كتاب : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
اكتسبه من صفات الناسوت الذي هو عندهم بمنزلة البدن للنفس وأما قولهم إذ لم نهمل ما تسلمناه ولم نرفض ما تقلدناه فقولهم في ذلك بمنزلة قول اليهود للمسيح إنا لا نهمل ما تسلمناه ولا نرفض ما تقلدناه من موسى عليه السلام
وجواب الطائفتين من وجهين
أحدهما أنكم بدلتم وحرفتم الكتاب الذي أنزل إليكم والشرع الذي شرع لكم وتبديل المعاني والأحكام لا ريب فيه عند جميع عقلاء الأنام وما كان عليه اليهود بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه موسى عليه السلام وما كان عليه النصارى بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه المسيح عليه السلام
والثاني أنكم كذبتم بالكتاب الآخر والرسول الآخر الذي أرسل إليكم ومن كذب ما أنزل إليه من ربه والرسول الذي أرسل إليه كان كافرا مستحقا لعذاب الدنيا والآخرة وإن كان قبل ذلك متبعا لشرع رسول وكتاب غير مبدل فكيف إذا كان قد بدل ما بدل من أحكامه ومعانيه
فصل
وأما قولهم ولنا هذه الشهادات والدلائل من الكتاب الذي في أيدي هؤلاء القوم
فيقال لا يصح استشهادهم بهذا الكتاب واستدلالهم بوجه من الوجوه فإن الذي قد جاء به قد تواتر عنه أنه أخبر أنه مرسل إليهم وأنهم كفار إذا لم يؤمنوا به مستحقون للجهاد ومن لم يستحل جهادهم فهو كافر والقرآن مملوء بكفرهم فإن كان هذا رسولا من الله وقد أخبر بكفرهم ثبت أنهم كفار
فإن الرسول لايقول على الله إلا حقا لا يكذب على الله في شيء ومن كذب على الله ولو في كلمة واحدة فهو من الكذابين المفترين على الله الكذب مستحق لعقوبة الكذابين كما قال
تعالى
ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين
أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته
وقال تعالى
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين
وقال تعالى
سورة يونس الآيتان 15 16
فمتى كانت كلمة من كلمات هذا الكتاب كذبا على الله لم يكن كتاب الله ولم يكن جاء به رسول الله فإن الكاذب قد يصدق في أكثر
ما يقوله لكن إذا كذب في بعض ما يقوله كان كاذبا والله تعالى لايرسل من يكذب عليه فإن المخلوق لا يرضى أن يرسل من يعلم أنه يكذب عليه ولو فعل ذلك دل على جهله أو عجزه فكيف يرسل رب العالمين من يعلم أنه يكذب عليه
وحينئذ فمتى كذبوا بكلمة واحدة مما في الكتاب لم يصح استشهادهم واستدلالهم بشيء مما في الكتاب وإن صدقوا بالكتاب كله لزمهم الإيمان بما جاء به واتباع شريعته والاعتراف بكفر الذين كذبوه وكفر الذين يقولون إن الله هو المسيح ابن مريم وإن الله ثالث ثلاثة
وهذا بخلاف من آمن بالرسول ولم يثبت عنده بعض ما نقل عنه أو لم يعرف معناه فإن هذا لا يقدح في أصل إيمانه بالرسول
فالمسلمون إذا كذبوا ببعض ما نقل عن موسى والمسيح فهو لطعنهم في الناقل لا في النبي المنقول عنه
وأما النصارى فيعلمون أن محمدا جاء بالقرآن فطعنهم في بعضه طعن في الرسول نفسه وكفر به وليس هذا بمنزلة ما مثلوا به من الوثيقة التي كتب وفاؤها في ظهرها فإن الذي له الدين أقر بالاستيفاء المسقط له فلم يبق هناك حق له يدعيه بخلاف ما يخبر به الذي
يقول إنه رسول الله فإنه يقول إن الله أنزل علي هذا الكتاب كله وأرسلني بكذا وكذا إلى كذا وكذا فإن كذب في شيء مما أخبر به عن الله لم يكن الله أرسله فإن الذي أرسله هو الذي جعله يبلغ عنه ما يقوله بلا زيادة ولا نقص وإرسال الله للرسول يتضمن شيئين
إنشاء الله للرسالة والله حكيم وهو أعلم حيث يجعل رسالاته لا يجعلها إلا فيمن هو من أكمل الخلق وأصدقهم
ويتضمن إخبار الله عنه بأنه صادق عليه فيما يبلغه عنه مما يقول إن الله أرسله به فكما صدقه بالآيات المعجزات في قوله إنه أرسلني فقد صدقه بما يقول إنه أرسلني به إذ التصديق بكونه أرسله من غير معرفة بصدقه فيما يخبر به لا فائدة فيه ولا يحصل به مقصود الإرسال
والله تعالى عليم بما يشهد به لمن أرسله بخلاف المخلوق الذي يبعث من يظنه يصدق فيما يبلغه عنه فيظهر أنه كذب عليه والله يعلم عواقب الأمور والرسالة صادرة من علمه وحكمته وهو عليم حكيم ومن يكذب على الله ولو في كلمة لم يبلغ عنه ما يقوله على هذا الوجه فلا يكون رسوله
ولهذا اتفق أهل الملل على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله لا يكذبون عليه عمدا ولا خطأ فإن هذا مقصود الرسالة فكان تمثيل هذا بالوثيقة تمثيلا باطلا فإن المدعى للإسقاط لم يدع كلاما
متناقضا بل قال أقررت بهذا الدين ثم وفيتك إياه وأنت تقر بوفائه وإقرارك مكتوب في ظهرها فليس لك أن تحتج بإقراري بالدين دون إقرارك بالوفاء بل إما أن تعتبر ما في الوثيقة من إقراري وإقرارك وإما أن تبطل الأمرين المتعارضين
وهذا كلام عدل كالشريكين المتفاوضين مثل شريكي العنان إذا قال لصاحبه إن حصل ربح فهو لي ولك وإن لم يحصل ربح فلا لي ولا لك
وكذلك البائع والمؤاجر الذي يقول إن كان بيننا معاوضة فعليك تسليم ما بذلته وعلي تسليم ما بذلته لايستحق هذا إلا بهذا فهذا كله كلام عادل وإنصاف بخلاف الشخص الذي يقال فيه إنه رسول الله والكتاب الذي يقال إنه كلام الله وأن الله أنزله فإن هذا إن كان رسولا صادقا فجميع ما بلغه من الله حق وإن كان كاذبا لم يكن الله أرسله فجميع ما بلغه عن الله كذب على الله فلا يجوز بمجرد خبره أن ينسب إلى الله شيء ولا يحتج بما يخبر به عن الله على شيء
ألا ترى أن من ادعى الرسالة وعلم أنه كاذب كالأسود العنسي
ومسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي والحارث الدمشقي وبابا الرومي وغير هؤلاء لا يجوز لأحد أن يحتج بشيء مما ذكروا أن الله أرسلهم به وإن كان ذلك القول قد علم أنه حق من جهة أخرى فإنه قد علم بكذبهم أن الله لم يرسلهم فأي شيء قالوا إن الله أنزله عليهم كانوا كاذبين فيه ومتى علم أنه كاذب في نفس الخبر المعين لم يجز أن يحتج بجنس الذي علم أنه كذب فيه
وكذلك لو قال رجل عندي أن موسى أو داود أو المسيح كذبوا على الله في بعض ما يخبرون به عن الله كانوا بمنزلة من لم يرسلهم الله بشيء لكن كذبوا في قولهم إن الله أرسلهم فإذا أراد مع هذا أن يحتج بما ينقل من التوراة والزبور والإنجيل عن الله كان متناقضا وكان احتجاجه باطلا غير مقبول بل لو قال أنا أشك في بعض ما أخبروا به عن الله هل كذبوا فيه أم لا كان كذلك شكا في أن الله أرسلهم فإن من أرسله الله لا يكذب في شيء لا خطأ ولا عمدا ومع شكه في
ذلك لا يجوز أن يحتج بشيء مما ينقلونه عن الله لتجويز ان يكونوا كاذبين في نفس ذلك الذي نقلوه عن الله وليس هذا مثل رسول الواحد من الآدميين فإنه قد يكون أرسله ثم أن الرسول صدق في بعض ما بلغه عن مرسله وكذب في البعض
ويجوز على الآدمي أن يرسل من يكذب عليه لعدم علمه بكذبه أو عدم حكمته في إرساله
وأما الرب تعالى فلا يجوز أن يرسل نبيا يكذب عليه لا عمدا ولا خطأ وكذلك الشاهد والمخبر الذي قد علم أنه تارة يصدق وتارة يكذب يمكن أن يستدل ببعض أخباره الذي يظهر فيها صدقه لدلالات تقترن بذلك بخلاف الرسول فإنه إذا كذب كذبة واحدة امتنع أن يكون الله أرسله فصار جميع ما يبلغه عن الله هو كاذب في أن الله أرسله به فكذبه في كلمة واحدة يوجب أنه كاذب في جميع ما بلغه عن الله وأن جميع ما حكاه ورواه عن الله قد كذب فيه وإن قدر أن ذلك الكلام في نفسه حق لكن تبليغه عن الله ونقله وروايته وحكايته عن الله كذب على الله
وقد أخبر الله أنه ينسخ ما يلقيه الشيطان مما يناقض مقصود التبليغ بقوله تعالى
سورة الحج الآيات 52 55
وإن قالوا خبره يناقض بعضه بعضا كان الجواب من وجهين
أحدهما أن هذا أيضا إن كان حقا فإنه يقدح في رسالته فإن الرسول لا يناقض بعض خبره بعضا ومن كان كذلك لم يصح لكم أن تحتجوا بشيء مما جاء به وإن كان باطلا لم يرد عليه
فعلم أن استدلالهم بما في هذا الكتاب على صحة دينهم الذي خالفوا به هذا الكتاب في غاية الفساد وهو جمع بين النقيضين واستدلال بما في الكتاب على ما يوجب بطلان الاستدلال بشيء مما في الكتاب
وإذا كانت النتيجة تستلزم فساد بعض مقدمات الدليل بطل
الاستدلال بذلك الدليل الذي لا يصح إلا بصحة مقدماته فإذا كانت مقدمته لا تصح إلا مع فساد نتيجته ونتيجه مستلزمة لفساد مقدمته كان الجمع بين صحة المقدمة والنتيجة جمعا بين النقيضين
وكذلك من استدل بشيء من الكتاب على ما يناقض ما في الكتاب كاستدلال النصارى بآيات فيه على صحة دينهم كان تناقضا فإنه إن صح ذلك الدليل بأن مدح دينهم مع ذمه كان متناقضا والكتاب المتناقض لا يكون كتاب الله
وإن فسد أحدهما إما فساد دينهم وإما فساد مدحه فالكتاب الذي فيه فساد لا يكون كتاب الله فيلزم أن لا يكون كتاب الله على التقديرين فلا يصح الاستدلال به من جهة كونه خبر الله وأما الاستدلال به من جهة كون المتكلم به رجلا عالما حكيما وهذا لا يفيد العلم إذ ليس معصوما إلا الأنبياء عليهم السلام
والنصارى يجوزون أن يكون معصوما غير الأنبياء فبتقدير أن يكون كذلك فهو حجة عليهم وإن قالوا هو رجل عالم ليس برسول من الله قيل لهم فهذا قوله ليس بحجة لجواز أن يخطىء ولكن يعتضد بقوله وأما إذا ادعى أن الله أرسله وهو لم يرسله بهذا الكتاب كله فهذا كذاب لايحتج بشيء من كلامه ولا يكون مثل هذا عدلا
فضلا عن أن يكون حكيما بل هو من الذين افتروا على الله كذبا
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء
والجواب الثاني أنا قد بينا أن ما ذكروه لا يناقض شيئا مما أخبر به وأنه ليس في هذا الكتاب تناقض يحتجون به بوجه من الوجوه
وأما قولهم وأعظم حجتنا ما وجدناه فيه من الشهادة لنا بأن الله جعلنا فوق الذي كفروا إلى يوم القيامة
فيقال بل ما ذكروه حجة عليهم لا لهم فإن الله أخبر المسيح أنه جاعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وخبر الله حق ووعد الله صدق والله لا يخلف الميعاد فلما اتبع المسيح من آمن به جعلهم الله فوق الذين كفروا به من اليهود وغيرهم
ثم لما بعث الله محمدا بالدين الذي بعث به المسيح وسائر الأنبياء قبله وكان محمد مصدقا لما جاء به المسيح وكان المسيح مبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد صارت أمة محمد أتبع للمسيح عليه السلام من النصارى الذين غيروا شريعته وكذبوه فيما بشر به فجعل الله أمة محمد فوق النصارى إلى يوم القيامة
كما جعلهم أيضا فوق اليهود إلى يوم القيامة والنصارى بعد النسخ والتبديل ليسوا متبعين المسيح لكنهم أتبع لهم من اليهود الذين بالغوا في تكذيبه وسبه فإنهم كذبوه أولا وكذبوا محمدا ثانيا فصاروا أبعد عن متابعة المسيح من النصارى فكانوا مجعولين فوق اليهود
والمؤمنون أمة محمد هم المتبعون للمسيح عليه السلام ومن سواهم كافر به فأمة محمد فوق اليهود والنصارى إلى يوم القيامة
ولهذا لما جاء المسلمون يقاتلون النصارى غلبوهم وأخذوا منهم خيار الأرض الأرض المقدسة وما حولها من مصر والجزيرة وأرض المغرب ولم يزل المسلمون منتصرين على النصارى ولا يزالون إلى يوم القيامة لم تنتصر النصارى قط على جميع المسلمين
وإنما تنتصر على طائفة من المسلمين بسبب ذنوبهم ثم يؤيد الله المؤمنين عليهم
ولو كان النصارى هم المتبعين للمسيح عليه السلام والمسلمون كفارا به لوجب أن ينتصروا على جميع المسلمين لأن جميع المسلمين ينكرون إلهية المسيح ويكفرون النصارى فعلم أن المتبعين للمسيح هم المسلمون دون النصارى
انتهى المجلد الثالث
ويليه المجلد الرابع وأوله
فصل تفسيرهم لتجسيم كلمة الله
فصل
قالوا وأما تجسم كلمة الله الخالقة التي بها خلق كل شيء وتجسدها بإنسان مخلوق وهو الذي أخذ من مريم العذراء المصطفاة التي فضلت على نساء العالمين واتحدت الكلمة به اتحادا بريا من اختلاط أو تغير أو استحالة وخاطب الناس كما خاطب الله موسى النبي من العوسجة ففعل المعجز بلاهوته وأظهر العجز بناسوته والفعلان هما من المسيح الواحد
والجواب إن في هذا الكلام من أنواع الكذب والكفر والتناقض أمورا كثيرة وذلك يظهر بوجوه
الأول أن قولهم كلمة الله الخالقة التي بها خلق كل شيء كلام متناقض فإن الخالق هو الإله الخالق وهو خلق الأشياء بكلامه وهو قوله كن فالخالق لم يخلق به الأشياء بل هو خلقها والكلام الذي به خلقت الأشياء ليس هو الخالق لها بل خلق الخالق الأشياء والفرق بين الخالق والمخلوق وبين ما به خلق الخالق معقول
وهؤلاء جعلوا الخالق هو الذي به خلقت المخلوقات فجعلوا الكلمة هي الخالق وجعلوا المخلوقات خلقت بها
وإيضاح هذا أن الكلمة إن كانت مجرد الصفة فإن الصفة ليست خالقة وإن كانت الصفة مع الموصوف فهذا هو الخالق ليس هذا هو المخلوق به
والثاني قولهم تجسدها بإنسان مخلوق وقولهم تجسم كلمة الله فإن قولهم 2 تجسمت وتجسدت يقتضي أن الكلمة صارت جسدا وجسما بالإنسان المخلوق وذلك يقتضي انقلابها جسدا وجسما وهذا يقتضي استحالتها وتغيرها وهم قالوا اتحادا بريا من تغير واستحالة
الثالث قولهم اتحدت الكلمة به اتحادا بريا من اختلاط أو تغير أو استحالة كلام متناقض أيضا فإن الاتحاد يصير الاثنين واحدا فيقال قبل الاتحاد كان اللاهوت جوهرا والناسوت جوهرا آخر
وإن شئت قلت كان هذا شيئا وهذا شيئا أو هذا عينا قائمة بنفسها وهذا عينا قائمة بنفسها فبعد الاتحاد إما أن يكونا اثنين كما كانا أو صار الاثنان واحدا فإن كانا اثنين كما كانا فلا اتحاد بل هما متعددان كما كانا متعددين وإن كانا قد صارا شيئا واحدا فإن كان هذا الواحد هو أحدهما فالآخر قد عدم وهذا عدم لأحدهما لا اتحاده وإن كان هذا الذي صار واحدا ليس هو أحدهما فلا بد من تغييرهما واستحالتهما وإلا فلو كانا بعد الاتحاد اثنين باقيين بصفاتهما لم يكن هناك اتحاد
فإذا قيل اتحد اتحادا بريا من اختلاط أو تغير أو استحالة كان
هذا كلاما متناقضا ينقض بعضه بعضا فإن هذا إنما يكون مع التمدد والمباينة لا مع الاتحاد يوضح ذلك أنه إذا اتحد الماء واللبن أو الماء والخمر ونحو ذلك كان الحاصل من اتحادهما شيئا ثالثا ليس ماء محضا ولا لبنا محضا بل هو نوع ثالث وكل من من الماء واللبن قد استحال وتغير واختلط وأما اتحاد بدون ذلك فغير معقول
ولهذا عظم اضطراب النصارى في هذا الموضع وكثر اختلافهم وصار كل منهم يرد على الآخر ما يقوله ويقول هو قولا يكون مردودا فكانت أقوالهم كلها باطلة مردودة إذ كانوا قد اشتركوا في أصل فاسد يستلزم أحد أمور كلها باطلة فأي شيء أخذ من تلك اللوازم كان باطلا ولا بد له منها فيأخذ هذا بعض اللوازم فيرده الآخر ويأخذ الآخر لازما آخر فيرده الآخر
وهذا شأن جميع المقالات الباطلة إذا اشترك فيها طائفة لزمها لوازم باطلة وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم فإنه إذا تحقق الملزوم تحقق اللازم وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم
وهذا يتبين بالوجه الرابع وهو أن يقال كثير من النصارى يقول إنهما بعد الاتحاد جوهر واحد وطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وهذا القول يضاف إلى اليعقوبية
ويقولون إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كما يختلط الماء واللبن والماء والخمر وهذا القول هو حقيقة الاتحاد لا يعقل
الاتحاد إلا هكذا لكن فساده ظاهر لعقول الناس فإذا كان هذا لازما لقول النصارى وفساده ظاهرا كان فساد اللازم يدل على فساد الملزوم فإن حقيقة هذا القول أن الذي كان يأكل ويشرب ويبول ويتغوط والذي ضرب وبصق في وجهه ووضع الشوك على رأسه هو رب العالمين
ونفس تصور هذا القول مما يوجب العلم ببطلانه وتنزيه الله عن ذلك وأن قائله من أعظم المفترين على الله قال تعالى
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا
الوجه الخامس قولهم وخاطب الناس كما خاطب الله موسى من العوسجة يوجب أن يكون الذين كلمهم المسيح ممن آمن به وكفر به بمنزلة موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما
ومعلوم أن تكليم الله لموسى عليه الصلاة و السلام مما فضله به على غيره من النبيين فإن كان آحاد الناس بمنزلة موسى بن عمران لزم أن يكون كل من آحاد الناس في ذلك بمنزلة موسى بن عمران وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل
الوجه السادس أنه من المعلوم أن خطاب الله لأنبيائه ورسله أفضل من خطابه لمن ليس بنبي ولا رسول والمسيح عليه السلام لم يكلم عامة النبيين والمرسلين بل لم يكلم إلا ناسا منهم من آمن به ومنهم من كفر به
والتحقيق أنه لم يكلم أحدا من رسل الله ولكن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله وهذا باطل ولو سلم فلم يكلم إلا اثني عشر رسولا وقد بعث الله قبله رسلا كثيرين وقد روى في حديث أبي ذر أن عدتهم ثلاثمائة وثلاثة عشر
وقد قال الله في القرآن
ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة
وقال تعالى
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير
وفي الحديث الذي في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي أنه قال أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز و جل وهذه
السبعون سواء كانت هي التي هداها أو هي الجميع فإنه يدل على كثرة الرسل ولم يكلم الله أحدا من هؤلاء من بشر حل فيه فلو كان المكلم للناس في عيسى هو الله لكان تكليم الله للذين كلمهم عيسى من الكفار والمؤمنين أكمل من تكليمه رسل الله الذين أرسلهم
الوجه السابع أن الناسوت ناسوت المسيح هو من جنس سائر النواسيت والإنسان لا يستطيع أن يرى الله في الدنيا كما أخبر بذلك موسى وعيسى ومحمد فإذا لم يستطع أن يراه كان أن لا يستطيع الاتصال به ومماسته فضلا عن الاتحاد به أولى وأحرى
الوجه الثامن أن الله لما كلم موسى عليه السلام من الشجرة كان الكلام المسموع مخالفا لما يسمع من كلام الناس ولهذا لم تطق بنو إسرائيل سماع ذلك الصوت بل قالوا لموسى صف لنا ذلك وهذا عندهم في التوراة
كما روى الخلال في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل فيما رواه من حديث الزهري قال لما سمع موسى كلام الله قال يا رب هذا الكلام الذي أسمع هو كلامك قال نعم يا موسى هو كلامي وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأنا أقوى من ذلك وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك ولو كلمتك بأكثر من هذا لمت فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له صف لنا كلام ربك فقال سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم قالوا فشبهه لنا قال هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله
وأما المسيح عليه السلام فكان كل أحد يسمع صوته
كصوت سائر الناس لم يتميز عنهم بما يوجب أن يكونوا سمعوا كلام الله كما سمعه موسى بن عمران
الوجه التاسع أن الجني إذا حل في الإنسي كما يحل في المصروع ويتكلم على لسانه فإنه يتغير الكلام ويعرف الحاضرون أنه ليس هو كلام الإنسي مع أنه يتكلم بلسان الإنسي وحركة أعضائه فيعلم أن الصوت حصل بحركة بدن الإنسي مع العلم بأنه قد تغير تغيرا خالف به المعهود من كلام الإنسي والإنسان الذي حل فيه الجني يغيب عنه عقله ولا يشعر بما تكلم الجني على لسانه فرب العالمين سبحانه وتعالى لو حل في بشر واتحد به و تكلم بكلامه وكان الكلام المسموع كلام الله المسموع منه لكان يظهر من الفرق بين ذلك وبين المعهود من كلام الإنسي ما هو في غاية الظهور وكان يتغير حال الإنسي غاية التغير فإن الرب عز و جل لما تجلى للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فإذا كان البدن الإنسي لا يثبت لتجليه للجبل فكيف يثبت لحلوله فيه وتكلمه على لسانه من غير تغير في البدن
وقد كان الوحي والملائكة إذا نزلت على الأنبياء في باطنهم يظهر التغير في أبدانهم فكان النبي إذا نزل عليه الوحي ثقل حتى يبرك به البعير وإن كان فخذه على فخذ أحد ثقل حتى كاد يرضه
وفي الصحيحين عن عائشة أن الحارث بن هشام قال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي قال أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول قالت عائشة ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا
وموسى عليه السلام لما سمع كلام الله مقت الآدميين لما وقر في سمعه من كلام الله وكان النور يظهر على وجهه حتى كان
يتبرقع والمسيح عند النصارى قد اتحد به اللاهوت من حين علقت به مريم ولم يزل متحدا به وهو حمل في بطنها يعظم اتحاده به كلما كبر ثم كذلك كان متحدا به وهو صبي إلى أن رفع إلى السماء وقعد عن يمين أبيه وهو متحد به عندهم واللاهوت والناسوت جميعا ومع هذا لم يتغير بدن المسيح تغيرا يناسب ذلك ولا ظهر من الأنوار ما يناسب ذلك بل عندهم أن المسيح قبل أن يعمده يوحنا ويرى شبه الحمامة نازلا عليه لم يظهر الآيات بل كان كآحاد الناس وأول ما ظهر من الآيات قلب الماء خمرا
وموسى عليه السلام بمجرد ما سمع الكلام ظهر عليه النور وأين سمع الكلام من الاتحاد به
وموسى لما سمع الكلام وكلمه الله من الشجرة نزلت الملائكة وظهر له من آيات الله وعظمته ما يناسب تكليم الله عز و جل
والرب دائما عند النصارى متحد ببدن المسيح ولم يظهر من آيات الربوبية والعظمة إلا ما يظهر أكثر منه لبعض الأنبياء
الوجه العاشر أن المخاطب للناس إن كان هو مجموع اللاهوت والناسوت فكلامه صريح في أنه مخلوق مربوب يدعو ويسأل والمجموع ليس بمخلوق يسأل الله ويعبده وإن كان هو اللاهوت وحده
كما يقتضيه كلامهم هذا فهو أبعد وأبعد وإن كان هو الناسوت وحده فلم يكن اللاهوت مخاطبا للناس ولم يكلم الله الناس من الناسوت كما كلم الله موسى من الشجرة
وأيضا فلم يكن فرق بين حقيقة كلام الناسوت وكلام اللاهوت وكلام المسيح الصريح في أنه مخلوق كثير وهم يقرون به لكن يقولون ذلك كلام الناسوت فيقال لهم حينئذ فالمخاطب للناس هو الناسوت دون اللاهوت وأنتم قلتم أن الله خاطب الخلق من بدن المسيح كما خاطب موسى من الشجرة
والخطاب الذي سمعه موسى من الشجرة هو كله كلام اللاهوت والكلام الذي كان يسمع من المسيح ليس فيه شيء يختص باللاهوت بل عامته صريح في أنه كلام الناسوت
الوجه الحادي عشر أن الله لما كلم موسى من الشجرة كان
الكلام كلام الله وحده لم يكن للشجرة كلاما أصلا بوجه من الوجوه فإن كان هذا المثل مطابقا كان الذي يكلم الناس من ناسوت المسيح هو اللاهوت وحده
ومعلوم أن في الإنجيل وغيره من النصوص الصريحة ما يدل على أن الناسوت كان هو المتكلم مما يبين الفرق الواضح بين هذا وهذا
الوجه الثاني عشر أن الذي نادى موسى من الشجرة لم يتكلم إلا بكلام الربوبية فقال
إني أنا الله رب العالمين
إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى
وسائر ما تكلم به كله يقتضي أنه كلام رب العالمين وأما المتكلم على لسان المسيح فلم يقل كلمة من هذا أصلا بل كان في كلامه من الإقرار بأنه رسول وأنه مخلوق محتاج وأنه ابن البشر وغير ذلك مما يناقض من كل وجه كلام المنادي لموسى من الشجرة فمن سوى بين هذا وهذا كان قد سوى بين رب العالمين وبين إنسان من
الآدميين وهو أضل من الذين قال الله فيهم
تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين
فإن أولئك جعلوهم أندادا لله في بعض الأمور مع اعترافهم بأنهم مخلوقون وهؤلاء الضلال جعلوا هذا الإنسان الذي يتكلم هو رب العالمين الذي كلم موسى من الشجرة وقالوا إن هذا الذي كلم العباد هو ذاك الذي نادى موسى من الشجرة
الوجه الثالث عشر أن يقال معلوم أن الله أجل وأعظم وأكبر من رسله بما لا يقدر المخلوق قدره فلو كان هو الذي كلم الخلق على لسان المسيح وكان الحواريون رسله الذين سمعوا كلامه منه بلا واسطة لكان الحواريون إما مثل موسى وإما أعظم
ومعلوم أن المسيح نفسه لم تكن له آيات مثل آيات موسى فضلا عن الحواريين فإن أعظم آيات المسيح عليه السلام إحياء الموتى وهذه الآية قد شاركه فيها غيره من الأنبياء كإلياس وغيره
وأهل الكتاب عندهم في كتبهم أن غير المسيح أحيا الله على يديه الموتى وموسى بن عمران من جملة آياته العصا التي انقلبت فصارت ثعبانا مبينا حتى بلعت الحبال والعصي التي للسحرة وكان غير مرة يلقيها فتصير ثعبانا ثم يمسكها فتعود عصا
ومعلوم أن هذه آية لم تكن لغيره وهي أعظم من إحياء الموتى فإن الإنسان كانت فيه الحياة فإذا عاش فقد عاد إلى مثل حاله الأول والله تعالى يحيي الموتى بإقامتهم من قبورهم وقد أحيا غير واحد من الموتى في الدنيا
وأما انقلاب خشبة تصير حيوانا ثم تعود خشبة مرة بعد مرة وتبتلع الحبال والعصي فهذا أعجب من حياة الميت
وأيضا فالله قد أخبر أنه أحيا من الموتى على يد موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل أعظم ممن أحياهم على يد المسيح قال تعالى
وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون
وقال تعالى
فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى
وقال تعالى
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم
وأيضا فموسى عليه الصلاة و السلام كان يخرج يده بيضاء من غير سوء وهذا أعظم من إبراء أثر البرص الذي فعله المسيح عليه السلام فإن البرص مرض معتاد وإنما العجب الإبراء منه وأما بياض اليد من غير برص ثم عودها إلى حالها الأول ففيه أمران عجيبان لا يعرف لهما نظير
وأيضا فموسى فلق الله له البحر حتى عبر فيه بنو إسرائيل وغرق فيه فرعون وجنوده وهذا أمر باهر فيه من عظمة هذه الآية ومن إهلاك الله لعدو موسى ما لم يكن مثله للمسيح
وأيضا فموسى كان الله يطعمهم على يده المن والسلوى مع كثرة بني إسرائيل ويفجر لهم بضربه للحجر كل يوم اثني عشر عينا يكفيهم
وهذا أعظم من إنزال المسيح عليه السلام للمائدة ومن قلب الماء خمرا ونحو ذلك مما يحكى عنه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
وكان لموسى في عدوه من القمل والضفادع والدم وسائر الآيات ما لم يكن مثله للمسيح فلو كان الحواريون رسلا قد كلمهم الله مثل ما كلم موسى من الشجرة كانوا مثل موسى فكيف والمسيح نفسه لم يكن له آيات مثل آيات موسى ولو كان المسيح هو اللاهوت
الذي كلم موسى لكان يظهر من قدرته أعظم مما أظهره على يد موسى فإنه لم يحل في بدن موسى ولا كان اللاهوت يكلم الخلق من موسى كما يزعمه هؤلاء في المسيح ومع هذه فالآيات التي أيد بها عبده موسى تلك الآيات العظيمة فكيف تكون آياته إذا كان هو نفسه الذي قد حل في بدن المسيح وهو الذي يخاطب الناس على لسان المسيح
الوجه الرابع عشر أن يقال إن قولهم إن الله خاطب الناس في المسيح كما خاطب موسى النبي من العوسجة من أبطل الباطل فإن الله بإتفاق الأمم كلها لم يحل في الشجرة ولم يتحد بها كما يزعمون هم أنه حل بالمسيح واتحد به فإنه عندهم حل بباطن المسيح بل وبظاهره واتحد به باطنا وظاهرا والرب تعالى لم يكن في باطن الشجرة ولا حل فيها ولا اتحد بها وقول الله إنه كلمه منها وناداه منها كقوله أنه
نودي من شاطىء الواد الأيمن
وذلك مثل قوله
هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى
وفي البقعة المباركة ونحو ذلك وليس في شيء من ذلك أن
الرب تعالى حل في باطن الوادي المقدس أو البقعة المباركة أو الجانب الأيمن ولا أنه اتحد بشيء من ذلك ولا صار هو وشيء من ذلك جوهرا واحدا ولا شخصا واحدا كما يقول بعض النصارى إن اللاهوت والناسوت صارا جوهرا واحدا وبعضهم يقول صارا شخصا واحدا بل ولا قال أحد أنه حل في شيء من ذلك كحلول الماء في اللبن أو النار في الحديد كما يقول بعضهم إن اللاهوت حل في الناسوت كذلك ولو قدر أن بعض الناس قد قال شيئا من المقالات التي لا تدل عليها الكتب الإلهية ولا تعلم بالعقل لم يكن قوله حجة إذ لا يحتج إلا بنقل ثابت عن الأنبياء أو بما يعلم بالعقل
الوجه الخامس عشر أن الذي كلم موسى وناداه هو الله رب العالمين وتكليمه له من الشجرة من جنس ما أخبر بنزوله إلى السماء الدنيا ونزوله يوم القيامة لحساب الخلق والكلام على ذلك مبسوط في غير هذا الموضع
وأما حلوله في البشر أو اتحاده به فيمتنع من وجوه كثيرة عقلا وسمعا مع أنه لم يخبر به نبي
وما تقوله النصارى في غاية التناقض فإنهم يزعمون أن المسيح
هو الكلمة وهو الخالق لأن الكلمة والذات شيء واحد فلا يفرقون بين الصفة والموصوف ثم يقولون المتحد بالمسيح هو الكلمة دون الذات التي يسمونها الأب ويقولون مع ذلك إنه لم يتبعض ولم يتجزأ
ومعلوم بصريح العقل أن الكلمة التي هي الصفة لا يمكن مفارقتها للموصوف فلا تتحد وتحل دون الموصوف لا سيما والمتحد الحال عندهم هو الخالق فيجب أن يكون هو الأب وهم لا يقولون المتحد الحال هو الأب بل هو الابن وإذا قالوا إن الابن هو المتحد الحال دون الأب فالمتحد ليس هو الذي ما اتحد والابن اتحد والأب ما اتحد
ويقولون إن المتحد اتخذ عيسى حجابا احتجب به ومسكنا يسكن فيه خاطب الناس فيه ويقولون في ذلك إنه اتحد به الأب لم يحتجب به ولم يسكن فيه ولم يتحد به فلزم قطعا أن يكون منه شيء اتحد ومنه شيء لم يتحد فالأب لم يتحد والابن اتحد وهذا يناقض قولهم لم يتبعض ويبطل تمثيلهم بالمخاطب من الشجرة فإن ذاك هو الله رب العالمين ليس هو الابن دون الأب مع ما ذكر من الفروق الكثيرة المبينة التي تبين بطلان تمثيل هذا بهذا
الوجه السادس عشر أن الرب عز و جل إذا تكلم تكلم
بكلام الربوبية فلو كان في المسيح اللاهوت الذي أرسل موسى وغيره لم يخضع لموسى ولتوراته ويذكر أنه إنما جاء ليكملها لا لينقضها ولا كان يقوم بشرائعها فإن رب العالمين أعظم وأجل من ذلك بل لو كان ملكا من الملائكة لم يفعل مثل ذلك فكيف برب العالمين
وإذا قالت النصارى فعل ذلك خوفا من بني إسرائيل أو خوفا أن يكذبوه كان عذرهم أقبح من ذنبهم فرب العالمين ممن يخاف سبحانه وتعالى
وموسى لما كان فرعون يكذبه كان يظهر من الآيات يذل بها فرعون وقومه مع عتوه وعتو قومه ولم تكن بنو إسرائيل أعتى من فرعون وقومه فلو كان هو رب العالمين كان ما يؤيد به نفسه من الآيات أعظم مما يؤيد به عبده موسى
ومن عجائب النصارى أنهم يدعون فيه الإلهية مع ادعائهم فيه غاية العجز حتى صلب
وأما المسلمون فيقولون هو رسول مؤيد لم يصلب وهذه سنة الله سبحانه في رسله فإنه يؤيدهم وينصرهم على عدوهم كما نصر نوحا وإبراهيم ومحمدا صلوات الله عليهم وسلامه فإذا
كان لا يجوز أن يكون رسولا مغلوبا فكيف يكون ربا مغلوبا مصلوبا
الوجه السابع عشر قولهم فعل المعجزات بلاهوته وأظهر العجز بناسوته فيقال لهم إن الله فعل من المعجزات ما هو أعظم من المعجزات التي ظهرت على يد المسيح عليه السلام ولم يكن متحدا بشيء من البشر فأي ضرورة له إلى أن يتحد بالبشر إذا فعل معجزات دون ذلك
الوجه الثامن عشر أن المسيح ظهرت على يديه معجزات كما ظهر لسائر المرسلين ومعجزات بعضهم أعظم من معجزاته ومع هذا فلم تكن المعجزات دليلا على اتحاد اللاهوت بالنبي الذي ظهرت على يديه فعلم أن الاستدلال بظهور المعجزات على يديه في غاية الفساد
الوجه التاسع عشر أن اللاهوت إن كان متحدا بالناسوت لم يتميز فعله عن فعل الناسوت فإنهما إذا صارا شيئا واحدا كان كل ما فعله من عجز ومعجز هو ذلك الواحد كالأمثال التي يضربونها لله سبحانه وتعالى فإنهم يمثلون ذلك بالنار مع الحديد والماء مع اللبن والخمر
ومعلوم أن الحديدة إذا أدخلت النار حتى صارت بيضاء كالنار البيضاء ففعلها فعل واحد ليس لها فعلان متميزان أحدهما بالحديد والآخر بالنار بل فيها قوة الحديد وقوة النار بل فيها قوة ثالثة ليست قوة الحديد ولا قوة النار إذ ليست حديدا محضا ولا نارا محضا
وكذلك الماء إذا اختلط باللبن والخمر فالمتحد منهما شيء واحد فعله فعل واحد منه ما ليس ماء محضا ولا لبنا محضا لا يقول عاقل أن له فعلين يتميز أحدهما عن الآخر فعل بكونه لبنا محضا وفعل بكون ماء محضا فقولهم بالاتحاد يوجب استحالة اللاهوت بالناسوت وأن يصير فعل المتحد شيئا واحدا
وإن كان اللاهوت لم يتحد به فهما اثنان شخصان وجوهران وطبيعتان ومشيئتان وليس هذا دين النصارى مع أن حلول الرب عز و جل في البشر ممتنع كما قد بسط في موضوع آخر
وكذلك إذا مثلوه بالنفس مع البدن فإن النفس تتغير صفاتها بمفارقة البدن وكذلك البدن تتغير صفاته بمفارقة الروح له
والإنسان الذي نفخت فيه الروح فصارت بدنا فيه الروح هو
نوع ثالث ليس فيه بدن محض وروح محض حتى يقال إنه يفعل كذا ببدنه وكذا بنفسه بل أفعاله تشترك فيها الروح فهو إذا أكل وشرب فالروح تتلذذ بالأكل والشرب وبها صار آكلا شاربا وإلا فالبدن الميت لا يأكل ولا يشرب وإذا نظر واستدل وسمع ورأى وتعلم فالنفس فعلت ذلك بالبدن والبدن يظهر فيه ذلك والروح وحدها لا تفعل ذلك وعندهم أن فعل اللاهوت بعد الاتحاد كفعله قبله وكذلك فعل الناسوت وهذا يناقض الاتحاد
والقول بهذا مع الاتحاد في غاية التناقض والفساد ولا يعقل نظير هذا في شيء من الموجودات ونفس المتكلم بهذا من النصارى لا يتصور ما يقول ولا يمكنه أن يمثله بشيء معقول
فصل
قالوا وقد جاء في هذا الكتاب الذي جاء به هذا الإنسان يقولإنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
وهذا يوافق قولنا إذ قد شهد أنه إنسان مثلنا أي بالناسوت الذي أخذ من مريم وكلمة الله وروحه المتحدة فيه وحاشا أن تكون كلمة الله وروحه الخالقة مثلنا نحن المخلوقين وأيضا قال في سورة النساء
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم
فأشار بهذا القول إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله التي لم يدخل
عليها ألم ولا عرض وقال أيضا
يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة
وقال في سورة المائدة عن عيسى أنه قال
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد
فأعنى بموته عن موت الناسوت الذي أخذ من مريم العذراء
وقال أيضا في سورة النساء
وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه
فأشار بهذا إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله الخالقة وعلى هذا القياس نقول إن المسيح صلب وتألم بناسوته ولم يصلب ولا تألم بلاهوته
والجواب من وجوه
أحدها أن يقال دعواهم على محمد أنه أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت كما يزعمه هؤلاء النصارى فيه هو من الكذب الواضح المعلوم على محمد
الذي يعلم من دينه بالاضطرار كما يعلم من دينه تصديق المسيح عليه السلام وإثبات رسالته فلو ادعى اليهود على محمد أنه كان يكذب المسيح ويجحد رسالته كان كدعوى النصارى عليه أنه كان يقول إنه رب العالمين وأن اللاهوت اتحد بالناسوت ومحمد قد أخبر فيما بلغه عن الله عز و جل بكفر من قال ذلك وبما يناقض ذلك في غير موضع كقوله تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن إراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير
و قولة تعالى
سورة المائدة الآيات من 72 77
وقال تعالى
سورة التوبة الآيات من 30 34
وقال تعالى
سورة الزخرف الآيات 57 65
وقال تعالى
سورة المائدة الآيتان 116 117
فأخبر عن المسيح أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به بقوله أن اعبدوا الله ربي وربكم وكان عليهم شهيدا ما دام فيهم وبعد وفاته كان الله هو الرقيب عليهم فإذا كان بعضهم قد غلط في النقل عنه
أو في تفسير كلامه أو تعمد تغيير دينه لم يكن على المسيح عليه السلام من ذلك درك وإنما هو رسول عليه البلاغ المبين
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن أول ما تكلم به المسيح أنه قال
قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا
ثم طلب لنفسه السلام فقال
والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا
والنصارى يقولون علينا منه السلام كما تقوله الغالية فيمن يدعون فية الإلهية كالنصيرية في علي والحاكمية في الحاكم
الوجه الثاني أن يقال إن الله لم يذكر أن المسيح مات ولا قتل
إنما قال
يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا
وقال المسيح
فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد
وقال تعال
سورة النساء الآيات 155 161
فذم الله اليهود بأشياء منها قولهم على مريم بهتانا عظيما حيث زعموا أنها بغي ومنها قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله
قال تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم
وأضاف هذا القول إليهم وذمهم عليه
ولم يذكر النصارى لأن الذين تولوا صلب المصلوب المشبه به هم اليهود ولم يكن أحد من النصارى شاهدا هذا معهم بل كان الحواريون خائفين غائبين فلم يشهد أحد منهم الصلب وإنما شهده اليهود وهم الذين أخبروا الناس أنهم صلبوا المسيح والذين نقلوا أن المسيح صلب من النصارى وغيرهم إنما نقلوه عن أولئك اليهود وهم شرط من أعوان الظلمة لم يكونوا خلقا كثيرا يمتنع تواطؤهم على الكذب
قال تعالى
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم
فنفى عنه القتل ثم قال
وإن من أهل الكتاب إلإ ليؤمنن به قبل موته
وهذا عند اكثر العلماء معناه قبل موت المسيح وقد قيل قبل موت اليهودي وهو ضعيف كما قيل أنه قبل موت محمد وهو أضعف فإنه لو آمن به قبل الموت لنفعه إيمانه به فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر
وإن قيل المراد به الإيمان الذي يكون بعد الغرغرة لم يكن في
هذا فائدة فإن كل أحد بعد موته يؤمن بالغيب الذي كان يجحده فلا اختصاص للمسيح به ولأنه قال قبل موته ولم يقل بعد موته ولأنه لا فرق بين إيمانه بالمسيح وبمحمد صلوات الله عليهما وسلامه واليهودي الذي يموت على اليهودية يموت كافرا بمحمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام ولأنه قال
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته
وقوله ليؤمنن به فعل مقسم عليه وهذا إنما يكون في المستقبل فدل ذلك على أن هذا الإيمان بعد إخبار الله بهذا ولو أريد به قبل موت الكتابي لقال وإن من أهل الكتاب إلا من يؤمن به لم يقل ليؤمنن به
وأيضا فإنه قال وإن من أهل الكتاب وهذا يعم اليهود والنصارى فدل ذلك على أن جميع أهل الكتاب اليهود والنصارى يؤمنون بالمسيح قبل موت المسيح وذلك إذا نزل آمنت اليهود والنصارى بأنه رسول الله ليس كاذبا كما تقول اليهود ولا هو الله كما تقوله النصارى
والمحافظة على هذا العموم أولى من أن يدعى أن كل كتابي ليؤمنن به قبل أن يموت الكتابي فإن هذا يستلزم إيمان كل يهودي
ونصراني وهذا خلاف الواقع وهو لما قال
وإن من أهل الكتاب إلإ ليؤمنن به قبل موته
دل على أن المراد بإيمانهم قبل أن يموت هو علم أنه أريد بالعموم عموم من كان موجودا حين نزوله أي لا يتخلف منهم أحد عن الإيمان به لا إيمان من كان منهم ميتا
وهذا كما يقال إنه لا يبقى بلد إلا دخله الدجال الا مكة والمدينة أي من المدائن الموجودة حينئذ وسبب إيمان أهل الكتاب به حينئذ ظاهر فإنه يظهر لكل أحد أنه رسول مؤيد ليس بكذاب ولا هو رب العالمين
فالله تعالى ذكر إيمانهم به إذا نزل إلى الأرض فإنه تعالى لما ذكر رفعه إلى الله بقوله
إني متوفيك ورافعك إلي
وهو ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ويموت حينئذ أخبر بإيمانهم به قبل موته كما قال تعالى في آية أخرى
سورة الزخرف الآيات 59 65
وفي الصحيحين عن النبي أنه قال يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية
وقوله تعالى
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان عزيزا حكيما
بيان أن الله رفعه حيا وسلمه من القتل وبين أنهم يؤمنون به قبل أن يموت
وكذلك قوله ومطهرك من الذين كفروا
ولو مات لم يكن فرق بينه وبين غيره
ولفظ التوفي في لغة العرب معناه الاستيفاء والقبض وذلك ثلاثة أنواع أحدها توفي النوم والثاني توفي الموت والثالث توفي الروح والبدن جميعا فإنه بذلك خرج عن حال أهل الأرض الذين يحتاجون إلى الأكل والشرب واللباس والنوم ويخرج منهم الغائط والبول والمسيح عليه السلام توفاه الله وهو في السماء الثانية إلى أن ينزل إلى الأرض ليست حاله كحالة أهل الأرض في الأكل والشرب واللباس والنوم والغائط والبول ونحو ذلك
الوجه الثالث قولهم إنه عني بموته عن موت الناسوت كان ينبغي لهم أن يقولوا على أصلهم عني بتوفيته عن توفي الناسوت وسواء قيل موته أو توفيته فليس هو شيئا غير الناسوت فليس هناك شيء غيره لم يتوف والله تعالى قال
إني متوفيك ورافعك إلي
فالمتوفى هو المرفوع إلى الله وقولهم إن المرفوع هو اللاهوت مخالف لنص القرآن لو كان هناك موت فكيف إذا لم يكن فإنهم جعلوا المرفوع غير المتوفى والقرآن أخبر أن المرفوع هو المتوفى وكذلك قوله في الآية الأخرى
وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه
هو تكذيب لليهود في قولهم
إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله
واليهود لم يدعوا قتل لاهوت ولا أثبتوا لله لاهوتا في المسيح والله تعالى لم يذكر دعوى قتله عن النصارى حتى يقال إن مقصودهم قتل الناسوت دون اللاهوت بل عن اليهود الذين لا يثبتون إلا الناسوت
وقد زعموا أنهم قتلوه فقال تعالى وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه فأثبت رفع الذي قالوا إنهم قتلوه وإنما هو الناسوت فعلم أنه هو الذي نفي عنه القتل وهو الذي رفع والنصارى معترفون برفع الناسوت لكن يزعمون أنه صلب وأقام في القبر إما يوما وإما ثلاثة أيام ثم صعد إلى السماء وقعد عن يمين الرب الناسوت مع اللاهوت
وقوله تعالى وما قتلوه يقينا معناه أن نفي قتله هو يقين لا ريب فيه بخلاف الذين اختلفوا فإنهم في شك منه من قتله وغير قتله فليسوا مستيقنين أنه قتل إذ لا حجة معهم بذلك
ولذلك كانت طائفة من النصارى يقولون لم يصلب فإن الذين صلبوا المصلوب هم اليهود وكان قد اشتبه عليهم المسيح بغيره كما دل عليه القرآن وكذلك عند أهل الكتاب أنه اشتبه بغيره فلم يعرفوا من هو المسيح من أولئك حتى قال لهم بعض الناس أنا أعرفه فعرفوه وقول من قال معنى الكلام ما قتلوه علما بل ظنا قول ضعيف
الوجه الرابع أنه قال تعالى
إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا
فلو كان المرفوع هو اللاهوت لكان رب العالمين قال لنفسه أو لكلمته إني أرفعك إلي وكذلك قوله بل رفعه الله إليه فالمسيح عندهم هو الله
ومن المعلوم أنه يمتنع رفع نفسه إلى نفسه وإذا قالوا هو الكلمة فهم يقولون مع ذلك إنه الإله الخالق لا يجعلونه بمنزلة التوراة
والقرآن ونحوهما مما هو من كلام الله الذي قال فيه إليه يصعد الكلم الطيب بل عندهم هو الله الخالق الرازق رب العالمين ورفع رب العالمين إلى رب العالمين ممتنع
الوجه الخامس قوله
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم
دليل على أنه بعد توفيته لم يكن الرقيب عليهم إلا الله دون المسيح فإن قوله كنت أنت يدل على الحصر كقوله إن كان هذا هو الحق ونحو ذلك فعلم أن المسيح بعد توفيته ليس رقيبا على أتباعه بل الله هو الرقيب المطلع عليهم المحصي أعمالهم المجازي عليها والمسيح ليس برقيب فلا يطلع على أعمالهم ولا يحصيها ولا يجازيهم بها
فصل
قالوا وقد سماه الله أيضا في هذا الكتاب خالقا حيث قال
وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني
فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة بالناسوت المأخوذ من مريم لأنه كذا قال على لسان داود النبي
بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه
وهذا مما يوافق رأينا واعتقادنا في السيد المسيح لذكره لأنه حيث قال وتخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله أي بإذن لاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت
والجواب أن جميع ما يحتجون به من هذه الآيات وغيرها فهو حجة عليهم لا لهم وهكذا شأن جميع أهل الضلال إذا احتجوا بشيء من كتب الله وكلام أنبيائه كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم وذلك لعظمة كتب الله المنزلة وما أنطق به أنبياءه فإنه جعل ذلك هدى وبيانا للخلق وشفاء لما في الصدور فلا بد أن يكون في كلام الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل والصدق والكذب لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم لا من قبل أنبياء الله تعالى
إما من كونهم لم يتدبروا القول الذي قالته الأنبياء حق التدبر حتى يفقهوه ويفهموه
وإما من جهة أخذهم ببعض الحق دون بعض مثل أن يؤمنوا ببعض ما أنزله الله دون بعض فيضلون من جهة ما لم يؤمنوا به كما قال تعالى عن النصارى
ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة
وإما من جهة نسبتهم إلى الأنبياء ما لم يقولوه من أقوال كذبت عليهم ومن جهة ترجمة أقوالهم بغير ما تستحقه من الترجمة وتفسيرها بغير ما تستحقه من التفسير الذي دل عليه كلام الأنبياء صلوات الله
وسلامه عليهم أجمعين فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا وتعرف ما عادته يعينه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده
وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادتة باستعمالة فية وحمل كلامة على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضا وترك حمله على ما يناسب سائر كلامه كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه
فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم فإذا عرف هذا فنقول
الجواب عما ذكروه هنا من وجوه
أحدها أن الله لم يذكر عن المسيح خلقا مطلقا ولا خلقا عاما كما ذكر عن نفسه تبارك وتعالى فأول ما أنزل الله على نبيه محمد
اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم
وقال تعالى
سورة الحشر الآيات 22 24
فذكر نفسه بأنه الخالق البارىء المصور ولم يصف قط شيئا من المخلوقات بهذا لا ملكا ولا نبيا وكذلك قال تعالى
الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض
وقال تعالى
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم
ووصف نفسه بأنه رب العالمين وبأنه مالك يوم الدين وأنه له الملك وله الحمد وأنه الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم ونحو ذلك من خصائص الربوبية ولم يصف شيئا من مخلوقاته لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بشيء من
الخصائص التي يختص بها التي وصف بها نفسه سبحانه وتعالى
وأما المسيح عليه السلام فقال فيه
وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني
وقال المسيح عن نفسه
إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرىء الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله
فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله فكيف يكون هذا الخالق هو ذاك
الوجه الثاني أنه خلق من الطين كهيئة الطير والمراد به تصويره بصورة الطير وهذا الخلق يقدر عليه عامة الناس فإنه يمكن أحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير وغير الطير من الحيوانات ولكن هذا التصوير محرم بخلاف تصوير المسيح فإن الله أذن له فيه
والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيرا بإذن الله عز و جل ليس المعجزة مجرد خلقه من الطين فإن هذا مشترك وقد لعن
النبي المصورين وقال إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون
الوجه الثالث أن الله أخبر المسيح أنه إنما فعل التصوير والنفخ بإذنه تعالى وأخبر المسيح عليه السلام أنه فعله بإذن الله وأخبر الله أن هذا من نعمه التي أنعم بها على المسيح عليه السلام كما قال تعالى
إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل
وقال تعالى
سورة المائدة من الآية 110
وهذا كله صريح في أنه ليس هو الله وإنما هو عبد الله فعل ذلك بإذن الله كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء وصريح بأن الآذن غير المأذون له والمعلم ليس هو المعلم والمنعم عليه وعلى والدته ليس هو إياه كما ليس هو والدته
الوجه الرابع أنهم قالوا أشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت ثم قالوا في قوله بإذن الله أي بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت وهذا يبين تناقضهم وافتراءهم على القرآن لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله ففرق بين المسيح وبين الله وبين أن الله هو الآذن للمسيح وهؤلاء زعموا أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بناسوت المسيح هو الخالق وهو الآذن فجعلوا الخالق هو الآذن وهو تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن
الوجه الخامس أن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن يأذن لنفسه فإنهم يقولون هو إلة واحد وهو الخالق قكيف يحتاج أن يأذن لنفسة وينعم على نفسه
الوجه السادس أن الخالق إما أن يكون هو الذات الموصوفة بالكلام أو الكلام الذي هو صفة للذات فإن كان هو الكلام فالكلام
صفة لا تكون ذاتا قائمة بنفسها خالقة ولو لم تتحد بالناسوت واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكنا فكيف وهو ممتنع
فقد تبين امتناع كون الكلمة تكون خالقة من وجوه
وإن كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب العالمين وعندهم هو الأب والمسيح عندهم ليس هو الأب فلا يكون هو الخالق لكل شيء والقرآن يبين أن الله هو الذي أذن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله ولا صفة من صفاته فليس المسيح هو الله ولا ابن قديم أزلي لله ولكن عبده فعل بإذنه
الوجه السابع قولهم فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذ من مريم لأنه كذا قال على لسان داود النبي بكلمة الله خلقت السماوات والأرض
يقال لهم هذا النص عن داود حجة عليكم كما أن التوراة والقرآن وسائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم فإن داود عليه السلام قال بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ولم يقل إن كلمة الله هي الخالقة كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله
والفرق بين الخالق للسماوات والأرض وبين الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض أمر ظاهر معروف كالفرق بين القادر
والقدرة فإن القادر هو الخالق وقد خلق الأشياء بقدرته وليست القدرة هي الخالقة وكذلك الفرق بين المريد والإرادة فإن الله خلق الأشياء بمشيئته وليست مشيئته هي الخالقة
وكذلك الدعاء والعبادة هو للإله الخالق لا لشيء من صفاته فالناس كلهم يقولون يا الله يا ربنا يا خالقنا ارحمنا واغفر لنا ولا يقول أحد يا كلام الله اغفر لنا وارحمنا ولا يا قادرة الله ويا مشيئة الله ويا علم الله اغفر لنا وارحمنا والله تعالى يخلق بقدرته ومشيئته وكلامه وليست صفاته هي الخالقة
الوجه الثامن أن قول داود عليه السلام بكلمة الله خلقت السماوات والأرض يوافق ما جاء في القرآن والتوراة وغير ذلك من كتب الأنبياء أن الله يقول للشيء كن فيكون وهذا في القرآن في غير موضع وفي التوراة قال الله ليكن كذا ليكن كذا
الوجه التاسع قولهم لأنه ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه إن أرادوا بكلمته كلامه وبروحه حياته فهذه من صفات الله كعلمه وقدرته فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة اللة بأنها روح اللة فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله فقد كذب فالخالق هو الله وحده وصفاته داخلة في مسمى اسمه لا يحتاج أن تجعل
معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن أن لله شريكا في خلقه فإن الله لا شريك له
ولهذا لما قال الله تعالى الله خالق كل شيء دخل كل ما سواه في مخلوقاته ولم تدخل صفاته كعلمه وقدرته ومشيئته وكلامه لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أشياء مباينة له بل أسماؤه الحسنى متناولة لذاته المقدسة المتصفة بهذه الصفات لا يجوز أن يراد بأسمائه ذاتا مجردة عن صفات الكمال فإن تلك لا حقيقة لها ويمتنع وجود ذات مجردة عن صفة فضلا عن وجود ذاته تعالى مجردة عن صفات كماله التي هي لازمة لذاته فيمتنع تحقق ذاته دونها ولهذا لا يقال الله وعلمه خلق والله وقدرته خلق
وإن أرادوا بكلمته وروحه المسيح أو شيئا اتحد بناسوت المسيح فالمسيح عليه السلام كله مخلوق كسائر الرسل والله وحده هو الخالق وإن شئت قلت إن أريد بالروح والكلمة ما هو صفة الله فتلك داخلة في مسمى اسمه وإن أريد ما ليس بصفة فذلك مخلوق له كالناسوت
الوجه العاشر أن داود عليه السلام لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيح لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت
وهو عندهم اسم للاهوت والناسوت لما اتحدا والاتحاد فعل حادث عندهم فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحا فعلم أن داود لم يرد بكلمة الله المسيح ولكن غايتهم أن يقولوا أراد الكلمة التي اتحدت فيما بعد بالمسيح لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح كما نطق به القرآن بقوله
يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين
فالكلمة التي ذكرها وأنها هي التي خلقت السماوات والأرض ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فاحتجاجهم بهذا على هذا احتجاج باطل بل تلك الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم والمسيح لا بد أن يدخل فيه الناسوت فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح
فصل
قالوا وقال أيضا في موضع آخرإن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب
فأعنى بقوله مثل عيسى إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة لأنه لم يذكر ها هنا اسم المسيح إنما ذكر عيسى فقط
كما أن آدم خلق من غير جماع ولا مباضعة فكذلك جسد السيد المسيح خلق من غير جماع ولا مباضعة وكما أن جسد آدم ذاق الموت فكذلك جسد المسيح ذاق الموت وقد يبرهن بقوله أيضا قائلا إن الله ألقى كلمته إلى مريم وذلك حسب قولنا معشر النصارى إن كلمة الله الأزلية الخالقة حلت في مريم وتجسدت بإنسان كامل وعلى هذا المثال نقول في السيد المسيح طبيعتان طبيعة لاهوتية
التي هي طبيعة كلمة الله وروحه وطبيعة ناسوتية التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به ولما تقدم به القول من الله تعالى على لسان موسى النبي إذ يقول أليس هذا الأب الذي خلقك وبراك واقتناك قيل وعلى لسان داود النبي روحك القدس لا تنزع مني وأيضا على لسان داود النبي بكلمة الله تشددت السماوات وبروح فاه جميع قواهن وليس يدل هذا القول على ثلاثة خالقين بل خالق واحد الأب ونطقه أي كلمته وروحه أي حياته
والجواب من وجوه
أحدها أن قوله تعالى
إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
كلام حق فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ليبين عموم قدرته فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى كما قال تعالى وخلق منها زوجها
وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر وخلق سائر الخلق من ذكر
وأنثى وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح فإن حواء خلقت من ضلع آدم وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم وخلق آدم أعجب من هذا وهذا وهو أصل خلق حواء
فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح فإذا كان سبحانه قادرا أن يخلقه من تراب والتراب ليس من جنس بدن الإنسان أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان وهو سبحانه خلق آدم من تراب ثم قال له كن فيكون لما نفخ فيه من روحه فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه وقال له كن فيكون ولم يكن آدم بما نفخ من روحه لاهوتا وناسوتا بل كله ناسوت فكذلك المسيح كله ناسوت والله تبارك وتعالى ذكر هذه الآية في ضمن الآيات التي أنزلها في شأن النصارى لما قدم على النبي نصارى نجران وناظروه في المسيح وأنزل الله فيه ما أنزل فبين فيه قول الحق الذي اختلفت فيه اليهود والنصارى فكذب الله الطائفتين هؤلاء في غلوهم فية وهؤلاء في ذمهم له
وقال عقب هذه الآية
سورة آل عمران الآيات 61 64
وقد امتثل النبي قول الله فدعاهم إلى المباهلة فعرفوا أنهم إن باهلوه أنزل الله عليهم لعنته فأقروا بالجزية وهم صاغرون ثم كتب النبي إلى هرقل ملك الروم بقوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى آخرها
وكان أحيانا يقرأ بها في الركعة الثانية من ركعتي الفجر ويقرأ في الأولى بقوله
قولوا ءامنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون
وهذا كله يبين به أن المسيح عبد ليس بإله وأنه مخلوق كما خلق آدم وقد أمر أن يباهل من قال إنه إله فيدعو كل من المتباهلين أبناءه ونساءه وقريبه المختص به ثم يبتهل هؤلاء وهؤلاء ويدعون الله أن يجعل لعنته على الكاذبين فإن كان النصارى كاذبين في قولهم هو الله حقت اللعنة عليهم وإن كان من قال ليس هو الله بل عبد الله كاذبا حقت اللعنة عليه وهذا إنصاف من صاحب يقين يعلم أنه على الحق
والنصارى لما لم يعلموا أنهم على الحق نكلوا عن المباهلة وقد قال عقب ذلك
إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم
تكذيبا للنصارى الذين يقولون هو إله حق من إله حق فكيف يقال إنه أراد أن المسيح فيه لاهوت وناسوت وأن هذا هو الناسوت فقط دون اللاهوت وبهذا ظهر الجواب عن قولهم قال في موضع آخر إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم فأعنى بقوله عيسى إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة لأنه لم يذكر ها هنا اسم المسيح
إنما ذكر عيسى فقط فإنه يقال عيسى هو المسيح بدليل أنه قال
ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل
فأخبر أنه ليس المسيح إلا رسولا ليس هو بإله وأنه ابن مريم والذي هو ابن من مريم هو الناسوت وقال
سورة النساء من الآيتين 171 172
وقال تعالى
وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون
وقال تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا
الوجه الثاني أن ما ذكروه من موته قد بينا أن الله لم يذكر ذلك وأن المسيح لم يمت بعد وما ذكروه من أنه صلب ناسوته دون لاهوته باطل من وجهين
فإن ناسوته لم يصلب وليس فيه لاهوت وهم ذكروا ذلك دعوى مجردة فيكتفى في مقابلتها بالمنع
لكن نقول في الوجه الثالث إنهم في اتحاد اللاهوت بالناسوت يشبهونه تارة باتحاد الماء باللبن وهذا تشبيه اليعقوبية وتارة باتحاد النار بالحديد أو النفس بالجسم وهذا تشبيه الملكانية وغيرهم
ومعلوم أنه لا يصل إلى الماء شيء إلا وصل إلى اللبن فإنه لا يتميز أحدهما عن الآخر وكذلك النار التي في الحديد متى طرق الحديد أو بصق عليه لحق ذلك بالنار التي فيه والبدن إذا ضرب وعذب لحق ألم الضرب والعذاب بالنفس فكأن حقيقة تمثيلهم يقتضي أن اللاهوت أصابه ما أصاب الناسوت من إهانة اليهود وتعذيبهم له وإيلامهم له والصلب الذي ادعوه
وهذا لازم على القول بالاتحاد فإن الاتحاد لو كان ما يصيب أحدهما لا يشركه الأخر فيه لم يكن هنا اتحاد بل تعدد
الرابع أن هؤلاء الضلال لم يكفهم أن جعلوا إله السماوات والأرض متحدا ببشر في جوف امرأة وجعلوة له مسكنا ثم جعلوا أخابث خلق الله أمسكوه وبصقوا في وجهه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه بين لصين وهو في ذلك يستغيث بالله ويقول إلهي إلهي لم تركتني وهم يقولون الذي كان يسمع الناس كلامه هو اللاهوت كما سمع موسى كلام الله من الشجرة ويقولون هما شخص واحد ويقول بعضهم لهما مشيئة واحدة وطبيعة واحدة
والكلام إنما يكون بمشيئة المتكلم فيلزم أن يكون المتكلم الداعي المستغيث المصلوب هو اللاهوت وهو المستغيث المتضرع وهو المستغاث به وأيضا فهم يقولون إن اللاهوت والناسوت شخص واحد فمع القول بأنهما شخص واحد إما أن يكون مستغيثا وإما أن يكون مستغاثا به وإما أن يكون داعيا وإما أن يكون مدعوا فإذا قالوا إن الداعي هو غير المدعو لزم أن يكونا اثنين لا واحدا وإذا قالوا هما واحد فالداعي هو المدعو
الوجه الخامس أن يقال لا يخلو إما أن يقولوا إن اللاهوت كان قادرا على دفعهم على ناسوته وإما أن يقولوا لم يكن قادرا فإن قالوا لم يكن قادرا لزم أن يكون أولئك اليهود أقدر من رب العالمين
وأن يكون رب العالمين مقهورا مأسورا مع قوم من شرار اليهود وهذا من أعظم الكفر والتنقص برب العالمين وهذا أعظم من قولهم إن لله ولدا وأنه بخيل وأنه فقير ونحو ذلك مما يسب به الكفار رب العالمين
وإن قالوا كان قادرا فإن كان ذلك من عدوان الكفار على ناسوته وهو كاره لذلك فسنة الله في مثل ذلك نصر رسله المستغيثين به فكيف لم يغث ناسوته المستصرخ به وهذا بخلاف من قتل من النبيين وهو صابر فإن أولئك صبروا حتى قتلوا شهداء والناسوت عندهم استغاث وقال إلهي إلهي لماذا تركتني وإن كان هو قد فعل ذلك مكرا كما يزعمون أنه مكر بالشيطان وأخفى نفسه حتى يأخذه بوجه حق فناسوته أعلم بذلك من جميع الخلق فكان الواجب أن لا يجزع ولا يهرب لما في ذلك من الحكمة وهم يذكرون من جزع الناسوت وهربه ودعائه ما يقتضي أن كل ما جرى عليه كان بغير اختياره ويقول بعضهم مشيئتهما واحدة فكيف شاء ذلك وهرب مما يكرهه الناسوت بل لو يشاء اللاهوت ما يكرهه كانا متباينين وقد اتفقا على المكر بالعدو ولم يجزع الناسوت كما جرى ليوسف مع
أخيه لما وافقه على أنه يحمل الصواع في رحله ويظهر أنه سارق لم يجزع أخوه لما ظهر الصواع في رحله كما جزع إخوته حيث لم يعلموا وكثير من الشطار العيارين يمسكون ويصلبون وهم ثابتون صابرون فما بال هذا يجزع الجزع العظيم الذي يصفون به المسيح وهو يقتضي غاية النقص العظيم مع دعواهم فيه الإلهية
الوجه السادس قولهم إنه كلمته وروحه تناقض منهم لأن عندهم أقنوم الكلمة فقط لا أقنوم الحياة
الوجه السابع قولهم وقد برهن بقوله رأينا أيضا في موضع آخر قائلا إن الله ألقى كلمته إلى مريم وذلك حسب قولنا معشر النصارى إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم واتحدت بإنسان كامل
فيقال لهم أما قول الله في القرآن فهو حق ولكن ضللتم في تأويليه كما ضللتم في تأويل غيره من كلام الأنبياء وما بلغوه عن الله
وذلك أن الله تعالى قال
سورة آل عمران الآيات 45 47
ففي هذا الكلام وجوه تبين أنه مخلوق وليس هو ما يقوله النصارى
منها أنه قال بكلمة منه وقوله بكلمة منه نكرة في الإثبات تقتضي أنه كلمة من كلمات الله ليس هو كلامه كله كما يقول النصارى
ومنها أنه يبين مراده بقوله بكلمة منه وأنه مخلوق حيث قال
كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
كما قال في الآية الأخرى
إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
وقال تعالى في سورة كهيعص
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
فهذه ثلاث آيات في القرآن تبين أنه قال له كن فيكون وهذا تفسير كونه كلمة منه
وقال اسمه المسيح عيسى بن مريم أخبر أنه ابن مريم وأخبر أنه وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين وهذه كلها صفة مخلوق والله تعالى وكلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك وقالت مريم أنى يكون لي ولد
فبين أن المسيح الذي هو الكلمة هو ولد مريم لا ولد الله سبحانه وتعالى
وقال في سورة النساء
سورة النساء الآيات 171 173
فقد نهى النصارى عن الغلو في دينهم وأن يقولوا على الله غير الحق وبين أن المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى
مريم وروح منه وأمرهم أن يؤمنوا بالله ورسله فبين أنه رسولة ونهاهم أن يقولوا ثلاثة وقال انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد وهذا تكذيب لقولهم في المسيح أنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه ثم قال سبحانه أن يكون له ولد فنزه نفسه وعظمها أن يكون له ولد كما تقوله النصارى ثم قال له ما في السماوات وما في الأرض فأخبر أن ذلك ملك له ليس فيه شيء من ذاته ثم قال لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون أي لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لله تبارك وتعالى فمع هذا البيان الواضح الجلي هل يظن ظان أن مراده بقوله وكلمته أنه إله خالق أو أنه صفة لله قائمة به وأن قوله وروح منه المراد به أنه حياته أو روحه منفصلة عن ذاته
ثم نقول أيضا أما قوله وكلمته فقد بين مراده أنه خلقه بكن وفي لغة العرب التي نزل بها القرآن أن يسمى المفعول باسم المصدر فيسمى المخلوق خلقا لقوله هذا خلق الله ويقال درهم ضرب الأمير أي مضروب الأمير ولهذا يسمى المأمور به أمرا والمقدور قدرة وقدرا والمعلوم علما والمرحوم به رحمة كقوله تعالى
وكان أمر الله قدرا مقدورا
وقوله
أتى أمر الله فلا تستعجلوه
وقال النبي يقول الله للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ويقول للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي وقال إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مئة رحمة أنزل منها رحمة واحدة فيها يتراحم الخلق ويتعاطفون وأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك فرحم بها الخلق ويقال للمطر هذه قدرة عظيمة ويقال غفر الله لك علمه فيك أي معلومه فتسمية المخلوق بالكلمة كلمة من هذا الباب
وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الرد على الجهمية وذكره غيره أن النصارى الحلولية والجهمية المعطلة اعترضوا على أهل السنة فقالت النصارى القرآن كلام الله غير مخلوق والمسيح كلمة الله فهو غير مخلوق وقالت الجهمية المسيح كلمة الله وهو مخلوق والقرآن كلام الله فيكون مخلوقا
وأجاب أحمد وغيره بأن المسيح نفسه ليس هو كلاما فإن المسيح إنسان وبشر مولود من امرأة وكلام الله ليس بإنسان ولا بشر ولا مولود من امرأة ولكن المسيح خلق بالكلام وأما القرآن فهو نفسه كلام الله فأين هذا من هذا
وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وما من عاقل إذا سمع قوله تعالى في المسيح عليه السلام أنه كلمته ألقاها إلى مريم إلا يعلم أنه ليس المراد أن المسيح نفسه كلام الله ولا أنه صفة الله ولا خالق
ثم يقال للنصارى فلو قدر أن المسيح نفس الكلام فالكلام ليس بخالق فإن القرآن كلام الله وليس بخالق والتوراة كلام الله وليست بخالقة وكلمات الله كثيرة وليس منها شيء خالق فلو كان المسيح نفس الكلام لم يجز أن يكون خالقا فكيف وليس هو الكلام وإنما خلق بالكلمة وخص باسم الكلمة فإنه لم يخلق على الوجه المعتاد الذي خلق عليه غيره بل خرج عن العادة فخلق بالكلمة من غير السنة المعروفة في البشر
وقوله بروح منه لا يوجب أن يكون منفصلا من ذات الله كقوله تعالى
وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه
وقوله تعالى
وما بكم من نعمة فمن الله
وقال تعالى
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة
فهذه الأشياء كلها من الله وهي مخلوقة وأبلغ من ذلك روح الله التي أرسلها إلى مريم وهي مخلوقة
فالمسيح الذي هو روح من تلك الروح أولى أن يكون مخلوقا قال تعالى
فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا
وقد قال تعالى
ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا
وقال
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها ءاية للعالمين
فأخبر أنه نفخ في مريم من روحه كما أخبر أنه نفخ في آدم من روحه وقد بين أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا حملته
فهذا الروح الذي أرسله الله إليها ليهب لها غلاما زكيا مخلوق وهو روح القدس الذي خلق المسيح منه ومن مريم فإذا كان الأصل مخلوقا فكيف الفرع الذي حصل منه وهو روح القدس وقوله عن المسيح وروح منه خص المسيح بذلك لأنه نفخ في أمه من الروح فحبلت به من ذلك النفخ وذلك غير روحه التي يشاركه فيها سائر البشر فامتاز بأن حبلت به من نفخ الروح فلهذا سمى روحا منه
ولهذا قال طائفة من المفسرين روح منه أي رسول منه سماه باسم الروح الرسول الذي نفخ فيها فكما يسمى كلمة يسمى
روحا لأنه كون بالكلمة لا كما يخلق الآدميون غيره ويسمى روحا لأنه حبلت به أمه بنفخ الروح الذي نفخ فيها لم تحبل به من ذكر كغيره من الآدميين وعلى هذا فيقال لما خلق من نفخ الروح ومن مريم سمى روحا بخلاف سائر الآدميين فإنه يخلق من ذكر وأنثى ثم ينفخ فيه الروح بعد مضي أربعة أشهر
والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس ولو اقتصروا على هذا وفسروا روح القدس بالملك الذي نفخ فيها وهو روح الله لكان هذا موافقا لما أخبر الله به لكنهم جعلوا روح القدس حياة الله وجعلوه ربا وتناقضوا في ذلك فإنه على هذا كان ينبغي فيه أقنومان أقنوم الكلمة وأقنوم الروح وهم يقولون ليس فيه إلا أقنوم الكلمة وكما يسمى المسيح كلمة لأنه خلق بالكلمة يسمى روحا لأنه حل به من الروح
فإن قيل فقد قال في القرآن
والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك
وقال
تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم
وقد قال أئمة المسلمين وجمهورهم القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدا وقال في المسيح وروح منه قيل هذا بمنزلة سائر المضاف إلى الله إن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة فيها كان مخلوقا وإن كان صفة مضافا إلى الله كعلمه وكلامه ونحو ذلك كان إضافة صفة وكذلك ما كان منه إن كان عينا قائمة أو صفة قائمة بغيرها كما في السماوات والأرض والنعم والروح الذي أرسله إلى مريم وقال إنما أنا رسول ربك كان مخلوقا وإن كان صفة لا تقوم بنفسها ولا يتصف بها المخلوق كالقرآن لم يكن مخلوقا فإن ذلك قائم بالله وما يقوم بالله لا يكون مخلوقا والمقصود هنا بيان بطلان احتجاج النصارى وأنه ليس لهم في ظاهر القرآن ولا باطنه حجة في سائر كتب الله وإنما تمسكوا بآيات متشابهات وتركوا المحكم كما أخبر الله عنهم بقوله
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
والآية نزلت في النصارى فهم مرادون من الآية قطعا ثم قال
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا
وفيها قولان وقراءتان منهم من يقف عند قوله إلا الله ويقول الراسخون في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله
ومنهم من لا يقف بل يصل بذلك قوله تعالى
والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا
ويقول الراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه وكلا القولين مأثور عن طائفة من السلف وهؤلاء يقولون قد يكون الحال من المعطوف دون المعطوف عليه كما في قوله تعالى
والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا
أي قائلين وكلا القولين حق باعتبار فإن لفظ التأويل يراد به التفسير ومعرفة معانيه
والراسخون في العلم يعلمون تفسير القرآن قال الحسن البصري لم ينزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا نزلت وماذا عنى بها
وقد يعنى بالتأويل ما استأثر الله بعلمه من كيفية ما أخبر به عن نفسه وعن اليوم الآخر ووقت الساعة ونزول عيسى ونحو ذلك
فهذا التأويل لا يعلمه إلا الله وأما لفظ التأويل إذا أريد به صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما يخالف ذلك لدليل يقترن به فلم يكن السلف يريدون بلفظ التأويل هذا ولا هو معنى التأويل في كتاب الله عز و جل
ولكن طائفة من المتأخرين خصوا لفظ التأويل بهذا بل لفظ التأويل في كتاب الله يراد به ما يؤول إليه الكلام وإن وافق ظاهره كقوله تعالى
هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل
ومنه تأويل الرؤيا كقول يوسف الصديق
هذا تأويل رءياى من قبل
2 - وكقوله
إلا نبأتكما بتأويله
وقوله
ذلك خير وأحسن تأويلا
وهذا مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أنه ليس للنصارى حجة لا في ظاهر النصوص ولا في باطنها كما قال تعالى
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
والكلمة عندهم هي جوهر وهي رب لا يخلق بها الخالق بل هي الخالقة لكل شيء كما قالوا في كتابهم إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم والله تعالى قد أخبر أنه سبحانه ألقاها إلى مريم والرب سبحانه هو الخالق والكلمة التي ألقاها ليست خالقة إذ الخالق لا يلقيه شيء بل هو يلقي غيره وكلمات الله نوعان كونية ودينية
فالكونية كقوله للشيء كن فيكون
والدينية أمره وشرعه الذي جاءت به الرسل وكذلك أمره وإرادته وإذنه وإرساله وبعثه ينقسم إلى هذين القسمين وقد ذكر الله تعالى إلقاء القول في غير هذا وقد قال تعالى
ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا
وقال تعالى
وإذا رءا الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا
الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم
وقال تعالى
يا أيها الذين ءامنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة
وأما لقنته القول ولقيته فتلقاه فذلك إذا أردت أن تحفظه بخلاف ما إذا ألقيته إليه فإن هذا يقوله فيما يخاطبه به وإن لم يحفظه كمن ألقيت إليه القول بخلاف القول إنكم لكاذبون وألقوا إليهم السلام وليس هنا إلا خطاب سمعوه لم يحصل نفس صفة المتكلم في المخاطب فكذلك مريم إذا ألقى الله كلمته إليها وهي قول كن لم يلزم أن تكون نفس صفته القائمة به حلت في مريم كما لم يلزم أن تكون صفته القائمة به حلت في سائر من ألقى إليه كلامه كما لا تحصل صفة كل متكلم فيمن يلقى إليه كلامه
فصل
وأما قولهم وعلى هذا المثال نقول في السيد المسيح طبيعتان
طبيعة لاهوتية التي هي طبيعة كلمة الله وروحه
وطبيعة ناسوتية التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به
فيقال لهم كلام النصارى في هذا الباب مضطرب مختلف متناقض وليس لهم في ذلك قول اتفقوا عليه ولا قول معقول ولا قول دل عليه كتاب بل هم فيه فرق وطوائف كل فرقة تكفر الأخرى كاليعقوبية والملكانية والنسطورية ونقل الأقوال عنهم في ذلك مضطربة كثيرة الاختلاف
ولهذا يقال لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا على أحد عشر قولا وذلك أن ما هم عليه من اعتقادهم من التثليث والآتحاد كما هو مذكور في أمانتهم لم ينطق به شيء من كتب الأنبياء ولا يوجد لا في كلام
المسيح ولا الحواريين ولا أحد من الأنبياء ولكن عندهم في الكتب ألفاظا متشابهة وألفاظا محكمة يتنازعون في فهمها ثم القائلون منهم بالأمانة وهم عامة النصارى اليوم من الملكانية والنسطورية واليعقوبية مختلفون في تفسيرها ونفس قولهم متناقض يمتنع تصوره على الوجه الصحيح
فلهذا صار كل منهم يقول ما يظن أنه أقرب من غيره فمنهم من يراعي لفظ أمانتهم وإن صرح بالكفر الذي يظهر فساده لكل أحد كاليعقوبية ومنهم من يستر بعض ذلك كالنسطورية وكثير منهم وهم الملكانية بين هؤلاء وهؤلاء ولما ابتدعوا ما ابتدعوا من التثليث والحلول كان فيهم من يخالفهم في ذلك
وقد يوجد نقل الناس لمقالاتهم مختلفا وذلك بحسب قول الطائفة التي ينقل ذلك الناقل قولها والقول الذي يحكيه كثير من نظار المسلمين يوجد كثير منهم على خلافه كما نقلوا عنهم ما ذكره أبو المعالي وصاحبه أبو القاسم
الأنصاري وغيرهما أن القديم واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنوم وأنهم يعنون بالأقنوم الوجود والحياة والعلم
ونقلوا عنهم أن الحياة والعلم ليسا بوصفين زائدين على الذات موجودين بل هما صفتان نفسيتان للجوهر قالوا ولو مثل مذهبهم بمثال لقيل إن الأقانيم عندهم تنزل منزلة الأحوال والصفات النفسية عند مثبتيها من المسلمين فإن سوادية اللون ولونيته صفتان نفسيتان للعرض قال وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب وروح القدس فيعنون بالأب الوجود وبالابن المسيح والكلمة وربما سمو العلم
كلمة والكلمة علما ويعبرون عن الحياة بالروح قال ولا يريدون بالكلمة الكلام فإن الكلام عندهم من صفات الفعل ولا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح واتحاده به ابنا بل المسيح عندهم مع ما تدرع به ابن قالوا ومن مذهبهم أن الكلمة اتحدت بالمسيح وتدرعت بالناسوت ثم اختلفوا في معنى الاتحاد فمنهم من فسره بالاختلاط والامتزاج وهذا مذهب طوائف من اليعقوبية والنسطورية والملكانية قالوا إن الكلمة خالطت جسد المسيح ومازجته كما مازج الخمر الماء أو اللبن قالوا وهذا مذهب الروم ومعظمهم الملكانية قالوا فمازجت الكلمة جسد المسيح فصارت شيئا واحدا وصارت الكثرة قلة
وذهبت طائفة من اليعاقبة إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما وقالوا وصارت شرذمة من كل صنف إلى أن المراد بالاتحاد ظهور اللاهوت على الناسوت كظهور الصورة في المرآة والنقش في الخاتم
ومنهم من قال ظهور اللاهوت على الناسوت كاستواء الإله على العرش عند المسلمين وذهب كثير من هذه الطوائف إلى أن المراد بالاتحاد الحلول قالوا وقد اختلفوا أيضا في الجوهر والأقانيم
فذهبت اليعقوبية والنسطورية إلى أن الجوهر ليس بغير الأقانيم
ولا يقال إنه هي وصرحت الملكانية بأنه غير الأقانيم وآخرون قالوا هو الأقانيم
قالوا وافترقت النصارى من وجه آخر فذهبت الروم إلى التصريح بإثبات ثلاثة آلهة وامتنعت اليعقوبية والنسطورية من ذلك في وجه والتزموه من وجه وذلك أنهم قالوا الكلمة إله والروح إله والأب إله والثلاثة الأقانيم التي كل أقنوم إله إله واحد
قالوا وذهبت شرذمة من النصارى إلى أن عيسى كان ابنا لله على جهة الكرامة فكما اتخذ الله إبراهيم خليلا كذلك اتخذ عيسى ابنا
قالوا وهؤلاء يقال لهم الأريوسية فهذا نقل طائفة من نظار المسلمين وهذا قول لمن قاله من النصارى وفيه ما هو مخالف لصريح أمانتهم وما عليه جمهورهم مثل قوله إنهم لا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح ابنا بل المسيح مع ما تدرع به ابن فإن هذا خلاف ما عليه فرق النصارى من الملكانية واليعقوبية والنسطورية وخلاف ما تضمنته أمانتهم إذ صرحوا فيها بأن الكلمة ابن قديم أزلي مولود قبل الدهور وهذا صفة اللاهوت عندهم وفيها أشياء يقولها بعض النصارى لا كلهم وكذلك نقلهم عنهم أنهم لا يريدون بالكلمة الكلام فإن الكلام عندهم صفة فعل وهذا قول طائفة منهم ومن
اليهود وكثير منهم أو أكثرهم يقولون إن كلام الله غير مخلوق وينكرون على من يقول إنه مخلوق
ونقلت طائفة أخرى منهم أبو الحسن بن الزاغوني عنهم ما يوافق هذا من وجه دون وجه فقالوا اتفقت طوائف النصارى على أن الله ليس بجسم واتفقوا على أنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام ثم اختلفوا فقال بعضهم إن الأقانيم مختلفة في الأقنومية متفقة في الجوهرية
وقال آخرون ليست مختلفة في الأقنومية بل متغايرة وقال فريق منهم إن كل واحد منها لا هو الآخر ولا هو غيره وليست متغايرة ولا مختلفة وزعموا أن الجوهر ليس هو غيرها إلا ما ذكر عن طائفة من الملكانية فإنهم قالوا إن الأقانيم هي الجوهر غير الأقانيم وزعموا أن الجوهر هو الأب والأقانيم الحياة وهي روح القدس والقدرة والعلم وأن الله اتحد بأحد الأقانيم الذي هو الابن بعيسى ابن مريم وكان مسيحا عند الاتحاد لاهوتا وناسوتا حمل وولد ونشأ وقتل وصلب ودفن
واختلفوا أيضا فقالت النسطورية إن المسيح جوهران أقنومان قديم ومحدث 2 وأن اتحاده إنما هو بالمشيئة وأن مشيئتهما واحدة وإن كانا جوهرين
وقالت اليعقوبية لما اتحدا صار الجوهران الجوهر القديم والجوهر المحدث جوهرا واحدا
واختلفوا هاهنا فقال بعضهم الجوهر المحدث صار قديما وزعم آخرون أنهما لما اتحدا صارا جوهرا واحدا قديما من وجه محدثا من وجه آخر
وقالت الملكانية إن المسيح جوهران أقنوم واحد وحكى عن بعضهم أنه أقنومان جوهر واحد وقالت الأريوسية إن الله ليس بجسم ولا أقانيم له وأن المسيح لم يصلب ولم يقتل وأنه نبي وحكى عن بعضهم أنه قال المسيح ليس بابن الله وحكى عن بعضهم أنه ابن الله على التسمية والتقريب
واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم فقالت طائفة منهم إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة كما يحل الماء في اللبن فيمازجه ويخالطه وقالت طائفة منهم إنها حلت في مريم من غير ممازجة كما أن شخص الإنسان يحل في المرآة وفي الأجسام الصقيلة من غير ممازجة
وزعمت طائفة من النصارى أن الناسوت مع اللاهوت كمثل الخاتم مع الشمع يؤثر فيه بالنقش ثم لا يبقى منه شيء إلا أثره
قال أبو الحسن بن الزاغوني ومن معه واختلفت النصارى في الأقانيم فقال قوم منهم هي جواهر وقال قوم هي خواص وقال قوم هي صفات وقال قوم هي أشخاص والأب عندهم الجوهر الجامع للأقانيم والابن هو الكلمة التي اتحدت عند مبدأ المسيح والروح هي الحياة واجتمعوا على أن الاتحاد صفة فعل وليس بصفة ذات
قالوا واختلف قولهم في الاتحاد اختلافا متباينا فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح وقيل هذا قول الأكثرين منهم
وزعم قوم منهم أن الاتحاد هو الاختلاط والامتزاج وقال قوم من اليعقوبية هو أن كلمة الله قد انقلبت لحما ودما بالاختلاط وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط الماء بالخمر وامتزاجهما وكذلك الخمر باللبن
وقال قوم منهم الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اتحدا فصارا هيكلا واحدا
وقال قوم منهم الاتحاد مثل ظهور صورة الإنسان في المرآة وكظهور الطابع في المطبوع مثل الخاتم في الشمع وقال قوم منهم الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة كما نقول الله في السماء على العرش من غير مماسة ولا ممازجة وكما نقول إن العقل جوهر حال في النفس من غير مخالطة للنفس ولا مماسة لها وقالت الملكانية الاتحاد أن الاثنين صارا واحدا وصارت الكثرة قلة
وهذا الذي نقله عنهم أبو الحسن الزاغوني هو نحو ما نقله عنهم القاضي أبو بكر ابن الطيب والقاضي أبو يعلى وغيرهما وقال أبو محمد بن حزم النصارى فرق منهم أصحاب أريوس وكان قسيسا بالاسكندرية ومن قوله التوحيد المجرد وأن عيسى عبد
مخلوق وأنه كلمة الله التي بها خلق السماوات والأرض وكان في زمن قسطنطين الأول باني القسطنطينية وأول من تنصر من ملوك الروم وكان على مذهب أريوس هذا
قال ومنهم أصحاب بولس الشمشاطي وكان بطرياركا بأنطاكية قبل ظهور النصرانية وكان قوله بالتوحيد المجرد الصحيح وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام خلقه الله في بطن أمه مريم من غير ذكر وأنه إنسان لا إلهية فيه البتة وكان يقول لا أدري ما الكلمة ولا الروح القدس قال وكان منهم أصحاب مقدنيوس كان بطرياركا بالقسطنطينية بعد ظهور النصرانية أيام قسطنطين بن قسطنطين باني القسطنطينية وكان هذا الملك أريوسيا كأبيه وكان من قول مقدونيوس هذا التوحيد المجرد وأن عيسى عليه السلام عبد مخلوق إنسان نبي رسول كسائر الأنبياء عليهم السلام وأن عيسى هو روح القدس وكلمة الله وأن روح
القدس والكلمة مخلوقان خلق الله كل ذلك قال وكان منهم البربرانية وهم يقولون إن عيسى وأمه إلهان من دون الله تعالى قال وهذه الفرق قد بادت وعمدتهم اليوم ثلاث فرق وأعظمها فرق الملكانية وهي مذهب جميع ملوك النصارى حيث كانوا حاشا الحبشة والنوبة ومذهب عامة أهل كل مملكة النصارى حاشا النوبة والحبشة وهو مذهب جميع نصارى إفريقية وصقلية
والأندلس وجمهور الشام وقولهم أن الله تعالى عن قولهم ثلاثة أشياء أب وابن وروح القدس كلها لم تزل وأن عيسى إله تام كله وإنسان تام ليس أحدهما غير الآخر وأن الإنسان منه هو الذي صلب وقتل وأن الإله منه لم ينله شيء من ذلك وأن مريم ولدت الإله والإنسان وأنهما معا شيء واحد ابن الله تعالى الله عن كفرهم
وقالت النسطورية مثل ذلك سواء بسواء إلا أنهم قالوا إن مريم لم تلد الإله وإنما ولدت الإنسان وأن الله لم يلد الإنسان وإنما ولد الإله تعالى الله عن كفرهم وهذه الفرقة غالبة على الموصل والعراق وفارس وخراسان وهم منسوبون إلى نسطور وكان بطرياركا بالقسطنطينية
وقالت اليعقوبية إن المسيح هو الله نفسه وأن الله تعالى الله عن عظيم كفرهم مات وصلب وقتل وأن العالم بقي ثلاثة أيام بلا
مدبر والفلك بلا مدبر ثم قام ورجع كما كان والله تعالى عاد محدثا والمحدث عاد قديما والله تعالى كان في بطن مريم محمولا به وهم في اعمال مصر وجميع النوبة وجميع الحبشة وملوك الأمتين المذكورتين
قلت ومن أخبر الناس بمقالاتهم من كان من علمائهم وأسلم على بصيرة بعد الخبرة بكتبهم ومقالاتهم كالحسن بن أيوب الذي كتب رسالة إلى أخيه علي بن أيوب يذكر فيها سبب إسلامه ويذكر الأدلة على بطلان دين النصارى وصحة دين الإسلام قال في رسالته إلى أخيه لما كتب إليه يسأله عن سبب إسلامه بعد أن ذكر خطبته ثم أعلمك أرشدك الله أن ابتداء أمري في الشك الذي دخلني فيما كنت عليه والاستبشاع بالقول به من أكثر
من عشرين سنة لما كنت أقف عليه في المقالة من فساد التوحيد لله عز و جل بما أدخل فيه من القول بالثلاثة الأقانيم وغيرها مما تضمنته شريعة النصارى ووضع الاحتجاجات التي لا تزكو ولا تثبت في تقرير ذلك وكنت إذا تبحرته وأجلت الفكر فيه بان لي عواره ونفرت نفسي من قبوله وإذا فكرت في دين الإسلام الذي من الله علي به وجدت أصوله ثابتة وفروعه مستقيمة وشرائعه جميلة
وأصل ذلك ما لا يختلف فيه أحد ممن عرف الله عز و جل منكم ومن غيركم وهو الإيمان بالله الحي القيوم السميع البصير الواحد الفرد الملك القدوس الجواد العدل إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وإله موسى وعيسى وسائر النبيين والخلق أجمعين الذي لا ابتداء له ولا انتهاء ولا ضد ولا ند ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا الذي خلق الأشياء كلها لا من شيء ولا على مثال بل كيف شاء وبأن قال لها كوني فكانت على ما قدر وأراد وهو العليم القدير الرؤوف الرحيم الذي لا يشبهه شيء وهو الغالب فلا يغلب والجواد فلا يبخل لا يفوته مطلوب ولا تخفى عليه خافية يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وكل مذكور أو موهوم هو منه وكل ذلك به وكل له قانتون ثم نؤمن بأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره
المشركون ونؤمن بموسى وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا نفرق بين أحد منهم ونؤمن بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين ذلك بما كسبت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد
قال وكان يحملني إلف ديني وطول المدة والعهد عليه والاجتماع مع الآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأقارب والإخوان والجيران وأهل المودات على التسويف بالعزم والتلبث على إبرام الأمر ويعرض مع ذلك الفكر في إمعان النظر والازدياد في البصيرة فلم أدع كتابا من كتب أنبياء التوراة والإنجيل والزبور وكتب الأنبياء والقرآن إلا نظرت فيه وتصفحته ولا شيئا من مقالات النصرانية إلا تأملته فلما لم أجد للحق مدفعا ولا للشك فيه موضعا ولا للأناة والتلبث وجها خرجت مهاجرا إلى الله عز و جل بنفسي هاربا بديني عن نعمة وأهل مستقر ومحل وعز ومتصرف في عمل فأظهرت ما أظهرته عن نية صحيحة وسريرة صادقة ويقين ثابت فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق
وإياه تعالى نسأل أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب
قال ولما نظرت في مقالات النصارى وجدت صنفا منهم يعرفون بالأريوسية يجردون توحيد الله ويعترفون بعبودية المسيح عليه السلام ولا يقولون فيه شيئا مما يقوله النصارى من ربوبية ولا بنوة خاصة ولا غيرهما وهم متمسكون بإنجيل المسيح مقرون بما جاء به تلاميذه والحاملون عنه فكانت هذه الطبقة قريبة من الحق مخالفة لبعضه في جحود نبوة محمد ودفع ما جاء به من الكتاب والسنة
قال ثم وجدت منهم صنفا يعرفون باليعقوبية يقولون إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعيتين إحداهما طبيعة الناسوت والأخرى طبيعة اللاهوت وأن هاتين الطبيعتين تركبتا كما تركبت النفس مع البدن فصارتا إنسانا واحدا وجوهرا واحدا وشخصا واحدا وأن هذه الطبيعة الواحدة والشخص والواحد هو المسيح وهو إله كله وإنسان كله وهو شخص واحد وطبيعة واحدة من طبيعتين
وقالوا إن مريم ولدت الله تعالى الله عما يقولون وإن الله مات وتألم وصلب متجسدا ودفن وقام من بين الأموات وصعد إلى
السماء فجاءوا من القول بما لو عرض على السماء لانفطرت أو على الأرض لانشقت أو على الجبال لانهدت فلم يكن لمحاجة هؤلاء وجه إذ كان كفرهم بما صرحوا به أوضح من أن يقع فيه الشك وكان غيرهم من النصارى كالمالكانية والنسطورية يشهدون بذلك عليهم
قال ثم نظرت في قول الملكانية وهم الروم وهم أكثر النصارى فوجدتهم قالوا إن الابن الأزلي الذي هو الله الكلمة تجسد من مريم تجسدا كاملا كسائر أجساد الناس وركب في ذلك الجسد نفسا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس وأنه صار إنسانا بالنفس والجسد اللذين هما من جوهر الناس وإلها بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل وهو إنسان بجوهر الناسوت مثل إبراهيم وداود وهو شخص واحد لم يزد عدده وثبت له جوهر اللاهوت كما لم يزل يصح له جوهر الناسوت الذي لبسه من مريم وهو شخص واحد لم يزد عدده وطبيعتان ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة فله بلاهوته مشيئة مثل الأب والروح وله بناسوته مشيئة مثل مشيئة إبراهيم وداود
وقالوا إن مريم ولدت إلها وأن المسيح وهو اسم يجمع
اللاهوت والناسوت مات وقالوا إن الله لم يمت والذي ولدت مريم قد مات بجوهر ناسوته فهو إله تام بجوهر لاهوته وإنسان تام بجوهر ناسوته وله مشيئة اللاهوت ومشيئة الناسوت وهو شخص واحد لا نقول شخصان لئلا يلزمنا القول بأربعة أقانيم
قال فهؤلاء أتوا من ذلك بمثل ما أتت به اليعقوبية في ولادة مريم الله تعالى الله عما يقول الظالمون وقالوا إن المسيح وهو اسم لا تشك جماعة النصارى أنه واقع على اللاهوت والناسوت مات وأن الله لم يمت فكيف يكون ميتا لم يمت وقائما قاعدا في حال واحدة وهل بين المقالتين فرق إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع
قال ثم نظرت في قول النسطورية فوجدتهم قالوا إن المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة وأن طبيعة اللاهوت التي للمسيح غير طبيعة ناسوته وأن طبيعة اللاهوت لما توحدت بالناسوت بشخصها
الكلمة التي صارت الطبيعتان بجهة واحدة وإرادة واحدة واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصان ولا يمتزج بشيء والناسوت يقبل الزيادة والنقصان فكان المسيح بتلك إلها وإنسانا فهو إله بجوهر اللاهوت الذي لا يزيد ولا ينقص وهو إنسان بجوهر الناسوت القابل للزيادة والنقصان
وقالوا إن مريم ولدت المسيح بناسوته وإن اللاهوت لم يفارقه قط منذ توحدت بناسوته
وقال فوجدنا اليعقوبية قد صرحوا بأن مريم ولدت الله تعالى عما يصفه المبطلون ويقوله العادلون وأنه تألم وصلب ومات وقام بعد ثلاثة أيام من بين الموتى وهذا الكفر الذي تشهد به عليهم سائر ملل النصارى وغيرهم ووجدنا الملكانية قد حادوا عن هذا التصريح إلى ما هو دونه في الظاهر فقالوا إن المسيح شخص واحد و طبيعتان فلكل واحدة من الطبيعتين مشيئة فله بلاهوته مشيئة مثل الأب والروح وله بناسوته مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود وأوهموا الواقف على قولهم أنهم بما اخترعوه من هذا الاختيار قد فرقوا بين اللاهوت والناسوت ثم عادوا إلى قول اليعقوبية فقالوا إن مريم ولدت إلها وأن المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت عند جماعتهم لا يشكون في ذلك مات بالجسد وأن الله لم يمت والذي قد ولدته مريم قد مات بجوهر ناسوته فكيف يكون ميت لم يمت وهل بين المقالتين إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع فرق
وإذا كانوا قد اعترفوا بأن مريم ولدت الله وأن الذي ولدته مريم وهو المسيح الاسم الجامع للجوهرين للاهوت والناسوت قد مات فهل وقعت الولادة والموت وسائر الأفعال التي تحكي النصارى أنها فعلت بالمسيح إلا عليهما
فكيف يصح لذي عقل عبادة مولود من امرأة بشرية قد مات ونالته العلل والآفات
قلت ومما يوضح تناقضهم أنهم يقولون إن المسيح وهو اللاهوت والناسوت شخص واحد وأقنوم واحد مع قولهم أنهما جوهران بطبيعتين ومشيئتين فيثبتون للجوهرين أقنوما واحدا ويقولون هو شخص واحد ثم يقولون إن رب العالمين إله واحد وأقنوم واحد وجوهر واحد وهو ثلاثة أقانيم فيثبتون للجوهر الواحد ثلاثة أقانيم وللجوهرين المتحدين أقنوما واحدا مع أن مشيئة الأقانيم الثلاثة عندهم واحدة والناسوت واللاهوت يثبتون لهما مشيئتين وطبيعتين ومع هذا هما عندهم شخص واحد أقنوم واحد وهذا يقتضي غاية التناقض سواء فسروا الأقنوم بالصفة أو الشخص أو الذات مع الصفة أو أي شيء قالوه
وهو يبين أن الذين تكلموا بهذا الكلام ما تصوروا ما قالوه
بل كانوا ضلالا جهالا بخلاف ما يقوله الأنبياء فإنه حق فلهذا لا يوجد عن المسيح ولا غيره من الأنبياء ما يوافق قولهم في التثليث والأقانيم والاتحاد ونحو ذلك مما ابتدعوه بغير سمع وعقل بل ألقوا أقوالا مخالفة للشرع والعقل
ثم قال الحسن بن أيوب ثم وجدنا النصارى المعروفين بالنسطورية قد خالفوا اليعقوبية والملكانية في قولهم بشخصين لهما مشيئة واحدة وأن الطبيعتين اتحدتا فصارتا بجهة واحدة ثم عادوا إلى شبيه قولهم في أن مريم ولدت المسيح فإذا كانت ولدت المسيح فقد لزمهم ووجب عليه الإقرار بأنها ولدت هذا اللاهوت والناسوت المتحدين
وقد رجع المعنى إلى قول اليعقوبية إلا أنهم اختاروا لذلك ألفاظا زوقوها وقدروا بها التمويه على السامع ولم يصرحوا بالقول كتصريح اليعقوبية لأن المتحد بالشيء هو الممازج له والمجتمع معه حتى صار مازجه وهو شيئا واحدا ثم أكدوا القول بإقرارهم أن الناسوت منذ اتحد باللاهوت لم يفارقه فما لم يفارق الشيء هل هو إلا يجري مجراه في سائر متفرقاته من ضر ونفع وخير وشر وحاجة وغنى
قال وأما قولهم إن مريم ولدت المسيح بناسوته فهذه أغلوطة وإلا فكيف يولد ولد متحد بشيء آخر مجامع له دون ذلك الشيء وكيف يكون ذاك وهم يقولون إنه لم يفارقه قط وهل يصح
هذا عند أهل النظر أو ليس الحكم عند كل ناظر ومن كل ذي عقل يوجب أن تكون الولادة واقعة على اللاهوت والناسوت معا بمعنى الاتحاد وبمعنى الاسم الجامع للاهوت والناسوت وهو المسيح وكذلك الحمل بهما جميعا وأن يكون البطن قد حواهما
قال فإن لجوا في الباطل ودافعوا عن قبيح هذه المقالة ومالوا إلى تحسينها بالتمويهات المشككة لمن قصرت معرفته فنحن نقيم عليهم شاهدا من أنفسهم لا يمكنهم دفعه وذلك أن شريعة إيمانهم التي ألفها لهم رؤساؤهم من البطاركة والمطارنة والأساقفة والأحبار في دينهم وذوي العلم منهم بحضرة الملك عند اجتماعهم من آفاق الأرض بمدينة قسطنطينية وكانوا ثلثمائة وثمانية عشر رجلا يصفون أنهم نطقوا بها بروح القدس وهي التي لم تختلف جماعتهم عند اختلافهم في المقالات فيها ولا يتم لهم قربان إلا بها على هذا النسق الذي نبينه نؤمن بالله الأب مالك كل شيء صانع ما يرى وما لا يرى وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد بكر الخلائق كلها وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء الذي من أجلنا معشر البشر ومن
أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول وتألم وصلب أيام قيطوس بن بيلاطوس ودفن وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبية روح ومجيئه وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قديسية سليخية جاثليقية وبقيامة أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين
قال فهذه الشريعة يجتمع على الإيمان بها وبذل المهج فيها وإخراج الأنفس دونها جماهيرهم من الملكانية واليعقوبية والنسطورية
وقد اعترفوا فيها جميعا بأن الرب المسيح الذي هذه صفته على ما اقتصصناه منها الإله الحق من الإله الحق نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول وتألم وصلب
قال فهل في هذا الإقرار شبهة أو علقة يتعلق بها العنت المدافع عن الحجة فتدبروا هذا القول يا معشر النصارى فإنه لا يمكن أحد منكم أن يخرج عنه ولا أن يدفع ما صرح به فإنكم إن قلتم إن المقتول المصلوب هو الله فمريم على قولكم ولدت الله سبحانه وتعالى عما يقولون وإن قلتم أنه إنسان فمريم ولدت إنسانا وفي ذلك أجمع بطلان شريعة إيمانكم فاختاروا أي القولين شئتم فإن فيه نقض الدين
قال وقد يجب على ذوي العقول أن تزجرهم عقولهم عن عبادة إله ولدته مريم وهي امرأة آدمية ثم مكث على الأرض ثلاثين سنة تجري عليه أحكام الآدميين من غذاء وتربية وصحة وسقم وخوف وأمن وتعلم وتعليم لا يتهيأ لكم أن تدعوا أنه كان منه في تلك المدة من أسباب اللاهوتية شيء ولا له من أحوال الآدميين كلها من حاجتهم وضروراتهم وهمومهم ومحنهم وتصرفاتهم مخرج ثم أحدث بعد هذه المدة الطويلة ما أحدثه من إظهار أمر الله تعالى والنبوات والآيات الباهرة المعجزة بقوة الله تعالى وقد كان من غيره من الأنبياء مثلها وما هو أعلى منها فكانت مدته في ذلك أقل من ثلاث سنين ثم انقضى أمره بما يصفون أنه انقضى به وينسبونه إليه من حبس وضرب وقذف وصلب وقتل فهل تقبل العقول ما يقولون من
أن إلها نال عباده منه مثل ما تذكرون أنه نيل منه
فإن تأولتم أن ذلك حل بالجسم وليس بالقياس يحتمل ذلك لما شرحناه من معنى اتحاد اللاهوت به أفليس قد وقع بجسم توحدت اللاهوتية به وحلت الروح فيه وقد أنجبه الله على ما تزعمون وتصفون لخلاص الخلق وفوض إليه القضاء بين العباد في اليوم الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون للحساب وقد وجدناكم تؤثرون أخبارا في قوم عرضوا التوابيت فيها شهداء لكم بأن الأيدي التي بسطت إليها جفت أو هل نال أحدا من الجزع والهلع والغم والقلق والتضرع إلى الله في إزالة ما حل به مثل ما يحكى في الإنجيل أنه ناله ووجدنا الكتب تنبىء بأنه نيل من جورجيس أحد من كان على دين المسيح من العذاب الشديد بالقتل والحرق والنشر بالمناشير ما لم يسمع بمثله في أحد من الخلق ونال خلقا كثيرا من تلامذته أيضا عذاب شديد
وقيل لما كان الملوك المحاربون لهم يسومونهم إياه من الرجوع عن أديانهم إلى الكفر الذي كان أولئك الملوك عليه فصبروا على ذلك واحتسبوا أنفسهم فلم يهربوا من الموت وقد كان يمكنهم الهرب من
بلد إلى بلد والاستتار وإخفاء أشخاصهم وما أظهروا في حال من تلك الأحوال جزعا ولا هلعا وهم بعض الآدميين التابعين له لأنه خفف عنهم ما كانوا ينالون به بتأييد الله عز و جل إياهم
قال ثم نقول قولا آخر قد نستدل على صحة هذه الشريعة من سقمها بأربعة أوجه لا يقع في شيء منها شك ولا طعن ولا زيادة ولا نقصان وهي أصل أمر المسيح عندكم
فأولها البشرى التي أتى بها جبريل عليه السلام
والثانية قول يحيى بن زكريا الذي شهد له المسيح بأنه لم تقم النساء عن مثله
والثالثة النداء المسموع من السماء
والرابعة قول المسيح عن نفسه حين سأله يحيى عن شأنه
والذي قال جبريل على ما ثبت في إنجيلكم لمريم حين بشرها السلام عليك أيتها الممتلئة نعما ربنا معك أيتها المباركة في النساء فلما رأته مريم ذعرت منه فقال لا ترهبي يا مريم فقد فزت بنعمة من ربك فها أنت تحبلين وتلدين ابنا وتسميه يسوع ويكون كبيرا ويسمى ابن الله العلي ويعطيه الله الرب كرسي أبيه
داود ويكون ملكا على آل يعقوب إلى الأبد فقالت مريم أنى يكون لي ذلك ولم يمسسني رجل قال له الملك إن روح القدس يأتيك أو قال يحل فيك وقوة العلي تحبلك من أجل ذلك يكون الذي يولد منك قديسا ويسمى ابن الله العلي
قال فلم نر الملك قال لها إن الذي تلدين هو خالقك وهو الرب كما سميتموه بل أزال الشك في ذلك بأن قال إن الله الرب يعطية كرسي أبيه داود ويصطفيه ويكرمه وأن داود النبي أبوه وأنه يسمى ابن الله وما قال أيضا أنه يكون ملكا على الأرض وإنما جعل له الملك على بني إسرائيل فقط وقد علمتم أن من يسمى بابن الله كثير لا يحصون فمن ذلك إقراركم بأنكم جميعا أبناء الله
بالمحبة وقول المسيح أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم في غير موضع من الإنجيل ثم تسمية الله يعقوب وغيره بنيه خصوصا فالسبيل في المسيح إذا لم تلحقوه في هذا الاسم بالجمهور أن يجري في هذه التسمية مجرى الجماعة الذين اختصوا بها من الأنبياء والأبرار ونسبة الملك إياه إلى أبيه داود تحقق أن أباه داود وأن التسمية الأولى على جهة الاصطفاء والمحبة وأن حلول الروح عليه على الجهة التي قالها متى التلميذ للشعب عن المسيح في الإنجيل لستم أنتم متكلمين بل روح الله تأتيكم تتكلم فيكم
فأخبر أن الروح تحل في القوم أجمعين وتتكلم فيهم وقال الملك في بشارته لمريم بالمسيح عليه السلام إنه يكون ملكا على آل يعقوب فخص آل يعقوب بتملكه عليهم دون غيرهم من الناس ولم يقل إنه يكون إلها للخلائق ومعنى قول جبريل عليه السلام
لمريم ربنا معك مثل معنى قول الله عز و جل لموسى وغيره من الأنبياء إني معكم فقد قال ليوشع بن نون إني أكون معك كما كنت مع موسى عبدي فقول النصارى كلهم في مجاري لغتهم ومعاني ألفاظهم أن الله عز و جل وروح القدس مع كل خطيب وراهب وفاضل في دينه على هذه السبيل
قال وأما النداء الذي سمعه يحيى بن زكريا من السماء في المسيح وشهادة يحيى له فإن متى قال في إنجيله إن المسيح عليه السلام لما خرج من الأردن تفتحت له السماء فنظر يحيى إلى روح القدس قد نزلت على المسيح كهيئة حمامة وسمع نداء من السماء إن هذا ابني الحبيب الذي اصطفيته
فقد علمنا وعلمتم أن المصطفى مفعول والمفعول مخلوق وليس يستنكف المسيح عليه السلام من الاعتراف بذلك عن الاعتراف بذلك في كل كلامه وما زال يقول إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم وكلما يصحح به أنه عبد مرسل مربوب مبعوث مأمور يؤدي ما سمع ويفعل ما حد له ونحن نشرح هذا في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
ثم قال وقد وجدنا المسيح عليه السلام أحتاج إلى تكميل أمرة بمعمودية يحيى له فصار إليه لذلك وسأله إياه فليس مرتبة المقصود بدون مرتبة القاصد الراغب وقال لوقا التلميذ في إنجيله إن يحيى المعمداني أرسل إلى المسيح بعد أن عمده وسأله أنت ذلك الذي تجيء أو نتوقع غيرك فكان جواب المسيح
لرسله أن ارجعوا فأخبروه بما ترون من عميان يبصرون وزمن ينهضون وصم يسمعون فطوبى لمن لم يغتر بي أو يذل في أمري
قال فوجدنا يحيى مع محله وجلالة قدره عند الله عز و جل ثم ما شهد به للمسيح له من أنه ما قامت النساء عن مثله قد شك فيه فاحتاج إلى أن يسأله عن شأنه ثم لم يكن من جواب المسيح له بشيء مما تصفون من الربوبية ولا قال إني خالقك وخالق كل شيء كما في شريعة إيمانكم بل حذر الغلط في أمره والاغترار ولا كان من قوله أكثر مما ذكر أنه أظهر بنبوته من هذه الآيات التي سبق إلى مثلها أكثر الأنبياء
قال ولا رأينا يحيى زاد في وضعه إياه لما قرظه وأعلا ذكره مع تشككه في أمره وحاجته إلى مسألته عن حاله على أن قال هو أقوى مني وأني لا أستحق أن أحل معقد خفه ولم يقل إنه
خالقي وقد يقول الرجل الخير فيمن هو دونه مثل الذي قال يحيى فيه تواضعا لله وخشوعا كما قال المسيح في يحيى إنه ما قامت النساء عن مثله
قال فتركتم ما أتت به الرسل والنبوات في المسيح وهو أصلكم الذي وقع عليه بناؤكم وجعلتم لأنفسكم شريعة غيرها ومثل الذين عقدوا هذه الشريعة لكم مثل من آمن بنبوة رجل ينتفي من النبوة لأن المسيح عليه السلام يقول إنه مربوب مبعوث ويقول جبريل إنه مكرم مصطفى وأن أباه داود وأن الله جعله ملكا على آل يعقوب وينادي مناد من السماء بمثل ذلك ويشهد يحيى بن زكريا على مثله وتقولون بل هو خالق أزلي إلا أنه يستر نفسه ويقول المسيح وغيره ممن سمينا أنه معطى وأن الله معطيه وتقولون بل رازق النعم وواهبها ويقول إن الله أرسله وتقولون بل هو الذي نزل لخلاصنا وتعتقدون سبب نزوله من السماء أنه أراد أن يخلصكم ويحتمل الخطيئة ويربط الشيطان فقد وجدنا الخلاص
لم يقع والخطيئة قائمة لم تزل والشيطان أعتى ما كان يربط بل سلطه الله عليه على ما تقولون فحصره في الجبل أربعين يوما يمتحنه وقال لة في بعض أحواله معه إن كنت ابن الله فقل لهذه الصخور تصير خبزا فقال له المسيح مجيبا له إنه مكتوب أن حياة الإنسان لا تكون بالخبز بل بكل كلمة تخرج من الله ثم ساقه الشيطان إلى مدينة بيت المقدس وأقامه على قرنة الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فارم بنفسك من هاهنا فإنه مكتوب إن الملائكة توكل بك لئلا تعثر رجلك بالحجر قال يسوع ومكتوب أيضا لا تجرب الرب إلهك ثم ساقه إلى جبل عال وأراه جميع مملكات الدنيا وزخارفها وقال له إن خررت على وجهك ساجدا لي جعلت هذا الذي ترى كله لك قال لة المسيح اغرب أيها الشيطان فإنه مكتوب اسجد للرب إلهك ولا تعبد شيئا سواه ثم بعث الله عز و جل ملكا اقتلع العدو من مكانه ورمى به في البحر وأطلق السبيل للمسيح
وقال أفلا يعلم من كان في عقله أدنى مسكة أن هذا الفعل لا يكون من شيطان إلى إله ولو كان إلها لأزالة عن نفسه قبل أن يأتيه الملك من عند ربه ولما قال أمرنا أن لا نجرب الله وأن نسجد للرب ولا نعبد شيئا سواه وكيف لم يربط الشيطان عن نفسه قبل أن يربط عن أمته قال فهذه أمور إذا تأملها المتأمل قبحت جدا وكثر اختلافها واشتد تناقضها واضطرابها
قال ومما يعجب منه أنكم تعتقدون أن الابن الأزلي اتحد بالمسيح فصارا بجهة واحدة ولم يفارقه قط منذ اتحد به ومكث على ذلك في بطن أمه تسعة أشهر ثم أقام مولودا وتغذى باللبن ومربوبا صبيا مغذى بالأغذية إلى أن بلغ ثلاثين سنة لا يظهر منه شيء من آلة الربوبية ولا أمر يوجب هذا المحل ولا كان بينه وبين نظرائه من الآدميين فرق ولا سطع منه نور ولا ظهرت له سكينة ولا حفته الملائكة بالتهليل ولا ألم به الشعث بعد ذلك فوق ما كان من الأنبياء قبله فقد كلم الله موسى من العوسجة كيف شاء فأشرق ما حولها نورا وكلمه من طور سيناء فاضطربت في الجبل النيران والتبس وجهة النور الساطع حتى كان يتبرقع إذا جلس مع بني إسرائيل بعد ذلك لأنهم كانوا لا يستطيعون النظر إليه ثم سأل موسى ربه عز و جل لما قرب
منه فقال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق من صعقته استغفر ربه فتاب عليه وتجلى مجد الله لجماعة من الأنبياء فرأوا حول مجده ربوات الملائكة
وقال داود يا رب إنك حيث عبرت ببلاد سنين تزلزلت الأرض منك وانفطرت من هيبتك وقال أيضا كالمخاطب للبحر والجبال والمتعجب منها ما لك أيها البحر هاربا وأنت يا نهر الأردن لم وليت راجعا وما لك أيتها الجبال تنفرين كالأبابيل وما لكن أيتها الشوامخ والهضبات تنزو نزو الشياء ثم قال كالمجيب عنهم من قدام الرب تزلزلت البقاع
قال فإن كان المسيح هو الأزلي الخالق أو كان متحدا به فكيف لم ترجف بين يديه الجبال ولم تتصرف عن مشيئته الأنهار والبحار أو كيف لم تظهر منه آيات باهرات أجل من آيات الأنبياء قبله مثل المشي على متون الهواء والاضطجاع على أكتاف الرياح والاستغناء عن
المآكل والمشارب وإحراق من قرب منه من الشياطين والجن كما أحرق إيليا من قرب منه من جند أحاب الملك ويمنع الآدميين من نفسه وما فعلوا على زعمكم بجسمه ليعلم الناس أنه خالقهم أو أنه هيكل الخالق
قال ووجدناكم تقولون أن الابن إنما يسمى ابن الله وكلامه لأنه تولد من الأب وظهر منه فلم نقف على معنى ذلك لأن شريعة إيمانكم تقول إن الروح أيضا تخرج من الأب فإن كان الأمر كما تقولون فالروح أيضا ابن لأنها تخرج عن الله تعالى وإلا فما الفرق بينهما
قال ولم نفهم أيضا قولكم أن الابن تجسد من روح القدس وأن روح القدس ساقه إلى البر ليمتحنه الشيطان فما كانت حاجة الابن إلى أن تكون الروح وهي في قولكم مثله تدبره وتغيره من حال إلى حال أو ما علتم أن الغير السابق المدبر فاعل والمسبوق
المدبر مفعول به فالابن إذن دون الروح وليس مثله لأن الأزلي لا ينفك من الأزلي وهو مثله
قال وإن كان المسيح من روح القدس كما قال جبريل الملك لأمه مريم فلم سميتموه كلمة الله وابنه ولم تسموه روحه فإنما قال لها الملك إن الذي تلدين من روح القدس والروح غير الابن ولو كان المعنى واحدا لما قالت الشريعة إنه تجسد من روح القدس وإن روح القدس ساقه إلى البر وإن روح القدس نزل عليه ولم تثلثون به في إيمانكم فتقولون نؤمن بالأب والابن والروح القدس
قال ووجدناكم تقولون أيتها النسطورية إن لله علما وحكمة هما الابن وحياة هي الروح قديمين ولعلمه وحياته ذات كذات الله وذلك أن علم الله له علم وحياة ولحياته التي هي روحه علم وحياة وأن الله الأب لما رأى استيلاء العدو على خلقه ونكول الأنبياء عن مناوأته أرسل إليه ابنه الفرد وحبيبه وجعله فداء ووفاء للناس أجمعين وأن ابنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا ثم ولد ونشأ وعاش ثلاثين سنة يتقلب بين بني إسرائيل كواحد منهم يصلي
في كنائسهم ويستن بسننهم لا يدعى دينا غير دينهم ولا ينتحل رسالة ولا نبوة ولا بنوة حتى إذا انقضت تلك السنون أظهر الدعوة وجاء بالآيات الباهرة والبراهين المشهورة فأنكرته اليهود وقتلته وصلبته ثم صعد إلى السماء
وصدقتم بشريعة الإيمان وكفرتم من خالفها ثم لم تلبثوا أن خلعتموها وانسلختم منها وقلتم إن المسيح جوهران وأقنومان جوهر قديم وجوهر حديث ولكل جوهر أقنوم على حياله وإن الله جوهر قديم يقوم بمعنيين فهو واحد يقوم بثلاثة معان وثلاثة لها معنى واحد كالشمس التي هي شيء واحد ولها ثلاثة معان القرص والحر والنور فالمسيح هو الله وهو مبعوث غير أنه ليس يعبد
فكان معنى قولكم هذا أن المسيح مولود لكنه ليس مفعولا به وهو مبعوث مرسل لكنكم تستحيون أن تسموه رسولا إذ كنتم لا تفرقون بين الله وبينه في شيء من الأشياء وأقبلتم على الملكانية واليعقوبية بالتكفير واللعن لقولهم إن الله والمسيح شيء واحد ثم لم تلبثوا أن قدمتم المسيح على الله تبارك وتعالى وبدأتم به في التمجيد ورفعتم إليه تهاليلكم ورغائبكم في أوقات القرابين خاصة وهي أجل صلواتكم وأفضل محافلكم عندكم فإنه يقوم الإمام منكم على المذبح من مذابحكم
وأهله مرعوبون فتتوقعون نزول روح القدس بزعمكم من السماء بدعائه
فيفتح دعاءه ويقول ليتم علينا وعليكم نعمة يسوع المسيح ومحبة الله الأب ومشاركة روح القدس إلى دهر الداهرين ثم يختم صلاته بمثل ذلك فهذا تصريح بالشرك وتصغير لعظمة الله وعزته أن جعلتم النعم والمواهب لمن هو دونه وهو معطى ومخول من عند الله على قولكم وجعلتم لله بعد المسيح محبة ولروحه مشاركة
قال ووجدناكم قد عبتم على اليعقوبية قولهم إن مريم ولدت الله عز اللة وجل عن ذلك وفي شريعة الإيمان التي بيناها المجتمع عليها أن المسيح إله حق وأنه ولد من مريم فما معنى المنافرة وما الفرق وما تنكرون من قولهم إن المقتول المصلوب هو الله عز اللة وجل عن ذلك
وشريعة إيمانكم تقول نؤمن بالرب المسيح الذي من خبره وحاله الذي ولد من مريم وتألم وصلب على عهد الملك بيلاطس
النبطي ودفن وقام في اليوم الثالث أليس هذا إقرارا بمثل قولهم فتدبروا هذا القول يا أولي الألباب
فإنكم إن قلتم إن المقتول المصلوب هو الله فإن مريم عندكم ولدت الله
وإن قلتم إنه إنسان فإن مريم ولدت إنسانا وبطلت الشريعة فأي القولين اخترتموه ففيه نقض دينكم ثم عبتم على الملكانية قولهم إنه ليس للمسيح إلا أقنوما واحدا لأنه صار مع الأزلي الخالق شيئا واحدا لا فرق بينهما وقلتم بأن له أقنومين لكل جوهر أقنوم على حياله ثم لم تلبثوا أن رجعتم إلى مثل قولهم فقلتم إن المسيح وإن كان مخلوقا من مريم مبعوثا فإنه هيكل لابن الله الأزلي ونحن لا نفرق بينهما فإذا كان الأمر عندكم على هذا فما تنقمون على الملكية وما معنى الافتراق وقد رجعتم في الاتحاد إلى مثل قولهم إن هذا الأمر تحار فيه الأفهام
فإن كانت الشريعة بمعنى الأمانة عندكم حقا فالقول ما قال يعقوب وذلك أنا إذا ابتدأنا من الشريعة في ذكر المسيح ثم نسقنا المعاني نسقا واحدا وانحدرنا فيها إلى آخرها وجدنا القوم الذين ألقوها لكم قد صححوا أن يسوع المسيح هو ابن الله وهو بكر الخلائق كلها وهو الذي ولد من مريم ليس بمصنوع وهو إله حق من إله حق
من جوهر أبيه وهو الذي أتقن العوالم وخلق كل شيء على يده وهو الذي نزل لخلاصكم فتجسد وحملته مريم وولدته وقتل وصلب فمن أنكر قول اليعقوبية لزمه أن ينكر هذه الشريعة التي تشهد بصحة قولهم ويلعن من ألفها
قال وإنما أخذت تلك الطائفة يعني الذين وضعوا الأمانة بكلمات وذكروا أنهم وجدوها في الإنجيل مشكلات تأولت فيها ما وقع بهواها وتركت ما في الإنجيل من الكلام البين الواضح الذي يشهد بعبودية المسيح وشهادته بذلك على نفسه وشهادة تلاميذه به عليه فأخذت بالمشكل اليسير وجعلت له ما أحبت من التأويل وألغت الواضح الكثير الذي لا يحتاج إلى تأويل
قال فأما احتجاجكم بالشمس وأنها شيء واحد له ثلاثة معان وتشبيهكم ما يقولونه في الثلاثة الأقانيم بها فإن ذلك تمويه لا يصح لأن نورا الشمس لا يحد بحد الشمس وكذلك حرها لا يحد بحد الشمس إذ كان حد الشمس جسما مستديرا مضيئا مسخنا دائرا في وسط الأفلاك دورانا دائما ولايتهيأ أن يحد نورها وحرها بمثل هذه الصفة ولا يقال إن نورها أو حرها جسم مستدير مضيء مسخن دائم الدوران ولو كان نورها وحرها شمسا حقا من شمس حق من جوهر الشمس كما قالت الشريعة في المسيح إنه إله حق من إله حق من
جوهر أبيه لكان ما قلتم له مثلا تاما والأمر مخالف لذلك فلا يشبهه ولا يقع القياس عليه والحجة منكم فيه باطلة
قال ووجدناكم تذكرون أن المسيح نزل من السماء فأبطل بنزوله الموت والآثام فإن العجب ليطول من هذا القول وأعجب منه من قبله ولم يتفكر فيه وممن لم يستقبح أن يعتقد ديانة لله تبارك وتعالى على مثل هذا القول المحال البائن عما تشهد به العقول وتنبىء به المشاهدة ويدعو الناس إليها فما هو ببعيد من عقد ما هو أمحل وأبطل منها لأنه إن كانت الخطيئة بطلت بمجيئه فالذين قتلوه إذا ليسوا خاطئين ولا مأثومين لأن لا خاطىء بعد مجيئه ولا خطيئة
وكذلك أيضا الذين قتلوا حواريه وأحرقوا أسفاره غير خاطئين وكذلك من نراه من جماعتكم منذ ذلك الدهر إلى هذا الوقت يقتل ويسرق ويزني ويلوط ويسكر ويكذب ويركب كل ما نهى عنه من الكبائر وغيرها غير خاطئين ولا مأثومين
فمن جحد ذلك فليرجع إلى التسبيحة التي تقرأ بعقب كل قربان وهو أن يا ربنا الذي غلب بوجعه الموت الطاغي
وفي الأخرى التي تقال في يوم الجمعة الثانية من الفصح إن فخرنا بالصليب الذي بطل به سلطان الموت وصرنا إلى الأمن والنجاة بسببه وفي بعض التسابيح بصلوات ربنا يسوع المسيح بطل الموت وانطفأت فتن الشيطان ودرست آثارها فأي خطيئة بطلت وأي فتنة للشيطان انطفأت أو أي أمر كان الناس عليه قبل مجيئه من المحارم والآثام تغير عن حاله
قال فإذا كان التمويه يقع فيما يلحقه كل أحد بالمعرفة والبيان فهو فيما أشكل من الأمور وفعل بالتأويلات التي تأولها أولئك المتأولون أوقع
وإذا كنتم قد قبلتم هذا المحال الظاهر الذي لا خفاء به عن الصبيان فأنتم لما هو أعظم منه من المحال أقبل وهذا إنجيلكم يكذب هذا القول حيث يقول المسيح فيه ما أكثر من يقول لي يوم القيامة يا سيدنا أليس باسمك أخرجنا الشيطان فأقول اغربوا عني أيها الفجرة الغاوون فما عرفتكم قط فهذا خلاف قول
علمائكم ما قالوا ووضعهم لكم ما وضعوا ومثله قوله إني جامع الناس يوم القيامة عن ميمنتي وميسرتي وقائل لأهل الميسرة إني جعت فلم تطعموني وعطشت فلم تسقوني وكنت غريبا فلم تأووني ومحبوسا فلم تزوروني ومريضا فلم تعودوني فاذهبوا إلى النار المعدة لكم من قبل تأسيس الدنيا
وأقول لأهل الميمنة فعلتم بي هذه الأشياء فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم من قبل تأسيس الدنيا فهل أدخل أولئك النار إلا خطاياهم التي ركبوها وهل صار هؤلاء إلى النعيم إلا بأعمالهم الجميلة التي قدموها بتوفيق الله إياهم فمن قال إن الخطيئة قد بطلت فقد بهت وقد خالف قول المسيح وكان هو من الكاذبين
وقال و يا أيها القوم الذين هم أولوا الألباب والمعرفة حيث ينسبونه إلى الربوبية وينحلونه اللاهوتية ويجعلونه خالق الخلق أجمعين وإلههم بماذا ساغ ذلك لكم وما الحجة فيه عندكم
هل قالت كتب النبوات فيه ذلك أو هل قاله عن نفسه أو قاله أحد عن تلامذته والناقلين عنه الذين هم عماد دينكم وأساسه ومن أخذتم الشرائع والسنن عنه ومن كتب الإنجيل وبينه قد أفصح في كل الإنجيل من كلامه ومخاطبته ووصاياه بما لا يحصى كثرة بأنه عبد
مثلكم ومربوب معكم ومرسل من عند ربه وربكم ومبدي ما أمر به فيكم وحكى مثل ذلك من أمره حواريوه وتلامذته ووصفوه لمن سأل عنه
وفي كلامهم بأنه رجل جاء من عند الله عز و جل ونبي له قوة وفضل فتأولتم في ذلك أنه أخرج كلامه على معنى الناسوت ولو كان كما تقولون لأفصح عن نفسه بأنه إله كما أفصح بأنه عبد ولكنه ما ذكره ولا ادعاه ولا دعا إليه ولا ادعته له كتب الأنبياء قبلة ولا كتب تلامذته ولا حكى عنهم ولا أوجبه كلام جبريل الذي أداه إلى مريم ولا قول يحيى بن زكريا
قال فإن قلتم إنكم استدللتم على ربوبيته بأنه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ومشى على الماء وصعد إلى السماء وصير الماء خمرا وكثر القليل فيجب الآن أن ينظر إلى كل من فعل من هذه الأمور فعلا فنجعله ربا وإلها وإلا فما الفرق
فمن ذلك أن كتاب سفر الملوك يخبر أن إلياس أحيا ابن الأرملة وأن اليسع
أحيا ابن الإسرائيلية وأن حزقيال أحيا بشرا كثيرا ولم يكن أحد ممن ذكرنا بإحيائه الموتى إلها
واما إبراء الأكمه فهذه التوراة تخبر أن يوسف أبرأ عين أبيه يعقوب بعد أن ذهبت وهذا موسى طرح العصا فصارت حية لها عينان تبصر بهما وضرب بها الرمل فصار قملا لكل واحدة منها عينان تبصر بهما ولم يكن واحد منهم بذلك إلها
وأما إبراء الأبرص فإن كتاب سفر الملوك يخبر بأن رجلا من عظماء الروم برص فرحل من بلده قاصدا اليسع عليه السلام ليبرئه من برصه فأخبر الكتاب بأن الرجل وقف بباب اليسع أياما لا يؤذن له فقبل لليسع إن ببابك رجلا يقال له نعمان وهو أجل عظماء الروم به برص وقد قصدك لتبرئه من مرضه فإن أذنت له دخل إليك فلم يأذن له وقال لرجل من أصحابه اخرج إلى هذا الرجل فقل له ينغمس في الأردن سبع مرات فأبلغ الرسول لنعمان ما أمره به اليسع ففعل ذلك فذهب عنه البرص ورجع قافلا إلى بلده فأتبعه خادم ليسع فأوهمه أن اليسع وجه به إلية يطلب منه مالا فسر الرجل بذلك ودفع إلى الخادم مالا وجوهرا ورجع فأخفى ذلك وستره
ثم دخل إلى اليسع فلما مثل بين يديه قال له تبعت نعمان وأوهمته عني كذا وكذا وأخذت منه كذا وأخفيته في موضع كذا إذ فعلت الذي فعلت به فليصر برصه عليك وعلى نسلك فبرص ذلك الخادم على المكان
قال فهذا اليسع قد أبرأ أبرصا وأبرص صحيحا وهو أعظم
مما فعل المسيح عليه السلام فلم يكن في فعله ذلك إلها
قال وأما قولكم أنه مشى على الماء فإن كتاب سفر الملوك يخبر بأن إلياس عليه السلام صار إلى الأردن ومعه اليسع تلميذه فأخذ عمامته فضرب بها الأردن فاستييس له الماء حتى مشى عليه هو واليسع ثم صعد إلى السماء على فرس من نور واليسع يراه ودفع عمامته إلى اليسع فلما رجع اليسع إلى الأردن ضرب بها الماء فاستييس له حتى مشى عليه راجعا ولم يكن واحد منهما بمشيه على الماء إلها ولا كان إلياس بصعوده إلى السماء إلها
قال وأما قولكم أنه صير الماء خمرا فهذا كتاب سفر الملوك يخبر بأن اليسع نزل بامرأة إسرائيلية فأضافته وأحسنت إليه فلما أراد الانصراف قال لها هل لك من حاجة فقالت المرأة يا نبي الله إن على زوجي دينا قد فدحه فإن رأيت أن تدعو الله لنا بقضاء ديننا فافعل
فقال لها اليسع اجمعي كل ما عندك من الآنية واستعيري من جيرانك جميع ما قدرت عليه من آنيتهم ففعلت ثم أمرها فملأت الآنية كلها ماء فقال اتركيه ليلتك هذه ومضى من عندها فأصبحت المرأة وقد صار ذلك الماء كله زيتا فباعوه فقضوا دينهم
وتحويل الماء زيتا أبدع من تحويله خمرا ولم يكن اليسع بذلك إلها
وأما قولكم المسيح عليه السلام كثر القليل حتى أكل خلق كثير من أرغفة يسيرة فإن كتاب سفر الملوك يخبر بأن إلياس نزل بامرأة أرملة وكان القحط قد عم الناس وأجدبت البلاد ومات الخلق ضرا وهزلا وكان الناس في ضيق فقال للأرملة هل عندك طعام فقالت والله ما عندي إلا كف من دقيق في قلة أردت أن أخبزه لطفل لي وقد أيقنا بالهلاك لما الناس فيه من القحط
فقال لها أحضريه فلا عليك فأتته به فبارك عليه فمكث عندها ثلاث سنين وستة أشهر تأكل هي وأهلها وجيرانها منه حتى فرج الله عن الناس فقد فعل إلياس في ذلك أكثر مما فعل المسيح لأن إلياس كثر القليل وأدامه والمسيح كثر القليل في وقت واحد ولم يكن إلياس بفعله هذا إلها
قال فإن قلتم إن هؤلاء الأنبياء ليس لهم صنع في هذه الأفعال وإن الصنع فيها والقدرة لله عز و جل إذ كان هو الذي أجراها على أيديهم فقد صدقتم ونقول لكم أيضا كذلك المسيح ليس له صنع فيما ظهر على يديه من هذه الأعاجيب إذ كان الله هو الذي أظهرها على يديه فما الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء وما الحجة في ذلك
قال وإن قلتم أن الأنبياء كانت إذا أرادت أن يظهر الله على أيديهم آية تضرعت إلى الله ودعته وأقرت له بالربوبية وشهدت على أنفسها بالعبودية
قيل لكم وكذلك سبيل المسيح سبيل سائر الأنبياء قد كان يدعو ويتضرع ويعترف بربوبية الله ويقر له بالعبودية فمن ذلك أن الإنجيل يخبر بأن المسيح أراد أن يحيى رجلا يقال له العازر فقال يا أبي أدعوك كما كنت أدعوك من قبل فتجيبني وتستجيب لي وأنا أدعوك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا وقال بزعمكم وهو على الخشبة إلهي إلهي لم تركتني وقال يا أبي اغفر لليهود ما يعملون فإنهم لا يدرون ما يصنعون
وقال في إنجيل متى يا أبي أحمدك وقال يا أبي إن كان بد أن يتعداني هذا الكأس ولكن ليس كما أريد أنا فلتكن مشيئتك وقال أيضا أنا أذهب إلى إلهي الذي هو أعظم
مني وقال لا أستطيع أن أصنع شيئا ولا أتفكر فيه إلا باسم إلهي وقال يعني نفسه لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده ولا للرسول أن يكون أعظم ممن أرسله
وقال إن الله لم يلد ولم يولد ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم ولم يره أحد من خلقه ولايراه أحد إلا مات
والمسيح قد أكل وشرب وولد ورآه الناس فما ماتوا من رؤيته ولا مات أحد منهم وقد لبث فيهم ثلاثا وثلاثين سنة
قلت وعامة ما ذكرة هذا عن الكتب تعترف به النصارى ولكن بعضهم ينازعه في يسير من الألفاظ فنازعه هنا في قوله
لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده وقال هذا إنما قاله المسيح للحواريين وذكر أنه لا يعرف عنه لفظ لم يولد ولم يأكل ولم يشرب
قال وقال في إنجيل يوحنا إنكم متى رفعتم ابن البشر فحينئذ تعلمون أني انا هو وشيء من قبل نفسي لا أفعل ولكن كل شيء كالذي علمني أبي وقال في موضع آخر من عند الله أرسلت معلما وقال لأصحابه اخرجوا بنا من هذه المدينة فإن النبي لا يجل في مدينته وأخبر الإنجيل أن امرأة رأت المسيح فقالت إنك لذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه فقال لها المسيح صدقت طوبى لك وقال لتلامذته كما بعثني أبي كذلك أبعث بكم
قال فاعترف بأنه نبي وأنه مألوه ومربوب و مبعوث وقال
لتلامذته إن من قبلكم وآواكم فقد قبلني ومن قبلني فإنما يقبل من أرسلني ومن قبل نبيا باسم نبي فإنما يفوز بأجر من قبل النبي
فبين ها هنا في غير موضع أنه نبي مرسل وأن سبيله مع الله سبيلهم معه وقال متى التلميذ في إنجيله يستشهد على المسيح بنبوة أشعيا عن الله عز و جل هذا عبدي الذي اصطفيته وحبيبي الذي ارتاحت إليه نفسي أنا واضع روحي عليه ويدعو الأمم إلى الحق فلن يحتاج إلى حجة أوضح من هذا القول الذي جعلتموه حجة لكم فقد أوضح الله أمره وسماه عبدا وأعلم أنه يضع عليه روحه ويؤيده بها كما أيد سائر الأنبياء بالروح فأظهروا الآيات المذكورة عنهم وهذا القول يوافق ما بشر به جبريل الملك مريم حين ظهر لها وقال القول الذي سقناه في صدر كتابنا
وقال يوحنا التلميذ في الإنجيل عن المسيح عليه السلام إن كلامي الذي تسمعون هو كلام من أرسلني وقال في موضع
آخر إن أبي أجل وأعظم مني وقال أيضا كما أمرني أبي كذلك أفعل أنا أنا الكرم وأبي هو الفلاح وقال يوحنا كما للأب حياة في جوهره فكذلك أعطى الابن أن تكون له حياة في قينومه قال فالمعطي خلاف المعطى لا محالة والفاعل خلاف المفعول
قال وقال المسيح في إنجيل يوحنا إني لو كنت أنا الشاهد لنفسي على صحة دعواي لكانت شهادتي باطلة لكن غيري يشهد لي فأنا أشهد لنفسي ويشهد لي أبي الذي أرسلني وقال المسيح لبني
إسرائيل تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله
قال وقال في الرجل الذي أقامه من الموتى يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي وأعترف لك بذلك وأعلم أنك كل وقت تجيب دعوتي لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني قال فأي تضرع وإقرار بالرسالة والمسألة والطلب للإجابة من الله عز و جل أشد من هذا أو أكثر
قال وقال في بعض مخاطبته لليهود وقد نسبوه إلى الجنون أنا لست بمجنون ولكن أكرم أبي ولا أحب مدح نفسي بل مدح أبي لأني أعرفه ولو قلت إني لا أعرفه لكنت كذابا مثلكم بل أعرفه وأتمسك بأمره
قال وقال داود في مزموره المائة وعشرة قال الرب اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لرجليك عصا العظمة تبعث الرب من صهيون ويبسط على أعدائك شعبك يا مسيح يوم الرعب في بهاء القدس من اليوم الذي ولدتك يا صبي عهد الرب ولا يكذب أنك أنت الكاهن المؤيد يشبه ملكيز داق
قال فهذه مخاطبة ينسبونها إلى اللاهوت وقد أبان داود في مخاطبته أن لربه الذي ذكره ربا هو أعظم منه وأعلى أعطاه ما حكيناه ومنحه ذلك وشهد عليه إن عصا العظمة تبعث ربه هذا من صهيون وسماه صبيا محققا لقوله الأول اليوم ولدتك ونسقا على أول كلامه وهو ربه ووصف أنه الكاهن المؤيد الذي يشبه ملكليز داق
قلت قالوا وهذا الكاهن هو الذي ذكر في التوراة أن الخليل أعطاه القربان وإذا كان المسيح مشبها به مع تسميته كاهنا كان ذلك من أعظم الأدلة على أنه مخلوق قال فأما قوله من البدىء ولدتك فهو يشبه قول داود تبنني على نفسه من البدء ذكرتك وهديت كل أعمالك وبعضهم يقول لفظ النص إن الرب يبعث عصاه من صهيون
قال وقال شمعون الصفا رئيس الحواريين في الفصل الثاني من قصصهم يا رجال بني إسرائيل اسمعوا مقالتي إن يسوع الناصري رجل ظهير لكم من عند الله بالقوة والأيدي والعجائب التي أجراها على يديه وأنكم أسلمتموه وقتلتموه فأقام الله يسوع هذا من
بين الأموات
قال فأي شهادة أبين وأوضح من هذا القول وهو أوثق التلاميذ عندكم يخبر كما ترون أن المسيح رجل وأنه من عند الله وأن الآيات التي ظهرت منه بأمر الله أجراها على يديه وأن الذي بعثه من بين الموتى هو الله عز و جل
قال وقال في هذا الموضع اعلموا أن الله جعل يسوع الذي قتلتموه ربا ومسيحا ومسيحا قال فهذا القول يزيل تأويل من لعله يتأول في الفصل الأول أنه أراد بقوله الناسوت لأنه يقول أن الله جعله ربا ومسيحا والمجعول مخلوق مفعول قال أبو نصر وإنما سمى ناصري لأن أمه كانت من قرية يقال لها ناصرة
في الأردن وبها سميت النصرانية
قال وقد سمى الله جل ثناؤه يوسف ربا قال داود في مزمور مئة وخمسة وللعبودية بيع يوسف وشدوا بالكبول رجليه وبالحديد دخلت نفسه حتى صدقت كلمته قول الرب جربه بعث الملك فخلاه وصيره مسلطا على شعبه وربا على بنيه ومسلطا على فتيانه
وقال لوقا في آخر إنجيله إن المسيح عرض له وللوقا تلميذه جبريل في الطريق وهما محزونان فقال لهما وهما لا يعرفانه ما بالكما محزونين فقالا كأنك أنت وحدك غريب ببيت المقدس إذ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر يسوع الناصري فإنه رجلا نبيا قويا في قوله وفعله عند الله وعند الأمة أخذوه وقتلوه على قولهم فيه
قال فهذا قوله وأقوال تلاميذه قد تركتموها وعقدتم على بدع ابتدعها لكم أولوكم تؤدي إلى الضلالة والشرك بالله جل ثناؤه وقال داود في المزمور الثاني في زبوره مخاطبا لله ومثنيا على المسيح من الرجل الذي ذكرته والإنسان الذي أمرته وجعلته دون الملائكة قليلا وألبسته المجد والكرامات وقال في المزمور الثاني قال لي الرب أنت ابني وأنا اليوم ولدتك سلني فأعطيك فقوله ولدتك دليل على أنه حديث غير قديم وكل حادث فهو مخلوق ثم أكد ذلك بقوله اليوم فحد باليوم حدا لولادته أزال به الشك في أنه ما كان قبل اليوم ودل بقوله سلني فأعطيك على أنه محتاج إلى المسألة غير مستغن عن العطية قال فهذا ما حضرنا من الآيات في تصحيح خلق المسيح وعبوديته وبطلان ما يدعونه من ربوبيته ومثله كثير في الإنجيل لا يحصى فإذا كانت الشهادات منه على نفسه ومن الأنبياء عليه ومن تلاميذه بمثل ما قد بيناه في هذا الكتاب وإنما اقتصرنا على الاحتجاج عليكم من كتبكم فما الحجة فيما تدعونه له ومن أي جهة أخذتم ذلك واخترتم الكلام الشنيع الذي يخرج عن
المعقول وتنكره النفوس وتنفر منه القلوب الذي لا يصح بحجة ولا قياس ولا تأويل على القول الجميل الذي تشهد به العقول وتسكن إليه النفوس ويشاكل عظمة الله وجلاله
قال وإذا تأملتم كل ما بيناه تأمل إنصاف من أنفسكم وإشفاق عليها علمتم أنه قول لا يحتمل أن يتأول فيه للناسوت شيئا دون اللاهوت
قال فإن قلتم إنه يثبت للمسيح البنوة بقوله أبي وأبيكم ويا أبي وبعثني أبي قلنا فإن كان الإنجيل أنزل على هذه الألفاظ لم تبدل ولم تغير فإن اللغة قد أجازت أن يسمى الولي ابنا وقد سماكم الله جميعا بنيه وأنتم لستم في مثل حاله
ومن ذلك أن الله عز و جل قال لإسرائيل في التوراة أنت ابني بكري وقال لداود في الزبور أنت ابني وحبيبي وقال المسيح في الإنجيل للحواريين أريد أن أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فسمى الحواريين أبناء الله وأقر بأن له إلها هو الله
ومن كان له إله فليس بإله كما تقولون فإن زعمتم أن المسيح إنما استحق الإلهية بأن الله سماه ابنا فنلتزم ذلك ونشهد بالإلهية لكل من سماه ابنا وإلا فما الفرق
قال فإن قلتم إن إسرائيل وداود ونظراءهم إنما سموا أبناء الله على جهة الرحمة من الله لهم والمسيح ابن الله على الحقيقة تعالى الله عن ذلك
قلنا يجوز لمعارض أن يعارضكم فيقول لكم ما تنكرون أن يكون إسرائيل وداود ابني الله على الحقيقة والمسيح ابن رحمة وما الفرق
فإن قلتم إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل أن المسيح جاء إلى مقعد فقال قم قم فقد غفرت لك فقام الرجل ولم يدع الله في ذلك الوقت
قلنا لكم هذا إلياس أمر السماء أن تمطر فأمطرت ولم يدع الله في ذلك الوقت وكذلك اليسع أمر نعمان الرومي أن ينغمس في
الأردن من غير دعاء ولا تضرع على أنا قد وجدناه في الإنجيل قد تضرع وسأل مسائل قد تقدم ذكرها
وقال في بعض الإنجيل يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي واعلم أنك في كل وقت تجيب دعوتي لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني
فإن قلتم إن الغفران من الله عز و جل وأن المسيح قال لبعض بني إسرائيل قم فقد غفرت لك والله هو الذي يغفر الذنوب
قلنا فقد قال الله في السفر الخامس من التوراة لموسى أخرج أنت وشعبك الذي أخرجت من مصر وأنا أجعل معكم ملكا يغفر ذنوبكم
فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه غفر ذنوب المقعد فالملك إذا إله لأنه يغفر ذنوب بني إسرائيل وإلا فما الفرق
فإن قلتم إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل أن الله سماه ربا فقال ابن البشر رب السبت
قلنا فهذه التوراة تخبر بأن لوطا عليه السلام لما رأى الملكين قد أقبلا من البرية لهلاك قومه قال لهما يا ربي ميلا إلى منزل عبدكما وقد تقدم لنا احتجاج في هذا الكتاب بذكر من سمى في الكتب ربا من يوسف وغيره فإن كان المسيح إلها لأنه سمى ربا فهؤلاء إذا آلهة لأنهم سموا بمثل ذلك
فإن قلتم إن الأنبياء قد تنبأت بإلهية المسيح فقال أشعيا العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعى اسمه عمانويل وتفسيره معنا إلهنا
قلنا إن هذا اسم يعاره السيد الشريف من الناس وإن كان
الله عز و جل المنفرد بمعنى الإلهية جل ثناؤه فقد قال الله في التوراة لموسى عليه السلام قد جعلتك لهارون إلها وجعلته لك نبيا
وقال في موضع آخر قد جعلتك يا موسى إلها لفرعون وقال داود في الزبور لمن كانت عنده حكمة كلكم آلهة ومن العلية تدعون
فإن قلتم إن الله عز و جل جعل موسى إلها لهارون على معنى الرياسة عليه
قلنا وكذلك قال أشعيا في المسيح أنه إله لأمته على هذا المعنى وإلا فما الفرق
فإن قلتم إن المسيح قد قال في الإنجيل من رآني فقد رأى أبي وأنا وأبي واحد
قلنا إن قوله أنا وأبي واحد إنما يريد به أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله كما يقول رسول الرجل أنا ومن أرسلني واحد
ويقول الوكيل أنا ومن وكلني واحد لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه ويؤدي عنه ما أرسله به ويتكلم بحجتة ويطالب له بحقوقه وكذلك قوله من رآني فقد رأى أبي يريد بذلك أن من رأى هذه الأفعال التي أظهرها فقد رأى أفعال أبي
فإن قلتم إن المسيح قد قال في الإنجيل أنا قبل إبراهيم فكيف يكون قبل إبراهيم وإنما هو من ولده ولكن لما قال قبل إبراهيم علمنا ما أراد أنه قبل إبراهيم من جهة الإلهية
قلنا هذا سليمان بن داود يقول في حكمته أنا قبل الدنيا وكنت مع الله حيث بدأ الأرض فما الفرق بينه وبين من قال إن سليمان ابن الله وأنه إنما قال أنا قبل الدنيا بالإلهية وقد قال داود أيضا في الزبور ذكرتك يا رب من البدء وهديت بكل أعمالك
فإن قلتم إن كلام سليمان بن داود متأول لأنهما من ولد إسرائيل وليس يجوز أن يكونا قبل الدنيا
قلنا وكذلك قول المسيح أنا قبل الدنيا متأول لأنه من ولد إبراهيم ولا يجوز أن يكون قبل إبراهيم فإن تأولتم تأولنا وإن تعلقتم بظاهر الخبر في المسيح تعلقنا بظاهر الخبر في سليمان وداود وإلا فما الفرق
وقد قدمنا هذا الاحتجاج على تأويلكم لتعلموا بطلان ما ذهبتم إليه على أنه تأويل غير واقع بحقه وإنما حقه أن يكون هذا الاسم يعني عمانويل لما وقع على المسيح كان معناه أنه أخبر عن نفسه بأن إلهنا معنا يعني أن الله معه ومع شعبه معينا وناصرا
ومما يصحح ذلك أنكم تتسمون به ولو كان المعنى ما ذهبتم إليه لما جاز لأحد أن يتسمى به كما لم يجز أن يتسمى بالمسيح لأنه مخصوص بمعناه
فإن قلتم إن تلاميذ المسيح كانوا يعلمون الآيات باسم المسيح
قلنا لكم فقد قال الله جل ثناؤه ليحيى بن زكريا قد أيدتك بروح القدس وبقوة إلياس وهي قوة تفعل الآيات فأضاف القوة إلى إلياس
فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه فعلت الآيات باسمه فما الفرق بينكم وبين من قال إن إلياس إله فإنه فعلت بقوته الآيات فإن قلتم إن الخشبة التي صلب عليها المسيح على زعمكم ألصقت بميت فعاش فإن هذا دليل على أنه إله قلنا لكم فما الفرق بينكم وبين من قال إن اليسع إله واحتج في ذلك بأن كتاب سفر الملوك يخبر بأن رجلا مات فحمله أهله إلى المقبرة فلما كانوا بين القبور رأوا عدوا لهم يريد أنفسهم فطرحوا الميت عن رقابهم وبادروا إلى المدينة وكان الموضع الذي ألقوا عليه الميت قبر اليسع فلما أصاب ذلك الميت تراب قبر اليسع عاش وأقبل يمشي إلى المدينة فإن زعمتم أن المسيح إله لأن الخشبة التي ذكروا أنه صلب عليها ألصقت بميت فعاش فاليسع إله لأن تراب قبره لصق بميت فعاش
فإن قلتم أن المسيح كان من غير فحل قلنا لكم قد كان ذلك وليس أعجوبة الولادة توجب الإلهية ولا الربوبية لأن القدرة في
ذلك للخالق تبارك وتعالى لا للمخلوق وعلى أنه يوجدكم لأن حواء خلقت من فحل بلا أنثى وخلق أنثى من ذكر بلا أنثى أعجب من ذكر من أنثى بغير ذكر وأعجب من ذلك أن آدم خلقه الله من تراب وخلق بشر من تراب وأعجب وأبدع من خلق ذكر من أنثى بلا فحل فما الفرق
قال وهذه الأسباب التي ذكرناها كلها هي الأسباب التي تتعلقون بها في نحلتكم المسيح الربوبية وإضافتكم إليه الإلهية وقد وصفناها على حقائقها عندكم وقبلنا فيها قولكم وإن كنا لا نشك في أن أهل الكتاب قد حرفوا بعض ما فيها من الكلام عن مواضعه وأوجدناكم بطول ما تنتحلونه وفساد ما تتأولونه من الكتب التي في أيديكم التوراة والزبور والأنبياء والإنجيل فما الذي يثبت الحجة بعد ذلك لكم
قال وقد قال السيد المسيح في الإنجيل لتلاميذه لما سألوه عن الساعة والقيامة إن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفه أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن أيضا ولكن الأب وحده
يعرفه قال فهذا إقرار منه بأنه منقوص العلم وأن الله تبارك وتعالى أعز وأعلم منه وأنه خلافه وأعلا منه وقد بين بقوله أحد عمومه بذلك الخلق جميعا ثم قال ولا الملائكة وعندهم من علم الله ما ليس عند أهل الأرض ثم قال ولا الابن وله من القوة ما ليس لغيره وشهد قوله هذا شهادة واضحة عليه بأنه لا يعلم كل ما يعلمه الله بل ما علمه الله إياه وأطلعه على معرفته وجعله له وأنه لقصور معرفته بكل الأشياء ليس بحيث يصفونه من الربوبية وأنه هو الله ومن جوهر أبيه تعالى الله الخالق لكل شيء علوا كبيرا ولو كان إلها كما يقولون لعلم ما يعلمه الله من سائر الأشياء وسرائر الأمور وعلانيتها إذا كان هذا المعنى ليس من الكلام الذي إذا سئلتم عنه تعلقتم بأنه قيل للناسوت دون اللاهوت
قلت مقصوده بذلك أنه صرح بأنه لا يعلمه أحد ثم خص
الملائكة بالذكر لئلا يظن أن أحدا منهم يعلمه فقال ولا الملائكة الذين في السماء ثم قال ولا الابن يعرفه وأن الأب وحده يعرفه فنفى معرفة الابن وأثبت أن الأب وحده يعرفه ومراده بالابن المسيح فعرف أن المسيح لا يعرفه وأثبت أن الرب يعرفه دون الابن ودل ذلك على أن لفظ الابن عند المسيح إنما يراد بها الناسوت وحده إذ كان لا يجوز نفي العلم عن اللاهوت فإن اللاهوت يعلم كل شيء وقد دل ذلك على أن قوله عمدوا الناس باسم الأب والابن المراد به الناسوت وحده كما أريد بلفظ الابن في سائر كلامه وكلام غيره لم يرد قط أحد منهم بلفظ الابن اللاهوت بل إطلاق الابن على اللاهوت مما ابتدعته النصارى وحملوا عليها كلام المسيح فابتدعوا لصفات الله أسماء ما أنزل الله بها من سلطان وحملوا عليها كلام المسيح وإنما يحمل كلام الأنبياء عليهم السلام وغيرهم على معنى لغتهم التي جرت عادتهم بالتكليم بها لا على لغة يحدثها من بعدهم ويحمل كلامهم عليها
قلت فإن هذا الذي فعلته النصارى وأشباههم يفتح باب الإلحاد في كتب الله المنزلة وقد قال تعالى
إن الذين يلحدون في ءاياتنا لايخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي ءامنا يوم القيامة
وذلك أن كل من اعتقد معاني برأيه يمكنه أن يعبر عنها بألفاظ تناسبها بنوع مناسبة وتلك الألفاظ موجودة في كلام الأنبياء عليهم السلام لها معان أخر ويجعل تلك الألفاظ دالة على معانيه التي رآها ثم يجعل الألفاظ التي تكلمت بها الأنبياء وجاءت بها الكتب الإلهية أرادوا بها معانيه هو وهكذا فعل سائر أهل الإلحاد في سائر الكتب الإلهية كما فعلته النصارى مثل ما عمدت الملاحدة المتبعون لفلاسفة اليونان القائلون بأن هذه الأفلاك قديمة أزلية لم تزل ولا تزال وأن الله لم يتكلم بالتوراة ولا غيرها من الكتب الإلهية ولا هو عالم بالجزئيات لا بموسى بن عمران ولا بغيره ولا هو قادر أن يفعل بمشيئه ولا يقيم الناس من قبورهم فقالوا خلق وأحدث وفعل وصنع ونحو ذلك يقال على الإحداث الذاتي والإحداث الزماني
فالأول هو إيجاب العلة لمعلولها المقارن لها في الزمان
والثاني إيجاد الشيء بعد أن لم يكن ثم قالوا ونحن نقول إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما وأحدث ذلك وأبدعه وصنعه كما أخبرت بذلك الأنبياء عليهم السلام لكن مرادهم بذلك الإحداث الذاتي وهو أن ذلك معلول لة لم يزل معه
فيقال لهم لم يستعمل أحد من الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام بل ولا أحد من سائر الأمم لفظ الخلق والإحداث إلا فيما كان بعد عدمه وهو ما كان مسبوقا بعدمه ووجود غيره ومعنى هذا اللفظ معلوم بالاضطرار في جميع لغات الأمم وأيضا فاللفظ المستعمل في لغة العامة والخاصة لا يجوز أن يكون معناه ما لا يعرفه إلا بعض الناس وهذا المعنى الذي يدعونه لو كان حقا لم يتصوره إلا بعض الناس فلا يجوز أن يكون اللفظ العام الذي تداوله العامة والخاصة موضوعا له إذا كان هذا يبطل مقصود اللغات ويبطل تعريف الأنبياء للناس فكيف وهو باطل في صريح المعقول كما هو باطل في صحيح المنقول فإنه لم يعرف أن أحدا قط عبر عن القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا ولا يزال بأنه محدث أو مخلوق أو مصنوع أو مفعول فهذا الذي ذكرتموه كذب صريح على الأنبياء عليهم السلام لتوهموا الناس أنكم موافقون لهم والكتب الإلهية كالتوراة والقرآن مصرحة بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام والقديم الأزلي لا يكون مخلوقا في ستة أيام وكذلك الكتب الإلهية كالتوراة والقرآن قد أخبرت بتكليم الله لموسى وبندائه إياه من الطور من الشجرة وفي التوراة أنها شجرة العليق
وأخبرت بأن موسى عليه السلام كان يلقي عصاه فتصير حية
تسعى ويخبر بأن الله فلق البحر فقالت الملاحدة إن الشيء الثابت يسمى طورا فإنه ثابت كالجبل والقلوب تسمى أودية وإظهار العلوم بتفجير ينابيع العلم والحجة المبتلعة كلام أهل الباطل هي عصا معنوية فمراد الكتب بالطور العقل الفعال الذي فاض منه العلم على قلب موسى عليه السلام والوادي قلب موسى والكلام الذي سمعه موسى سمعه من سماء عقله وتلك الأصوات كانت في نفسه لا في الخارج والملائكة التي رآها كانت أشخاصا نورانية تمثلت في نفسه لا في الخارج والبحر الذي فلقه هو بحر العلم والعصا كانت حجته غلب على السحرة بحجته العلمية فابتلعت حجته شبههم التي جعلوها حبالا يتوسلون بها إلى نيل أغراضهم وعصيا يقهرون بها من يجادلونه
أفليس من قال مثل هذا الكلام يعلم بالاضطرار أنه يكذب على الكتب الإلهية التي أخبرت بقصة موسى كالتوراة والقرآن وأنه ليس مراد الرسل بما أخبروا به من قصة موسى هذا بل صرحوا بأن موسى سمع نداء الله له وأنه كلمه من الطور طور سينا الذي هو الجبل وقلب عصاه التي كان يهش بها على غنمه ثعبانا عظيما وفلق له البحر وأغرق فيه آل فرعون فغرقوا وماتوا فيه وهلكوا وأمثال هذا من تحريفات الملاحدة كثير
فهكذا النصارى حرفوا كتب الله وسموا صفة الله القديمة الأزلية
التي هي علمه أو حكمته ابنا وسموها أيضا كلمة وسموا صفته القديمة الأزلية التي هي حياته روح القدس وتسمية هذه الصفات بهذه الأسماء لا توجد في شيء من كلام الأنبياء ولا غيرهم ولا يعرف أن أحدا قط لا من الأنبياء ولا غيرهم سمى علم الله القائم به ابنه بل ولاسمى علم أحد من العالمين القائم به ابنه ولكن لفظ الابن يعبر به عمن ولد الولادة المعروفة ويعبر به عمن كان هو سببا في وجوده كما يقال ابن السبيل لمن ولدته الطريق فإنه لما جاء من جهة الطريق جعل كأنه ولده
ويقال لبعض الطير ابن الماء لأنه يجيء من جهة الماء ويقال كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن الابن ينتسب إلى أبيه ويحبه ويضاف إليه أي كونوا ممن ينتسب إلى الآخرة ويحبها ويضاف إليها وهذا اللفظ موجود في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب في حق الصالحين الذين يحبهم الله ويربيهم كما ذكروا أن المسيح قال أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم وفي التوراة أن الله قال ليعقوب أنت ابني بكري
ونحو ذلك مما يراد به إذا كان صحيحا له معنى صحيح وهو المحبة له والاصطفاء له والرحمة له وكان المعنى مفهوما عند
الأنبياء عليهم السلام ومن يخاطبونه وهو من الألفاظ المتشابهة فصار كثير من أتباعهم يريدون به المعنى الباطل
وزعم كثير من الكفار أن لله سبحانه وتعالى بنين وبنات وأن الملائكة بناته وبعض من يقول بقدم العالم من المتفلسفة يقولون العقول العشرة هي بنوه والنفوس الفلكية هي بناته وهي متولدة عنه لازمة لذاته فجاء القرآن الذي هو أفضل الكتب وأكملها بإبطال هذه المعاني ومنع استعمال هذا اللفظ في حق الله تعالى فنزه الله عن أن يتخذ ولدا كما نزهه عن أن يكون له ولد والأول من باب تنزيهه عن الأفعال المذمومة وهذا على قول جماهير المسلمين وغيرهم الذين ينزهون الله ويقدسونه عن الأفعال القبيحة التي لا تليق به بل تنافي ما وجب له من الكمال في أفعاله كما وجب له الكمال في ذاته وصفاته وأما من كان من المسلمين وغيرهم لا ينزه الله عن فعل من الأفعال إلا ما كان ممتنعا لذاته فاما الممكن المقدور فيقول لا يعلم انتفاؤه إلا بالخبر أو بالعادة المطردة التي يمكن انتقاضها فهذا لا يبقى معه ما ينفي به عن الله الأفعال المذمومة القبيحة والكتب الإلهية قد نزهت الرب عز و جل عن الأفعال المذمومة كما نزهته عن صفات النقص كقوله تعالى
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون
وقال تعالى
إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا
كما قال تعالى
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون
وقال تعالى
وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا
وقال تعالى عن المؤمنين
ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا
وقال تعالى
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك
السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا
وقال تعالى
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون
وقال تعالى
ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون
وقال تعالى
قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
فكما نزه نفسه عن الولادة نزه نفسه عن اتخاذ الولد
وقال تعالى
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا
وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا
وقال تعالى
لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون
وقال تعالى
ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون
وفي الصحيح عن النبي أنه قال يقول الله تعالى كذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك وشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله أنى يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله أني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
وفي الصحيح عن النبي أنه قال ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم ليجعلون له ولدا وشريكا وهو يرزقهم ويعافيهم
ولهذا كان معاذ بن جبل يقول لا ترحموا النصارى فإنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر فجاءت هذه الشريعة الحنيفية القرآنية وحرمت أن يتكلم في حق الله باسم ابن أو ولد سدا للذريعة كما منعت أن يسجد أحد لغير الله وإن كان على وجه التحية كما منعت أن يصلي أحد عند طلوع الشمس وغروبها لئلا يشبه عباد الشمس والقمر فكانت بسدها للأبواب التي تجعل لله فيها
الشريك والولد أكمل من غيرها من الشرائع كما سدت غير ذلك من الذرائع مثل تحريمها قليل المسكر لأنه يجر إلى كثيره فإن أصول المحرمات التي قال الله فيها
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
مما اتفقت عليه شرائع الأنبياء بخلاف تحريم الطيبات عقوبة فإن هذا جاء في شرع التوراة دون شرع القرآن فإن الله أحل لأمة محمد الطيبات وحرم عليهم الخبائث وكذلك تكميل التوحيد من كل الوجوه وسد أبواب الشرك من كل الوجوه جاءت به هذه الشريعة مع اتفاق الأنبياء على إيجاب التوحيد وتحريم أن يجعل لله شريك أو ولد
فإذا كان مراد المسيح عليه السلام بالابن هو الناسوت وهو لم يسم اللاهوت ابنا وقد ذكر أن الابن لا يعلم الساعة فتبين بذلك أن المسيح هو الناسوت وحده وأنه لا يعلم الساعة وهذا هو الحق وإن قالوا مراده بالابن اللاهوت أو اللاهوت والناسوت لزم من ذلك أن اللاهوت أو اللاهوت والناسوت لا يعلم الساعة وهذا باطل
وكذب وهو أيضا مناقض لقولهم
فدل هذا النص من المسيح مع سائر نصوصه ونصوص الأنبياء على أن مسمى الابن هو الناسوت وحده وأنه لا يعلم ما يعلمه الله وذلك صريح في أنه مخلوق ليس بخالق ولا يجوز أن يكون هذا خطابا للناسوت المتحد باللاهوت دون اللاهوت كما يتأوله عليه بعض النصارى لأن كل ما علمه اللاهوت المتحد بالمسيح علمه الناسوت ولأن الناسوت ليس هو الابن عندهم دون اللاهوت المتحد به بل اسم الابن عندهم هو اللاهوت ولأجل الاتحاد دخل فيه الناسوت ولأنه لم يثبت إلا علم الأب وحده لم يستثن علم الابن الأزلي عندهم بل نفى علم ما سوى الأب به وهذا مناقض لقولهم من كل وجه
فصل
قال الحسن بن أيوب ومثل هذا أنه لما خاطبه الرجل على ما كتب في الإنجيل فقال له أيها الخير فقال ليس الخير إلا الله وحده قلت وبعضهم يترجمه أيها الصالح فقال ليس الصالح إلا الله وحده قال ومثله قوله في الإنجيل إني لم آت لأعمل بمشيئتي لكن بمشيئته من أرسلني قال ولو كانت له مشيئة لاهوتية كما يقولون لما قال هذا القول فقد أبطل به ما تدعونه في ذلكقال ثم أنتم مع ذلك تدعون أن المسيح كلمة الله ومن قوة الله غير بائنة منه ولا منفصلة عنه وتشهدون عليه في الإنجيل بقوله إنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه ويدين الناس
يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم ويتولى الحكم بينهم وأن الله عز و جل منحه ذلك إذ كان لا يراه أحد من خلقه في الدنيا ولا في الآخرة فإن كان هذا الجالس للحكومة بين العالمين يوم الدين والقاعد عن يمين أبيه وهو شخص قائم بذاته لا يشك فيه هو الجسد الذي كان في الأرض المتوحد به الربوبية فقد فصلتم بين الله تبارك وتعالى وبينه وبعضتموه باجتماعهما في السماء شخصين متباينين أحدهما عن يمين صاحبه وهذا كفر وشرك بالله عز و جل وإن كان جسدا خاليا من الإلهية وهي الكلمة وقد عادت إلى الله كما بدت منه فقد زال عنه حكم الربوبية التي تنتحلونه إياها
قال ونسألكم عن واحدة نحب أن تخبرونا بها هي أصل ما وضعتموه من عبادة الثلاثة الأقانيم التي ترجع بزعمكم إلى جوهر واحد وهو اللاهوت ما هو ومن أين أخذتموه ومن أمركم به وفي أي كتاب نزل وأي نبي تنبأ به أو أي قول للمسيح تدعونه فيه وهل بنيتم أمركم في ذلك إلا عل قول متى التلميذ على المسيح
عليه السلام أنه قال لتلاميذه حيث أراد أن يفارقهم اذهبوا فعمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس
قال وهذا كلام يحتمل معناه إن كان صحيحا أن يكون ذهب فيه بأن يجمع هذه الألفاظ إلى أن تجتمع لهم بركات الله وبركة نبيه المسيح وروح القدس التي يؤيد بها الأنبياء والرسل وقد نراكم إذا أردتم الدعاء بعضكم لبعض قلتم صلاة فلان القديس تكون معك ومعنى الصلاة الدعاء واسم فلان النبي يعينك على أمورك
وكما قال الله تبارك وتعالى
يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
يقرن طاعته نبيه وأولي الأمر من المسلمين أفنقول لذلك إنهم جميعا آلهة
قال وقد يجوز أن يكون له معنى يدق عن الوقوف عليه بغير التأويل إن لم يكن معناه ما قلناه أو يكون المسيح عليه السلام ذهب فيه إلى ما هو أعلم به فلم حكمتم بأنه ذهب إلى أن هذه
الأسماء لما أضافها إلى الله عز و جل صارت آلهة وجعلتم لها أقانيم لكل اسم أقنوم يخصه بعينه وهو شخص واحد وكيف استجزتم ما أشركتموه مع الله عز و جل بالتأويل الذي لا يصح
وإذا قلتم بثلاثة أقانيم كل أقنوم بذاته فلا بد من أن تعترفوا ضرورة بأن كل أقنوم منها حي سميع بصير عالم حكيم منفرد بذاته كما يقولون في المسيح أنه جالس عن يمين أبيه فنراكم أخذتم الأقنومين اللذين أحدثتموها مع الله من جهة أن الله حكيم حي فحكمته الكلمة وهي المسيح وروحه روح القدس وهذه صفة من صفات الله مثلها كثير لأنه يقال حكيم عليم سميع بصير حي قدير
وكذلك ربنا تبارك وتعالى وإن كانت صفاتنا إياه لا تلحق صفاته ولا تبلغ كنه مجده إلا بالتمثيل لعظمته وعزته وجلاله وعلوه فنحلتم صفاته التي هي معناه وليست سواه غيره وجعلتموه
أقانيم لكل واحد من الحياة والحكمة وسائر الصفات مثل الذي له وما منها أقنوم له صفة إلا ويحتمل على قياس قولكم أن تكون صفته مثله فإذا كانت هذه الأقانيم آلهة وكل صفة إله وهي من جوهره فيجب أن تكون كل صفة لكل واحد من الثلاثة الأقانيم إلها مثله إذ كان من جوهره فيتسع الأمر في ذلك حتى لا يكون له غاية ولا نهاية
قال وإذا قلتم بثلاثة أقانيم هي في السماء من جوهر قديم أفليس يلزمكم الإقرار بثلاثة آلهة لأن الأقانيم أشخاص يومأ إليها ويقع الحد عليها وإلا فما الحجة وأنتم تذكرون في بعض احتجاجكم أنها ثلاثة ترجع إلى واحد غير متبعضة ولا منفصلة وتشبهونها في اجتماعها وظهور ما يظهر منها بالشمس وقد نراكم عقدتم شريعة إيمانكم على أن المسيح إله وإنسان متحدين وأنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه والجالس عن يمين صاحبه أليس هو منفصلا
عنه مفروزا عنه فكيف يصح على هذا القول قياس أو يصح به عقد دين تقولون 2 مرة مجتمع ومرة منفصل وما شبهتموه به من الشمس فقد تقدم شرحنا لبطلان الحجة فيه وأنه لا يكون قياسه القياس الذي تعلقتم به
على أنا وجدناكم تقولون في معنى التثليث إن الذي دعاكم إليه ما ذكرتم أن متى التلميذ حكاه في الإنجيل عن المسيح عليه السلام إذ قال لتلاميذه سيروا في البلاد وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس وأنكم فكرتم في هذا القول بعقولكم فعلمتم أن المراد بذلك أنه لما أن ثبت حدوث العالم علمتم أن له محدثا فتوهمتموه شيئا موجودا ثم توهمتموه حيا ثم ناطقا لأن الشيء ينقسم لحي ولا حي والحي ينقسم لناطق ولا ناطق
وأنكم علمتم بذلك أنه شيء حي ناطق فأثبتم له حياة ونطقا غيره في الشخص وهما هو في الجوهرية
فنقول لكم في ذلك إذا كان الحي له حياة ونطق فأخبرونا عنه أتقولون أنه قادر عزيز أم عاجز ذليل
فإن قلتم لا بل هو قادر عزيز قلنا فأثبتوا له قدرة وعزة كما أثبتم له حياة وحكمة
فإن قلتم لا يلزمنا ذلك لأنه قادر بنفسه عزيز بنفسه قلنا لكم وكذلك فقولوا إنه حي بنفسه وناطق بنفسه ولا بد لكم مع ذلك من إبطال التثليث أو إثبات التخميس وإلا فما الفرق وهيهات من فرق
وقال الحسن بن أيوب أيضا إنا كلما تأملنا معكم في نسبة المسيح عليه السلام إلى الإلهية وعبادتكم له مع الله على الجهة التي تذهبون إليها وطلبنا لكم الحجة في ذلك من كتبكم ازددنا بصيرة في استحالة ذلك ووضعكم له من القول ما لايثبت لكم به حجة ولا يشهد به لكم شيء من كتبكم ووجدنا أبين ما جاء في المسيح وصحة أمره فيما أتى به ما قال متى التلميذ إنه لما جاء يسوع إلى أرض قيسارية سأل تلاميذه فقال ماذا يقول الناس في أني ابن البشر فقالوا منهم من يقول إنك يوحنا المعمداني وآخرون يقولون إنك أرميا أو أحد الأنبياء فقال لهم يسوع فأنتم ماذا تقولون فأجابه سمعان الصفا وهو رئيسهم فقال أنت المسيح ابن الله الحق فأجابه المسيح وقال طوبى لك يا سمعان ابن يونان إنه لم يطلعك على
هذا لحم ولا دم ولكن أبي الذي السماء
وحكى لوقا في إنجيله هذا الخبر فقال إن سمعان أجابه فقال أنت مسيح الله ولم يقل ابن الله فهذا كلام تلميذه الرئيس فيه وأرضاه ما قال
وقوله إنه لم ينطق بذلك إلا ما أوحاه الله في قلبه ولم ندفعكم قط عن أنه مسيح الله ولا عن أنه كما تقولون في لغتكم أنه ابن الله بالرحمة والصفوة مع هذا الاختلاف الواقع في ذلك في الإنجيلين وقد قال مثل ذلك فيكم جميعا إن الله إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم فنعمل على احتجاجكم بأنه ليس مثلكم في معنى
النبوة ونجعله مثل من سمى في الكتب ابنا على جهة الاصطفاء والمحبة مثل إسرائيل وغيره بل قد خص إسرائيل بأن قال عز و جل أنت ابني بكرى وهذا كلام له مذهب في اللغة القديمة التي جاءت بها الكتب وليست بموجبة الإلهية إذ كان قد شاركه في هذا الاسم غيره فلم لا جعلتموه كما جعل نفسه
ومما يؤكد المعنى في ذلك ويزيل تأويل من يتأوله له ما لم يدعه ولم يرض به قوله في علم الساعة أن ذلك شيء لا يعلمه أحد من الخلق ولا الملائكة المقربون ولا الابن يعني نفسه إلا الأب وحده ثم قال للرجل الذي أتاه فقال لة أيها العالم الصالح أي الأعمال خير لي الذي تكون لي حياة إلى يوم الدين فقال له لم تقول لي صالحا ليس الصالح إلا الله وحده فاعترف لله بأنه واحد لا شريك له ونفى عن نفسه فلم يجعلها ولا أحد من الخلق أهلا لذلك
وقوله للمرأة التي جاءته فقالت أنت ذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه
فقال لها المسيح صدقت طوبى لك ثم قال للشيطان حين اختبره فسامه أن يلقي نفسه من رأس الهيكل فقال أمرنا أن لا نجرب الرب ثم سامه أن يسجد له فقال أمرنا أن لا نسجد إلا لله وحده ولا نعبد سواه ثم صلاته في غير وقت لله وآخرها الليلة التي أخذته اليهود فيها فإذا كان إلها كما زعمتم فلمن كان يصلي ويسجد
ثم قول الجموع الذين كانوا معه حين دخل أورشليم وهي مدينة بيت المقدس على الأتان لمن كان يسأله عن أمره لما راجت المدينة به هذا هو يسوع الناصري النبي الذي من الناصرة ثم قوله في بعض الإنجيل أخرجوا بنا من هذه المدينة فإن النبي لا يبجل في مدينته وفي موضع آخر أنه قال لا يهان نبي إلا في مدينته وفي بيته وأقاربه
وقوله في بعض خطبه إن هذا الجيل السوء يريد آية وأنه
لا يعطى إلا آية يونس كما كان يونس لأهل نينوى كذلك يكون ابن البشر لهذا الجيل رجال نينوى يقومون في الدين مع هذا الجيل فيخصمونهم لأنهم تابوا على قول يونس النبي وإن هاهنا أفضل من يونس
ثم قول داود في نبوته عليه من هذا الرجل الذي ذكرته وجعلته
دون الملائكة قليلا ثم قول تلاميذه فيه ما شرحناه في صدر كتابنا هذا ما تقدم ووصفهم أنه رجل أتى من عند الله بالأيدي والقوة
ومما يشبه ذلك أنه لما قدم تلامذته فركبوا السفينة وقال لهم امضوا فإني ألحق بكم فأتاهم يمشي على البحر فلما رأوه في تلك الحال قالوا ما هذا الحال ويح ومن الغرق صاحوا فقال لهم يسوع اطمئنوا ولا تخافوا أنا هو فأجابه شمعون الصفا وقال له يا رب إن كنت أنت هو فاذن لي آتيك على الماء فقال له تعال فنزل سمعان إلى الماء ليمشي عليه فلم يستطع وجعل يغرق فصاح وقال يا رب أغثني فبسط يده يسوع فأخذه وقال له لم تشككت يا قليل الأمانة قال فبان بذلك عجز المسيح عن إتمام ما سأله شمعون الصفا ومثله أمر الرجل الذي قال ليسوع خبر ابنته وما ينالها من الشيطان وأنه قد قدمها إلى تلاميذه فلم يستطيعوا أن يخرجوه وقد كان جعل لهم ذلك وغيره فأخرجه هو منها
وقال في الإنجيل وهو يذكر الأمثال التي ضربها لرؤساء الكهنة أنهم لما سمعوها منه علموا أنها في شأنهم فهموا أن يأخذوه ثم فرقوا
من الجموع لأنهم كانوا ينزلونه مثل النبي
وقال في الإنجيل لما جاءته أم ابني زندا وكانت من تلامذته مع ابنيها فقال لها ما تريدين قالت أريد أن تجلس ابناي أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك في ملكوتك فقال ليس إلى ذلك سبيل لأنه ليس لي أن أعطيه ولكن من وعد له من أبي
قال الحسن بن أيوب فما يكون يا هؤلاء أفصح وأبين وأوضح من اجتماع هذه الشواهد لكم في كتبكم ما رضيتم بقوله في نفسه ولا بقول تلامذته فيه ولا بقول من تنبأ عليه من الأنبياء ولا قول جموعه الذين تولوه لمن سألهم من مخالفيهم عنه وتركتم ذلك كله
وأخذتم بآراء قوم تأولوا لكم على علمكم بأنهم قد اختلفوا أيضا في الرأي فقال كل قوم في المسيح ما اختاروا واتبع كلا منهم طائفة قالوا بقولهم ثم سلك من بعدهم سبيل الآباء في الاقتداء بهم
فبينوا لنا حجتكم في ذلك وهيهات من حجة ونحن نستوهب الله العصمة والتوفيق منه
قال ومما يشبه ما تقدم قوله لتلاميذه في إنجيل لوقا فأما أنتم الذين صبرتم معي في بلائي وتجاربي فإني أعدكم كما وعدني أبي الملكوت لتأكلوا وتشربوا معي على مائدتي في ملكوتي فبين أن الله عز و جل ثناؤه وعده أن يجعله في ملكوت السماء يأكل ويشرب مع تلاميذه على مائدته وهذا ما لا شك لكم فيه وهو مخالف لقولكم فيما يصير إليه وفي الأكل والشرب
والنعيم هناك ثم قوله لشمعون حين أتته الجموع فأخذوه أم تظن أني لست قادرا أن أطلب إلى أبي فيقيم لي اثني عشر جندا من ملائكته أو أكثر ولكن كيف تتم الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون ولم يقل إني قادر أن أدفعهم عن نفسي ولا أني آمر الملائكة أن يمنعوا عني كما يقول من له القدرة والأمر
قال ونجدكم تقولون في المسيح عليه السلام إنه مولود من أبيه أزلي ويجب على المدعي القول أن يثبت الحجة فيه ويعلم أنه مطالب بإيضاحها لا سيما في مثل هذا الخطب الجليل الذي لا يقع التلاعب به ولا تجترىء النفوس على ركوب الشبهات فيه والويل الطويل لمن تأول في ذلك تأويلا لا حقيقة له فإنه يهلك نفسه ومن كان من الناس معه ممن يتبع قوله إن كان هذا الابن أزليا على ما في شريعة إيمانكم فليس هذا بمولود وإن كان مولودا فليس بأزلي لأن اسم الأزلية إنما يقع على من لا أول له ولا آخر
ومعنى المولود أنه حادث مفعول وكل مفعول فله أول فكيف
ما أردتم القول فيه كان بطلان الشريعة
قال ونسألكم أيضا عن واحدة لم سميتم الأب أبا والابن ابنا فإنه إن كان وجب للأب اسم الأبوة لقدمه فالابن أيضا يستحق هذا الاسم بعينه إذ كان قديما مثله وإن كان الأب عالما عزيزا فهو أيضا عالم عزيز تشهد شريعة الإيمان له بذلك في قولها إنه خلق الخلائق كلها وأتقنت على يده وأنه نزل لخلاصكم ومن قدر على ذلك لم يكن إلا عالما عزيزا فهذه المعاني التي ذكرناها تبطل اسم الأبوة والبنوة وفي إبطالها بطلان الشريعة التي تقول ولد من أبيه وإلا فإن كان الأب والابن متكافئين في القدم والقدرة فبأي فضل وسلطان للأب عليه أمره ونهاه فصار الأب باعثا والابن مبعوثا والأب متبوعا مطاعا والابن تابعا مطيعا
ومما يشهد بصحة قولنا وبطلان ما تأوله أولوكم في عبودية المسيح أن متى التلميذ حين بنى كتابه الإنجيل أول ما ابتدأ به أن قال كتاب مولد يسوع المسيح ابن داود بن إبراهيم فنسبه إلى من كان منه على الصحة ولم يقل إنه ابن الله ولا إنه إله من إله كما يقولون فإن قلتم إن تسمية يسوع للناسوت الذي قد جعلتموه حجة بينكم وبين
كل من التمس الحجة منكم عند الانقطاع فيما يعترف به للمسيح من العبودية فقد نسق متى على اسم يسوع الذي هو عندكم اسم للناسوت المسيح الذي هو جامع الناسوت واللاهوت فأي حجة في إبطال هذا التأويل أوضح من هذا
ومما يصحح قولنا ويؤكده قول جبريل الملك لمريم عند مخاطبته إياها إنه ابن داود على ما ثبت من ذلك في الإنجيل
قال ووجدناكم قد ذكرتم في شريعة الإيمان أن يسوع المسيح بكر الخلائق فإن كنتم ذهبتم في ذلك إلى أنه على نحو ما يسمى أول ولد الرجل وكبيرهم فجائز وهو محقق لقولنا في عبوديته وإن كنتم أردتم بذكر البكر أنه أول قديم فلسنا نعرف للبكر معنى في لغة من اللغات إلا للأكبر من الإخوة والأول من الولد وبكر الخلائق لا يكون إلا من الخلائق
كما أن بكر الرجل والمرأة لا يكون إلا من جنسهما وباكورة الثمار لا تكون إلا ثمرة ولأن من المحال أن يقول قائل بكر ولد آدم ملك من الملائكة وكذلك من المحال أن يكون بكر المصنوعات ليس بمصنوع وبكر المخلوقات ليس بمخلوق
وقد قال الله تعالى في التوراة
يا ابني بكري أي إسرائيل وقال في موضع آخر إنه نظر بنو الله إلى بنات الناس فشغفوا بهن فهل يوجب لآل إسرائيل إلهية بهذا القول
قال وقلتم إن المسيح ولد من أبيه قبل العوالم وليس بمصنوع فليس يخلو الأب من أن يكون أولد شيئا موجودا أو غير موجود فإن كان لم يزل موجودا فإن الأب لم يلد شيئا وإن كان غير موجود وإنما هو حادث لم يكن فهو مخلوق كما قلنا
قال ومما يبين قولنا في خلق المسيح أن هذا الاسم إنما وقع له لأنه مسح للنبوة والخير وماسحه الله تبارك وتعالى وقد قال داود في زبوره قولا يشهد على ذلك بعينه من أجل هذا البر مسحك الله إلهك أكثر مما مسح به نظراءك فأبان داود بهذه الآية معنى المسح بإنجيله وأن ماسحه الله إلهه وأنه مصطفى مكرم بزيادة على نظرائه وقال داود أيضا في مزمور إحدى وثلاثين يخاطب الله من
أجل داود عبدك لا يغلب وجه مسيحك عهد الرب لداود بالحق ولا يرجع عنه يعني بمسيحه نفسه لأن الله مسحه للنبوة والملك وقد قال مثل هذا في غير موضع من زبوره فسمى نفسه مسيح الله
قال وإذا نظر في الإنجيل وكتب بولس وغيره ممن يحتج به النصارى وجد نحوا من عشرين ألف آية مما فيه اسم المسيح وكلها تنطق بعبودية المسيح وأنه مبعوث مربوب وأن الله اختصه بالكرامات ما خلا آيات يسيرة مشكلات قد تأولها كل فريق من أولئك الذين وضعوا الشريعة باختيارهم على هواهم فأخذوا بذلك التأويل الفاسد وتركوا المعظم الذي ينطق بعبوديته فلو كانوا قصدوا الحق لردوا تلك المشكلات الشاذة اليسيرة التي يوجد لها من التأويل خلاف ما يتأولونه على الواضحات الكثيرة التي قد بانت بغير تأويل لأنه إنما يجب أن يقاس الجزء على الكل ويستدل على ما غاب بما حضر وعلى ما أشكل بما ظهر فمن تلك الآيات المشكلات ما ذكرناه في
كتابنا هذا وبينا معناه والحجة فيه وأنه ليس كما تأولوه
ومنها ما يحكون عن المسيح أنه قال أنا بأبي وقد فسر المسيح عليه السلام ذلك وكشفه قال يوحنا في إنجيله إن المسيح تضرع إلى الله في تلاميذه وقال يا أيها الرب القدوس احفظهم باسمك الذي أعطيتني ليكونوا هم أيضا شيئا واحدا كما أنا شيء واحد وكما أنك أرسلتني إلى العالم وكذلك أرسلهم أنا أيضا ثم قال بعد هذا أيضا إني قد منحتهم من المجد الذي أعطيتني ومنحتني ليكونوا أيضا شيئا واحدا كما أنا شيء واحد فأنا بهم وأنت بي
قال هو معنى ذلك أنه قال أنت معي وأنت لي كما أنا مع تلاميذي ولهم
قلت أو أراد أنك بي هديت الخلق وعلمتهم وأنا أهديهم
وأعلمهم والباء للسببية فإن الله برسله هدى عباده وعلمهم والرسل علموا الغائبين عنهم بالحاضرين الذين بلغوا عنهم وقوله ليكونوا شيئا واحدا أراد به اتفاق صدقهم وأمرهم ومرادهم وهذا مفسر وقد قال ليكونوا هم شيئا واحدا كما أنا شيء واحد فقد طلب لهم مثل ما حصل له ولربه
وهذا يبين أن قوله كما أنا شيء واحد أي أنا موافقك في أمرك ونهيك ومحبتك ورضاك لم يرد بذلك اتحاد ذاته به كما لم يرد أن تتحد ذوات بعضهم ببعض فإنه طلب لهم مثل ما حصل له من الموافقة لأمر الله ونهيه ومحبته ورضاه
قال أو يكون ذهب فيه إلى معنى دقيق لا يعرفه إلا أنه قد بطل على كل حال بهذا القول تأويلكم ممازجته عز و جل في اللاهوت بقوله في تلاميذه أنه بهم كما أن أباه به لأنه إن تأول متأول في هذا المعنى أنه ذهب في وصفه أنه أبيه وأن أباه به إلى مشاركته في
اللاهوت فقد قال في تلامذته مثل هذا القول فيجب أن يكونوا على هذا القياس شركاء في المحل وهذا ما لا يكون ولا يجترىء على القول به أحد
قال ومن أعجب العجب أن تكون أمة كتابها ودعوتها ومعبودها واحدا يتمسكون بأمر المسيح عليه السلام وتلامذته وإنجيله وسنته وشرائعه وهم مع ذلك مختلفون فيه أشد الاختلاف فمنهم من يقول إنه عبد ومنهم من يقول إنه إله ومنهم من يقول إنه ولد ومنهم من يقول إنه أقنوم وطبيعة ومنهم من يقول إنه أقنومان وطبيعتان
وكل منهم يكفر صاحبه ويقول إن الحق في يده وكلهم لا يأتي من الكتاب بحجة واضحة يثبت بها دعواه ولا من قياسه لنفسه وتأوله بما يصح له عند المناظرة وإنما يرجع في دينه واعتقاده إلى ما تأوله لة المتأولون بما يخالف إنجيلهم وكتبهم بالهوى والعناد من بعضهم لبعض فهم يشركون بالله على التأويل ولا شريك له ويدعون له ولدا من جهة ما أحدثوا لأنفسهم سبحانه أنى يكون له ولد
قال الحسن بن أيوب وقد بينا الحجج في بطلان كل قول لكم
مما عقدتم به شريعة إيمانكم ووجدنا قوما منكم إذا نوظروا في ذلك قالوا قد وجدنا أكثر الأديان يختلف أهلها فيها ويتفرقون على مقالات شتى هم عليها وكل منهم يدعي أن الصواب في يده
وهذا أيضا من سوء الاختيار وذهاب القلوب عن رشدها وانصرافها عن سبيل حقها
فلم يختلف أهل دين من الأديان في عقد معبودهم ولا شكوا فيه ولا تفرقوا القول فيما اختاروه إلا أهل ملل النصرانية فقط
وسائر من سواهم إنما اختلفوا في فروع من فروع الدين وشرائعه مثل اختلاف اليهود في أعيادهم وسنن لهم ومثل اختلاف المسلمين في القدر
فمنهم من قال به ومنهم من دفعه
وفي تفضيل قوم من أصحاب محمد على نظرائهم بعد اتفاق جماعتهم على إلههم ومعبودهم وخالقهم وأن الله إله الخلق كلهم واحد لا شريك له ولا ولد
ثم اتفاقهم بعد ذلك على نبيهم محمد لا يشكون فيه وعلى القرآن وأنه كتاب الله المنزل على محمد المرسل لا يختلفون فيه
فإذا صح اتفاقهم على هذه الأصول كان ما سواها خللا لا يقع معه كفر ولا يبطل به دين
والبلاء العظيم الاختلاف في المعبود
فلو أن قوما لم يعرفوا لهم إلها ولا دينا ثم عرض عليهم دين النصرانية لوجب أن يتوقفوا عنه إذ كان أهله لم يتفقوا على شيء فيه
ودل اختلافهم في مقالاتهم ومباينتها ما في كتبهم على باطله
فأما قولنا في باب التوحيد واعترافنا بوحدانية الله تعالى ونفينا عنه الشركاء والأنداد والأمثال والأولاد فهو قول لا يشكون في صحته ولا يشك فيه أحد من أهل الكتب وسائر الملل ولا غيرهم من أهل القول بالدهر وسائر عبدة الأصنام والأوثان وكل منهم يقر به ويرجع إليه
إلا أن منهم من يتابعنا على تحديد التوحيد ومنهم من يدخل العلل فيه بأن يقول ثلاثة ترجع إلى واحد وصنما نعبده إجلالا لله ليقربنا إلى ربنا وربه ومدبر للأمور قديم لا بد أن نعترف به خالقها وباريها
وكل منهم مقر بقولنا وذاهب إلى مذهبنا على الاعتراف بالله على الجهة التي يذهب إليها وأنه واحد لا شريك له
فقد صح عقدنا بلا شك منكم ولا من أحد من الأمم فيه
ولا في شيء منه بل تقودكم الضرورة إلى الإقرار به والاجتماع معنا عليه
والحمد لله رب العالمين على توفيقه وإياه نسأل أن يتم علينا فضله ويديم لنا تسديده بقدرته وأن يحيينا ويميتنا على الإسلام غير مشركين ولا جاحدين ولا مبدلين إنه على كل شيء قدير وكل مستصعب عليه يسير وهو بمن خافه واتقاه وطلب ما عنده ولم يلحد في دينه رؤوف رحيم اه
قلت هذا آخر ما كتبته من كلام الحسن بن أيوب وهو ممن كان من أجلاء علماء النصارى وأخبر الناس بأقوالهم فنقله لقولهم أصح من نقل غيره
وقد ذكر في كتابه من الرد على ما يحتجون به من الحجج العقلية والسمعية وما يبطل قولهم من الحجج السمعية والعقلية ما يبين ذلك
ونحن نذكر مع ذلك كلام من نقل مذاهبهم من أئمتهم المنتصرين لدين النصرانية ونذكر ما ذكروه من حججهم مثل ابن البطريق
بترك الإسكندرية فإنه صنف كتابه الذي سماه نظم الجوهر وذكر فيه أخبار النصارى ومجامعهم واختلافهم وسبب إحداثهم ما أحدثوه مع انتصاره لقول الملكية والرد على من خالفهم
قال سعيد بن البطريق بطريرك الإسكندرية في تاريخه المعروف عند النصارى الذي سماه نظم الجوهر وذكر فيه مبدأ الخلق وتواريخ الأنبياء والملوك والأمم وأخبار ملوك الروم وأصحاب الكراسي برومية وقسطنطينية وغيرهما ووصف دين النصرانية وفرق أهلها وهو ملكي رد على سائر طوائف النصارى لما ذكر مولد المسيح صلوات الله عليه وأنه ولد في عهد ملك الروم قيصر المسمى أغسطس لثنتين وأربعين سنة من ملكه قال وملك ستا وخمسين سنة
قال وملك بعدة ابنه طيباريوس قيصر برومية وللمسيح خمس عشرة سنة
وكان لقيصر هذا صديق يقال له بلاطس من قرية على شط البحر الذي تحت قسطنطينية ويسمى ذلك البحر السطس ولذلك يسمى بلاطس النبطي فولاه على أرض يهوذا
قال وفي خمس عشرة سنة من ملك طيباريوس قيصر هذا ظهر يحيى ابن زكريا المعمداني فعمد اليهود في الأردن لغفران الخطايا
فجاء المسيح إلى يحيى بن زكريا فعمده يحيى في الأردن
ولسيدنا المسيح ثلاثون سنة وذكر قصة قتل يحيى وقصة الصلب المعروفة عند النصارى
إلى أن قال وكتب بلاطس إلى طيباريوس الملك بخبر سيدنا المسيح وما تفعل تلاميذه من العجائب الكثيرة من إبراء المرضى وإحياء الموتى
فأراد أن يؤمن بسيدنا المسيح ويظهر دين النصرانية فلم يتابعه أصحابه على ذلك وملك اثنتين وعشرين سنة وستة أشهر
وذكر أن في عصره بنيت مدينة طبرية مشتقة من اسمه
قال وملك بعده قيصر آخر أربع سنين وثلاثة أشهر قتل بلاطس وولى شخصا كان شديدا على تلاميذ المسيح وقتل رئيس الشهداء والشمامسة فرجم بالحجارة حتى مات
وذكر أنه لقي التلاميذ من اليهود ومن الروم شدة شديدة وقتل
منهم خلق كثيرة وأنه مات هذا وولي بعده قيصر آخر وفي زمنه وقع جوع ووباء وفي زمنه كتب متى وبين إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس وفسره من العبرانية إلى الرومية يوحنا صاحب الإنجيل
قال وفي تسع سنين من ملكه كان مرقس صاحب الإنجيل بمدينة الإسكندرية يدعوا الناس إلى الإيمان بالمسيح وأنه أول شخص جعل بطريركا على الاسكندرية وأنه صير معه اثني عشر قسيسا وأمرهم إذا مات البطريرك أن يختاروا واحدا من الاثني
عشر قسيسا ويضع الاثنا عشر قسيسا أيديهم على رأسه ويباركونه ويصلحونه بطريركا ثم يختارون رجلا فاضلا قسيسا ويصيرونه معهم بدل القسيس الذي أصلحوه بتركا ليكون اثني عشر أبدا
فلم يزل رسمهم بالإسكندرية على هذا إلى زمن الثلاثمائة وثمانية عشر
فأمرهم بطريرك الاسكندرية الذي كان من جملة الثلاثمائة وثمانية عشر أن لا يفعل هذا فيما بعد ومنع أن يصلح الأقساء البترك بل يختاروا من أي بلد كان رجلا فاضلا وإذا مات البترك اجتمع الأساقفة فأصلحوا البترك من أي بلد كان من أولئك الأقسة أو من غيرهم
فانقطع الرسم الأول من إصلاح الأقساء البترك وجعل التيسير لهم في إصلاح البترك بابا ثم سمى بترك الإسكندرية بابا ومعناه الجد
ومن حنانيا الذي أصلحه مرقس البشير إلى حادي عشر بطركا بالاسكندرية لم يكن في عمل مصر أسقف ولم يكن البطاركة قبله أصلحوا أسقفا وأن العامة لما سمعت الأساقفة يسمون البطريرك أبا قالوا إذا كنا نحن نسمي الأسقف أبا والأسقف يسمى البطريك أبا فيجب علينا أن نسمي البطريرك بابا أي الجد إذ كان أبا لأبينا فسمي بطريرك الإسكندرية من وقت هرقل بابا أي الجد
قال وخرج مرقس إلى برقة يدعو الناس إلى الإيمان بالسيد المسيح ومات قلوديوس قيصر وملك بعده ابنه نارون ثلاث عشرة سنة
قال وهو أول من أهاج على النصارى الشر والبلاء والعذاب
قال وفي عصره كتب بطرس رئيس الحواريين الإنجيل
إنجيل مرقس عن مرقس بمدينة رومية ونسبه إلى مرقس
قال وفي عصر هذا الملك كتب لوقا إنجيله بالرومية إلى رجل شريف من عظماء الروم يقال له فوفيلا فكتب له أيضا الأبركسس الذي فيه أخبار التلاميذ
وقد كان لوقا البشير صاحب بولس الرسول يقول في بعض رسائله أن لوقا الطبيب يقول عليكم السلام
وقال وأخذ ثارون قيصر لبطرس فصلبه منكسا ثم قتله لأن بطرس قال له إن أردت أن تصلبني فاصلبني منكسا لئلا أكون مثل سيدي المسيح فإنه صلب قائما وضرب عنق بولس الرسول بالسيف
وأقام بطرس بعد صعود المسيح اثنين وعشرين سنة
قال وكان مرقس صاحب الإنجيل بالإسكندرية وبرقة يدعو الناس إلى الإيمان فأقام سبع سنين
وفي أول سنة من ملك نارون قيصر قتل مرقس بالإسكندرية وأحرق جسده بالنار وذكر بعده عدة قياصرة وذكر أن طيطس خرب البيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة بعد أن حاصرها وأصاب أهلها جوع عظيم وقتل كل من كان فيها من ذكر وأنثى حتى كانوا يشقون بطون الحبالى ويضربون بأطفالهم الصخور
وخرب المدينة والهيكل وأضرم بها النار وأحصى القتلى على يديه فكانوا ثلاثة آلاف ألف
وذكر عدة قياصرة بعد ذلك وأنه ولي واحد منهم خمس عشرة سنة يقال له ذوما طيانوس وكان شديدا جدا على اليهود وأنه بلغه أن النصارى يقولون أن المسيح ملكهم وأن ملكه إلى الدهر
فغضب غضبا شديدا وأمر بقتل النصارى وأن لا يكون في ملكه نصراني
وكان يوحنا صاحب الإنجيل هناك فسمع بهذا فخاف وهرب إلى أفسس
ثم إنه أمر بأكرامهم وترك الاعتراض عليهم
ثم تولى بعده قيصر آخر سنة وبعض أخرى ثم ملك آخر بعده تسع عشرة سنة يسمى طرايانوس
قال وهذا الملك أثار على النصارى بلاء عظيما وحزنا طويلا وقتل شهداء كثيرة وقتل بطريرك إنطاكية برومية وقتل أسقف بيت المقدس وصلبه وله مائة وعشرون سنة وأمر أن يستعبد النصارى إذ ليس لهم دين ولا شريعة
فلشدة ما استعبد النصارى وغلظ ما نالهم من القتل رحمتهم الروم وشهد وزراء الملك عنده أن النصارى لهم شريعة ودين وأنه لا يحل أن يستعبدوا فكف عنهم الأذية
قال وفي عصره كتب يوحنا إنجيله بالرومية في جزيرة يقال لها تيمرا من أرض الروم من أرض أثينة في عصر رجل من عظماء الروم فيلسوف يقال له مومودس
قال وفي ذلك العصر رجع اليهود إلى بيت المقدس
فلما كثروا وامتلأت منهم المدينة عزموا على أن يملكوا منهم ملكا فبلغ الخبر طيباريوس قيصر فوجه بقائد من قواده بجيش عظيم إلى بيت المقدس فقتل من اليهود ما لا يحصى كثرة
قال وخرج على قيصر هذا خارجي مقاتل ببابل فخرج إليه بنفسه فوقعت بينهم حرب شديدة وقتل من الفريقين خلق عظيم وقتل قيصر في الحرب
وملك بعده أندريانوس قيصر عشرين سنة فخرج إلى ذلك الخارجي ببابل فهزمه وصار إلى مصر فلقي منه أهل مصر شدة شديدة وأخذ الناس بعبادة الأصنام وقتل من النصارى خلقا كثيرا وأصاب إيليا ابنه علة في بدنه فكان ينفذ إلى البلدان يطلب شفاء لعلته فوصفوا له بيت المقدس
فلما وافاها رآها خرابا ليس فيها أحد إلا كنيسة للنصارى فأمر أن تبنى المدينة وتحصن بحصن قوي
فلما سمع اليهود أقبلوا من كل بلد وكل مدينة فما كان إلا زمان قليل حتى امتلأت منهم المدينة فلما كثروا
ملكوا عليهم ملكا
فاتصل الخبر بإيليا بن قيصر اندريانوس فوجه إليهم بقائد من قواده مع خلق كثير فحاصر المدينة فمات كل من فيها من الجوع والعطش ثم فتحها فقتل من اليهود ما لا يحصى وهدم الحصن وخرب المدينة حتى صيرها صحراء
قال وهذا آخر خراب بيت المقدس وهرب من اليهود من هرب إلى مصر وإلى الشام وإلى الجبال وإلى الغور
وأمر الملك أن لا يسكن المدينة يهودي وأن يقتل اليهود ويستأصلوا وأن يسكن المدينة اليونانيون ويبنوا على باب الهيكل برجا ويجعل فوقه ألواحا ويكتبوا عليه اسم إيليا الملك وذلك من ثمان سنين من ملكه
قال والبرج اليوم على باب مدينة القدس وسمي محراب داود
قال فسمى بيت المقدس إلى هذا الوقت إيليا
فمن الخراب الأول الذي أخربه طيطس إلى هذا الخراب ثلاث وخمسون سنة
وامتلأت بيت المقدس من اليونانيين فنظروا إلى النصارى يأتون
إلى تلك المزبلة التي فيها القبر والأقرانيون فيصلون فمنعوهم من ذلك
وبنى اليونانيون على تلك المزبلة هيكلا على اسم الزهرة فلم يقدر أحد من النصارى بعد ذلك أن يقرب ذلك الموضع
قال ثم مات إيليا الملك وملك بعده أنطونيوس قيصر برومية اثنين وعشرين سنة
قال وفي إحدى عشرة سنة من ملكه صير يهودا أسقفا على بيت المقدس فأقام سنتين ومات
قال فمن يعقوب أسقف المقدس الأول إلى يهودا أسقف بيت المقدس هذا كانت الأساقفة الذين صيروا على بيت المقدس مختونين
وذكر أنه ولي بعد هذا قيصر آخر اسمه مرقس تسع عشرة سنة وأنه أثار على النصار بلاء عظيما وحزنا شديدا واستشهد في زمانه شهداء كثيرون
قال وكان في أيامه جوع شديد ووباء عظيم لم تمطر السماء سنين وكاد الملك وجميع أهل مملكته أن يهلكوا من الجوع
فسألوا النصارى أن يبتهلوا إلى إلههم فدعوا فأمطر الله عليهم مطرا عظيما وارتفع الوباء والقحط
قال وكان بأيامه بأرض اليونانيين مغنوس الحكيم
قال وفي خمس سنين من ملكه صير لولياثوس بطريركا وهو أول بطريرك أصلح الأساقفة في عمل مصر أقام ثلاثا وأربعين سنة ومات
فصل
قال وفي ذلك العصر كتب بطريرك الإسكندرية إلى أسقف بيت المقدس وبطرك إنطاكية وبطرك رومية في كتاب فصح النصارى وصومهم وكيف يستخرج من فصح اليهود فوضعوا في ذلك كتبا كثيرة على ما هو عليه اليوم
قال وذلك أن النصارى كانوا بعد صعود سيدنا المسيح إلى
السماء إذا عيدوا عيد الغطاس من الغد يصومون أربعين يوما ويفطرون كما فعل سيدنا يسوع المسيح لأن سيدنا المسيح لما اعتمد بالأردن خرج إلى البرية فأقام بها صائما أربعين يوما وكان النصارى إذا أفصح اليهود عيدوا هم الفصح
فوضع هؤلاء البطاركة حسابا للفصح ليصوم النصارى أربعين يوما ويكون فطرهم يوم الفصح ليتم فرحهم بذلك
قلت فقد أخبر عن المسيح أنه لما صام أربعين يوما عقب المعمودية وكان يعيد مع اليهود في عيدهم لا يعيد عقب صومه شاركه النصارى في ذلك مدة فصاروا يصومون أربعين عقب الغطاس الذي هو نظير المعمودية ويعيدون مع اليهود العيد
ثم إنهم بعد هذا ابتدعوا تغيير الصوم فلم يصوموا عقب الغطاس بل نقلوا الصوم إلى وقت يكون عيدهم مع عيد اليهود فيكون عيدهم مع عيد اليهود وهو فصح المسيح ويكون ذلك وقت قيامته من قبره
قال ومات مرقص الملك وملك بعده قمودوس قيصر برومية اثني عشرة سنة وفي أيامه كان في أرض اليونانيين في مدينة أفرغامس جالينوس الحكيم صاحب صناعة الطب
وذكر جالينوس في فهرست كتبه أنه ربى قمودوس الملك
وذكر جالينوس في المقالة الأولى من الكتاب المعروف بكتاب أخلاق النفس أنه كان في عصر قمودوس الملك رجل يقال له بولس طلبه قمودوس الملك ليقتله فهرب منه وكان له غلامان فقبضهما الملك فضربهما الملك وطلب منهما أن يدلاه على مولاهما فلم يفعلا لكرم أنفسهما ونخوتهما وشدة محاماتهما على مولاهما فقتلهما وأن من الإسكندر إلى بولس خمسمائة سنة وست عشرة سنة وذلك في السنة التاسعة من ملك قمودوس قيصر فهذا ما ذكر جالينوس
قال وكان أيضا في أيام ديمقراطيس الحكيم
قلت هذه المدة أكثر مما ذكره سعيد هذا فإنه لم يذكر من المسيح إلى هنا مائتا سنة بل ذكر إلى الخراب مائة وثلاثة وعشرين سنة وقد تقدم ذكره لديمقراطيس قبل هذا
قال وفي عشر سنين من ملكه ظهرت الفرس فغلبت على بابل وأمدوا فارس وتملك أزدشير بن ساسان بابل من أهل أصطخر وهو أول ملك ملك على فارس في المرة الثانية
قال ومات قمودوس قيصر ملك الروم وملك بعده قيصر آخر ثلاثة أشهر ثم آخر وملك بعده برومية سويرس قيصر سبع عشرة سنة وذلك في أربع سنين من ملك أزدشير
وكان هذا الملك شديدا قد أثار على النصارى بلاء عظيما وعذابا كبيرا وقتل كل عالم منهم وقتل خلقا كثيرا واستشهد في أيامه خلق كثير من النصارى في كل موضع ثم قتل كل من كان بمصر والإسكندرية من النصارى وهدم الكنائس وبنى بالإسكندرية هيكلا
وسماه هيكل الآلهة
وملك بعده قيصر وهو أنطونيوس الأصلع ست سنين وملك بعده قيصر آخر ثلاث عشرة سنة كانت النصارى في أيامه في هدوء وسلامه وكانت أمه تحب النصارى وفي أيامه سمى بطرك الإسكندرية بابا أي الجد وملك بعده قيصر آخر ثلاث سنين وهذا أثار على النصارى بلاء طويلا وحزنا عظيما وقتل منهم خلقا كثيرا وأخذ الناس بعبادة الأصنام وقتل من الأساقفة خلقا كثيرا وقتل بترك أنطاكية فلما سمع أسقف بيت المقدس بقتله هرب وترك الكرسي
قال ومات قيصر هذا في السنة الثانية من ملك بهرام بن هرمز وملك بعده قيصر آخر ثلاثة أشهر ثم بعده آخر أربع سنين
واسمه غرديانوس وفي ثلاث سنين من ملكه مات بهرام بن هرمز وملك بعده بهرام بن بهرام على الفرس تسع عشرة سنة
وفي أيامه ظهر رجل فارسي يقال له ماني فأظهر دين المانية وزعم أنه نبي فأخذه بهرام بن بهرام ملك الفرس فشقه نصفين وأخذ من أصحابه وممن يقول بقوله مائتي رجل فغرس رؤوسهم في الطين منكسين حتى ماتوا منكسين
وملك بعد قيصر هذا فيلبس قيصرا برومية سبع سنين وآمن بالسيد المسيح ووثب عليه قائد من قواده فقتله
ثم ملك بعده قيصر آخر اسمه داقنوس وهو دقيانوس وذلك من عشر سنين من ملك بهرام بن بهرام فلقي النصارى منه حزنا طويلا وعذابا شديدا وقتل منهم من لا يحصى واستشهد في أيامه من الشهداء خلق كثير وقتل بطرق رومية ثم خرج إلى مدينة أفسس فبنى
في وسطها هيكلا عظيما وصير فيه الأصنام وأمر أن يسجد للأصنام ويذبح لها ومن لم يفعل ذلك قتل فقتل من النصارى بأفسس خلقا عظيما وصلبهم على الحصن واتخذ من أولاد عظماء أفسس سبعة غلمان من خواصه وعلى كسوته وقدمهم على جميع من عنده وذكر أسماءهم أسماء أصحاب أهل الكهف
قال وهؤلاء السبعة الغلمان لم يسجدوا للأصنام فأعلموا الملك بخبرهم فأمر بحبسهم ثم خرج إلى بعض المواضع وأطلق سبيلهم إلى حين رجوعه
فلما خرج من المدينة أخذ الغلمان كل ما لهم فتصدقوا به ثم خرجوا إلى جبل عظيم يقال له جاوس شرقي أفسس فيه كهف كبير فاختفوا في الكهف فكان واحد منهم في كل يوم يتنكر ويدخل المدينة فيسمع ما يقول الناس في شأنهم ويشتري لهم طعاما ويرجع فيعلمهم
فقدم دقيانوس الملك فسأل عنهم فقيل له إنهم في جبل جاوس في الكهف مختفين
فأمر الملك أن يبنى باب الكهف عليهم ليموتوا وصب الله عليهم النعاس فناموا كالأموات
وأخذ قائد من قواده صفيحة من نحاس وكتب فيها خبرهم وقصتهم مع دقيانوس الملك وصير الصفيحة في صندوق نحاس ودفنه داخل الكهف وبنى الكهف
ومات الملك دقيانوس قيصر وملك بعده قيصران برومية سنتين ثم قيصر آخر اسمه غنيونوس خمس عشرة سنة وملك بعده قيصر آخر سنة واحدة ومات وذلك من ثلاث سنين من ملك هرمز
وفي أول سنة من ملك هذا صير بولس بطركا على أنطاكية ويسمى بولوس الشمشاطي قال وهو الذي ابتدع دين البوليانية فسمي التابعون لدينه والقائلون بمقالته بوليانيين
قال وكانت مقالته أن سيدنا المسيح خلق من اللاهوت إنسانا كواحد منا في جوهره فإن ابتداء الابن من مريم وأنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية فحلت فيه بالمحبة والمشيئة ولذلك سمي ابن الله
وقال إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد ولا نؤمن بالكلمة ولا بروح القدس
قال وبعد موته اجتمع ثلاثة عشر أسقفا في مدينة أنطاكية ونظروا في مقالة بولس فأوجبوا على هذا الشمشاطي اللعن فلعنوه ولعنوا من يقول مقالته وانصرفوا
قال وبعده ملك قيصر آخر ست سنين اسمه أوراغوس قيصر
قال وكان النصارى بالإسكندرية في أيامه يصلون في المطامير والبيوت فزعا من الروم ولم يكن يظهر بترك بالإسكندرية لئلا يقتلوهم
فلما صار نارون بطركا ظهر ولم يزل يداري الروم حتى بنى بالإسكندرية كنيسة حنا ومار مريم وملك بعده
قيصران ثم قيصر اسمه فاروس وذلك في تسع سنين من ملك سابور بن هرمز وكان شديدا على النصارى قتل الأخوين قزمان ودميان الشهيدين وملك بعده دقيطيانوس
قال فمن خراب طيطس لبيت المقدس إلى ملك دقيطيانوس مائتان وست سنين ومن مولد سيدنا المسيح إلى دقيطيانوس مائتان وست وسبعون سنة ومن الإسكندر إلى دقيطيانوس خمسمائة وخمس وتسعون سنة ومن سبي بابل إلى دقيطيانوس ألف وثلاثمائة وخمس وثلاثون سنة ومن داود إلى دقيطيانوس ألف وتسعمائة وإحدى وأربعون سنة
قال وملك دقيطيانوس في إحدى عشرة سنة من ملك
سابور بن هرمز ملك الفرس وملك معه اثنان تملكا على الروم إحدى وعشرين سنة وهؤلاء أثاروا على النصارى بلاء عظيما وحزنا طويلا وعذابا أليما وشدة شديدة تجل عن الوصف من القتل والعذاب واستباحة الأموال واستشهدوا ألوفا من الشهداء وعذبوا ماري جرجس أصناف العذاب وقتلوه بفلسطين وقتلوا ماري مينا وماري بقطر وأيتماخوس ومركورس وغيرهما
قال وفي عشر سنين من ملكهما صير بطرس بطركا على الإسكندرية فأقام عشر سنين وقتل
وفي عشرين سنة من ملكهما ضرب عنق بطرس هذا البطرك بالإسكندرية
قال وكان لبطرس تلميذان اسم أحدهما أشلا والآخر الأكصندروس وكان بالإسكندرية رجل يقال له أوريوس يقول إن الأب وحده الله الفرد والابن مخلوق مصنوع وقد كان الأب إذ لم يكن الابن
فقال بطرس البطرك لتلميذيه إن المسيح لعن أريوس فاحذرا أن تقبلا قوله فإني رأيت المسيح في النوم مشقوق الثوب فقلت له يا سيدي من شق ثوبك فقال لي أريوس فاحذروا أن تقبلوه ويدخل معكم الكنيسة كنيسة الله
قال وبعد قتل بطرس بخمس سنين صير أشيلا بطركا على الإسكندرية فأقام ستة أشهر ومات
وكان أريوس قد استعان على أشلا بأصدقائه فأورى أنه قد رجع عن تلك المقالة فقبله أشلا وأدخله الكنيسة وجعله قسيسا
قال وأما دقيطيانوس الملك فكان يطلب النصارى فيقتلهم
فبينما هو يسير في طلبهم إذ بلغ إلى موضع يقال له ملطية فصب الله عليه نقمته فوقع في علل عظيمة وأمراض عظيمة حتى ذاب جسمه وكان الدود يتساقط من بدنه إلى الأرض وسقط لسانه من حنكه ومات
وملك بعده قيصران أحدهما المشرق والشام وأرض الروم والآخر رومية ونحوها وكان أحدهما اسمه علانيوس والآخر مقصطيوس فكانا كالسباع الضارية على النصارى وأثارا عليهم البلاء والجلاء وما لا يصفه واصف وفعلا بهم ما لم يفعله أحد من الملوك قبلهم
وملك معهما على بزنطية وما والاها قسطس أبو قسطنطين
وكان رجلا دينا مبغضا للأصنام محبا للنصارى
فخرج قسطس إلى ناحية الجزيرة والرها فنزل في قرية من قرى الرها يقال لها كفرجاث فنظر فيها امرأة حسنة جميلة يقال لها هيلانة وكانت قد تنصرت على يدي أسقف الرها وتعلمت قراءة الكتب
وولدت هيلانة قسطنطين فتربى بالرها وتعلم حكم اليونانيين وكان غلاما حسن الوجه قليل الشر وديعا محبا للحكمة
وأما علانيوس فكان رجلا وحشيا شديد البأس مبغضا للنصارى جدا كثير القتل لهم محبا للنساء ولم يترك للنصارى بنتا بكرا إلا أخذها وأفسدها وقتلها وكذلك أصحابه وهكذا كانوا يفعلون بالنصارى وكان النصارى في شدة شديدة جدا معهم
وبلغه خبر قسطنطين وأنه غلام هاد قليل الشر كثير العلم والخير
وأخبره الحكماء الذين له والمنجمون أن قسطنطين سيملك ملكا عظيما فهم بقتله
وعلم قسطنطين بذلك فهرب من الرها وذهب إلى مدينة بزنطية ووصل إلى أبيه قسطس فسلم إليه الملك
وبعد قليل مات قسطس وصب الله على علانيوس الملك عللا عظيمة حتى تقطع لحمه وتهرأ وبقي مطروحا لا يقدر أحد أن يقترب منه
فعجب الناس مما ناله ورحمه أعداؤه مما حل به
فرجع إلى نفسه وقال لعل هذا الذي بي مما أقتل النصارى
فكتب إلى جميع عماله أن يطلقوا النصارى من الحبوس وأن يكرموهم ولا يؤذوهم ويسألونهم أن يدعوا له في صلاتهم
فصلى النصارى على الملك ودعوا له فوهب الله له العافية ورجع إلى أفضل مما كان عليه من الصحة والقوة
فلما صح وقوي رجع إلى أشر مما كان عليه من الردى
وكتب إلى جميع عماله أن يقتلوا النصارى ولا يعيش في مملكته نصراني ولا يسكنوا مدينة ولا قرية له
فمن كثرة القتلى كانوا يحملون على العجل ويرمون بهم في البحار والصحارى وقتل مار جرجس وأخاه بمدينة قباذوقية
وهما من أهلها وقتل بربارة وذكر حربا جرت بينه وبين سابور لما تنكر سابور وجاء إليه متنكرا وعرفه
قال وأما مقسطيوس فكان شريرا على أهل رومية واستبعد كل من كان برومية وخاصة النصارى فكان ينهب أموالهم ويقتل رجالهم ونساءهم وصبيانهم
فلما سمع أهل رومية بملك قسطنطين وأنه مبغض للشر محب للخير وأن أهل مملكته معه في هدوء وسلامة كتب رؤساء رومية إلى قسطنطين يسألونه ويطلبون إليه أن يخلصهم من عبودية مقسطيوس عدو الله
فلما قرأ كتبهم اغتم غما شديدا وبقي متحيرا ولا يدري كيف يصنع
فبينما هو متفكر إذ ظهر له من نصف النهار في السماء صليب من كواكب تضيء مكتوبا حوله بهذا تغلب
فقال لأصحابه رأيتم ما رأيت قالوا نعم
فآمن من ذلك الوقت بالنصرانية وذلك لست سنين من بعد موت أبيه
فتجهر قسطنطين واستعد لمحاربة مقسطيوس ملك رومية وعمل صليبا كبيرا من ذهب وصيره على رأس البند وخرج يريد مقسطيوس
فلما سمع مقسطيوس أن قسطنطين قد وافاه لمحاربته استعد لحربه وعقد جسرا على النهر الذي قدام رومية وخرج مع جميع أصحابه يحارب قسطنطين
فأعطى قسطنطين النصرة عليه فقتل من أصحاب مقسطيوس مقتلة عظيمة وهرب مقسطيوس وغرق هو وأصحابه حتى امتلأ البحر وهو النهر الذي عند رومية غرقى وقتلى
وخرج أهل رومية إلى قسطنطين بالإكليل الذهب وكل أنواع اللهو واللعب فلقوا قسطنطين وفرحوا فرحا عظيما
فلما دخل المدينة أمر أن تدفن أجساد النصارى الشهداء المصاليب وكل من كان من النصارى هرب أو نفاه مقسطيوس يرجع إلى بلده وموضعه ومن أخذ له شيء رد إليه
وأقام أهل رومية سبعة أيام يعيدون للملك وللصليب ويفرحون
فلما سمع الخبر علانيوس جمع ما قدر عليه وتجهز لقتال قسطنطين
فلما عاينه انهزموا من بين يديه وأخذهم بالسيف وقتل منهم مقتلة عظيمة ومنهم من أسر ومنهم من استأمن
وأفلت علانيوس عريانا فلم يزل يتقوى موضعا موضعا حتى وافى مدينته فجمع الكهنة والسحرة والعرافين الذين كان يحبهم ويقبل منهم فضرب أعناقهم لئلا يقعوا في يد قسطنطين
وصب الله على علانيوس نارا في جوفه حتى كانت أحشاؤه تتقطع من الحر الذي كان يجده في جوفه وسقط على الأرض وتهرأ لحمه على عظمه ومات
وملك قسطنطين الدنيا في هدوء وسلامة وذلك في إحدى وأربعين سنة من ملك سابور بن هرمز ملك الفرس
قال وتنصر قسطنطين في مدينة يقال لها نيقوميديا وذلك في اثني عشرة سنة من ملكه وأمر ببناء الكنائس في كل بلد وأن يخرج من بيت المال الخراج مما يعمل به أبنية الكنائس
قال وفي خمس سنين من ملكه صير الأكصندروس بطريركا على الإسكندرية وهو تلميذ بطركها بطرس الذي قتل وهو رفيق أشلا فأقام ست عشرة سنة وفي خمس عشرة سنة من رياسته كان المجمع بمدينة نيقية الذي رتبت فيها الأمانة الأرثذكسية
فمنع الأكصندروس بترك الإسكندرية أريوس من دخول الكنيسة ولعنه وقال إن أريوس ملعون لأن بطرس البترك قبل أن يستشهد قال انا إن الله لعن أريوس فلا تقبلوه ولا تدخلوه الكنيسة
وكان على مدينة أسيوط من عمل مصر أسقف يرى رأي أريوس فلعنه أيضا
وكان بالإسكندرية هيكل عظيم كانت كلاوبطرة الملكة بنته
على اسم زحل وكان فيه صنم من نحاس عظيم يسمى ميكائيل وكان أهل الإسكندرية ومصر في اثني عشر يوما في شهر هتور وهو تشرين الثاني يعيدون لذلك الصنم عيدا عظيما ويذبحون الذبائح الكثيرة
فلما صار هذا بطركا على الإسكندرية وظهرت النصرانية أراد أن يكسر الصنم ويبطل الذبائح
فامتنع عليه أهل الإسكندرية فاحتال لهم بأن قال إن هذا صنم لا منفعة فيه ولا مضرة فلو صيرتم العيد لميكائيل الملاك وجعلتم هذه الذبائح له كان أنفع لكم عند الله وكان خيرا لكم من هذا الصنم فأجابوه إلى ذلك
فكسر الصنم وأصلح منه صليبا وسمى الهيكل كنيسة ميكائيل وهي الكنيسة التي تسمى قيسارية احترقت بالنار وقت موافاة الجيوش من المغاربة القرامطة مع المسمى
أبو عبيد الله وكان معه أمير من أصحابه يسمى حباسة وذلك في خلافة المعتضد بالله
وكان عامله على مصر يومئذ مولاه المعروف بتكين الحاجب رجل تركي فنفر إلى المغاربة وجاءه مدد من الشرق مع الخادم الملقب مونس الأستاذ
فهرب منه أبو عبيد الله وحباسة وجنودهما وصير العيد لميكائيل الملك والذبائح
وإلى اليوم القبط بمصر والإسكندرية يعيدون في هذا اليوم عيد ميكائيل الملاك ويذبحون فيه الذبائح الكثيرة وكذلك الملكية يعيدون في هذا اليوم عيد ميكائيل الملاك وصار رسما إلى اليوم
قال فلما منع بترك الإسكندرية أريوس من دخول الكنيسة ولعنه خرج أريوس مستعديا عليه ومعه أسقفان فاستغاثوا إلى قسطنطين الملك
وقال أريوس إنه تعدى علي وأخرجني من الكنيسة ظلما
وسأل الملك أن يشخص الأكصندروس بطرك الإسكندرية ليناظره قدام الملك
فوجه قسطنطين برسول إلى الإسكندرية فأشخص البطرك وجمع بينه وبين أريوس ليناظره فقال قسطنطين لأريوس اشرح مقالتك
قال أريوس أقول إن الأب كان إذ لم يكن الابن ثم الله أحدث الابن فكان كلمة له إلا أنه محدث مخلوق ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة فكان هو خالق السماوات والأرض وما بينهما كما قال في إنجيله إذ يقول وهب لي سلطانا على السماء والأرض فكان هو الخالق لهما بما أعطى من ذلك
ثم إن الكلمة تجسدت من مريم العذراء ومن روح القدس فصار ذلك مسيحا واحدا
فالمسيح الآن معنيان كلمة وجسد إلا أنهما جميعا مخلوقان
قال فأجابه عند ذلك بطرك الإسكندرية وقال تخبرنا الآن أيما أوجب علينا عندك عبادة من خلقنا أو عبادة من لم يخلقنا
قال أريوس بل عبادة من خلقنا
قال له البطرك فإن كان خالقنا الابن كما وصفت وكان الابن مخلوقا فعبادة الابن المخلوق أوجب من عبادة الأب الذي ليس بخالق بل تصير عبادة الأب الخالق للابن كفرا وعبادة الابن المخلوق إيمانا وذلك من أقبح الأقاويل
فاستحسن الملك وكل من حضر مقالة البطرك وشنع عندهم
مقالة أريوس ودار بينهما أيضا مسائل كثيرة
فأمر قسطنطين البطرك الأكصندروس أن يلعن أريوس وكل من قال بمقالته
فقال له بل يوجه الملك فيشخص البطاركة والأساقفة حتى يكون لنا مجمع ونضع فيه قضية ونلعن أريوس ونشرح الدين ونوضحه للناس
فبعث قسطنطين الملك إلى جميع البلدان فجمع البطاركة والأساقفة فاجتمع في مدينة زيقية بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا وكانوا مختلفي الآراء مختلفي الأديان
فمنهم من يقول المسيح ومريم إلهان من دون الله وهم المريمانية ويسمون المريميين
ومنهم من كان يقول إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة نار فلم تنقص الأولى لإيقاد الثانية منها وهي مقالة سبارينون وأشياعه
ومنهم من كان يقول لم تحبل مريم لتسعة أشهر وإنما مر نور في بطن مريم كما يمر الماء في الميزاب لأن كلمة الله دخلت من أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها وهي مقالة ألبان وأشياعه
ومنهم من كان يقول إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره وأن ابتداء الابن من مريم وأنه اصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية فحلت فيه المحبة والمشيئة فلذلك سمي ابن الله ويقولون إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد يسمونه بثلاثة أسماء ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس وهي مقالة بولص الشمشاطي بطرك أنطاكية وأشياعه وهم البوليانيون
ومنهم من كان يقول بثلاثة آلهة لم يزل صالح وطالح وعدل بينهما وهي مقالة مرقيون وأشياعه
وزعموا أن مرقيون رئيس الحواريين وأنكروا بطرس السليح
ومنهم من كان يقول ربنا هو المسيح وهي مقالة بولس الرسول ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا
قال فلما سمع قسطنطين الملك مقالاتهم عجب من ذلك وأخلى لهم دارا وتقدم لهم بالإكرام والضيافة وأمرهم أن يتناظروا فيما بينهم لينظر من معه الحق فيتبعه
فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على دين واحد ورأي واحد فناظروا بقية الأساقفة المختلفين فأفلجوا عليهم حججهم وأظهروا الدين المستقيم وكان أيضا باقي الأساقفة مختلفي الأديان والآراء
وصنع الملك للثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا مجلسا خاصا عظيما وجلس في وسطه وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه فدفعها إليهم وقال لهم قد سلطتكم اليوم على المملكة لتصنعوا ما بدا لكم لتصنعوا ما ينبغي لكم أن تصنعوا مما فيه قوام الدين وصلاح المؤمنين
فباركوا على الملك وقلدوه سيفه وقالوا له أظهر دين النصرانية وذب عنه
ووضعوا له أربعين كتابا فيها السنن والشرائع وفيها ما يصلح أن يعمل به الأساقفة وما يصلح للملك أن يعمل بما فيها
وكان رئيس المجمع والمقدم فيه الأكصندروس بطريرك الإسكندرية وبطرك الإنطاكية وأسقف بيت المقدس
ووجه بطرك رومية من عنده رجلين فاتفقوا على نفي أريوس وأصحابه ولعنوهم وكل من قال مقالته ووضعوا تلك الأمانة وثبتوا أن الابن مولود من الأب قبل كل الخلائق وأن الابن من طبيعة الأب غير مخلوق
واتفقوا على أن يكون فصح النصارى في يوم الأحد الذي يكون بعد فصح اليهود وأن لا يكون فصح اليهود مع فصح النصارى في يوم واحد وثبتوا ما وضعه من تقدم ذكره من حساب الصوم والفصح
وأن يكون فطر النصارى يوم فصحهم يوم الأحد الذي يكون بعد فصح اليهود
لأن النصارى كما قلنا من قبل كانوا إذا عيدوا عيد الحميم وهو عيد الغطاس صاموا من الغد أربعين يوما ويفطرون
فإذا كان عيد اليهود عيدوا معهم الفصح فصيروا يوم الفصح للفطر ومنعوا أن يكون للأسقف زوجة وذلك أن الأساقفة منذ وقت الحواريين إلى مجمع الثلاثمائة وثمانية عشر كان لهم نساء لأنه كان إذا اختير واحد أسقفا وكانت له زوجة تبيت معه ولم تنتح عنه ما خلا البطاركة فإنه لم يكن لهم نساء ولا كانوا أيضا يصيرون أحدا بطركا له زوجة
قال وانصرفوا مكرمين محظوظين وذلك في سبع عشرة سنة من ملك قسطنطين
قال وسن قسطنطين الملك ثلاث سنن
أحدها كسر الأصنام وقتل كل من يعبدها
والثانية أن لا يثبت في الديوان إلا أولاد النصارى ويكونون أمراء وقواد
والثالثة أن يقيم الناس جمعة الفصح والجمعة التي بعدها لا يعملون فيها عملا ولا يكون فيها حرب
قال وتقدم قسطنطين إلى أسقف بيت المقدس أن يطلب موضع المقبرة والصليب ويبني الكنائس ويبدأ ببناء القيامة المقدسة
فقالت هيلانة أم قسطنطين للملك إني نذرت أن أصير إلى بيت المقدس فأطلب المواضع المقدسة فأبنيها فدفع الملك إليها أموالا كثيرة جزيلة
وسارت إلى بيت المقدس مع أسقف بيت المقدس فلما وصلت لم يكن لها حرص ولا همة إلا طلب الصليب
فجمعت اليهود والسكان في بيت المقدس واختارت منهم عشرة ومن العشرة ثلاثة كان واحد منهم يقال له يهوذا فسألتهم أن يدلوها على موضع الصليب فامتنعوا وقالوا ليس عندنا علم منه ولا خبرة بالموضع
فأمرت بهم فطرحتهم في جب ليس فيه ماء فأقاموا سبعة أيام لم يطعموا ولم يسقوا فقال أحدهم الذي اسمه يهوذا لصاحبيه إن أباه عرفه بالموضع الذي تطلب هذه المرأة وإن جده عرف أباه
فصاح الاثنان من الجب أخرجونا حتى نعلم الملكة بحال هذا الرجل
فأخرجوهم فأخبروا الملكة بما قال لهما يهوذا فأمرت بضربه بالسياط فأقر أنه يعرف الموضع فخرج حتى جاء إلى الموضع الذي فيه المقبرة والأقرانيون وكانت مزبلة عظيمة هناك فصلى وقال اللهم إن كان في هذا الموضع المقبرة فأسألك أن تزلزل المكان وتخرج منه دخانا حتى نؤمن فزلزل الموضع وخرج منه دخان كما سأل فآمن
فأمرت هيلانة بكنس الموضع من التراب فظهرت المقبرة والأقرانيون ووجد ثلاثة صلبان قالت هيلانة كيف لنا أن نعلم بصليب السيد المسيح وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة قد يئس منه فوضع الصليب الأول عليه والثاني والثالث فقام المريض وليس به شيء يكره
فعلمت هيلانة أنه الصليب الذي لسيدنا المسيح فجعلته في غلاف من ذهب وحملته معها وجملته بما تقدر عليه وأظهرت كل ما كان مدفونا من آثار سيدنا المسيح وحملته إلى ابنها قسطنطين وبنت كنيسة القيامة في موضع الصليب والأقرانيون وكنيسة قسطنطين وانصرفت وأمرت أسقف بيت المقدس أن يبني باقي الكنائس وذلك في اثنين وعشرين سنة من ملك قسطنطين
قال فمن ميلاد سيدنا المسيح إلى أن وجد الصليب ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة وذكر أنه بعد هذا اجتمعوا بمجمع عظيم ببيت
المقدس
وكان معهم رجل قد دسه بطرك القسطنطينية وجماعة معه ليسألوا بطرك الإسكندرية وكان هذا الرجل لما رجع إلى الملك أظهر أنه مخالف لأريوس وكان يرى رأيه ويقول بمقالته فقام هذا الرجل واسمه مانيوس فقال إن أريوس لم يقل إن المسيح خلق الأشياء ولكن قال به خلقت الأشياء لأن كلمة الله التي بها خلق السماوات والأرض وإنما خلق الله الأشياء بكلمته ولم تخلق الأشياء كلمته كما قال سيدنا المسيح في الإنجيل المقدس كل بيده كان ومن دونه لم يكن شيء فقال به كانت الحياة والحياة نور البشر وقال في هذا العالم والعالم به تكون فأخبر أن الأشياء به تكونت ولم يخبر أنها كونت له قال فهذه كانت مقالة أريوس ولكن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا تعدوا عليه وظلموه وحرموه ظلما وعدوانا
فرد عليه بطرك الإسكندرية وقال أما أريوس فلم يكذب عليه الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ولا ظلموه لأنه إنما قال إن الابن خالق الأشياء دون الأب
وإذا كانت الأشياء إنما خلقت بالابن دون أن يكون الأب لها خالقا فقد يجب أن يكون ما خلق منها شيئا وفي ذلك تكذيب للمسيح قوله الأب يخلق وأنا أخلق وقال إن أنا لم أعمل عمل أبي
فلا تصدقوني وقال كما أن الأب يحيي من يشاء ويميته كذلك الابن يحيي من يشاء ويميته
فدل على أنه يحيي ويخلق وفي هذا تكذيب لمن زعم أنه ليس بخالق وإنما خلقت به دون أن يكون خالقا له وأما قولك إن الأشياء كونت به فإنما كنا لا نشك أن المسيح حي فعال وكان قد دل بقوله إثما أفعل الخلق والحياة كان قولك به كونت الأشياء إنما هو راجع في المعنى إلى أنه كونها فكانت به مكونة ولو لم يكن ذلك كذلك لتناقض القولان
قال ورد عليه أيضا فقال أما قول من قال من أصحاب أريوس إن الأب يريد الشيء فيكونه الابن والإرادة للأب والتكوين للابن فإن ذلك يفسد أيضا إذ كان الابن عنده مخلوقا فقد صار حظ المخلوق في الخلق أوفى من حظ الخالق فيه وذلك أن هذا أراد وفعل وذاك أراد ولم يفعل فهذا أوفر حظا في فعله من ذاك ولا بد لهذا أن يكون في فعله لما يريد ذلك بمنزلة كل فاعل من الخلق لما يريد الخالق منه ويكون حكمه كحكمه في الجبر والاختيار فإن كان
مجهولا فلا شيء له في الفعل وإن كان مختارا فجائز أن يطاع وجائز أن يعصى وجائز أن يثاب وجائز أن يعاقب وهذا أشنع في القول
قال ورد عليه أيضا وقال إن كان الخالق إنما خلق خلقه بمخلوق فالمخلوق غير الخالق بلا شك فقد زعمتم أن الخالق يفعل بغيره والفاعل بغيره محتاج إلى متمم ليفعل به إذ كان لا يتم له الفعل إلا به والمحتاج إلى غيره منقوص والخالق يتعالى عن هذا كله
قال فلما دحض بطرك الإسكندرية حجج أولئك المخالفين وظهر لمن حضر بطلان قولهم تحيروا وخجلوا فوثبوا على بطرك الإسكندرية فضربوه حتى كاد أن يقتل فخلصه من أيديهم ابن أخت قسطنطين وهرب بطرك الإسكندرية المحتج على أصحاب أريوس وصار إلى بيت المقدس من غير حضور أحد من الأساقفة ثم أصلح دهن الميرون وقدس الكنائس ومسحها بدهن الميرون وسار إلى الملك فأعلمه بالخبر فصرفه الملك إلى الإسكندرية
فصل
قال وأمر الملك أن لا يسكن يهودي بيت المقدس ولا يجوز بها ومن لم يتنصر يقتل فتنصر من اليهود خلق كثير وظهر دين النصرانيةفقيل لقسطنطين الملك إن اليهود يتنصرون من فزع القتل وهم على دينهم قال الملك كيف لنا أن نعلم ذلك منهم
قال بولس البترك إن الخنزير في التوراة حرام واليهود لا يأكلون لحم الخنزير فأمر أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها وتطعمهم منها فمن لم يأكل منه علمنا أنه مقيم على دين اليهودية
فقال الملك إذا كان الخنزير في التوراة حراما فكيف يجوز لنا أن نأكل لحم الخنزير ونطعمه للناس
فقال له بولس البترك إن سيدنا المسيح قد أبطل كل ما في التوراة وجاء بناموس آخر وبتوراة جديدة وهو الإنجيل وفي إنجيله المقدس أن كل ما يدخل البطن ليس بحرام ولا ينجس وإنما ينجس الإنسان الذي يخرج من فيه
وقال بولس الرسول في رسالته إلى أهل مدينة فورينيوس الأولى الطعام للبطن آلته لها والبطن للطعام وله يلعن ومكتوب في الإبركسس يعني أخبار الحواريين أن بطرس رئيس الحواريين كان في مدينة يافا في منزل رجل دباغ يقال له سيمون وأنه صعد إلى المنزل ليصلي وقت ست ساعات من النهار فوقع عليه سبات فنظر إلى السماء قد تفتحت وإذا إزار قد نزل من السماء حتى بلغ الأرض
وفيه كل ذي أربع قوائم على الأرض من السباع والذئاب وغير ذلك من طير السماء وسمع صوتا يقول له يا بطرس قم فاذبح وكل فقال بطرس يا رب ما أكلت شيئا نجسا قط ولا وسخا قط فجاء
صوت ثان كل ما طهره الله فليس بنجس وفي نسخة أخرى ما طهره الله فلا تنجسه أنت
ثم جاء الصوت بهذا ثلاث مرات ثم إن الإزار ارتفع إلى السماء فعجب بطرس وتحير فيما بينه وبين نفسه
فبهذا المنظر وبما قال سيدنا المسيح في إنجيله المقدس أمر بطرس وبولس أن نأكل كل ذي أربع قوائم من الخنزير وغيره من جميع الحيوان حلالا لنا
فأمر الملك أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها وتقطع صغارا صغارا وتصير على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم أحد الفصح وكل من خرج من الكنيسة يلقم لقمة من لحم الخنزير فمن لم يأكل منه يقتل فقتل لأجل ذلك خلق كثير
قال سعيد وكان لقسطنطين ثلاثة أولاد أكبرهم قسطنطين بن قسطنطين وذلك حين ملك أزدشير بن سابور بن هرمز على الفرس وملك بعده سابور بن سابور لخمس سنين من ملك قسطنطين
قال وفي ذلك العصر اجتمع أصحاب أريوس وكل من قال بمقالته إلى الملك قسطنطين فحملوا له دينهم ومقالتهم وقالوا إن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا الذين كانوا اجتمعوا بنيقية قد أخطأوا وحادوا عن الحق في قولهم إن الابن متفق مع الأب في الجوهر فتأمر أن لا يقال هذا فإنه خطأ فأراد الملك أن يفعل ذلك
قال وفي ذلك العصر ظهر على الأقرانيون وهو الجلجلة نصف النهار صليب من نور من الأرض إلى السماء يفوق ضوؤه ضوء الشمس فكان يبلغ إلى طور زيتا فرأى ذلك كل من كان في بيت المقدس من كبير وصغير
فكتب أسقف بيت المقدس إلى قسطنطين بن قسطنطين بالخبر وقال في أيام أبيك السعيد ظهر صليب كواكب من السماء في نصف النهار وفي أيامك ظهر أيها الملك على الأقرانيون صليب من نور يفوق نوره نور الشمس في نصف النهار
وكتب إليه أن لا يقبل قول أصحاب أريوس فإنهم حائدون عن الحق كفار قد لعنهم الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ولعنوا كل من يقول بمقالتهم فقيل قوله
قال وفي ذلك الوقت غلبت مقالة أريوس على قسطنطينية وأنطاكية وبابل والإسكندرية
فسمى التابعون لأريوس والقائلون بمقالته أريوسيين مشتقا من اسمه
قال وفي ثاني سنة من ملك قسطنطين صير على أنطاكية بطرك أريوسي ثم بعده آخر أريوسي ثم بعده آخر مناني وصير على قسطنطينية بترك مناني
قال ففي عشر سنين من ملكه صير على قسطنطينية بطرك وكان يقول روح القدس مخلوقة وأقام عشر سنين ومات
ونقل بعد ذلك بطرك أنطاكية فصير على قسطنطينية وكان منانيا
قال وأما أهل مصر والإسكندرية فكان أكثرهم أريوسيين ومنانيين فغلبوا على كنائس مصر فأخذوها ووثبوا على بترك الإسكندرية ليقتلوه فهرب منهم واستخفى وصيروا على إسكندرية بترك منانيا
وفي ذلك الزمان قدم من القسطنطينية إلى الإسكندرية قائد وكان أريوسيا فنفى الملكي وأقام بطركا أريوسيا
فلما خرج القائد قتل الملكيون ذلك البترك الأريوسي وأحرقوه بالنار
ومات الملك قسطنطين بن قسطنطين وله في الملك أربع وعشرون سنة
وملك بعده يوليانوس الملك الكافر على الروم سنين وأراد أن يرد الناس إلى عبادة الأصنام وقتل من الشهداء خلقا كثيرا
وفي أول سنة من ملكه وثب الأريوسيون ببيت المقدس على أسقفها الملكي الذي كتب بظهور الصليب ليقتلوه فهرب منهم فصيروا أسقفا أريوسيا
قال وفي ثاني سنة من ملكه صير على أنطاكية بطركا على الأمانة أقام خمسا وعشرين سنة
وفي إحدى وعشرين سنة من رياسته كان المجمع الثاني بقسطنطينية
قال وكان في عصره أهل مدينة نيريار كلهم صابئون فوضع
أسقف نيريار ميمرا في ميلاد المسيح ويقول في ابتدائه الميمر السيد ولد مختونا فخذوا المسيح من السماء واستقبلوه على الأرض فلما قرأه عليهم استهزأوا به وأقبلوا يضحكون منه فلما كان عيد الحميم وضع ميمرا في عيد الحميم هتك فيه دين الصابئين وفضحهم فيه ومكن فيه دين النصرانية
قال وكان في عصر يوليانوس الملك الكافر أول راهب سكن برية مصر وبنى الديارات وجمع الرهبان
وكان آخر بالشام وهو أول من سكن برية الأردن وجمع الرهبان وبنى الديارات
قال وخرج هذا الملك الكافر لقتال سابور ملك الفرس فلسوء مذهبه ورداءة دينه وما أراد أن يأخذ بعبادة الأصنام ظفر به ملك
الفرس فقتله وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة
وذكر أسقف قيسارية أنه كان جالسا في محرابه وحذاؤه لوح فيه صورة ماري مركورس الشاهد فنظر إلى اللوح فلم ير فيه صورة الشاهد فعجب من ذلك إذ غابت فلم يكن إلا ساعة حتى عادت صورة الشاهد إلى اللوح وفي طرف الحربة المصورة التي في يد الشاهد شبيه بالدم فتعجب من ذلك وبقي متحيرا حتى بلغه أن الملك الكافر قتل في الحرب
فعلم أن ماري مركوس الشاهد قتله لشدة بغضه الذي كان للنصارى وما كان عزم عليه من عبادة الأصنام
وذكر بعد هذا جماعة من البتاركة والأساقفة كان بعضهم أريوسيا وبعضهم منانيا وبعضهم ملكيا وذكر فتنا بينهم وتعصب كل طائفة لبتركها حتى يقتل بعضهم بعضا وينفي بعضهم بعضا
وذكر أنه اختلفت آراء النصارى وكثرت مقالاتهم وغلبت عليهم مقالة أريوس وأنهم ملكوا عليهم ملكا اسمه تذوس وأن
الوزراء والقواد اجتمعوا إليه ذاكرين أن مقالات الناس اختلفت وفسدت وغلبت عليهم مقالة أريوس ومقدينوس فينظر الملك في هذا ويذب عن النصرانية ويوضح الأمانة المستقيمة
وكتب إلى بطرك إسكندرية وأنطاكية ورومية وأسقف بيت المقدس فحضروا مع أساقفتهم بقسطنطينية إلا بطرك رومية فإنه كتب وأنفذ بالأمانة المستقيمة
فاجتمع بقسطنطينية ماية وخمسون أسقفا وكان المقدم البطاركة الثلاثة فدفع الملك إليهم كتاب بطرك رومية فكان صحيحا موافقا وكان يزعم أن روح القدس إله ولكن مخلوق مصنوع
فقال بطرك الإسكندرية ليس روح القدس عندي معنى غير
حياته فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق فقد قلنا إن حياته مخلوقة وإذا قلنا إن حياته مخلوقة فقد زعمنا أنه غير حي وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا ومن كفر وجب عليه اللعن
فاتفقوا على لعن مقدونيوس فلعنوه وأشياعه ولعنوا البطاركة الذين كانوا بعده يقولون بقوله ولعنوا أسقف لونيه وأشياعه ولعنوا بوليناريوس وأشياعه لأنه كان يقول إن الأب والابن وجه واحد
ولعنوا بوليناريوس وأشياعه لأنه كان يقول إن جسد سيدنا المسيح بغير فعل
وثبتوا أن روح القدس خالقة غير مخلوقة إله حق وأن طبيعة الأب والابن جوهر واحد وطبيعة واحدة
وزاد في الأمانة التي وضعها الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا الذين اجتمعوا في مدينة نيقية وبروح القدس المحيي المميت المنبثق من الأب
وثبتوا أن الأب وحده والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم وثلاثة وجوه وثلاثة خواص في وحدانية واحدة وكيان واحد وثلاثة أقانيم إله واحد جوهر واحد طبيعة واحدة
وثبتوا أن جسد سيدنا المسيح بنفس ناطقة عقلية
قال فمن المجمع الأول إلى هذا المجمع الثاني ثمان وخمسون سنة
قال وأطلق بطرك الإسكندرية للبطاركة والأساقفة والرهبان أكل اللحم من أجل المنانية ليعرف المناني منهم لأن المنانية لايرون أكل اللحم ولا شيئا من الحيوان البتة
وكان أكثر أساقفة مصر منانية فأكل بطاركة مصر وأسقفهم اللحم
وأما بطاركة رومية وقسطنطينية وأساقفتها ورهبانها فلم يأكلوا اللحم وأكلوا بدل اللحم السمك وأقاموه مقام اللحم إذ كان حيوانا
قال سعيد بن البطريق لم يطلق أكل اللحم على أنهم يعتاضون منه بالسمك إذ ليس بذبيحة ويمنعون أكل اللحم إذ كان قد أخطأ الذين أقاموا السمك مقام اللحم وسيدنا المسيح فقد أكل
اللحم فوجب ضرورة أكل اللحم اقتداء بالسيد المسيح ولو يوما واحدا في السنة ليزيلوا الشك من مذهب المنانية
قال وفي الأبركسس مكتوبا ما نظره بطرس السليح بيافا من تنزل السبنية وفيها كل ذي أربع قوائم ولهذا الحكم كل من لم يأكل اللحم مخالف لشريعة النصرانية ومضاهاه لمذهب الصابئة الروم وهم لا يغتسلون إلى اليوم لأن المنانية لا يرون الغسل بالماء فلما طال بهم الزمان أقاموه على هذه السنة
وقال قوم إنما تركوا الغسل بالماء لشدة برد بلادهم وبرد الماء عندهم وأنه لا يتهيأ لهم بالجملة أن يقربوا الماء في الشتاء لثلجه وبرده فصار سنة جارية شتاء وصيفا
والمنانية صنفان السماعون والصديقون
فالسماعون يصومون في كل شهر أياما معلومة
والصديقون يصومون الدهر كله ولا يأكلون إلا ما نبت من الأرض
فلما تنصروا خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيعلم بهم فجعلوا لأنفسهم صياما فصاموا الميلاد والحواريين
فلما طال بهم الزمان وتربوا في هذا الصوم أكلوا اللحم فتبعتهم في ذلك النساطرة واليعاقبة والمارونية وصارت سنة استحسنتها الملكية فتبعوهم وخاصة المقيمون ببلاد الإسلام
وأما الروم فما تركوا أكل اللحم في أيام صوم الميلاد وصوم الحواريين وتلك الأيام التي يظن أنها من جملة الصوم الكبير
فمن أحب أن يصوم الميلاد والحواريين والسيدة ولا يأكل لحما فليس بواجب وليس لأحد قطع اللحم طول السنة إلا في صوم الأربعين المقدسة فقط ومن فعل بضد ذلك مخالف راجع إلى أصحاب الآراء المختلفة
قال وفي ثمان سنين من ملك ثذوس ظهرت الفتية الذين كانوا هربوا من ذاقيوس الملك واختفوا في الكهف
وذلك أن الرعاة على طول الزمان كانوا إذا جازوا بذلك الموضع الذي هو الكهف قلعوا الطوب المبني على باب الكهف حتى عاد مفتوحا كالباب
فلما انتبهت الفتية توهموا أنهم كانوا نياما ليلة واحدة فقالوا لصاحبهم الذي كان يذهب يبتاع لهم الطعام امض واشتر لنا طعاما واستعلم خبر ذاقنوس
فلما خرج إلى باب الكهف نظر إلى البنيان والهدم ثم مضى حتى بلغ باب المدينة وهي أفسس فرأى باب المدينة عليه صليب كبير منصوب فانكر ذلك في نفسه وقال أحسب أني نائم فأقبل يمسح عينيه وينظر يمينا وشمالا هل يرى من يعرفه فلم ير فبقي متحيرا وقال لعلي أخطأت الطريق ولعل هذه مدينة أخرى
ثم دخل المدينة فدفع دراهم مما كان معه عليها صورة ذاقيوس الملك فأنكر عليه وقالوا لعله أصاب كنزا ثم قالوا من أين لك هذه الدراهم وإلا قتلناك فلم يكلمهم
وصاح الناس فاجتمع إليه خلق كثير وكلموه فلم يكلمهم فصاروا به إلى بطريق المدينة وكلمه فلم يتكلم فهدده فلم يتكلم فجاء إلى أسقف المدينة فكلمه وخوفه وقال إنك إن لم تكلمني وتقل لي من أين لك هذه الدراهم وإلا قتلتك
وإنما كان يمتنع من الكلام خوفا من ذاقيوس الملك
فقالوا لة إنه قد مات وملك بعده جماعة ملوك فضربوه حتى آلمه الضرب فخبرهم بحاله على جليتها
فقالوا له إن دقيانوس قد مات وملك بعده ملوك كثيرة والملك اليوم ثذوس الكبير وقد ظهر دين النصرانية
ثم سار معهم إلى الكهف فنظروا إلى أصحابه والصندوق النحاس الذي في الصحيفة الرصاص مكتوب فيها قصتهم وخبرهم
فكثر تعجبهم وكتبوا إلى الملك يعلمونه بخبرهم فركب وسار إلى مدينة أفسس فنظر إليهم وكلمهم
وبعد ثلاثة أيام دخل إليهم فوجدهم أمواتا فأمر أن يتركوا في الكهف ولا يخرجوا ولكن يدفنوا فيه وتبنى عليهم كنيسة وتسمى بأسمائهم ويعيد لها عيد في كل سنة في ذلك اليوم وانصرف إلى قسطنطينية
قال فمن وقت هرب الفتية من ذاقيوس إلى الكهف إلى الوقت الذي ظهروا فيه وماتوا مائة وسبع أو تسعة وأربعون سنة
قلت هذا مما أخطأ فيه فإن الله تعالى أخبر أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا
لكن بعض المفسرين زعموا أن هذا قول بعض أهل الكتاب لقوله الله أعلم بما لثبوا وليس كذلك فإن الله لم يذكر هذا عن أهل الكتاب بل ذكره كلاما منه تعالى
قال سعيد وفي زمنه كانت قصة بترك قسطنطينية يوحنا الملقب ب فم الذهب وتولى بعده ابنه ثذوس الصغير اثنين وأربعين سنة لإحدى عشرة سنة من ملك يزدجرد بن بهرام
وفي زمنه جعل نسطورس الذي تنسب إليه مقالة النسطورية بطركا على قسطنطينية
قال وكان نسطورس يقول إن مريم العذراء ليست بوالدة إلها على الحقيقة ولذلك كان اثنان
أحدهما الذي هو إله مولود من الأب والآخر الذي هو إنسان مولود من مريم وأن هذا الإنسان الذي يقول إنه مسيح بالمحبة متوحد مع ابن إله ويقال له إله وابن إله ليس بالحقيقة ولكن موهبة واتفاق الاسمين والكرامة شبيها بأحد الأنبياء
فبلغ قوله بطرك الإسكندرية فأنكر ذلك وكتب إليه يقبح عليه
فعله ومقالته ويعرفه فساد ما هو عليه ويسأله الرجوع إلى الحق فجرت بينهما رسائل كثيرة ولم يرجع نسطورس عن مقالته
فكتب إلى بطرك أنطاكية يسأله أن يكتب إلى نسطورس ويعرفه قبح فعله ورأيه وفساد مقالته ويسأله الرجوع إلى الحق
فكتب إلى نسطورس إن هو لم يرجع اجتمعوا ولعنوه وجرت بينهما رسائل كثيرة فلم يرجع
فكتبوا إلى بطرك رومية وأنطاكية وبطرك بيت المقدس أن يجتمعوا في مدينة أفسس لينظروا في مقالة نسطورس
فاجتمع بالمدينة مايتا أسقف مقدمهم بطرك الإسكندرية وتأخر بطرك أنطاكية فلم ينتظروه وبعثوا إلى نسطورس فلم يحضر معهم فنظروا في مقالته وأوجبوا عليه اللعن فلعنوه ونفوه وثبتوا أن مريم العذراء والدة الإله وأن المسيح إله حق وإنسان معروف بطبيعتين متوحدة في الأقنوم
وهذا هو خلاف المحبة لأن نسطورس كان يقول إن التحيد أي الاتحاد اتفاق الوجهين وأما التحيد أي الاتحاد المستقيم فإنما هو أن يكون أقنوما واحدا من طبيعتين
فلما لعنوا نسطورس قدم يوحنا بطرك أنطاكية فلما وجدهم قد لعنوه قبل حضوره غضب وقال ظلمتم نسطورس ولعنتموه باطلا
وتعصب مع نسطورس فجمع الأساقفة الذين قدموا معه فقطع بطرك إسكندرية وقطع أسقف أفسس
فلما رأى أصحاب بطرك إسكندرية قبح فعاله وقع بينهم شر عظيم وخرجوا من أفسس وصار أصحاب بطرك إسكندرية والمشرقيون حزبين فلم يزل ثذوس الملك حتى أصلح بينهم
وكتب المشرقيون صحيفة وثبتوا فيها الأمانة الصحيحة وقالوا فيها إن مريم العذراء القديسة ولدت إلها ربنا يسوع المسيح الذي هو مع أبيه في الطبيعة ومع الناس في الناسوت وأقروا بطبيعتين ووجه واحد وأقنوم واحد ولعنوا نسطورس ووجهوا بالصحيفة إلى بطرك إسكندرية فقبل الصحيفة وأجابهم عنها بموافقتهم على ذلك
وقال قوم لما قبل صحيفة المشرقيين بدا له ولم يقبل طبيعتين ووجها واحدا
قال سعيد بن البطريق وهم في ذلك كاذبون لأن كتبه تنطق بذلك
ثم أرسل نسخة صحيفة المشرقيين إلى جماعة من الأساقفة يعلمهم أن المشرقيين رجعوا إلى الإيمان وأنهم غير موافقين لنسطورس
قال فمن المجمع الثاني إلى المائة والخمسين أسقفا المجتمعين بمدينة قسطنطين ولعنوا مقدونيوس إلى هذا المجمع المائتين أسقفا المجتمعين بأفسس على نسطورس إحدى وخمسون سنة
قال ولما نفي نسطورس صار إلى مصر فأقام بضيعة في صعيد مصر يقال لها أخميم ومات ودفن بها
وكانت مقالته قد اندرست فأحياها من بعده بزمن طويل مطران نصيبين في عصر بوسيطيانوس ملك الروم وقباد بن فيروز ملك الفرس فبثها بالمشرق فلذلك كثر النسطورية بالمشرق وخاصة أرض فارس بالعراق والموصل ونصيبين والفرات والجزيرة
قال سعيد بن البطريق رأيت أن أرد على النسطورية في هذا الموضع وأبين بطلان قولهم وفساده لأن النسطورية في عصرنا هذا خالفوا قول نسطور القديم وزعموا أن نسطور كان يقول إن المسيح جوهران وأقنومان إله تام بأقنومه وجوهره وإنسان تام بأقنومه وجوهره
وإن مريم ولدت المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته لأن الأب عندهم ولد إلها ولم يلد إنسانا ومريم ولدت إنسانا ولم تلد إلها
فيقال لهم إن كان الأمر على ما تقولون فالمسيح مسيحان وابنان فمسيح إله وابن إله ومسيح إنسان وابن إنسان لأنه لا بد لمريم من أن تكون ولدت المسيح أو لم تلده
فإن كانت ولدته فلا بد أن يكون ولادا روحانيا أو جسمانيا
فإن كان جسمانيا فهو غير الذي ولده الأب وذلك يوجب أن يكون مسيحان
وإن كان روحانيا فالمسيح ابن واحد أقنوم واحد مسيح واحد
والدليل على ذلك صفيحة الحديد التي تتحد بها النار فإنها سيف واحد تحرف وتمنع وتقطع وتضيء
ولا يجوز أن يكون من الجهة الحديدية هي المحرقة المضيئة من غير جهة النار إذ كان ما لم يكن فيه نار من الحديد غير محرق
ولا الجهة النارية هي القاطعة المانعة إذ كان شأن النار الإضاءة والإحراق لا القطع
فقد ثبت بهذا وصح ما تعتقده الملكية من أن المسيح أقنوم واحد وبان زيف قول النسطورية إن المسيح أقنومان
قلت يقال لهذا إن قول النسطورية والملكية وإن كانا باطلين فقول الملكية أشد بطلانا وأعظم كفرا وتناقضا وما ذكره هذا باطل
أما قوله لو كان الأمر على ما تقولون فالمسيح مسيحان
فيقال له هذا إنما يلزم أن لو كان اللاهوت بمجرده يسمى مسيحا فإن النسطورية وافقوهم على باطل وهو أن الرب ولد إلها وهذا باطل ولم يقل أحد قط من الأنبياء لا في الإنجيل ولا غيره إن صفة الله القائمة به مولودة ولا أن الرب له مولود قديم أزلي
ولكن إذا قدر أن الأمر كذلك فصفة الله لم يسمها أحد مسيحا
فإذا قدر أن اللاهوت والناسوت جوهران أقنومان لا اتحاد بينهما لم يلزم أن يكون اللاهوت مسيحا ولا هناك مسيح هو إله ولا مسيح هو ابن إله
وقد تقدم عن نسطور أنه كان يقول إن هذا الإنسان الذي نقول إنه مسيح متوحد بالمحبة مع ابن إله ويقال له إله وابن إله ليس بالحقيقة ولكن موهبه
فقد صرح بأن المسيح هو الإنسان فقط دون اللاهوت وأن
المسيح ليس بإله ولا ابن إله في الحقيقة
فبطل ما ألزمه إياه من أنه يلزم أن يكون هنا مسيحان
وأما قوله لا بد لمريم من أن تكون ولدت المسيح أو لم تلده
فيقال بل ولدت المسيح وهو الإنسان وهو غير اللاهوت الذي تزعمون أن الأب ولده وليس في ذلك مسيحان بل مسيح واحد إنسان مخلوق
وأيضا فقوله فإن كان ولدته فلا بد أن يكون ولادا روحانيا أو جسمانيا فإن كان روحانيا فالمسيح ابن واحد أقنوم واحد مسيح واحد تقسيم باطل وحجة فاسدة داحضة
فإن مريم لم تلد ولادة روحانية بل خرج الولد من فرجها كما تخرج أولاد النساء من فروجهن سواء كانت عذرتها باقية أو لم تكن
وأما ما ذكره من التمثيل بصفيحة الحديد فلو قدر أنه مثل مطابق لم يدل على صحة قولهم بل غايته أنه يدل على إمكانه
فأين الدليل على أن هذا هو الواقع فليس فيه ما يدل على صحة قول الملكية وفساد قول خصومهم فكيف وهو تمثيل غير مطابق
فإن الحديد إذا اتحدت به النار كان الحديد قد استحال عن صفته فلم يبق حديدا محضا وليست نارا محضا والخشب
وغيره إذا أحرق وصار نارا فليس هو خشبا محضا وليس هو نارا محضة بسيطة
فمن شأن الشيئين إذا اتحدا أن يستحيل كل منها إلى جوهر ثالث وطبيعة ثالثة ليست لا هذا ولا هذا كالماء واللبن إذا اتحدا فإن ذلك يصير جوهرا ثالثا وطبيعة ثالثة لا لبنا محضا ولا ماء محضا وكذلك النار مع الحديد أو الخشب أو غير ذلك فإن ذلك يصير جوهرا ثالثا ليس حديدا محضا ولا خشبا محضا ولا نارا محضة لكن الحديد إذا برد هو حديد لكنة تغيرت حقيقته فالنار تلينه وتذهب خبثه ولا يبقى بعد اتحاده بالنار كما كان قبل والخشب يصير فحما وهو جوهر ثالث إذ كان من طبع النار أنها تؤثر في كل جسد بحسبه فتؤثر في الحديد بحسبه وفي الخشب بحسبه
وكل شيئين اتحدا فإنهما يصيران جوهرا ثالثا وأقنوما ثالثا وطبيعة ثالثة
فإن كان اللاهوت والناسوت قد اتحدا كما زعموا فقد استحالت صفة اللاهوت واستحالت صفة الناسوت فلم يبق اللاهوت لاهوتا ولا الناسوت ناسوتا بل صارا جوهرا ثالثا لا لاهوت ولا ناسوت وهم ينكرون هذا القول وهو باطل
فإن رب العالمين لا يتبدل ولا تستحيل صفاته بصفات
المحدثات ولا ينقلب القديم ولا شيء من صفاته محدثا ولا يستحيل القديم الرب الخالق والمخلوق المحدث إلى شيء ثالث
بل صفات الرب التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها لا تتبدل ولا تنقلب ولا تستحيل فضلا عن أن تستحيل إلى أمر ثالث
ثم هذا الثالث إن كان قديما خالقا صار هنا خالقين قديمين
وإن كان مخلوقا محدثا كان الخالق قد صار مخلوقا محدثا ومعلوم أن استحالة الخالق إلى خالق آخر أو إلى مخلوق ممتنع ظاهر الامتناع
ومما يوضح هذا أن ما مثلوا به من الحديدة المحماة بالنار هي جوهر ثالث يجري على نارها ما يجري على حديدها فإذا طرقت فالتطريق واقع على نارها كما هو واقع على حديدها وكذلك إذا مدت وكذلك إذا بصق عليها وكذلك إذا ألقيت في الماء
فإن كان هذا التمثيل مطابقا لزم أن يكون ما حل بالناسوت قد حل باللاهوت
فيكون رب العالمين هو الذي يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وهو الذي صفع عندهم وبصق في وجهه وجعل الشوك على رأسه وضرب بالسياط وصلب ومات وتألم كما يحكى مثل هذا عن اليعقوبية
وهذا لازم لكل من قال بالاتحاد حتى النسطورية إن قالوا إنهما
متحدان بالمشيئة بمعنى أن مشيئة هذا عين مشيئة هذا
بخلاف ما إذا قالوا إن مشيئته موافقة لمشيئته ليست إياها ولهذا قال تعالى
سورة المائدة الآيات 72 75
فذكر سبحانه وتعالى أنهما كانا يأكلان الطعام لأن ذلك من أظهر الأدلة على أنهما مخلوقان مربوبان إذ الخالق أحد صمد لا يأكل ولا يشرب
وذكر مريم مع المسيح لأن من النصارى من اتخذها إلها آخر فعبدها كما عبد المسيح
والذين لا يقولون بهذا كثير منهم يطلب منها كل ما يطلب
من الله حتى يقول لها اغفري لي وارحميني وغير ذلك بناء على أنها تشفع في ذلك إلى ابنها
فتارة يقولون يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله وتارة يسألونها الحوائج التي تطلب من الله ولا يذكرون شفاعة وآخرون يعبدونها كما يعبدون المسيح
وقد ذكر سعيد بن البطريق هذا عنهم لما ذكر اجتماعهم عند قسطنطين بنيقية
قال وكانوا مختلفي الآراء مختلفي الأديان
فمنهم من يقول المسيح وأمه إلهان من دون الله وهم المريمانيون ويسمون المريمانية كذلك قال ابن حزم وقد قال تعالى
سورة المائدة الآيتان 116 117
وهو سبحانه لم يحك هذا عن جميع النصارى بل سأل
المسيح سؤالا يقرع به من اتخذه وأمه إلهين من دون الله 2
قال ابن البطريق ويقال للنسطورية أيضا أخبرونا عن الناسوت التي اتحدت بها اللاهوت وسمى مسيحا هل لم يزل مسيحا منذ كان في بطن مريم إلى حين وضعته وأرضعته وشب وصلب وقتل أم كان ثلاثين سنة وهو واحد من الناس ثم اتحد بعد ذلك اللاهوت بالناسوت فكان مسيحا
فإن قالوا لم يكن مسيحا وهو في بطن مريم وإنما ولدت مريم إنسانا كان ثلاثين سنة وهو واحد من الناس ثم اتحد بعد ذلك اللاهوت بالناسوت فكان مسيحا تركوا قولهم وكذبوا الإنجيل وبولص وجميع كتب الكنيسة وخرجوا عن مقالة النصرانية
وإن قالوا إن اللاهوت اتحد في الناسوت عند الحمل وأنه كان مسيحا وهو محمول ومولود ومرضع إلى أن صلب وقتل قد أقروا أن مريم ولدت إلها مسيحا واحدا أقنوما واحدا
فيقال له هذا التقسيم يدل على بطلان قول النصارى الذي ابتدعه طوائفهم الثلاثة وغيرهم فإن الاتحاد يزعمون أنه كان من حين حملت به مريم وأنه كان ينمو قليلا قليلا كنمو جسد المسيح
والاتحاد باطل كما قد قرر غير مرة ولو قدر أنه ممكن لظهر أثر ذلك
فإن الله لما كلم موسى من الشجرة ظهر من الآيات والعظمة ما دل على ذلك ولذلك كان إذا كلم موسى يظهر آيات ذلك
وكذلك ما أخبر به في التوراة وغيرها من مصاحبته لبني إسرائيل وهو مما ظهر أثره وإن لم يكن متحدا ولا حالا في شيء من ذلك
ولما تجلى من طور سينا وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران بما أنزله من كتبه ظهر آثار ذلك وإن لم تكن ذاته متحدة ولا حالة بفاران ولا طور سينا باتفاق الأمم
فكيف تكون ذاته متحدة بما في بطن مريم أو حالة فيه ولا يظهر أثر ذلك
وأيضا فيقال له قد يقول النسطورية له الناسوت كان مسيحا من حين الحمل بمعنى أنه كان طاهرا مقدسا لا بمعنى اتحاد اللاهوت به
وإن قالوا المسيح اسم اللاهوت والناسوت جميعا فيقال ليس في كتب الأنبياء ما يقتضي هذا والنسطورية يسلمون ذلك لكن قد يقولون إن المسيح اسم لهما كما أن الإنسان اسم للروح والجسد
ثم قد يقال لجسد الإنسان الميت هذا الإنسان فيقال وهو في بطن مريم أمه قبل نفخ الروح فيه هذا الجنين وهذا الحمل فكذلك إذا قيل له مسيح بدون اللاهوت
وأيضا فقد تقول النساطرة باقتران اللاهوت من حين الحمل ولا يلزم أن يكون قد ولدت إلها إذ لم يقولوا بالاتحاد بل قالوا هما
جوهران أقنومان ولدت أحدهما ولم تلد الآخر كما تقول الملكية معهم إنه صلب أحدهما ولم يصلب الآخر ومات أحدهما ولم يمت الآخر وتألم أحدهما ولم يتألم الآخر
فكيف جوز الملكية حين الموت أن يحل الموت والصلب والأكل والشرب وسائر الأمور البشرية بأحد الجوهرين دون الآخر ولم يجوزوا حين الولادة أن تلد مريم أحد الجوهرين دون الآخر وهل هذا إلا من تناقضهم كقولهم جميعا إنه صعد إلى السماء وقعد عن يمين أبيه مع قولهم إن اللاهوت مع الناسوت قعد عن يمين الأب
ويقولون مع ذلك إن اللاهوت القاعد عن يمين الآخر هو ذلك الآخر وهما جوهر واحد وإله واحد مع قوله إنه إله حق من إله حق فمناقضتهم كثيرة
ولا ريب أن قول النسطورية أيضا متناقض لكن لا يمكن أن نصحح قول الملكية دون قولهم بل قول الملكية أعظم فسادا وتناقضا
فالنسطورية يقولون الإله لم يولد ولم يصلب
واليعقوبية يقولون ولد وصلب
والملكية يقولون ولد ولم يصلب
ومتى جاز أن يولد جاز أن يموت ويصلب وإن لم يجز أن يصلب ويموت لم يجز أن يولد
فتجويز أحدهما ومنع الآخر تناقض
ويقال للملكية أنتم تقولون إن اللاهوت اتحد بالناسوت عند الحمل وكان مسيحا وهو مصفوع ومصلوب وميت ومتألم وتقولون هذا كان بالناسوت دون اللاهوت فهذا التناقض من جنس تناقض النساطرة
قال ابن البطريق ويقال للنساطرة أيضا متى اتحدت الكلمة بالإنسان أقبل الولادة أم في حال الولادة
فإن قالوا قبل الولادة قلنا لهم قبل الولادة قبل الحمل أو قبل الولادة وهو حمل
فإن قالوا قبل الولادة وقبل الحمل فقد زعموا أنه اتحد قبل أن يكون إنسانا وقبل أن يصور فإن كان كذلك فسد قول النسطورية إن القديم اتحد بإنسان جزئي لأن الإنسان الجزئي إنما كان إنسانا جزئيا لما صار مصورا بشريا
فيقال له هذا السؤال لازم للطوائف الثلاثة فإنهم يقولون بالاتحاد أعظم من النساطرة
فإن قيل هم يقولون إنه اتحد بإنسان كلي كان هذا من أفسد الأقاويل فإن المسيح بشر معين جزئي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه لم يكن إنسانا كليا
ثم قال ويلزمهم أن يزعموا أن اللاهوت قد كان حل مع الناسوت تسعة أشهر ونحوها من بدء الحمل مقيما معه في الموضع الذي يحمل فيه الجنين ثم ولدا معا وهذا خلاف قولهم إن مريم ولدت المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته
فيقال قد يقولون إنه ولد الناسوت دون اللاهوت كما يقول الملكية إنه صلب الناسوت دون اللاهوت
وإن كان هذا متناقضا فالنساطرة أقل تناقضا لأن الملكية يقولون إنهما شخص واحد أقنوم واحد فقد اتحد أحدهما بالآخر
فإذا جاز مع هذا أن يفارق أحدهما الآخر في الأكل والشرب والصلب والموت فمن قال إنهما جوهران أقنومان هو أولى أن يقول ولدت أحدهما دون الآخر
ثم قال وإن قالوا اتحد به وهو حمل صورة تامة
قلنا لهم فقد كان الإله حملا قبل الولادة وإذا جاز أن يحمل جاز أن يولد
فيقال هم لا يقولون بأنهما صارا شخصا واحدا أقنوما واحدا بل يقولون جوهران أقنومان وحينئذ فلا يقولون حملت بإله
ولا ولدت إلها كما لا يقول الملكية صلب اللاهوت ومات اللاهوت مع قولهم بأن اللاهوت والناسوت اتحدا
قال فإن قالوا كان الاتحاد في حال الولادة
قلنا فقد ولدت مريم الكلمة إذا مع الإنسان والكلمة عندنا وعندهم إله فقد ولدت مريم إلها
فإن قالوا نعم قلنا فإذا جاز أن يولد فلم لا يجوز أن يكون حملا فإذا أجازوا ذلك تركوا قولهم وإن لم يجيزوه قلنا فما الفرق بين أن يكون مولودا وبين أن يكون محمولا فإن قالوا ليس الإله مولودا ولم يكن الاتحاد قبل الولادة وهو أن يكون محمولا ولا في حال كونه ولدا في حال الولادة
قلنا فهذا نقض قولكم إن مريم ولدت المسيح لأن المسيح عندكم ليس هو الإنسان وحده ومريم عندكم إنما ولدت الإنسان وحده
وإذا كان المسيح ليس هو الإنسان وحده وعندكم إنما ولدت الإنسان وحده قبل الاتحاد فإنما ولدت إذا ما ليس بمسيح إذ كان إنما كان مسيحا بالاتحاد وكان الاتحاد بعد الولادة فإنما كان مسيحا بعد الولادة
فإذا كان هذا عندكم فاسدا وكانت مريم ولدت المسيح فمريم لم تلد الإنسان وحده وهذا يوجب أنها قد ولدت الإله مع الإنسان ويوجب أن الاتحاد كان قبل الولادة
قال فقد تبين زائف ما تعتقده النسطورية من أن مريم ولدت المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته وصح أن مريم ولدت إلها مسيحا واحدا
قال ويقال لهم إذا زعمتم أن المسيح جوهران جوهر قديم وجوهر محدث ثم زعمتم أن مريم ولدت المسيح فقد أقررتم أن مريم ولدت هذين الجوهرين اللذين هما المسيح وإذا ولدتهما وأحدهما إله فقد ولدت إلها قديما ولا يجوز أن تلد إلا ما كان محمولا فهذا يوجب أنها قد كانت حاملة لذلك الإله
فقد تبين زائف ما تعتقده النسطورية أن مريم لم تحمل إلها ولم تلده وصح ما تعتقده الملكية أن مريم ولدت إلها مسيحا واحدا وابنا واحدا أقنوما واحدا
فيقال له ليس هذا التناقض من النسطورية بأعظم من تناقض الملكية فإنهم مع قولهم باتحاد اللاهوت والناسوت وأنهما شخص واحد يقولون إن أحدهما كان يأكل ويشرب ويصوم ويصلي ويتصرف وأنه أخذ وصفع ووضع الشوك على رأسه وصلب وتألم ومات دون الآخر
فإذا كان قول النسطورية متناقضا فقول الملكية أعظم تناقضا فإذا منعوا أن تحمل المرأة وتلد الناسوت دون اللاهوت لأجل الاتحاد الذي بينهما وجب أن يمنعوا أن يأكل ويشرب ويصلب ويقتل أحدهما
دون الآخر لأجل الاتحاد بطريق الأولى
وكون الصلب والقتل أعظم منافاة للربوبية من حمل مريم به وولادته إياه لا يمنع كون كل ذلك ممتنعا على الله
ومن جوز عقله أن يكون رب العالمين خرج من فرج مريم وهي بكر فقد جعل رب العالمين يخرج من ثقب صغير وهذا أعظم ما يكون من الامتناع
ومن جوز عليه هذا جوز عليه أن يخرج من كل ثقب مثل ذلك الثقب وأكبر منه وجوز أن يخرج رب العالمين من فم كل حيوان وفرجه ومن شقوق الأبواب وغير ذلك من الثقوب
وإن قالوا ذاك مكان طاهر قيل أفواه الأنبياء والصالحين أطهر من كل فرج في العالم فيجوز أن يخرج من فم كل نبي وولي لله ومن أذنه ومن أنفه فإن هذه الخروق والثقوب أفضل من فروج النساء تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فهؤلاء النصارى يقولون إن كون الله مولودا من فرج مريم غير كونه مولودا في الأزل من الأب بل هما ولادتان روحانية وجسمانية
وهم إذا طولبوا بتفهيم ما يقولونه وقيل لهم هذا لا يتصور أن يكون رب العالمين يخرج من ثقب ضيق لا فرج ولا فم ولا أذن ولا غير ذلك من الأثقاب قالوا هذا فوق العقل واعترفوا بأن هذا لا يتصوره العقل
فيقال لهم هذا الكلام لم يقله نبي من الأنبياء ولم ينطق به نبي من الأنبياء بأن مريم حملت برب العالمين وولدته بل ولا نطق
نبي من الأنبياء بأن الله مولود ولا شيء من صفاته مولود لا علمه ولا حياته ولا غير ذلك
ولا نطق نبي من الأنبياء لا المسيح ولا غيره بأن الله اتحد بشيء من المخلوقات
وليس في الإنجيل وغيره مما ينقل عن الأنبياء شيء من ذلك بل غاية ما فيها كلمات مجملة متشابهة كقوله أنا وأبي واحد كما قال الله لمحمد
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
وقوله من يطع الرسول فقد أطاع الله
فإذا قال بعض ملاحدة المسلمين من الشيعة أو المتصوفة
أو غيرهم إن الله اتحد بمحمد لقوله
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
كان هذا من جنس قول النصارى
والآية لم تدل على ذلك بل مبايعة الرسول مبايعة لله لأن الرسول أمر بما أمر الله ونهى عما نهى الله عنه
فليس في كلام الأنبياء أن الله ولا شيئا من صفاته مولود الولادة التي يسمونها ولادة عقلية وروحانية ولا في كتبهم أن شيئا من صفات الله تسمى ابنا لله ولا أن اللاهوت ابن الله فضلا عن أن ينطقوا بأن الله مولود من امرأة ولادة وخرج من فرجها فيكون مولودا ولادة جسمانية
ولهذا لما تنازعت النصارى في ذلك لم يكن لمن ادعاه على من نفاه حجة من نصوص الأنبياء غاية ما عندهم التمسك بألفاظ متشابهة وتغيير ألفاظ صريحة محكمة تبين أن المولود إنما هو بشر
فإذا قالوا في الألفاظ المتشابهة لا نعلم مراد الرسول بها كان هذا مما قد يعذرون به فإن المتشابه من النصوص لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم
فإذا قالوا لسنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله
كانوا شاهدين على أنفسهم بعدم العلم وشهادة الإنسان على نفسه مقبولة
بخلاف القول الذي تكلموا به هم وزعموا أن معناه يدل عليه كلام الأنبياء أو يدل عليه العقل فإن عليهم أن يبينوا معناه الذي عنوه به وعليهم أن يبينوا أنه قد دل على ذلك شرع أو عقل
فإذا قالوا نفس الكلام الذي قلناه لا نتصور معناه كانوا معترفين أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون وهذا حرام عليهم
وإن قالوا إن كلام الأنبياء دل على ذلك كان غاية ما عندهم التمسك بالمتشابه وحينئذ فيطالبون بتفسير المتشابه والجمع بينه وبين المحكم على وجه صحيح معلوم وإلا فإذا قالوا هذا فوق العقل لا نفهمه
قيل لهم فدعوا المتشابه لا تحتجوا به ولا تذكروا له معنى تزعمون أنكم لا تعقلونه
فمتى ثبت عن الأنبياء قول وقال قوم إنا لا نفهمه فإنهم يصدقون على أنفسهم وأما إذا فسروا كلام الأنبياء بقول عبروا به على مراد الأنبياء وقالوا هذا مرادهم مع تعبيرهم عنه بعبارات أخرى طولبوا بأن يبينوا ذلك المعنى وقيل لهم إن فهمتم ما قلتموه فبينوه وإن لم تفهموه فلا تتكلموا بلا علم
قال سعيد بن البطريق أن أئمة الضلالة أعني نسطوريوس وأرطيوس وديسقورس وسورس ويعقوب البرادعي وأشياعهم الذين أرادوا أن يقيم الزيف والمحال ولم يرجعوا إلى خشية الله وزاغوا عن سبيل الحق لسوء رأيهم فقد تورطوا في بحر الضلالة
وهم جميعا فيما ارتطموا فيه من ضلالتهم يضمرون جهلا منهم باتحاد لاهوت سيدنا المسيح بناسوته ويتورط كل واحد منهم في وجه من وجوه الخلطة ويتمسك به
فقد رأيت أن أوضح وجه الخلطة وأبين ذلك لتقف على فساد قولهم إن من عظيم تدبير الله وكمال عدله وجليل رحمته أن بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء وهي التي من جوهره ليست مخلوقة ولكن مولودة منه قبل كل الدهور ولم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط ولا كانت الكلمة برية منه قط ولا من روحه الخالقة ولا من جوهره فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم الثابت الذي لم يزل ولا يزال فالتحمت من مريم العذراء وهي جارية طاهرة
مختارة من نسل داود اصطفاها الله لهذا التدبير من نساء العالمين وطهرها بروح القدس روحه الجوهرية حتى جعلها أهلا لحلول كلمة الله الجوهرية بها فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس خلقا جديدا من غير نطفة آدمية جرت عليها الخطيئة ومن غير مجامعة بشرية ولا انفكاك عذرة تلك الجارية المقدسة فهو إنسان تام بجسده ونفسه الدموية وروحه الكلمانية التي من صورة الله في الإنسان وشبهه فكانت مسكنا لله في حلوله واحتجابه للطفها عن جميع ما لطف من الخلائق كلهم
واعلم أنه لا يرى شيء من لطيف الخلق إلا في غليظ الخلق ولا يرى ما هو لطيف من اللطيف إلا مع ما هو أغلظ منه فيما يظهر لأهل الأثقال من غليظ الخلق
وإنا وجدنا روح الإنسان العاقلة الكلمانية ألطف من لطيف الخلق فلذلك كانت أولى خلق الله بحجاب الله فكانت لها حجابا ولمن هو ألطف منها وكانت النفس الدموية لها حجابا والجسد الغليظ حجابا
فعلى هذا خالطت كلمة الله الخالقة لنفس الإنسان الكاملة بجسدها ودمها وروحه العاقلة الكلمانية وصارت كلمة الله بقوامها قواما لتثليث الناسوت التي كمل جوهرها بتقويم قوام كلمة الله إياها لأنها لم تخلق ولم تك شيئا إلا بقوام من كلمة الله الذي خلقها وكونها
لا من شيء لا سبق قبل ذلك في بطن مريم ولا من شيء كان لها من نطفة ولا من غير ذلك غير قوام الكلمة الخالقة الذي هو أحد التثليث الإلهي فذلك القوام معدود معروف مع الناس لما ضم إليه وخلقه له التحم به من جوهر الإنسان فهو بتوحيد ذلك القوام الواحد قوام لكلمة الله الخالقة واحد في التثليث بجوهر لاهوته واحد في الناس بجوهر ناسوته وليس باثنين ولكن واحد مع الأب والروح وهو إياه واحد مع الناس جميعا بجوهرين مختلفين من جوهر اللاهوت الخالق وجوهر الناسوت المخلوق بتوحيد القوام الواحد قوام الكلمة التي هي الابن المولود من الله قبل الأدهار كلها وهو إياه المولود من مريم العذراء في آخر الزمان من غير مفارقة من الأب ولا من روح القدس
قلت فهذا كلام سعيد بن البطريق الذي قرر به دين النصارى وفيه من الباطل ما يطول وصفه لكن نذكر من ذلك وجوها
الوجه الأول قوله إن من عظيم تدبير الله أن بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء من جوهره ليست مخلوقة ولكن مولودة منه فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم فالتحمت من مريم العذراء
فيقال قد جعلت الكلمة الخالقة وقلت بعد هذا ولا كانت الكلمة برية منه ولا من روحه الخالقة وقلت بعدها
فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس جميعا خلقا جديدا
فيقال لهم أخالق العالم عندكم خالق واحد وهو إله واحد أم للعالم ثلاثة آلهة خالقون
فإن قالوا إن الخالق واحد وهم ثلاثة آلهة خالقون كما أنهم في كثير من كلامهم يصرحون بثلاثة آلهة وثلاثة خالقين ثم يقولون إله واحد وخالق واحد
فيقال هذا تناقض ظاهر فإما هذا وإما هذا
وإذا قلتم الخالق واحد له ثلاث صفات لم ننازعكم في أن الخالق له صفات لكن لا يختص بثلاثة
فإن قالوا بثلاثة آلهة خالقين كما قد كثر منهم في كثير من كلامهم بان كفرهم وعظم شركهم وبان أن شركهم أعظم من كل شرك في العالم فغاية المجوس الثنوية إثبات اثنين نور وظلمة وهؤلاء يثبتون ثلاثة
ثم الأدلة السمعية في التوراة والإنجيل والزبور وسائر كلام الأنبياء مع الأدلة العقلة المبينة لكون الخالق واحدا كثيرة جدا لا يمكن حصرها هنا
وإن قالوا إن الخالق واحد له صفات قيل لهم فهذا مناقض لقولكم إنه بعث كلمته الخالقة وقولكم ولا كانت الكلمة برية منه ولا من روحه الخالقة وقولكم فهبطت الكلمة الخالقة وقولكم فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة الروح فهذا يقتضي أن الكلمة خالقة وأن الروح خالقة وأنها خلقت بمسرة الأب الخالق ومؤازرة الروح الخالقة وهذا الخلق هبط والأب لم يهبط
فإذا كان الخالق واحدا له صفات لم يكن هنا إلا خالق واحد
الوجه الثاني قولكم بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء وقد نطقت الكتب بأن الله يخلق الأشياء بكلامه فيقول لها كن فيكون هكذا في القرآن والتوراة وغيرهما
لكن الخالق هو الله تعالى يخلق بكلامه ليس كلامة خالقا
ولا يقول أحد قط إن كلام الله خلق السماوات والأرض
والتوراة كلام الله والإنجيل كلام الله ولا يقل أحد إن شيئا من ذلك خلق السماوات والأرض ولا يقول أحدا يا كلام الله اغفر لي وارحمني
فقول هؤلاء إن كلمته هي الخالقة وإنه خلق بها كلام متناقض
فإنها إن كانت هي الخالقة لم تكن هي المخلوق به فالمخلوق به ليس هو الخالق
الوجه الثالث أن يقال قولكم كلمة الله الخالقة أهي
كلام الله كله أم هي بعض كلام الله أم هي المعنى القائم بالذات القديم الأزلي الذي يثبته ابن كلاب أم حروف وأصوات قديمة أزلية كما يقوله بعض الناس أم هي الذات المتكلمة
فإن كانت هي الذات المتكلمة فهي الأب والرب وتكون هي الموصوفة بالحياة فلا يكون هناك كلام مولود ولا كلمة أرسلت ولا غير ذلك مما ذكره وهذا خلاف قولهم كلهم فإن الكلمة المتحدة بالمسيح ليست هي الأب عندهم
وإن قالوا بل هي كلام الله كله
قيل لهم فيكون المسيح هو التوراة والإنجيل والقرآن وسائر كلام الله وهذا لا يقولونه ولم يقله أحد ولا يقوله عاقل
وإن قالوا إنها هي المعنى الواحد القديم الأزلي أو الحروف والأصوات القديمة الأزلية
قيل لهم هذان القولان وإن كانا باطلين فإن قلتم بهما لزمكم أن يكون المسيح هو كلام الله كله فإن هذين عند من يقول بهما هما جميع كلام الله
والتوراة والإنجيل وسائر كلام الله عبارة عن ذلك المعنى القائم بذات الله وهو الحروف والأصوات القديمة القائمة بالذات عند من يقول بهذين