كتاب : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

إن قلتم إن المسيح بعض كلمات الله فحينئذ لله كلمات أخر غير المسيح فاجعلوا كل كلمة خلقا كما جعلتم الكلمة المتحدة بالمسيح خالقا إذ كنتم تقولون الكلمة هي الخالقة وهي المخلوق بها فقولوا عن سائر كلمات الله إنها خالقة مخلوق بها وحينئذ فيتعدد الخالق بتعدد كلمات الله
وإذا كانت كلمات الله لا نهاية لها كان الخلق خالقون لا نهاية لهم وهذا غاية الباطل والكفر
وبالجملة أي شيء فسروا به الكلمة تبين به فساد قولهم ولكنهم يتكلمون بما لا يفهمونه ويقولون الكذب والكفر المتناقض وإنما عندهم تقليد من أضلهم كما قال تعالى
قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
الوجه الرابع أن يقال لهم ما لم يعلم بالمعقول فليس في المنقول ما يدل عليه وأنتم لا تدعون أنكم عرفتموه بالعقل لكن بما نقل عن الأنبياء وأنتم قد فسرتم كلمته بعلمه وحكمته وروح القدس بحياته فمن أي نبي تنقلون أن علم الله وحكمته مولودة منه وأنه يسمى ابنا وأن علمه أو حكمته خلق كل شيء وأن حياته خلقت كل شيء وأن علمه خالق وإله ورب وحياته خالقة وإله ورب وليس

في الأنبياء من سمى شيئا من صفات الرب ولدا له ولا ابنا ولا ذكر أن الله ولد شيئا من صفاته فدعواكم أن صفته القديمة الأزلية ولدت مرتين مرة ولادة قديمة أزلية وولادة حادثة من فرج مريم كذب معلوم على الأنبياء لم يقل أحد منهم إن الله ولد ولا إن شيئا من صفاته ولده لا ولادة روحانية ولا ولادة جسمانية
وهذا وإن أبطل قول الملكية فهو لقول اليعقوبية أشد إبطالا وهو مبطل أيضا لقول النسطورية فإنهم يقولون بالأمانة التي فيها أنه مولود قديم أزلي فإن طوائفهم الثلاثة متفقون على الأمانة التي ابتدعوها في زمن قسطنطين بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من المسيح
الوجه الخامس قولكم بعث كلمته الخالقة فهبطت كلمة الله الخالقة التي بها خلق كل شيء ليست مخلوقة ولكن مولودة منه ولم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط
من قال من الأنبياء أنه لم يكن بلا روحه قط أو أن روحه صفة له قديمة أو أنها حياته
وكلام الأنبياء كله ينطق بأن روح الله وروح القدس ونحو ذلك هو ما ينزله على الأنبياء كالوحي والتأييد أو الملائكة فليست روح الله صفة قائمة به ولا غيرها ولكنها أمر بائن عنه
الوجه السادس أنه إذا كان قد بعث كلمته الخالقة وهبطت والتحمت من مريم فهو نفسه رب العالمين هبط والتحم من مريم أم

رب العالمين نفسه لم يهبط ولم يلتحم من مريم وإنما هبط والتحم الكلمة التي أرسلها
فإن قلتم هو نفسه هبط والتحم كان الأب الوالد للكلمة هو الذي هبط والتحم وكان الأب هو الكلمة وهذا مناقض لأقوالكم
وإن قلتم إن المبعوث الهابط الملتحم ليس هو الأب بل هو كلمة الرب فقد جعلتموه الخالق فيكون هناك خالقان خالق أرسل فهبط والتحم وخالق أرسل ذلك ولم يهبط ولم يلتحم وقد أثبتم خالقا ثالثا وهو الروح وهذا تصريح بثلاثة آلهة خالقين
الوجه السابع أنه قال إن الله بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء فمع كونه جعلها خالقة جعل أنه بها خلق كل شيء والذي خلق بها كل شيء هو خالق فجعلها خالقة وجعل خالقا آخر وجعل أحد الخالقين قد خلق الآخر به كل شيء وجعل هذا الخالق قد بعث ذاك الخالق الذي به خلق كل شيء وجعل الكلمة الخالقة احتجبت بإنسان مخلوق خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس خلقا جديدا
وإذا كانت هي الخالقة بمسرة الأب الخالق على الخلق فالأب لم يخلقه بل سر بذلك وروح القدس وازرت ذلك والخالق خلق الخلق
ومعلوم أنه إذا كان للخالق من يوازره على الخلق لم يكن مستقلا بالخلق بل يكون له فيه شريك
فهذه الكلمة تارة يقولون هي الخالقة وتارة يقولون خلق بها

الخالق فخلقت وتارة يقولون إن روح القدس وازرها في الخلق فهذه أربعة أقوال ينقض بعضها بعضا
فإن كان الله هو الخالق لكل شيء فالخالق واحد فليس هناك خالق آخر ولا شريك له في الخلق
والخالق إذا خلق الأشياء بقوله كن لم يكن كلامه خالقا ولو كانت كل كلمة إلها خالقا لكان الآلهة الخالقون كثيرين لا نهاية لهم
ثم قال ليست بمخلوقة ولكن مولودة منه من قبل كل الدهور
فيقال من من الأنبياء سمى شيئا من صفات الله مولودا قديما أزليا فكيف يكون مولود قديم أزلي وهل يعقل مولود إلا محدثا
وأيضا فإذا جاز أن تكون الكلمة التي يفسرونها بالعلم أو الحكمة مولودة منه فكذلك حياته مولودة منه وإن كانت حياته منبثقة منه فكلمته منبثقة منه
فجعل إحدى الصفتين الأزليتين مولودة من الأزل غير منبثقة والأخرى ليست مولودة من الأزل بل منبثقة مع كونه باطلا فهو متناقض وتفريق بين المتماثلين
فإنه إن جاز أن يقال للصفة القديمة الأزلية إنها مولودة منه فالحياة مولودة

وإن جاز أن يقال إنها منبثقة فالكلمة منبثقة
وأيضا فكون الصفة إلها خالقا وإثبات ثلاثة آلهة خالقين مع قولهم إن الخالق واحد تناقض آخر
وأيضا فقوله ولم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط إن إراد بروحه حياته فهذا صحيح لكن من من الأنبياء سمى حياة الله روحه ومن الذي جعل الله روحا قديمة أزلية وهل هذا إلا افتراء على الأنبياء
وليس لقائل أن يقول إن هذا نزاع لفظي فلا اعتبار به لأن هذا تفسير لكلام الأنبياء فهم الذين تكلموا بروح الله وروح القدس ونحو ذلك ولم يرد أحد بذلك حياة الله قط
فتسمية حياة الله روحا وتفسير مراد الأنبياء بذلك افتراء على الله ورسله
الوجه الثامن قوله فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم الثابت الذي لم يزل ولا يزول فالتحمت من مريم العذراء وهي جارية طاهرة مختارة من نسل داود اصطفاها الله لهذا التدبير من نساء العالمين وطهرها بروح القدس روحه الجوهرية التي جعلها أهلا لحلول كلمة الله الجوهرية بها فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس خلقا جديدا
فيقال إن الكتب دلت على أن المسيح تجسد من روح القدس ومن مريم العذراء البتول وهكذا هو في الأمانة التي لهم وبهذا أخبر القرآن حيث أخبر في غير موضع أنه نفخ في مريم من روحه مع إخباره أنه أرسل إليها روحه
قال تعالى

سورة مريم الآيات 16 23
وقال تعالى
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين
وقال تعالى
ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين
فالكتب الإلهية يصدق بعضها بعضا
لكن دعواكم أن روح القدس روح الله الجوهرية أي حياته القديمة الأزلية أمر مخالف لجميع كتب الله وأنبيائه
فلم يفسر أحد منهم روح القدس بصفة الله لا جوهرية ولا غير

جوهرية ولا قديمة ولا غير قديمة ولا أرادوا بذلك حياة الله
فقولكم هذا تبديل لكلام الله وكلام أنبيائه ورسله كما أنكم في قولكم إن كلمة الله أو علمه أو حياته مولودة منه وإن صفته القديمة الأزلية هي ابنه مما حرفتم فيه كلام الأنبياء فلم يرد أحد منهم هذا المعنى بهذا اللفظ قط ولم يطلق في جميع الكتب التي عندكم لفظ الابن المولود إلا على محدث مخلوق لا على شيء قديم أزلي لا موصوف ولا صفة لا علم ولا كلام ولا حكمة ولا غير ذلك
وكل ولادة في الكتب الإلهية التي عندكم وغيرها فهي ولادة حادثة زمانية وكل مولود فهو محدث مخلوق زماني ليس في الكتب ولادة قديمة أزلية ولا مولود قديم أزلي كما أنكم ذكرتم ذلك في امانتكم وغيرها
فلو كان ما ذكرتموه ممكنا في العقول لم يجز أن تجعلوه موجودا واقعا وتقولوا الأنبياء أرادوا ذلك إلا أن يكونوا بينوا أن ذلك مرادهم
فإذا كان كلامهم صريحا في أنهم لم يريدوا ذلك والمعقول الصريح يناقض ذلك كان ما قلتموه كذبا على الله وعلى أنبيائه ورسله ومسيحه وكان باطلا في المعقول وكنتم ممن قيل فيه
وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير

ثم يقال أنتم قلتم إن الكلمة الخالقة هبطت فالتحمت من مريم واحتجبت بإنسان مخلوق خلقته لنفسها وقلتم إن مريم حملت بالإله الخالق وولدته الذي هو الابن
فإذا جوزتم أن تكون مريم هي أما للخالق الذي هو الابن حملته وولدته فلم لا يجوز أن تكون زوجة للخالق الذي هو الأب مع أن الخالق التحم من مريم وقد قلتم لم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط ولا كانت الكلمة برية منه قط ولا من روحه الخالقة ولا من جوهره
فجعلتم الروح خالقة والله الذي هو الأب خالقا والمسيح قد تجسد من الروح الخالقة ومن مريم فكما أن مريم أمه فالروح الخالقة بمنزلة أبيه
وأيضا فمريم لها اتصال بالأب وبروح القدس وكلاهما أب للمسيح على ما ذكرتموه
فإذا كانت مريم متصلة بكل واحد ممن جعلتموه أبا للمسيح وقلتم إن الخالق التحم من مريم فهذا أبلغ ما يكون من جعل الخالق زوج مريم
ومهما فسرتم به اتحاد اللاهوت بناسوت المسيح المخلوق منها كان تفسير التحام اللاهوت بناسوت مريم حتى يصير زوجا لمريم أولى وأحرى وليس في ذلك نقص ولا عيب إلا وفي كون اللاهوت ابن مريم ما هو أبلغ منه في النقص والعيب
ومعلوم أن أم الإنسان أعلى قدرا عنده من زوجته وأن تسلطه

على زوجته أعظم منه على أمه فإن الرجل مالك للزوجة قوام عليها والمرأة أسيرة عند زوجها بخلاف أمه
فإذا جعلتم اللاهوت الخالق القديم الأزلي ابنا لناسوت مريم بحكم الاتحاد مع كونه خالقا لها بلاهوته وابنا لها بناسوته ولم يكن هذا ممتنعا عندكم ولا قبيحا فأن تكون مريم صاحبة له وزوجة وامرأة بحكم الالتحام بالناسوت أولى وأحرى
وإن كان هذا ممتنعا وقبيحا فذاك أشد امتناعا وقبحا
ولهذا ذهب طوائف من النصارى إلى أن مريم امرأة الله وزوجته وقالوا أبلغ من ذلك حتى ذكروا شهوته للنكاح
ولقد قال بعض أكابر عقلاء الملوك ممن كان نصرانيا إنهم كانوا إذا نبهوا على قولهم إن عيسى بن الله لم يفهم من ذلك إلا أن الله أحبل أمه وولدت له المسيح ابنه كما يحبل الرجل المرأة وتلد له الولد فيكون قد انفصل من الله جزء في مريم بعد أن نكحها وذلك الجزء الذي من الله ومن مريم ولدته مريم كما تلد المرأة الولد الذي منها ومن زوجها وقد قالت الجن المؤمنون
وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا

فنزهوه عن هذا وهذا وهؤلاء الجن المؤمنون أكمل عقلا ودينا من هؤلاء النصارى
وقال تعالى
بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم
فقوله أنى يكون له ولد تقديره من أين يكون له ولد ف أنى في اللغة بمعنى من أين ذلك وهذا استفهام إنكار
فبين سبحانه أنه يمتنع أن يكون له ولد ولم تكن له صاحبة مع أنه خالق كل شيء وأن هذا الولد يمتنع أن يكون وأن هذا الامتناع مستقر في صريح المعقول
ثم إذا كانت الكلمة التي هي الخالق المخلوق به قد حلت في جوف مريم والتحمت من مريم وخلقت منها إنسانا هو المسيح خلقته لنفسها واحتجبت به واتحدت به فهل كان خلقها لهذا الإنسان قبل الاتحاد والاحتجاب أم حين ذلك
فإنه بعد ذلك ظاهر الامتناع محال أنها بعد الاحتجاب به والاتحاد خلقته بل لا بد أن تكون خلقته قبله أو معه
فإن كان معه لزم كون المخلوق متحدا بالخالق دائما لم تمر

عليه لحظة إلا وهو متحد به
فإذا أمكن أن يقارن المخلوق خالقه وعندهم أنه أقام تسعة أشهر حملا كعامة الناس وقد ذكر ذلك سعيد بن البطريق هذا فإذا كان كذلك كان الرب متحدا بالمضغة والجماد الذي لا روح فيه
وإذا جاز عليه هذا جاز أن يتحد بسائر الجمادات وهذا على قول الأكثرين الذين يقولون إن الروح إنما نفخت فيه بعد أربعة أشهر ومن قال أنها نفخت فيه من حين أخذ الجسد من مريم وهذا يشبه قول جمهور النصارى الذين يقولون إن المسيح مات وصلب وفارقته الروح الناطقة المنفوخة فيه والإله المتحد به لم يفارقه أبدا فإنهم يقولون إنه من حين اتحد بناسوت المسيح لم يفارقه بل هو الآن متحد به وهو في السماء قاعد عن يمين أبيه وذلك القاعد هو الخالق القديم والأب هو الإله الخالق القديم الأزلي وهما مع ذلك إله واحد
والمقصود هنا أنهم يقولون باتحاد اللاهوت بجسد لا روح فيه قبل النفخ وبعد الموت إلى أن قام من قبره فعادت الروح إليه وحينئذ

لم يظهر من تلك المضغة شيء من العجائب
وهم يستدلون على إلهية المسيح بالعجائب مع أنه كان الإله متحدا به قبل أن يظهر العجائب وحينئذ فلا يلزم من عدم ظهور العجائب من شيء الجزم بأن الرب لم يتحد به مع إمكان الاتحاد
ويلزم أن كل جامد وحي ظهرت منه العجائب أن يكون ذلك دليلا على أن الرب اتحد به
وحينئذ فعباد العجل أعذر من النصارى وإن كان من عباد الأصنام من يقول إن الصنم خلق السماوات والأرض فهو أعذر من النصارى لأن ظهور العجائب من الحيوان الأعجم والجماد أعظم من ظهورها من الإنسان الناطق لا سيما الأنبياء والرسل فإن الأنبياء والرسل معروفون بظهور العجائب على أيديهم فإذا ظهرت على يد من يقول إني نبي مرسل كانت دليلا على نبوته لا على إلهيته
والمسيح كان يقول إني نبي مرسل كما ذكر ذلك في الإنجيل في غير موضع فأما الحيوان الأعجم والجماد فلا يجوز أن يكون نبيا
فإن جاز الاتحاد بالمضغة والجسم المقبور الذي لا روح فيه فاتحاده بالعجل وبالصنم أولى وحينئذ فخوار العجل عجيب منه
فاستدلال عباد العجل بذلك على أنه إله خير من استدلال النصارى على إلهية المضغة إن قدر ظهور شيء من العجائب التي قد يستدلون بها

وإن كانت تلك لا تدل إلا على نبوته تسليما
الوجه التاسع قوله فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها وقوله فكانت مسكنا في حلوله واحتجابه للطفها عن جميع ما لطف من الخلائق كلهم
يقال لهم أولا من أين لك أن روح الإنسان ألطف من جميع المخلوقات وأنها ألطف من الملائكة والروح الذي قال الله فيه
يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن
وإنها ألطف من الروح التي نفخ في آدم منه بقوله
ونفخت فيه من روحي
وبتقدير أن تكون ألطف فأنت لا تقول إن الاحتجاب والاتحاد كان بروح الإنسان مجردة بل بالجسد الناسوتي الدموي الغليظ وتقول إن الخالق التحم من مريم العذراء فتجعل الخالق قد التحم من لحم مريم ومن رحمها الذي هو لحم ودم

وهذه أجساد كثيفة بل جمهورهم يقول إنه اتحد بجسد لا روح فيه قبل النفخ وبعد الموت وقبل أن يقوم من قبره
وحينئذ فقولك فكانت مسكنا لله في حلوله واحتجابه للطفها عن جميع ما لطف من الخلائق كلهم وصف ممنوع والتعليل به باطل فإنه لو كان مسكنا للطفه لم يجز أن يسكن إلا في الروح اللطيفة فلما أثبت اتحادا بالجسد الكثيف بطل قولك إنه اتحد بالإنسان للطفه
الوجه العاشر قولكم واعلم أنه لايرى شيئا من لطيف الخلق إلا في غليظ الخلق ولا يرى ما هو لطيف من اللطيف إلا مع ما هو أغلط منه
يقال لهم إما أن يكون الله لما اتحد بالمسيح عندكم قد رآه الناس وعاينوه أو لم يره أحد
فإن قلتم قد رآه الناس وعاينوه فهذا مخالف للحس والشرع والعقل
أما الحس فإن أحدا ممن رأى المسيح لم ير شيئا يتميز به المسيح عن غيره من البشر غير العجائب التي ظهرت على غيره منها ما هو أعظم مما ظهر عليه ولم ير إلا بدن المسيح الظاهر لم ير باطنه لا قلبه ولا كبده ولا طحاله فضلا عن أن يرى روحه فضلا عن

أن يرى الملائكة الذين يوحون إليه فضلا عن أن يرى الله إن قدر أنه كان متحدا به أو حالا فيه
فدعوى المدعي أن من رأى المسيح فقد رأى الله عيانا ببصره في غاية المباهتة والمكابرة والكذب لو قدر أن الله حال فيه أو متحد به
فإنه من المعلوم أن الملائكة تنزل على المسيح وغيره وتتصل بأرواحهم والناس لا يرون الملائكة بل الجن تدخل في بني آدم والناس لا يرونهم وإنما يرون جسد المصروع
وكل إنسان معه قرينه من الملائكة وقرينه من الجن وهو نفسه لا يرى ذلك ولا يراه من حوله
وتحضره الملائكة وقت الموت ولا يراهم من حوله مع أنه هو يراهم قال تعالى
فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين
فإذا كانت هذه المخلوقات التي اتفق أهل الملل على اقترانها بالإنسان واتصالها بهم وأن رؤيتها ممكنة لا يراها الناس فكيف يقال إن المسيح الذي لم ير الناس منه إلا ما رأوه من أمثاله من الرسل كإبراهيم وموسى ولم يكن له قط شيء يتميز به عن جنس الرسل فكيف يقال إن الذين رأوه رأوا الله عيانا بأبصارهم

وأما الشرع فموسى والمسيح وغيرهما من الأنبياء أخبروا أن أحدا لا يرى الله في الدنيا
وأم 4 ا العقل فإن رؤية بعض ملائكة اللة أو بعض الجن يظهر لرائيها من الدلائل والأحوال ما يطول وصفه فكيف بمن رأى الله
والذين رأوا المسيح لم يكن حالهم إلا كحال سائر من رأى الرسل منهم الكافر به المكذب له ومنهم المؤمن به المصدق له بل هم يذكرون من إهانة ناسوته ما لا يعرف عن نظرائه من الرسل مثل ضربه والبصاق في وجهه ووضع الشوك على رأسه وصلبه وغير ذلك
وأيضا فمعلوم أن من رأى الله إما أن يعرف أنه الله أو لا يعرف
فإن عرف أنه رأى الله كان الذين رأوا المسيح قد علموا أنه الله ولو علموا ذلك لحصل لهم من الاضطراب ما يقصر عنه الخطاب
وإن كانوا لم يعرفوه فهذا في غاية الامتناع حيث صار رب العالمين لا يميز بينه وبين غيره من مخلوقاته بل يكون كواحد منهم ولايميز بينه وبينهم ولا يعرف الرائي أن هذا هو الله
ولوازم هذا القول الفاسدة كثيرة جدا
وإن قالوا إن الله لم ير لما اتحد بالمسيح وإنما رئي جسد المسيح الذي احتجب به الله فقولهم بعد ذلك واعلم أنه لا يرى شيء من لطيف الخلق إلا في غليظ الخلق ولا يرى ما هو لطيف من

اللطيف إلا مع ما هو أغلظ منه كلام لا فائدة فيه إذ كان هذا مثلا ضربوه لله ليبينوا أنه يرى
فإذا سلموا أنه لم ير لم يكن في هذا المثل فائدة بل كان هذا استدلالا على شيء يعلمون أنه باطل
وأيضا فما ذكروه من أن اللطيف لا يرى إلا في الغليظ باطل فإن اللطيف كروح الإنسان لا ترى في الدنيا وإن علم وجودها وأحس الإنسان بروحه وصفاتها فرؤيتها بالبصر غير هذا يبين ذلك
الوجه الحادي عشر قولهم وإنا وجدنا روح الإنسان العاقلة الكلمانية يعنون النفس الناطقة ألطف من لطيف الخلق فلذلك كانت أولى خلق الله بحجاب الله فكانت له حجابا وكانت النفس الدموية لها حجابا والجسد الغليظ حجابا
فعلى هذا خالطت كلمة الله الخالقة نفس الإنسان الكاملة لجسدها ودمها وروحها العاقلة الكلمانية وصارت كلمة الله بقوامها قواما لتثليث الناسوت التي كمل جوهرها بتقويم قوام كلمة الله إياها لأنها لم تخلق ولم تك شيئا إلا بقول من كلمة الله الذي خلقها وقومها لا من شيء سبق قبل ذلك في بطن مريم ولا من سبب كان لها من غير ذلك غير قوام الكلمة الخالقة الذي هو أحد التثليث الإلهي

فيقال لهم هذا الكلام يقتضي أن الخالق احتجب بالنفس الناطقة والنفس الناطقة احتجبت بالبدن
وأنتم تصرحون بأن نفس الكلمة التي هي الخالق وهي الله عندكم التي خلقت لنفسها إنسانا احتجبت به وقلتم هو إنسان تام بجسده ونفسه الدموية وروحه الكلمانية أي نفسه الناطقة التي هي صورة الله في الإنسان وشبهه فكانت مسكنا لله في حلوله واحتجابه
فصرحتم بأن البدن مع الروح مسكن لله في حلوله واحتجابه وأنه هو الذي خلق ذلك البدن والروح وقلتم إن هذه الكلمة الخالقة المحتجبة التي قلتم إنها الله التحمت من مريم العذراء
فإذا كان الله الخالق قد التحم من مريم العذراء فمعلوم أن ذلك قبل نفخ النفس الناطقة التي سميتموها الروح الكلمانية في المسيح
وإذا كان الخالق تعالى قد التحم بجسد لا روح فيه والتحامه به أبلغ من حلوله فيه ثم اتخذ الجسد حجابا قبل نفخ الروح الكلمانية فيه فكيف يقال إنما حل في الروح لا في البدن وهو قد التحم بالبدن واتخذ منه جزءا مسكنا له وحجابا قبل أن ينفخ فيه الروح الكلمانية
وقلتم أيضا فعلى هذا خالطت كلمة الله الخالقة لنفس الإنسان الكاملة بجسدها ودمها وروحها العاقلة الكلمانية
وهذا تصريح بأن الخالق خالط الإنسان بجسده ودمه وروحه

فكيف تقولون إنما احتجبت بالروح اللطيفة مع تصريحكم بأن الخالق اختلط بالجسد والدم
وهذا أيضا يناقض قول من قال إنه اتحد به اتحادا بريا من الاختلاط
فقد صرحتم هنا أنه اختلط به وسيأتي نظائر هذا في كلامهم يصرحون فيه باختلاط اللاهوت بالناسوت
الوجه الثاني عشر قولكم غير قوام الكلمة الخالقة الذي هو أحد التثليث الإلهي فذلك القوام معدود معروف مع الناس لما ضم إليه وخلقه له التحم به من جوهر الإنسان فهو بتوحيد ذلك القوام الواحد قوام الكلمة الله الخالقة واحد في التثليث بجوهر لاهوته واحد من الناس بجوهر ناسوته وليس باثنين ولكن واحد مع الأب والروح وهو إياه واحد مع الناس جميعا بجوهرين مختلفين من جوهر اللاهوت الخالق وجوهر الناسوت المخلوق بتوحيد القوام الواحد قوام الكلمة التي هي الابن المولود من الله من قبل كل الدهور وهو إياه المولود من مريم العذراء في آخر الزمان من غير مفارقة من الأب ولا من روح القدس
فيقال في هذا الكلام بل فيما تقدم ذكره ما يطول تعداده ووصفه من التناقض والفساد والكلام الباطل والكلام الذي تكلم به قائله وهو لا يتصور ما يقول مع سوء التعبير عنه كقوله وهو إياه

فيضع الضمير المنفصل موضع المتصل ويعطف أحدهما على الآخر بلا واو عطف إلى أمثال ذلك مما يطول ذكر معانيه وذلك أن قولهم في نفسه باطل لا حقيقة له وهم لم يتصوروا معنى معقولا ثم عبروا عنه حتى يقال قصروا في التعبير بل هم في ضلال وجهل لا يتصورون معقولا ولا يعرفون ما يقولون بل ولا لهم اعتقاد يثبتون عليه في المسيح بل مهما قالوه من بدعهم كان باطلا وكانوا هم معترفون بأنهم لا يفقهون ما يقولون
لهذا يقولون هذا فوق العقل ويقولون قد اتحد به بشر لا يدرك فما لا يدرك وما هو فوق العقل ليس لأحد أن يعتقده ولا يقوله برأيه
لكن إذا أخبرت الرسل الصادقون بما يعجز عقل الإنسان عنه علم صدقهم وإن نقل عنهم ناقل ما يعلم بصريح العقل بطلانه علم أنه يكذب عليهم إما في اللفظ والمعنى وإما في أحدهما
وأما إذا كان هو يقول القول الذي يذكر أنه علم صحته أو أنه فسر به كلام الأنبياء وهو لا يتصور ما يقوله ولا يفقهه فهذا قائل على الله وعلى رسله ما لا يعلم وهذا قد ارتكب أعظم المحرمات قال تعالى
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون

وقال تعالى عن الشيطان
إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
وقال تعالى
سورة النساء الآيات 171 173
وقد اتفق أهل الملل على أن القول على الله بغير علم حرام والله سبحانه نهاهم أن يقولوا على الله إلا الحق فكان هذا نهيا أن يقولوا الباطل سواء علموا أنه باطل أو لم يعلموا
فإنهم إن لم يعلموا أنه باطل فلم يعلموا أنه حق أيضا إذ الباطل يمتنع أن يعلم أنه حق وإن اعتقد معتقد اعتقادا فاسدا أنه حق فذلك

ليس بعلم فلا تقولوا على الله ما لا تعلمون
وإن علموا أنه باطل فهو أجدر أن لا يقولوه
وعامة النصارى ضلال لا يعلمون أن ما يقولونه حق بل يقولون على الله ما لا يعلمون
والمقصود أن الباطل في كلامهم كثير كقولهم فهو بتوحيد ذلك القوام الواحد قوام لكلمة الله الخالقة
والمسيح عندهم اسم للاهوت والناسوت جميعا اسم للخالق والمخلوق وأحدهما متحد بالآخر فهو بتوحيد ذلك القوام قوام لكلمة الله الخالقة
وسواء أريد بذلك أن الناسوت واللاهوت قوام للاهوت أو أن الناسوت قوام للاهوت وهم يمثلون ذلك بالروح والجسد والنار والحديد فيكون كما لو قيل إن الجسد والروح أو الجسد قوام للروح أو النار والحديد أو الحديد قوام للنار
فيقال الخالق الأزلي الذي لم يزل ولا يزال هل يكون المحدث المخلوق قواما له فيكون المخلوق المصنوع المحدث المفتقر إلى الله من كل وجه قواما للخالق الغني عنه من كل وجه وهل هذا إلا من أظهر الدور الممتنع
فإنه من المعلوم بصريح العقل واتفاق العقلاء أن المخلوق

لا قوام له إلا بالخالق فإن كان الخالق قوامه بالمخلوق لزم أن يكون كل من الخالق والمخلوق قوامه بالآخر فيكون كل منهما محتاجا إلى الآخر إذ ما كان قوام الشيء به فإنه محتاج إليه
وهذا مع كونه يقتضي أن الخالق يحتاج إلى مخلوقه وهو من الكفر الواضح فإنه يظهر امتناعه بصريح العقل وهذا لازم للنصارى سواء قالوا بالاتحاد أو بالحلول بلا اتحاد وإن كانت فرقهم الثلاث يقولون بنوع من الاتحاد فإنة مع الاتحاد كل من المتحدين لا بد لة من الأخر فهو محتاج إلية كما يمثلون بة في الروح مع البدن والنار مع الحديد
فإن الروح التي في البدن محتاجة إلى البدن كما أن النار في الحديد محتاجة إلى الحديد
وكذلك الحلول فإن كل حال محتاج إلى محلول فيه وهو من الكفر الواضح فإنه يظهر امتناعه بصريح العقل
فإن ذلك المخلوق إن قدر أنه موجود بنفسه قديم أزلي فليس هو مخلوقا ومع هذا فيمتنع أن يكون كل من القديمين الأزليين محتاجا إلى الآخر سواء قدر أنه فاعل له أو تمام الفاعل له أو كان

مفتقرا إليه بوجه من الوجوه لأنه إذا كان مفتقرا إليه بوجه من الوجوه لم يكن موجودا إلا به
فإن الموجود لا يكون موجودا إلا بوجود لوازمه ولا يتم وجوده إلا به فكل ما قدر أنه محتاج إليه لم يكن موجودا إلا به
فإذا كان كل من القديمين محتاجا إلى الآخر لزم أن لا يكون هذا موجودا إلا بخلق ذلك ما به تتم حاجة الآخر وأن لا يكون هذا موجودا إلا بخلق ذلك ما بة تتم حاجة الآخر
والخالق لا يكون خالقا حتى يكون موجودا ولا يكون موجودا إلا بلوازم وجوده فيلزم أن لا يكون هذا موجودا حتى يجعله الآخر موجودا ولا يكون ذاك موجودا حتى يجعله الآخر موجودا إذ كان جعله لما لم يتم به وجوده يتوقف وجوده عليه فلا يكون موجودا إلا به فلا فرق بين أن يحتاج أحدهما إلى الآخر في وجوده أو فيما لا يتم وجوده إلا به وهذا هو الدور القبلي الممتنع باتفاق العقلاء
وأما الدور المعي وهو أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا ولا هذا إلا مع هذا كالأبوة مع البنوة وكصفات الرب بعضها مع بعض وصفاته مع ذاته فإنه لا يكون عالما إلا مع كونه قادرا ولا يكون عالما قادرا إلا مع كونه حيا ولا يكون حيا إلا مع كونه عالما قادرا ولا تكون صفاته موجودة إلا بذاته ولا ذاته موجودة إلا بصفاته فهذا جائز في المخلوقين اللذين يفتقران إلى الخالق الذي يحدثهما جميعا كالأبوة والبنوة وجائز في الرب الملازم لصفاته تعالى
وأما إذا قدر قديمان أزليان ربان فاعلان امتنع أن يكون أحدهما محتاجا إلى الآخر إذ كان وجوده لا يتم إلا بما يحتاج وجوده إليه ولا يكون فاعلا لشيء إن لم يتم وجوده فيمتنع مع نقص كل منهما عن

تمام وجوده أن يكون فاعلا لغيره تمام وجود ذلك الغير ولهذا لم يقل بهذا أحد من الأمم
ولكن الذي قاله النصارى أنهم جعلوا قوام الخالق تعالى بالمخلوق
فيقال لهم هذا أيضا ممتنع في صريح العقل أعظم من امتناع قيام كل من الخالقين بالآخر وإن كان هذا أيضا ممتنعا فإن المخلوق مفتقر في جميع أموره إلى الخالق فيمتنع مع فقره في وجوده وتمام وجوده إلى الخالق أن يكون قوام الخالق به لأن ذلك يقتضي أن يكون مقيما له وأن يكون تمام وجوده به فيكون المخلوق لا وجود لشيء منه إلا بالخالق
فالقدر الذي يقال إنه يقيم به الخالق هو من الخالق والخالق خالقه وخالق كل مخلوق فلا وجود له ولا قيام إلا بالخالق فكيف يكون به قيام الخالق
وليس هذا كالجوهر وأعراضه اللازمة أو كالمادة والصورة عند من يزعم أن الصورة جوهر إذا كانا متلازمين فإن هذا من باب الدور المعي كالنبوة مع الأبوة وهذا جائز كما تقدم إذ كان الخالق لهما جميعا هو الله
وأما مع كون كل منهما هو الخالق فهو ممتنع ومع كون أحدهما خالقا والآخر مخلوقا فهو أشد امتناعا
والرب تعالى غني عن كل ما سواه من كل وجه وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه وهذا معنى اسمه الصمد فإن الصمد الذي يصمد إليه كل شيء لافتقاره إليه وهو غني عن كل شيء لا يصمد

إلى شيء ولا يسأله شيئا سبحانه وتعالى فكيف يكون قوامه بشيء من المخلوقات
وهذا الاتحاد الخاص من النصارى يشبه من بعض الوجوه قول أهل الوحدة والاتحاد العام الذين يقولون كما يقوله ابن عربي صاحب الفصوص والفتوحات المكية إن أعيان المخلوقات ثابتة في العدم ووجود الحق فاض عليها فهي مفتقرة إليه من حيث الوجود المشترك العام وهو وجوده وهو مفتقر إليها من حيث الأعيان الثابتة في العدم وهو ما يختص به كل عين عين فيجعل كل واحد من الخالق والمخلوق مفتقرة إلى الآخر
ويقولون الوجود واحد ثم يثبتون تعدد الأعيان ويقولون هي مظاهر ومجالي
فإن كان المظهر والمجلى غير الظاهر فقد ثبت التعدد وإن كان

هو إياه فلا تعدد فلهذا يضطرون إلى التناقض كما يضطر إليه النصارى حيث يثبتون الوحدة مع الكثرة وينشدون فيعبدني وأعبده ويحمدني وأحمده وهؤلاء بنوا قولهم على أصلين فاسدين
أحدهما أن أعيان الممكنات ثابتة في العدم كقول من يقول من أهل الكلام إن المعدوم شيء ثابت في العدم وهذا القول فاسد عند جماهير العقلاء
وإنما حقيقة الأمر أن المعدوم يراد إيجاده ويتصور ويخبر به ويكتب قبل وجوده فله وجود في العلم والقول والخط وأما في الخارج فلا وجود له
والوجود هو الثبوت فلا ثبوت له في الوجود العيني الخارجي وإنما ثبوته في العلم أي يعلمه العالم قبل وجوده
والأصل الثاني أنهم جعلوا نفس وجود رب العالمين الخالق القديم الأزلي الواجب بنفسه هو نفس وجود المربوب المصنوع الممكن كما قال ابن عربي ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين إثباتها علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه فالأمر

للخالق هو المخلوق والأمر المخلوق هو الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهو العيون الكثيرة وهو يا أبت افعل ما تؤمر إلى أن قال وما ذبح سوى نفسه وما نكح سوى نفسه
وقال ومن أسمائه الحسنى العلي على من يكون عليا وما هو إلا هو أو عن ماذا يكون عليا وما ثم إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلاهو
وقد نقل عن أبي سعيد الخراز أنه قيل بماذا عرفت ربك
قال بجمعه بين الأضداد وقرأ قوله
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم
أراد بذلك أنه مجتمع في حقه سبحانه ما يتضاد في حق غيره فإن المخلوق لا يكون أولا آخرا باطنا ظاهرا
وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه كان يقول أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك

شيء فجاء هذا الملحد وفسر قول أبي سعيد بأن المخلوق هو الخالق فقال قال أبو سعيد وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها فهو الأول والآخر والظاهر والباطن فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وما ثم من بطن عنه سواه فهو ظاهر لنفسه باطن عن نفسه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات ولهذا قال بعض النصارى لمن يقول مثل هذا ويحكيه عن شيوخه ويقول إنه مسلم أنتم كفرتمونا لأجل أن قلنا إن الله هو المسيح وشيوخكم يقولون إن الله هو أبو سعيد الخراز والمسيح خير من أبي سعيد
وهؤلاء يجيبون النصارى بجواب يتبين به أنهم أعظم إلحادا من النصارى
فيقولون للنصارى أنتم خصصتموه بالمسيح ونحن نقول هو وجود كل شيء لا نخص المسيح
ولهذا قال بعضهم لأحذق هؤلاء التلمساني الملقب بالعفيف أنت نصيري

فقال نصير جزء مني فإن النصيرية أتباع أبي شعيب محمد بن نصير يقولون في علي بن أبي طالب نظير ما يقوله النصارى في المسيح كذلك سائر الغلاة في علي أو في أحد من أهل بيته أو في الإسماعيلية بني عبيد المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر كالحاكم وغيره

أو في الحلاج أو في بعض من الشيوخ الذين يقولون في واحد من هؤلاء باتحاد اللاهوت به أو حلوله فيه نظير ما تقوله النصارى في المسيح
وهؤلاء يقولون بأن الحلول والاتحاد محدث وأن القديم حل أو اتحد بالمحدث بعد أن لم يكونا متحدين
وأما أولئك فيقولون بالوحدة المطلقة فمحققوهم يقولون إنه وجود كل شيء لا يقولون باتحاد وجودين ولا بحلول أحدهما بالآخر
بل قد يقولون إن الوجود هو ثبوت وجود الحق وثبوت الأشياء اتحدا وكل منهما مفتقر إلى الآخر
فالحق إذا ظهر كان عبدا والعبد إذا بطن كان ربا
ويقولون إذا حصل لك التجلي الذاتي وهو هذا لم تضرك عبادة الأوثان ولا غيرها بل يصرحون بأنه عين الأوثان والأنداد وأن

أحدا لم يعبد غيره كما يقول ابن عربي مصوبا لقوم نوح الكفار ومكروا مكرا كبارا قال لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية ادعوا إلى الله فهذا عين المكر فأجابوه مكرا كما دعاهم مكرا فقالوا في مكرهم لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سوعا ولا يغوث ويعوق ونسرا إذا تركوهم جهلوا عن الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء
فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله كما قال في المحمديين وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه أي حكم فما حكم الله بشيء إلا وقع فالعارف يعرف من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصور الروحانية فما عبد غير الله في كل معبود وصوب هذا الملحد فرعون في قوله أنا ربكم الأعلى

قال ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال أنا ربكم الأعلى أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم
قال ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه وأقروا له بذلك وقالوا له إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فاقض ما أنت قاض فالدولة لك
قال فصح قول فرعون أنا ربكم الأعلى وإن كان فرعون عين الحق
وصوب أيضا أهل العجل في عبادتهم العجل وزعم أن موسى رضي بذلك فقال ولما كان موسى أعلم بالأمر من هارون لعلمه بأن الله قضى أن لا نعبد إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع كان عتبه على هارون لإنكاره وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل من يراه عين كل شيء
ومن هؤلاء طائفة لا يقولون بثبوت الأعيان في العدم بل يقولون ما ثم وجود إلا وجود الحق
لكن يفرقون بين المطلق والمعين فيقولون هو الوجود المطلق الساري في الموجودات المعينة كالحيوانية الثابتة في كل حيوان والإنسانية الثابتة في كل إنسان وهذا الذي يسمى الكلي الطبيعي

ويسمون هذا الوجود الإحاطة فيقولون هو الوجود المطلق إما بشرط الإطلاق عن كل قيد وهذا يسمى الكلي العقلي
وهذا عند عامة العقلاء لا يوجد إلا في الذهن لا في الخارج ولكن يحكى عن شيعة أفلاطون أنهم أثبتوا هذه الكليات المجردة عن الأعيان في الخارج وقالوا إنها قديمة أزلية إنسانية مطلقة وحيوانية مطلقة ويسمونها المثل الأفلاطونية والمثل المعلقة
وقد رد ذلك عليهم إخوانهم أرسطو وشيعته وجماهير العقلاء وبينوا أن هذه إنما هي متصورة في الأذهان لا موجودة في الأعيان كما يتصور الذهن عددا مطلقا ومقادير مطلقة كالنقطة والخط والسطح والجسم التعليمي ونحو ذلك مما يتصوره الذهن وليس من ذلك شيء في الموجودات الثابتة في الخارج
وهذا المطلق بشرط الإطلاق يظن هؤلاء ثبوته في الخارج وقد يسمونه الإحاطة وهو الوجود المجرد عن جميع القيود ثم بعده الوجود المطلق لا بشرط وهو العام المنقسم إلى واجب وممكن

إلى قديم وحادث ونحو ذلك كانقسام الحيوان إلى ناطق وأعجم
وهذا المطلق لا بشرط يوجد في الخارج فإن الاسم المفرد يصدق عليه فيقال هذا حيوان هذا إنسان وإن كان الاسم العام شامل لأنواعه وأشخاصه لكن لا يوجد في الخارج إلا مقيدا معينا
ومن قال إنه يوجد في الخارج كليا فقد غلط فإن الكلي لا يكون كليا قط إلا في الأذهان لا في الأعيان وليس في الخارج إلا شيء معين إذا تصور منع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه ولكن العقل يأخذ القدر المشترك الكلي بين المعينات فيكون كليا مشتركا في الأذهان
وهؤلاء يجعلون الوجود الواجب هذا وقد يجعلونه بعد هذا فيقولون هذا فرق الواجب
وهذا الوجود الكلي إذا قيل إنه لا يوجد في الخارج إلا معينا فلا موجود في الخارج سوى الموجودات المعينة المشخصة بما فيها من الصفات القائمة بها
وإن قدر وجوده في الخارج فهو إما جزء من المعينات وإما صفة لها
فعلى الأول لا يكون في الخارج موجود هو رب الموجودات المعينة
وعلى الثاني يكون رب الموجودات جزءها أو صفة لها
ومعلوم بصريح العقل أن صفة الشيء القائمة به لا تخلق

الموصوف وأن جزء الشيء لا يخلق الشيء بل جزء الشيء جزء من الشيء
فإذا كان هو الخالق للجملة كان خالقا لنفسه وكان بعض الشيء خالقا لكله
ومن هؤلاء من يقول إن الرب في العالم كالزبد في اللبن والدهن في السمسم ونحو ذلك فيجعلونه جزءا من العالم المخلوق ونفس تصور هذا يكفي في العلم بفساده
لكن هؤلاء يقولون لمن تبعهم إن لم تترك العقل والنقل لم يحصل لك التحقيق والتجلي الذي حصل لنا ويقولون ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل
فقلت لبعضهم إن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أكمل الناس كشفا وهم يخبرون بما يعجز عقول الناس عن معرفته لا بما يعرف في عقولهم أنه باطل فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول
فمن دونهم إذا أخبر عن شهود وكشف يعلم بصريح العقل بطلانه علم أن كشفه باطل
وأما إن كان لم يعلم بطلانه فهذا قد يمكن فيه إصابته وقد

يمكن خطؤه لأن غير الأنبياء ليس بمعصوم
وهؤلاء سمعوا باسم الله وقصدوا عبادته ومعرفته فوقفوا على أثره في مصنوعاته فظنوا أنه هو كمن سمع بالشمس فلما أن رأى الشعاع المنبسط في الهواء والأرض ظن أن ذلك هو الشمس ولم يصعد بصره وبصيرته إلى الشمس التي في السماء
وكذلك هؤلاء لم تصمد بصائر قلوبهم إلى رب العالمين الذي فوق كل شيء المباين لمخلوقاته
وسر ذلك أنهم يشهدون بقلوبهم وجودا مطلقا بسيطا ليس له اسم خاص كالحي والعليم والقدير ولا له صفة ولا يتميز فيه شيء عن شيء وهذا هو الوجود المشترك
لكن هذا الشهود هو في نفوسهم لا حقيقة له في الخارج وكثير ممن يخاطبهم لا يتصور ما يشهدونه فيظنون أنه لم يفهم ما شهدوه
وقد خاطبت غير واحد منهم وبينت له أن هذا الذي يشهدونه هو في الذهن وبتقدير أن يكون موجودا في الخارج فهو صفة للموجودات أو جزء منها ويظنون مع ظنهم أنه موجود في الخارج أنه لم يبق في الخارج غير ما شهدوه فإنهم يغيبون عن الحس الذي يدرك المعينات ويغيبون عقولهم عن تصورها حتى لا يميزوا بين موجود وموجود ويقولون الحس فيه تفرقة ثم يشهدون هذا الوجود

المطلق مع عزلهم الحس فيظنون أن هذا المطلق هو نفس المعينات وأنه ما بقي موجودا أصلا
فيقال لهم لو قدر أن الوجود الكلي ثابت في الخارج كليا وأنكم شهدتم ذلك فمعلوم عند كل عاقل أن وجود الكلي المشترك لا يناقض وجود المعين المختص
فالحيوانية والإنسانية المشتركة المطلقة لا تناقض أعيان الحيوان وأعيان الإنسان وحينئذ فثبوت أعيان الموجودات حاصل في الخارج
وهب أنكم غبتم عن هذا ولم تشهدوه فالغيبة عن شهود الشيء لا يوجب عدمه في نفسه
فإذا لم يشهد للعبد الشيء أو لم يرده أو لم يعلمه أو لم يخطر بقلبه أو فنى عن شهوده أو اصطلم أو غاب لم يلزم من ذلك أن يكون الشيء صار في نفسه معدوما فانيا لا حقيقة له بل الفرق ثابت بين أن يعدم الشيء في نفسه ويفنى ويتلاشى وبين أن يعدم شهود الإنسان له وذكره ومعرفته
وهؤلاء من ضلالهم يظنون أنه إذا فنى شهودهم للموجودات كانت فانية في أنفسها فلم يكن موجودا إلا

ما تخيلوه من الوجود المطلق
ويقولون الكثرة والتفرقة في الحس فإذا فني شهود القلب عن الحس لم يبق تفرقة ولا كثرة ويظنون أن شهود الحس حينئذ خطأ والعقل هو الذي يشهد الكليات والمطلقات دون الحس فإذا أبطلوا ما شهده الحس لم يبق معهم إلا الوجود الكلي
ثم يظنون مع ذلك أنه هو الله فيبقى الرب عندهم وهما وخيالا في نفوسهم لا حقيقة له في الخارج كما قال بعض حذاقهم وهو التستري صاحب ابن سبعين وهمك هو بتشخيص ما تحته

شيء وقال
... ترى الوجود واحدا وأنت ذاك ... وليس عليك زائد ما ثم سواك ...
وقلت لبعض حذاقهم هب أن هذا الوجود المطلق ثابت في الخارج وأنه عين الموجودات المشهودة فمن أين لك أن هذا هو رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض وكل شيء
فاعترف بذلك وقال هذا ما فيه حيلة
والحس الباطن أو الظاهر إن لم يقترن به العقل الذي يميز بين المحسوس وغيره وإلا دخل فيه من الغلط من جنس ما يدخل على النائم والممرور والمبرسم وغيرهم ممن يحكم بمجرد الحس الذي لا عقل معه
والبهائم قد تكون أهدى من هؤلاء كما قال تعالى
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون

وهؤلاء يصرحون برفض السمع والعقل فدخلوا في قوله
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا
ويلزمون أنفسهم الغيبة عن العقل والحس الظاهر والشرع فلهذا يقول أحذقهم التلمساني
... فقل لحسك غب وجدا وذب طربا ... فيها وقل لزوال العقل لا تزل ...
... واصمت إلى أن تراها فيك ناطقة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل ...
وهؤلاء لبسط الكلام عليهم موضع آخر
والمقصود هنا أن النصارى زعموا أن اللاهوت محتاج إلى ما اتحد به من الناسوت وهؤلاء زعموا أن رب العالمين محتاج إلى كل ما سواه من الأعيان الثابتة في العدم
فإن كل من قال إن رب العالمين اتحد بغيره فكل من المتحدين مفتقر إلى الآخر مع استحالة كل منهما وتغير حقيقته ولا كذلك الحلول المعقول فإن الحلول لا يعقل إلا إذا كان الحال قائما بالمحل محتاج إليه سواء أريد بذلك حلول الصفات والأعراض في الموصوفات والجواهر أو أريد به حلول الأعيان

فإن كون أحد الجسمين محلا للآخر كحلول الماء في الظرف هو يوجب افتقاره إليه
وما يحل في قلوب المؤمنين من معرفة الرب والإيمان به هو قائم بقلوبهم محتاج إليه
وكذلك ما يثبته الفلاسفة من الهيولي والصورة ويقولون إن الهيولي محل للصورة ويعترفون مع ذلك بان الصورة محتاجة إلى الهيولي
والقائلون بوحدة الوجود قد يجعلون الخالق مع المخلوقات كالصورة مع الهيولي كما يشير إليه ابن سبعين ويقول هو في الماء ماء وفي النار نار وفي كل شيء بصورة ذلك الشيء كما قد بسط الكلام على هؤلاء في مواضع غير هذا الكتاب
وإذا قالوا إن الرب حل في المسيح كما حل في غيره وهو الحلول الموجود في كلام داود عندهم حيث قالوا أنت تحل في قلوب القديسين فقد عرف أن هذا حلول الإيمان به ومعرفته وهداه

ونوره والمثال العلمي كما قد بسط في موضع آخر ولهذا يسمى ظهورا والشعاع الحال على الأرض والهواء عرض قائم بذلك وهو مفتقر إلى الأرض والهواء
والرسل صلوات الله عليهم أخبروا بأن الله فوق العالم بعبارات متنوعة تارة يقولون هو العلي وهو الأعلى وتارة يقولون هو في السماء كقوله
أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا
وليس مرادهم بذلك أن الله في جوف السماوات أو أن الله يحصره شيء من المخلوقات بل كلام الرسل كله يصدق بعضه بعضا كما قال تعالى
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
وقد قال تعالى
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم
وثبت في الصحيح عن النبي أنه قال أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء و أنت

الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء فأخبر أنه لا يكون شيء فوقه
ولهذا قال غير واحد من أئمة السلف إنه ينزل إلى السماء الدنيا ولا يخلو العرش منه فلا يصير تحت المخلوقات وفي جوفها قط بل العلو عليها صفة لازمة له حيث وجد مخلوق فلا يكون الرب إلا عاليا عليه
وقول الرسل في السماء أي في العلو ليس مرادهم أنه في جوف الأفلاك بل السماء العلو وهو إذا كان فوق العرش فهو العلي الأعلى وليس هناك مخلوق حتى يكون الرب محصورا في شيء من المخلوقات ولا هو في جهة موجودة بل ليس موجودا إلا الخالق والمخلوق والخالق بائن عن مخلوقاته عال عليها فليس هو في مخلوق أصلا سواء سمى ذلك المخلوق جهة أو لم يسم جهة
ومن قال إنه في جهة موجودة تعلو عليه أو تحيط به أو يحتاج إليها بوجه من الوجوه فهو مخطىء
كما أن من قال ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله ومحمد لم يعرج به إلى ربه ولا تصعد الملائكة إليه ولا تنزل الكتب منه ولا يقرب منه شيء ولا يدنو إلى شيء فهو أيضا مخطيء
ومن سمى ما فوق العالم جهة وجعل العدم المحض جهة وقال

هو في جهة بهذا المعنى أي هو نفسه فوق كل شيء فهذا معنى صحيح
ومن نفى هذا المعنى بقوله ليس في جهة فقد أخطأ
بل طريق الاعتصام أن ما أثبته الرسل لله أثبت له وما نفته الرسل عن الله نفى عنه
والألفاظ التي لم تنطق الرسل فيها بنفي ولا إثبات كلفظ الجهة والحيز ونحو ذلك لا يطلق نفيا ولا إثباتا إلا بعد بيان المراد
فمن أراد بما أثبت معنى صحيحا فقد أصاب في المعنى وإن كان في اللفظ خطأ
ومن أراد بما نفاه معنى صحيحا فقد أصاب في المعنى وإن كان في لفظه خطأ
وأما من أثبت بلفظه حقا وباطلا أو نفى بلفظه حقا وباطلا فكلاهما مصيب فيما عناه من الحق مخطىء فيما عناه من الباطل قد لبس الحق بالباطل وجمع في كلامه حقا وباطلا
والأنبياء كلهم متطابقون على أنه في العلو
وفي القرآن والسنة ما يقارب ألف دليل على ذلك وفي كلام الأنبياء المتقدمين ما لا يحصى

فصل
قال سعيد بن البطريق وذلك مثل ما أن الشعاع المولود من عين الشمس الذي يملأ ضوؤه ما بين السماء والأرض نورا وفي بيت من البيوت يكون فيه ضياء بنوره من غير مقارنة لعين الشمس التي تولد منها حقا لأنه لم ينقطع من العين ولا من الضوء فكذلك سكن الله في الناسوت من غير أن يفارقه الأب فهو مع الناسوت وهو مع الأب وروح القدس حقا
فيقال هذا التمثيل لو قدر أنه صحيح فإنما يشبه من بعض الوجوه قول من يقول إنه بذاته في كل مكان كشعاع الشمس الذي يظهر في الهواء والأرض
وأما النصارى فإنهم يخصونه بناسوت المسيح دون سائر النواسيت ولو مثل بهذا من يقول إنه بذاته في كل مكان لكان باطلا فكيف النصارى فإن الضوء إنما يكون في الهواء وسطوح الأرض لا يكون تحت السقوف والغيران وباطن الأرض

ثم هذا التمثيل باطل من وجوه
أحدها أن الشعاع ليس متولدا من جرم الشمس ولا شعاع النار متولد من جرم النار بل هو حادث بائن عن جرم الشمس ولكنها سبب في حصوله
ولهذا يشبه به العلم الحاصل في قلب المتعلم بسبب تعلم العلم من غير أن يكون من ذات علم العالم
ولهذا يشبه علم العالم بالسراج الذي يقتبس كل أحد من نوره وهو لم ينقص
بخلاف تولد المولود عن والده فإنه متولد عن عينه
والشعاع القائم بالهواء والأرض ليس هو قائما بذات الشمس والنار بل هو عرض قائم بمحل آخر والعرض الواحد لا يكون في محلين
والنصارى يقولون إن الكلمة التي هي علم الله أو حكمته متولدة منه وهي قديمة أزلية والصفة قائمة بالموصوف فالصفة مثل ما يقوم بذات الشمس من استدارة وضوء فذاك صفة لها وهو غير الشعاع القائم بالهواء فإن ذاك بائن عنها فكيف يجعل هذا هو هذا
فإن قالوا نحن مقصودنا أن حكمة الله وعلمه ونوره أنزله إلى المسيح وأفاضه على المسيح كما يفيض الشعاع عن الشمس
قيل لهم فهذا قدر مشترك بين المسيح وسائر الأنبياء فلا اختصاص للمسيح بذلك

الوجه الثاني قولهم الذي يملأ ضوؤه ما بين السماء والأرض نورا وفي بيت من البيوت يكون فيه حقا من غير مقارنة لعين الشمس التي تولد منها حقا
فيقال لهم الشعاع الذي بين السماء والأرض هو الضوء وهو النور
فقولكم إن الشعاع يملأ ضوؤه ما بين السماء والأرض نورا يقتضي أنه شعاع وضوء شعاع ونور حدث عن ذلك وهذا غلط بل ليس هنا إلا جرم الشمس التي في السماء وشعاعها وهو الضوء والنور الذي ما بين السماء والأرض
الثالث قولكم من غير مفارقة عين الشمس يقتضي أن هذا الشعاع هو مفس ما قام بالشمس وهذا مكابرة للحس والعقل بل الشعاع الذي قام بالهواء والأرض عرض لم يقم بالشمس فقط
وكل شعاع بقعة فليس هو عين الشعاع الذي في البقعة الأخرى وإن كان هو نظيره ومثله وجنس الشعاع يجمعهما كما أن شعاع هذا السراج ليس هو شعاع هذا السراج وإن قدر اختلاطهما حتى يقوى الضوء ولا حركة هذا الهواء هي حركة هذا الهواء ونظائر ذلك متعددة
الرابع قولكم كذلك الله سكن في الناسوت من غير أن يفارقه الأب تمثيل باطل

فإن الشمس نفسها لم تكن في الهواء والارض وإنما سكن شعاعها
فوزانه أن يقال فكذلك سكن نور الله وبرهانه وهداه وروحه
وهذا إذا قلته فهو منقول عن الأنبياء تنطق كتبهم بأن نور الله وروحه وهداه في قلوب المؤمنين لكن لا اختصاص للمسيح بذلك
قال الله تعالى
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري
قال أبي بن كعب مثل نوره في قلب المؤمن
وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي أنه قال اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ قوله

إن في ذلك لآيات للمتوسمين
الخامس إنكم إذا جعلتم الله نفسه ساكنا في المسيح فوزانه أن تكون الشمس نفسها ساكنة في موضع صغير من الأرض
وهذا التمثيل يبطل قولكم إن الله أعلا وأعظم وأجل وأكبر والله أجل وأكبر وأعظم من كل شيء والشمس آية من آياته ومخلوق من مخلوقاته ومع هذا فلو قال قائل إن الشمس سكنت في جوف امرأة وخرجت من فرج تلك المرأة لكان كل عاقل يعلم فساد قوله وينسبه إلى الجهل العظيم أو الجنون وسواء قال إن الشمس نفسها نزلت أو لم تنزل
وأنتم تقولون إن رب العالمين سكن في بطن مريم ويقول أكثركم كالملكية واليعقوبية إنه خرج من فرج مريم
ولو قال قائل عما هو من أصغر مخلوقات الله كوكب من الكواكب أو جبل من الجبال أو صخرة عظيمة إن ذلك كان في بطن امرأة وخرج من فرجها لضحك الناس من قوله فكيف بمن يدعي مثل ذلك في رب العالمين
وإذا قالوا إن الله نزل إلى السماء الدنيا أو نزل إلى الطور وكلم موسى من العليقة أو في عمود الغمام ونحو ذلك فليس في شيء من

ذلك أنه اتحد بمخلوق لا سماء ولا طور ولا شجرة ولا كان كلامه قائما بشيء مخلوق لا شجرة ولا غيرها
وعندهم أنه اتحد بالمسيح وكان صوت المسيح القائم به هو صوت رب العالمين بلا واسطة

فصل
قال سعيد بن البطريق ومثلما أن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في قرطاس فهي في القرطاس كلها حقا من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت ولا يفارقها العقل الذي ولدها لأن العقل بالكلمة يعرف لأنها فيه والكلمة كلها في العقل الذي ولدها وكلها في نفسها وكلها في القرطاس الذي التحمت به فكذلك كلمة الله كلها في الأب الذي ولدت منه وكلها في نفسها وفي الروح وكلها في الناسوت التي حلت فيها والتحمت بها
فيقال هذا التمثيل حجة عليكم وعلى فساد قولكم لا حجة لكم وذلك يظهر بوجوه
أحدها أن يقال إن كان حلول كلمة الله التي هي المسيح في الناسوت مثل كتابة الكلام في القرطاس فحينئذ يكون المسيح من جنس سائر كلام الله كالتوراة وزبور داود والإنجيل والقرآن وغير ذلك فإن هذا كله كلام الله وهو مكتوب في القراطيس باتفاق أهل

الملل بل الخلق كلهم متفقون على أن كلام كل متكلم يكتب في القراطيس وقد قال تعالى في القرآن
بل هو قرءان مجيد في لوح محفوظ
وقال تعالى
إنه لقرءان كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون
وقال
يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة
وقال
كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة
وقال تعالى
والطور وكتاب مسطور في رق منشور
وإذا كانت الكلمة التي هي المسيح عندكم هكذا فمعلوم أن كلام الله المكتوب في القراطيس ليس هو إلها خالقا وهو كلام كثير لا ينحصر في كلمة ولا كلمتين
ولو قال قائل يا كلام الله اغفر لي وارحمني أو يا توراة

أو يا إنجيل أو يا قرآن اغفر لي وارحمني كان قد تكلم بباطل عند جميع أهل الملل والعقلاء
وأنتم تقولون المسيح إله خالق وهو يدعى ويعبد فكيف تشبهونه بكلام الله المكتوب في القراطيس
الثاني أن الكلام المكتوب صفة للمتكلم يقوم به ويكتب في القراطيس عند سلف أهل الملل وجماهيرهم
وعند بعضهم هو عرض مخلوق يخلقه في غيره
فالجميع متفقون على أن الكلام صفة تقوم بغيرها ليس جوهرا قائما بنفسه
والمسيح عندكم لاهوته جوهر قائم بنفسه وهو إله حق من إله حق وهو عندكم إله تام وإنسان تام
فكيف تجعلون الإله الذي هو عين قائمة بنفسها كالصفة التي لا تقوم إلا بغيرها
الثالث قولكم إن كلمة الإنسان مولودة من عقله لو كان صحيحا فالتولد لا يكون إلا حادثا
وأنتم تقولون إن كلمة الله القديمة الأزلية متولدة منه قبل

الدهور وتقولون مع هذا هي إله
وهذا كما أن بطلانه معلوم بصريح العقل فهي بدعة وضلالة في الشرع فإنه لم يسم أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله ابنا له ولا قال إن صفته متولدة منه ولفظ الابن لا يوجد عندكم عن الأنبياء إلا اسما لناسوت مخلوق لا لصفة الله القديمة فقد بدلتم كلام الأنبياء بهذا الافتراء
الرابع قولكم مولودة من عقله إن أردتم بعقله العين القائمة بنفسها التي يسميها قلبا وروحا ونفسا أو نفسا ناطقة فتلك إنما تقوم بها المعاني وأما الألفاظ فإنما تقوم بفمه ولسانه
وإن أردتم بعقله مصدر عقل يعقل عقلا فالمصدر عرض قائم بالعقل وهو عرض من جنس العلم والكلمة والعمل الصالح
وإن أردتم بالعقل الغريزة التي في الإنسان فهو أيضا عرض
الخامس أن تسميتكم تكلم الإنسان بالمعنى أو اللفظ تولدا أمر اخترعتموه لا يعرف عن نبي من الأنبياء ولا أمة من الأمم ولا في لغة من اللغات
وإنما ابتدعتم هذا لتقولوا إذا كان كلام الإنسان متولدا منه فكلام الله متولد منه
ولم ينطق أحد من الأنبياء بأن كلام الله تولد منه ولا أنه ابنه ولا أن علمه تولد منه ولا أنه ابنه

السادس قولكم إن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في القرطاس فهي في القرطاس كلها حقا من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت إلى قولكم الكلمة كلها في العقل الذي ولدها وكلها في القرطاس الذي التحمت به مكابرة ظاهرة معلومة الفساد بصريح العقل فإن وجود الكلام في القلب واللسان ليس هو عين وجوده مكتوبا في القرطاس بل القائم بقلب المتكلم معان طلب وخبر وعلم وإرادة والقائم بنفسه حروف مؤلفة هي أصوات مقطعة أو هي حدود أصوات مقطعة وليس في قلب الإنسان ولا فمه مداد كالمداد الذي في القرطاس
والكلام مكتوب في القرطاس باتفاق العقلاء مع علمهم بأنه ليس في القرطاس علم وطلب وخبر قائم به كما تقوم بقلوب المتكلم ولا قام به أصوات مقطعة مؤلفة ولا حروف كالأصوات القائمة بفم المتكلم بل لفظ الحرف يقال على الحرف المكتوب إما المداد المصور وإما صورة المداد وشكله ويقال على الحرف المنطوق إما الصوت المقطع وإما حد الصوت ومقطعة وصورته
وكل عاقل يميز بحسه وعقله بين الصوت المسموع من المتكلم وبين المداد المرئي بالبصر ولا يقول عاقل إن هذا هو هذا ولا يقال إن هذا وهذا هو نفس المعنى القائم بقلب المتكلم فكيف تقولون إن الكلمة في القرطاس كلها وكلها في العقل الذي ولدها وكلها في نفسها

السابع أن حرف في التي يسميها النحاة ظرفا يستعمل في كل موضع بالمعنى المناسب لذلك الموضع
فإذا قيل إن الطعم واللون والريح حال في الفاكهة أو العلم والقدرة والكلام حال في المتكلم فهذا معنى معقول
وإذا قيل إن هذا حال في داره أو إن الماء حال في الظرف فهذا معنى آخر
فإن ذاك حلول صفة في موصوفها وهذا حلول عين قائمة تسمى جسما وجوهرا في محلها ومنه يقال لمكان القوم المحلة ويقال فلان حل بالمكان الفلاني
وإذا قيل الشمس والقمر في الماء أو في المرآة أو وجه فلان في المرآة أو كلام فلان في هذا القرطاس فهذا له معنى يفهمه الناس يعلمون أنه قد ظهرت الشمس والقمر والوجه في المرآة ورؤيت فيها وأنه لم يحل بها ذات ذلك وإنما حل فيها مثال شعاعي عند من يقول ذلك
وكذلك الكلام إذا كتب في القرطاس فالناس يعلمون أنه مكتوب فيه ومقروء فيه ومنظور فيه ويقولون نظرت في كلام فلان وقرأته وتدبرته وفهمته ورأيته ونحو ذلك كما يقولون رأيت وجهه في المرآة وتأملته ونحو ذلك
وهم في ذلك كله صادقون يعلمون ما يقولون ويعلمون أن نفس جرم الشمس والقمر والوجه لم يحل في المرآة وأن نفس ما قام به من المعاني والأصوات لم تقم بالقرطاس بل كانت المرآة واسطة

في رؤية الوجه فهو المقصود بالرؤية وكان القرطاس واسطة في معرفة الكلام فهو المقصود بالرؤية ويعلمون أن حاسة البصر باشرت ما في المرآة من الشعاع المنعكس ولكن المقصود بالرؤية هو الشمس وحاسة البصر باشرت ما في القرطاس من المداد المكتوب ولكن المقصود بالرؤية هو الكلام المكتوب
ويعلمون أن نفس المثال الذي في المرآة ليس هو الوجه وأن نفس المداد المكتوب به ليس هو الكلام المكتوب بل يفرقون بينهما كما قال تعالى
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا
ففرق سبحانه بين الكلمات وبين المداد الذي يكتب به الكلمات
فكيف يقال إن هذا هو هذا وأن الكلمة في القرطاس كلها وهي في المتكلم كلها
الثامن أن الكلام له معنى في المتكلم يعبر عنه بلفظه واللفظ يكتب في القرطاس فالمكتوب في القرطاس هو اللفظ المطابق للمعنى لا يكتب المعنى بدون كتابة اللفظ الذي كتب بالخط ليعرف ما كتب
فدعوى هؤلاء أن نفس المعنى الذي في القلب كله هو في القرطاس كلة جعل لنفس المعنى هو الخط وهذا باطل

التاسع أنه لا ريب أن كلام المتكلم يقال إنه قائم به
ويقال مع ذلك إنه مكتوب في القرطاس ويقال هذا هو كلام فلان بعينه وهذا هو ذاك ونحو ذلك من العبارات التي تبين أن هذا المكتوب في القرطاس هو هذا الكلام الذي تكلم به المتكلم بعينه لم يزد فيه ولم ينقص لم يكتب كلام غيره
ولا يريدون بذلك أن نفس الخط نفس الصوت أو نفس المعنى فإن هذا لا يقوله عاقل
فإن قيل ففي المسلمين من يقول إن كلام الله القديم الأزلي أو كلام الله الذي ليس بمخلوق هو حال في الصدور والمصاحف من غير مفارقة
ومن هؤلاء من يقول إنه يسمع من الإنسان الصوت القديم أو الصوت الذي ليس بمخلوق
ومنهم من يقول إن الحرف القديم أو الذي ليس بمخلوق هو في القرطاس وحكى عن بعضهم أنه يقول ذلك في المداد
ومن هؤلاء من يقول إن القديم حل في المصحف ونحو ذلك
فتقول النصارى نحن مثل هؤلاء
قيل الجواب من وجوه
أحدهما أن المقصود بيان الحق الذي بعث الله به رسله وأنزل

به كتبه والرد على من خالف ذلك من النصارى وغيرهم
ونحن لا ننكر أن في المنتسبين إلى الإسلام طوائفا منهم منافقون ملحدون وزنادقة ومنهم جهال ومبتدعة ومنهم من يقول مثل قول النصارى ومنهم من يقول شرا منه فالرد على هؤلاء كلهم والعصمة ثابتة لكتاب الله وسنة رسوله
وما اجتمع عليه عباده المؤمنون فهذا لا يكون إلا حقا وما تنازع فيه المسلمون ففيه حق وباطل
الوجه الثاني أن يقال هؤلاء الذين قالوا في القرآن ما قالوه ليس قولهم مثل قول النصارى
فإن النصارى جعلوا لله ولدا قديما أزليا سموه كلمة وقالوا إنه إله يخلق ويرزق وإنه اتحد بالمسيح فجعلوا المسيح الذي هو الكلمة عندهم إلها يخلق ويرزق
وليس في طوائف المسلمين المعروفة من يقول إن كلام الله إله يخلق ويرزق
ولكن محمد وغيره من الرسل عليهم السلام بلغوا إلى الخلق كلام الله الذي تكلم به
فكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان على أن القرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلام الله هو كلام اللةالذي تكلم به وأن الله أنزله وأرسل به ملائكته ليس هو مخلوقا بائنا عنه خلقه في غيره

ويقولون إن هذا القرآن هو كلام الله الذي بلغه رسوله والمسلمون يقرؤونه ويسمع من القارىء كلام الله لكن يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم ويسمعونه من القارىء الذي يقرؤه بصوت نفسه فالكلام كلام البارىء والصوت صوت القارىء
ويقولون إن الله تكلم به وكلم به موسى وأن موسى سمع نداء الله بأذنه فكلمه الله بالصوت الذي سمعه موسى كما بين ذلك في كتب الله القرآن والإنجيل والتوراة وغير ذلك
فحدث بعد الصحابة وأكابر التابعين طائفة معطلة يقولون إن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا فقتل المسلمون مقدمهم الجعد وصار لهم مقدم يقال له الجهم فنسبت إليهم الجهمية نفاة الأسماء والصفات
تارة يقولون إن الله لم يتكلم ولم يكلم موسى وإنما أطلق ذلك مجازا

وتارة يقولون تكلم ويتكلم حقيقة ولكن معنى ذلك أنه خلق كلاما في غيره سمعه موسى لا أنه نفسه قام به كلام وهذا قول من يقوله من المعتزلة ونحوهم
وزين هذا القول بعض ذوي الإمارة فدعوا إليه مدة وأظهروه وعاقبوا من خالفهم ثم أطفىء ذلك وأظهر ما كان عليه سلف الأمة أن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله تكلم هو به منه بدا ليس ببائن منه وليس بمخلوق خلقه في غيره
ولما أظهر الله هذا والناس يتلون قول الله تعالى
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله
صار بعض أهل الأهواء يقول إنما سمع صوت القارىء وصوته مخلوق وهو كلام الله فكلام الله مخلوق
ولم يميز هذا بين أن يسمع الكلام من المتكلم به كما سمعه موسى من الله بلا واسطة وبين أن يسمع من المبلغ عنه
ومعلوم أنه لو سمع كلام الأنبياء وغيرهم من المبلغين لم يكن صوت المبلغ هو صوت المبلغ عنه وإن كان الكلام كلام المبلغ عنه لا كلام المبلغ
فكلام الله إذا سمع من المبلغين عنه أولى أن يكون هو كلام الله

لا كلام المبلغين وإن بلغوه بأصواتهم
فجاءت طائفة ثانية فقالوا هذا المسموع ألفاظنا وأصواتنا وكلامنا ليس هو كلام الله لأن هذا مخلوق وكلام الله ليس بمخلوق
وكان مقصود هؤلاء تحقيق أن كلام الله غير مخلوق فوقعوا في إنكار أن يكون هذا القرآن كلام الله ولم يهتدوا إلى أنه وإن كان كلام الله فهو كلام الله مبلغا عنه ليس هو كلامه مسموعا منه ولا يلزم إذا كانت أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة ليست هي كلام الله أن يكون الكلام الذي يقرؤونه بأفعالهم وأصواتهم كلامهم ويكون مخلوقا ليس هو كلام الله
وهؤلاء الذين قالوا ليس هذا كلام الله منهم من قال هو حكاية لكلام الله وطردوا ذلك في كل من بلغ كلام غيره أن يكون ما بلغه حكاية لكلام المبلغ عنه لا كلامه
وأهل الحكاية منهم من يقول إن كلام الرب يتضمن حروفا مؤلفة إما قائما بذاته على قول بعضهم أو مخلوقة في غيره على قول بعضهم والقائم بذاته معنى واحد
ومن هؤلاء من قال الحكاية تماثل المحكي عنه فلا نقول هو حكاية بل هو عبارة عنه والتقدير عندهم فأجره حتى يسمع كلام عبارته أو حكايته
فجاءت طائفة ثالثة فقالت بل قد ثبت أن هذا المسموع

كلام الله وكلام الله ليس بمخلوق وهذا المسموع هو الصوت فالصوت غير مخلوق
ثم من هؤلاء من قال إنه قديم ومنهم من قال ليس بقديم ومنهم من قال يسمع صوت الرب والعبد ومنهم من قال إنما يسمع صوت الرب
ثم منهم من قال إنه قديم ومنهم من قال إنما يسمعه من العبد
وهؤلاء منهم من قال إن صوت الرب حل في العباد فضاهوا النصارى
ومنهم من قال بل نقول ظهر فيه من غير حلول ومنهم من يقول لا يطلق لا هذا ولا هذا
وكل هذه الأقوال محدثة مبتدعة لم يقل شيئا منها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا إمام من أئمة المسلمين كمالك والثوري

والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد

والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن عيينة وغيرهم
بل هؤلاء كلهم متفقون على أن القرآن منزل غير مخلوق وأن الله أرسل به جبريل فنزل به جبريل على نبيه محمد فبلغه محمد إلى الناس فقرأه الناس بحركاتهم وأصواتهم وليس شيء من أفعال العباد وأصواتهم قديما ولا غير مخلوق ولكن كلام الله غير مخلوق ولم يكن السلف يقولون القرآن قديم
ولما أحدث الجهمية وموافقوهم من المعتزلة وغيرهم أنه مخلوق بائن من الله قال السلف والأئمة إنه كلام الله غير مخلوق

ولم يقل أحد من السلف إن الله تكلم بغير قدرته ومشيئته ولا أنه معنى واحد قائم بالذات ولا أنه تكلم بالقرآن أو التوراة أو الإنجيل في الأزل بحرف وصوت قديم فحدث بعد ذلك طائفة فقالوا إنه قديم
ثم منهم من قال القديم هو معنى واحد قائم بالذات هو معنى جميع كلام الله
وذلك المعنى إن عبر عنه بالعبرية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا والأمر والنهي والخبر صفات له لا أنواع له
ومن هؤلاء من قال بل هو قديم وهو حروف أو حروف وأصوات أزلية قديمة وأنها هي التوراة والإنجيل والقرآن
فقال الناس لهؤلاء خالفتم الشرع والعقل في قولكم إنه قديم وابتدعتم بدعة لم يسبقكم إليها أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وفررتم من محذور إلى محذور كالمستجير من الرمضاء بالنار
ثم قولكم إنه معنى واحد وهو مدلول جميع العبارات مكابرة للعقل والشرع فإنا نعلم بالاضطرار أنه ليس معنى آية

الكرسي هو معنى آية الدين ولا معنى تبت يدا أبي لهب هو معنى سورة الإخلاص
والتوراة إذا عربناها لم تصر هي القرآن العربي الذي جاء به محمد وكذلك إذا ترجمنا القرآن بالعبرية لم يكن هو توراة موسى
وقول من قال منكم إنه حروف أو حروف وأصوات أزلية ظاهر الفساد فإن الحروف متعاقبة فيسبق بعضها بعضا والمسبوق بغيره لا يكون قديما لم يزل والصوت المعين لا يبقى زمانين فكيف يكون قديما أزليا
والسلف والأئمة لم يقل أحد منهم بقولكم لكن قالوا إن الله تكلم بالقرآن وغيره من الكتب المنزلة وإن الله نادى موسى بصوت سمعه موسى بأذنه كما دلت على ذلك النصوص
ولم يقل أحد منهم إن ذلك النداء الذي سمعه موسى قديم أزلي ولكن قالوا إن الله لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء لأن الكلام صفة كمال لا صفة نقص وإنما تكون صفة كمال إذا قام به لا إذا كان مخلوقا بائنا عنه فإن الموصوف إلا بما قام به لا يتصف بما هو بائن عنه فلا يكون الموصوف حيا عالما قادرا متكلما رحيما مريدا بحياة قامت بغيره ولا بعلم وقدرة قامت بغيره ولا بكلام ورحمة وإرادة قامت بغيره
والكلام بمشيئة المتكلم وقدرته أكمل ممن لا يكون بمشيئته وقدرته
وأما كلام يقوم بذات المتكلم بلا مشيئته وقدرته فإما أنه ممتنع

أو هو صفة نقص كما يدعى مثل ذلك في المصروع
وإذا كان كمالا فدوام الكمال له وأنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال أكمل من كونه صار متكلما بعد أن لم يكن لو قدر أن هذا ممكن فكيف إذا كان ممتنعا
وكان أئمة السنة والجماعة كلما ابتدع في الدين بدعة أنكروها ولم يقروها ولهذا حفظ الله دين الإسلام فلا يزال في أمة محمد طائفة هادية مهدية ظاهرة منصورة
بخلاف أهل الكتاب فإن النصارى ابتدعوا بدعا خالفوا بها المسيح وقهروا من خالفهم ممن كان متمسكا بشرع المسيح حتى لم يبق حين بعث الله محمدا من هو متمسك بدين المسيح إلا بقايا من أهل الكتاب كما قال النبي في الحديث الصحيح إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب
فلما أظهر قوم من الولاة أن القرآن مخلوق ودعوا الناس إلى ذلك ثبت الله أئمة السنة وجمهور الأمة فلم يوافقوهم وكان المشار إليه من الأئمة إذ ذاك أحمد بن حنبل
ثم بقي ذلك القول المحدث ظاهرا نحو أربع عشر سنة وأئمة الأمة وجمهورها ينكرونه حتى جاء من الولاة من منع من إظهاره

والقول به فصار مخفيا كغيره من البدع وشاع عند العامة والخاصة أن القرآن كلام الله غير مخلوق
فأراد بعض الناس أن يجيب عن شبهة من قال إن هذا الذي يقوم بنا مخلوق فقال القرآن كلام الله غير مخلوق ولكن ألفاظنا بة مخلوقة وتلاوتنا لة مخلوقة
وربما قالوا هذا الذي نقرأه مخلوق أو هذا ليس هو كلام الله فقصدوا معنى صحيحا وهو كون صفات العباد وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة
لكن غلطوا حيث أطلقوا القول أو أفهموا الناس بأن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون مخلوق ولم يهتدوا إلى أنا إذا أشرنا إلى كلام متكلم قد بلغ عنه فقلنا مثلا لما روي عن النبي كقوله إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى هذا كلام رسول الله أو لقول الشاعر ألا

كل شيء ما خلا الله باطل هذا كلام لبيد بن ربيعة ونحو ذلك
فإنا نشير إلى نفس الكلام معانيه ونظمه وحروفه لا إلى ما يختص بالمبلغ من حركته وصوته بل ولا صوت المبلغ عنه وفعله
فإن كون الحي متحركا أو مصوتا قدر مشترك بين الناطق والأعجم وليس هذا صفة له
والكلام الذي يتميز به الناطق عن الأعجم إنما يتميز بالمعاني القائمة به وباللفظ المطابق لها من الحروف المنظومة بالأصوات المقطعة
وهذا أمر يختص به المتكلم بالكلام لا المبلغ عنه فليس للمبلغ إلا تأدية ذلك
ولهذا لو قال قائل لشعر لبيد ألا كلا شيء ما خلا الله باطل فقال هذا شعري أو كلامي لكونه أنشده بصوته لكذبه الناس
ولو قال هذا الذي أقوله مثل شعر لبيد لكذبه الناس وقالوا بل هو شعره نفسه ولكن أديته بصوتك

بخلاف ما إذا قال قائل قولا نظما أو نثرا وقال آخر مثله فإن الناس يقولون هذا مثل قول فلان كما قال تعالى
كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم
وقال عن القرآن
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله
ولهذا لو قال قارىء أنا آتي بقرآن مثل قرآن محمد وتلاه نفسه وقال هذا مثله لأنكر الناس ذلك وضحكوا منه وقالوا هذا القرآن الذي جاء به هو ليس هو كلام آخر مماثل له
فإذا كان القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله الذي بلغه الرسول لم يجز أن يقال ليس هو بكلام الله بل هو مثل له أو حكاية عنه أو عبارة
وإذا كان معلوما إنما هو كلام الله فقد تكلم الله به سبحانه لم يخلقه بائنا عنه ولم يجز أن يقال لما هو كلامه إنه مخلوق
فإذا قيل عن ما يقرؤه المسلمون إنه مخلوق والمخلوق بائن

عن الله ليس هو كلامه فقد جعل مخلوقا ليس هو بكلام الله فصار الأمة يقولون هذا كلام الله وهذا غير مخلوق لا يشيرون بذلك إلى شيء من صفات المخلوق بل إلى كلام الله الذي تكلم به وبلغه عنه رسوله
والمبلغ إنما بلغه بصفات نفسه والإشارة في مثل هذا يراد بها الكلام المبلغ لا يراد بها ما به وقع التبليغ
وقد يراد بهذا الثاني مع التقييد كما في مثل الاسم إذا قيل عبدت لله ودعوت الله فليس المراد أن المعبود المدعو هو الاسم الذي هو اللفظ بل المعبود المدعو هو المسمى باللفظ فصار بعضهم يقول الاسم هو غير المسمى حتى قيل لبعضهم أقول دعوت الله فقال لا تقل هكذا ولكن قل دعوت المسمى بالله وظن هذا الغالط أنك إذا قلت ذلك فالمراد دعوت هذا اللفظ ومثل هذا يرد عليه في اللفظ الثاني
فما من شيء عبر عنه باسم إلا والمراد بالاسم هو المسمى فإن الأسماء لم تذكر إلا لبيان المسميات لا أن الاسم نفسه هو ذات المسمى
فمن قال إن اللفظ والمعنى القائم بالقلب هو عين المسمى فغلطه واضح
ومن قال إن المراد بالاسم في مثل قولك دعوت الله وعبدته

هو نفس اللفظ فغلطه واضح ولكن اشتبه على الطائفتين ما يراد بالاسم ونفس اللفظ
كذلك أولئك اشتبه عليهم نفس كلام المتكلم المبلغ عنه الذي هو المقصود بلفظ المبلغ وكتابته بنفس صوت المبلغ ومداده
والفرق بين هذا وهذا واضح عند عامة العقلاء
وإذا كتب كاتب اسم الله في ورقة ونطق باسم الله في خطابه وقال قائل أنا كافر بهذا ومؤمن بهذا كان مفهوم كلامه أنه مؤمن أو كافر بالمسمى المراد باللفظ والخط لا أنه يؤمن ويكفر بصوت أو مداد
فكذلك من قال لما يسمعه من القراء ولما يكتب في المصاحف أن هذا كلام الله
أو قال لما يسمع من جميع المبلغين لكلام غيرهم ولما يوجد في الكتب هذا كلام زيد فليس مرادهم ذلك الصوت والمداد إنما هو المعنى واللفظ الذي بلغه زيد بصوته وكتب في القرطاس بالمداد
فإذا قيل عن ذلك إنه مخلوق فقد قيل إنه ليس كلام الله ولم يتكلم به
ومن قصد نفس الصوت أو المداد وقال إنه مخلوق فقد أصاب كما أن من قصد نفس الصوت أو الخط وقال ليس هذا هو كلام الله بل هو مخلوق فقد أصاب لكن ينبغي أن يبين مراده بلفظ لا لبس فيه

فلهذا كان الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره ينكرون على من أطلق القول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق ويقولون من قال إنه مخلوق فهو جهمي ومن قال إنه غير مخلوق فهو مبتدع ومن قال إنه مخلوق هنا فقد يقولون ليس هو كلام الله وهذا خلاف المتواتر عن الرسول وخلاف ما يعلم بمثل ذلك بصريح المعقول
فإن الناس يعلمون بعقولهم أن من بلغ كلام غيره فالكلام كلام المبلغ عنه الذي قاله مبتديا أمرا بأمره مخبرا بخبره لا كلام من قاله مبلغا عنه مؤديا
ولهذا كان النبي يقول في المواسم ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي رواه أبو داود وغيره عن جابر
ولما أنزل الله تعالى
الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون

قال بعض الكفار لأبي بكر الصديق هذا كلامك أم كلام صاحبك قال ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله
فلهذا اشتد به إنكار أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الإسلام وبالغ قوم في الإنكار عليهم وقالوا لفظنا بالقرآن غير مخلوق وأطلقوا عبارات تتضمن وتشعر أن يكون شيء من صفات العباد غير مخلوقة فأنكر ذلك أحمد وغيره كما أنكر ذلك ابن المبارك وإسحاق بن راهويه والبخاري وغير هؤلاء من أئمة السنة وبينوا أن الورق والمداد وأصوات العباد وأفعالهم مخلوقة وأن كلام الله الذي يحفظه العباد ويقرؤونه ويكتبونه غير مخلوق
فكلام أئمة السنة والجماعة كثير في هذا الباب متفق غير مختلف وكله صواب

ولكن قد يبين بعضهم في بعض الأوقات ما لا يبينه غيره لحاجته في ذلك
فمن ابتلي بمن يقول ليس هذا كلام الله كالإمام أحمد كان كلامه في ذم من يقول هذا مخلوق أكثر من ذمه لمن يقول لفظي مخلوق
ومن ابتلي بمن يجعل بعض صفات العباد غير مخلوق كالبخاري صاحب الصحيح كان كلامه في ذم من يجعل ذلك غير مخلوق أكثر مع نص أحمد والبخاري وغيرهما على خطأ الطائفتين

فصل
قال سعيد بن البطريق وليس حلول كلمة الله الخالقة والتحامها بجوهر الناسوت عن انتقال ولا تغير ولا احتيال من واحد من الجوهرين عن كثافة فلا الإلهي احتال أن يكون إلها خالقا ولا الناسي احتال عن أن يكون ناسيا مخلوقا
والاحتيال والتغير إنما يلزم الخلطة إذا كانت من خلقين ثقيلين غليظين مثل الماء والخمر أو الماء والعسل أو السمن والعسل والذهب والورق والنحاس والرصاص وما أشبه ذلك لأن كله ثقيل غليظ وكل ثقل تخالطه ثقلة لا محالة يلزمه التغير حتى يصير إلى ما كانت عليه الأثقال فلا الخمر خمرا ولا الماء ماء بعد اختلاطهما ولكنهما احتالا جميعا عن جوهرهما فصار إلى أمر متغير ليس هو أحدهما بعينه ولا أحدهما خالص من الفساد والاحتيال عن حاله
فأما إذا كانت الخلطة من خلق لطيف وخلق غليظ لم يخالط تلك الخلطة تغير ولا احتيال مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا

أحدهما يلتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واحتالت أي استحالت عن جوهرها أن تكون نفسا تعرفها بفعالها ولا الجسد تغير ولا احتال عن حاله وأفعاله ومثل ما كان تخالط النار والحديد فيلتحمان جميعا فيكونان جمرة واحدة من غير أن تكون النار قد تغيرت إلى أن تكون حديدة ثقيلة تشج وتقطع ولا الحديدة تغيرت واحتالت إلى أن تكون نارا تحرق فكذلك تفعل كل خلطة مؤلفة من شيئين مختلفين أحدهما روحاني لطيف والآخر ثقلي غليظ مثل النفس والجسد والنار والحديد ومثل الشمس المخالطة للماء والطين وكل رطوبة وحمأة فهي لا تتغير ولا تحتال عن نورها ونقائها وضوئها مع مخالطتها كل سواد وسخ ونتن ونجس
قال والخلطة تكون على ثلاثة أوجه
أحدها خلطة باختلاط من الطبيعتين الثقيلتين واحتيالهما وفسادهما مثل خلطة الخمر والماء والخل والعسل والذهب والورق والرصاص والنحاس فإن في ذلك كله وما أشبهه احتيالا وفسادا لأن مزاج الخمر والماء ليس بخمر ولا ماء لاحتيال كل واحد منهما عن طبعه واختلاطهما بفسادهما وتغيرهما عن حالهما

وكذلك خلطة الخل والعسل قد صارت لا خلا ولا عسلا لاحتيال كل واحد منهما وخلطة الذهب والورق على مثل ذلك صارت على غير صحة لا من الذهب ولا من الورق وخلطة الورق والنحاس على غير صحة لا من الورق ولا من النحاس فهذا وجه من الوجه الثلاثة
والوجه الثاني خلطة افتراق من الطبيعتين الثقيلتين وقد تعرف من تلك الخلطة كل واحدة من الطبيعتين ثابتة في الأخرى بقوامها ووجهها مثل الزيت والماء في قنديل واحد ومثل الكتان والقز في ثوب واحد منسوج بكتان مضلع بقز ومثل صنم نحاس رأسه من ذهب وما أشبه ذلك مما لا ينبغي أن يسمى خلطة مع افتراق الطبيعتين والقوامين مثل ما لا ينبغي أن يكون بين الماء والقلة التي هو فيها خلطة لأن طبيعة القلة فخار قوامها قلة وليس بينهما وبين الماء خلطة بل أشد الفرقة
وكذلك الماء والزيت لولا أن وعاء القنديل الذي هما فيه ضمهما ما اجتمعا
وكذلك الكتان والقز ليس بينهما خلطة وإن كانا في ثوب واحد ولا بين الذهب والنحاس ولم يسبكا خلطة وإن جمعها صنم واحد
فهاتان الخلطتان لا تكونا أبدا إلا في أثقات جسمانيات غليظة
فإن التحم بعضهما ببعض مثلما يذاب الذهب والنحاس ويفرغان جميعا وقعت في وجه خلطة الاحتيال والفساد لأن تلك النقرة ليست بذهب صحيح ولا بنحاس صحيح

فإن لم تلحم وألزم بعضها بعضا مثل طوق يكون من نحاس وذهب وقعت من وجه خلطة الافتراق التي لا يحق لها أن تسمى خلطة
وفي هذين الوجهين وقع نسطورس وأشياعه فلزموا خلطة الاحتيال والفساد فزعموا أن الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسية اختلطا في المسيح الواحد فهو ذو قوام واحد بطبيعة واحدة مختلطة من طبيعتين مختلفتين إلهية وناسية فأقروا أنهما قد احتالا والاحتيال فساد
وألزموا على هذا القول الكافر طبيعة الله المصائب والموت وصيروا المسيح لا إلها صحيحا ولا إنسانا مثل الذهب والنحاس
فنسطورس وأشياعه لزموا خلطة الفرقة والانقطاع فزعموا أن المسيح الواحد ذو طبيعتين مختلفتين الإلهية وناسية وذو قوامين معروفين إلهي وناسي فصيروا الفرقة خلطة كالطوق الملون نصفين أحدهما ذهب والآخر نحاس والثوب المبطن ظاهره خز وباطنه قطن ليس بينهما خلطة في طبيعة ولا قوام
وليس لهم على هذا أن يؤمنوا بمسيح واحد لأن الطوق الملون طوقان والثوب المبطن ثوبان
فالمسيح مثل ذلك مسيحان واحد إلهي بطبيعته وقوامه مثل قضيب الذهب في الطوق الملون ومثل ظهارة الخز في الثوب المبطن
والآخر ناسي مثل قضيب النحاس في الطوق وبطانة القطن في الثوب

والعجب كل العجب كيف لم يفصل أهل الخلاف والشقاق بين الصنفين كليهما ولم يفهموا أن هاتين الخلقتين أنهما خلقتان ذواتا أثقال جسمانية غليظة ليس فيهما شيء من الخلق الروحاني اللطيف الخفيف ولذلك لا تقدر الأثقال الغليظة على الخروج من هذين الوجهين من وجوه الخلطة لأنهما إن اختلطا خلطة ملتحمة ممتزجة صارت إلى احتيال وفساد وإن قامت على حالها لا تلتحم ولا يمتزج بعضها ببعض فهي على وجه خلطة الافتراق ومنقطعة بعضها من بعض وإن جمعها صنم واحد أو ثوب واحد فليس يوجد لشيء من الأثقال الجسمانية وجه خلطة سوى هذين الوجهين أبدا إما فساد وإما انقطاع إلا أن تكون الخلطة في اثنين أحدهما ثقيل جسماني والآخر لطيف روحاني فإن ذلك هو
الوجه الثالث من الخلطة وهي خلطة الحلول بلا اختلاط ولا احتيال ولا فساد ولا فرقة ولا انقطاع لكنها نفاذ الطبيعة الروحانية في الطبيعة الثقيلة السفلية حتى تنتشر في جميعها وتحل بكلها فلا يبقى موضع من الطبيعة الثقيلة السفلية خلوا من الطبيعة الروحانية ولا احتيال من الثقيلة الجسمانية عن طبيعتها الغليظة الثقيلة ولا تغيير ولا فساد لإحداهما مثل خلطة النفس والجسد ومثل خلطة النار والحديد في قوام جمرة واحدة فهي جمرة واحدة بالقوام من طبيعة نار ملتحمة مخالطة لطبيعة الحديدة بلا فرقة من انقطاع ولا تخليط احتيال وفساد

وقد انتشرت النار في جميع الحديدة ولبستها وأنالت النار الحديدة من قوامها وقوتها حتى أنارت الحديدة وأحرقت ولم تنل النار من ضعف الحديدة شيئا من السواد ولا البرودة
فعلى هذا الوجه من الخلطة دبرت كلمة الله الخالقة خلطتها للطبيعة البشرية
فهو مسيح واحد ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل الأدهار كلها نور من نور إله حق من إله حق مولود ليس بمخلوق من سوس أبيه وجوهره وطبيعته وهو إياه من مريم العذراء المولود منها في آخر الزمان بقوام واحد قوام ابن الله الوحيد الجامع للطبيعتين كلتيهما الإلهية التي لم تزل في البدء قبل كل بدء والناسية التي كونت في آخر الزمان المقوم بالقوام الأزلي
فهو مسيح واحد بقوام واحد أزلي ذو طبيعتين إلهية لم تزل وناسية خلقها له والتحم بها من مريم العذراء فقوامه ذلك قوام الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسية جامعا لهما بلا اختلاط ولا فساد ولا فرقة انقطاع لم يزل قوام الطبيعة الإلهية ثم هو قوام الطبيعة الناسية قد خلقها وكونها وقومها بقوامه الذي لم يزل يقيم إلا به ولم يعرف إلا له
والجواب عن هذا الكلام بعد أن يقال إنه تناقض

فجعل هذا تارة اختلاطا وتارة يقول ليس هو اختلاطا أن يقال إنه أولا قد يجعل هذا الحلول والالتحام اختلاطا ويقول إنه لا يكون فيه استحالة ولا تغير ويقول الاستحالة والتغيير إنما يلزم الخلطة إذا كانت من خلقين غليظين كالماء والخمر فأما إذا كانت من لطيف وكثيف لم يخالط تلك الخلطة تغير ولا احتيال أي استحالة ويقول والخلطة تكون على ثلاثة أوجه ثم يقول أحدهما كالخمر والماء والثاني كالزيت والماء والكتان والقز ثم يقول وما أشبه ذلك مما لاينبغي أن يسمى خلطة مع افتراق الطبيعتين فيجعله من أقسام الخلطة ثم يقول ولا ينبغي أن يسمى خلطة
وليس المقصود المنازعات اللفظية بل يقول دعواه أن أحد نوعي الاختلاط يكون عن تغير واستحالة بخلاف النوع الآخر الذي هو اختلاط لطيف وغليظ دعوى ممنوعة ولم يقم عليها دليلا بل يقول هي باطلة بل لا يكون الاختلاط بين شيئين إلا مع تغير واستحالة
وما ذكره من الأمثال والشواهد فهي حجة عليه لقوله فأما إذا كانت الخلطة من خلق لطيف وخلق غليظ لم يخالط تلك الخلطة تغير

ولا احتيال مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا أحدهما ملتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واحتالت عن جوهرها أن تكون نفسا تعرفها بفعالها ولا الجسد تغير واستحال عن حاله وفعاله
فيقال هذا قول باطل ظاهر البطلان لكن من تصوره فإن الجسد إذا خلا عن النفس مثل ما يكون قبل نفخ الروح فيه وما يكون بعد مفارقة الروح له بالموت بل آدم عليه السلام أبو البشر خلق من تراب وماء وصار صلصالا كالفخار ثم نفخت فيه الروح فصار جسدا هو لحم وعظم وعصب ودم
فهل يقول عاقل إن جسد آدم قبل النفس وبعدها على صفة واحدة لم يتغير ولم تستحل وذريته من بعده يخلق أحدهم من نطفة ثم علقة ثم مضغة فيكون جسدا ميتا ثم ينفخ فيه الروح فيصير الجسد حيا بعد أن كان ميتا
وأي تغيير أعظم من انتقال الجسد من الموت إلى الحياة
ومعلوم بالحس والعقل الفرق بين الحي والميت كما قال تعالى
وما يستوي الأحياء ولا الأموات
والجسد إذا لم ينفخ فيه الروح فهو موات ليس له حس ولا حركة إرادية ولا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يعقل ولا يبطش ولا يأكل

ولا يشرب ولا يمني ولا ينكح ولا يتفكر ولا يحب ولا يبغض ولا يشتهي ولا يغضب
فإذا اتصلت به النفس تغيرت أحواله واستحالت صفاته وصار حساسا متحركا بالإرادة فكيف يقال مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا أحدهما يلتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واستحالت عن جوهرها أن تكون نفسا يعرفها بفعالها ولا الجسد تغير ولا استحال عن حاله وأفعاله
فهل يقول عاقل يتصور ما يقول إن الجسد كان حاله وفعاله مع مفارقة النفس له كحاله وفعاله مع مخالطتها له
وهل يقول عاقل إن الجسد بعد موته ومفارقة النفس له حاله وفعاله كحاله وفعاله إذا كانت النفس مختلطة به وهو إذا مات كالجماد لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يبطش ولا يمشي قد جمد دمه واسود ولم يبق سائلا وتغير سحنته ولونه وتغير الجسد بالحياة بعد الموت وبالموت بعد الحياة من أعظم التغيرات والاستحالات
وكذلك النفس فإن النفس عند اتصالها بالبدن تلتذ بلذته وتتألم بألمه
فإذا أكل البدن وشرب ونكح واشتم التذت النفس وإذا ضرب البدن وصفع وأهين وحط الشوك على رأسه وبصق في وجهه تألمت النفس بذلك
فإذا شبهوا اتحاد الرب بالمسيح باتحاد النفس بالبدن وهم

يقولون إن المسيح وكل أحد إذا ضرب وصفع وصلب فتألم بدنه تألمت نفسه أيضا
فإن كل الألم مع نفس المسيح وجسده كالنفس مع الجسد وجب أن يكون الرب يتألم بتألم الناسوت ويجوع بجوعه ويشبع بشبعه فإن ألم الجوع ولذة الشبع يحصل للنفس إذا جاع البدن وشبع
وأيضا فالمسيح عندهم إله تام وإنسان تام والإله إله قبل الاتحاد والإنسان إنسان قبل الاتحاد
فهم يقولون إنهما بعد الاتحاد إله تام كما كان وإنسان تام كما كان
فنظير هذا أن يكون الإنسان المركب من بدن ونفس نفسا تامة وبدنا تاما وأن تكون الحديدة المحماة حديدا تاما ونارا تامة وهو باطل بل الإنسان مركب من نفس وبدن والإنسان اسم لمجموع ليس الإنسان روحا والإنسان بدنا
فلو كان الاتحاد حقا لوجب أن يقال إن المسيح نصفه لاهوت ونصفه ناسوت وهو مركب من هذا وهذا
ولا يقال إن المسيح نفسه إنسان تام والمسيح نفسه إله تام فإن تصور هذا القول على الوجه التام يوجب العلم الضروري حيث جعلوا

المسيح الذي هو المبتدأ الموضوع المخبر عنه المحكوم عليه هو إنسان تام وإله تام يوجب أن يكون نفس الإنسان هو نفس الإله
ولو قيل هذا في مخلوقين فقيل نفس الملك نفس البشر لكان ظاهر البطلان فكيف إذا قيل في رب العالمين لا سيما وكثير من النصارى لا يقولون إن جسد المسيح مخلوق بل يصفون الجميع بالإلهية وهذا مقتضى قول أئمتهم القائلين إن المسيح إله تام لكنهم تناقضوا فقالوا مع ذلك وهو إنسان تام فكأنهم قالوا هو الخالق ليس هو الخالق هو مخلوق ليس هو مخلوق فجمعوا بين النقيضين وهذا حقيقة قول النصارى لا سيما واتحاد اللاهوت بناسوت المسيح عندهم اتحاد لازم لم يفارقه البتة فيكون ذلك أبلغ من الاتحاد العارض ومن أن الرب كان متحدا بجسد لا روح فيه ثم بالجسد مع نفخ الروح فيه ثم بالجسد بعد مفارقة الروح له وحيث دفن في القبر ووضع التراب عليه
ومعلوم أن الإنسان إذا كانت فيه النفس وجعلت في التراب معه تألمت النفس ألما شديدا ثم تفارق البدن
ومن العجائب أنهم يقولون إن المسيح صلب ومات ففارقته النفس الناطقة وصار الجسد لا روح فيه واللاهوت مع هذا متحد لم يفارقه وهو في القبر واللاهوت متحد به فيجعلون اتحاده به أبلغ من اتحاد النفس بالبدن

والنفس عند اتصالها بالبدن تتغير وتتبدل صفاتها وأحوالها ويصير لها من الصفات والأفعال ما لم يكن بدون البدن وعند مفارقة البدن تتغير صفاتها وأفعالها
فإن كان تمثيلهم مطابقا لزم أن يكون الرب قد تغيرت أوصافه وأفعاله لما اختلط بالمسيح كما تتغير صفات النفس وأفعالها ويكون الرب قبل هذا الاختلاط كالنفس المجردة التي لم تقترن ببدن
وأيضا فالنفس والبدن شريكان في الأعمال الصالحة والفاسدة لهما الثواب وعليهما العقاب والثواب والعقاب على النفس أكمل منه على البدن فإن كان الرب كذلك كان جميع ما يفعله المسيح باختياره فعل الرب كما أن جميع ما يفعله البدن باختيار فعل النفس عن التي تخاطب بالأمر والنهي فيقال لها كلي واشربي وانكحي ولا تأكلي ولا تشربي ولا تنكحي
فإن كان الرب مع الناسوت كذلك كان الرب هو المأمور والمنهي بما يأمر به المسيح وكان الرب هو المصلي الصائم العابد الداعي وبطل قومهم يخلق ويرزق بلاهوته ويأكل ويعبد بناسوته
فإن النفس والبدن لما اتحدا كانت جميع الأفعال الاختيارية للنفس والبدن فإذا صلى الإنسان وصام ودعا فالنفس والبدن يوصفان بذلك جميعا بل النفس أخص بذلك وكذلك إذا أمر أو نهى فكلاهما موصوف بذلك وكذلك إذا ضرب فألم الضرب يصل

إليهما كما تصل إليهما لذة الأكل والجماع
بل أبلغ من ذلك أن الجني إذا دخل في الإنسي وصرعه وتكلم على لسانه فإن الإنسي يتغير حتى يبقى الصوت والكلام الذي يسمع منه ليس هو صوته وكلامه المعروف
وإذا ضرب بدن الإنسي فإن الجني يتألم بالضرب ويصيح ويصرخ ويخرج منه ألم الضرب كما قد جرب الناس من ذلك ما لا يحصى ونحن قد فعلنا من ذلك ما يطول وصفه
فإذا كان الجني تتغير صفاته وأحواله لحلوله في الإنسي فكيف بنفس الإنسان
وعندهم اتحاد اللاهوت بالناسوت أتم وأكمل من اتحاد النفس بالجسد
فهل يقول عاقل مع هذا الاتحاد إنهما جوهران لكل منهما أفعال اختيارية لا يشركه الآخر فيها
ويقولون مع قولهم بالاتحاد إن الذي كان يصلي ويصوم ويدعو ويتضرع ويتكلم ويتألم ويضرب ويصلب هو نظير البدن والذي كان يأمر وينهي ويخلق ويرزق هو نظير النفس
هذا مع قولهم إن مريم ولدت اللاهوت مع الناسوت وأنه اتحد به مع كونه حيا وقبل حياته وعند مماته والجسد في ذلك كله كسائر أجساد الآدميين لم يظهر فيه شيء من خصائص الرب أصلا بل ولا بعد إتيانه بالآيات فإن تلك كان يجري مثلها وأعظم منها على يد

الأنبياء فهذا أقرب أمثالهم وقد ظهر فساده
وأبعد منه وأشد فسادا تمثيلهم ذلك بالنار والحديد
ومعلوم عند كل من له خبرة أن النار إذا اتصلت بشيء من الأجسام الحيوانية والنباتية والمعدنية مثل جسد الإنسان وغيره ومثل الخشب والقصب والقطن وغيره ومثل الحديد والذهب والفضة فإنها تغير ذلك الجسد وتبدل صفاته عما كانت فتحرقه أو تذيبه أو تلينه والنار المختلطة به لا تبقى نارا محضة بل تستحيل وتتغير أيضا
فقول هؤلاء ومثل ما تختلط النار والحديد فيلتحمان جميعا فيكونان جمرة واحدة من غير أن تكون النار تغيرت إلى أن تكون حديدة ثقيلة تشج وتقطع ولا الحديدة تغيرت واستحالت إلى أن تكون نارا تحرق كلام باطل ملبس فإن الجمرة ليست حديدة محضة ولا نارا محضة بل نوعا ثالث
وقوله لم تتغير النار إلى أن تصير حديدة ولا الحديدة إلى أن تصير نارا تلبيس
فإن الاختلاط لا يتضمن الاستحالة والتغير كاختلاط الكثيفين الذي سلمه مثل الماء والخمر والماء والعسل والسمن والعسل والذهب والورق والنحاس والرصاص قد قال فيه إنه لا الخمر خمر ولا الماء ماء بعد اختلاطهما ولكنهما استحالا جميعا عن جوهرهما فصارا إلى أمر متغير ليس هو أحدهما بعينه ولا أحدهما خالصا من الفساد والاستحالة عن حاله
فيقال له فهذا الذي سلمت فيه الفساد والاستحالة لم يصر

الخمر فيه ماء ولا الماء فيه خمرا فكذلك مورد النزاع إذا لم تصر النار حديدة ولا الحديدة نارا لم ينفعك هذا النفي ولم يكن هذا مانعا من الاستحالة إلى نوع ثالث ومن الاستحالة والفساد كما ذكرته في اختلاط الكثيفين فإنه معلوم أن ما خالطته النار واتحدت به غيرته وأحالته وأفسدت صورته الأولى والنار الملتحمة به ليست نارا محضة
ومعلوم أيضا أن الجمرة التي ضربتها مثلا للمسيح فقلت إن الله وعيسى اتحدا كاتحاد النار والحديد حتى صارا جمرة فمعلوم أن الجمرة إذا ضربت بالمطرقة أو وضعت في الماء أو مدت فإن هذه الأفعال تقع بالمجموع لا تقع على حديدة بلا نار ولا نار بلا حديدة
فيلزم من ذلك أن يكون ما حل بالمسيح من ضرب وبصاق في الوجه ووضع الشوك على الرأس ومن أكل وشرب وعبادة ومن مشي وركوب ومن حمل وولادة وغير ذلك مما حل بالمسيح ومن موت إما متقدم وإما متأخر إذا نزل إلى الأرض ومن صلب على قولهم أن يكون جميع ذلك حل بالمسيح الذي هو عندهم إله تام وإنسان تام من غير فرق بين لاهوته ولا ناسوته كما يكون ما يحل بجمرة النار من حمل ووضع وطرق بالمطرقة ومد وتصوير بشكل مخصوص وإلقاء في الماء وغير ذلك حال بمجموع الجمرة لا يقول عاقل إن ذلك يحل بالحديد دون النار بل هو حال بالجمرة المستحيلة من حديدة ونار ومن خشبة ونار وليست حديدة محضة

ولا نارا محضة ولا مجموع حديد محض ونار محضة بل جوهر ثالث مستحيل من حديد ونار كسائر ما يستحيل بالاتحاد والاختلاط إلى حقيقة ثالثة
فلا فرق بين الشيئين إذا اتحدا واختلطا وصارا شيئا واحدا من أن يكونا كثيفين أو يكون أحدهما كثيفا والآخر لطيفا لا بد في ذلك كله أن يحصل لكل منهما من التغير والاستحالة ما يوجب الاتحاد وأن يكون المتحد المختلط المركب منهما شيئا ثالثا ليس هو احدهما فقط ولا هو مجموع كل منهما على حاله
فقولهم إنه مع الاتحاد إنسان تام وإله تام كلام فاسد معلوم الفساد بصريح العقل
وكلما ضربوا له مثلا كان المثل حجة على فساد قولهم بل مع الاتحاد ليس بإنسان تام ولا إله تام لكنه شيء ثالث مركب من إنسان استحال وتغير وإله استحال وتغير
وإذا كان كل من هذين باطلا بل إنسانية المسيح باقية تامة كما كانت لم تستحل ولم تتغير ورب العالمين باق بصفات كماله لم يستحل ولم يتصف بشيء من خصائص المخلوقات ولا استحال عما كان عليه قبل ذلك كان قولهم ظاهر الفساد

فهذا مثلهم الثاني الذي ضربوه لله حيث شبهوا المسيح أو الله مع الإنسان بالنفس مع الجسد وشبهوه بالنار مع الحديد وهذا المثل أشد فسادا وأظهر
وأما المثل الثالث وهو تمثيل ذلك بالشمس مع الماء والطين فهو أشد فسادا فإنهم قالوا كما تقدم ومثل الشمس المخالطة للماء والطين وكل رطوبة وحمأة فهي لا تتغير ولا تستحيل عن نورها وبقائها وضوئها مع مخالطتها كل سواد ووسخ ونتن ونجس
فيقال أما جرم الشمس الذي في السماء فلم يخالط شيئا من الماء والطين ولا اتحد به ولا حل فيه بوجه من الوجوه بل بينهما من البعد ما لا يقدر قدره إلا الله والله تعالى أجل وأعظم وأبعد من مخالطة الإنسان من الشمس للماء والطين
فإذا كانت الشمس نفسها لم تتحد ولم تختلط ولا حلت في الماء والطين بل ولا بغيرها من المخلوقات فرب العالمين أولى أن ينزه عن الاتحاد والاختلاط والحلول بشيء من المخلوقات
ولكن شعاع الشمس حل بالماء والطين والهواء وغير ذلك مما يقوم به الشعاع كما يحل شعاع النار في الأرض والحيطان وإن كان نفس جرم النار القائم بنفسه الذي في ذبالة المصباح هو جوهر قائم بنفسه لم تحل ذاته في شيء من تلك المواضع

ولفظ الضياء والنور ونحو ذلك يراد به الشيء بنفسه المستنير كالشمس والقمر وكالنار قال تعالى
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا
وقال وجعلنا سراجا وهاجا
وسمى سبحانه الشمس سراجا وضياء لأن فيها مع الإنارة والإشراق تسخينا وإحراقا فهي بالنار أشبه بخلاف القمر فإنه ليس فيه مع الإنارة تسخينا فلهذا قال جعل الشمس ضياء والقمر نورا
والمقصود هنا أن لفظ الضياء والنور ونحو ذلك يراد به الشيء المستنير المضيء القائم بنفسه كالشمس والقمر والنار ويراد به الشعاع الذي يحصل بسبب ذلك في الهواء والأرض وهذا الثاني عرض قائم بغيره ليس هو الأول ولا صفة قائمة بالأول ولكنه حادث بسببه
فالشعاع الذي هو الضوء والنور الحاصل على الماء والطين والهواء وغير ذلك هو عرض قائم بغيره وليس هو متحدا به البتة
فهذا المثل لو ضربته النسطورية الذين يقولون إن الناسوت واللاهوت جوهران بطبيعتين حل أحدهما بالآخر لكان تمثيلا باطلا فإن الشمس لم تحل بغيرها ولا صارت مشيئتها ومشيئة غيرها

واحدة كما تقوله النسطورية بل شعاعها حل بغيره والشعاع حادث وكائن عنها
فإذا قيل إن ما يكون عن الرب من نوره وروح قدسه وهداه وكلامه ومعرفته يحل بقلوب أنبيائه والمؤمنين من عباده ومثل ذلك بحلول الشعاع بالأرض كان أقرب إلى العقول ولهذا قال تعالى
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة
قال أبي بن كعب مثل نوره في قلوب المؤمنين بهذا
وكذلك إذا قيل نوره أو هداه أو كلامه وسمى ذلك روحا يحل في قلوب المؤمنين فهو بهذا الاعتبار والله قد سمى ذلك روحا فقال تعالى
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم
وقال تعالى
يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده

وقال تعالى
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
وما جاء في الكتب المتقدمة من أن روح الله أو روح القدس يحل في الأنبياء والمؤمنين فهو حق بهذا الاعتبار
وإذا قيل كلام الله يحل في قلوب القارئين فهو حق بهذا الاعتبار
وأما نفس ما يقوم بالرب فلا يتصور أن يقوم هو نفسه بغير الرب بل ما يقوم بالمخلوق من الصفات والأعراض يمتنع أن يقوم هو نفسه بغيره
فيمتنع في صفات الشمس القائمة بها من شكلها واستدارتها وما قام بها من نور أو غيره أن يقوم بغيرها وكذلك ما قام بجرم النار من حرارة وضوء فلا يقوم بغيرها بل إذا جاورت النار هواء أو غير هواء حصل في ذلك المحل سخونة أخرى غير السخونة القائمة بنفس النار تسخن الهواء الذي يجاورها كما تسخن القدر الذي يوقد تحتها النار فيسخن ثم يسخن الماء الذي فيها مع أن سخونة النار باقية فيها وسخونة القدر باقية فيها وسخونة الماء سخونة أخرى حصلت في الماء ليست واحدة من تينك وإن كانت حادثة عنها وجنس السخونة يجمع ذلك كله

ولهذا ذكر الإمام أحمد عن السلف أنهم كرهوا أن يتكلم أحد في حلول كلام الله في العباد بنفي أو إثبات فإن لفظ الحلول لفظ مجمل يراد به معنى باطل ويراد به معنى حق
وقد جاء في كلام الأنبياء لفظ الحلول بالمعنى الصحيح فتأوله من في قلبه زيغ كالنصارى وأشباههم على المعنى الباطل وقابلهم آخرون أنكروا هذا الاسم بجميع معانيه وكلا الأمرين باطل
وقد قدمنا أن الناس يقولون أنت في قلبي أو ساكن في قلبي وأنت حال في قلبي ونحو ذلك وهم لا يريدون أن ذاته حلت فيه ولكن يريدون أن تصوره وتمثله وحبه وذكره حل في قلبه كما تقدم نظائر ذلك
والمقصود هنا أن النسطورية لو شبهوا ما يدعونه من اتحاد وحلول بالشعاع مع الطين كان تمثيلهم باطلا فكيف بالملكية الذين هم أعظم باطلا وضلالا فقولهم ومثل الشمس المخالطة للطين والماء وكل رطوبة وحمأة تمثيل باطل من وجوه
منها أن الشمس نفسها لم تتحد ولم تحل بغيرها بل ذلك شعاعها
ومنها أن الشعاع نفسه لم يتحد بالماء والطين ولكن حل به وقام به

ومنها أن ذلك عام في المخلوقات من وجه وبعباده المؤمنين من وجه لا يختص المسيح به فالمخلوقات كلها مشتركة في أن الله خلقها بمشيئته وقدرته وأنه لا قوام لها إلا به فلا حول ولا قوة إلا به وهي كلها مفتقرة إليه محتاجة إليه مع غناه عنها ولهذا كانت من آيات ربوبيته وشواهد إلهيته
ومن سماها مظاهر ومجالي بمعنى أن ذاته نفسها تظهر فيها فهو مفتر على الله ومن أراد بذلك أنه أظهر بها مشيئته وقدرته وعلمه وحكمته فأراد بالمظاهر والمجالي ما يراد بالدلائل والشواهد فقد أصاب
وكذلك إذا قال هي آثاره ومقتضى أسمائه وصفاته
وأما المؤمنون فإن الإيمان بالله ومعرفته ومحبته ونوره وهداه يحل في قلوبهم وهو المثل الأعلى والمثال العلمي فلا اختصاص للمسيح بهذا وكذلك كلامه في قلوب عباده المؤمنين لا اختصاص للمسيح بذلك
ومنها أن الشعاع لم يخالط الماء والطين ولا يخالط شيئا من الأعيان ولا ينفذ فيه ولا يتحد به بل يكون على سطحه الظاهر فقط لكن الشعاع يسخن ما يحل فيه فإذا سخن ذلك سخن جوفه

بالمجاورة كما يسخن الماء بسخونة القدر من غير أن تكون النار خالطت القدر ولا الماء
فأين هذا من قولهم إن رب العالمين اتحد بابن امرأة فصار إلها تاما وإنسانا تاما
وهل يقول عاقل إن الماء والطين صار شعاعا تاما وطينا تاما بل الطين طين لكن أثر الشعاع فيه بتجفيفه لم يتحد به الشعاع ولا نفذ فيه ولا حل في باطنه
فهذا المثل أبعد عن مذهبهم من تمثيلهم بالنار مع الحديد ومن تمثيلهم بالنفس مع الجسد فإن هناك اتصالا بباطن الحديد والبدن وهنا لم يتصل الشعاع إلا بظاهر الطين وغيره
وأيضا فالنفس جوهر قائم بنفسه والشعاع عرض وكذلك النار جوهر فالشمس هنا لم تتحد ولم تحل بالطين بل شعاعها بل ولا يوصف الطين باتحاده بالشعاع ولا باختلاط الشعاع بباطنه ولا بحلول الشمس نفسها فيه
وحينئذ فقول القائل إن الشمس لم تتغير ولم تستحل عن نورها ونقائها وضوئها مع مخالطتها كل وسخ ونتن ونجس إن أريد به نفس الشمس أو صفاتها القائمة بها فتلك لم تتحد بغيرها ولا حلت فيه ولا قامت بغيرها
فإذا كانت الشمس كذلك ولله المثل الأعلى فهو أولى أن لا يتحد بغيره ولا يحل فيه ولا يقوم به

وإن أريد فشعاعها فشعاها ليس هو الشمس فلا ينفعهم التمثيل به فإنهم يقولون إن الله نفسه اتحد بالمسيح والمسيح عندهم هو رب العالمين مع أنه إنسان تام فهو عندهم إله تام إنسان تام والطين ليس بشعاع تام ولا طين تام والشعاع نفسه لا يخالط شيئا ولكن يقوم به وقيام العرض بالمحل غير مخالطته له فإن المخالطة تكون باختلاط كل من الأمرين بالآخر كاختلاط الماء بالطين ونحو ذلك
وأما ما يقوم بالسطح الظاهر فلايقال إنه مخالط بجميع الأجزاء فلا يقال للشعاع الذي على الجبال والبحر إنه مخالط لجميع الجبال والبحر ولا لشعاع النار إنه مخالط للحيطان وداخل للأرض وقد تقدم أنهم قسموا هذا الباب ثلاثة أقسام
أحدها اختلاط أحد الشيئين بالآخر كالماء والخمر
والثاني اتصال من غير اختلاط كالماء والزيت والإناء الذي بعضه فضة وبعضه ذهب وقالوا إن هذا لا ينبغي أن يسمى اختلاطا مع افتراق الطبيعتين والقوامين مثل ما لا ينبغي أن يكون بين الماء والقلة التي هو فيها خلطة لأن طبيعة الفخار ليس بينها وبين الماء خلطة
وهذا الفرق موجود في الشعاع والطين بل بينهما من الفرق

أشد مما بين الماء والقلة فإن الماء جرم قائم بنفسه وهذا عرض قائم بغيره والجسم بالجسم أشبه من الجسم بالعرض
والإله عندهم مخالط لجميع ناسوت المسيح لم يخل جزء منه من اتحاد الإله به فأين هذا من هذا
وإذا قيل إن الشعاع لم يستحل عن نوره ونقائه وضوئه مع مخالطته كل سواد ووسخ ونتن ونجس لم يكن مثلا يطابقه مع أنه لم يخالط الشعاع غيره
ثم يقال إن أراد بما لم يتغير نفس الشعاع القائم بالمحل فهذا ممنوع فإن الشعاع يتغير بتغير محله فيرى في الأحمر أحمر وفي الأسود أسود وفي الأزرق أزرق حتى أن الزجاج المختلف الألوان إذا صار مطرحا للشعاع ظهر الشعاع متلونا بتلون الزجاج فيرى أحمر وأزرق وأصفر
وقد ضرب أهل الإلحاد القائلون بوحدة الوجود وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق لله أمثالا باطلة شر من أمثال النصارى ولهم مثل السوء ولله المثل الأعلى وكان مما ضربوه لله من الأمثال أن شبهوه بالشعاع في الزجاج
فالأعيان الثابتة في العدم عندهم هي الممكنات ووجود الحق قاض عليها فشبهوا وجوده بالشعاع وأعيانهم بالزجاج وهذا باطل من وجوه
منها أن القول بأن أعيان الممكنات ثابتة في العدم قول باطل

ومنها أن قولهم إن وجود الخالق هو عين وجود المخلوق هو أيضا باطل
ومنها أن حلول الشعاع بالزجاج يقتضي حلول أحدهما بالآخر وهم ينكرون الحلول ويقولون الوجود واحد
ومنها أن الشعاع الذي على نفس الزجاج ليس وجوده وجود الزجاج وعندهم وجود الرب وجود الممكنات
ومنها أن الشعاع الحال بهذا الزجاج ليس هو بعينه ذلك الشعاع الحال بالزجاج الآخر وإن كان نظيره وهؤلاء عندهم أن الوجود واحد بالعين لا يتعدد
ومنها أن الشعاع عرض مفتقر إلى الزجاج فهو مفتقر إليه افتقار العرض إلى محله فيلزم إذا مثلوا به الرب أن يكون الرب مفتقرا إلى كل ما سواه مع غنى كل ما سواه عنه وهذا قلب كل حقيقة وأعظم كفر بالخالق تعالى فإنه سبحانه الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه مفتقر إليه
وكل من قال بحلول الله في شيء من المخلوقات من النصارى وغيرهم يلزمهم أن يكون مفتقرا إلى ما حل فيه فإنه لا حقيقة للحلول إلا هذا
ولهذا كان ما حل بقلوب المؤمنين من الإيمان والهدى والنور والمعرفة مفتقرا إلى قلوب المؤمنين ولا يقوم إلا بها

وجميع الصور الذهنية القائمة بالأذهان مفتقرة إلى الأذهان لا تقوم إلا بها والشعاع مفتقر إلى محله لا يقوم إلا به وهكذا سائر النظائر
وهؤلاء الذين شابهوا النصارى وزادوا عليهم من الكفر بقولهم إن وجود الخالق وجود كل مخلوق وإنه قائم بأعيان الممكنات يقولون إنه مفتقر إلى الأعيان في وجوده وهي مفتقرة إليه في ثباتها فيجعلون الخالق محتاجا إلى كل مخلوق والمخلوق محتاجا إلى الخالق ويصرحون بذلك كما يصرح بعض النصارى بأن اللاهوت محتاج إلى الناسوت والناسوت محتاج إلى اللاهوت
ومعلوم أن الله غني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه فهو الصمد المستغني عن كل شيء وكل شيء مفتقر إليه
فمن قال إنه مفتقر إلى مخلوق بوجه ما فهو كاذب مفتر كافر فكيف بمن قال إنه مفتقر إلى كل شيء
والمثل الذي ضربوه له يقتضي أن يكون مفتقرا إلى غيره وغيره مستغن عنه كالمثل الذي ضربه النصارى له لما مثلوه بشعاع الشمس مع محله فإن محل الشعاع مستغن عن الشعاع والشعاع مفتقر إلى محله
فمقتضى هذا التمثيل أن الإله محتاج إلى الإنسان والإنسان

مستغن عن الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا

فصل
وهذا الذي قد ذكره هذا البترك سعيد بن البطريق المعظم عند النصارى المحب لهم المتعصب لهم في أخبارهم التي بين بها أحوالهم في دينهم معظما لدينهم مع ما في بعض الأخبار من زيادة فيها تحسين لما فعلوه وكثير من الناس ينكر ذلك ويكذبه مثل ما ذكره من ظهور الصليب ومن مناظرة أريوس وغير ذلك فإن كثيرا من الناس يخالفه فيما ذكر ويذكر أن أمر ظهور الصليب كان بتدليس وتلبيس وحيلة ومكر ويذكر أن أريوس لم يقل قط إن المسيح خالق
ولكن المقصود أنه إذا صدق هذا فيما ذكره فإنه بين أن عامة الدين الذي عليه النصارى ليس مأخوذا عن المسيح بل هو مما ابتدعه طائفة منهم وخالفهم في ذلك آخرون وأنه كان بينهم من العداوة والاختلاف في إيمانهم وشرائعهم ما يصدق قوله تعالى
ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون

والنصارى يقرون بما ذكره هذا البترك أن أول ملك أظهر دين النصارى هو قسطنطين وذلك بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة وهو نصف الفترة التي بين المسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم فإنها كانت ستمائة سنة أو ستمائة وعشرين
وإذا كان النصارى مقرين بأن ما هم عليه من الإيمان صنعه طائفة منهم مع مخالفة آخرين لهم فيه ليس منقولا عن المسيح وكذلك ما هم عليه من تحليل ما حرمه الله ورسوله وكذلك قتال من خالف دينه وقتل من حرم الخنزير مع أن شريعة الإنجيل تخالف هذا وكذلك الختان وكذلك تعظيم الصليب
وقد ذكروا مستندهم في ذلك أن قسطنطين رأى صورة صليب كواكب
ومعلوم أن هذا لا يصلح أن ينبني عليه شريعة فإن مثل هذا يحصل للمشركين عباد الأصنام والكواكب ما هو أعظم منه وبمثل هذا بدل دين الرسل وأشرك الناس بربهم وعبدوا الأوثان فإن الشيطان يخيل هذا وأعظم منه
وكذلك الإزار الذي رآه من رآه والصوت الذي سمعه هل يجوز لعاقل أن يغير شرع الله الذي بعثت به رسله بمثل هذا الصوت والخيال الذي يحصل للمشركين عباد الكواكب والأصنام ما هو أعظم منه مع أن هذا الذي ذكروه عن بطرس رئيس الحواريين ليس فيه

تحليل كل ما حرم بل قال ما طهره اللة فلا تنجسه وما نجسه الله في التوراة فقد نجسه ولم يطهره إلا أن ينسخه المسيح والحواري لم يبح لهم الخنزير وسائر المحرمات إن كان قوله معصوما كما يظنون
والمسيح لم يحل كل ما حرمه الله في التوراة وإنما أحل بعض ما حرم عليهم ولهذا كان هذا من الأوصاف المؤثرة في قتال النصارى كما قال تعالى
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
وقد ذكر من لعن بعض طوائف النصارى لبعض في مجامعهم السبعة وغير مجامعهم ما يطول وصفه ويصدق قوله تعالى
فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة
وحينئذ فقول هؤلاء من خالفنا لعناه كلام لا فائدة فيه فإن كل طائفة منهم لاعنة ملعونة
فليس في لعنتهم لمن خالفهم إحقاق حق ولا إبطال باطل وإنما يحق الحق بالبراهين والآيات التي جاءت بها الرسل كما قال تعالى
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم

الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
وقد تقدم ما ذكره سعيد بن البطريق من أخبارهم أنه كان يأتي البترك العظيم منهم إلى كنيسة مبنية لصنم من الأصنام يعبده المشركون فيحتال حتى يجعلهم يعبدون مكان الصنم مخلوقا أعظم منه كملك من الملائكة أو نبي من الأنبياء كما كان بالاسكندرية للمشركين كنيسة فيها صنم اسمه ميكائيل فجعلها النصارى كنيسة باسم ميكائيل الملك وصاروا يعبدون الملك بعد أن كانوا يعبدون الصنم ويذبحون له
وهذا نقل لهم من الشرك بمخلوق إلى الشرك بمخلوق أعلى منه أولئك كانوا يبنون الهياكل ويجعلون فيها الأصنام بأسماء الكواكب كالشمس والزهرة وغير ذلك
فنقلهم المبتدعون من النصارى إلى عبادة بعض الملائكة أو بعض الأنبياء ولهذا قال تعالى
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون

وقال تعالى
قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا

فصل
وقد حصل بما ذكرناه الجواب عن قولهم وعلى هذا المثال نقول في السيد المسيح طبيعتان طبيعة لاهوتية التي هي طبيعة كلمة الله وروحه وطبيعة ناسوتية التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به
وعرف أن هذا قول من أقوال النصارى وأن لهم أقوالا أخر تناقض هذا
وكل فريق منهم يكفر الآخر إذ كانوا ليسوا على مقالة تلقوها عن المسيح والحواريين بل هي مقالات ابتدعها من ابتدعها منهم فضلوا بها وأضلوا كما قال تعالى
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
فذكر سبحانه أنهم أضلوا من قبل مبعث محمد

والنصارى أمة يلزمهم الضلال الذي أصله الجهل
ولا يوجد قط من هو نصراني باطنا وظاهرا إلا وهو ضال جاهل بمعبوده وبأصل دينه لا يعرف من يعبد ولا بماذا يعبد مع اجتهاد من يجتهد منهم في العبادة والزهد ومكارم الأخلاق
ثم يقال على هؤلاء قولهم طبيعتان ويقولون أيضا له مشيئتان ويقولون أيضا إنه شخص لم يزد عدده فإنهم يقولون إنهما اتحدا كما ذكروه في كتابهم هذا لا يقولون بشخصين لئلا يلزمهم القول بأربعة أقانيم
ومنهم من يقول هما جوهران ومنهم من يقول جوهر واحد
فإن قالوا هو جوهر واحد صار قولهم من جنس قول اليعقوبية لا سيما وهم يقولون إن مريم ولدت اللاهوت والناسوت وإن المسيح اسم يجمع اللاهوت والناسوت وهو إله تام وإنسان تام
فإذا كان جوهرا واحدا لزم من ذلك أن يكون اللاهوت قد استحال وتغير وكذلك الناسوت فإن الاثنين إذا صارا شيئا واحدا فذلك الشيء الثالث ليس هو إنسانا محضا ولا إلها محضا بل اجتمعت فيه الإنسانية والإلهية مع أنه قد كان الإنسان والإله اثنين

متباينين وهما في اصطلاحهم جوهران فإذا صار الجوهران جوهرا واحدا لا جوهرين فقد لزم ضرورة أن يكون هذا الثالث ليس هو إلها محضا ولا إنسانا محضا ولا جوهران إنسانا وإلها فإن هذين جوهران لا جوهر واحد بل هو شيء ثالث اختلط وامتزج واستحال من هذا وهذا فتبدلت حقيقة الاهوت وحقيقة الناسوت حتى صار هذا الجوهر الثالث الذي ليس لاهوتا محضا ولا ناسوتا محضا كسائر ما يعرف من الاتحاد
فإن كل اثنين اتحدا فصارا جوهرا واحدا فلا بد في ذلك من الاستحالة كما في اتحاد الماء واللبن والخمر وسائر ما يختلط بالماء بخلاف الماء والزيت فإنهما جوهران كما كانا لكن الزيت لاصق بالماء وطفا عليه لم يتحد به ومثل اختلاط النار والحديد فإن الحديد استحال عما كان ولهذا إذا برد عاد إلى ما كان وهكذا اتحاد الهواء مع الماء والتراب حتى يصير بخارا أو غبارا وأمثال ذلك
وفي الجملة فجميع ما يعرفه الناس من الاتحاد إذا صار الاثنان واحدا وارتفعت الثنوية فلا بد من استحالة الاثنين
وإذا قيل فيه طبيعة الاثنين ومشيئة الاثنين كما في الماء واللبن قوة الماء وقوة اللبن
قيل لا بد مع ذلك أن تتغير كل قوة عما كانت عليه

فتنكسر الأخرى كما يعرف في سائر صور الاتحاد إذا اتحد هذا مع هذا كسر كل منهما قوة الآخر عما كانت عليه
كما إذا اتحد الماء البارد بالماء الحار انكسرت قوة الحر وقوة البرد عما كانت فيبقى المتحد مرتبة متوسطة بين البرد المحض والحر المحض
وكذلك الماء واللبن وسائر صور الاتحاد وعلى هذا فيجب إذا اتحد أن تتغير قوة اللاهوت وطبيعته ومشيئته عما كانت وتنكسر قوة الناسوت وطبيعته ومشيئته عما كانت عليه ويبقى هذا المتحد ممتزجا من لاهوت وناسوت وذلك يستلزم نقص اللاهوت عما كان وبطلان كماله كما أنه يوجب من كمال الناسوت ما لم يكن
فكل ما يصفون به الناسوت من اتحاد اللاهوت به فهو مستلزم من نقص اللاهوت وسلب كماله الذي يختص به وبطلان صفاته التامة بحسب ما حصل له من ذلك الناسوت بحكم الاتحاد وإلا فإن كان اللاهوت كما كان فلا اتحاد بوجه من الوجوه بل الناسوت كما كان
ثم هما اثنان لم يتحد أحدهما بصاحبه ولا صارا شيئا واحدا
وأيضا فمع كون الجوهر واحدا يجب أن تكون مشيئته واحدة وطبيعته واحدة فإنه لو كان مشيئتين لكان محل إحدى المشيئتين إن كان هو محل الأخرى مع تضاد موجب المشيئتين لزم اجتماع

الضدين في محل واحد
فإن الإرادة الناسوتية تطلب الأكل والشرب وأن تعبد وتصوم وتصلي
واللاهوتية توجب امتناعه من إرادة هذه الأشياء
وإرادته أن يخلق ويرزق ويدبر العالم والناسوتية تمتنع من هذه الإرادة
فإذا قامت الإرادتان والكراهتان بمحل واحد لزم أن يكون ذلك الجوهر الموصوف بهذا وهذا مريدا للشيء ممتنعا من إرادته غير مريد له كارها للشيء غير كاره له وذلك جمع بين النقيضين من وجوه متعددة
ويمتنع أن يقوم بالموصوف الواحد إرادتان جازمتان بالشيء ونقيضه أو كراهتان جازمتان للشيء أو نقيضه والفعل لا يقع إلا بإرادة جازمة مع القدرة فاللاهوت ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ومتى شاء شيئا مشيئة جازمة فإنه على ما شاء قادر
والناسوت لا يفعل شيئا من خصائص البشرية حتى يريد ذلك إرادة جازمة
والناسوت يمتنع أن يريد إرادة اللاهوت ويكره ذلك فيصير الشيء الواحد مريدا للشيء إرادة جازمة قادرا عليه ليس مريدا له إرادة جازمة بل هو عاجز عنه

ويلزم أيضا إذا كانا جوهرا واحدا وقد ولد وصفع وضرب وصلب ومات وتألم أن يكون نفس اللاهوت ضرب وصلب ومات وتألم كما تقوله اليعقوبية وهذا لازم لجميع النصارى وهو موجب عقيدة إيمانهم
فإن قالوا بل هما جوهران مع كونهما عندهم شخصا واحدا لا تعدد فيه كما يقوله من يقوله من الملكية كان هذا كلاما متناقضا فإن الشخص الواحد الذي لا تعدد فيه جوهر واحد ولهذا حد بأنه جسم
وإن شبهوا ذلك بالنفس مع الجسد لزمهم المحدود
فإن الإنسان كما يقال فيه إنه شخص واحد يقال إنه جوهر واحد بما بينهما من الاتحاد ولهذا يحد بأنه جسم حساس تام متحرك بالإرادة ناطق هذا يتناول جسده وروحه وللنفس والبدن مشيئة واحدة
ومتى شاء الإنسان الفعل مشيئة جازمة مع قدرته عليه فعله ولم يكن معه جوهر آخر له مشيئة غير مشيئته
فإذا شبهوا اتحاد اللاهوت بالناسوت بهذا لزمهم أن يكونا جوهرا واحدا ومشيئة واحدة وهذا قول اليعقوبية
ولهذا تألم النفس بما يحدث في الجسد من الآلام ويتألم

الجسم الذي هو القلب الصنوبري بما يحدث في النفس من الآلام
فإذا تألمت النفس تألم قلب الجسد وغير قلب الجسد وكذلك إذا تألم الجسد وإذا صفع الجسد وصلب وبصق في وجهه ووضع الشوك عليه وتألم ومات كان ذلك كله حالا بالنفس ونالها منه إهانة الصفع وألم النزع ما ينالها كما يسلمون لله أنه حل بنفس المسيح وبدنه فإنهم لا يتنازعون أن الإله حل ببدن المسيح ونفسه وإنما يتنازعون في اللاهوت مع أن النفس مفارقة للبدن بالموت
واللاهوت عندهم لم يفارق الناسوت بالموت بل صعد إلى السماء
والمسيح الذي هو إله تام وإنسان تام يقعد عن يمين أبيه وكذلك يجيء يوم القيامة
وأيضا فالبدن إذا كانت فيه النفس تتغير صفاته وأحكامه وتختلف أحواله باجتماعها وافتراقها والنفس إذا كانت في البدن تختلف صفاتها وأحكامها
فيلزم أن يكون ناسوت المسيح مخالفا في الصفات والأحكام لسائر النواسيت وأن يكون اللاهوت لما اتحد به تغيرت صفاته وأحكامه وهذا هو الاستحالة والتغير والتبدل للصفات مع أن ناسوت

المسيح كان من جنس نواسيت البشر لم يظهر عليه إلا ما ظهر مثله على غيره بل ظهر على غيره من خوارق العادات أكثر مما ظهر عليه
وبالجملة فأي مثل ضربوه للاتحاد كان حجة عليهم وظهر به فساد قولهم
وإن قالوا هذا أمر لا يعقل بل هو فوق العقول كان الجواب من وجهين
أحدهما أنه يجب الفرق بين ما يعلم العقل بطلانه وامتناعه وبين ما يعجز العقل عن تصوره ومعرفته
فالأول من محالات العقول والثاني من محارات العقول والرسل يخبرون بالثاني
وأما الأول فلا يقوله إلا كاذب ولو جاز أن يقول هذا لجاز أن يقال إن الجسم الواحد يكون أبيض أسود في حال واحدة وإنه بعينه يكون في مكانين وإن الشيء الواحد يكون موجودا معدوما في حال واحدة وأمثال ذلك مما يعلم العقل امتناعه
وقول النصارى مما يعلم بصريح العقل أنه باطل ليس هو مما يعجز عن تصوره
يوضح هذا أنه لو قال قائل في مريم أم المسيح امرأة الله وزوجته وأنه نكحها نكاحا عقليا كما يقولون إن المسيح ولده ولادة عقلية لم يكن هذا القول أفسد في العقل من قولهم في المسيح كما

قد بسطناه في موضعه وهم يكفرون من يقول ذلك ويحتجون بالعقل على فساده
وإذا قال هذا فوق العقل لم يقبلوه وكذلك كل طائفة من طوائفهم احتجت على الأخرى بالعقل وإذا قالوا قولنا فوق العقل لم يقبلوا هذا الجواب
فإن كان هذا جوابا صحيحا فيجب أن لا يبحث في شيء من الإلهيات بالعقل بل يقول كل مبطل ما شاء من الباطل ويقول كلامي فوق العقل كما يقول أصحاب الحلول والاتحاد والوحدة الذين يقولون إن وجود الخالق وجود المخلوق ويقولون إن هذا فوق العقل وإنه يعلم بالذوق لا بالسمع ولا بالعقل
الوجه الثاني أن يقال ما يعجز العقل عن تصوره إذا أخبرت به الأنبياء عليهم السلام قبل منهم لأنهم يعلمون ما يعجز غيرهم من معرفته
وهذه الأقوال لم يقل الأنبياء شيئا منها بل نفس فرق النصارى قالوها بآرائهم وزعموا أنهم استنبطوها من بعض ألفاظ الكتب
فيقال لمن قالها منهم أنت تتصور ما تقول أم لا تتصوره وتفهمه وتعقله

فإن قال لا أتصور ما أقول ولا أفقهه ولا أعقله قيل له فقد قلت على الله ما لا تعلم وقفوت ما ليس لك به علم
ومن أعظم القبائح المحرمة في جميع الشرائع أن يقول الإنسان برأيه على الله قولا لا يتصوره ولا يفهمه
وجميع العقلاء يعلمون أن من قال قولا وهو لا يتصوره ولا يفقهه فإن قوله مردود عليه غير مقبول منه وإن قوله من الباطل المذموم
وإن قال قائلهم إني أفقه ما أقول وأتصوره وأعقله قيل له بينه لغيرك حتى يفقهه ويعقله ويتصوره ولا تقل هو فوق العقل بل هو قول قد عقلته وفقهته وهذا تقسيم لا محيد لهم عنه
فإنهم إن كانوا يفقهون ما يقولون ويعقلونه لزم أن يكون معقولا
وإن كانوا لا يفقهونه ولا يعقلونه لزم أنهم قالوا على الله ما لا يفقهونه ولا يعقلونه قولا برأيهم وعقلهم لا نقلا لألفاظ الأنبياء فإن من نقل ألفاظ الأنبياء الثابتة عنهم لم يكن عليه أن يفقه ويعقل ما يقول
ولهذا قال النبي نضر الله امرءا سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه فقد يحفظ الرجل كلاما فيبلغه غيره وهو لا يفقه معناه ولا يعقله

فمن نقل لفظ التوراة أو الإنجيل أو القرآن أو ألفاظ سائر الأنبياء لم نطالبه ببيان معناه
بخلاف من ادعى أنه فهم ما قاله الأنبياء وعبر عن ذلك بعبارة أخرى فإنه يقال له إن كنت فهمت ما قالوه فهو معنى واحد عبروا عنه بعبارة وعبرت عنه بعبارة أخرى كالترجمان فهذا يعقل ما يقول ويفقهه
وإن قال إني لم أفهم كلامهم أو لم أفهم ما قلته فقد اعترف بجهله وضلاله وأنه من الذين لم يفهموا كلام الأنبياء عليهم السلام ولم يفقهوا ما قالوه هم
فلو قالوا لم نفهم كلام الأنبياء وسكتوا لكانوا أسوة أمثالهم من الجهال بمعاني كلام الأنبياء
وأما إذا وضعوا عبارة وكلاما ابتدعوه وأمروا الناس باعتقاده وقالوا هذا هو الإيمان والتوحيد وقالوا إنا مع هذا لا نتصور ما قلناه ولا نفقهه ولا نعقله فهؤلاء من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون ويفترون على الله وعلى كتب الله وأنبياء الله بغير علم بل يقولون الكذب المفترى والكفر الواضح ويقولون مع ذلك إنا لا نعقله وهذا حال النصارى بلا ريب
وهذا الموضع غلط فيه طائفتان من الناس غالية غلت في

المعقولات حتى جعلت ما ليس معقولا من المعقول وقدمته على الحس ونصوص الرسول
وطائفة جفت عنه فردت المعقولات الصريحة وقدمت عليها ما ظنته من السمعيات والحسيات
وهكذا الناس في السمعيات نوعان وكذلك هم في الحسيات الباطنة والظاهرة نوعان
فيجب أن يعلم أن الحق لا ينقض بعضه بعضا بل يصدق بعضه بعضا
بخلاف الباطل فإنه مختلف متناقض كما قال تعالى في المخالفين للرسل
والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك
وإن ما علم بمعقول صريح لا يخالفه قط لا خبر صحيح ولا حس صحيح
وكذلك ما علم بالسمع الصحيح لا يعارضه عقل ولا حس
وكذلك ما علم بالحس الصحيح لا يناقضه خبر ولا معقول
والمقصود هنا الكلام مع من يعارض المعقولات بسمع أو حس
فنقول لفظ المعقول يراد به المعقول الصريح الذي يعرفه الناس بفطرهم التي فطروا عليها من غير أن يتلقاه بعضهم عن بعض

كما يعلمون تماثل المتماثلين واختلاف المختلفين أعني اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد والتباين فإن لفظ الاختلاف يراد به هذا وهذا
وهذه المعقولات في العلميات والعمليات هي التي ذم الله من خالفها بقوله
وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
وقوله
أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلوب بها أو آذان يسمعون بها
وأما ما يسميه بعض الناس معقولات ويخالفه فيه كثير من العقلاء مثل القول بتماثل الأجسام وبقاء الأعراض وأن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة أو من المادة والصورة وأن ما لا يتناهى من الأمور المتعاقبة شيئا بعد شيء يمتنع وجوده إما في الماضي والمستقبل أو في الماضي فقط أو أن الكليات موجودة في الخارج جواهر قائمة بأنفسها أو أن لنا دهرا أو مادة هي جوهر عقلي قائم بنفسه أو أنه يمكن وجود جوهر قائم بنفسه لا يشار إليه ونحو ذلك مما يعده من يعده من النظار أنه عقليات

وينازعهم فيه آخرون
فليس هذا هو العقليات التي لا يجب لأجلها رد الحس والسمع وتبنى عليها علوم بني آدم بل المعقولات الصحيحة الدقيقة الخفية ترد إلى معقولات بديهية أولية بخلاف العقليات الصريحة مثل كون الجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد معا فإن هذا معلوم بفطرة الله التي فطر الناس عليها
فإذا جاء في الحس أو الخبر الصحيح ما يظن أنه يخالف ذلك مثل أن يرى الشخص الواحد في عرفات وهو في بلده لم يبرح أو يرى قاعدا في مكانه وهو في مكان آخر أو يرى أنه أغاث من استغاث به أو جاء طائرا في الهواء مع العلم بأنه في مكانه لم يتغير منه فهذا إنما هو جني تصور بصورة ذلك الشخص ليس هو نفسه فهذا يشبهه ليس هو إياه
والحسيات إن لم يميز بينها بالعقل وإلا فالحس يغلط كثيرا فكذلك من ادعى فيما حصل له من المكاشفة والمخاطبة أمرا يخالف صريح العقل يعلم أنه غالط فيه كمن قال من القائلين بوحدة الوجود إني أشهد بباطني وجودا مطلقا مجردا عن الأسماء والصفات

لا اختصاص فيه ولا قيد البتة فلا يتنازع في هذا كما قد ينازعه بعض الناس
لكن يقال له من أين لك أن هذا هو رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض فإن كون ما شهدته بقلبك هو الله أمر لا يدرك بحس القلب وإذا ادعيت أنه حصل لك في الكشف ما يناقض صريح العقل علم أنك غالط كما قال شيخ هؤلاء الملاحدة التلمساني
... يا صاحبي أنت تنهاني وتأمرني ... والوجد أصدق نهاء وأمار ...
... فإن أطعك وأعص الوجد عدت عما ... عن العيان إلى أوهام أخبار ...
... وعين ما أنت تدعوني إليه إذا ... حققت فيه تراه النهي يا جار ...
فيقال له وجدك وذوقك لم يفدك إلا شهود وجود مطلق بسيط لكن من أين لك أن هذا هو رب العالمين بل من أين لك أن هذا ثابت في الخارج عن نفسك كليا مطلقا مجردا بل إنما تشهده كليا مطلقا مجردا في نفسك
ولست تعلم بحس ولا عقل ولا خبر أن هذا هو في الخارج
كما أن النائم إذا شهد حسه الباطن أشياء لم يكن معه يقين أن هذا في الخارج
فإذا عاد إليه عقله علم أن هذا كان في خياله في المنام

وكذلك السكران وغيره ممن يضعف عقله فهذا يشهد بحسه الباطن أو الظاهر أشياء وقد ضعف عقله عن كنه ذلك لما ورد عليه وإذا ثاب إليه عقله علم أن ما شهده كان في نفسه وخياله لا في الخارج عن ذلك
فكل من أخبر بما يخالف صحيح المنقول أو صريح المعقول يعلم أنه وقع له غلط وإن كان صادقا فيما يشهده في الحس الباطن أو الظاهر لكن الغلط وقع في ظنه الفاسد المخالف لصريح العقل لا في مجرد الحس فإن الحس ليس فيه علم بنفي أو إثبات
فمن رأى شخصا فليس في الحس إلا رؤيته
وأما كونه زيدا أو عمرا فهذا لا بد فيه من عقل يميز بين هذا وهذا ولهذا كان الصغير والمجنون والبهيم والسكران والنائم ونحوهم لهم حس ولكن لعدم العقل لا يميزون أن هذا المشهود هو كذا أم كذا بل قد يظنون ظنونا غير مطابقة
قال تعالى
والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء حتى إذا جاءه

لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب
فالظمآن يرى أن ما ظنه ماء ولم يكن ماء لاشتباهه بالماء والحس لم يغلط لكن غلط عقله
والأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه معصومون لا يقولون على الله إلا الحق ولا ينقلون عنه إلا الصدق
فمن ادعى في أخبارهم ما يناقض صريح المعقول كان كاذبا بل لا بد أن يكون ذلك المعقول ليس بصريح أو ذلك المنقول ليس بصحيح
فما علم يقينا أنهم أخبروا به يمتنع أن يكون في العقل ما يناقضه
وما علم يقينا أن العقل حكم به يمتنع أن يكون في أخبارهم ما يناقضه
وقول أهل الاتحاد من النصارى وغيرهم سواء ادعوا الاتحاد العام أو الخاص قد علم بصريح العقل بطلانه فيمتنع أن يخبر به نبي من الأنبياء بل الأنبياء عليهم السلام قد يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته لا بما يعلم العقل بطلانه فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول
ومن سوى الأنبياء ليس معصوما فقد يغلط ويحصل له في كشفه وحسه وذوقه وشهوده أمور يظن فيها ظنونا كاذبة

فإذا أخبر مثل هذا بشيء علم بطلانه بصريح العقل علم أنه غالط
وإذا أخبر غير الأنبياء بما يعجز عقل كثير من الناس عن معرفته لم يلزم أن يكون صادقا ولا كاذبا بل لا نحكم بصدقه ولا كذبه إلا بدليل لاحتمال أن يكون غالطا واحتمال أن يكون قد علم ما يعجز غيره عن معرفته
وإذا قال القول المعلوم فساده بصريح العقل من ليس بنبي وقال إن هذا فوق العقل أو هذا وراء طور العقل والنقل أو هذا لا نعرفه إن لم نترك العقل والنقل أو قال
... هم معشر حلو النظام وأحرقوا ال ... سياج فلا فرض لديهم ولا نفل ...
... مجانين إلا أن سر جنونهم ... عزيز على أبوابه يسجد العقل ...
قيل وهذا يمتنع أن يقوله نبي أو ينقله صادق عن نبي فإن أقوال الأنبياء لا تناقض العقل الصريح فكيف يقبل هذا ممن ليس بنبي
وإن قال كما يقوله النصارى أو غيرهم إن هذا دل عليه كلام الأنبياء أو فهمناه من كلام الأنبياء
قيل لهم الكلام في معاني الألفاظ التي نطقت بها الأنبياء شيء والكلام الذي فهمتموه عنهم شيء آخر

ولو قدر أن ما ذكرتموه أنتم أو غيركم فهمتموه من كلام الأنبياء ليس مخالفا لصريح العقل لم نجزم بأن قائل ذلك يتصور ما قال بل قد يكون فهم من كلامهم ما لم يريدوه
فكيف إذا كان هو نفسه لم يتصور ما قال بل هم معترفون بأنه غير معقول له وهو لا يفهمه فكيف إذا كان الذي قاله معلوم الفساد بصريح العقل
فهذه ثلاث مقدمات لو فهمه ثم قال إني فهمت كلامه لم يكن فهمه حجة
فكيف إذا قال إني لم أفهمه وإن هذا فوق طور العقل
ولو قال هذا لم يكن قوله حجة ولم يجب تصديقه من أن الأنبياء عنوا بكلامهم المعنى الذي اعترف أنه فوق طور العقل فكيف إذا عرف أن ذلك المعنى باطل يمتنع أن يقوله عاقل لا نبي ولا غير نبي

فصل
قال الحاكي عنهم فقلت لهم إنهم يقولون لنا إذا كان اعتقادكم في الباري تعالى أنه واحد فما حملكم على أن تقولوا أب وابن وروح قدس فتوهمون السامعين أنكم تعتقدون في الله ثلاثة أشخاص مركبة أو ثلاثة آلهة أو ثلاثة أجزاء وأن له ابنا ويظن من لا يعرف اعتقادكم أنكم تريدون بذلك ابن المباضعة والتناسل فتطرقون على أنفسكم تهمة أنتم منها بريئون
قالوا وهم أيضا لما كان اعتقادهم في الباري جلت عظمته أنه غير ذي جسم وغير ذي جوارح وأعضاء وغير محصور في مكان فما حملهم على أن يقولوا إن له عينين يبصر بهما ويدين يبسطهما وساق ووجهه يوليه إلى كل مكان وجنب وأنه يأتي في ظلل من الغمام فيوهمون السامعين أن الله ذو جسم وذو أعضاء وجوارح وأنه ينتقل من مكان إلى مكان في ظلل من الغمام فيظن من لا يعرف اعتقادهم أنهم يجسمون الباري حتى إن قوما منهم اعتقدوا ذلك واتخذوه مذهبا ومن لم يتحقق اعتقادهم يتهمهم بما هم بريئون منه

قال فقلت لهم إنهم يقولون إن العلة في قولهم هذا أن الله له عينان ويدان ووجه وساق وجنب وأنه يأتي في ظلل من الغمام فهو أن القرآن نطق به وأن ذلك غير ظاهر اللفظ وكل من يحمل ذلك على ظاهر اللفظ ويعتقد أن الله له عينان ويدان ووجه وجنب وجوارح وأعضاء وأن ذاته تنتقل فهم يلعنونه ويكفرونه فإذا كفروا من يعتقد هذا فليس لمخالفيهم أن يلزموهم هذا بعد أن لا يعتقدوه
قالوا وكذلك نحن أيضا النصارى العلة في قولنا إن الله ثلاثة أقانيم أب وابن وروح قدس أن الإنجيل نطق به والمراد بالأقانيم غير الأشخاص المركبة والأجزاء والأبعاض وغير ذلك مما يقتضي الشرك والتكثير وبالأب والابن غير أبوة وبنوة نكاح أو تناسل أو جماع أو مباضعة
وكل من يعتقد أن الثلاثة أقانيم ثلاثة آلهة مختلفة أو ثلاثة آلهة متفقة أو ثلاثة أجسام مؤلفة أو ثلاثة أجزاء متفرقة أو ثلاثة أشخاص مركبة أو أعراض أو قوى أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير والتبعيض والتشبيه أو بنوة نكاح أو تناسل أو مباضعة أو جماع أو ولادة زوجة أو من بعض الأجسام أو من بعض الملائكة أو من بعض المخلوقين فنحن نلعنه ونكفره ونجرمه
وإذا لعنا أو كفرنا من يعتقد ذلك فليس لمخالفينا أن يلزمونا بعد أن لا نعتقده وإن ألزمونا الشرك والتشبيه لأجل قولنا أب وابن وروح

قدس لأن ظاهر ذلك يقتضي التكثير والتشبيه ألزمناهم أيضا نحن التجسيم والتشبيه لقولهم إن الله له عينان ويدان ووجه وساق وجنب وأن ذاته تنتقل من مكان إلى مكان وأنه استوى على العرش من بعد أن لم يكن عليه وغير ذلك مما يقتضي ظاهره التجسيم والتشبيه
والجواب من وجوه
أحدها أن يقال من آمن بما جاءت به الرسل وقال ما قالوه من غير تحريف للفظه ولا معناه فهذا لا إنكار عليه بخلاف من ابتدع أقوالا لم تقلها الرسل بل هي تخالف ما قالوه وحرف ما قالوه إما لفظا ومعنى وإما معنى فقط فهذا يستحق الإنكار عليه باتفاق الطوائف
وأصل دين المسلمين أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه في كتبه وبما وصفته به رسله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل يثبتون له تعالى ما أثبته لنفسه وينفون عنه ما نفاه عن نفسه ويتبعون في ذلك أقوال رسله ويجتنبون ما خالف أقوال الرسل كما قال تعالى
سبحان ربك رب العزة عما يصفون
أي عما يصفه الكفار المخالفون للرسل
وسلام على المرسلين

لسلامة ما قالوه من النقص والعيب
والحمد لله رب العالمين
فالرسل وصفوا الله بصفات الكمال ونزهوه عن النقائص المناقضة للكمال ونزهوه عن أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال وأثبتوا له صفات الكمال على وجه التفصيل ونفوا عنه التمثيل فأتوا بإثبات مفصل ونفي مجمل
فمن نفى عنه ما أثبته لنفسه من الصفات كان معطلا ومن جعلها مثل صفات المخلوقين كان ممثلا والمعطل يعبد عدما والممثل يعبد صنما
وقد قال تعالى
ليس كمثله شيء
وهو رد على الممثلة
وهو السميع البصير
وهو رد على المعطلة

فوصفته الرسل بأنه حي منزه عن الموت عليم منزه عن الجهل قدير قوي عزيز منزه عن العجز والضعف والذل واللغوب سميع بصير منزه عن الصم والعمى غني منزه عن الفقر جواد منزه عن البخل حكيم حليم منزه عن السفه صادق منزه عن الكذب إلى سائر صفات الكمال مثل وصفه بأنه ودود رحيم لطيف وقد قال تعالى
قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
فالصمد اسم يتضمن إثبات صفات الكمال ونفي النقائص وهو العليم الكامل في علمه القدير الكامل في قدرته الحكيم الكامل في حكمته
ولنا مصنف مبسوط في تفسير هذه السورة وآخر في بيان أنها تعادل ثلث القرآن وذكرنا كلام علماء المسلمين من الصحابة والتابعين في معنى الصمد وأن عامة ما قالوه حق كقول من قال

منهم إن الصمد الذي لا جوف له ومن قال منهم إنه السيد الذي انتهى سؤدده كما قيل إنه المستغني عن كل ما سواه وكل ما سواه محتاج إليه وكما قيل إنه العليم الكامل في علمه والقدير الكامل في قدرته إلى سائر صفات الكمال
وذكر تعالى في هذه السورة أنه أحد ليس له كفوا أحد فنفى بذلك أن يكون شيئا من الأشياء له كفوا وبين أنه أحد لا نظير له
وقال في آية أخرى
فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا
وقال
ليس كمثله شيء
وقال
فلا تضربوا لله الأمثال
وقال
فلا تجعلوا لله أندادا
وما ورد في القرآن والسنة من إثبات صفات الله فقد ورد في التوراة وغيرها من كتب الله مثل ذلك
فهو أمر اتفقت عليه الرسل وأهل الكتاب في ذلك كالمسلمين

وإذا كان كذلك فهم في أمانتهم لم يقولوا ما قاله المسيح والأنبياء بل ابتدعوا اعتقادا لا يوجد في كلام الأنبياء فليس في كلام الأنبياء لا المسيح ولا غيره ذكر أقانيم لله لا ثلاثة ولا أكثر ولا إثبات ثلاث صفات ولا تسمية شيء من صفات الله ابنا لله ولا ربا ولا تسمية حياته روحا ولا أن لله ابنا هو إله حق من إله حق من جوهر أبيه وأنه خالق كما أن الله خالق إلى غير ذلك من الأقوال المتضمنة لأنواع من الكفر لم تنقل عن نبي من الأنبياء
فقالوا في شريعة إيمانهم نؤمن بالله الأب مالك كل شيء صانع ما يرى وما لايرى وهذا حق
ثم قالوا وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلايق كلها مولود ليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه نور من نور مساو للأب في الجوهر الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء البتول وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول وتألم وصلب ودفن وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب وصعد إلى

السماء وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء
ونؤمن بروح القدس المحيي وروح الحق المنبثق من أبيه أو الذي خرج من أبيه روح محييه
فأين في كلام الأنبياء أن شيئا من صفات الله أو من مخلوقاته يقال فيه إنه أقنوم وإنه حق من إله حق من جوهر أبيه وإنه مساو لله في الجوهر وإنه خالق خلق كل شيء وإنه قعد عن يمين الله فوق العرش وإنه الذي يقضي بين الناس يوم القيامة
وأين في كلام الأنبياء أن لله ولدا قديما أزليا
ومن الذي سمى كلام الله أو علمه أو حكمته مولودا له أو ابنا له أو شيئا من صفاته مولودا له أو ابنا له
ومن الذي قال من الأنبياء إنه مولود وهو مع ذلك قديم أزلي
وأين في كلامهم أن لله أقنوما ثالثا هو حياته ويسمى بروح القدس وأنه أيضا رب حي محيي
فلو كان النصارى آمنوا بنصوص الأنبياء كما آمن المؤمنون

لم يكن عليهم ملام
ومن اعترض على نصوص الأنبياء كان لفساد فهمه ونقص معرفته
ولكن هم ابتدعوا أقوالا وعقائد ليست منصوصة عن أحد من الأنبياء عليهم السلام وفيها كفر ظاهر وتناقض بين
فلو قدر أنهم أرادوا بها معنى صحيحا لم يكن لأحد أن يبتدع كلاما لم يأت به نبي يدل على الكفر المتناقض الذي يخالف الشرع والعقل ويقول إني أردت به معنى صحيحا من غير أن يكون لفظه دالا على ذلك فكيف والمراد الذي يفسرون به كلامهم فاسد متناقض كما تقدم
فهم ابتدعوا أقوالا منكرة وفسروها بتفسير منكر فكان الرد عليهم من كل واحد من الوجهين وهم في ذلك نظير بعض ملاحدة المسلمين الذين يعتقدون إلهية بعض أهل البيت أو بعض المشايخ ويصفون الله بصفات لم ينطق بها كتاب وهؤلاء ملحدون عند المسلمين
بخلاف المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله الذين آمنوا بما قالت الأنبياء ولم يبتدعوا أقوالا لم يأت بها الأنبياء وجعلوها أصل دينهم
الوجه الثاني أن يقال ما ذكرتموه عن المسلمين كذب ظاهر عليهم
فهذا النظم الذي ذكروه ليس هو في القرآن ولا في الحديث

ولا يعرف عالم مشهور من علماء المسلمين ولا طائفة مشهورة من طوائفهم يطلقون العبارة التي حكوها عن المسلمين حيث قالوا عنهم إنهم يقولون إن لله عينين يبصر بهما ويدين يبسطهما وساقا ووجها يوليه إلى كل مكان وجنبا
ولكن هؤلاء ركبوا من ألفاظ القرآن بسوء تصرفهم وفهمهم تركيبا زعموا أن المسلمين يطلقونه
وليس في القرآن ما يدل ظاهره على ما ذكروه فإن الله تعالى قال في كتابه
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء
واليهود أرادوا بقولهم يد الله مغلولة أنه بخيل فكذبهم الله في ذلك وبين أنه جواد لا يبخل فأخبر أن يديه مبسوطتان كما قال
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا
فبسط اليدين المراد به الجواد والعطاء ليس المراد ما توهموه من بسط مجرد
ولما كان العطاء باليد يكون ببسطها صار من المعروف في اللغة التعبير ببسط اليد عن العطاء

فلما قالت اليهود يد الله مغلولة وأرادوا بذلك أنه بخيل كذبهم الله في ذلك وبين أنه جواد ماجد
وإثبات اليدين له موجود في التوراة وسائر النبوات كما هو موجود في القرآن
فلم يكن في هذا شيء يخالف ما جاءت به الرسل ولا ما يناقض العقل وقد قال تعالى لإبليس
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
فأخبر أنه خلق آدم بيديه وجاءت الأحاديث الصحيحة توافق ذلك
وأما لفظ العينين فليس هو في القرآن ولكن جاء في حديث
وذكر الأشعري عن أهل السنة والحديث أنهم يقولون إن لله عينين
ولكن الذي جاء في القرآن
ولتصنع على عيني
واصنع الفلك بأعيننا ووحينا

وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا
وأما قولهم له وجه يوليه إلى كل مكان فليس هذا في القرآن ولكن في القرآن
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
وقوله
كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون
وقوله
ولله المشرب والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله
وهذا قد قال فيه طائفة من السلف فثم قبلة الله أي فثم جهة الله والجهة كالوعد والعدة والوزن والزنة
والمراد بوجه الله وجهة الله الوجه والجهة والوجهة الذي لله يستقبل في الصلاة كما قال في أول الآية
ولله المشرق والمغرب
ثم قال
فأينما تولوا فثم وجه الله
كما قال تعالى
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

فإذا كان لله المشرق والمغرب ولكل وجهة هو موليها وقوله موليها أي متوليها أم مستقبلها فهذا كقوله فأينما تولوا فثم وجه الله أي فأينما تستقبلوا فثم وجهه الله وقد قيل إنه يدل على صفة الله لكن يدل على أن ثم وجه لله وأن العباد أينما يولون فثم وجه الله فهم الذين يولون ويستقبلون لا أنه هو يولي وجهه إلى كل مكان فهذا تحريف منهم للفظ القرآن عن معناه وكذب على المسلمين
ومن قال بالقول الثاني من المسلمين فإن ذلك يقتضي أن الله محيط بالعالم كله كما قد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع
إذ المقصود هنا بيان ضلال هؤلاء في دينهم فيما ابتدعوا من الكفر والتثليث والاتحاد دون الذين آمنوا بالله ورسله وما أخبرت به الرسل عن الله تبارك وتعالى
وأما قولهم وجنب فإنه لا يعرف عالم مشهور عند المسلمين ولا طائفة مشهورة من طوائف المسلمين أثبتوا لله جنبا نظير جنب الإنسان وهذا اللفظ جاء في القرآن في قوله
أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله
فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى الله

صفة له بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة وصفاتها القائمة بها ما ليس بصفة له باتفاق الخلق كقوله تعالى بيت الله و ناقة الله و عباد الله بل وكذلك روح الله عند سلف المسلمين وأئمتهم وجمهورهم
ولكن إذا أضيف إليه ما هو صفة له وليس بصفة لغيره مثل كلام الله وعلم الله ويد الله ونحو ذلك كان صفة له
وفي القرآن ما يبين أنه ليس المراد بالجنب ما هو نظير جنب الإنسان فإنه قال
أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله
والتفريط ليس في شيء من صفات الله عز و جل
والإنسان إذا قال فلان قد فرط في جنب فلان أو جانبه لا يريد به أن التفريط وقع في شيء من نفس ذلك الشخص بل يريد به أنه فرط في جهته وفي حقه
فإذا كان هذا اللفظ إذا أضيف إلى المخلوق لا يكون ظاهره أن التفريط في نفس جنب الإنسان المتصل بأضلاعه بل ذلك التفريط لم يلاصقه فكيف يظن أن ظاهره في حق الله أن التفريط كان في ذاته
وجنب الشيء وجانبه قد يراد به منتهاه وحده ويسمى جنب الإنسان جنبا بهذا الاعتبار قال تعالى

تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا
وقال تعالى
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم
وقال النبي لعمران بن حصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب
وإذا قدر أن الإضافة هنا تتضمن صفة الله كان الكلام في هذا كالكلام في سائر ما يضاف إليه تعالى من الصفات وفي التوراة من ذلك نظير ما في القرآن
وهذا يتبين بالوجه الثالث وهو أن يقال ما في القرآن والحديث عن النبي من وصف الله بهذه الصفات التي يسميها بعض الناس تجسيما هو مثل ما في التوراة وسائر كتب الأنبياء وهذا الذي في التوراة وكتب الأنبياء ليس مما أحدثه أهل الكتاب

ولو كانوا هم ابتدعوا ذلك ووصفوا الخالق بما يمتنع عليه من التجسيم لكان النبي ذمهم على ذلك كما ذمهم على ما وصفوه به من النقائص في مثل قوله تعالى
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء
وقوله
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء
وقال تعالى
ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب
فنفى عنه اللغوب الذي يظن في لفظ الاستراحة الذي في التوراة فإن فيها أن الله خلق العالم في ستة أيام ثم استراح في يوم السبت فظن بعض الناس أنه تعب فاستراح
ثم من علماء المسلمين من قال إن هذا اللفظ حرفوا معناه دون لفظه وهذا لفظ التوراة المنزلة قاله ابن قتيبة

وغيره وقالوا معناه ثم ترك الخلق فعبر عن ذلك بلفظ استراح
ومنهم من قال بل حرفوا لفظه كما قال أبو بكر الأنباري وغيره
وقالوا ليس هذا لفظ التوراة المنزلة وأما ما في التوراة من إثبات الصفات فلم ينكر النبي شيئا من ذلك بل كان علماء اليهود إذا ذكروا شيئا من ذلك يقرهم عليه ويصدقهم عليه كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن حبرا من اليهود جاء إلى رسول الله فقال يا محمد إن الله عز و جل يوم القيامة يحمل السماوات على إصبع

والأرض على إصبع والجبال والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ثم يهزهن فيقول أنا املك قال فضحك النبي حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا لقول الحبر ثم قرأ
وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه الآية
وفي التوراة إن الله كتب التوراة بإصبعه
وإذا ثبت أن مثل هذه النصوص في التوراة والكتب المتقدمة باتفاق أهل الكتاب وبما يشهد على ذلك من أخبار الرسول بنظير ذلك وترك إنكاره لما في التوراة وتصديقه على ما كانوا يذكرونه من ذلك لم يكن المسلمون مختصين بذكر ما سموه تجسيما بل يلزم أهل الكتاب اليهود والنصارى من ذلك نظير ما يلزم المسلمين

وقد افترق أهل الكتاب في ذلك كما افترق فيه المسلمون منهم الغالي في النفي والتعطيل ومنهم الغالي في التشبيه والتمثيل
والمسلمون أئمتهم وجمهورهم مقتصدون بين التعطيل والتمثيل وكذلك طائفة من أهل الكتاب
والمقصود أنه إذا كانت هذه الصفات قد جاءت في الكتب الإلهية التوراة وغيرها كما جاءت في القرآن لم يكن للمسلمين بذلك اختصاص
ولم يجز للنصارى أن يجعلوا ذلك نظير ما اختصوا به من التثليث والاتحاد فإن ذلك مختص بهم
وهذه الصفات قد اشترك فيها أهل الملل الثلاث لأن التثليث والاتحاد ليس منصوصا عن أحد من الأنبياء عليهم السلام وهذه الصفات منصوصة في القرآن والتوراة وغيرهما من كتب الأنبياء فكيف يجوز تشبيه هذا بهذا
الوجه الرابع قولهم فيوهمون السامعين أن الله ذو جسم وأعضاء وجوارح كلام باطل وذلك أن الله سمى نفسه وصفاته بأسماء وسمى بعض عباده وصفات عباده بأسماء هي في حقهم نظير تلك الأسماء في حقه سبحانه وتعالى
فسمى نفسه حيا كقوله
الله لا إله إلا هو الحي القيوم الآية

وتوكل على الحي الذي لا يموت
وسمى بعض عباده حيا كقوله
يخرج الحي من الميت
مع العلم بأنه ليس الحي كالحي وسمى نفسه عليما كقوله
إن ربك حكيم عليم
وسمى بعض عباده عليما كقوله وبشروه بغلام عليم
مع العلم بأنه ليس العليم كالعليم
وسمى نفسه حليما بقوله
والله غني حليم
وسمى بعض عباده حليما بقوله
فبشرناه بغلام حليم

وسمى نفسه رؤوفا رحيما بقوله
إن الله بالناس لرءوف رحيم
وسمى بعض عباده رؤوفا رحيما بقوله بالمؤمنين رءوف رحيم
وليس الرؤوف كالرؤف ولا الرحيم كالرحيم
وكذلك سمى نفسه ملكا جبارا متكبرا عزيزا وسمى بعض عباده ملكا وبعضهم عزيزا وبعضهم جبارا متكبرا وليس هو في ذلك مماثلا لخلقه
وكذلك سمى بعض صفاته علما وقوة وأيدا وقدرة ورحمة وغضبا ورضى ويدا وغير ذلك وسمى بعض صفات عباده بذلك وليس علمه كعلمهم ولا قدرته كقدرتهم ولا رحمته وغضبه كرحمتهم وغضبهم ولا يده كأيديهم
وكذلك ما أخبر به عن نفسه من استوائه على العرش ومجيئه في ظلل من الغمام وغير ذلك من هذا الباب ليس استواؤه كاستوائهم ولا مجيئه كمجيئهم
وهذه المعاني التي تضاف إلى الخالق تارة وإلى المخلوق أخرى تذكر على ثلاثة أوجه
تارة تقيد بالإضافة إلى الخالق أو بإضافته إليها كقوله

تعالى ولا يحيطون بشيء من علمه الآية
إن الله هو الرزاق ذو القوة
وتارة تتقيد بالمخلوق كقوله
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم
وتارة تطلق مجردة
فإذا قيدت بالخالق لم تدل على شيء من خصائص المخلوقين
فإذا قيل علم الله وقدرته واستواؤه ومجيئه ويده ونحو ذلك كانت هذه الإضافة توجب ما يختص به الرب الخالق وتمنع أن يدخل فيها ما يختص به المخلوق
وكذلك إذا قيل
فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك
كانت هذه الإضافة توجب ما يختص بالعبد وتمنع أن يدخل في ذلك ما يختص بالرب عز و جل
وإذا جرد اللفظ عن القيود فذكر بوصف العموم والإطلاق تناول الأمرين كسائر الألفاظ التي تطلق على الخالق والمخلوق
وهذه للناس فيها أقوال

قيل إنها حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق كقول أبي العباس الناشىء
وقيل بالعكس كقوله غلاة الجهمية والباطنية والفلاسفة
وقيل حقيقة فيهما وهو قول الجمهور
ثم قيل هي مشتركة اشتراكا لفظيا وقيل متواطئة وهو قول الجمهور
ثم من جعل المشككة نوعا من المتواطئة لم يمتنع عنده إذا قيل مشككة أن تكون متواطئة ومن جعل ذلك نوعا آخر جعلها مشككة لا متواطئة
وهذا نزاع لفظي فإن المتواطئة التواطؤ العام يدخل فيها المشككة
إذ المراد بالمشككة ما يتفاضل معانيها في مواردها كلفظ الأبيض الذي يقال على البياض الشديد كبياض الثلج والخفيف كبياض العاج والشديد أولى به
ومعلوم أن مسمى البياض في اللغة لا يختص بالشديد دون الخفيف فكان اللفظ دالا على ما به الاشتراك وهو المعنى العام الكلي وهو متواطىء بهذا الاعتبار وهو اعتبار التفاضل يسمى مشككا
وأما إذا أريد بالواطىء ما تستوي معانيه كانت المشككة نوعا آخر

لكن تخصيص لفظ المتواطئة بهذا عرف حادث وهو خطأ أيضا
فإن عامة المعاني العامة تتفاضل والتماثل فيها في جميع مواردها بحيث لا تتفاضل في شيء من مواردها إما قليل وإما معدوم
فلو لم تكن هذه الأسماء متواطئة بل مشككة كان عامة الأسماء الكلية غير متواطئة وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أن الله سبحانه وتعالى إذا أضاف إلى نفسه ما أضافه إضافة يختص بها وتمنع أن يدخل فيها شيء من خصائص المخلوقين وقد قال مع ذلك إنه ليس كمثله شيء وإنه لم يكن له كفوا أحد وأنكر أن يكون له سمي كان من فهم من هذه ما يختص به المخلوق قد أتي من سوء فهمه ونقص عقله لا من قصور في بيان الله ورسوله ولا فرق في ذلك بين صفة وصفة
فمن فهم من علم الله ما يختص به المخلوق من أنه عرض محدث باضطرار أو اكتساب فمن نفسه أتي وليس في قولنا علم الله ما يدل على ذلك
وكذلك من فهم من قوله
بل يداه مبسوطتان الآية
ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي
ما يختص به المخلوق من جوارحه وأعضائه فمن نفسه أوتي

فليس في ظاهر هذا اللفظ ما يدل على ما يختص به المخلوق كما في سائر الصفات
وكذلك إذا قال
ثم استوى على العرش
من فهم من ذلك ما يختص بالمخلوق كما يفهم من قوله
فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك
فمن نفسه أتي فإن ظاهر اللفظ يدل على استواء يضاف إلى الله عز و جل كما يدل في تلك الآية على استواء يضاف إلى العبد
وإذا كان المستوي ليس مماثلا للمستوي لم يكن الاستواء مماثلا للاستواء
فإذا كان العبد فقيرا إلى ما استوى عليه يحتاج إلى حمله
وكان الرب عز و جل غنيا عن كل ما سواه والعرش وما سواه فقيرا إليه وهو الذي يحمل العرش وحملة العرش لم يلزم إذا كان الفقير محتاجا إلى ما استوى عليه أن يكون الغني عن كل شيء وكل شيء محتاج إليه محتاجا إلى ما استوى عليه
وليس في ظاهر كلام الله عز و جل ما يدل على ما يختص به المخلوق من حاجة إلى حامل وغير ذلك بل توهم هذا من سوء الفهم لا من دلالة اللفظ

لكن إذا تخيل المتخيل في نفسه أن الله مثله تخيل أن يكون استواؤه كاستوائه وإذا عرف أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله علم أن استواءه ليس كاستوائه ولامجيئه كمجيئه كما أن علمه وقدرته ورضاه وغضبه ليس كعلمه وقدرته ورضاه وغضبه
وما بين الأسماء من المعنى العام الكلي كما بين قولنا حي وحي وعالم وعالم وهذا المعنى العام الكلي المشترك لا يوجد عاما كليا مشتركا إلا في العلم والذهن وإلا فالذي في الخارج أمر يختص بالموصوف
فصفات الرب عز و جل مختصة به وصفات المخلوق مختصة به ليس بينهما اشتراك ولا بين مخلوق ومخلوق
الوجه الخامس قولهم لما كان اعتقادهم في الباري جلت قدرته أنه غير ذي جسم استعمال منهم للفظ الجسم في القدر والغلظ لا في ذي القدر والغلظ وهذا أحد موردي استعماله وهو الأشهر في لغة العامة فيقولون هذا الثوب له جسم وهذا ليس له جسم أي هذا له غلظ وكثافة دون هذا
ولكن النظار أكثر ما يستعملون لفظ الجسم في نفس ذي القدر فيقولون للقائم بنفسه ذي القدر إنه جسم
وهذا اللفظ لما كثر استعماله في كلام النظار تفرقوا في معانيه لغة وعقلا وشرعا تفرقا ضل به كثير من الناس فإن هذا اللفظ أصله في اللغة هو الجسد

قال غير واحد من أهل اللغة كالأصمعي وأبي زيد وغيرهما الجسم هو الجسد
وهذا إنما يستعمله أهل اللغة فيما كان غليظا كثيفا فلا يسمون الهواء جسما ولا جسدا ويسمون بدن الإنسان جسدا
وقد تقدم أن الجسم يراد به نفس الجسد ويراد به قدر الجسد وغلظه قال تعالى
وزاده بسطة في العلم والجسم
وقال تعالى
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة
وقد يراد به هذا وهذا
ثم إن أهل النظر استعملوا لفظ الجسد في أعم من معناه في

اللغة كما فعلوا مثل ذلك في لفظ الجوهر ولفظ العرض ولفظ الوجود ولفظ الذات وغير ذلك
فاستعملوا لفظ الجسم فيما يقوم بنفسه وتمكن الإشارة إليه الحسية المختلفة
ثم تنازعوا نزاعا عقليا فيما يشار إليه كالهواء والنار والتراب والماء وغير ذلك هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة أو من المادة والصورة أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة أقوال قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع
فمن اعترف أنها مركبة من هذا أو هذا يلزمه إذا قال إن الله جسم أن يكون الله مركبا من هذا أو هذا
ولهذا قالوا إن هذا باطل وأوجبوا على أصلهم نفي مسمى هذا الاسم وهذا هو المشهور عند هؤلاء
ومن اعتقد أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا قال يلزمني إذا قلت هو جسم أن يكون مركبا
فمن هؤلاء من أطلق عليه لفظ الجسم وأراد به القائم بنفسه أو الموجود كما أطلق هؤلاء لفظ الجوهر وقالوا أردنا بالجوهر القائم بنفسه وكما قال هؤلاء ليس في الوجود إلا جوهر أو عرض
فإن الوجود إما قائم بنفسه وهو الجوهر أو بغيره وهو العرض والجوهر أشرف القسمين

وقال الآخرون ليس في الوجود إلا قائم بنفسه وهو الجسم أو قائم بغيره وهو العرض والجسم أشرف القسمين وقال فما سماه أولئك جوهرا سماه أولئك جسما وكلاهما ليست تسميته لغوية ولا شرعية
وإذا قال هؤلاء هو جوهر لا كالجواهر كما يقال هو شيء لا كالأشياء
قال أولئك هو جسم لا كالأجسام كما يقال هو شيء لا كالأشياء
وإذا قال هؤلاء الجوهر ينقسم إلى كثيف ولطيف قال أولئك والجسم ينقسم إلى لطيف وكثيف
والمقصود هنا أن هؤلاء الذين نزهوه عما يمتنع عليه من مماثلة المخلوقين وسموه جسما نزاعهم مع النفاة قد يكون لفظيا كنزاع النصارى في لفظ الجوهر وقد يكون عقليا كنزاعهم في المشار إليه هل هو مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة أو لا من هذا ولا من هذا
ومن قال من القائلين بأنه جسم فيقول إنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة فهؤلاء مذمومون لفظا ومعنى عند

جماهير المسلمين وغيرهم وإن كان النصارى وغيرهم يعجزون عن الرد على هؤلاء إذ كان ما يعتمدون عليه في تنزيه الله عن خصائص الأجسام طرقا ضعيفة لا تثبت على المعيار العقلي كما قد بسط في موضع آخر
بخلاف من كان نزاعه لفظيا فهذا يذم إما لغة وإما لغة وشرعا لكونه أطق لفظا لم يأذن به الشرع أو استعمله في خلاف معناه اللغوي كما قد يذم النافي لمثل ذلك لغة وشرعا إذا كان معناه صحيحا
وأما من كان من النفاة أو المثبتة نفى حقا أو أثبت باطلا فهذا مذموم ذما معنويا شرعا وعقلا
وأما الشرع فالرسل وأتباعهم الذين من أمة موسى وعيسى ومحمد لم يقولوا إن الله جسم ولا إنه ليس بجسم ولا إنه جوهر ولا إنه ليس بجوهر
لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء هو مما أحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء
والذي اتفقت عليه الرسل وأتباعهم ما جاء به القرآن والتوراة من أن الله موصوف بصفات الكمال وأنه ليس كمثله شيء فلا تمثل صفاته بصفات المخلوقين مع إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات ولا يدخل في صفاته ما ليس منها ولايخرج منها ما هو داخل فيها

إذا تبين هذا فالمسلمون لما كان اعتقادهم بأن الله تعالى موصوف بما وصف به نفسه وأنه ليس كمثله شيء وكان ما أثبتوه له من الصفات مما جاءت به الرسل لم يكن عليهم ملام لأنهم أثبتوا ما أثبته الرسل ونفوا ما نفته الرسل فكان في هذا النفي ما ينفي الوهم الباطل
بخلاف من أثبت أمورا لم تأت بها الرسل وضم إليها ما يؤكد المعنى الباطل لا ما ينفيه وكان مما نفوا عنه أنه ليس بجسم مركب من الجواهر المنفردة ولا من المادة والصورة
أما على أحد قولي النظار بل أظهرهما فإن ما سواه من الموجودات القائمة بأنفسها ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا
فهو سبحانه أحق بتنزيهه عن مثل هذا إذ كل نقص نفي عن المخلوق فالخالق أحق بتنزيهه منه
وأما على القول الآخر فتارة يقولون لأن المركب من الجواهر المنفردة يمكن افتراق أجزائه وذلك ممتنع في حق الله تعالى وتارة يقولون لأنه مفتقر إلى أجزائه وذلك ممتنع في حق الله

تعالى إذ جزؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه قديما أزليا كما قد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر
ثم منهم من لا يطلق من النفي والإثبات إلا الألفاظ الشرعية فكما لا يقول هو جسم وجوهر لا يقول ليس بجسم ولا جوهر
ومنهم من يطلق هذه الألفاظ وهؤلاء منهم من ينفيها ومنهم من يثبتها
وكل من الطائفتين قد يدخل في ذلك ما يوافق الشرع وقد يدخل في ذلك ما يخالف الشرع
وكل من الطائفتين يدعي النظر العقلي أو اللغوي وربما اعتصم بعضهم بما يظنه دليلا شرعيا
والغالب عليهم أنهم لا يعتصمون في ذلك بشرع إذ لم يكن في ذلك شرع وإنما يتكلفون تغيير اللغة التي بعث بها الرسول ثم يحملون ألفاظه على ما ابتدعوه من اللغة كما فعلته النصارى في حمل كلام الأنبياء على ما ابتدعوه من اللغة
فإن الأنبياء لم يسموا علم الله وحياته ابنا وروح قدس ولا ربا فسمى النصارى علمه وحياته ابنا وروح قدس وربا ثم حملوا كلام الأنبياء على ذلك
كذلك طائفة من أهل الكلام كان السلف يسمونهم الجهمية أحدثوا تسمية الواحد والأحد ونحوهما لما لا يشار إليه ويميز الحس منه

شيئا عن شيء وهذا خلاف اللغة فإن أهل اللغة يسمون بالواحد والوحيد والأحد في النفي لما يشار إليه ويميز الحس منه شيئا من شيء قال تعالى
ذرني ومن خلقت وحيدا
فسمى الإنسان وحيدا وقال تعالى
وإن كانت واحدة فلها النصف
فسمى المرأة واحدة
وما أمرنا إلا واحدة
وقال
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله
فسمى المستجير وهو الإنسان أحدا
وكذلك قوله تعالى
ولم يكن له كفوا أحد
فنفى أن يكون أحد كفوا له

فلو كان ما يشار إليه لا يسمى أحدا لم يكن قد نزهه عن مماثلة المخلوقات له فإن المشهود من المخلوقات كلها يشار إليها فإن لم يدخل في أحد لم يكن قد نزه نفسه عن مماثلتها
فهؤلاء لما أحدثوا أن مسمى الأحد والواحد لا يكون مشارا إليه قالوا والرب قد سمى نفسه أحدا وواحدا فيجب أن لا يكون مشارا إليه
ولغة الرسول التي خاطب بها الناس لم تكن موافقة لما ابتدعوه من اللغة
وكذلك الذين قالوا هو جسم غيروا اللغة وجعلوا الجسم اسما لما يشار إليه أو لكل موجود ولكل قائم بنفسه
ثم قالوا هو موجود أو قائم بنفسه أو مشار إليه فيكون جسما
ولا يوجد في اللغة اسم الجسم لا لهذا ولا لهذا ولا لهذا
وقالوا لا يلزم من كونه مشارا إليه أن يكون مركبا من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة
وقال أولئك بل يلزم أن كل مركب يسمى في اللغة جسما فيلزم أن يسمى جسما إذا قلنا هو مشار إليه أو يرى بالأبصار أو متصفا بصفات تقوم به
وليس ما ذكروه عن اللغة بمستقيم فإن أهل اللغة لا يعنون بالجسم المركب بل الجسم عندهم هو الجسد ولا يسمون الهواء جسما

إذا تبين هذا فتمثيل هؤلاء النصارى باطل على قول كل طائفة من طوائف المسلمين
فمنهم من يقول الجسم في اللغة هو المركب والله ليس بمركب فليس بجسم لا يقولون بما ذكروه من أن الله له وجه يوليه إلى كل مكان وجنب ونحو ذلك
وكذلك من قال إن الله ليس بمركب وسماه جسماه بمعنى أنه قائم بنفسه أو لم يسمه جسما لا يقول بذلك أيضا ومن حكى عنه يثبت له خصائص الأجسام المركبة فهؤلاء إن أطلقوا ما نفاه فلا حجة للنصارى عليهم وإن لم يطلقوه فحجتهم أبعد
فقد تبين أنه ليس لهم حجة على أفسد الناس قولا في التجسيم فضلا عن غيرهم
الوجه السادس أن يقال لهؤلاء النصارى إما أن تعنوا بلفظ الجسم المعنى اللغوي وهو الجسد وإما أن تعنوا به المعنى الاصطلاحي عند أهل الكلام كالمشار إليه مثلا
فإن عنيتم الأول لم يلزم من نفي ذلك نفي ما ذكرتموه من الصفات لا سيما وأنتم تقولون إنه جوهر وقسمتم الجوهر إلى لطيف وكثيف
فإذا كان الكثيف هو الجسم واللطيف جوهر ليس بجسم لم يمتنع على مثل هذا أن يكون له ما يناسبه من الصفات كالملائكة

فإن الملائكة لا يمتنع وصفها بذلك وإن لم تكن أجساما على هذا الاصطلاح بل هي جواهر روحانية وكذلك روح الإنسان التي تخرج منه لا يمتنع وصفها بما يناسبها من ذلك وإن كانت ليست بجسم على هذا التقدير
فتبين أن نفي مسمى الجسم اللغوي عن الشيء لا يمتنع اتصافه بما ذكر من الصفات وأمثالها
وإن عنيتم بالجسم القائم بنفسه أو المشار إليه لم يمتنع عندكم أن يكون جسما فإنكم سميتموه جوهرا وعنيتم القائم بنفسه
فإن قام الدليل على أن كل قائم بنفسه يشار إليه كان أيضا مشارا إليه
وإن قام دليل على أنه قائم بنفسه لا يشار إليه كان جوهرا وجسما عند من يفسر الجسم بالقائم بنفسه ومن فسره بالمشار إليه لم يسم عنده جسما فتبين أنه على أصلكم لا يمتنع أن يسمى جسما مع تسميتكم له جوهرا إلا إذا ثبت أن من الموجودات ما هو جوهر قائم بنفسه لا يشار إليه وهذا لم يقيموا عليه دليلا وليس هذا قول أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وإنما هو قول طائفة من الفلاسفة وقليل من أهل الملل وافقوهم
ثم يقال لكم أنتم قلتم إنه حي ناطق وله حياة ونطق بل زدتم على ذلك حتى جعلتموه أقانيم ثلاثة

ومعلوم أن الحياة والنطق لا تعقل إلا صفة قائمة بموصوف ولا يعلم موصوف بالحياة والنطق إلا ما هو مشار إليه بل ما هو جسم كالإنسان
فإن جاز لكم أن تثبتوا هذه الأعراض في غير جسم جاز لغيركم أن يثبت المجيء واليد ونحو ذلك لغير الجسم
وإن قلتم هذا لا يعقل إلا لجسم قيل لكم وذلك لا يعقل إلا لجسم فإن رجعتم إلى الشاهد كان حجة عليكم وإن جاز لكم أن تثبتوا في الغائب حكما على خلاف الشاهد جاز لغيركم وحينئذ فلا تناقض بين ما نفاه المسلمون وأثبتموه لو كان ما ذكرتموه عنهم من النفي والإثبات حقا على وجهه فكيف وقد وقع التحريف في الطرفين
الوجه السابع أن يقال غاية مقصودكم أن تقولوا إن المسلمين لما أطلقوا ألفاظا ظاهرها كفر عندهم لمجيء النص بها وهم لا يعتقدون ظاهر مدلولها كذلك نحن أطلقنا هذه الألفاظ التي ظاهرها كفر لمجيء النص بها ونحن لا نعتقد مدلولها
فيقال لكم أولا إن ما أطلقه المسلمون من نصوص الصفات أطلقتموه أنتم كما وردت به التوراة فهذا مشترك بينكم وبينهم وما اختصصتم به من التثليث والاتحاد لم يشركوكم فيه
ثم يقال ثانيا إن المسلمين أطلقوا ألفاظ النصوص وأنتم أطلقتم ألفاظا لم يرد بها نص

والمسلمون قرنوا تلك الألفاظ بما جاءت به النصوص من نفي التمثيل
وأنتم لم تقرنوا بألفاظكم ما ينفي ما أثبتموه من التثليث والاتحاد
والمسلمون لم يعتقدوا معنى باطلا
وأنتم اعتقدتم من التثليث في الأقانيم والاتحاد ما هو معنى باطل
والمسلمون لم يسموا صفات الله بأسماء أحدثوا تسمية الصفات بها وحملوا كلام الرسل عليها
وأنتم أحدثتم لصفات الله أسماء سميتموه أنتم بها لم تسمعه الرسل وحملتم كلام الرسل عليها
والمسلمون لم يعدلوا عن النصوص الكثيرة المحكمة البينة الواضحة إلى ألفاظ قليلة متشابهة
وأنتم عدلتم عن هذا إلى هذا
والمسلمون لم يضعوا لهم شريعة اعتقاد غير ما جاءت به الرسل
وأنتم وضعتم شريعة اعتقاد غير ما جاءت به الرسل
والمسلمون لم يقولوا قولا لا يعقل
وأنتم قلتم قولا لا يعقل
والمسلمون لم يتناقضوا فيجعلوا الإله واحدا ويجعلونه

اثنين بل ثلاثة وأنتم تناقضتم
فهذه الفروق وغيرها مما يبين فساد تشبيهكم أنفسكم بالمسلمين
الوجه الثامن قولكم وكذلك نحن النصارى العلة في قولنا إن الله ثلاثة أقانيم أب وابن وروح قدس أن الإنجيل نطق به
فيقال لكم هذا باطل فإنه لم ينطق لا الإنجيل ولاشيء من النبوات بأن الله ثلاثة أقانيم ولا خص أحد من الأنبياء الرب بثلاث صفات دون غيرها ولا قال المسيح ولا غيره إن الله هو الأب والابن وروح القدس ولا إن له أقنوما هو الابن وأقنوما هو روح القدس ولا قال إن الابن كلمته أو علمه أو حكمته أو نطقه وإن روح القدس حياته ولا سمى شيئا من صفاته ابنا ولا ولدا ولا قال عن شيء من صفات الرب إنه مولود ولا جعل القديم الأزلي مولودا ولا قال لا عن قديم ولا مخلوق إنه إله حق من إله حق ولا قال عن صفات الله إنها آلهة وإن الكلمة إله والروح إله ولا قال إن الله اتحد لا بذاته ولا بصفاته بشيء من البشر بل هذا كله مما ابتدعتموه وخرجتم به عن الشرع والعقل فخالفتم الكتب المنزلة والعقول الصريحة وكنتم ممن قيل فيهم
وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير

فإنكم أنتم الذين سميتم نطق الله ابنا وقلتم سميناه ابنا لأنه تولد منه كما يتولد الكلام من العقل فكان ينبغي أيضا أن تسموا حياته ابنا لأنها منبثقة منه ومتولدة عنه أيضا إذ لا فرق بين علم الرب وحياته
فعلمه لازم له وحياته لازمة له فلماذا جعلتم هذا ابنا دون هذا
وقلتم إنه مولود من الله وإنه قديم أزلي وأنتم تعترفون بأن أحدا من الأنبياء لم يسم علم الله ولا كلامه ولا حكمته مولودا منه
والذي يعقله الخلق في المولود الذي يولد من غيره كما يتولد العلم والكلام من نفس الإنسان أنه حادث فيه أو منفصل عنه لا يعقل أنه قائم به وأنه متولد منه قديم أزلي
ثم قلتم في أمانتكم إنه تجسم من روح القدس أو منه ومن مريم
وهو إنما تجسم عندكم من الكلمة التي سميتموها الابن دون روح القدس
وإن كان تجسم من روح القدس فيكون هو روح القدس لا يكون هو الكلمة التي هي الابن
ثم تقولون هو كلمة الله وروحه فيكون حينئذ أقنومين أقنوم الكلمة وأقنوم الروح وإنما هو عندكم أقنوم واحد

فهذا تناقض وحيرة تجعلونه الابن الذي هو الكلمة وهو أقنوم الكلمة فقط
وتقولون تجسم من روح القدس ولا تقولون إنه تجسم من الكلمة
وتقولون هو كلمة الله وروحه والكلمة والروح أقنومان
ولا تقولون إنه أقنومان بل أقنوم واحد
وتقولون إنه خالق العالم والخالق هو الأب وتقولون ليس هو الأب وتقولون إله حق من إله حق وتقولون إله واحد ساوى الأب في الجوهر
وتقولون ليس له مثل وليس شيء من هذا في كلام أحد من الأنبياء فكيف تشبهون أنفسكم بمن اتبع نصوص الأنبياء ولم يحرفها
وغاية ما عندكم ما وجد في إنجيل متى دون سائر الأناجيل من أن المسيح عليه السلام قال عمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس
وأنتم قد عرفتم في كلام المسيح وغيره من الأنبياء أنهم لايريدون بالابن صفة الله لا كلامه ولا علمه ولا حكمته
ولا يريدون بالابن إله حق من إله حق ولا مولود قديم أزلي

بل يريدون به وليه وهو ناسوت لا لاهوت كيعقوب والحواريين
ولا يريدون بروح القدس نفس حياة الله ولا يريدون به أنه رب حي وإنما يريدون بها الملك أو ما ينزله الله على قلوب أنبيائه وأصفيائه من الهدى والتأييد ونحو ذلك
فروح القدس يكون عندكم وعند المسلمين في الأنبياء وغيرهم كما كانت في داود وغيره وكانت في الحواريين
فلو قدر أن لفظ الابن وجد في كلام المسيح مستعملا تارة في كلمة الله وتارة في وليه الناسوت وروح القدس مستعملا تارة في حياته وتارة فيما ينزله على قلوب أنبيائه كان جزمكم بأنه أراد بذلك هنا صفات الله جزما باطلا
فما وصف به المسيح من أنه ابن الله ومن أن روح القدس فيه قد وصف به غيره من الأنبياء والصالحين
فإن كان الابن وروح القدس صفتين لله وجب أن يكون غير المسيح لاهوتا وناسوتا كالمسيح إذ الذي حل في المسيح حل في غيره
ثم جزمكم بأن هذه الصفات أقانيم وأنه ليس لله صفات ذاتية أو جوهرية أو نحو ذلك إلا هذه الثلاثة ثم تفرقتم في الثلاثة هل المراد بالأقانيم الوجود والعلم والحياة أو الحكمة والكلام أو النطق

بدل لفظ العلم أو المراد الوجود والعلم والقدرة بدل الحياة أو المراد الوجود والحياة والقدرة أو المراد الوجود مع الحياة والعلم والقدرة إلى أقوال أخرى يطول أمرها
فيا ليت شعري ما الذي أراد المسيح بلفظ الأب والابن وروح القدس من هذه الأمور التي اختلفتم فيها لو كان مراده ما ادعيتموه من الأقانيم
والأقانيم لفظا ومعنى لايوجد في كلام أحد من الأنبياء بل قيل فيها إنها لفظة رومية يفسرونها تارة بالأصل وتارة بالشخص وتارة بالذات مع الصفة ويفسرونها تارة بالخاصة وتارة بالصفة
فهلا تركتم كلام المسيح على حاله ولم تحرفوه هذه التحريفات
ولقد أحسن بعض الفضلاء إذ قال لو سألت نصرانيا وابنه وابن ابنه عما يعتقدونه لأخبرك كل واحد بعقيدة تخالف عقيدة الآخر إذ كان أصل اعتقادهم جهلا وضلالا ليس معهم علم لا نقل ولا عقل فهم كما قال الله تعالى
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير
وليس معهم بما اعتقدوه من التثليث والاتحاد علم بوجه من الوجوه فضلا عما هو أخص من ذلك وهو علم يهتدون به فليسوا

بمهدتين فضلا عما هو أخص من الهدى وهو كتاب منير فليس معهم به كتاب منير
ولو تكلمتم بهذا الكلام وقلتم لا نفهم معناه أو ظاهره باطل وله تأويل مقبول كما حكيتموه عمن تشبهتم به من المسلمين من أنه يقوله في الصفات لكان هذا أقرب إلى القياس
فكيف والأمر بعكس ما ذكرتم
وذلك يتبين بالوجه التاسع وهو أنكم إنما ضللتم بعدولكم عن صريح كلام الأنبياء وظاهره إلى ما تأولتموه عليه من التأويلات التي لا يدل عليها لفظه لا نصا ولا ظاهرا فعدلتم عن المحكم واتبعتم المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
فلو تمسكتم بظاهر هذا الكلام لم تضلوا فإن الابن ظاهره في كلام الأنبياء لا يراد به شيء من صفات الله بل يراد به وليه وحبيبه ونحو ذلك وروح القدس لايراد به صفته بل يراد به وحيه وملكه ونحو ذلك فعدلتم عن ظاهر اللفظ ومفهومه إلى معنى لا يدل عليه اللفظ البتة فكيف تدعون أنكم اتبعتم نصوص الأنبياء
الوجه العاشر أنكم بالغتم في ذم المسيح وإنجيله كما بالغتم في سب الله وشتمه وإن كنتم لا تعلمون أن ذلك ذم فلم ترضوا أن تجعلوا ظاهر كلام المسيح ما أنتم عليه من الكفر حتى جعلتم ظاهره كفر لا ترضونه مثل ثلاثة آلهة متفقة أو متفرقة أو ثلاثة أجسام مؤلفة أو ثلاثة أجزاء مفرقة أو ثلاثة أشخاص مركبة
فهذا ونحوه هو الذي ادعيتم أنه ظاهر كلام المسيح عليه السلام

وأنتم لا تقولون بهذا الظاهر بل تكفرون قائله كما يكفر المسلمون من يقول بالظاهر الذي هو التجسيم والتمثيل
وهذا ما يتضمن أن كلام المسيح ظاهر في إثبات ثلاثة آلهة وثلاثة أشخاص مؤلفة وثلاثة أجزاء متفرقة وثلاثة أشخاص مركبة
كما زعمتم أن ظاهر القرآن التجسيم وأنكم عدلتم عن هذا الظاهر إلى إثبات الأقانيم الثلاثة التي جعلتم فيها كلمة الله هي ابنه وهو جوهر خالق يساويه في الجوهر وأن المسيح هو هذا الابن المساوي للأب في الجوهر خالق العالمين وديان يوم الدين والجالس فوق العرش عن يمين الرب وأنه إله حق من إله حق والروح أيضا إله ثالث والآلهة الثلاثة إله واحد
وهذا الذي ذكرتموه فيه من عيب المسيح وذمه ما ينتصر الله به للمسيح وممن افترى عليه منكم ومن غيركم
فإن المسيح عليه السلام على قولكم لم يفصح لكم بأمانة تعتقدونها ولا بتوحيد تعرفون به ربكم عز و جل بل تكلم بما ظاهره إثبات ثلاثة آلهة وثلاثة أجسام مركبة وثلاثة أجزاء متفرقة وأنكم أنتم أصلحتم ذلك حتى جعلتموه ثلاثة أقانيم ووضعتم تلك الأمانة المخالفة لعقول ذوي العقول ولكل كتاب جاء به رسول مع أن المسيح لم ينطق بتثليث قط ولا باتحاد ولا بما يدل على ذلك
وعمدتم على ما نقله متى عنه دون الثلاثة أنه قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس

وهذا الكلام ظاهر بل نصه حجة على خلاف قولكم وأنه أراد بالابن نفسه وهو الناسوت ولم يرد به صفة الله وأراد بروح القدس ما أيده الله به أو روح القدس الذي نفخ في امه حتى حبلت به لم يرد به صفة الله تعالى
فتأولتم كلامه على خلاف ظاهره تأويلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول فكيف تدعون أنكم تمسكتم بظاهر كلامه
ولما كان قول النصارى في التثليث متناقضا في نفسه لا حقيقة له صار مجرد تصوره التام كافيا في العلم بفساده من غير احتياج إلى دليل وإن كانت الأدلة تظهر بفساده
ولهذا سلك طائفة من العلماء في الكلام معهم هذا المسلك وهو أن مجرد تصور مذهبهم كاف في العلم بفساده فإنه غير معقول
وقالوا إن النصارى ناقضت في اللفظ وأحالت في المعنى فلا يجوز أن يعتقد ما يدعون انتحاله لتناقضه
وذلك أنهم يزعمون أن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة وهذا لا يصح اعتقاده لأنه لا يجوز أن يعتقد المعتقد في شيء أنه ثلاثة مع اعتقادة فيه أنه واحد لأن ذلك متضاد
وإذا كان ذلك كذلك فليس يخلو من أن يعتقد أنه ثلاثة أو أنه واحد
وليس يحتاج أن يعرف بدليل بطلان قول من ادعى أن الواحد ثلاثة وأن الثلاثة واحد لأن ذلك لا يعقل

وهو كمن ادعى في الشيء أنه موجود معدوم أو قديم محدث أو في الجسم أنه قائم قاعد متحرك ساكن
وإذا كان كذلك فتناقضه أظهر من أن يحتاج فيه إلى دلالة
وإذا قال النصارى إنه أحدي الذات ثلاثي الصفات
قيل لو اقتصرتم على قولكم إنه واحد له صفات متعددة لم يكنر ذلك عليكم جمهور المسلمين بل ينكرون تخصيص الصفات بثلاث فإن هذا باطل من وجود متعددة
منها أن الأب عندكم هو الجوهر ليس هو صفة فلا يكون له صفة إلا الحياة والعلم فيكون جوهرا واحدا له أقنومان وأنتم جعلتم ثلاثة أقانيم
ومنها أن صفات الرب لا تنحصر في العلم والحياة بل هو موصوف بالقدرة وغيرها
ومنها أنكم تارة تفسرون روح القدس بالحياة وتارة بالقدرة وتارة بالوجود
وتفسرون الكلمة تارة بالعلم وتارة بالحكمة وتارة بالكلام
فبطلان قولكم في إثبات ثلاث صفات كثير وأنتم مع هذا تجعلون كل واحدة منها إلها
فتجعلون الحياة إلها والعلم إلها وهذا باطل
وأما من لم يثبت الصفات من المسلمين وغيرهم فيردون عليكم من وجوه أخرى كقول بعضهم إذا قيل ألستم تقولون إن الأبعاض

الكثيرة تكون إنسانا واحدا والآحاد الكثيرة عشرة واحدة والأجسام الكثيرة دارا واحدة ومدينة واحدة وما جرى هذا المجرى مما هو أكثر من أن يحصى وأظهر من أن يخفى
فكيف عبتم ذلك من النصارى ولم أنكرتم أن يكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا
قيل إن قولنا إنسان واحد ودار واحدة وعشرة واحدة وما يجري هذا المجرى أسماء تنبىء عن الجمل لا عن آحاد
وإذا قلنا إنسان واحد فكأنا قلنا جملة واحدة وكذلك إذا قلنا عشرة واحدة لا أنا نثبته واحدا في الحقيقة
كيف ونحن نقول إن أبعاض الإنسان متغايرة فكل بعض منها غير سائرها وكذلك كل واحد من العشرة غير سائرها
فنحن وإن قلنا إنسان واحد فلسنا نثبته شيئا واحدا في نفسه ولو أثبتنا ذلك لتناقضنا مناقضة النصارى وإنما قلنا هي جملة واحدة ولو قالت النصارى مثل ذلك لم تتناقض حتى يزعموا أنها ثلاثة أشياء جملة واحدة
فيكون مرادهم في ذلك بوصفهم الأقانيم الثلاثة بأنها جوهر واحد مما نريد بقولنا الأبعاض الكثيرة أنه إنسان واحد
فيكون وصفهم لها بأنها جوهر إنما ينبىء أنها جملة وليس هذا مما يذهبون إليه ولا يعتقدونه ولا يجعلون له معنى لأنهم لا يعطون

حقيقة التثليث فيثبتون الأقانيم الثلاثة متغايرة ولا حقيقة التوحيد فيثبتون القديم واحدا ليس باثنين ولا أكثر من ذلك
وإذا كان ذلك كذلك فما قالوه هو شيء لا يعقل ولا يصلح اعتقاده ويمكن أن يعارضوا على قولهم بكل حال
فيقال لهم إذا جاز عندكم أن تكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا فلم لا يجوز أن تكون ثلاثة آلهة جوهرا واحدا وثلاثة فاعلين جوهرا واحدا وثلاثة أغيار جوهرا واحدا وثلاثة أشياء جوهرا واحدا وثلاثة قادرين جوهرا واحدا وكل ثلاثة أشياء جوهرا واحدا وكل ما يجري هذا المجرى من المعارضة فلا يجدون فصلا
الوجه الحادي عشر أن غلاة المجسمة الذين يكفرهم المسلمون أحسن حالا منكم شرعا وعقلا وهم أقل مخالفة للشرع والعقل منكم
فإذا كان هؤلاء خيرا منكم فكيف تشبهون أنفسكم بمن هو خير من هؤلاء من أهل السنة من المسلمين الذين لا يقولون لا بتمثيل ولا بتعطيل
وبيان ذلك أن التوراة والإنجيل وسائر كتب الله وغير ذلك مما هو مأثور عن الأنبياء فيه نصوص كثيرة صريحة ظاهرة واضحة في وحدانية الله وأنه لا إله غيره وهو مسمى فيها بالأسماء الحسنى موصوف بالصفات العلى وأن كل ما سواه مخلوق له ليس فيه

تثليث ولا اتحاد الخالق بشيء من المخلوقات لا المسيح ولا غيره
وفيها ألفاظ قليلة مشكلة متشابهة وهي مع ذلك لا تدل على ما ذكرتموه من التثليث والاتحاد لا نصا ولا ظاهرا ولكن بعضها يحتمل بعض ما قلتم وليس فيها شيء يحتمل جميع ما قلتم فضلا عن أن يكون ظاهرا فيه أو نصا بل بعضها يحتمل بعض قولكم
فأخذتم ذلك المحتمل وضممتم إليه من الكفر الصريح والتناقض القبيح ما صيرتموه أمانة لكم أي عقيدة إيمان لكم
ولو كانت كلها تحتمل جميع ما قلتم لم يجز العدول عن النص والظاهر إلى المحتمل ولو كان بعضها ظاهرا فيما قلتم لم يجز العدول عن النصوص الصريحة إلى الظاهر المحتمل
ولو قدر أن فيها نصوصا صريحة قد عارضتها نصوص أخرى صريحة لكان الواجب أن ينظروا بنور الله الذي أيد به عباده المؤمنين فيتبعون أحسن ما أنزل الله وهو المعنى الذي يوافق صريح المعقول وسائر كتب الله وذلك النص الآخر إن فهموا تفسيره وإلا فوضوا معناه إلى الله تعالى إن كان ثابتا عن الأنبياء
وهؤلاء عدلوا عما يعلم بصريح المعقول وعما يعلم بنصوص

الأنبياء الكثيرة إلى ما يحتمله بعض الألفاظ لموافقته لهواهم فلم يتبعوا
إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى
وأما كفار المجسمة فهؤلاء أعذر وأقل كفرا من النصارى فإن هؤلاء يقولون كما يقوله معهم النفاة إن ظواهر جميع الكتب هو التجسيم
ففي التوراة والقرآن من الآيات التي ظاهرها التجسيم ما لا يحصى
وليس فيها نص بما يقوله النفاة من أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا هو فوق العرش ولا يشار إليه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا يقرب منه شيء ولا يدنو من شيء ولا يدنو إليه شيء إلى نحو ذلك من النفي الذي يقوله نفاة الصفات
فمعلوم أنه ليس في الكتب الإلهية لا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن ولا غير ذلك من النبوات من هذا حرف واحد وكلها مملوءة مما يقول هؤلاء إنه تجسيم
فيقول هؤلاء نحن اتبعنا نصوص الأنبياء ولم نعدل عنها إلى غيرها ولم نجد في نصوصهم نصا محكما صريحا بالنفي الذي يقوله نفاة الصفات

ووجدنا نصوصهم كلها بالإثبات الذي يقولون إنه تجسيم
فكان على قولنا وقولهم نصوص الأنبياء ظاهرة في التجسيم وليس لهم نص يناقض ذلك فاتبعنا نصوصهم وكل من عارض إثبات الصفات لم يعارضها بنصوص صريحة عن الأنبياء لكن بحجج عقلية
فيقول هؤلاء إن النصارى خالفوا صريح المعقول وصريح كلام الأنبياء واتبعوا قليلا من متشابه كلامهم ونحن اتبعنا نصوص الأنبياء ولم نخالف شيئا من صريح نصوصهم ولكن مخالفنا يقول إنا خالفنا العقل
ونحن ننازعه في ذلك وندعي أن العقل معنا لا علينا وأن ما يدعيه من المعقولات التي تعارض كلام الأنبياء فهي باطلة
أو يقولون نحن والنصارى متفقون على أنا لا نعارض كلام الأنبياء بالشبه العقلية لكن نحن اتبعنا كلامهم المحكم الظاهر الكثير الذين لا مخالف له من كلامهم
وهم خالفوا كلامهم الكثير المحكم واتبعوا قليلا من المتشابه
ويقول الغلاة من هؤلاء الذين يكفرهم أئمة المسلمين وجمهورهم الذي يحكي عنهم أن الله ينزل إلى الأرض عشية عرفة فيعانق المشاة ويصافح الركبان وأنه يتمشى في الأرض يكون موطىء أقدامه مروجا ونحو ذلك
ليس هذا القول بأعجب من قول النصارى الذين يقولون إنه هو المسيح وأن اللاهوت والناسوت اتحدا

فنحن نقول أيضا إنه حل في بعض الأجساد المخلوقة كما يقوله النصارى
أو نقول إنه تجسد كما تتجسد الملائكة والجن وهذا أقرب من قول النصارى إنه اتحد بجسم المسيح
فإنا قد عهدنا اللطائف من الملائكة تتصور في صورة بشرية ولم نعهد ملكا صار هو والبشر شيئا واحدا
فإذا لم يجز أن يتحد الملك بالبشر فكيف يجوز أن يتحد رب الخلائق كلهم بالبشر
قالوا وقد يحل الجني في بدن الإنسي ويتكلم على لسانه إلا أنهما جوهران ومشيئتان وطبيعتان ليس بينهما اتحاد لكنه دخل فيه وتكلم على لسانه
والنصارى يقولون إن رب العالمين اتحد بالبشر فمنهم من يقول جوهر واحد ومنهم من يقول شخص واحد وأقنوم واحد ومنهم من يقول مشيئة واحدة فلابد لكل منهم من نوع اتحاد وهذا أبعد من حلول الجني في الإنسي فإذا كان ما يقولونه ممتنعا في الجن والملائكة فكيف برب العالمين

ومن غلاة المجسمة اليهود من يحكي عنه أنه قال إن الله بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وأنه ندم حتى عض يده وجرى منه الدم وهذا كفر واضح صريح ولكن يقولون قولنا خير من قول النصارى فإن النصارى يقولون إنه أخذ وضرب بالسياط وبصق في وجهه ووضع الشوك على رأسه كالتاج وصلب بين لصين وفعل به من أقبح ما يفعل باللصوص قطاع الطرق
وقد صرح كثير منهم بأن هذا فعل باللاهوت والناسوت جميعا
وشريعة إيمانهم تدل على ذلك وهو لازم لمن أنكر ذلك منهم فإنه مع القول بالاتحاد الذي لا بد لطوائفهم الثلاثة منه يمتنع أن تحل هذه العقوبات في هذا دون ذاك فلا يمكن أن يحل في الناسوت دون اللاهوت فإن هذا إنما يتصور إذا كان اثنين ومن قال بالاتحاد امتنع عنده أن يكون هناك اثنان
وفي الجملة فالنصارى المثلثة إما أن يصرحوا بالاتحاد من كل وجه كاليعقوبية وهؤلاء يصرحون بأن الآلآم حلت باللاهوت
وإما أن يقولوا بالاتحاد من وجه كقول الملكية إنهما شخص

واحد وقول النسطورية هما مشيئة واحدة
وحينئذ فما قالوه من التعدد الذي يوجب المباينة وأنه لا يتصف أحدهما بما يتصف به الآخر ولا يحل به ما حل به فيكون متناقضا لهذا
فأحسن أحوالهم أن يتناقضوا في الاتحاد كما تناقضوا في التثليث وهذا حقيقة قول خيار هؤلاء يتكلمون بالكفر وبما يناقضه وبالتوحيد وبما يناقضه
ومعلوم أن ما يفعله بنفسه من ندم وبكاء وحزن هو دون ما يفعله أعداؤه به من ضرب وصفع وجعل الشوك على رأسه وصلبه بين لصين وأن استغاثته بمن يخلصه من ذلك أشد نقصا من ندمه وحزنه
وإن قالوا فعل هذا حتى يعلم عباده التشبه به أمكن أولئك المجسمة الكفرة أن يقولوا بكى وندم وعض يده ندما حتى جرى الدم حتى يعلم عباده التوبة من الذنوب
ففي الجملة ما قال قوم من أهل الملل قولا في الله إلا وقول النصارى أقبح منه
ولهذا كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لا ترحموهم فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ولهذا يعظم الله فريتهم

على الله في القرآن أشد من تعظيم افتراء غيرهم كقوله
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال يقول الله عز و جل كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك فأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد وأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته
ورواه البخاري عن ابن عباس عن النبي قال قال الله عز و جل كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولدا

وفي الصحيحين عن أبي موسى قال قال رسول الله ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله عز و جل إنه يشرك به ويجعل له ند وهو يعافيهم ويرزقهم ويدفع عنهم
الوجه الثاني عشر أن كل من يعتقد في التجسيم ما يعتقد يمكنه أن يقول كما يقوله النصارى فإن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم قالوا إنه إله تام وإنسان تام وليس فيه من الإلهية شيء فما بقي مع هذا يمتنع أن يعتقد في نظائره ما يعتقد فية
فلو قال القائل إن موسى بن عمران كان هو الله لم يكن هذا أبعد من قول النصارى فإن معجزات موسى كانت أعظم وانتصاره على عدوه أظهر وقد سماه الله في التوراة إلها لهارون ولفرعون
فإذا قيل فيه ما قالوه في المسيح إنه أظهر المعجز بلاهوته وأظهر العبودية بناسوته لم يكن بطلان هذا أظهر من بطلان قول النصارى بل متى جوزوا اتحاد اللاهوت بالناسوت لم يمكنهم دفع ذلك عن أحد ممن يدعى فيه إلا بدليل خاص بل إذا قيل لهم حل في كثير من الأنبياء والقداديس لم يمكنهم نفي ذلك
وإذا قالوا لم يخبر بذلك أحد ولم يبشر به نبي أو هذا غير معلوم

قيل لهم غاية هذا كله أنكم لا تعلمون ذلك ولم يقم عندكم دليل عليه وعدم العلم ليس علما بالعدم فعدم علمكم وعدم علم غيركم بالشيء ليس علما بعدم ذلك الشيء
وكذلك عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول عليه فإن كل ما خلقه الله دليل عليه ثم إذا عدم ذلك لم يلزم عدم الخالق فلا يجوز نفي الشيء لعدم الدليل الدال عليه إلا أن يكون عدم الدليل مستلزما لعدمه كالأمور التي تتوفر الهمم على نقلها إذا لم ينقل علم انتفاؤها
والمقصود أنكم مع العدم لايمكنكم النفي العام عن غير المسيح لعدم الدليل الدال عليه فإنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول في نفس الأمر لا سيما وهو كان متحدا بالمسيح عندهم أكثر من ثلاثين سنة ومع هذا فكان يخفي نفسه ولا يظهر إلا العبودية
فإذا قيل لهم هكذا كان متحدا بغيره من الأنبياء والصالحين ولكن أخفى نفسه لحكمة له في ذلك أو أظهر على نفسه بعض خواص عباده أو أظهر لطائفة لم ينقل إلينا خبرهم ونحو ذلك لم يمكن مع تصديق النصارى فيما يدعونه الجزم بكذب هؤلاء بل من جوز قول النصارى جوز أن يكون متحدا بغير ذلك من الأجسام فيجعل كثيرا من الأجسام المخلوقة هي رب العالمين إذ كانت ليس هو متحدا بها في نفس الأمر

فإذا اعتقدوا الاتحاد فيها كما اعتقدته النصارى في المسيح لم يكن ثم إله في الحقيقة إلا ذلك الجسم الناسوتي المخلوق
لكن ظن الضال أنه رب العالمين كما ظن عباد العجل أن العجل إله موسى فإذا جاز أن يتحد الرب عز و جل ببعض الأجسام لم ينكر على أصحاب العجل إذا جوزوا أن يكون رب العالمين اتحد بالعجل وقد رأوا منه نوع خرق عادة فليس للنصارى أن ينكروا على عباد العجل ولا عباد شيء من الأصنام إذا أمكن أن يكون الرب عز و جل حل فيها عندهم إن لم يقموا دليلا على أن الرب لم يحل في ذلك
فإذا قيل إن موسى عليه السلام أنكر على عباد العجل
قيل نعم وموسى ينكر على كل من عبد شيئا من المخلوقات حتى لو عبد أحد الشجرة التي كلمه الله منها لأنكر عليه فإنكاره على النصارى أعظم
وموسى عليه السلام لم يقل قط إن الله يتحد بشيء مع المخلوقات ويحل فيه بل أخبر من عظمة الله عز و جل بما يناقض ذلك
ففي التوراة من نهيه عن عبادة ما سوى الله ومن تعظيم أمره وعقوبة المشركين به وبما أخبر به من صفات الله عز و جل ما يناقض قول النصارى

ولهذا كان من تدبر التوراة وغيرها من كلام الأنبياء عليهم السلام من النصارى تبين له أن دينهم يناقض دين الأنبياء كلهم وأن ما هم عليه من التثليث والاتحاد والشرك لم يبعث به أحد من الأنبياء عليهم السلام
وما يفعلونه من دعاء المخلوقين كالملائكة أو كالأنبياء والصالحين الذين ماتوا مثل دعائهم مريم وغيرها وطلبهم من الأموات الشفاعة لهم عند الله لم يبعث به أحد من الأنبياء فكيف وقد صوروا تماثيلهم ليكون تذكيرا لهم بأصحابها ويدعون تلك الصور
وإن قصدوا دعاء أصحابها فهم إذا صرحوا بدعاء أصحابها وطلبوا منهم الشفاعة وهم موتى وغائبون كانوا مشركين
فكيف إذا كان الدعاء في الظاهر لتماثيلهم المصورة وهذا مما يعترف حذاق علمائهم بأنه مخالف لدين الأنبياء كلهم
ولهذا وقع بينهم تنازع في اتخاذ الصور في الكنائس لما ابتدعه بعضهم كما هو مذكور في أخبارهم ولم يأت من ابتدع ذلك بحجة شرعية
والمجسمة يعتقدون أن الله قديم أزلي وأنه عظيم جدا لا يقولون إنه متحد بشيء من الأجسام المخلوقة ولا يحل فيها فمن

قال باتحاده وحلوله فيها كان قوله شرا من قول هؤلاء المجسمة
كما أن المتفلسفة الذين يقولون بأن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة بنفسها أولها علة تتشبه بها كما يقوله أرسطو وذووه أو يثبتون لها علة فاعلة لم تزل مقارنة لها كما يقوله ابن سينا وأمثاله
وهؤلاء قولهم شر من قول اليهود والنصارى ومشركي العرب الذين يثبتون للسموات والأرض خالقا خلقها بمشيئته وقدرته
ولو قال من قال منهم إن ذلك جسم فغايته أن يثبت جسما قديما أزليا موصوفا بصفات الكمال
فمن أثبت جسما قديما أزليا ليس موصوفا بصفات الكمال كان قوله شرا من قول هذا
فتبين أن المجسمة الذين يثبتون جسما قديما أزليا واجب الوجود بنفسه عالما بكل شيء قادرا على كل شيء مع قولهم إنه تحله الحوادث وتقوم به الحركة والسكون خيرا من قول الفلاسفة الذين يقولون إن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة الوجود بنفسها كما يقوله أرسطو وذووه وخير من النصارى أيضا
الوجه الثالث عشر قولهم من قال ثلاثة آلهة مختلفة أو متفقة أو ثلاثة أشخاص مركبة أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير والتبعيض والتشبيه فنحن نلعنه ونكفره
فيقال لهم وأنتم أيضا تلعنون من قال إن المسيح ليس هو إله حق من إله حق ولا هو مساوي الأب في الجوهر ومن قال إنه

ليس بخالق ومن قال إنه ليس بجالس عن يمين أبيه ومن قال أيضا إن روح القدس ليس برب حق محيي ومن قال إنه ليس ثلاثة أقانيم
وتلعنون أيضا مع قولكم إنه الخالق من قال إنه الأب والأب هو الخالق فتلعنون من قال هو الأب الخالق ومن قال ليس هو الخالق فتجمعون بين النقيضين
فتلعنون من جرد التوحيد بلا شرك ولا تثليث ومن أثبت التثليث مع انفصال كل واحد عن الآخر وتجمعون بين النقيضين
فمن أثبت أحدكما منفكا عن الآخر لعنتموه كمن قال عندي واحد ثلاثة
فمن قال هو واحد ليس بثلاثة كذبه ومن قال هو ثلاثة ليس واحدا كذبه
ومن قال عندي شيء موجود معدوم فمن قال هو موجود ليس بمعدوم كذبه ومن قال معدوم ليس بموجود كذبه
ومن قال عندي شيء هو حي ميت هو عالم جاهل هو قادر عاجز فمن قال هو حي ليس بميت كذبه ومن قال هو ميت ليس بحي كذبه
فهكذا أنتم تجمعون بين قولين متناقضين أحدهما حق والآخر باطل
فمن قال الحق ونفى الباطل لعنتموه ومن قال الباطل ونفى

الحق لعنتموه
وأنتم تشبهون الملاحدة من الجهمية والفلاسفة والباطنية الذين يسلبون عنه النقيضين أو يمتنعون عن إثبات أحد النقيضين فيقولون لا نقول هو حي ولا ليس بحي ولا هو عالم ولا ليس بعالم ولا قادر ولا ليس بقادر
بل منهم من يقول لا نقول هو موجود ولا معدوم ولا نقول هو شيء ولا نقول ليس بشيء
ومنهم من يقول ليس بحي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز
ومنهم من يقول لا نطلق لا هذا ولا هذا
فيقال لهم رفع النقيضين كجمع النقيضين والامتناع عن أثبات أحد النقيضين كالامتناع عن نفي أحد النقيضين
وكذلك من وصفه بأنه موجود واجب الوجود لذاته ثم وصفه بصفات تستلزم عدمه فقد جمع بين النقيضين
وكل قول يتضمن جمع النقيضين وإثبات الشيء ونفيه أو رفع النقيضين الإثبات والنفي فهو باطل
والنصارى في هذا الباب من أبلغ الناس تناقضا يقولون الشيء ويقولون بما يناقضه ويلعنون من قال هذا ومن قال هذا
وأيضا فكل طائفة منكم تلعن الأخرى فإن أهل الأمانة تلعن الأريوسية وغيرهم من طوائف النصارى وهم يلعنونكم وكل من فرقكم

الثلاثة النسطورية واليعقوبية والملكية تلعن الطائفتين الأخريين
فأنتم واليعقوبية تلعنون من يقول إن مريم لم تلد إلها ويقولون إن مريم ولدت إنسانا تاما إلها تاما
وأنتم النسطورية تلعنون من قال إنهما جوهر واحد بمشيئة واحدة وطبيعة واحدة
ومن قال إن اللاهوت تألم مع قولكم إن اللاهوت مولود من مريم ومع قولكم المسيح الذي ولدته مريم مات وصلب وفي أقوالكم من العجائب المتناقضة التي توجب أنكم ملعونون ما يطول وصفه فما منكم من أحد إلا وهو لا عن ملعون فلعنكم من قال بهذه المقالات لا يوجب أنكم على الحق بل يوجب أن يكون من جملة الملعونين عندكم كطائفة من طوائفكم والنصارى طوائف كثيرون مختلفون اختلافا كثيرا
والطوائف الثلاثة المشهورة في الأزمان المتأخرة منهم بعض طوائفهم وإلا فهم طوائف كثيرون مختلفون في التثليث والاتحاد
وتجد كل صنف منهم أو غيرهم في مقالاتهم يحكي أقوالا غير الأقوال التي حكاها الآخرون
ومن أجل من جمع أخبارهم عندهم سعيد بن البطريق بترك الإسكندرية في أثناء المائة الرابعة من دولة الإسلام وقد بحث لهم بحثا استقصى فيه بزعمه نصر مذهبهم وهو ملكي وقد ذكرت

كلامه في غير هذا الموضع
وفيهم من يقول إن مريم زوجة الله وفيهم من يجعلها إلها آخر كالمسيح
وفيهم من يثبت أن المسيح ابن الله الولادة المعقولة المعروفة من الحيوان
والأمانة التي جعلوها عقيدتهم وأصل إيمانهم في زمن قسطنطين بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة هي وغيرها من أقوالهم الظاهرة تدل على هذه الأمور المنكرة القبيحة دلالة بينة
لكن علماؤهم يتأولونها بتأويلات تناقض مدلولها مع فساد تلك المعاني التي يحملونها عليها عقلا وشرعا
وليست تلك ألفاظ الأنبياء حتى يقال حكمهم في ذلك حكم سائر الطوائف من المسلمين وغيرهم الذين يقولون ما يرونه متشابها من كلام الأنبياء ويقولون إن الأنبياء تكلموا بما لا يعرف أحد معناه أو أنهم خاطبوا الجمهور بما أرادوا به تفهيمهم أمورا ينتفعون بها وإن كان ذلك كذبا باطلا في نفس الأمر
فإن هؤلاء الطوائف وإن كان فيهم من الضلال والجهل ما قد بسط في غير هذا الموضع فقد فعلوا ذلك في ألفاظ الأنبياء التي لها حرمة النبوة

بخلاف النصارى فإنهم وضعوا عقيدة وشريعة ليست ألفاظها منقولة عن أحد من الأنبياء
الوجه الرابع عشر قولهم ويراد بالأب والابن غير أبوة وبنوة نكاح ومن أراد ولادة زوجة لعناه
فيقال لفظ الولادة المعروفة إنما يكون من أصلين وإنما يكون بانفصال جزء من الأصلين وإنما يكون بحدوث المولود سواء أريد ولادة الحيوان أو غيرها كما تتولد النار من بين الزنادين فإذا قدح أحدهما بالآخر خرج منهما جزء لطيف فاستحال نارا ثم سقط على الحراق
وقد توسع بعض الناس في الولادة حتى عبر به عما يحدث عن الشيء وإن لم يكن بانفصال جزء منه كتولد الشعاع عن النار والشمس وغيرها لأن هذا يحدث بشيئين أحدهما ما يصدر عنه من الشمس والنار والثاني المحل القابل له الذي ينعكس عليه وهو الجرم المقابل له الذي يقوم به الشعاع
فأما ما يحدث عن شيء واحد فلا يعرف أنه يسمى ولادة إن قدر وجود ذلك وكذلك لا يعرف ما يلزم الشيء الواحد أنه يسمى ولدا
فأما ما يقوم بالموصوف من صفاته اللازمة له فهذا أبعد

شيء عن أن يسمى هذا الملزوم ولادة بل لا تكون الولادة إلا عن أصلين
وكل من قال إن لله ولدا لزمه أن يكون له صاحبة بأي وجه فسر الولادة وأن يكون له ولد حادثا ولهذا قال تعالى
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم
فاستفهم تعالى استفهام إنكار ليبين امتناع أن يكون له ولد إذ لم تكن له صاحبة فإن الولد لا يكون إلا من أصلين وهذا مما ينبغي أن يتفطن له فإن جعل ما يلزم الشيء الواحد متولدا عنه لا يعرف لا سيما صفاته القائمة به اللازمة له كعلمه وحياته لا سيما الصفات القديمة الأزلية اللازمة لذات رب العالمين الذي لم يزل ولا يزال موصوفا بها فإن صفات العبد اللازمة له كحياته وقدرته ونحو ذلك ليست متولدة عنه عند جميع العقلاء
ولا يقول عاقل يعقل ما يقول إن لون السماء وقدرها متولد عنها ولا إن قدر الشمس وضوءها القائم بها اللازم لها متولد عنها ولا يقول أحد إن حرارة النار وضوءها القائم بها متولد عنها

وإنما يقال إن قيل فيما ليس بقائم بها بل قائم بغيرها أو فيما هو حادث بعد أن لم يكن كالشعاع القائم بالأرض والحيطان وهذا ليس بقائم بها بل قائم بغيرها هو حادث متولد عن أصلين لا عن أصل واحد
فأما صفات المخلوق القائمة به اللازمة له فلا يقول أحد من العقلاء إنها متولدة عنه
والنصارى يزعمون أن كلمة الله التي يفسرونها بعلمه أو حكمته وروح القدس التي يفسرونها بحياته وقدرته هي صفة له قديمة أزلية لم يزل ولا يزال موصوفا بها
ويقولون مع ذلك إن الكلمة هي مولودة منه فيجعلون علمه القديم الأزلي متولدا عنه ولا يجعلون حياته القديمة الأزلية متولدة عنه
وقد أصابوا في أنهم لم يجعلوا حياته متولدة عنه لكن ظهر بذلك بعض مناقضاتهم وضلالهم فإنه أنواع كثيرة فإنه إن كانت صفة الموصوف القديمة اللازمة لذاته يقال إنها ابنه وولده ومتولد عنه ونحو ذلك فتكون حياته أيضا ابنه وولده ومتولدا عنه وإن لم يكن كذلك فلا يكون علمه ابنه ولا ولده ولا متولدا عنه
وأبلغ من ذلك أن روح القدس المنفصلة عنه القائمة بالأنبياء والصديقين لايقولون إنها ولده ولا إنها متولدة عنه بل يخصون

ذلك بالكلمة فلا ينقلون عن أحد من الأنبياء أنه سمى شيئا من صفات الله ابنا ولا ولدا ولا قال إن علم الله أو كلامه أو حكمته ولده أو ابنه أو هو متولد عنه
فعلم أن القوم في غاية التناقض في المعاني والألفاظ وأنهم مخالفون للكتب الإلهية كلها ولما فطر الله عليه عباده من المعقولات التي يسمونها نواميس عقلية ومخالفون لجميع لغات الآدميين وهذا مما يظهر به فساد تمثيلهم فإنهم قالوا تولدت الكلمة عنه كما تولد الكلمة والحكمة فينا عن العقل
فيقال لهم لو قدر أن الأنبياء سموا ذلك تولدا فما يتولد فينا حادث بعد أن لم يكن وحدوثه يتسبب من فعلنا وقدرتنا ومشيئتنا
فاما صفاتنا اللازمة لنا التي لا اختيار لنا في اتصافنا بها ولم نزل متصفين بها فلا يقول عاقل إنها متولدة فينا وعنا
وأنتم تجعلون صفة الله القديمة اللازمة له التي لم يزل ولا يزال متصفا بها متولدة عنه
فلو قدر أن ما ذكرتموه من التولد العقلي أمرا معروفا في اللغة والعقل والشرع لم يكن لكم أن تجعلوا علم الله وحكمته التي فسرتم بها كلمته ابنا له ومولودا منه لم يزل مولودا منه لأن هذا باطل عقلا وشرعا ولغة
اما العقل فإن صفة الموصوف اللازمة له وإن كان مخلوقا

ليست متولدة عنه فكيف الصفة القديمة للموصوف القديم
ولو جاز هذا جاز أن يجعل ما كان لازما لغيره ولدا له ومولودا منه فيجعل كيفيات الأشياء وكمياتها متولدة عنها وأمثالها
ويقال إن طول الجسم وعرضه وعمقه متولد عنه وإن حياة الحي متولدة عنه وإن القوى والطبايع التي جعلها الله في المخلوقات متولدة عنها
وأما الشرع فإن هذا لو كان متولدا وهو في بعض اللغات يسمى ولدا لم يجز أن يحمل على ذلك كلام الأنبياء إلا أن يكون في لغتهم يسمى ولدا
وكل من نظر في كتب الأنبياء من علماء النصارى وغيرهم لم يجد أحدا من الأنبياء يسمى علم الله وكلمته وحياته ولدا له ولا ابنا له ولا قال إن ذلك يتولد عنه
فقولهم عن المسيح عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس أنه أراد بالابن كلمة الله القديمة الأزلية وأنها متولدة منه وأنه أراد بروح القدس حياة الله القديمة الأزلية كذب محض على المسيح عليه السلام لا يوجد قط في كلامه ولا كلام غيره من الأنبياء أنهم سموا علم الله وحكمته ولا شيئا من صفاته القائمة به ابنا ولا سموا حياته روح القدس
وأما اللغة فإن هذا التعبير الذي ذكروا وهو تسمية صفات

الموصوف اللازمة له ولدا وابنا ومتولدا لا يعرف في لغات بني آدم المعروفة
وقد يتبنى الرجل ولد غيره فيتخذه ولدا ويجعله بمنزلة الولد وإن لم يكن متولدا عنه كما كانت تفعله أهل الجاهلية من العرب وغيرهم ولهذا نزه الله تعالى نفسه عن الولادة وعن اتخاذ الولد فقال تعالى
ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون
وقال تعالى
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم
وقال تعالى
لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
وأما اتخاذ الولد ففي مواضع متعددة كقوله تعالى
وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك
وقوله تعالى

وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
وقوله
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين
وقوله
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض
وقوله
لو أراد الله إن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء
وأهل الكتاب يذكرون أن في كتبهم تسمية عباد الله الصالحين ابنا وتسمية الله أبا وتسمية المصطفين أبناء وهذا إذا كان ثابتا عن الأنبياء فإنهم لا يعنون بة إلا معنى صحيحا
واللفظ قد يكون له في لغة معنى وله في لغة أخرى معنى غير ذلك والمراد بهذا الولد والابن لا ينافي كونه مخلوقا مربوبا عبدا لله عز و جل

وأما تسمية شيء من صفات الله ابنا أو ولدا فهذا لا يعرف عن أحد من الأنبياء ولا الأمم أهل اللغات سوى مبتدعة النصارى ولم يبق للتولد إلا معنيان أحدهما أن ينفصل عنه جزء والثاني أن يحدث عنه شيء إما باختياره وإما بغير اختياره وقدرته كحدوث الشعاع عن النار والشمس
وكل من الأمرين لا يكون إلا عن أصلين ولا بد أن يكون حادثا لا يكون من صفاته اللازمة له فيمتنع أن يتولد عنه شيء إن لم يكن معه أصل آخر يتولد عنهما
والتولد عنه بغير قدرته ومشيئته ممتنع عند أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى وسائر الأمم سوى طائفة من المتفلسفة يقولون إنه موجب بذاته مستلزما لما يصدر عنه فهؤلاء قولهم يناسب هذا التولد
والنصارى تكفر هؤلاء لكن قد ضاهوهم في القول كما قال تعالى
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون
وهذا قاله طائفة من اليهود وهو معروف عن شخص يقال له فنحاص بن عازورا وأتباعه

قال أبو محمد بن حزم والصدوقية طائفة من اليهود نسبوا إلى رجل يقال له صدوق وهم يقولون من بين سائر اليهود إن العزير بن الله وكانوا بجهة اليمن
ولكن المتفلسفة الذين يقولون بصدور العقول والأفلاك عنه وإن سمي ذلك تولدا فهم يجعلون ولده منفصلا عنه لكن يثبتون ولدا قديما أزليا صدر عنه بغير اختياره ويجعلون الشيء الواحد متولدا عنه
وسائر الطوائف الذين أثبتوا لله ولدا جعلوه حادثا منفصلا عنه
فأما جعل صفته القائمة به ولدا له ومولودا فهذا لا يعرف عن غير النصارى فإذا أثبتوا له ولدا وابنا غير مخلوق والصفة القائمة به اللازمة له لم تتولد عنه ولا تسمى ابنا ولا ولدا عند أحد من الأنبياء وغيرهم تعين أن يكون الولد إما جزءا منفصلا عنه وإما معلولا له صادرا عنه بغير قدرته ومشيئته وأي القولين قالوه فهم فيه كفار مضاهئون لقول الذين كفروا من قبل

وبعض علمائهم وإن أنكر ذلك لكنهم يقولون ما يستلزم ذلك ويشبهونه بالشعاع من الشمس ويقولون عن الروح هو منبثق من الله خارج منه
وهذا كله يناسب الولادة التي هى خروج شيء منه أو حدوث شيء عنه بغير اختياره ومشيئته ولا بد له مع ذلك من محل يقوم به فإن الشعاع لا يقوم إلا بالأرض
والأمر المنبثق الخارج من غيره إما أن يكون جوهرا قائما بنفسه أو صفة قائمة بغيرها
فإن كان جوهرا فقد انفصل من الرب جزء
وإن كان عرضا فلا بد له من محل فيكون متولدا عن أصلين
وتشبيههم بتولد الكلام عن العقل تشبيه باطل فإن ذلك يحصل بقدرة الإنسان ومشيئته وهو حادث بعد أن لم يكن
هذا إذا عرف أن ما يقوم بقلب الإنسان من علم وحكمة يقال إنه يتولد عنه ويقال إنه ابنه مع أن هذا أمر غير معروف في اللغات ولو كان معروفا في لغة بعض الأمم لم يجز أن يفسر به كلام الأنبياء إن لم يكن معروفا في لغتهم
وأما ما يدعونه فإنهم يقولون إن الكلمة لازمة لذات الله أزلا وأبدا وهي مولودة منه مع أنها غير مصنوعة فهذا كلام متناقض باطل من وجوه

فإن المتولد عن الشيء لا يتولد إلا عنه وعن غيره وأما الشيء الواحد فلا يتولد عنه وحده شيء وأيضا فإن ما تولد عن غيره لم يكن حادثا وأما الصفة القديمة اللازمة لذات الرب فليست مولودة له ولا متولدة عنه بل هي قائمة به لازمة لذاته
وأيضا فإن المولود اسم مفعول يقال ولده يلده فهو مولود وهذا لا يقال إلا في الحادث المتجدد فإنه مفعول فعل الوالد
والقديم الأزلي لا يكون مفعولا مولودا
وأيضا فتسمية الصفة القديمة الأزلية مولودا وابنا لا يوجد في كلام أحد من الأنبياء عليهم السلام
فهب أن هذا مما يسوغ لنا في اللغة أن نقوله لكن لا يجوز أن نحدث لغة غير لغة الأنبياء ونحمل كلام الأنبياء عليها فإن هذا كذب عليهم
وهكذا تفعل النصارى وأمثالهم من أهل التحريف بكلام الأنبياء يحدثون لهم لغة مخالفة للغة الأنبياء ويحملون كلام الأنبياء عليه
مثال ذلك أن الأنبياء أخبروا بأن الله إله واحد وكفروا من أثبت إلهين اثنين وأمروا بالتوحيد ودعوا إليه وحرموا الشرك وكفروا أهله وأخبروا أن الله واحد أحد وكان مرادهم بذلك توحيده وأنه لا يجوز أن

يعبد إلا الله وأنه لا يستحق العبادة إلا هو ليس مقصودهم بذلك نفي صفاته
فلم يقصدوا بلفظ الأحد والواحد أنه ليس له علم ولا قدرة ولا شيء من الصفات
فجاء طائفة من أهل البدع ففسروا لفظ اسم الواحد والأحد بما جعلوه اصطلاحا لهم فقالوا الواحد الذي ليس فيه تركيب ولا ينقسم ولو كان له صفات لكان مركبا ولو قامت به الصفات لكان جسما والجسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة فلا يكون أحدا ولا واحدا
فيقال هذا الذي قالوه لو قدر أنه صحيح في العقل واللغة فليس هو لغة الأنبياء التي خاطبوا بها الخلق فكيف إذا لم يكن هذا الواحد من لغة أحد من الأمم
بل جميع الأمم تسمي ما قام به الصفات واحدا بل يسمونه وحيدا وقد يسمونه في غير الإثبات أحدا كقوله
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله
وقوله
ذرني ومن خلقت وحيدا
وأمثال ذلك

وأما البحث العقلي في هذا فقد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا أن ما يسميه هؤلاء المتفلسفة تركيبا كقولهم إن الشيء مركب من وجود وماهية وقولهم إن الأنواع مركبة من الأجناس والفصول هو باطل عند جميع جمهور العقلاء
وليس في الخارج إلا ذات متصفة بصفات ليس في الخارج وجود القائم بنفسه وماهية أخرى غير هذا الشيء الموجود القائم بنفسه مثلا
ولكن قد يعنى بلفظ ماهية ما يتصور في الأذهان وبالوجود ما يوجد في الأعيان وحينئذ فهذه الماهية غير هذا الموجود وحينئذ فيقال هذه الماهية غير هذا الوجود
وكذلك قولهم إن الإنسان الموجود في الخارج مركب من الجنس والفصل فإن الإنسان الموجود هو ذات متصفة بصفات هو وغيره من الموجودات
ولكن يتصور في الذهن ما هو مركب من الحيوان والناطق كما يتصور ما هو مركب من الحيوان والضاحك وهذا تركيب ذهني لا تركيب في الخارج وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
وتبين أن ما جعلوه من الصفات داخلا في الماهية وما جعلوه خارجا عنها لازما لها وما هو مجموع أجزاء الماهية يرجع عند التحقيق إلى ما هو مدلول عليه بالتضمن والالتزام والمطابقة

ومن ذلك تركيب الجسم من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة
وأكثر العقلاء ينكرون تركيب الجسم من هذا وهذا كما قد بسط في موضع آخر
والمقصود هنا أن كلام الأنبياء لا يجوز أن يحمل إلا على لغتهم التي من عادتهم أن يخاطبوا بها الناس لا يجوز أن يحدث لغة غير لغتهم ويحمل كلامهم عليها
بل إذا كان لبعض الناس عادة ولغة يخاطب بها أصحابه وقدر أن ذلك يجوز له فليس له أن يحمل ذلك لغة النبي ويحمل كلام النبي على ذلك
ومن هذا إخبار الأنبياء بأن الله يقول ويتكلم وينادي ويناجي وإنه قال كذا وتكلم بكذا ونادى موسى ونحو ذلك
والمعروف في لغتهم ولغة سائر الأمم أن المتكلم من قام به الكلام وإن كان متكلما بقدرته ومشيئته لا يعرف في لغتهم أن المتكلم من أحدث كلاما منفصلا عنه ولا أن المتكلم من قام به الكلام بدون قدرته ومشيئته
فليس لأحد إذا جعل اسم المتكلم لمن يحدث كلاما بائنا عنه أو من قام به بدون قدرته ومشيئته أن يحمل كلام الأنبياء على هذا
بل المتكلم عند الإطلاق من تكلم بقدرته ومشيئته مع قيام الكلام به

وهذا هو المعروف في لغة الأنبياء وسائر الأمم عند الإطلاق ونظائر هذا متعددة
فمن فسر كلام الأنبياء بغير لغتهم المعروفة فهم ممن بدل كلامهم وحرفه والنصارى من هؤلاء
وكذلك اسم العادل والظالم ونحوهما فإن المعروف من كلام الأنبياء وغيرهم أن العادل من قام به العدل وفعل العدل بمشيئته وقدرته
والظالم من قام به الظلم وفعله بقدرته ومشيئته لا يسمون من لم يقم به الظلم ولكن قام بغيره لكون قد جعل ذلك فاعلا له ولا يسمون من لم يفعل الظلم ولكن فعله غيره فيه ظالما
فمن جعل الظالم والكافر والفاسق من لم يفعل شيئا من ذلك ولكن فعله غيره فيه أو جعل الظالم من لم يقم به ظلم فعله ولكن جعل غيره متصفا به ظالما فقد خرج عن المعروف من كلام الأنبياء وغيرهم
وأبلغ من ذلك أن المحدث والحادث في لغة جميع الأمم لا يسمى به إلا ما كان بعد أن لم يكن والمخلوق أبلغ من المحدث والحادث
فليس لأحد إذا أحدث اصطلاحا سمى به القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا ولكنه زعم أنه معلول لغيره فسماه محدثا بهذا الاعتبار أن يقول أنا أحمل كلام الأنبياء الذي أخبروا به أن السماوات والأرض

وما بينهما مخلوق أو مصنوع أو معقول أو محدث أو نحو ذلك من العبارات على أن مرادهم بذلك أنه معلول مع كونه قديما أزليا لم يزل
وأما لفظ القديم فهو في اللغة المشهورة التي خاطبنا بها الأنبياء يراد به ما كان متقدما على غيره تقدما زمانيا سواء سبقه عدم أو لم يسبقه كما قال تعالى
حتى عاد كالعرجون القديم
وقال تعالى
تالله إنك لفي ضلالك القديم
وقال الخليل
أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
فلهذا كان القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا ولم يسبقه عدم أحق باسم القديم من غيره
وليس لأحد أن يجعل القديم والمتقدم اسما لما قارن غيره في الزمان لزعمه أنه متقدم عليه بالعلة ويقول إنه متقدم على غيره وسابق له بهذا الاعتبار وإن ذلك المعلول متأخر عنه بهذا الاعتبار ثم يحمل ما جاء من كلام الأنبياء وأتباع الأنبياء وعموم الخلق على هذا الاصطلاح لو كان حقا فكيف إذا كان باطلا

وما ذكره من التقدم والسبق والتأخر بغير الزمان أمر غير موجود ولا معقول ولا يعرف في الوجود من فعل شيئا وكان علة فاعلة له إلا وهو متقدم عليه سابق له ليس مقارنا له في الزمان ألبتة بل متقدم عليه تقدما زمانيا
وكل من يعرف أنه سبب أو علة فاعلة فإنه متقدم على مسببه ومعلوله لكن قد يكون متصلا به ليس بينهما زمان آخر
فيقال ليس هذا متأخرا عن هذا أي هو متصل به ليس بينهما فصل
ويقال ليس ذلك متقدما على هذا أي ليس بينهما زمان بل هو متصل به إذ قد يراد بلفظ التقدم هذا كقول النبي الجنازة متبوعة وليست بتابعة ليس منها من تقدمها أي من كان قد تقدمها حتى لم يكن قريبا منها لم يكن تابعا لها كما جاء في الحديث الآخر الراكب خلف الجنازة والماشي أمامها ووراءها وعن يمينها ويسارها قريبا منها رواه أبو داود وغيره وهو أبين حديث

روي في هذا الباب في هذا الحكم ومنه قوله تعالى
ولا اليل سابق النهار
أي لا يتقدم عليه بحيث يكون بينهما انفصال بل كال منهما متصل بالآخر
والمقصود هنا أن معرفة اللغة التي خاطبنا بها الأنبياء وحمل كلامهم عليها أمر واجب متعين ومن سلك غير هذا المسلك فقد حرف كلامهم عن مواضعه وكذب عليهم وافترى
ومثل هذا التحريف والتبديل قد اتفق المسلمون واليهود والنصارى على أنه وقع فيه خلق كثير من أهل الكتب الثلاثة وأن التوراة والإنجيل حرفا بهذا الاعتبار وكذلك القرآن حرفه أهل الإلحاد والبدع بهذا الاعتبار
فأهل الكتاب نقلوا عن الأنبياء أنهم تكلموا بلفظ الاب والابن ومرادهم عندهم بالأب الرب وبالابن المصطفى المختار المحبوب
ولم ينقل أحد منهم عن الأنبياء أنهم سموا شيئا من صفات الله ابنا ولا قالوا عن شيء من صفاته أنه تولد عنه ولا أنه مولود له
فإذا وجد في كلام المسيح عليه السلام أنه قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس ثم فسروا الابن بصفة الله

القديمة الأزلية كان هذا كذبا بينا على المسيح حيث لم يكن في لغته أن لفظ الابن يراد به صفة الله القديمة الأزلية
وكذلك إذا لم يكن في كلام الأنبياء أن حياة الله تسمى روح القدس وإنما يريدون بروح القدس ما ينزله الله تبارك وتعالى على الأنبياء والصالحين ويؤيدهم كان تفسير قول المسيح روح القدس أنه أراد حياة الله كذبا على المسيح
وهذا من بعض الوجوه أفسد من قول بعض المتفلسفة إن العقول والنفوس والأفلاك معلولة له متولدة عنه لازمة له أزلا وأبدا وإن كان هذا أيضا باطلا في صريح العقل كما هو كفر بما أخبرت به الأنبياء كما قد بسط في موضع آخر فإنه لا يصدر شيء عن فاعل الأشياء بعد شيء لا يتصور أن يكون المفعول مقارنا للفاعل لا يتأخر عنه ولا يكون التولد إلا عن أصلين
والواحد من كل وجه الذي ليس له صفة ثبوتية لا وجود له ولو كان له وجود لم يصدر عنه وحده شيء كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع أخر
ومما يوضح ذلك أن خواص النصارى وعلماءهم مع تجويزهم أن يقال أن المسيح ابن الله يلزمهم أن تكون مريم صاحبة الله وامرأته كما قال ذلك من يغلو منهم ومنهم من يجعل مريم إلها مع الله كما جعل المسيح إلها
فإن قالوا بذلك جعلوا لله صاحبة وولدا وجعلوا المسيح بن

مريم وأمه إلهين من دون الله كما فعل ذلك من فعله منهم
فإنهم يعبدون مريم ويدعونها بما يدعون به الله سبحانه والمسيح ويجعلونها إلها كما يجعلون المسيح إلها فيقولون يا والدة الإله اغفري لنا وارحمينا ونحو ذلك فيطلبون منها ما يطلبونه من الله عز و جل
ومنهم من يقول عن مريم إنها صاحبة الله سبحانه وتعالى
وبيان لزوم ذلك أن المسيح عندهم إنسان تام وإله تام ناسوت ولاهوت فناسوته من مريم ولاهوته الكلمة القديمة الأزلية وهي الخالق عندهم
فالمسيح بين أصلين ناسوت ولاهوت فإذا كان الأب هو الله عندهم والكلمة المولودة عن الأب ابن الله فمعلوم أن اللاهوت لما التحم بالناسوت ليصير منهما المسيح ازدوج به وقارنه وهذا معنى الزوجية
فكما أنهم قالوا إن الولادة عقلية لا حسية فكذلك الازدواج والنكاح عقلي لا حسي فإن اللاهوت على قولهم ازدوج بناسوت مريم ونكحها نكاحا عقليا وخلق المسيح من هذا و هذا
وهم يقولون في الأمانة إن المسيح تجسد من مريم ومن روح القدس
فإن فسروا روح القدس بجبريل كما يقوله المسلمون فهو

الحق وبطل قولهم لكنهم يقولون روح القدس هو الأقنوم الثالث كما يقولون في الكلمة وهو اللاهوت عندهم
فهم قد ذكروا أنه تجسد من الناسوت واللاهوت فيلزمهم على هذا أن يكون المسيح هو الابن وهو روح القدس فيكون أقنومين لا أقنوما واحدا وقد تقدم تناقضهم في هذا
والمقصود هنا أنهم إذا قالوا إن الرب أو بعض صفاته اتحد بما خلق من مريم فلا بد أن يحصل له اتصال بمريم قبل اتصاله بما خلق منها وذلك هو معنى النكاح والازدواج
وعند جمهور النصارى أن مريم ولدت اللاهوت كما ولدت الناسوت وهي أم اللاهوت ويقولون في دعائهم يا والدة الإله
واللاهوت الذي ولدته مريم هو عندهم رب العالمين واللاهوت اتحد بالناسوت عندهم من حين خلق الناسوت في بطن مريم لم يحدث بعد الولادة
فإذا جاز أن يكون لرب العالمين عندهم أم ولدته بوجه من الوجوه فإمكان أن يكون له صاحبة وزوجة أولى وأحرى وليس في ذلك ما يحيله العقل والشرع إلا وهو لكونها أما للاهوت أشد إحالة
فإن جاز أن يكون اللاهوت أم والأم أصل فلأن يكون له صاحبة هي زوجة ونظير أقرب وأولى فإن من المعلوم أن ولد ذلك الشيء وهو المتفرع المتولد عنه أنقص بالنسبة إليه من نظيره
فإذا قالوا إن لرب العالمين ولدا اتحد بالناسوت هو نظيره المساوي له في الجوهر وقالوا إن الناسوت أم هذا المسيح الذي

هو الله وهو ابن الله وقالوا إن الناسوت مريم ولد اللاهوت كما ولد الناسوت ولم يكن هذا عيبا ينزه الرب عنه فلأن يجعلوا له أم هذا الولد الذي حبلت به واتحد به اللاهوت وهو منها وولدت اللاهوت صاحبة وزوجة للأب أولى وأحرى و إلا فكيف تلد ابنه الذي هو اللاهوت ولا تكون صاحبته وامرأته
وهم يقولون نحن سمينا علمه مولودا عنه لكونه تولد عنه تولد الكلمة عن العقل وهذا الولد اتحد بالناسوت فسمينا المجموع ولدا
وبهذا يفرقون بين كون المسيح ابنا وغيره من الأنبياء يسمى ابنا
فإنهم يقولون هؤلاء أبناء بالوضع والمسيح ابن بالطبع أي أولئك سموا أبناء بمشيئة الرب وقدرته لأنه اصطفاهم والكلمة التي جعلوها متحدة بالمسيح هي عندهم متولدة عن الله تولدا قديما أزليا لا يتعلق بمشيئته وقدرته ولهذا قالوا مولود غير مصنوع فإن القديم الأزلي مع كونه قائما بذاته لا يكون مصنوعا عند أحد من العقلاء ولا القائلين بقدم العالم
فإذا كانت الكلمة التحدث بالمسيح المخلوق من مريم والتحمت به فإذا قيل مع ذلك أن القديم مس المحدث أو لاصقه أو باشره كان أيسر من هذا كله
والمسيح ولد ولادة حادثة عندهم غير الولادة القديمة التي للكلمة فيلزم أن تكون مريم قد صارت زوجة وامرأة بل نكحت نكاحا

حادثا يناسب تلك الولادة المحدثة قال تعالى
أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم
ولهذا كان الحلول أسهل من الاتحاد
فمن قال إنه حل في جسد المسيح وماسه وباشره كما يحل الماء في اللبن كان أهون ممن يقول إنه اتحد به والتحم به
فإذا قيل إن مريم امرأة القديم وصاحبته وزوجته كان ما في هذا من إثبات مباشرته لها ومماسته لها واتصاله بها
ومهما قدر من اتصال الزوج بزوجته أهون مما قالوه من اتحاد القديم بالمحدث ومصيره إياه إما جوهرا واحدا وإما شخصا واحدا وإما مشيئة واحدة
ولهذا كان كل عاقل يعلم أن النكاح الحسي أسهل من الولادة الحسية
فالذكر من الحيوان إذا نكح الأنثى فإنما مس الذكر للأنثى لم تصر الأنثى متولدة عنه فإذا جوزوا أن يكون للرب القديم الأزلي ما يتولد عنه ويتحد به وهو محدث مخلوق فلأن يكون له ما يمسه أولى وأحرى

وإذا قالوا إن المسيح إنما كان ابنا لأن الكلمة القديمة التي هي ابن اتحدت به قبل فقد يسمى الناسوت الذي اتحد به القديم ابنا عندكم باسم القديم وجعلتموه إلها خالقا فما المانع من جعل أم ذلك الناسوت الذي جعلتموه ابن الله صاحبة لله وزوجة باعتبار أن القديم الأزلي حصل منه ومنها ما هو ابن القديم الأزلي
الوجه الخامس عشر أن يقال لفظ الابن وروح القدس قد جاء في حق غير المسيح عندكم حتى الحواريين عندكم يقولون إن المسيح قال لهم إن الله أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ويقولون إن روح القدس تحل فيهم
وفيما عندكم من التوراة أن الرب قال لموسى اذهب إلى فرعون فقل له يقول لك الرب إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني فإن أبيت أن ترسل ابني بكري قتلت ابنك بكرك فلما لم يرسل فرعون بني إسرائيل كما قال الله قتل اللة أبكار فرعون وقومه من بكر فرعون الجالس على السرير إلى الأول من أولاد الآدميين إلى ولد الحيوان إليهم
فهذه التوراة تسمي بني إسرائيل كلهم أبناء الله وأبكاره وتسمي

أبناء أهل مصر أبناء فرعون فتوسع بتسمية سخال الحيوان أولاد المالك للحيوان
وفي مزامير داود يقول أنت ابني سلني أعطك وفي الإنجيل يقول عن المسيح أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم وقال إذا صليتم فقولوا يا أبانا الذي في السماء قدوس اسمك افعل بنا كذا وكذا
ويقولون عن القديسين إن روح القدس يحل فيهم وكذلك حلت في داود وغيره من الأنبياء بل عندهم إن الله يحل في الصديقين كلهم

فإن كان الابن وروح القدس يقتضي اتحاد اللاهوت بالناسوت وجب أن يكون كل من الحواريين لاهوتا وناسوتا وكذلك الأنبياء فيكون النبي لاهوتا وناسوتا لأنه قد سمي عندكم ابن الله ونطقت فيه روح القدس لا سيما وأنتم قلتم في الأمانة إنه روح ممجد مسجود له ناطق في الأنبياء
فإن كان هذا يوجب حلول اللاهوت في الناسوت أو اتحاده لزم أن يكون غير المسيح من الأنبياء بل والحواريين بل وأبناء إسرائيل لاهوتا وناسوتا إذ كان الذي جعلتموه اللاهوت حل بغير المسيح واتحد به أو سكن فيه أو احتجب به أو ما قلتم من الألفاظ التي استدللتم بها على أن اللاهوت حل في المسيح كلفظ الابن وروح القدس موجود عندكم في غير حق المسيح
والمعجزات التي احتججتم بها للمسيح قد وجدت لغير المسيح
ولو قدر أن المسيح أفضل من بعض أولئك فلا ريب أن المسيح عليه السلام أفضل من جمهور الأنبياء أفضل من داود وسليمان وأصحاب النبوات الموجودة عندكم وأفضل من الحواريين
لكن مزيد الفضل يقتضي الفضيلة في النبوة والرسالة كفضيلة إبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه وذلك

لا يقتضي خروجه عن جنس الرسل كما قال تعالى
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون
وقال تعالى
سورة المائدة من الآيات 72 75
وجماع هذا الجواب أن ما يوصف به المسيح عندهم من كونه ابن الله وكون الله حل فيه أو ظهر أو سكن وكون روح القدس أو روح الله حلت فيه وكونه مسيحا كل ذلك موجود عندهم في حق غير المسيح
فليس للمسيح اختصاص بشيء من هذه الألفاظ وإنما يوجد اختصاصه بلفظ الكلمة وكونه تجسد من روح القدس وهذا هو الذي خصه به القرآن فإن الله قال

إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت عن النبي أنه قال من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه أدخله الله الجنة على ما كان من عمل فهذا الذي خصه به القرآن هو الذي خصته الكتب المتقدمة إذ كان القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
وأما سائر ما يوصف به ويدعون اختصاصه به من كونه ابنا لله وكونه مسيحا فغيره أيضا في كتب الله يسمى ابنا لله ومسيحا ولذلك ما يذكر من الألفاظ التي يحتجون بها على الحلول مثل كون الرب ظهر فيه أو حل أو سكن فإن هذه الألفاظ موجودة عندهم في حق غير المسيح بخلاف لفظ الاتحاد فإنه لا يوجد عندهم عن الأنبياء لا في حق المسيح ولا غيره كما لا يوجد عندهم عن الأنبياء لفظ

الأقانيم ولا لفظ التثليث ولا اللاهوت والناسوت ولا تسمية الله جوهرا بل هذا كله مما ابتدعوه كما ابتدعوا أيضا تسمية صفات الله ابنا وروح القدس فهم ابتدعوا ألفاظا لم ينطق بها الأنبياء أثبتوا لها معاني وابتدعوا استعمال ألفاظ الأنبياء في غير مرادهم وحملوا مرادهم عليها
والألفاظ المتشابهة التي يحتجون بها على اتحاد اللاهوت بالناسوت موجودة عندهم في حق غير المسيح
فليس للمسيح خاصة في كلام الأنبياء توجب أن يكون هو الله أو ابن الله وتلك الألفاظ قد عرف باتفاقهم واتفاق المسلمين أن المراد بها حلول الإيمان بالله ومعرفته وهداه ونوره ومثاله العلمي في قلوب عباده الصالحين كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وقد تقدم
ومن قال من ضلال المسلمين إن الرب يتحد أو يحل في الأنبياء والأولياء وإن هذا من السر الذي لا يباح به فقوله من جنس قول النصارى في المسيح وهذا كثير في كلام كثير من المشايخ والمدعين للمعرفة والتحقيق والتوحيد فيجعلون توحيد العارفين أن يصير الموحد هو الموحد ومنهم من يقول إن الله يحل في قلب العارف ويتكلم بلسانه كما يتكلم الجني على لسان المصروع ويقول الأول
... ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته ... عارية أبطلها الواحد ...
... توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحد ...
ومن هؤلاء من يقول إن هذا هو السر الذي باح به الحلاج وغيره وهذا عندهم من الأسرار التي يكتمها العارفون فلا يبوحون بها إلا لخواصهم
ومنهم من يقول إنما قتل الحلاج لأنه باح بهذا السر وينشدون
... من باح بالسر كان القتل شيمته ... بين الرجال ولم يؤخذ له ثار ...
وأمثال ذلك
وهؤلاء في دعواهم الاتحاد والحلول بغير المسيح شر من النصارى
فإن المسيح صلوات الله عليه أفضل من كل من ليس بنبي بل هو أفضل من جماهير الأنبياء والمرسلين
فإذا كان من ادعى أن اللاهوت اتحد به كافرا فكيف بمن ادعى ذلك فيمن هو دونه
وهذا الاتحاد الخاص غير الاتحاد والحلول العام لقول الذين يقولون إنه حال بذاته في كل مكان أو متحد بكل شيء

وغلاة هؤلاء ومحققوهم يقولون إنه عين الوجود والوجود واحد
فيجعلون الوجود الخالق القديم الواجب هو عين وجود المخلوق المحدث الممكن
وهؤلاء مثل ابن عربي الطائي وصاحبه الصدر القونوي وصاحبه العفيف التلمساني وابن سبعين وصاحبه الششتري وعبد الله البلياني وعامر البصري وطوائف غير هؤلاء
وهؤلاء يقولون إن النصارى إنما كفروا لأنهم خصوا ذلك بالمسيح

وحقيقة قول هؤلاء هو جحد الخالق وتعطيله كما قال فرعون وما رب العالمين وقال ما علمت لكم من إله غيري
فإن فرعون ما كان ينكر هذا الوجود المشهود لكن ينكر أن له صانعا مباينا له خلقه وهؤلاء موافقون لفرعون في ذلك
لكن فرعون أظهر الجحود والإنكار فلم يقل الوجود المخلوق هو الخالق
وهؤلاء ظنوا أنهم يقرون بالخالق وأن الوجود المخلوق هو الخالق وقد بسط الكلام على هؤلاء في آخر هذا الكتاب
وهؤلاء لهم شعر نظموا قصائد على مذهبهم كابن الفارض في قصيدته المسماة بنظم السلوك حيث يقول
... لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت ...
... كلانا مصل واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة

وما كان لي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة ...
إلى أن قال
... وما زلت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبب ...
وقوله
... إلى رسولا كنت مني مرسلا ... وذاتي بآياتي علي استدلت ...
... فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت ...
... وقد رفعت ياء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعت ...
إلى أمثال هذه الأبيات
وكذلك ابن إسرائيل في شعره قطعة من هذا كقوله
... وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائق ...
والتلمساني الملقب بالعفيف كان من أفجر الناس وكان أحذق هؤلاء الملاحدة
ولما قرىء عليه كتاب فصوص الحكم لابن عربي قيل له هذا الكلام يخالف القرآن قال القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا

فقيل له إذا كان الوجود واحدا فلماذا تحرم على أمي وتباح لي امرأتي
فقال الجميع عندنا حلال ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا حرام فقلنا حرام عليكم
وكلام هؤلاء كله متناقض ينقض بعضه بعضا
فإن قوله هؤلاء المحجوبون وقوله قلنا حرام عليكم يقتضي الفرق بينه وبين المحجوبين وبين المخاطب والمخاطب وهذا يناقض وحدة الوجود
وإذا قالوا هذه مظاهر للحق ومجال فإن كان الظاهر غير المظهر والمجلى غير المتجلي فقد ثبت التعدد وأن في الوجود اثنين ظاهرا ومظهرا وإن جعلوهما واحدا فقد بطل جوابهم
انتهى المجلد الرابع ويليه المجلد الخامس
وأوله فصل مناقشة النصارى
في إطلاق لفظ الجوهر على الله تعالى

فصل
قال الحاكي عنهم فقلت فإنهم ينكرون علينا قولنا إن الله تعالى جوهر قالوا إننا نسمع عن هؤلاء القوم أنهم ذو فضل وأدب ومعرفة ومن هذا صورته وقد قرأ شيئا من كتب الفلاسفة والمنطق فما حقهم ينكرون هذا علينا وذلك أنه ليس

في الوجود شيء إلا وهو إما جوهر وإما عرض لأن أي أمر نظرناه وجدناه إما قائما بنفسه غير مفتقر في وجوده إلى غيره وهو الجوهر وإما مفتقر في وجوده إلى غيره لا قوام له بنفسه وهو العرض ولا يمكن أن يكون لهذين القسمين قسم ثالث فأشرف هذين القسمين القائم بذاته الغير مفتقر في وجوده إلى غيره وهو الجوهر
ولما كان الباري تقدست أسماؤه أشرف الموجودات إذ هو سبب سائرها أوجب أن يكون أشرف الأمور وأعلاها الجوهر ولهذا قلنا إنه جوهر لا كالجواهر المخلوقة كما نقول إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة وإلا لزم أن يكون قوامه بغيره ومفتقر في وجوده إلى غيره وهذا من القبيح أن يقال على الله تعالى فقلت

لهم إنهم يقولون إنا إنما نمتنع من تسميه جوهرا لأن الجوهر ما قبل عرضا وما شغل الحيز ولهذا ما يطلق عليه القول بأنه تعالى جوهر قالوا إن الذي يقبل عرضا ويشغل حيزا هو الجوهر الكثيف فأما الجوهر اللطيف فما يقبل عرضا ولا يشغل حيزا مثل جوهر النفس وجوهر العقل وجوهر الضوء وما يجري هذا المجرى من الجواهر اللطيفة المخلوقة
فإذا كانت الجواهر اللطيفة المخلوقة لا تقبل عرضا ولا تشغل حيزا فيكون خالق الجواهر اللطائف والكثائف ومركب اللطائف بالكثائف يقبل عرضا ويشغل حيزا كلا
والجواب من وجوه
أحدها أن يقال أما تسمية الباري جوهرا فهو من أهون ما ينكر على النصارى ولهذا كان من الناس من ينكره من جهة الشرع فقط أو اللغة ومنهم من ينكره من جهة العقل أيضا ومنهم من يراه نزاعا لفظيا وطائفة من المسلمين يسمونه جوهرا وجسما أيضا وذلك أن المسلمين في أسماء الله تعالى على طريقتين فكثير منهم يقول إن أسماءه سمعية شرعية فلا يسمى إلا بالأسماء التي جاءت بها الشريعة فإن هذه عبادة والعبادات مبناها على التوفيق والاتباع
ومنهم من يقول ما صح معناه في اللغة وكان معناه ثابتا له

لم يحرم تسميته به فإن الشارع لم يحرم علينا ذلك فيكون عفوا والصواب القول الثالث وهو أن يفرق بين أن يدعى بالأسماء أو يخبر بها عنه فإذا دعي لم يدع إلا بالأسماء الحسنى كما قال تعالى
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه
واما الإخبار عنه فهو بحسب الحاجة فإذا احتيج في تفهيم الغير المراد إلى أن يترجم أسماؤه بغير العربية أو يعبر عنه باسم له معنى صحيح لم يكن ذلك محرما
وأما الذين منعوه من جهة العقل فكثير منهم من يقولون إن الجوهر ما شغل الحيز وحمل الأعراض والله سبحانه وتعالى ليس كذلك وهذا قول من نفى ذلك من أهل الكلام ومنهم من يقول الجوهر ما إذا وجد كان وجوده لا في موضوع وهذا إنما يكون فيما وجوده زائد على ذاته وواجب الوجود وجوده عين ذاته فلا يكون

جوهرا وهذا قول ابن سينا وأمثاله من متأخري المتفلسفة
وأما قدماء الفلاسفة كأرسطو وأمثاله فكانوا يسمونه جوهرا وعنهم أخذت النصارى هذه التسمية فإن أرسطو كان قبل المسيح

بأكثر من ثلاثمائة سنة ولهذا قال هؤلاء في كتابهم نعجب ممن ينكر ذلك وهو قد قرأ شيئا من كتب الفلاسفة والمنطق
وأما اللغة فإن لفظ الجوهر ليس من العربية العرباء ولهذا لا يعرف في كلام العرب المحض وإنما هو معرب كما ذكر ذلك الجوهري وغيره قال الجوهري الجوهر معرب الواحدة

جوهرة فهو من العربية المعربة لا من العربية العرباء كلفظ سجيل واستبرق وأمثال ذلك من الألفاظ المعربة وهذا اللفظ ليس موجودا في القرآن ومع هذا فلما عرب كان معناه في اللغة هو الجوهر المعروف وتسمية القائم بنفسه أو الشاغل للحيز جوهرا فهو أمر اصطلاحي ليس هو من الأسماء اللغوية ولا العرفية العامة ولا الأسماء الشرعية
وقد قيل إنه مأخوذ من كلام الأوائل كاليونان وغيرهم فإنه

يوجد في كلامهم تسمية القائم بنفسه جوهرا وقد قيل سموه بذلك لأن جوهر الشيء أصله والقائم بنفسه هو الأصل وقد يسمون العرض القائم بغيره جوهرا وقيل لأن لفظ الجوهر فوعل من الجهر وهو الظهور والوضوح والقائم بنفسه يظهر ويعرف قبل أن يعرف ما قام به من الأعراض
والناس متفقون على إثبات الأعيان القائمة بنفسها التي تسمى جواهر أو أجساما وتنازعوا في ثبوت الأعراض القائمة بها والنزاع عند محققيهم لفظي فإن عاقلا لا ينازع أن الجسم يتحرك بعد سكونه لكن منهم من يقول حركته ليست زائدة على ذاته ومنهم من يقول هي زائدة على ذاته وهو نظير نزاعهم في الصفات هل هي زائدة على الذات أو ليست زائدة
والتحقيق أن مسمى الإنسان إذا أطلق دخل فيه صفاته وإذا ميز بين هذا وهذا قيل الذات والصفات ومن الناس من يخص بلفظ العرض ما لم يكن من الصفات لازما للموصوف والصفات اللازمة يسميها صفات ذاتية جوهرية ومنهم من يخص بالعرض

ما لا يبقى عنده زمانين ويقول صفات المخلوق تسمى أعراضا لأنها لا تقبل زمانين بخلاف صفات الله فإنها عنده باقية فلا تسمى أعراضا
ومن نظار المسلمين من يسمي صفات كل موصوف أعراضا وإذا كان كذلك فلا يدخل في أسماء الله التي تذكر في أصول الإيمان التي يجب اعتقادها من الأسماء ما هو اصطلاح طائفة من الناس مع أنه يوهم معنى باطلا وهذا الوضع مما اضطرب فيه مع النصارى كثير من الناس
منهم من يجعل الصفات أعيانا قائمة بنفسها وجواهر قائمة بنفسها
ومنهم من يجعل الأعيان القائمة بنفسها صفات والصفات لا تقوم بأنفسها بل لا بد لها من موصوف تقوم به
والأولون نوعان
منهم من نفى الصفات وقال لو أثبتنا له حياة وعلما وقدرة

لزم أن تكون هذه آلهة فإن القدم أخص وصفه فلو أثبتنا قديما ليست هي الذات لزم أن يشارك الذات في أخص وصفها فتكون ذاتا أخرى قائمة بنفسها وهذه طريقة كثير من نفاة الصفات من مبتدعة المسلمين واليهود والنصارى احتجوا على نفي الصفات بأنا لو أثبتناها لزم أن تكون آلهة
وقال من قال من المنتسبين إلى الإسلام أنا لو أثبتنا الصفات لقلنا بقول النصارى حيث أثبتوا لله الأقانيم وحجة هؤلاء قائمة على النصارى وهم النوع الثالث فإنهم أثبتوا لله صفات جعلوها جوهرا

قائما بنفسه وقالوا إن الله موجود حي ناطق ثم قالوا حياته جوهر قائم بنفسه ونطقه وهو الكلمة جوهر قائم بنفسه وقالوا في هذا إنه إله من إله وهذا إله من إلاه فأثبتوا صفات لله وجعلوها جواهر قائمة بنفسها ثم قالوا الجميع جوهر فكان في كلامهم أمور كثيرة من الباطل المتناقض منهم من جعل الصفات جوهرا ومنهم من جعل الجواهر المتعددة جوهرا واحدا
والذين قالوا من نفاة الصفات المعتزلة والجهمية إن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى هو متوجه على من جعل الصفات جواهر وهؤلاء هم النصارى يزعمون أن الصفات جواهر آلهة ثم قال هؤلاء ولا إله إلا الله فلا صفة له وقالت النصارى بل الأب جوهر إله والابن جوهر إله وروح القدس جوهر إله ثم قالوا والجميع إله واحد نفس تصور هذه الأقوال التصور التام يوجب العلم بفسادها وأما الرسل وأتباعهم فنطقوا أن لله علما وقدرة وغير ذلك من الصفات وثبتوا أن الإله إله واحد فإذا قال القائل عبدت الله ودعوت الله فإنما دعا وعبد إلها واحدا وهو ذات متصفة بصفات الكمال لم يعبد ذاتا لا حياة لها ولا علم ولا قدرة ولا عبد ثلاثة آلهة ولا ثلاثة جواهر بل نفس اسم الله يتضمن ذاته المقدسة المتصفة

بصفاته سبحانه وليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه ولا زائدة على مسمى اسمه بل إذا قدر ذات مجردة عن الصفات فالصفات زائدة على هذه الذات المقدرة في الذهن المجردة عن الصفات ليست الصفات زائدة عن الذات المتصفة بالصفات فإن تلك لا تحقق إلا بصفاتها فتقديرها مجردة عن صفاتها تقدير ممتنع
وقد تنازع المثبتة هل يقال الصفات عين الذات أم يقال ليست عين الذات أم يقال لا يقال هن غير الذات ولا يقال ليست غير الذات وتنازعوا في مسمى الغيرين هل هما ما جاز مفارقة أحدهما الآخر مطلقا أو ما جاز مفارقته بوجود أو زمان أو مكان أو هما ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر وغاية ذلك منازعات لفظية
وكثير منهم فرق في الصفات اللازمة بين بعضها وبعض فجعل بعضها زائدا على الذات وبعضها ليس بزائد على الذات وكان الفرق بحسب ما يتصوره لا بحسب ما الأمر عليه في نفسه فإذا

أمكنهم تصور الذات بدون صفة قالوا هذه زائدة وإلا قالوا ليست زائدة وهذا يقتضي أنها زائدة على ما تصوروه هم من الذات لا أنه في الخارج ذات مجردة عن تلك الصفة وصفة زائدة عليها بل ليس إلا الذات المتصفة بتلك الصفات
ولكن يجب الفرق بين أن يقال إن الصفات غير الذات وبين أن يقال إنها غير الله فإن اسم الله متناول لذاته المتصفة بصفاته فإذا قال القائل دعوت الله وعبدت الله فلم يدع ذاتا مجردة ولا صفات مجردة بل دعا الذات المتصفة بصفاتها فاسمه تعالى يتناول ذلك فليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه ولا زائدة على ذلك وإن قيل إنها زائدة على الذات المجردة ومن ظن أنها زائدة على الذات المتصفة بصفاتها التي تدخل صفاتها في مسماها فقد غلط ولكن في الأذهان والألسنة زلق في هذا الموضع كثيرا
فإذا قيل الصفات مغايرة للذات لم يكن في هذا من المحذور ما في قولنا إن صفات الله غير الله فإن اسم الله يتناول صفاته
فإذا قيل إنها غيره فهم من ذلك أنها مباينة له وهذا باطل ولهذا كان النفاة إذا ناظروا أئمة المسلمين كما ناظروا الإمام

أحمد بن حنبل في محنته المشهورة فقالوا له ما تقول في القرآن وكلام الله أهو الله أم غير الله عارضهم بالعلم وقال لهم ما تقولون في علم الله أهو الله أم غير الله وأجاب أيضا

بأن الرسل لم تنطق بواحد من الأمرين فلا حجة لهم في كلام الله ورسوله فإن الله لم يقل لكلامه هو أنا ولا قال إنه غيري حتى يقول القائل إذا كان قد جعل كلامه غيره وسواه فقد أخبر أنه خالق لكل ما سواه
فإن كان الاحتجاج بالسمع فلا حجة فيه وإن كان الاحتجاج بالعقل فالمرجع في ذلك إلى المعاني لا إلى العبارات فإن أراد المريد بقوله هل كلامه وعلمه غيره أنه مباين له فليس هو غيرا له بهذا الاعتبار وإن أراد بذلك أن نفس الكلام والعلم ليس هو العالم المتكلم فهو غير له بهذا الاعتبار وإذا كان اللفظ مجملا لم يجز إطلاقه على الوجه الذي يفهم المعنى الفاسد واما الذين جعلوا الأعيان القائمة بأنفسها صفات فهم هؤلاء المتفلسفة النفاة للصفات ومن أشبههم فإنهم قالوا إن رب العالمين عقل وعاقل ومعقول
ولفظ العقل عندهم وإن كانوا يقولون هو جوهر قائم بنفسه فقد صرحوا أيضا بأنه نفسه علمه حتى صرحوا بأن رب العالمين علم كما صرح بذلك ابن رشد وغيره ونقلوه عن أرسطو

وأن العقول العشرة كل منها علم فهو علم وعالم ومعلوم بل قالوا عقل وعاقل ومعقول وعاشق ومعشوق وعشق ولذيذ وملتذ ولذة فجعلوه نفسه لذة وعقلا وعشقا وجعلوا ذلك هو العالم العاشق الملتذ وجعلوا نفس العلم نفس العشق ونفس اللذة فجعلوه نفسه صفات وجعلوه ذاتا قائمة بنفسها وجعلوا كل صفة هي الأخرى وهذا مما يعلم بصريح العقل بطلانه
ومنهم من لا يصرح بأنه نفسه علم فإنه يقول هو عاقل ومعقول وعقل يقول إنه يعلم نفسه بلا علم علمه بل هو العالم وهو المعلوم وهو العلم وحقيقة كلامهم تعود إلى قول أولئك فإنهم إذا قالوا إن العلم الذي يعلم به ذاته هو العالم وهو المعلوم فقد جعلوا نفس العلم نفس العالم ونفس العلم نفس المعلوم وهي حقيقة قول أولئك وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع

الوجه الثاني أن يقال لهم أنتم تقولون إنكم متبعون للكتب الإلهية وإذا كان كذلك لم ينبغ لكم في شريعة إيمانكم من الأسماء إلا ما جاءت به الأنبياء عليهم السلام
والأنبياء لم يسم الله أحد منهم جوهرا وإنما سماه بذلك أرسطو وأمثاله وهؤلاء كانوا مشركين يعبدون الأصنام ولم يكونوا يعرفون الله المعرفة الصحيحة ولا يقولون إنه خالق السماوات والأرض ولا إنه بكل شيء عليم ولا على كل شيء قدير وإنما كانوا يعبدون الكواكب العلوية والأصنام السفلية ويعبدون الشياطين ويؤمنون بالجبت والطاغوت وإنما صاروا مؤمنين لما دخل إليهم دين المسيح صلوات الله عليه وسلامه بعد الإسكندر المقدوني

صاحب أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة ويقال إنه آخر ملوكهم كان بطليموس وكانوا يسمون الملك من ملوكهم بطليموس كما يسمون القبط ملكها فرعون والحبشة ملكها النجاشي والفرس كسرى ونحو ذلك وحينئذ فعدولكم عن طريقة الأنبياء والمرسلين إلى طريقة الكفار والمشركين المعطلين من الضلال المبين
وفي كتبهم أن بولص لما صار إلى أيثينية دار الفلاسفة وفيها دار الأصنام وجد مكتوبا على باب دار العلماء الإله الخفي

الذي لا يعرف هو الذي خلق العالم
فكانوا لا يعرفون رب العالمين فكيف يعدل عن طريقة رسل الله وأنبيائه كموسى وداود والمسيح إلى طريقة هؤلاء الكفار المشركين المعطلين
ولكن النصارى ركبوا دينا من دينين من دين الأنبياء الموحدين ودين المشركين فصار في دينهم قسط مما جاءت به الأنبياء وقسط مما ابتدعوه من دين المشركين في أقوالهم وأفعالهم كما أحدثوا ألفاظ الأقانيم وهي ألفاظ لا توجد في كلام الأنبياء وكما أحدثوا الأصنام المرقومة بدل الأصنام المجسدة والصلاة إلى الشمس والقمر والكواكب بدل الصلاة لها والصيام في وقت الربيع ليجمعوا بين الدين الشرعي والأمر الطبيعي وغير ذلك
الوجه الثالث قولهم إن الذي يشغل حيزا ويقبل عرضا هو الجوهر الكثيف فأما الجوهر اللطيف فما يقبل عرضا ولا يشغل حيزا مثل جوهر النفس وجوهر العقل وجوهر الضوء فيقال الكلام في

الجواهر هل هي منقسمة إلى متحيز وغير متحيز أو كلها متحيزة متصل بالكلام على نفس الإنسان الناطقة
فنقول إن المسلمين من أعظم الناس معرفة بوجود الملائكة والجن كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة وكذلك سلف الأمة وأئمتها يعرفون وجود النفس التي هي روح الإنسان التي تفارق بدنه حين الموت كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة وإن كان كثير من أهل الكتاب يزعم أنها عرض من

أعراض البدن أو جزء من أجزائه فهذا قول محدث في الإسلام لم يذهب إليه أحد من السلف والأئمة وإن كان محكيا عن أكثر المتكلمين فليس الذين قالوا هذا من سلف الأمة ولا أئمتها بل هم من أهل الكلام المحدث المذموم عند السلف وأئمة الأمة وكثير من المتفلسفة الداخلين في أهل الملل يقولون إن الذوات التي تسميها الأنبياء الملائكة هي التي تسميها المتفلسفة المشاؤون عقولا أو عقولا ونفوسا وهذا غلط عظيم كما قد بسط في موضعه
فإن العقول التي يثبتها هؤلاء المتفلسفة لا حقيقة لها عند الرسل وأتباعهم بل ولا حقيقة لها في المعقول الصريح بل حقيقة كلامهم أنها أعراض قائمة بنفسها وقد صرحوا بأن واجب الوجود نفسه هو علم وجعلوا نفس العلم هو نفس العالم ونفس تصور هذا القول يكفي في العلم بفساده كما أن هؤلاء المتفلسفة

أتباع أرسطو لا يعرفون الملائكة بل ولا الجن وإنما علمهم معرفة الأجسام الطبيعية وتكلموا في الإلهيات بكلام قليل نزر باطله أكثر من حقه كما قد بسط في موضع آخر
وهؤلاء يزعمون أن العقل الأول أبدع ما دونه من العقول والأفلاك إلى أن ينتهي الأمر إلى العقل العاشر فهو مبدع ما تحت فلك القمر وهذا كله من أعظم الكفر عند الرسل وأتباعهم أهل الملل فإن مضمون هذا أن ملكا من الملائكة خلق كل ما تحت السماء وملكا فوقه خلق كل ما سوى الله سبحانه وهذا من أعظم الكفر في دين المرسلين وأهل الملل المسلمين واليهود والنصارى قال تعالى
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون
فأخبر أن الملائكة لا تسبقه بالقول ولا تعمل إلا بأمره فضلا عن أن يكون ملك خلق كل شيء

وهؤلاء يقولون إن الوحي والكلام الذي جاءت به الرسل إنما هو فيض من هذا العقل الفعال على قلوب الأنبياء والله تعالى عند هؤلاء لم يكن يعرف موسى ولا عيسى ولا إبراهيم ولا محمدا ولا غيرهم من الرسل ولا يعرف الجزئيات بل عند أرسطو وأتباعه أنه لا يعلم شيئا من الأشياء بل ولا خلق عندهم شيئا بل ولايقدر عندهم على خلق شيء فضلا عن أن يكون على كل شيء قدير وأن يكون أحاط بكل شيء علما
وأرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام بمقدونية وأثينية وغيرهما من مدائن فلاسفة اليونان وكان وزيرا للإسكندر بن فيلبس المقدوني وكان هذا قبل المسيح عليه السلام بنحو ثلاثمائة سنة ولم يكن وزيرا لذي القرنين الذي بنى سد يأجوج ومأجوج

وعامة علم القوم علم الطبيعيات والحسابيات وأما العلم الإلهي وهو الذي يسمونه علم ما بعد الطبيعة وهو منتهى فلسفتهم فإنما تكلموا فيه على أمور كلية قسموا الوجود إلى جوهر وتسعة أعراض يجمعها بيتان
... زيد الطويل الأسود بن مالك ... في داره بالأمس كان متكى ...
... في يده سيف نضاه فانتضى ... فهذه عشر مقولات سوا ...
وهي الجوهر والكم والكيف والأين ومتى والإضافة والملك والوضع وأن يفعل وأن ينفعل
وقد نازعه أتباعه وغيرهم في هذا الحصر وقالوا إنه لا دليل

عليه ومنهم من جعلها ثلاثة ومنهم من قال غير ذلك وأثبت العلة الأولى بناء على حركة الفلك وأنه يتحرك حركة شوقية فلا بد له مما يتشبه به فالعلة الأولى هي غاية لحاجة الفلك إليها من جهة أنه متحرك ليتشبه بها كحركة المؤتم بإمامه والمقتدي بقدوته وقد يقولون كتحريك المعشوق لعاشقه
وكلام أرسطو في ذلك موجود وقد نقلته بألفاظه وتكلمت عليه في غير هذا الموضع وقد ذكر ذلك في مقالة اللام وهي آخر فلسفته ومنتهى حكمته
وفي كتاب أثولوجيا ولم يثبت أن الرب مبدع لفلك

وعلة فاعلة ولا يسمى واجب الوجود
ولا قسم الموجودات إلى واجب قديم وممكن قديم بل ذلك فعل المتأخرين كابن سينا وأمثاله وقد بسطنا الكلام عليهم في غير هذا الموضع
والمتأخرون الذين سمعوا كلام أهل الملل أرادوا إصلاح كلامه وتقريبه إلى العقول لعله يوافق ما علم بصريح المعقول وصحيح المنقول فتكلم عليه ثابت بن قرة وبين أن الفلك لا قوام له إلا بطبيعته ولا قوام لطبيعته إلا بحركته ولا قوام لحركته الإرادية إلا بمحرك لها
وزعموا أن المحرك يجب أن لا يكون متحركا وقرروا ذلك بأدلة

فاسدة قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع فقالوا إنه إنما تحرك الفلك من جهة نسبة الفلك به وإن لم يكن هو القادر على تحريك الفلك بل ولا شعور منه بالفلك وعبر عن ذلك ابن رشد الفيلسوف وأمثاله فقالوا إنه يأمر الفلك بالحركة وقوام الفلك بطاعته لأمر الله مع أنه عندهم لا إرادة له ولا علم له بما يأمر به بل كونه آمرا وهو معنى كون الفلك يتشبه به كما يأمر المعشوق عاشقه أن يحبه وإن كان المعشوق لا شعور له ولا إرادة في أن يحبه ذلك
ثم لو قدر أنه هو الآمر فإنما يصدر بسبب أمره مجرد حركة الفلك ولهذا شبهوا ذلك بأمر السلطان لعسكره بأمر يطيعونه فيه فجعلوا الحركات معلولة بهذا الاعتبار لم يثبتوا أنه أبدع شيئا من الأفلاك والعناصر والمولدات ولا العقول ولا النفوس لا أبدع أعيانها ولا صفاتها ولا أفعالها بل غايته أن يكون آمرا لها بالحركة كأمر الملك لعسكره مع أنه عندهم ليس آمرا بالحقيقة بل ولا علم له بشيء من الموجودات بل غاية ما يزعم أرسطو وأتباعه أن للفلك حاجة إليه من جهة تشبهه به واما كونه هو علية موجبة للفلك فإنما يقول هذا من يقوله من متأخريهم كابن سينا
وأما الفارابي فهو الذي وسع القول في هذا الباب

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9