا نُقِلَ إلَيْهِ فَلَوْ خُيّرَتْ الْبِنْتُ أَفْضَى
ذَلِكَ إلَى أَنْ تَكُونَ عِنْدَ الْأَبِ تَارَةً وَعِنْدَ الْأُمّ
أُخْرَى فَإِنّهَا كُلّمَا شَاءَتْ الِانْتِقَالَ أُجِيبَتْ إلَيْهِ
وَذَلِكَ عَكْسُ مَا شُرِعَ لِلْإِنَاثِ مِنْ لُزُومِ الْبُيُوتِ وَعَدَمِ
الْبُرُوزِ وَلُزُومِ الْخُدُورِ وَرَاءَ الْأَسْتَارِ فَلَا يَلِيقُ
بِهَا أَنْ تُمَكّنَ مِنْ خِلَافِ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَصْفُ
مُعْتَبَرًا قَدْ شَهِدَ لَهُ الشّرْعُ بِالِاعْتِبَارِ لَمْ يُمْكِنْ
إلْغَاؤُهُ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَإِنّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَلّا
يَبْقَى الْأَبُ مُوَكّلًا بِحِفْظِهَا وَلَا الْأُمّ لِتَنَقّلِهَا
بَيْنَهُمَا وَقَدْ عُرِفَ بِالْعَادَةِ أَنّ مَا يَتَنَاوَبُ النّاسُ
عَلَى حِفْظِهِ وَيَتَوَاكَلُونَ فِيهِ فَهُوَ آيِلٌ إلَى ضَيَاعٍ وَمِنْ
الْأَمْثَالِ السّائِرَةِ " لَا يَصْلُحُ الْقِدْرُ بَيْنَ طَبّاخَيْنِ "
. قَالُوا : وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ شَاهِدَةٌ بِأَنّ اخْتِيَارَ
أَحَدِهِمَا يُضْعِفُ رَغْبَةَ الْآخَرِ فِيهِ [ ص 422 ] فَإِنْ قُلْتُمْ
فَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الصّبِيّ وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ
تَخْيِيرَهُ . قُلْنَا : صَدَقْتُمْ لَكِنْ عَارَضَهُ كَوْنُ الْقُلُوبِ
مَجْبُولَةً عَلَى حُبّ الْبَنِينَ وَاخْتِيَارِهِمْ عَلَى الْبَنَاتِ
فَإِذَا اجْتَمَعَ نَقْصُ الرّغْبَةِ وَنَقْصُ الْأُنُوثَةِ وَكَرَاهَةُ
الْبَنَاتِ فِي الْغَالِبِ ضَاعَتْ الطّفْلَةُ وَصَارَتْ إلَى فَسَادٍ
يَعْسُرُ تَلَافِيهِ وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِهَذَا وَالْفِقْهُ تَنْزِيلُ
الْمَشْرُوعِ عَلَى الْوَاقِعِ وَسِرّ الْفَرْقِ أَنّ الْبِنْتَ تَحْتَاجُ
مِنْ الْحِفْظِ وَالصّيَانَةِ فَوْقَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الصّبِيّ
وَلِهَذَا شُرِعَ فِي حَقّ الْإِنَاثِ مِنْ السّتْرِ وَالْخَفَرِ مَا لَمْ
يُشْرَعْ مِثْلُهُ لِلذّكُورِ فِي اللّبَاسِ وَإِرْخَاءِ الذّيْلِ شِبْرًا
أَوْ أَكْثَرَ وَجَمْعِ نَفْسِهَا فِي الرّكُوعِ وَالسّجُودِ دُونَ
التّجَافِي وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَا
تَرْمُلُ فِي الطّوَافِ وَلَا تَتَجَرّدُ فِي الْإِحْرَامِ عَنْ
الْمِخْيَطِ وَلَا تَكْشِفُ رَأْسَهَا وَلَا تُسَافِرُ وَحْدَهَا هَذَا
كُلّهُ مَعَ كِبَرِهَا وَمَعْرِفَتِهَا فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ فِي سِنّ
الصّغَرِ وَضَعْفِ الْعَقْلِ الّذِي يَقْبَلُ فِيهِ الِانْخِدَاعَ ؟ وَلَا
رَيْبَ أَنّ تَرَدّدَهَا بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ مِمّا يَعُودُ عَلَى
الْمَقْصُودِ بِالْإِبْطَالِ أَوْ يُخِلّ بِهِ أَوْ يُنْقِصُهُ لِأَنّهَا
لَا تَسْتَقِرّ فِي مَكَانٍ مُعَيّنٍ فَكَانَ الْأَصْلَحُ لَهَا أَنْ
تُجْعَلَ عِنْدَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ كَمَا
قَالَهُ الْجُمْهُورُ مَالِك ٌ وَأَبُو حَنِيفَة َ وَأَحْمَد ُ
وَإِسْحَاقُ فَتَخْيِيرُهَا لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَلَا هُوَ فِي
مَعْنَاهُ فَيَلْحَقُ بِهِ .
[ اخْتِلَافُ الْفُقَهَاءِ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِمُقَامِ الْبِنْتِ عِنْدَهُ ]
ثُمّ
هَاهُنَا حَصَلَ الِاجْتِهَادُ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ
لِمُقَامِهَا عِنْدَهُ وَأَيّهُمَا أَصْلَحُ لَهَا فَمَالِك ٌ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَأَحْمَد ُ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ عَيّنُوا
الْأُمّ وَهُوَ الصّحِيحُ دَلِيلًا وَأَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ فِي
الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَاخْتِيَارِ عَامّةِ أَصْحَابِهِ عَيّنُوا الْأَبَ .
قَالَ مَنْ رَجّحَ الْأُمّ قَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنّ الْأَبَ
يَتَصَرّفُ فِي الْمَعَاش [ ص 423 ] وَلِقَاءِ النّاسِ وَالْأُمّ فِي
خِدْرِهَا مَقْصُورَةٌ فِي بَيْتِهَا فَالْبِنْتُ عِنْدَهَا أَصْوَنُ
وَأَحْفَظُ بِلَا شَكّ وَعَيْنُهَا عَلَيْهَا دَائِمًا بِخِلَافِ الْأَبِ
فَإِنّهُ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ غَائِبٌ عَنْ الْبِنْتِ أَوْ فِي
مَظِنّةِ ذَلِكَ فَجَعْلُهَا عِنْدَ أُمّهَا أَصْوَنُ لَهَا وَأَحْفَظُ .
قَالُوا : وَكُلّ مَفْسَدَةٍ يَعْرِضُ وُجُودُهَا عِنْدَ الْأُمّ
فَإِنّهَا تَعْرِضُ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا عِنْدَ الْأَبِ فَإِنّهُ إذَا
تَرَكَهَا فِي الْبَيْتِ وَحْدَهَا لَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهَا وَإِنْ تَرَكَ
عِنْدَهَا امْرَأَتَهُ أَوْ غَيْرَهَا فَالْأُمّ أَشْفَقُ عَلَيْهَا
وَأَصْوَنُ لَهَا مِنْ الْأَجْنَبِيّةِ . قَالُوا : وَأَيْضًا فَهِيَ
مُحْتَاجَةٌ إلَى تَعَلّمِ مَا يَصْلُحُ لِلنّسَاءِ مِنْ الْغَزْلِ
وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْبَيْتِ وَهَذَا إنّمَا تَقُومُ بِهِ
النّسَاءُ لَا الرّجَالُ فَهِيَ أَحْوَجُ إلَى أُمّهَا لِتُعَلّمَهَا مَا
يَصْلُحُ لِلْمَرْأَةِ وَفِي دَفْعِهَا إلَى أَبِيهَا تَعْطِيلُ هَذِهِ
الْمَصْلَحَةِ وَإِسْلَامُهَا إلَى امْرَأَةٍ أَجْنَبِيّةٍ تُعَلّمُهَا
ذَلِكَ وَتَرْدِيدُهَا بَيْنَ الْأُمّ وَبَيْنَهُ وَفِي ذَلِكَ تَمْرِينٌ
لَهَا عَلَى الْبُرُوزِ وَالْخُرُوجِ فَمَصْلَحَةُ الْبِنْتِ وَالْأُمّ
وَالْأَبِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ أُمّهَا وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الّذِي لَا
نَخْتَارُ سِوَاهُ . قَالَ مَنْ رَجّحَ الْأَبَ الرّجَالُ أَغْيَرُ عَلَى
الْبَنَاتِ مِنْ النّسَاءِ فَلَا تَسْتَوِي غَيْرَةُ الرّجُلِ عَلَى
ابْنَتِهِ وَغَيْرَةُ الْأُمّ أَبَدًا وَكَمْ مِنْ أُمّ تُسَاعِدُ
ابْنَتَهَا عَلَى مَا تَهْوَاهُ وَيَحْمِلُهَا عَلَى ذَلِكَ ضَعْفُ
عَقْلِهَا وَسُرْعَةُ انْخِدَاعِهَا وَضَعْفُ دَاعِي الْغَيْرَةِ فِي
طَبْعِهَا بِخِلَافِ الْأَبِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَغَيْرِهِ جَعَلَ
الشّارِعُ تَزْوِيجَهَا إلَى أَبِيهَا دُونَ أُمّهَا وَلَمْ يَجْعَلْ
لِأُمّهَا وِلَايَةً عَلَى بُضْعِهَا أَلْبَتّةَ وَلَا عَلَى مَالِهَا
فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الشّرِيعَةِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ أُمّهَا مَا
دَامَتْ مُحْتَاجَةً إلَى الْحَضَانَةِ وَالتّرْبِيَةِ فَإِذَا بَلَغَتْ
حَدّا تُشْتَهَى فِيهِ وَتَصْلُحُ لِلرّجَالِ فَمِنْ مَحَاسِنِ
الشّرِيعَةِ أَنْ تَكُونَ عِنْدَ مَنْ هُوَ أَغْيَرُ عَلَيْهَا وَأَحْرَصُ
عَلَى مَصْلَحَتِهَا وَأَصْوَنُ لَهَا مِنْ الْأُمّ . قَالُوا : وَنَحْنُ
نَرَى فِي طَبِيعَةِ الْأَبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الرّجَالِ مِنْ الْغَيْرَةِ
وَلَوْ مَعَ فِسْقِهِ وَفُجُورِهِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى قَتْلِ ابْنَتِهِ
وَأُخْتِهِ وَمُوَلّيَتِهِ إذَا رَأَى مِنْهَا مَا يُرِيبُهُ لِشِدّةِ
الْغَيْرَةِ وَنَرَى فِي طَبِيعَةِ النّسَاءِ مِنْ الِانْحِلَالِ
وَالِانْخِدَاعِ ضِدّ ذَلِكَ قَالُوا : فَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى
النّوْعَيْنِ وَلَا عِبْرَةَ بِمَا خَرَجَ عَنْ الْغَالِبِ عَلَى [ ص 44 ]
أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ فَلَا بُدّ أَنْ نُرَاعِيَ صِيَانَتَهُ وَحِفْظَهُ
لِلطّفْلِ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَاللّيْثُ إذَا لَمْ تَكُنْ الْأُمّ
فِي مَوْضِعِ حِرْزٍ وَتَحْصِينٍ أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْضِيّةٍ
فَلِلْأَبِ أَخْذُ الْبِنْتِ مِنْهَا وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ
رَحِمَهُ اللّهُ فِي الرّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ فَإِنّهُ
يَعْتَبِرُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْحِفْظِ وَالصّيَانَةِ . فَإِنْ كَانَ
مُهْمِلًا لِذَلِكَ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ أَوْ غَيْرَ مَرْضِيّ أَوْ ذَا
دِيَاثَةٍ وَالْأُمّ بِخِلَافِهِ فَهِيَ أَحَقّ بِالْبِنْتِ بِلَا رَيْبٍ
فَمَنْ قَدّمْنَاهُ بِتَخْيِيرِ أَوْ قُرْعَةٍ أَوْ بِنَفْسِهِ فَإِنّمَا
نُقَدّمُهُ إذَا حَصَلَتْ بِهِ مَصْلَحَةُ الْوَلَدِ وَلَوْ كَانَتْ
الْأُمّ أَصْوَنَ مِنْ الْأَبِ وَأَغْيَرَ مِنْهُ قُدّمَتْ عَلَيْهِ وَلَا
الْتِفَاتَ إلَى قُرْعَةٍ وَلَا اخْتِيَارِ الصّبِيّ فِي هَذِهِ
الْحَالَةِ فَإِنّهُ ضَعِيفُ الْعَقْلِ يُؤْثِرُ الْبَطَالَةَ وَاللّعِبَ
فَإِذَا اخْتَارَ مَنْ يُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى
اخْتِيَارِهِ وَكَانَ عِنْدَ مَنْ هُوَ أَنْفَعُ لَهُ وَأَخْيَرُ وَلَا
تَحْتَمِلُ الشّرِيعَةُ غَيْرَ هَذَا وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَدْ قَالَ مُرُوهُمْ بِالصّلَاةِ لِسَبْعِ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى
تَرْكِهَا لِعَشْرِ وَفَرّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ وَاَللّهُ
تَعَالَى يَقُولُ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [ التّحْرِيمِ
6 ] . وَقَالَ الْحَسَنُ عَلّمُوهُمْ وَأَدّبُوهُمْ وَفَقّهُوهُمْ فَإِذَا
كَانَتْ الْأُمّ تَتْرُكُهُ فِي الْمَكْتَبِ وَتُعَلّمُهُ الْقُرْآنَ
وَالصّبِيّ يُؤْثِرُ اللّعِبَ وَمُعَاشَرَةَ أَقْرَانِهِ وَأَبُوهُ
يُمَكّنُهُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنّهُ أَحَقّ بِهِ بِلَا تَخْيِيرٍ وَلَا
قُرْعَةٍ وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ وَمَتَى أَخَلّ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ
بِأَمْرِ اللّهِ وَرَسُولِهِ فِي الصّبِيّ وَعَطّلَهُ وَالْآخَرُ مُرَاعٍ
لَهُ فَهُوَ أَحَقّ وَأَوْلَى بِهِ . وَسَمِعْت شَيْخَنَا رَحِمَهُ اللّهُ
يَقُولُ تَنَازَعَ أَبَوَانِ صَبِيّا عِنْدَ بَعْضِ الْحُكّامِ فَخَيّرَهُ
بَيْنَهُمَا فَاخْتَارَ أَبَاهُ فَقَالَتْ لَهُ أُمّهُ سَلْهُ لِأَيّ
شَيْءٍ يَخْتَارُ أَبَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ أُمّي تَبْعَثُنِي كُلّ
يَوْمٍ لِلْكُتّابِ وَالْفَقِيهُ يَضْرِبُنِي وَأَبِي يَتْرُكُنِي
لِلّعِبِ مَعَ الصّبْيَانِ فَقَضَى بِهِ لِلْأُمّ . قَالَ أَنْتِ أَحَقّ
بِهِ . قَالَ شَيْخُنَا : وَإِذَا تَرَكَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ تَعْلِيمَ
الصّبِيّ وَأَمْرَهُ الّذِي أَوْجَبَهُ اللّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ عَاصٍ
وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ بَلْ كُلّ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِب ِ
[ ص 425 ] وَيُقَامَ مَنْ يَفْعَلُ الْوَاجِبَ وَإِمّا أَنْ يُضَمّ
إلَيْهِ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ بِالْوَاجِبِ إذْ الْمَقْصُودُ طَاعَةُ
اللّهِ وَرَسُولِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . قَالَ شَيْخُنَا : وَلَيْسَ
هَذَا الْحَقّ مِنْ جِنْسِ الْمِيرَاثِ الّذِي يَحْصُلُ بِالرّحِمِ
وَالنّكَاحِ وَالْوَلَاءِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَارِثُ فَاسِقًا أَوْ
صَالِحًا بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْوِلَايَةِ الّتِي لَا بُدّ فِيهَا
مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْعِلْمِ بِهِ وَفِعْلِهِ بِحَسَبِ
الْإِمْكَانِ . قَالَ فَلَوْ قُدّرَ أَنّ الْأَبَ تَزَوّجَ امْرَأَةً لَا
تُرَاعِي مَصْلَحَةَ ابْنَتِهِ وَلَا تَقُومُ بِهَا وَأُمّهَا أَقْوَمُ
بِمَصْلَحَتِهَا مِنْ تِلْكَ الضّرّةِ فَالْحَضَانَةُ هُنَا لِلْأُمّ
قَطْعًا قَالَ وَمِمّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنّ الشّارِعَ لَيْسَ
عَنْهُ نَصّ عَامّ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ مُطْلَقًا وَلَا
تَخْيِيرِ الْوَلَدِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ مُطْلَقًا وَالْعُلَمَاءُ
مُتّفِقُونَ عَلَى أَنّهُ لَا يَتَعَيّنُ أَحَدُهُمَا مُطْلَقًا بَلْ لَا
يُقَدّمُ ذُو الْعُدْوَانِ وَالتّفْرِيطِ عَلَى الْبَرّ الْعَادِلِ
الْمُحْسِنِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ مَذْهَبُ مَنْ قَالَ بِبُطْلَانِ التّخْيِيرِ ]
قَالَتْ
الْحَنَفِيّةُ وَالْمَالِكِيّةُ : الْكَلَامُ مَعَكُمْ فِي مَقَامَيْنِ
أَحَدُهُمَا : بَيَانُ الدّلِيلِ الدّالّ عَلَى بُطْلَانِ التّخْيِيرِ
وَالثّانِي : بَيَانُ عَدَمِ الدّلَالَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الّتِي
اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَا عَلَى التّخْيِيرِ فَأَمّا الْأَوّلُ فَيَدُلّ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أ َنْتِ أَحَقّ بِهِ
وَلَمْ يُخَيّرْهُ وَأَمّا الْمَقَامُ الثّانِي : فَمَا رَوَيْتُمْ مِنْ
أَحَادِيثِ التّخْيِيرِ مُطْلَقَةٌ لَا تَقْيِيدَ فِيهَا وَأَنْتُمْ لَا
تَقُولُونَ بِهَا عَلَى إطْلَاقِهَا بَلْ قَيّدْتُمْ التّخْيِيرَ
بِالسّبْعِ فَمَا فَوْقَهَا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا
يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ وَنَحْنُ نَقُولُ إذَا صَارَ لِلْغُلَامِ اخْتِيَارٌ
مُعْتَبَرٌ خُيّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ وَإِنّمَا يُعْتَبَرُ اخْتِيَارُهُ
إذَا اُعْتُبِرَ قَوْلُهُ وَذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَلَيْسَ
تَقْيِيدُكُمْ وَقْتَ التّخْيِيرِ بِالسّبْعِ أَوْلَى مِنْ تَقْيِيدِنَا
بِالْبُلُوغِ بَلْ التّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا لِأَنّهُ حِينَئِذٍ
يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْلُهَا : " وَقَدْ سَقَانِي
مِنْ بِئْرِ أَبِي عِنَبَةَ " وَهِيَ عَلَى أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ
وَغَيْرُ الْبَالِغِ لَا يَتَأَتّى مِنْهُ عَادَةً أَنْ يَحْمِلَ الْمَاءَ
مِنْ هَذِهِ الْمَسَافَةِ وَيَسْتَقِيَ مِنْ الْبِئْرِ سَلّمْنَا أَنّهُ
لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلّ عَلَى الْبُلُوغِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا
يَنْفِيهِ وَالْوَاقِعَةُ وَاقِعَةُ عَيْنٍ وَلَيْسَ عَنْ الشّارِعِ نَصّ
عَامّ فِي تَخْيِيرِ مَنْ هُوَ دُونَ الْبُلُوغِ حَتّى يَجِبَ [ ص 426 ]
الْمَصِيرُ إلَيْهِ سَلّمْنَا أَنّهُ فِيهِ مَا يَنْفِي الْبُلُوغَ فَمِنْ
أَيْنَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي التّقْيِيدَ بِسَبْعِ كَمَا قُلْتُمْ ؟
[رَدّ الْمُثْبِتِينَ لِلتّخْيِيرِ عَلَى مُبْطِلِيهِ ]
قَالَتْ
الشّافِعِيّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَمَنْ قَالَ بِالتّخْيِيرِ لَا يَتَأَتّى
لَكُمْ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتِ
أَحَقّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَإِنّ مِنْكُمْ
مَنْ يَقُولُ إذَا اسْتَغْنَى بِنَفْسِهِ وَأَكَلَ بِنَفْسِهِ وَشَرِبَ
بِنَفْسِهِ فَالْأَبُ أَحَقّ بِهِ بِغَيْرِ تَخْيِيرٍ وَمِنْكُمْ مَنْ
يَقُولُ إذَا اثّغَرَ فَالْأَبُ أَحَقّ بِهِ . فَنَقُولُ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ حَكَمَ لَهَا بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحْ
وَلَمْ يُفَرّقْ بَيْنَ أَنْ تَنْكِحَ قَبْلَ بُلُوغِ الصّبِيّ السّنّ
الّذِي يَكُونُ عِنْدَهُ أَوْ بَعْدَهُ وَحِينَئِذٍ فَالْجَوَابُ يَكُونُ
مُشْتَرَكًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَنَحْنُ فِيهِ عَلَى سَوَاءٍ فَمَا
أَجَبْتُمْ بِهِ أَجَابَ بِهِ مُنَازِعُوكُمْ سَوَاءً فَإِنْ أَضْمَرْتُمْ
أَضْمَرُوا وَإِنْ قَيّدْتُمْ قَيّدُوا وَإِنْ خَصّصْتُمْ خَصّصُوا .
وَإِذَا تَبَيّنَ هَذَا فَنَقُولُ الْحَدِيثُ اقْتَضَى أَمْرَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنّهَا لَا حَقّ لَهَا فِي الْوَلَدِ بَعْدَ النّكَاحِ .
وَالثّانِي : أَنّهَا أَحَقّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحْ وَكَوْنُهَا أَحَقّ
بِهِ لَهُ حَالَتَانِ إحْدَاهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ صَغِيرًا لَمْ
يُمَيّزْ فَهِيَ أَحَقّ بِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ . الثّانِي
: أَنّ يَبْلُغَ سِنّ التّمْيِيزِ فَهِيَ أَحَقّ بِهِ أَيْضًا وَلَكِنّ
هَذِهِ الْأَوْلَوِيّةَ مَشْرُوطَةٌ بِشَرْطِ وَالْحُكْمُ إذَا عُلّقَ
بِشَرْطِ صَدَقَ إطْلَاقُهُ اعْتِمَادًا عَلَى تَقْدِيرِ الشّرْطِ
وَحِينَئِذٍ فَهِيَ أَحَقّ بِهِ بِشَرْطِ اخْتِيَارِهِ لَهَا وَغَايَةُ
هَذَا أَنّهُ تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ بِالْأَدِلّةِ الدّالّةِ عَلَى
تَخْيِيرِهِ . وَلَوْ حُمِلَ عَلَى إطْلَاقِهِ وَلَيْسَ بِمُمْكِنِ
الْبَتّةَ لَاسْتَلْزَمَ ذَلِكَ إبْطَالَ أَحَادِيثِ التّخْيِيرِ
وَأَيْضًا فَإِذَا كُنْتُمْ قَيّدْتُمُوهُ بِأَنّهَا أَحَقّ بِهِ إذَا
كَانَتْ مُقِيمَةً وَكَانَتْ حُرّةً وَرَشِيدَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ
الْقُيُودِ الّتِي لَا ذِكْرَ لِشَيْءِ مِنْهَا فِي الْأَحَادِيثِ
الْبَتّةَ فَتَقْيِيدُهُ بِالِاخْتِيَارِ الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ
وَاتّفَقَ عَلَيْهِ الصّحَابَةُ أَوْلَى .
[الرّدّ عَلَى مَنْ قَالَ إنّ التّخْيِيرَ يَحْصُلُ بَعْدَ الْبُلُوغِ ]
وَأَمّا
حَمْلُكُمْ أَحَادِيثَ التّخْيِيرِ عَلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَلَا
يَصِحّ لِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ . أَحَدُهَا : أَنّ لَفْظَ الْحَدِيثِ أَنّهُ
خَيّرَ غُلَامًا بَيْنَ أَبَوَيْهِ وَحَقِيقَةُ الْغُلَامِ مَنْ لَمْ [ ص
427 ] حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ بِغَيْرِ مُوجِبٍ وَلَا قَرِينَةٍ
صَارِفَةٍ . الثّانِي : أَنّ الْبَالِغَ لَا حَضَانَة عَلَيْهِ فَكَيْفَ
يَصِحّ أَنْ يُخَيّرَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً بَيْنَ أَبَوَيْنِ ؟ هَذَا
مِنْ الْمُمْتَنِعِ شَرْعًا وَعَادَةً فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ
عَلَيْهِ . الثّالِثُ أَنّهُ لَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ مِنْ السّامِعِينَ
أَنّهُمْ تَنَازَعُوا فِي رَجُلٍ كَبِيرٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ وَأَنّهُ خُيّرَ
بَيْنَ أَبَوَيْهِ وَلَا يَسْبِقُ إلَى هَذَا فَهْمُ أَحَدٍ الْبَتّةَ
وَلَوْ فُرِضَ تَخْيِيرُهُ لَكَانَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ
الْأَبَوَيْنِ وَالِانْفِرَادِ بِنَفْسِهِ . الرّابِعُ أَنّهُ لَا
يُعْقَلُ فِي الْعَادَةِ وَلَا الْعُرْفِ وَلَا الشّرْعِ أَنْ تَنَازَعَ
الْأَبَوَانِ فِي رَجُلٍ كَبِيرٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ كَمَا لَا يُعْقَلُ فِي
الشّرْعِ تَخْيِيرُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ . الْخَامِسُ
أَنّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ أَنّ الْوَلَدَ كَانَ صَغِيرًا لَمْ
يَبْلُغْ ذَكَرَهُ النّسَائِيّ وَهُوَ حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ سِنَانٍ
وَفِيهِ فَجَاءَ ابْنٌ لَهَا صَغِيرٌ لَمْ يَبْلُغْ فَأَجْلَسَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَبَ هَاهُنَا وَالْأُمّ هَاهُنَا ثُمّ
خَيّرَهُ . وَأَمّا قَوْلُكُمْ إنّ بِئْرَ أَبِي عِنَبَةَ عَلَى أَمْيَالٍ
مِنْ الْمَدِينَةِ فَجَوَابُهُ مُطَالَبَتُكُمْ أَوّلًا : بِصِحّةِ هَذَا
الْحَدِيثِ وَمَنْ ذَكَرَهُ وَثَانِيًا : بِأَنّ مَسْكَنَ هَذِهِ
الْمَرْأَةِ كَانَ بَعِيدًا مِنْ هَذِهِ الْبِئْرِ وَثَالِثًا بِأَنّ مَنْ
لَهُ نَحْوَ الْعَشْرِ سِنِينَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْ
الْبِئْرِ الْمَذْكُورِ عَادَةً وَكُلّ هَذَا مِمّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ
فَإِنّ الْعَرَبَ وَأَهْلَ الْبَوَادِي يَسْتَقِي أَوْلَادُهُمْ الصّغَارُ
مِنْ آبَارٍ هِيَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ . وَأَمّا تَقْيِيدُنَا لَهُ
بِالسّبْعِ فَلَا رَيْبَ أَنّ الْحَدِيثَ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَلَا هُوَ
أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَإِنّ لِلْمُخَيّرِينَ قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا
: أَنّهُ يُخَيّرُ لِخَمْسِ حَكَاهُ إسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ ذَكَرَهُ
عَنْهُ حَرْبٌ فِي " مَسَائِلِهِ " وَيُحْتَجّ لِهَؤُلَاءِ بِأَنّ
الْخَمْسَ هِيَ السّنّ الّتِي يَصِحّ فِيهَا سَمَاعُ الصّبِيّ وَيُمْكِنُ
أَنْ يَعْقِلَ فِيهَا وَقَدْ قَالَ مَحْمُودُ بْنُ الرّبِيعِ [ ص 428 ]
عَقَلْتُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَجّةً مَجّهَا
فِي فِيّ وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ . وَالْقَوْلُ الثّانِي : أَنّهُ
إنّمَا يُخَيّرُ لِسَبْعِ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ
وَإِسْحَاقَ رَحِمَهُمْ اللّهُ وَاحْتُجّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنّ
التّخْيِيرَ يَسْتَدْعِي التّمْيِيزَ وَالْفَهْمَ وَلَا ضَابِطَ لَهُ فِي
الْأَطْفَالِ فَضُبِطَ بِمَظِنّتِهِ وَهِيَ السّبْعُ فَإِنّهَا أَوّلُ
سِنّ التّمْيِيزِ وَلِهَذَا جَعَلَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حَدّا لِلْوَقْتِ الّذِي يُؤْمَرُ فِيهِ الصّبِيّ بِالصّلَاةِ .
وَقَوْلُكُمْ إنّ الْأَحَادِيثَ وَقَائِعُ أَعْيَانٍ فَنَعَمْ هِيَ
كَذَلِكَ وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ حَمْلُهَا عَلَى تَخْيِيرِ الرّجَالِ
الْبَالِغِينَ كَمَا تَقَدّمَ . وَفِي بَعْضِهَا لَفْظُ غُلَامٌ وَفِي
بَعْضِهَا لَفْظُ صَغِيرٌ لَمْ يَبْلُغْ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ [الِاخْتِلَافُ فِي قِصّةِ بِنْتِ حَمْزَةَ ]
وَأَمّا
قِصّةُ بِنْتِ حَمْزَةَ وَاخْتِصَامُ عَلِيّ وَزَيْدٍ وَجَعْفَرٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُمْ فِيهَا وَحُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِهَا لِجَعْفَرِ فَإِنّ هَذِهِ الْحُكُومَةَ كَانَتْ عَقِيبَ
فَرَاغِهِمْ مِنْ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فَإِنّهُمْ لَمّا خَرَجُوا مِنْ
مَكّةَ تَبِعَتْهُمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ تُنَادِي يَا عَمّ يَا عَمّ
فَأَخَذَ عَلِيّ بِيَدِهَا ثُمّ تَنَازَعَ فِيهَا هُوَ وَجَعْفَرٌ
وَزَيْدٌ وَذَكَرَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الثّلَاثَةِ تَرْجِيحًا فَذَكَرَ
زَيْدٌ أَنّهَا ابْنَةُ أَخِيهِ لِلْمُؤَاخَاةِ الّتِي عَقَدَهَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَمْزَةَ
وَذَكَرَ عَلِيّ كَوْنَهَا ابْنَةَ عَمّهِ وَذَكَرَ جَعْفَرٌ مُرَجّحَيْنِ
الْقَرَابَةَ وَكَوْنَ خَالَتِهَا عِنْدَهُ فَتَكُونُ عِنْدَ خَالَتِهَا
فَاعْتَبَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُرَجّحَ جَعْفَرٍ
دُونَ مُرَجّحِ الْآخَرَيْنِ فَحَكَمَ لَهُ وَجَبَرَ كُلّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ وَطَيّبَ قَلْبَهُ بِمَا هُوَ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ أَخْذِ
الْبِنْتِ . فَأَمّا مُرَجّحُ الْمُؤَاخَاةِ فَلَيْسَ بِمُقْتَضٍ
لِلْحَضَانَةِ وَلَكِنّ زَيْدًا كَانَ وَصِيّ حَمْزَةَ وَكَانَ الْإِخَاءُ
حِينَئِذٍ يَثْبُتُ بِهِ التّوَارُثُ فَظَنّ زَيْدٌ أَنّهُ أَحَقّ بِهَا
لِذَلِكَ .
[هَلْ تُسْتَحَقّ بِبُنُوّةِ الْعَمّ الْحَضَانَةُ ]
وَأَمّا
مُرَجّحُ الْقَرَابَةِ هَاهُنَا وَهِيَ بُنُوّةُ الْعَمّ فَهَلْ
يُسْتَحَقّ بِهَا الْحَضَانَةُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا :
يُسْتَحَقّ بِهَا وَهُوَ مَنْصُوصُ الشّافِعِيّ وَقَوْلُ مَالِكٍ
وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ لِأَنّهُ عَصَبَةٌ وَلَهُ وِلَايَةٌ بِالْقَرَابَةِ
فَقُدّمَ عَلَى الْأَجَانِبِ كَمَا يُقَدّمُ عَلَيْهِمْ [ ص 429 ] صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى جَعْفَرٍ وَعَلِيّ
ادّعَاءَهُمَا حَضَانَتَهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ لَأَنْكَرَ
عَلَيْهِمَا الدّعْوَى الْبَاطِلَةَ فَإِنّهَا دَعْوَى مَا لَيْسَ لَهُمَا
وَهُوَ لَا يُقِرّ عَلَى بَاطِلٍ . وَالْقَوْلُ الثّانِي : أَنّهُ لَا
حَضَانَةَ لِأَحَدِ مِنْ الرّجَالِ سِوَى الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ هَذَا
قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشّافِعِيّ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِنَصّهِ
وَلِلدّلِيلِ . فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ - وَهُوَ الصّوَابُ - إذَا
كَانَ الطّفْلُ أُنْثَى وَكَانَ ابْنُ الْعَمّ مَحْرَمًا لَهَا بِرَضَاعِ
أَوْ نَحْوِهِ كَانَ لَهُ حَضَانَتُهَا وَإِنْ جَاوَزَتْ السّبْعَ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا فَلَهُ حَضَانَتُهَا صَغِيرَةً حَتّى تَبْلُغَ
سَبْعًا فَلَا يَبْقَى لَهُ حَضَانَتُهَا بَلْ تُسَلّمُ إلَى مَحْرَمِهَا
أَوْ امْرَأَةِ ثِقَةٍ . وَقَالَ أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي " مُحَرّرِهِ " :
لَا حَضَانَةَ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ مَحْرَمًا بِرَضَاعِ أَوْ نَحْوِهِ .
[هَلْ وَقَعَ الْحُكْمُ لِلْخَالَةِ أَوْ لِجَعْفَرٍ ؟ ]
فَإِنْ
قِيلَ فَالْحُكْمُ بِالْحَضَانَةِ مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ " هَلْ وَقَعَ لِلْخَالَةِ أَوْ لِجَعْفَرٍ
؟ قِيلَ هَذَا مِمّا اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْشَؤُهُمَا
اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ فَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ
" مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ فَقَضَى بِهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِخَالَتِهَا . وَعَنْ أَبِي دَاوُدَ : مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ
بْنِ عُجَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيّ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ . وَأَمّا
الْجَارِيَةُ فَأَقْضِي بِهَا لِجَعْفَرِ تَكُونُ مَعَ خَالَتِهَا
وَإِنّمَا الْخَالَةُ أُمّ ثُمّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرّحْمَنِ
بْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَالَ قَضَى بِهَا لِجَعْفَرِ لِأَنّ خَالَتَهَا
عِنْدَهُ ثُمّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ
هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ وَهُبَيْرَةَ بْنِ يَرْيَمَ وَقَالَ فَقَضَى بِهَا
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَالَتِهَا وَقَالَ الْخَالَةُ
بِمَنْزِلَةِ الْأُمّ [ ص 430 ]
[ اسْتِشْكَالُ الْفُقَهَاءِ هَذَا الْحُكْمَ ]
[طَعْنُ ابْنِ حَزْمٍ فِي الْقِصّةِ ]
وَاسْتَشْكَلَ
كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ هَذَا وَهَذَا فَإِنّ الْقَضَاءَ إنْ كَانَ
لِجَعْفَرِ فَلَيْسَ مَحْرَمًا لَهَا وَهُوَ وَعَلِيّ فِي الْقَرَابَةِ
مِنْهَا سَوَاءٌ وَإِنْ كَانَ لِلْخَالَةِ فَهِيَ مُزَوّجَةٌ
وَالْحَاضِنَةُ إذَا تَزَوّجَتْ سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا وَلَمّا ضَاقَ
هَذَا عَلَى ابْنِ حَزْمٍ طَعَنَ فِي الْقِصّةِ بِجَمِيعِ طُرُقِهَا
وَقَالَ أَمّا حَدِيثُ الْبُخَارِيّ فَمِنْ رِوَايَةِ إسْرَائِيلَ وَهُوَ
ضَعِيفٌ وَأَمّا حَدِيثُ هَانِئٍ وَهُبَيْرَةَ فَمَجْهُولَانِ وَأَمّا
حَدِيثُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَمُرْسَلٌ وَأَبُو فَرْوَةَ الرّاوِي عَنْهُ
هُوَ مُسْلِمُ بْنُ سَالِمٍ الْجُهَنِيّ لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَمّا
حَدِيثُ نَافِعِ بْنِ عُجَيْرٍ فَهُوَ وَأَبُوهُ مَجْهُولَانِ وَلَا
حُجّةَ فِي مَجْهُولٍ قَالَ إلّا أَنّ هَذَا الْخَبَرَ بِكُلّ وَجْهِ
حُجّةٌ عَلَى الْحَنَفِيّةِ وَالْمَالِكِيّةِ وَالشّافِعِيّةِ لِأَنّ
خَالَتَهَا كَانَتْ مُزَوّجَةً بِجَعْفَرِ وَهُوَ أَجْمَلُ شَابّ فِي
قُرَيْشٍ وَلَيْسَ هُوَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ بِنْتِ حَمْزَةَ . قَالَ
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ قَضَاءَهُ بِهَا لِجَعْفَرٍ مِنْ أَجْلِ خَالَتِهَا
لِأَنّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لَهَا .
[رَدّ الْمُصَنّفِ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ ]
قُلْتُ
وَهَذَا مِنْ تَهَوّرِهِ رَحِمَهُ اللّهُ وَإِقْدَامِهِ عَلَى تَضْعِيفِ
مَا اتّفَقَتْ النّاسُ عَلَى صِحّتِهِ فَخَالَفَهُمْ وَحْدَهُ فَإِنّ
هَذِهِ الْقِصّةَ شُهْرَتُهَا فِي الصّحَاحِ وَالسّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ
وَالسّيَرِ وَالتّوَارِيخِ تُغْنِي عَنْ إسْنَادِهَا فَكَيْفَ وَقَدْ
اتّفَقَ عَلَيْهَا صَاحِبُ الصّحِيحِ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ أَحَدٍ
قَبْلَهُ الطّعْنُ فِيهَا الْبَتّةَ وَقَوْلُهُ إسْرَائِيلُ ضَعِيفٌ
فَاَلّذِي غَرّهُ فِي ذَلِكَ تَضْعِيفُ عَلِيّ بْنِ الْمَدِينِيّ لَهُ
وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ سَائِرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَاحْتَجّوا بِهِ
وَوَثّقُوهُ وَثَبّتُوهُ . قَالَ أَحْمَدُ : ثِقَةٌ وَتَعَجّبَ مِنْ
حِفْظِهِ وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ . وَهُوَ مِنْ أَتْقَنِ أَصْحَابِ أَبِي
إسْحَاقَ وَلَا سِيّمَا وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي
إسْحَاقَ وَكَانَ يَحْفَظُ حَدِيثَهُ كَمَا يَحْفَظُ السّورَةَ مِنْ
الْقُرْآنِ . وَرَوَى لَهُ الْجَمَاعَةُ كُلّهُمْ مُحْتَجّينَ بِهِ .
وَأَمّا قَوْلُهُ إنّ هَانِئًا وَهُبَيْرَةَ مَجْهُولَانِ فَنَعَمْ
مَجْهُولَانِ عِنْدَهُ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ أَهْلِ السّنَنِ وَثّقَهُمَا
الْحُفّاظُ فَقَالَ النّسَائِيّ . هَانِئُ بْنُ هَانِئٍ لَيْسَ بِهِ
بَأْسٌ وَهُبَيْرَةُ رَوَى لَهُ أَهْلُ السّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَقَدْ
وُثّقَ . [ ص 431 ] ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو فَرْوَةَ الرّاوِي عَنْهُ
مُسْلِمُ بْنُ مُسْلِمٍ الْجُهَنِيّ لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ
فَالتّعْلِيلَانِ بَاطِلَانِ فَإِنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى
رَوَى عَنْ عَلِيّ غَيْرَ حَدِيثٍ وَعَنْ عُمَرَ وَمُعَاذٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُمَا . وَاَلّذِي غَرّ أَبَا مُحَمّدٍ أَنّ أَبَا دَاوُدَ قَالَ
حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عِيسَى حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ
عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى بِهَذَا الْخَبَرِ وَظَنّ
أَبُو مُحَمّدٍ أَنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ لَمْ يَذْكُرْ عَلِيّا فِي
الرّوَايَةِ فَرَمَاهُ بِالْإِرْسَالِ وَذَلِكَ مِنْ وَهْمِهِ فَإِنّ
ابْنَ أَبِي لَيْلَى رَوَى الْقِصّةَ عَنْ عَلِيّ فَاخْتَصَرَهَا أَبُو
دَاوُدَ وَذَكَرَ مَكَانَ الِاحْتِجَاجِ وَأَحَالَ عَلَى الْعِلْمِ
الْمَشْهُورِ بِرِوَايَةِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ
عَلِيّ وَهَذِهِ الْقِصّةُ قَدْ رَوَاهَا عَلِيّ وَسَمِعَهَا مِنْهُ
أَصْحَابُهُ هَانِئُ بْنُ هَانِئٍ وَهُبَيْرَةُ بْنُ يَرْيَمَ وَعُجَيْرُ
بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى فَذَكَرَ
أَبُو دَاوُدَ حَدِيثَ الثّلَاثَةِ الْأَوّلِينَ لِسِيَاقِهِمْ لَهَا
بِتَمَامِهَا وَأَشَارَ إلَى حَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لِأَنّهُ لَمْ
يُتِمّهُ وَذَكَرَ السّنَدَ مِنْهُ إلَيْهِ فَبَطَلَ الْإِرْسَالُ ثُمّ
رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيّ قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ فِي
مُسْنَدِ عَلِيّ مُصَرّحًا فِيهِ بِالِاتّصَالِ فَقَالَ أَخْبَرَنَا
الْهَيْثَمُ بْنُ خَلَفٍ حَدّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمُقْرِي
حَدّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَدِيّ حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي فَرْوَةَ
عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيّ أَنّهُ اخْتَصَمَ
هُوَ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدٌ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . وَأَمّا قَوْلُهُ إنّ
أَبَا فَرْوَةَ لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ فَقَدْ عَرَفَهُ سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ وَخَرّجَا لَهُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " . وَأَمّا
رَمْيُهُ نَافِعَ بْنَ عُجَيْرٍ وَأَبَاهُ بِالْجَهَالَةِ فَنَعَمْ وَلَا
يُعْرَفُ حَالُهُمَا وَلَيْسَا مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِنَقْلِ الْعِلْمِ
وَإِنْ كَانَ نَافِعُ أَشْهَرَ مِنْ أَبِيهِ لِرِوَايَةِ ثِقَتَيْنِ
عَنْهُ مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ التّمِيمِيّ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ
عَلِيّ فَلَيْسَ الِاعْتِمَادُ عَلَى رِوَايَتِهِمَا وَبِاَللّهِ
التّوْفِيقُ فَثَبَتَتْ صِحّةُ الْحَدِيثِ .
[رَدّ الْمُصَنّفِ عَلَى الِاسْتِشْكَالِ السّابِقِ ]
وَأَمّا
الْجَوَابُ عَنْ اسْتِشْكَالِ مَنْ اسْتَشْكَلَهُ فَنَقُولُ وَبِاَللّهِ
التّوْفِيقُ لَا إشْكَالَ [ ص 432 ] سَوَاءٌ كَانَ الْقَضَاءُ لِجَعْفَرٍ
أَوْ لِلْخَالَةِ فَإِنّ ابْنَةَ الْعَمّ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا
قَرَابَةٌ سِوَى ابْنِ عَمّهَا جَاز أَنْ تُجْعَلَ مَعَ امْرَأَتِهِ فِي
بَيْتِهِ بَلْ يَتَعَيّنُ ذَلِكَ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْأَجْنَبِيّ لَا
سِيّمَا إنْ كَانَ ابْنُ الْعَمّ مُبْرِزًا فِي الدّيَانَةِ وَالْعِفّةِ
وَالصّيَانَةِ فَإِنّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَوْلَى مِنْ الْأَجَانِبِ
بِلَا رَيْبٍ .
[عِلّةُ عَدَمِ أَخْذِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِنْتَ حَمْزَةَ ]
فَإِنْ
قِيلَ فَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ ابْنَ عَمّهَا
وَكَانَ مَحْرَمًا لَهَا لِأَنّ حَمْزَةَ كَانَ أَخَاهُ مِنْ الرّضَاعَةِ
فَهَلّا أَخَذَهَا هُوَ ؟ قِيلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كَانَ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ بِأَعْبَاءِ الرّسَالَةِ وَتَبْلِيغِ
الْوَحْيِ وَالدّعْوَةِ إلَى اللّه وَجِهَادِ أَعْدَاءِ اللّهِ عَنْ
فَرَاغِهِ لِلْحَضَانَةِ فَلَوْ أَخَذَهَا لَدَفَعَهَا إلَى بَعْضِ
نِسَائِهِ فَخَالَتُهَا أَمَسّ بِهَا رَحِمًا وَأَقْرَبُ .
[ تَرْجِيحُ الْمُصَنّفِ أَنّ الْحُكْمَ كَانَ لِلْخَالَةِ وَبِهِ رَدّ لِلْإِشْكَالِ ]
وَأَيْضًا
فَإِنّ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَائِهِ لَمْ تَكُنْ تَجِيئُهَا النّوْبَةُ
إلّا بَعْدَ تِسْعِ لَيَالٍ فَإِنْ دَارَتْ الصّبِيّةُ مَعَهُ حَيْثُ
دَارَ كَانَ مَشَقّةً عَلَيْهَا وَكَانَ فِيهِ مِنْ بُرُوزِهَا
وَظُهُورِهَا كُلّ وَقْتٍ مَا لَا يَخْفَى وَإِنْ جَلَسَتْ فِي بَيْتِ
إحْدَاهُنّ كَانَتْ لَهَا الْحَضَانَةُ وَهِيَ أَجْنَبِيّةٌ . هَذَا إنْ
كَانَ الْقَضَاءُ لِجَعْفَرِ وَإِنْ كَانَ لِلْخَالَةِ - وَهُوَ الصّحِيحُ
وَعَلَيْهِ يَدُلّ الْحَدِيثُ الصّحِيحُ الصّرِيحُ - فَلَا إشْكَالَ
لِوُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنّ نِكَاحَ الْحَاضِنَةِ لَا يُسْقِطُ
حَضَانَةَ الْبِنْتِ كَمَا هُوَ إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ
وَأَحَدُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَحُجّةُ هَذَا الْقَوْلِ الْحَدِيثُ
وَقَدْ تَقَدّمَ سِرّ الْفَرْقِ بَيْنَ الذّكَرِ وَالْأُنْثَى . الثّانِي
: أَنّ نِكَاحَهَا قَرِيبًا مِنْ الطّفْلِ لَا يُسْقِطُ حَضَانَتَهَا
وَجَعْفَرٌ ابْنُ عَمّهَا . الثّالِثُ أَنّ الزّوْجَ إذَا رَضِيَ
بِالْحَضَانَةِ وَآثَرَ كَوْنَ الطّفْلِ عِنْدَهُ فِي حِجْرِهِ لَمْ
تَسْقُطْ الْحَضَانَةُ هَذَا هُوَ الصّحِيحُ وَهُوَ مَبْنِيّ عَلَى أَصْلٍ
وَهُوَ أَنّ سُقُوطَ الْحَضَانَةِ بِالنّكَاحِ هُوَ مُرَاعَاةٌ لِحَقّ
الزّوْجِ فَإِنّهُ يَتَنَغّصُ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعُ الْمَطْلُوبُ مِنْ
الْمَرْأَةِ لِحَضَانَتِهَا لِوَلَدِ غَيْرِهِ وَيَتَنَكّدُ عَلَيْهِ
عَيْشُهُ مَعَ الْمَرْأَةِ لَا [ ص 433 ] كَانَ لِلزّوْجِ أَنْ
يَمْنَعَهَا مِنْ هَذَا مَعَ اشْتِغَالِهَا هِيَ بِحُقُوقِ الزّوْجِ
فَتَضِيعُ مَصْلَحَةُ الطّفْلِ فَإِذَا آثَرَ الزّوْجُ ذَلِكَ وَطَلَبَهُ
وَحَرَصَ عَلَيْهِ زَالَتْ الْمَفْسَدَةُ الّتِي لِأَجْلِهَا سَقَطَتْ
الْحَضَانَةُ وَالْمُقْتَضِي قَائِمٌ فَيَتَرَتّبُ عَلَيْهِ أَثَرُهُ
يُوَضّحُهُ أَنّ سُقُوطَ الْحَضَانَةِ بِالنّكَاحِ لَيْسَتْ حَقّا لِلّهِ
وَإِنّمَا هِيَ حَقّ لِلزّوْجِ وَلِلطّفْلِ وَأَقَارِبِهِ فَإِذَا رَضِيَ
مَنْ لَهُ الْحَقّ جَازَ فَزَالَ الْإِشْكَالُ عَلَى كُلّ تَقْدِيرٍ
ظَهَرَ أَنّ هَذَا الْحُكْمَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ وَأَوْضَحِهَا وَأَشَدّهَا
مُوَافَقَةً لِلْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالرّحْمَةِ وَالْعَدْلِ
وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
[ الِاخْتِلَافُ فِي إسْقَاطِ الْحَضَانَةِ بِالتّزْوِيجِ ]
فَهَذِهِ
ثَلَاثَةُ مَدَارِكَ فِي الْحَدِيثِ لِلْفُقَهَاءِ أَحَدُهَا : أَنّ
نِكَاحَ الْحَاضِنَةِ لَا يُسْقِطُ حَضَانَتَهَا كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيّ وَقَضَى بِهِ يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي
مُحَمّدٍ ابْنِ حَزْمٍ . وَالثّانِي : أَنّ نِكَاحَهَا لَا يُسْقِطُ
حَضَانَةَ الْبِنْتِ وَيُسْقِطُ حَضَانَةَ الِابْنِ كَمَا قَالَهُ
أَحْمَدُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ . وَالثّالِثُ أَنّ نِكَاحَهَا
لِقَرِيبِ الطّفْلِ لَا يُسْقِطُ حَضَانَتَهَا وَنِكَاحَهَا
لِلْأَجْنَبِيّ يُسْقِطُهَا كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ
أَحْمَدَ .
[مَذْهَبُ الطّبَرِيّ فِي الْحَضَانَةِ وَسُقُوطُهَا بِالتّزْوِيجِ ]
وَفِيهِ
مَدْرَكٌ رَابِعٌ لِمُحَمّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطّبَرِيّ وَهُوَ أَنّ
الْحَاضِنَةَ إنْ كَانَتْ أُمّا وَالْمُنَازِعُ لَهَا الْأَبُ سَقَطَتْ
حَضَانَتُهَا بِالتّزْوِيجِ وَإِنْ كَانَتْ خَالَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنْ
نِسَاءِ الْحَضَانَةِ لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَتُهَا بِالتّزْوِيجِ
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ أُمّا وَالْمُنَازِعُ لَهَا غَيْرُ الْأَبِ مِنْ
أَقَارِبِ الطّفْلِ لَمْ تَسْقُطْ حَضَانَتُهَا . وَنَحْنُ نَذْكُرُ
كَلَامَهُ وَمَا لَهُ وَعَلَيْهِ فِيهِ قَالَ فِي " تَهْذِيبِ الْآثَارِ "
بَعْدَ ذِكْرِ حَدِيثِ ابْنَةِ حَمْزَةَ : فِيهِ الدّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ
عَلَى أَنّ قَيّمَ الصّبِيّةِ الصّغِيرَةِ وَالطّفْلِ الصّغِيرِ مِنْ
قَرَابَتِهِمَا مِنْ قِبَلِ أُمّهَاتِهِمَا مِنْ النّسَاءِ أَحَقّ
بِحَضَانَتِهِمَا مِنْ عَصَبَاتِهِمَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَإِنْ كُنّ
ذَوَاتِ أَزْوَاجٍ غَيْرِ الْأَبِ الّذِي هُمَا مِنْهُ وَذَلِكَ أَنّ [ ص
434 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى بِابْنَةِ حَمْزَةَ
لِخَالَتِهَا فِي الْحَضَانَةِ وَقَدْ تَنَازَعَ فِيهَا ابْنَا عَمّهَا
عَلِيّ وَجَعْفَرٌ وَمَوْلَاهَا وَأَخُو أَبِيهَا الّذِي كَانَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
وَخَالَتُهَا يَوْمَئِذٍ لَهَا زَوْجٌ غَيْرُ أَبِيهَا وَذَلِكَ بَعْدَ
مَقْتَلِ حَمْزَةَ وَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ صِحّةُ قَوْلِ مَنْ قَالَ
لَا حَقّ لِعَصَبَةِ الصّغِيرِ وَالصّغِيرَةِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ فِي
حَضَانَتِهِ مَا لَمْ تَبْلُغْ حَدّ الِاخْتِيَارِ بَلْ قَرَابَتُهُمَا
مِنْ النّسَاءِ مِنْ قِبَلِ أُمّهِمَا أَحَقّ وَإِنْ كُنّ ذَوَاتِ
أَزْوَاجٍ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ
عِنْدَك عَلَى مَا وَصَفْت مِنْ أَنّ أُمّ الصّغِيرِ وَالصّغِيرَةِ
وَقَرَابَتَهُمَا مِنْ النّسَاءِ مِنْ قِبَلِ أُمّهَاتِهِمَا أَحَقّ
بِحَضَانَتِهِمَا وَإِنْ كُنّ ذَوَاتِ أَزْوَاجٍ مِنْ قَرَابَتِهِمَا مِنْ
قِبَلِ الْأَبِ مِنْ الرّجَالِ الّذِينَ هُمْ عَصَبَتُهُمَا فَهَلّا
كَانَتْ الْأُمّ ذَاتُ الزّوْجِ كَذَلِكَ مَعَ وَالِدِهِمَا الْأَدْنَى
وَالْأَبْعَدِ كَمَا كَانَتْ الْخَالَةُ أَحَقّ بِهِمَا ؟ وَإِنْ كَانَ
لَهَا زَوْجٌ غَيْرُ أَبِيهِمَا وَإِلّا فَمَا الْفَرْقُ ؟ قِيلَ
الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ وَذَلِكَ لِقِيَامِ الْحُجّةِ بِالنّقْلِ
الْمُسْتَفِيضِ رِوَايَتُهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنّ الْأُمّ أَحَقّ بِحَضَانَةِ الْأَطْفَالِ إذَا كَانَتْ بَانَتْ مِنْ
وَالِدِهِمْ مَا لَمْ تَنْكِحْ زَوْجًا غَيْرَهُ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي
ذَلِكَ مَنْ يَجُوزُ الِاعْتِرَاضُ بِهِ عَلَى الْحُجّةِ فِيمَا
نَعْلَمُهُ . وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ وَإِنْ كَانَ فِي
إسْنَادِهِ نَظَرٌ فَإِنّ النّقْلَ الّذِي وَصَفْتُ أَمْرَهُ دَالّ عَلَى
صِحّتِهِ وَإِنْ كَانَ وَاهِيَ السّنَدِ . ثُمّ سَاقَ حَدِيثَ عَمْرِو
بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنْتِ أَحَقّ بِهِ مَا لَمْ
تَنْكِحِي مِنْ طَرِيقِ الْمُثَنّى بْنِ الصّبّاحِ عَنْهُ . ثُمّ قَالَ
وَأَمّا إذَا نَازَعَهَا فِيهِ عَصَبَةُ أَبِيهِ فَصِحّةُ الْخَبَرِ عَنْ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنّهُ
جَعَلَ الْخَالَةَ ذَاتَ الزّوْجِ غَيْرِ أَبِي الصّبِيّةِ أَحَقّ بِهَا
مِنْ بَنِي عَمّهَا وَهُمْ عَصَبَتُهَا فَكَانَتْ الْأُمّ أَحَقّ بِأَنْ
تَكُونَ أَوْلَى مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ غَيْرُ أَبِيهَا
لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا جَعَلَ الْخَالَةَ
أَوْلَى مِنْهُمْ لِقَرَابَتِهَا مِنْ الْأُمّ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ
كَاَلّذِي وَصَفْنَا تَبَيّنَ أَنّ الْقَوْلَ الّذِي قُلْنَاهُ فِي
الْمَسْأَلَتَيْنِ أَصْلُ إحْدَاهُمَا مِنْ جِهَةِ النّقْلِ
الْمُسْتَفِيضِ وَالْأُخْرَى مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الْآحَادِ الْعُدُولِ
فَإِذَا كَانَ [ ص 435 ] الْقِيَاسُ إنّمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا
لَا نَصّ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَأَمّا مَا فِيهِ نَصّ مِنْ كِتَابِ
اللّهِ أَوْ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَلَا حَظّ فِيهِ لِلْقِيَاسِ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ زَعَمْتَ أَنّك
إنّمَا أَبْطَلْت حَقّ الْأُمّ مِنْ الْحَضَانَةِ إذَا نَكَحَتْ زَوْجًا
غَيْرَ أَبِي الطّفْلِ وَجَعَلْت الْأَبَ أَوْلَى بِحَضَانَتِهَا مِنْهَا
بِالنّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ كَمَا قُلْت ؟ وَقَدْ
عَلِمْتَ أَنّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيّ كَانَ يَقُولُ الْمَرْأَةُ أَحَقّ
بِوَلَدِهَا وَإِنْ تَزَوّجَتْ وَقَضَى بِذَلِكَ يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ .
قِيلَ إنّ النّقْلَ الْمُسْتَفِيضَ الّذِي تَلْزَمُ بِهِ الْحُجّةُ فِي
الدّينِ عِنْدَنَا لَيْسَ صِفَتَهُ أَلّا يَكُونَ لَهُ مُخَالِفٌ وَلَكِنّ
صِفَتَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ قَوْلًا وَعَمَلًا مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمّةِ
مَنْ يَنْتَفِي عَنْهُ أَسْبَابُ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ وَقَدْ نَقَلَ
مَنْ صِفَتُهُ ذَلِكَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمّةِ أَنّ الْمَرْأَةَ إذَا
نَكَحَتْ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا مِنْ زَوْجِهَا زَوْجًا غَيْرَهُ أَنّ
الْأَبَ أَوْلَى بِحَضَانَةِ ابْنَتِهَا مِنْهَا فَكَانَ ذَلِكَ حُجّةً
لَازِمَةً غَيْرُ جَائِزٍ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا بِالرّأْيِ وَهُوَ
قَوْلُ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْغَلَطُ فِي قَوْلِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
ذِكْرُ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ مَقْبُولٍ وَمَرْدُودٍ
[التّعْقِيبُ عَلَى كَلَامِ الطّبَرِيّ ]
فَأَمّا
قَوْلُهُ إنّ فِيهِ الدّلَالَةَ عَلَى أَنّ قَرَابَةَ الطّفْلِ مِنْ
قِبَلِ أُمّهَاتِهِ مِنْ النّسَاءِ أَحَقّ بِحَضَانَتِهِ مِنْ عَصَبَاتِهِ
مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَإِنْ كُنّ ذَوَاتِ أَزْوَاجٍ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ
عَلَى ذَلِكَ الْبَتّةَ بَلْ أَحَدُ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ صَرِيحٌ فِي
خِلَافِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمّا
الِابْنَةُ فَإِنّي أَقْضِي بِهَا لِجَعْفَرِ وَأَمّا اللّفْظُ الْآخَرُ
فَقَضَى بِهَا لِخَالَتِهَا وَقَالَ هِيَ أُمّ وَهُوَ اللّفْظُ الّذِي
احْتَجّ بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ فَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنّ قَرَابَةَ الْأُمّ
مُطْلَقًا أَحَقّ مِنْ قَرَابَةِ الْأَبِ بَلْ إقْرَارُ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّا وَجَعْفَرًا عَلَى دَعْوَى الْحَضَانَةِ
يَدُلّ عَلَى أَنّ لِقَرَابَةِ الْأَبِ مَدْخَلًا فِيهَا وَإِنّمَا قَدّمَ
الْخَالَةَ لِكَوْنِهَا أُنْثَى مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ فَتَقْدِيمُهَا
عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ كَتَقْدِيمِ الْأُمّ عَلَى الْأَبِ وَالْحَدِيثُ
لَيْسَ فِيهِ لَفْظٌ عَامّ يَدُلّ عَلَى مَا ادّعَاهُ لَا مِنْ أَنّ مَنْ
كَانَ مِنْ قَرَابَةِ الْأُمّ أَحَقّ بِالْحَضَانَةِ مِنْ الْعَصَبَةِ
مِنْ قِبَلِ الْأَبِ [ ص 436 ] تَكُونَ بِنْتُ الْأُخْتِ لِلْأُمّ أَحَقّ
مِنْ الْعَمّ وَبِنْتُ الْخَالَةِ أَحَقّ مِنْ الْعَمّ وَالْعَمّةِ
فَأَيْنَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى هَذَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ
وَاضِحَةً . قَوْلُهُ وَكَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ صِحّةُ قَوْلِ مَنْ
قَالَ لَا حَقّ لِعَصَبَةِ الصّغِيرِ وَالصّغِيرَةِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ
فِي حَضَانَتِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدّ الِاخْتِيَارِ يَعْنِي :
فَيُخَيّرُ بَيْنَ قَرَابَةِ أَبِيهِ وَأُمّهِ فَيُقَالُ لَيْسَ ذَلِكَ
مَعْلُومًا مِنْ الْحَدِيثِ وَلَا مَظْنُونًا وَإِنّمَا دَلّ الْحَدِيثُ
عَلَى أَنّ ابْنَ الْعَمّ الْمُزَوّجَ بِالْخَالَةِ أَوْلَى مِنْ ابْنِ
الْعَمّ الّذِي لَيْسَ تَحْتَهُ خَالَةُ الطّفْلِ وَيَبْقَى تَحْقِيقُ
الْمَنَاطِ هَلْ كَانَتْ جِهَةُ التّعْصِيبِ مُقْتَضِيَةً لِلْحَضَانَةِ
فَاسْتَوَتْ فِي شَخْصَيْنِ ؟ فَرَجّحَ أَحَدَهُمَا بِكَوْنِ خَالَةِ
الطّفْلِ عِنْدَهُ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَضَانَةِ كَمَا فَهِمَهُ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَوْ أَنّ قَرَابَةَ الْأُمّ وَهِيَ
الْخَالَةُ أَوْلَى بِحَضَانَةِ الطّفْلِ مِنْ عَصَبَةِ الْأَبِ وَلَمْ
تَسْقُطْ حَضَانَتُهَا بِالتّزْوِيجِ إمّا لِكَوْنِ الزّوْجِ لَا يُسْقِطُ
الْحَضَانَةَ مُطْلَقًا كَقَوْلِ الْحَسَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ وَإِمّا
لِكَوْنِ الْمَحْضُونَةِ بِنْتًا كَمَا قَالَهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ
وَإِمّا لِكَوْنِ الزّوْجِ قَرَابَةَ الطّفْلِ كَالْمَشْهُورِ مِنْ
مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَإِمّا لِكَوْنِ الْحَاضِنَةِ غَيْرِ أُمّ نَازَعَهَا
الْأَبُ كَمَا قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ مَدَارِكَ
وَلَكِنّ الْمَدْرَكَ الّذِي اخْتَارَهُ أَبُو جَعْفَرٍ ضَعِيفٌ جِدّا
فَإِنّ الْمَعْنَى الّذِي أَسْقَطَ حَضَانَةَ الْأُمّ بِتَزْوِيجِهَا هُوَ
بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ نِسَاءِ الْحَضَانَةِ وَالْخَالَةُ
غَايَتُهَا أَنْ تَقُومَ مَقَامَ الْأُمّ وَتُشَبّهُ بِهَا فَلَا تَكُونُ
أَقْوَى مِنْهَا وَكَذَلِكَ سَائِرُ قَرَابَةِ الْأُمّ وَالنّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَحْكُمْ حُكْمًا عَامّا أَنّ سَائِرَ
أَقَارِبِ الْأُمّ مَنْ كُنّ لَا تَسْقُطُ حَضَانَتُهُنّ بِالتّزْوِيجِ
وَإِنّمَا حَكَمَ حُكْمًا مُعَيّنًا لِخَالَةِ ابْنَةِ حَمْزَةَ
بِالْحَضَانَةِ مَعَ كَوْنِهَا مُزَوّجَةً بِقَرِيبِ مِنْ الطّفْلِ
وَالطّفْلُ ابْنَةٌ . وَأَمّا الْفَرْقُ الّذِي فَرّقَ بَيْنَ الْأُمّ
وَغَيْرِهَا بِالنّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ إلَى آخِرِهِ فَيُرِيدُ بِهِ
الْإِجْمَاعَ الّذِي لَا يَنْقُضُهُ عِنْدَهُ مُخَالَفَةُ الْوَاحِدِ
وَالِاثْنَيْنِ وَهَذَا أَصْلٌ تَفَرّدَ بِهِ وَنَازَعَهُ فِيهِ النّاسُ .
وَأَمّا حُكْمُهُ عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِأَنّهُ وَاهٍ
فَمَبْنِيّ عَلَى مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقِهِ فَإِنّ فِيهِ
الْمُثَنّى بْنَ الصّبّاحِ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ مَتْرُوكٌ وَلَكِنّ
الْحَدِيثَ قَدْ [ ص 437 ] الْأَوْزَاعِيّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " .
فَصْلٌ [الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ فِي قِصّةِ بِنْتِ حَمْزَةَ ]
وَفِي
الْحَدِيثِ مَسْلَكٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَضَى بِهَا لِخَالَتِهَا وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ لِأَنّ
الْبِنْتَ تَحْرُمُ عَلَى الزّوْجِ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ
الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا وَقَدْ نَبّهَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلَى هَذَا بِعَيْنِهِ فِي حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ
وَقَالَ فِيهِ وَأَنْتَ يَا جَعْفَرُ أَوْلَى بِهَا : تَحْتَكَ خَالَتُهَا
وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا
وَلَيْسَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَصّ يَقْتَضِي
أَنّ يَكُونَ الْحَاضِنُ ذَا رَحِمٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْبِنْتُ عَلَى
التّأْبِيدِ حَتّى يُعْتَرَضَ بِهِ عَلَى هَذَا الْمَسْلَكِ بَلْ هَذَا
مِمّا لَا تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الْفِقْهِ وَأُصُولُ الشّرِيعَةِ فَإِنّ
الْخَالَةَ مَا دَامَتْ فِي عِصْمَةِ الْحَاضِنِ فَبِنْتُ أُخْتِهَا
مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِ فَإِذَا فَارَقَهَا فَهِيَ مَعَ خَالَتِهَا فَلَا
مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ أَصْلًا وَلَا رَيْبَ أَنّ الْقَوْلَ بِهَذَا
أَخْيَرُ وَأَصْلَحُ لِلْبِنْتِ مِنْ رَفْعِهَا إلَى الْحَاكِمِ
يَدْفَعُهَا إلَى أَجْنَبِيّ تَكُونُ عِنْدَهُ إذْ الْحَاكِمُ غَيْرُ
مُتَصَدّ لِلْحَضَانَةِ بِنَفْسِهِ فَهَلْ يَشُكّ أَحَدٌ أَنّ مَا حَكَمَ
بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ
هُوَ عَيْنُ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَغَايَةُ
الِاحْتِيَاطِ لِلْبِنْتِ وَالنّظَرِ لَهَا وَأَنّ كُلّ حُكْمٍ خَالَفَهُ
لَا يَنْفَكّ عَنْ جَوْرٍ أَوْ فَسَادٍ لَا تَأْتِي بِهِ الشّرِيعَةُ
فَلَا إشْكَالَ فِي حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَالْإِشْكَالُ كُلّ الْإِشْكَالِ فِيمَا خَالَفَهُ وَاَللّهُ
الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ .
ذِكْرُ حُكْمِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّفَقَةِ عَلَى الزّوْجَاتِ
وَأَنّهُ
لَمْ يُقَدّرْهَا وَلَا وَرَدَ عَنْهُ مَا يَدُلّ عَلَى تَقْدِيرِهَا
وَإِنّمَا رَدّ الْأَزْوَاجَ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ . ثَبَتَ عَنْهُ فِي "
صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : " أَنّهُ قَالَ فِي خُطْبَةِ حَجّةِ الْوَدَاعِ
بِمَحْضَرِ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِبِضْعَةٍ
وَثَمَانِينَ يَوْمًا : وَاتّقُوا اللّهَ فِي النّسَاءِ فَإِنّكُمْ
أَخَذْتُمُوهُنّ بِأَمَانَةِ اللّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنّ
بِكَلِمَةِ اللّهِ وَلَهُنّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ
بِالْمَعْرُوفِ [ ص 438 ] وَثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ هِنْدًا امْرَأَةَ أَبِي سُفْيَانَ قَالَتْ
لَهُ إنّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَيْسَ يُعْطِينِي مِنْ
النّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إلّا مَا أَخَذْت مِنْهُ وَهُوَ لَا
يَعْلَمُ فَقَالَ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوف وَفِي "
سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " : مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ
أَبِيهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ أَتَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا تَقُولُ فِي
نِسَائِنَا ؟ قَالَ أَطْعِمُوهُنّ مِمّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُنّ مِمّا
تَلْبَسُونَ وَلَا تَضْرِبُوهُنّ وَلَا تُقَبّحُوهُنّ وَهَذَا الْحُكْمُ
مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُطَابِقٌ لِكِتَابِ
اللّهِ عَزّ وَجَلّ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ
يُتِمّ الرّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ وَكِسْوَتُهُنّ
بِالْمَعْرُوفِ } [ الْبَقَرَةِ 233 ] وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ جَعَلَ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نَفَقَةِ الْخَادِمِ وَسَوّى
بَيْنَهُمَا فِي عَدَمِ التّقْدِيرِ وَرَدّهُمَا إلَى الْمَعْرُوفِ
فَقَالَ لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ فَجَعَلَ
نَفَقَتَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ وَلَا رَيْبَ أَنّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ
غَيْرُ مُقَدّرَةٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَقْدِيرِهَا . وَصَحّ عَنْهُ
فِي الرّقِيقِ أَنّهُ قَالَ أَطْعِمُوهُمْ مِمّا تَأْكُلُونَ
وَأَلْبِسُوهُمْ مِمّا تَلْبَسُونَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ كَمَا قَالَ فِي
الزّوْجَةِ سَوَاءٌ . [ ص 439 ] أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
أَنّهُ قَالَ امْرَأَتُك تَقُولُ إمّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمّا أَنْ
تُطَلّقَنِي وَيَقُولُ الْعَبْدُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي. وَيَقُولُ
الِابْنُ أَطْعِمْنِي إلَى مَنْ تَدَعُنِي فَجَعَلَ نَفَقَةَ الزّوْجَةِ
وَالرّقِيقِ وَالْوَلَدِ كُلّهَا الْإِطْعَامَ لَا التّمْلِيكَ . وَرَوَى
النّسَائِيّ هَذَا مَرْفُوعًا إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كَمَا سَيَأْتِي . وَقَالَ تَعَالَى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } [ الْمَائِدَةِ 89 ] وَصَحّ
عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّهُ قَالَ الْخُبْزُ
وَالزّيْتُ وَصَحّ عَنْ ابْنِ عُمَر َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ الْخُبْزُ
وَالسّمْنُ وَالْخُبْزُ وَالتّمْرُ وَمِنْ أَفْضَلِ مَا تُطْعِمُونَ
الْخُبْزُ وَاللّحْم فَفَسّرَ الصّحَابَةُ إطْعَامَ الْأَهْلِ بِالْخُبْزِ
مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْأُدْمِ وَاَللّهُ وَرَسُولُهُ ذَكَرَا الْإِنْفَاقَ
مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَقْدِيرٍ وَلَا تَقْيِيدٍ
فَوَجَبَ رَدّهُ إلَى الْعُرْفِ لَوْ لَمْ يَرُدّهُ إلَيْهِ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَيْفَ وَهُوَ الّذِي رَدّ ذَلِكَ إلَى
الْعُرْفِ وَأَرْشَدَ أُمّتَهُ إلَيْهِ ؟ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ أَهْلَ
الْعُرْفِ إنّمَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى
أَهْلِيهِمْ حَتّى مَنْ يُوجِبُ التّقْدِيرَ الْخُبْزُ وَالْإِدَامُ دُونَ
الْحَبّ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ إنّمَا
كَانُوا يُنْفِقُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ كَذَلِكَ دُونَ تَمْلِيكِ
الْحَبّ وَتَقْدِيرِهِ وَلِأَنّهَا نَفَقَةٌ وَاجِبَةٌ بِالشّرْعِ فَلَمْ
تُقَدّرْ بِالْحَبّ كَنَفَقَةِ الرّقِيقِ وَلَوْ كَانَتْ مُقَدّرَةً
لَأَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هِنْدًا أَنْ تَأْخُذَ
الْمُقَدّرَ لَهَا شَرْعًا وَلَمّا أَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ مَا
يَكْفِيهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَرَدّ الِاجْتِهَادَ فِي ذَلِكَ
إلَيْهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ قَدْرَ كِفَايَتِهَا لَا يَنْحَصِرُ
فِي مُدّيْنِ وَلَا فِي رِطْلَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا
وَلَا يَنْقُصُ وَلَفْظُهُ لَمْ يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ بِوَجْهِ وَلَا
إيمَاءٍ وَلَا إشَارَةٍ وَإِيجَابُ مُدّيْنِ أَوْ رِطْلَيْنِ خُبْزًا قَدْ
يَكُونُ أَقَلّ مِنْ الْكِفَايَةِ فَيَكُونُ تَرْكًا [ ص 440 ] كَانَ
أَقَلّ مِنْ مُدّ أَوْ مِنْ رِطْلَيْ خُبْزٍ إنْفَاقٌ بِالْمَعْرُوفِ
فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْوَاجِبَ بِالْكِتَابِ وَالسّنّةِ وَلِأَنّ
الْحَبّ يُحْتَاجُ إلَى طَحْنِهِ وَخَبْزِهِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ فَإِنْ
أَخْرَجَتْ ذَلِكَ مِنْ مَالِهَا لَمْ تَحْصُلْ الْكِفَايَةُ بِنَفَقَةِ
الزّوْجِ وَإِنْ فَرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَهَا مِنْ مَالِهِ كَانَ
الْوَاجِبُ حَبّا وَدَرَاهِمَ وَلَوْ طَلَبَتْ مَكَانَ الْخُبْزِ
دَرَاهِمَ أَوْ حَبّا أَوْ دَقِيقًا أَوْ غَيْرَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ
بَذْلُهُ وَلَوْ عَرَضَ عَلَيْهَا ذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَلْزَمْهَا
قَبُولُهُ لِأَنّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ فَلَا يُجْبَرُ أَحَدُهُمَا عَلَى
قَبُولِهَا وَيَجُوزُ تَرَاضِيهِمَا عَلَى مَا اتّفَقَا عَلَيْهِ .
[الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ النّفَقَةِ عِنْدَ مَنْ قَدّرَهَا ]
وَاَلّذِينَ
قَدّرُوا النّفَقَةَ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَدّرَهَا بِالْحَبّ
وَهُوَ الشّافِعِيّ فَقَالَ نَفَقَةُ الْفَقِيرِ مُدّ بِمُدّ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَنّ أَقَلّ مَا يُدْفَعُ فِي
الْكَفّارَةِ إلَى الْوَاحِدِ مُدّ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ اعْتَبَرَ
الْكَفّارَةَ بِالنّفَقَةِ عَلَى الْأَهْلِ فَقَالَ { فَكَفّارَتُهُ
إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ
أَوْ كِسْوَتُهُمْ } [ الْمَائِدَةِ 89 ] قَالَ وَعَلَى الْمُوسِرِ
مُدّانِ لِأَنّ أَكْثَرَ مَا أَوْجَبَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لِلْوَاحِدِ
مُدّانِ فِي كَفّارَةِ الْأَذَى وَعَلَى الْمُتَوَسّطِ مُدّ وَنِصْفٌ
نِصْفُ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ وَنِصْفُ نَفَقَةِ الْفَقِيرِ . وَقَالَ
الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : مُقَدّرَةٌ بِمِقْدَارِ لَا يَخْتَلِفُ فِي
الْقِلّةِ وَالْكَثْرَةِ وَالْوَاجِبُ رِطْلَانِ مِنْ الْخُبْزِ فِي كُلّ
يَوْمٍ فِي حَقّ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ اعْتِبَارًا بِالْكَفّارَاتِ
وَإِنّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي صِفَتِهِ وَجَوْدَتِهِ لِأَنّ الْمُوسِرَ
وَالْمُعْسِرَ سَوَاءٌ فِي قَدْرِ الْمَأْكُولِ وَمَا تَقُومُ بِهِ
الْبِنْيَةُ وَإِنّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي جَوْدَتِهِ فَكَذَلِكَ
النّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ .
[حُجَجُ الْجُمْهُورِ عَلَى عَدَمِ التّقْدِيرِ ]
وَالْجُمْهُورُ
قَالُوا : لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصّحَابَةِ قَطّ تَقْدِيرُ
النّفَقَةِ لَا بِمُدّ وَلَا بِرِطْلِ وَالْمَحْفُوظُ عَنْهُمْ بَلْ
الّذِي اتّصَلَ بِهِ الْعَمَلُ فِي كُلّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ مَا ذَكَرْنَاهُ
. قَالُوا : وَمَنْ الّذِي سَلّمَ لَكُمْ التّقْدِيرَ بِالْمُدّ
وَالرّطْلِ فِي الْكَفّارَةِ وَاَلّذِي دَلّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
وَالسّنّةُ أَنّ الْوَاجِبَ فِي الْكَفّارَةِ الْإِطْعَامُ فَقَطْ لَا
التّمْلِيكُ قَالَ تَعَالَى فِي كَفّارَةِ الْيَمِينِ { فَكَفّارَتُهُ
إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ
} [ ص 441 ] الْمَائِدَةِ 89 ] وَقَالَ فِي كَفّارَةِ الظّهَارِ { فَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا } [ الْمُجَادَلَةِ 4 ]
وَقَالَ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ
أَوْ نُسُكٍ } [ الْبَقَرَةِ 196 ] وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ فِي إطْعَامِ
الْكَفّارَاتِ غَيْرُ هَذَا وَلَيْسَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْهَا
تَقْدِيرُ ذَلِكَ بِمُدّ وَلَا رِطْلٍ وَصَحّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لِمَنْ وَطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ
أَطْعِمْ سِتّينَ مِسْكِينًا وَكَذَلِكَ قَالَ لِلْمُظَاهِرِ وَلَمْ
يَحُدّ ذَلِكَ بِمُدّ وَلَا رِطْلٍ .
[ أَقْوَالُ الصّحَابَةِ فِي الْكَفّارَةِ ]
فَاَلّذِي
دَلّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسّنّةُ أَنّ الْوَاجِبَ فِي الْكَفّارَاتِ
وَالنّفَقَاتِ هُوَ الْإِطْعَامُ لَا التّمْلِيكُ وَهَذَا هُوَ الثّابِتُ
عَنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ . قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ : حَدّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ حَجّاجٍ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ
عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيّ : يُغَدّيهِمْ وَيُعَشّيهِمْ خُبْزًا
وَزَيْتًا . وَقَالَ إسْحَاقُ عَنْ الْحَارِثِ كَانَ عَلِيّ يَقُولُ فِي
إطْعَامِ الْمَسَاكِينِ فِي كَفّارَةِ الْيَمِينِ يُغَدّيهِمْ
وَيُعَشّيهِمْ خُبْزًا وَزَيْتًا أَوْ خُبْزًا وَسَمْنًا . وَقَالَ ابْنُ
أَبِي شَيْبَةَ : حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى عَنْ لَيْثٍ قَالَ كَانَ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ { مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قَالَ الْخُبْزُ وَالسّمْنُ
وَالْخُبْزُ وَالزّيْتُ وَالْخُبْزُ وَاللّحْمُ . [ ص 442 ] ابْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَوْسَطُ مَا يُطْعِمُ الرّجُلُ أَهْلَهُ
الْخُبْزُ وَاللّبَنُ وَالْخُبْزُ وَالزّيْتُ وَالْخُبْزُ وَالسّمْنُ
وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يُطْعِمُ الرّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزُ وَاللّحْمُ
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدّثَنَا يُونُسُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ
سِيرِينَ أَنّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ كَفّرَ عَنْ يَمِينٍ لَهُ
مَرّةً فَأَمَرَ بُجَيْرًا أَوْ جُبَيْرًا يُطْعِمُ عَنْهُ عَشَرَةَ
مَسَاكِينَ خُبْزًا وَلَحْمًا وَأَمَرَ لَهُمْ بِثَوْبِ مُعَقّدٍ أَوْ
ظَهْرَانِيّ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ
إسْحَاقَ حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ عَنْ حُمَيْدٍ أَنّ أَنَسًا
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَرِضَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ
يَصُومَ وَكَانَ يَجْمَعُ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَيُطْعِمُهُمْ خُبْزًا
وَلَحْمًا أَكْلَةً وَاحِدَةً .
[ أَقْوَالُ التّابِعِينَ فِي الْكَفّارَةِ ]
وَأَمّا
التّابِعُونَ فَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَأَبِي
رُزَيْنٍ وَعُبَيْدَةَ وَمُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيّ
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَشُرَيْحٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَطَاوُوسٍ
وَالشّعْبِيّ وَابْنِ بُرَيْدَةَ وَالضّحّاكِ وَالْقَاسِمِ وَسَالِمٍ
وَمُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمّدِ بْنِ كَعْب ٍ وَقَتَادَةَ
وَإِبْرَاهِيمَ النّخَعِيّ وَالْأَسَانِيدُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي
أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ إسْحَاقَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
يُغَدّي الْمَسَاكِينَ وَيُعَشّيهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَكْلَةً
وَاحِدَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ خُبْزٌ وَلَحْمٌ خُبْزٌ وَزَيْتٌ
خُبْزٌ وَسَمْنٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ
الْعِرَاقِ [ ص 443 ] وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ
وَالرّوَايَةُ الْأُخْرَى : أَنّ طَعَامَ الْكَفّارَةِ مُقَدّرٌ دُونَ
نَفَقَةِ الزّوْجَاتِ . فَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ التّقْدِيرُ فِيهِمَا
كَقَوْلِ الشّافِعِيّ وَحْدَهُ وَعَدَمُ التّقْدِيرِ فِيهِمَا كَقَوْلِ
مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ .
وَالتّقْدِيرُ فِي الْكَفّارَةِ دُونَ النّفَقَةِ كَالرّوَايَةِ
الْأُخْرَى عَنْهُ .
[ قَوْلُ مَنْ قَالَ بِالتّقْدِيرِ فِي الْكَفّارَةِ دُونَ النّفَقَةِ ]
قَالَ
مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ الْفَرْقُ بَيْنَ النّفَقَةِ وَالْكَفّارَةِ
أَنّ الْكَفّارَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَلَا هِيَ
مُقَدّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ وَلَا أَوْجَبَهَا الشّارِعُ بِالْمَعْرُوفِ
كَنَفَقَةِ الزّوْجَةِ وَالْخَادِمِ وَالْإِطْعَامُ فِيهَا حَقّ لِلّهِ
تَعَالَى لَا لِآدَمِيّ مُعَيّنٍ فَيَرْضَى بِالْعِوَضِ عَنْهُ وَلِهَذَا
لَوْ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ لَمْ يَجْزِهِ وَرُوِيَ التّقْدِيرُ فِيهَا عَنْ
الصّحَابَةِ فَقَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ حَدّثَنَا حَجّاجُ بْنُ
الْمِنْهَالِ حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي
وَائِلٍ عَنْ يَسَارِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ إنّ نَاسًا
يَأْتُونِي يَسْأَلُونِي فَأَحْلِفُ أَنّي لَا أُعْطِيهِمْ ثُمّ يَبْدُو
لِي أَنْ أُعْطِيَهُمْ فَإِذَا أَمَرْتُك أَنْ تُكَفّرَ فَأَطْعِمْ عَنّي
عَشَرَةَ مَسَاكِينَ لِكُلّ مِسْكِينٍ صَاعًا مَنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ
أَوْ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرّ . حَدّثَنَا حَجّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ
وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا : حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبّادٍ أَنّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ يَا يَرْفَا إذَا حَلَفْت
فَحَنِثْت فَأَطْعِمْ عَنّي لِيَمِينِي خَمْسَةَ أَصْوُعٍ عَشَرَةَ
مَسَاكِين . وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ ابْنِ
أَبِي لَيْلَى عَنْ عُمَرَ ابْنِ أَبِي مُرّةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
سَلَمَةَ عَنْ عَلِيّ قَالَ كَفّارَةُ الْيَمِينِ إطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ لِكُلّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ . ( حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحِيمِ
وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ حَجّاجٍ عَنْ قُرْطٍ عَنْ جَدّتِهِ [ ص
444 ] عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ إنّا نُطْعِمُ نِصْفَ
صَاعٍ مِنْ بُرّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فِي كَفّارَةِ الْيَمِينِ .
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ حَدّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدّثَنَا
هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّهِ حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ يُجْزِئُ فِي
كَفّارَةِ الْيَمِينِ لِكُلّ مِسْكِينٍ مُدّ حِنْطَةٍ . حَدّثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَيّوبَ
عَنْ نَافِعٍ أَنّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا ذَكَرَ
الْيَمِينَ أَعْتَقَ وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا أَطْعَمَ عَشَرَةَ
مَسَاكِينَ لِكُلّ مِسْكِينٍ مُدّ مُدّ . وَصَحّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : فِي كَفّارَةِ الْيَمِينِ مُدّ وَمَعَهُ
أُدْمُهُ . وَأَمّا التّابِعُونَ فَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَالَ كُلّ طَعَامٍ
ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ لِلْمَسَاكِينِ فَهُوَ نِصْفُ صَاعٍ وَكَانَ
يَقُولُ فِي كَفّارَةِ الْأَيْمَانِ كُلّهَا : مُدّانِ لِكُلّ مِسْكِينٍ .
وَقَالَ حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ يَسَارٍ أَدْرَكْتُ النّاسَ وَهُمْ يُعْطُونَ فِي كَفّارَةِ
الْيَمِينِ مُدّا بِالْمُدّ الْأَوّلِ . وَقَالَ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ
وَأَبُو سَلَمَةَ مُدّ مُدّ مِنْ بُرّ وَقَالَ عَطَاءٌ فَرْقًا بَيْنَ
عَشَرَةٍ وَمَرّةً قَالَ مُدّ مُدّ . قَالُوا : وَقَدْ ثَبَتَ فِي "
الصّحِيحَيْنِ " أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ
لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي كَفّارَةِ فِدْيَةِ الْأَذَى : أَطْعِمْ
سِتّةَ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ نِصْفَ صَاعٍ طَعَامًا لِكُلّ مِسْكِينٍ .
فَقَدّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِدْيَةَ
الْأَذَى فَجَعَلْنَا تَقْدِيرَهَا أَصْلًا وَعَدّيْنَاهَا إلَى سَائِرِ
الْكَفّارَاتِ ثُمّ قَالَ مِنْ قَدْرِ طَعَامِ الزّوْجَةِ ثُمّ رَأَيْنَا
النّفَقَاتِ وَالْكَفّارَاتِ قَدْ اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ
فَاعْتَبَرْنَا إطْعَامَ النّفَقَةِ بِإِطْعَامِ الْكَفّارَةِ وَرَأَيْنَا
اللّهَ سُبْحَانَهُ [ ص 445 ] قَالَ فِي جَزَاءِ الصّيْدِ { أَوْ
كَفّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } [ الْمَائِدَةِ 95 ] وَمَا أَجْمَعَتْ
الْأُمّةُ أَنّ الطّعَامَ مُقَدّرٌ فِيهَا وَلِهَذَا لَوْ عَدِمَ
الطّعَامَ صَامَ عَنْ كُلّ مُدّ يَوْمًا كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَبّاسٍ
وَالنّاسُ بَعْدَهُ فَهَذَا مَا احْتَجّتْ بِهِ هَذِهِ الطّائِفَةُ عَلَى
تَقْدِيرِ طَعَامِ الْكَفّارَةِ .
[ حُجّةُ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ التّقْدِيرِ فِي النّفَقَةِ وَالْكَفّارَاتِ ] قَالَ الْآخَرُونَ لَا حُجّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمّةِ وَقَدْ أَمَرَنَا تَعَالَى أَنْ نَرُدّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَذَلِكَ خَيْرٌ لَنَا حَالًا وَعَاقِبَةً وَرَأَيْنَا اللّهَ سُبْحَانَهُ إنّمَا قَالَ فِي الْكَفّارَةِ { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } و إطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا فَعَلّقَ الْأَمْرَ بِالْمَصْدَرِ الّذِي هُوَ الْإِطْعَامُ وَلَمْ يُحِدّ لَنَا جِنْسَ الطّعَامِ وَلَا قَدْرَهُ وَحَدّ لَنَا جِنْسَ الْمُطْعَمِينَ وَقَدْرَهُمْ فَأَطْلَقَ الطّعَامَ وَقَيّدَ الْمَطْعُومِينَ وَرَأَيْنَاهُ سُبْحَانَهُ حَيْثُ ذَكَرَ إطْعَامَ الْمِسْكِينِ فِي كِتَابِهِ فَإِنّمَا أَرَادَ بِهِ الْإِطْعَامَ الْمَعْهُودَ الْمُتَعَارَفَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا } [ الْبَلَدِ 12 ] . وَقَالَ { وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } [ الْإِنْسَانِ 8 ] وَكَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ يَقِينًا أَنّهُمْ لَوْ غَدّوْهُمْ أَوْ عَشّوْهُمْ أَوْ أَطْعَمُوهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا أَوْ خُبْزًا وَمَرَقًا وَنَحْوَهُ لَكَانُوا مَمْدُوحِينَ دَاخِلِينَ فِيمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ وَهُوَ سُبْحَانَهُ عَدَلَ عَنْ الطّعَامِ الّذِي هُوَ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ إلَى الْإِطْعَامِ الّذِي هُوَ مَصْدَرٌ صَرِيحٌ وَهَذَا نَصّ فِي أَنّهُ إذَا أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ وَلَمْ يُمْلِكْهُمْ فَقَدْ امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَصَحّ فِي كُلّ لُغَةٍ وَعُرْفٍ أَنّهُ أَطْعَمَهُمْ . قَالُوا : وَفِي أَيّ لُغَةٍ لَا يَصْدُقُ لَفْظُ الْإِطْعَام إلّا بِالتّمْلِيكِ ؟ وَلَمّا قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَطْعَمَ الصّحَابَةَ فِي وَلِيمَةِ زَيْنَبَ خُبْزًا وَلَحْمًا . كَانَ قَدْ اتّخَذَ طَعَامًا وَدَعَاهُمْ إلَيْهِ عَلَى عَادَةِ الْوَلَائِمِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي وَلِيمَةِ صَفِيّةَ أَطْعِمْهُمْ حَيْسًا وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ نَذْكُرَ شَوَاهِدَهُ قَالُوا : وَقَدْ زَادَ ذَلِكَ [ ص 446 ] { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ الْمَائِدَةِ 89 ] وَمَعْلُومٌ يَقِينًا أَنّ الرّجُلَ إنّمَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ وَاللّحْمَ وَالْمَرَقَ وَاللّبَنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِذَا أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَطْعَمَهُمْ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ بِلَا شَكّ وَلِهَذَا اتّفَقَ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ فِي إطْعَامِ الْأَهْلِ عَلَى أَنّهُ غَيْرُ مُقَدّرٍ كَمَا تَقَدّمَ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُ أَصْلًا لِطَعَامِ الْكَفّارَةِ فَدَلّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى أَنّ طَعَامَ الْكَفّارَةِ غَيْرُ مُقَدّرٍ . وَأَمّا مَنْ قَدّرَ طَعَامَ الْأَهْلِ فَإِنّمَا أَخَذَ مِنْ تَقْدِيرِ طَعَامِ الْكَفّارَةِ فَيُقَالُ هَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى النّصّ فَإِنّ اللّهَ أَطْلَقَ طَعَامَ الْأَهْلِ وَجَعَلَهُ أَصْلًا لِطَعَامِ الْكَفّارَةِ فَعُلِمَ أَنّ طَعَامَ الْكَفّارَةِ لَا يَتَقَدّرُ كَمَا لَا يَتَقَدّرُ أَصْلُهُ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ صَحَابِيّ الْبَتّةَ تَقْدِيرُ طَعَامِ الزّوْجَةِ مَعَ عُمُومِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فِي كُلّ وَقْتٍ . قَالُوا : فَأَمّا الْفُرُوقُ الّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيرَ طَعَامِ الْكَفّارَةِ وَحَاصِلُهَا خَمْسَةُ فُرُوقٍ أَنّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَأَنّهَا لَا تَتَقَدّرُ بِالْكِفَايَةِ وَلَا أَوْجَبَهَا الشّارِعُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْعِوَضِ عَنْهَا وَهِيَ حَقّ لِلّهِ لَا تَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزّوْجَةِ فَيُقَالُ نَعَمْ لَا شَكّ فِي صِحّةِ هَذِهِ الْفَرُوقِ وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ يَسْتَلْزِمُ وُجُوبُ تَقْدِيرِهَا بِمُدّ وَمُدّيْنِ ؟ بَلْ هِيَ إطْعَامٌ وَاجِبٌ مِنْ جِنْسِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ وَمَعَ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَا يَدُلّ عَلَى تَقْدِيرِهَا بِوَجْهٍ . وَأَمّا مَا ذَكَرْتُمْ عَنْ الصّحَابَةِ مِنْ تَقْدِيرِهَا فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَلِيّ وَأَنَسٌ وَأَبُو مُوسَى وَابْنُ مَسْعُودٍ [ ص 447 ] رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ أَنّهُمْ قَالُوا : يُجْزِئُ أَنْ يُغَدّيَهُمْ وَيُعَشّيَهُمْ . الثّانِي : أَنّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُمْ الْمُدّ وَالْمُدّانِ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ تَقْدِيرًا وَتَحْدِيدًا بَلْ تَمْثِيلًا فَإِنّ مِنْهُمْ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ الْمُدّ وَرُوِيَ عَنْهُ مُدّانِ وَرُوِيَ عَنْهُ مَكّوكٌ وَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ التّغْدِيَةِ وَالتّعْشِيَةِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَكْلَةٌ وَرُوِيَ عَنْهُ رَغِيفٌ أَوْ رَغِيفَانِ فَإِنْ كَانَ هَذَا اخْتِلَافًا فَلَا حُجّةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ حَالِ الْمُسْتَفْتِي وَبِحَسَبِ حَالِ الْحَالِفِ وَالْمُكَفّرِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التّمْثِيلِ فَكَذَلِكَ . فَعَلَى كُلّ تَقْدِيرٍ لَا حُجّةَ فِيهِ عَلَى التّقْدِيرَيْنِ . قَالُوا : وَأَمّا الْإِطْعَامُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [ الْبَقَرَةِ 196 ] وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ أَطْلَقَ هَذِهِ الثّلَاثَةَ وَلَمْ وَيُقَيّدْهَا . وَصَحّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَقْيِيدُ الصّيَامِ بِثَلَاثَةِ أَيّامٍ وَتَقْيِيدُ النّسُكِ بِذَبْحِ شَاةٍ وَتَقْيِيدُ الْإِطْعَامِ بِسِتّةِ مَسَاكِينَ لِكُلّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ وَلَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى : فَإِطْعَامُ سِتّةِ مَسَاكِينَ وَلَكِنْ أَوْجَبَ صَدَقَةً مُطْلَقَةً وَصَوْمًا مُطْلَقًا وَدَمًا مُطْلَقًا فَعَيّنَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْفَرَقِ وَالثّلَاثَةِ الْأَيّامِ وَالشّاةِ . وَأَمّا جَزَاءُ الصّيْدِ فَإِنّهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْبَابِ فَإِنّ الْمُخْرِجَ إنّمَا يُخْرِجُ قِيمَةَ الصّيْدِ مِنْ الطّعَامِ وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِالْقِلّةِ وَالْكَثْرَةِ فَإِنّهَا بَدَلُ مُتْلَفٍ لَا يُنْظَرُ فِيهَا إلَى عَدَدِ الْمَسَاكِينِ وَإِنّمَا يُنْظَرُ فِيهَا إلَى مَبْلَغِ الطّعَامِ فَيُطْعِمُهُ الْمَسَاكِينَ عَلَى مَا يَرَى مِنْ إطْعَامِهِمْ وَتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَتَقْدِيرُ الطّعَامِ فِيهَا عَلَى حَسَبِ الْمُتْلَفِ وَهُوَ يَقِلّ وَيَكْثُرُ وَلَيْسَ مَا يُعْطَاهُ كُلّ مِسْكِينٍ مُقَدّرًا . ثُمّ إنّ التّقْدِيرَ بِالْحَبّ يَسْتَلْزِمُ أَمْرًا بَاطِلًا بَيّنَ الْبُطْلَانِ فَإِنّهُ إذَا كَانَ الْوَاجِبُ لَهَا عَلَيْهِ شَرْعًا الْحَبّ وَأَكْثَرُ النّاسِ إنّمَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ فَإِنْ جَعَلْتُمْ هَذَا مُعَاوَضَةً كَانَ رِبًا ظَاهِرًا وَإِنْ لَمْ تَجْعَلُوهُ مُعَاوَضَةً فَالْحَبّ ثَابِتٌ لَهَا فِي ذِمّتِهِ وَلَمْ تَعْتَضْ عَنْهُ فَلَمْ تَبْرَأْ ذِمّتُهُ مِنْهُ إلّا بِإِسْقَاطِهَا وَإِبْرَائِهَا فَإِذَا لَمْ تُبْرِئْهُ طَالَبَتْهُ بِالْحَبّ مُدّةً طَوِيلَةً مَعَ إنْفَاقِهِ عَلَيْهَا كُلّ يَوْمٍ حَاجَتَهَا مِنْ الْخُبْزِ وَالْأُدْمِ وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا [ ص 448 ] كَانَ الْحَبّ دَيْنًا لَهُ أَوْ عَلَيْهِ يُؤْخَذُ مِنْ التّرِكَةِ مَعَ سِعَةِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا كُلّ يَوْمٍ . وَمَعْلُومٌ أَنّ الشّرِيعَةَ الْكَامِلَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ تَأْبَى ذَلِكَ كُلّ الْإِبَاءِ وَتَدْفَعُهُ كُلّ الدّفْعِ كَمَا يَدْفَعُهُ الْعَقْلُ وَالْعُرْفُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنّ النّفَقَةَ الّتِي فِي ذِمّتِهِ تَسْقُطُ بِاَلّذِي لَهُ عَلَيْهَا مِنْ الْخُبْزِ وَالْأُدْمِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ لَمْ يَبِعْهُ إيّاهَا وَلَا اقْتَرَضَهُ مِنْهَا حَتّى يَثْبُتَ فِي ذِمّتِهَا بَلْ هِيَ مَعَهُ فِيهِ عَلَى حُكْمِ الضّيْفِ لِامْتِنَاعِ الْمُعَاوَضَةِ عَنْ الْحَبّ بِذَلِكَ شَرْعًا . وَلَوْ قُدّرَ ثُبُوتُهُ فِي ذِمّتِهَا لَمَا أَمْكَنَتْ الْمُقَاصّةُ لِاخْتِلَافِ الدّينَيْنِ جِنْسًا وَالْمُقَاصّةُ تَعْتَمِدُ اتّفَاقَهُمَا . هَذَا وَإِنْ قِيلَ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إنّهُ لَا يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَى النّفَقَةِ مُطْلَقًا لَا بِدَرَاهِمَ وَلَا بِغَيْرِهَا لِأَنّهُ مُعَاوَضَةٌ عَمّا لَمْ يَسْتَقِرّ وَلَمْ يَجِبْ فَإِنّهَا إنّمَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِنّهُ لَا تَصِحّ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهَا حَتّى تَسْتَقِرّ بِمُضِيّ الزّمَانِ فَيُعَاوِضُ عَنْهَا كَمَا يُعَاوِضُ عَمّا هُوَ مُسْتَقِرّ فِي الذّمّةِ مِنْ الدّيُونِ وَلَمّا لَمْ يَجِدْ بَعْضُ أَصْحَابِ الشّافِعِيّ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مَخْلَصًا قَالَ الصّحِيحُ أَنّهَا إذَا أَكَلَتْ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا . قَالَ الرّافِعِيّ فِي " مُحَرّرِهِ " : أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ السّقُوطُ وَصَحّحَهُ النّوَوِيّ لِجَرَيَانِ النّاسِ عَلَيْهِ فِي كُلّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ وَاكْتِفَاءِ الزّوْجَةِ بِهِ . وَقَالَ الرّافِعِيّ فِي " الشّرْحِ الْكَبِيرِ " و " الْأَوْسَطِ " : فِيهِ وَجْهَانِ . أَقْيَسُهُمَا : أَنّهَا لَا تَسْقُطُ لِأَنّهُ لَمْ يُوفِ الْوَاجِبَ وَتَطَوّعَ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَصَرّحُوا بِأَنّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الرّشِيدَةِ الّتِي أَذِنَ لَهَا قَيّمُهَا فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا لَمْ تَسْقُطْ وَجْهًا وَاحِدًا .
فَصْلٌ [ مَا اُسْتُنْبِطَ مِنْ حَدِيثِ شَكْوَى هِنْدٍ ]
[ جَوَازَ ذِكْرِ الْعُيُوبِ عِنْدَ الشّكْوَى ]
وَفِي
حَدِيثِ هِنْدٍ : دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَوْلِ الرّجُلِ فِي غَرِيمِهِ
مَا فِيهِ مِنْ الْعُيُوبِ عِنْدَ شَكْوَاهُ وَأَنّ ذَلِكَ لَيْسَ
بِغِيبَةِ وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ فِي خَصْمِهِ يَا رَسُولَ
اللّهِ إنّهُ فَاجِرٌ لَا يُبَالِي مَا حَلَفَ عَلَيْهِ .
[ تَفَرّدُ الْأَبِ بِنَفَقَةِ أَوْلَادِهِ ]
وَفِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى تَفَرّدِ الْأَبِ بِنَفَقَةِ أَوْلَادِهِ وَلَا تُشَارِكُهُ
فِيهَا الْأُمّ وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلّا قَوْلٌ شَاذّ لَا
يُلْتَفَتُ إلَيْهِ أَنّ عَلَى الْأُمّ مِنْ النّفَقَةِ بِقَدْرِ
مِيرَاثِهَا وَزَعَمَ [ ص 449 ] الْقِيَاسَ عَلَى كُلّ مَنْ لَهُ ذَكَرٌ
وَأُنْثَى فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُمَا وَارِثَانِ فَإِنّ النّفَقَةَ
عَلَيْهِمَا كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ أَخٌ وَأُخْتٌ أَوْ أُمّ وَجَدّ أَوْ
ابْنٌ وَبِنْتٌ فَالنّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا
فَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالْأُمّ . وَالصّحِيحُ انْفِرَادُ الْعَصَبَةِ
بِالنّفَقَةِ وَهَذَا كُلّهُ كَمَا يَنْفَرِدُ الْأَبُ دُونَ الْأُمّ
بِالْإِنْفَاقِ وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشّرْعِ فَإِنّ
الْعَصَبَةَ تَنْفَرِدُ بِحَمْلِ الْعَقْلِ وَوِلَايَةِ النّكَاحِ
وَوِلَايَةِ الْمَوْتِ وَالْمِيرَاثِ بِالْوَلَاءِ وَقَدْ نَصّ
الشّافِعِيّ عَلَى أَنّهُ إذَا اجْتَمَعَ أُمّ وَجَدّ أَوْ أَبٌ
فَالنّفَقَةُ عَلَى الْجَدّ وَحْدَهُ وَهُوَ إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْ
أَحْمَدَ وَهِيَ الصّحِيحَةُ فِي الدّلِيلِ وَكَذَلِكَ إنْ اجْتَمَعَ
ابْنٌ وَبِنْتٌ أَوْ أُمّ وَابْنٌ أَوْ بِنْتٌ وَابْنُ ابْنٍ فَقَالَ
الشّافِعِيّ : النّفَقَةُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثّلَاثِ عَلَى
الِابْنِ لِأَنّهُ الْعَصَبَةُ وَهِيَ إحْدَى الرّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ
. وَالثّانِيَةُ أَنّهَا عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ فِي الْمَسَائِلِ
الثّلَاثِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : النّفَقَةُ فِي مَسْأَلَةِ الِابْنِ
وَالْبِنْتِ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْقُرْبِ وَفِي
مَسْأَلَةِ بِنْتٍ وَابْنِ ابْنٍ النّفَقَةُ عَلَى الْبِنْتِ لِأَنّهَا
أَقْرَبُ وَفِي مَسْأَلَةِ أُمّ وَبِنْتٍ عَلَى الْأُمّ الرّبُعُ
وَالْبَاقِي عَلَى الْبِنْتِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَقَالَ الشّافِعِيّ
: تَنْفَرِدُ بِهَا الْبِنْتُ لِأَنّهَا تَكُونُ عَصَبَةً مَعَ أَخِيهَا
وَالصّحِيحُ انْفِرَادُ الْعَصَبَةِ بِالْإِنْفَاقِ لِأَنّهُ الْوَارِثُ
الْمُطْلَقُ . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ نَفَقَةَ الزّوْجَةِ
وَالْأَقَارِبِ مُقَدّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ وَأَنّ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ
وَأَنّ لِمَنْ لَهُ النّفَقَةَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِنَفْسِهِ إذَا
مَنَعَهُ إيّاهَا مَنْ هِيَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ احْتَجّ بِهَذَا عَلَى جَوَازِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ وَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنّ أَبَا سُفْيَانَ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلَدِ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَسْأَلْهَا الْبَيّنَةَ وَلَا يُعْطَى الْمُدّعِي بِمُجَرّدِ دَعْوَاهُ وَإِنّمَا كَانَ هَذَا فَتْوَى مِنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَقَدْ احْتَجّ بِهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الظّفْرِ وَأَنّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ إذَا ظَفِرَ بِهِ بِقَدْرِ حَقّهِ الّذِي جَحَدَهُ إيّاهُ وَلَا يَدُلّ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا : أَنّ سَبَبَ الْحَقّ هَاهُنَا ظَاهِرٌ وَهُوَ الزّوْجِيّةُ فَلَا يَكُونُ الْأَخْذُ خِيَانَةً فِي الظّاهِرِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ [ ص 450 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَدّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ وَلِهَذَا نَصّ أَحْمَدُ عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ مُفَرّقًا بَيْنَهُمَا فَمَنَعَ مِنْ الْأَخْذِ فِي مَسْأَلَة الظّفْرِ وَجَوّزَ لِلزّوْجَةِ الْأَخْذَ وَعَمِلَ بِكِلَا الْحَدِيثَيْنِ . الثّانِي : أَنّهُ يَشُقّ عَلَى الزّوْجَةِ أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ فَيُلْزِمُهُ بِالْإِنْفَاقِ أَوْ الْفِرَاقِ وَفِي ذَلِكَ مَضَرّةٌ عَلَيْهَا مَعَ تَمَكّنِهَا مِنْ أَخْذِ حَقّهَا . الثّالِثُ أَنّ حَقّهَا يَتَجَدّدُ كُلّ يَوْمٍ فَلَيْسَ هُوَ حَقّا وَاحِدًا مُسْتَقِرّا يُمْكِنُ أَنْ تَسْتَدِينَ عَلَيْهِ أَوْ تَرْفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ بِخِلَافِ حَقّ الدّيْنِ .
فَصْلٌ [ هَلْ تَسْقُطُ النّفَقَةُ بِمُضِيّ الزّمَنِ ]
وَقَدْ
اُحْتُجّ بِقِصّةِ هِنْدٍ هَذِهِ عَلَى أَنّ نَفَقَةَ الزّوْجَةِ تَسْقُطُ
بِمُضِيّ الزّمَانِ لِأَنّهُ لَمْ يُمَكّنْهَا مِنْ أَخْذِ مَا مَضَى
لَهَا مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ مَعَ قَوْلِهَا : إنّهُ لَا يُعْطِيهَا
مَا يَكْفِيهَا وَلَا دَلِيلَ فِيهَا لِأَنّهَا لَمْ تَدّعِ بِهِ وَلَا
طَلَبَتْهُ وَإِنّمَا اسْتَفْتَتْهُ هَلْ تَأْخُذُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ
مَا يَكْفِيهَا ؟ فَأَفْتَاهَا بِذَلِكَ . وَبَعْدُ فَقَدْ اخْتَلَفَ
النّاسُ فِي نَفَقَةِ الزّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ هَلْ يَسْقُطَانِ
بِمُضِيّ الزّمَانِ كِلَاهُمَا أَوْ لَا يَسْقُطَانِ أَوْ تَسْقُطُ
نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ دُونَ الزّوْجَاتِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا : أَنّهُمَا يَسْقُطَانِ بِمُضِيّ الزّمَانِ وَهَذَا مَذْهَبُ
أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَالثّانِي :
أَنّهُمَا لَا يَسْقُطَانِ إذَا كَانَ الْقَرِيبُ طِفْلًا وَهَذَا وَجْهٌ
لِلشّافِعِيّةِ . [ ص 451 ] دُونَ نَفَقَةِ الزّوْجَةِ وَهَذَا هُوَ
الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشّافِعِيّ وَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ . ثُمّ
الّذِينَ أَسْقَطُوهُ بِمُضِيّ الزّمَانِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إذَا كَانَ
الْحَاكِمُ قَدْ فَرَضَهَا لَمْ تَسْقُطْ وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ
الشّافِعِيّةِ وَالْحَنَابِلَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يُؤَثّرُ
فَرْضُ الْحَاكِمِ فِي وُجُوبِهَا شَيْئًا إذَا سَقَطَتْ بِمُضِيّ
الزّمَانِ وَاَلّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي " مُحَرّرِهِ "
الْفَرْقُ بَيْنَ نَفَقَةِ الزّوْجَةِ وَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ فِي ذَلِكَ
فَقَالَ وَإِذَا غَابَ مُدّةً وَلَمْ يُنْفِقْ لَزِمَهُ نَفَقَةُ
الْمَاضِي وَعَنْهُ لَا يَلْزَمُهُ إلّا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ
فَرَضَهَا . وَأَمّا نَفَقَةُ أَقَارِبِهِ فَلَا تَلْزَمُهُ لِمَا مَضَى
وَإِنْ فُرِضَتْ إلّا أَنْ يُسْتَدَانَ عَلَيْهِ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ
وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ وَأَنّهُ لَا تَأْثِيرَ لِفَرْضِ الْحَاكِمِ فِي
وُجُوبِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ لِمَا مَضَى مِنْ الزّمَانِ نَقْلًا
وَتَوْجِيهًا أَمّا النّقْلُ فَإِنّهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحْمَدَ وَلَا
عَنْ قُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ اسْتِقْرَارُ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ بِمُضِيّ
الزّمَانِ إذَا فَرَضَهَا الْحَاكِمُ وَلَا عَنْ الشّافِعِيّ وَقُدَمَاءِ
أَصْحَابِهِ وَالْمُحَقّقِينَ لِمَذْهَبِهِ مِنْهُمْ كَصَاحِبِ "
الْمُهَذّبِ " و " الْحَاوِي " و " الشّامِلِ " و " النّهَايَةِ " و "
التّهْذِيبِ " و " الْبَيَانِ " و " الذّخَائِرِ " وَلَيْسَ فِي هَذِهِ
الْكُتُبِ إلّا السّقُوطُ بِدُونِ اسْتِثْنَاءِ فَرْضٍ وَإِنّمَا يُوجَدُ
اسْتِقْرَارُهَا إذَا فَرَضَهَا الْحَاكِمُ فِي " الْوَسِيطِ " و "
الْوَجِيزِ " وَشَرْحِ الرّافِعِيّ وَفُرُوعِهِ وَقَدْ صَرّحَ نَصْرٌ
الْمَقْدِسِيّ فِي " تَهْذِيبِهِ " وَالْمَحَامِلِيّ فِي " الْعُدّةِ "
وَمُحَمّدُ بْنُ عُثْمَانَ فِي " التّمْهِيدِ " وَالْبَنْدَنِيجِيّ فِي "
الْمُعْتَمَدِ " بِأَنّهَا لَا تَسْتَقِرّ وَلَوْ فَرَضَهَا الْحَاكِمُ
وَعَلّلُوا السّقُوطَ بِأَنّهَا تَجِبُ عَلَى وَجْهِ الْمُوَاسَاةِ
لِإِحْيَاءِ النّفْسِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ مَعَ يَسَارِ الْمُنْفَقِ
عَلَيْهِ وَهَذَا التّعْلِيلُ يُوجِبُ سُقُوطَهَا فُرِضَتْ أَوْ لَمْ
تُفْرَضْ . وَقَالَ أَبُو [ ص 452 ] مَصِيرُهُ دَيْنًا فِي الذّمّةِ
وَاسْتُبْعِدَ لِهَذَا التّعْلِيلِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنّ نَفَقَةَ
الصّغِيرِ تَسْتَقِرّ بِمُضِيّ الزّمَانِ وَبَالَغَ فِي تَضْعِيفِهِ مِنْ
جِهَةِ أَنّ إيجَابَ الْكِفَايَةِ مَعَ إيجَابِ عِوَضِ مَا مَضَى
مُتَنَاقِضُ ثُمّ اعْتَذَرَ عَنْ تَقْدِيرِهَا فِي صُورَةِ الْحَمْلِ
عَلَى الْأَصَحّ . إذَا قُلْنَا : إنّ النّفَقَةَ لَهُ بِأَنّ الْحَامِلَ
مُسْتَحِقّةٌ لَهَا أَوْ مُنْتَفِعَةٌ بِهَا فَهِيَ كَنَفَقَةِ الزّوْجَةِ
. قَالَ وَلِهَذَا قُلْنَا : تَتَقَدّرُ ثُمّ قَالَ هَذَا فِي الْحَمْلِ
وَالْوَلَدِ الصّغِيرِ أَمّا نَفَقَةُ غَيْرِهِمَا فَلَا تَصِيرُ دَيْنًا
أَصْلًا . انْتَهَى . وَهَذَا الّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ هُوَ الصّوَابُ
فَإِنّ فِي تَصَوّرِ فَرْضِ الْحَاكِمِ نَظَرًا لِأَنّهُ إمّا أَنْ
يَعْتَقِدَ سُقُوطَهَا بِمُضِيّ الزّمَانِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ
يَعْتَقِدُهُ لَمْ يَسُغْ لَهُ الْحُكْمُ بِخِلَافِهِ وَإِلْزَامُ مَا
يَعْتَقِدُ أَنّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ سُقُوطَهَا
مَعَ أَنّهُ لَا يَعْرِفُ بِهِ قَائِلٌ إلّا فِي الطّفْلِ الصّغِيرِ عَلَى
وَجْهٍ لِأَصْحَابِ الشّافِعِيّ . فَإِمّا أَنْ يَعْنِيَ بِالْفَرْضِ
الْإِيجَابَ أَوْ إثْبَاتَ الْوَاجِبِ أَوْ تَقْدِيرَهُ أَوْ أَمْرًا
رَابِعًا فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْإِيجَابُ فَهُوَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ
وَلَا أَثَرَ لِفَرْضِهِ وَكَذَلِكَ إنْ أُرِيدَ بِهِ إثْبَاتُ الْوَاجِبِ
فَفَرْضُهُ وَعَدَمُهُ سِيّانِ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ تَقْدِيرُ الْوَاجِبِ
فَالتّقْدِيرُ إنّمَا يُؤَثّرُ فِي صِفَةِ الْوَاجِبِ مِنْ الزّيَادَةِ
وَالنّقْصَانِ لَا فِي سُقُوطِهِ وَلَا ثُبُوتِهِ فَلَا أَثَرَ لِفَرْضِهِ
فِي الْوَاجِبِ الْبَتّةَ هَذَا مَعَ مَا فِي التّقْدِيرِ مِنْ
مُصَادَمَةِ الْأَدِلّةِ الّتِي تَقَدّمَتْ عَلَى أَنّ الْوَاجِبَ
النّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ فَيُطْعِمُهُمْ مِمّا يَأْكُلُ وَيَكْسُوهُمْ
مِمّا يَلْبَسُ . وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَمْرٌ رَابِعٌ فَلَا بُدّ مِنْ
بَيَانِهِ لِيَنْظُرَ فِيهِ . فَإِنْ قِيلَ الْأَمْرُ الرّابِعُ
الْمُرَادُ هُوَ عَدَمُ السّقُوطِ بِمُضِيّ الزّمَانِ فَهَذَا هُوَ مَحَلّ
الْحُكْمِ وَهُوَ الّذِي أَثّرَ فِيهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَتَعَلّقَ بِهِ
. قِيلَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ السّقُوطَ ثُمّ يُلْزِمُ
وَيَقْضِي بِخِلَافِهِ ؟ وَإِنْ اعْتَقَدَ عَدَمَ السّقُوطِ فَخِلَافُ
الْإِجْمَاعِ وَمَعْلُومٌ أَنّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُزِيلُ الشّيْءَ
عَنْ صِفَتِهِ فَإِذَا كَانَتْ صِفَةُ هَذَا الْوَاجِبِ سُقُوطَهُ
بِمُضِيّ الزّمَانِ شَرْعًا لَمْ يُزِلْهُ حُكْمُ الْحَاكِمِ عَنْ
صِفَتِهِ . فَإِنْ قِيلَ بَقِيَ قِسْمٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ
الْحَاكِمُ السّقُوطَ بِمُضِيّ الزّمَانِ مَا لَمْ [ ص 453 ] لِأَجْلِ
الْفَرْضِ لَا بِنَفْسِ مُضِيّ الزّمَانِ . قِيلَ هَذَا لَا يُجْدِي
شَيْئًا فَإِنّهُ إذَا اعْتَقَدَ سُقُوطَهَا بِمُضِيّ الزّمَانِ وَإِنّ
هَذَا هُوَ الْحَقّ وَالشّرْعُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُلْزَمَ بِمَا
يَعْتَقِدُ سُقُوطَهُ وَعَدَمَ ثُبُوتِهِ وَمَا هَذَا إلّا بِمَثَابَةِ
مَا لَوْ تَرَافَعَ إلَيْهِ مُضْطَرّ وَصَاحِبُ طَعَامٍ غَيْرُ مُضْطَرّ
فَقُضِيَ بِهِ لِلْمُضْطَرّ بِعِوَضِهِ فَلَمْ يَتّفِقْ أَخْذُهُ حَتّى
زَالَ الِاضْطِرَارُ وَلَمْ يُعْطِ صَاحِبَهُ الْعِوَضَ أَنّهُ يُلْزِمُهُ
بِالْعِوَضِ وَيُلْزَمُ صَاحِبُ الطّعَامِ بِبَذْلِهِ لَهُ وَالْقَرِيبُ
يَسْتَحِقّ النّفَقَةَ لِإِحْيَاءِ مُهْجَتِهِ فَإِذَا مَضَى زَمَنُ
الْوُجُوبِ حَصَلَ مَقْصُودُ الشّارِعِ مِنْ إحْيَائِهِ فَلَا فَائِدَةَ
فِي الرّجُوعِ بِمَا فَاتَ مِنْ سَبَبِ الْإِحْيَاءِ وَوَسِيلَتِهِ مَعَ
حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ السّبَبِ بِسَبَبِ آخَرَ .
فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْكُمْ بِنَفَقَةِ الزّوْجَةِ
فَإِنّهَا تَسْتَقِرّ بِمُضِيّ الزّمَانِ وَلَوْ لَمْ تُفْرَضْ مَعَ
حُصُولِ هَذَا الْمَعْنَى الّذِي ذَكَرْتُمُوهُ بِعَيْنِهِ .
[ الْفَرْقُ بَيْنَ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزّوْجَاتِ ]
قِيلَ
النّقْضُ لَا بُدّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْلُومِ الْحُكْمِ بِالنّصّ أَوْ
الْإِجْمَاعِ وَسُقُوطُ نَفَقَةِ الزّوْجَةِ بِمُضِيّ الزّمَانِ
مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ فَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ
يُسْقِطَانِهَا وَالشّافِعِيّ وَأَحْمَدُ فِي الرّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا
يُسْقِطَانِهَا وَاَلّذِينَ لَا يُسْقِطُونَهَا فَرّقُوا بَيْنَهَا
وَبَيْنَ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ بِفُرُوقٍ . أَحَدُهَا : أَنّ نَفَقَةَ
الْقَرِيبِ صِلَةٌ . الثّانِي : أَنّ نَفَقَةَ الزّوْجَةِ تَجِبُ مَعَ
الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ . الثّالِثُ
أَنّ نَفَقَةَ الزّوْجَةِ تَجِبُ مَعَ اسْتِغْنَائِهَا بِمَالِهَا
وَنَفَقَةَ الْقَرِيبِ لَا تَجِبُ إلّا مَعَ إعْسَارِهِ وَحَاجَتِهِ .
الرّابِعُ أَنّ الصّحَابَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ أَوْجَبُوا
لِلزّوْجَةِ نَفَقَةَ مَا مَضَى وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطّ
أَنّهُ أَوْجَبَ لِلْقَرِيبِ نَفَقَةَ مَا مَضَى فَصَحّ عَنْ عُمَرَ [ ص
454 ] رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ
فِي رِجَالٍ غَابُوا عَنْ نِسَائِهِمْ فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يُنْفِقُوا
أَوْ يُطَلّقُوا فَإِنْ طَلّقُوا بَعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى وَلَمْ
يُخَالِفْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ رَحِمَهُ اللّهُ هَذِهِ نَفَقَةٌ وَجَبَتْ
بِالْكِتَابِ وَالسّنّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا يَزُولُ مَا وَجَبَ
بِهَذِهِ الْحُجَجِ إلّا بِمِثْلِهَا . قَالَ الْمُسْقِطُونَ قَدْ شَكَتْ
هِنْدٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ أَبَا
سُفْيَانَ لَا يُعْطِيهَا كِفَايَتَهَا فَأَبَاحَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ قَدْرَ الْكِفَايَةِ وَلَمْ يُجَوّزْ لَهَا أَخْذَ مَا
مَضَى وَقَوْلُكُمْ إنّهَا نَفَقَةُ مُعَاوَضَةٍ فَالْمُعَاوَضَةُ إنّمَا
هِيَ بِالصّدَاقِ وَإِنّمَا النّفَقَةُ لِكَوْنِهَا فِي حَبْسِهِ فَهِيَ
عَانِيَةٌ عِنْدَهُ كَالْأَسِيرِ فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ عِيَالِهِ
وَنَفَقَتُهَا مُوَاسَاةٌ وَإِلّا فَكُلّ مِنْ الزّوْجَيْنِ يَحْصُلُ لَهُ
مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ لِلْآخَرِ وَقَدْ عَاوَضَهَا
عَلَى الْمَهْرِ فَإِذَا اسْتَغْنَتْ عَنْ نَفَقَةِ مَا مَضَى فَلَا
وَجْهَ لِإِلْزَامِ الزّوْجِ بِهِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ جَعَلَ نَفَقَةَ الزّوْجَةِ كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ
بِالْمَعْرُوفِ وَكَنَفَقَةِ الرّقِيقِ فَالْأَنْوَاعُ الثّلَاثَةُ إنّمَا
وَجَبَتْ بِالْمَعْرُوفِ مُوَاسَاةً لِإِحْيَاءِ نَفْسِ مَنْ هُوَ فِي
مِلْكِهِ وَحَبْسِهِ وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَحِمٌ وَقَرَابَةٌ
فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهَا بِمُضِيّ الزّمَانِ فَلَا وَجْهَ لِإِلْزَامِ
الزّوْجِ بِهَا وَأَيّ مَعْرُوفٍ فِي إلْزَامِهِ نَفَقَةَ مَا مَضَى
وَحَبْسِهِ عَلَى ذَلِكَ وَالتّضْيِيقِ عَلَيْهِ وَتَعْذِيبِهِ بِطُولِ
الْحَبْسِ وَتَعْرِيضِ الزّوْجَةِ لِقَضَاءِ أَوْطَارِهَا مِنْ الدّخُولِ
وَالْخُرُوجِ وَعِشْرَةِ الْأَخْدَانِ بِانْقِطَاعِ زَوْجِهَا عَنْهَا
وَغَيْبَةِ نَظَرِهِ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ وَفِي ذَلِكَ مِنْ
الْفَسَادِ الْمُنْتَشِرِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلّا اللّهُ حَتّى إنّ
الْفُرُوجَ لَتَعِجّ إلَى اللّهِ مِنْ حَبْسِ حُمَاتِهَا وَمَنْ
يَصُونُهَا عَنْهَا وَتَسْيِيبِهَا فِي أَوْطَارِهَا وَمَعَاذَ اللّهِ
أَنْ يَأْتِيَ شَرْعُ اللّهِ لِهَذَا الْفَسَادِ الّذِي قَدْ اسْتَطَارَ
شَرَارُهُ وَاسْتَعَرَتْ نَارُهُ وَإِنّمَا أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ
الْأَزْوَاجَ إذَا طَلّقُوا أَنْ يَبْعَثُوا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى وَلَمْ
يَأْمُرْهُمْ إذَا قَدِمُوا أَنْ يَفْرِضُوا نَفَقَةَ مَا مَضَى وَلَا
يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْ صَحَابِيّ الْبَتّةَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ
الْإِلْزَامِ بِالنّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ بَعْدَ الطّلَاقِ وَانْقِطَاعِهَا
بِالْكُلّيّةِ الْإِلْزَامُ بِهَا إذَا عَادَ الزّوْجُ إلَى النّفَقَةِ
وَالْإِقَامَةِ وَاسْتَقْبَلَ الزّوْجَةَ بِكُلّ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ
فَاعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَنَفَقَةُ
الزّوْجَةِ تَجِبُ يَوْمًا بِيَوْمِ فَهِيَ كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ وَمَا
مَضَى فَقَدْ [ ص 455 ] جَعَلَهُ اللّهُ بَيْنَهُمَا مِنْ الْمَوَدّةِ
وَالرّحْمَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصّحِيحُ الْمُخْتَارُ الّذِي لَا
تَقْتَضِي الشّرِيعَةُ غَيْرَهُ وَقَدْ صَرّحَ أَصْحَابُ الشّافِعِيّ
بِأَنّ كِسْوَةَ الزّوْجَةِ وَسَكَنَهَا يَسْقُطَانِ بِمُضِيّ الزّمَانِ
إذَا قِيلَ إنّهُمَا إمْتَاعٌ لَا تَمْلِيكٌ فَإِنّ لَهُمْ فِي ذَلِكَ
وَجْهَيْنِ .
فَصْلٌ [ فَرْضُ الدّرَاهِمِ فِي النّفَقَةِ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسّنّةِ ]
وَأَمّا
فَرْضُ الدّرَاهِمِ فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى وَلَا
سُنّةِ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ الْبَتّةَ وَلَا التّابِعِينَ وَلَا
تَابِعِيهِمْ وَلَا نَصّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمّةِ الْأَرْبَعَةِ
وَلَا غَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمّةِ الْإِسْلَامِ وَهَذِهِ كُتُبُ الْآثَارِ
وَالسّنَنِ وَكَلَامِ الْأَئِمّةِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَأَوْجِدُونَا مَنْ
ذَكَرَ فَرْضَ الدّرَاهِمِ . وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ نَفَقَةَ
الْأَقَارِبِ وَالزّوْجَاتِ وَالرّقِيقِ بِالْمَعْرُوفِ وَلَيْسَ مِنْ
الْمَعْرُوفِ فَرْضُ الدّرَاهِمِ بَلْ الْمَعْرُوفُ الّذِي نَصّ عَلَيْهِ
صَاحِبُ الشّرْعِ أَنْ يُطْعِمَهُمْ مِمّا يَأْكُلُ وَيَكْسُوهُمْ مِمّا
يَلْبَسُ لَيْسَ الْمَعْرُوفُ سِوَى هَذَا وَفَرْضُ الدّرَاهِمِ عَلَى
الْمُنْفِقِ مِنْ الْمُنْكَرِ وَلَيْسَتْ الدّرَاهِمُ مِنْ الْوَاجِبِ
وَلَا عِوَضَهُ وَلَا يَصِحّ الِاعْتِيَاضُ عَمّا لَمْ يَسْتَقِرّ وَلَمْ
يُمْلَكْ فَإِنّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ وَالزّوْجَاتِ إنّمَا تَجِبُ
يَوْمًا فَيَوْمًا وَلَوْ كَانَتْ مُسْتَقِرّةً لَمْ تَصِحّ
الْمُعَاوَضَةُ عَنْهَا بِغَيْرِ رِضَى الزّوْجِ وَالْقَرِيبِ فَإِنّ
الدّرَاهِمَ تُجْعَلُ عِوَضًا عَنْ الْوَاجِبِ الْأَصْلِيّ وَهُوَ إمّا
الْبُرّ عِنْدَ الشّافِعِيّ أَوْ الطّعَامُ الْمُعْتَادُ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ فَكَيْفَ يُجْبَرُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى ذَلِكَ
بِدَرَاهِمَ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَا إجْبَارِ صَاحِبِ الشّرْعِ لَهُ
عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوَاعِدِ الشّرْعِ وَنُصُوصِ
الْأَئِمّةِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَلَكِنْ إنْ اتّفَقَ الْمُنْفِقُ
وَالْمُنْفَقُ عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ جَازَ بِاتّفَاقِهِمَا هَذَا مَعَ
أَنّهُ فِي جَوَازِ اعْتِيَاضِ الزّوْجَةِ عَنْ النّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ
لَهَا نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ الشّافِعِيّ وَغَيْرِهِ فَقِيلَ لَا
تَعْتَاضُ لِأَنّ نَفَقَتَهَا طَعَامٌ ثَبَتَ فِي الذّمّةِ عِوَضًا فَلَا
تَعْتَاضُ عَنْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ وَعَلَى هَذَا
فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ لَا بِدَرَاهِمَ وَلَا ثِيَابٍ وَلَا شَيْءٍ
الْبَتّةَ وَقِيلَ تَعْتَاضُ بِغَيْرِ الْخُبْزِ وَالدّقِيقِ فَإِنّ [ ص
456 ] كَانَ الِاعْتِيَاضُ عَنْ الْمَاضِي فَإِنْ كَانَ عَنْ
الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَصِحّ عِنْدَهُمْ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنّهَا
بِصَدَدِ السّقُوطِ فَلَا يُعْلَمُ اسْتِقْرَارُهَا .
ذِكْرُ مَا رُوِيَ مِنْ حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي تَمْكِينِ الْمَرْأَةِ مِنْ فِرَاقِ زَوْجِهَا إذَا أَعْسَرَ بِنَفَقَتِهَا
رَوَى
الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَفْضَلُ الصّدَقَةِ مَا تَرَكَ غِنًى وَفِي لَفْظٍ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ
غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السّفْلَى وَابْدَأْ
بِمَنْ تَعُولُ تَقُولُ الْمَرْأَةُ إمّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمّا أَنْ
تُطَلّقَنِي وَيَقُولُ الْعَبْدُ أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي وَيَقُولُ
الْوَلَدُ أَطْعِمْنِي إلَى مَنْ تَدَعُنِي ؟ قَالُوا : يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ ؟ قَالَ لَا . هَذَا مِنْ كِيسِ أَبِي هُرَيْرَةَ . . وَذَكَرَ
النّسَائِيّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِهِ وَقَالَ فِيهِ وَابْدَأْ
بِمَنْ تَعُولُ " فَقِيلَ مَنْ أَعُولُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ "
امْرَأَتُكَ تَقُولُ أَطْعِمْنِي وَإِلّا فَارِقْنِي خَادِمُكَ يَقُولُ
أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي وَلَدُكَ يَقُولُ أَطْعِمْنِي إلَى مَنْ
تَتْرُكُنِي . وَهَذَا فِي جَمِيعِ نُسَخِ كِتَابِ النّسَائِيّ هَكَذَا
وَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَيّوبَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ
عَجْلَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَسَعِيدٌ وَمُحَمّدٌ ثِقَتَانِ .
وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ حَدّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الشّافِعِيّ حَدّثَنَا
مُحَمّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَطَرٍ حَدّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخٍ
حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ
الْمَرْأَةُ تَقُولُ لِزَوْجِهَا : أَطْعِمْنِي أَوْ طَلّقْنِي الْحَدِيثَ
. [ ص 457 ] وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ حَدّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ السّمَاكِ وَعَبْدُ الْبَاقِي ابْنُ قَانِعٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ
عَلِيّ قَالُوا : أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيّ الْخَزّازُ حَدّثَنَا
إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْبَاوَرْدِيّ حَدّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ
مَنْصُورٍ حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ فِي الرّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ
عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ يُفَرّقُ بَيْنَهُمَا . وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ
إلَى حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي
صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِثْلَهُ . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي
" سُنَنِهِ " حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزّنَادِ قَالَ سَأَلْتُ
سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ عَنْ الرّجُلِ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى
امْرَأَتِهِ أَيُفَرّقُ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ نَعَمْ . قُلْت سُنّةٌ ؟
قَالَ سُنّةٌ . وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنّةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَرَاسِيلِ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا : أَنّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ
يُنْفِقَ أَوْ يُطَلّقَ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ قَالَ إذَا لَمْ يَجِدْ الرّجُلُ
مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ أُجْبِرَ عَلَى طَلَاقِهَا . الثّانِي :
إنّمَا يُطَلّقُهَا عَلَيْهِ الْحَاكِمُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ لَكِنّهُ
قَالَ يُؤَجّلُ فِي عَدَمِ النّفَقَةِ شَهْرًا وَنَحْوَهُ فَإِنْ انْقَضَى
الْأَجَلُ وَهِيَ حَائِضٌ أُخّرَ حَتّى تَطْهُرَ وَفِي الصّدَاقِ
عَامَيْنِ ثُمّ يُطَلّقُهَا عَلَيْهِ الْحَاكِمُ طَلْقَةً رَجْعِيّةً
فَإِنْ أَيْسَرَ فِي الْعِدّةِ فَلَهُ ارْتِجَاعُهَا وَلِلشّافِعِيّ
قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنّ الزّوْجَةَ تُخَيّرُ إنْ شَاءَتْ
أَقَامَتْ مَعَهُ وَتَبْقَى نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ دَيْنًا لَهَا فِي
ذِمّتِهِ . قَالَ أَصْحَابُهُ هَذَا إذَا أَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا
وَإِنْ لَمْ تُمَكّنْهُ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا وَإِنْ شَاءَتْ فَسَخَتْ
النّكَاحَ . [ ص 458 ] الثّانِي : لَيْسَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ لَكِنْ
يَرْفَعُ الزّوْجُ يَدَهُ عَنْهَا لِتَكْتَسِبَ وَالْمَذْهَبُ أَنّهَا
تَمْلِكُ الْفَسْخَ . قَالُوا : وَهَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ ؟ فِيهِ
وَجْهَانِ .
[هَلْ هَذَا الْفِرَاقُ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ ]
أَحَدُهُمَا
: أَنّهُ طَلَاقٌ فَلَا بُدّ مِنْ الرّفْعِ إلَى الْقَاضِي حَتّى
يُلْزِمَهُ أَنْ يُطَلّقَهَا أَوْ يُنْفِقَ فَإِنْ أَبَى طَلّقَ
الْحَاكِمُ عَلَيْهِ طَلْقَةً رَجْعِيّةً فَإِنْ رَاجَعَهَا طَلّقَ
عَلَيْهِ ثَانِيَةً فَإِنْ رَاجَعَهَا طَلّقَ عَلَيْهِ ثَالِثَةً .
وَالثّانِي : أَنّهُ فَسْخٌ فَلَا بُدّ مِنْ الرّفْعِ إلَى الْحَاكِمِ
لِيُثْبِتَ الْإِعْسَارَ ثُمّ تَفْسَخُ هِيَ وَإِنْ اخْتَارَتْ الْمُقَامَ
ثُمّ أَرَادَتْ الْفَسْخَ مَلَكَتْهُ لِأَنّ النّفَقَةَ يَتَجَدّدُ
وُجُوبُهَا كُلّ يَوْمٍ وَهَلْ تَمْلِكُ الْفَسْخَ فِي الْحَالِ أَوْ لَا
تَمْلِكُهُ إلّا بَعْدَ مُضِيّ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ .
الصّحِيحُ عِنْدَهُمْ الثّانِي . قَالُوا : فَلَوْ وَجَدَ فِي الْيَوْمِ
الثّالِثِ نَفَقَتَهَا وَتَعَذّرَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْيَوْمِ الرّابِعِ
فَهَلْ يَجِبُ اسْتِئْنَافُ هَذَا الْإِمْهَالِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ .
وَقَالَ حَمّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ : يُؤَجّلُ سَنَةً ثُمّ يُفْسَخُ
قِيَاسًا عَلَى الْعِنّينِ . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ :
يُضْرَبُ لَهُ شَهْرٌ أَوْ شَهْرَانِ . وَقَالَ مَالِكٌ : الشّهْرُ
وَنَحْوُهُ . وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ . إحْدَاهُمَا وَهِيَ ظَاهِرُ
مَذْهَبِهِ أَنّ الْمَرْأَةَ تُخَيّرُ بَيْنَ الْمُقَامِ مَعَهُ وَبَيْنَ
الْفَسْخِ فَإِنْ اخْتَارَتْ الْفَسْخَ رَفَعَتْهُ إلَى الْحَاكِمِ
فَيُخَيّرُ الْحَاكِمُ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ عَلَيْهِ أَوْ يَجْبُرَهُ
عَلَى الطّلَاقِ أَوْ يَأْذَنَ لَهَا فِي الْفَسْخِ فَإِنْ فَسَخَ أَوْ
أَذِنَ فِي الْفَسْخِ فَهُوَ فَسْخٌ لَا طَلَاقَ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ
وَإِنْ أَيْسَرَ فِي الْعِدّةِ . وَإِنْ أَجْبَرَهُ عَلَى الطّلَاقِ
فَطَلّقَ رَجْعِيّا فَلَهُ رَجْعَتُهَا فَإِنْ رَاجَعَهَا وَهُوَ مُعْسِرٌ
أَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا فَطَلَبَتْ الْفَسْخَ فَسَخَ
عَلَيْهِ ثَانِيًا وَثَالِثًا وَإِنْ رَضِيَتْ الْمُقَامَ مَعَهُ مَعَ
عُسْرَتِهِ ثُمّ بَدَا لَهَا الْفَسْخُ أَوْ تَزَوّجَتْهُ عَالِمَةً
بِعُسْرَتِهِ ثُمّ اخْتَارَتْ الْفَسْخَ فَلَهَا ذَلِكَ . قَالَ الْقَاضِي
: وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنّهُ لَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ وَيَبْطُلُ خِيَارُهَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِأَنّهَا
رَضِيَتْ بِعَيْبِهِ وَدَخَلَتْ فِي الْعَقْدِ عَالِمَةً بِهِ فَلَمْ
تَمْلِكْ الْفَسْخَ كَمَا لَوْ تَزَوّجَتْ عِنّينًا عَالِمَةً بِعُنّتِهِ
. وَقَالَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ قَدْ [ ص 459 ] رَضِيت بِهِ عِنّينًا .
وَهَذَا الّذِي قَالَهُ الْقَاضِي : هُوَ مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ
وَالْحُجّةِ . وَاَلّذِينَ قَالُوا : لَهَا الْفَسْخُ - وَإِنْ رَضِيَتْ
بِالْمُقَامِ - قَالُوا : حَقّهَا مُتَجَدّدٌ كُلّ يَوْمٍ فَيَتَجَدّدُ
لَهَا الْفَسْخُ بِتَجَدّدِ حَقّهَا قَالُوا : وَلِأَنّ رِضَاهَا
يَتَضَمّنُ إسْقَاطَ حَقّهَا فِيمَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ مِنْ الزّمَانِ
فَلَمْ يَسْقُطْ كَإِسْقَاطِ الشّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ . قَالُوا :
وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْقَطَتْ النّفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ لَمْ تَسْقُطْ
وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْقَطَتْهَا قَبْلَ الْعَقْدِ جُمْلَةً وَرَضِيَتْ
بِلَا نَفَقَةٍ وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْقَطَتْ الْمَهْرَ قَبْلَهُ لَمْ
يَسْقُطْ وَإِذَا لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُهَا لَمْ يَسْقُطْ الْفَسْخُ
الثّابِتُ بِهِ . وَاَلّذِينَ قَالُوا بِالسّقُوطِ أَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ
بِأَنّ حَقّهَا فِي الْجِمَاعِ يَتَجَدّدُ وَمَعَ هَذَا إذَا أَسْقَطَتْ
حَقّهَا مِنْ الْفَسْخِ بِالْعُنّةِ سَقَطَ وَلَمْ تَمْلِكْ الرّجُوعَ
فِيهِ . قَالُوا : وَقِيَاسُكُمْ ذَلِكَ عَلَى إسْقَاطِ نَفَقَتِهَا
قِيَاسٌ عَلَى أَصْلٍ غَيْرِ مُتّفَقٍ عَلَيْهِ وَلَا ثَابِتٍ بِالدّلِيلِ
بَلْ الدّلِيلُ يَدُلّ عَلَى سُقُوطِ الشّفْعَةِ بِإِسْقَاطِهَا قَبْلَ
الْبَيْعِ كَمَا صَحّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنّهُ قَالَ لَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ
فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقّ بِالْبَيْعِ وَهَذَا
صَرِيحٌ فِي أَنّهُ إذَا أَسْقَطَهَا قَبْلَ الْبَيْعِ لَمْ يَمْلِكْ
طَلَبَهَا بَعْدَهُ وَحِينَئِذٍ فَيَجْعَلُ هَذَا أَصْلًا لِسُقُوطِ
حَقّهَا مِنْ النّفَقَةِ بِالْإِسْقَاطِ وَنَقُولُ خِيَارٌ لِدَفْعِ
الضّرَرِ فَسَقَطَ بِإِسْقَاطِهِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ كَالشّفْعَةِ ثُمّ
يُنْتَقَضُ هَذَا بِالْعَيْبِ فِي الْعَيْنِ الْمُؤَجّرَةِ فَإِنّ
الْمُسْتَأْجِرَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَوْ عَلِمَ بِهِ ثُمّ اخْتَارَ
تَرْكَ الْفَسْخِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ هَذَا وَتَجَدّدُ
حَقّهِ بِالِانْتِفَاعِ كُلّ وَقْتٍ كَتَجَدّدِ حَقّ الْمَرْأَةِ مِنْ
النّفَقَةِ سَوَاءٌ وَلَا فَرْقَ وَأَمّا قَوْلُهُ لَوْ أَسْقَطَهَا
قَبْلَ النّكَاحِ أَوْ أَسْقَطَ الْمَهْرَ قَبْلَهُ لَمْ يَسْقُطْ
فَلَيْسَ إسْقَاطُ الْحَقّ قَبْلَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ بِالْكُلّيّةِ
كَإِسْقَاطِهِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِهِ هَذَا إنْ كَانَ فِي
الْمَسْأَلَةِ إجْمَاعٌ وَإِنْ كَانَ فِيهَا خِلَافٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ
الْإِسْقَاطَيْنِ وَسَوّيْنَا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ وَإِنْ كَانَ
بَيْنَهُمَا فَرْقٌ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ . [ ص 460 ] أَبِي حَنِيفَةَ
وَصَاحِبَيْهِ . وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهَا تَمْكِينُهُ مِنْ
الِاسْتِمْتَاعِ لِأَنّهُ لَمْ يُسَلّمْ إلَيْهَا عِوَضَهُ فَلَمْ
يَلْزَمْهَا تَسْلِيمُهُ كَمَا لَوْ أَعْسَرَ الْمُشْتَرِي بِثَمَنِ
الْمَبِيعِ لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ وَعَلَيْهِ تَخْلِيَةُ
سَبِيلِهَا لِتَكْتَسِبَ لَهَا وَتُحَصّلَ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهَا
لِأَنّ فِي حَبْسِهَا بِغَيْرِ نَفَقَةٍ إضْرَارًا بِهَا . فَإِنْ قِيلَ
فَلَوْ كَانَتْ مُوسِرَةً فَهَلّا يَمْلِكُ حَبْسَهَا ؟ قِيلَ قَدْ
قَالُوا أَيْضًا : لَا يَمْلِكُ حَبْسَهَا لِأَنّهُ إنّمَا يَمْلِكُهُ
إذَا كَفَاهَا الْمُؤْنَةَ وَأَغْنَاهَا عَمّا لَا بُدّ لَهَا مِنْهُ مِنْ
النّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَلِحَاجَتِهِ إلَى الِاسْتِمْتَاعِ الْوَاجِبِ
لَهُ عَلَيْهَا فَإِذَا انْتَفَى هَذَا وَهَذَا لَمْ يَمْلِكْ حَبْسَهَا
وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السّلَفِ وَالْخَلَفِ . ذَكَرَ عَبْدُ
الرّزّاقِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ سَأَلْتُ عَطَاءً عَمّنْ لَا يَجِدُ
مَا يُصْلِحُ امْرَأَتَهُ مِنْ النّفَقَةِ ؟ قَالَ لَيْسَ لَهَا إلّا مَا
وَجَدَتْ لَيْسَ لَهَا أَنْ يُطَلّقَهَا . وَرَوَى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ
عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ أَنّهُ قَالَ فِي الرّجُلِ
يَعْجَزُ عَنْ نَفَقَةِ امْرَأَتِهِ قَالَ تُوَاسِيهِ وَتَتّقِي اللّهَ
وَتَصْبِرُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا مَا اسْتَطَاعَ . وَذَكَرَ عَبْدُ
الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ سَأَلْتُ الزّهْرِيّ عَنْ رَجُلٍ لَا
يَجِدُ مَا يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ أَيُفَرّقُ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ
تَسْتَأْنِي بِهِ وَلَا يُفَرّقُ بَيْنَهُمَا وَتَلَا : { لَا يُكَلّفُ
اللّهُ نَفْسًا إِلّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ
يُسْرًا } [ الطّلَاقِ 7 ] . قَالَ مَعْمَرٌ وَبَلَغَنِي عَنْ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ مِثْلُ قَوْلِ الزّهْرِيّ سَوَاءٌ . وَذَكَرَ عَبْدُ
الرّزّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثّوْرِيّ فِي الْمَرْأَةِ يَعْسُرُ زَوْجُهَا
بِنَفَقَتِهَا : قَالَ هِيَ امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ وَلَا
تَأْخُذْ بِقَوْلِ مَنْ فَرّقَ بَيْنَهُمَا . قُلْتُ عَنْ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ هَذِهِ إحْدَاهَا . وَالثّانِيَةُ
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزّنَادِ عَنْ
أَبِيهِ قَالَ شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ لِزَوْجِ
امْرَأَةٍ شَكَتْ إلَيْهِ أَنّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا : اضْرِبُوا لَهُ
أَجَلًا شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا إلَى
ذَلِكَ الْأَجَلِ فَرّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا . [ ص 461 ] ذَكَرَ ابْنُ
وَهْبٍ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّ
رَجُلًا شَكَا إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِأَنّهُ أَنْكَحَ
ابْنَتَهُ رَجُلًا لَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا فَأَرْسَلَ إلَى الزّوْجِ
فَأَتَى فَقَالَ أَنْكَحَنِي وَهُوَ يَعْلَمُ أَنّهُ لَيْسَ لِي شَيْءٌ
فَقَالَ عُمَرُ أَنْكَحْته وَأَنْتَ تَعْرِفُهُ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ
فَمَا الّذِي أَصْنَعُ ؟ اذْهَبْ بِأَهْلِك .