كتاب : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

بصيدنايا وهي أعظم مزاراتهم بعد القمامة وبيت لحم حيث ولد المسيح وحيث قبر فإن هذه صورة السيدة مريم وأصلها خشبة نخلة سقيت بالأدهان حتى تنعمت وصار الدهن يخرج منها دهنا مصنوعا يظن أنه من بركة الصورة
ومن حيلهم الكثيرة النار التي يظن عوامهم أنها تنزل من السماء في عيدهم في قمامة وهي حيلة قد شهدها غير واحد من المسلمين والنصارى ورأوها بعيونهم أنها نار مصنوعة يضلون بها عوامهم يظنون أنها نزلت من السماء ويتبركون بها وإنما هي صنعة صاحب محال وتلبيس
ومثل ذلك كثير من حيل النصارى فجميع ما عند النصارى المبدلين لدين المسيح من الخوارق إما حال شيطاني وإما محال

بهتاني ليس فيه شيء من كرامات الصالحين
وكذلك أهل الإلحاد المبدلين لدين محمد الذين يتخذون دينا لم يشرعه الله ورسوله ويجعلونه طريقا إلى الله وقد يختارونه على الطريق التي شرعها الله ورسوله مثل أن يختاروا سماع الدفوف والشبابات على سماع كتاب الله تعالى فقد يحصل لأحدهم من الوجد والغرام الشيطاني ما يلبسه معه الشيطان حتى يتكلم على لسان أحدهم بكلام لا يعرفه ذلك الشخص إذا أفاق كما يتكلم الجني على لسان المصروع وقد يخبر بعض الحاضرين بما في نفسه ويكون ذلك من الشيطان فإذا فارق الشيطان ذلك الشخص لم يدر ما قال ومنهم من يحمله الشيطان ويصعد به قدام الناس في الهواء
ومنهم من يشير إلى بعض الحاضرين فيموت أو يمرض أو يصير مثل الخشبة
ومنهم من يشير إلى بعض الحاضرين فيلبسه الشيطان ويزول عقله حتى يبقى دائرا زمانا طويلا بغير إختياره

ومنهم من يدخل النار ويأكلها ويبقى لهبها في بدنه وشعره
ومنهم من تحضر له الشياطين طعاما أو شيئا من لادن أو سكر أو زعفران أو ماء ورد ومنهم من تأتيه بدراهم تسرقها الشياطين من بعض المواضع
ثم من هؤلاء من إذا فرق الدراهم على الحاضرين أخذت منهم فلا يمكنون من التصرف فيها إلى أمور يطول وصفها وآخرون ليس لهم من يعينهم على ذلك من الشياطين فيصنعون حيلا ومخاريق
فالملحدون المبدلون لدين الرسل دين المسيح أو دين محمد صلى الله عليهما وسلم هم كأمثالهم من أهل الإلحاد

والضلال الكفار المرتدين والمشركين ونحوهم كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي والحارث الدمشقي وبابا الرومي وغيرهم ممن لهم خوارق شيطانية
وأما أهل الحيل فيكثرون وهؤلاء ليسوا أولياء الله بل خوارقهم إذا كانت شيطانية من جنس خوارق الكهنة والسحرة لم يكن لهم حال شيطاني بل محال بهتاني فهم متعمدون للكذب والتلبيس بخلاف من تقترن به الشياطين فإن فيهم من يلتبس عليه فيظن أن هذا من جنس كرامات الصالحين كما أن فيهم من يعرف أن ذلك من الشياطين ويفعله لتحصيل أغراضه فالمقصود أنه كثير من الخوارق ما يكون من الشياطين أو يكون حيلا ومخاريق ويظن أنها من كرامات الصالحين فإن ما يكون شبيه الشرك أو الفجور إنما يكون من الشيطان مثل أن يشرك الرجل بالله فيدعو الكواكب أو يدعو مخلوقا من البشر ميتا أو غائبا أو يعزم ويقسم بأسماء مجهولة لا يعرف معناها أو يعرف أنها أسماء الشياطين أو يستعين بالفواحش والظلم فإن ما كان هذا سببه من الخوارق فهو من الشيطان كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

والصالحون لهم كرامات مثل كرامات صالحي هذه الأمة ومثل كرامات الحواريين وغيرهم ممن كان على دين المسيح لكن وجود الكرامات على أيدي الصالحين لا توجب أن يكونوا معصومين كالأنبياء لكن يكون الرجل صالحا وليا لله وله كرامات ومع هذا فقد يغلط ويخطىء فيما يظنه أو فيما يسمعه ويرويه أو فيما يراه أو فيما يفهمه من الكتب ولهذا كان كل من سوى الأنبياء يؤخذ من قولهم ويترك بخلاف الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين فإنه يجب تصديقهم في كل ما أخبروا به من الغيب وطاعتهم في كل ما أمروا به ولهذا أوجب الله الإيمان بما أوتوه ولم يوجب الإيمان بجميع ما يأتي به غيرهم
قال تعالى
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
وقال تعالى
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين
ولهذا اتفق المسلمون على أن من كذب نبيا معلوم النبوة فهو كافر مرتد ومن سب نبيا وجب قتله بل يجب الإيمان بجميع ما أوتيه النبيون

كلهم وأن لا نفرق بين أحد منهم فنؤمن ببعض ونكفر ببعض قال تعالى
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا
وليس هذا لأحد غير الأنبياء ولو كان من رسل الأنبياء وكانوا من أعظم الصديقين المقدمين
فضلال الضلال من هؤلاء مبني على مقدمتين
إحداهما أن هذا له كرامة فيكون وليا لله
والثانية أن ولي الله لا يجوز أن يخطىء بل يجب تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر وليس لأحد من البشر أن يصدق في كل ما أخبر به ويطاع في كل أمر إلا أن يكون نبيا
والمقدمتان المذكورتان قد تكون إحداهما باطلة وقد يكون كلاهما باطلا فالرجل المعين قد لا يكون من أولياء الله تكون خوارقه من الشياطين وقد يكون من أولياء الله ولكن ليس بمعصوم بل يجوز عليه الخطأ وقد لا يكون من أولياء الله ولا يكون له خوارق ولكن له محالات وأكاذيب

فصل
قالوا وقال في سورة آل عمران
فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير
فأعني أيضا بالكتاب المنير الذي هو الإنجيل المقدس
فيقال قد تقدم أن الرسل تتناول قطعا الرسل الذين ذكرهم الله في القرآن لا سيما أولو العزم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم فإن هؤلاء مع محمد خاتم النبيين صلوات الله عليهم وسلامه خصهم الله وفضلهم بقوله تعالى
وإذ أخذنا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى

ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما
وفي قوله تعالى
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه
فالدين دين رسل الله دين واحد كما بينه الله في كتابه وكما ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وأن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي
ويتناول أيضا اسم الرسل من لم يسمهم بأعيانهم في القرآن قال تعالى
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما

وقال تعالى
ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك
وأما الحواريون فإن الله تعالى ذكرهم في القرآن ووصفهم بالإسلام واتباع الرسول وبالإيمان بالله كما أنزل في قوله تعالى
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين
وقال تعالى
وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون
وقال تعالى
يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من انصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين

ولم يذكر الله تعالى في القرآن أنه أرسلهم البتة بل ذكر أنه ألهمهم الإيمان به وبرسوله وأنهم أمروا باتباع رسوله وقوله
وإذ أوحيت إلى الحواريين
لا يدل على النبوة فإنه قال تعالى
وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه
وأم موسى لم تكن نبية بل ليس في النساء نبية كما تقوله عامة النصارى والمسلمين
وقد ذكر إجماعهم على ذلك غير واحد مثل القاضيين أبي بكر بن الطيب وابي يعلى ابن أبي الفراء والأستاذ أبي المعالى الجويني وغيرهم ويدل على ذلك قوله تعالى
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى
وقوله تعالى
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة
فجعل غاية مريم الصديقية كما جعل غاية المسيح الرسالة

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم يعني من نساء الأمم قبلنا وهذا يدل على أن أم موسى ليست ممن كمل من النساء فكيف تكون نبية وقوله تعالى جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير
والكتاب اسم جنس كما تقدم يتناول كل كتاب أنزله الله تعالى وقال تعالى
ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير
وقوله ولا كتاب منير نكرة في سياق المعنى فيعم كل كتاب منير ولو لم يكن إلا الإنجيل لقيل ولا الكتاب المنير وأيضا

فالتوراة أعظم من الإنجيل وقد بين الله أنه لم ينزل كتابا أهدى من التوراة والقرآن فقال تعالى
قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران وقرىء ساحران تظهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين
وهذا تعجيز لهم أن يأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما كقوله أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله
وهذا يبين أنه ليس الإنجيل ولا الزبور أهدى من التوراة والقرآن فكيف يجعل الكتاب المنير هو الإنجيل دون التوراة والزبور
وأيضا فإن الله تعالى إنما يخص بالذكر من الكتب المتقدمة التوراة دون غيرها فهي التي يقرنها بالقرآن كقوله تعالى
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا

كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون
وقد وصف التوراة بأن فيها نورا وهدى للناس فكيف يجعل النور في الإنجيل دونها وقال تعالى
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين
فقد ذكر التوراة والقرآن وقولهم أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا فبين أن الكتاب اسم جنس يتناول هنا التوراة والإنجيل كقوله تعالى يا أهل الكتاب
وقوله تعالى
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
فذكر الكتاب بلفظ المنفرد ومعلوم أنه أراد بالذين أوتوا الكتاب من قبلنا اليهود والنصارى لا يختص ذلك بالنصارى كما قال أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا

وقد تبين بطلان قول هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويفسرون كلام الله ورسوله بما يعلم كل من عرف حاله من مؤمن وكافر أنه لم يرده
وبين أن الله لم يرد بالكتاب الإنجيل وحده كما لم يرد بالرسل الحواريين بل أراد بالكتاب المنير ما أنزله الله من الكتب كالتوراة والإنجيل كما أراد بالرسل من أرسله الله مطلقا كنوح وإبراهيم وموسى والمسيح ابن مريم صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين

فصل
قالوا وقال أيضا
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين
فيقال لهم من المعلوم بالاضطرار أنه ليس المراد بهذا النصارى فقط كما تقدم بل اليهود يقرؤون الكتاب من قبلنا والنصارى يقرؤون الكتاب من قبلنا والكتاب اسم جنس كما تقدم نظائره في قوله أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وقوله وطعام الذين أوتوا الكتاب وقوله يا أهل الكتاب في غير موضع وقوله
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين
وقوله تعالى
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل

للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد
وقد قال تعالى
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا
وتناول لفظ أهل الكتاب هنا لليهود أظهر من تناوله للنصارى لذكره لعنة أصحاب السبت وكذلك قوله تعالى
وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون
فهذا خبر عن طائفة من اليهود قالوا ذلك وقال تعالى
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين

وسبب نزولها أنه أراد طائفة من اليهود إلقاء الفتنة بين المسلمين فهم داخلون قطعا وإن كان الخطاب مطلقا يتناول الطائفتين
وأمره تعالى بسؤال الذين يقرؤون الكتاب من قبله على تقدير الشك لا يقتضي أن يكون الرسول شك ولا سأل إن قيل الخطاب له وإن قيل لغيره فهو أولى وأحرى فإن تعليق الحكم بالشرط لا يدل على تحقيق الشرط بل قد يعلق بشرط ممتنع لبيان حكمه
قال تعالى
ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين
فأخبر أنهم لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون مع انتفاء

الشرك عنهم بل مع امتناعه لأنهم قد ماتوا لأن الأنبياء معصومون من الشرك به
وقال تعالى
قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين
فهذا خطاب للجميع وذكر هنا لفظ إن لأنه خطاب لموجود وهناك خبر عن ميت وكذلك قوله فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل لا يدل على وقوع الشك ولا السؤال بل النبي لم يكن شاكا ولا سأل أحدا منهم بل روي عنه أنه قال والله لا أشك ولا أسأل

ولكن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون
كما قال تعالى في الآية الأخرى
قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب
وقال تعالى
قل أرءيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين
وقال تعالى
أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل
وقال تعالى
الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين
وقال
إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا

وقال تعالى
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين
وقال تعالى
لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك
وقال تعالى
وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
وقال تعالى
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
فالمقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون وذلك من وجوه
أحدها أن الكتب المتقدمة تنطق بأن موسى وغيره دعوا إلى عبادة الله وحده ونهوا عن الشرك فكان في هذا حجة على من ظن أن الشرك دين
ومثل هذا قوله تعالى
وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون

وقوله تعالى
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
وقوله تعالى
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين
الوجه الثاني أن أهل الكتاب يعلمون أن الله إنما أرسل إلى الناس بشرا مثلهم لم يرسل إليهم ملكا فإن من الكفار من كان يزعم أن الله لا يرسل إلا ملكا أو بشرا معه ملك ويتعجبون من إرسال بشر ليس معه ملك ظاهر كما قال تعالى
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا
وقال تعالى
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل

عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين
وقال تعالى
كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر
وكذلك قال الذين من بعدهم
ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون
وكذلك قال قوم فرعون لموسى وهارون
أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون
وقال فرعون
أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين
وكذلك قالوا لمحمد وقال

تعالى
الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين
وقال تعالى
وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون
فبين سبحانه أنكم لا تطيقون التلقي عن الملك فلو أنزلناه ملكا لجعلناه في صورة بشر وحينئذ كنتم تظنونه بشرا فيحصل اللبس عليكم فأمر الله تعالى بسؤال أهل الكتاب عمن أرسل إليهم أكان بشرا أم كان ملكا ليقيم الحجة بذلك على من أنكر إرسال بشر كما قال تعالى
وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين
وأهل الذكر هم أهل الذكر الذي أنزله الله تعالى

الوجه الثالث أنهم يسألون أهل الكتاب عما جرى للرسل مع أممهم وكيف كان عاقبة المؤمنين بهم وعاقبة المكذبين لهم
الوجه الرابع يسألون أهل الكتاب عن الدين الذي بعث الله به رسله وهو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل وبر الوالدين وصلة الأرحام والنهي عن الشرك والظلم والفواحش
الوجه الخامس يسألونهم عما وصفت به الرسل ربهم هل هو موافق لما وصفه به محمد أم لا وهذه الأمور المسؤول عنها متواترة عند أهل الكتاب معلومة لهم ليست مما يشكون فيه وليس إذا كان مثل هذا معلوما لهم بالتواتر فيسألون عنه يجب أن يكون كل ما يقولونه معلوما لهم بالتواتر
وأيضا فإنهم يسألون أيضا عما عندهم من الشهادات والبشارات بنبوة محمد
وقد أخبر الله بذلك في القرآن فقال تعالى
ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم

وقال تعالى
وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين
فقد أخبر عن عيسى أنه صدق بالرسول والكتاب الذي قبله وهو التوراة وبشر بالرسول الذي يأتي بعده وهو أحمد قال تعالى
فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون
إلى قوله
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون
وقال تعالى
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل
وقال تعالى عن من أثنى عليه من النصارى
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا

وقال تعالى
وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا
وقال تعالى
أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين
وقال تعالى
ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون
وقال تعالى في سورة الأنعام
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون

وقال تعالى
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فعلنة الله على الكافرين
والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم
وكان قبل أن يبعث النبي تجري حروب وقتال بين العرب وبين أهل الكتاب فتقول أهل الكتاب قد قرب مبعث هذا النبي الأمي الذي يبعث بدين إبراهيم فإذا ظهر اتبعناه وقتلناهم معه شر قتلة فلما بعث النبي كان منهم من آمن به ومنهم من كفر به فقال تعالى
وكانوا من قبل يستفتحون
أي يستنصرون بمحمد على الذين كفروا
فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
ولهذا كان النبي في خطابه لأهل الكتاب يقول لهم والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني

رسول الله وكذلك من أسلم منهم كعبدالله بن سلام كان يقول لغيره من أهل الكتاب والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وهذا أمر معروف في الأحاديث الصحاح المخرجة في الصحيحين وغيرهما فظهر بما ذكرناه تحريف هؤلاء لكلام الله وأنه لا حجة لهم فيما أنزل على محمد كما تقدم نظائر ذلك

فصل
قالوا فثبت بهذا ما معنا نعم ونفى عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها
فيقال كلامكم الذي تحتجون به في هذا الموضع وغيره إما أن يكون باطلا محضا وإما أن يكون مما لبستم فيه الحق بالباطل فإن قولكم بتصديقه إياها إن أردتم أنه صدق التوراة والإنجيل والزبور التي أنزلها الله على أنبيائه فهذا لا ريب فيه فإن هذا مذكور في القرآن في غير موضع وقد أوجب على عباده أن يؤمنوا بكل كتاب أنزله وكل نبي من الأنبياء مع إخباره أنه أنزل هذه الكتب قبل القرآن وأنزل القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
وقال تعالى
الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان
وقال تعالى
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه

وقال تعالى
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت
وقال
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
وقال
والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير
وقال
ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون
وقال تعالى
آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم
وقد أوجب على عباده أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله وحكم بكفر

من آمن ببعض وكفر ببعض فقال تعالى
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
وقال تعالى
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله
وقال تعالى
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما
فذم المفرق بينهم بأن يؤمن ببعض دون بعض وبين أنه فضل بعضهم على بعض فقال تعالى
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض

فبين أنه فضل بعضهم على بعض وقال تعالى
ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض
وقد اتفق المسلمون على ما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام وهو أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين وبجميع ما أنزله الله من الكتب فمن كفر بنبي واحد تعلم نبوته مثل إبراهيم ولوط وموسى وداود وسليمان ويونس وعيسى فهو كافر عند جميع المسلمين حكمه حكم الكفار وإن كان مرتدا استتيب فإن تاب وإلا قتل
ومن سب نبيا واحدا من الأنبياء قتل أيضا باتفاق المسلمين وما علم المسلمون أن نبيا من الأنبياء أخبر به فعليهم التصديق به كما يصدقون بما أخبر به محمد وهم يعلمون أن أخبار الأنبياء لا تتناقض ولا تختلف وما لم يعلموا أن النبي أخبر به فهو كما لم يعلموا أن محمدا أخبر به صلى الله عليهم أجمعين ولكن لا يكذبون إلا بما علموا أنه كذب كما لا يجوز أن يصدقوا إلا بما علموا أنه صدق وما لم يعلموا أنه كذب ولا صدق لم يصدقوا به ولم يكذبوا به كما أمرهم نبيهم محمد وبهذا أمرهم

المسيح عليه السلام فقال الأمور ثلاثة أمر تبين رشده فاتبعوه وأمر تبين غيه فاجتنبوه وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه

فصل
وإن أرادوا بتصديقه كتبهم أنه صدق ما هم عليه من العقائد والشرائع التي ابتدعوها بغير إذن من الله وخالفوا بها ما تقدمه من شرائع المسلمين أو خالفوا بها الشرع الذي بعث به مثل القول بالتثليث والأقانيم والقول بالحلول والاتحاد بين اللاهوت والناسوت وقولهم أن المسيح هو الله وابن الله وما هم عليه من إنكار ما يجب الإيمان به من الإيمان بالله واليوم الآخر ومن تحليل ما حرمه الله ورسله كالخنزير وغيره وبين أنهم لا يدينون بدين الحق الذي أنزل به كتابه وأرسل به رسوله بل بدين مبتدع ابتدعه لهم أكابرهم كما قال تعالى
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم

وقد بين النبي ذلك لعدي بن حاتم وكان نصرانيا لما جاءه ليؤمن به وقد آمن به عدي وكان من خيار الصحابة فسمعه يقرأ هذه الآية
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
قال عدي قلت يا رسول الله ما عبدوهم
قال إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم

فإن أرادوا بتصديقهم في هذه الأمور أو أن محمدا صدق ما عندهم مما لم يأت به الأنبياء عن الله فقد كذبوا على محمد كذبا ظاهرا معلوما بالاضطرار من دينه وإنما صدق ما جاءت به الأنبياء قبله
وأما ما أحدثوه وابتدعوه فلم يصدقوه كما أنه لم يشرع لهم أن يستمروا على ما هم عليه من الشرع الأول ولو لم يكن مبدلا بل دعاهم وجميع الإنس والجن إلى الإيمان به وبما جاء به واتباع ما بعث به من الكتاب والحكمة وحكم بكفر كل من لم يتبع كتابه المنزل عليه وأوجب مع خلودهم في عذاب الآخرة جهادهم في الدنيا حتى يكون الدين كله لله وحتى تكون كلمة الله هي العليا
وقد دعا أهل الكتاب من اليهود والنصارى عموما ثم كلا من الطائفتين خصوصا في غير موضع مع دعائه الناس كلهم أهل الكتاب وغيرهم كقوله تعالى
ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون

الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون
وقال تعالى يخاطب النصارى
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا

وقال تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم
وقال تعالى
ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون
اخبر سبحانه أن النصارى تركوا حظا مما ذكرهم به وبسبب ذلك أغرى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة فعلم أنه سبحانه بين أنهم تركوا بعض ما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء واستحقوا لذلك أن يغري بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة
وقال تعالى
قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
فنهاهم عن الغلو في دينهم وعن اتباع أهواء الذين ابتدعوا بدعا غيروا بها شرع المسيح فضلوا من قبل هؤلاء الأتباع وأضلوا كثيرا من هؤلاء الأتباع وغيرهم وضلوا عن سواء السبيل وهو وسط السبيل بين الضلال وقيده بعد أن أطلقه وأجمله

وقال تعالى
قتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
وقد خرج النبي لقتالهم بنفسه عام تبوك واستنفر لقتالهم جميع المؤمنين ولم يأذن لأحد من القادرين على الغزو في التخلف ومن تخلف لأنه لم ير قتالهم واجبا كان كافرا وإن أظهر الإسلام كان منافقا ملعونا بين الله أنه لا يغفر لهم ونهى نبيه عن الصلاة عليهم وأنزل في ذلك جمهور سورة براءة بالنقل المتواتر حتى بين كفر الذين استأذنوه في ترك الخروج معه لقتال النصارى
قال تعالى
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل كم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم

انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستئذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون

فصل
فتبين أن قولهم فثبت بهذا ما معنا نعم ونفي عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها
إن أرادوا به أنه ثبت ما جاءت الأنبياء قبله عن الله فهذا حق
وإن أرادوا به أنه ثبت ما هم عليه بعد مبعثه من الشرع الذي خالف شرعه أو ما ابتدعوه مما لم يأت به الأنبياء عليهم السلام قبله فهذا باطل
وإن أرادوا بذلك أنه صدق ألفاظ الكتب التي بأيدينا أي التوراة والإنجيل فهذا مما يسلمه لهم بعض المسلمين وينازعهم فيه أكثر المسلمين وإن كان أكثر ذلك مما يسلمه أكثر المسلمين
فأما تحريف معاني الكتب بالتفسير والتأويل وتبديل أحكامها

فجميع المسلمين واليهود والنصارى يشهدون عليهم بتحريفها وتبديلها كما يشهدون هم والمسلمون على اليهود بتحريف كثير من معاني التوراة وتبديل أحكامها وإن كانوا هم واليهود يقولون إن التوراة لم تحرف ألفاظها
وحينئذ فلا ينفعهم بقاء حروف الكتب عندهم مع تحريف معانيها إلا كما ينفع اليهود بقاء حروف التوراة والنبوات عندهم مع تحريف معانيها بل جميع النبوات التي يقرون بها هي عند اليهود وهم مع اليهود ينفون عنها التهم والتبديل لألفاظها مع أن اليهود عندهم من أعظم الخلق كفرا واستحقاقا لعذاب الله في الدنيا والآخرة وهم عند النصارى الذين يكفرون المسلمين أكثر من هؤلاء وشر منهم فإن النصارى متفقون على أن المسلمين خير من اليهود وكذلك اليهود متفقون على أن المسلمين خير من النصارى بل جميع الأمم المخالفين للمسلمين يشهدون أن المسلمين خير من سائر الأمم والطوائف إلا أنفسهم وشهادتهم لأنفسهم لا تقبل فصار هذا اتفاق أهل الأرض على تفضيل دين الإسلام
فعلم أن بقاء حروف الكتاب مع الإعراض عن اتباع معانيها وتحريفها لا يوجب إيمان أصحابها ولا يمنع كفرهم
وحينئذ فليس شهادة محمد وأمته للمسيح عليه السلام ولما أنزل عليه من الإنجيل في تثبيت ما عند النصارى بأعظم من شهادة المسيح عليه السلام والحواريين وسائر من اتبعه لموسى ولما أنزل عليه من التوراة في تثبيت ما عند

اليهود فإن المسيح أمر أتباعه باتباع التوراة إلا القدر اليسير الذي نسخه منها
وأما محمد فبعث بكتاب مستقل وشرع مستقل كامل تام لم يحتج معه إلى شرع سابق تتعلمه أمته من غيره ولا إلى شرع لاحق يكمل شرعه ولهذا قال النبي في الحديث الصحيح أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر
فجزم أن من كان قبله كان فيهم محدثون وعلق الأمر في أمته وإن كان هذا المعلق قد تحقق لأن أمته لا تحتاج بعده إلى نبي آخر فلأن لا تحتاج معه إلى محدث ملهم أولى وأحرى

وأما من كان قبله فكانوا يحتاجون إلى نبي بعد نبي فأمكن حاجتهم إلى المحدثين الملهمين ولهذا إذا نزل المسيح بن مريم في أمته لم يحكم فيهم إلا بشرع محمد وإذا كان مع هذا فشهادة المسيح والحواريين وكل من آمن بالمسيح للتوراة بأنها حق ولموسى بأنه رسول لا يمنع كفر اليهود لكونهم بدلوا شرع التوراة وكذبوا بالمسيح والإنجيل
فكيف تكون شهادة محمد وأمته للإنجيل بأنه منزل من عند الله وللمسيح بأنه رسول الله مانعة من كفر النصارى مع تبديلهم شرع الإنجيل وتكذيبهم بمحمد وشرع القرآن
وأما إيمان من يؤمن منهم بأن محمدا رسول الله إلى العرب أو بكثير مما جاء به القرآن فلا يمنع كفرهم إذا كفروا ببعض ما جاء به بل من كذب بشيء مما جاءت به الرسل عن الله فهو كافر وإن آمن بأكثر ما جاءت به الرسل كما قال تعالى
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا
وقال تعالى
أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من

يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون
وقد صرح بكفر النصارى في غير موضع وأمر بجهادهم وقتالهم وحكم بكفر من لا يوجب جهادهم وقتالهم أو لا يرى ذلك عبادة لله وطاعة له كما تقدم التنبيه على ذلك فإذا كان من لا يرى جهادهم عبادة لله كافرا عند محمد فكيف حالهم عنده

فصل
وإذا تبين للخاصة والعامة ممن آمن بمحمد ومن كفر به أنه كان مصدقا لما بين يديه من الكتب والأنبياء مصدقا للتوراة والإنجيل شاهدا بأن موسى عليه السلام ومن كان متبعا له على الحق وأن المسيح عليه السلام ومن اتبعه على الحق وإن كان يكفر جميع اليهود والنصارى وغيرهم ممن بلغته رسالته ولم يؤمن به وشهد عليهم بأنهم حرفوا كثيرا من معاني التوراة والإنجيل قبل نبوته وأن أهل الكتاب كلهم مع المسلمين يشهدون أيضا بأن كثيرا من معاني التوراة والإنجيل حرفها كثير من أهل الكتاب لم يجز لأحد من أهل الكتاب أن يحتج بقول محمد على صحة دينهم الذي شهد محمد بأنه باطل مبدل منسوخ وأهله من أهل النار كما تقدم بسطه
وإذا قالوا نحن نذكر ذلك لنبين تناقضه حيث صدقها وهي تناقض بعض ما أخبر به أو لنبين أن ما أخبرت به الأنبياء قبله يناقض خبره فيكون ذلك قدحا فيما جاء به

أجاب المسلمون عن هذا بعدة طرق
أحدها أن يقولوا أما مناقضة بعض خبره لبعض كما يزعمه هؤلاء من أن كتابه يمدح أهل الكتاب مرة ويذمهم أخرى وأنه يصدق الكتب المنزلة تارة ويذمها أخرى فهذا قد ظهر بطلانه فإنه إنما مدح من اتبع موسى والمسيح على الدين الذي لم يبدل ولم ينسخ
وأما من اتبع الدين المبدل المنسوخ فقد كفره
فأما دعواهم مناقضة خبره لخبر غيره فيقال هو مصدق للأنبياء فما أخبروا به
وأما ما بدل من ألفاظهم أو غيرها بالترجمة أو فسر بغير مرادهم فلم يصدقه ويقال أيضا إن نبوة محمد تثبت بمثل ما تثبت به نبوات الأنبياء قبله وبأعظم من ذلك كما قد بسط في موضع آخر وبين أن التكذيب بنبوة محمد مع التصديق بنبوة غيره في غاية التناقض والفساد وانه ما من طريق يعلم بها نبوة غيره إلا ونبوته تعلم بمثل تلك الطريق وبأعظم منها فلو لم تكن نبوته وطريق ثبوتها إلا

مثل نبوة غيره وطريق ثبوتها لوجب التصديق بنبوته كما وجب التصديق بنبوة غيره ولكان تكذيبه كتكذيب ابراهيم وموسى وغيرهما من الرسل فكيف إذا كان ذلك أعظم من وجوه متعددة
وحينئذ فالأنبياء كلهم صادقون مصدقون معصومون فيما يخبرون به عن الله لا يجوز أن يثبت في خبرهم عن الله خبر باطل لا عمدا ولا خطأ فلا يجوز أن يخبر أحدهم بخلاف ما أخبر به غيره بل ولا يفترقون في الدين الجامع كما قال تعالى
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه
وقال تعالى
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون
وإنما يقع النسخ في بعض الشرائع كما يقع النسخ في شريعة الرسول الواحد وحينئذ فيعلم أن كل ما ينقل عن الأنبياء المتقدمين مما يناقض ما علم من أخبار محمد فهو باطل سواء كان اللفظ نفسه باطلا لم يقله ذلك النبي أو قد قال لفظا وغلط

المترجمون له من لغة إلى لغة أو كان اللفظ وترجمته صحيحين لكن وقع الغلط في معرفة مراد ذلك النبي بذلك الكلام
فإن كل ما يحتج به من الألفاظ المنقولة عن الأنبياء أنبياء بني إسرائيل وغيرهم ممن أرسل بغير اللغة العربية لا بد في الاحتجاج بألفاظه من هذه المقدمات أن يعلم اللفظ الذي قاله ويعلم ترجمته ويعلم مراده بذلك اللفظ
والمسلمون وأهل الكتاب متفقون على وقوع الغلط في تفسير بعض الألفاظ وبيان مراد الأنبياء بها وفي ترجمة بعضها فإنك تجد بالتوراة عدة نسخ مترجمة وبينها فروق يختلف بها المعنى المفهوم وكذلك في الإنجيل وغيره فهذا الطريق في الجواب طريق عام لكل من آمن بمحمد وشهد أنه رسول الله باطنا وظاهرا يخاطب به كل يهودي ونصراني على وجه الأرض وإن لم يكن عارفا بما عند اهل الكتاب فإنه لا يقدر أحد من أهل الأرض يقيم دليلا صحيحا على نبوة موسى وعيسى وبطلان نبوة محمد فإن هذا ممتنع لذاته بل ولا يمكنه أن يقيم دليلا صحيحا على نبوة أحدهما إلا وإقامة مثل ذلك الدليل أو أعظم منه على نبوة محمد أولى وحينئذ فلا يمكن أحدا من أهل

الكتاب أن يحتج بشيء من المنقولات عن الأنبياء المخالفة لما ثبت عن محمد سواء أقر بنبوته أو أنكرها بل إن احتج بشيء مما نقل عن محمد بين له بطلان احتجاجه به وأنه حجة عليه لا له
وإن احتج بشيء من المنقول عن غيره من الأنبياء عليهم السلام طولب بتقدير نبوة ذلك النبي مع تكذيب محمد وإلا فبتقدير أن ينقل عن اثنين ادعيا النبوة وأتيا بالآيات التي تثبت بها النبوات خبران مناقضان لا يجوز تصديق هذا وتكذيب ذاك إن لم يتبين ما يدل على صدق هذا وكذب هذا وكذلك إذا عورض أحدهما بجنس ما يعارض الآخر
وهذا لا يرد على المسلمين إذا ردوا ما يحتج به أهل الكتاب مما ينقلونه عن الأنبياء مخالفا لخبر محمد فإن المسلمين لا يطعنون في نبوة أحد من الأنبياء المعروفين وإنما يطعنون في أنهم أخبروا بما يخالف خبر محمد فإن ذلك لا يثبت أي لم يثبت اللفظ والترجمة وتفسير اللفظ وهذه المقدمات يمتنع أن تقوم على شيء يخالف خبر محمد لا جملة ولا تفصيلا
فأهل الكتاب يطالبون فيما يعارضون به بثلاث مقدمات
أحدها تقدير أن أولئك صادقون ومحمد كاذب

والثاني ثبوت ما أتوا به لفظا
والثالث معرفة المراد باللفظ ترجمة وتفسيرا وإن قال الكتابي للمسلم أنت توافقني على نبوة هؤلاء المتقدمين إجابة المسلم بوجوه
منها أن يقول إني لم أوافقك على نبوة واحد منهم مع التكذيب بمحمد بل دين المسلمين كلهم أنه من آمن ببعض الأنبياء وكفر ببعض فهو كافر فكيف بمن كفر بمن هو عند المسلمين أفضل الأنبياء وخاتمهم بل قد يقول له أكثر المسلمين نحن لم نعلم نبوة أولئك إلا بأخبار محمد أنهم أنبياء فلو قدحنا في الأصل الذي قد علمنا به نبوتهم لزم القدح في نبوتهم والفرع إذا قدح في أصله دل على فساده في نفسه سواء قدر اصله صحيحا أو فاسدا فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو فهو إذا ناقض أصله باطل على كل تقدير
وكذلك إذا قال له الكتابي قد اتفقنا على تصديق موسى والتوراة والمسيح والإنجيل
قال له المسلم إنما وافقتك على تصديق موسى وعيسى الذين

بشرا بمحمد كما أخبرنا به محمد عن الله حيث قال الله تعالى
ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر الآية
وقال تعالى
وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد
إلى أمثال ذلك
فأما الإيمان بموسى الذي ذكر أن شريعته مؤيدة لا ينسخ منها شيءأو بمسيح ادعى أنه الله أو أن الله اتحد به أو حل فيه ونحو ذلك مما يدعيه أهل الكتاب في الرسولين والكتابين ويخالفهم فيه المسلمون فهذا من موارد النزاع لا من مواقع الإجماع فليس لأحد من أهل الكتاب أن يحتج على احد من المسلمين بموافقته له على ذلك
ومن تمام ذلك أن يقول المسلم نعم أنا أقر بنبوة موسى والمسيح وإن التوراة والإنجيل كلام الله لكن يمتنع عقلا الإقرار بنبوة واحد من هؤلاء دون نبوة محمد فإن

البراهين والآيات والأدلة الدالة على صدق موسى والمسيح تدل على نبوة محمد بطريق الأولى فلو انتقضت تلك الأدلة لزم فسادها وأن لا أصدق بأحد من الأنبياء وإن كانت حقا لزم تصديقهم كلهم فلزم إما أن نصدقهم كلهم وإما أن نكذبهم كلهم ولهذا كان من آمن ببعض وكذب ببعض كافرا
ومن الأجوبة للمسلمين أن يقولوا نحن نصدق الأنبياء المتقدمين في كل ما أخبروا به لكن من نقل عنهم أنهم أخبروا بما يناقض خبر محمد فلا بد له من مقدمتين ثبوت ذلك اللفظ عن الأنبياء والعلم بمعناه الذي يعلم أنه مناقض للمعنى الذي علم أن محمدا عناه ثم العلم باللفظ يحتاج مع الخطاب بغير ألسن الأنبياء العربية سواء كانت عربية أو رومية أو سريانية أو قبطية إلى أن يعرف أن هذا اللفظ الذي ترجم به لفظه مطابق للفظه ويمتنع ثبوت المقدمتين لأن في ثبوتهما تناقض الأدلة العلمية والأدلة العلمية لا تتناقض
الطريق الثاني أن يقول المسلمون ما تذكرونه من المنقول عن الأنبياء مناقضة لما أخبر به محمد أمور لم تعلم صحتها فلا يجوز اعتقاد ثبوتها والجزم بها ولو لم يعلم

أن محمدا أخبر بخلافها فكيف إذا علم أنه أخبر بخلافها وذلك أن العلم بثبوتها مبني على مقدمات
أحدها العلم بنبوتهم وهذا ممتنع مع تكذيب محمد
والثانية أنهم قالوا هذه الألفاظ وهذا يحتاج إلى إثبات تواتر هذه الألفاظ عن الأنبياء ولم يثبت أنها تواترت عنهم
والثالثة أن معناها هو المعنى المناقض لخبر محمد ولم يعلم ذلك
وكل واحدة من هذه المقدمات تمنع العلم بثبوت هذه المعاني المناقضة لخبر محمد فكيف إذا اجتمعت
وهي تمنع العلم بصحتها ولو لم تناقض خبر محمد فكيف إذا ناقضته
الطريق الثالث طريق من يبين أن ألفاظ هذه الكتب لم تتواتر ويثبتون ذلك بانقطاع تواتر التوراة لما خرب بيت المقدس وانقطاع تواتر الإنجيل في أول الأمر
الطريق الرابع طريق من يبين أن بعض ألفاظ الكتب حرفت

ويقيم الأدلة الشرعية والعقلية على تبديل بعض ألفاظها
الطريق الخامس أن يبين أن الألفاظ التي بأيديهم لا تناقض ما أخبر به محمد بل تدل على صدق محمد ويتكلم على تفسير تلك الألفاظ بأعيانها
وهذه الطريق يسلكها من لا ينازع في ثبوت الألفاظ من المسلمين
وأما الجمهور الذين يقولون بتبديل هذه الألفاظ فيسلكون هذه الطريق ويسلكون ايضا بيان عدم تواتر الألفاظ بل بيان التبديل في الفاظها

فصل
ومن حجة الجمهور الذين يمنعون أن تكون جميع ألفاظ هذه الكتب المتقدمة الموجودة عند أهل الكتاب منزلة من عند الله لم يقع فيها تبديل ويقولون إنه وقع التبديل في بعض ألفاظها ويقولون إنه لم يعلم أن ألفاظها منزلة من عند الله فلا يجوز أن يحتج بما فيها من الألفاظ في معارضة ما علم ثبوته أنهم قالوا التوراة والإنجيل الموجودة اليوم بيد أهل الكتاب لم تتواتر عن موسى وعيسى عليهما السلام أما التوراة فإن نقلها انقطع لما خرب بيت المقدس أولا وأجلى منه بنو إسرائيل ثم ذكروا أن الذي أملاها عليهم بعد ذلك شخص واحد يقال له عزرا وزعموا أنه نبي

ومن الناس من يقول إنه لم يكن نبيا وإنها قوبلت بنسخة وجدت عتيقة
وقد قيل إنه أحضرت نسخة كانت بالمغرب وهذا كله لا يوجب تواتر جميع ألفاظها ولا يمنع وقوع الغلط في بعضها كما يجري مثل ذلك في الكتب التي يلي نسخها ومقابلتها وحفظها القليل الاثنان والثلاثة

وأما الإنجيل الذي بأيديهم فهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح عليه السلام ولا أملاه على من كتبه وإنما أملوه بعد رفع المسيح متى و يوحنا وكانا قد صحبا المسيح ولم يحفظه خلق كثير يبلغون عدد التواتر و مرقس و لوقا وهما لم يريا المسيح عليه السلام وقد ذكر هؤلاء أنهم ذكروا بعض ما قاله المسيح وبعض أخباره وأنهم لم يستوعبوا ذكر أقواله وأفعاله
ونقل اثنين وثلاثة وأربعة يجوز عليه الغلط لا سيما وقد غلطوا في المسيح نفسه حتى اشتبه عليهم بالمصلوب ولكن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله مثل عيسى بن مريم وموسى عليهما السلام وأنهم معصومون وأنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل وأن لهم معجزات وقالوا لهم هذه التوراة وهذا الإنجيل ويقرون مع هذا بأنهم ليسوا بأنبياء فإذا لم يكونوا أنبياء فمن ليس بنبي ليس بمعصوم من الخطأ ولو كان من أعظم أولياء الله ولو كان له خوارق عادات فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من أفاضل الصحابة عند المسلمين أفضل من الحواريين ولا معصوم عندهم إلا من كان نبيا
ودعوى أنهم رسل الله مع كونهم ليسوا بأنبياء تناقض وكونهم رسل الله هو مبني على كون المسيح هو الله فإنهم رسل المسيح وهذا

الأصل باطل ولكن في طريق المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن نمنعهم في هذا المقام ونطالبهم بالدليل على أنهم رسل الله وليس لهم على ذلك دليل فإنه لا يثبت أنهم رسل الله إن لم يثبت أن المسيح هو الله وإثباتهم أن المسيح هو الله إما أن يكون بالعقل أو بالسمع والعقل لا يثبت ذلك بل يحيله وهم لا يدعون ثبوت ذلك بالعقل
بل غاية ما يدعون إثبات إمكانه بالعقل لا إثبات وجوده مع أن ذلك أيضا باطل وإنما يدعون ثبوت وجوده بالسمع وهو ما ينقلونه عن الأنبياء من ألفاظ يدعون ثبوتها عن الأنبياء ودلالتها على أن المسيح هو الله كسائر من يحتج بالحجة السمعية فإن عامة بيان صحة الإسناد دون بيان دلالة المتن وكلا المقدمتين باطلة
ولكن يقال لهم في هذا المقام أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله إلا بهذه الكتب ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رسل الله معصومون ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله فصار ذلك دورا ممتنعا

فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله فصار ثبوت الإلهية متوقفا على ثبوت إلهيته وثبوت كونهم رسل الله متوقفا على كونهم رسل الله فصار ذلك دورا ممتنعا
قد يدعون عصمة الحواريين وعصمة أهل المجامع بعد الحواريين كأهل المجمع الأول الذي كان بحضرة قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر ووضعوا لهم الأمانة التي هي عقيدة النصارى التي لا يصح لهم قربان إلا بها فيزعمون أن الحواريين

أو هؤلاء جرت علي أيديهم خوارق وقد يذكرون أن منهم من جرى إحياء الموتى على يديه وهذا إذا كان صحيحا مع ان صاحبه لم يذكر أنه نبي لا يدل على عصمته فإن أولياء الله من الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان وسائر أولياء الله من هذه الأمة وغيرها لهم من خوارق العادات ما يطول وصفه وليس فيهم معصوم يجب قبول كل ما يقول بل يجوز الغلط على كل واحد منهم وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الأنبياء عليهم السلام
ولهذا أوجب الله الإيمان بما أوتيه الأنبياء ولم يجب الإيمان

بكل ما يقوله كل ولي لله
قال تعالى
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم
وقال تعالى
ولكن البر من ىمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين
ولهذا وجب الإيمان بالأنبياء جميعهم وما أوتوه كلهم
ومن كذب نبيا واحدا تعلم نبوته فهو كافر باتفاق المسلمين ومن سبه وجب قتله كذلك بخلاف من ليس بنبي فإنه لا يكفر أحد بمخالفته ولا يقتل بمجرد سبه إلا أن يقترن بالسب ما يكون مبيحا للدم
والذي عليه سلف الأمة كالصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين وجماهير المسلمين أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وليس بعد الأنبياء أفضل منهما وهذه الأمة أفضل الأمم وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال قد كان قبلكم في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر والمحدث الملهم المخاطب

وكان عمر قد جعل الله الحق على قلبه ولسانه وما كان يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما يقول وكانت السكينة تنطق على لسانه ومع هذا فلم يكن لا هو ولا غيره ممن ليس بنبي معصوما من الغلط ولا يجب على المسلم قبول ما يقوله إن لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا كان يجوز له العمل بما يلقى في قلبه إن لم يعرضه على الكتاب والسنة فإن وافق ذلك قبله وإن خالف ذلك رده
وعند المسلمين أنه ليس في أتباع المسيح عليه السلام مثل أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما فإذا قالوا عن الحواريين أنهم ليسوا معصومين فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من الحواريين كما أنهم إذا قالوا عن المسيح أنه عبد مخلوق ليس بإله فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من المسيح كمحمد وإبراهيم عليهما أفضل الصلاة والسلام
وفي الملاحدة المنتسبين إلى الأمة من فيه بدع من الغلو يشبه غلو النصارى كمن يدعي الإلهية

من الإسماعيلية كبني عبيد القداح

كالحاكم وغيره ويدعي الإلهية في علي بن أبي طالب أو غيره كدعوى النصيرية وهؤلاء كفار عند المسلمين
وكذلك من يدعي الإلهية في بعض المشايخ كغلاة العدوية والحلاجية واليونسية وغيرهم وكذلك من يدعي عصمة بني عبيد او عصمة الإثني عشر أو عصمة بعض المشايخ
فإن النصارى يدعون عصمة الحواريين الإثني عشر وهؤلاء يدعون عصمة الأئمة الإثني عشر

وهؤلاء يسندون أصل دينهم إلى قول الحواريين المعصومين عندهم ويقولون أنهم معصومون في النقل عن المسيح وفي الفتيا وإن ما قالوه فقد قاله المسيح عليه الصلاة و السلام
وهؤلاء يقولون عن أولئك إنهم معصومون في النقل والفتيا وإن ما قالوه فقد قاله الرسول عليه الصلاة و السلام وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أنه ليس مع النصارى نقل متواتر عن المسيح بألفاظ هذه الأناجيل ولا نقل لا متواتر ولا آحاد بأكثر ما هم عليه من الشرائع ولا عندهم ولا عند اليهود نقل متواتر بألفاظ التوراة ونبوات

الأنبياء كما عند المسلمين نقل متواتر بالقرآن وبالشرائع الظاهرة المعروفة للعامة والخاصة وهذا مثل الأمانة التي هي أصل دينهم وصلاتهم إلى المشرق وإحلال الخنزير وترك الختان وتعظيم الصليب واتخاد الصور في الكنائس وغير ذلك من شرائعهم ليست منقولة عن المسيح ولا لها ذكر في الأناجيل التي ينقلونها عنه وهم متفقون على أن الأمانة التي جعلوها اصل دينهم وأساس إعتقادهم ليست ألفاظها موجودة في الأناجيل ولا هي مأثورة عن الحواريين وهم متفقون على أن الذين وضعوها أهل المجمع الأول الذين كانوا عند قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر وخالفوا عبد الله بن أريوس الذي جعل المسيح عبدا لله كما يقول المسلمون ووضعوا هذه الأمانة
وهذا المجمع كان بعد المسيح بمدة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة وبسط هذا له موضع آخر وإنما المقصود هنا الجواب عن قولهم إن محمدا ثبت ما معهم وأنه نفى عن إنجيلهم وكتبهم التي بأيديهم التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها

وقد تبين ان محمدا لم يصدق شيئا من دينهم المبدل والمنسوخ ولكن صدق الأنبياء قبله وما جاؤوا به وأثنى على من اتبعهم لا على من خالفهم أو كذب نبيا من الأنبياء وإن كفر النصارى من جنس كفر اليهود فإن اليهود بدلوا معاني الكتاب الأول وكذبوا بالكتاب الثاني وهو الإنجيل وكذلك النصارى بدلوا معاني الكتاب الأول التوراة والإنجيل وكذبوا بالكتاب الثاني وهو القرآن وأنهم ادعوا أن محمدا صدق بجميع ألفاظ الكتب التي عندهم
فجمهور المسلمين يمنعون هذا ويقولون إن بعض ألفاظها بدل كما قد بدل كثير من معانيها ومن المسلمين من يقول التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها وهذا القول يقر به عامة اليهود والنصارى
وعلى القولين فلا حجة لهم في تصديق محمد لما هم عليه من الدين الباطل فإن الكتب الإلهية التي بأيديهم لا تدل على صحة ما كفرهم به محمد وأمته مثل التثليث والاتحاد والحلول وتغيير شريعة المسيح وتكذيب محمد فليس في الكتب التي بأيديهم ما يدل لا نصا ولا ظاهرا على الأمانة التي هي أصل دينهم وما في ذلك من التثليث والاتحاد والحلول ولا فيها ما يدل على أكثر شرائعهم

كالصلاة إلى الشرق واستحلال المحرمات من الخنزير والميتة ونحو ذلك كما قد بسط في موضع آخر
ويقال لهم أين ما معكم عن محمد مما يدل على أن ألفاظ الكتب التي بأيديكم لم يغير فيها شيء ومعلوم أن المسلمين وغيرهم إذا إختلفوا لم يكن قول فريق حجة على الفريق الآخر
فإذا كان المسلمون قد إختلفوا في تبديل بعض ألفاظ الكتب المتقدمة لم يكن قول فريق حجة على الأخرى ولا يجوز لأحد من المسلمين ولا منكم أن يضيف إلى الرسول قولا إلا بدليل
فأين في القرآن والسنة الثابتة عن محمد أن جميع ما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل والزبور ونبوات الأنبياء لم تبدل بشيء من ألفاظها حتى يقولوا إن محمدا نفى عن كتبهم ذلك
وهؤلاء بنوا كلامهم على أن ألفاظ كتبهم تدل على صحة دينهم الذي هم عليه بعد مبعث محمد وبعد تكذيبهم لمحمد وأنه لم يبدل شيء من ألفاظها

وقد تبين فساد ذلك من وجوه متعددة
ثم زعموا أن المسلمين يدعون أن ألفاظ هذه الكتب حرفت كلها بجميع لغاتها بعد مبعث محمد وهذا القول لم يقله أحد من المسلمين فيما أعلم وظنوا أنهم بالجواب عن هذا يكونون قد أجابوا المسلمين

فصل
فقال الحاكي عنهم فقلت لهم إن قال قائل إن التبديل والتغيير يجوز أن يكون بعد هذا القول فقالوا إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول وذلك أنا أيضا إذا إحتججنا عليهم بمثل هذا القول وقلنا إن الكتاب الذي في أيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا قال الحاكي عنهم فقلت لهم هذا مما لا يجوز ولا يمكن أحدا أن يقوله ولا يمكن أن يتغير منه إلى آخر الفصل وسيأتي بألفاظ بعد هذا
والجواب أن هذا السائل النصراني الذي ذكر عن المسلمين سؤالا لا يقولونه وعن علماء النصارى جوابه هو وهم بنوا كلامهم على أصلين فاسدين
أحدهما أن الرسول ثبت ما معهم ونفى عن كتبهم التي بين أيديهم التهم والتبديل والتغيير لها ومقصودهم بذلك لا يتم إلا إذا نفى التبديل عن لفظها ومعناها وهذا مما يعلم كل عاقل أن الرسول لم ينفه عنها بل النقل المتواتر عنه بنقيض ذلك وهم أيضا وكل عاقل

يعلم أن الكتب التي بأيديهم في تفسيرها من الاختلاف والاضطراب بين فرق النصارى وبين النصارى واليهود ما يوجب القطع بأن كثيرا من ذلك مبدل محرف وكذلك وقع في تغيير شرائع هذه الكتب فإن الكتب تضمنت أصلين الإخبار والأمر والإيمان بها لا يتم إلا بتصديقها فيما أخبرت وإيجاب طاعتها فيما أوجبته
وأهل الكتاب يكذبون بكثير مما أخبرت ولا يوجبون طاعتها في كثير مما أوجبته وأمرت به وكل فرقة منهم تشهد على الفرقة الأخرى بمثل ذلك
والنصارى لهم سبع مجامع مشهورة عندهم وهم في كل

مجمع يلعنون طائفة منهم كبيرة ويكفرونهم ويقولون عنهم إنهم كذبوا ببعض ما في تلك الكتب ولم يوجبوا طاعة بعض أمرها وتلك الطائفة تشهد على الأخرى بأنها كذبت ببعض ما فيها ثم فرقهم الثلاثة المشهورة النسطورية والملكية واليعقوبية كل طائفة تكفر الأخرى وتلعنها وتشهد عليها أنها مكذبة ببعض ما في النبوات غير موجبة لطاعة بعض ما فيها بل اختلافهم في نفس التوحيد والرسالة فزعم كل فريق منهم أن المسيح جاء بما هم عليه والمسيح عليه السلام وجميع الرسل بريئون من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وبريئون ممن يقول على الله غير الحق أو يقول على الله ما لا يعلم وبريئون من كل قول باطل يقال على الله عز و جل وإن كان قائله مخطئا لم يتعمد الكذب
وفي مقالات النصارى من هذه الأنواع ما يطول وصفه وقد بسط في غير هذا الموضع

وإذا عرفت أن جميع الطوائف من المسلمين واليهود والنصارى يشهدون أنه قد وقع في هذه الكتب تحريف وتبديل في معانيها وتفاسيرها وشرائعها فهذا القدر كاف وهم من حين بعث محمد صار كل من لم يؤمن به كافرا بخلاف حال النصارى قبل مبعث محمد فإنه كان فيهم من هو متبع لدين المسيح والمسلمون وإن كان فيهم من حرف الدين وبدله فجمهورهم خالفوا هؤلاء فلا يزال فيهم طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم وخذلهم حتى تقوم الساعة بخلاف النصارى فإنهم كفروا جميعهم كما كفرت اليهود بتكذيب المسيح
والمسلمون يثبتون بالدلائل الكثيرة أنهم بدلوا معاني التوراة والإنجيل والزبور وغيرهم من نبوات الأنبياء وابتدعوا شرعا لم يأت به المسيح ولا غيره ولا يقول عاقل مثل زعمهم أن جميع بني آدم من الأنبياء والرسل وغيرهم كانوا في الجحيم في حبس الشيطان لأجل أن أباهم آدم أكل من الشجرة وأنهم إنما تخلصوا من ذلك لما صلب المسيح

فإن هذا الكلام لو نقله ناقل عن بعض الأنبياء لقطعنا بكذبه عليهم فكيف وهذا الكلام ليس منقولا عندهم عن أحد من الأنبياء وإنما ينقلونه عمن ليس قوله حجة لازمة فإن كثيرا من دينهم مأخوذ عن رؤوسهم الذين ليسوا بأنبياء
فإذا قطعنا بكذب من ينقله عن الأنبياء فكيف إذا لم ينقله عنهم وذلك أن الأنبياء عليهم السلام يخبرون الناس بما تقصر عقولهم عن معرفته لا بما يعرفون أنه باطل ممتنع فيخبرونهم

بمحيرات العقول لا محالات العقول وآدم عليه السلام وإن كان أكل من الشجرة فقد تاب الله عليه واجتباه وهداه
قال تعالى
وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى
وقال تعالى
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم
وليس عند أهل الكتاب في كتبهم ما ينفي توبته وإنما قد يقول قائلهم إنا لا نعلم أنه تاب أو ليس عندنا توبته وعدم العلم بشيء ليس علما بعدمه وعدم وجود الشيء في كتاب من كتب الله لا ينفي أن يكون في كتاب آخر ففي التوراة ما ليس في الإنجيل وفيهما ما ليس في الزبور وفي الإنجيل والزبور ما ليس في التوراة وفي سائر النبوات ما لا يوجد في هذه الكتب والقرآن لو كان دون التوراة والإنجيل والزبور والنبوات أو كان مثلها لأمكن أن يكون فيه ما ليس فيها فكيف إذا كان أفضل وأشرف وفيه من العلم أعظم مما في التوراة والإنجيل وقد بين الله تعالى فضله عليهما في غير موضع كقوله تعالى
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه

وقال تعالى
نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك هذا القرآن
وقال تعالى
وأنزلنآ إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه
وسواء تاب آدم أو لم يتب فكيف يجوز أن يكون رسل الله الذين هم أفضل منه محبوسين في حبس الشيطان في جهنم بذنبه وإبراهيم خليل الرحمن كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنبه فكيف يجعله في جهنم في حبس الشيطان بسبب ذنب أبيه الأقصى آدم مع أنه كان نبيا ونوح عليه السلام قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده وأغرق الله أهل الأرض بدعوته وجعل ذريته هم الباقين فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان لأجل ذنب آدم
وموسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما وأظهر على يديه من البراهين والآيات ما لم يظهر مثله على يدي المسيح وقتل نفسا لم يؤمر بقتلها فغفر الله له ذلك وله من المنزلة عند الله والكرامة ما لا يقدر قدره فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان
ثم أي مناسبة بين الصلب الذي هو من أعظم الذنوب سواء

صلبوا المسيح أو المشبه به وبين تخليص هؤلاء من الشيطان فإن الشيطان إن فعل ذلك بالذرية كان ظالما معتديا والله عز و جل قادر على منعه من ظلمهم بل وعلى عقوبته إذا لم ينته عن ظلمهم
فلماذا أخر منعه من ظلمهم إلى زمن المسيح وهو سبحانه ولي المؤمنين وناصرهم ومؤيدهم وهم رسله الذين نصرهم على من عاداهم بل أهلك أعداءهم الذين هم جند الشيطان فكيف لا يمنع الشيطان بعد موتهم أن يظلمهم ويجعل أرواحهم في جهنم هذا إن قدر أن الشيطان كان قادرا على ذلك وكيف يجوز أن يجعل الشيطان بعد موت أنبيائه وأوليائه وسقوط التكليف عنهم واستحقاقهم كرامته وإحسانه وجنته بحكم وعده ومقتضى حكمته فجعله مسلطا على حبسهم في جهنم
وإن قالوا الرب عز و جل ما كان يقدر على تخليصهم من الشيطان مع علمه بأنه ظالم معتد عليهم بعد الموت إلا بأن يحتال عليه بإخفاء نفسه ليتمكن الشيطان منه كما يزعمون فهذا مع ما فيه من الكفر العظيم وجعل الرب سبحانه عاجزا كما جعلوه أولا ظالما فيه من التناقض ما يقتضي عظيم جهلهم الذي جعلوا به الرب جاهلا فإنهم يقولون إنه إحتال على الشيطان ليأخذه بعدل كما إحتال الشيطان على آدم بالحية فاختفى منه لئلا يعلم أنه ناسوت الإله

وناسوت الإله لم يعمل خطيئة قط بخلاف غيره
فلما أراد الشيطان أخذ روحه ليحبسه في جهنم كسائر من مضى وهو لم يعمل خطيئة استحق الشيطان أن يأخذه الرب ويخلص الذرية من حبسه
وهذا تجهيل منهم للرب سبحانه وتعالى عما يقولون مع تعجيزه وتظليمه فإنه إن كان هو سلط الشيطان على بني آدم كما يقولون فلا فرق بين ناسوت المسيح وغيره إذ الجميع بني آدم وأيضا فإذا قدر أن الناسوت يدفع الشيطان عن نفسه بحق فإنهم يقولون إنه دخل الجحيم وأخرج منه ذرية آدم
فيقال إن كان تسلط الشيطان على حبسهم في الجحيم بحق لأجل ذنوبهم مع ذنب أبيهم لم يجز إخراجهم لأجل سلامة ناسوت المسيح من الذنب وإن كانوا مظلومين مع الشيطان وجب تخليصهم قبل صلب الناسوت ولم يجز تأخير ذلك فليس في مجرد سلامة المسيح من الذنوب ما يوجب سلامة غيره وإن قالوا انه كان بدون تسلطه على صلبه عاجزا عن دفعه فهو مع تسلطه على صلبه أعجز وأعجز
الأصل الثاني الفاسد الذي بنوا عليه سؤالهم الذي جعلوه من جهة المسلمين وجوابهم ظنهم أن المسلمين يقولون إن هذه الكتب حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة منها بعد مبعث محمد

وهذا مما لا يقوله المسلمون ولكن قد يقول بعضهم إنه حرف بعد مبعث محمد ألفاظ بعض النسخ فإن الجمهور الذين يقولون إن بعض ألفاظها حرفت منهم من يقول كان هذا قبل المبعث
ومنهم من يقول كان بعده ومنهم من يثبت الأمرين أو يجوزهما ولكن لا يقول إنه حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة في مشارق الأرض ومغاربها كما حكاه هذا الحاكي عنهم ولكن علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب متفقون على وقوع التحريف في المعاني والتفسير
وإن كانت كل طائفة تزعم أن الأخرى هي التي حرفت المعاني
وأما ألفاظ الكتب فقد ذهبت طائفة من علماء المسلمين إلى أن ألفاظها لم تبدل كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب
وذهب كثير من علماء المسلمين وأهل الكتاب إلى أنه بدل بعض ألفاظها
وهذا مشهور عند كثير من علماء المسلمين وقاله ايضا كثير من علماء اهل الكتاب
حتى في صلب المسيح ذهبت طائفة من النصارى إلى أنه إنما

صلب الذي شبه بالمسيح كما اخبر به القرآن وإن الذين أخبروا بصلبه كانوا قد أخبروا بظاهر الأمر فإنه لما ألقى شبهه على المصلوب ظنوا أنه هو المسيح أو تعمدوا الكذب ثم هؤلاء منهم الذين يقولون إن في ألفاظ الكتب ما هو مبدل
وفيهم من يجعل المبدل من التوراة والإنجيل كثيرا منهما وربما جعل بعضهم المبدل أكثرهما لا سيما الإنجيل فإن الطعن فيه أكثر وأظهر منه في التوراة
ومن هؤلاء من يسرف حتى يقول أنه لا حرمة لشيء منهما بل يجوز الاستنجاء بهما
ومنهم من يقول الذي بدلت ألفاظه قليل منهما وهذا أظهر
والتبديل في الإنجيل أظهر بل كثير من الناس يقول هذه الأناجيل ليس فيها من كلام الله إلا القليل
والإنجيل الذي هو كلام الله ليس هو هذه الأناجيل

والصحيح أن هذه التوراة الذي بأيدي اهل الكتاب فيها ما هو حكم الله وإن كان قد بدل وغير بعض ألفاظهما كقوله تعالى
ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم

الى قوله
وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله
فعلم أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس وبعد مجيء بختنصر وبعد مبعث المسيح وبعد مبعث محمد فيها حكم الله
والتوراة التي كانت عند يهود المدينة على عهد رسول الله وإن قيل أنه غير بعض ألفاظها بعد مبعثه فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك فإن هذا غير معلوم لنا وهو أيضا متعذر بل يمكن تغيير كثير من النسخ وإشاعة ذلك عند الأتباع حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غير بعد ذلك ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب إنما تختلف في اليسير من ألفاظها فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ بعد مبعث الرسول ممكن لا يمكن أحد أن يجزم بنفيه ولا يقدر أحد من اليهود والنصارى أن يشهد بأن كل نسخة في العالم بالكاتبين متفقة الألفاظ إذ هذا لا سبيل لأحد إلى علمه والاختلاف اليسير في ألفاظ هذه الكتب

موجود في الكثير من النسخ كما قد تختلف نسخ بعض كتب الحديث أو تبدل بعض ألفاظ بعض النسخ وهذا خلاف القرآن المجيد الذي حفظت ألفاظه في الصدور بالنقل المتواتر لا يحتاج أن يحفظ في كتاب كما قال تعالى
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
وذلك أن اليهود قبل النبي وعلى عهده وبعده منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها وعندهم نسخ كثيرة من التوراة
وكذلك النصارى عندهم نسخ كثيرة من التوراة ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها ولو كان ذلك ممكنا لكان هذا من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وكذلك في الإنجيل قال تعالى
وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه
فعلم أن في هذا الإنجيل حكما أنزله الله تعالى لكن

الحكم هو من باب الأمر والنهي وذلك لا يمنع أن يكون التغيير في باب الإخبار وهو الذي وقع فيه التبديل لفظا وأما الأحكام التي في التوراة فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها
وقد ذكر طائفة من العلماء ان قوله تعالى في الإنجيل وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه هو خطاب لمن كان على دين المسيح قبل النسخ والتبديل لا الموجودين بعد مبعث محمد
وهذا القول يناسب مناسبة ظاهرة لقراءة من قرأ وليحكم أهل الإنجيل بكسر اللام كقراءة حمزة فإن هذه لام كي فإنه تعالى قال
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون

فإذا قرىء وليحكم كان المعنى وأتيناه الإنجيل لكذا وكذا وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذا يوجب الحكم بما أنزل الله في الإنجيل الحق لا يدل على أن الإنجيل الموجود في زمن الرسول هو ذلك الإنجيل
وأما قراءة الجمهور وليحكم أهل الإنجيل فهو أمر بذلك فمن العلماء من قال هو أمر لمن كان الإنجيل الحق موجودا عندهم أن يحكموا بما أنزل الله فيه وعلى هذا يكون قوله تعالى وليحكم أمر لهم قبل مبعث محمد وقال آخرون لا حاجة إلى هذا التكلف فإن القول في الإنجيل كالقول في التوراة وقد قال تعالى
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد

مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل
فهذا قد صرح بأن أولئك الذين تحاكموا إلى النبي من اليهود عندهم التوراة فيها حكم الله ثم تولوا عن حكم الله وقال بعد ذلك وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذه لام الأمر وهو أمر من الله أنزله على لسان محمد وأمر من مات قبل هذا الخطاب ممتنع وإنما يكون الأمر أمرا لمن آمن

به من بعد خطاب الله لعباده بالأمر فعلم أنه أمر لمن كان موجودا حينئذ أن يحكموا بما أنزل الله في الإنجيل والله أنزل في الإنجيل الأمر باتباع محمد كما أمر به في التوراة فليحكموا بما أنزل الله في الإنجيل مما لم ينسخه محمد كما أمر أهل التوراة أن يحكموا بما أنزله مما لم ينسخه المسيح وما نسخه فقد أمروا فيها باتباع المسيح وقد أمروا في الإنجيل باتباع محمد فمن حكم من أهل الكتاب بعد مبعث محمد بما أنزل الله في التوراة والإنجيل لم يحكم بما يخالف حكم محمد إذ كانوا مأمورين في التوراة والإنجيل باتباع محمد كما قال تعالى
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
وقال تعالى
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق

فجعل القرآن مهيمنا والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل ولهذا قال
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
وقد ثبت في الصحاح والسنن والمساند هذا في الصحيحين عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال إن اليهود جاءوا إلى رسول الله فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال لهم رسول الله ما تجدون في التوراة في شأن الرجم قالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبدالله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوارة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبدالله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا صدق يا محمد فأمر بهما النبي فرجما

وأخرج البخاري عن عبدالله بن عمر أنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بيهودي ويهودية قد زنيا فانطلق حتى جاء يهود فقال ما تجدون في التوراة على من زنى قالوا نسود وجوههما ويطاف بهما قال فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين قال فجاءوا بها فقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها فقال عبدالله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم قالوا صدق فيها آية الرجم ولكننا نتكاتمه بيننا وأن أحبارنا أحدثوا التحميم والتجبية فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم برجمهما فرجما
وأخرج مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال مر على رسول الله صلى الله عليه و سلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قالوا نعم فدعى رجلا من علمائهم فقال أنشدك الله الذي أنزل التوراة على

موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجد الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله تعالى يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسرعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم
إلى قوله فأولئك هم الكافرون إلى الظالمون إلى الفاسقون
قال هي في الكفار كلها
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنه قال رجم النبي صلى الله عليه و سلم رجلا من أسلم ورجلا

من اليهود
وأما السنن ففي سنن أبي داود عن زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بينهم فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم وسادة فجلس عليها ثم قال أئتوني التوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال آمنت بك وبمن أنزلك ثم قال ائتوني بأعلمكم فأتي بشاب ثم ذكر قصة الرجم

وأخرج أيضا أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال زنى رجل من اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله فقلنا نبي من أنبيائك قالوا فأتوا بالنبي صلى الله عليه و سلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن
قالوا نحممه ونجبيه ونجلده والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار ويقابل أقفيتهما ويطاف بهما قال وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه و سلم ساكتا أنشده فقال اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي صلى الله عليه و سلم فما أول ما ارتخصتم أمر الله قال زنى ذو قرابة ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ثم زنى رجل في أسرة من الناس

فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم قال النبي فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما
قال الزهري فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا
فكان النبي منهم
وأيضا فقد تحاكموا إليه في القود الذي كان بين بني قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل بعض إحدى القبيلتين قتيلا من الأخرى فيقتلونه ولم يضعفوا الدية وإذا قتل من القبيلة الشريفة قتلوا به وأضعفوا الدية
قال أبو داود سليمان بن الأشعث في سننه حدثنا محمد بن

العلاء حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي ماية وسق من تمر
فلما بعث النبي قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا ادفعوه إلينا نقتله فقالوا بيننا وبينكم محمد فأتوه فنزلت

وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط
والقسط النفس بالنفس ثم نزلت
أفحكم الجاهلية يبغون
قال أبو داود قريظة والنضير من ولد هارون
وبسط هذا له موضع آخر وعلى كل قول فقد أخبر الله عز و جل أن في التوراة الموجودة بعد المسيح عليه السلام حكم الله وأن أهل الكتاب اليهود تركوا حكم الله الذي في التوراة مع كفرهم بالمسيح وهذا ذم من الله لهم على ما تركوه من حكمه الذي جاء به الكتاب الأول ولم ينسخه الرسول الثاني
وهذا من التبديل الثاني الذي ذموا عليه ودل ذلك على أن في التوراة الموجودة بعد مبعث المسيح حكما أنزله الله أمروا أن يحكموا به وهكذا يمكن أن يقال في الإنجيل

ومعلوم أن الحكم الذي أمروا أن يحكموا به من أحكام التوراة ولم ينسخه الإنجيل ولا القرآن فكذلك ما أمروا أن يحكموا به من أحكام الإنجيل هو مما لم ينسخه القرآن وذلك أن الدين الجامع أن يعبد الله وحده ويأمر بما أمر الله به ويحكم بما أنزله الله في أي كتاب أنزله ولم ينسخه فإنه يحكم به
ولهذا كان مذهب جماهير السلف والأئمة أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ومن حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم

بما أنزل الله كما أن الله أمر أمة محمد أن يحكموا بما أنزل الله في القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ فهكذا القول في جنس الكتب المنزلة
قال تعالى
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم

إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة علىالمؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون
فقد أمر نبيه محمدا أن يحكم بما أنزل الله إليه وحذره اتباع أهوائهم وبين أن المخالف لحكمه هو حكم الجاهلية حيث قال تعالى
أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون
وأخبره تعالى أنه جعل لكل من أهل التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاجا وأمره تعالى بالحكم بما أنزل الله أمر عام لأهل التوراة والإنجيل والقرآن ليس لأحد في وقت من الأوقات أن يحكم بغير ما أنزل الله والذي أنزله الله هو دين واحد اتفقت عليه الكتب والرسل وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة وإن تنوعوا في الشرعة والمنهاج بين ناسخ ومنسوخ فهو شبيه بتنوع حال الكتاب الواحد فإن المسلمين كانوا أولا مأمورين بالصلاة لبيت المقدس ثم أمروا أن يصلوا إلى المسجد الحرام وفي كلا الأمرين إنما اتبعوا ما أنزل الله عز و جل

وكذلك موسى عليه السلام كان مأمورا بالسبت محرما عليه ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزله الله عز و جل والمسيح أحل بعض ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزل الله عز و جل فليس في أمر الله لأهل التوراة والإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ كما أنه ليس في أمر أهل القرآن أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ بل إذا كان ناسخ ومنسوخ فالذي انزل الله هو الحكم بالناسخ دون المنسوخ فمن حكم بالمنسوخ فقد حكم بغير ما أنزل الله عز و جل ومما يوضح هذا قوله تعالى
قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين
فإن هذا يبين أن هذا أمر لمحمد أن يقول لأهل الكتاب الذي بعث إليهم إنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم فدل ذلك على أنهم عندهم ما يعلم أنه منزل من الله وأنهم مأمورون بإقامته إذ كان ذلك مما

قرره محمد ولم ينسخه ومعلوم أن كل ما أمر الله به على لسان نبي ولم ينسخه النبي الثاني بل أقره كان الله آمرا به على لسان نبي بعد نبي ولم يكن في بعثة الثاني ما يسقط وجوب اتباع ما أمر به النبي الأول وقرره النبي الثاني
ولا يجوز أن يقال إن الله ينسخ بالكتاب الثاني جميع ما شرعه بالكتاب الأول وإنما المنسوخ قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والشرائع
وأيضا ففي التوراة والإنجيل ما دل على نبوة محمد فإذا حكم أهل التوراة والإنجيل بما أنزل الله فيهما حكموا بما أوجب عليهم اتباع محمد
وهذا يدل على أن في التوراة والإنجيل ما يعلمون أن الله أنزله إذ لا يؤمرون أن يحكموا بما أنزل الله ولا يعلمون ما أنزل الله والحكم إنما يكون في الأمر والنهي والعلم ببعض معاني الكتب لا ينافي عدم العلم ببعضها وهذا متفق عليه في المعاني فإن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وأنه أرسل إلى الخلق رسلا من البشر وأنه أوجب العدل وحرم الظلم والفواحش والشرك وأمثال ذلك من الشرائع

الكلية وأن فيها الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب بل هم متفقون على الإيمان باليوم الآخر وقد تنازعوا في بعض معانيها واختلفوا في تفسير ذلك كما اختلفت اليهود والنصارى في المسيح المبشر به النبوات هل هو المسيح بن مريم عليه السلام أو مسيح آخر ينتظر

والمسلمون يعلمون أن الصواب في هذا مع النصارى لكن لا يوافقونهم على ما أحدثوا فيه من الإفك والشرك
وكذلك يقال إذا بدل قليل من ألفاظها الخبرية لم يمنع ذلك أن يكون أكثر ألفاظها لم يبدل لا سيما إذا كان في نفس الكتاب ما يدل على المبدل وقد يقال أن ما بدل من ألفاظ التوراة والإنجيل ففي نفس التوراة والإنجيل ما يدل على تبديله فبهذا يحصل الجواب عن شبهة من يقول إنه لم يبدل شيء من ألفاظها فإنهم يقولون إذا كان التبديل قد وقع في ألفاظ التوراة والإنجيل قبل مبعث محمد لم يعلم الحق من الباطل فسقط الاحتجاج بهما ووجوب العمل بهما على أهل الكتاب فلا يذمون حينئذ على ترك اتباعهما
والقرآن قد ذمهم على ترك الحكم بما فيهما واستشهد بهما في مواضع
وجواب ذلك أن ما وقع من التبديل قليل والأكثر لم يبدل والذي لم يبدل فيه ألفاظ صريحة تبين بها المقصود من غلط ما خالفها ولها شواهد ونظائر متعددة يصدق بعضها بعضا بخلاف المبدل فإنه ألفاظ قليلة وسائر نصوص الكتب يناقضها وصار هذا بمنزلة كتب الحديث المنقولة عن النبي ص - فإنه إذا وقع في سنن أبي داود والترمذي أو غيرهما أحاديث قليلة ضعيفة كان في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ما يبين ضعف تلك

بل وكذلك صحيح مسلم فيه ألفاظ قليلة غلط وفي نفس الأحاديث الصحيحة مع القرآن ما يبين غلطها مثل ما روي أن الله خلق التربة يوم السبت وجعل خلق المخلوقات في الأيام السبعة فإن هذا الحديث قد بين أئمة الحديث كيحيى بن معين وعبدالرحمن بن

مهدي والبخاري وغيرهم أنه غلط وأنه ليس في كلام النبي بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار كما قد بسط في موضعه والقرآن يدل على

غلط هذا ويبين أن الخلق في ستة أيام وثبت في الصحيح أن آخر الخلق كان يوم الجمعة فيكون أول الخلق يوم الأحد
وكذلك ما روي أنه صلى الكسوف

بركوعين أو ثلاثة
فإن الثابت المتواتر عن النبي في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وابن عباس وعبدالله بن عمرو وغيرهم أنه صلى كل ركعة بركوعين ولهذا لم يخرج

البخاري إلا ذلك وضعف الشافعي والبخاري واحمد في أحد الروايتين عنه وغيرهم حديث الثلاث والأربع فإن النبي إنما صلى الكسوف مرة واحدة وفي حديث الثلاث والأربع أنه صلاها يوم مات إبراهيم ابنه وأحاديث الركوعين كانت ذلك اليوم فمثل هذا الغلط إذا وقع كان في نفس الأحاديث الصحيحة ما يبين أنه غلط والبخاري إذا روى الحديث بطرق في بعضها غلط في بعض الألفاظ ذكر معه الطرق التي تبين ذلك الغلط كما قد بسطنا الكلام على ذلك في موضعه
فكذلك إذا قيل أنه وقع تبديل في بعض ألفاظ الكتب المتقدمة كان في الكتب ما يبين لك الغلط وقد قدمنا أن المسلمين لا يدعون أن كل نسخة في العالم من زمن محمد بكل لسان من التوراة والإنجيل والزبور بدلت ألفاظها فإن هذا لا أعرف

أحدا من السلف قاله وإن كان من المتأخرين من قد يقول ذلك كما في بعض المتأخرين من يجوز الاستنجاء بكل ما في العالم من نسخ التوراة والإنجيل فليست هذه الأقوال ونحوها من أقوال سلف الأمة وأئمتها وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها فعلق الأمر

على ما يمتنع العلم به ولم يجزم عمر رضي الله عنه بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما فيها
والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي فيهما ما أنزله الله عز و جل والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر ولا حاجة بنا إلى ذكره ولا علم لنا بذلك ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختباره وامتحانه وإنما يعلم مثل هذا بالوحي وإلا فلا يمكن أحدا

من البشر أن يقابل كل نسخة موجودة في العالم بكل نسخة من جميع الألسنة بالكتب الأربعة والعشرين وقد رأيناها مختلفة في الألفاظ اختلافا بينا والتوراة هي أصح الكتب وأشهرها عند اليهود والنصارى ومع هذا فنسخة السامرة مخالفة لنسخة اليهود والنصارى حتى في نفس الكلمات العشر ذكر في نسخة السامرة منها من أمر استقبال الطور ما ليس في نسخة اليهود والنصارى وهذا مما يبين أن التبديل وقع في كثير من نسخ هذه الكتب فإن عند السامرة نسخا متعددة

وكذلك رأينا في الزبور نسخا متعددة تخالف بعضها بعضا مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني يقطع من رآها أن كثيرا منها كذب على زبور داود عليه السلام وأما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم منه في التوراة
فإن قيل فإذا كانت الكتب المتقدمة منسوخة فلماذا ذم أهل الكتاب على ترك الحكم بما أنزل الله منها قيل النسخ لم يقع إلا في قليل من الشرائع وإلا فالإخبار عن الله وعن اليوم الآخر وغير ذلك لا نسخ فيه
وكذلك الدين الجامع والشرائع الكلية لا نسخ فيها وهو سبحانه ذمهم على ترك اتباع الكتاب الأول لأن أهل الكتاب كفروا من وجهين من جهة تبديلهم الكتاب الأول وترك الإيمان والعمل ببعضه ومن جهة تكذيبهم بالكتاب الثاني وهو القرآن كما قال تعالى
وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين
فبين أنهم كفروا قبل مبعثه بما أنزل عليهم وقتلوا الأنبياء كما

كفروا حين مبعثه بما أنزل عليه وقال تعالى
الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين
وقال تعالى
فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير
وقال تعالى
فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين
وإذا كان الأمر كذلك فهو سبحانه يذمهم على ترك اتباع ما أنزله في التوراة والإنجيل وعلى ترك اتباع ما أنزله في القرآن ويبين كفرهم بالكتاب الأول وبالكتاب الثاني وليس في شيء من ذلك أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ من الكتاب الأول كما ليس فيه أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ في الكتاب الثاني

فصل
فحينئذ فقولهم إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول
وذلك أنا أيضا إذا قلنا واحتججنا عليهم بمثل هذا القول إن الكتاب الذي بأيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا
قال الحاكي عنهم فقلت لهم هذا ما لا يجوز ولا يمكن لأحد أن يقوله ولا يمكن تغييره ولا تبديل حرف واحد منه

فقالوا سبحان الله العظيم إذا كان الكتاب الذي لهم الذي هو باللسان الواحد لا يمكن تبديله ولا تغيير حرف واحد منه فكيف يمكن تغيير كتبنا التي هي مكتوبة باثنين وسبعين لسانا وفي كل لسان منها كذا وكذا ألف نسخة وجاز عليها إلى مجيء محمد أكثر من ستمائة سنة وصارت في أيدي الناس يقرؤونها باختلاف ألسنتهم على تشاسع بلدانهم
فمن الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا ومن هو الذي حكم على الدنيا جميعها ملوكها وقساوستها وغالبها حتى حكم على جميعها في أقطار الأرض وجمعها في أربع زوايا العالم حتى يغيرها
وإن كان غير بعضها وترك بعضها فهذا لا يمكن أن يكون لأن كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن فهذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله أبدا

والجواب أن يقال
أولا هذا الكلام منهم يدل على غاية جهلهم بما يقوله المسلمون في كتبهم وتبين أنهم لفرط جهلهم يظنون أن المسلمين يقولون مقالة لا يخفى فسادها على من له أدنى عقل ومعرفة والمسلمون لا يشك أحد من الأمم أنهم أعظم الأمم عقولا وأفهاما وأتمهم معرفة وبيانا وأحسن قصدا وديانة وتحريا للصدق والعدل وأنهم لم يحصل في النوع الإنساني أمة أكمل منهم ولا ناموس أكمل من الناموس الذي جاء به نبيهم محمد وحذاق الفلاسفة معترفون لهم بذلك وأنه لم يقرع العالم ناموس أكمل من هذا الناموس
وقد جمع الله للمسلمين جميع طرق المعارف الإنسانية وأنواعها فإن الناس نوعان

أهل كتاب وغير أهل كتاب كالفلاسفة والهنود
والعلم ينال بالحس والعقل وما يحصل بهما وبوحي الله إلى أنبيائه الذي هو خارج عما يشترك فيه الناس من الحس والعقل
ولهذا قيل الطرق العلمية البصر والنظر والخبر الحس والعقل والوحي الحس والقياس والنبوة
فأهل الكتاب امتازوا عن غيرهم بما جاءهم من النبوة مع مشاركتهم لغيرهم فيما يشترك فيه الناس من العلوم الحسية والعقلية
والمسلمون حصل لهم من العلوم النبوية والعقلية ما كان للأمم قبلهم وامتازوا عنهم بما لا تعرفه الأمم وما اتصل إليهم من عقليات الأمم هذبوه لفظا ومعنى حتى صار أحسن مما كان عندهم ونفوا عنه من الباطل وضموا إليه من الحق ما امتازوا به على من سواهم
وكذلك العلوم النبوية أعطاهم الله ما لم يعطه أمة قبلهم وهذا ظاهر لمن تدبر القرآن مع تدبر التوراة والإنجيل فإنه يجد من فضل علم القرآن ما لا يخفى إلا على العميان
فكيف يظن مع هذا بالمسلمين أن يخفى عليهم فساد هذا الكلام الذي ظنه بهم هؤلاء الجهال

ويقال ثانيا الجواب من وجوه
أحدها أن المسلمين لم يدعوا أن هذه الكتب حرفت بعد انتشارها وكثرة النسخ بها ولكن جميعهم متفقون على وقوع التبديل والتغيير في كثير من معانيها وكثير من أحكامها
وهذا مما تسلمه النصارى جميعهم في التوراة والنبوات المتقدمة فإنهم يسلمون أن اليهود بدلوا كثيرا من معانيها وأحكامها
ومما تسلمه النصارى في فرقهم أن كل فرقة تخالف الأخرى فيما تفسر به الكتب المتقدمة ومما تسلمه اليهود أنهم متفقون على أن النصارى تفسر التوراة والنبوات المتقدمة على الإنجيل بما يخالف معانيها وأنها بدلت أحكام التوراة فصار تبديل كثير من معاني الكتب المتقدمة متفقا عليه بين المسلمين واليهود والنصارى
وأما تغيير بعض ألفاظها ففيه نزاع بين المسلمين
والصواب الذي عليه الجمهور أنه بدل بعض ألفاظها كما ذكر ذلك في مواضعه
الوجه الثاني أن قياسهم كتبهم على القرآن وأنه كما

لا تسمع دعوى التبديل فيه فكذلك في كتبهم قياس باطل في معناه ولفظه
أما معناه فكل ما أجمع المسلمون عليه من دينهم إجماعا ظاهرا معروفا عندهم فهو منقول عن الرسول نقلا متواترا بل معلوما بالاضطرار من دينه فإن الصلوات الخمس والزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق ووجوب العدل والصدق وتحريم الشرك والفواحش والظلم بل وتحريم الخمر والميسر والربا وغير ذلك منقول عن النبي نقلا متواترا كنقل ألفاظ القرآن الدالة على ذلك
ومن هذا الباب عموم رسالته وأنه مبعوث إلى جميع الناس أهل الكتاب وغير أهل الكتاب بل إلى الثقلين الإنس والجن وأنه كان يكفر اليهود والنصارى الذين لم يتبعوا ما أنزل الله عليه كما كان يكفر غيرهم ممن لم يؤمن بذلك وأنه جاهدهم وأمر بجهادهم
فالمسلمون عندهم منقولا عن نبيهم نقلا متواترا ثلاثة أمور لفظ القرآن ومعانيه التي أجمع المسلمون عليها والسنة المتواترة وهي الحكمة التي أنزلها الله عليه غير القرآن
كما قال تعالى

كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة
وقال تعالى
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة
وقال تعالى
واذكر نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة
وقال تعالى
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة
وبذلك دعا الخليل حيث قال لما بنى هو وإسماعيل الكعبة

بأرض فاران المذكورة في الكتاب الأول قال تعالى
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وغسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وبينا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آيتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويركيهم إنك انت العزيز الحكيم
وقال ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه

فالمسلمون عندهم نقل متواتر عن نبيهم بألفاظ القرآن ومعانيه المتفق عليها وبالسنة المتواترة عنه مثل كون الظهر والعصر والعشاء أربعا وكون المغرب ثلاث ركعات وكون الصبح ركعتين ومثل الجهر في العشائين والفجر والمخافتة في الظهر والعصر ومثل كون الركعة فيها سجدتين وكون الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة سبعا ورمي الجمرات كل واحدة سبع حصيات وأمثال ذلك
وأيضا فالمسلمون يحفظون القرآن في صدورهم حفظا يستغنون به عن المصاحف كما ثبت في الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي أنه قال إن ربي قال لي إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا
يقول ولو غسل بالماء من المصاحف لم يغسل من القلوب كالكتب التقدمة فإنه لو عدمت نسخها لم يوجد من ينقلها نقلا متواترا محفوظة في الصدور
والقرآن ما زال محفوظا في الصدور نقلا متواترا حتى لو أراد مريد أن يغير شيئا من المصاحف وعرض ذلك على صبيان المسلمين

لعرفوا أنه قد غير المصحف لحفظهم للقرآن من غير أن يقابلوه بمصحف وأنكروا ذلك
وأهل الكتاب يقدر الإنسان منهم أن يكتب نسخا كثيرا من التوراة والإنجيل ويغير بعضها ويعرضها على كثير من علمائهم ولا يعرفون ما غير منها إن لم يعرضوه على النسخ التي عندهم
ولهذا لما غير من نسخ التوراة راج ذلك على طوائف منهم ولم يعلموا التغيير
وأيضا فالمسلمون لهم الأسانيد المتصلة بنقل العدول الثقات لدقيق الدين كما نقل العامة جليله وليس هذا لأهل الكتاب
وأيضا فما ذكروه من أن كتبهم مكتوبة باثنين وسبعين لسانا هو أقرب إلى التغيير من الكتاب الواحد باللغة الواحدة فإن هذا مما يحفظه الخلق الكثير فلا يقدر أحد أن يغيره
وأما الكتب المكتوبة باثنين وسبعين لسانا فإذا قدر أن بعض النسخ الموجودة ببعض الألسنة غير بعض ما فيها لم يعلم ذلك سائر أهل الألسن الباقية بل ولم يعلم بذلك سائر أهل النسخ الأخرى فالتغيير فيها ممكن كما يمكن في نظائر ذلك
وما ادعوه من تعذر جمع جميع النسخ هو حجة عليهم فإن

ذلك إذا كان متعذرا لم يمكن الجزم باتفاق جميع النسخ لواحد حتى يشهد بأنها كلها متفقة لفظا ومعنى بل إمكان التغيير فيها أيسر من إمكان الشهادة باتفاقها
ولهذا لا يمكن أحدا تغيير القرآن مع كونه محفوظا في القلوب منقولا بالتواتر مع أنا لا نشهد لجميع المصاحف بالاتفاق بل قد يقع في بعض نسخ المصاحف ما هو غلط يعلمه حفاظ القرآن ولا يحتاجون إلى اعتبار ذلك بمصحف آخر
وتلك الكتب لا يحفظ كلا منها قوم من أهل التواتر حتى تعتبر النسخ بها ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام فيهم موجودين كانوا هم المرجع للناس فيما يعتمدون عليه إذا غير بعض الناس شيئا من الكتب فلما انقطعت النبوة فيهم أسرع فيهم التغيير
فلهذا بدل كثير من النصارى كثيرا من دين المسيح عليه السلام بعد رفعه بقليل من الزمان وصاروا يبدلون شيئا بعد شيء وتبقى فيهم طائفة متمسكة بدين الحق إلى أن بعث الله محمدا
وقد بقي من أولئك الذين على الدين الحق طائفة قليلة كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي عن النبي أنه قال

إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا قبيل مبعثه
وقد أدرك سلمان الفارسي وكان قد تنصر بعد أن كان مجوسيا طائفة ممن كانوا متبعين لدين المسيح عليه السلام واحدا بالموصل وآخر بنصيبين وآخر بعمورية
وكل منهم يخبره بأنه لم يبق على دين المسيح عليه

السلام إلا قليل إلى أن قال له آخرهم لم يبق عليه أحد وأخبره أنه يبعث نبي بدين إبراهيم من جهة الحجاز فكان ذلك سبب هجرة سلمان إليه وإيمانه به
فالدين الذي اجتمع عليه المسلمون اجتماعا ظاهرا معلوما هو منقول عن نبيهم نقلا متواترا نقلوا القرآن ونقلوا سنته وسنته مفسرة للقرآن مبينة له كما قال تعالى له
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم
فبين ما أنزل الله لفظه ومعناه فصار معاني القرآن التي اتفق عليها المسلمون اتفاقا ظاهرا مما توارثته الأمة عن نبيها كما توارثت عنه ألفاظ القرآن فلم يكن ولله الحمد فيما اتفقت عليه الأمة شيء محرف مبدل من المعاني فكيف بألفاظ تلك المعاني
فإن نقلها والاتفاق عليها أظهر منه في الألفاظ فكان الدين الظاهر للمسلمين الذي اتفقوا عليه مما نقلوه عن نبيهم لفظه ومعناه فلم يكن فيه تحريف ولا تبديل لا للفظ ولا للمعنى بخلاف التوراة والإنجيل فإن من ألفاظها ما بدل معانيه وأحكامه اليهود والنصارى أو مجموعهما تبديلا ظاهرا مشهورا في عامتهم كما

بدلت اليهود مافي الكتب المتقدمة من البشارة بالمسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم وما في التوراة من الشرائع وأمره في بعض الأخبار
وكما بدلت النصارى كثيرا مما في التوراة والنبوات من الأخبار ومن الشرائع التي لم يغيرها المسيح فإن ما نسخه الله على لسان المسيح من التوراة يجب اتباع المسيح فيه
وأما ما بدل بعد المسيح مثل استحلال احم الخنزير وغيره مما حرمه الله ولم يبحه المسيح ومثل إسقاط الختان ومثل الصلاة إلى المشرق وزيادة الصوم ونقله من زمان إلى زمان واتخاذ الصور في الكنائس وتعظيم الصليب واتباع الرهبانية فإن هذه كلها شرائع لم يشرعها نبي من الأنبياء لا المسيح ولا غيره خالفوا بها شرع الله الذي بعث به الأنبياء من غير أن يشرعها الله على لسان نبي
الوجه الثالث أن القرآن قد ثبت بالنقل المتواتر المعلوم بالضرورة للموافق والمخالف أن محمدا كان يقول إنه كلام الله لا كلامه وأنه مبلغ له عن الله وكان يفرق بين القرآن وبين ما يتكلم به من السنة وإن كان ذلك مما يجب اتباعه فيه تصديقا وعملا
فإن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلم أمته الكتاب

والحكمة كما قال تعالى
لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
وقال تعالى
واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به
وقال تعالى
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم
وقال تعالى
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة
وقال تعالى عن الخليل وابنه إسماعيل
سورة البقرة الآيتان 128 129

وقال النبي
ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه فكان يعلم أمته الكتاب وهو القرآن العزيز الذي أخبرهم أنه كلام الله لا كلامه وهو الذي قال عنه
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
وهو الذي شرع لأمته أن تقرأه في صلاتهم فلا تصح صلاة إلا به وعلمهم مع ذلك الحكمة التي أنزلها الله عليه وفرق بينها وبين القرآن من وجوه
منها أن القرآن معجز
ومنها أن القرآن هو الذي يقرأ في الصلاة دونها
ومنها أن ألفاظ القرآن العربية منزلة على ترتيب الآيات فليس لأحد أن يغيرها باللسان العربي باتفاق المسلمين ولكن يجوز تفسيرها باللسان العربي وترجمتها بغير العربي
وأما تلاوتها بالعربي بغير لفظها فلا يجوز باتفاق المسلمين بخلاف ما علمهم من الحكمة فإنه ليس حكم ألفاظها حكم ألفاظ القرآن

ومنها أن القرآن لا يمسه إلا طاهر ولا يقرأه الجنب كما دلت عليه سنته عند جماهير أمته بخلاف ما ليس بقرآن
والقرآن تلقته الأمة منه حفظا في حياته وحفظ القرآن جميعه في حياته غير واحد من أصحابه وما من الصحابة إلا من حفظ بعضه وكان يحفظ بعضهم ما لا يحفظه الآخر فهو جميعه منقول سماعا منه بالنقل المتواتر وهو يقول إنه مبلغ له عن الله وهو كلام الله لا كلامه
وفي القرآن ما يبين أنه كلام الله نصوص كثيرة وكان الذين رأوا محمدا ونقلوا ما عاينوه من معجزاته وأفعاله وشريعته وما سمعوه من القرآن وحديثه ألوفا مؤلفة أكثر من مائة ألف رأوه وآمنوا به
وأما الأناجيل الذي بأيدي النصارى فهي أربعة أناجيل إنجيل متى ويوحنا

ولوقا ومرقس وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح وإنما رآه متى ويوحنا وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل وقد يسمون كل واحد منهم إنجيلا إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح فلم يذكروا فيها أنها كلام الله ولا أن المسيح بلغها عن الله بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح وأشياء من أفعاله ومعجزاته
وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي من أقواله وأفعاله التي ليست قرآنا
فالأناجيل التي بأيديهم شبه كتاب السيرة وكتب الحديث أو مثل هذه الكتب وإن كان غالبها صحيحا
وما قاله عليه السلام فهو مبلغ له عن الله يجب فيه تصديق خبره وطاعة أمره كما قال الرسول من السنة فهو يشبه ما قاله الرسول من السنة فإن منها ما يذكر الرسول أنه قول الله كقوله
يقول الله تعالى من عادى لي وليا فقد آذنت بالحرب ونحو ذلك

ومنها ما يقوله هو ولكن هو أيضا مما أوحاه الله إليه فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله فهكذا ما ينقل في الإنجيل وهو من هذا النوع فإنه كان أمرا من المسيح فأمر المسيح أمر الله ومن أطاع المسيح فقد أطاع الله
وما أخبر به المسيح عن الغيب فالله أخبره به فإنه معصوم أن يكذب فيما يخبر به
وإذا كان الإنجيل يشبه السنة المنزلة فإنه يقع في بعض ألفاظها غلط كما يقع في كتب السيرة وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ثم هذه الكتب قد اشتهرت واستفاضت بين

المسلمين فلا يمكن أحدا بعد اشتهارها وكثرة النسخ بها أن يبدلها كلها
لكن في بعض ألفاظها غلط وقع فيها قبل أن تشتهر فإن المحدث وإن كان عدلا فقد يغلط لكن ما تلقاه المسلمون بالقبول والتصديق والعمل من الأخبار فهو مما يجزم جمهور المسلمين بصدقه عن نبيهم
هذا مذهب السلف وعامة الطوائف كجمهور الطوائف الأربعة وجمهور أهل الكلام من الكلابية والكرامية والأشعرية وغيرهم لكن ظن بعض أهل الكلام أنه لا يجزم بصدقها لكون الواحد قد يغلط أو يكذب وهذا الظن إنما يتوجه في الواحد الذي لم يعرف صدقه وضبطه

أما إذا عرف صدقه وضبطه إما بالمعجزات كالأنبياء وإما بتصديق النبي له فيما يقول وإما باتفاق الأمة المعصومة على صدقه واتفاقهم على العمل بخبره أو اتفاقهم على قبول خبره وإقراره وذكره من غير نكير أو ظهور دلائل وشواهد وقرائن احتفت بخبره ونحو ذلك من الدلائل على صدق المخبر فهذه يجب معها الحكم بصدقه وأنه لم يكذب ولم يغلط وإن كان خبره لو تجرد عن تلك الدلائل أمكن كذبه أو غلطه كما أن الخبر المجرد لا يجزم بكذبه إلا بدليل يدل على ذلك إما قيام دليل عقلي قاطع أو سمعي قاطع على أنه بخلاف مخبره فيجزم ببطلان خبره وحينئذ فالمخبر إما كاذبا أو غالطا وقد يعلم أحدهما بدليل
فالمسلمون عندهم من الأخبار عن نبيهم ما هو متواتر وما اتفقت الأمة المعصومة على تصديقه وما قامت دلائل صدقه من غير هذه الجهة مثل أن يخبر واحد أو اثنان أو ثلاثة بحضرة جمع كثير لا يجوز أن يتواطئوا على الكذب بخبر يقولون إن أولئك عاينوه وشاهدوه فيقرونهم على هذا ولا يكذب به منهم أحد فيعلم بالعادة المطردة أنه لو كان كاذبا لامتنع اتفاق أهل التواتر على السكوت عن تكذيبه كما يمتنع اتفاقهم على تعمد الكذب
وإذا نقل الواحد والاثنان ما توجب العادة اشتهاره وظهوره ولم يظهر ونقلوه مستخفين بنقله لم ينقلوه على رؤوس الجمهور علم أنهم كذبوا فيه

ودلائل صدق المخبر وكذبه كثيرة متنوعة ليس هذا موضع بسطها ولكن المقصود هنا أن المسلمين تواتر عندهم عن نبيهم ألفاظ القرآن ومعانيه المجمع عليها والسنة المتواترة وعندهم عن نبيهم أخبار كثيرة معلومة الصدق بطرق متنوعة كتصديق الأمة المعصومة ودلالة العادات وغير ذلك وهم يحفظون القرآن في صدورهم لا يحتاجون في حفظه إلى كتاب مسطور فلو عدمت المصاحف من الأرض لم يقدح ذلك فيما حفظوه
بخلاف أهل الكتاب فإنه لو عدمت نسخ الكتب لم يكن عندهم به نقل متواتر بألفاظها إذ لا يحفظها إن حفظها إلا قليل لا يوثق بحفظهم فلهذا كان أهل الكتاب بعد انقطاع النبوة عنهم يقع فيهم من تبديل الكتب إما تبديل بعض أحكامها ومعانيها وإما تبديل بعض ألفاظها ما لم يقوموا بتقويمه
ولهذا لا يوجد فيهم الإسناد الذي للمسلمين ولا لهم كلام في نقلة العلم وتعديلهم وجرحهم ومعرفة أحوال نقلة العلم ما للمسلمين ولا قام دليل سمعي ولا عقلي على أنهم لا يجتمعون على خطأ بل قد علم أنهم اجتمعوا على الخطأ لما كذبوا المسيح
ثم كذبوا محمدا فإذا كانت الكتب المنقولة عن الأنبياء من جنس الكتب المنقولة عن محمد ولم تكن متواترة عنهم ولم يكن تصديق غير المعصوم حجة لم يكن عندهم من

العلم بالتمييز بين الصدق والكذب ما عند المسلمين
فهذه الأناجيل التي بأيدي النصارى من هذا الجنس فيها شيء كثير من أقوال المسيح وأفعاله ومعجزاته وفيها ما هو غلط عليه بلا شك والذي كتبها في الأول إذا لم يكن ممن يتهم بتعمد الكذب فإن الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة لا يمتنع وقوع الغلط والنسيان منهم لا سيما ما سمعه الإنسان ورآه ثم حدث به بعد سنين كثيرة فإن الغلط في مثل هذا كثير ولم يكن هناك أمة معصومة يكون تلقيها لها بالقبول والتصديق موجبا للعلم بها لئلا تجتمع الأمة المعصومة على الخطأ والحواريون كلهم اثنا عشر رجلا
وقصة الصلب مما وقع فيها الاشتباه وقد قام الدليل على أن المصلوب لم يكن هو المسيح عليه السلام بل شبهه وهم ظنوا أنه المسيح والحواريون لم ير أحد منهم المسيح مصلوبا بل أخبرهم بصلبه بعض من شهد ذلك من اليهود
فبعض الناس يقولون إن أولئك تعمدوا الكذب وأكثر الناس يقول اشتبه عليهم ولهذا كان جمهور المسلمين يقولون في قوله ولكن شبه لهم عن أولئك ومن قال بالأول جعل الضمير في شبه

لهم عن السامعين لخبر أولئك فإذا جاز أن يغلطوا في هذا ولم يكونوا معصومين في نقله جاز أن يغلطوا في بعض ما ينقلونه عنه وليس هذا مما يقدح في رسالة المسيح ولا فيما تواتر نقله عنه بأنه رسول الله الذي يجب اتباعه سواء صلب أو لم يصلب وما تواتر عنه فإنه يجب الإيمان به سواء صلب أو لم يصلب
والحواريون مصدقون فيما ينقلونه عنه لا يتهمون بتعمد الكذب عليه لكن إذا غلط بعهضم في بعض ما ينقله لم يمنع ذلك أن يكون غيره معلوما لا سيما إذا كان الذي غلط فيه مما تبين غلطه فيه في مواضع أخر
وقد اختلف النصارى في عامة ما وقع فيه الغلط حتى في الصلب فمنهم من يقول المصلوب لم يكن المسيح بل الشبه كما يقوله المسلمون ومنهم من يقر بعبوديته لله وينكر الحلول والاتحاد كالأريوسية ومنهم من ينكر الاتحاد وإن أقر بالحلول كالنسطورية

وأما الشرائع التي هم عليها فعلماؤهم يعلمون أن أكثرها ليس عن المسيح عليه السلام فالمسيح لم يشرع لهم الصلاة إلى المشرق ولا الصيام الخمسين ولا جعله في زمن الربيع ولا عيد الميلاد والغطاس وعيد الصليب وغير ذلك من

أعيادهم بل أكثر ذلك مما ابتدعوه بعد الحواريين مثل عيد الصليب فإنه مما ابتدعته هيلانة الحرانية أم قسطنطين وفي زمن قسطنطين غيروا كثيرا من دين المسيح والعقائد والشرائع فابتدعوا الأمانة التي هي عقيدة إيمانهم وهي عقيدة لم ينطق بها شيء من كتب الأنبياء التي هي عندهم ولا هي منقولة عن أحد الأنبياء ولا عن أحد من الحواريين الذين صحبوا المسيح بل ابتدعها لهم طائفة من أكابرهم قالوا كانوا ثلاث مائة وثمانية عشر
واستندوا في ذلك إلى ألفاظ متشابهة في الكتب وفي الكتب ألفاظ محكمة تناقض ما ذكروه كما قد بسط في موضع آخر وكذلك عامة شرائعهم التي وضعوها في كتاب القانون بعضها منقول عن الأنبياء وبعضها منقول عن الحواريين وكثير منها مما ابتدعوه ليست منقولة عن أحد من الأنبياء ولا عن الحواريين وهم يجوزون لأكابر أهل العلم والدين أن يغيروا ما رأوه من الشرائع ويضعوا شرعا جديدا فلهذا كان أكثر شرعهم مبتدعا لم ينزل به كتاب ولا شرعه نبي

فصل
وأما قولهم كيف يمكن تغيير كتبنا التي هي مكتوبة باثنين وسبعين لسانا وفي كل لسان منها كذا وكذا ألف مصحف ومضى عليها إلى مجيء محمد أكثر من ستمائة سنة
فيقال أما بعد انتشارها هذا الانتشار فلم يقل المسلمون بل ولا طائفة معروفه منهم أن ألفاظ جميع كل نسخة في العالم غيرت لكن جمهور المسلمين الذين يقولون إن في ألفاظها ما غير إنما يدعون تغيير بعض ألفاظها قبل المبعث أو تغيير بعض النسخ بعد المبعث لا تغيير جميع النسخ فيعض الناس يقول إن ذلك التغيير وقع في أول الأمر ويقول بعضهم إن منها ما غير بعد مبعث محمد ولا يقولون إنه غير كل نسخة في العالم بل يقولون غير بعض النسخ دون البعض وظهر عند كثير من الناس النسخ المبدلة دون التي لم تبدل
والنسخ التي لم تبدل هي موجودة عند بعض الناس
ومعلوم أن هذا لا يمكن نفيه فإنه لا يمكن أحدا أن يعلم أن كل

نسخة في العالم بكل لسان مطابق لفظها سائر النسخ بسائر الألسنة إلا من أحاط علما بذلك وهم قد سلموا أن أحدا لا يمكنه ذلك
وأما من ذكر أن التغيير وقع في أول الأمر فهم يقولون إنما أخذت الأناجيل عن أربعة اثنان منهم لم يريا المسيح بل إنما رآه اثنان من نقلة الإنجيل متى ويوحنا
ومعلوم إمكان التغير في ذلك
وأما قولهم أنها مكتوبة باثنين وسبعين لسانا فمعلوم باتفاق النصارى أن المسيح لم يكن يتكلم إلا بالعبرية كسائر أنبياء بني إسرائيل وأنه كان مختونا ختن بعد السابع كما يختن بنو إسرائيل وأنه كان يصلي إلى قبلتهم لم يكن يصلي إلى الشرق ولا أمر بالصلاة إلى الشرق
ومن قال إن لسانه كان سريانيا كما يظنه بعض الناس فهو غالط فالكلام المنقول عنه في الأناجيل إنما تكلم به عبريا ثم ترجم من تلك اللغة إلى غيرها
والترجمة يقع فيها الغلط كثيرا كما وجدنا في زماننا من يترجم التوراة من العبرية إلى العربية ويظهر في الترجمة من الغلط ما يشهد به الحذاق الصادقون ممن يعرف اللغتين
والنصارى يقولون إنما كتبت بأربع لغات بالعبرية

والرومية واليونانية والسريانية
وأما قولهم إنها كتبت باثنين وسبعين لغة فهذا إن كان صحيحا فإنما كتبت بعد أن كتبت تلك الأربعة فإذا كان الغلط وقع في مواضع من تلك الأربعة لم يرفعه بعد ذلك كتابتها باثنين وسبعين لغة فإن المسلمين لا يقولون أنها كتبت باثنين وسبعين لغة غير لفظها في جميع الألسن لاثنين وسبعين لغة في كل نسخة من ذلك
وإنما يقال التغيير وقع قبل ذلك كما يقال في سائر ما ورد

عن المسيح وموسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه من الحديث مثل سيرة ابن إسحاق وأحاديث السنن والمساند المأثورة عن النبي فإن في ا لعالم بكل كتاب منها نسخ كثيرة لا يمكن أن يغير منها فصل طويل ولكن في نفس السيرة وقع غلط في مواضع وأحاديث وقعت في السنن هي غلط في الأصل فاشتهار النسخ بها بعد ذلك لا يمنع وقوع الغلط في الأصل وهذه كتب التفسير والفقه والدقائق ما من كتاب إلا وبه نسخ كثيرة في العالم لا يمكن تغيير فصل طويل منها وفيها أحاديث غلط في الأصل
والأناجيل التي بأيدي النصارى تشبه هذا ولهذا أمروا أن يحكموا بما فيها فإن فيها أحكام الله وعامة ما فيها من الأحكام لم يبدل لفظه وإنما بدلت بعض ألفاظ الخبريات وبعض معاني الأمريات كما نؤمر نحن أن نعمل بأحاديث الأحكام المعروفة عن النبي فإن العلماء اعتنوا بضبطها أكثر من اعتنائهم بضبط الخبريات كأحاديث الزهد والقصص والفضائل ونحو ذلك إذ حاجة الأمم إلى معرفة الأمر والنهي أكثر من حاجتهم إلى معرفة التفاصيل بالخبريات التي يكتفى بالإيمان المجمل بها
وأما الأمر والنهي فلا بد من معرفته على وجه التفصيل إذ العمل بالمأمور لا يكون إلا مفصلا والمحظور الذي يجب اجتنابه لا بد أن يميز بينه بين غيره كما قال تعالى

وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون
والنصارى لا يحتاجون عند أنفسهم إلى هذا فإنه لا يجب عندهم أن يتمسكوا بشرع منقول عن المسيح عليه السلام وعندهم لأكابرهم أن يشرعوا دينا لم يشرعه المسيح ويقولون ما شرعه هؤلاء فقد شرعه المسيح فلم يكن لهم عناية ولا معرفة بشرع المسيح كما للمسلمين عناية ومعرفة بشرع محمد

فصل
وأما التوراة فمن المعلوم عند المسلمين واليهود والنصارى أن بيت المقدس خرب الخراب الأول وجلا أهله منه وسبوا ولم يكن هناك من التوراة نسخ كثيرة ظاهرة بل إنما أخذت عن نفر قليل
كما يقولون إن عزيرا أملاها وأنهم وجدوا نسخة أخرى فقابلوها بها والمقابلة تحصل باثنين وقد يغلط أحدهما وهم يذكرون

أن من الملوك من أمر اثنين وسبعين حبرا منهم بنقلها واعتبر بعض تلك النسخ ببعض وهذا إذا كان صدقا لا يمنع أن يكون الغلط وقع في بعض ألفاظها قبل ذلك إلا أن يثبت أنها مأخوذة عن نبي معصوم أو أقر جميع ألفاظها نبي معصوم
فما قاله المعصوم فهو حق وما ثبت بالنقل المتواتر فهو حق
وهؤلاء القائلون إنه وقع التغيير في بعض ألفاظها في ذلك الزمان يقولون لم تؤخذ عن نبي معصوم ولا نقلت بالتواتر
ومن نازع من المسلمين وأهل الكتاب يقولون أخذت عن العزير وهو نبي معصوم وهذا مما يحتاج المثبت فيه والنافي إلى تحقيقه
وإذا قالت النصارى فالمسيح عليه السلام أقرها قيل المسيح عليه السلام لم يمكن أن يلزمهم بما أوجبه الله عليهم من الإيمان به وطاعته فكيف كان يمكنه أن يغير نسخ التوراة التي عندهم مع كثرتها وهم قد طلبوا قتله وصلبه لعجزه وضعفه وصلبوا شبيهه كما يقوله المسلمون أو صلبوه نفسه كما يقول النصارى فكيف كان يمكنه أن يصلح ما غير منها
وأما من بعد المسيح فليس معصوما والمسيح غير بعض

أحكامها وأقر أكثرها والأحكام إنما يدعي المسلمون فيها النسخ وتبديلها بالاعتقاد بخلاف موجبها والعمل بذلك لا يحتاجون إلى دعوى تبديل ألفاظها كما بدلوا شريعة الرجم بغيرها وهو مكتوب في التوراة
بخلاف الخبريات فإن هذه يقول أكثر المسلمين إن التغيير وقع في بعض ألفاظها
وأما النبوات المنقولة عن الاثنين وعشرين نبيا فهذه لا تعلم منها نبوة واحدة تواترت جميع ألفاظها بل أحسن أحوالها أن تكون بمنزلة الإنجيل وهو بمنزلة ما ينقل من أقوال الأنبياء وسيرهم كسيرة ابن إسحاق أو بعض كتب المساند والسنن التي ينقل فيها ما ينقله الناقلون من أقوال النبي وأفعاله وأكثره صدق وبعضه غلط
ولكن هذه الأمة حفظ الله لها ما أنزله كما قال تعالى

إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون
فما في تفسير القرآن أو نقل الحديث أو تفسيره من غلط فإن الله يقيم له من الأمة من يبينه ويذكر الدليل على غلط الغالط وكذب الكاذب فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ولا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة إذ كانوا آخر الأمم فلا نبي بعد نبيهم بعدهم ولا كتاب بعد كتابهم
وكانت الأمم قبلهم إذا بدلوا وغيروا بعث الله نبيا يبين لهم ويأمرهم وينهاهم ولم يكن بعد محمد نبي وقد ضمن الله أن يحفظ ما أنزله من الذكر وأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة بل أقام الله لهذه الأمة في كل عصر من يحفظ به دينه من أهل العلم والقرآن وينفي به تحريف الغالين وانتحال المضلين وتأويل الجاهلين

فصل
وأما من قال إنه غير بعض ألفاظها بعد مبعث محمد فهؤلاء يقولون إنه كان في التوراة والإنجيل وغيرهما ألفاظ صريحة بأمور
منها اسم محمد وأنه عمد بعض أهل الكتاب فغيروا بعض الألفاظ في النسخ التي كانت عندهم
لا يقولون إن هؤلاء غيروا كل نسخة كانت على وجه الأرض لكن غيروا بعض ألفاظ النسخ وكتب الناس من تلك النسخ المغيرة نسخا كثيرة انتشرت فصار أكثر ما يوجد عند كثير من أهل الكتاب هو من تلك النسخ المغيرة
وفي العالم نسخ أخرى لم تغير فذكر كثير من الناس أنه رآها وقرأها وفي تلك النسخ ما ليس في النسخ الأخرى ومما يدل على ذلك أنك في هذا الزمان إذا أخذت نسخ التوراة الموجودة عند اليهود والنصارى والسامرة وجدت بينهما اختلافا في مواضع متعددة
وكذلك نسخ الإنجيل وكذلك نسخ الزبور مختلفة اختلافا متباينا بحيث لا يعقل العاقل أن جميع نسخ التوراة الموجودة متفقة على لفظ

واحد ولا يعلم أن جميع نسخ الإنجيل متفقة على لفظ واحد ولا يعلم أن جميع نسخ الزبور متفقة على لفظ واحد فضلا عن سائر النبوات
ومعلوم أنه لا يمكن أهل الكتاب إقامة حجة على أن جميع النسخ بجميع اللغات في زوايا الأرض متفقة على لفظ واحد في جميع ما هو موجود من جميع النبوات والحجة التي احتجوا بها على تعذر تغييرها كلها تدل على تعذر العلم بتساويها كلها
فإذا قالوا فمن هو الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا ومن هو الذي حكم على الدنيا كلها ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على جميع من بأقطار الأرض وجمعها من أربع زوايا الأرض حتى يغيرها
قيل لهم ومن الذي يعلم اثنين وسبعين لغة ومن هو الذي حكم على الدنيا ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على جميع من بأقطار الأرض وجمعها من أربع زوايا الأرض وأحضر كل نسخة موجودة في جميع الأرض وقابل كل نسخة موجودة في الأرض بجميع النسخ فوجد جميع ألفاظ جميع النسخ التي باثنين وسبعين لسانا من جميع أقطار الأرض لفظا متفقا لم يختلف ألفاظها
فإن دعوى العلم بهذا ممتنع أعظم من امتناع دعوى تغييرها فإنه

إن أمكن أحدا أن يجمع جميع النسخ كانت قدرته على تغيير بعض ألفاظها كلها أيسر عليه من مقابلة كل ما في نسخة بجميع ما في سائر النسخ
فإنا إذا أحضرنا بكتاب من الكتب عشرة نسخ كان تغيير بعض ألفاظ العشرة أيسر علينا من مقابلة كل واحد من العشرة بالتسعة الباقية إذ المقابلة يحتاج فيها إلى معرفة جميع ألفاظ كل نسخة ومساواتها للأخرى
وأما التغيير فيكفي فيه أن يغير من كل نسخة ما يغيره من الأخرى فإن كان تغيير جميع النسخ ممتنعا في العادة فالعلم باتفاقها أشد امتناعا وإن كان العلم باتفاقها ممكنا فإمكان تغيير بعض ألفاظها أيسر وأيسر
وأما قولهم إن قيل إنه غير بعضها وترك بعضها فهذا لا يمكن أن يكون لأنها كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن
فيقال أما إمكان قول هذا فظاهر لا ينازع فيه عاقل وهو واقع فإنا قد رأينا التوراة التي عند السامرة تخالف توراة اليهود والنصارى حتى في العشر الكلمات
فذكر السامرة فيها من أمر استقبال الطور ما لا يوجد في نسخ اليهود والنصارى وكذلك بين نسخ اليهود والنصارى اختلاف

معروف ونسخ الإنجيل مختلفة ونسخ الزبور مختلفة اختلافا أكثر من ذلك وبكل حال فلا يقدر عاقل أن يقول يمتنع تغيير بعض النسخ
ولكن إذا قالوا لم يغير شيء منها لأن جميعها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن كانت هذه الدعوى باطلة من وجهين
أحدهما أن دعوى العلم بتساوي جميع النسخ أبلغ من دعوى إمكان تغييرها فإن كان التغيير ممتنعا على جميعها كان علم الواحد بما في جميعها وأنها متماثلة الألفاظ مع اختلاف الألسن أولى بالامتناع
الثاني أن هذا دعوى خلاف الواقع فإن الاختلاف في نسخ التوراة والإنجيل والزبور موجود قد رأيناه ونحن بأعيننا ورآه غيرنا فرأيت عدة نسخ بالزبور يخالف بعضها بعضا اختلافا كثيرا ورأينا بعض ألفاظ التوراة التي ينقلها هذه الطائفة وهي مكتوبة عندهم يدعون أنها هي التوراة الصحيحة المنقولة عندهم بالتواتر تخالف بعض ألفاظ توراة الطائفة الأخرى وكذلك الإنجيل
وبالجملة قولهم هذا لا يمكن أن يكون لأنها كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن تضمن شيئين
تضمن دعوى كاذبة وحجة باطلة فإن قولهم هذا لايمكن مكابرة ظاهرة فإن إمكان تغيير بعض النسخ مما لا ينازع عاقل في إمكانه لكن قد يقول القائل إذا غير بعض النسخ وأظهر ذلك شاع

ذلك فرأى سائر أهل النسخ تلك النسخة مغايرة لنسخهم فأنكروه فإن الهمم والدواعي متوفرة على إنكار ذلك كما يوجد اليوم مثل ذلك لو أراد رجل أن يغير كتابا مشهورا عند الناس به نسخ متعددة فإذا غيره فوصلت تلك النسخة إلى من يعرف ما في تلك النسخ أنكروا ذلك
فيقال هذا يمكن إذا كانت تلك النسخة المغيرة وصلت إلى طائفة يمتنع عليهم مواطأتهم على الكذب فإنه كما يمتنع في الأخبار المتواترة التواطؤ على الكذب فيمتنع التواطؤ على كتمان ما يتعذر كتمانه في العادة
ومعلوم أنه لا يمتنع على الجماعة القليلة التواطؤ على تغيير بعض النسخ والنسخ إنما هي موجودة عند علماء أهل الكتاب وليس عامتهم يحفظ ألفاظها كما يحفظ عوام المسلمين ألفاظ القرآن فإذا قصد طائفة منهم تغيير نسخة أو نسخ عندهم أمكن ذلك ثم إذا تواطأت طائفة أخرى على أن لا يذكروا ذلك أمكن ذلك ولكن إذا كانت الطوائف ممن لا يمكن تواطؤها على الكذب أو الكتمان امتنع ذلك فيهم
وقد رأينا عند أهل الكتاب كتبا يدعون أنها عندهم من النبي بخط علي بن أبي طالب فيها أمور تتعلق بأغراضهم وقد التبس أمرها على كثير من المسلمين وعظموا ما فيها وأعطوا أهل الكتاب ما كتب لهم فيها معتقدين أنهم ممتثلين ما فيها

فلما وصلت إلى من وصلت إليه من علماء المسلمين بينوا كذبها بطرق معلومة بالتواتر مثل ذكرهم فيها شهد بما فيها كعب بن مالك الحبر على النبي يعنون كعب الأحبار
وكعب الأحبار إنما أسلم على عهد عمر بن الخطاب لم يدرك النبي واسمه كعب بن ماتع ولكن في الأنصار كعب بن مالك الشاعر الذي أنزل الله توبته في سورة براءة فظن هؤلاء الجهال أن هذا هو ذاك
ومثل ذكرهم شهادة سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن ذكروا شهادته عام خيبر وقد اتفق أهل العلم أنه مات

عقب غزوة الخندق قبل غزوة خيبر بمدة وأمثال ذلك
وأما حجتهم الداحضة فقولهم أن جميع كتب النبوات التي في العالم من التوراة والإنجيل والزبور والنبوات موجودة باثنين وسبعين لسانا بلفظ واحد وقول واحد فهل يقول عاقل من العقلاء أنه علم ذلك وأنه علم أن كل نسخة من النبوات الأربعة وعشرين بأحد الألسنة الاثنين وسبعين موافقة لكل نسخة في سائر الألسنة ولو ادعى مدع أن كل نسخة من التوراة في العالم باللسان العربي أو كل نسخة من الإنجيل في العالم باللسان العربي أو كل نسخة في العالم من الزبور باللسان العربي موافقة لجميع النسخ العربية الموجودة في زوايا العالم لكان قد ادعى ما لا يعلمه ولا يمكنه علمه فمن أين له ذلك
وهل رأى كل نسخة عربية بهذه الكتب أو أخبره من يعلم صدقه أن جميع النسخ العربية الموجودة في العالم موافقة لهذه النسخة
وكذلك إذا ادعى ذلك في اللسان اليوناني والسرياني والرومي

والعبراني والهندي فإن كان في العالم بكل كتاب من هذه اثنان وسبعون لسانا فدعوى اتفاق نسخ كل لسان من جنس دعوى اتفاق النسخ العربية فكيف إذا ادعى اتفاق النسخ بجميع الألسنة
وهب أنه يمكن أن يقال ذلك في نسخ لسان نقلها أهله والناطقون به فكيف يمكن دعواه في لسان كثر الناطقون به وانتشر أهله
وليس هذا كدعوى اتفاق مصاحف المسلمين بالقرآن فإن القرآن لا يتوقف نقله على المصاحف بل القرآن محفوظ في قلوب ألوف مؤلفة من المسلمين لا يحصي عددهم إلا الله عز و جل فلو عدم كل مصحف في العالم لم يقدح ذلك في نقل لفظ من ألفاظ القرآن بخلاف الكتب المتقدمة فإنه قل أن نجد من أهل الكتاب أحدا يحفظ كتابا من هذه الكتب فقل أن يوجد من اليهود من يحفظ التوراة
وأما النصارى فلا يوجد فيهم من يحفظ التوراة والإنجيل والزبور والنبوات كلها فضلا عن أن يحفظها باثنين وسبعين لسانا وإن وجد ذلك فهو قليل لا يمتنع عليهم لا الكذب ولا الغلط
فتبين أن ما ذكروه من انتشار كتبهم بالألسنة المختلفة هو من أقوى الأمور في عدم العلم بتماثل ما فيها من الألفاظ وأن القرآن إذا كان منقولا بلغة واحدة وذلك اللسان يحفظه خلق كثير من المسلمين فكان ذلك مما يبين أن القرآن لا يمكن أحدا أن يغير شيئا من ألفاظه وإن

أمكن تغيير بعض ألفاظ التوراة والإنجيل عند كثير من أهل الكتاب
والمسلمون لا يدعون أنه غير جميع ألفاظ جميع النسخ بعد مبعث النبي كما ظنه بهم هؤلاء الجهال بل إنما ادعوا ما يسوغه العقل بل ويظهر دليل صدقه ولكن هؤلاء الجهال ادعوا العلم بأن جميع النسخ بجميع الألسنة بجميع الكتب بلفظ واحد فادعوا ما لا يمكن أحدا علمه وادعوا ما يعلم بطلانه

فصل
وقد ظهر الجواب عن قولهم فمن هو الذي تكلم باثنين وسبعين لسان أو من هو الذي حكم على الدنيا جميعها ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على الدنيا جميعها من أربع زوايا العالم حتى غيرها وإن كان مما أمكنه جمعها كلها أو بعضها
فهذا ما لا يمكن إذ جميعها قول واحد ونص واحد واعتقاد واحد ا ه
وقد ظهر الجواب عن ذلك من وجوه
أحدها أنا لم ندع تغييرها بعد صارت بهذه الألسن وانتشرت بها النسخ بل لا ندعي التغيير بعد انتشار النسخ فيما ليس من كتب الأنبياء مثل كتب النحو والطب والحساب والأحاديث والسنن المنقولة عن الأنبياء مما نقل في الأصل نقل آحاد ثم صارت النسخ به كثيرة منتشرة فإن أحدا لا يدعي أنه بعد انتشار النسخ بكتاب في مشارق الأرض ومغاربها حكم إنسان على جميع المعمورة وجمع النسخ

التي بها وغيرها
ولا ادعى أحد مثل ذلك في التوراة والإنجيل وإنما ادعى ذلك فيها لما كانت النسخ قليلة إما نسخة وإما اثنتين وإما أربع ونحو ذلك
أو ادعى تغيير بعض ألفاظ النسخ فإن بعض النسخ يمكن تغييرها
ونسخ التوراة والإنجيل والزبور موجودة اليوم وفي بعضها اختلاف لكنه اختلاف قليل والغالب عليها الاتفاق
وذلك يظهر بالوجه الثاني أن قولهم إن جميعها قول واحد ونص واحد واعتقاد واحد ليس كما قالوه بل نسخ التوراة مختلفة في مواضع
وبين توراة اليهود والنصارى والسامرة اختلاف وبين نسخ الزبور اختلاف أكثر من ذلك وكذلك بين الأناجيل فكيف بنسخ النبوات
وقد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوة محمد باسمه ورأيت نسخة أخرى بالزبور فلم أر

ذلك فيها وحينئذ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبي ما ليس في أخرى
الوجه الثالث أن التبديل في التفسير أمر لا ريب فيه وبه يحصل المقصود في هذا المقام فإنا نعلم قطعا أن ذكر محمد مكتوب فيما كان موجودا في زمنه من التوراة والإنجيل كما قال تعالى
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
ولا ريب أن نسخ التوراة والإنجيل على عهده كانت كثيرة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها فلا بد من أحد الأمرين
إما أن يكون غير اللفظ من بعض النسخ وانتشرت النسخ المغيرة
وإما أن يكون ذكره في جميع النسخ كما استخرجه كثير من العلماء ممن كان من أحبار اليهود والنصارى وممن لم يكن من أحبارهم استخرجوا ذكره والبشارة به في مواضع كثيرة متعددة من التوراة والإنجيل ونبوات الأنبياء كما هو مبسوط في موضع آخر
ومن قال إن ذكره موجود فيها أكثر من هذا وأصرح في بعض النسخ لا يمكن هؤلاء دفعه بأن يقولوا قد اطلعنا على كل نسخة في

العالم بالتوراة والإنجيل في مشارق الأرض ومغاربها فوجدناها على لفظ واحد فإن هذا لا يقوله إلا كذاب فإنه لا يمكن بشرا أن يطلع على كل نسخة في مشارق الأرض ومغاربها كما لا يمكنه أن يغير كل نسخة في مشارق الأرض ومغاربها فلو لم يعلم اختلاف النسخ لم يمكنه الجزم باتفاقها في اللفظ فكيف وقد ذكر الناس المطلعون عليها من اختلاف لفظها ما تبين به كذب من ادعى اتفاق لفظها وكيف يمكن اتفاق لفظها وهي بلغات مختلفة

فصل
قالوا ثم وجدنا في هذا الكتاب ما هو أعظم من هذا برهانا مثل قوله في سورة الشورى
وقل آمنت بما أنزل الله من كتب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير
وأما لغير أهل الكتاب فيقول
قل يا أيها الكافرون لآ أعبد ما تعبدون ولآ أنتم عابدون مآ أعبد السورة كلها
والجواب
أما قوله
وقل آمنت بما أنزل الله من كتب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم
فهذه الآية مذكورة بعد قوله تعالى
سورة الشورى الآيات 13 15

فقد أخبرنا أنه شرع لنا من الدين ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كما قال تعالى في الآية الأخرى
سورة الروم الآيات 30 32
وقال تعالى
سورة المؤمنون الآيات 51 53

ثم أخبر عن تفرق الذين أوتوا الكتاب كتفرق اليهود والنصارى وتفرق فرق اليهود وفرق النصارى كالنسطورية واليعقوبية والملكية
ثم قال
وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم أولئك المفترقين لفي شك منه مريب
وهكذا توجه عامة اليهود والنصارى في شك من ذلك مريب
وقال تعالى
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب
وقال تعالى
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان عزيزا حكيما

ثم قال تعالى
فلذلك فادع واستقم كما أمرت
إلى الدين الذي شرعه لنا
واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم
وهذا يتناول أهواء أهل الكتاب كما يتناول أهواء المشركين وقد صرح بذلك في قوله تعالى
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير
وقال تعالى
ولئن أتيت الذين اوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين
كما صرح بنهيه عن اتباع أهواء المشركين في قوله تعالى

قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواءهم الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون
وقوله تعالى
وقل آمنت بما أنزل الله من كتب
حق فإن الله أمره وجميع الخلق أن يؤمنوا بجميع ما أنزل الله وكذلك قوله
وأمرت لأعدل بينكم
فإن الله أمره أن يعدل بين جميع الخلق وقوله
الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم
هذه براءة منه لمن يخاطب بذلك من المشركين وأهل الكتاب كقوله تعالى
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون

ومثل قوله تعالى
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون
وكذلك قوله
قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين
فإن هذه الكلمة كقوله
لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون
وهي كلمة توجب براءته من عملهم وبراءتهم من عمله فإن حرف اللام في لغة العرب يدل على الاختصاص فقوله
لكم دينكم ولي دين
يدل على أنكم مختصون بدينكم لا أشرككم فيه وأنا مختص بديني لا تشركوني فيه كما قال
لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون

ولهذا قال النبي في قل يا أيها الكافرون
هي براءة من الشرك وليس في هذه الآية أنه رضي بدين المشركين ولا أهل الكتاب كما يظنه بعض الملحدين ولا أنه نهى عن جهادهم كما ظنه بعض الغالطين وجعلوها منسوخة بل فيها براءته من دينهم وبراءتهم من دينه وأنه لا تضره أعمالهم ولا يجزون بعمله ولا ينفعهم
وهذا أمر محكم لا يقبل النسخ ولم يرض الرسول بدين المشركين ولا أهل الكتاب طرفة عين قط ومن زعم أنه رضي بدين الكفار واحتج بقوله تعالى
قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين
فظن هذا الملحد أن قوله لكم دينكم ولي دين معناه

أنه رضي بدين الكفار ثم قال هذه الآية منسوخة فيكون قد رضي بدين الكفار وهذا من أبين الكذب والافتراء على محمد فإنه لم يرض قط إلا بدين الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه ما رضي قط بدين الكفار لا من المشركين ولا من أهل الكتاب
وقوله لكم دينكم ولي دين لا يدل على رضاه بدينهم بل ولا على إقرارهم عليه بل يدل على براءته من دينهم ولهذا قال النبي إن هذه السورة براءة من الشرك
ونظير هذه الآية قوله تعالى
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون
وكذلك قوله تعالى
فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم
وقد يظن بعض الناس أيضا أن قوله لكم دينكم ولي دين الآية أني لا آمر بالقتال ولا أنهي عنه ولا أتعرض له بنفي

ولا إثبات وإنما فيها أن دينكم لكم أنتم مختصون به وأنا بريء منه وديني لي وأنا مختص به وأنتم برآء منه
وهذا أمر محكم لا يمكن نسخه بحال كما قال تعالى عن الخليل
وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين
وقد قال تعالى
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه
وهو ما طار عنه من خير وشر وقد قال تعالى
ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى
وقال تعالى
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت

وقال تعالى
إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها
بل قال تعالى لنبيه
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون
فإذا كان قد برأه الله من معصية من عصاه من أتباعه المؤمنين فكيف لا يبرئه من كفر الكافرين الذين هم أشد له معصية ومخالفة

فصل
وأما قوله تعالى
قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين
فهو أمر بالقول لجميع الكافرين من المشركين وأهل الكتاب فإن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بما أنزل إليه من ربه كافرون قد شهد عليهم بالكفر وأمرهم بجهادهم وكفر من لم يجعلهم كافرين ويوجب جهادهم قال تعالى
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة
وقال تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم
وقال تعالى

لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
وقال تعالى
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
وحرف من في هذه المواضع لبيان الجنس فتبين جنس المتقدم وإن كان ما قبلها يدخل في جميع الجنس الذي بعدها بخلاف ما إذا كان للتبعيض كقوله
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب
فإنه يدخل في الذين كفروا بعد مبعث النبي جميع المشركين وأهل الكتاب
وكذلك دخل في الذين لا يؤمنون بالله والا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق جميع أهل الكتاب الذين بلغتهم دعوته ولم يؤمنوا به وكذلك قوله

وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات
وإن كان جميعهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهذا إذا كان الجنس يتناول المذكورين وغيرهم ولكن لم يبق في الجنس إلا المذكورون كما يقول هنا رجل من بني عبد المطلب وإن لم يكن بقي منهم غيره
ووصفهم بالشرك وبأنهم يعبدون غير الله كما قال تعالى
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
فأخبر أنهم اتخذوا من دون الله أربابا واتخذوا المسيح ربا وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا وهؤلاء باتخاذهم غيره أربابا عبدوهم فأشركوا بالله سبحانه وتعالى عما يشركون
وقال تعالى
ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس

كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون
فقد أخبر أيضا أنه من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فإنه كافر
وقال تعالى
سورة المائدة الآيات 73 76
فقد وبخ أهل التثليث على أنهم يعبدون ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم فدخلوا في قوله

قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد
كما دخل في ذلك غيرهم من الكفار لا سيما وقد دخل في ذلك اليهود وهم أولى بالدخول من غيرهم فإن قوله ما تعبدون يتناول صفات المعبود والإله الذي يعبده المؤمنون هو الإله الذي أنزل التوراة والإنجيل والقرآن وأرسل موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه
والإله المتصف بهذه الصفات لا يعبده اليهود والنصارى وهذا كقوله
قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون
فهذا الإله الذي يعبده محمد وأمته وليس هو إله المشركين الذي يعبدونه وإن كان هو المستحق لأن يعبدوه فإنهم يشركون بعبادته ويصفونه بما هو بريء منه فلا يخلصون له الدين فيعبدوا معه آلهة أخرى إن لم يستكبروا عن عبادته وإله العبد الذي يعبده بالفعل ليس حاله معه كحاله مع الذي يستحق أن يعبده وهو لا يعبده بل يشرك به أو يستكبر عن عبادته فهذا هو الذي قال فيه لا أعبد ما تعبدون
والشرك غالب على النصارى والكبر غالب على اليهود

فصل
وأما قوله لا حجة بيننا وبينكم
الآية فهذا ليس خطابا للنصارى خصوصا بل هو خطاب للجميع وهؤلاء النصارى ظنوا أن معنى هذا لا تحاجوا أهل الكتاب كما ظنوا في قوله تعالى
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم
أن معناه لا تجادلوا أهل الكتاب أي النصارى إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا أي اليهود ا ه
وهذا تحريف كلم الله عن مواضعه وهو شبيه بتحريفهم لما عندهم من التوراة والإنجيل والزبور وسائر النبوات فإنهم أعظم تسلطا على تحريف معانيها منهم على تحريف معاني

القرآن إذ كان القرآن له امة تحغظه وتعرف معانيه وتذب عنه من يحرف لفظه أو معناه
وأما تلك الكتب فليس لها من يذب عن لفظها ومعناها فلهذا عظم تحريفهم لها وكان أعظم من تحريفهم للقرآن
ومما يبين أن هذا الخطاب ليس مختصا بالنصارى أن هذه السورة مكية والسور المكية كانت تتناول من لا يقرأ الكتاب لا تختص بأهل الكتاب بل كانت تعم الأمم أو تختص بالمشركين
والسور المدنية خطابها تارة لأهل الكتاب وتارة تختص بالمؤمنين وتارة تعم وقد قال تعالى
كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب
وقال تعالى
وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب

فالخطاب إما أن يعم المشركين وأهل الكتاب أو يخص المشركين وأهل الكتاب اليهود والنصارى وبكل تقدير فلا وجه لتخصيص النصارى به
وأما قوله تعالى
لا حجة بيننا وبينكم
فهو نظير قوله تعالى
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون
وقوله
فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ
فالحجة اسم لما يحتج به من حق وباطل كقوله
لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم
فإن الظالمين يحتجون عليكم بحجة باطلة كقول المشركين لما حولت القبلة إلى الكعبة قد عاد إلى قبلتكم فسوف يعود إلى ملتكم

فهذه حجة داحضة من الظالمين
ومما يبين ذلك بعد قوله بعد ذلك
والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد
فسماها حجة وجعلها داحضة وهؤلاء الذين يحاجون في الله من بعد ما أستجيب له هم الكفار من المشركين وأهل الكتاب
فهم يحاجون المؤمنين ليردوهم عن دينهم وقال عن النصارى
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين
فكان الكفار يحاجون المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم كما يؤذونهم فهؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد
ومحاجتهم للمؤمنين من باب الظلم لهم والعدوان عليهم وقول الباطل فأمره تعالى أن يقول لا حجة بيننا وبينكم
أي ليس لكم أن تظلمونا وتعتدوا علينا بحجتكم الداحضة

وليس المراد بذلك أنا نحن لا نحاجكم وندعوكم إلى الحق بالحجج الصحيحة
فإنه تعالى قال
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن
فأمره تعالى أن يجادل أهل دعوته مطلقا من المشركين وأهل الكتاب بالتي هي أحسن
وقد قال تعالى
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم
فإن الظالم باغ مستحق للعقوبة فيجوز أن يقابل بما يستحقه من العقوبة لا يجب الاقتصار معه على التي هي أحسن بخلاف من لم يظلم فإنه لا يجادل إلا بالتي هي أحسن
وأهل الكتاب اسم يتناول اليهود والنصارى كما في نظائره في القرآن كقوله تعالى
وطعام الذين أوتوا الكتاب الآية وقوله

لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين
وأمثال ذلك
والظالم يكون ظالما بترك ما تبين له من الحق واتباع ما تبين له أنه باطل والكلام بلا علم فإذا ظهر له الحق فعند عنه كان ظالما
وذلك مثل الألد في الخصام قال تعالى
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام
وقال
يجادلونك في الحق بعد ما تبين
وقال
ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم

فصل
وقولهم إنه لم يقل كونوا له مسلمين ولكن ونحن أي عنه وعن العرب التابعين له ولما أتى به وجاء في كتابه
فيقال لهم هذا ونظائره كلام من لم يفهم القرآن بل ولا يفهم كلام سائر الناس فإنه إذا عرف من صاحب كتاب يقول إنه منزل من الله أو يقول أنه صنفه هو أنه يدعو قوما بالأقوال الصريحة الكثيرة والأعمال البينة الظاهرة كان سكوته عن دعائهم في بعض الألفاظ لا ينافي دعاءهم له
لكن إن كان حكيما في كلامه كان للسكوت عن دعائهم في بعض المواضع حكمة تناسب ذلك وهذا كقوله تعالى
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون

أفتراه لما أمر أمته أن يقولوا ونحن له مخلصون لم يكن أهل الكتاب مأمورين بالإخلاص لله وقد ذكر أمر أهل الكتاب بالإخلاص في غير موضع كقوله تعالى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة
وكذلك دعاهم إلى الإسلام وتوعدهم على التولي عنه في مثل
سورة آل عمران الآيات 18 20
وقال تعالى
سورة البقرة الآيات 130 133

فقد بين سبحانه أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه أي سفه نفسا أي كانت نفسه سفيهة جاهلة هذا أصح القولين في ذلك وهو مذهب الكوفيين من النحاة يجوزون أن يكون المنصوب على التمييز معرفة كما يكون نكرة ثم أخبر عنه أنه
إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين
وذكر أن إبراهيم وصى بها بنيه ويعقوب وصى بها بنيه أيضا كلاهما قال لبنيه
يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون
ثم ذكر أن يعقوب عند موته
قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون
فهؤلاء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب كلهم على

الإسلام وهم يأمرون بالإسلام ثم قال بعد ذلك
وقالوا كونوا هودا او نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
ثم قال
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
ثم قال
فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
فقد أخبر أنهم إن تولوا عن الإيمان بمثل ما آمنتم به المتضمن قولكم ونحن له مسلمون فإنما هم في شقاق أي مشاقون لله ورسوله كما قال تعالى
سورة الحشر الآية 2

إلى قوله
ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب
وقوله تعالى ونحن له مسلمون في العنكبوت فهو مثل قوله ونحن له مسلمون في البقرة مع دعائهم إلى الإسلام وكذلك في سورة آل عمران في قوله
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
فقد دعاهم أولا إلى الإسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله كما قال تعالى
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
ثم قال تعالى

فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
وهذه الآية هي التي كتب بها النبي إلى قيصر ملك الروم لما دعاه إلى الإسلام
وقال في كتابه
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم أسلم يؤتك أجرك مرتين وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و
يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون

فدعاه النبي إلى الإسلام في كتابه الذي أرسله إليه وقال أيضا في آل عمران
سورة آل عمران من الآيتان 79 80
فذكر التوحيد في هذه الآية وكفر من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فكيف بمن اتخذ الأحبار والرهبان أربابا ثم ذكر الإيمان بخاتم الرسل فقال
سورة آل عمران الآيات 81 85

فقد ذكر أنه أخذ الميثاق على النبيين وأممهم مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه
وهذا يتناول الأمر لكل أهل الكتاب إذا جاءهم رسول ثاني أن يؤمنوا به وينصرونه وإن كان عندهم من الكتاب والحكمة ما كان ولا يقولون نحن مستغنون بما عندنا من الكتاب والحكمة لا نؤمن بالرسول الذي جاءنا
ونخص الإيمان بمحمد فإنه خاتم الرسل وهو آخر رسول جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب فوجب على من جاءه أن يؤمن به وينصره وإن كان عنده من الكتاب والحكمة ما كان
وهذا الميثاق أخذه الله على الأنبياء وأخذوه على أممهم ثم قال أفغير دين الله يبغون
وهذا هو دين الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه فمن ابتغى غيره فقد ابتغى دين الله وهو دين الإسلام الذي قال فيه
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين

فصل
وأما قوله تعالى
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون
فهو أمر للمؤمنين أن يقولوا الحق الذي أوجبه الله عليهم وعلى جميع الخلق ليرضوا به الله وتقوم به الحجة على المخالفين فإن هذا من الجدال بالتي هي أحسن وهو إن تقول كلاما حقا يلزمك ويلزم المنازع لك أن يقوله فإن وافقك وإلا ظهر عناده وظلمه
كما قال تعالى في الآية الأخرى
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون
فإنا مشتركون في أنه ربنا كلنا وأن عمل كل عامل له لا لغيره

وامتزنا نحن بأنا مخلصون له وأنتم لستم مخلصين له فأوجب هذا أن الحق معنا دونكم وأن أعمالنا صالحة مقبولة وأعمالكم مردودة
ويشبه ذلك قوله تعالى
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
فأمره لهم أن يقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يتضمن إقامة الحجة عليهم كما كان المسيح عليه السلام يقول

فصل
ثم قال فأما الذين ظلموا فما يشك أحد في أنهم اليهود الذين سجدوا لرأس العجل وكفروا بالله مرارا كثيرة ليست واحدة وقتلوا أنبياءه ورسله وعبدوا الأصنام وذبحوا للشياطين ليس حيوانات غير ناطقة فقط بل بنيهم وبناتهم حسب ما شهد الله عليهم قائلا على لسان داود النبي عليه السلام في كتاب الزبور في مزمور مائة وخمسة يقول ذبحوا بنيهم وبناتهم للشياطين وأراقوا دما زكيا دم بنيهم وبناتهم الذين ذبحوا للمنحوتات بكنعان وقد تنجست الأرض بالدماء وتنجست أعمالهم وزنوا بضعائنهم وسخط الرب عليهم ورذل ميراثهم
وقال أيضا على لسان أشعيا النبي عليه السلام يقول الله في بني إسرائيل لم يسمعوا وصاياي لم يحفظوا كل ما أوصيتهم به

بل غيروا ونقضوا الميثاق الذي كنت جعلته لهم إلى الأبد فلذلك أجلستهم عليهم الحزن وأهلكتهم وانقطع ممن يبقى منهم الفرح والسرور
هكذا قال الله على سكان بيت المقدس من بني إسرائيل سأبددهم بين الأمم وفي تلك الأيام يرفعون الأمم أصواتهم ويسبحون الله ويمجدونه بأصوات عالية ويجتمعون من أقطار الأرض ومن جزائر البحر ومن البلدان البعيدة ويقدسون اسم الله ويرجعون إلى الله إله إسرائيل ويكونون شعبة وأما بنو إسرائيل فيكونون مبددين في الأرض
وقال أشعيا النبي عليه السلام يقول الله يا بني إسرائيل نجستم جبلي المقدس فإني سأفنيكم بالحرب وتموتون وذلك لأني

دعوتكم فلم تجيبوا وكلمتكم فلم تسمعوا وعملتم الشيء بين يدي
وقال أشعيا أيضا إن الله قد بغض بني إسرائيل وأخرجهم من بيوتهم ومن بيته ولا يغفر لهم لأنهم لعنة وجعلوا لعنة الناس فلذلك أهلكهم الله وبددهم بين الأمم ولا يعود يرحمهم ولا ينظر إليهم برحمة إلى أبد الآبدين ولا يقربوا لله قربانا ولا ذبيحة في ذلك اليوم وذلك الزمان ولا يفرح بنو إسرائيل لأنهم قد ضلوا عن الله عز و جل
وقال أرميا النبي عليه السلام كما أن الحبشي لا يستطيع أن يكون أبيضا فكذلك بنو إسرائيل لا يتركون عادتهم الخبيثة ولذلك إني لا أرحم ولا أشفق ولا أرق على الأمة الخبيثة ولا أرثي لها

وقال حزقيل النبي عليه السلام قال الله إنما رفعت يدي عن بني إسرائيل وبددتهم بين الأمم لأنهم لم يعملوا بوصاياي ولم يطيعوا أمري وخالفوني فيها فيما قلت لهم ولم يسمعوا لي
ومثل هذا القول في التوراة وكتب الأنبياء وزبور داود شيء كثير يقرونها اليهود في كنائسهم ويقرأونها ولا ينكرون منها حرفا واحدا ومثل ما هو عندهم وكذلك عندنا في جميع الألسن ا ه
والجواب أن يقال أما كون اليهود ظالمين كافرين معتدين مستحقين لعذاب الله وعقابه فهذا معلوم بالاضطرار من دين محمد منقول بالتواتر كما علم بالاضطرار والنقل المتواتر عنه أن النصارى أيضا ظالمون معتدون كافرون مستحقون لعذاب الله وعقابه وفي اليهود من الكفر ما ليس في النصارى وفي النصارى ما ليس في اليهود فإن اليهود بدلوا شريعة التوراة قبل أن يأتيهم المسيح ابن مريم فلما أتاهم كفروا به

وكذبوه فلما بعث محمد كذبوه فباءوا بغضب على غضب
كما قال تعالى عنهم
سورة البقرة الآيات 85 93

فغضب عليهم أولا بتكذيب المسيح وثانيا بتكذيب محمد
وقال تعالى
ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون
وقال تعالى
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون
وقال تعالى
قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت
فتبين أن اليهود لعنهم الله وأنهم عبدوا الطاغوت وأنه جعل منهم القردة والخنازير ومثل هذا في القرآن كثير لكن قول القائل أنهم

المرادون بقوله تعالى
إلا الذين ظلموا منهم
في قوله
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم
غلط بين ولهذا كان باطلا باتفاق المسلمين
فإن قوله تعالى
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن
نهى عن مجادلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلا بالتي هي أحسن
وقوله
إلا الذين ظلموا
من الطائفتين جميعا
ولهذا كان الواجب على المسلمين إذا جادلهم اليهودي والنصراني أن يجادلوه بالتي هي أحسن إلا من ظلم من الطائفتين فإنه يعاقب باللسان تارة وباليد أخرى كما أمر الله ورسوله بجهاد الظالمين من هؤلاء فجاهد النبي اليهود الذين كانوا

بالمدينة النبوية وحولها وقريبا منها كما جاهد بني قينقاع والنضير وقريظة وأهل خيبر وأهل وادي القرى وغيرهم

وكما جاهد النصارى عام تبوك غزاهم بالشام عربهم ورومهم وأغزاهم قبل ذلك نوابه زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وأمرهم بغزوهم فغزاهم بعده خلفاؤه الراشدون
والنبي لما قدم وفد نجران النصارى جادلهم في مسجده بالتي هي أحسن ثم أمره الله سبحانه أن يدعوهم إلى المباهلة فامتنعوا عن مباهلته وأقروا بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون كما تقدم ذلك مفصلا فجادل بعضهم بالتي هي أحسن والظالم منهم عاقبه وجاهده كما عاقب الظالم من اليهود
ومن أعجب الأشياء قولهم وأما الذين ظلموا فلا يشك أحد أنهم اليهود فإن هذا من جنس قولهم ثم وجدنا في الكتاب ما هو أعظم من هذا برهانا

وهو قوله في سورة الشورى
وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم كما تقدم
وهي من جنس قولهم في قوله
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون
أنه عني بالكتاب الإنجيل والذين يؤمنون بالغيب النصارى والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المسلمون وزعمهم أن قولهم هذا بين ظاهر
وتفاسير النصارى للكتب الإلهية فيها من التحريف لكتاب الله والإلحاد في أسماء الله وآياته ما يطول وصفه ولا ينقضي التعجب منه لكن إقدامهم على تفسير القرآن بالإلحاد والتحريف أعجب وأعجب كقولهم إن محمدا ذكر أنه لم يرسل إليهم وأنه أثنى على الدين الذي هم عليه بعد النسخ والتبديل بعد مبعثه وأن

قوله صراط الذين أنعمت عليهم أراد به النصارى
وقوله لقد أرسلنا رسلنا أراد به الحواريين
وقوله وأنزلنا معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس
أراد به الإنجيل فإن في هذا من الكذب الظاهر والافتراء على محمد بأنه أراد هذه الأمور ما هو من جنس افترائهم على الأنبياء فإنهم أخبروا أن المسيح هو خالق السماوات والأرض وأن التوراة والزبور وغيرهما من الكتب أخبرت بذلك ثم يأتون إلى ما يعلم كل عاقل أن محمدا لم يرده فيقولون إنه لا يشك فيه أحد وأنه قول ظاهر بين وكل من عرف حال محمد وما جاء به من القرآن والدين يعلم علما يقينيا ضروريا أن محمدا لم يكن يجعل النصارى مؤمنين دون اليهود بل كان يكفر الطائفتين ويأمر بجهادهم ويكفر من لم ير جهادهم واجبا عليه
وهذا مما اتفق عليه المسلمون وهو منقول عندهم عن نبيهم نقلا متواترا بل هذا يعلمه من حاله الموافق والمخالف إلا من هو مفرط في الجهل بحاله أو من هو معاند عنادا ظاهرا

فصل
وأما ما نقلوه عن الأنبياء مما يدل على كفر اليهود فهذا لا ننازعهم فيه ولا حاجة بنا إلى الاستدلال بما نقلوه وإن كان فيما يثبت عن الأنبياء ما يبين كفرهم لما بدلوا دين موسى عليه السلام كما كفر النصارى لما بدلوا دين المسيح فهذا حق موافق لما أخبر به خاتم الرسل فإنا قد علمنا كفرهم من جهة لا نشك في صدقها
وما أخبرونا به عن الأنبياء إن علمنا صدقهم فيه صدقناهم فيه وإن علمنا كذبهم فيه كذبناهم فيه وإن لم نعلم صدقه ولا كذبه لم نصدقه ولم نكذبه بل نقول
آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون
فإن الإيمان بجميع ما أوتي النبيون حق واجب لكن وجوب التصديق في النبي المعين الذي لم نعلمه من غيرهم يقف على مقدمتين
1 - أن يكون اللفظ قد قاله النبي

2 - وأن يكون المعنى الذي فسروه به مرادا للنبي الذي تكلم بذلك القول فلا بد من ثبوت الإسناد ودلالة المتن
وهاتان المقدمتان لا بد منهما في جميع المنقول عن الأنبياء
وقد يحتاج إلى مقدمة ثالثة في حق من لم يعرف اللغة العبرية فإن موسى وداود والمسيح وغيرهم إنما تكلموا باللغة العبرية فمن لم يعرف بها وإنما يعرف بالعربية أو الرومية لا بد أن يعرف أن المترجم من تلك اللغة إلى هذه قد ترجم ترجمة مطابقة

فصل
وأما قولهم وأما نحن النصارى فلم نعمل شيئا مما عملته اليهود فيقال لهم الكفر والفسوق والعصيان لم ينحصر في ذنوب اليهود فإن لم تعملوا مثل أعمالهم فلكم من الأقوال والأعمال ما بعضه أعظم من كفر اليهود وإن كنتم أنتم ألين من اليهود وأقرب مودة فأنتم أيضا أجهل وأضل من اليهود
قال تعالى
سورة مريم الآيات 88 95
وقال تعالى
سورة الكهف الآيات 1 5

وقال تعالى
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
وقال تعالى
سورة التوبة الآيتان 30 31
وقال تعالى
سورة التوبة الآيات 32 34

وقال تعالى
سورة المائدة الآية 14
وقال تعالى لما قص قصة المسيح عليه السلام
سورة مريم الآيات 34 38
وقال تعالى
قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

فصل
ومن تدبر حال اليهود والنصارى مع المسلمين وجد اليهود والنصارى متقابلين هؤلاء في طرف ضلال وهؤلاء في طرف يقابله والمسلمون هم الوسط
وذلك في التوحيد والأنبياء والشرائع والحلال والحرام والأخلاق وغير ذلك
فاليهود يشبهون الخالق بالمخلوق في صفات النقص المختصة بالمخلوق التي يجب تنزيه الرب سبحانه عنها كقول من قال منهم إنه فقير وإنه بخيل وإنه تعب لما خلق السماوات والأرض والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال المختصة بالخالق التي ليس له فيها مثل كقولهم إن المسيح هو الله وابن الله
وكل من القولين يستلزم الآخر
والنصارى أيضا يصفون اللاهوت بصفات النقص التي يجب تنزيه الرب عنها ويسبون الله سبا ما سبه إياه أحد من البشر كما كان معاذ بن جبل يقول لا ترحموهم فإنهم قد سبوا الله سبة ما سبه

إياها أحد من البشر
واليهود تزعم أن الله يمتنع منه أن ينسخ ما شرعه كما يمتنع ما لا يدخل في القدرة أو ينافي العلم والحكمة
والنصارى يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله الذي بعث به رسله فيحللوا ما حرم كما حللوا الخنزير وغيره من الخبائث بل لم يحرموا شيئا ويحرمون ما حلل كما يحرمون في رهبانيتهم التي ابتدعوها وحرموا فيها من الطيبات ما أحله الله ويسقطون ما أوجب كما أسقطوا الختان وغيره وأسقطوا أنواع الطهارة من الغسل وإزالة النجاسة وغير ذلك
ويوجبون ما أسقط كما أوجبوا من القوانين ما لم يوجبه الله وأنبياؤه
والمسلمون وصفوا الرب بما يستحقه من صفات الكمال ونزهوه عن النقص وأن يكون له مثل فوصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل مع

علمهم أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
وقالوا ألا له الخلق والأمر فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره بل الدين كله له هو المعبود المطاع الذي لا يستحق العبادة إلا هو ولا طاعة لأحد إلا طاعته وهو ينسخ ما ينسخه من شرعه وليس لغيره أن ينسخ شرعه
واليهود بالغوا في اجتناب النجاسات وتحريم الطيبات والنصارى استحلوا الخبائث وملابسة النجاسات والمسلمون أحل الله لهم الطيبات خلافا لليهود وحرم عليهم الخبائث خلافا للنصارى
واليهود يبالغون في طهارة أبدانهم مع خبث قلوبهم والنصارى يدعون أنهم يطهرون قلوبهم مع نجاسة أبدانهم والمسلمون يطهرون أبدانهم وقلوبهم جميعا
والنصارى لهم عبادات وأخلاق بلا علم ومعرفة ولا ذكاء واليهود لهم ذكاء وعلم ومعرفة بلا عبادات ولا أخلاق حسنة
والمسلمون جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح بين الزكا والذكاء فإن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق فالهدى

يتضمن العلم النافع ودين الحق يتضمن العمل الصالح ليظهره على الدين كله والظهور يكون بالعلم واللسان ليبين أنه حق وهدى ويكون باليد والسلاح ليكون منصورا مؤيدا والله أظهره هذا الظهور فهم أهل الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا غير المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق ولا يعملون به كاليهود ولا الضالين الذين يعملون ويعبدون ويزهدون بلا علم كالنصارى
واليهود قتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط من الناس والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم
والمسلمون اعتدلوا فآمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله ولم يفرقوا بين أحد من رسله وآمنوا بجميع النبيين وبكل كتاب أنزله الله فلم يكذبوا الأنبياء ولا سبوهم ولا غلوا فيهم ولا عبدوهم وكذلك أهل العلم والدين لا يبخسونهم حقهم ولا غلوا فيهم
واليهود يغضبون لأنفسهم وينتقمون والنصارى لا يغضبون لربهم ولا ينتقمون
والمسلمون المعتدلون المتبعون لنبيهم يغضبون لربهم ويعفون عن حظوظهم كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها

قالت ما ضرب رسول الله بيده خادما له ولا امرأة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال خدمت رسول الله عشر سنين فما قال لي أف قط وما قال لي لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله لم لم تفعله وكان بعض أهله إذا عاتبني على شيء يقول
دعوه فلو قضي شيء لكان

هذا في حق نفسه وأما في حدود الله ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها
أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا من يكلم فيها رسول الله فقالوا من يجترىء عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله فكلمه فيها أسامة فقال
يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدود والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها
ولقد وصف الله أمة محمد بأنهم أنفع الأمم للخلق فقال
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن

المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون
ففي أمة محمد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد ما لم يوجد مثله في الأمتين

فصل
ثم قالوا وكذلك جاء في هذا الكتاب يقول
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون
فذكر القسيسين والرهبان لئلا يقال إن هذا قيل عن غيرنا ودل بهذا على أفعالنا وحسن نياتنا ونفى عنا اسم الشرك بقوله اليهود والذين أشركوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا والذين قالوا إنا نصارى أقربهم مودة
والجواب أن يقال تمام الكلام
سورة المائدة الآيات 83 85
فهو سبحانه لم يعد بالثواب في الآخرة إلا لهؤلاء الذين آمنوا بمحمد الذين قال فيهم
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين
والشاهدون هم الذين شهدوا له بالرسالة فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وهم الشهداء الذين قال فيهم
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا
ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله

فاكتبنا مع الشاهدين
قال مع محمد وأمته
وكل من شهد للرسل بالتصديق فهو من الشاهدين كما قال الحواريون
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين
وقال تعالى
سورة الحج الآيتان 77 78
وأما قوله في أول الآية
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى
فهو كما أخبر سبحانه وتعالى فإن عداوة المشركين واليهود للمؤمنين أشد من عداوة النصارى والنصارى أقرب مودة لهم وهذا معروف من أخلاق اليهود فإن اليهود فيهم من البغض والحسد والعداوة ما ليس في النصارى

وفي النصارى من الرحمة والمودة ما ليس في اليهود والعداوة أصلها البغض فاليهود كانوا يبغضون أنبياءهم فكيف ببغضهم للمؤمنين
وأما النصارى فليس في الدين الذي يدينون به عداوة ولا بغض لأعداء الله الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا فكيف بعداوتهم وبغضهم للمؤمنين المعتدلين أهل ملة إبراهيم المؤمنين بجميع الكتب والرسل
وليس في هذا مدح للنصارى بالإيمان بالله ولا وعد لهم بالنجاة من العذاب واستحقاق الثواب وإنما فيه أنهم أقرب مودة وقوله تعالى
ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون
أي بسبب هؤلاء وسبب ترك الاستكبار يصير فيهم من المودة ما يصيرهم بذلك خيرا من المشركين وأقرب مودة من اليهود والمشركين
ثم قال تعالى
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق
فهؤلاء الذين مدحهم بالإيمان ووعدهم بثواب الآخرة والضمير وإن عاد إلى المتقدمين فالمراد جنس المتقدمين لا كل واحد منهم كقوله تعالى

الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
وكأن جنس الناس قالوا لهم إن جنس الناس قد جمعوا ويمتنع العموم فإن القائل من الناس والمقول له من الناس والمقول عنه من الناس ويمتنع أن يكون جميع الناس قال لجميع الناس إنه قد جمع لكم جميع الناس
ومثل ذلك قوله تعالى
وقالت اليهود عزير ابن الله
أي جنس اليهود قال هذا لم يقل هذا كل يهودي ومن هذا أن في النصارى من رقة القلوب التي توجب لهم الإيمان ما ليس في اليهود وهذا حق وأما قولهم ونفى عنا اسم الشرك فلا ريب أن الله فرق بين المشركين وأهل الكتاب في عدة مواضع ووصف من أشرك منهم في بعض المواضع بل قد ميز بين الصابئين والمجوس وبين المشركين في بعض المواضع وكلا الأمرين حق فالأول كقوله تعالى
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين

وقوله تعالى
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا
وقال تعالى لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا
وأما وصفهم بالشرك ففي قوله
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
فنزه نفسه عن شركهم وذلك أن أصل دينهم ليس فيه شرك فإن الله إنما بعث رسله بالتوحيد والنهي عن الشرك كما قال تعالى
وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون

وقال تعالى
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت
وقال تعالى
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه لم يأمر أحد الأنبياء بأن يعبد ملك ولا نبي ولا كوكب ولا وثن ولا أن تسأل ولا تطلب الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب لا نبي ولا ملك فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة ويقول اشفعوا لنا إلى الله ولا يدعو الأنبياء والصالحين الموتى والغائبين ويقول اشفعوا لنا إلى الله ولا تصور تماثيلهم لا مجسدة ذات ظل ولا مصورة في الحيطان ولا بجعل دعاء تماثيلهم وتعظيمها قربة وطاعة سواء قصدوا دعاء أصحاب التماثيل وتعظيمهم والإستشفاع بهم وطلبوا منهم أن يسألوا الله تعالى وجعلوا تلك التماثيل تذكرة بأصحابها أو قصدوا دعاء التماثيل ولم يستشعروا أن

المقصود دعاء أصحابها كما فعله جهال المشركين وإن كان في هذا جميعه إنما يعبدون الشيطان وإن كانوا لا يقصدون عبادته فإنه قد يتصور لهم في صورة ما يظنون أنها صورة الذي يعظمونه ويقول أنا الخضر أنا المسيح أنا جرجس أنا الشيخ فلان
كما قد وقع هذا لغير واحد من المنتسبين إلى المسلمين والنصارى وقد يدخل الشيطان في بعض التماثيل فيخاطبهم وقد يقضي بعض حاجاتهم فبهذا السبب وأمثاله ظهر الشرك قديما وحديثا وفعل النصارى وأشباههم ما فعلوه من الشرك
وأما الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه فنهوا عن هذا كله ولم يشرع أحد منهم شيئا من ذلك والنصارى لا يأمرون بتعظيم الأوثان المجسدة ولكن بتعظيم التماثيل المصورة فليسوا على التوحيد المحض وليسوا كالمشركين الذين يعبدون الأوثان ويكذبون الرسل فلهذا جعلهم الله نوعا من غير المشركين تارة وذمهم على ما أحدثوه من الشرك تارة
وإذا أطلق لفظ الشرك فطائفة من المسلمين تدخل فيه جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم كقوله تعالى
ولا تنكحو المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا

فمن الناس من يجعل اللفظ عاما لجميع الكفار ولا سيما النصارى ثم من هؤلاء من ينهي عن نكاح هؤلاء كما كان عبد الله بن عمر ينهى عن نكاح النصرانية ويقول لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن عيسى ربها
وهذا قول طائفة من الشيعة وغيرهم
وأما جمهور السلف والخلف فيجوزون نكاح الكتابيات ويبيحون ذبائحهم لكن إذا قالوا لفظ المشركين عام قالوا هذه الآية

مخصوصة أو منسوخة بآية المائدة وهو قوله تعالى
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان
وطائفة أخرى تجعل لفظ المشركين إذا أطلق لا يدخل فيه أهل الكتاب
وأما كون النصارى فيهم شرك كما ذكره الله فهذا متفق عليه بين المسلمين كما نطق به القرآن كما أن المسلمين متفقون على أن قوله
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى
أن النصارى لم يدخلوا في لفظ الذين أشركوا كما لم يدخلوا في لفظ اليهود
وكذلك قوله
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين
ونحو ذلك وهذا لأن اللفظ الواحد تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران

فيدخل فيه مع الإفراد والتجريد ما لا يدخل فيه عند الإقتران بغيره كلفظ المعروف والمنكر في قوله تعالى
يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر
فإنه هنا يتناول جميع ما أمر الله به فإنه معروف وجميع ما نهى عنه فإنه منكر
وفي قوله لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس
فهنا قرن الصدقة بالمعروف والإصلاح بين الناس
وكذلك المنكر في قوله
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
قرن الفحشاء بالمنكر وقوله
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون
قرن الفحشاء بالمنكر والبغي
وكذلك لفظ البر والإيمان إذا أفرده أدخل فيه الأعمال الصالحة والتقوى كقوله

ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخرو والملائكة والكتاب والنبيين
وقال إن الأبرار لفي نعيم
وقوله
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون
وقد يقرنه بغيره كقوله
وتعاونوا على البر والتقوى
وقوله
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وكذلك لفظ الفقير والمسكين إذا أفرد أحدهما دخل فيه معنى الآخر
وقد يجمع بينهما في قوله
إنما الصدقات للفقراء والمساكين

فيكونان هنا صنفين وفي تلك المواضع صنف واحد فكذلك لفظ الشرك في مثل قوله
إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا
يدخل فيه جميع الكفار أهل الكتاب وغيرهم عند عامة العلماء لأنه أفرده وجرده وإن كانوا إذا قرن بأهل الكتاب كانا صنفين
وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي
كان إذا أرسل أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا وقال لهم اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك إلى ذلك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فإن لهم ما للمهاجرين

وعليهم ما عليهم فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الغنيمة والفيء نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم
وهذا الحديث كان بعد نزول آية الجزية وهي إنما نزلت عام تبوك لما قاتل النبي النصارى بالشام واليهود باليمن
وهذا الحكم ثابت في أهل الكتاب باتفاق المسلمين كما دل عليه الكتاب والسنة ولكن تنازعوا في الجزية هل تؤخذ من غير أهل الكتاب وهذا مبسوط في موضعه

فصل
قالوا وقال في سورة البقرة
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
فساوى بهذا القول بين سائر الناس اليهود والمسلمين وغيرهم
والجواب أن يقال
أولا لا حجة لكم في هذه الآية على مطلوبكم فإنه يسوي بينكم وبين اليهود والصابئين وأنتم مع المسلمين متفقون على أن اليهود

كفار من حين بعث المسيح إليهم فكذبوه
وكذلك الصابئون من حين بعث إليهم رسول فكذبوه فهم كفار فإن كان في الآية مدح لدينكم الذي أنتم عليه بعد مبعث محمد ففيها مدح دين اليهود أيضا وهذا باطل عندكم وعند المسلمين
وإن لم يكن فيها مدح اليهود بعد النسخ والتبديل فليس فيها مدح لدين النصارى بعد النسخ والتبديل
وكذلك يقال لليهودي إن احتج بها على صحة دينه
وأيضا فإن النصارى يكفرون اليهود فإن كان دينهم حقا لزم كفر اليهود وإن كان باطلا لزم بطلان دينهم فلا بد من بطلان أحد الدينين فيمتنع أن تكون الآية مدحتهما وقد سوت بينهما
فعلم أنها لم تمدح واحدا منهما بعد النسخ والتبديل وإنما معنى الآية أن المؤمنين بمحمد والذين هادوا الذين اتبعوا موسى عليه السلام وهم الذين كانوا على شرعه قبل النسخ والتبديل والنصارى الذين اتبعوا المسيح عليه السلام وهم الذين كانوا على شريعته قبل النسخ والتبديل

والصابئين وهم الصابئون الحنفاء كالذين كانوا من العرب وغيرهم على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق قبل التبديل والنسخ
فإن العرب من ولد إسماعيل وغيره الذين كانوا جيران البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وإسماعيل كانوا حنفاء على ملة إبراهيم إلى أن غير دينه بعض ولاة خزاعة وهو عمرو بن لحي وهو أول من غير دين إبراهيم بالشرك وتحريم ما لم يحرمه الله ولهذا قال النبي
رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه أي أمعاءه في النار وهو أول من بحر البحيرة وسيب

السوائب وغير دين إبراهيم
وكذلك بنو إسحاق الذين كانوا قبل مبعث موسى متمسكين بدين إبراهيم كانوا من السعداء المحمودين فهؤلاء الذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم ونحوهم هم الذين مدحهم الله تعالى
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
فأهل الكتاب بعد النسخ والتبديل ليسوا ممن آمن بالله ولا باليوم الآخر وعمل صالحا كما قال تعالى
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم

الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون
وقد تقدم أنه كفر أهل الكتاب الذين بدلوا دين موسى والمسيح وكذبوا بالمسيح أو بمحمد في غير موضع وتلك آيات صريحة ونصوص كثيرة وهذا متواتر معلوم بالاضطرار من دين محمد
ولكن هؤلاء النصارى سلكوا في القرآن ما سلكوه في التوراة والإنجيل يدعون النصوص المحكمة الصريحة البينة الواضحة التي لا تحتمل إلا معنى واحدا ويتمسكون بالمتشابه المحتمل وإن كان فيه ما يدل على خلاف مرادهم كما قال تعالى فيهم وفي أمثالهم
سورة آل عمران الآية 7

فصل
قالوا ثم مدح قرابيننا وتوعدنا إن أهملنا ما معنا وكفرنا بما أنزل إلينا أن يعذبنا عذابا أليما لم يعذبه أحد من العالمين بقوله ذلك في سورة المائدة
سورة المائدة الآيات 112 115
فالمائدة هي القربان المقدس الذي يتقرب به في كل قداس

والجواب أن يقال
هذا كذب ظاهر على القرآن في هذا الموضع كما كذبتم عليه في غير هذا الموضع فإنه ليس في الآيات ذكر قرابينكم البتة وإنما فيه ذكر المائدة التي أنزلها الله تعالى في عهد المسيح عليه السلام وقولهم المائدة هي القربان الذي يتقرب به في كل قداس هو أولا قول لا دليل عليه وثانيا هو قول معلوم الفساد بالاضطرار من دين المسلمين الذين نقلوا هذا القرآن عن محمد لفظه ومعناه فإنهم متفقون على أن المائدة مائدة أنزلها الله من السماء على عهد المسيح عليه السلام وقصتها مشهورة في عامة الكتب تعرفها العامة والخاصة ولم يقل أحد إنها قرابين النصارى وليس في لفظ الآية ما يدل على ذلك بل يدل على خلاف ذلك فإن الآية تبين أن المائدة منزلة من السماء وقرابينهم هي عندهم في الأرض لم تنزل من السماء
وفي الآية أن عيسى قال
اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين

وفي أول الكلام
إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين
فأين هذا من قرابينهم الموجودة اليوم

فصل
قالوا ولما تقدم به القول لأنه غير لائق عند ذوي الألباب أن نهمل روح القدس وكلمة الله الذي شهد لهما في هذا الكتاب بالعظائم فقال عن كلمة ال
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا
والجواب
إن الله تعالى لم يبعث محمدا بإهمال ما يجب من حق المسيح عليه السلام بل أمره بالإيمان بالمسيح وبما جاء به كما أمره بالإيمان بموسى وبما جاء به وكما أمر المسيح بالإيمان بموسى وبما جاء به ولكنه أمر بإهمال ما ابتدع من الدين الذي لم يشرعه الله على لسان المسيح عليه السلام وما نسخه الله من شرعه على لسان محمد فيهمل المبدل والمنسوخ كما أمر الله

المسيح أن يهمل ما ابتدعته اليهود من الدين الذين لم يشرعه وما نسخه من شرع موسى
فكما أمر المسيح أن يهمل المبدل والمنسوخ من التوراة التي جاء بها موسى عليه السلام ولم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق التوراة وموسى عليه السلام فكذلك إذا أهمل المبدل والمنسوخ من دين أهل الإنجيل لم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق الإنجيل والمسيح بل ما جاء به محمد يتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل وأن لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون كما قال تعالى
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
والنصارى كاليهود آمنوا ببعض وكفروا ببعض فأيما هو اللائق عند أولي الألباب أن نؤمن بجميع كتب الله ورسله أو نؤمن ببعض ونكفر ببعض وأيما هو اللائق عند أولي الألباب أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ونعبده بما شرعه على لسان رسوله أو نبتدع من الشرك والعبادات المبتدعة ما لم ينزل به الله كتابا ولا بعث به رسولا ونضاهي المشركين عباد الأوثان

قال تعالى
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون
وقال تعالى
قل يآ أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
فالمسلمون لم يهملوا روح القدس وكلمة الله وقد قال تعالى عن كلمة الله
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته
بل هم الذين اتبعوا دينه ودين الرسل قبله فإن دين الأنبياء عليهم السلام جميعهم واحد كما ثبت في الصحيحين عن النبي

أنه قال
إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد
وقد قال تعالى
شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الصلاة ولا تتفرقوا فيه
فدين المرسلين كلهم دين واحد ويتنوع شرعهم ومناهجهم كتنوع شريعة الرسول الواحد فإن دين المسيح هو دين موسى وهو دين الخليل قبلهما ودين محمد بعدهما مع أن المسيح كان على شريعة التوراة ثم نسخ الله على لسانه ما نسخ منها وهو قبل النسخ وبعده دينه دين موسى ولم يهمل دين موسى
كذلك المسلمون هم على دين المسيح وموسى وإبراهيم وسائر الرسل وهم الذين اتبعوا المسيح ولهذا جعلهم الله فوق النصارى إلى يوم القيامة
والنصارى الذين بدلوا دين المسيح وكذبوا محمدا

بريئون من دين المسيح والمسيح بريء منهم كبراءة موسى ممن بدل وغير دينه وكذب المسيح
والمسلمون أشد تعظيما للمسيح عليه السلام واتباعا له بالحق ممن بدل دينه وخالفه من النصارى فإن المسلمين يصدقونه في كل ما أخبر به عن نفسه ولا يحرفون ما قاله عن مواضعه ولا يفسرون كلامه بغير مراده وكلام غيره من الأنبياء كما فعلت النصارى فإنهم نقلوا عن المسيح أنه قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس وهذا إذا قاله المسيح فإنه يفسر بلغته وعادته في خطابه وعادة سائر الأنبياء وليس في كلام المسيح ولا في كلام سائر الأنبياء ولا كلام غيرهم أن كلمة الله القائمة بذاته سبحانه وتعالى تسمى ابنا ولا روح قدس ولا تسمى صفته القديمة ابنا ولا روح قدس ولا يوجد قط في كلام الأنبياء اسم الابن واقعا إلا على مخلوق
والمراد في تلك اللغة أنه مصطفى محبوب لله كما ينقلونه أنه قال لإسرائيل أنت ابني بكري ولداود أنت ابني

وحبيبي وأن المسيح قال للحواريين أبي وأبيكم فجعله أبا للجميع وهم كلهم مخلوقون فيكون اسم الابن واقعا على المسيح الذي هو ناسوت مخلوق فعمد هؤلاء الضلال فجعلوا اسم الابن واقعا على اللاهوت قديم أزلي مولود غير مخلوق
وزعموا أن الابن يراد به الابن بالوضع وهو المخلوق وهو الابن بالطبع وهو القديم الأزلي المولود غير المخلوق وهذا التفريق هم أحدثوه وابتدعوه ولا يوجد قط في كلام المسيح ولا غيره أنه سمى القديم الأزلي ابنا ولا جعل له ابنا قديما مولودا غير مخلوق ولا سمى شيئا من صفات الله قط ابنا
وكذلك لفظ روح القدس موجود في غير موضع من كلام الأنبياء

عليهم السلام لا يراد بهذا قط حياة الله ولا صفة قائمة به
وإنما يراد به ما أيد الله به الأنبياء والأولياء ويجعله في قلوبهم من هداه ونوره ووحيه وتأييده ومن ما ينزل بذلك من الملائكة وهذا الذي تسميه الأنبياء روح القدس لم يختص به المسيح باتفاق المسلمين وأهل الكتاب بل قد أنزله على غيره من الأنبياء والصالحين كما هو موجود في كتبهم إن روح القدس كانت في داود وغيره وكانت أيضا عندهم في الحواريين
وهكذا خاتم الرسل كان يقول لحسان بن ثابت إن روح القدس معك ما دمت تدافع عن نبيه ويقول اللهم أيده بروح القدس
وقد قال الله تعالى عن عباده المؤمنين
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه

فروح القدس لا اختصاص للمسيح عليه السلام بها بل ما يفسر به اسم الابن واسم روح القدس وغير ذلك مما وصف به المسيح فهو مشترك بينه وبين غيره من الرسل وإذا فسروا الحلول بظهور نور الله وعلمه وهداه في الأنبياء فهذا حق وهو مشترك بين المسيح وغيره
فأما نفس ذات الله فلم تحل في أحد من البشر
والمسلمون مع شهادتهم للمسيح بأنه عبد الله ورسوله يقولون إنه مؤيد منصور عصمه الله من أعدائه وطهره منهم ولم يسلطهم عليه
والنصارى يدعون أن اسم المسيح اسم اللاهوت والناسوت وأنه إله تام وإنسان تام وهذا يمتنع شرعا وعقلا ثم يصفونه بالصفات المتناقضة يصفونه بأن طائفة من أشرار اليهود وضعوا الشوك على رأسه وبصقوا في وجهه وأهانوه وصلبوه وفعلوا به ما لا يفعل بأخس الناس ويقولون مع هذا إنه رب السماوات والأرض وما بينهما

فصل
قالوا ثم شهد لقرابيننا وذبائحنا أنها مقدسة مقبولة لدى الله من كتب اليهود التي في أيديهم يومنا هذا المنزلة من الله على أفواه الأنبياء المرسلين
قال أشعيا قال الله إني أعرف بني إسرائيل وقلوبهم القاسية الخبيثة فإذا أنا ظهرت إلى الأمم فنظروا إلى كرامتي أقيم منها أنبياء وأبعث منهم مخلصين يخلصون الأمم من البلدان القاصية الذين لم يسمعوا بسماعي ولم يعرفوا من قبل كرامتي ويكون اسمي فيهم ويجلبون إخوتهم من الأمم كلها ويجيبون قرابين الله على الدواب والمراكب إلى جبل قدسي بيت المقدس فيقربون لي القرابين بالسميد كما كان بنو إسرائيل من قبل وكذلك باقي الأمم وتقرب القرابين بين يدي فهم وزرعهم إلى الأبد ويحجون في كل سنة وفي كل شهر ومن سنة إلى سنة إلى بيت المقدس بيت الله ويقربون لله ربهم فيه قرابين زكية نقية ينظرون إلى الأمة الخبيثة الماردة بني إسرائيل لا يبلى حزنها ولا ينقطع بلاؤها إلى الأبد

وقال دانياك النبي عليه السلام وسيأتي على شعبك وقرية قدسك سبعون سابوعا وتنقضي الذنوب وتفنى الخطايا وغفران الإثم ويؤتى بالحق الذي لم ينزل من قبل وتتم نبوات الأنبياء وكتب الرسل وتبيد قرية القدس وتخرب مع مجيء المسيح ويفنى الميثاق العتيق من الناس ومن بعد أسبوع ونصف تبطل ذبائح اليهود وقرابينهم وتصير على كف النجاسة والفساد إلى انقضاء الدهر

وقال ميخا النبي عليه السلام قال الله في آخر الزمان إذا أتى المسيح يدعو الأمم المبددة ويضعهم شعبا واحدا ويبطل قتال بني إسرائيل وسلاحهم وقرابينهم إلى الأبد
وقال عاموص النبي لا تذبحوا العجول بعد فإن الرب سيأتي صهيون ويحدث وصية جديدة طاهرة من الخبز النقي والخمر الزكي ويصير بنو إسرائيل مطرودين

والجواب من وجوه
أحدها أن ما يحتجون به من النقل عن الأنبياء صلوات الله عليهم يحتاجون فيه إلى أربع مقدمات إلى أن تعلم نبوة المنقول عنه والى أن يعلم لفظه الذي تكلم به وإلى أن يعلم ما ذكروه ترجمة صحيحة عنده فإن أولئك الأنبياء لم يتكلموا بالعربية بل ولا بالرومية والسريانية واليونانية وإنما تكلموا بالعبرية كالمسيح عليه السلام
والرابع أن يعلم أن ما ذكروه من كلام الأنبياء دليل على ما ادعوه من قبول قرابينهم في هذا الزمان ونحن في هذا المقام نقتصر على منازعتهم في هذه المقدمة فليس فيما ذكروه دليل على مدح قرابينهم وذبائحهم بعد التبديل والنسخ ولكن غايتها أن يدل على مدحها قبل النسخ والتبديل وهذا مما لا ينازع فيه المسلمون
الوجه الثاني أن هذه النعوت المذكورة عن أشعيا وغيره من الأنبياء لا توافق ما عليه النصارى فإن النصارى لا يقربون القرابين بالسميد كما كان بنو إسرائيل من قبل ولا يحجون في كل شهر ومن سنة إلى سنة إلى بيت المقدس بيت الله ويقربون لله ربهم فيه قرابين نقية زكية وإنما يحجون إلى قمامة الخارجة عن بيت الله الذي كانت الأنبياء تقصده وتصلي فيه فإن الأنبياء إنما كانوا يصلون في بيت

المقدس ويزورون بيت المقدس نفسه وأما قمامة فليس لها ذكر في كتب الأنبياء عليهم السلام بل إنما ظهرت قمامة في زمن قسطنطين الملك لما أظهرتها أمه هيلانة الحرانية لما جاءت بيت المقدس واختارت من اليهود ثلاثة وسألتهم أن يدلوها على موضع الصليب فامتنعوا فعاقبتهم بالحبس والجوع فدلوها على موضعه في مزبلة فاستخرجوه وجعلته في غلاف من ذهب وحملته وبنت كنيسة القمامة في موضعه كما ذكر ذلك ابن البطريق في تاريخه وغيره كما سيأتي وذلك بعد المسيح بأكثر من ثلاث مائة سنة
ومن ذلك الوقت أظهروا الصليب وجعلوا عيد الصليب ولم يشرع ذلك لا المسيح ولا الحواريون وهذا مذكور في كتبهم متفق عليه بين علمائهم كما قد ذكر في موضع آخر ولا هم يأتون بقرابين لله على الدواب والمراكب إلى جبل قدس بيت الله المقدس

الوجه الثالث أن ما ذكروه عن دانيال لا يتضمن مدح دينهم بعد النسخ والتبديل وإنما يتضمن أن الله يبعث المسيح عليه السلام بالحق الذي لم يزل من قبل وهو الدين الذي بعث به الرسل قبله وهو عبادة الله وحده وأن بيت المقدس يخرب مع مجيء المسيح ويفنى الميثاق العتيق يعني ما نسخ من شرع التوراة وأنه يبطل ذبائح اليهود وقرابينهم
وهذا كله إنما يدل على نسخ شرع التوراة وبطلان دولة اليهود ويدل على أن المسيح جاء بالحق ومن اتبع المسيح كان على الحق وهذا مما لا ينازع فيه المسلمون فإنهم متفقون على أن من كان متمسكا بما أمر به المسيح فإنه من عباد الله الصالحين ولكن من جاء بشرع لم يأت به المسيح أو أراد اتباع شرعه بعد النسخ فهو بمنزلة اليهود الذين نسخ الله ما نسخه من شرعهم وأزال دولتهم وكذلك فعل بالنصارى لما بعث الله محمدا أزال دولتهم عن وسط الأرض وخيارها وحيث بعثت الأنبياء كأرض الشام ومصر

والجزيرة والعراق وأرمينية وأذربيجان وأجلاهم إلى طرفي الأرض من جهة الشمال والجنوب وصار الذين في وسط الأرض منهم أحسن أحوالهم إذا لم يسلموا أن يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون
وكذلك ما ذكروه عن ميخا وعاموس إنما يدل على مجيء المسيح عليه السلام وبطلان ما نسخه الله وأبطله من شرع اليهود

وملكهم ولا يدل على صحة دين النصارى الذي لم يشرعه المسيح عليه السلام ولا على صحته بعد أن نسخ بشرع محمد نسخا هو أبلغ من نسخ بعض شرع موسى بشرع المسيح عليه السلام
هذا إذا سمى الشرع المؤقت بغاية مجهولة نسخا فإن الأول لم يبشر بالثاني
وأما إذا كان الأول بشر بالثاني وكانت شريعة الأول مؤقتة إلى مجيء الثاني لم يسم ذلك نسخا فالمسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم لم ينسخا شيئا بل كان شرع موسى إلى مجيء المسيح وشرع المسيح إلى مجيء محمد صلى الله عليهما وسلم
وأما ما حكي عن أشعيا عن الله أنه قال فإذا ظهرت إلى الأمم فهذا قد يحتج به النصارى وبأمثاله من كلام الأنبياء عليهم السلام على الحلول الذي ابتدعوه وهو باطل فإن مثل هذا اللفظ مذكور في كتب أهل الكتاب في غير موضع ولا يراد بشيء منها حلول ذات الله في أحد من البشر كما ذكر في التوراة أن الله عز و جل

استعلن لإبراهيم وغيره وأن الله يأتي من طور سيناء ويشرف من ساعير ويستعلن من جبال فاران
ومعلوم عند جميع أهل الملل أن الله سبحانه وتعالى لم يحل في موسى ولاغيره لما كلمه ولا يحل في شيء من جبال فاران مع إخباره أنه استعلن منها
وقد قال تعالى
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله
فأظهره بالعلم والحجة والبيان وأظهره باليد والسنان كما قال تعالى
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء
قال أبي بن كعب وغيره مثل نوره في قلب

المؤمن
وقال تعالى
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به
وقال تعالى
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا
وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال
اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر

بنور الله ثم قرأ
إن في ذلك لآيات للمتوسمين
قال الترمذي حديث حسن وقد جاء عن بعض السلف أن قلوب المؤمنين تضيء لأهل السماوات كما تضي الكواكب لأهل الأرض
والمخلوق الذي تظهر محبته وذكره وطاعته في بعض البلاد يقال فلان قد ظهر في هذه الأرض فإذا ظهر ذكر الله وذكر أسمائه وصفاته وتوحيده وآياته وعبادته حتى امتلأت القلوب بذلك بعد أن كانت ممتلئة بظلمة الكفر والشرك كان ذلك مما أخبر به من ظهوره وهذا أعظم ما يكون في بيوته التي يعبد فيها ويذكر فيها اسمه
ولهذا لما ذكر تعالى آية النور وقال
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب

الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم
قال عقب ذلك
سورة النور الآيات 36 38
وكذلك ما في الكتب من ظهوره ببيت المقدس فهو كظهوره بطور سيناء وبجبل فاران ومع هذا فلم يره موسى ولا غيره لا مجردا ولا حالا في غيره وقد أخبر المسيح أنه لم يره أحد كما أخبر غيره وذلك نفي عام يوجب أنه لا يرى لا مجردا ولا حالا في دار الدنيا كما قد بسط هذا في موضع آخر
ومعلوم أن ملابسة الشيء أبلغ من رؤيته فإذا كان الرب تعالى لا يراه ناسوت فأن لا يلابسه ناسوت بطريق الأولى والأحرى والنصارى يزعمون أنه اتحد هو والناسوت وهذا أعظم من الرؤية

فصل
قالوا فماذا يكون أعظم من هذا برهانا وأقوى شهادة إذ هذه كتب أعدائنا المخالفين لديننا وهم يقرون بذلك ويقرأونه في كنائسهم ولم ينكروا منه كلمة واحدة ولا حرفا واحدا
والجواب أن الأمر إذا كان على ما قالوه من ثبوت هذه الكلمات عن بعض الأنبياء فليس فيها مدح لدينهم بعد التبديل فكيف بعد النسخ والتبديل وإنما فيها إخبار بزوال ملك بني إسرائيل وبنسخ ما نسخ من شرعهم بمجيء المسيح عليه السلام وهذا دليل على نبوة المسيح وصدقه وهذامما اتفق عليه المسلمون
والمسيح عليه السلام عندهم كما أخبر الله عنه بقوله تعالى لمريم
إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد كهلا ومن الصالحين

وأما قولهم إن هذا وغيره موجود في كتب أعدائنا اليهود
فيقال لهم لا ريب أن اليهود يخالفونكم في تفسير الكتب فأنتم تفسرونها بشيء وهم يفسرونها بشيء آخر وقد يكون كلا التفسيرين باطلا وحينئذ فيقال لكم كما أن كتب الأنبياء شاهدة للمسيح ولدينه وإن خالفتكم اليهود في تفسيرها فكذلك هي شاهدة لمحمد وأمته وإن خالف أهل الكتاب في تفسيرها كما قد بين الله في كتب الأنبياء صفة محمد وأمته في غير موضع
والواجب في الكتب إذا تنازعت الأمم في تفسيرها أن يبين الحق الذي يقوم عليه الدليل الشرعي والعقلي وحينئذ تبين أنكم فسرتم كتب الله بأشياء تخالف مراد الله في أمر التثليث والاتحاد وغيره كما فعلت اليهود بتفسير الكتب كما قد بسط في غير هذا الموضع

فصل
قالوا وأيضا في قول هذا الإنسان مما أتى في كتابه حيث اتبع القول أنه لم يرسل إلينا مع تشككه فيما أتى به في هذا الكتاب في سورة سبأ حيث يقول
وإنا أو وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين
وأيضا في سورة الأحقاف يقول
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم
والجواب أن نقلهم عنه أنه قال إنه لم يرسل إليهم كذب ظاهر عليه فإن كتابه مملوء بدعوتهم وأمره لهم بالإيمان به واتباعه بل وبعموم رسالته إلى جميع الناس بل وإلى الجن والإنس وليس فيه قط أنه لم يرسل إلى أهل الكتاب بل فيه التصريح بدعوة أهل الكتاب في غير موضع كقوله تعالى
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا

فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون
وقد كتب النبي بهذه الآية إلى قيصر ملك النصارى الذي اسمه هرقل بالشام وقد تقدم ذكر ذلك وتقدم أيضا أن قوله تعالى
لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون
يقتضي أنه لم ينذر الأميين وليس فيه أنه لا ينذر غيرهم كما أن قوله
وأنذر عشيرتك الأقربين
يقتضي إنذار قومه ولا ينافي أن ينذر غيرهم من العرب كما أن قوله في قريش
فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف
لا يمنع أن يكون غير قريش مأمورين بعبادة رب هذا البيت بل أمر الله جميع الثقلين الجن والإنس أن يعبدوا رب هذا البيت
فإن قيل فقد سكت عن ما سوى الأميين في هذا فيشعر بالنفي بدليل الخطاب الذي يسمى مفهوم المخالفة قيل ذاك إنما يدل إذا

لم يكن في التخصيص فائدة سوى الاختصاص بالحكم ولم يكن هنا تصريح بأن حكم المسكوت كحكم المنطوق وهنا لما بعث الله محمدا أمره أن ينذر عشيرته الأقربين أولا ثم ينذر العرب الأميين ثم أهل الكتاب والمجوس وغيرهم وقد تقدم بسط هذا

فصل
وأما قولهم مع تشككه فيما أتى به فمن الكذب البين فإنه تعالى قال
سورة سبأ الآيات 22 26
فإنه لما دعاهم إلى التوحيد وبين أن ما يدعونه من دون الله لا يملك مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا هو شريك ولا هو ظهير ولا ينفع شفيع إلا بإذنه نفى بذلك جميع وجوه الشرك فإن ما يشرك به إما أن يكون له ملك أو شريك في الملك أو يكون معينا فإذا انتفت الثلاثة لم يبق إلا الشفاعة التي هي دعاء لك

ومسألة وتلك لا تنفع عنده إلا لمن أذن له
ثم ذكر بعد هذا أنه لا رازق يرزق من السماء والأرض إلا الله دل بهذا وهذا على التوحيد كما في قوله
وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون
فلما ذكر ما دل على وجوب توحيده وبيان أن أهل التوحيد هم على الهدى وأن أهل الشرك على الضلال قال
وإنا أو وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين
يقول إن أحد الفريقين أهل التوحيد الذين لا يعبدون إلا الله وأهل الشرك لعلى هدى أو في ضلال مبين
وهذا من الإنصاف في الخطاب الذي كل من سمعه من ولى وعدو قال لمن خوطب به قد أنصفك صاحبك كما يقول العادل الذي ظهر عدله للظالم الذي ظهر ظلمه الظالم إما أنا وإما أنت لا للشك في الأمر الظاهر ولكن لبيان أن أحدنا ظالم ظاهر الظلم وهو أنت لا أنا

فإنه إذا قيل أهل التوحيد الذين يعبدون الله على هدى أو في ضلال مبين وأهل الشرك الذين يعبدون ما لا يضر ولا ينفع على هدى أو في ضلال مبين
تبين أن أهل التوحيد على الهدى وأهل الشرك على الضلال وهذا مما يعلمه جميع الملل من المسلمين واليهود والنصارى يعلمون أن أهل التوحيد على الهدى وأهل الشرك على الضلال
وفي القرآن في بيان مثل هذا ما لا يحصى إلا بكلفة بل قطب القرآن وسائر الكتب ومدارها على عبادة الله وحده فكيف يقال إن الرسول كان يشك هل المهتدى هم أهل التوحيد أم أهل الشرك وهل يقول هذا إلا من هو في غاية الجهل والعناد
ثم الآية خطاب للمشركين ليست خطابا للنصارى خصوصا

فصل
وأما قوله تعالى قل ما أدري ما يفعل بي ولا بكم فلفظ الآية
قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين
وهذا بعد قوله
أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم
ونظير هذا قوله
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هي يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون
وهذا قاله نوح عليه السلام أول الرسل وأمر محمد

آخر الرسل أن يقوله ومثل قوله
قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا
وهذا ونحوه يتضمن اعترافه بأنه عبد الله ورسول من الله لا يتعدى حد الرسالة ولا يدعي المشاركة في الألوهية كما ادعته النصارى في المسيح ولهذا قال تعالى
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام
فتبين أنه لا يتعدى حد الرسالة وهو كقوله تعالى
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
ولهذا قال وفي الحديث المتفق على صحته
لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله

فقال تعالى
قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم
يقول لست أول من أرسل أو ادعى الرسالة بل قد تقدم قبلي رسل
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين
يقول لا أدعي علم الغيب إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين أنذركم بما أمرني الله أن أنذركم به لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك وهذا من كمال صدقه وعدله وعبوديته لله وطاعته وتمييز ما يستحقه الخالق وحده مما يستحقه العبد فإن العلم بعواقب الأمور على وجه التفصيل مما استأثر الله بعلمه فلا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل
وليس من شرط الرسول أن يعلم كل ما يكون وقوله تعالى
وما أدري ما يفعل بي ولا بكم
نفي لعلمه بجميع ما يفعل به وبهم وهذا لا يعلمه إلا الله

تبارك وتعالى وهذا لا ينفي أن يكون عالما بأنه سعيد من أهل الجنة وإن لم يدر تفاصيل ما يجري له في الدنيا من المحن والأعمال وما يتجدد له من الشرائع وما يكرم به في الآخرة من أصناف النعيم فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال
يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وأيضا هذا مأثور عن غيره من الأنبياء عليهم السلام
ولا من شرط النبي أن يعلم حال المخاطبين من يؤمن به ومن يكفر وتفصيل ما يصيرون إليه هذا إن قيل إنه لم يعلم بعد هذه الآية ما نفى فيها وإن قيل إنه أعلم بذلك فمعلوم أن الله لم يعلمه بكل شيء جملة بل أعلمه بالأمور شيئا بعد شيء
وقد قال له بعد ذلك

إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا
وقال تعالى
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا
وفي القرآن والأحاديث عنه من الإخبار بما سيكون في الدنيا وفي الآخرة أضعاف أضعاف ما يوجد عن الأنبياء قبله حتى أنه ينبىء عن الشيء الذي يكون بعد ما يبين من السنين خبرا أكمل من خبر من عاين ذلك كقوله في الحديث الصحيح
لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين ذلف الأنوف حمر الخدود ينتعلون الشعر كأن وجوههم المجان المطرقة فمن رأى

هؤلاء الترك الذين قاتلهم المسلمون من حين خرج جنكزخان ملكهم الأكبر وأولاده وأولاد أولاده مثل هولاكو وغيره من ملوك الترك الكفار الذي قاتلهم المسلمون لم يحسن أن يصفهم بأحسن من هذه الصفة
وقد أخبر بهذا قبل ظهوره بأكثر من ستمائة سنة وقوله
لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى وهذه النار ظهرت سنة

خمس وخمسين وستمائة بأرض الحجاز فكانت تحرق الحجر ولا تنضج اللحم ورأى أهل بصرى أعناق الجمال من ضوء تلك النار وكانت منذرة بما يكون بعدها ففي سنة ست وخمسين وستمائة دخل هولاكو ملك الكفار بغداد وقتل فيها مقتلة عظيمة مشهورة وسيأتي إن شاء الله بعض أخبار أنه شاهد الناس وقوعها كما أخبرنا عند ذكرنا معجزاته

فصل
ثم قالوا مع الأمر له في فاتحة الكتاب أن يسأل الهداية إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين فإنه عنى بقوله المنعم عليهم والمغضوب عليهم والضالين الثلاث أمم الذين كانوا في عصره وهم النصارى واليهود وعباد الأصنام ولم يكن في زمانه غير هؤلاء الثلاث أمم
فالمنعم عليهم نحن النصارى والمغضوب عليهم فلا يشك أنهم اليهود الذين غضب الله عليهم في كتب التوراة والأنبياء وهذا الكتاب والضالين فهم عباد الأصنام الذين ضلوا عن الله فهذا أمر واضح بين ظاهر عند كل أحد ولا سيما عند ذوي العقول والمعرفة والصراط هو المذهب أي الطريق وهذه اللفظة رومية لأن الطريق بالرومية اسطراطا
والجواب
أما قولهم المنعم عليهم نحن النصارى فمن العجائب التي تدل على فرط جهل صاحبها وأعجب من ذلك قولهم إن هذا شيء بين

واضح عند كل أحد لا سيما عند ذوي العقل والمعرفة فيا سبحان الله
ألم يعرف العام والخاص علما ضروريا لا تمكن المنازعة فيه من دين محمد ودين أمته الذي تلقوه عنه من تكفير النصارى وتجهيلهم وتضليلهم واستحلال جهادهم وسبي حريمهم وأخذ أموالهم ما يناقض كل المناقضة أن يكون محمدا وأمته في كل صلاة يقولون اللهم اهدنا صراط النصارى
وهل ينسب محمدا وأمته إلى أنهم في كل صلاة يطلبون من الله أن يهديهم صراط النصارى إلا من هو من أكذب الكذابين وأعظم الخلق افتراء ووقاحة وجهلا وضلالا
ولو كانوا يسألون الله هداية طريق النصارى لدخلوا في دين النصارى ولم يكفروهم ويقاتلوهم ويضعوا عليهم الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون ولم يشهدوا عليهم بأنهم من أهل النار وأمته أخذوا ذلك جميعه عنه منقولا عنه بالنقل المتواتر بإجماعهم لم يبتدعوا ذلك كما ابتدعت النصارى من العقائد والشرائع ما لم يأذن به الله فلا يلام المسلمون في اتباعهم لرسول الله الذي جاء بالبينات والهدى
ومحمد إن كان رسولا صادقا فقد كفر

النصارى وأمر بجهادهم وتبرأ منهم ومن دينهم وإن كان كاذبا لم يقبل شيء مما نقله عن الله عز و جل
وقد تقدم غير مرة قوله تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم
وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
فمن يقول عن النصارى مثل هذه الأقوال هل يأمر أمته في كل صلاة أن يقولوا اهدنا طريقهم
ثم يقال أي شيء في الآية مما يدل على أن قوله صراط الذين أنعمت عليهم هم النصارى
وإنما المنعم عليهم هم الذين ذكرهم الله في قوله تعالى
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا

فهؤلاء هم الذين أمر الله عباده أن يسألوا هداية صراطهم
وأما النصارى الذين كانوا على دين المسيح قبل النسخ والتبديل فهم من المنعم عليهم كما أن اليهود الذين كانوا على دين موسى قبل النسخ والتبديل كانوا من المنعم عليهم
وأما النصارى بعد النسخ والتبديل فهم من الضالين لا من المنعم عليهم عند الله ورسوله كما قال تعالى
قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
وقال تعالى
أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين
وعباد الأصنام من الضالين المغضوب عليهم وقد قال النبي
اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون رواه الإمام

أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم عن النبي وقال الترمذي هذا حديث صحيح
وسبب ذلك أن اليهود يعرفون الحق ولا يعملون به والنصارى يعبدون بلا علم وقد وصف الله اليهود بأعمال والنصارى بأعمال فوصف اليهود بالكبر والبخل والجبن والقسوة وكتمان العلم وسلوك سبيل الغي وهو سبيل الشهوات والعدوان
وذكر عن النصارى الغلو والبدع في العبادات والشرك والضلال واستحلال محارم الله فقال تعالى
سورة النساء الآيات 171 173

وقال تعالى
ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها
أي لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله لم نكتب عليهم الرهبانية بل هم ابتدعوها ومع ابتداعهم إياها فما رعوها حق رعايتها وكل بدعة ضلالة فهم مذمومون على ابتداع الرهبانية وعلى أنهم لم يرعوها حق رعايتها

وأما ما كتب عليهم من ابتغاء رضوان الله فيحصل بفعل ما شرعه الله لهم من واجب ومستحب فإن ذلك هو الذي يرضاه ومن فعل ما يرضاه الله فقد فعل ما كتب عليه ويحصل رضوان الله أيضا بمجرد فعل الواجبات وهذا هو الذي كتب على العباد فإذا لم يكتب عليهم إلا ابتغاء رضوان الله كان ابتغاء رضوانه واجبا فما ليس بواجب لا يشترط في حصول ما كتب عليهم
ولهذا ضعف أحمد بن حنبل وغيره الحديث المروي أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله فإن من صلى في آخر الوقت كما أمر فقد فعل الواجب وبذلك يرضى الله عنه وإن كان فعل المستحبات والمسابقة إلى الطاعات أبلغ في إرضاء الله ويحصل له بذلك من رضوان الله ومحبته ما لا يحصل بمجرد الواجبات
كما قال موسى عليه السلام
وعجلت إليك رب لترضى
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي أنه قال
يقول الله تعالى من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي فلئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي

المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه فقوله حتى أحبه يريد المحبة المطلقة الكاملة
وأما أصل المحبة فهي حاصلة بفعل الواجبات فإن الله يحب المتقين والمقسطين ومن أدى الواجبات فهو من المتقين المقسطين
وقال تعالى فيهم
وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون
وقال تعالى
قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
وهو سبحانه خاطب النصارى بهذا لأن النصارى يعتمدون في دينهم على ما يقوله كبراؤهم الذين وضعوا لهم القوانين والنواميس

ويسوغون لأكابرهم الذين صاروا عندهم عظماء في الدين أن يضعوا لهم شريعة وينسخوا بعض ما كانوا عليه قبل ذلك لا يردون ما يتنازعون فيه من دينهم إلى الله ورسله بحيث لا يمكنون أحدا من الخروج عن كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل وعن اتباع ما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام
ولهذا قال تعالى
قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم
بل ما وضعه لهم أكابرهم من القوانين الدينية والنواميس الشرعية بعضها ينقلونه عن الأنبياء وبعضها عن الحواريين وكثير من ذلك ليس منقولا لا عن الأنبياء ولا عن الحواريين بل من وضع أكابرهم وابتداعهم
كما ابتدعوا لهم الأمانة التي هي أصل عقيدتهم وابتدعوا لهم الصلاة إلى الشرق وابتدعوا لهم تحليل لحم الخنزير وسائر

المحرمات وابتدعوا لهم الصوم وقت الربيع وجعلوه خمسين يوما وابتدعوا لهم أعيادهم كعيد الصليب وغيره من الأعياد
وكذلك قال النبي لعدي بن حاتم لما سمعه يقرأ هذه الآية
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله
فقال لم يعبدوهم فقال له النبي إنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحرام فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم
ولهذا قال تعالى
ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
فإنهم يتبعون أهواء أكابرهم الذين مضوا من قبلهم وأولئك ضلوا من قبل هؤلاء وأضلوا أتباعهم وهم كثيرون وضلوا عن سواء السبيل وهو وسط السبيل وهو الصراط المستقيم فإن كانوا هم وأتباعهم ضالين عن الصراط المستقيم فكيف يجوز أن يأمر الله عباده أن

يسألوه أن يهديهم الصراط المستقيم ويعني به صراط هؤلاء الضالين المضلين عن سواء السبيل وهو الصراط المستقيم
وقد قال سبحانه ولا تتبعوا أهواء هؤلاء لأن أصل ابتداعهم هذه البدعة من أنفسهم مع ظن كاذب فكانوا ممن قيل فيهم
إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاؤهم من ربهم الهدى
وممن قيل فيه
ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله
وسبب ذلك أن المسيح لما رفع إلى السماء وعاداه اليهود وعادوا أتباعه عداوة شديدة وبالغوا في أذاهم وإذلالهم وطلب قتلهم ونفيهم صار في قلوبهم من بغض اليهود وطلب الانتقام منهم ما لا يوصف فلما صار لهم دولة وملك مثل ما صار لهم في دولة قسطنطين صاروا يريدون مقابلة اليهود
كما جرت العادة في مثل ذلك بين الطوائف المتقابلة المتنازعين في الملك والمتنازعين في البدع كالخوارج والروافض

والجبرية مع القدرية والمعطلة مع الممثلة وكالدولتين المتنازعتين على الملك والأهواء بمنزلة قيس ويمن وأمثال ذلك
إذا ظهرت طائفة على الأخرى بعدما آذتها الأخرى وانتقمت منها تريد أن تأخذ بثأرها ولا تقف عند حد العدل بل تعتدي على تلك كما اعتدت تلك عليها
فصار النصارى يريدون مناقضة اليهود فأحلوا ما يحرمه اليهود كالخنزير وغيره وصاروا يمتحنون من دخل في دينهم بأكل الخنزير فإن أكله وإلا لم يجعلوه نصرانيا

وتركوا الختان وقالوا إن المعمودية عوض عنه وصلوا إلى قبلة غير قبلة اليهود
وكان اليهود قد أسرفوا في ذم المسيح عليه السلام وزعموا أنه ولد زنا وأنه كذاب ساحر
فغلوا هؤلاء في تعظيم المسيح وقالوا إنه الله وابن الله وأمثال

ذلك وصار من يطلب أن يقول فيه القول العدل مثل كثير من علمائهم وعبادهم يجمعون له مجمعا ويلعنونه فيه على وجه التعصب واتباع الهوى والغلو فيمن يعظمونه كما يجري مثل ذلك لأهل الأهواء كالفلاة في بعض المشايخ وبعض أهل البيت وبعض العلماء وبعض الملوك وبعض القبائل وبعض المذاهب وبعض الطرائق فإنما كان مصدر ضلالهم أهواء نفوسهم قال تعالى للنصارى الذين كانوا في وقت النبي ومن بعدهم
قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
وأما قولهم إن الصراط هو المذهب أي الطريق وهذه لفظة رومية لأن الطريق بالرومية اسطراطا
فيقال لهم الصراط في لغة العرب هو الطريق يقال هو الطريق الواضح ويقال هو الطريق المحدود بجانبين الذي لا يخرج عنه ومنه الصراط المنصوب على جهنم وهو الجسر الذي يعبر عليه المؤمنون إلى الجنة وإذا عبر عليه الكفار سقطوا في جهنم ويقال فيه معنى الاستواء والاعتدال الذي يوجب سرعة العبور عليه وفيه ثلاث لغات هي ثلاث قراءات الصراط والسراط والزراط وهي لغة

عربية عرباء ليست من المعرب ولا مأخوذة من لغة الروم كما زعموا
ويقال أصله من قولهم سرطت الشيء أسرطه سرطا إذا ابتلعته واسترطته ابتلعته فإن المبتلع يجري بسرعة في مجرى محدود
ومن أمثال العرب لا تكن حلوا فتسترط ولا مرا فتعفى من قولهم أعفيت الشيء إذا أزلته من فيك لمرارته ويقال فلان يسترط ما يأخذ من الدين
وحكى يعقوب بن السكيت الأخذ سريط والقضاء صريط والسرطاط الفالوذج لأنه يسترط استراطا وسيف سراطي أي قاطع فإنه ماض سريع المذهب في مضربه
فالصراط هو الطريق المحدود المعتدل الذي يصل سالكه إلى مطلبه بسرعة وقد ذكر الله لفظ الصراط في كتابه في غير موضع ولم يسم الله سبيل الشيطان سراطا بل سماها سبلا وخص طريقه باسم الصراط كقوله تعالى

وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
وفي السنن عن عبد الله بن مسعود قال خط لنا رسول الله خطا وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قاله
هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه من أجابه قذفه في النار ثم قرأ
وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
فسمى سبحانه طريقه صراطا وسمى تلك سبلا ولم يسمها صراطا كما سماها سبيلا وطريقه يسميه سبيلا كما يسميه صراطا
وقال تعالى عن موسى وهارون

وأتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم
وقال تعالى
إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا
وهذه الهداية الخاصة التي أعطاه إياها بعد فتح الحديبية أخص مما تقدم فإن السالك إلى الله لا يزال يتقرب إليه بشيء بعد شيء ويزيده الله هدى بعد هدى وأقوم الطريق وأكملها الطريق التي بعث الله بها نبيه محمدا كما قال تعالى
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم

فصل
قال الحاكي عنهم فقلت إنهم ينكرون علينا في قولنا أب وابن وروح قدس وأيضا في قولنا إنهم ثلاثة أقانيم وأيضا في قولنا إن المسيح رب وإله وخالق وأيضا يطلبون منا إيضاح تجسيد تجسم كلمة الله الخالق بإنسان مخلوق
أجابوا قائلين لو علموا قولنا هذا إنما نريد به القول الذي يعني أن الله شيء حي ناطق لما أنكروا علينا ذلك لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب
فقلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء وذلك لننفي عنه العدم ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين شيء حي وشيء غير حي فوصفناه بأجملهما فقلنا هو شيء حي لننفي

الموت عنه ورأينا الحي ينقسم قسمين حي ناطق وحي غير ناطق فوصفناه بأفضلهما فقلنا هو شيء حي ناطق لننفي الجهل عنه
والثلاثة أسماء وهي إله واحد مسمى واحد ورب واحد خالق واحد شيء حي ناطق أي الذات والنطق والحياة فالذات عندنا الأب الذي هو ابتداء الاثنين والنطق الابن الذي هو مولود منه لولادة النطق من العقل والحياة روح القدس وهذه أسماء لم نسمه نحن بها
والجواب من وجوه
أحدها قولهم أما قولنا أب وابن وروح قدس فلو علموا قولنا هذا إنما نريد به تصحيح القول بأن الله حي ناطق لما أنكروا ذلك علينا فيقال ليس الأمر كما ادعوه فإن النصارى يقولون إن هذا القول تلقوه عن الإنجيل وإن في الإنجيل عن المسيح صلوات الله عليه وسلامه أنه قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس فكان أصل قولهم هو ما يذكرونه من أنه متلقى من الشرع المنزل لا أنهم أثبتوا الحياة والنطق بمعقولهم ثم عبروا عنها بهذه العبارات كما ادعوه في مناظرتهم

ولو كان الأمر كذلك لما احتاجوا إلى هذه العبارة ولا إلى جعل الأقانيم ثلاثة بل معلوم عندهم وعند سائر أهل الملل أن الله موجود حي عليم قدير متكلم لا تختص صفاته بثلاثة ولا يعبر عن ثلاثة منها بعبارة لا تدل على ذلك وهو لفظ الأب والابن وروح القدس فإن هذه الألفاظ لا تدل على ما فسروها به في لغة أحد من الأمم ولا يوجد في كلام الأنبياء أنه عبر بهذه الألفاظ عما ذكروه من المعاني بل إثبات ما ادعوه من التثليث والتعبير عنه بهذه الألفاظ هو مما ابتدعوه لم يدل عليه لا شرع ولا عقل
وهم يدعون أن التثليث والحلول والاتحاد إنما صاروا إليه من جهة الشرع وهو نصوص الأنبياء والكتب المنزلة لا من جهة العقل وزعموا أن الكتب الإلهية نطقت بذلك ثم تكلفوا لما ظنوه مدلول الكتاب طريقا عقلية فسروه بها تفسيرا ظنوه جائزا في العقل ولهذا نجد النصارى لا يلجأون في التثليث والاتحاد إلا إلى الشرع والكتب وهم يجدون نفرة عقولهم وقلوبهم عن التثليث والاتحاد والحلول فإن فطرة الله التي فطر الناس عليها وما جعله الله في قلوب الناس من المعارف العقلية التي قد يسمونها ناموسا عقليا طبيعيا يدفع ذلك وينفيه وينفر عنه ولكن يزعمون أن الكتب الإلهية جاءت بذلك وأن ذلك أمر يفوق العقل وأن هذا الكلام من طور وراء طور العقل

فينقلونه لظنهم أن الكتب الإلهية أخبرت به لا لأن العقول دلت عليه مع أنه ليس في الكتب الإلهية ما يدل على ذلك بل فيها ما يدل على نقيضه كما سنذكره إن شاء الله تعالى ولا يميزون بين ما يحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع وبين ما يعجز عنه العقل فلا يعرفه ولا يحكم فيه بنفي ولا إثبات وأن الرسل أخبرت بالنوع الثاني ولا يجوز أن تخبر بالنوع الأول فلم يفرقوا بين محالات العقول ومحارات العقول وقد ضاهوا في ذلك من قبلهم من المشركين الذين جعلوا لله ولدا شريكا
قال تعالى
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون
وقد ضاهاهم في ذلك أهل البدع والضلال المشبهون لهم من المنتسبين إلى الإسلام الذين يقولون نحو قولهم من الغلو في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ وغيرهم ومن يدعي الوحدة أو الحلول أو الاتحاد الخاص المعين كدعوى النصارى ودعوى الغالية من الشيعة في علي وطائفة من أهل البيت كالنصيرية ونحوهم ممن يدعي

إلهية علي وكدعوى بعض الإسماعيلية الإلهية في الحاكم وغيره من بني عبد الله بن ميمون القداح المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر
ودعوى كثير من الناس نحو ذلك في بعض الشيوخ إما المعروفين بالصلاح وإما من يظن به الصلاح وليس من أهله فإن لهم أقوالا من جنس أقوال النصارى وبعضها شر من أقوال النصارى
وعامة هؤلاء إذا خوطبوا ببيان فساد قولهم قالوا من جنس قول النصارى هذا أمر فوق العقل ويقول بعضهم ما كان يقوله التلمساني لشيخ أهل الوحدة يقول ثبت عندنا في الكشف

ما يناقض صريح النقل ويقولون لمن أراد أن يسلك سبيلهم دع العقل والنقل أو اخرج من العقل والنقل
وينشدون فيهم
... مجانين إلا أن سر جنونهم ... عزيز على أقدامه يسجد العقل ...
... هم معشر حلوا النظام وحرقوا ... السياج فلا فرض لديهم ولا نقل ...
وهؤلاء مقلدون لمشايخهم متبعون لهم فيما يخرجون به عن شريعة الرسول وما ابتدعوه مما لم يأذن به الله باتخاذ البدع عبادات واستحلال المحرمات كتقليد بعض النصارى لشيوخهم وإذا اعترض على أحد منهم يقولون الشيخ يسلم له حاله ولا يعترض عليه كما يقول النصارى لشيوخهم ومن هؤلاء من يقول نحن أولاد الله

ويقول المسيح هو ولد الله وينطق أيضا بلفظ الشهوة فيقول إنهم أولاد شهوة ويقول إنه زوج مريم كما يقول ذلك من يقوله من النصارى
وغاية ما عندهم أنهم يحكون عن شيوخهم نوعا من خرق العادات قد يكون كذبا وقد يكون صدقا وإذا كانت صدقا فقد يكون من أحوال أولياء الشيطان كالسحرة والكهان وقد يكون من أحوال أولياء الرحمن وإذا كانت من أحوال أولياء الرحمن لم يكن في ذلك ما يوجب تقليد الولي في كل ما يقوله إذ الولي لا يجب أن يكون معصوما ولا يجب اتباعه في كل ما يقوله ولا الإيمان بكل ما يقوله
وإنما هذا من خصائص الأنبياء الذين يجب الإيمان بكل ما يقولونه فيجب تصديقهم في كل ما يخبرون به من الغيب وطاعتهم فيما أوجبوه على الأمم ومن كفر بشيء مما جاؤوا به فهو كافر ومن سب نبيا واحدا وجب قتله وليس هذا لغير الأنبياء من الصالحين
فهؤلاء المبتدعة الغلاة المشركون القائلون بنوع من الحلول هم

مضاهئون للنصارى بقدر ما شابهوهم فيه وخالفوا فيه دين المسلمين ومنهم من تكون موافقته لدين المسلمين أكثر وأما الغلاة منهم فموافقتهم للنصارى أكثر ومنهم من هو أكفر من النصارى ولما كان مستند النصارى هو ما ينقلونه إما عن الأنبياء وإما عن غيرهم ممن يوجبون اتباعه كانوا إذا أوردوا على علمائهم ما يقتضي امتناع ذلك قالوا هكذا في الكتاب وبهذا نطق الكتاب وهذه الكتب جاءت بها الرسل يعنون المؤيدين بالمعجزات ويعنون بالرسل الحواريين فاعتصامهم بها إنما هو لما ظنوه مذكورا في الكتب الإلهية وإن رأوه مخالفا لصريح المعقول
ولهذا ينهون جمهورهم عن البحث والمناظرة في ذلك لعلمهم بأن العقل الصريح متى تصور دينهم علم أنه باطل فدعوى المدعين أنا إنما قلنا أب وابن وروح قدس لتصحيح القول بأن الله حي ناطق كذب ظاهر وهم يعلمون أنه كذب وتصحيح القول بأن الله حي متكلم لا يقف على هذه العبارة بل يمكنه تصحيح ذلك بالأدلة الشرعية والسمعية والعقلية والتعبير عنه بالعبارات البينة كما يقوله المسلمون وغيرهم بدون قولنا أب وابن وروح قدس
ومما يبين ذلك الوجه الثاني وهو أن النصارى المقرون بأن

هذه العبارة في الإنجيل المأخوذ عن المسيح مختلفون في تفسير هذا الكلام فكثير منهم يقول الأب هو الوجود والابن هو الكلمة وروح القدس هو الحياة
ومنهم من يقول بل الأب هو الوجود والابن هو الكلمة وروح القدس هو القدرة
وبعضهم يقول إن الأقانيم الثلاثة جواد حكيم قادر فيجعل الأب هو الجواد والابن هو الحكيم وروح القدس هو القادر ويزعمون أن جميع الصفات تدخل تحت هذه الثلاثة ويقولون إنا استدللنا على وجوده بإخراجه الأشياء من العدم إلى الوجود وذلك من جوده
وقد رأيت في كتب النصارى هذا وهذا وهذا ومنهم من يعبر عن الكلمة بالعلم فيقولون موجود حي عالم أو موجود عالم قادر كما يقول بعضهم ناطق ومنهم من يقول موجود حي حكيم ومنهم من يقول قائم بنفسه حي حكيم وهم متفقون على أن المتحد بالمسيح والحال فيه هو أقنوم الكلمة وهو الذي يسمونه الابن دون الأب ومن انكر الحلول والاتحاد منهم كالأريوسية يقول إن المسيح عليه السلام عبد مرسل كسائر الرسل صلوات الله عليهم وسلامه فوافقهم على لفظ الأب والابن وروح القدس ولا يفسر ذلك بما يقوله منازعوه من الحلول والاتحاد

كما أن النسطورية يوافقونهم أيضا على هذا اللفظ وينازعونهم في الاتحاد الذي يقوله اليعقوبية والملكية فإذا كانوا متفقين على اللفظ متنازعين في معناه علم أنهم صدقوا أولا باللفظ لأجل اعتقادهم مجيء الشرع به ثم تنازعوا بعد ذلك في تفسير الكتاب كما يختلفون هم وسائر أهل الملل في تفسير بعض الكلام الذي يعتقدون أنه منقول عن الأنبياء عليهم السلام وعلم بذلك أن أصل قولهم الأب والابن وروح القدس لم يكن لأجل تصحيح القول بأن الله موجود حي ناطق الذي علموه أولا بالعقل
يوضح هذا الوجه الثالث وهو قولهم إنما لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها إن كان المتكلم بهذا طائفة معينة من النصارى فيقال لهؤلاء القول بالأب والابن وروح القدس موجود عند النصارى قبل وجودكم وقبل نظركم هذا واستدلالكم فلا يجوز أن يكون نظركم هو الموجب لقول النصارى هذا وإن كان المراد به أن جميع النصارى من حين قالوا هذا الكلام نظروا واستدلوا حتى قالوا ذلك فهذا كذب بين فإن هذا الكلام يقول النصارى إنهم تلقوه من الإنجيل وأن المسيح عليه السلام قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس

والمسيح والحواريون لم يأمروهم بهذا النظر الموجب لهذا القول ولا جعل المسيح هذا القول موقوفا عندهم على هذا البحث فعلم أن جعلهم هذا القول ناشئا عن هذا البحث قول باطل يعلمون هم بطلانه
الوجه الرابع إن هذا القول إن كان المسيح لم يقله فلا يجوز أن يقال ولو عنى به الإنسان معنى صحيحا فإن هذه العبارة إنما يفهم منها عند الإطلاق المعاني الباطلة ولهذا يوجد كثير من عوام النصارى يعتقدون أن المسيح ابن الله البنوة المعروفة في المخلوقات ويقولون إن مريم زوجة الله وهذا لازم لعامة النصارى وإن لم يقولوه فإن الذي يلد لا بد له من زوجة
ولهذا قال تعالى
أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم
وجعل الرب والد المولود أنكر في العقول من إثبات صاحبة له سواء فسرت الولادة بالولادة المعروفة أو بالولادة العقلية التي يقولها علماء النصارى فإن من أثبت صاحبة له يمكنه تأويل ذلك كما تأولوا هم الولد ويقولون إن الأب ولدت منه الكلمة ومريم ولد منها الناسوت واتحد الناسوت باللاهوت فكما أن الأب أب باللاهوت لا بالناسوت ومريم أم للناسوت لا للاهوت فكذلك هي صاحبة للأب بالناسوت واللاهوت زوج مريم بلاهوته كما أنه أب للمسيح

بلاهوته وإذا اتحد اللاهوت بناسوت المسيح مدة طويلة فلماذا يمتنع أن يجتمع اللاهوت بناسوت مريم مدة قصيرة وإذا جعل الناسوت الذي ولدته ابنا للاهوت فلأي شيء لا تجعل هي صاحبة وزوجة للاهوت فإن المسيح عندهم اسم لمجموع اللاهوت والناسوت وهو عندهم إله تام وإنسان تام فلاهوته من الله وناسوته من مريم فهو من أصلين لاهوت وناسوت فإذا كان أحد الأصلين أباه والآخر أمه فلماذا لا تكون أمه زوجة أبيه بهذا الاعتبار مع أن المصاحبة قبل البنوة فكيف يثبت الفرع الملزوم بدون ثبوت الأصل اللازم
وليس في ذلك من المحال على أصلهم إلا ما هو من جنس إثبات بنوة المسيح وأقل امتناعا وإن كان المسيح عليه السلام قال هذا الكلام فقد علمنا أن المسيح عليه السلام وغيره من الأنبياء معصومون لا يقولون إلا الحق وإذا قالوا قولا فلا بد له من معنى صحيح
ويمتنع أن يريدوا بقولهم ما يمتنع بطلانه بسمع أو عقل فإذا كانت العقول ونصوص الكتب المتقدمة مع نصوص القرآن تناقض ما ابتدعته النصارى في المسيح علم أن المسيح لم يرد معنى باطلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول
بل نقول في الوجه الخامس إن صحت هذه العبارة عن المسيح

المعصوم عليه الصلاة و السلام فإنه أراد بذلك ما يناسب سائر كلامه وفي الموجود في كتبهم تسمية الرب أبا وتسمية عباده أبناء كما يذكرون أنه قال في التوراة ليعقوب إسرائيل أنت ابني بكري وقال لداود في الزبور أنت ابني وحبيبي وفي الإنجيل في غيرموضع يقول المسيح أبي وأبيكم كقوله إني أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فيسميه أبا لهم كما يسميهم أبناء له فإن كان هذا صحيحا فالمراد بذلك أنه الرب المربي الرحيم فإن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها والابن هو المربى المرحوم فإن تربية الله لعبده أكمل من تربية الوالدة لولدها فيكون المراد بالأب الرب والمراد بالابن عنده المسيح الذي رباه
وأما روح القدس فهي لفظة موجودة في غير موضع من الكتب التي عندهم وليس المراد بها حياة الله باتفاقهم بل روح القدس عندهم تحل في إبراهيم وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء الصالحين

والقرآن قد شهد أن الله أيد المسيح بروح القدس كما قال تعالى
وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس
في موضعين من البقرة
وقال تعالى
ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس
وقد قال النبي لحسان بن ثابت
إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه وقال
اللهم أيده بروح القدس كما تقدم ذكره هذا كله مبسوطا
وروح القدس قد يراد بها الملك المقدس كجبريل ويراد بها الوحي والهدى والتأييد الذي ينزله الله بواسطة الملك أو بغير واسطته وقد يكونان متلازمين فإن الملك ينزل بالوحي والوحي ينزل به الملك والله تعالى يؤيد رسله بالملائكة وبالهدى كما قال تعالى عن نبيه محمد
فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها

في موضعين من سورة براءة
وقال الله تعالى
فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها
وقال تعالى
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا
وقال تعالى
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
وقال الله تعالى
ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده
وقال تعالى
يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق
وقال
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان

ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا
وإذا كان روح القدس معروفا في كلام الأنبياء المتقدمين والمتأخرين أنها أمر ينزله الله على أنبيائه وصالحي عباده سواء كان ملائكة تنزل بالوحي والنصر أو وحيا وتأييدا مع الملك وبدون الملك ليس المراد بروح القدس أنها حياة الله القائمة به كان المعصوم إن كان قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس مراده مروا الناس أن يؤمنوا بالله ونبيه الذي أرسله وبالملك الذي أنزل عليه الوحي الذي جاء به فيكون ذلك أمرا لهم بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وهذا هو الحق الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول
فتفسير كلام المعصوم بهذا التفسير الذي يوافق سائر ألفاظ الكتب التي عندهم ويوافق القرآن ويوافق العقل أولى من تفسيره بما يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول
وهذا تفسير ظاهر ليس فيه تكلف ولا هو من التأويل الذي هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره بل هو تفسير له بما يدل ظاهره عليه باللغة المعروفة والعبارة المألوفة في خطاب المسيح وخطاب سائر الأنبياء
أما تفسير النصارى بأن الابن مولود قديم أزلي هو العلم أو كلمة

الله فتفسير للفظ بما لم يستعمل هذا اللفظ فيه لا في كلام أحد من الأنبياء ولا لغة أحد من الأنبياء وكذلك تفسير روح القدس بحياة الله فالذي فسر النصارى به ظاهر كلام المسيح هو تفسير لا تدل عليه لغة المسيح وعادته في كلامه ولا لغة غيره من الأنبياء والأمم بل المعروف في لغته وكلامه وكلام سائر الأنبياء تفسيره بما فسرناه وبذلك فسره أكابر علماء النصارى
وأما ضلال النصارى المحرفون لمعاني كتب الله عز و جل فسروه بما يخالف معناه الظاهر وينكره العقل والشرع
وتمام هذا بالوجه السادس وهو أن النصارى لما كان عندهم في الكتب تسمية المسيح عليه السلام ابنا وتسمية غيره من الأنبياء ابنا كقوله ليعقوب أنت ابني بكري وتسمية الحواريين أبناء قالوا هو ابنه بالطبع وغيره هو ابنه بالوضع فجعلوا لفظ الابن مشتركا بين معنيين وأثبتوا لله طبعا جعلوا المسيح ابنه باعتبار ذلك الطبع وهذا يقرر قول من يفهم منهم أنه ابنه البنوة المعروفة في المخلوقين وأن مريم زوجة الله
وكذلك جعلوا روح القدس مشتركة بين حياة الله وبين روح القدس التي تنزل على الأنبياء والصالحين ومعلوم أن الاشتراك على

خلاف الأصل وأن اللفظ إذا استعمل في عدة مواضع كان جعله حقيقة متواطئا في القدر المشترك أولى من جعله مشتركا اشتراكا لفظيا بحيث يكون حقيقة في خصوص هذا أو يكون مجازا في أحدهما فإن المجاز والاشتراك على خلاف الأصل هذا إن قدر أن لفظ الابن وروح القدس استعمل في نطق الله وحياته كما يزعم النصارى فكيف إذا لم يوجد في كلام الأنبياء أنهم قالوا لفظ الابن ولفظ روح القدس وأرادوا به شيئا من صفات الله لا كلامه ولا حياته ولا علمه ولا غير ذلك بل لم يوجد استعمال لفظ الابن في كلام الأنبياء إلا في شيء مخلوق ولم يوجد استعمال روح القدس كما هو من صفات الله القائمة به ونحن إذا فسرنا الأب وروح القدس ببنوة التربية وروح القدس بما ينزل على الأنبياء كنا قد جعلنا اللفظ مفردا متواطئا وهم يحتاجون أن يجعلوا اللفظ مشتركا أو مجازا في أحد المعنيين فكان تفسيرهم مخالفا لظاهر اللغة التي خوطبوا بها ولظاهر الكتب التي بأيديهم وتفسيرنا موافقا لظاهر لغتهم وظاهر الكتب التي بأيديهم وحينئذ فقد تبين أنه ليس معهم بالتثليث لا حجة سمعية ولا عقلية بل هوباطل شرعا وعقلا
ويؤيد هذا الوجه السابع وهو أنهم في أمانتهم أثبتوا من

المعاني ولفظ الأقانيم وغير ذلك ما لا تدل عليه الكتب التي بأيديهم البتة بل فهموا منها معنى باطلا وضموا إليه معاني باطلة من عند أنفسهم فكانوا محرفين لكتب الله في ذلك مفترين على الله الكذب وهذا مبسوط في موضع آخر
الوجه الثامن أن قولهم بالأقانيم مع بطلانه في العقل والشرع لم ينطق به عندهم كتاب ولم يوجد هذا اللفظ في شيء من كتب الأنبياء التي بأيديهم ولا في كلام الحواريين بل هي لفظة ابتدعوها ويقال إنها رومية وقد قيل الأقنوم في لغتهم معناه الأصل ولهذا يضطربون في تفسير الأقانيم تارة يقولون أشخاص وتارة خواص وتارة صفات وتارة جواهر وتارة يجعلون الأقنوم اسما للذات والصفة معا وهذا تفسير حذاقهم
الوجه التاسع قولهم في المسيح عليه السلام إنه خالق قول مع بطلانه في الشرع والعقل قول لم ينطق به شيء من النبوات التي عندهم ولكن يستدلون على ذلك بما لا يدل عليه كما سنبينه إن شاء الله تعالى
الوجه العاشر قولهم في تجسد اللاهوت أيضا هو قول مع بطلانه في العقل والشرع قول لا يدل عليه شيء من كلام المعصوم من النبيين والمرسلين

الوجه الحادي عشر إنا نقول لا ريب أن الله حي عالم قادر متكلم وللمسلمين على ذلك من الدلائل العقلية التي دل الرسول عليها وأرشد إليها فصارت معروفة بالعقل مدلولا عليها بالشرع ما هو مبسوط في موضعه وأنتم مع دعواكم أنكم تثبتون ذلك بالعقل لم تذكروا على ذلك دليلا عقليا
فقولكم لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب كلام قاصر من وجوه
أحدها أنكم لم تروا حدوث جميع المخلوقات وإنما رأيتم حدوث ما يشهد حدوثه كالسحاب والمطر والحيوان والنبات ونحو ذلك فأين دليلكم على حدوث سائر الأشياء
الثاني أنه كان ينبغي أن تقولوا لما علم حدوث المحدثات أو حدوث المخلوقات أو حدوث ما سوى الله ونحو ذلك مما يبين أن المحدث ما سوى الله فأما إطلاق حدوث جميع الأشياء فباطل فإن الله يسمى عندكم وعند جمهور المسلمين شيئا من الأشياء وهذا بخلاف قوله تعالى قل الله خالق كل شيء
فإن هذا التركيب يبين أن الخالق غير المخلوق خلاف قول القائل حدوث الأشياء

الثالث أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث علم فطري ضروري ولهذا قال الله تعالى في القرآن
أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون
قال جبير بن مطعم لما سمعت النبي يقرأ بها في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع يقول تعالى أخلقوا من غير خالق خلقهم أم هم الخالقون لأنفسهم
ومعلوم بالفطرة التي فطر الله عليها عباده بصريح العقل أن الحادث لا يحدث إلا بمحدث أحدثه

وإن حدوث الحادث بلا محدث أحدثه معلوم البطلان بضرورة العقل وهذا أمر مركوز في بني آدم حتى الصبيان لو ضرب الصبي ضربة فقال من ضربني فقيل ما ضربك أحد لم يصدق عقله أن الضربة حدثت من غير فاعل
ولهذا لو جوز مجوز أن يحدث كتابة أو بناء أو غراس ونحو ذلك من غير محدث لذلك لكان عند العقلاء إما مجنونا وإما مسفسطا كالمنكر للعلوم البديهية والمعارف الضرورية وكذلك معلوم أنه لم يحدث نفسه فإن كان معدوما قبل حدوثه لم يكن شيئا فيمتنع أن يحدث غيره فضلا عن أن يحدث نفسه
فقولكم لم يكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب تعليل باطل فإن علمنا بأن حدوثها لم يكن من ذواتها ليس لأجل ما فيها من التضاد والتقلب بل سواء كانت متماثلة أو مختلفة أو متضادة نحن نعلم بصريح العقل أن المحدث لا يحدث نفسه وهذا من أظهر المعارف وأبينها للعقل كما يعلم أن العدم لا يخلق موجودا وأن المحدث للحوادث الموجودة لا يكون معدوما
الوجه الرابع أنكم ذكرتم حجة على أنها لم تحدث نفسها وهي

حجة ضعيفة ولم تذكروا حجة على أنها حدثت بلا محدث لا أنفسها ولا غيرها فإن كان امتناع كونها أحدثت نفسها محتاجا إلى دليل فكذلك امتناع حدوثها بلا محدث وإن كان معلوما ببديهة العقل وهو من العلوم الضرورية فكذلك الآخر فذكر الدليل على أحدهما دون الآخر خطأ لو كنتم ذكرتم دليلا صحيحا فكيف إذا كان الدليل باطلا ومن يكون مبلغهم من العلم بالأدلة العقلية التي يثبتون بها العلم بالصانع وصفاته هذا المبلغ ثم يريدون مع ذلك أن يثبتوا معاني عقلية ويزعمون أنها موافقة لفهمهم الباطل من الكتب الإلهية فهم ممن قال الله فيهم
سورة النور الآيتان 39 40
الوجه الثاني عشر قولكم فقلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء لننفي عنه العدم
فيقال لهم لا ريب أن الله كما وصف نفسه بقوله تعالى
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير
وقوله فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا

أي مثلا يستحق أن يسمى بأسمائه وقوله تعالى
قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
وقد دل على ذلك العقل فإن المثلين اللذين يسد أحدهما مسد الآخر يجب لأحدهما ما يجب للآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجوز عليه ما يجوز عليه فلو كان للخالق مثل للزم أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع
والخالق يجب له الوجود والقدم ويمتنع عليه العدم فيلزم أن يكون المخلوق واجب الوجود قديما أزليا لم يعدم قط وكونه محدثا مخلوقا يستلزم أن يكون كان معدوما فيلزم أن يكون موجودا معدوما قديما محدثا وهو جمع بين النقيضين يمتنع في بداية العقول وأيضا فالمخلوق يمتنع عليه القدم ويجب له سابقة العدم فلو وجب للخالق القديم ما يجب له لوجب كون الواجب للقدم واجب الحدوث بعد العدم وهذا جمع بين النقيضين فالعقل الصريح يجزم بأن الله ليس كمثله شيء والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر لكن أنتم لم تذكروا على ذلك حجة بل قلتم أنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء فلم تذكروا حجة على أنه خالق كل شيء إذ كان عمدتكم على ما شهدتم حدوثه وليس ذلك كل شيء ولم تذكروا

حجة مع كونه خالق كل شيء على أنه ليس كمثله شيء بل قلتم لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها لما فيها منا التضاد والتقلب فقلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء وذلك لننفي العدم عنه ودليلكم لو دل على العلم بالصانع لم يدل إلا على أنه خالق فكيف إذا لم يدل
ولا ريب أن الخالق سبحانه يجب أن يكون موجودا لا معدوما وهذا معلوم بالضرورة لا يحتاج إلى دليل عند جمهور العقلاء والنظار وإن كان بعضهم أثبت وجوده بالدليل النظري لكن ليس في دليلكم ما يدل على أنه ليس كالأشياء المخلوقة وقولكم إذ هو الخالق لكل شيء يتضمن أنه خالق لكل ما سواه ليس فيه بيان نفي للمماثلة عنه ولكن بينتم بهذا الكلام جهلكم بالدلائل العقلية كجهلكم بالكتب المنزلة وكذلك أخبر تعالى عن أهل النار بأنهم يقولون
وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير

فصل
وأما قولكم ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين شيء حي وشيء غير حي فوصفناه بأجل القسمين فقلنا إنه حي لننفي الموت عنه
فيقال لا ريب أن الله حي كما نطقت بذلك كتبه المنزلة التي هي آياته القولية ودلت على ذلك آياته كمخلوقاته التي هي آياته الفعلية قال تعالى
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق
أي القرآن حق وقد تقدم ذكر القرآن في قوله
قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد
فالله تعالى يرى عباده من آياته المشاهدة المعاينة الفعلية ما يبين صدق آياته المنزلة المسموعة القولية
قال تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم

وقال تعالى وتوكل على الحي الذي لا يموت
والدلائل على حياته كثيرة
منها أنه قد ثبت أنه عالم والعلم لا يقوم إلا بحي وثبت أنه قدار مختار يفعل بمشيئته والقادر المختار لا يكون إلا حيا
ومنها أنه خالق الأحياء وغيرهم والخالق أكمل من المخلوق فكل كمال ثبت للمخلوق فهو من الخالق فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من خالقه وكماله أكمل منه
والمتفلسفة القائلون بالموجب بالذات يسلمون هذا ويقولون كمال المعلول مستفاد من علته فإذا كان خالقا للأحياء كان حيا بطريق الأولى والأحرى
ومنها أن الحي أكمل من غير الحي كما قال تعالى
وما يستوي الأحياء ولا الأموات
فلو كان الخالق غير حي لزم أن يكون الممكن المحدث المخلوق أكمل من الواجب القديم الخالق فيكون أنقص الموجودين أكمل من أكملها وهذا الوجه يتناول ما ذكروه من الدليل وإن كانوا لم يبينوه بيانا تاما لكن قولهم قلنا أنه حي لننفي الموت عنه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9