كتاب : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

وسدد رميته فكان سعد لا يرمي إلا يصيب ولا يدعو إلا أجيب وروى الحاكم في صحيحه عن علي رضي الله عنه قال مرضت فعادني رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا أقول اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني وإن كان متأخرا فارفعني وإن كان بلاء فصبرني فقال اللهم اشفه اللهم عافه ثم قال لي قم فقمت فما عاد إلي ذلك الوجع بعد وفي الصحيحين عن أم خالد قالت أتي رسول الله صلى الله عليه و سلم بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة فقال

من ترون نكسوه هذه الخميصة فسكت القوم فقال ائتوني بأم خالد فأتي بي رسول الله صلى الله عليه و سلم فألبسنيها فقال أبلي وأخلقي مرتين فجعل ينظر إلى علم الخميصة ويشير بيده إلي ويقول يا أم خالد هذا سنا والسنا بلسان الحبشة الحسن فبقيت حتى دكن وعن أبي يزيد عمرو بن أخطب الأنصاري قال قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم ادن مني فمسح بيده على رأسي ولحيتي ثم قال اللهم جمله وأدم جماله

قال الراوي عنه فبلغ بضعا وثمانين سنة وما في لحيته بياض إلا نزر يسير ولقد كان منبسط الوجه ولم يتقبض وجهه حتى مات رواه الإمام أحمد وقال البيهقي إسناده صحيح ورواه الترمذي وقال مسح رسول الله صلى الله عليه و سلم يده على وجهي فدعا لي قال عزرة إنه عاش مائة وعشرين سنة وليس في رأسه إلا شعرات بيض وقال حديث حسن وقال البخاري في تاريخه ثنا يعقوب بن إسحاق عن حنظلة بن حنيفة بن حذيم قال حذيم يا رسول الله إني رجل ذو

سن وهذا أصغر بني فسمت عليه قال تعالى يا غلام فأخذ بيدي ومسح برأسي وقال بارك الله فيك أو بورك فيك فرأيت حنظلة يؤتى بالإنسان الوارم فيمسح بيده ويقول بسم الله فيذهب الورم وفي رواية والشاة والبعير ويذكر عن ابي سفيان واسمه مدلولك أنه ذهب إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأسلم فدعا له النبي صلى الله عليه و سلم ومسح رأسه بيده ودعا له بالبركة فكان مقدم رأسه موضع يد النبي صلى الله عليه و سلم أسود وسائره أبيض ذكره أيضا البخاري في تاريخه

وروى أحمد في مسنده بإسناده عن أبي العلا قال كنت عند قتادة بن ملحان في مرضه الذي مات فيه فمر رجل في مؤخر الدار فرأيته في وجه قتادة قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم مسح وجهه قال وكنت قبل ما رأيته إلا ورأيته كان على وجهه الدهان وفي مسند الإمام أحمد عن عروة بن أبي الجعد قال عرض للنبي صلى الله عليه و سلم جلب فأعطاني دينارا وقال أي عروة ائت الجلب فاشتر شاة فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما فلقيني رجل فساومني فأبيعه شاة بدينار فجئت بالدينار وجئت بالشاة فقلت

يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم قال وصنعت كيف فحدثته الحديث فقال اللهم بارك له في صفقة يمينه فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل ان أصل إلى أهلي ورواه الإمام أحمد وفي لفظ فكان لو اشترى التراب لربح فيه رواه البخاري عن أهل داود عنه

وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع ان رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه و سلم بشماله فقال له كل بيمينك قال لا أستطيع قال لا استطعت ما منعه إلا الكبر قال فما رفعها إلى فيه وروى مالك في موطئه عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله السلمي قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة بني أنمار قال جابر فبينما أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت هلم يا رسول الله إلى الظل قال فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم قال جابر فقمت إلى غرارة لنا فالتمست فيها فوجدت فيها جرو قثا

فكسرته ثم قربته إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال من اين لكم هذا قلنا خرجنا به من المدينة قال وعندنا صاحب لنا نجهزه يذهب يرعى ظهرنا قال فجهزته ثم ادبر يذهب إلى الظهر وعليه ثوبان له قد خلقا فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أما له ثوبان غير هذين فقلت بلى يا رسول الله ثوبان في العيبة كسوته إياهما قال ادعه فليلبسهما ثم ولى يذهب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ماله ضرب الله عنقه أليس هذا خير له فسمعه الرجل فقال يا رسول الله في سبيل الله فقال في سبيل الله فقتل الرجل في سبيل الله ورواه أبو زرعة عن سعيد بن سليمان عن الليث عن هشام بن سعيد

عن زيد بن اسلم عن عطاء عن جابر

فصل في الطرق التي تبين بها أن هذه الأخبار تفيد العلم
وهذه الأخبار منها ما هو في القرآن ومنها ما هو متواتر يعلمه العامة والخاصة كنبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام وحنين الجذع ونحو ذلك فإن كلا من ذلك تواترت به الأخبار واستفاضت ونقلته الأمة جيلا بعد جيل وخلفا عن سلف فما من طبقة من طبقات الأمة إلا وهذه الآيات منقولة مشهورة مستفيضة فيها ينقلها أكثر ممن ينقل كثيرا من القرآن وقد نقلها وسمعها من الأمة أكثر ممن سمع ونقل كثيرا من آيات القرآن وأكثر ممن سمع ونقل أنه كان يسجد في الصلاة سجدتي السهو وممن سمع ونقل نصب الزكاة وفرائضها بل مواقيت الصلاة وأعدادها إنما شاع نقلها للعمل الدائم بها
وأما هذه الآيات فنقلها أكثر ممن نقل مواقيت الصلاة من جهة الأخبار المعينة وذلك أن آيات الرسول كان كثيرا منها يكون بمشهد من الخلق العظيم فيشاهدون تلك الآيات كما شاهد أهل الحديبية وهم ألف وخمسمائة نبع الماء من بين أصابعه وظهور الماء

الكثير من بئر الحديبية لما نزحوها ولم يتركوا فيها قطرة فكثر حتى روى العسكر وكما شاهد العسكر في غزوة ذات الرقاع الماء اليسير لما صبه جابر في الجفنة وامتلأت وملأ منها جميع العسكر وكما شاهد الجيش في رجوعهم من غزوة خيبر المزادتين مع المرأة وقد ملؤوا كل وعاء معهم وشربوا وهي ملأى كما هي وكما شاهد أهل خيبر وهم الف وخمسمائة الطعام الذي كان كربضة الشاة فأشبع الجيش كلهم وكما شاهد الجيش العظيم وهم نحو ثلاثين ألفا في تبوك العين لما كانت قليلة الماء فكثر ماؤها حتى كفاهم وشاهدوا الطعام الذي جمعوه على نطع فأخذوا منه حتى كفاهم وكما شاهد أهل الخندق وهم أكثر من ألف كثرة الطعام في بيت جابر بعد أن كان صاعا من شعير وعناقا فأكلوا كلهم بعد الجوع حتى شبعوا وفضلت فضلة وكما شاهد الثمانون نفسا كثرة الطعام لما أكلوا في بيت أبي طلحة وكما شاهد الثلاثمائة كثرة الماء لما توضؤوا من قدح والماء ينبع من بين أصابعه حتى كفاهم للوضوء وكذلك وليمة زينب كانوا ثلاثمائة فأكلوا من طعام في تور من حجارة وهو

باق فظن أنس أنه أزيد مما كان وكانوا يتداولون قصعة من غدوة إلى الليل يقوم عشرة ويقعد عشرة كما في حديث سمرة بن جندب وأهل الصفة لما شربوا كلهم من اللبن القليل وكفاهم وفضل وكانوا ينقلون ذلك بينهم وهو مشهور ينقله بعض من شاهده إلى من غاب عنه فكان استفاضة آياته وشهرتها وتواترها في الأمة أعظم من تواتر سجود السهو في الصلاة فإن هذا إنما كان مرات قليلة ولم يحضره إلا المصلون خلفه لتلك الصلاة وكذلك نقلهم لنصب الزكاة وفرائضها فإن هذا إنما سمعه منه طائفة قليلة ونقلوه وكذلك حكمه بالشفعة فيما لا يقسم وقضاؤه بأن دية الخطأ على العاقلة وقضاؤه بأن الولد للفراش وللعاهر الحجر ونهيه عن نكاح الشغار وتحريمه لطلاق الحائض وطلاق الموطوءة قبل أن يتبين حملها وأن المعتقة تحت عبد يثبت لها الخيار وتوريث

الجدة السدس ونهيه أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها وقوله فيما سقت السماء العشر وما سقى بالدوالي والنواضح نصف العشر وأمثال ذلك إنما سمعها طائفة من الأمة هم أقل بكثير ممن شاهدوا آياته ثم إن الأمة متفقة على نقل ذلك وهذه الأحكام متواترة عنه معلومة بالاضطرار من دينه فإذا كان مثل هذه الأمور تواتر في الأمة واتفقت على نقله فكيف بما كان أشهر وأظهر عند من عاينه وكان علم الذين رأوه به أظهر من علمهم بهذه الأحكام وقد نقلوا ذلك إلى من غاب عنهم فإنه قطعا يجب أن يكون تواتر هذه الآيات في الأمة أعظم وأظهر ولهذا لا يكاد يوجد مسلم إلا وقد عرف كثيرا من هذه الآيات وسمعها ونقلها إلى غيره بخلاف كثير من الأحكام المتواترة عنه المتفق على نقلها عند العلماء فإن كثيرا من الناس لا يعرفها ولا سمعها وإذا قال القائل هذه مما تتوفر الهمم والدواعي على نقلها فلو كانت موجودة لتوفرت الهمم والدواعي على نقلها ولو كان كذلك لتواترت قلنا وكذلك هو ولله الحمد توفرت الهمم و الدواعي

على نقلها أكثر مما توفرت الهمم والدواعي على نقل أكثر آيات الأنبياء قبله وأكثر مما توفرت الهمم والدواعي على نقل الأخبار العجيبة من سير الملوك والخلفاء فإن من تدبر نقل هذه الآيات وجد شهرتها في كل زمان وظهور الأخبار بها أعظم من شهرة ما نقل من أخبار الأنبياء وسير الملوك والدول التي جرت العادة بتوفر الهمم والدواعي على نقلها فإن مثل هذا لا يجب في كونه متواترا أن يتواتر عند كل أحد من الناس فإن أكثر ما تواتر عند كل أمة من أحوال متقدميها قد لا يسمعه كثير من الأمم من غيرهم فضلا عن تواتره عندهم حتى أن كثيرا من الأمم الذين لا يعرفون الأنبياء قد لا يكونوا قد سمعوا بأسماء الأنبياء ولا بأخبارهم فضلا عن تواترها عندهم وأكثر أتباع الأنبياء لم يتواتر عندهم من أخبار الملوك وسيرهم ما تواتر عند غيرهم حتى أن أكثر المسلمين لم يسمعوا بأسماء خلفاء بني أمية وبني العباس وأسماء وزرائهم ونوابهم وقوادهم

وبالحروب التي جرت بينهم ولا يعرفون الوقائع العظيمة من الحروب التي كانت بين المسلمين وأعدائهم مثل يوم أجنادين ويوم مرج الصفر ويوم فحل ومثل يوم الحرة ويوم مرج راهط وفتنة

ابن المهلب وفتنة ابن الأشعث والقراء مع الحجاج وحرب مصعب بن الزبير مع المختار بن أبي عبيد وفتنة

المنصور مع محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بالمدينة ومع أخيه إبراهيم بالبصرة ومثل جسر أبي عبيد ويوم اليرموك ويوم

القادسية ولا يعرفون أن المسلمين فتحوا قبرص ولا غزوا القسطنطينية مرتين مرة في زمن معاوية ومرة في زمن بني مروان وكذلك الفتن التي كانت بين المسلمين لا بل اكثر العامة لم يسمعوا بأبي مسلم صاحب الدعوة وبعبد الله بن علي بن

عبد الله بن عباس وما جرى لهما من الحروب مع عساكر مروان آخر خلفاء بني أمية ولم يسمعوا أيضا بدخول عبد الرحمن بن هشام إلى الأندلس وما جرى له فيها ولا بالفتنة التي بين ابني الرشيد الأمين

والمأمون مع ان هذه الأمور هي متواترة عند أهل العلم بالسير وأخبار الناس والتواريخ وظهور هذه الآيات التي هي دلائل النبوة وأعلامها مشهورة بين الأمة عامتها وخاصتها في كل زمان أعظم من ظهور هذه الأخبار المتواترة فهي احق أن تجعل متواترة من هذه ونقلة هذه الآيات من الخاصة اهل العلم وكتب الحديث والتفسير والمغازي والسير وكتب الأصول والفقه التي توجد فيها هذه الأخبار أصح نقلا باتفاق أهل العقل والعلم من كتب التواريخ المرسلة فإن تلك كثير من أخبارها منقطع الإسناد وفيها من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله وإن كان أصل القصة قد يكون متواترا وهذه الآيات المشهورة في الأمة كثير من أجناسها متواتر عند أهل العلم وكثير من آحادها متواتر عند الخاصة

بل وكثير من الفقهاء والمتكلمين أو أكثرهم لا يعرفون عدد مغازي رسول الله صلى الله عليه و سلم التي قاتل فيها أعداءه وهي وقائع مشهورة كل منها متواتر تواترا ظاهرا عند أهل العلم مثل يوم بدر ويوم أحد ويوم الخندق وغزوة بني المصطلق وغزوة خيبر وفتح مكة ويوم حنين وحصار الطائف فكثير من أهل العلم فضلا عن العامة وإن كانوا سمعوا بهذه الأسماء أو بعضها فلا يعرفون أيها كان قبل الآخر ولا يعرفون بأي بقعة كانت تلك الغزاة بل ولا يعرفون من كان العدو فيها ولا كيف كانت بل أكثر العامة لا يميزون بين بدر وحنين بل يقول قائلهم يوم بدر وحنين ويظنون أن ذلك يوم واحد وانها غزاة واحدة ولا يعرفون أنهما غزاتان بينهما نحن ست سنين كانت بدر في السنة الثانية من

الهجرة وكانت حنين في السنة الثامنة بعد فتح مكة وأن بدرا مكان بين مكة والمدينة شامي مكة ويماني المدينة وحنين واد قريب من الطائف شرقي مكة وإنما قرن بينهما في الإسم لأن الله أنزل فيهما الملائكة وأيد بها نبيه والمؤمنين حتى غلبوا عدوهم مع قوة العدو في بدر ومع هزيمة أكثر المسلمين أولا بحنين وأمتن الله بذلك في كتابه في قوله ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون وفي قوله ويوم حنين إذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم انزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها حتى بعض أكابر أئمة الفتيا المشهورين قال له صاحبه لما انكر عليه طلب السير تسكت وإلا سألتك قدام الناس أيهما كانت قبل بدر أو أحد فإني أعلم أنك لا تعلمه مع أنه من المتواتر الذي لا يستريب فيه من له أدنى معرفة بالأخبار أن أحدا

كانت بعد بدر وفي بدر انتصر المسلمون على الكفار ويوم أحد استظهر الكفار بل وكثير من علماء المسلمين الأكابر لا يعلمون ما هو متواتر عند أهل الكتاب بل وعند غيرهم من علماء المسلمين مثل خراب بيت المقدس مرتين ومجيء بخت نصر إلى بيت المقدس والله سبحانه قد ذكر في القرآن المرتين فقال وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا

وكانت الأولى بعد سليمان وكانت الثانية بعد زكريا ويحيى والمسيح لما قتلوا يحيى بن زكريا الذي يسميه أهل الكتاب يوحنا المعمداني وكثير من المذكورين بالعلم يظن أن بخت نصر هو الذي قدم الشام لما قتل يحيى بن زكريا وهذا عند أهل العلم من أهل الكتاب وعند من له خبرة من علماء المسلمين باطل والمتواتر أن بخت نصر هو الذي قدم في المرة الأولى وكذلك كون شعيب النبي كان حمو موسى عليه السلام كما تقوله طائفة من الجهال والمتواتر عند أهل الكتاب وعندالمسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم خلاف ذلك وعند النصارى من أخبارهم وأخبار علمائهم وملوكهم المتواترة ما لا يعرفه المسلمون واليهود وعند

المسلمين من أخبار علمائهم وملوكهم المتواترة ما لا يعرفه أكثر الأمم بل عند كل طائفة من المسلمين من أخبار شيوخهم وأمرائهم وبلادهم المتواترة ما لم تسمع من غيرهم وليس هذا بمنزلة من ادعى خبرا لم يكن يعرف في الذين شاهدوا تلك القضية كما لو ادعى مدع أن النبي صلى الله عليه و سلم حج بعد الهجرة أكثر من حجة وأنه كان يصوم شهر رمضان بمكة وانه كان بمكة أذان أو أنه كان في عساكره وعساكر خلفائه دبادب وبوقات او أنه كان يؤذن للعيدين او كان يخطب للعيدين قبل الصلاة او أنه كان يصلي بالمدينة أكثر من عيد أو أنه كان يصلي في السفر أربعا أو أنه صلى بمنى صلاة عيد النحر أو أنه نص على علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو غيره بالخلافة نصا ظاهرا مشهورا أو أنه عزل أبا بكر عن الإمارة في الحجة وولى عليا أو أنه صلى في مرض موته غير أبي بكر ونحو ذلك من الأخبار التي يعرف أنها كذب باطل لتواتر

نقيضها ولأنها لو كانت صحيحة لكانت مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله واشتهاره ومع أنه لم يكن له ذكر في الزمن المتقدم وكذلك ما ينقله كثير من أهل الجهل مثل ما يجعلونه من معجزات الرسول أو غيره ولا يوجد منقولا عند أهل العلم بأحواله بل يكذبون ناقله مثل قول كثير من العامة أن الغمام كان يظله دائما فهذا لا يوجد في شيء من كتب المسلمين المعروفة عند علمائهم ولا نقله عالم من علمائهم بل هو كذب عندهم وغإ كان كثير من الناس ينقله وإنما نقل أن الغمامة أظلته لما كان صغيرا فقدم مع عمه إلى الشام تاجرا ورآه بحيرا الراهب ومع هذا فهذا لا يجزم بصحته وكذلك ما ينقله بعضهم من أنه كان إذا وطيء أثر قدمه في الحجر وفي الرمل لم يكن يؤثر فهذا لم ينقله أهل العلم بأحواله ولا واحد منهم بل هو كذب عليه وكذلك ما ينقله طائفة من الناس من كثرة القتل بحروبه أو المغازي الكثيرة الذي يذكر مثلها صاحب الكتاب الذي سماه

بنقلات الأنوار ويقال له البكري فهذه لما كان أكثرها لا يوجد في كتب المسلمين المعروفة ولا نقلها علماؤهم بل قد تواتر ما يخالفها كانت كذبا ظاهرا عند أهل العلم بأحواله وإن كان كثير من الناس الجهال بأحواله قد يصدق بها ومثل ما ينقله طائفة أنه كان في غزوة خيبر نصب علي بن أبي طالب يده ليمر الجيش عليها وأن البغلة مرت عليها فقال قطع الله نسلك فانقطع نسلها فهذا ليس في شيء من كتب أهل العلم بأحواله ولا نقل ذلك واحد منهم وإنما ينقل ذلك من هو معروف بالكذب او جاهل ولهذا كان هذا من الكذب الذي يقطع بكذبه علماء المسلمين ويعلمون أنه تواتر نقيضه وأنه لم يكن في غزوة خيبر بغلة واحدة ولم يكن بالمدينة ولا بمكة بغلة إلا بغلته التي أهداها له المقوقس النصراني ملك مصر والإسكندرية وإنما أهداها له بعد فتح خيبر لما كتب النبي صلى الله عليه و سلم إلى

ملوك الطوائف يدعوهم إلى الإسلام وهو إنما أرسل إلى ملوك الطوائف بعد الحديبية وخيبر لما رجع من خيبر ويعلمون أن البغلة لم تزل مقطوعة النسل لم يكن لها نسل قط وكذلك ما ينقله بعض الكذابين من أن طائفة من أهل البيت سبوا فأركبوا جمالا فنبت لها سنامان وأنها البخاتي فهذا مما اتفق أهل المعرفة بالأخبار على أنه كذب لم يسب المسلمون قط في وقت من الأوقات أحدا من أهل بيت النبي صلى الله عليه و سلم لا في خلافة بني أمية ولا في خلافة بني العباس والجمال البخاتي مازالت هكذا لم يتجدد لها السنام في الإسلام كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لما ذكر ما يحدث النساء بعده قال على رؤوسهن كأسنمة البخت وكذلك ما نقله طائفة من أهل العلم من أن الشمس ردت لما فاتت عليا صلاة العصر لكون النبي صلى الله عليه و سلم نام في حجره وجعل بعضهم هذا من المعجزات وليس هذا الحديث في شيء من كتب المسلمين التي يعتمدون على ما فيها من المنقولات

لا الصحاح ولا المساند ولا المغازي والسير ولا غير ذلك بل بين أهل العلم بالحديث أن هذا كذب وليس له إسناد واحد صحيح متصل بل غايته أن يروى عمن لا يعرف صدقه ولم يروه إلا هو مع توفر الهمم والدواعي على نقله فعلموا أنه كذب وهذا باب واسع يبين أن علماء المسلمين يميزون المنقولات بين الصدق والكذب فيردون الكذب وإن كان فيه من فضائل نبيهم وأعلامه وفضائل أصحابه وأمته ما هو عظيم ويقبلون الصدق وإن كان فيه شبهة أشكال وقد يحتج به المنازعون لهم وكان عبد الرحمن بن مهدي يقول أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم ومن ذلك مغازي حمزة الشائعة بين كثير من جهال الترك وغيرهم لا يوجد في شيء من كتب العلم بل قد تواتر عند أهل العلم أن حمزة لم يشهد غزوة إلا

غزوة بدر ثم غزوة أحد وقتل يوم أحد شهيدا قتله وحشي بن حرب وهذا متواتر عند أهل العلم وما كان من هذه الآيات في الصحاح بل وكثير مما لم يخرجه البخاري ومسلم فهذه عامتها مما يقطع أهل العلم بالحديث بصحتها ويتيقنون ذلك وهذا عندهم مستفيض متواتر وإن كان بعض ذلك قد لا يتواتر ويستفيض عند غيرهم فإن الأخبار قد تتواتر وتستفيض عند قوم دون قوم بحسب عنايتهم وبها وطلبهم لها وعلمهم بمن أخبر بها وصفاتهم ومقاديرهم وما دل من الدلائل على صدقهم وأهل العلم بحديث النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله وسيرته وأسباب نزول القرآن ومعانيه وغير ذلك لهم بهذا من العلم وعندهم به من اليقين ما لا يوجد مثله لغيرهم كما أن أصحاب مالك والشافعي واحمد بن حنبل وأبي حنيفة وداود وغيرهم عند كل طائفة من أقوال متبوعهم ونصوصه وأخباره ما يقطعون به وإن كان غيرهم لا يعلم ذلك والأطباء عندهم من كلام أبقراط وجالينوس ومحمد بن

زكريا وأمثالهم ما يقطعون به وغيرهم لا يعلم ذلك وأهل الهيئة عندهم من كلام بطليموس والرصد الممتحن المأموني وثابت بن قرة وأبي الحسين الصوفي ما يعلمونه هم وغيرهم لا يعلم ذلك بحيث يجزم هؤلاء وهؤلاء بكثير من مذاهب أهل الطب والحساب وتجارب الأطباء وأرصاد أهل الحساب وغيرهم لا يعلم ذلك وعند أهل الكتاب كاليهود من أخبار هلال وسمابي وغيرهما

من شيوخهم ما لا يعلمه غيرهم وعند النصارى من أخبار الحواريين ومن أخبار قسطنطين والمجمع الأول بنيقية والمجمع الثاني والثالث والرابع والخامس وغير ذلك من مجامعهم وأخبارهم ما يقطع به علماؤهم وإن كان غيرهم لا يعلمون ذلك وأهل العلم بأيام الإسلام يعلمون من سيرة أبي بكر وعمر وعثمان ومغازيهم كوقعة أجنادين ومرج الصفر وغيرهما في خلافة أبي بكر وكوقعة اليرموك وخبر أبي عبيدة

وهزيمة الفرس وفتح مصر وغير ذلك مما كان في زمن عمر بن الخطاب ما يقطعون به وإن كان غيرهم لا يعرفون ذلك وكذلك ما كان بعد هؤلاء من سير الملوك وحوادث الوجود بل أهل العلم بالرجال يعلمون من حال آحاد الصحابة والتابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعلقمة والأسود وغير هؤلاء ما لا يعلمه غيرهم وأهل العلم بالنحو يعلمون من حال سيبويه والأخفش والمبرد والزجاج والفراء

والكسائي ما لا يعلمه غيرهم والقراء يعلمون من قراءة أبي عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي وابن عامر ويعقوب بن إسحاق والأعمش

وخلف بن هشام وأبي جعفر ما لايعلمه غيرهم فإذا كان آحاد أهل العلم من أهل الفقه أو الطب أو الحساب أو النحو أو القراءات بل وآحاد الملوك يعلم الخاصة من أمورهم ما لا يعلمه غيرهم ويقطعون بذلك فكيف بمن هو عند أتباعه أعلا قدرا من كل عالم وأرفع منزلة من كل ملك وهم أرغب الخلق في معرفة أحواله واعظم تحريا للصدق فيها ولرد الكذب منها حتى قد صنفوا الكتب الكثيرة في أخبار جميع من روى شيئا من أخباره وذكروا فيها أحوال نقلة حديثه وما يتصل بذلك من جرح وتعديل ودققوا في ذلك وبالغوا مبالغة لا يوجد مثلها لأحد من الأمم ولا لأحد من هذه الأمة إلا لأهل الحديث فهذا يعطي أنهم أعلم بحال نبيهم من كل أحد بحال متبوعهم وأنهم أعلم بصدق الناقل وكذبه من كل أحد بصدق من نقل عن متبوعهم وكذبه

فإذا كان أولئك فيما ينقلونه عن متبوعهم متفقين عليه جازمين بتصديقه لا يكون إلا صدقا فهؤلاء مع جزمهم بالصدق واتفاقهم على التصديق اولى أن لا يكون ما جزموا بصدقه إلا صدقا وعامة أخبار الصحيحين مما اتفق علماء الحديث على التصديق بها وجزموا بذلك وإنما تنازعوا في أحاديث قليلة منها وعامة ما ذكرناه من آيات النبي صلى الله عليه و سلم التي في الصحاح هي من موارد إجماعهم المستفيضة عندهم التي يجزمون بصدقها ليست من موارد نزاعهم فهذا طريق يسلكه من عرفه من العلماء ويعلم خيرة أهله من كان خبيرا بهم فهذه طريقان في تصديق هذه الآيات التواتر العام والتواتر الخاص
الطريق الثالث التواتر المعنوي وهذا مما اتفق على معرفته عامة الطوائف فإن الناس قد يسمعون أخبار متفرقة بحكايات يشترك مجموعها في أمر واحد كما سمعوا أخبارا متفرقة تتضمن شجاعة عنترة وخالد بن الوليد وأمثالهما وتتضمن سخاء حاتم

ومعن بن زائدة وأمثالهما وتتضمن حلم الأحنف بن قيس ومعاوية بن أبي سفيان وأمثالهما وتتضمن شعر امرىء القيس والنابغة ولبيد وأمثالهم من المتقدمين وشعر الفرزدق وجرير

وعمر بن أبي ربيعة وأمثالهم من المولدين وشعر أبي نواس والمتنبي وأبي تمام وأمثالهم من المحدثين بل وسمعوا أقوالا وفتاوي متفرقة تتضمن فقه مالك والثوري والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم من العلماء وأخبارا متفرقة تتضمن العدل وحسن السيرة من عمر بن

الخطاب وعمر بن عبد العزيز وغيرهما من ولاة الأمور وسمعوا أخبارا متفرقة تتضمن الزهد عن مثل الحسن البصري والفضيل بن عياض ومالك بن دينار وإبراهيم بن أدهم وغيرهم من الزهاد وسمعوا أخبارا متفرقة تتضمن معرفة أبقراط وجالينوس ونحوهما بالطب فيحصل بمجموع الأخبار علم ضروري بأن الشخص موصوف بذلك النعت وإن كان كل من الأخبار لو تجرد وحده لم يفد العلم وإن كان كل من الحكايات ليست وحدها منقولة بالتواتر ومن هذا الباب العلم القطعي بالإيمان والموت ونحو ذلك مما يحصل به استقامة موجب العلم القطعي كعلم الناس بأن خديجة وعائشة ونحوهما من أمهات المؤمنين وأن فاطمة وزينب من

بنات النبي صلى الله عليه و سلم وأن عائشة بنت أبي بكر وأن أبا بكر وعمر وعثمان تولوا الخلافة بعده وأن أبا بكر وعمر دفنا في حجرته وإذا عرف هذا فهذه الأحاديث وأضعاف وأضعاف هي أضعاف أضعاف ما ينقل عن الواحد من هؤلاء ونقلتها أجل وأكثر وأفضل من نقلة أخبار هؤلاء وهي كاملة تتضمن أن محمدا بن عبد الله صلى الله عليه و سلم كان يجري على يديه من الآيات الخارقة للعادة والعجائب العظيمة ما لا يعرف نظيره عن أحد من الناس وعلم المسلمين بهذا اعظم من علم أهل الكتاب بما ينقلونه من آيات موسى وعيسى وغيرهما فإن نقلة آيات محمد صلى الله عليه و سلم غير القرآن أضعاف أضعاف نقلة التوراة والإنجيل فضلا عن غيرهما من أخبار الأنبياء فإن التوراة لم تكن جميعها محفوظة لعموم بني إسرائيل كما يحفظ القرآن عامة المسلمين وعند خراب بيت المقدس قل من يحفظها جدا حتى تنازع الناس في تواتر نقلها وكذلك الإنجيل نقلته أقل بكثير من نقلة آيات محمد

صلى الله عليه و سلم وإذا قال النصارى هؤلاء كانوا صالحين وكان لهم آيات كما يذكرونه من آيات الحواريين فأصحاب محمد صلى الله عليه و سلم وتابعوهم صالحون ولهم من الآيات أعظم مما للحواريين وغيرهم من الأمم وفيهم من كان يحمل العسكر على الماء ومن كان يشرب السموم القاتلة ومن يحيي الله الموتى بدعوته ومن يكثر الطعام والشراب وكتب كرامات الأولياء فيها من ذلك اعظم مما عند أهل الكتاب وهم ينقلون أخبار الأنبياء والصالحين من كتب عندهم مثل كتاب أخبار الحواريين وكتاب سفر الملوك ونحو ذلك وما يذكرون من حجة في صحة نقلها إلا وحجة المسلمين فيما ينقلونه عن نبيهم وأصحابه والتابعين أظهر وأقوى
الطريق الرابع أن يقال هذه الآيات التي ذكرنا بعضها كانت تكون بمحضر من الخلق الكثير كتكثير الطعام يوم الخندق فإنه كان أهل الخندق رجالهم ونساؤهم ألوفا وكذلك نبع الماء من بين أصابعه وفيضان البئر بالماء يوم الحديبية وكانوا يومئذ ألفا وخمسمائة وكلهم صالحون من أهل

الجنة لا يعرف فيهم من تعمد كذبة واحدة على النبي صلى الله عليه و سلم وكذلك تكثير الماء والطعام في غزوة خيبر كانوا ألفا وخمسمائة وفي تبوك كانوا ألوفا مؤلفة وكان بعض من حضر هذه المشاهد نقل هذه الآيات قدام آخرين ممن حضرها وينقلها لأقوام فيذهب أولئك فيخبرون بها أولئك ويصدق بعضهم بعضا ويحكي هذا مثل ما حكى هذا من غير تواطىء وتشاعر وأدنى أحواله أن يقره ولا ينكر عليه روايتها ونحن نعلم بموجب العادة الفطرية التي جبل الله عليها عباده وبموجب ما كان عليه سلف الأمة من اعتقاد الصدق وتحريه واعتقادهم أن ذلك واجب ومن شدة توقيهم الكذب على نبيهم وتعظيمهم ذلك إذ قد تواتر عندهم عنه أنه قال من كذب علي متعمدا فليتبوأ معقده من النار فنحن نعلم أنهم لم يكونوا يقرون من يعلمون أنه يكذب عليه ومن أخبر عنه بما كانوا مشاهدين له وكذب عليه فقد علموا انه كذب

عليه فلما اتفقوا على الإقرار على ذلك وعلى تناقله بينهم من غير إنكار أحد منهم لذلك علم قطعا أن القوم كانوا متفقين على نقل ذلك كما هم متفقون على نقل القرآن والشريعة المتواترة وإن كان جمهورهم ليس منتصبا لتلقين القرآن بل هذا يلقنه وهذا يسمعه من هذا المتلقن لا ينكر بعضهم على بعض القراءة وهذا يعلم هذا الصلاة أن الظهر في الحضر أربع ركعات والمغرب ثلاثا والفجر ركعتان وهذا يقر هذا فلما كان بعضهم يقر بعضا على نقل ذلك علم اتفاقهم على نقل ذلك وهذا غاية التواتر وكذلك ما نقلوه من شرائعه ومن آياته وبراهينه يبين ذلك أن ما أنكره بعضهم رده على الآخر ولم يوافقه وإن كانوا متأخرين عن زمن الصحابة فكيف بالمتقدمين كتنازعهم هل كان يجهر بالبسملة ام لا يجهر بها وهل كان يداوم على القنوت في الفجر ام كان يقنت أحيانا للنوازل أم قنت مرة ثم تركه فهذا من أهون الأمور وأيسرها إذ كلهم متفقون على صحة صلاة من قنت وعلى صحة صلاة من لم يقنت ومن جهر ومن خافت ولكن لما تنازعوا فيما فعله الرسول تنازعوا في الحكم فعلم بذلك ان ما كان مشهورا في الأمة عن النبي صلى الله عليه و سلم ولم ينكره أحد من علمائها كانت الأمة متفقة على نقله كنقلهم للقرآن وللشرائع الظاهرة

المشهورة وإن نقل ذلك أعظم من نقل سائر أخبار الأنبياء والعلماء والملوك والزهاد وكذلك حجة فإنهم كلهم متفقون على ما تواتر عنه من أنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة وهي التي تسمى حجة الوداع وإنما عاش بعدها نحوا من ثلاثة أشهر وأنه لما حج أمر أصحابه كلهم إلا من ساق الهدى منهم إذا طاف بالبيت وبين الصفا والمروة أن يحل من عمرته وأنه لم يعتمر هو ولا أحد من أصحابه الذين حجوا معه بعد الحج إلا عائشة وحدها وأنه هو نفسه لم يحل من حجته ولا أحد ممن ساق الهدي معه وإنما اشتبه على بعضهم بعض ألفاظه او بعض الأمور التي تخفى على أكثر الناس وكان الصحابة ينقلون تمتع رسول الله صلى الله عليه و سلم ومرادهم بالتمتع أنه قرن بين العمرة والحج فظن بعض الناس أنهم أرادوا أنه أخر الإحرام بالحج إلى ان قضى العمرة وقال بعض الصحابة إنه أفرد بالحج فظن بعض الناس انه حج واعتمر بعد الحج وهذا لم ينقله أحد من العلماء بل اتفقوا على أنه لم يعتمر بعد الحج وروى بعض الصحابة أنه قرن فظن بعض الناس أنه طاف طوافين وسعى سعيين وهذا لم ينقله أحد عنه وكان من أسباب غلط كثير من الناس أنهم كانوا يستعملون تلك الألفاظ في معان غير ما استعملته فيها الصحابة فغلط بعض الناس على بعض الصحابة وأما ما فعله في الحج مشهورا فهو

متواتر لم يختلف فيه النقل ولا علماء النقل ومن تدبر هذه الطريق أفادته علما يقينيا قطعيا بصحة هذه الآيات عن محمد صلى الله عليه و سلم وكذلك الطرق المتقدمة فإنا قد ذكرنا أن ما كان الناس أحوج إلى معرفته يسر الله دلائله للناس اعظم من تيسير غيره وحاجة الخلق إلى تصديق الرسول أشد من حاجتهم إلى جميع الأشياء إذ بذلك تحصل سعادتهم في الآخرة ونجاتهم من العذاب وبه يحصل صلاح العباد في المعاد والمعاش
الطريق الخامس أن ما من صنف من أصناف العلماء إلا وقد تواتر عندهم من الآيات ما فيه كفاية فكتب التفسير مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها وكتب الحديث مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها وكتب السير والمغازي والتواريخ مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها وكتب الفقه مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها وإن لم يكن هذا مقصودا منها وإنما المقصود الأحكام لكنهم في ضمن ما يروونه من الأحكام يروون فيها من الآيات ما هو متواتر عندهم وكتب الأصول والكلام مشحونة بذكر الآيات متواتر ذلك فيها ونقل كل طائفة من هذه الطوائف يفيد العلم اليقيني فكيف بما ينقله كل طائفة من هذه الطوائف وهذه الطريق وغيرها مثل طريق الإقرار والتصديق وطريق التواتر المعنوي وطريق تصديق أهل العلم بالحديث بها وغير ذلك يستدل بها تارة على تواتر الجنس العام للآيات الخارقة للعادة وهذا أقل ما يكون ويستدل بها على تواتر جنس جنس منها كتواتر تكثير الطعام وتواتر تكثير الطهور

والشراب وعلى تواتر نوع نوع منها كتواتر نبع الماء من بين أصابعه وتواتر إشباع الخلق العظيم من الطعام القليل وتواتر شخص شخص منها كتواتر حنين الجذع إليه وأمثال ذلك وكلما أمعن الإنسان في ذلك النظر واعتبر ذلك وبأمثاله واعتبر وأعطاه حقه من النظر والاستدلال ازداد بذلك علما ويقينا وتبين له أن العلم بذلك اظهر من جميع ما يطلب من العلم بالأخبار المتواترة فليس في الدنيا علم مطلوب بالأخبار المتواترة إلا والعلم بآيات الرسول وشرائع دينه أظهر من ذلك وما من حال احد من الأنبياء والملوك والعلماء والمشايخ المتقدمين وأقواله وأفعاله وسيرته إلا والعلم بأحوال محمد صلى الله عليه و سلم أظهر من العلم به وما من علم يعلم بالتواتر مما هو موجود الآن كالعلم بالبلاد البعيدة كعلم أهل الشام بالعراق وخراسان والهند والصين والأندلس وعلم أهل المغرب بالشام والعراق وخراسان والهند وعلم أهل خراسان بالشام والعراق ومصر وعلم أهل الهند بالعراق والشام وأمثال ذلك من علم أهل البلاد بعضهم بحال بعض إلا وعلم الإنسان بحال المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها وما هم عليه من الدين وما ينقلونه عن نبيهم من آياته وشرائعه أظهر من علمه بهذا كله وهذا مما يبين أنه ليس في الوجود أمر يعلم بالنقول المتواترة إلا وآيات الرسول وشرائعه تعلم بالنقول المتواترة أعظم مما يعلم ذلك

الأمر تحقيقا لقوله تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا وظهوره على الدين كله بالعلم والحجة والبيان إنما هو بما يظهره من آياته وبراهينه وذلك إنما يتم بالعلم بما ينقل عن محمد من آياته التي هي الأدلة وشرائعه التي هي المدلول المقصود بالأدلة فهذا قد أظهره الله علما وحجة وبيانا على كل دين كما أظهره قوة ونصرا وتأييدا على كل دين والحمد لله رب العالمين كما أنه ما من دليل يستدل به على مدلول إلا والأدلة على آيات الرب أكبر وأكثر
الطريق السادس ان العلماء قد صنفوا مصنفات كثيرة في ذكر آياته وبراهينه المنقولة في الأخبار وجردوا لذلك كتبا مثل كتاب دلائل النبوة للفقيه الحافظ أبي بكر البيهقي وقبله دلائل النبوة

للشيخ أبي نعيم الأصبهاني وقبله دلائل النبوة لأبي الشيخ الأصبهاني ولأبي القاسم الطبراني وقبلهما دلائل النبوة للإمام الحافظ أبي زرعة الرازي والشيخ المصنف أبي بكر عبد الله بن أبي الدينا وللمصنف الحافظ الإمام أبي إسحاق إبراهيم

الحربي وأبي بكر جعفر الفريابي وما صنفه الشيخ العالم أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه المسمى بالوفا في فضائل المصطفى وما صنفه الحافظ أبو عبد الله المقدسي من دلائل النبوة وهؤلاء وغيرهم يذكرون ما يذكرون من الأسانيد المعروفة والطرق المتعددة الكثيرة المتواترة وهؤلاء منهم من يميز ما يذكره من الأحاديث بين ما في صحيحي البخاري ومسلم وما في غيرهما وإن كان صحيحا

أيضا كالبيهقي وابن الجوزي والمقدسي ومنهم من يذكر ذلك جميعه بأسانيده وقد يتكلم على الأسانيد والطرق ويذكر تعددها من غير احتياج منه أن يذكر ما رواه البخاري ومسلم كأبي زرعة شيخ مسلم وأبي الشيخ وأبي نعيم وغيرهم وآخرون يذكرونه معزوا مسندا إلى من رواه وإن لم يذكروا إسناده كما يفعله القاضي عياض السبتي في كتابه المسمى بالشفا بتعريف حقوق المصطفى ومنهم من يقرر ذلك بشهرة ذلك وطرق أخرى من صحته كما يفعله كثير من النظار كالقاضي عبد الجبار

والجاحظ والماوردي القاضي وسليم الرازي الفقيه وغيرهم وهذه الكتب فيها من الأحاديث المتضمنة لآيات نبوته وبراهين رسالته أضعاف اضعاف الأحاديث المأثورة فيما هو متواتر عنه مثل حجة الوداع وعمرة الحديبية وصد المشركين له ومصالحته

إياهم وحله هو وأصحابه بالحديبية ورجوعهم ذلك العام وفتح خيبر وعمرة القضية وعمرة الجعرانة ومثل حصاره لأهل الطائف وفتح مكة قبل ذلك ومثل غزوة النصارى عام تبوك وإرساله جيشا لغزوهم بمؤتة من مشارف الشام قريبا من الحصن المسمى بالكرك ومثل

غزوة لليهود بخيبر وغزوة لليهود قبل ذلك لمن كان عند المدينة مثل بني قينقاع والنضير وقريظة ومثل إرساله أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع ونبذه العهود ومناداته أن لا يحج بعد العام مشرك ولايطوف بالبيت عريان ومثل هجرته مع أبي بكر وعامر بن فهيرة ورجل ثالث كان دليلا لهم ومثل ما تواتر عنه أنه كان يصلي بالمسلمين في العيدين بالمصلى خارج المدينة لم يكن يصلي العيد في مسجده إلا مرة نقل أنه صلى في المسجد لأجل المطر ولم يكن على عهده يصلي أحد بالمدينة صلاة العيد إلا خلفه لم يكن يصلي صلاتي عيد على عهده وعهد أبي بكر وعمر وعثمان وأول من فعل ذلك علي بن أبي طالب لما كثر الناس وضعف أقوام عن الخروج إلى الصحراء استخلف من يصلي

بهم في المسجد وكما تواتر عنه أنه كان يصلي الجمعة بأذان وإقامة لا يؤذن لها إلا إذا قعد على المنبر وكذلك كان الأمر على عهد أبي بكر وعمر فلما كان في أثناء خلافة عثمان كثر الناس فأمر بالنداء الثالث على دار قريبة من المسجد من جهة المشرق يقال لها الزوراء وكما تواتر أن مسجده كان باللبن وسقفه كان من جذوع النخل وكانت حجر أزواجه قبلي المسجد وشرقيه فلما كثر الناس زاد فيه عمر ثم زاد فيه عثمان وبناه بالقصة والحجارة ثم في إمارة الوليد أمر نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد فدخلت حجرة عائشة التي دفن فيها هو وأبو بكر وعمر في المسجد من حينئذ وإنما كانت في حياته خارجة عن المسجد إلى سنة إحدى وتسعين وقال في مرض موته

لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وكما تواتر عنه أنه نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها وتواتر عنه أنه كان يضحي في عيد الأضحى بل تواتر عند أهل العلم بأحواله تروكه المشهورة كما تواترت أفعاله المشهورة فتواتر عنه أنه لم يكن يؤذن للعيدين ولا الكسوف ولا الاستسقاء وأنه صلى الكسوف بركوعين في كل ركعة صلاة طويلة وتواتر عنه كان يطوف بالبيت سبعا ويصلي ركعتين بعد الطواف ولم يكن يصلي بعد السعي بالصفا والمروة ركعتين وتواتر أنه كان يواصل ونهى

أصحابه عن الوصال ويقول إني لست كهيأتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني وأنه لم يفرض صوما إلا صوم شهر رمضان ولم يفرض الحج على المستطيع إلا مرة وأنه فرض الصوات الخمس على كل بالغ عاقل إلا الحائض والنفساء وأنه منع الحائض والنفساء من الصوم والصلاة وكان الحيض يؤمرن بقضاء الصوم ولا يؤمرن بقضاء الصلاة وأنه أمر بالاغتسال من الجنابة للصلاة وأمر بالوضوء عند الصلاة لمن بال أو تغوط أو خرج منه ريح أو مذي وأنه رخص في الاستجمار بثلاثة أحجار ونهى عن الاستنجاء باليمين ونهى عن الاستجمار بالعظم والبعر وقال إنها زاد إخوانكم من الجن وأنه لم يكن يجمع المسلمين على سماع كف ولا دف ولا رقص

ولا صعق لا هو ولا أصحابه عند سماع القرآن بل كانوا توجل قلوبهم وتقشعر جلودهم وتدمع عيونهم وأنه لم يكن على عهده وعهد خلفائه تعاد امرأة مطلقة إلى زوجها بنكاح يقصد به التحليل بل لعن المحلل والمحلل له لأن ذلك ربما فعل سرا وأنه أمر بعيادة المريض وتشييع الجنازة وإفشاء السلام وإجابة الدعوة وأنه كان يصلي على الميت ويكبر أربع تكبيرات وقد كان أحيانا يكبر خمسا وسبعا وأمر بتغسيل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وأنه حرم كل مسكر وحرم بيع الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين والصاع بالصاعين من الحنطة والشعير والتمر والزبيب وأنه أمر بصدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير لما كان أهل المدينة يقتاتون التمر والشعير وأنه أباح الدواء وقال تداووا عباد الله فإنه لم ينزل داء إلا أنزل له دواء إلا السام والسام

الموت وأنه كان يتداوى بالحجامة وغيرها وكذلك ما تواتر عنه من أحاديث سوى ما في القرآن من صفة الجنة والنار وذكر العرش والملائكة والجن وإرساله إلى الثقلين وما ذكره من أسماء الله وصفاته وما أخبر به من فتنة الإنسان في قبره ومن عذاب القبر ونعيمه ومن دخول من يدخل النار من أهل الكبائر من أمته وخروجهم من النار بشفاعته وشفاعة غيره ومن ذكر حوضه وما أخبر به من رؤية الله يوم القيامة ومحاسبة الله للعباد وغير ذلك وما تواتر عنه من أنه كان يرسل رسلا إلى الملوك يدعوهم إلى الإيمان بالله وبما جاء به كما أرسل إلى ملوك اليمن وإلى ملوك الشام ومصر والعراق وإلى ملوك المشركين واليهود والنصارى والمجوس بعد ما حارب اليهود مرة بعد مرة وما تواتر عنه أنه كان يركب الخيل والإبل والبغال والحمير وأنه رجم الزاني المحصن مرة بعد مرة وقطع يد السارق وجلد شارب الخمر وأنه كان يصلي في السفر الرباعية ركعتين ركعتين وأنه جمع بين الصلاتين الظهر والعصر بعرفة وفي مزدلفة جمع بين المغرب والعشاء وأنه كان يصلي بمنى ركعتين ركعتين وأمر

المسلمين في حجة الوداع أن يحلوا من إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي فإنه أمره أن يبقى على إحرامه وانه هو لم يحل من إحرامه ولا اعتمر بعد الحج لا هو ولا أحد ممن حج معه إلا عائشة لكونها كانت حائضا وأن شهجر رمضان فرض في السنة الثانية من الهجرة فصام تسع رمضانات وأنه كان له أربع بنات وثلاثة بنين وكان يكنى بأكبر أولاده القاسم فيدعى أبا القاسم وأنه تزوج بنتي أبي بكر وعمر وزوج عثمان ابنتيه وزوج عليا بنتا وأنه آمن به من أعمامه حمزة والعباس ولم يؤمن أبو لهب ولا أبو طالب مع أن أبا طالب كان يحوطه ويذب عنه وأنه استخلف أبا بكر ليصلي بالناس لما مرض وثقل عن الصلاة لم يصل أحد بإذنه مع حضوره غير أبي بكر في مرضه ولما ذهب ليصلح بين بني عمرو بن عوف وأنه كان من خواص أصحابه العشرة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن

أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وغير هؤلاء كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأبي طلحة وأبي أيوب وأسيد بن حضير وأضعاف هؤلاء وأنه بايعه تحت الشجرة ألف وأربعمائة وهم الذين أنزل الله فيهم لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة وأنه لما قدم المدينة بنى مسجده وكان في شماليه صفة ينزلها العزباء وأن المهاجرين والأنصار كلهم أسلموا طوعا بلا رغبة ولا

رهبة وأن المهاجرين آذاهم الكفار إيذاء عظيما حتى هاجر منهم طائفة إلى الحبشة عند النجاشي وأن النجاشي آمن به وأنه لما مات أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بموته يوم مات وأنه صلى عليه بأصحابه في المصلى كما يصلي على الميت الحاضر وأنه كان يخطب يوم الجمعة قبل الصلاة ويخطب في العيد بعد الصلاة وكان يؤذن للجمعة وللصلوات الخمس ولا يؤذن للعيدين ولا غير الصلوات الخمس وأن بلالا كان يؤذن له بالمدينة هو وابن أم مكتوم الأعمى وكان سعد القرظ يؤذن لأهل قباء وأبو محذورة يؤذن لأهل مكة وكما تواتر عنه وعن خلفائه أنهم

لم يكونوا بمنى يصلون صلاة عيد بل يرمون جمرة العقبة وينحرون كما أمر أهل الأمصار أن يصلوا ثم ينحروا إلى أمثال هذه الأمور مما هو متواتر عند كل من كان عالما بأحواله ومنها ما هو متواتر عند جميع الأمة ومنها ما هو متواتر عند جمهورها وليس منها شيء إلا وتواترت آياته وبراهينه صلى الله فيها عليه وسلم التي لم تذكر في القرآن أعظم من تواتر هذه الأمور والكتب المصنفة في آياته وبراهينه الخارجة عن القرآن فيها من الأحاديث أضعاف أضعاف ما يوجد من الأحاديث في مثل هذه الأمور بل في كل صنف من أصناف آياته من الأحاديث أضعاف ما يوجد في مثل ذلك كتواتر إخباره بالغيوب المستقبلة وتواتر تكثيره للطعام والشراب مرات متعددة وتكثيره الطهور إما بنبع الماء بين أصابعه وإما بفيضان الينبوع الذي يضع فيه بعض آثاره وإما

بفيضان الماء من الوعاءالذي برك فيه والماء باق بحاله لم ينقص فالأحاديث المتواترة في مثل هذه الأنواع أكثر من الأحاديث المتواترة في مثل تلك الأمور التي هي متواترة ولهذا كان شهرة هذه الأمور في الأمة وفي أهل العلم بأحواله أعظم من شهرة كثير من تلك الأمور والمقصود هنا أن تواتر آياته المستفيضة في الأحاديث أعظم من تواتر أمور كثيرة هي متواترة عند الأمة أو عند علمائها وعلماء أهل الحديث وهذا غير الآيات والبراهين المستفادة بالقرآن فإن تلك قد تجرد لها طوائف من المسلمين ذكروا من أنواعها وصفاتها ما هو مبسوط في غير هذا الموضع حتى بينوا أن ما في القرآن من الآيات يزيد على عشرات ألوف من الآيات وهذا غير ما في كتب أهل الكتاب من الإخبار به وهذه الأجناس الثلاثة غير ما في شريعته التي بعث بها وغير صفات أمته وغير ما يدل من المعرفة بسيرته وأخلاقه وصفاته وأحواله وهذا كله غير نصر الله وإكرامه لمن آمن به وعقوبته وانتقامه ممن كفر به كما فعل بالأنبياء المتقدمين فإن تعداد أعيان دلائل النبوة

مما لا يمكن بشرا الإحاطة به إذ كان الإيمان به واجبا على كل أحد فيبين الله لكل قوم بل لكل شخص من الآيات والبراهين ما لا يبين لقوم آخرين كما أن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كل دليل على كل مدلول ولكل قوم بل ولكل إنسان من الدلائل المعينة التي يريه الله إياها في نفسه وفي الآفاق ما لا يعرف أعيانها قوم آخرون قال تعال سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق والضمير في ذلك عائد إلى القرآن عند المفسرين والسلف وعامة العلماء كما يدل على ذلك القرآن بقوله قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وقد قيل إن الضمير عائد إلى الله والصواب الأول كما قال قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به

وهذا هو القرآن ثم قال بعد ذلك سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ثم قال أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد فأخبر أنه سيري الناس في أنفسهم وفي الآفاق من الآيات العيانيةالمشهورة المعقولة ما يبين أن الآيات القرآنية المسموعة المتلوة حق فيتطابق العقل والسمع ويتفق العيان والقرآن وتصدق المعاينة للخبر وإذا كان القرآن حقا لزم كون الرسول الذي جاء به صادقا وأن الله تعالى أنزله وأنه يجب التصديق بما أخبر به والطاعة لما أوجبه وأمر به وذلك يتضمن إثبات الصانع وتوحيده وأسماءه وصفاته وإثبات النبوات وإثبات المعاد وهذه هي أصول العلم والإيمان التي علقت بها السعادة والنجاة

فصل وآيات النبوة وبراهينها تكون في حياة الرسول وقبيل مولده وبعد مماته لا تختص بحياته فضلا عن أن تختص بحال دعوى النبوة أو حال التحدي كما ظنه بعض أهل الكلام بل لا بد من آيات في حياته تدل على صدقه تقوم بها الحجة وتظهر بها المحجة كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي اوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة وقد قال تعالى في سورة إبراهيم الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد

إلى قوله ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور إلى قوله الم يأتيكم نبؤا الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى الآيات فأخبر سبحانه أن قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله أتتهم رسلهم بالبينات فعلم أنهم جاءوا بالبينات وقال فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤا بالبينات والزبر والكتاب المنير

وقال تعالى وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا فأخبر أنه سبحانه ضرب الأمثال لجميع هؤلاء الذين أرسل إليهم وأهلكهم فلم يعاقبهم إلا بعد ان أقام عليهم الحجة وقال تعالى وما ارسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون فأخبر أنه لم يرسل إلا رجالا يوحى إليهم لم يرسل إليهم ملائكة ولا نساء وأنه أرسلهم بالبينات والزبر والزبر جمع زبور وهي الكتب فإن منهم من أنزل عليه

كتاب ومنهم من أرسل بتجديد الكتاب الذي قبله وقال تعالى إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلاخلا فيها نذير وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير أخبر أنه ليس أمة من الأمم إلا خلا فيها نذير كما قال ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ثم أخبر أن الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر والكتاب المنير وهذا من عطف الخاص على العام لاختصاصه بوصف يختص به كقوله

وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الزبر من البينات والكتاب المنير من الزبر وهو كقوله ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير فإن الهدى من العلم والكتاب المنير من الهدى وبين أنه أخذ الذين كفروا بهم وهذا أنزله ليبين عاقبة المكذبين ولهذا بنى الفعل للفاعل فقال فقد كذب الذين من قبلهم وهذه السورة مكية ثم أنزل في آل عمران وهي مدنية في سياق الآيات التي فيها تسلية الرسول والمؤمنين به وتثبيتهم وتعزيتهم لما أصابهم من المكذبين يوم احد وغيره فقال الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا

بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين أي يخوفكم أولياءه كما قاله جمهور العلماء ثم قال ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا وسياق الكلام في بيان أن الكفار لا يضرون الله ولا عباده المؤمنين بل ضررهم على أنفسهم وأن ما حصل لهم من نعمة إنما هو استدراج وإملاء إلى أن قال لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد الذين قالوا إن الله عهد إلينا لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنت صادقين بين سبحانه أن هذا القول منهم مع أنه كذب فلم يقولوه إلا دفعا للحق لا ليؤمنوا بمن جاءهم بذلك إذ قد جاءهم رسل من

قبله بالآيات البينات والقربان الذي تأكله النار ومع هذا قتلوهم والكلام في مثل هذا الجنس الذي يوالي بعضهم بعضا ويتبع بعضهم بعضا كاليهود الذين هم على دين سلفهم الذين فعلوا ذلك ولهذا يذمهم بصيغة الخطاب كقوله وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون إلى قوله وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فالخطاب لجنس بني إسرائيل وإن كان الذين عاينوا ذلك ماتوا ثم قال فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤا بالبينات والزبر والكتاب المنير فحذف هنا الفاعل وبنى الفعل للمفعول إذ المقصود هنا تسلية الرسول وتعزيته لا ذكر عقوبة المذكبين فلهذا كانت هذه أخص من تلك

فصل ومن آيات الأنبياء إهلاك الله لمكذبيهم ونصره للمؤمنين بهم فهذا من أعلام نبوتهم ودلائل صدقهم كإغراق الله قوم نوح لما كذبوه وكإهلاكه قوم عاد بالريح الصرصر وإهلاك قوم صالح بالصيحة وإهلاك قوم شعيب بالظلة وإهلاك قوم لوط بإقلاب مداينهم ورجمهم بالحجارة وكإهلاك قوم فرعون بالغرق وقد ذكر الله القصص في القرآن في غير موضع وبين أنها من آيات الأنبياء الدالة على صدقهم كما يذكره في سورة الشعراء لما ذكر قصة موسى قال إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين

ثم ذكر قصة إبراهيم وقال في آخرها إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وكذلك ذكر مثل ذلك في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ومن ذلك ما جعله من اللعنة الشائعة لمن كذبهم ومن لسان الصدق والثناء والدعاء لهم ولمن آمن بهم كما قال تعالى في قصة نوح وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين وكذلك في قصة إبراهيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم أي تركنا هذا القول الذي يقوله المتأخرون وكذلك في قصة موسى وهارون وتركنا عليه في الآخرين سلام على موسى وهارون و سلام على إل ياسين

وكذلك في قصة إبراهيم قال تعالى فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا وقال في قصة فرعون واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا انهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ولهذا قال تعالى لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وقال لمحمد صلى الله عليه و سلم فاصبر إن العاقبة للمتقين

فأخبر أن العاقبة للمتقين ثم إنه ما وقع لهؤلاء وهؤلاء يعلم بالسمع والنقل تارة ويعلم بالعقل والاعتبار بآثارهم تارة كما قال عن أهل النار لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير كما ذكر الله الطريقين في قوله ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ثم قال وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط واصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ثم قال أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى

وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وقال تعالى أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون وقال تعالى أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب

وقال تعالى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون وقال لما قص قصص نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى في سورة هود ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ولما ذكر قصة لوط في سورة الصافات قال وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون

وفي سورة الحجر إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين والإمام المبين هو الطريق المستبين الواضح بين سبحانه أن هذه وهذه كلاهما بسبيل للناس يرونها بأبصارهم فيعلمون بذلك ما فعل الله بمن كذب رسله وعصاهم ودلالة نصر الله المؤمنين وانتقامه من الكافرين على صدق الأنبياء من جنس دلالة الآيات والمعجزات على صدقهم فكون هذا فعل لأجل هذا وكون ذاك سبب هذا هو مما يعلم بالإضرار عند تصور الأمر على ما هو عليه كانقلاب العصا حية عقب سؤال فرعون الآية وانشقاق القمر عند سؤال مشركي مكة آية وأمثال ذلك والسؤال المشهور الذي يورد في هذا الموضع على قول من

ينفي التعليل في أفعال الله ويجوز على الله كل فعل حيث قيل لهم على أصلكم لا يفعل الله شيئا لأجل شيء وحينئذ فلم يأت بالآيات الخارقة للعادة لأجل تصديق الرسول ولا عاقب هؤلاء لتكذيبهم له ولا أنجى هؤلاء ونصرهم لإيمانهم به إذا كان لا يفعل شيئا لشيء عندكم وقالوا لهم أيضا إذا جوزتم على الرب كل فعل جاز أن يظهر الخوارق على يد الكاذب ويقال لهم أيضا أنتم لا تعلمون ما يفعل الرب إلا بعادة أو خبر الأنبياء فقبل العلم بصدق النبي لا يعلم شيء بخبره والعادة إنما تكون فيما تكرر كطلوع الشمس ونزول المطر ونحو ذلك والإتيان بالخارق للتصديق ليس معتادا فيقال هذا السؤال إن كان متوجها فإنما يقدح في قول هؤلاء الذين يقولون لايفعل شيئا لأجل شيء ويجوزون عليه فعل كل شيء ممكن لا ينزهونه عن فعل سيء الأفعال وليس عندهم قبيحا وظلما إلا ما كان ممتنعا مثل جعل الشيء موجودا معدوما وجعل

الجسم في مكانين ولهذا ذكر ذلك مخالفوهم حجة في إبطال مذهبهم وقالوا قولهم يقدح في العلوم الضرورية ويسد باب العلم بصدق الرسل قالوا إذا جوزتم أن يفعل كل شيء فجوزوا أن يكون الجبال انقلبت ياقوتا والبخار لبنا ونحو ذلك مما يعلم بالضرورة بطلانه وجوزا أن يخلق المعجزات على يدي الكذابين وليس المقصود هنا الجواب عن هؤلاء ولا بيان فسد قولهم ولكن المقصود أن هذا السؤال إن كان متوجها فإنما يقدح في قوله هؤلاء لا يقدح فيما علم بالاضطرار من دلالات الآيات المذكورة على حال ههؤلاء وهؤلاء وأن الله سبحانه وتعالى نجى موسى ونصره لصدقه ونبوته وإيمانه وأهلك فرعون لتكذيبه وكذلك نصر محمدا ومن اتبعه على من كذبه من قومه ونصر نوحا على من كفر به ونصر المسيح على من كذبه ونصر سائر الرسل وأتباعهم المؤمنين كما قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد

وقال سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون كما لا يقدح ما علم بالاضطرار من أن الله ينزل المطر في إبانه لسقي المزارع وأنه يسوق النيل لسقي أرض مصر وأنه جعل أعضاء الإنسان لما فيها من المنافع كالبطش باليدين والمشي بالرجلين والنظر بالعينين والسمع بالأذنين والنطق باللسان وجعل ماء العين ملحا لكونها شحمة والملوحة تمنعها أن تذوب وماء الأذن مرا ليمنع الذباب من الولوج في الدماغ وماء الفم عذبا ليطيب الطعام والشراب وجعل ماء البحر مالحا لبقاء الأنام فإنه لو كان عذبا فيموت فيه من الحيوان العظيم فيفسد الريح فيموت الآدميون والبهائم بهذه الريح إلى ما لا يحصى من حكمة الله المشهودة في خلقه ونفاة التعليل يقولون نحن نعلم أن هذا مقارن لهذا بحكم العادة التي أجراها الله وإن لم يخلق شيئا لشيء وكذلك من نفي

الأسباب مع نفي التعليل أيضا يقولون نحن نعلم أنه يخلق هذا عند هذا لا به فاقتران المعجز بالتصديق من هذا الباب عندهم لكن يبقى عليهم أن هذا لا يعلم إلا بالعادة ولا عادة فلا جرم رجعوا إلى فطرته من أن هذا أمر معلوم بالاضطرار وإن كان مناقضا لأصلهم الفاسد وضربوا لذلك مثلا بالملك الذي أظهر ما يناقض عادته لتصديق رسوله لكن يقال لهم الملك يفعل فعلا لمقصود فأمكن أن يقال أنه قام ليصدق رسوله وأنتم عندكم أن الله لا يفعل شيئا لشيء فلم يبق المثل مطابقا ولهذا صاروا مضطربين في هذا الموضع تارة يقولون المعجزات دليلا على الصدق لئلا يفضي إلى تعجيز الرب فإنه لا دليل على الصدق إلا خلق العجز فلو لم يكن دليلا لزم أن يكون الرب غير قادر على تصديق الرسول الصادق وهذه طريقة الأشعري في أكثر كتبه وأحد قوليه وسلكها القاضي أبو بكر وأبو إسحاق

الإسفرائيني وأبو بكر بن فورك وأبو محمد ن اللبان وأبو علي بن شاذان والقاضي أبو يعلى وغيرهم والثاني قالوا نحن نعلم بالاضطرار أنه فعل هذا لأجل التصديق كالمثل المضروب وهذا هو القول الآخر وهي طريقة أبي الحسن الأشعري في أماليه وهي طريقة أبي المعالي وأتباعه

كالرازي وغيره وتنازعوا هل يمكن خلق ذلك على يد كذاب فقيل لا يمكن لأنه لو أمكن لجاز وقوعه وقيل بل هو مقدور لكن نعلم أنه لا يفعله كما نعلم أنه لا يفعل كثيرا من الخوارق المقدورات كقلب الجبل ياقوتا والبحر زيتا قالوا فنحن نعلم بالضرورة أنه لا يفعلها فلا يلزم من كونها مقدورة ممكنة أن لا يعلم انتفاء وقوعها بل قد يعلم عدم وقوعها بالاضطرار وإن كنا نقول إنها ممكنة مقدورة وظهور المعجزات على يد الكذاب في دعوى النبوة من هذا الباب عندنا وقالوا المعجز علم على صدق الأنبياء فيمتنع أن يكون الدليل غير مستلزم للمدلول عليه وهذا القول حق لكن منازعوهم يقولون هو يستلزم نقيض ما نفوه من كون الله يخلق شيئا لشيء ويخلق شيئا بشيء وما قالوا من كونه يجوز عليه فعل كل شيء وكان ما ذكروه من الحق دليلا على أن الخلق يعلمون ما يعلمونه من حكمة الرب ومراده بما يخلقه لأمر آخر وأنه سبحانه منزه عن أن يفعل أشياء لا يجوز منه فعل كل شيء وهم يقولون هنا قد يكون الشيء ممكنا جائزا مع العلم بأنه غير واقع كانقلاب الجبال ياقوتا

والبحر زئبقا وموت أهل البلد كلهم في لحظة ومصير الأطفال علماء حكماء في لحظة واحدة وعلى هذا الجواب يعتمدون كثيرا كما يذكره القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلى وأبو المعالي والرازي وغيرهم ثم إنهم يقولون في العقل أنه علوم ضرورية كالعلم بوجوب الواجبات وامتناع الممتنعات وجواز الجائزات فالممتنعات كانقلاب دجلة دما وأمثال ذلك في الأمور العادية فيجعلون العادات واجبة تارة وممتنعة أخرى مع أنه لا سبب يوجب لا هذا ولا هذا ويقولون نعلم أن هذا جائز ممكن لايتوقف على سبب ولا له مانع كالآخر ثم نعلم أن هذا واقع وهذا غير واقع لمجرد العادة مع أن خرق العادة ليس له عندهم ضابط بل كل ما يجري من العادات معجزات للأنبياء فيجوز أن يكون عندهم للولي وللساحر والفرق بينهما عندهم التحدي أو عدم المعارضة وكذلك المتفلسفة الملاحدة الذين يقولون أسباب الآيات القوى الفلكية والقوى النفسانية والطبيعية وهذه كلها مشتركة عندهم بين الأنبياء والسحرة لكن النبي يقصد الخير والعدل والساحر يقصد الشر والظلم

وكذلك أولئك الذين وافقوا جهما على أصله في القدر لا فرق عندهم بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة لكن الولي مطيع لله والساحر غير مطيع لله هذا عمدة هؤلاء النفاة للحكمة والأسباب في أفعال الله تعالى وجمهور الناس يخالفونهم ويقولون هذا القول فاسد بل نفس تصوره كاف في العلم بفساده فإنه إذا تماثل هذا وهذا من كل وجه فمن أين يعلم وجود هذا أو وجوبه وعدم هذا أو امتناعه وإذا قيل مستندي العادة قيل له منازعوك يقولون هذا باطل من وجهين
أحدهما أنك أنت تجوز انتقاض العادة وليس لانتقاضها عندك سبب تختص به ولا حكمة انتقضت لأجلها بل لا فرق عندك بين انتقاضها للأنبياء والأولياء والسحرة وغير ذلك ولهذا قلتم ليس بين معجزات الأنبياء وبين كرامات الأولياء والسحرة فرق إلا مجرد اقتران دعوى النبوة والتحدي بالمعارضة مع عدم المعارضة مع أن التحدي بالمعارضة قد يقع من المشرك بل ومن الساحر فلم يثبتوا فرقا يعود إلى جنس الخوارق المفعولة ولا إلى قصد الفاعل والخالق ولا قدرته ولا حكمته
والثاني أن العادة لا بد لها من أسباب وموانع يعلم بها اطرادها تارة وانتفاضها أخرى وبهذا يظهر الجواب عما قالوه من أن انقلاب الجبل ذهبا والبحر زئبقا والأناسي قرودا ونحو ذلك ممكن معلوم

الجواز مع العلم بأنه لم يقع فإنهم يقال لهم جمهور الناس لا يعلمون لكم أن هذا ممكن إلا مع لوازمه وانتفاء أضداده وحينئذ يقال لم قلتم إن هذا لا يستلزم أسبابا تكون قبله وموانع ترتفع كسائر ما يحدثه الله من الأمور الخارقة للعادة فإنه لا يحدث شيئا إلا بإحداث أسباب ودفع موانع مثال ذلك غرق قوم نوح لم يكن ماء وجد بلا سبب بل أنزل الله ماء السماء وأنبع ماء الأرض كما قال تعالى كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر وكذلك عاد لما أهلكهم أرسل الريح الصرصر سبع ليال وثمانية أيام حسوما كما قال تعالى

فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية وكذلك ثمود قال لهم صالح ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود وكل ما وجد في العالم من خوارق العادات آيات الأنبياء وغيرها لم يأت منها شيء إلا بأسباب تقدمته كآيات موسى من مثل مصير العصى حية كانت بعد أن ألقاها إما عند أمر الله بذلك لما ناداه من الشجرة ورأى النار الخارقة للعادة وإما عند مطالبة فرعون له

بالآية وإما عند معارضة السحرة لتبتلع حبالهم وعصيهم وكذلك سائر آياته حتى إغراق فرعون كان بعد مسير الجيش وضربه البحر بالعصا وكذلك تفجر الماء من الحجر كان بعد أن ضرب الحجر بعصاه واستسقاء قومه إياه وهم في برية لا ماء عندهم وكذلك آيات نبينا صلى الله عليه و سلم مثل تكثير الماء كان بوضع يده فيه حتى نبع الماء من بين الأصابع أي تفجر الماء من بين الأصابع لم يخرج من نفس الأصابع وكذلك البئر كان ماؤها يكثر إما بإلقائه سهما من كنانته فيها وإما بصبه الماء الذي بصق فيه فيها وكذلك المسيح كان يأخذ من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله إلى أمثال ذلك فأما جبل ينقلب ياقوتا بلا أسباب تقدمت ذلك فهذا لا كان ولا يكون وكذلك نهر يطرد يصبح لبنا بلا أسباب تقتضي ذلك يخلقها الله فهذا لا كان ولا يكون ومن قال إن الشيء ممكن فهذا يعنى به شيئان يعني به الإمكان الذهني والإمكان الخارجي فالإمكان الذهني هو عدم العلم بالامتناع وهذا ليس فيه إلا عدم العلم بالامتناع وعدم العلم بالامتناع غير العلم بالإمكان فكل من لم يعلم امتناع شيء كان عنده ممكنا بهذا الاعتبار لكن هذا ليس بعلم بإمكانه ومن استدل على إمكان الشيء بأنه لو قدر لم يلزم منه محال من غير بيان انتفاء لزوم كل محال كما يفعله طائفة من أهل الكلام كالآمدي ونحوه لم يكن فيما ذكره إلا مجرد الدعوى

وأما الثاني وهو العلم بإمكان الشيء في الخارج فهذا يعلم بأن يعلم وجوده أو وجود نظيره أو وجود ما هو أقرب إلى الامتناع منه فإذا كان حمل البعير للقنطار ممكنا كان حمله لتسعين رطلا اولى بالإمكان وبهذه الطريقة يبين الله في القرآن إمكان ما يريد بيان إمكانه كإحياء الموتى والمعاد فإنه يبين ذلك تارة ببيان وقوعه كما أخبر أن قوم موسى قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ثم بعثهم الله من بعد موتهم لعلهم يشكرون وكما أخبر عن المقتول الذي ضربوه بالبقرة فأحياه الله كما قال

وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون وكما أخبر عن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم وكما أخبر عن الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير وأخبر سبحانه بنظير ذلك في قصة إبراهيم حيث قال رب أرني كيف تحي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم ان الله عزيز حكيم واستدل سبحانه بما هو أعظم من ذلك وهو النشأة الأولى وخلق السموات والأرض كقوله

أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على ان يخلق مثلهم وقال إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم إلى قوله وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبت من كل زوج بهيج فاستدل سبحانه على إمكان الإحياء بابتداء خلق الحيوان وبخلق النبات وذكر ذلك في القرآن في غير موضع وبسط هذا له موضع آخر والمقصود أن قول القائل هذا ممكن لا يحتاج إلى دليل لا يكفي في العلم بإمكانه عدم العلم بامتناعه والله سبحانه على كل شيء قدير والممتنع ليس بشيء باتفاق العقلاء وكل ما خلقه الله فلا بد أن يخلق لوازمه ويمتنع أضداده وإلا فيمتنع وجود الملزوم

دون اللازم ويمتنع اجتماع الضدين وليس للعباد اطلاع على لوازم كل مخلوق ولا أضداده المنافية لوجوده فالجزم بإمكان وجوده بدون العلم بلوازمه وإمكانها وأضدادها وانتفائها جهل والله سبحانه قادر على تغيير ما شاءه من العالم وهو يشق السموات ويسير الجبال ويبسها بسا فيجعلها هباء منبثا إلى أمثال ذلك مما أخبر الله به كما يخلق سائر ما يخلقه بما ييسره من الأسباب وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أن آيات الأنبياء ودلائل صدقهم متنوعة قبل المبعث وحين المبعث في حياتهم وبعد موتهم فقبل المبعث مثل إخبار من تقدم من الأنبياء به ومثل الإرهاصات الدالة عليه وأما حين المبعث فظاهر وأما في حياته فمثل نصره وإنجائه وإهلاك أعدائه وأما بعد موته فمثل نصر أتباعه وإهلاك أعدائه كما قال تعالى

إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون وقال للمسيح إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وقال يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ومحمد صلى الله عليه و سلم جعلت له الآيات البينات قبل مبعثه وحين مبعثه وفي حياته وبعد موته إلى الساعة وإلى قيام

الساعة فإن ذكره وذكر كتابه والبشارة بذلك موجود في الكتب المتقدمة كما قد بسط في موضعه والخليل دعا به فقال في دعائه لذريته ربنا وابعث فيهم رسولا يتلوا عليهم ءاياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ولما ولد اقترن بمولده من الآيات ما هو معروف وجرى ذلك

العام قصة أصحاب الفيل المشهورة وكان يحصل له في مدة نشأته من الآيات والدلائل أمور كثيرة قد ذكر طرف منها في كتب دلائل النبوة والسيرة وغيرها مثل الآيات التي حصلت لمرضعته لما صار عندها ومثل ما شوهد من أحواله في صغره وأما انتصار الله له ولأتباعه وإعلاء ذكره ونشر لسان الصدق له وإهلاك أعدائه وإذلال من يحاده ويشاقه وإظهار دينه على كل دين باليد واللسان والدليل والبرهان فهذا مما يطول وصف تفصيله قال تعالى قد كان لكم ءآية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وقال تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار

والأنبياء صلوات الله عليهم وأتباعهم المؤمنون وإن كانوا يبتلون في أول الأمر فالعاقبة لهم كما قال تعالى لما قص قصة نوح تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين وفي الحديث المتفق على صحته لما أرسل النبي صلى الله عليه و سلم رسولا إلى ملك الروم فطلب من يخبره بسيرته وكان المسؤولون حينئذ أعداءه لم يكونوا آمنوا به فقال كيف الحرب بينكم وبينه قالوا الحرب بيننا وبينه سجال يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى فقال كذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة فإنه كان يوم بدر نصر الله المؤمنين ثم يوم أحد ابتلى المؤمنين ثم لم ينصر الكفار بعدها حتى أظهر الله الإسلام

فإن قيل ففي الأنبياء من قد قتل كما أخبر الله أن بني إسرائيل يقتلون النبيين بغير حق وفي أهل الفجور من يؤتيه الله ملكا وسلطانا ويسلطه على مذنبين كما سلط بخت نصر على بني إسرائيل وكما يسلط كفار المشركين وأهل الكتاب أحيانا على المسلمين قيل أما من قتل من الأنبياء فهم كمن يقتل من المؤمنين في الجهاد شهيدا قال تعالى وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت اقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فئاتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ومعلوم أن من قتل من المؤمنين شهيدا في القتال كان حاله أكمل من حال من يموت حتف أنفه قال تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون

ولهذا قال تعالى قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين أي إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة ثم الدين الذي قاتل عليه الشهداء ينتصر ويظهر فيكون لطائفته السعادة في الدنيا والآخرة من قتل منهم كان شهيدا ومن عاش منهم كان منصورا سعيدا وهذا غاية ما يكون من النصر إذ كان الموت لا بد منه فالموت على الوجه الذي يحصل به سعادة الدنيا والآخرة أكمل بخلاف من يهلك هو وطائفته فلا يفوز لا هو ولا هم بمطلوبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة والشهداء من المؤمنين قاتلوا باختيارهم وفعلوا الأسباب التي بها قتلوا كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهم اختاروا هذا الموت إما أنهم قصدوا الشهادة وإما أنهم قصدوا ما به يصيرون شهداء عالمين بأن لهم السعادة في الآخرة وفي الدنيا بانتصار طائفتهم وببقاء لسان الصدق لهم ثناء ودعاء بخلاف من هلك من الكفار فإنهم هلكوا بغير اختيارهم هلاكا لا يرجون معه سعادة الآخرة ولم يحصل لهم ولا لطائفتهم شيء من سعادة الدنيا بل اتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين وقيل فيهم

كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما ءاخرين فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين وقد أخبر سبحانه أن كثيرا من الأنبياء قتل معه ربيون كثير أي ألوف كثيرة وانهم ما ضعفوا ولا استكانوا لذلك بل استغفروا من ذنوبهم التي كانت سبب ظهور العدو وأن الله آتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة فإذا كان هذا قتلى المؤمنين فما الظن بقتلى الأنبياء ففيه لهم ولأتباعهم من سعادة الدنيا والآخرة ما هو من أعظم الفلاح وظهور الكفار على المؤمنين أحيانا هو بسبب ذنوب المسلمين كيوم أحد فإن تابوا انتصروا على الكفار وكانت العاقبة لهم كما قد جرى مثل هذا للمسلمين في عامة ملاحمهم مع الكفار وهذا من آيات النبوة وأعلامها ودلائلها فإن النبي إذا قاموا بعهوده ووصاياه نصرهم

الله وأظهرهم على المخالفين له فإذا ضيعوا عهوده ظهر أولئك عليهم فمدار النصر والظهور مع متابعة النبي وجودا وعدما من غير سبب يزاحم ذلك ودوران الحكم مع الوصف وجودا وعدما من غير مزاحمة وصف آخر موجب للعلم بأن المدار علة للدائر
وقولنا من غير مزاحمة وصف آخر يزيل النقوض الواردة فهذا الاستقراء والتتبع يبين أن نصر الله وإظهاره هو بسبب اتباع النبي وانه سبحانه يريد إعلاء كلمته ونصره ونصر أتباعه على من خالفه وأن يجعل لهم السعادة ولمن خالفهم الشقاء وهذا يوجب العلم بنبوته وأن من اتبعه كان سعيدا ومن خالفه كان شقيا ومن هذا ظهور بخت نصر على بني إسرائيل فإنه من دلائل نبوة موسى إذ كان ظهور بخت نصر إنما كان لما غيروا عهود موسى وتركوا اتباعه فعوقبوا بذلك وكانوا إذ كانوا متبعين لعهود موسى منصورين مؤيدين كما كانوا في زمن داود وسليمان وغيرهما قال تعالى وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتلعن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسئوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما

دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا فكان ظهور بني إسرائيل على عدوهم تارة وظهور عدوهم تارة من دلائل نبوة موسى صلى الله عليه و سلم وكذلك ظهور أمة محمد صلى الله عليه و سلم على عدوهم تارة وظهور عدوهم عليهم تارة هو من دلائل رسالته محمد وأعلام نبوته وكان نصر الله لموسى وقومه على عدوهم في حياته وبعد موته كما جرى لهم مع يوشع وغيره من دلائل نبوة موسى وكذلك انتصار المؤمنين مع محمد صلى الله عليه و سلم في حياته وبعد مماته مع خلفائه من أعلام نبوته ودلائلها وهذا بخلاف الكفار الذين ينتصرون على أهل الكتاب أحيانا فإن أولئك لا يقول مطاعهم إني نبي ولا يقاتلون أتباع الأنبياء على دين ولا يطلبون من أولئك أن يتبعوهم على دينهم بل قد يصرحون بأنا إنما نصرنا عليكم بذنوبكم وأن لو اتبعتم دينكم لم ننصر عليكم وأيضا فلا عاقبة لهم بل الله يهلك الظالم بالظالم ثم يهلك الظالمين جميعا ولا قتيلهم يطلب بقتله سعادة بعد الموت ولا يختارون القتل ليسعدوا بعد الموت فهذا وأمثاله مما يظهر به الفرق بين انتصار الأنبياء وأتباعهم ويبن ظهور بعض الكفار على المؤمنين أو ظهور بعضهم على بعض

وبين أن ظهور محمد وأمته على أهل الكتاب اليهود والنصارى هو من جنس ظهورهم على المشركين عباد الأوثان وذلك من أعلام نبوته ودلائل رسالته ليس هو كظهور بخت نصر على بني إسرائيل وظهور الكفار على المسلمين وهذه الآية مما أخبر بها موسى وبين أن الكذاب المدعي للنبوة لا يتم أمره وإنما يتم أمر الصادق فإن من أهل الكتاب من يقول محمد وأمته سلطوا علينا بذنوبنا مع صحة ديننا الذي نحن عليه كما سلط بخت نصر وغيره من الملوك وهذا قياس فاسد فإن بخت نصر لم يدع نبوة ولا قاتل على دين ولا طلب من بني إسرائيل أن ينتقلوا عن شريعة موسى إلى شريعته فلم يكن في ظهوره إتماما لما ادعاه من النبوة ودعا إليه من الدين بل كان بمنزلة المحاربين قطاع الطريق إذا ظهروا على القوافل بخلاف من ادعى نبوة ودينا دعا إليه ووعد أهله بسعادة الدنيا والآخرة وتوعد مخالفيه بشقاوة الدنيا والآخرة ثم نصره الله وأظهره وأتم دينه وأعلا كلمته وجعل له العاقبة وأذل مخالفيه فإن هذا من جنس خرق العادات المقترن بدعوى النبوة فإنه دليل عليها وذلك من جنس خرق العادات التي لم تقترن بدعوى النبوة فإنه ليس دليلا عليها وقد يغرق في البحر أمم كثيرة فلا يكون ذلك دليلا على نبوة نبي بخلاف غرق فرعون وقومه فإنه كان آية بينة لموسى وهذا موافق لما أخبر به موسى عليه الصلاة و السلام من أن الكذاب لا يتم أمره وذلك أن الله حكيم لا يليق به تأييد الكذاب على

كذبه من غير أن يتبين كذبه ولهذا أعظم الفتن فتنة الدجال الكذاب لما اقترن بدعواه الإلهية بعض الخوارق كان معها ما يدل عل كذبه من وجوه منها دعواه الإلهية وهو أعور والله ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن قارىء وغير قارىء والله تعالى لا يراه أحد حتى يموت وقد ذكر النبي صلى الله عليه و سلم هذه العلامات الثلاث في الأحاديث الصحيحة فأما تأييد الكذاب ونصره وإظهار دعوته دائما فهذا لم يقع قط فمن يستدل على ما يفعله الرب سبحانه بالعادة والسنة فهذا هو الواقع ومن يستدل على ذلك بالحكمة فحكمته تناقض أن يفعل ذلك إذ الحكيم لا يفعل هذا وقد قال تعالى ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا فأخبر أن سنة الله التي لا تبديل لها نصر المؤمنين على الكافرين والإيمان المستلزم لذلك يتضمن طاعة الله ورسوله فإذا نقض

الإيمان بالمعاصي كان الأمر بحسبه كما جرى يوم أحد وقال تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادههم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الاولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا فأخبر أن الكفار لا ينظرون إلا سنة الأولين ولا يوجد لسنة الله تبديل تستبدل بغيرها ولا تتحول فكيف النصر للكفار على المؤمنين الذين يستحقون هذا الاسم وكذلك قال في المنافقين وهم الكفار في الباطن دون الظاهر ومن فيه شعبة نفاق لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة

لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا والسنة هي العادة فهذه عادة الله المعلومة فإذا نصر من ادعى النبوة واتباعه على من خالفه وإما ظاهرا وباطنا وإما باطنا نصرا مستقرا كان ذلك دليلا على انه نبي صادق إذ كانت سنة الله وعادته نصر المؤمنين بالأنبياء الصادقين على الكافرين والمنافقين كما أن سنته تأييدهم بالآيات البينات وهذه منها ومن ادعى النبوة وهو كاذب فهو من أكفر الكفار وأظلم الظالمين قال تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله وقال تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه

وقال تعالى فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ومن كان كذلك كان الله يمقته ويبغضه ويعاقبه ولا يدوم أمره بل هو كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال إن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظلمة إن أخذه أليم شديد وقال أيضا في الحديث الصحيح عن أبي موسى أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تقومها تارة وتمليها أخرى ومثل

المنافق مثل شجرة الأرز لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة فالكاذب الفاجر وإن أعطي دولة فلا بد من زوالها بالكلية وبقاء ذمه ولسان السوء له في العالم وهو يظهر سريعا ويزول سريعا كدولة الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب والحارث الدمشقي وبابا الرومي ونحوهم وأما الأنبياء فإنهم يبتلون كثيرا ليمحصوا بالبلاء فإن الله إنما يمكن العبد إذا ابتلاه ويظهر أمرهم شيئا فشيئا كالزرع قال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فئازره فاستغلظ فاستوى على

سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ولهذا كان أول ما يتبعهم ضعفاء الناس فاعتبار هذه الأمور وسنة الله في أوليائه وأنبيائه الصادقين وفي أعداء الله والمتنبئين الكذابين مما يوجب الفرق بين النوعين وبين دلائل النبي الصادق ودلائل المتنبيء الكذاب وقد ذكر ابتلاء النبي والمؤمنين ثم كون العاقبة لهم في غير موضع كقوله تعالى ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولامبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإى المرسلين وقال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم

يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

فصل ومما ينبغي أن يعرف أن الأدلة نوعان
نوع يدل على مجرد العلم بالمدلول عليه ونوع يحض مع ذلك على الرغبة فيه أو الرهبة منه
فالأول من جنس الخير المجرد
والثاني من جنس الحث والطلب والإرادة والأمر بالشيء والنهي عنه وذلك كمن علم أن في المكان الفلاني جمادات أو حيوانات أو نبات ليس له فيها غرض لا حب ولا بغض فليس هو بمنزلة من علم أن في المكان الفلاني صديقه وولده ومحبوبه وماله وأهله وأهل دينه وفي المكان الفلاني عدوه ومبغضه ومن يقطع عليه الطريق ويقتله ويأخذ ماله فكذلك دلائل النبوة هي كلها تدل على صدق النبي ثم يعلم ما يخبر به النبي من الأمر والنهي والوعد والوعيد لأنه أخبر عن الله بذلك وهو صادق فيما يخبر به فهذا طريق صحيح عام وأما إثبات نبوة الأنبياء بما فعله بهم وبأتباعهم من النجاة والسعادة والنصرة وحسن العاقبة وما جعله لهم من لسان الصدق وما فعله بمكذبيه ومخالفيه من الهلاك والعذاب وسوء العاقبة وإتباعهم

اللعنة في الدنيا مع عذاب الآخرة فهذا يدل مع صدق الأنبياء على الرغبة في اتباعهم والرهبة من مخالفتهم ففيه العلم بصدقهم والموعظة والوعظ هو أمر ونهي بترغيب وترهيب قال تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به أي يؤمرون به وقال يعظكم الله أن تعودوا لمثله ابدا إن كنتم مؤمنين أي ينهاكم الله أن تعودوا لمثله وهذه الطريق أكمل وأبلغ في حصول المقصود فإنها تفيد العلم بصدقهم والرغبة في اتباعهم والرهبة من خلافهم وتفيد صحة الدين الذي دعوا إليه وسعادة أهله وفساد الدين المخالف لدينهم وشقاوة أهله ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في صلاة العيد

ب قاف واقتربت الساعة لما فيهما من بيان ذلك وسورة قاف كان يقرأ بها في الجمعة فإنها جامعة لإثبات النبوات والمعاد وبيان حال متبعي الأنبياء ومخالفيهم في الدنيا كما قال تعالى فيها كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد

فصل ومما ينبغي ان يعلم أن الله إذا أرسل نبيا وأتى بآية دالة على صدقه قامت بها الحجة وظهرت بها المحجة فمن طالبهم بآية ثانية لم تجب إجابته إلى ذلك بل وقد لا ينبغي ذلك لأنه إذا جاء بآية ثانية طولب بثالثة وإذا جاء بثالثة طولب برابعة وطلب المتعنتين لا أمد له ومعلوم أنه قامت عليه حجة في مسألة علم أو حق من حقوق العباد التي يتخاصمون فيها وقال أنا لا أقبل حتى تقوم عليه حجة ثانية وثالثة كان ظالما متعديا ولم يجب إجابته إلى ذلك ولا يمكن الحكام الخصوم من ذلك بل إذا قامت البينة بحق المدعي حكم له بذلك ولو قال المطلوب أريد بينة ثانية وثالثة ورابعة لم يجب إلى ذلك فحق الله الذي اوجبه على عباده من توحيده والإيمان به وبرسله أولى إذا أقام بينة أوجبت على الخلق الإيمان برسله أن لا يجب إجابة الطالب إلى ثانية وثالثة ثم قد يكون في تتابع الآيات حكمة فيتابع تعالى بين الآيات كما أرسل محمدا صلى الله عليه و سلم بآيات متعددة لعموم دعوته وشمولها فإن الأدلة كلما كثرت وتواردت على مدلول واحد

كان أوكد وأظهر وأيسر لمعرفة الحق فقد يعرف دلالة أحد الأدلة من لا يعرف الآخر وقد يبلغ هذا ما لم يبلغ هذا وقد يرسل الأنبياء بآيات متتابعة وتقسى قلوب الكفار عن الإيمان لتتابع الآيات اية بعد آية لينتشر ذلك ويظهر ويبلغ ذلك قوما آخرين فيكون ذلك سببا لإيمانهم كما فعل بآيات موسى وآيات محمد كما ذكر في التوراة أنه يقسي قلب فرعون لتظهر عجائبه وآياته وكما صد المكذبين عن الإيمان بمحمد حتى يمانعوه ويسعوا في معارضته والقدح في آياته فيظهر بذلك عجزهم عن معارضة القرآن وغيره من آياته فيكون ذلك من تمام ظهور آياته وبراهينه بخلاف ما لو اتبع ابتداء بدون ذلك فإنه قد كان يظن أنهم قادرون على معارضته وكذلك أيضا يكون في ذلك على يقينه وصبره وجهاده ويقين من آمن به وصبرهم وجهادهم ما ينالون به عظيم الدرجات في الدنيا والآخرة وقد تقتضي الحكمة أن لا يرسل بالآيات التي توجب عذاب الاستئصال كما ذكره الله في كتابه من أن الكفار كانوا يقترحون على الأنبياء آيات غير الآيات التي جاؤوا بها فتارة يجيبهم الله إلى ذك لما فيه من الحكمة والمصلحة وتارة لا يجيبهم لما فيه في ذلك من المضرة والمفسدة عند جمهور أهل الملل من المسلمين وغيرهم الذين يقولون إنه يفعل للحكمة ومن لم يعلل أفعاله يرد ذلك إلى

محض المشيئة ويقول إقترن بالمراد والمفسدة عادة وسنة من الله وإن لم يفعل هذا لهذا وقد كان الرسول صلى الله عليه و سلم ربما طلب تلك الآيات رغبة منه في إيمانهم بها فيجاب بأن الآيات لا تستلزم الهدى بل تستلزم إقامة الحجة وتوجب عذاب الاستئصال لمن كذب بها والله تعالى قد يظهر الآيات الكثيرة مع طبعه على قلب الكافر كما فعل بفرعون وأبي لهب وغيرهما لما في ذلك من الحكمة العظيمة كما دل على ذلك القرآن والتوراة وغيرهما وقد بين أنه لا يظهرها لانتفاء الحكمة فيها أو لوجود المفسدة قال تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم عليه ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون وقال تعالى وما منعنا ان نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآياتينا ثمود

الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا بين سبحانه أنما منعه أن يرسل بالآيات إلا تكذيب الأولين بها الذي استحقوا بها الهلاك فإذا كذب بها هؤلاء استحقوا ما استحقه أولئك من عذاب الاستئصال وهذا المعنى مذكور في عامة كتب التفسير والحديث وغيرها من كتب المسلمين وهو معروف بالأسانيد الثابتة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان فقد ذكر المفسرون ما رواه أهل التفسير والحديث والمسند وغيرهم من حديث الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه و سلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال حتى يزرعوا قال فقيل له إن شئت تستأني بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم قال لا بل أستأني بهم فأنزل الله هذه الآية وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون

وروى ابن أبي حاتم وغيره عن مالك بن دينار قال سمعت الحسن البصري في قوله وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون قال رحمة لكم ايتها الأمة أنا لو أرسلنا بالآيات فكذبتم بها اصابكم ما أصاب من قبلكم وفي الإنجيل أن اليهود طلبوا من المسيح آية من السماء فقال لهم المسيح الأمة الفاجرة تطلب آية ولا تعطى إلا مثل أية نونان

وقد كانت الآيات يأتي بها محمد صلى الله عليه و سلم أية بعد آية فلا يؤمنون بها قال تعالى سورة الأنعام الآيات من 114

أخبر سبحانه بأن الآيات تأتيهم وما تأتيهم من آية إلا أعرضوا عنها وأنهم بتكذيبهم الحق سوف يرون صدق ما جاء به الرسول كما أهلك من قبلهم بذنوبهم التي هي تكذيب الرسول فإن الله يقول وما ان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كان مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وأخبر بشدة كفرهم بأنه لو أنزل عليهم كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين وبين سبحانه أنه لو جعل الرسول ملكا لجعله على صورة الرجل إذ كانوا لا يطيقون أن يروا الملائكة في صورهم وحينئذ فكان اللبس يقع لظنهم أن الرسول بشر لا ملك وقال تعالى سورة الإسراء الآيات من 90 95

وهذه الآيات التي اقترحوها لو أجيبوا بها ولم يؤمنوا أتاهم عذاب الاستئصال كما تقدم وأيضا فهي مما لا يصلح الإتيان بها فإن قولهم حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا يقتضي تفجير الينبوع بأرض مكة فيصير واديا ذا زرع والله من حكمته جعل بيته بواد غير ذي زرع لئلا يكون عنده ما ترغب النفوس فيه من الدنيا فيكون حجهم للدنيا لا لله وإذا كان له جنة من نخيل وأعناب يفجر الأنهار خلالها تفجيرا كان في هذا من التوسع في الدنيا ما يقتضي نقص درجته وانخفاض منزلته وكذلك إذا كان له بيت من زخرف والزخرف الذهب وأما إسقاط السماء كسفا فهذا لا يكون إلى يوم القيامة

وهو لم يخبرهم أن هذا لا يكون إلا يوم القيامة فقولهم كما زعمت كذب عليه إلا أن يريدوا التمثيل فيكون القياس فاسدا وأما الإتيان بالله والملائكة قبيلا فهذا لما سأل قوم موسى ما هو دونه أخذتهم الصاعقة قال تعالى وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وأما إنزال الكتاب فقد قال تعالى سورة النساء الآيات 153 161

بين سبحانه أن المشركين سألوه إنزال كتاب وأن أهل الكتاب سألوه ذلك وبين سبحانه أن الطائفتين لا تؤمن إذا

جاءهم ذلك وإنما سألوه تعنتا فقال عن المشركين ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين وذكر عن أهل الكتاب أنهم سألوا موسى أكبر من ذلك وهو رؤية الله جهرة فقال يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا فهم مع هذا نقضوا الميثاق وكفروا بآيات الله وقتلوا النبيين بغير حق إلى أمثال ذلك وأنه سبب ظلمهم وصدهم عن سبيل الله حرم عليهم طيبات أحلت لهم فكان في هذا من الاعتبار لأمة محمد صلى الله عليه و سلم أن هذه الأمة المكذبة بك الذين لا يهتدون

إذا جاءتهم الآيات المقترحة التي اقترحوها لم يك في مجيئها منفعة لهم بل فيها ما يوجب استحقاقهم عقوبة الاستئصال إذا جاءتهم فلم يؤمنوا بها وتغليظ الأمر عليهم فكان أن لا ينزل مثل هذه الآيات الموجبة لعذاب الاستئصال أعظم رحمة وحكمة وقد عرض الله على محمد صلى الله عليه و سلم أن يهلك قومه لما كذبوه فقال بل استأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا كما في الصحيحين عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه و سلم هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد فقال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذا عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما اردت فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلنني فغذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك

وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي وقال إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعثني إليك لتأمرني بما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا أخرجاه ولما طلب من المسيح المائدة كانت من الآيات الموجبة لمن كفر بها عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين قال تعالى إذا قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لأعذبه أحدا من العالمين وكان قبل نزول التوراة يهلك الله المكذبين للرسل بعذاب

الاستئصال عذابا عاجلا يهلك الله به جميع المكذبين كما أهلك قوم نوح وكما أهلك عادا وثمود وأهل مدين وقوم لوط وكما أهلك قوم فرعون وأظهر آيات كثيرة لما أرسل موسى ليبقى ذكرها وخبرها في الأرض إذ كان بعد نزول التوراة لم يهلك أمة بعذاب الاستئصال بل قال تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بل كان بنو إسرائيل لما يفعلون ما يفعلون من الكفر والمعاصي يعذب بعضهم ويبقى بعضهم إذ كانوا لم يتفقوا على الكفر ولهذا لم يزل في الأرض أمة من بني إسرائيل باقية قال تعالى لما ذكر بني إسرائيل وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون وقد قال تعالى من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء اليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين

وكان من حكمته ورحمته سبحانه وتعالى لما أرسل محمدا أن لايهلك قومه بعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم بل عذب بعضهم بأنواع العذاب كما عذب طوائف ممن كذبه بأنواع من العذاب كالمستزئين الذين قال الله فيهم إن كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون فعذب الله كل واحد بعذاب معروف وكالذي دعا عليه النبي صلى الله عليه و سلم أن يسلط عليه كلبا من كلابه فكان يحترس بقومه فجاءه الأسد وأخذه من بينهم فقتله وأمثال ذلك وقد تقدم ذلك وقال تعالى قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا

فأخبر أنه يعذب الكفار تارة بأيدي عباده المؤمنين بالجهاد وإقامة الحدود وتارة بعذاب غير ذلك فكان يعذبهم بمثل هذه الأسباب مما يوجب إيمان أكثرهم كما جرى لقريش وغيرهم فإنهم لما كذبوه لو أهلكهم كما أهلك قوم فرعون ومن قبلهم لبادتا وانقطعت المنفعة به عنهم ولم يبق لهم ذرية تؤمن به بخلاف ما إذا عذب بعضهم بأنواع من العذاب ولو بالهزيمة والأسر وقتل بعضهم كما عذبوا يوم بدر فإن في هذا من إذلالهم وقهرهم ما يوجب عجزهم مع بقائهم والنفوس إذا كانت قادرة على كمال أغراضها فلا تكاد تنصرف عنها بخلاف ما إذا عجزت عن كمال أغراضها فإن ذلك مما يدعوها إلى التوبة كما يقال من العصمة أن لا تقدر فكان ما وقع بهم تعجيزا وزاجرا وداعيا إلى التوبة ولهذا آمن عامتهم بعد ذلك لم يقتل منهم إلا قليل وهم صناديد الكفر الذين كان أحدهم في هذه الأمة كفرعون في تلك الأمة كما روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عن أبي جهل هذا فرعون هذه الأمة وقد ذكر الله لموسى في التوراة إني أقسي قلب فرعون فلا يؤمن بك لتظهر آياتي وعجائبي

بين أن في ذلك من الحكمة انتشار آياته الدالة على صدق أنبيائه في الأرض إذ كان موسى قد أخبر بتكليم الله له وبكتابة التوراة له فأظهر الله من الآيات ما يبقي ذكرها في الأرض وكان في ضمن ذلك من تقسيته قلب فرعون ما أوجب أن أهلكه وقومه أجمعين وفرعون كان جاحدا للصانع منكرا لربوبيته لا يقر به فلذلك أتى من الآيات بما يناسب حاله وأما بنو إسرائيل مع المسيح فكانوا مقرين بالكتاب الأول فلم يحتاجوا إلى مثل ما احتاج إليه موسى ومحمد صلى الله عليه و سلم لم يكن محتاجا إلى تقرير جنس النبوة إذ كانت الرسل قبله جاءت بما ثبت ذلك وقومه كانوا مقرين بالصانع وإنما كانت الحاجة داعية إلى تثبيت نبوته ومع هذا فأظهر الله على يديه من الآيات مثل آيات من قبله وأعظم ومع هذا فلم يأت بآيات الاستئصال التي يستحق مكذبها العذاب العام العاجل كما استحقه قوم فرعون وهود وصالح وشعيب وغيرهم فلهذا يبين الله في القرآن أن هذه الآيات إذا جاءت لا تنفعهم إذ كانوا لايؤمنون بها ولكن تضرهم إذ كانوا يستحقون عذاب الاستئصال إذا كذبوا حينئذ ومع وجود المانع وعدم المقتضي لا يصلح الفعل على قول الجمهور القائلين بالحكمة ومن لم يعلل

فلا يطلب سببا ولا حكمة بل يرد الأمر إلى محض المشيئة قال تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وهو يعلم أن قلوب هؤلاء كقلوب أولئك الأولين فيكذبون بها فيستحقون بها ما استحقه أولئك كقوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وغيرهم قال تعالى كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون فتول عنهم فما أنت بملوم وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وقال تعالى قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم وقال تعالى عن أهل الكتاب يضاهئون قول الذين كفروا من قبل

وقال تعالى أكفاركم خير من أولئك أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ذكر هذا في سورة اقتربت التي ذكر فيها انشقاق القمر وإعراضهم عن الآيات وقولهم هذا سحر مستمر وتكذيبهم واتباعهم أهوائهم فقال تعالى اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ثم قال ولقد جاءهم من الأنبياء ما فيه مزدجر أي من أنباء الغيب وما أخبر به ما فيه مزدجر أي ما يزجرهم عن الكفر إذ كان في تلك الإنباءات بيان صدق الرسول والإنذار لمن كذبه بالعذاب كما عذب المتقدمون ولهذا يقول عقيب

القصة فكيف كان عذابي ونذر أي كيف كان عذابي لمن كذب رسلي وإنذاري بذلك قبل مجيئه يبين صدق قوله الذي أخبرت به الرسل وعقوبته لمن كذبهم ثم ذكر قصة المكذبين كنوح وهود وصالح ولوط إلى قوله ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر فإن قوم فرعون كذبوا بجميع آيات موسى وجميع آيات الأنبياء قبله وكذبوا بالآيات الدالة على وجود الرب وقدرته ومشيئته إذ كانوا جاحدين للخالق منكرين له فكذبوا بآياته كلها ثم قال أكفاركم أيتها الأمة التي أرسل محمد إليها خير من أولائكم الذين كذبوا نوحا وهودا وصالحا ولوطا وموسى أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر

وذلك أن كونكم لا تعذبون مثل ما عذبوا إذا كذبتم إما أن يكون لكونكم خيرا منهم فلا تستحقون مثل ما استحقوا أو لكون الله أخبر أنه لا يعذبكم فتكون لكم براءة في الزبر فتعلمون ذلك بخبره فإن ما يفعله الله تارة يعلم بخبره وتارة يعلم بسنته وحكمته وعدله فإما أن تكونوا علمتم هذا من هذا الوجه أو من هذا الوجه هذا إن نظر إلى ما فعل الله الذي لا طاقة للبشر به وإن نظر إلى قوة الرسول وأتباعه فيقولون نحن جميع منتصر فإنهم أكثر وأقوى كما قال تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا أي اموالا ومنظرا فقال تعالى سيهزم الجمع ويولون الدبر

أخبر بهزيمتهم وهو بمكة في قلة من الأتباع وضعف منهم ولا يظن أحد بالعادة المعروفة أن أمره يظهر ويعلو قبل أن يهاجر إلى المدينة وقبل أن يقاتلهم وكان كما أخبر فإنهم يوم بدر وغيرها هزم جمعهم وولوا الأدبار وتلك سنة الله في المؤمنين والكافرين قال تعالى ولو قاتلكم الذين كفروا لولا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وحيث ظهر الكفار فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله كما قال تعالى ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين وقال أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم فإذا كان من تمام الحكمة والرحمة أن لا يهلكهم هلالء

استئصال كما اهلك المكذبين وكانت الآيات التي اقترحوها موجبة لعذاب الاستئصال كما أهلكت الأمم قبلهم كما قال أكفاركم خير من أولئكم كان أن لا يأتي بموجب عذاب الاستئصال مع إتيانه سبحانه بما يقيم الحجة ويوضح المحجة أكمل في الحكمة والرحمة إذ كان ما أتى به من الآيات حصل به كمال الخير والمنفعة والهدى والبيان والحجة على من كفر وما امتنع منه دفع من عذاب الاستئصال والهلاك والعذاب العام ما أوجب بقاء جمهور الأمة حتى يتوبوا ويؤمنوا ويهتدوا وكان في إرسال محمد صلى الله عليه و سلم لما كان خاتم الرسل من الحكمة البالغة والمنن السابغة ما لم يكن في رسالة رسول غيره صلوات الله عليهم أجمعين

فصل جماع الكلام في النبوة متصل بالكلام في جنس الخبر فإن قول القائل إني رسول الله إليكم خبر من الأخبار وكذلك وصول كلامه وأفعاله وآياته إلينا هو بالأخبار والخبر تارة يكون مطابقا لمخبره كالصدق المعلوم أنه صدق وتارة لا يكون مطابقا لمخبره كالكذب المعلوم أنه كذب وغير المطابق مع التعمد كذب ومع اعتقاد أنه صدق إن لم يكن معذورا كالمفتي بلا اجتهاد يسوغ والمحدث بلا علم يسمى كاذبا أيضا كقوله صلى الله عليه و سلم كذب أبو السنابل بن بعكك وقوله لمن قال

بطل عمل عامر بن الأكوع لما قتل نفسه خطأ كذب من قال ذلك إنه لجاهد مجاهد وقد تكون المطابقة في عناية المتكلم وقد يكون في إفهام المخاطب إذا كان اللفظ مطابقا لما عناه المتكلم ولم يطابق إفهام المخاطب فهذا أيضا قد يسمى كذبا وقد لا يسمى ومنه المعاريض لكن يباح للحاجة وإن لم يحصل به المقصود بل يكون مأمورا بالسكوت عنه إلا مع البينة فقد يسمى كاذبا لقوله تعالى لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم

الكاذبون والمقصود هنا أن الخبر قد يعلم أنه صدق وقد يعلم أنه كذب وقد لا يعلم واحد منهما والعلم بأنه صدق له معنيان

أحدهما أن يعلم أنه مطابق لمخبره من غير جهة المخبر كمن أخبرنا بأمور
يعلم أنها حق بدون خبره
والثاني أن يعلم أن المخبر به صادق فيه وقد يجتمع الأمران بأن يعلم ثبوت ما أخبر به ويعلم أنه صادق فيه وقول محمد إني رسول الله هو من هذا الباب كما سنبينه إن شاء الله وكذلك كونه كذبا قد يراد به أنه على خلاف مخبره وإن كان صاحبه لم يتعمد الكذب وقد يعنى به أن قائله يتعمد الكذب ولهذا كانت الأحاديث المعلوم بطلانها على نوعين تارة يعلم أن صاحبها تعمد الكذب وتارة يكون قد غلط والصحابة لم يعرف فيهم من يتعمد الكذب على النبي صلى الله عليه و سلم وكذلك جمهور التابعين لم يعرف فيهم من يتعمد الكذب ولكن طائفة قليلة من الشيعة عرف أنه كان فيها من يتعمد الكذب بخلاف غيرهم من أهل

الأهواء كالخوارج فإنه لم يكن فيهم من يعرف بالكذب بل يقال هم من أصدق الناس حديثا والرجل الفاسق المعروف أنه يكذب لا بد أن يصدق في بعض الأخبار فلا يكون في الناس من لا يخبر إلا بكذب ولهذا قال تعالى إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا وفي القراءة الأخرى فتثبتوا فأمر بالتبين والتثبت إذا أخبر الفاسق بخبر ولم يأمر بتكذيبه بمجرد إخباره لأنه قد يصدق أحيانا فلما أمر سبحانه بالتبين والتثبت في خبر الفاسق دل ذلك على أنه لا يجوز تصديقه بمجرد إخباره إذ كان فاسقا قد يكذب ولايجوز أيضا تكذيبه قبل أن يعرف أنه قد كذب وإن كان فاسقا لأن الفاسق قد يصدق وهذا كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا

وفي القراءة الأخرى فتثبتوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا فأمرهم بالتبين والتثبت في الجهاد وأن لا يقولوا للمجهول حاله لست مؤمنا يبتغون عرض الحياة الدنيا فيكون إخبارهم عن كونه ليس مؤمنا خبرا بلا دليل بل لهوى أنفسهم ليأخذوا ماله وإن كان ذلك في دار الحرب إذا ألقى السلم وفي القراءة الأخرى السلام فقد يكون مؤمنا يكتم إيمانه كما كنتم أنتم من قبل مؤمنين تكتمون إيمانكم فإذا ألقى المسلم السلام فذكر أنه مسالم لكم لا محارب فتثبتوا وتبينوا لا تقتلوه ولا تأخذوا ماله حتى تكشفوا أمره هل هو صادق أو كاذب

وهذا خبر يتضمن دعوى له فإن المدعي مخبر والمنكر مخبر والشاهد مخبر والمقر مخبر وكما نهاهم عن تكذيب المدعي بلا علم نهاهم عن تصديق المنكر المتهم ورمي البريء بلا حجة وتبرئته وتزكيته بلا علم فقال تعالى سورة 105 113 وكذلك نهاهم عن تصديق القاذف الرامي لمن عرف منه الخبر فقال لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين

إلى قوله ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم وقد قال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وهذا نهي عن التكلم بلا علم وهو عام في جميع أنواع الأخبار وقد يتناول ما اخبر به الإنسان وما قد يعتقده بغير الأخبار من الدلائل والآيات والعلامات ليس له أن يتكلم بلا علم فلا ينفي شيئا إلا بعلم ولا يثبته إلا بعلم ولهذا كان عامة العلماء على أن

النافي للشيء عليه الدليل على ما ينفيه كما أن المثبت للشيء عليه الدليل على ثبوته وحكي عن بعض الناس أنه قال النافي ليس عليه دليل وفرق بعضهم بين العقليات والشرعيات فأوجبه في العقليات دون الشرعيات وهؤلاء اشتبه عليهم النافي بالمانع المطالب فإن من أثبت شيئا فقال له آخر أنا لا أعلم هذا ولا أوافقك عليه ولا أسلمه لك حتى تأتي بالدليل كان هذا مصيبا ولم يكن على هذا المانع المطالب بالدليل دليل وإنما الدليل على المثبت بخلاف من نفى ما أثبته غيره فقال له قولك خطأ والصواب في نقيض قولك ولم يكن هذا كذا فإن هذا عليه الدليل على نفيه كما على ذلك المثبت الدليل على إثباته وإذا لم يأت واحد منهما بدليل كان كلاهما بلا حجة ولهذا كان من أثبت شيئا أو نفاه وطلب منه الحجة فلم يأت بها كان منقطعا في المناظرة وإذا اعترض المعترض عليه بممانعة أو معارضة فأجاب عنها انقطع المعترض عليه وثبت قول الأول وإن لم يجب عن المعارضة انقطع المستدل إذ كان الدليل الذي يجب اتباعه هو الدليل السالم عن المعارض المقاوم ولو أقام دليلا قطعيا فعورض بما لا يفيد القطع كان له أن يقول ما ذكرته يفيد العلم والعلم لا يعارضه الظن والبينات لا تعارض بالشبهات التي هي من جنس كلام السوفسطائية فهو سبحانه نهى عن الكلام بلا علم

مطلقا وخص الكلام على الله بقوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ونهى عن اتباع خطوات الشيطان وأخبر أنه يأمر بالقول على الله بلا علم فقال يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولايهتدون

وكذلك ذم من يجادل ويحاج بلا علم بقوله تعالى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وقال ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير وقال تعالى ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون وقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا يتناول خبر كل فاسق وإن كان كافرا لا يجوز تكذيبه إلا ببينة كما لا يجوز تصديقه إلا ببينة وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية فقال النبي

صلى الله عليه و سلم إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون وهذا الذي دل عليه الكتاب والسنة من إمساك الإنسان عما لا يعلم انتفاؤه وثبوته هو مأثور عن غيره من الأنبياء كما جاء عن المسيح عليه السلام أنه قال الأمور ثلاثة أمر تبين رشده فاتبعوه وأمر تبين فيه فاجتنبوه وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه وعامة عقلاء بني آدم على هذا ولهذا لا يجوز أن يصدق بخبر منقول عن الرسول أو غيره إلا بدلالة تدل على صدقه ولا يجوز أن يكذبه إلا بدلالة تدل على كذبه وعلى هذا العلم والدين وقد تكلم

العلماء وصنفوا كتبا كثيرة في الجرح والتعديل في الرجال والأحاديث فمن الناس من يعرف بالصدق والضبط فهذا هو العدل المقبول خبره ومنهم من يكون صدوقا لكنه قد لا يحفظ ولا يضبط فيقولون في مثل هذا هو صدوق تكلم فيه من قبل حفظه ومنهم من عرف بالكذب وإذا روى الحديث من هو سيىء الحفظ أو من قد يكذب لم يحكموا بذلك الحديث ولم يثبتوه ثم تارة يقوم الدليل على كذبه وتارة يتوقفون فيه لا يعلمون أصدق هو أم كذب ومثل هذا لا يعتقد ولا يثبت ولايحتج به كالشاهد الذي شهد للمدعي وليس بعدل مرضي أو هو خصم أو متهم ظنين فهذا إذا أردت شهادته ولم تقبل لم يكن معنى ذلك الحكم بكذبه أو خطئه بل معنى ذلك أنه لا تقوم به حجة ولا يحكم به لعدم العلم بصدقه لا للعلم بكذبه والمدعى عليه إذا كان صحاب يد أو ذمته بريئة فهو حجة ترجح جانبه وقد ضم إليها الشارع اليمين كما في صحيح

البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى رجال دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه فإذا لم يكن مع المدعي إلا مجرد دعواه فجانب المنكر أقوى من جانبه لأن معه أن الأصل في الأيدي أنها محقة والأصل براءة الذمة ولكن قد يكون المدعي صادقا ولا يكون له حجة وهذا كثير جدا فلا يدفع بمجرد الأصل بل يحلف المنكر فيكون يمينه مع الأصل بحجة فيكون إنكار هذا مقابلا لدعوى هذا كلاهما خبر لم يعلم صدقه فتعارضا وترجح المنكر بالأصل فيبقى على ما كان لا يسلم بحجة للمدعى ما ادعاه بمجرد دعواه ولا تنقطع مطالبته للمدعى عليه لأنه لم يأت حجة تدفعه فإذا حلف المنكر كانت يمينه حجة فصلت الخصومة وقطعت الدعوى وإذا لم يأت المنكر باليمين بل نكل عنها ولا أتى المدعى بحجة وقف للأمر عند أكثر العلماء وعند بعضهم يقضي على المنكر بالنكول فيجعل نكوله إما بدلا لما طلب وإما إقرارا به والأكثرون يقولون بل ترد اليمين على المدعى الطالب الذي يقول إنه يعلم

صدق نفسه فيما ادعاه وأنه عالم بما ادعاه فيقال له احلف وخذ فإن حلف أخذ وإلا دفعا ثم من العلماء من يرد اليمين في عامة الدعاوي ومنهم من يحكم بالنكول وإن كان المنكر يقول لا أعلم ما ادعى به وكل من الطائفتين يذكر آثارا عن الصحابة والمنقول عن الصحابة يدل على التفصيل وهو أظهر الأقاويل وهو أنه إن كان المنكر هو العالم دون المدعي كما إذا ظهر في المبيع عيب وقد بيع بالبراءة فقال المشتري أنا لم أعلم به فإنه هنا يقال له كما قال عثمان بن عفان لابن عمر رضي الله عنهما احلف أنك بعته وما به داء تعلمه فإن حلف وإلا قضي عليه بالنكول كما قضى عثمان على ابن عمر بالنكول

وإن كان المدعي يقول إنه يعلم ما ادعى به كمن ادعى على آخر دينا أو عينا فقال أنا لا أعلم ما ادعيته احلف وخذ فإن لم يحلف لم يعط شيئا والبينة في الدعاوي عند أكثر العلماء هي ما يبين الحق ويظهره ويوضحه كالدليل والآية والعلامة فمتى ترجح جانب احدهما حلف مثل أن يقيم المدعي شاهدا فإنه يحلف مع شاهده ويقضي به بشاهد ويمين كما مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا قول أكثر العلماء ومنهم من يقول اليمين دائما في

جانب المدعى عليه وكذلك لو كان في دعوى القتل لوث ولطخ وشبهة وهو علامات ترجح جانب المدعي فإن أولياء المقتول يحلفون خمسين يمينا ويقضي لهم بذلك عند أكثر العلماء كما مضت بذلك السنة وكذلك في اللعان إذا حلف الزوج وشهد أربع شهادات الله إنه لمن الصادقين ووكدها بالخامسة فقد أقام بينة على دعواه فإن التعنت المرأة وشهدت أربع شهادات مؤكدة بالخامسة أنه كاذب

تعارضت البينتان والشهادتان فلم يحكم بقول واحد منهما لا يحكم بأنه قاذف ولا يحكم بأنها زانية وإن نكلت فلم تحلف فأكثر العلماء يقولون يحكم بأنها زانية وتعذب على ذلك كما دل عليه القرآن لأنه اجتمع شهادة الزوج ونكولها عن المعارضة كما اجتمع في القسامة العلامة والأيمان وكما اجتمع الشاهد واليمين وكما اجتمع في جانب المنكر الأصل واليمين فهذا ونحوه مما جاءت به الشريعة وبسطه له موضع آخر والمقصود هنا أن الخبر إن قام دليل على صدقه أو كذبه وإلا بقي مما لم يصدقه ولم يكذبه وأهل العلم بالحديث إذا قالوا هذا الحديث رواه فلان وهو مجروح أو ضعيف أو سيىء الحفظ أو ممن لم تقبل روايته ونحو ذلك فهو كقول القائل هذا الشاهد مجروح أو سيىء الحفظ أو ممن لا تقبل شهادته وهذا يفيد أنه لا يحكم به لا يفيد الحكم بأنه كاذب بل قد يمكن أنه صادق فلا يقال إنه كاذب إلا بحجة

وإن قالوا عن الحديث إنه ضعيف فهذا مرادهم أي أنه لم يثبت ولا يحتج به ولا يجوز الحكم بصدقه ليس مرادهم أنه بمجرد ذلك يحكم بكذب الناقل وينفي ما نقله ويقول إن هذا لم يكن من غير علم منا بهذا النفي بل إن قام دليل على انتفاء ما أخبر به حكمنا بذلك وإلا سكتنا لم ننفه ولم نثبته فهذا أصل يجب معرفته فإن كثيرا من الناس لا يميز بين ما ينفيه لقيام الدليل على نفيه وبين ما لم يثبته لعدم دليل إثباته بل تراهم ما لم يعلموا إثباته فيكونون قد قفوا ما ليس لهم به علم وقالوا بأفواههم ما ليس لهم به علم وهذا كثير من أهل الاستدلال والنظر وأهل الاسناد والخبر فمن الأولين طوائف يطلبون الدليل على ثبوت الشيء فإذا لم يجدوه نفوه ومعلوم أن عدم العلم ليس علما بالعدم وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود إلا إذا كان الطالب ممن يمكنه ذلك إما بعلم او ظن غالب فمن هؤلاء من يقول في صفات الله ما لم يقم دليل قطعي على إثباته وإلا وجب القطع بنفيه لأن صفات الله لا تثبت إلا بالقطع وخالفهم في ذلك جمهور الناس وقالوا كما لا يجوز القطع في الإثبات إلا بدليل قطعي فلا يجوز القطع في النفي إلا بدليل قطعي على النفي فلما لم يجز أن نثبت إلا بعلم فلا ننفي إلا بعلم

والنافي عليه الدليل كما على المثبت الدليل قال هؤلاء هذه المسائل مبناها على القطع فإنه لا يجوز لنا التكلم فيها بالظن فإذا لم يقم القاطع قطعنا بالنفي فقيل لهم هذا حجة عليكم فإنكم إذا نفيتم ما لم تعلموا نفيه تكلمتم بالظن وإذا قطعتم من غير قاطع كنتم قد تكلمتم في القطعيات بلا قاطع نفيا كان الكلام أو إثباتا وليس يعلم في الأدلة الشرعية أوالعقلية أن كل ما لم يقم دليل سمعي أو عقلي على إثباته فإنه يجب عليكم نفيه والقطع بنفيه بل تكلمكم بهذا تكلم بلا علم ومن هنا أخطأ كثير من النظار في نفي كثير من صفات الرب وأحكامه وأفعاله حيث لم يعلموا دليلا قطعيا يثبتها فنفوها وكانت ثاتبة في نفس الأمر وقد يكون عند غيرهم دليل قطعي يثبتها ولو قدر عدم علم الناس كلهم بها فلله علم لم يعلمه العباد ولله اسماء استأثر بها في علم الغيب عنده لم يعلمها الناس وليس إذا لم يعلم ثبوت الصفة يجب أن يعلم انتفاؤها بل قد يظن ثبوتها أو انتفاؤها وقد يشك

في ذلك فلا يعلم ولا يظن واحد منهما والواجب على الإنسان أن يقول لما يعلمه أعلمه ولما يظنه أظنه ولما يشك فيه أشك فيه والله تعالى لم يوجب على الإنسان أن يقطع بانتفاء شيء إن لم يعلم أنه منتف فمن قال وجب علينا القطع بانتفاء فقد غلط وهذا بخلاف ما يناقض صفات الإثبات فإن هذا يجب نفيه عن الله فقد علم بالأدلة القطعية أن الله موصوف بصفات الكمال المناقضة للنقص مثل إنه حي قيوم بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه غني عن كل ما سواه بكل وجه فكل من قال قولا يناقض هذا علم أنه باطل كالذين قالوا إن له شريكا أو ولدا أو أنه يشفع عنده الشفعاء بغير إذنه ونحو ذلك مما يناقض الكمال المعلوم له وما كان من الأمور مستلزما لوازم لو كان موجودا فإنه يستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم كالأمور التي لو كانت موجودة لوجب أن تنقل نقلا متواترا شائعا فإنه يستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم كما لو قال قائل إنه بني بين العراق والشام أو بين الحجاز

والشام مدينة أعظم من بغداد والموصل وأصبهان ومصر دورها ثلاثة أيام ونحو ذلك فإنه يعلم كذبه فإن هذا مما تتوفر همم الناس على نقله لو كان موجودا فإذا لم يستفض هذا وينتشر علم أن المخبر به كاذب وكذا لو ادعى مدع أنه يوم الجمعة أو العيد قتل الخطيب ولم يصل الناس يوم الجمعة ولم يستفض هذا وينتشر أو ادعى أنه قتل بعض ملوك الناس ولم يستفض هذا ولم ينتشر أو ادعى أنه بعث نبي بين المسيح ومحمد صلى الله عليه و سلم أو بعد محمد جاء بكتاب مثل القرآن أو الإنجيل واتبعه خلق كثير وكذبه خلق كثير فإنه يعلم كذب هذا إذ مثل هذا لا بد أن يستفيض وينتشر وكذلك لو ادعى أن قريشا أو غيرهم عارضوا القرآن وجاؤا بكتاب يماثل القرآن وأنهم أظهروا ذلك وأبطلوا به حجة محمد صلى الله عليه و سلم فهذا مما يقطع بكذبه لأن مثل ذلك لو وقع لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله وكذلك لو ادعى

أن محمدا أمر بحج بيت غير البيت العتيق أو أوجب صوم شهر غير شهر رمضان أو أوجب صلاة سادسة وقت الضحى أو أمر بالآذن والإقامة لغير الصلوات الخمس أو أنه قال علانية بين الناس لأبي بكر أو العباس أو علي أو غيرهم هذا هو الخليفة من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا أو أن عليا دعا إلى نفسه في خلافة الثلاثة وأمثال هذه الأمور التي لو وقعت لكان لها لوازم يستدل بانتفاء اللازم على انتفاء الملزم ثم هذه اللوازم منها جلي ومنها خفي يعرفه الخاصة فلهذا كان أهل العلم بأحوال الرسول يقطعون بكذب أحاديث لا يقطع غيرهم بكذبها لعلمهم بلوازم تلك الأحاديث وانتفاء لوازمها كما يقطع من يعلم مغازي النبي صلى الله عليه و سلم أنه لم يقاتل في غزوة تبوك وأن غزوات القتال إنما كانت تسعة مغازي وأنه لم يغز بنفسه إلى اليمن ولا العراق ولا جاوز تبوك بعد النبوة وأنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع ولم يصم إلا تسع رمضانات وهكذا يعلمون أن فلانا أخطأ في هذا الحديث على فلان لأنهم قد علموا من وجوه ثابتة أن ذلك الحديث إنما رواه على صورة معينة فإذا روى غير الثقة ما يناقض ذلك علموا بطلان ذلك وأنه أخطأ أو تعمد الكذب مثل ما يعلمون كذب من زاد في قول النبي

صلى الله عليه و سلم لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل فزاد بعض الناس فيه أو جناح لما رأى بعض الأمراء عنده حمام فعلموا أنه كذب تقربا إلى ذلك الأمير وكما يعلمون كذب من روى أن مسيلمة وقومه كانوا مؤمنين بالله ورسوله وإنما قاتلهم الصديق لكونهم لم يعطوا الزكاة فإنهم قد علموا بالتواتر أن مسيلمة ادعى النبوة واتبعه قومه على ذلك وأنه كتب إلى النبي صلى الله عليه و سلم في حياته يقول من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله فكتب إليه النبي صلى الله عليه و سلم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ويعلمون أنه

كان له مخاريق وأنه ظهر كذبه من وجوه متعددة وأن أبا بكر الصديق والصحابة قاتلوه على كذبه في دعوى النبوة وقاتلوا قومه على ردتهم عن الإسلام واتباعهم نبيا كاذبا لم يقاتلوهم على كونهم لم يؤدوا الزكاة لأبي بكر وكذلك الأسود العنسي الذي ادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه و سلم وقتل في حياته كل منهما عرف كذبه

بتكذيب النبي الصادق والمصدوق لهما ومما ظهر من دلائل كذبهما مثل الأخبار الكاذبة التي تناقض النبوة ومثل الإتيان بقرآن مختلق يعلم من سمعه أنه لم يتكلم الله به وإنما هو تصنيف الآدميين كما قال أبو بكر الصديق لهم لما تابوا من الردة وعادوا إلى الإسلام أسمعوني قرآن مسيلمة فلما أسمعوه إياه قال ويحكم أين يذهب بعقولكم إن هذا كلام لم يخرج من إل أي لم يخرج من رب ومثل ما كان يفعله ويأمر به من الفجور والكذب ومثل اطلاع أخص الناس به على أنه كان يكذب ويستعين بمن يختلق له الكذب ومثل أنه كان يعدهم بأن جبريل أخبره أنه سينصر فلما حقت الحقائق قال لهم إنه لا جبريل لكم فقاتلوا عن أحسابكم إلى أمثال هذه الأمور التي تدل على كذب الكاذب

فالصدق له دلائل مستلزمة له تدل على الصدق والكذب له دلائل مستلزمة تدل على الكذب ولا يجوز الحكم بصدق مخبر ولا بكذب مخبر إلا بدليل وما لم يعلم صدقه ولا كذبه ولا ثبوته ولا انتفاؤه فإنه يجب الإمساك عنه ويقول القائل هذا لم أعلمه ولم يثبت عندي ولا أجزم به ولا أحكم به ولا أستدل به ولا احتج به ولا أبني عليه مذهبي واعتقادي وعملي ونحو ذلك لا يقول هذا أقطع بكذبه وانتفائه وإن كنت أقطع أن من أثبته تكلم بلا علم فالقطع بجهل مثبته المعتقد له غير القطع بانتفائه فمن قطع فيه بلا دليل يوجب القطع قطعنا بجهله وضلاله وخطئه وإن لم يقطع بانتفاء ما أثبته في نفس الامر كمن حكم بشهادة مجروح فاسق أمر الله بالتثبت في خبره فمن حكم وقطع بخبره من غير دليل يدل على صدقه حكمنا بأن هذا متكلم حاكم بلا علم وإن لم يحكم بكذب الشاهد المخبر لكن لا يجوز للإنسان أن ينفي علم غيره وقطع غيره من غير علم منه بالأسباب التي بها يعلم ويخبر فإنه كثيرا ما يكون للإنسان دلائل كثيرة تدل على صدق شخص معين وثبوت أمر معين وإن كان غيره لا يعرف شيئا من تلك الدلائل وهذا أيضا مما يغلط فيه كثير من الناس ينظرون في أنفسهم

ومبلغ علمهم فإذا لم يجدوا عندهم ما يوجب العلم بذلك الامر جعلوا غيرهم كذلك من غير علم منهم بانتفاء أسباب العلم عند ذلك الغير وقد يقيمون حججا ضعيفة على أنه غيرهم لا يعلم ذلك مثل ما يفعله كثير من الناس بالنظر والاستدلال والاعتبار ومن لم يساوهم في نظرهم وأدلتهم وقوة أذهانهم لا يعلم ما علموه وكثير من الناس يعلم بالأخبار والنقل والاستدلال بذلك أمورا كثيرة ومن لم يشاركهم فيما سمعوه وفيما عرفوه من أحوال المخبرين والمخبر وكمال معرفتهم بذلك لا يعلم ما علموه فلهذا كان لأهل النظر العقلي طرق لا يعرفها أهل الأخبار ولأهل الأخبار السمعية طرق لا تعرف بمجرد العقول ولهذا كان لهؤلاء من الطرق الدالة على صدق الرسول ونبوته والاستدلال على ذلك أمور كثيرة لا يعرفها أهل الحديث والأخبار وعند هؤلاء من الاحاديث المتواترة عندهم والآيات المستفيضة عندهم ما يعلمون بها صدق الرسول وإن كان أولئك لا يعرفونها بل طرق معرفة الصانع وتصديق رسوله قد يكون لكل قوم منها طريق أو طرق لا يعلمها آخرون وهم مشتركون في الإقرار بالله وبرسوله ولكل قوم طرق وأدلة غير طرق الآخرين وأدلتهم بل ما تواتر عندهم من أحوال الرسول قد يكون المخبرون

لهؤلاء الذين تواتر عندهم ما أخبروهم به من آياته وشرائعه غير المخبرين لأولئك كما كان الصحابة المخبرون لأهل الشام بآيات الرسول وبالقرآن وشرائع الإسلام غير الصحابة المخبرين لأهل العراق ولكن خبر هؤلاء يصد خبر هؤلاء وإن كان كل من الطائفتين لا يعلم أعيان أولئك الذين أخبروا أولئك وهكذا سائر العلوم قد يكون الذي علم هؤلاء الفقه أو النظر أو النحو أو الطب غير الذي علم هؤلاء وإن اشترك الجميع في جنس الفقه والنظر والنحو والطب وعلم ما علمه هؤلاء من الأعيان والأنواع مع أن طريق هؤلاء ليس طريق أولئك وإن اشتركوا في النوع وعامة ما يعلمه الناس بالحس هو من هذا الباب فإن الإنسان يحس بأحوال نفسه من جوعه وعطشه وشبعه وريه وحبه وبغضه وشهوته ونفرته وألمه ولذته بل يحس بأعضائه كبطنه وفرجه ولا يحس بأحوال غيره ولكن يشتركان في الجنس العام فيشتركون في جنس الإحساس بجوعهم وشبعهم وقد يشتركون في غير ما يحسونه كاشتراكهم في رؤية الشمس والقمر والهلال والكواكب وقد غلط في مثل هذا طائفة من المتكلمين في المنطق اليوناني فزعموا أن العلوم التجريبية والتواترية والحدسية إن جعلوها قسما

غير التجريبية فإن فيهم من يجعل الحدسية نوعا من التجريبية ومنهم من يجعلها جنسا آخر فزعم هؤلاء ان هذه العلوم مختصة لا تقوم بها الحجة على من لم يعلمها دون الحسيات والوجديات والعقليات وليس كذلك بل كما أن هذه تكون مشتركة تارة ومختصة أخرى فكذلك الحسيات فإن كل أهل زمان ومكان يعلمون بالحس من أحوال ذلك المكان والزمان وأحوال أهله ما لا يشركهم فيه غيرهم وكذلك الوجديات فإن من ابتلى بالغرائب في الأمور السياسية والبدنية يعلم منها ما لا يشركه فيه غيره وكذلك العقليات فإن من الناس من يكون له أصل يقيس به الفرع فيعلم القدر المشترك الذي هو الحد الأوسط ويعلم من تعلق الحكم به ما لم يعلمه غيره فأجناس العلوم وطرقها منها ما هو مختص ومنها ما هو مشترك والمشترك منه ما يشترك فيه جنس بني آدم ومنه ما يشترك فيه نوع منهم وطائفة فهذا أصل جامع ينبغي معرفته لمن تكلم في هذا الباب

فصل وإذا كان جنس من يخبر قد يكون كاذبا وقد يكون صادقا فقد علم أنه ليس كل واحد أخبر بخبر يصدق مطلقا ولا يكذب مطلقا فلم يقل أحد من العقلاء إن كل خبر واحد أو خبر كل واحد يكون صدقا او يفيد العلم ولا أنه يكون كذبا بل الناس يعلمون أن خبر الواحد قد يقوم دليل على صدقه فيعلم أنه صدق وإن كان خبر واحد وقد يقوم الدليل على كذبه فيعلم أنه كذب وإن أخبر به الوف إذا كان خبرهم على غير علم منهم بما أخبروا به أو عن تواطئ منهم على الكذب مثل إخبار أهل الإعتقادات الباطلة بالباطل الذي يعتقدونه وأما إذا أخبروا عن علم منهم بما أخبروا به فهؤلاء صادقون في نفس الأمر ويعلم صدقهم تارة بتوافق أخبارهم من غير مواطأة ولو كانا اثنين فإن الاثنين إذا أخبرا بخبر طويل أسنداه إلى علم وقد ما لم يقطع بثبوته ولا انتفائه قد يتفق في العادة تماثلهما فيه في الكذب أو الغلط علم أنه صدق

وقد يعلم صدق الخبر الواحد بأنواع من الدلائل تدل على صدقه ويعلم صدق خبر الواحد بقرائن تقترن بخبره يعلم بها صدقه وتلك الدلائل والقرائن قد تكون صفات في المخبر من علمه ودينه وتحريه الصدق بحيث يعلم قطعا أنه لا يتعمد الكذب كما يعلم علماء أهل الحديث قطعا أن ابن عمر وعائشة وأبا سعيد وجابر بن عبد الله وأمثالهم لم يكونوا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم فضلا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأمثالهم بل يعلمون علما يقينيا أن الثوري ومالكا وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل والبخاري وأبا زرعة وأبا داود وأمثالهم لا يتعمدون الكذب في الحديث وقد تكون الدلائل صفات في المخبر به مختصة بذلك الخبر أو بنوعه يعلم بها أن ذلك المخبر لا يكذب مثل ذلك الخبر كحاجب

الأمير إذا قال بحضرته لعسكره أن الأمير قد أذن لكم في الانصراف أو أمركم أن تركبوا إذا غدا أو أمر عليكم فلانا ونحو ذلك فإنهم يعلمون أنه لا يتعمد الكذب في مثل هذا وإن لم يكن بحضرته فكيف إذا كان بحضرته وإن كانوا قد يكذبونه في غير هذا وقد تكون الدلائل سماع من شاركه في العلم بذلك الخبر وإقراره عليه فإن العادة كما قد تمنع التواطؤ على الكذب فإنها قد تمنع التواطؤ على الكتمان وإقرار الكذب والسكوت وعن إنكاره فما توافرت الهمم والدواعي على ذكره والخبر به يمتنع أن يتواطأ أهل التواتر على كتمانه كما يمتنع في العادة أن تحدث حادثة عظيمة تتوفر المهمم والدواعي على نقلها في الحج أو الجامع أو العسكر وحيث توجب العادة نقل الحاضرين لما عاينوه ثم لا ينقل ذلك أحد وإقرار الكذب والسكوت على رده أعظم امتناعا في العادة من الكتمان فإن الإنسان في العادة قد تدعوه نفسه إلى أن يسكت على ما رآه وسمعه فلا يخبر به ولا تدعوه نفسه إلى أن يكذب عليه ويخبر عنه بما يعلم أنه كذب عليه فيقره ولا ينكره إذ كانت عادة الناس إلى

تكذيب مثل هذا أبلغ من عادتهم بالإخبار به وكذلك إذا كذب في قصة وبلغ ذلك من شاهدها فتوفر الهمم على تكذيب هذا أعظم من توفرها على إخبارهم بما وقع ابتداء فإذا كانت من القضايا التي يمتنع السكوت عن إظهارها فالسكوت عن تكذيب الكاذب فيها أشد امتناعا وقد تكون الدلائل صفات فيه تقترن بخبره فإن الإنسان قد يرى حمرة وجهه فيميز بين حمرته من الخجل والحياء وبين حمرته من الحمى وزيادة الدم وبين حمرته من الحمام وبين حمرته من الغضب وكذلك يميز بين صفرته من الفزع والوجل وبين صفرته من الحزن والخوف وبين صفرته من المرض فكما أن سحنته ووجهه يعرف بها أحوال بدنه الطبيعية من أمراضه المختلفة حتى أن الأطباء الحذاق يعلمون حال المريض من سحنته فلا يحتاجون مع ذلك إلى نبض وقارورة وكذلك تعرف أحواله النفسانية هل هو فرح مسرور أو محزون مكروب ويعلم هل هو محب صديق مريد للخبر

أو هو مبغض عدو مريد للشر كما ... قيل تحدثني العينان ما القلب كاتم ... والعين تعرف من عيني محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها ...
وكما قيل ... ولا خير في الشحناء والنظر الشزر

ثم إذا تكلم مع ذلك دل كلامه على أبلغ مما يدل عليه سيما وجهه كما قال تعالى عن المنافقين ولو نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول فأخبر أنه لا بد أن يعرف المنافقين في لحن القول وأن معرفتهم بالسيما معلقة بالمشيئة والمنافق الكاذب يقول بلسانه ما ليس في قلبه فبين أنه في لحن قوله يعلم أنه كاذب وقال في حق المؤمنين سيماهم في وجوههم من أثر السجود وقال في حق الكافر عتل بعد ذلك زينم أي له زنمة من الشر أي علامة يعرف بها

وقد روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه وقد بسطنا الكلام على هذه في مسألة الإيمان وبينا ان ما يقوم بالقلب من تصديق وحب الله ورسوله وتعظيم لا بد أن يظهر على الجوارح وكذلك بالعكس ولهذا يستدل بانتفاء اللازم الظاهر على انتفاء الملزوم الباطن كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إلا أن في الجسد مضغة إذا

صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد الا وهي القلب وكما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن رآه يعبث في الصلاة لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه ومن هذا الباب قوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله وقوله ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء وقوله ولو ارادوا الخروج لأعدوا له عدة

فإن الإرادة التي في القلب مع القدرة توجب فعل المراد والسفر في غزوة بعيدة لا يكون إلا بعده ومن هذا الباب أن عثمان قال لعمر لما شاوره في المرأة التي أقرت بالزنا إني أراها تستهل به استهلال من لا يعرف أنه حرام فإنه لما رآها تجهر بما فعلته وتحكيه من غير اكتراث تبين له أنها لم تعتقد تحريمه وأنه يذم وتعاقب عليه ووافقه عمر وعلي وغيرهما على ذلك والرجل الصادق البار يظهر على وجهه من نور صدقه وبهجة وجهه سيما يعرف بها وكذلك الكاذب الفاجر وكلما طال عمر الإنسان ظهر هذا الأثر فيه حتى إن الرجل يكون في صغره جميل الوجه فإذا كان من أهل الفجور مصرا على ذلك يظهر عليه في آخر عمره من قبح الوجه ما أثره باطنه وبالعكس وقد روى عن ابن عباس أنه قال إن للحسنة لنورا في القلب وضياء في الوجه وقوة في البدن وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة لظلمة في القلب وسوادا في الوجه ووهنا في البدن وبغضة في قلوب الخلق وقد يكون الرجل ممن لا يتعمد الكذب لكن يعتقد اعتقادات

باطلة كاذبة في الله أو في رسله أو في دينه أو عباده الصالحين وتكون له زهادة وعبادة واجتهاد في ذلك فيؤثر ذلك الكذب الذي ظنه صدقا وتوابعه في باطنه ويظهر ذلك على وجهه فيعلوه من القترة والسواد ما يناسب حاله كما قال بعض السلف لو أدهن صاحب البدعة كل يوم بدهان إن سواد البدعة لفي وجهه وهذه الأمور تظهر يوم القيامة ظهورا تاما قال تعالى ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون وقال تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون

قال ابن عباس وغيره تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة والمقصود أن ما في القلوب من قصد الصدق والمحبة والبر ونحو ذلك قد يظهر على الوجه حتى يعلم ذلك علما ضروريا من أبلغ العلوم الضرورية وكذلك ما فيها من قصد الكذب والبغض والفجور وغير ذلك والإنسان يرافق في سفره من لم يره قط إلا تلك الساعة فلا يلبث إذا رآه حدة وسمع كلامه أن يعرف هل هو مأمون يطمئن إليه أو ليس كذلك وقد يشتبه عليه في أول الأمر وربما غلط لكن العادة الغالبة أنه يتبين ذلك بعد لعامة الناس وكذلك الجار يعرف جاره والمعامل يعرف معامله ولهذا لما شهد عند عمر بن الخاطب رجل فزكاه آخر قال هل أنت جاره الأدنى تعرف مساءه وصباحه قال لا قال هل عاملته في الدرهم والدينار الذين تمتحن بهما أمانات الناس قال لا قال هل رافقته في السفر الذي ينكشف فيه أخلاق الناس قال لا قال فلست

تعرفه وروي أنه قال لعلك رأيته يركع ركعات في المسجد وذلك أن المنافق قد يظهر الصلاة فمن لم يخبره لا يعرف باطن أمره كما قيل ... ذئب ... تراه مصليا ... فإذا مررت به ركع ... يدعو وجل دعائه ... ما للفريسة لا تقع وإذا الفريسة خليت ... ذهب التنسك والورع ...
فإذا كان كذلك فمن نبأه واصطفاه للرسالة كان قلبه من أفضل القلوب صدقا وبرا ومن افترى على الله الكذب كان قلبه من شر القلوب كذبا وفجورا كما قال عبد الله بن مسعود إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لرسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب

العباد فاتخذهم لصحبة نبيه وإقامة دينه فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المؤمنون سيئا فهو عند الله سيىء وقال عبد الله بن مسعود من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم وإذا كان من أعظم بل أعظم أهل زمانه صدقا وبر فإنه لا بد أن يظهر على فلتات لسانه وصفحات وجهه ما يناسب ذلك كما أن الكاذب الكافر لا بد أن يظهر على وجهه وفلتان لسانه ما يناسب ذلك وهذا يكون تارة حين إخباره بما يخبر به وتارة موجودا في غير تلك الحال فإن الرجل إذا جاء وقال إن السلطان أو الأمير أو الحاكم أو الشيخ أو فلانا أرسلني إليكم بكذا فإنه قد يقترن بنفس إخباره من كيفيته وحاله ما يعلم به أنه صادق أو كاذب وإن كان معروفا قبل ذلك

بالصدق أو الكذب كان ذلك دلالة أخرى وقد يكون ممن يكذب ولكن يعرف أنه صادق في ذلك الخبر دع من يستمر على خبر واحد بضعا وعشرين سنة مع أصناف الناس واختلاف أحوالهم ومما ينبغي أن يعلم أن الناس تختلف أحوالهم في المعرفة والخبرة والنظر والاستدلال في جميع المعارف فقد يتفطن الإنسان لدلالة لا يتفطن لها غيره وقد يتبين له ما يخفى على غيره حتى الأنبياء يتفاضلون كما قال تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما والمقصود أن العلم بصدق الصادق وكذب الكاذب كغيرهما من المعلومات قد يكون ضروريا وقد يكون نظريا وهو ليس من الضروريات الكلية الأولية كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين بل من العلم بالامور المعينة كالعلم بحمرة الخجل وصفرة الوجل وعدل العادل وظلم الظالم ونحو ذلك مما يعرفه الخبير بذلك علما ضروريا وإذا كان استدلاليا فالمعرفة بالعلم لا تحصل بمجرد وجود

الدليل في نفسه بل لا بد من معرفة القلب به والناس متفاوتوت في ذلك والدليل أبدا هو ما استلزم المدلول فكل ما كان مستلزما للشيء كان دليلا عليه لكن لا بد من معرفته ومعرفة أنه مستلزم ثم إذا حصل العلم صار ضروريا وقد يكون ضروريا بلا واسطة دليل معين وليس العلم بالمعينات كالعلم بصدق هذا وكذب هذا مما يحتاج فيه إلى القياس الشمولي فإن ذلك إنما يفيد بتوسط قضية كلية والمعينات قد لا يحتاج فيها إلى ذلك وإن كان لا بد فيها من خبرة بحال ذلك المعين وإذا كان القائل إني رسول الله إما أن يكون من خيار الناس وأصدقهم وأبرهم وأفضلهم وإما أن يكون من شرار الناس وأكذبهم وأفجرهم والفرق بين هذين يكون من وجوه كثيرة لا تكاد تنضبط كل منها يعرف به صدق هذا وكذب هذا وكانت المعرفة بذلك قد تحصل عند سماع خبر هذا وخبر هذا رؤية وجهه وسماع كلامه وما يلزم ذلك ويقترن به من بهجة الصدق ونوره ومن ظلمة الكذب وسواده وقبحه يتبين بذلك أن كثيرا من الناس يحصل لهم علم ضروري بأن

هذا النبي صادق وهذا المتنبي كاذب بمثل ذلك من قبل أن يروا خارقا للعادة وقول بعض المتكلمين ما لم يكن خارقا للعادة لا اختصاص للنبي به فلا يدل فيقال له لفظ خرق العادة لفظ مجمل وإن تعين دعوى النبوة صدقا وكذبا ليس هو أمرا معتادا ولم يقع هذا إلا في أفراد من العالم وهو أقل بكثير من الأخبار بالمغيبات فإن هذا أكثر في الوجود من دعوى النبوة إذ كل نبي يخبر بالمغيبات وليس كل من أخبر بها كان نبيا وهؤلاء الذين يقولون هذا يقول أكثرهم أو كثير منهم إن دعوى النبوة والتحدي والمعجز مجموعها هو المختص بالنبي وإلا فهم يقولون إن ما كان معجزة لنبي جاز أن يظهر على يدي ولي أو ساحر وإنما يفرق بينهما التحدي وعدم المعارضة ومنهم من ينكر هرق العادة أن يظهر علىخ يد غير نبي ومنهم من لا يفرق بين الولي والساحر إلا ببر هذا وفجور هذا ومنهم من يطرد ذلك في النبي لا سيما متفلسفة اليونان فإنهم من أجهل

الناس بأمر النبوة إذ كانوا لم يأخذوها من العلم بصدق الأنبياء وبما جاؤوا به من الآيات والبراهين والعلم بصفاتهم وإنما أخذوها من القياس على المنامات فجوزا فيها مثل ما يجوز على النائم من الأحلام والتخيل وما يصيب أهل المرة السوداء مما يشبه ذلك وهذا هو الموجود في عامة أتباع أرسطو ولكن متأخروهم كابن سينا ضم إلى ذلك تصرفه في هيولي العالم لما بلغه من خوارقهم الفعلية التي لم يكن يعرفها أولئك إذ كان علم أرسطو هو ما كان يعلمه قومه من اليونان وهم أمة أولاد يافث لم يكن

فيهم ما في أولاد سام كهود وصالح وغيرهما ثم أولاد إبراهيم الخليل الذي وعده الله أن يجعل في ذريته النبوة والكتاب حتى يكون علم النبوة مشهورا فيهم وقد جعل الله تعالى من زمن الخليل في ذريته النبوة والكتاب كما أخبر بذلك في القرآن وهم لم يكونوا من ذريته ولا كانوا خبيرين بأحوال ذريته وقد ذكر طائفة منهم كمحمد بن يوسف العامري وصاعد بن صاعد الأندلسي أن أساطينهم خمسة

ثم أربعة ابندقلس ثم فيثاغورس ثم سقراط ثم أفلاطن قدموا الشام واستفادوا من بني إسرائيل ولهذا لم يكن من هؤلاء من قال بقدم العالم بخلاف أرسطو قالوا فإنه لم يقدم الشام وذكر هؤلاء كمحمد بن يوسف العامري وغيره أن أول من لقب بالحكمة لقمان وأن ابندقلس استفاد منه ومن أتباع داود عليه السلام

فإنه كان في زمن داود وإذا كان هذا قول هؤلاء النظار وأهل الكلام والفلسفة فمجرد خارق العادة عندهم ليس وحده مستلزما للنبوة حتى يكون وحده دليلا بل لا بد أن ينضم إلى ذلك التحدي وعدم المعارضة ولهذا لما اختلف قول طائفة منهم كأبي الحسن وأتباعه هل يجوز ظهور الخارق على يدالكاذب فقيل لا يجوز لأنه يعلم النبوة فيمتنع أن يتخلف عنه مدلوله كسائر الأدلة وقيل بل يجوز ولكن الله لا يفعله ثم قيل لأنه يستلزم عجزه عن تصديق الرسول إذ لا طريق إليه إلا المعجز عندهم وقيل بل هو مقدور ممكن ولكن نحن نعلم اضطرارا أنه لا يفعله مثل كثير مما يمكن في العادة ونعلم أن الله لا يفعله وجميع من جمع بين القولين وقال مجموع ما يدل على النبوة وهو الخارق السالم عن المعارض يمتنع أن يكون لغير نبي بخلاف جنس الخارق فقيل له هذا الامتناع إما أن يكون عاديا وإما أن يكون لاستلزامه العجز عن تصديق النبي وذلك ممتنع فإذا كا ممتنعا لاستلزامه العجز عن تصديق النبي وذلك ممتنع فإذا كان ممتنعا لاستلزامه أمرا ممتنعا وإذا كان انفلات

العادة ليس عندك ممتنعا فلا بد لك من ذلك الجواب وهو القول بأنا نعلم ضرورة أن ذلك لم يكن ثم إذا علمت أن هذا علم ضروري وأن العلم بدلالتها على الصدق أمر ضروري كالمثل الذي ضربته في إرسال الملك رسولا وقول رسوله إن كنت صادقا فغير عادتك بقيامك ثم قعودك ففعل ذلك عقب سؤال الرسول فإن ذلك يوجب العلم الضروري بصدق الرسول وقيل لك الملك تعلم عادته ويعلم أنه فعل ذلك للتصديق والرب عندك لم يخلق شيئا لشيء فقلت بل يخلق شيئا مقارنا لشيء كالعاديات وهذا منها فقيل لك العادات قد تكررت فقلت قد نعلم ذلك بلا تكرر وجعلت ذلك من باب الدلالة الوضعية كدلالة اللفظ على قصد المتكلم وقلت قد نعلم قصده اضطرار من غير سبق مواضعة وهذه العلوم الضرورية التي ذكرت أنه يعلم بها صدق الرسول وإن كانت حقا فجمهور الناس يقولون إنك لم تقر بلوازمها من كونه يفعل لأجل كذا ويقولون القول بأنه خلق المعجزة لقصد التصديق مع القول بأنه لا يخلق شيئا لأجل شيء تناقضا فقلت لا يشترط في العلم الضروري العلم بأنه يفعل كذا لأجل كذا فقيل

لك هب أنه كذلك لكن لا يحصل العلم الضروري مع العلم بما يناقضه والمقصود أن ما يذكره هؤلاء وأمثالهم من النظار بل وعامة الناس هم فيما يثبتونه من العلم والحقائق المعلومة اسد منهم وأصوب فيما ينفونه فإن الإنسان لما يثبته أعلم منه بما ينفيه وشهادته على الإثبات أقوى من شهادته على النفي وإن كان النفي قد يكون معلوما لكن غلط الناس فيما ينفونه ويكذبون به أكثر من غلطهم فيما يثبتونه ويصدقون به ولهذا قال تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ولهذا تجد من سلك طريقا من الطرق إما في إثبات العلم بالصانع وإما في العلم بالنبوة أو العلم بالمعاد أو غير ذلك واحد يقول لا طريق إلا هذا الطريق يخطىء في النفي اكثر من خطئه في الإثبات ومنهم هؤلاء فإنهم قد ينفون من العلم والطرق ما يعلمه غيرهم بالاضطرار ويثبتون ما يقولون أنه معلوم بالاضطرار وقد يكون غيرهم اصوب فيما يثبته منهم فيما ينفونه بل وفيما يثبتونه

ولهذا الذين اتفقوا على أنه لا طريق إلا المعجزات تنوعوا في وجه دلالتها فيثبت هؤلاء وجها يستدلون به وينفون طريق غيرهم وبالعكس فإذا قالوا ما سوى الخارق للعادة ليس يختص بالنبي فلا يدل على نبوته قيل لهم الدليل هو الذي يكون مستلزما للمدلول يلزم من تحققه تحقق المدلول ولفظ الخارق للعادة فيه إجمال كما تقدم وحينئذ فنفس إنباء الله للنبي واصطفائه لرسالته وإقداره على التلقي من الملك هو من خوارق العادات وذلك من المعجزات التي أعجز الله الخلق أن يفعلوه وهو مختص بالأنبياء وهذا الوصف أجل وأعظم قدرا من غيره من الخوارق والمستلزم لهذا الخارق لا يكون إلا خارقا وهو الدليل إذ يلزم من ثبوت الملزوم ثبوت اللازم ومن انتفاء اللازم انتفاء الملزوم والمعتاد الذي يوجد بدون النبوة لا يكون دليلا وأما ما لا يوجد إلا وجدت النبوة فهو دليل فقد تبين أن كل ما يدل على صدق الرسول وهو خارق للعادة يكون آية ونبوة على صدقه وأما ما كان خارقا للعادة ولا يستلزم النبوة فليس يكون دليلا وقد يكون الشيء معتادا بدون النبوة ومع النبوة يكون خرقا

للعادة بحيث يكون وجوده مع النبوة خرق للعادة بخلاف وجوده مجردا عنها لأن النبوة خرق للعادة فلا يكون مستلزما لها إلا خارق للعادة فقول القائل لا يعلم صدقه إلا بالمعجزة وهو الخارق للعادة إن أراد به المعنى العام وهو ما يستلزم صدقه بطل تخصيصه ذلك بما يخلقه منفصلا عنه من الآيات وإن أراد بذلك نوعا مخصوصا مع اشتراك الجميع في الدلالة ظهر بطلان نفيه وأما ما يوجد بدونها كنا يوجد معها كالأمور التي تكون للصادق في دعوى النبوة والكاذب في دعوى النبوة فهذه لا تدل وما يظهره الله على يد النبي من الأنواع التي بها يعرف صدقه ليس فيها شيء يكون للكاذب بل الكاذب لا يكون له من الأدلة إلا ما يستلزم كذبه فكل ما يدل على كذب الكاذب لا يدل على صدق الصادق وبالعكس فإن دليل الكذب مستلزم له ودليل الصدق مستلزم له وهما ضدان يمتنع ان يكون مدعي النبوة نبيا صادقا ومتنبئا كاذبا والضدان لا يجتمعان فيمتنع أن يكون شيء واحد يدل على الضدين وهذه القاعدة ينتفع بها في مواضع

منها أن كثيرا من الناس إذا رأوا الكاذب وسمعوا كلامه تبين لهم كذبه تارة بعلم ضروري وتارة بعلم استدلالي وتارة بظن قوي وكذلك النبي الصادق إذا رأوه وسمعوا كلامه فقد تبين لهم صدقه بعلم ضروري أو نظري وقد يكون أولا بظن قوي ثم يقوى الظن حتى يصير يقينيا كما في العلوم بالأخبار المتواترة والتجارب فإن خبر الأول يفيد نوعا من الظن ثم يقوى بخبر الثاني والثالث حتى يصير يقينا وهذا الطريق سلكها طوائف من الناس وممن نبه على ذلك القاضي عياض قال القاضي عياض إذا تأمل المتأمل المنصف ما قدمنا من جميل أثره وحميد سيره وبراعة علمه ورجاحة عقله وحلمه وجملة كماله وجميع خصاله وشاهد حاله وصواب مقاله لم يمتر في صحة نبوته وصدق دعوته قال وقد كفى هذا غير واحد في إسلامه والإيمان به فروينا عن الترمذي وابن قانع وغيرهما بأسانيدهم أن عبد الله بن سلام قال لمل قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة جئته لأنظر إليه فلما استبنت وجهه

عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب رواه غير واحد كعبد الوهاب الثقفي ومحمد بن جعفر وابن أبي عدي ويحيى بن سعيد عن عوف بن أبي جميلة

الأعرابي عن زرارة بن أوفى عن عبد الله بن سلام وعن أبي رمثة البلوي قال أتيت النبي صلى الله عليه و سلم ومعي لي ابن لي فأريته فلما رأيته قلت هذا نبي الله وروى مسلم في صحيحه وغيره عن ابن عباس أن ضمادا قدم

مكة وكان من أزد شنؤة وكان يرقى من هذا الريح فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون فقال لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي قال فلقيه فقال يا محمد إني ارقي من هذه الريح وإن الله يشفي على يدي من شاء الله فهل لك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد فقال أعد علي كلماتك هؤلاء فأعادهن رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث مرات قال فقال لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت بمثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن قاموس البحر هات يدك أبايعك على الإسلام فبايعه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى قومك قال وعلي قومي الحديث

وقال جامع بن شداد كان منا رجل يقال له طارق فأخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم بالمدينة فقال هل معكم شيء تبيعونه قلنا هذا البعير قال بكم قلنا بكذا وكذا وسقا من تمر فأخذ بخطامه وسار إلى المدينة فقلنا بعنا رجل لا ندري من هو ومعنا ظعينة فقالت أنا ضامنة لثمن البعير رأيت وجه رجل مثل القمر ليلة البدر لا يخيس بكم فأصبحنا فجاء رجل بتمر فقال انا رسول رسول الله إليكم يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر وتكتالوا حتى تستوفوا ففعلنا

وفي خبر الجلندي ملك غسان لما بلغه رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعوه إلى الإسلام فقال الجلندي والله لقد دلني على هذا النبي الأمي أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له وأنه يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر ويفي بالعهد وينجز بالموعود وأشهد أنه نبي وقال نفطويه في قوله تعالى

يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار هو مثل ضربه الله لنبيه يقول يكاد منظره يدل على نبوته وإن لم يتل قرآنا كما قال ابن رواحة ... لو لم يكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر ...
قلت وإيمان خديجة وأبو بكر وغيرهما من السابقين الاولين كان قبل انشقاق القمر وقبل إخباره بالغيوب وقبل تحديه بالقرآن لكن كان بعد سماعهم القرآن الذي هو نفسه آية مستلزمة لصدقه ونفس كلامه وإخباره بأني رسول الله مع ما يعرف من أحواله مستلزم لصدقه إلى غير ذلك من آيات الصدق وبراهينه بل خديجة قالت له كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتقري الضيف

وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فكانت عارفة بأحواله التي تستلزم نفي كذبه وفجوره وتلاعب الشيطان به وأبو بكر كان من أعقل الناس وأخيرهم وكان معظما في قريش لعلمه وإحسانه وعقله فلما تبين له حاله علم علما ضروريا أنه نبي صادق وكان أكمل أهل الأرض يقينا علما وحالا وكذلك هرقل ملك النصارى لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه و سلم يدعوه إلى الإسلام سأل عن عشرة خصال كما في الصحيحين عن ابن عباس قال حدثني أبو سفيان بن حرب من فيه إلى في قال انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله علي وسلم قال فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى هرقل قال وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال هرقل هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قالوا نعم

قال فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قال أبو سفيان فقلت أنا فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي فدعا بترجمانه فقال قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه قال فقال ابو سفيان وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت عليه ثم قال لترجمانه سله كيف حسبه فيكم قال قلت هو فينا ذو حسب قال فهل كان من آبائه ملك قلت لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال قلت لا قال ومن اتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم قلت بل ضعفاؤهم

قال أيزيدون أم ينقصون قلت لا بل يزيدون قال فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له قال قلت لا قال فهل قاتلتموه قلت نعم قال فكيف كان قتالكم إياه قال قلت يكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه قال فهل يغدر قلت لا ونحن منه على مدة ما ندري ما هو صانع فيها قال فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه قال فهل قال هذا القول أحد قبله قال قلت لا قال لترجمانه قل له إني سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب وكذا الرسل تبعث في أحساب قومها وسألتك هل كان من آبائه من ملك فزعمت أن لا فقلت لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم فقلت بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا فقد عرفت أنه لم يكن ليدع

الكذب على الناس ثم يذهب ويكذب على الله وسألتك هل يرتد احد منهم عن دينه بعد ان يدخل فيه سخطة له فزعمت أن لا فكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب وسألتك هل يزيدون أم ينقصون فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم وسألتك هل قاتلتموه فزعمت أنكم قاتلتموه فيكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله فزعمت أن لا فقلت لو قال هذا القول أحد قبله قلت رجل أئتم بقول قيل قبله ثم قال بم يأمركم قلت يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف قال إن يكن ما تقول فيه حقا إنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي ثم دعا

بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني ادعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أرباب من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وفي رواية فماذا يأمركم به قال يأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وقال فهذه صفة نبي وما استدل به ملك النصارى هرقل من العلم بصفاته هو

استدلال على عينه فإن الناس في النبوة على درجات منهم من يحتاج إلى أن يعلم جنس النبوة فيصدق بجنس الرسل من البشر لا يكذب بالجنس كما كذب بذلك من كذب من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ولهذا يقول تعالى كذبت قوم نوح المرسلين كذبت عاد المرسلين كذبت ثمود المرسلين لأن تكذيبهم لم يكن لشخص واحد بل كانوا مكذبين لجنس الرسل وهؤلاء يخاطبهم الله في السور المكية كقوله تعالى وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس فاحتج بإنزال كتاب موسى لما تواتر في خبره من الآيات الباهرات الدالة على صدقه والإنجيل تبع للتوراة في الكتاب للتوراه ثم قال وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه

لما قام من الآيات الدالة على نزوله ولهذا يذكر سبحانه في السور المكية من تثبيت أمر الرسل وآياتهم وبراهينهم وحسن عاقبتهم ومن ضلال مخالفيهم وجهلهم وغيهم وخذلانهم وسوء عاقبتهم ما فيه عبرة ومن الناس من يقر بالرسل في الجملة لكن لا يؤمن بما يجب من حقيقة إرسالهم كالملاحدة وأهل البدع الذين يعظمون الأنبياء مع اعتقادهم في الباطن ما يناقض بعض ما جاءوا به لشبهات انعقدت في قلوبهم ظنوها علوما عقلية وهي مناقضة لما أخبرت به الرسل فيحتاجون إلى ان يوفقوا بينهما وهؤلاء يشبهون الذين قال الله فيهم سزرة النساء الآيات 60 63 وقد اخبر الله أنه جعل للأنبياء من يعاديهم من الإنس والجن فقال تعالى

سورة لأنعام الآيات 112 116 وقال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا وهؤلاء الذين عندهم ما يناقض بعض ما أخبرت به الرسل هم ثلاثة اصناف
أهل الخييل من الملاحدة المتفلسفة والباطنية الذين يقولون إن الرسل أخبروا من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر بما يخالف الحق في نفس الأمر ليخيلوا إلى الجمهور ما ينتفعون به ويعدون هذا من فضائل الرسل وقد بسط الرد على هؤلاء في غير موضع

وأهل التحريف والتأويل الذين يؤلون كلامهم على ما يخالف مرادهم ويزعمون أنهم أرادوا ذلك المعنى مع انه ليس في كلامهم ما يدل على إرادة ذلك المعنى بل كلامهم يدل على إرادة خلافه
وأهل التجهيل الذين يقولون ذلك الكلام ليس له معنى يعلمه الرسل ولا غيره وإنما يعلمه الله وحده وهذان القولان يقول بكل منها طوائف معظمين للرسل وقد تبين فسادهما في غير هذا الموضع وأما من قال إن الرسل وغيرهم يعلمون المعنى الذي بينه الله لهم بكلامه ولكن استأثر الله بعلم امر آخر لا يعلمونه كما استأثر بعلم غيب الساعة فهذا قول السلف والأئمة وبسط هذا له موضع آخر والمقصود هنا أن الكلام في النبوات تارة في جنسها وتارة في شخص النبي المعين وهرقل ملك الروم لم يكن محتاجا إلى الإيمان بجنس النبوات فإنه كان من أهل الكتاب وأهل الكتاب يقرون بجنس النبوة فإنهم يقرون نبوة نوح والخليل وموسى وأنبياء بني إسرائيل والنصارى تقر مع ذلك بالمسيح والإنجيل والذين يحتاجون إلى معرفة النبي المعين نوعان
نوع عرفوا أنه يبعث نبي وقد يعرفون بعض نعوته فيحتاجون أن يعرفوا عينه وهرقل وأمثاله من أهل الكتاب كانوا من هذا النوع وكانوا يعلمون أن نبيا سيبعث وإنما كانت حاجتهم أن يعرفوا

هل هو هذا النبي المذكور ام غيره فيكون ما يحتاجون إليه من دلائل صدقه أيسر ما يحتاج إليه من لا يؤمن بالرسل او لا يعرف أن نبيا سيبعث ومن كان يعلم جنس الرسل ولا يدري هل يبعث نبي أم لا يحتاج إلى تعلم أن هذا المعين هل هو من جنس الأنبياء الصادقين أو من جنس المتنبئين الكاذبين وهذا يعرف بما يخصه من آيات صدقه وباعتبار ما جاء به الأنبياء قبله فإن أصول ذلك مما لا يمكن اختلاف الأنبياء فيه وهي الأمور التي لا تقبل النسخ كالإخبار عن الله وملائكته وكتبه ولاسله واليوم الآخر فهذا مما لا يمكن اختلاف الأنبياء فيه إذ كان كل ما يخبر به النبي فهو صدق والأخبار الصادقة لا تتناقض ولا تقبل النسخ ولكن قد يكون بعض الأنبياء أعلم ببعض ذلك من بعض وفي كلام بعضهم من الأخبار ببعض ذلك ما ليس في كلام بعض وما أخبر به محمد صلى الله عليه و سلم هو أكمل وأكثر مما أخبر به موسى والمسيح صلوات الله وسلامه عليهم وقد يظن بعض الغالطين تناقض بعض أخبار الأنبياء كما يظن بعض الغالطين معارضة العقل لما أخبروا به وهذا ممتنع بل لا بد أن يكون المعارض العقلي خطأ ليس بمعقول صحيح أو السمعي لم يثبت عنهم لفظه أو دلالته وكذلك الأخبار لا بد أن يكون أحد

الخبرين كذبا أو غير دال على مناقضة الخبر الآخر وأما الأصول الجامعة كالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وبر الوالدين والصدق والعدل وتحريم الأجناس الأربعة وهي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق والإشراك بالله وأن يقال عليه غير الحق وذلك مثل ما ذكره في سورة الأنعام والأعراف وبني إسرائيل وقد تنازع الناس في مثل هذا هل يمكن نسخه وتنوع الشرائع به على قولين فمن جوز أن يأمر الله بكل شيء وينهى عن كل شيء رد ذلك إلى محض المشيئة لا إلى صفات تقتضي الأمر بهذا دون هذا فإنهم جوزوا دخول النسخ في هذا وتنوع الشرائع فيه كما يقوله جهم بن صفوان والأشعري ومن وافقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وإن كانوا يقولون إنه لم يقع فيه نسخ وأما جمهور الناس من السلف والخلف فإنهم لا يجوزون دخول النسخ في هذا ولا تنوع الشرائع فيه ولهذا كان دين الأنبياء واحدا كما قال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم

وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه وقال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وهذا مبسوط في موضع آخر

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9