كتاب : الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
كلام مستدرك فإن الله موصوف بصفات الكمال الثبوتية كالحياة والعلم والقدرة فيلزم من ثبوتها سلب صفات النقص وهو سبحانه لا يمدح بالصفات السلبية إلا لتضمنها المعاني الثبوتية فإن العدم المحض والسلب الصرف لا مدح فيه ولا كمال إذ كان المعدوم يوصف بالعدم المحض والعدم نفي محض لا كمال فيه إنما الكمال في الوجود
ولهذا جاء كتاب الله تعالى على هذا الوجه فيصف سبحانه نفسه بالصفات الثبوتية صفات الكمال وبصفات السلب المتضمنة للثبوت كقوله
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم
فنفى أخذ السنة والنوم يتضمن كمال حياته وقيوميته إذ النوم أخو الموت ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون مع كمال الراحة كما لا يموتون
والقيوم القائم المقيم لما سواه فلو جعلت له سنة أو نوم لنقصت حياته وقيوميته فلم يكن قائما ولا قيوما كما ضرب الله المثل لبني إسرائيل لما سألوا موسى هل ينام ربك فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قوارير فأخذه النوم فتكسرت
بين بهذا المثل أن خالق العالم لو نام لنفد العالم ثم قال تعالى
له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
فإنكاره ونفيه أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه يتضمن كمال ملكه لما في السماوات وما في الأرض وأنه ليس له شريك فإن من شفع عنده غيره بغير إذنه وقبل شفاعته كان مشاركا له إذ صارت شفاعته سببا لتحريك المشفوع إليه بخلاف من لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فإنه منفرد بالملك ليس له شريك بوجه من الوجوه
ثم قال تعالى
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء
فنفى أن يعلم أحد شيئا من علمه إلا بمشيئته ليس إلا أنه منفرد بالتعليم فهو العالم بالمعلومات ولايعلم أحد شيئا إلا بتعليمه كما قالت الملائكة
لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم
ثم قال تعالى
وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما
أي لا يكرثه ولا يثقل عليه فبين بذلك كمال قدرته وأنه لا يلحقه أدنى مشقة ولا أيسر كلفة في حفظ المخلوقات كما قال تعالى في الآية الأخرى
ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب
بين بذلك كمال قدرته وأنه لا يلحقه اللغوب في الأعمال العظيمة مثل خلقه السماوات والأرض كما يلحق المخلوق اللغوب إذا عمل عملا عظيما واللغوب الإنقطاع والإعياء وهذا باب واسع مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أنه موصوف بصفات الكمال التي يستحقها بذاته ويمتنع اتصافه بنقائضها وإذا وصف بالسلوب فالمقصود هو إثبات الكمال وهؤلاء قالوا قد وصفناه بالحياة لننفي عنه الموت كما قالوا هو شيء لننفي العدم عنه والحياة صفة كمال يستحقها بذاته والموت مناقض لها فلم يوصف بالحياة لأجل نفي الموت بل وصفه بالحياة يستلزم نفي الموت فينفي عنه الموت لأنه حي لا يثبت له الحياة لنفي الموت وكذلك لتثبت له أنه شيء موجود وذلك يستلزم نفي العدم عنه لا أن إثبات وجوده لأجل نفي العدم بل نفي العدم عنه
لأجل وجوده كما أن نفي الموت عنه لأجل حياته وكذلك قولهم قلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة وذلك لننفي العدم عنه لكن كان مرادهم والله أعلم وإن كانت عبارتهم قاصرة إثبات الوجود ونفي العدم وإثبات الحياة ونفي الموت
فصل
ثم قالوا ورأينا الحي ينقسم قسمين حيا ناطقا وحيا غير ناطق فوصفناه بأفضل الوصفين فقلنا إنه ناطق لننفي الجهل عنه
فيقال لهم لا ريب أن الرب سبحانه موصوف بأنه حي عليم قدير متكلم مختار لكن قولهم فقلنا إنه ناطق لننفي الجهل عنه يقتضي أنكم أردتم النطق المناقض للجهل وهذا هو العلم فإن العلم يناقض الجهل لم تريدوا بذلك النطق الذي هو العبارة والبيان ولم تريدوا بذلك ما جعله بعض النظار كلاما وهي معاني قائمة بالنفس ليست من جنس العلوم ولا من جنس الإرادات وحينئذ فيقال لكم ليس في الأحياء إلا ما هو شاعر فكل حي فله شعور بحسبه
وكلما قويت الحياة قوي شعورها وشعور الحيوان قد يعبر عنه بلفظ العلم كما يقول الناس علم الفهد والبازي والكلب ويقال كلب معلم وغير معلم وغير معلم وبازي معلم
وقال تعالى
وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله
وقال النبي
إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فقتل فكل ولا ريب أن العلم صفة كمال فالعالم أكمل من الجاهل والدلائل الدالة على علم الله كثيرة مثل أنه سبحانه خالق كل شيء بإرادته
والإرادة تستلزم تصور المراد فلا بد أن يعلم المخلوقات قبل أن يخلقها
وكلما وجد في الخارج فهو موجود وجودا معينا يمتاز به عن غيره فإذا خلقها كذلك فلا بد أن يعلمها علما مفصلا يمتاز به كل معلوم عما سواه ولو قدر أنه علمها على وجه كلي فقط لم يكن علم منها شيئا
لأن الكلي إنما يكون كليا في الأذهان وأما ما هو موجود في الخارج فهو معين مختص بعينه ليس بكلي
وكل واحد من الأفلاك معين فلو لم يعلم إلا الكليات لم يكن عالما بشيء من الموجودات وقد بسط في غير هذا الموضع تمام الكلام على هذا وبين فساد شبه نفاة ذلك بما ادعوه من لزوم التغيير أو التكثر وبين أنه لا يلزم من ثبوت علم الله بالأشياء كلها على وجه التفصيل محذور ينفيه دليل صحيح
فإن التكثر فيما يقوم به من المعاني هو مدلول الأدلة العقلية والسمعية فإنه عالم قادر حي وليس العلم هو القدرة ولا القدرة هي الحياة ولا الصفة هي الموصوف ومن جعل كل صفة هي الأخرى وجعل الصفات هو الموصوف فهو قول في غاية السفسطة
وأيضا فإنه خالق العالمين من الملائكة والجن والإنس وجاعلهم علماء فيمتنع أن يجعل غيره عالما من ليس هو في نفسه بعالم فإن العلم صفة كمال ومن يعلم أكمل ممن لا يعلم وكل كمال للمخلوق فهو من الخالق فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق وأيضا فإن في الممكنات المحدثة المخلوقة ما هو عالم والواجب القديم الخالق أكمل من الممكن المحدث فيمتنع أن يتصف بالكمال الموجود
الناقص الخسيس دون الموجود الكامل الشريف وهذا يتناول معنى حجتهم
وأيضا فإنه حي والحياة مستلزمة لجنس العلم وإذا كانت حياته أكمل من كل حياة فعلمه أكمل من كل علم لكن يقال لكم كما أنه حي عالم فهو أيضا قادر فما ذكرتم بأن الموجودات أو الأحياء تنقسم إلى قادر وغير قادر فيجب أن يوصف بأجل القسمين وهو القدرة
لا سيما ودلائل كونه قادرا أظهر من دلائل كونه عالما فإن نفس كونه خالقا فاعلا يستلزم كونه قادرا فإن الفعل بدون القدرة ممتنع حتى إذا قيل إن الجماد يفعل فإنما يفعل بقوة فيه كالقوى الطبيعية التي في الأجسام الطبيعية فيمتنع في خالق العالم أن لا يكون له قوة ولا قدرة قال تعالى
إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين
وقال تعالى
أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة
وفي صحيح البخاري حديث الاستخارة
اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب
وكثير من نظار المسلمين المصنفين في أصول الدين الذين يقيمون الدليل على كونه قادرا قبل كونه عالما وحيا ويقولون العلم بذلك أسبق في السلوك الاستدلالي النظري لدلالة الأحداث والفعل على قدرة المحدث الفاعل فيجب أن يثبتوا له صفة القدرة مع العلم
وكذلك يقولون إن الحي لما كان ينقسم إلى سميع وغير سميع وبصير وغير بصير وصفناه بأشرف القسمين وهو السميع والبصير
وكذلك في النطق إذا أريد به البيان والعبارة ولم يرد به مجرد العلم أو معنى من جنس العلم فإن الحي ينقسم إلى متكلم ومبين معبر عما في نفسه وإلى ما ليس كذلك فيجب أن تصفوه بأشرف القسمين وهو الكلام المبين المعبر عنه عما في النفس من المعاني
ومما يستدل به على ثبوت جميع صفات الكمال أنه لو لم يوصف بكونه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما لوصف بضد ذلك كالموت والجهل والعجز والصمم والبكم والخرس ومعلوم وجوب تقدسه عن هذه النقائص بل هذا معلوم بالضرورة العقلية فإنه أكمل الموجودات وأجلها وأعظمها ورب كل ما سواه وخالقه ومالكه وجاعل كل ما سواه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما فيمتنع أن يكون هو شيئا عاجزا جاهلا أصم أبكم أخرس بل من المعلوم بضرورة العقل أن المتصف بهذه النقائص يمتنع أن يكون فاعلا فضلا عن أن يكون خالقا لكل شيء
ولبعض الملاحدة من المتفلسفة ومن اتبعهم هنا سؤال مشهور وهو أنه إنما يلزم إذا لم يتصف بصفات الكمال أن يوصف بأضدادها إذا كان قابلا لها فأما إذا لم يكن قابلا لها لم يلزم
قالوا هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة وهو عدم الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له كعدم الحياة والسمع والبصر
والكلام عن الحيوان الذي هو القابل له فإذا لم يكن قابلا له كالجماد فلا يسمى مع عدم الحياة والسمع والبصر والكلام ميتا ولا أصم ولا أعمى ولا أخرس
وجواب ذلك من أوجه
أحدها أنه إما أن يكون قابلا للاتصاف بصفات الكمال وإما أن لايكون
فإن لم يكن قابلا لزم أن يكون أنقص ممن قبلها ولم يتصف
بها فالجماد أنقص من الحيوان الذي لم يتصف بعد بصفات كماله وإن كان قابلا لها لزم إذا عدمها أن يتصف بأضدادها
وهؤلاء قد يقولون في إثباتها تشبيه له بالحيوان فيقال لهم وفي نفيها تشبيه له بالجماد الذي هو أنقص من الحيوان فإذا لم يكن في نفيها تشبيه له بالجماد فكذلك لا يكون في إثباتها تشبيه له بالحيوان وإن كان في ذلك تشبيه بالحيوان فهو محذور فالمحذور في تشبيهه بالجماد أعظم وإن لم يكن مثل هذا التشبيه محذورا في ذلك فأن لا يكون محذورا في هذا بطريق الأولى
الوجه الثاني أن جعلهم سلب الموت والصمم والبكم عن الجماد لزعمهم أنه غير قابل لها إصطلاح محض فإنه موجود في كلام الله تسمية الجماد ميتا كما قال تعالى في الأصنام
أموات غير أحياء
الوجه الثالث أنه يكفي عدم هذه الصفات فإن مجرد عدم الحياة والعلم والقدرة صفة نقص سواء قدر الموصوف قابلا لها أو غير قابل بل إذا قدر أنه غير قابل لها كان ذلك أبلغ في النقص
فعلم أن نفي هذه الصفات عنه ونفي قبولها يوجب أن يكون أنقص من الحيوان الأعمى الأصم الذي يقبلها وإن لم يتصف بها
الوجه الرابع أن الكمال في الوجود والنقص في العدم فنفس
ثبوت هذه الصفات كمال ونفس نفيها نقص وإن لم يتصف بها لزم نقصه وأن يكون المفعول أكمل من الفاعل وأن يكون المحدث الممكن المخلوق أكمل من القديم الأزلي الواجب الوجود الخالق وهذا ممتنع في بداية العقول وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا عليها هنا لبيان بعض الطرق التي بها تعرف صفات الرب وبيان أن هؤلاء القوم من أجهل أهل الملل بالرب
والطرق التي يعرف بها كماله فيها العقلية والسمعية وأن القوم عندهم من ألفاظ الأنبياء ما لم يفهموا كثيرا منه وما حرفوا كثيرا منه وعندهم من المعقول في ذلك ما يفضلهم اليهود فيه لكن اليهود وإن كانوا أعلم منهم فهم أعظم عنادا وكبرا وجحدا للحق والنصارى أجهل وأضل من اليهود لكن هم أعبد وأزهد وأحسن أخلاقا ولهذا كانوا أقرب مودة للذين آمنوا من اليهود والمشركين
فصل
قالوا والثلاثة أسماء فهي إله واحد ورب واحد وخالق واحد مسمى واحد لم يزل ولا يزال شيئا حيا ناطقا أي الذات والنطق والحياةفالذات عندنا الأب الذي هو ابتداء الاثنين
والنطق الابن الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل
والحياة هي الروح القدس
والجواب عن هذا من وجوه
الأول أن أسماء الله تبارك وتعالى متعددة كثيرة فإنه
سورة الحشر الآيات 22 24
وقال تعالى
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون
وقال تعالى
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى
وقال تعالى
سورة طه الآيات 1 8
وفي الصحيحين عن النبي أنه قال
إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة
وهذا معناه في أشهر قولي العلماء وأصحهما أن من أسمائه تعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة وإلا فأسماؤه تبارك وتعالى أكثر من ذلك كما في الحديث الآخر الذي رواه أحمد في مسنده وأبو حاتم في صحيحه عن ابن مسعود عن النبي أنه قال
ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن وقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدل مكانه فرحا قالوا يا رسول الله أفلا نتعلمهن قال بلى
ينبغي لمن
سمعهن أن يتعلمهن
وإذا كانت أسماء الله كثيرة كالعزيز والقدير وغيرها فالاقتصار على ثلاثة أسماء دون غيرها باطل وأي شيء زعم الزاعم في اختصاص هذه الأسماء به دون غيرها فهو باطل كما قد بسط في موضع آخر
الوجه الثاني قولهم الأب الذي هو ابتداء الاثنين والابن النطق الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل كلام باطل فإن صفات الكمال لازمة لذات الرب عز و جل أولا وآخرا ولم يزل ولا يزال حيا عالما قادرا لم يصر حيا بعد أن لم يكن حيا ولا عالما بعد أن لم يكن عالما
فإذا قالوا إن الأب الذي هو الذات هو ابتداء الحياة والنطق اقتضى ذلك أن يكون الأب قبل الحياة والنطق وأن يكون فاعلا للحياة والنطق فإن ما كان ابتداء لغيره يكون متقدما عليه أو فاعلا له
وهذا في حق الله باطل
وكذلك قولهم إن النطق مولود منه كولادة النطق من العقل فإن المولود من غيره متولد منه فيحدث بعد أن لم يكن كما يحدث النطق
شيئا فشيئا سواء أريد بالنطق العلم أو البيان فكلاهما لم يكن لازما للنفس الناطقة بل حدث فيها واتصفت به بعد أن لم يكن وإن كانت قابلة له ناطقة بالقوة فإذا مثلوا تولد النطق من الرب كتولده عن العقل لزم أن يكون الرب كان ناطقا بالقوة ثم صار ناطقا بالفعل فيلزم أنه صار عالما بعد أن لم يكن عالما وهذا من أعظم الكفر وأشده استحالة فإنه لا شيء غيره يجعله متصفا بصفات الكمال بعد أن لم يكن متصفا بها إذ كل ما سواه فهو مخلوق له وكماله منه فيمتنع أن يكون هو جاعل الرب سبحانه وتعالى كاملا
وذلك دور ممتنع في صريح العقل إذ كان الشيء لا يجعل غيره متصفا بصفات الكمال حتى يكون هو متصفا بها فإذا لم يتصف بها حتى جعله غيره متصفا بها لزم الدور الممتنع مثل كون كل من الشيئين فاعلا للآخر وعلة له أو لبعض صفاته المشروطة في الفعل فتبين بطلان كون نطقه متولدا منه كتولد النطق من العقل كما بطل أن يكون لصفاته اللازمة له ما هو مبدأ لها متقدم عليها أو فاعل لها
الوجه الثالث أن قولهم في الابن أنه مولود من الله إن أرادوا به أنه صفة لازمة له فكذلك الحياة صفة لازمة لله فيكون روح القدس
أيضا ابنا ثانيا وإن أرادوا به أنه حصل منه بعد أن لم يكن صار عالما بعد أن لم يكن عالما وهذا مع كونه باطلا وكفرا فيلزم مثله في الحياة وهو أنه صار حيا بعد أن لم يكن حيا
الوجه الرابع أن تسمية حياة الله روح القدس أمر لم ينطق به شيء من كتب الله المنزلة فإطلاق روح القدس على حياة الله من تبديلهم وتحريفهم
الوجه الخامس أنهم يدعون أن المتحد بالمسيح هو الكلمة الذي هو العلم وهذا إن أرادوا به نفس الذات العالمة الناطقة كان المسيح هو الأب وكان المسيح نفسه هو الأب وهو الابن وهو روح القدس وهذا عندهم وعند جميع الناس باطل وكفر
وإن قالوا المتحد به هو العلم فالعلم صفة لا تفارق العالم ولا تفارق الصفة الأخرى التي هي حياة فيمتنع أن يتحد به العلم دون الذات ودون الحياة
الوجه السادس أن العلم أيضا صفة والصفة لا تخلق ولا ترزق والمسيح نفسه ليس هو صفة قائمة بغيرها باتفاق العقلاء وأيضا فهو عندهم خالق السماوات والأرض فامتنع أن يكون المتحد به صفة فإن الإله المعبود هو الإله الحي العالم القادر وليس هو نفس الحياة ولا نفس العلم والكلام
فلو قال قائل يا حياة الله أو يا علم الله أو يا كلام الله اغفر
لي وارحمني واهدني كان هذا باطلا في صريح العقل ولهذا لم يجوز أحد من أهل الملل أن يقال للتوراة أو الإنجيل وغير ذلك من كلام الله اغفر لي وارحمني وإنما يقال للإله المتكلم بهذا الكلام اغفر لي وارحمني
والمسيح عليه السلام عندكم هو الإله الخالق الذي يقال له اغفر لنا وارحمنا فلو كان هو نفس علم الله وكلامه لم يجز أن يكون إلها معبودا فكيف إذا لم يكن هو نفس علم الله وكلامه بل هو مخلوق بكلامه حيث قال له كن فيكون
فتبين من ذلك أن كلمات الله كثيرة لا نهاية لها وفي الكتب الإلهية كالتوراة أنه خلق الأشياء بكلامه وكان في اول التوراة أنه قال ليكن كذا ليكن كذا
ومعلوم أن المسيح ليس هو كلمات كثيرة بل غايته أن يكون كلمة واحدة إذ هو مخلوق بكلمة من كلمات الله عز و جل
الوجه السابع أن أمانتكم التي وضعها أكابركم بحضرة قسطنطين وهي عقيدة إيمانكم التي جعلتموها أصل دينكم تناقض ما تدعونه من أن الإله واحد وتبين أنكم تقولون لمن يناظركم خلاف ما تعتقدونه
وهذان أمران معروفان في دينكم تناقضكم وإظهاركم في المناظرة
بخلاف ما تقولونه من أصل دينكم فإن الأمانة التي اتفق عليها جماهير النصارى يقولون فيها من أو بإله واحد أب ضابط الكل خالق السماوات والأرض كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من جوهر أبيه مولود غير مخلوق مساو للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء وتأنس وصلب وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب المقدسة وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب وأيضا سيأتي بجده بمجده ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه وبروح القد الرب المحيي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب والابن المسجود له وممجد ناطق في الأنبياء كنيسة واحدة جامعة رسولية واعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وابن جاء لقيامة الموتى وحياة الدهر العتيد كونه أمين
ففي هذه الأمانة التي جعلتموها أصل دينكم ذكر الإيمان بثلاثة أشياء بإله واحد خالق السماوات والأرض خالق ما يرى وما لا يرى فهذا هو رب العالمين الذي لا إله غيره ولا رب سواه وهو إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسائر الأنبياء والمرسلين وهو الذي دعت جميع الرسل إلى عبادته وحده لا شريك له ونهوا أن يعبد غيره كما قال الله تعالى
وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون
وقال تعالى
وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا اجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون
ثم قلتم وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من
الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من جوهر أبيه مولود غير مخلوق مساو الأب في الجوهر فصرحتم بالإيمان مع خالق السماوات والأرض برب واحد مخلوق مساو الأب ابن الله الوحيد وقلتم هو إله حق من إله حق من جوهر أبيه
وهذا تصريح بالإيمان بإلهين أحدهما من الآخر وعلم الله القائم به أو كلامه أو حكمته القائمة به الذي سميتوه ابنا ولم يسم أحد من الرسل صفة الله ابنا ليس هو إله حق من إله حق بل إله واحد وهذا صفة الإله وصفة الإله ليست بإله كما أن قدرته وسمعه وبصره وسائر صفاته ليس بآلهة ولأن الإله واحد وصفاته متعددة والإله ذات متصفة بالصفات قائمة بنفسها والصفة قائمة بالموصوف ولأنكم سميتم الإله جوهرا وقلتم هو القائم بنفسه والصفة ليست جوهرا قائما بنفسه
وهم في هذه الأمانة قد جعلوا الله والدا وهو الأب ومولدا وهو الابن وجعلوه مساويا له في الجوهر وقد نزه الله نفسه عن الأنواع الثلاثة فقالوا مولود غير مخلوق مساو الأب في الجوهر فصرحوا بأنه مساو له في الجوهر والمساوي ليس هو المساوي
ولا يساوي الأب في الجوهر إلا جوهر فوجب أن يكون الابن جوهرا ثانيا وروح القدس جوهرا ثالثا كما سيأتي
وهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر وثلاثة آلهة ويقولون مع ذلك إنما نثبت جوهرا واحدا وإلها واحدا وهذا جمع بين النقيضين
فهو حقيقة قولهم يجمعون بين جعل الآلهة واحدا وإثبات ثلاثة آلهة وبين إثبات جوهر واحد وبين إثباته ثلاثة جواهر وقد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله
قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد
فنزه نفسه أن يلد كما يقولون هو الأب وأن يولد كما يقولون هو الابن وأن يكون له كفوا أحد كما يقولون إن له من يساويه في الجوهر
وإذا قلتم نحن نقول أحدي الذات ثلاثي الصفات قيل لكم قد صرحتم بإثبات إله حق من إله حق وبأنه مساو للأب في الجوهر وهذا تصريح بإثبات جوهر ثاني لا بصفة فجمعتم بين القولين بين إثبات ثلاثة جواهر وبين دعوى إثبات جوهر واحد ولا ينجيكم من هذا اعتذار من اعتذر منكم كيحيى بن عدي ونحوه حيث قالوا هذا بمنزلة قولك زيد الطبيب الحاسب الكاتب ثم تقول زيد الطبيب وزيد الحاسب وزيد الكاتب
فهو مع كل صفة له حكم خلاف حكمه مع الصفة الأخرى وقد يفسرون الأقنوم بهذا فيقولون الأقنوم هو الذات مع الصفة فالذات مع
كل صفة أقنوم فصارت الأقانيم ثلاثة لأن هذا المثال لا يطابق قولكم فإن زيدا هنا هو جوهر واحد له ثلاث صفات الطب والحساب والكتابة وليس هنا ثلاثة جواهر ولكن لكل صفة حكم ليس للأخرى
ولا يقول عاقل إن الصفة مساوية للموصوف في الجوهر ولا أن الذات مع هذه الصفة تساوي الذات مع الصفة الأخرى في الجوهر لأن الذات واحدة والمساوي ليس هو المساوي ولأن الذات مع الصفة هي الأب فإن كان هذا هو الذي اتحد بالمسيح فالمتحد به هو الأب ولأنكم قلتم عن هذا الذي قلتم إنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي هو مساو الأب في الجوهر وأنه نزل وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء وتأنس وصلب وتألم فاقتضى ذلك أن يكون الإله الحق المساوي للأب في الجوهر صلب وتألم فيكون اللاهوت مصلوبا متألما وهذا تقر به طوائف منكم وطوائف تنكره لكن مقتضى أمانتكم هو الأول
وأيضا فإذا كان تجسد من روح القدس ومريم فإن كان روح القدس هو حياة الله كما زعمتم فيكون المسيح كلمة الله وحياته فيكون لاهوته أقنومين من الأقانيم الثلاثة وعندهم إنما هو أقنوم الكلمة
فقط وإن كان روح القدس ليس هو حياة الله بطل تفسيركم لروح القدس بأنه حياة الله
وقيل لكم لا يجب أن يكون روح القدس صفة لله ولا أقنوما
ثم ذكرتم في عقيدة أمانتكم أنكم تؤمنون بروح القدس الرب المحيي فأثبتم ربا ثالثا قلتم المنبثق من الأب والانبثاق الانفجار كالاندفاق والانصباب ونحو ذلك يقال بثق السيل موضع كذا يبثقه بثقا أي خرقه وشقه فانبثق أي انفجر فاقتضى ذلك أن يكون هذا الرب المحيي انفجر من الأب واندفق منه
ثم قلتم هو مع الأب مسجود له وممجد ناطق في الأنبياء فجعلتموه مع الأب مسجودا له فأثبتم إلها ثالثا يسجد له
ومعلوم أن حياة الله التي هي صفته ليست منبثقة منه بل هي قائمة به لا تخرج عنه ألبتة وهي صفة لازمة له لا تتعلق بغيره فإن العلم يتعلق بالمعلومات والقدرة بالمقدورات والتكليم بالمخاطبين بخلاف التكلم فإنه صفة لازمة يقال علم الله كذا وقدر الله على كل شيء وكلم الله موسى
وأما الحياة فاللفظ الدال عليها لازم لا يتعلق بغير الحي يقال
حيا يحيا حياة ولا يقال حيا كذا ولا بكذا وإنما يقال أحيا كذا والإحياء فعل غير كونه حيا كما أن التعليم غير العلم والأقدار غير القدرة والتكليم غير المتكلم ثم جعلتم روح القدس هذا ناطقا في الأنبياء عليهم السلام وحياة الله صفة قائمة به لا تحل في غيره وروح القدس الذي تكون في الأنبياء والصالحين ليس هو حياة الله القائمة به ولو كان روح القدس الذي في الأنبياء هو أحد الأقانيم الثلاثة لكان كل من الأنبياء إلها معبودا قد اتحد ناسوته باللاهوت كالمسيح عندكم فإن المسيح لما اتحد به أحد الأقانيم صار ناسوتا ولاهوتا فإذا كان روح القدس الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة ناطقا في الأنبياء كان كل منهم فيه لاهوت وناسوت كالمسيح وأنتم لا تقرون بالحلول والاتحاد إلا للمسيح وحده مع إثباتكم لغيره ما ثبت له
وهم تارة يشبهون الأقنومين العلم والحياة التي يسمونها الكلمة وروح القدس بالضياء والحرارة التي للشمس مع الشمس ويشبهون ذلك بالحياة والنطق الذي للنفس مع النفس وهذا تشبيه فاسد فإنهم إن أرادوا بالضياء والحرارة ما يقوم بذات الشمس فذلك صفة للشمس قائمة بها لم تحل بغيرها ولم تتحد بغيرها كما أن صفة النفس كذلك هذا إن قيل إن الشمس تقوم به حرارة وإلا فهذا ممنوع
والمقصود هنا بيان فساد كلامهم وقياسهم
وإن أرادوا ما هو بائن عن الشمس قائم بغيرها كالشعاع القائم بالهواء والأرض والحرارة القائمة بذلك كان هذا دليلا على فساد قولهم من وجوه
منها أن هذه أعراض منفصلة بائنة عن الشمس قائمة بغيرها لا بها ونظير هذا ما يقوم بقلوب الأنبياء من العلم والحكمة والوحي الذي أنذروا به وعلى هذا التقدير فليس في الناسوت شيئا من اللاهوت وإنما فيه آثار حكمته وقدرته
ومنها أن الحرارة والضوء القائم بالهواء والجدران أعراض قائمة بغير الشمس والكلمة وروح القدس عندهم هما جوهران
ومنها أن هذا ليس هو الشمس ولا صفة من صفات الشمس وإنما هو أثر حاصل في غير الشمس بسبب الشمس ومثل هذا لا ينكر قيامه بالأنبياء والصالحين ولكن ليس للمسيح عليه السلام بذلك اختصاص فما حل بالمسيح حل بغيره من المرسلين وما لم يحل بغيره لم يحل به فلا اختصاص له بأمر يوجب أن يكون إلها دون غيره من الرسل ولا هنا اتحاد بين اللاهوت والناسوت كما لم تتحد الشمس ولا صفاتها القائمة بها بالهواء والأرض التي حصل بها الشعاع والحرارة
فصل
قالوا وهذه الأسماء لم نسمه نحن معشر النصارى بها من ذات أنفسنا بل الله سمى لاهوته بها وذلك أنه قال على لسان موسى النبي في التوراة مخاطبا بني إسرائيل قائلا أليس هذا الأب الذي صنعك وبراك واقتناك وعلى لسانه أيضا قائلا وكان روح الله ترف على الماء وقوله على لسان داود النبي روحك القدس لا تنزع مني وأيضا على لسانه بكلمة الله تشددت السماوات والأرض وبروح فاه جميع قواتهن
وقوله على لسان أشعيا ييبس القتاد ويجف العشب وكلمة الله
باقية إلى الأبد وعلى لسان أيوب الصديق روح الله خلقني وهو يعلمني
وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس للتلاميذ الأطهار اذهبوا إلى جميع العالم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به وقد قال في هذا الكتاب
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين
وقال أيضا
يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس
وقال أيضا
وكلم الله موسى تكليما
وقال في سورة التحريم
ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين
وسائر المسلمين يقولون إن الكتاب كلام الله ولا يكون كلام إلا لحي ناطق وهذه صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء وكل صفة منها غير الأخرى والإله واحد لا يتبعض ولا يتجزأ
والجواب من وجوه
أحدها أن تقول إن كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يكون إلا حقا وصدقا ولا يكون فيه شيء يعلم بطلانه بصريح العقل وإن كان فيه ما يعجز العقل عن معرفته بدون إخبار الأنبياء ولا يكون كلام النبي الذي يخبر به مناقضا لكلامه في موضع آخر ولا لكلام سائر الأنبياء بل كل ما أخبرت به الأنبياء فهو حق وصدق يصدق بعضه بعضا
وقد أوجب الله علينا أن نؤمن بكل ما أخبروا به وحكم بكفر من آمن ببعض ذلك وكفر ببعضه فما علم بصريح العقل لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن الأنبياء وما علم بالنقل الصحيح عن بعضهم لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن غيره ولكن قد يختلف بعض الشرع والمناهج في الأمر والنهي
فأما ما يخبرون به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
وغير ذلك فلا يجوز أن يناقض بعضه بعضا
وإذا كان كذلك فما ينقلونه عن الأنبياء إنما تتم الحجة به إذ علم إسناده ومتنه فيعلم أنه منقول عنهم نقلا صحيحا ونعلم أن ترجمته من العبرية إلى اللسان الآخر كالرومية والعربية والسريانية ترجمة صحيحة ويعلم بعد ذلك أنهم أرادوا به ذلك المعنى
وليس مع النصارى حجة عن الأنبياء تثبت فيها هذه المقدمات الثلاث ونحن في هذا المقام يكفينا المنع والمطالبة لهم بتصحيح هذه المقدمات فإنهم ادعوا أن التثليث أخذوه عن الأنبياء فنحن نطالبهم بتصحيح هذه المقدمات
والجواب الثاني أنا نبين تفسير ما ذكروه من الكلمات أما قوله على لسان موسى عليه السلام مخاطبا بني إسرائيل قائلا أليس الأب الذي صنعك وبراك واقتناك فهذا فيه أنه سماه أبا لغير المسيح عليه السلام وهذا نظير قوله لإسرائيل أنت ابني بكري وداود ابني حبيبي وقول المسيح أبي وأبيكم وهم يسلمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب لا معنى التولد الذي يخصون به المسيح
الثالث أن هذا حجة عليهم فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته أبا لغير المسيح وليس المراد بذلك إلا معنى الرب علم أن هذا اللفظ في لغة الكتب يراد به الرب فيجب حمله في حق المسيح على
هذا المعنى لأن الأصل عدم الاشتراك في الكلام
الرابع أن استعماله في المعنى الذي خصوا به المسيح إنما يثبت إذا علم أنه أريد المعنى الذي ادعوه في المسيح فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب لزم الدور فإنه لا يعلم أنه أريد به ذلك المعنى من حيث يثبت أنه كان يراد به في حق الله هذا المعنى ولا يثبت ذلك حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر لم يعلم واحد منهما فتبين أنه لا علم عندهم بأنه أريد في حق المسيح بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع
الوجه الخامس أنه لايوجد في كتب الأنبياء وكلامهم إطلاق اسم الأب والمراد به أب اللاهوت ولا إطلاق اسم الابن والمراد به شيء من اللاهوت لا كلمته ولا حياته بل لا يوجد لفظ الابن إلا والمراد به المخلوق فلا يكون لفظ الابن إلا لابن مخلوق
وحينئذ فيلزم من ذلك أن يكون مسمى الابن في حق المسيح هو الناسوت وهذا يبطل قولهم إن الابن وروح القدس أنهما صفتان لله وأن المسيح اسم للاهوت والناسوت فتبين أن نصوص كتب الأنبياء تبطل مذهب النصارى وتناقض أمانتهم فهم بين أمرين
بين الإيمان بكلام الأنبياء وبطلان دينهم
وبين تصحيح دينهم وتكذيب الأنبياء وهذا هو المطلوب
فصل
قالوا وعلى لسانه أيضا قائلا وكان روح الله ترف على الماءفيقال هذا في السفر الأول سفر الخليقة في أوله لما ذكر أنه في البدء خلق السماوات والأرض وأنه كانت الأرض مغمورة بالماء وكانت روح الله ترف على الماء أخبر أنه كان الماء فوق التراب والهواء فوق الماء وروح الله هي الريح التي كانت فوق الماء
هذا تفسير جميع الأمم من المسلمين واليهود وعقلاء النصارى ولفظ الكلمة بالعبرية روح بضم الراء وتشديد الواو وهي الروح والريح تسمى روحا وجمعها أرواح ولم يرد بذلك أن حياة الله كانت ترف على الماء
فإن هذا لا يقوله عاقل فإن حياة الله صفة قائمة به لا تفارقه ولا تقوم بغيره فيمتنع أن تقوم بماء أو غيره فضلا عن أن ترف على الماء والذي يرف على الماء جسم قائم بنفسه وهذا إخبار عن الريح التي كانت تتحرك فوق الماء
ومثل هذا قول النبي
لا تسبوا الريح
فإنها من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فلا تسبوها ولكن تعوذوا بالله من شرها وسلوا الله خيرها وقوله
إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن
فصل
قالوا وقوله على لسان داود روحك القدس لا تنزع مني
فيقال هذا دليل على أن روح القدس كانت في داود فعلم بذلك أن روح القدس التي كانت في المسيح من هذا الجنس فعل بذلك أن روح القدس لا تختص بالمسيح وهم يسلمون ذلك فإن ما في الكتب التي بأيديهم في غير موضع أن روح القدس حلت في غير المسيح في داود وفي الحواريين وفي غيرهم
وحينئذ فإن كان روح القدس هو حياة الله ومن حلت فيه يكون لاهوتا لزم أن يكون إلها ولزم أن يكون كل هؤلاء فيهم لاهوت وناسوت كالمسيح وهذا خلاف إجماع المسلمين والنصارى واليهود
ويلزم من ذلك أيضا أن يكون المسيح فيه لاهوتان الكلمة وروح القدس فيكون المسيح مع الناسوت أقنومين أقنوم الكلمة وأقنوم روح القدس وأيضا فإن هذه ليست صفة لله قائمة به فإن صفة الله القائمة به بل وصفة كل موصوف لا تفارقه وتقوم بغيره وليس في
هذا أن الله اسمه روح القدس ولا أن حياته اسمها روح القدس ولا أن روح القدس الذي تجسد المسيح منه ومن مريم هو حياة الله سبحانه وتعالى وأنتم قلتم إنا معاشر النصارى لم نسمه بهذه الأسماء من ذات أنفسنا ولكن الله سمى لاهوته بها وليس فيما ذكرتموه عن الأنبياء أن الله سمى نفسه ولا شيئا من صفاته بروح القدس ولا سمى نفسه ولا شيئا من صفاته ابنا فبطل تسميتكم لصفته التي هي الحياة بروح القدس ولصفته التي هي العلم بالابن
وأيضا فأنتم تزعمون أن المسيح مختص بالكلمة والروح فإذا كانت روح القدس في داود عليه السلام والحواريين وغيرهم بطل ما خصصتم به المسيح وقد علم بالاتفاق أن داود عبد لله عز و جل وإن كانت روح القدس فيه
وكذلك المسيح عبد لله وإن كانت روح القدس فيه فما ذكرتموه عن الأنبياء حجة عليكم لأهل الإسلام لا حجة لكم
فصل
قالوا وأيضا على لسان داود النبي عليه السلام بكلمة الله تشددت السماوات والأرض وبروح فاه جميع قواتهنفيقال أما قوله بكلمة الله تشددت السماوات والأرض فهو أيضا حجة عليكم لوجوه
أحدها أن الله خلق الأشياء بكلمته التي هي كن كما قال في التوراة ليكن كذا ليكن كذا ليكن كذا وكذلك في الزبور لأنه قال فكانوا وهو أمر فخلقوا فجعل كونهم عن قوله
ومثل قوله في الزبور الكل بحكمة صنعت وفي القرآن إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
وليس المسيح هو هذه الكلمات
الثاني أن كلمة الله اسم جنس فإن كلمات الله لا نهاية لها قال تعالى
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا
والتوراة تدل على تعدد الكلمات وإذا كان كذلك فالمسيح ليس هو مجموع الكلمات بل خلق بكلمة منها
الثالث أن المسيح عندكم هو الخالق وأنتم مع قولكم إنه الابن والكلمة تقولون إنه الإله الخالق وتقولون إنه إله حق من إله حق وتقولون إله واحد فتجمعون بين النقيضين وإذا كان هو الخالق فهو الذي يشدد السماوات والأرض لا يقال به تشددت السماوات والأرض وإنما يقال به فيما كان صفة للموصوف فيقال خلق الله الأشياء بكن وخلق الأشياء بقدرته
وقوله بكلمته تشددت السماوات والأرض يقتضي أن الكلمة صفة فعل بها لأنها هي الخالقة والمسيح عندكم هو الخالق ليس هو صفة خلق
والرابع أن كلمة الله يراد بها جنس كلماته كما قال تعالى
وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا
وكقول النبي
من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وحينئذ فالمراد أن الله أقام السماوات والأرض بكلمته كقوله كن وليس في هذا تعرض للمسيح عليه السلام
وأما نقلكم أنه قال وبروح فاه جميع قواتهن فهذه الكلمة سواء كانت حقا أو باطلا لا حجة لكم فيها لأنه إن أريد بهذه الكلمة حياة الله فإثبات حياة الله حق وهو لم يسم حياة الله روح القدس كما زعمتم وإن أراد شيئا غير حياة الله لم تنفعكم فأنتم ادعيتم إن حياة الله روح القدس حتى قلتم مراده في الإنجيل بقوله عمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس هو حياة الله وادعيتم أن الأنبياء سموه بذلك ولم تذكروا نقلا عن الأنبياء أنهم سموا حياته روح القدس بل ذكرتم عنهم ما يوافق ما في القرآن أن روح القدس ليس المراد بها حياة الله ولو قدر أن هذا اللفظ استعمل في هذا وهذا لم يتعين أن المسيح أراد بقوله روح القدس حياة الله فكيف إذا لم يستعمل في كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في حياة الله قط
فصل
قالوا وقوله على لسان أيوب الصديق روح الله خلقني وهو يعلمني
فيقال هذا لا حجة فيه لأنكم ادعيتم أن الأنبياء سمت حياة الله روح القدس وهذا لم يقل روح القدس بل قال روح الله
وروح الله يراد بها الملك الذي هو روح اصطفاه الله فأحبها كما قال في القرآن
فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا
فقد أخبر أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا وتبين أنه رسوله
فعلم أن المراد بالروح ملك هو روح اصطفاها فأضافها إليه كما يضاف إليه الأعيان التي خصها بخصائص يحبها
كقوله ناقة الله وسقياها
وقوله وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود
وقوله عينا يشرب بها عباد الله
والمضاف إلى الله إن كان صفة لم تقم بمخلوق كالعلم والقدرة والكلام والحياة كان صفة له وإن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة لغيره كالبيت والناقة والعبد والروح كان مخلوقا مملوكا مضافا إلى خالقه ومالكه ولكن الإضافة تقتضي اختصاص المضاف بصفات تميز بها عن غيره حتى استحق الإضافة كما اختصت الكعبة والناقة والعباد الصالحون بأن يقال فيهم بيت الله وناقة الله وعباد الله كذلك اختصت الروح المصطفاة بأن يقال لها روح الله
بخلاف الأرواح الخبيثة كأرواح الشياطين والكفار فإنها مخلوقة لله ولا تضاف إليه إضافة الأرواح المقدسة كما لا تضاف إليه الجمادات كما تضاف الكعبة ولا نوق الناس كما تضاف ناقة صالح التي كانت آية من آياته
كما قال تعالى هذه ناقة الله لكم آية
وإذا كان كذلك فهذا اللفظ إن كان ثابتا عن النبي وترجم ترجمة صحيحة فقد يكون معناه أن الملك صورني في بطن أمي وهو يعلمني فإن النبي قال
إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال يا رب أذكر أو أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب رزقه فيقول ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزاد على أمر ولا ينقص رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري
وقد يقال من هذا قوله في الزبور في مزمور الخليقة ترسل روحك فيخلقون وفي المزمور أيضا هو قال فكانوا وأمر فخلقوا فقد يضاف الخلق إلى الملك
ومن هذا الباب قوله تعالى
أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله
فأخبره أنه يخلق من الطين كهيئة الطير طيرا بإذن الله وكذلك الملك يخلق النطفة في الرحم بإذن الله
ولا يجوز أن يريد به أن حياة الله خلقتني وتعلمني فإن الصفة لا تخلق ولا تعلم إنما يخلق ويعلم الرب الموصوف الذي خلق الإنسان من علق الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ولكن هو سبحانه يخلق بواسطة الملائكة فإن الملائكة رسل الله في الخلق فجاز أن يضاف الفعل إلى الوسائط تارة وإلى الرب أخرى وهذا موجود في الكتب الإلهية في غير موضع كما في القرآن
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها
وفي موضع آخر
حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون
وفي موضع ثالث
قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون
والجميع حق فإذا وجد لفظ له معنى في كلام بعض الأنبياء ولم يوجد له معنى يخالف ذلك من كلامهم كان حمله على ذلك المعنى أولى من حمله على معنى يخالف كلامهم ولا يوجد في كلامهم أن حياة الله تسمى روحا ولا أن صفات الله تخلق المخلوقات
فصل
قالوا وقوله على لسان أشعيا النبي ييبس القتاد ويجف العشب وكلمته باقية إلى الأبدفيقال إما أن يريد بكلمة الله علمه أو كلمة معينة أو تكون كلمة الله اسم جنس وعلى التقديرات الثلاثة لا حجة لكم في ذلك فإنه إن كان كلمة الله اسم جنس لكل ما تكلم الله به كما قال
وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا
وقال النبي
من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله
ولهذا جمعها في قوله تعالى
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا
وفي قوله
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا
فالمراد بذلك أن ما قاله الله فهو حق ثابت لا يبطل
كما قال تعالى
وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا
يعني بتمامها نفاذ ما وعدهم به من النصر على فرعون وإهلاكه وإخراجهم إلى الشام
وقال تعالى
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا
ومنه قوله
واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته
وقوله
سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل
ومن هذا الباب قول المسيح السماء والأرض يزولان وكلامي لا يزول فإن أراد علم الله فعلم الله باق سواء أراد به علمه القائم بذاته أو معلومه الذي أخبر ببقائه فلا حجة لكم فيه وكذلك إن أراد كلمة معينة فإن المسيح عندكم ليس كلمة معينة من كلامه بل هو عندكم هو الكلمة وهو الله الخالق وليس في هذا اللفظ ما يدل على أنه أراد بالكلمة المسيح والمسيح عندكم أزلي أبدي لا يوصف بالبقاء دون القدم ولو قدر أنه أراد بالكلمة المسيح فنحن لا ننكر أنه يسمى بالكلمة لأنه قال له كن فكان كما سيأتي بيان ذلك ويريد
بذلك إما بقاؤه إلى أن ينزل إلى الأرض وإما أن يريد بقاء ذكره والثناء عليه ولسان صدق له إلى آخر الزمان
ومما يوضح هذا وأنه ليس المراد به ما يدعونه أنه قال وكلمة الله باقية إلى الأبد فوصفها بالبقاء دون القدم
وعندهم أن الكلمة المولودة من الأب قديمة أزلية لم تزل ولا تزال ومثل هذا لا يحتاج أن يوصف بالدوام والبقاء بخلاف ما وعد به من النعيم والرحمة والثواب فإنه يوصف بالبقاء والدوام كما في القرآن أكلها دائم وقوله إن هذا لرزقنا ما له من نفاد
وفي الزبور اعترفوا للرب فإنه صالح وإنه إلى الأبد رحمته
فصل
قالوا وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس لتلاميذه الأطهار اذهبوا إلى جميع الأمم وعمدوهم باسم الاب والابن وروح القدس الإله الواحد وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيكم به
فيقال لهم هذا عمدتكم على ما تدعونه من الأقانيم الثلاثة وليس فيه شيء يدل على ذلك لا نصا ولا ظاهرا فإن لفظ الابن لم يستعمل قط في الكتب الإلهية في معنى صفة من صفات الله ولم يسم أحد من الأنبياء علم الله ابنه ولا سموا كلامه ابنه ولكن عندكم أنهم سموا عبده أو عباده ابنه أو بنيه وإذا كان كذلك فدعواكم أن المسيح أراد بالعلم ابن الله وكلامه دعوى في غاية الكذب على المسيح وهو حمل للفظه على ما لم يستعمله هو ولا غيره فيه لا حقيقة ولا مجازا فأي كذب وتحريف لكلام الأنبياء أعظم من هذا
ولو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله لسميت حياته ابنا وقدرته ابنا فتخصيص العلم بلفظ الابن دون الحياة خطأ ثاني لو كان
لفظ الابن يستعمل في صفة الله فكيف إذا لم يكن كذلك
وكذلك روح القدس لم يستعملوها في حياة الله ولا أرادوا بهذا اللفظ حياة الله التي هي صفته وإنما أرادوا بذلك ما ينزله على الصديقين والأنبياء ويؤيدهم به كما في قول داود روحك القدس لا تنزع مني وعندهم أن روح القدس حلت في الحواريين وقد قدمنا أن روح القدس يراد به الملك ويراد به ما يجعله في القلوب من الهدى والقوة ومنه قوله في بعض النبوات وفي تلك الأيام أسكب من روحي على كل قديس وفي زبور داود روحك الصالح يهديني في أرض مستقيمة
يوضح هذا أنهم قالوا في أمانتهم الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء وذكروا أن ذلك في الكتب المقدسة والذي في الكتب
المقدسة لا يكون إلا حقا ولا ريب أن فيها مثل ما في القرآن وفي القرآن أن الله أرسل روحه إلى مريم فنفخ فيها فحملت بالمسيح عليه السلام قال تعالى
سورة مريم الآيات 17 22
إلى آخر القصة وقال تعالى
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين
وقال تعالى
ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين
وهذا الروح هو الرسول كما قال
قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا
ونفخ فيها من هذا الروح فكان المسيح مخلوقا من هذا الروح ومن أمه مريم كما قالوا في الأمانة أنه تجسد من مريم ومن روح القدس لكن اعتقدوا أن روح القدس التي خلق المسيح منها ومن مريم هي حياة الله وهذا ليس في الكتب ما يدل عليه بل الكتب كلها صريحة في نقيض هذا وهو أيضا مناقض لقولهم إن المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة وهو العلم فإن كان قد تجسد من مريم وأقنوم الكلمة لم يكن متجسدا من روح القدس وإن كان من روح القدس لم يكن من الكلمة وإن كان منهما جميعا كان المسيح أقنومين أقنوم الكلمة وأقنوم الروح
والنصارى بفرقهم الثلاثة كلهم يقولون إنما المتحد به أقنوم الكلمة لا أقنوم الحياة فتبين تناقضهم في أمانتهم وتبين خطؤهم فيما فسروا به كلام الأنبياء
وتبين أن ما ثبت عن الأنبياء فهو حق موافق لما أخبر به محمد خاتم النبيين لا يناقض شيئا من كلام الأنبياء كما أنه لا يناقض
شيئا من كلامهم صريح المعقول وتبين أنهم حملوا كلام الأنبياء في لفظ الابن وروح القدس وغيره على ما لم يوجد استعمال هذا اللفظ فيه وتركوا حمله على المعنى الموجود في كلامهم وهذا من أبلغ ما يكون من تحريف كلامهم عن مواضعه وتبديل معاني كلام الله فكيف يجوز أن يحمل لفظ روح القدس على معنى لم يستعمله فيه الأنبياء ولا أرادوه به ويترك حمله على المعنى المعروف الذي يستعملونه فيه دائما
وهل هذا إلا من فعل من يحرف كلام الأنبياء ويفتري الكذب عليهم بل ظاهر هذا الكلام أن يعمدوهم باسم الأب الذي يريدون به في لغتهم الرب والابن الذي يريدون به في لغتهم المربي وهو هنا المسيح وروح القدس وهو روح القدس الذي أيد الله به المسيح من الملك والوحي وغير ذلك وبهذا فسر هذا الكلام من فسره من أكابر علمائهم
36 -
فصل
فهذا ما ذكروه في كتابهم يحتجون بها على ما يعتقدونه من الأقانيم الثلاثة قائلين إن تسمية الله أنه أب وابن وروح القدس أسماء لم نسمه نحن النصارى بها من ذات أنفسنا بل الله سمى لاهوته بهاوقد تبين أنه ليس فيما ذكروه عن الأنبياء ما يدل لا نصا ولا ظاهرا على أن أحدا من الأنبياء سمى الله ولا شيئا من صفاته ابنا ولا روح قدس
وتبين أن تسميتهم لعلم الله وكلامه ابنا وتسميتهم لحياته روح القدس أسماء ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان وأنه ليس معهم على ما ادعوه من الأقانيم حجة أصلا لا سمعية ولا عقلية وأنه ليس لقولهم بالتثليث وحصرهم لصفات الله في ثلاثة مستند شرعي
كما تبين أنه ليس له مستند عقلي وأن القوم ممن قيل فيهم
وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
وممن قيل فيهم
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا
فصل
ثم أخذوا يزعمون أن فيما أنزل على محمد حجة لهم على الأقانيم التي ادعوها وهم ابتدعوا القول بالأقانيم والتثليث قبل أن يبعث محمد
وذلك معروف عندهم من حين ابتدعوا الأمانة التي لهم التي وضعها الثلاث مائة وثمانية عشر منهم بحضرة قسطنطين الملك فإذا لم يكن لهم مستند عقلي ولا سمعي عن الأنبياء قبل محمد فكيف يكون لهم مستند فيما جاء به محمد بعد ابتداعهم الأمانة
لا سيما مع العلم الظاهر المتواتر أن محمدا كفرهم في الكتاب الذي أنزل عليه وضللهم وجاهدهم بنفسه وأمر بجهادهم كقوله تعالى
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم
وقوله تعالى
وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم
يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون
وقال
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة
وقال
ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم
ونحو ذلك من الآيات
وقالوا وقد قال في هذا الكتاب أيضا ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا الصالحين
فيقال لهم حرفتم لفظ الآية ومعناها فإن لفظها
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون
فالكلمة التي سبقت لعباده المرسلين قوله
إنهم لهم المنصورون
أخبر أنه سبق منه كلمة لعباده المرسلين لينصرهم كما قال تعالى
ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى
وقوله
ولقد آتينا موسى الكتب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب
وقوله
وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار
وقوله
وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم
وقوله
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين
والكلمة في لغة العرب هي الجملة المفيدة سواء كانت جملة اسمية أو فعلية وهي القول التام وكذلك الكلام عندهم هو الجملة التامة
قال سيبويه واعلم أنهم يحكون بالقول ما كان كلاما ولا يحكون به ما كان قولا ولكن النحاة اصطلحوا على أن يسموا
ما تسميه العرب حرفا يسمونه كلمة مثل زيد وعمرو ومثل قعد وذهب وكل حرف جاء لمعنى ليس باسم و لا فعل مثل إن وثم وهل ولعل
قال تعالى
وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم
فسمى هذه الجملة كلمة
وقال تعالى
مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة
وهو قول لا إله إلا الله
وقال تعالى
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه
وقال تعالى
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله
وقوله تعالى
وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها
وقال النبي
كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وقال
أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد الا كل شيء ما خلا الله باطل
وقال النبي
اتقوا النار ولو بشق
تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة ولما شاع عند المشتغلين بالنحو استعمال لفظ الكلمة في الاسم أو الفعل وحرف المعنى صاروا يظنون أن هذا هو كلام العرب ثم لما وجد بعضهم ما سمعه من كلام العرب أنه يراد بالكلمة الجملة التامة صار يقول وكلمة بها كلام قد يؤم فيجعل ذلك من القليل
ومنهم من يجعل ذلك مجاز وليس الأمر كذلك بل هذا اصطلاح هؤلاء النحاة فإن العرب لم يعرف عنهم أنهم استعملوا لفظ الكلمة والكلام إلا في الجملة التامة وهكذا نقل عنهم أئمة النحو كسيبويه وغيره
فكيف يقال إن هذا هو المجاز وإن هذا قليل وكثير
كما أن لفظ القديم في لغة العرب هو المتقدم على غيره كما قال
تعالى
حتى عاد كالعرجون القديم
وقوله تعالى
وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم
وقوله تعالى
أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون
ثم إن من أهل الكلام من خص لفظ القديم بما لم يسبقه عدم أو ما لم يسبقه غيره وصار هذا عندهم هو حقيقة اللفظ حتى صار كثير منهم يظن أن استعمال القديم في المتقدم على غيره مطلقا مجاز
فتبين أن مراده تعالى بقوله
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين
من جنس قوله
ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما
فسبق منه كلمته بما سيكون من نصر المرسلين وملء جهنم من الجنة والناس أجمعين ونحو ذلك فحرف هؤلاء الضلال لفظ الآية فقالوا لعبادنا الصالحين وجعلوا الكلمة هي المسيح وليس في
اللفظ ما يدل على ذلك بوجه من الوجوه ولا في كون المسيح سبق لعبادنا المرسلين معنى صحيح وقد قال تعالى
ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون
فصل
قالوا وقال أيضاياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس
فيقال هذا مما لا ريب فيه ولا حجة لكم فيه بل هو حجة عليكم فإن الله أيد المسيح عليه السلام بروح القدس كما ذكر ذلك في هذه الآية وقال تعالى في البقرة
وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس
وقال تعالى
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس
وهذا ليس مختصا بالمسيح بل قد أيد غيره بذلك وقد ذكروا هم أنه قال لداود روحك القدس لا تنزع مني وقد قال نبينا لحسان بن ثابت
اللهم أيده بروح
القدس وفي لفظ
روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه وكلا اللفظين في الصحيح
وعند النصارى أن الحواريين حلت فيهم روح القدس وكذلك عندهم روح القدس حلت في جميع الأنبياء
وقد قال تعالى
سورة النحل الآيات 98 102
وقد قال تعالى في موضع آخر
نزل به الروح الأمين على قلبك
وقال
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله
فقد تبين أن روح القدس هنا جبريل وقال تعالى
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله
ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
وقال تعالى
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعناه نورا فهدي به من نشاء من عبادنا
وقال تعالى
ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون
وقال
يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق
فهذه الروح التي أوحاها والتي تنزل بها الملائكة على من يشاء من عباده غير الروح الأمين التي تنزل بالكتاب وكلاهما يسمى روحا وهما متلازمان فالروح التي ينزل بها الملك مع الروح الأمين التي ينزل بها روح القدس يراد بها هذا وهذا
وبكلا القولين فسر المفسرون قوله في المسيح وأيدناه بروح القدس ولم يقل أحد أن المراد بذلك حياة الله ولا اللفظ يدل على ذلك ولا استعمل فيه
وهم إما أن يسلموا أن روح القدس في حق غيره ليس المراد بها حياة الله فإذا ثبت أن لها معنى غير الحياة فلو استعمل في حياة الله أيضا لم يتعين أن يراد بها ذلك في حق المسيح فكيف ولم يستعمل في حياة الله في حق المسيح
وإما أن يدعوا أن المراد بها حياة الله في حق الأنبياء والحواريين فإن قالوا ذلك لزمهم أن يكون اللاهوت حالا في جميع الأنبياء والحواريين وحينئذ فلا فرق بين هؤلاء وبين المسيح
ويلزمهم أيضا أن يكون في المسيح لاهوتان لاهوت الكلمة ولاهوت الروح فيكون قد اتحد به أقنومان
ثم في قوله تعالى وأيدناه بروح القدس يمتنع أن يراد بها حياة الله فإن حياة الله صفة قائمة بذاته لا تقوم بغيره ولا تختص ببعض الموجودات غيره وأما عندهم فالمسيح هو الله الخالق فكيف يؤيد بغيره وأيضا فالمتحد بالمسيح هو الكلمة دون الحياة فلا يصح تأييده بها
فتبين أنهم يريدون أن يحرفوا القرآن كما حرفوا غيره من الكتب المتقدمة وأن كلامهم في تفسير المتشابه من الكتب الإلهية من جنس واحد
فصل
قالوا وقال أيضا وكلم الله موسى تكليما
فيقال لهم وأي حجة لكم في هذا وإنما هو حجة عليكم فإنه قد ثبت أن الله كلم موسى تكليما وكلام الله الذي سمعه منه موسى عليه السلام ليس هو المسيح فعلم أن المسيح ليس هو كلام الله وعندهم هو كلمة الله وهو علم الله وهو الله
ومعلوم أن كلام الله كثير كالتوراة والإنجيل والقرآن وغير ذلك من كلامه وليس المسيح شيئا من ذلك والمسيح عندهم خالق ولو كان المسيح نفس كلام الله لم يكن خالقا ولا معبودا فإن كلام الله لم يخلق السماوات والأرض ولا كلام الله هو الإله المعبود بل كلامه كسائر صفاته مثل حياته وقدرته ولا يقول أحد يا علم الله اغفر لي ولا يا كلام الله اغفر لي وإنما يعبد ويدعى الإله الموصوف بالعلم والقدرة والكلام الذي كلم به موسى تكليما
فصل
قالوا وقال أيضا في سورة التحريمومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين
فيقال أما قوله تعالى
فنفخنا فيه من روحنا
وقوله في سورة الأنبياء
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين
فهذا قد فسره قوله تعالى
فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا
وفي القراءة الأخرى ليهب لك غلاما زكيا
فأخبر أنه رسوله وروحه وأنه تمثل لها بشرا وأنه ذكر أنه
رسول الله إليها فعلم أن روحه مخلوق مملوك له ليس المراد حياته التي هي صفته سبحانه وتعالى
وكذلك قوله
فنفخنا فيها من روحنا
وهو مثل قوله في آدم عليه السلام
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
وقد شبه المسيح بآدم في قوله
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
والشبهة في هذا نشأت عند بعض الجهال من أن الإنسان إذا قال روحي فروحه في هذا الباب هي الروح التي في البدن وهي عين قائمة بنفسها وإن كان من الناس من يعني بها الحياة والإنسان مؤلف من بدن وروح وهي عين قائمة بنفسها عند سلف المسلمين وأئمتهم وجماهير الأمم
والرب تعالى منزه عن هذا وأنه ليس مركبا من بدن وروح ولايجوز أن يراد بروحه ما يريد الإنسان بقوله روحي بل تضاف إليه ملائكته وما ينزله على أنبيائه من الوحي والهدى والتأييد ونحو ذلك
فصل
قالوا وسائر المسلمين يقولون إن الكتاب كلام الله ولا يكون كلام إلا لحي ناطق وهذه صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء وكل صفة منها غير الأخرى فالإله واحد خالق واحد ورب واحد لا يتجزأ
فيقال لهم أما قول المسلمين أن الكتاب أي القرآن كلام الله فهذا حق والكلام لا يكون إلا لمتكلم
والمسلمون يقولون إن الله حي متكلم وإنه تكلم بالتوراة والإنجيل والقرآن وغير ذلك من كلامه والقرآن قد أخبر بكلام الله في مواضع كثيرة وهل يسمى ناطقا وكلامه نطقا
فيه نزاع فبعض المسلمين يجيزه وبعضهم يمنع منه لكونه لم يرد به الشرع وليس في التوراة والإنجيل والزبور تسمية الله ناطقا بخلاف لفظ القول والكلام وقد تنازع المسلمون بعد ظهور البدع فيهم كما تنازع أهل الكتاب في كلام الله هل هو قائم به أو مخلوق منفصل عنه
والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهورها أن كلام الله قائم به
وكذلك سائر ما يوصف به من الحياة والقدرة وغير ذلك
وأحدث قوم منهم بعد انقراض الصحابة وأكابر التابعين بعد أكثر من مائة سنة من موت النبي أنه مخلوق خلقه في غيره وشاركهم في هذه البدعة كثير من اليهود والنصارى
وظهرت هذه المقالة بعد المائة الثانية وانتصر لها قوم من الولاة وغيرهم ثم أطفأها الله بمن أقامه الله من أئمة الإسلام والسنة الذين بينوا فسادها وبينوا ما اتفق عليه السلف من أن كلام الله منزل منه غير مخلوق بل منه بدأ لم يبتدىء من شيء من المخلوقات ومع هذا فلم يقل أحد من المسلمين إن كلام الله يكون إلها ولا ربا
وكذلك حياته لم يقل أحد منهم إن حياته تكون إلها ولا ربا ولا أنه مساو للرب تعالى في الجوهر
فصل
وأما قولهم هذه صفات جوهرية تجري مجرى أسماءفإن أرادوا بقولهم جوهرية أن كل صفة جوهر فهذا كلام ظاهر الفساد فإن الصفة القائمة بغيرها لا تكون جوهرا قائما بنفسه ومن ظن أن حرارة النار القائمة بها جوهر قائم بنفسه كالنار فهو إما مصاب في عقله وإما مسفسط معاند
والأول يستحق علاج المجانين
والثاني يستحق العقوبة التي تردعه عن العناد
ثم إن جاز أن تكون الصفة جوهرا كانت القدرة أيضا جوهرا
وإن أرادوا بقولهم جوهرية أنها صفات ذاتية وغيرها صفات فعليه كالخالق والرازق فمعلوم أن صفاته الذاتية منها القدرة وغيرها فلم تنحصر في هذه
وأيضا فالكلام وإن كان قائما بذاته فقيل هو متعلق بمشيئته وقدرته وهو قول السلف والأكثرين وقيل ليس كذلك
والمتكلم قيل هو من فعل الكلام ولو كان منفصلا عنه وقيل هو من قام به الكلام وإن لم يكن بمشيئته وقدرته وقيل المتكلم من قام
به الكلام بمشيئته وقدرته وهذا قول السلف والأكثرين فبطل قولهم على كل تقدير
وإن أرادوا بالجوهرية أنها ذاتية مقومة وباقي الصفات عرضية على رأي أهل المنطق اليونان الذين يفرقون في الصفات اللازمة للموصوف بين هذا وهذا كان هذا فاسدا من وجوه
منها أن تفريق هؤلاء في الصفات اللازمة للموصوف بين صفة وصفة وجعل بعضها ذاتيا مقوما داخلا في الماهية وبعدها عرضيا لاحقا خارجا عن الماهية كلام باطل عند جماهير نظار الأمم من أهل الملل وغيرهم كما قد بسط الكلام عليه في الرد على هؤلاء المتفلسفة وبين أن ما يدعونه من تركيب الأنواع من الأجناس والفصول إنما هو تركيب في الأذهان لا حقيقة له في الأعيان وأن ما يقوم بالأذهان يختلف باختلاف تصور الأذهان
فتارة يتصور الشيء مجملا وتارة يتصوره مفصلا وما سموه تمام الماهية والداخل في الماهية والخارج عنها اللازم لها يعود عند التحقيق إلى ما يدل عليه اللفظ بالمطابقة والتضمن والالتزام
ومدلول اللفظ هو بحسب ما يعنيه المتكلم ويقصده ويتصوره وهذا يختلف باختلاف إرادات الناس لا يرجع ذلك إلى حقيقة عقلية ولا صفة ذاتية للموجودات
ولهذا لما كان كلامهم باطلا لم يمكنهم ذكر فرق صحيح بين
الذاتي والعرضي اللازم إذا كان كلاهما لازما للموصوف بل ذكروا ثلاثة فروق والثلاثة باطلة واعترف حذاقهم ببطلانها كقولهم إن الذاتي يثبت للموصوف بلا وسط والعرضي اللازم إنما يثبت بوسط
ثم حذاقهم يفسرون الوسط بالدليل كما فسره ابن سينا
ومنهم من يفسر الوسط بصفة قائمة للموصوف كما يفسره الرازي وغيره وهؤلاء لم يفهموا مراد أولئك فزاد غلطهم وأولئك أرادوا بالوسط الدليل كما يريدون بالحد الأوسط ما يقرن باللام في قولك لأنه فصار العرضي اللازم عندهم ما يعلم ثبوته للموصوف بدليل وهذا لا يرجع إلى حقيقة ثابتة في نفس الأمر بل هذا أمر يتعلق بالعالم بالصفات
فمنهم من يكون تام التصور فيعلم لزوم الصفة للموصوف بلا دليل
ومنهم من لا يكون تام التصور فلا يعلم ذلك إلا بدليل ثم كل ما كان مستلزما لشيء فإنه يمكن الاستدلال به عليه إذا كان الدليل هو الذي يلزم من تحققه تحقيق المدلول فيكون الوسط كل ما كان مستلزما للعرض فيكون العرض لازم اللازم
وهم معترفون بأن من العرضيات ما يلزم بلا وسط وقد مثلوا ذلك بالزوجية والفردية في العدد كالعلم بأن الأربعة زوج والثلاثة فرد وإن كان ظاهرا لكن العلم بأن خمسمائة وثلاثة وأربعين نصف ألف وستة وثمانين قد يفتقر إلى دليل وقد يفتقر إلى تأمل وفكر
وهم يقولون ما يقول ابن سينا أفضل متأخريهم وغيره من أن العرض المنقسم إلى الكيف والكم وغير ذلك هو ذاتي لموصوفاته
واللون المنقسم إلى السوادء والبياض هو ذاتي للمتلون والسوادية والبياضية صفتان ذاتيتان بخلاف الزوجية والفردية
قالوا لأن كون هذا أسود وأبيض وعرضا قائما بغيره لا يفتقر إلى استدلال ونظر بخلاف كون هذا العدد زوجا أو فردا فإن هذا قد يفتقر إلى نظر واستدلال فإنه ينقسم إلى قسمين متساويين أو لا ينقسم
ومعلوم أن هذا فرق يعود إلى علم العالم بهذه الصفات هل هو جلي أو خفي وهل يفتقر إلى نظر واستدلال أو لا يفتقر ليس هو فرقا يعود إلى الصفة في نفسها ولا إلى موصوفها فعلم أنه ليس بين ما جعلوه ذاتيا مقوما داخلا في الماهية وما جعلوه عرضيا لازما خارجا عن الماهية فرق يعود إلى نفس الماهية التي هي الذات الموصوفة الموجودة في الخارج ولا إلى صفاتها بل جميع صفاتها اللازمة لها سواء في ذلك وليست الماهية مركبة من هذا دون هذا ولا فيها شيء يتقدم على الماهية في الوجود الخارجي كما يقولون أن الذاتي يتقدم على الماهية في الوجود والذهن
ولا الصفات جواهر موجودة في الخارج لها أجزاء كأجزاء الأجسام المركبة وإنما هي صفات قائمة بالموصوف يمتنع تقدم شيء منها على الموصوف
ولكن إذا قيل في الإنسان هو جسم حساس تام متحرك بالإرادة ناطق فهنا قد يتصور الذهن هذه الأمور ويعبر عنها فكل واحد منهما جزء من الجملة التي في ذهنه ولسانه
والجملة التي في ذهنه ولسانه مركبة من هذه الأجزاء لا أن الإنسان الموجود في الخارج مركب من هذه الأجزاء وأنها متقدمة عليه أو أنها جواهر فإن هذا كله مما يعلم بصريح العقل أنه باطل لكن هؤلاء المتفلسفة اليونان ومن اتبعهم كثيرا ما يشتبه عليهم ما يتصورونه في الأذهان بما يوجد في الأعيان كما أثبت من أثبت من قدمائهم مثل
فيثاغورس وأتباعه أعدادا مجردة موجودة في الخارج
وقد رد ذلك عليهم سائر العقلاء كما رده من بعده منهم
وقالوا إن العدد المجرد والمقدار المجرد إنما يوجد في الذهن لا في الخارج وإنما يوجد في الخارج المعدودات والمقدرات مثل الأجسام المتفرقة التي تعد كالكواكب أو المتصلة التي تقدر كالأفلاك وذلك هو المتصف بالكم المتصل والكم المنفصل الموجود في الخارج
وأثبت أصحاب أفلاطون الكليات العقلية في الخارج التي يسمونها المثل الأفلاطونية وزعموا أنها قديمة أزلية وأثبتوا بعدا
موجودا مجردا جوهرا هو الخلاء وجوهرا قائما بنفسه هو الدهر وجوهرا مجردا قائما بنفسه هو المادة والهيولى الأزلية
وهذه كلها إنما تتصور في الأذهان لا في الأعيان بل وما أثبتوه من العقول المجردة العشرة هي أيضا عند التحقيق ترجع إلى ما يجرده الذهن ويقدره فيه لا إلى موجود في الخارج
وأصل قولهم المجردات والمفارقات هو مأخوذ من مفارقة النفس الناطقة للبدن بالموت وهذا حق فإن الذي عليه الأنبياء وأتباعهم وجمهور العقلاء أن الروح تفارق البدن وتبقى بعد فراق البدن ومن قال من متكلمة أهل الملل أنه لا يبقى بعد البدن روح تفارقه وأن الروح جزء من البدن أو عرض من أعراض البدن فقوله مع أنه خطأ في العقل الصريح هو أيضا مخالف لكتب الله المنزلة ولرسله ولمن اتبعهم من جميع أهل الملل وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على أن تفريق هؤلاء اليونانيين في الصفات اللازمة للموصوف بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة وجعلهم اللازمة منها ما هو لازم للماهية ومنها ما هو لازم لوجودها هو مبني على أصلين فاسدين لهم خالفهم فيها جمهور عقلاء الأمم من نظار أهل الملل وغيرهم
أحد الأصلين هو ما تقدم من جعلهم الصفات اللازمة للموصوف هي في الخارج منقسمة إلى ذاتي جزء من الماهية داخل فيها والى عرضي خارج عنها لازم لها
والثاني زعمهم أن كل موجود ممكن وله في الخارج ماهية هي ذاته وحقيقته غير الموجود المعلوم المعين الثابت في الخارج وهذا أيضا مما اشتبه عليهم فيه ما في الذهن بما في الخارج
فإنه إذا أريد بالماهية ما يتصور في الذهن وهو المقول في جواب ما هو وبالوجود ما هو ثابت متحقق في الخارج فمعلوم أن هذا غير هذا كما يقولون إنا نتصور المثلث قبل أن نعلم وجوده في الخارج فعلم أن ماهية المثلث غير المثلث الموجود في الخارج
فإنه يقال لهم إن أردتم أن ما يتصور في الذهن من المثلث غير الموجود في الخارج فهذا حق لكن ليس في هذا ما يدل على أنه في الخارج عن الذهن شيئين
أحدهما ماهية المثلث التي هي حقيقته وذاته
الثاني المثلث الموجود الذي هو زاوية الحائط
وإن أردتم أن في الخارج شيئين فهذا غلط وهذا الموضع مما اشتبه على كثير من النظار حتى صار بعض أكابرهم حائرا متوقفا
وبعضهم يختلف قوله ويتناقض وسبب ذلك عدم تمييزهم بين ما يتصور في الأذهان وبين ما يوجد في الأعيان ثم هذا الموضوع
نقلوه إلى الكلام في صفات الله اللازمة له كحياته وعلمه وقدرته هل هي ذاتية أو عرضية
فإن قيل ذاتية لزم أن تكون له أجزاء متقدمة عليه تركب منها وإن كانت عرضية لازمة لزم أن يكون قابلا وفاعلا فإن كونه فاعلا غير كونه قابلا فلزم أن يكون فيه جهتان وهذا من التركيب الذي زعموه منتفيا وذلك يستلزم التركيب وهو التركيب من الذاتيات وقد بين فساد هذا من وجوه متعددة
منها أن التركيب المعقول هو تركيب الحيوان والنبات والمعادن من أبعاضه وأخلاطه وتركيب المبنيات والملبوسات والأطعمة والأشربة من أبعاضها وأخلاطها
وأما تركيب الأجسام من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة فهذا مما تنازع فيه جمهور العقلاء وكذلك تركيب الشيء من الموجود والماهية سواء كان واجبا أو ممكنا هو مما تنازع فيه جمهور العقلاء وكذلك تركبه من الصفات الذاتية المشتركة والمميزة التي يسمونها الجنس والفصل
وأما اتصاف الذات بصفات تقوم بها فهذا هو الذي يعرفه عامة العقلاء ولكن لا يسمون هذا تركيبا فمن سماه تركيبا لم يكن نزاعه اللفظي قادحا فيما علم بالأدلة السمعية والعقلية
ثم هم يقولون المركب يفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره وواجب الوجود لا يفتقر إلى غيره وهذه كلها ألفاظ مجملة فإن لفظ الافتقار هنا لم يعنوا به افتقار المفعول إلى فاعله ولا المعلول إلى علته الفاعلية فإن جزء الشيء لا يكون فاعله ولا علته الموجبة له بل يريدون به التلازم والاشتراط فإن وجود المجموع مستلزم لوجود أجزائه وهو مشروط بذلك
ومنها أن لفظ الجزء ليس مرادهم جزءا مباينا للجملة فإن جزء الجملة ليس مباينا لها
ومنها لفظ الغير فإنه يراد بالغيرين ما يجوز مباينة أحدهما لصاحبه أو مفارقته له بزمان أو مكان أو وجود ويراد بهما ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر وبعض المجموع وصفة الموصوف لا يجب أن تفارقه وتباينه بل قد يجوز أن تباينه ويجوز أن لا تباينه
فصفات الرب عز و جل اللازمة له لا يجوز أن تفارقه وتباينه وحينئذ فمن الناس من لا يسميها غيرا له ومن سماها غيرا له فذاته مستلزمة لها ليست الصفات فاعلة للذات ولا علة موجبة لها
ولفظ واجب الوجود يراد به الموجود بنفسه الذي لا فاعل له ولا علة فاعلة له وذات الرب عز و جل وصفاته واجبة الوجود بهذا الاعتبار ويراد به مع ذلك المستغني عن محل يقوم به والذات
بهذا المعنى واجبة دون الصفات ويراد به ما لا تعلق له بغيره وهذا لا حقيقة له فإن الرب تعالى له تعلق بمخلوقاته لا سيما عند هؤلاء الفلاسفة الدهرية الذين يقولون إنه موجب بذاته للأفلاك مستلزم لها فيجعلونه ملزوما لمفعولاته فكيف ينكرون أن تكون ذاته ملزومة لصفاته
وهؤلاء المتفلسفة اليونانيون الذين يسمون المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم المنطق الطبيعي والرياضي والإلهي يقولون إن موضوع العلم الطبيعي متعلق بالمادة في الذهن والخارج من الجسم وأحكامه
والثاني الرياضي وهو متعلق بالمادة في الخارج لا في الذهن فإنه لا يوجد عددا ولا مقدارا في الخارج إلا في جسم في الخارج أو عرض معدود أو مقدر منفصل بخلاف الذهن فإنه يجرد أعدادا ومقادير مجردة عن المعدودات والمقدرات
والثالث الذي يسمونه علم ما بعد الطبيعة باعتبار السلوك العلمي وهو علم ما قبلها باعتبار الوجود العيني ويسمونه أيضا العلم الإلهي وموضوعه عندهم المجرد عن المادة في الذهن والخارج وهو الموجود من حيث هو موجود وانقسامه إلى جوهر وعرض وانقسام الجوهر إلى جسم وغير جسم وانقسام الجسم إلى المادة والصورة والعقول والنفوس
والعلة الأولى يسميها أرسطو وأتباعه جوهرا ولا يسميها واجب الوجود وأما متأخروهم كابن سينا وأتباعه يسمونها واجب الوجود ولا يسمونها جوهرا والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر إذ المقصود هنا أن هذه الأمور التي يقولون هي موضوع العلم الإلهي وهي المجردة عندهم عن المادة في الذهن والخارج هي عند التحقيق وجودها في الأذهان لا في الأعيان
فإن الوجود العام الكلي لا يوجد عاما كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان كما أن الإنسان العام الكلي والحيوان العام الكلي لا يوجد عاما كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان
وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع وبين أن اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل أقرب إلى الحق في الأمور الإلهية منهم
وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر ولكن نبهنا عليها لتعلقها هنا بقول هؤلاء النصارى إن صفات الرب الثلاث هي جوهرية دون غيرها وأنهم إن عنوا بذلك ما يعنيه هؤلاء بالذاتية فقولهم باطل مبني على أصل باطل
فإن تفريق هؤلاء اليونان في الصفات اللازمة بين الذاتي والعرضي اللازم للموجود والعرضي اللازم للماهية والعرضي اللازم
للموصوف فرق باطل وقد ذكروا ثلاث فروق كلها باطلة كما تقدم
الأول الوسط
والفرق الثاني تقدم الذاتي ذهنا ووجودا بخلاف اللازم العرضي
والثالث توقف الحقيقة على الذات
وقد تبين بطلان هذا في غير هذا الموضع
والنصارى ليس مرادهم بالجوهرية ما يريده هؤلاء بالذاتية فلهذا لم نبسط الكلام عليه بل يقولون إن الثلاثة جواهر وهؤلاء المنطقيون يفرقون بين اللازم للماهية واللازم لوجودها بناء على أن في الخارج شيئين الوجود وماهية أخرى غير الوجود
والكلام على هذا كله مبسوط في موضع آخر
ومنها أنه لو قدر أن صفات الموصوفات اللازمة لها تنقسم إلى ذاتي مقوم وعرضي لازم وأن صفات الرب سبحانه كذلك لم يكن تخصيص العلم بأنه ذاتي أولى من القدرة فليس ذكر القائم بنفسه الحي العالم بأولى من ذكر القائم بنفسه الحي القادر
والنصارى لما كانت الأقانيم عندهم ثلاثة وزعموا أن الشرع المنزل دل على ذلك وكانوا في ذلك مخالفين للشرع المنزل إليهم
كما قد بسط في موضعه صار طائفة منهم يقولون موجود حي عالم وطائفة يقولون موجود عالم قادر فيجعلون القادر مكان الحي ويجعلون روح القدس هو القدرة
وهذا القول وإن كان أحسن في المعنى لكن تفسير روح القدس بالقدرة في غاية البعد الذي يظهر فساده لكل أحد
ولا بد لهم من إثبات أقنوم الكلمة الذي يقولون تارة هي العلم وتارة هي الحكمة ويسمونها تارة النطق كما سموها في كتابهم هذا لأن الذي اتحد بالمسيح عندهم هو أقنوم الكلمة فصاروا تارة يضمون إليها الحياة وتارة يضمون إليها القدرة
والأب تارة يقولون هو الوجود وتارة يقولون القائم بنفسه وتارة يقولون الذات وتسمى القائم بنفسه بالسريانية الكيان وتارة يقولون الجود
وكل هذا من الحيرة والضلال لأنهم لا يجدون ثلاث معاني هي المستحقة لأن تكون جوهرية دون غيرها من الصفات سواء فسرت الجوهرية بأنها جواهر أو بأنها ذاتية مقومة أو بغير ذلك
ومنها قولهم تجري مجرى أسماء فإن أرادوا بذلك أسماء أعلام أو جامدة وسائرها صفات فاسم الحي والعالم اسم مشتق يدل على معنى العلم والحياة كما يدل القدير على القدرة وإن أرادوا أنه يسمى بها فلله تعالى أسماء كثيرة فإنه سبحانه له الأسماء الحسنى
ومن أسمائه القدير والقدرة تستلزم من قدرته على المخلوقات ما لا يدل عليه العلم وخلقه للمخلوقات يدل على قدرته أبلغ من دلالته على علمه واختصاصه بالقدرة أظهر من اختصاصه بالعلم حتى إن طائفة من النظار كأبي الحسن الأشعري وغيره يقول أخص وصفه القدرة على الاختراع فلا يوصف بذلك غيره
والجهم بن صفوان قبله يقول ليس في الوجود قادر غيره ولا لغيره قدرة والأشعري وإن أثبت للمخلوق قدرة لكن يثبت قدرة لا تؤثر في المقدور ولم يقل أحد من العقلاء إن أخص وصفه الحياة والعلم ولا إن غيره ليس بحي ولا عالم فكان جعل القدير اسما وغيره صفة إن كان الفرق حقا أولى من العكس فكيف إذا كان الفرق باطلا فإن أسماءه تعالى التي يعرفها الناس هي أسماء وهي صفات في اصطلاح أهل العربية تدل على معاني هي صفاته القائمة به
فالحي يدل على الحياة والعليم يدل على العلم والقدير يدل على القدرة هذا مذهب سلف الأمة وجماهير الأمم ومن الناس فرقة شاذة تزعم أن هذه الأسماء لا تدل على معاني كأسماء الأعلام وقد تنازع الناس فيما يسمى به سبحانه ويسمى به غيره كالحي والعليم والقدير
فالجمهور على أنه حقيقة فيهما وقالت طائفة كأبي العباس الناشي إنها حقيقة في الرب عز و جل مجاز في المخلوق
وقالت طائفة عكس هؤلاء من الجهمية والملاحدة والمتفلسفة إنها مجاز في الرب عز و جل حقيقة في المخلوق والأولون هي عندهم متواطئة وقد يسمونها مشككة لما فيها من التفاضل وبعضهم يقول هي مشتركة اشتراكا لفظيا
فصل
وأما قولهم كل صفة منها غير الأخرى
فهذا إن أرادوا به أن صفات الرب سبحانه وتعالى قد تباينه وتنفصل عنه وهو حقيقة قولهم ويقولون مع ذلك أنها متصلة به فهو جمع بين النقيضين وتمثيلهم بشعاع الشمس تمثيل باطل وهو حجة عليهم لا لهم
فإن الشعاع القائم بالهواء والأرض والجبال والشجر والحيطان ليس هو قائم بذات الشمس
والقائم بذات الشمس ليس هو قائما بالهواء والأرض
فإن قالوا بل ما يقوم به من العلم يفيض منه على قلوب الأنبياء علوم كما يفيض الشعاع من الشمس
قيل لهم لا اختصاص للمسيح بهذا بل هذا قدر مشترك بينه وبين غيره من الأنبياء وليس في هذا حلول ذات الرب ولا صفته القائمة به بشيء من مخلوقاته ولا أن العبد بما حل فيه من العلم والإيمان يصير إلها معبودا
وإن أرادوا أنها قائمة به وتسمى كل واحدة غير الأخرى فهنا نزاع لفظي هل تسمى غيرا أو لا تسمى غيرا
فإن من الناس من يقول كل صفة للرب عز و جل فهي غير الأخرى ويقول الغيران ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر
ومنهم من يقول ليست هي الأخرى ولا هي هي لأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود
والذي عليه سلف الأمة وأئمتها إذا قيل لهم علم الله وكلام الله هل هو غير الله أم لا لم يطلقوا النفي ولا الإثبات فإنه إذا قال غيره أوهم أنه مباين له
وإذا قال ليس غيره أوهم أنه هو بل يستفصل السائل فإن أراد بقوله غيره أنه مباين له منفصل عنه فصفات الموصوف لا تكون مباينة له منفصلة عنه وإن كان مخلوقا فكيف بصفات الخالق
وإن أراد بالغير أنها ليست هي هو فليست الصفة هي الموصوف فهي غيره بهذا الاعتبار واسم الرب تعالى إذا أطلق يتناول الذات المقدسة بما يستحقه من صفات الكمال فيمتنع وجود الذات عرية عن صفات الكمال
فاسم الله يتناول الذات الموصوفة بصفات الكمال وهذه الصفات ليست زائدة على هذا المسمى بل هي داخلة في المسمى ولكنها
زائدة على الذات المجردة التي تثبتها نفاة الصفات فأولئك لما زعموا أنه ذات مجردة قال هؤلاء بل الصفات زائدة على ما أثبتموه من الذات
وأما في نفس الأمر فليس هناك ذات مجردة تكون الصفات زائدة عليها بل الرب تعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال وصفاته داخلة في مسمى أسمائه سبحانه وتعالى
فصل
وقولهم فالإله واحد خالق واحد رب واحدهو حق في نفسه لكن قد نقضوه بقولهم في عقيدة إيمانهم نؤمن برب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد إله حق من إله حق من جوهر أبيه مساو الأب في الجوهر فأثبتوا هنا إلهين ثم أثبتوا روح القدس إلها ثالثا وقالوا إنه مسجود له فصاروا يثبتون ثلاثة آلهة ويقولون إنما نثبت إلها واحدا وهو تناقض ظاهر وجمع بين النقيضين بين الإثبات والنفي
ولهذا قال طائفة من العقلاء إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا بل تكلموا بجهل وجمعوا في كلامهم بين النقيضين ولهذا قال بعضهم لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولا وقال آخر لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولا وامرأته قولا آخر وابنه قولا ثالثا
فصل
وقولهم لا يتبعض ولا يتجزأ مناقض لما ذكروه في أمانتهم ولما يمثلونه به
فإنه يمثلونه بشعاع الشمس والشعاع يتبعض ويتجزأ فإن ما يقوم منه بهذا الموضع بعض وجزء منه ويمكن زوال بعضه مع بقاء بعض فإنه إذا وضع على مطرح الشعاع شيء فصل ما بين جانبيه وصار الشعاع الذي كان بينهما على ذلك الفوقاني فاصلا بين الشعاعين السافلين
يبين ذلك أن الشعاع قائم بالأرض والهواء وكل منهما متجزىء متبعض وما قام بالمتبعض فهو متبعض فإن الحال يتبع المحل وذلك يستلزم التبعض والتجزىء فيما قام به
ويقولون أيضا إنه اتحد بالمسيح وأنه صعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب وعندهم أن اللاهوت منذ اتحد بالناسوت لم يفارقه بل لما صعد إلى السماء وجلس عن يمين الأب كان الصاعد عندهم هو المسيح الذي هو ناسوت ولاهوت إله تام وإنسان تام فهم لا يقولون إن الجالس عن يمين الأب هو الناسوت فقط بل اللاهوت المتحد
بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا
وليس هذا من كلام الأنبياء حتى يقال إن له معنى لا نفهمه بل هو من كلام أكابرهم الذي وضعوه وجعلوه عقيدة إيمانهم فإن كانوا تكلموا بما لا يعقلونه فهم جهال لا يجوز أن يتبعوا وإن كانوا يعقلون ما قالوه فلا يعقل أحد من كون اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت المجرد عن الاتحاد إلا أن هذا اللاهوت المجرد منفصل مباين للاهوت المتحد وليس هو متصلا به بل غايته أن يكون مماسا له بل يجب أن يكون الذي يماس اللاهوت المجرد هو الناسوت مع اللاهوت المتحد به فهذا حقيقة التبعيض والتجزئة مع انفصال أحد البعضين عن الآخر
وأيضا فيقال لهم المتحد بالمسيح أهو ذات رب العالمين أم صفة من صفاته فإن كان هو الذات فهو الأب نفسه ويكون المسيح هو الأب نفسه وهذا مما اتفق النصارى على بطلانه فإنهم يقولون هو الله وهو ابن الله كما حكى الله عنهم ولا يقولون هو الأب والابن والأب عندهم هو الله وهذا من تناقضهم
وإن قالوا المتحد بالمسيح صفة الرب فصفة الرب لا تفارقه ولا يمكن اتحادها ولا حلولها في شيء دون الذات
وأيضا فالصفة نفسها ليست هي الإله الخالق رب العالمين بل هي صفته ولا يقول عاقل إن كلام الله أو علم الله أو حياة الله هي
رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض فلو قدر أن المسيح هو صفة الله نفسها لم يكن هو الله ولم يكن هو رب العالمين ولا خالق السماوات والأرض
والنصارى يقولون إن المسيح رب العالمين خالق كل شيء وهو خالق آدم ومريم وإن كان ابن آدم ومريم فإنه خالق ذلك بلاهوته وهو ابن آدم ومريم بناسوته
فلو قدر أن المسيح هو صفة الرب لم تكن الصفة هي الخالق فكيف والمسيح ليس هو صفة الله نفسها بل هو مخلوق بكلمة الله وسمى كلمة الله لأن الله كونه بكن
وقال تعالى
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
وسماه روحه لأنه خلقه من نفخ روح القدس في أمه لم يخلقه كما خلق غيره من أب آدمي
قال الله تعالى
إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
وإن قالوا المتحد به بعض ذلك دون بعض فقد قالوا بالتبعيض والتجزئة فهم بين أمرين إما بطلان مذهبهم وإما اعترافهم بالتبعيض والتجزئة مع بطلانه
وأيضا فقولهم إله حق من إله حق من جوهر أبيه مولود غير مخلوق مساو للأب في الجوهر ابن الله الوحيد المولود قبل كل الدهور
يقال لهم هذا الابن المولود المساوي للأب في الجوهر الذي هو إله حق من إله حق هل هو صفة قائمة بغيرها أو عين قائمة بنفسها
فإن كان الأول فالصفة ليست إلها ولا هي خالقة ولا يقال لها مولودة من الله ولا أنها مساوية لله في الجوهر ولم يسم قط أحد من الأنبياء ولا أتباع الأنبياء صفات الله لا ابنا له ولا ولدا ولا قال إن صفة الله تولدت منه ولا قال عاقل إن الصفة القديمة تولدت من الذات القديمة
وهم يقولون إن المسيح إله خلق السماوات والأرض لاتحاد ناسوته بهذا الابن المولود قبل كل الدهور المساوي الأب في الجوهر
وهذا كله نعت عين قائمة بنفسها كالجواهر القائمة بنفسها لا نعت صفات قائمة بغيرها وإذا كان كذلك كان التبعيض والتجزئة
لازمة لقولهم فإن القول بالولادة الطبيعية مستلزم لأن يكون خرج منه جزء قال تعالى
سورة الزخرف الآيات 15 19
وأما هذا المعنى الذي يثبته من يثبته من علماء النصارى ويسمونه ولادة وبنوة فيسمونه الصفة القديمة الأزلية القائمة بالموصوف ابنا ويسمونها تارة النطق وتارة الكلمة وتارة العلم وتارة الحكمة ويقولون هذا مولود من الله وابن الله
فهذا لم يقله أحد من الأنبياء وأتباعهم ولا من سائر العقلاء غير هؤلاء المبتدعة من النصارى ولا يفهم أحد من العقلاء من اسم الولادة والبنوة هذا المعنى
والأنبياء لم يطلقوا لفظ الابن إلا على مخلوق وهم يقولون هو أب للمسيح بالطبع ولغيره بالوضع فلا يعقل جمهور العقلاء
وغيرهم من هذا المعنى إلا البنوة المعقولة بانفصال جزء من الوالد وهذا ينكره من ينكره من علمائهم
لكنهم لم يتبعوا الأنبياء ولم يقولوا ما تعقله العقلاء فضلوا فيما نقوله عن الأنبياء وأضلوا أتباعهم فيما قالوه وعوامهم وإن كانوا لا يقولون إن ولادة الله مثل ولادة الحيوان بانفصال شيء يوجد فيقولون ولادة لاهوتية بانفصال جزء من اللاهوت حل في الناسوت لا يعقل من الولادة غير هذا
وأيضا فقولهم ونؤمن بروح القدس الرب المحي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له وممجد ناطق في الأنبياء فقولهم المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له وممجد يمتنع أن يقال هذا في حياة الرب القائمة به فإنها ليست منبثقة منه كسائر الصفات إذ لو كان القائم بنفسه منبثقا لكان علمه وقدرته وسائر صفاته منبثقة منه بل الانبثاق في الكلام أظهر منه في الحياة فإن الكلام يخرج من المتكلم وأما الحياة فلا تخرج من الحي فلو كان في
الصفات ما هو منبثق لكان الصفة التي يسمونها الابن ويقولون هي العلم والكلام أو النطق والحكمة أولى بأن تكون منبثقة من الحياة التي هي أبعد عن ذلك من الكلام
وقد قالوا أيضا إنه مع الأب مسجود له وممجد والصفة القائمة بالرب ليست معه مسجود لها وقالوا هو ناطق في الأنبياء وصفة الرب القائمة به لا تنطق في الأنبياء بل هذا كله صفة روح القدس الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء أو صفة ملك من الملائكة كجبريل فإذا كان هذا منبثقا من الأب والانبثاق الخروج فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا
وإذا شبهوه بانبثاق الشعاع من الشمس كان هذا باطلا من وجوه
منها أن الشعاع عرض قائم بالهواء والأرض وليس جوهرا قائما بنفسه وهذا عندهم حي مسجود له وهو جوهر
ومنها أن ذلك الشعاع القائم بالهواء والأرض ليس صفة للشمس ولا قائما بها وحياة الرب صفة قائمة به
ومنها أن الانبثاق خصوا به روح القدس ولم يقولوا في الكلمة إنها منبثقة
والانبثاق لو كان حقا لكان بالكلمة أشبه منه بالحياة وكلما تدبر العاقل كلامهم في الأمانة وغيرها وجد فيه من التناقض والفساد
ما لا يخفى إلا على أجهل العباد ووجد فيه من مناقضته التوراة والإنجيل وسائر كتب الله ما لا يخفى من تدبر هذا وهذا
ووجد فيه من مناقضة صريح المعقول ما لا يخفى إلا على معاند أو جهول فقولهم متناقض في نفسه مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول عن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين
فصل
قالوا وأما تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا أي الكلمة مع الناسوت فإنه لم يخاطب الباري أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب حسب ما جاء في هذا الكتاب بقولهوما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء
وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف روح القدس وغيرها فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف والكثائف تظهر في غير كثيف كلا
ولذلك ظهر في عيسى بن مريم إذ الإنسان أجل ما خلقه الله ولهذا خاطب الخلق وشاهدوا منه ما شاهدوا
والجواب من طرق
أحدها أنه يقال هذا الذي ذكروه وادعوا أنه تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا أي الكلمة مع الناسوت وهو الذي يعبر عنه باتحاد اللاهوت بالناسوت هو أمر ممتنع في صريح العقل وما علم أنه ممتنع في صريح العقل لم يجز أن يخبر به رسول فإن الرسل إنما تخبر بما لا يعلم بالعقل أنه ممتنع فأما ما يعلم بصريح العقل أنه ممتنع فالرسل منزهون عن الإخبار عنه
الطريق الثاني أن الأخبار الإلهية صريحة بأن المسيح عبد الله ليس بخالق العالم والنصارى يقولون هو إله تام وإنسان تام
الطريق الثالث الكلام فيما ذكروه
فأما الطريق الأول فمن وجوه
أحدها أن يقال المتحد بالمسيح إما أن يكون هو الذات المتصفة بالكلام أو الكلام فقط وإن شئت قلت المتحد به إما الكلام مع الذات وإما الكلام بدون الذات فإن كان المتحد به الكلام مع الذات كان المسيح هو الأب وهو الابن وهو روح القدس وكان المسيح هو الأقانيم الثلاثة
وهذا باطل باتفاق النصارى وسائر أهل الملل وباتفاق الكتب الإلهية وباطل بصريح العقل كما سنذكره إن شاء الله
وإن كان المتحد به هو الكلمة فقط فالكلمة صفة والصفة لا تقوم
بغير موصوفها والصفة ليست إلها خالقا والمسيح عندهم إله خالق فبطل قولهم على التقديرين وإن قالوا المتحد به الموصوف بالصفة فالموصوف هو الأب والمسيح عندهم ليس هو الأب وإن قالوا الصفة فقط فالصفة لا تفارق الموصوف ولا تقوم بغير الموصوف والصفة لا تخلق ولا ترزق وليست الإله والصفة لا تقعد عن يمين الموصوف والمسيح عندهم صعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه
وأما كونه هو الأب فقط وهو الذات المجردة عن الصفات فهذا أشد استحالة وليس فيهم من يقول بهذا
الوجه الثاني أن الذات المتحدة بناسوت المسيح مع ناسوت المسيح إن كانتا بعد الاتحاد ذاتين وهما جوهران كما كانا قبل الاتحاد فليس ذلك باتحاد
وإن قيل صارا جوهرا واحدا كما يقول من يقول منهم إنهما صارا كالنار مع الحديدة أو اللبن مع الماء فهذا يستلزم استحالة كل منهما وانقلاب صفة كل منهما بل حقيقته كما استحال الماء واللبن إذا اختلطا والنار مع الحديدة وحينئذ فيلزم أن يكون اللاهوت استحال وتبدلت صفته وحقيقته والاستحالة لا تكون إلا بعدم شيء ووجود آخر فيلزم عدم شيء من القديم الواجب الوجود بنفسه
وما وجب قدمه استحال عدمه وما وجب وجوده امتنع عدمه فإن القديم لا يكون قديما إلا لوجوبه بنفسه أو لكونه لازما للواجب بنفسه إذ لو لم يكن لازما له بل كان غير لازم له لم يكن قديما بقدمه والواجب بنفسه يمتنع عدمه ولازمه لا يعدم إلا بعدمه فإنه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم
الوجه الثالث أن يقال الناس لهم في كلام الله عز و جل عدة أقوال وقول النصارى باطل على جميع الأقوال التي قالها الناس في كلام الله فثبت بطلانه على كل تقدير وذلك أن كلام الله سبحانه إما أن يكون صفة له قائما به وإما أن يكون مخلوقا له بائنا عنه وإما أن يكون لا هذا ولا هذا بل هو ما يوجد في النفوس وهذا الثالث هو أبعد الأقوال عن أقوال الأنبياء وهو قول من يقول من الفلاسفة والصابئة إن الرب لا تقوم به الصفات وليس هو خالقا باختياره
ويقولون مع ذلك إنه ليس عالما بالجزئيات ولا قادرا على تغيير الأفلاك بل كلامه عندهم ما يفيض على النفوس وربما سموه كلاما بلسان الحال
وهؤلاء ينفون الكلام عن الله ويقولون ليس بمتكلم وقد يقولون متكلم مجازا لكن لما نطقت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أطلقه من دخل في الملل منهم ثم فسره بمثل هذا وهذا أحد قولي الجهمية
والقول الثاني أنه متكلم حقيقة لكن كلامه مخلوق خلقه في غيره وهو قول المعتزلة وغيرهم والقول الآخر للجهمية
وعلى هذين القولين فليس لله كلام قائم به حتى يتحد بالمسيح أو يحل به والمخلوق عرض من الأعراض ليس بإله خالق وكثير من أهل الكتاب اليهود والنصارى من يقول بهذا وهذا
وأما القول الأول وهو قول سلف الأئمة وأئمتها وجمهورها وقول كثير من سلف أهل الكتاب وجمهورهم فإما أن يقال الكلام قديم النوع بمعنى أنه لم يزل يتكلم بمشيئته أو قديم العين وإما أن يقال ليس بقديم بل هو حادث والأول هو القول المعروف عن أئمة السنة والحديث
وأما القائلون بقدم العين فهم يقولون الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته لاعتقادهم أنه لا تحله الحوادث وما كان بمشيئته وقدرته لا يكون إلا حادثا
ولهم قولان منهم قال القديم معنى واحد أو خمسة معان وذلك المعنى يكون أمرا ونهيا وخبرا وهذه صفات له لا أقسام له وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة
ومنهم من قال هو حروف أو حروف وأصوات قديمة الأعيان
والقول الثالث إنه متكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته قالوا وهو حادث ويمتنع أن يكون قديما لامتناع كون المقدور
المراد قديما وهذه الطوائف بنوا أقوالهم على أن ما لم يخل عن الحوادث فهو حادث لامتناع وجود ما لا نهاية له عندهم وإذا امتنع ذلك تعين أن يكون لنوع الحوادث ابتداء كما للحادث المعنى ابتداء ولم يسبق الحوادث كان معه أو بعده فيكون حادثا فلهذا منع هؤلاء أن تكون كلمات الله لا نهاية لها في الأزل وإن كان من هؤلاء من يقول بدوام وجودها في الأبد
وأما القول بأن كلمات الله لا نهاية لها مع أنها قائمة بذاته فهو القول المأثور عن أئمة السلف وهو قول أكثر أهل الحديث وكثير من أهل الكلام ومن الفلاسفة وهذه الأقوال قد بسط الكلام عليها في غير موضع
والمقصود هنا أن قول النصارى باطل على كل قول من هذه الأقوال الأربعة كما تقدم بيان بطلانه على ذينك القولين فإنه على قول الجمهور الذين يجعلون لله كلمات كثيرة إما كلمات لا نهاية لها ولم تزل وإما كلمات لها ابتداء وإذا كان له كلمات كثيرة فالمسيح ليس هو الكلمات التي لا نهاية لها وليس هو كلمات كثيرة بل إنما خلق بكلمة من كلمات الله كما في الكتب الإلهية القرآن والتوراة إنه يخلق الأشياء بكلماته
قال تعالى في قصة بشارة مريم بالمسيح
قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
وقال أيضا
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
وقال
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
وقد أخبر الله في القرآن بخلقه للأشياء بكلماته في غير موضع بقوله
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
وفي التوراة ليكن يوم الأحد ليكن كذا ليكن كذا
وأيضا فعلى قول هؤلاء وعلى قول من يجعل كلامه إما معنى واحدا وإما خمسة معاني وإما حروف وأصوات هي شيء واحد فكلهم يقولون إن الكلام صفة قائمة بالموصوف لا يتصور أن يكون جوهرا قائما بنفسه ولا يتصور أن يكون خالقا ولا للكلام مشيئة ولا هو جوهر آخر غير جوهر المتكلم ولا يتحد بغير المتكلم بل جمهورهم يقولون إنه لا يحل أيضا بغير المتكلم
ومن قال بالحلول منهم فلا يقول إن الحال جوهر ولا إله خالق فتبين أن ما قاله النصارى باطل على جميع الأقوال التي قالها الناس
في كلام الله مع أن أكثر هذه الأقوال خطأ ولما كان قول النصارى فساده أظهر للعقلاء كان الخطأ الذي في أكثر هذه الأقوال قد خفي على العقلاء الذين قالوها ولم يخف عليهم فساد قول النصارى
وأيضا فالذين قالوا بالحلول من الغلاة الذين يكفرهم المسلمون كالذين يقولون بحلوله في بعض أهل البيت أو بعض المشايخ هم وإن كانوا كفارا شاركوا النصارى في الحلول ولكن لم يقولوا أن الكلمة التي حلت هي الإله الخالق فيتناقضون تناقضا ظاهرا مثل ما في قول النصارى من التناقض البين ما ليس في قول هؤلاء وإن كانوا في بعض الوجوه قولهم شر من قول النصارى
الوجه الرابع أن يقال لو كان المسيح نفس كلمة الله فكلمة الله ليست هي الإله الخالق للسماوات والأرض ولا هي تغفر الذنوب وتجزي الناس بأعمالهم سواء كانت كلمته صفة له أو مخلوقة له كسائر صفاته ومخلوقاته فإن علم الله وقدرته وحياته لم تخلق العالم ولا يقول أحد يا علم الله اغفر لي ويا قدرة الله توبي علي ويا كلام الله ارحمني ولا يقول يا توراة الله
أو يا إنجيله أو يا قرآنه اغفر لي وارحمني وإنما يدعو الله سبحانه وهو سبحانه متصف بصفات الكمال فكيف والمسيح ليس هو نفس الكلام
فإن المسيح جوهر قائم بنفسه والكلام صفة قائمة بالمتكلم وليس هو نفس الرب المتكلم فإن الرب المتكلم هو الذي يسمونه الأب والمسيح ليس هو الأب عندهم بل الابن فضلوا في قولهم من جهات
منها جعل الأقانيم ثلاثة وصفات الله لا تختص بثلاثة
ومنها جعل الصفة خالقة والصفة لا تخلق
ومنها جعلهم المسيح نفس الكلمة والمسيح خلق بالكلمة فقيل له كن فكان كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفسير ذلك وإنما خص المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشر لأن سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات يخلق الواحد من ذرية آدم من نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم ينفخ فيه الروح وخلقوا من ماء الأبوين الأب والأم
والمسيح عليه السلام لم يخلق من ماء رجل بل لما نفخ روح القدس في أمه حبلت به وقال الله كن فكان ولهذا شبهه الله بآدم في قوله
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
فإن آدم عليه السلام خلق من تراب وماء فصار طينا ثم أيبس الطين ثم قال له كن فكان وهو حين نفخ الروح فيه صار بشرا تاما لم يحتج بعد ذلك إلى ما احتاج إليه أولاده بعد نفخ الروح فإن الجنين بعد نفخ الروح يكمل خلق جسده في بطن أمه فيبقى في بطنها نحو خمسة أشهر ثم يخرج طفلا يرتضع ثم يكبر شيئا بعد شيء وآدم عليه السلام حين خلق جسده قيل له كن فكان بشرا تاما بنفخ الروح فيه ولكن لم يسم كلمة الله لأن جسده خلق من التراب والماء وبقي مدة طويلة يقال أربعين سنة فلم يكن خلق جسده إبداعيا في وقت واحد بل خلق شيئا فشيئا وخلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة
وأما المسيح عليه السلام فخلق جسده خلقا إبداعيا بنفس نفخ روح القدس في أمه قيل له كن فكان فكان له من الاختصاص بكونه خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر ومن الأمر المعتاد في لغة العرب وغيرهم أن الاسم العام إذا كان له نوعان خصت أحد النوعين باسم وأبقت الاسم العام مختصا بالنوع كلفظ الدابة والحيوان فإنه عام في كل ما يدب وكل حيوان ثم لما كان للآدمي اسم يخصه
بقي لفظ الحيوان يختص به البهيم ولفظ الدابة يختص به الخيل أو هي والبغال والحمير ونحو ذلك وكذلك لفظ الجائز والممكن وذوي الأرحام وأمثال ذلك فلما كان لغير المسيح ما يختص به أبقي اسم الكلمة العامة مختصا بالمسيح
الطريق الثاني أن ما ذكروه حجة عليهم فإن الله إذا لم يكلم أحد من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب فالمسيح عيسى بن مريم يجب أن لا يكلمه إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل إليه رسولا
وقوله تعالى
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب
يعم كل بشر المسيح وغيره
وإذا امتنع أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب فامتناع أن يتحد به أو يحل فيه أولى وأحرى
فإن ما اتحد به وحل فيه كلمة الله من غير حجاب بين اللاهوت والناسوت وهم قد سلموا أن الله لا يكلم بشرا إلا من وراء حجاب
الوجه الثالث أن قوله
وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب
يقتضي أن يكون الحجاب حجابا يحجب البشر كما حجب موسى فيقتضي ذلك أنهم لا يرونه في الدنيا وإن كلمهم كما أنه كلم موسى ولم يره موسى بل سأل الرؤية فقال
قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين
قيل أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد في الدنيا وعندهم في التوراة أن الإنسان لا يمكنه أن يرى الله في الدنيا فيعيش
وكذلك قال عيسى لما سألوه عن رؤية الله فقال إن الله لم يره أحد قط وهذا معروف عندهم وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون الحجاب الحاجب للبشر ليس هو من البشر وهذا يبطل قول النصارى فإنهم يقولون إن الرب احتجب بحجاب بشري وهو الجسد الذي ولدته مريم فاتخذه حجابا وكلم الناس من ورائه والقرآن يدل على أن الحجاب ليس من البشر
يبين هذا الوجه الرابع وهو أن ذلك الجسد الذي ولدته مريم هو من جنس أجسام بني آدم فإن جاز أن يتحد به ويحل فيه ويطيق الجسد البشري ذلك في الدنيا بما يجعله الله فيه من القوة جاز أن يتحد بغيره من الأجسام بما يجعله فيها من القوة وإذا جاز أن يتحد بها جاز أن يكلمها بغير حجاب بينه وبينها بطريق الأولى والأحرى وهذا خلاف ما ذكروه وخلاف القرآن
فتبين أن نفي الأنبياء لأن يراه المرء في الدنيا هو نفي لمماسته ببشر بطريق الأولى والأحرى والناسوت المسيحي هو بشر فإذا لم يمكنه أن يرى الله فكيف يمكنه أن يتحد به ويماسه ويصير هو وإياه كاللبن والماء والنار والحديد أو كالروح والبدن
الوجه الخامس أنه من المعلوم أن رؤية الآدمي له أيسر من
اتحاده به وحلوله فيه وأولى بالإمكان فإذا كانت الرؤية في الدنيا قد نفاها الله ومنعها على ألسن رسله موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه فكيف يجوز اتصاله بالبشر واتحاده به
الوجه السادس أنه لو كان حلوله في البشر مما هو ممكن وواقع لم يكن لاختصاص واحد من البشر بذلك دون من قبله وبعده معنى فإن القدرة شاملة والمقتضى وهو وجود الله وحاجة الخلق موجودة ولهذا لما كانت الرسالة ممكنة أرسل من البشر غير واحد ولما كان سماع كلامه للبشر ممكنا سمع كلامه غير واحد ورؤيته في الدنيا بالأبصار لم تقع لأحد باتفاق علماء المسلمين لكن لهم في النبي قولان والذي عليه أكابر العلماء وجمهورهم أنه لم يره بعينه كما دل على ذلك الكتاب والسنة
والخلة لما كانت ممكنة اتخذ إبراهيم خليلا واتخذ محمد أيضا خليلا كما في الصحيح من غير وجه عن النبي أنه قال إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وقال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا
لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله يعني نفسه
الوجه السابع قولهم وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف مثل الروح وغيرها فكلمة الله التي بها خلقت الكثائف تظهر في غير كثيف كلا
فيقال لهم ظهور اللطائف في الكثائف كلام مجمل فإن أردتم أن روح الإنسان تظهر في جسده أو الجني يتكلم على لسان المصروع ونحو ذلك فليس هذا مما نحن فيه وإن أردتم أن الله تعالى نفسه يحل في البشر فهذا محل النزاع فأين الدليل عليه وأنتم لم تذكروا إلا ما يدل على نقيض ذلك
الوجه الثامن أن هذا أمر لم يدل عليه عقل ولا نقل ولا نطق نبي من الأنبياء بأن الله يحل في بشر ولا ادعى صادق قط حلول الرب فيه وإنما يدعي ذلك الكذابون كالمسيح الدجال الذي يظهر في آخر الزمان ويدعي الإلهية فينزل الله تبارك وتعالى عيسى ابن مريم
مسيح الهدى فيقتل مسيح الهدى الذي ادعيت فيه الإلهية بالباطل المسيح الدجال الذي ادعى الإلهية بالباطل ويبين أن البشر لا يحل فيه رب العالمين
ولهذا لما أنذر النبي بالمسيح الدجال وقال
ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال حتى نوح أنذر قومه به
وذكر النبي له ثلاث دلائل ظاهرة تظهر لكل مسلم تبين كذبه
أحدها قوله
مكتوب بين عينيه كافر ك ف ر يقرأه كل مؤمن قارىء وغير قارىء
الثاني قوله واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت فبين أن الله لا يراه أحد في الدنيا بعينيه وكل بشر فإنه يرى في الدنيا بالعين فعلم أن الله لا يتحد ببشر
الثالث قوله أنه أعور وأن ربكم ليس بأعور ودلائل نفي الربوبية عنه كثيرة
لكن لما كان حلول اللاهوت في البشر واتخاذه به مذهبا ضل به طوائف كثيرون من بني آدم النصارى وغيرهم وكان المسيح الدجال يأتي بخوارق عظيمة والنصارى احتجوا على إلهية المسيح بمثل ذلك ذكر النبي من علامات كذبه أمورا ظاهرة لا يحتاج فيها إلى بيان موارد النزاع التي ضل فيها خلق كثير من الآدميين فإن كثيرا من الناس بل أكثرهم تدهشهم الخوارق حتى يصدقوا صاحبها قبل النظر في إمكان دعواه وإذا صدقوه صدقوا النصارى في دعوى إلهية المسيح وصدقوا أيضا من ادعى الحلول
والاتحاد في بعض المشايخ أو بعض أهل البيت أو غيرهم من أهل الإفك والفجور
وبهذا يظهر الجواب عما يورده بعض أهل الكلام كالرازي على هذا الحديث حيث قالوا دلائل كون الدجال ليس هو الله ظاهرة فكيف يحتج النبي على ذلك بقوله إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور وهذا السؤال يدل على جهل قائله بما يقع فيه بنو آدم من الضلال وبالأدلة البينة التي تبين فساد الأقوال الباطلة وإلا فإذا كان بنو إسرائيل في عهد موسى ظنوا أن العجل هو إله موسى فقالوا هذا إلهكم وإله موسى وظنوا أن موسى نسيه
والنصارى مع كثرتهم يقولون أن المسيح هو الله وفي المنتسبين إلى القبلة خلق كثير يقولون ذلك في كثير من المشايخ وأهل البيت حتى إن كثيرا من أكابر شيوخ المعرفة والتصوف يجعلون هذا نهاية التحقيق والتوحيد وهو أن يكون الموحد هو الموحد وينشدون ... ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد ...
... توحيد من يخبر عن نعته ... عارية أبطلها الواحد ...
... توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحد ...
فكيف يستبعد مع إظهار الدجال هذه الخوارق العظيمة أن يعتقد فيه أنه الله وهو يقول أنا الله وقد اعتقد ذلك فيمن لم يظهر فيه مثل خوارقه من الكذابين وفيمن لم يقل أنا الله كالمسيح وسائر الأنبياء والصالحين
الوجه التاسع قولهم فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا فيقال لهم كلمة الله التي يدعون ظهورها في المسيح أهي كلام الله الذي هو صفته أو ذات الله المتكلمة أو مجموعها فإن قلتم الظاهر فيه نفس الكلام فهذا يراد به شيئان
إن أريد به أن الله أنزل كلامه على المسيح كما أنزله على غيره من الرسل فهذا حق اتفق عليه أهل الإيمان ونطق به القرآن
وإن أريد به أن كلام الله فارق ذاته وحل في المسيح أو غيره فهو باطل مع أن هذا لاينفع النصارى فإن المسيح عندهم إله خلق السماوات والأرض وهو عندهم ابن آدم وخالق آدم وابن مريم وخالق مريم ابنها بناسوته وخالقها بلاهوته
وإن أرادوا بظهور الكلمة ظهور ذات الله أو ظهور ذاته وكلامه في الكثيف الذي هو الإنسان فهذا أيضا يراد به ظهور نوره في قلوب المؤمنين كما قال تعالى
الله نور السماوات والأرض إلى قوله كوكب دري الآية
وكما ظهر الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من
جبال فاران وكما تجلى لإبراهيم كما ذكره في التوراة فهذا لا يختص بالمسيح بل هو لغيره كما هو له
وإن أرادوا أن ذات الرب حلت في المسيح أو في غيره فهذا محل النزاع فأين دليلهم على إمكان ذلك ثم وقوعه مع أن جماهير العقلاء من أهل الملل وغيرهم يقولون هذا غير واقع بل هو ممتنع
الوجه العاشر قولهم فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا كلام باطل
فإن ظهور ما يظهر من الأمور الإلهية إذا أمكن ظهوره فظهوره في اللطيف أولى من ظهوره في الكثيف فإن الملائكة تنزل بالوحي على الأنبياء عليهم السلام وتتلقى كلام الله من الله وتنزل به على الأنبياء عليهم السلام فيكون وصول كلام الله إلى ملائكة قبل وصوله إلى البشر وهم الوسائط كما قال تعالى
أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء
والله تعالى أيد رسله من البشر حتى أطاقوا التلقي عن الملائكة وكانت الملائكة تأتيهم أحيانا في غير الصورة البشرية وأحيانا في الصورة البشرية فكان ظهور الأمور الإلهية باللطائف ووصولها إليهم أولى منه بالكثائف ولو جاز أن يتحد الرب سبحانه بحي من الأحياء ويحل فيه لكان حلوله في ملك من الملائكة واتحاده به أولى من حلوله واتحاده بواحد من البشر
الوجه الحادي عشر أن الناسوت المسيحي عندهم الذي اتحد به هو البدن والروح معا فإن المسيح كان له بدن وروح كما لسائر البشر واتحد به عندهم اللاهوت فهو عندهم اسم يقع على بدن وروح آدميين وعلى اللاهوت وحينئذ فاللاهوت على رأيهم إنما اتحد في لطيف وهو الروح وكثيف وهو البدن لم يظهر في كثيف فقط ولولا اللطيف الذي كان مع الكثيف وهو الروح لم يكن للكثيف فضيلة ولا شرف
الوجه الثاني عشر أنهم يشبهون اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح بالبدن كما شبهوا هنا ظهوره فيه بظهور الروح في البدن وحينئذ فمن المعلوم أن ما يصيب البدن من الآلام تتألم به الروح وما تتألم به الروح يتألم به البدن فيلزمهم أن يكون الناسوت لما صلب وتألم وتوجع الوجع الشديد كان اللاهوت أيضا متألما متوجعا وقد خاطبت بهذا بعض النصارى فقال لي الروح بسيطة أي لا يلحقها ألم فقلت له فما تقول في أرواح الكفار بعد الموت أمنعمة أو معذبة فقال هي في العذاب فقلت فعلم أن الروح المفارقة تنعم وتعذب فإذا
شبهتم اللاهوت في الناسوت بالروح في البدن لزم أن تتألم إذا تألم الناسوت كما تتألم الروح إذا تألم البدن فاعترف هو وغيره بلزوم ذلك
الوجه الثالث عشر أن قولهم وإذا كانت اللطائف لاتظهر إلا في الكثائف فكلمة الله لا تظهر إلا في كثيف كلا
تركيب فاسد لا دلالة فيه وإنما يدل إذا بينوا أن كل لطيف يظهر في كثيف ولا يظهر في غيره حتى يقال فلهذا ظهر الله في كثيف ولم يظهر في لطيف وإلا فإذا قيل إنه لا يحل لا في لطيف ولا كثيف أو قيل إنه يحل فيهما بطل قولهم بوجوب حلوله في المسيح الكثيف دون اللطيف وهم لم يؤلفوا الحجة تأليفا منتجا ولا دلوا على مقدماتها بدليل فلا أتوا بصورة الدليل ولا مادته بل مغاليط لا تروج إلا على جاهل يقلدهم
ولا يلزم من حلول الروح في البدن أن يحل كل شيء في البدن بل هذه دعوى مجردة فأرواح بني آدم تظهر في أبدانهم ولا تظهر في أبدان البهائم بل ولا في الجن والملائكة تتصور في صورة الآدميين وكذلك الجن والإنسان لا يظهر في غير صورة الإنسان فأي دليل من كلامهم على أن الرب يحل في الإنسان الكثيف ولا يحل في اللطيف
والقوم شرعوا يحتجون على تجسيم كلمة الله الخالقة فقالوا وأما تجسيم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا أي الكلمة مع
الناسوت فإن الله لم يكلم أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب وليس فيما ذكروه قط دلالة لا قطعية ولا ظنية على تجسيم كلمة الله الخالقة وولادتها مع الناسوت
الوجه الرابع عشر أنهم قالوا وأما تجسيم كلمة الله الخالقة ثم قالوا فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف فتارة يجعلونها خالقة وتارة يجعلونها مخلوقا بها ومعلوم أن الخالق ليس هو المخلوق به والمخلوق به ليس هو الخالق فإن كانت الكلمة خالقة فهي خلقت الأشياء ولم تخلق الأشياء بها وإن كانت الأشياء خلقت بها فلم تخلق الأشياء بل خلقت الأشياء بها ولو قالوا إن الأشياء خلق بها بمعنى أن الله إذا أراد أمرا فإنما يقول له كن فيكون لكان هذا حقا لكنهم يجعلونها خالقة مع قولهم بما يناقض ذلك
الوجه الخامس عشر أن يقال لهم إذا كان الله لم يخاطب بشرا إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء فتكليمه للبشر بالوحي ومن وراء حجاب كما كلم موسى وبإرسال ملك كما أرسل الملائكة إما أن يكون كافيا في حصول مراد الرب من الرسالة إلى عباده أو ليس كافيا بل لا بد من حلوله نفسه في بشر فإن كان ذلك كافيا أمكن أن يكون المسيح مثل غيره فيوحي الله إليه أو يرسل إليه ملكا فيوحي بإذن الله ما يشاء أو يكلمه من وراء حجاب كما كلم
موسى وحينئذ فلا حاجة به إلى اتحاده ببشر مخلوق وإن كان التكلم ليس كافيا وجب أن يتحد بسائر الأنبياء كما اتحد بالمسيح فيتحد بنوح وإبراهيم وموسى وداود وغيرهم يبين هذا
الوجه السادس عشر وهو أنه من المعلوم أن الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح أفضل من عوام النصارى الذين كانوا بعد المسيح وأفضل من اليهود الذين كذبوا المسيح فإذا كان الرب قد يفضل باتحاده في المسيح حتى كلم عباده بنفسه فيتحد بالمسيح محتجبا ببدنه الكثيف وكلم بنفسه اليهود المكذبين للمسيح وعوام النصارى وسائر من كلمه المسيح فكان أن يكلم من هم أفضل من هؤلاء من الأنبياء والصالحين بنفسه أولى وأحرى مثل أن يتحد بإبراهيم الخليل فيكلم إسحاق ويعقوب ولوطا محتجبا ببدن الخليل أو يتحد بيعقوب فيكلم أولاده أو غيرهم محتجبا ببدن يعقوب أو يتحد بموسى بن عمران فيكلم هارون ويوشع بن نون وغيرهما محتجبا ببدن موسى فإذا كان هو سبحانه لم يفعل ذلك إما لامتناع ذلك وإما لأن عزته وحكمته اعلى من ذلك مع عدم الحاجة إلى ذلك علم أنه لا يفعل ذلك في المسيح بطريق الأولى والأحرى
الوجه السابع عشر أنه إذا أمكنه أن يتحد ببشر فاتحاده بملك من الملائكة أولى وأحرى وحينئذ فقد كان اتحاده بجبريل الذي أرسله إلى الأنبياء أولى من اتحاده ببشر يخاطب اليهود وعوام النصارى
فصل
قالوا ولذلك ظهر في عيسى بن مريم إذ الإنسان أجل ما خلقه الله ولهذا خاطب الخلق وشاهدوا منه ما شاهدوا
فيقال إن ادعيتم ظهوره في عيسى كما ظهر في إبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه وكما يظهر في بيوته التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وذلك بظهور نوره ومعرفته وذكر أسمائه وعبادته ونحو ذلك من غير حلول ذاته في البشر ولا اتحاده به فهذا أمر مشترك بين المسيح وغيره فلا اختصاص للمسيح بهذا وهذا أيضا قد يسمى حلولا وعندهم أن الله يحل في الصالحين وهذا مذكور عندهم في بعض الكتب الإلهية كما في كتبهم في المزمور الرابع من الزبور يقول داود عليه السلام في مناجاته لربه وليفرح المتوكلون عليك إلى الأبد ويبتهجون وتحل فيهم ويفتخرون فأخبر أنه يحل في الصالحين المذكورين فعلم أن هذا لا اختصاص للمسيح به وليس المراد بهذا باتفاقهم واتفاق المسلمين أن ذات الله نفسه تتحد بالبشر ويصير اللاهوت والناسوت كالنار والحديد والماء واللبن
ونحو ذلك مما يمثلون به الاتحاد بل هذا يراد به حلول الإيمان به ومعرفته ومحبته وذكره وعبادته ونوره وهداه
وقد يعبر عن ذلك بحلول المثال العلمي كما قال تعالى
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله
وقال تعالى
وهو الله في السماوات وفي الأرض
وله المثل الأعلى في السماوات والأرض
فهو سبحانه له المثل الأعلى في قلوب أهل السماوات وأهل الأرض
ومن هذا الباب ما يرويه النبي عن ربه قال
يقول الله أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه فأخبر أن شفتيه تتحرك به أي باسمه وكذلك قوله في الحديث الصحيح
عبدي مرضت فلم تعدني فيقول العبد رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده
فقال لوجدتني عنده ولم يقل لوجدتني إياه وهو عنده أي في قلبه والذي في قلبه المثال العلمي
وقال تعالى
عبدي جعت فلم تطعمني فيقول وكيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي ولم يقل لوجدتني قد أكلته
وكذلك قوله في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال يقول الله تعالى
من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها
وفي رواية فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولإن سألني لأعطينه ولإن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته
وهذا الحديث قد يحتج به القائلون بالحلول العام أو الاتحاد العام أو وحدة الوجود وقد يحتج به من يقول بالخاص من ذلك كأشباه النصارى
والحديث حجة على الفريقين فإنه قال
من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب فأثبت ثلاثة وليا له وعدوا يعادي وليه وميز بين نفسه وبين وليه وعدو وليه فقال
من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ولكن دل ذلك على أن وليه الذي والاه فصار يحب ما يحب ويبغض ما يبغض ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي فيكون الرب مؤذنا بالحرب لمن عاداه بأنه معاد لله
ثم قال تعالى
وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ففرق بين العبد المتقرب والرب المتقرب إليه ثم قال
ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فبين أنه يحبه بعد تقربه بالنوافل والفرائض
ثم قال فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وعند أهل الحلول والاتحاد العام أو الوحدة هو صدره وبطنه وظهره ورأسه وشعره وهو كل شيء أو في كل شيء قبل التقرب وبعده وعند الخاص وأهل الحلول صار هو وهو كالنار والحديد والماء واللبن لا يختص بذلك آلة الإدراك والفعل
ثم قال تعالى
فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي وعلى قول هؤلاء الرب هو الذي يسمع ويبصر ويبطش ويمشي والرسول إنما قال
فبي ثم قال
ولئن سألني لأعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه فجعل العبد سائلا مستعيذا والرب مسؤولا مستعاذا به وهذا يناقض الاتحاد وقوله فبي يسمع مثل قوله ما تحركت بي شفتاه يريد به المثال العلمي
وقول الله فيكون الله في قلبه أي معرفته ومحبته وهداه وموالاته وهو المثل العلمي فبذاك الذي في قلبه يسمع ويبصر ويبطش ويمشي
والمخلوق إذا أحب المخلوق أو عظمه أو أطاعه يعبر عنه بمثل هذا فيقول أنت في قلبي وفي فؤادي وما زلت بين عيني ومنه قول القائل
... مثالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب ...
وقول الآخر
... ومن عجبي أني أحن إليهم ... وأسأل عنهم من لقيت وهم معي ...
... وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
ومثل هذا كثير مع علم العقلاء أن نفس المحبوب المعظم هو في نفسه ليست ذاته في عين محبه ولا في قلبه ولكن قد يشتبه هذا بهذا حتى يظن الغالطون أن نفس المحبوب المعبود في ذات المحب العابد
ولذلك غلط بعض الفلاسفة حتى ظنوا أن ذات المعلوم المعقول يتحد بالعالم العاقل فجعلوا المعقول والعقل والعاقل شيئا واحدا ولم يميزوا بين حلول مثال المعلوم وبين حلول ذاته وهذا يكون لضعف العقل وقوة سلطان المحبة والمعرفة فيغيب الإنسان بمعبوده عن عبادته وبمحبوبه عن محبته وبمشهوده عن شهادته وبمعروفه عن معرفته فيفنى من لم يكن عن شهود العبد لا أنه نفسه يعدم ويفنى في من لم يزل في شهوده ومن هذا المقام إذا غلط قد يقول مثل ما يحكى عن أبي يزيد البسطامي سبحاني أو ما في الجبة
إلا الله وفي هذا تذكر حكاية وهو أن شخصا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في ماء فألقى المحب نفسه خلفه فقال أنا وقعت فلم وقعت أنت فقال غبت بك عني فظننت أنك أني فهذا العبد المحب لما استولى على قلبه سلطان المحبة صار قلبه مستغرقا في محبوبه لا يشهد قلبه غير ما في قلبه وغاب عن شهود نفسه وأفعاله فظن أنه هو نفس المحبوب وهذا أهون من أن يظن أن ذات المحبوب نفسه
فهذا الظن لاتحاد الذات أو لحلولها ظن غالط وقع فيه كثير من الناس فالذين قالوا إن المسيح أو غيره من البشر هو الله أو أن الله حال فيه قد يكون غلطهم من هذا الجنس لما سمعوا كلاما يقتضي أن الله في ذات الشخص وجعلوا فعل هذا فعل هذا ظنوا ذاك اتحاد الذات وحلولها
وإنما المراد أن معرفة الله فيه واتحاد المأمور به والمنهي عنه والموالي والمعادي كقوله تعالى
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
وقوله
من يطع الرسول فقد أطاع الله
وليس ذلك لأن الرسول هو الله ولا لأن نفسه حال في
الرسول بل لأن الرسول يأمر بما أمر الله به وينهى عما ينهى الله عنه ويحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه الله ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله
فمن بايعه على السمع والطاعة فإنما بايع الله على السمع والطاعة ومن أطاعه فإنما أطاع الله
وكذلك المسيح وسائر الرسل إنما يأمرون بما يأمر الله به وينهون عما ينهى الله عنه ويوالون أولياء الله ويعادون أعداء الله فمن أطاعهم فقد أطاع الله ومن صدقهم فقبل منهم ما أخبروا به فقد قبل عن الله ومن والاهم فقد والى الله ومن عاداهم وحاربهم فقد عادى الله وحارب الله ومن تصور هذه الأمور تبين له أن لفظ الحلول قد يعبر به عن معنى صحيح وقد يعبر به عن معنى فاسد
وكذلك حلول كلامه في القلوب ولذلك كره أحمد بن حنبل
الكلام في لفظ حلول القرآن في القلوب كما قد ذكر في غير هذا الموضع
ومما يوضح هذا أن الشيء له وجود في نفسه هو وله وجود في المعلوم والأذهان ووجود في اللفظ واللسان ووجود في الخط والبيان ووجود عيني شخصي وعلمي ولفظي ورسمي وذلك كالشمس مثلا فلها تحقق في نفسها وهي الشمس التي في السماء ثم يتصور بالقلب الشمس ثم ينطق اللسان بلفظ الشمس ويكتب بالقلم الشمس
والمقصود بالكتابة مطابقة اللفظ وباللفظ مطابقة العلم وبالعلم مطابقة المعلوم فإذا رأى الإنسان في كتاب خط الشمس أو سمع قائلا يذكر قال هذه الشمس قد جعلها الله سراجا وهاجا وهذه الشمس تطلع من المشرق وتغرب في المغرب فهو يشير إلى ما سمعه من اللفظ ورآه من الخط وليس مراده نفس اللفظ والخط فإن ذلك ليس هو الشمس التي تطلع وتغرب وإنما مراده ما يقصد بالخط واللفظ ويراد بهما وهو المدلول المطابق لهما وكذلك قد يرى اسم الله مكتوبا في كتاب ومعه اسم صنم فيقول آمنت بهذا وكفرت بهذا ومراده أنه مؤمن بالله كافر بالصنم فيشير إلى اسمه المكتوب ومراده المسمى بهذا الاسم وكذلك إذا سمع من يذكر أسماء الله الحسنى قال هذا رب العالمين ومراده المسمى بتلك الأسماء ومن هذا قول أنس بن
مالك كان نقش خاتم النبي ثلاثة أسطر محمد رسول الله محمد سطر ورسول سطر والله سطر
ومراده بهذه الأسماء الخط لهذا وهذا وهذا لا اللفظ ولا المسمى
ومما يشبه هذا ما يرى في المرآة أو الماء مثل أن يرى الشمس أو غيرها في ماء أو مرآة فيشار إلى المرئي فيقال هذا الشمس وهذا وجهي أو وجه فلان وليس مراده أن نفس الشمس أو وجهه أو وجه فلان حل في الماء أو المرآة ولكن لما كان المقصود بتلك الرؤية هو الشمس وهو الوجه ذكره ثم قد يقال رآه رؤية مقيدة في الماء أو المرآة وقد يقال رآه بواسطة الماء والمرآة وقد يقال رأى مثاله وخياله المحاكي له ولكن المقصود بالرؤية هو نفسه ومثل هذا كثير
ومعلوم أن ما في القلوب من المثال العلمي المطابق للمعلوم أقرب إليه من اللفظ واللفظ أقرب من الخط فإذا كان قد يشار إلى اللفظ والخط والمراد هو نفسه وإن لم يكن الخط واللفظ هو ذاته بل به ظهر وعرف فلأن يشار إلى ما في القلب ويراد به المعروف الذي ظهر للقلب وتجلى للقلب وصار نوره في القلب بطريق الأولى
والعقلاء إنما تتوجه قلوبهم إلى المقصود المراد دون الوسائل ويعبرون بعبارات تدل على ذلك لظهور مرادهم بها كما يقولون لمن يعرف علم غيره أو لمن يأمر بأمره ويخبر بخبره هذا فلان فإذا كان مطلوبهم علم عالم أو طاعة أمير فجاء نائبه القائم مقامه في ذلك قالوا هذا فلان أي المطلوب منه هو مع هذا فالاتحاد المقصود بهما يعبرون عن أحدهما بلفظ الآخر
كما يقال عكرمة هو ابن عباس وأبو يوسف هو
أبو حنيفة ومن هذا الباب ما يذكر عن المسيح عليه السلام أنه قال أنا وأبي واحد من رآني فقد رأى أبي
وقوله تعالى فيما حكاه عن رسوله
عبدي مرضت فلم تعدني عبدي جعت فلم تطعمني ويشبهه قوله
إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
فينبغي أن يعرف هذا النوع من الكلام فإنه تنحل به إشكالات كثيرة فإن هذا موجود في كلام الله ورسله وكلام المخلوقين في عامة الطوائف مع ظهور المعنى ومعرفة المتكلم والمخاطب أنه ليس المراد أن ذات أحدهما اتحدت بذات الآخر
بل أبلغ من ذلك يطلق لفظ الحلول والاتحاد ويراد به معنى صحيح كما يقال فلان وفلان بينهما اتحاد إذا كانا متفقين فيما يحبان ويبغضان ويواليان ويعاديان فلما اتحد مرادهما ومقصودهما صار يقال هما متحدان وبينهما اتحاد ولا يعني بذلك أن ذات هذا اتحدت بذات الآخر كاتحاد النار والحديد والماء واللبن أو النفس والبدن وكذلك لفظ الحلول والسكنى والتخلل وغير ذلك كما قيل
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمى الخليل خليلا ...
والمتخلل مسلك الروح منه هو محبته له وشعوره به ونحو ذلك لا نفس ذاته وكذلك قول الآخر
... ساكن في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره ...
والساكن في القلب هو مثاله العلمي ومحبته ومعرفته فتسكن في القلب معرفته ومحبته لا عين ذاته وكذلك قول الآخر
... إذا سكن الغدير على صفاء ... وجنب أن يحركه النسيم ...
... بدت فيه السماء بلا امتراء ... كذاك الشمس تبدو والنجوم ...
... كذاك قلوب أرباب التجلي ... يرى في صفوها الله العظيم ...
وقد يقال فلان ما في قلبه إلا الله وما عنده إلا الله يراد بذلك إلا ذكره ومعرفته ومحبته وخشيته وطاعته وما يشبه ذلك أي ليس في قلبه ما في قلب غيره من المخلوقين بل ما في قلبه إلا الله وحده ويقال فلان ما عنده إلا فلان إذا كان يلهج بذكره ويفضله على غيره
وهذا باب واسع مع علم المتكلم والمستمع أن ذات فلان لم تحل في هذا فضلا عن أن تتحد به وهو كما يقال عن المرآة إذا
لم تقابل إلا الشمس ما فيها إلا الشمس أي لم يظهر فيها غير الشمس
وأيضا فلفظ الحلول يراد به حلول ذات الشيء تارة وحلول معرفته ومحبته ومثاله العلمي تارة كما تقدم ذكره وعندهم في النبوات أن الله حل في غير المسيح من الصالحين وليس المراد به أن ذات الرب حلت فيه بل يقال فلان ساكن في قلبي وحال في قلبي وهو في سري وسويداء قلبي ونحو ذلك وإنما حل فيه مثاله العلمي وإذا كان كذلك فمعلوم أن المكان إذا خلا ممن يعرف الله ويعبده لم يكن هناك ذكر الله ولا حلت فيه عبادته ومعرفته فإذا صار في المكان من يعرف الله ويعبده ويذكره ظهر فيه ذكره والإيمان به وحل فيه الإيمان بالله وعبادته وذكره وهو بيت الله عز و جل فيقال إن الله فيه وهو حال فيه
كما يقال إن الله في قلوب العارفين وحال فيهم والمراد به حلول معرفته والإيمان به ومحبته ونحو ذلك وقد تقدم شواهد ذلك فإذا كان الرب في قلوب عباده المؤمنين أي نوره ومعرفته وعبر عن هذا بأنه حال فيهم وهم حالون في المسجد قيل إن الله في المسجد وحال فيه بهذا المعنى كما يقال الله في قلب فلان وفلان ما عنده إلا الله كما قال النبي في الحديث الصحيح أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده
ومما يزيد ذلك إيضاحا ما يراه النائم من بعض الأشخاص في
منامه فيخاطبه ويأمره وينهاه ويخبره بأمور كثيرة وهو يقول رأيت فلانا في منامي فقال لي كذا وقلت له كذا وفعل كذا وفعلت كذا ويذكر أنواعا من الأقوال والأفعال
وقد يكون فيها علوم وحكم وآداب ينتفع بها غاية المنفعة وقد يكون ذلك الشخص الذي رأى في المنام حيا وهو لا يشعر بأن ذاك رآه في منامه فضلا عن أن يكون شاعرا بأنه قال أو فعل وقد يقص الرائي عليه رؤياه ويقول له الرائي يا سيدي رأيتك في المنام فقلت لي كذا وأمرتني بكذا ونهيتني عن كذا والمرئي لا يعرف ذلك ولا يشعر به لأن المرئي الذي حل في قلب الرائي هو المثال العلمي المطابق للعيني كما يرى الرائي في المرآة أو الماء الشخص الموجود في الخارج فهو المقصود وبعض المرئيين في المنام قد يدري بأنه رؤى في المنام ويكاشف بذلك الرائي كما قد يكاشفه بأمور أخرى لا لأنه نفسه حل فيه
والرؤيا إذا كانت صادقة كان ذلك القول والعمل مناسبا لحال المرئي مما هو عادته يقوله ويفعله بنفسه فمثل للرائي مثاله قائلا له وفاعلا ليعلم أنه نفسه يقوله ويفعله فينتفع بذلك الرائي كما يحكى للإنسان قول غيره وعمله ليعرف بذلك نفس القول والعمل المحكي فإن كثيرا من الأشياء لا يعرفه الناس أو أكثرهم إلا بالمثل المضروب له إما في اليقظة وإما في المنام مع العلم بأن عين هذا ليس عين هذا
ومن توهم أنه إذا رأى شخصا في منامه بأن ذاته نفسها حلت فيه دل على جهله فإن المرئي كثيرا ما يكون حيا وهو لا يشعر بمن رآه ذلك لا روحه تشعر ولا جسمه فلا يتوهم أن ذات روحه تمثلت في صورته الجسمية للنائم بل الممثل في نفس الرائي مثال مطابق له وجسمه وروحه حيث هما
ثم الرؤيا قد تكون من الله فتكون حقا وقد تكون من الشيطان كما ثبت تقسيمها إلى هذين في الأحاديث الصحيحة والشيطان كما قد يتمثل في المنام بصورة شخص فقد يتمثل أيضا في اليقظة بصورة شخص يراه كثير من الناس يضل بذلك من لم يكن من أهل العلم والإيمان كما يجري لكثير من مشركي الهند وغيرهم إذا مات ميتهم يرونه قد جاء بعد ذلك وقضى ديونا ورد ودائع وأخبرهم بأمور عن موتاهم وإنما هو شيطان تصور في صورته وقد يأتيهم في صورة من يعظمونه من الصالحين ويقول أنا فلان وإنما هو شيطان
وقد يقوم شيخ من الشيوخ ويخلف موضعه شخصا في صورته يسمونه روحانية الشيخ ورفيقه وهو جني تصور في صورته وهذا
يقع لكثير من الرهبان وغير الرهبان من المنتسبين إلى الإسلام وقد يرى أحدهم في اليقظة من يقول له أنا الخليل أو أنا موسى أو أنا المسيح أو محمد أو أنا فلان لبعض الصحابة أو الحواريين ويراه طائرا في الهواء وإنما يكون ذلك من الشياطين ولا تكون تلك الصورة مثل صورة ذلك الشخص
وقد قال النبي
من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي فرؤيته في المنام حق وأما في اليقظة فلا يرى بالعين هو ولا أحد من الموتى مع أن كثيرا من الناس قد يرى في اليقظة من يظنه نبيا من الأنبياء إما عند قبره وإما عند غير قبره
وقد يرى القبر انشق وخرج منه صورة إنسان فيظن أن الميت نفسه خرج من قبره أو أن روحه تجسدت وخرجت من القبر وإنما ذلك جني تصور في صورته ليضل ذلك الرائي فإن الروح ليست مما
تكون تحت التراب وينشق عنها التراب فإنها وإن كانت قد تتصل بالبدن فلا يحتاج في ذلك إلى شق التراب والبدن لم ينشق عنه التراب وإنما ذلك تخييل من الشيطان وقد جرى مثل هذا لكثير من المنتسبين إلى المسلمين وأهل الكتاب والمشركين
ويظن كثير من الناس أن هذا من كرامات عباد الله الصالحين ويكون من إضلال الشياطين كما قد بسط الكلام في هذا الباب في غير هذا الكتاب مثل الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وغير ذلك
فصل
وإذا أردتم بقولكم ظهر في عيسى حلول ذاته واتحاده بالمسيح أو غيره فهذه دعوى مجردة من غير دليل متقدم ولا متأخر وكون الإنسان أجل ما خلقه الله لو كان مناسبا لحلوله فيه أمر لا يختص به المسيح بل قد قام الدليل على أن غير عيسى عليه السلام أفضل منه مثل إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم وهذان اتخذهما الله خليلين وليس فوق الخلة مرتبة فلو كان يحل في أجل ما خلقه الله من الإنسان لكونه أجل مخلوقاته لحل في أجل هذا النوع وهو الخليل ومحمد صلى الله عليهما وسلم وليس معهم قط حجة على أن الجسد المأخوذ من مريم إذا لم يتحد باللاهوت على أصلهم أنه أفضل من الخليل وموسىوإذا قالوا إنه لم يعمل خطيئة فيحيى بن زكريا لم يعمل خطيئة ومن عمل خطيئة وتاب منها فقد يصير بالتوبة أفضل مما كان قبل الخطيئة وأفضل ممن لم يعمل تلك الخطيئة والخليل وموسى أفضل من يحيى الذي يسمونه يوحنا المعمداني
وأما قولهم ولهذا خاطب الخلق فالذي خاطب الخلق هو
عيسى بن مريم وإنما سمع الناس صوته لم يسمعوا غير صوته والجني إذا حل في الإنسان وتكلم على لسانه يظهر للسامعين أن هذا الصوت ليس هو صوت الآدمي ويتكلم بكلام يعلم الحاضرون أنه ليس كلام الآدمي
والمسيح عليه السلام لم يكن يسمع منه إلا ما يسمع من مثله من الرسل ولو كان المتكلم على لسان الناسوت هو جنيا أو ملكا لظهر ذلك وعرف أنه ليس هو البشر فكيف إذا كان المتكلم هو رب العالمين فإن هذا لو كان حقا لظهر ظهورا أعظم من ظهور كلام الملك والجني على لسان البشر بكثير كثير
وأما ما شاهدوه من معجزات المسيح عليه الصلاة و السلام فقد شاهدوا من غيره ما هو مثلها وأعظم منها وقد أحيا غيره الميت وأخبره بالغيوب أكثر منه ومعجزات موسى أعظم من معجزاته أو أكثر وظهور المعجزات على يديه يدل على نبوته ورسالته كما دلت المعجزات على نبوة غيره ورسالتهم لا تدل على الإلهية
والدجال لما ادعى الإلهية لم يكن ما يظهر على يديه من الخوارق دليلا عليها لأن دعوى الإلهية ممتنعة فلا يكون في ظهور العجائب ما يدل على الأمر الممتنع
فصل
قالوا وقد قال الله على أفواه الأنبياء والمرسلين الذين تنبوا على ولادته من العذراء الطاهرة مريم وعلى جميع أفعاله التي فعلها في الأرض وصعوده إلى السماء وهذه النبوات جميعها عند اليهود مقرين ومعترفين بها ويقرؤنها في كنائسهم ولم ينكروا منها كلمة واحدة
فيقال هذا كله مما لا ينازع المسلمون فيه فإنه لا ريب أنه ولد من مريم العذراء البتول التي لم يمسها بشر قط وأن الله أظهر على يديه الآيات وأنه صعد إلى السماء كما أخبر الله بذلك في كتابه كما تقدم ذكره فإذا كان هذا مما أخبرت به الأنبياء في النبوات التي عند اليهود لم ينكروا ذلك وإن كان اليهود يتأولون ذلك على غير المسيح كما في النبوات من البشارة بمحمد فهو حق وإن كان الكافرون به من أهل الكتاب يتأولون ذلك على غيره
فصل
قالوا وسبيلنا أن نذكر من بعض قول الأنبياء الذين تنبوا على السيد المسيح ونزوله إلى الأرض قال عزرا الكاهن حيث سباهم بختنصر الفريدي إلى أرض بابل إلى أربعمائة واثنين وثمانين سنة يأتي المسيح ويخلص الشعوب والأمم وفي كمال هذه المدة أتى السيد المسيح وقال أرميا النبي عن ولادته في ذلك الزمان يقوم لداودابن هو ضوء النور يملك الملك ويعلم ويفهم ويقيم الحق والعدل في الأرض ويخلص من آمن به من اليهود من بني إسرائيل وغيرهم ويبقى بيت المقدس بغير مقاتل ويسمى الإله وأما قوله ابن لداود لأن مريم كانت من نسل داود ولأجل ذلك قال النبي يقوم لداود ابن
فيقال أما قول عزرا الكاهن فليس فيه إلا إخباره بأنه يأتي المسيح ويخلص الشعوب والأمم وهذا مما لا ينازع فيه المسلمون فإنهم يقرون بما أخبر الله به في كتابه من إتيان المسيح عليه السلام وتخليص الله به كل من آمن به من الشعوب والأمم إلى أن بعث محمد
فكل من كان مؤمنا بالمسيح متبعا لما أنزل عليه من غير تحريف ولا تبديل فإن الله خلصه بالمسيح من شر الدنيا والآخرة كما خلص الله تعالى بموسى من اتبعه من بني إسرائيل
ومن حرف وبدل فلم يتبع المسيح ومن كذب محمدا فهو كمن كذب المسيح بعد أن كان مقرا بموسى عليه السلام
ولكن هذا النص وأمثاله حجة على اليهود الذين يتأولون ذلك على أن هذا ليس هو المسيح ابن مريم وإنما هو مسيح ينتظر وإنما ينتظرون المسيح الدجال مسيح الضلالة فإن اليهود يتبعونه ويقتلهم المسلمون معه
حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله وهكذا يقال في النبوة الثانية التي ذكروها عن أرميا النبي عليه السلام
فصل
قالوا وقال أرميا النبي عن ولادته في ذلك الزمان يقوم لداود ابن وهو ضوء النور يملك الملك ويعلم ويفهم ويقيم الحق والعدل في الأرض ويخلص من آمن به من اليهود من بني إسرائيل وغيرهم ويبقى بيت المقدس بغير مقاتل ويسمى الإله وأما قوله ابن لداود لأن مريم كانت من نسل داود ولأجل ذلك قال ويقوم لداود ابن
والجواب أن يقال قد قال فيه ويخلص من آمن به من اليهود ومن بني إسرائيل وهو كما فسرنا به التخليص الذي نقله عن عزرا الكاهن
وأما قوله واسمه الإله فهذا يدل على أنه ليس هو الله رب العالمين وإما لفظ الإله اسم سمي به كما سمي موسى إلها
لفرعون عندهم في التوراة إذ لو كان هو الله رب العالمين لكان أجل من أن يقال ويسمى الإله فإن الله تبارك وتعالى لا يعرف بمثل هذا ولايقال فيه إن الله يسمى الإله ولقال يأتي الله بنفسه فيظهر وقال يملك الملك ورب العالمين ما زال ولا يزال مالكا للملك سبحانه
وأيضا فإنه قال يقوم لداود ابن هو ضوء النور ومعلوم أن الابن الذي من نسل داود الذي اسم أمه مريم هو الناسوت فقط فإن اللاهوت ليس هو من نسل البشر وقد تبين أن هذا الناسوت الذي هو ابن داود يسمى الإله فعلم أن هذا اسم للناسوت المخلوق لا للإله الخالق
وأيضا فإنه قال وهو ضوء النور لم يجعله النور نفسه بل جعله ضوء النور والله تعالى منور كل نور فكيف يكون هو ضوء النور والله تعالى قد سمى محمدا سراجا منيرا ولم يكن بذلك خالقا فكيف إذا سمي ضوء النور
وأيضا فإنه لم يجعل القائم إلا ابن داود وابن داود مخلوق
وأضاف الفعل إلى هذا المخلوق ولو كان هذا هو الله رب العالمين قد اتحد بالناسوت البشري لبين أرميا وغيره من الأنبياء ذلك بيانا قاطعا للعذر ولم يكتفوا بمثل هذه الألفاظ التي هي إما صريحة أو ظاهرة في نقيض ذلك أو مجملة لا تدل على ذلك فإنه من المعلوم أن إخبارهم بإتيان نبي من الأنبياء أمر معتاد ممكن ومع هذا يذكرون فيه من البشارات والدلائل الواضحة ما يزيل الشبهة
وأما الإخبار بمجيء الرب نفسه وحلوله أو اتحاده بناسوت بشري فهو إما ممتنع غير ممكن كما يقوله أكثر العقلاء من بني آدم ويقولون يعلم بصريح العقل أن هذا ممتنع
وإما ممكن كما يقوله بعض الناس وحينئذ فإمكانه خفي على أكثر العقلاء وهو أمر غير معتاد وإتيان الرب بنفسه أعظم من إتيان كل رسول ونبي لا سيما إذا كان إتيانه باتحاده ببشر لم يظهر على يديه من الآيات ما يختص بالإلهية بل لم يظهر على يديه إلا ما ظهر على يد غيره من الأنبياء ما هو مثله أو أعظم منه والله تعالى لما كان يكلم موسى ولم يكن موسى يراه ولا يتحد لا بموسى ولا بغيره ومع هذا فقد أظهر من الآيات على ذلك وعلى نبوة موسى ما لم يظهر مثله ولا قريب منه على يد المسيح
فلو كان هو بذاته متحدا بناسوت بشري لكان الأنبياء يخبرون بذلك إخبارا صريحا بينا لا يحتمل التأويلات ولكان الرب يظهر على ذلك من الآيات ما لم يظهر على يد رسول ولا نبي فكيف والأنبياء
لم ينطقوا في ذلك بلفظ صريح بل النصوص الصريحة تدل على أن المسيح مخلوق ولم تأت آية على خلاف ذلك بل إنما تدل الآيات على نبوة المسيح
فصل
قالوا وقال أشعيا النبي قل لصهيون هنا تفرح وتتهلل فإن الله يأتي ويخلص الشعوب ويخلص من آمن به وبشعبه ويخلص مدينة بيت المقدس ويظهر الله ذراعه الطاهر فيها لجميع الأمم المبددين ويجعلهم أمة واحدة ويبصرون جميع أهل الأرض من خلاص الله لأنه يمشي معهم وبين يديهم ويجمعهم إله إسرائيلفيقال هذا محتاج أولا أن يعلم من هذه النبوة أن هذا الكلام نقل بلا تحريف للفظه ولا غلط في الترجمة ولم يثبت ذلك
وإذا ثبت ذلك فحينئذ هو نظير ما في التوراة من قوله جاء الله من طور سينا وأشرف من ساعير واستعلن من جبال فاران
ومعلوم أنه ليس في هذا ما يدل على أن الله حال في موسى بن عمران ومتحد به ولا أنه حال في جبل فاران ولا أنه متحد بشيء من طور سينا ولا ساعير
وكذلك هذا اللفظ لا يدل على أنه حال في المسيح ومتحد به إذ كلاهما سواء وإذا قيل المراد بذلك قربه ودنوه كتكليم موسى وظهور نوره وهداه وكتابه ودينه ونحو ذلك من الأمور التي وقعت قيل وهكذا في المسيح عليه السلام
وقوله ويظهر الله ذراعه الطاهر لجميع الأمم المبددين قد قال في التوراة مثل هذا في غير موضع ولم يدل ذلك على اتحاده بموسى عليه السلام
وأما قوله عن الأمم المبددين فيجعلهم أمة واحدة فهم الذين اتبعوا المسيح فإنهم كانوا متفرقين مبددين فجعلهم أمة واحدة
وأما قوله ويبصرون جميع أهل الأرض خلاص الله لأنه يمشي معهم وبين يديهم ويجمعهم إله إسرائيل فمثل هذا في التوراة في غير موضع ولم يدل ذلك على اتحاده بموسى ولا حلوله فيه كقوله في السفر الخامس من التوراة يقول موسى لبني إسرائيل لا تهابوهم
ولا تخافوهم لأن الله ربكم السائر بين أيديكم هو يحارب عنكم
وفي موضع قال موسى إن الشعب هو شعبك فقال أنا أمضي أمامك فارتحل فقال إن لم تمض أنت أمامنا وإلا فلا تصعدنا من هاهنا وكيف أعلم أنا وهذا الشعب أني وجدت أمامك نعمة كذا إلا بسيرك معنا
وفي السفر الرابع من الفصل الثالث عشر إن أصعدت هؤلاء من بينهم بقدرتك فيقولون لأهل هذه الأرض الذين سمعوا أنك الله فيما بين هؤلاء القوم يرونه عينا بعين وغمامك يقيم عليهم وبعمود غمام يسير بين أيديهم نهارا وبعمود نار ليلا
وفي التوراة أيضا يقول الله لموسى إني آت إليك في غلظ الغمام لكي يسمع القوم مخاطبتي لك
ثم قوله اجمع سبعين رجلا من شيوخ بني إسرائيل وخذهم إلى خباء العزب يقفون معك حتى أخاطبهم
فصل
قالوا وقال زكريا النبي افرحي يا بيت صهيون لأني آتيك وأحل فيك وأترايا قال الله ويؤمن بالله في ذلك اليوم الأمم الكثيرة ويكونون له شعبا واحدا ويحل هو وهم فيك وتعرفين أني أنا الله القوي الساكن فيك ويأخذ الله في ذلك اليوم الملك من يهوذا ويملك عليهم إلى الأبد
فيقال مثل هذا قد ذكر عندهم عن إبراهيم وغيره من الأنبياء أن الله تجلى له واستعلن له وترايا له ونحو هذه العبارات ولم يدل ذلك على حلوله فيه واتحاده به
وكذلك إتيانه وهو لم يقل إني أحل في المسيح وأتحد به وإنما قال عن بيت صهيون آتيك وأحل فيك كما قال مثل ذلك عندهم في غير هذا ولم يدل على حلوله في بشر وكذلك قوله وتعرفين أني أنا الله القوي الساكن فيك لم يرد بهذا اللفظ حلوله في المسيح فإن المسيح لم يسكن بيت المقدس وهو قوي بل كان يدخلها وهو مغلوب مقهور حتى أخذ وصلب أو شبهه والله سبحانه إذا حصلت معرفته والإيمان به في القلوب اطمأنت وسكنت
وكان بيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح عليه السلام بعد رفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته ما لم يكن قبل ذلك
وجماع هذا أن النبوات المتقدمة والكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل والزبور وسائر نبوات الأنبياء لم تخص المسيح بشيء يقتضي اختصاصه باتحاد اللاهوت به وحلوله فيه كما يقوله النصارى بل لم تخصه إلا بما خصه الله به على لسان محمد في قول الله تعالى
إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
فكتب الأنبياء المتقدمة وسائر النبوات موافقة لما أخبر به محمد يصدق بعضها بعضا وسائر ما تستدل به
النصارى على إلهيته من كلام الأنبياء قد يوجد مثل تلك الكلمات في حق غير المسيح فتخصيص المسيح بالإلهية ودون غيره باطل وذلك مثل اسم الابن والمسيح ومثل حلول روح القدس فيه ومثل تسميته إلها ومثل ظهور الرب أو حلوله فيه أو سكونه فيه أو في مكانه
فهذه الكلمات وما أشبهها موجودة في حق غير المسيح عندهم ولم يكونوا بذلك آلهة
ولكن القائلون بالحلول والاتحاد في حق جميع الأنبياء والصالحين قد يحتجون بهذه الكلمات
وهذا المذهب باطل باتفاق المسلمين واليهود والنصارى وهو باطل في نفسه عقلا ونقلا وإن كان طوائف من أهل الإلحاد والبدع المنتسبين إلى المسلمين واليهود والنصارى تقول به فهؤلاء اشتبه عليهم ما يحل في قلوب العارفين به من أهل الإيمان به ومعرفته ونوره وهداه والروح منه وما يعبر عنه بالمثل الأعلى والمثال العلمي
وظنوا أن ذلك ذات الرب كمن يظن أن نفس اللفظ بالاسم هو المعنى الذي في القلب أو نفس الخط هو نفس اللفظ ومن يظن أن ذات المحبوب حلت في ذات المحب واتحدت به أو نفس المعروف المعلوم حل في ذات العالم العارف به واتحد به مع العلم اليقيني أن نفس المحبوب المعلوم باين عن ذات المحب روحه وبدنه لم يحل واحد منها في ذات المحب
وقد قال الله تعالى
وله المثل الأعلى في السماوات والأرض
وقال تعالى
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله
وقال تعالى
وهو الله في السماوات وفي الأرض
فالمؤمنون يعرفون الله ويحبونه ويعبدونه ويذكرونه ويقال هو في قلوبهم والمراد معرفته ومحبته وعبادته وهو المثل العلمي ليس المراد نفس ذاته كما يقول الإنسان لغيره أنت في قلبي وما زلت في قلبي وبين عيني ويقال ... ساكن في القلب يعمره ... لست أنساه فأذكره ...
ويقال
... إن بيتا أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج ...
ومن قول القائل
... ومن عجبي أن أحن إليهم ... وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي ...
وقال ... مثالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب ...
والمساجد هي بيوت الله التي فيها يظهر ذلك ولهذا قال تعالى
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح
قال أبي بن كعب مثل نوره في قلوب المؤمنين
ثم قال نور على نور
ثم قال
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه
فذكر سبحانه نوره في قلوب المؤمنين ثم ذكر ذلك في بيوته كذلك ما ذكر في الكتب الأولى
وأما الإتيان والمجيء والتجلي فعندهم في التوراة يقول الله لموسى إني آتي إليك في غلظ الغمام لكي يسمع القوم مخاطبتي لك ثم قوله اجمع سبعين رجلا من شيوخ بني إسرائيل وخذهم
إلى خباء العرب يقفون معك حتى أخاطبهم
وفي السفر الرابع لما تكلم مريم وهارون في موسى حينئذ تجلى الله بعمود الغمام قائما على باب الخباء ونادى يا هارون ويا مريم فخرجا كلاهما فقال اسمعا كلامي إني أنا الله فيما بينكم
وفي الفصل الثالث عشر إن أصعدت هؤلاء من بينهم بقدرتك فيقولون لأهل هذه الأرض الذين سمعوا أنك الله فيما بين هؤلاء القوم يرونه عينا بعين وغمامك يقيم عليهم وبعمود غمام يسير بين أيديهم نهارا وبعمود نار ليلا
وفي السفر الخامس قول موسى لبني إسرائيل لا تهابوهم ولا تخافوهم لأن الله ربكم السائر بين أيديكم وهو يحارب عنكم
وفي موضع آخر قال موسى إن الشعب هو شعبك فقال يا موسى أنا أمضي أمامك فارتحل فقال إن لم تمض أنت معنا وإلا فلا تصعدنا من ههنا وكيف أعلم أنا وهذا الشعب أني وجدت أمامك نعمة كذا بعلمك إلا بسيرك معنا
وفي المزمور الرابع من الزبور عندهم يقول وليفرح المتكلون عليك إلى الأبد ويبتهجون ويحل فيهم ويفتخرون فأخبر أنه يحل في جميع الصديقين أي معرفته ومحبته فإنهم متفقون على أن ذات الله لم تحل في الصديقين وكذلك في رسائل يوحنا الإنجيلي إذا أخفا بعضنا بعضا نعلم أن الله يلبث فينا أي محبته ونظائره كثيرة
فصل
قالوا وقال عاموص النبي ستشرق الشمس على الأرض ويهتدي بها الضالون ويضل عنها بنو إسرائيل قالوا فالشمس هو السيد المسيح والضالون الذين اهتدوا به هم النصارى المختلفة ألسنتهم الذين كانوا من قبله عابدين الأصنام وضالين عن معرفة الله فلما أتوهم التلاميذ وأنذروهم بما أوصاهم السيد المسيح فتركوا عبادة الأصنام واهتدوا باتباعهم السيد المسيحفيقال هذا مما لا ينازع فيه المسلمون وإنما ينازع في مثل هذا وأمثاله اليهود المكذبون للمسيح عليه السلام كما ينازع كفار أهل الكتاب في محمد
وأما المسلمون فيؤمنون بجميع كتب الله ورسله وأن المسيح
عليه الصلاة و السلام أشرق نوره على الأرض كما أشرق قبله نور موسى عليه الصلاة و السلام وأشرق بعده نور محمد
وقد قال الله تعالى لمحمد
إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
فسماه الله سراجا منيرا وسمى الشمس سراجا وهاجا والسراج المنير أكمل من السراج الوهاج فإن الوهاج له حرارة تؤذي والمنير يهتدي بنوره من غير أذى بوهجه
وقال تعالى لمحمد
فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون
وقال تعالى
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور
والمسلمون مقرون بأن كل من كان متبعا لدين المسيح عليه السلام الذي لم يغير ولم يبدل فإنه اهتدى بالمسيح من الضلالة ومن كفر به من بني إسرائيل فإنه ضال بل كافر كما قال تعالى
سورة آل عمران الآيات 55 57
وقال تعالى
يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
وقوله ستشرق الشمس على الأرض ويهتدي بها الضالون ويضل عنها بنو إسرائيل يناسب قوله في التوراة جاء الله من طور سينا وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران فإن إشراقه من ساعير هو ظهور نوره بالمسيح كما أن مجيئه من طور سينا هو ظهور نوره
بموسى واستعلانه من جبال فاران هو ظهور نوره بمحمد
وبهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله في القرآن بقوله
والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين
فبلد التين والزيتون هي الأرض المقدسة التي بعث منها المسيح وكان بها أنبياء بني إسرائيل وأسري بمحمد إليها وظهرت بها نبوته وطور سينين المكان الذي كلم الله فيه موسى بن عمران وهذا البلد الأمين هو بلد مكة التي بعث الله منه محمدا وأنزل عليه القرآن
فصل
قالوا وقال في السفر الثالث من أسفار الملوك والآن يا رب إله إسرائيل لتحقق كلامك لداود لأنه حق أن يكون إنه سيسكن الله مع الناس على الأرض اسمعوا أيتها الشعوب كلكم ولتنصت الأرض وكل من فيها فيكون الرب عليها شاهدا من بيته القدوس ويخرج من موضعه وينزل ويطأ على مشاريق الأرض في شأن خطيئة بني يعقوب هذا كله
فيقال هذا السفر يحتاج إلى أن يثبت أن الذي تكلم به نبي وأن ألفاظه ضبطت وترجمت إلى العربية ترجمة مطابقة ثم بعد ذلك يقال فيه ما يقال في امثاله من الألفاظ الموجودة عندهم وليس فيها ما يدل على اتحاده بالمسيح فإن قوله إن الله سيسكن مع الناس في الأرض لا يدل على المسيح إذ كان المسيح لم يسكن مع الناس في الأرض بل لما أظهر الدعوة لم يبق في الأرض إلا مدة قليلة
ولم يكن ساكنا في موضع معين وقبل ذلك لم يظهر عنه شيء من دعوى النبوة فضلا عن الإلهية ثم إنه بعد ذلك رفع إلى السماء فلم يسكن مع الناس في الأرض وأيضا فإذا قالوا سكونه هو ظهوره في المسيح عليه السلام قيل لهم أما الظهور الممكن المعقول كظهور معرفته ومحبته ونوره وذكره وعبادته فهذا لا فرق فيه بين المسيح وغيره
وحينئذ فليس في هذا اللفظ ما يدل على أن هذا السكون كان بالمسيح دون غيره وإن كان بالمسيح فليس هذا من خصائصه عليه السلام وليس في ظهوره فيه أو حلول معرفته ومحبته ومثاله العلمي ما يوجب اتحاد ذاته به
وأما قوله فيكون الرب عليها شاهدا فيقال أولا شهود الله على عباده لا يستلزم حلوله أو اتحاده ببعض مخلوقاته بل هو شهيد على العباد بأعمالهم كما قال
ثم الله شهيد على ما يفعلون
ولفظ النص ولتنصت الأرض وكل من فيها فيكون الرب عليها شاهدا وهذا كما في التوراة أن موسى لما خاطب بني إسرائيل أشهد عليهم وكذلك محمد كان يقول لأمته لما بلغ الناس بقول
ألا هل بلغت فيقولون نعم فيقول
اللهم اشهد
وحينئذ فليس في هذا تعرض لكون المسيح هو الله وقد يقال أيضا ليس فيه أن المراد بلفظ الرب هنا هو الله ولفظ الرب يراد به السيد المطاع وقد غاير بين اللفظين فقال هناك أنه سيسكن الله مع الناس فقال فيكون الرب عليها شاهدا والأنبياء يشهدون على أممهم كما قال المسيح عليه السلام
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم
وقال تعالى
إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا
وقال تعالى
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا
وقال تعالى
ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء
وحينئذ فيكون الرب الشهيد هو المسيح الذي هو الناسوت وهو الذي جاء من بيت المقدس وخرج من موضعه ونزل ووطىء على الأرض من أجل خطيئة بني يعقوب فإنهم لما أخطأوا وبدلوا أرسل الله إليهم المسيح عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده وطاعته فمن آمن به كان سعيدا مستحقا للثواب ومن كفر به كان شقيا مستحقا للعذاب
فصل
قالوا وقال ميخا النبي وأنت يا بيت لحم قرية يهودا بيت أفراتا يخرج لي رئيس الذي يرعى شعبي إسرائيل وهو من قبل أن تكون الدنيا لكنه لا يظهر إلا في الأيام التي تلده فيها الوالدة وسلطانه من أقاصي الأرض إلى أقاصيهاوالجواب أن عامة ما يذكرونه عن الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام حجة عليهم لا لهم كما ذكروه عن المسيح عليه السلام في أمر التثليث فإنه حجة عليهم لا لهم وهكذا تأملنا عامة ما يحتج به أهل البدع والضلالة من كلام الأنبياء فإنه إذا تدبر حق التدبر وجد حجة عليهم لا لهم فإن كلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هدى وبيان وهم معصومون لا يتكلمون بباطل
فمن احتج بكلامهم على باطل فلا بد أن يكون في كلامهم ما يبين به أنهم أرادوا الحق لا الباطل وهذا مثل قوله في هذه النبوة منك يخرج لي رئيس فهذا صريح في أن هذا الذي يخرج هو رئيس الله ليس هو الله بل هو رئيس له كسائر الرؤساء الذين لله وهم الرسل والأنبياء المطاعون مثل داود موسى وغيرهما
ولهذا قال الذي يرعي شعبي إسرائيل ولو كان هو لكان هو راعي شعب نفسه وأما قوله وهو من قبل أن تكون الدنيا فهذا مثل قول النبي في حديث ميسرة الفجر وقد قيل له يا رسول الله متى كنت نبيا قال
وآدم بين الروح والجسد وفي لفظ متى كتبت نبيا قال
وآدم بين الروح والجسد وفي
مسند الإمام أحمد عن العرباض بن سارية عن النبي أنه قال
إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول أمري أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام فقد أخبر أنه كان نبيا وكتب نبيا وآدم بين الروح والجسد وأنه مكتوب عند الله خاتم النبيين وآدم منجدل في طينته
ومراده أن الله كتب نبوته وأظهرها وذكر اسمه ولهذا جعل ذلك في ذلك الوقت بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ
الروح فيه كما يكتب رزق المولود وأجله وعمله وشقي هو أو سعيد بعد خلق جسده وقبل نفخ الروح فيه
وكذلك قول القائل في المسيح عليه السلام وهو من قبل أن تكون الدنيا فإنه مكتوب مذكور من قبل أن تكون الدنيا
فإنه قد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي أنه قال
قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء
وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي أنه قال
كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات
والأرض
وهو قد قال قبل أن تكون الدنيا ولم يقل إنه كان قديما أزليا مع الله لم يزل كما يقول النصارى إنه صفة الله الأزلية بل وقت ذلك بقوله قبل أن تكون الدنيا ولا يحسن أن يقال في رب العالمين كان قبل أن تكون الدنيا فإنه سبحانه قديم أزلي ولا ابتداء لوجوده فلا يوقت بهذا المبدأ لا سيما إن أريد بكون الدنيا عمارتها بآدم وذريته فإن الدنيا قد لا تدخل فيها السماوات والأرض بل يجعل من الآخرة وأرواح المؤمنين في الجنة في السماوات ويراد بالدنيا الحياة الدنيا أو الدار الدنيا
ولهذا قال لكنه لا يظهر إلا في الأيام التي تلده فيها الوالدة كما يظهر غيره أن الأنبياء بعد أن تلده أمه
والوالدة إنما ولدت الناسوت وأما اللاهوت فهو عندهم مولود من الله القديم الأزلي وإذا قالوا فهي ولدت اللاهوت مع الناسوت كان هذا معلوم الفساد من وجوه كثيرة وإذا قيل لم خص عيسى المسيح عليه السلام بالذكر قيل كما خص محمد بالذكر لأن أمر المسيح كان أظهر وأعظم ممن قبله من الأنبياء بعد موسى
وكذلك أمر محمد كان أظهر وأعظم من
أمر جميع الأنبياء قبله وإذا عظم الشيء كان ظهوره في الكتاب أعظم
وظن بعض النصارى أن المراد بذلك وجود ذات المسيح يضاهي ظن طائفة من غلاة المنتسبين إلى الإسلام وغيرهم الذين يقولون إن ذات النبي كانت موجودة قبل خلق آدم
ويقولون إنه خلق من نور رب العالمين ووجد قبل خلق آدم وأن الأشياء خلقت منه حتى قد يقولون في محمد من جنس قول النصارى في المسيح حتى قد يجعلون مدد العالم منه ويروون في ذلك أحاديث وكلها كذب مع أن هؤلاء لا يقولون إن المتقدم هو اللاهوت بل يدعون تقدم حقيقته وذاته ويشيرون إلى شيء لا حقيقة له كما تشير النصارى إلى تقدم لاهوت اتحد به لا حقيقة له
ومن هؤلاء الغلاة من يروي عن النبي أنه قال
من قال إني كلي بشر فقد كفر ومن قال لست ببشر فقد
كفر ويحتجون بقوله تعالى
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم
فيجعلون فيه شيئا من اللاهوت مضاهاة للنصارى
وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم بالحديث وقد ثبت عنه في الحديث الذي في الصحيحين أنه قال لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله
وقد قال تعالى عنه
قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا
وهذا من جنس الغلاة الذين يقولون إن الرب يحل في الصالحين ويتكلم على ألسنتهم وأن الناطق في أحدهم هو الله لا نفسه وقول هؤلاء من جنس قول النصارى في المسيح ويقول أحدهم إن الموحد هو الموحد وينشدون
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد ... توحيد من ينطق عن نعته ... عارية أبطالها الواحد ... توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحد ...
وهو من جنس قول الذين يجعلون روح الإنسان قديمة أزلية ويقولون هي صفة الله فيجعلون نصف الإنسان لاهوتا ونصفه ناسوتا لكن اللاهوت عندهم هو روحه لا لاهوت واحد كما يقوله النصارى وعلى قول هؤلاء مع قول النصارى يكون في المسيح وأمثاله ممن ادعى فيه اتحاد اللاهوت به لاهوتان روحه لاهوت والكلمة لاهوت ثان ومن جنس هؤلاء من ينشد ما يحكى عن الحلاج أنه أنشد ... سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب ... ثم بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الأكل والشارب ... حتى لقد عابته خلقه ... كلحظة الحاجب للحاجب ...
ولو قدر أن نفسه هي التي كانت قبل أن تكون الدنيا فهذا لا يدل على أنه الله أو صفة الله بل إذا قال من يدعي أن روحه كانت موجودة حينئذ المراد روحه كان هذا أقرب من قول النصارى وفي الجملة ما يخبر عن المسيح أنه كان قبل أن تكون الدنيا بمنزلة ما عند أهل الكتاب عن سليمان أنه قال كنت قبل أن تكون الدنيا ثم قد ثبت
باتفاق الخلائق أن سليمان لم يكن اللاهوت متحدا به فعلم أن مثل هذا الكلام لا يوجب اتحاد اللاهوت به بل المسلمون يعدلون في القول ويفسرون كلام الله في كتبه بعضه ببعض ويجعلون كلامه يصدق بعضه بعضا لا يناقض بعضه بعضا
وأما أهل الضلال من النصارى وغيرهم فيفضلون المفضول على من هو أفضل منه ويبخسون الفاضل حقه ويغلون في المفضول ويبخسون الأنبياء حقوقهم مثل تنقصهم لسليمان فإن كثيرا من اليهود والنصارى يطعنون فيه
منهم من يقول كان ساحرا وأنه سحر الجن بسحره
ومنهم من يقول سقط عن درجة النبوة فيجعلونه حكيما لا نبيا ولهذا ذكر الله في القرآن تبرئة سليمان عن ذلك وذلك أن سليمان سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فسخر لسليمان الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد فسخر له الريح غدوها شهر ورواحها شهر ولما طلب من الملأ أن يأتوه بعرش بلقيس ملكة اليمن وكان هو بالشام
سورة النمل الآيات 38 40
فلما مات سليمان عمدت الشياطين إلى أنواع من الشرك فكتبوها ووضعوها تحت كرسيه وقالوا كان سليمان يسخر الجن بهذا فصار هذا فتنة لمن صدق بذلك وصاروا طائفتين طائفة علمت أن هذا من الشرك والسحر وأنه لا يجوز فطعنت في سليمان كما فعل ذلك كثير من أهل الكتاب اليهود والنصارى
وطائفة قالت سليمان نبي وإذا كان قد سخر الجن بهذا دل على أن هذا جائز فصاروا يقولون ويكتبون من الأقوال التي فيها الشرك والتعزيم والأقسام بالشرك والشياطين ما تحبه الشياطين وتختاره ويساعدونهم لأجل ذلك على بعض مطالب الإنس إما إخبارا بأمورغائبة يخلطون فيها كذبا كثيرا وإما تصرف في بعض الناس كما يقتل الرجل أو يمرض بالسحر أو تسرق الشياطين له بعض الأموال ونحو ذلك مما فيه إعانة الشياطين للإنس على امور تريدها الإنس لأجل مطاوعة الإنس وموافقتهم للشياطين على ما تريده الشياطين من الكفر والفسوق والعصيان
وكثير منهم يضيف ذلك إلى سليمان وإلى آصف بن برخيا ويصورون خاتم سليمان وقد يأخذون الرجل الذي صار من إخوانهم إلى مواضع فيرونه شخصا ويقولون هذا سليمان بن داود كما قد جرى مثل ذلك لمن نعرفه من المشايخ الذين كانت تقترن بهم الشياطين وكان لهم خوارق شيطانية من جنس خوارق السحرة والكهان
فنزه الله تعالى سليمان من كذب هؤلاء وهؤلاء الذين جعلوه يسخر الشياطين بنوع من الشرك والسحر هؤلاء جرحوه وهؤلاء زعموا أنهم يتبعونه فقال تعالى
سورة البقرة الآيتان 102 103
ومثل هذا كثير يحكى عن بعض الأنبياء أو بعض أهل العلم والدين من أمور ليست من شرع الله فيصدق بها بعض الناس وتصير فتنة لطائفتين مصدقتين بها
طائفة تقدح في ذلك النبي أو الرجل الصالح بما هو منه بريء
وطائفة تقول إنها تتبعه فيم يقول وهذا موجود في كثير مما يحكيه أهل الكتاب عن الأنبياء فإن اليهود تذكر عنهم ما يقدح في نبوتهم
والنصارى تجعل ذلك قدوة لهم فيما يبتدعونه وهذا مبسوط في موضع آخر فالمقصود هنا أن الكلام الذي وصف به المسيح إما وصفه به الأنبياء قبله أو أخبر به عن نفسه موجود مثله في حق غيره ولم يكن أحدهم بذلك لاهوتا وناسوتا ولا اتحد اللاهوت بالناسوت ولا استحق أحدهم بذلك أن يعبد ويصلى له ويسجد ويدعا كما يدعا الله ويضاف إليه ما يضاف إلى الله من الخلق والبعث والثواب والعقاب وليس للمسيح صلوات الله عليه آية خارقة إلا ولغيره مثلها وأعظم منها ولا قيل فيه كلمة إلا قيل في غيره مثلها وأعظم منها إلا ما خصه فيه القرآن
فصل
قالوا وقال حبقوق النبي إن الله في الأرض يتراءى ويختلط مع الناس ويمشي معهم
وقال أرميا النبي الله بعد هذا في الأرض يظهر وينقلب مع البشر فيقول أنا الله رب الأرباب
والجواب أن هذا يحتاج إلى تثبيت نبوة هذين وإلى ثبوت النقل عنهما وثبوت الترجمة الصحيحة المطابقة وبعد هذا يكون حكم هذا الكلام حكم نظائره ففي التوراة ما هو من هذا الجنس ولم يدل ذلك باتفاق المسلمين واليهود والنصارى على أن الله حل في موسى ولا في غيره من أنبياء بني إسرائيل بل قوله يتراءى هو بمنزلة يتجلى ويظهر وقد ذكر في التوراة أنه تجلى وتراءى لإبراهيم وغيره من الأنبياء
عليهم السلام من غير أن تكون ذاته حلت بأحد منهم وما في القلوب من المثال العلمي وبمعرفته ومحبته وذكره يطلق عليه ما يطلق على المعروف بنفسه لعلم الناس أن المراد به المثال العلمي
وما في القلوب من معرفة المعروف ومحبته ليس المراد به نفس المعروف المحبوب فإذا قال القائل أنت والله في قلبي أو في سويداء قلبي أو قال له والله ما زلت في قلبي وما زلت في عيني ونحو ذلك علم جميع الناس أنه لم يرد ذاته فإذا رأوا من يذكر عالما مشهورا أو شيخا مشهورا فيذكر علمه وعمله ويحيى ذلك بين الناس قالوا قد صار فلان يعني المعروف المذكور عندنا وبين أظهرنا لعلم المخاطبين بالمراد
ويقول أحدهم لمن مات والده أنا والدك أي قائم مقامه ويقولون للولد القائم مقام أبيه من خلف مثلك ما مات وإذا رأوا عكرمة مولى ابن عباس الذي معه علمه يقولون جاء ابن عباس وابن عباس بين الناس لأن مولاه نائب عنه وقائم مقامه وإذا بعث الملك نائبا قائما مقامه يقولون جاء الملك الفلاني لأن هذا النائب قائم مقامه مظهر لأمره ونهيه وأحواله
وفي الحديث الصحيح عن النبي يقول الله
عبدي مرضت فلم تعدني فيقول العبد يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا مرض
فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده عبدي جعت فلم تطعمني فيقول يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي فلانا جاع فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي عبدي عطشت فلم تسقني فيقول رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين فيقول أما علمت أن عبدي استسقاك فلم تسقه أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي
فجعل جوع عبده جوعه ومرضه مرضه لأن العبد موافق لله فيما يحبه ويرضاه ويأمر به وينهى عنه وقد عرف أن الرب نفسه لا يجوع ولا يمرض
ومعلوم أن وصفه بالجوع والمرض أبعد من وصفه بالمشي بين الناس والاختلاط بهم ولهذا نظائر كثيرة موجودة في كلام الأنبياء وغير الأنبياء من الخاصة والعامة ولا يفهم عاقل من ذلك أن ذات المذكور اتحدت بالآخر أو حلت فيه إلا من هو جاهل كالنصارى
والناس يرون الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك في الماء الصافي وفي المرآة المجلوة ونحو ذلك
ويقول أحدهم رأيت وجه فلان في هذه المرآة ورأيت الشمس والقمر في المرآة أو في الماء مع علم كل عاقل أن نفس
الشمس والقمر وغيرهما لم تحلا لا في المرآة ولا في الماء ولكن هذه رؤية مقيدة رآها بواسطة المثال الذي تمثل في المرآة أو الماء سواء كان ذلك شعاعا منعكسا أو غير ذلك ومن هذا الباب قول القائل ... إذا ظهر الغدير على صفاء ... وجنب أن يحركه النسيم ... ترى فيه السماء بلا امتراء ... كذاك الشمس تبدو والنجوم ... كذاك قلوب أرباب التجلي ... يرى في صفوها الله العظيم ...
فقد أخبر أن الله يرى في قلوب العارفين كما ترى الشمس والنجوم في الماء الصافي بل يتصور أحدهم صورة من يعرفه بحمرة أو خضرة أو سواد فيقول والله هذا هو فلان بعينه مع علمه وعلم كل من سمعه أنه مثاله المطابق لصورته لا عينه وذلك لمماثلة تلك الصورة لصورته يريد أن هذا تمثيل مطابق له لا مخالف
ومن هذا قول النبي
من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي لم يرد أنه رأى جسدي الذي في القبر وروحي التي في الجنة حالة في ذاته فإن هذا ممتنع لوجوه كثيرة فلهذا قال فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي
ولما دخل جماعة من الصحابة على المقوقس ملك النصارى بمصر واستخبرهم عن دينهم فأخبروه بذلك فإذا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة وإذا فيها أبواب صغار ففتح منها بابا فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فيها صورة بيضاء فإذا رجل طوال أكثر الناس شعرا فقال أتعرفون هذا قالوا قلنا لا فقال هذا آدم
ثم أعاد وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء فإذا رجل ضخم الرأس عظيم له شعر كشعر النبط أحمر العين فقال أتعرفون هذا فقلنا لا فقال هذا نوح
ثم أعاد وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء فإذا رجل أبيض الرأس واللحية كأنه يبتسم فقال أتعرفون هذا فقلنا لا فقال هذا إبراهيم
ثم أعاد وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء قال أتعرفون هذا قلنا النبي
قال هذا والله محمد رسول الله
قال والله يعلم أنه قام ثم قعد ثم قال الله بدينكم إنه نبيكم قلنا الله بديننا إنه نبينا كأنما ننظر إليه
ثم قال أما إنه كان آخر الأبواب ولكني عجلته لكم لأنظر ما عندكم
ثم أعاد وفتح بابا بابا وهو يقول هذا موسى هذا هارون هذا داود هذا سليمان هذا عيسى
وهذا كله لظهور المراد به ومعرفة الناس بمقصود المتكلم كما يقال لمن كتب اسمه في كتاب هذا فلان
ومعلوم أن الموجود في الكتاب اسمه المكتوب لا ذاته الموجودة في الخارج ومن هذا الباب قوله تعالى
وكل شيء فعلوه في الزبر
وإنما في الزبر ذكر أعمالهم وكتابة ذلك ويقال في كتابة الوثائق هذا ما أصدق فلان وهذا ما يقاضي عليه فلان وفلان ويقال هذا ذكر ما أصدق فلان أو يقاضي عليه فلان وفلان فيشار إلى الموجود تارة وإلى ذكره تارة
ومعلوم أن الموجود في الكتاب ذكره لا عينه بل ذلك وجود الخط في الأذهان المطابق لذكره باللفظ
والشيء له وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان ووجود عيني وعلمي ورسمي ولفظي وفي كل من الأربعة يذكر ويشار إليه مع القرائن والضمائر التي تبين تارة أن المشار إليه هو الخط المطابق للفظ وتارة تكون الإشارة إلى اللفظ المطابق للمعنى
ومعلوم أن المعنى الذي في القلب أقرب إلى الموجود في الخارج من اللفظ والخط فإذا أشير إلى ما في قلب العارف بعين المحب له الذاكر له بأنه المعروف المحبوب كان أقرب لا سيما وقد يغلب الذكرو المعرفة والمحبة على القلب حتى يغيب بموجوده عن وجوده وبمعروفه عن معرفته وبمذكوره عن ذكره حتى يقول أحدهم في هذه الحال سبحاني أو ما في هذه الجبة إلا الله
ومعلوم أن ذات الله تبارك وتعالى ليست الذي في قلبه بل في قلبه مثاله العلمي ومعرفته ومحبته فغاب بذلك عن نفسه هذا وإن كان يقوله الغالط فيقول من ليس بغالط الله في قلب فلان وفلان ما عنده إلا الله ومن أراد الله فليذهب إلى فلان وليس مرادهم أن
ذات الله في قلبه بل مثاله العلمي ومعرفته وذكره ومحبته وأنه لايعبد إلا الله ولا يرجو إلا إياه ولا يخاف إلا إياه ولا يعمل إلا لله ولايأمر إلا بطاعته فيفنى بعبادته عن عبادة ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبمحبته عن محبة ما سواه
فما قيل في المسيح عليه السلام وأمثاله من هذا فهو حق لكن لا اختصاص للمسيح بهذا
وإذا كان مثل هذا الكلام كثيرا موجودا في كلام الأنبياء وغيرهم بل هو المعروف في كلامهم ولا يوجد قط على أحد من الأنبياء أنه جعل ذات الله في قلب أحد من البشر علم أن النصارى تركوا المحكم من كلام الأنبياء عليهم السلام وتمسكوا بالمتشابه كأمثالهم من الضلال فاشتبه عليهم المعلوم بالقلوب المذكور بالألسن بالموجود في نفسه فظنوا أن نفس المثال العلمي هو الموجود العيني كما يظن ذلك كثير من الغالطين وهؤلاء يقولون بالحلول تارة وبالاتحاد أخرى ولا يفرقون بين حلول الإيمان والمعرفة والمحبة والمثال العلمي في القلب وبين حلول الذات المعلومة المحبوبة
ولهذا يعتقد كثير من هؤلاء أنهم يكلمون الله ويكلمهم ويقول أحدهم أوقفني وقال لي وقلت له وتكون مخاطبته ومناجاته مع
هذا المثال العلمي بحسب ما عندهم من الاعتقاد في الله تعالى وكثير منهم يتمثل له الشيطان ويقول أنا ربك فيخاطبة ويظنه ربه وإنما هو الشيطان
ومنهم من يرى عرشا عليه نور أو يرى ما يظنه الملائكة وهم شياطين وذلك شيطان
وكثير من هؤلاء يظن أنه أفضل من الأنبياء وأنه يدخل إلى الله بلا إذن خلاف الأنبياء ويكون ذلك الإله الذي يعتقده هو الشيطان والدين لا يتمثل لهم الشيطان يخاطب أحدهم من في قلبه فتخاطبه تلك الصورة العلمية ويقدر أنها تخاطبه ويظن ذلك مخاطبة الحق له
وهذا كالرجل يذكر بعض أصحابه فيمثله في قلبه ويخاطبه مخاطبة من يعاتبه أو يعتذر إليه ويقدر خطاب تلك الصورة ويقول قلت لك كذا وقلت لي كذا
ونفس الشخص لا يكلمه ولا يسمع كلامه وإنما هو المثال كما قد يصور صورة الإنسان ويخاطبها الإنسان ويقدر ذلك مخاطبة لصاحب الصورة
والنصارى أدخل في هذا من غيرهم فإنهم يخاطبون الصور الممثلة في الكنائس كصورة مريم والمسيح والقديسين ويقولون إنما
نقصد خطاب أصحاب تلك الصور نستشفع بهم
وهذا مما حرمه الله على ألسن جميع النبيين ولم يشرع لأحد أن يدعو الملائكة ولا الأنبياء ولا الصالحين الأموات فكيف بالصور الممثلة لهم كما قد بسط في موضع آخر
والمقصود هنا أنه كثيرا ما يوجد في كلام الناس الأنبياء وغيرهم من ذكر ظهور الله عز و جل والمراد به ظهوره في قلوب عباده بالمعرفة والمحبة والذكر
ولهذا لما كان يقصد بذكر اسمه ذكر المسمى صار يقول من يقول إن الاسم هو المسمى أن المراد المقصود من الاسم هو المسمى لا أن نفس اللفظ هو المسمى فإن هذا لا يقوله عاقل وتنزيه الاسم وتسبيحه تنزيه للمسمى وتسبيح له
كما قال تعالى
سبح اسم ربك الأعلى وقال
فسبح باسم ربك العظيم
وقال
تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام
وجاء في الحديث
لا تقوم القيامة حتى لا يعبد الله اسم أي لا يعبد الله باسم من أسمائه فإنه إذا قيل دعوت الله وعبدته فإنما في اللفظ الاسم والمقصود هو المسمى
وهذا الذي ذكرناه من تفسير ظهور اللاهوت في المسيح وغيره بأن المراد ظهور ما في القلوب من توحيد الله ومعرفته ومحبته وذكره ونوره وهداه وروحه هو مما يفسر به ذلك كثير من علماء النصارى فإنهم يفسرون اتحاد اللاهوت بالناسوت بظهور اللاهوت فيه كظهور نقش الخاتم في الشمع والطين
ومعلوم أن الحال في الشمع والطين هو مثال نقش الخاتم لا أن في الشمع والطين شيئا من الخاتم بل ظهر فيه نقش الخاتم
وكذلك يظهر نور الله وروحه في الأنبياء والصالحين وهذا المعنى لا يختص به المسيح عليه السلام بل يشترك هو فيه وسائر الرسل بل وكل مؤمن له من هذا نصيب بحسب إيمانه
فصل
قالوا وقال أشعيا النبي ها هي العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعى اسمه عمانويلوعمانويل كلمة عبرانية تفسيرها بالعربي إلهنا معنا فقد شهد النبي أن مريم ولدت اللاهوت المتحد بالناسوت كلاهما
فيقال ليس في هذا الكلام أن مريم ولدت اللاهوت المتحد بالناسوت وأنها ولدت خالق السماوات والأرض بل هذا الكلام يدل على أن المولود ليس هو خالق السماوات والأرض فإنه قال تلد ابنا
وهذا نكرة في الإثبات كما يقال في سائر النساء إن فلانة ولدت ابنا وهذا دليل على أنه ابن من البنين ليس هو خالق السماوات
والأرضين ثم قال ويدعى اسمه عمانويل فدل بذلك على أن هذا اسم يوضع له ويسمى به كما يسمي الناس أبناءهم بأسماء الأعلام أو الصفات التي يسمونهم بها
ومن تلك الأسماء ما يكون مرتجلا ارتجلوه
ومنها ما يكون جملة يحكونها ولهذا كثير من أهل الكتاب يسمى ابنه عمانويل ثم منهم من يقول العذراء المراد بها غير مريم ويذكرون في ذلك قصة جرت
ومنهم من يقول بل المراد بها مريم وعلى هذا التقدير فيكون المراد أحد معنيين
إما أنه يريد أن إلهنا معنا بالنصر والإعانة فإن بني إسرائيل كانوا قد خذلوا بسبب تبديلهم فلما بعث المسيح عليه السلام بالحق كان الله مع من اتبع المسيح والمسيح نفسه لم يبق معهم بل رفع إلى السماء ولكن الله كان مع من اتبعه بالنصر والإعانة
كما قال تعالى
فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
وقال تعالى
وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة
وهذا أظهر وإما أن يكون يسمى المسيح إلها كما يقولون إنه يسمى موسى إله فرعون أي هو الآمر الناهي له المسلط عليه
وقد حرف بعضهم معنى هذه الكلمة فقال معناها الله معنا فقال من رد عليهم من علمائهم يقال لهم أهذا هو القائل أنا الرب لا إله غيري أنا أميت وأنا أحيي أم هو القائل لله إنك أنت الإله الحق وحدك والذي أرسلت يسوع المسيح وإذا كان الأول باطلا والثاني هو الذي شهد به الإنجيل وجب تصديق الإنجيل وتكذيب من كتب في الإنجيل أن عمانويل وتأويله الله معنا بل تأويل عمانويل معنا إله وليس المسيح مخصوصا بهذا الاسم بل عمانويل اسم يسمى به النصارى واليهود من قبل النصارى
وهذا موجود في عصرنا هذا في أهل الكتاب من سماه أبوه عمانويل يعني شريف القدر وكذلك السريان أكثرهم يسمون أولادهم عمانويل
قلت ومعلوم أن الله مع المتقين والمحسنين والمقسطين بالهداية والنصر والإعانة ويقال للرجل في الدعاء الله معك فإذا سمى الرجل بقول الله معك كان هذا تبركا بمعنى هذا الاسم وإذا قيل إن المسيح سمى الله معنا أو إلهنا معنا ونحو ذلك كان ذلك دليلا على أن الله مع من اتبع المسيح وآمن به فيكون الله هاديه وناصره ومعينه
فصل
قالوا وقال أشعيا أيضا إن غلاما ولد لنا وابنا اعطيناه الذي رياسته على عاتقيه وبين منكبيه ويدعى اسمه ملكا عظيم المشية مسيرا عجيبا إلها قويا مسلطا رئيس السلامة في كل الدهور وسلطانه كامل ليس له فناء
فيقال ليس في هذه البشارة دلالة بينة أن المراد به المسيح عليه السلام ولو كان المراد به المسيح لم يدل على مطلوبهم بل قد يقال المراد بها محمد فإنه الذي رياسته على عاتقيه وبين منكبيه من جهتين
من جهة خاتم النبوة على بعض كتفيه وهو علامة من أعلام النبوة الذي أخبرت به الأنبياء وعلامة ختمهم
ومن جهة أنه بعث بالسيف الذي يتقلد به على عاتقه ويرفعه إذا ضرب به على عاتقه ويدل على ذلك قوله مسلط رئيس قوي السلامة
وهذه صفة محمد المؤيد المنصور المسلط رئيس السلامة فإن دينه الإسلام ومن اتبعه سلم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ومن استيلاء عدوه عليه
والمسيح عليه السلام لم يسلط على أعدائه كما سلط محمد بل كان أعداؤه بحيث يقدرون على صلبه وعند النصارى قد صلبوه وعند المسلمين ألقى الله شبهه على غيره فصلب ذاك المشبه فبهذه الطريق دفع الله الصلب عنه لا بقهر أعدائه وإهلاكهم وذلهم له كما نصر الله محمدا على أعدائه
وقال في كل الدهور سلطانه كامل ليس له فناء وهذا صفة خاتم الرسل الذي لا يأتي بعده نبي ينسخ شرعه وسلطانه بالحجة واليد كامل لا يحتاج فيه إلى الاستعانة بشرع آخر وشرعه ثابت باق إلى آخر الدهر
فصل
قالوا وقال أشعيا أيضا يخرج عصاه من بيت يسي ينبت نور منها ويحل فيه روح القدس روح الله روح الحكمة والفهم روح الحيل والقوة روح العلم وخوف اللهوفي تلك الأيام يكون أصل يسي آية للأمم وبه يؤمنون وعليه يتوكلون ويكون لهم التاج والكرامة إلى دهر الداهرين
والجواب إن هذا الكلام بعد المطالبة بصحة نقله عن النبي وصحة الترجمة له باللسان العربي هو حجة على النصارى لا لهم فإنه لا يدل على أن المسيح هو خالق السماوات والأرض بل يدل على مثل ما دل عليه القرآن من أن المسيح عليه السلام أيد بروح القدس فإنه قال ويحل فيه روح القدس وروح الله وروح الحكمة والفهم وروح الحيل والقوة روح العلم وخوف الله ولم يقل تحل فيه حياة الله فضلا عن أن يقول حل فيه الله أو اتحد به ولكن جعل روح القدس هي روح الله وهي روح الحكمة والفهم والعلم وهي روح الحيل والقوة
كما أن عندهم في التوراة أن الذين كانوا يعملون في قبة الزمان حلت فيهم روح الحكمة روح الفهم روح العلم
فهي ما يحصل به الهدى والنصر كما قال تعالى
واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار
فقال هي روح الله وهذا كقوله تعالى
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
وقوله تعالى
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا
وقال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره
فما أنزله يسمى هدي الله وروح الله ووحي الله ونور الله ونحو ذلك
وقال تعالى لما ذكر أنبياءه من ذرية إبراهيم فقال
سورة الأنعام الآيات 84 88
وقال تعالى
فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى
وسماه نور الله كقوله تعالى
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم
فهذا هدي الله ونور الله هو روح الله كما قال تعالى
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا
وقال تعالى
أولئك كتاب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
فصل
قالوا وقال أشعيا أيضا من أعجب الأعاجيب أن رب الملائكة سيولد من البشر
فيقال مثل هذا الكلام لا بد أن يكون قبله كلام وبعده كلام وهو منقول من لغة إلى لغة ونحن نعلم قطعا أنه لم يرد أن رب العالمين يولد من البشر ولو أراد ذلك لم يقل رب الملائكة فقط فإن الله رب كل شيء لكن قد يريد أنه يولد من البشر من سيكون سيد الملائكة تخدمه وتكرمه كما سجدت الملائكة لأبي البشر آدم
والنصارى يسلمون أن اللاهوت ما هو متولد من البشر وإنما المتولد من البشر هو الناسوت وليس هو رب العالمين بالاتفاق فعلم أنه لا حجة لهم في ظاهر اللفظ إن قدر سلامته من التغيير
ونظير هذا ما عندهم في إنجيل متى أن ابن الإنسان يرسل ملائكته ويجمعون كل الملوك ربا على الأمم فيلقونهم في أتون النار قال بعض علماء أهل الكتاب لم يرد بذلك أن المسيح هو رب
الأرباب ولا أنه خالق الملائكة بل رب الملائكة أوصى الملائكة بحفظ المسيح بشهادة النبي القائل إن الله يوصي ملائكته بك ليحفظوك
ثم شهادة لوقا أن الله أرسل له ملكا من السماء ليقويه قال وإذا شهد الإنجيل باتفاق الأنبياء والرسل بأن الله يوصي ملائكته بالمسيح فيحفظونه علم أن الملائكة تطيع للمسيح بالأمر وهو والملائكة في خدمة رب العالمين
وقال المسيح لتلاميذه من قبلكم فقد قبلني ومن قبلني فقد قبل من أرسلني
وقال المسيح من أنكرني قدام الناس أنكرته قدام ملائكة الله
وقال للذي ضرب عبد رئيس الكهنة أغمد سيفك ولا تظن أن لا أستطيع أن أدعو الله الأب فيقدم لي أكثر من اثني عشر جوقا من الملائكة
فصل
قالوا ومثل هذا القول في كتب الله المنزلة على أفواه الأنبياء والرسل شيء كثير عند النصارى جميعهم المختلفة ألسنتهم المفرقين في سبعة أقاليم العالم المتمسكين بدين النصرانية قول واحد ونص واحد على ما تسلموه من الحواريين حين أنذروهم وردوهم عن عبادة الأصنام إلى معرفة الله تعالى سلموها إليهم كل أمة بلسانها وهي على هيئتها إلى يومنا هذاوالجواب على هذا من وجوه
أحدها أن القول في سائر ما يذكرونه من النصوص كما تقدم وقد تكلم على هذا من تكلم عليه من علماء النصارى الذين هداهم الله وبينوا ما وقع في ذلك من تحريفهم لمعاني الكتب التي عندهم وذكروا مما عندهم من النصوص الصريحة بأن المسيح عبد الله ليس هو الله ما يتبين به بطلان قولهم وأنهم ممن تركوا المحكم من الآيات واتبعوا المتشابه ولهذا أنزل الله فيهم
فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب
وهذا كقول المسيح عليه السلام لما سئل عن علم الساعة فقال لا يعلمها إنسان ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب فقط فنفى عن نفسه علم الساعة وهذا يدل على شيئين على أن اسم الابن إنما يقع على الناسوت دون اللاهوت فإن اللاهوت لا يجوز أن ينفى عنه علم الساعة ويدل على أن الابن لم يكن يعلم ما يعلمه الله وهذا يبطل قولهم بالاتحاد فإنه لو كان الاتحاد حقا كما يزعمون لكان الابن يعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر عليه فإنه هو الله عندهم والناسوت لا يتميز عندهم عن اللاهوت فيما يوصف به المسيح من كونه عالما قادرا يحيي ويميت
وقال المسيح لتلاميذه آمنوا بالله وآمنوا بي وقال أيضا من يؤمن بي فليس يؤمن بي فقط بل وبالذي أرسلني وهم يذكرون أن المسيح عليه السلام استصرخ الله قائلا إلهي إلهي
انظر لماذا تركتني وتباعدت عن خلاصي
الوجه الثاني أن قولهم إن هذه الكتب التي بأيديهم من التوراة والإنجيل وسائر النبوات تسلموها من الحواريين كل أمة بلسانها وهي على هيئتها قول لم يقيموا على صحته دليلا بل ادعوا ذلك دعوى مجردة
ومثل هذا النقل إن لم يثبت بالتواتر لم يحتج به في المسائل العلمية لا سيما إذا قيل في الوجه الثالث إن هذا كذب ظاهر فإن كثيرا من الألسنة ليس عند أهله إنجيل قديم ومن ذلك لسان العرب فإن العرب النصارى كثيرون قبل الإسلام ولا تعرف توراة ولا إنجيل ولا نبوات عربية إلا ما عرب من النسخ العبرية والرومية والسريانية ونحن نطالبهم بهذه الكتب التي هي بالعربية التي في زمن الحواريين أين هي ومن رآها ولو قدر أنها كانت بالعربية
فهذه النسخ اليوم العربية الموجودة بأيدي الناس هي مما عرب مما بأيديهم وحينئذ فلا تعرف صحتها إن لم تعرف صحة الترجمة ويثبت نقل تلك عن المسيح عليه السلام وهكذا القول في سائر الألسن
الوجه الرابع أن االتوراة والنبوات التي نقلت من نسخ اليهود والأناجيل هي أربعة كتب بعد المسيح عليه السلام اثنان ممن كتبها لم يريا المسيح وهما لوقا ومرقس واثنان رأياه وهما يوحنا ومتى
والنسخ إنما كثرت عن الأربعة ومما ينقله الأربعة لا يجب أن يكون متواترا معلوما وإذا كثرت الألسن بها فمن بعد الأربعة لا أن الذين سمعوها من المسيح عليه السلام تكلموا باثنين وسبعين لسانا فإن هذا لم يقله أحد ولا يقوله عاقل إذ الحواريون كانوا اثني عشر لم يكونوا اثنين وسبعين فإذا قيل إنه نقلها اثنان
وسبعون فهم نقلوها عمن نقلها إليهم من الحواريين وهم إنما يسندون نقلها إلى أربعة
الوجه الخامس أن الحواريين ليسوا معصومين بل يجوز على أحدهم الغلط في بعض ما ينقله وما ينقل من خوارقهم للعادات فمن الناس من يكذبه ومنهم من يصدقه ولا دلالة فيه على عصمتهم إلا أن يثبت أنهم ادعوا النبوة وأقاموا المعجزات الدالة على نبوتهم ولم يكن الأمر كذلك وإلا فالصالحون إذا كانت لهم كرامات لم تدل كراماتهم على أنهم معصومون كالأنبياء بل يجوز عليهم الغلط مع ثبوت كراماتهم
والحواريون عندهم ليسوا بأنبياء وإن سموهم رسلا فهم رسل المسيح لا رسل الله تبارك وتعالى
الوجه السادس أن في هذه الكتب التي بأيديهم ما يناقض قولهم من الأقوال الصريحة الكثيرة ما هو أكثر وأصرح مما احتجوا به على قولهم
والواجب حينئذ التمسك بالصريح المحكم ورد المتشابه إليه ولا يجوز التمسك بالمتشابه ورد المحكم إليه
الوجه السابع أنه بتقدير أن يكون في الأرض هذه الكتب باثنين وسبعين لسانا سواء كانت كلها منقولة عن الحواريين نقلا صحيحا
أو كان نقل أكثرها أو أكثر منها مترجمة من لغة إلى لغة
فمعلوم أنه بكل لسان عدة نسخ ولو لم يكن بها إلا لسان واحد مع كثرة النسخ بها في مشارق الأرض ومغاربها لم يمكن أحدا أن يقطع بأن جميع النسخ على لفظ واحد ونص واحد كما ادعاه هؤلاء في الاثنين وسبعين لسانا حيث قالوا
ومثل هذا القول في كتب الله المنزلة على أفواه الأنبياء والرسل كثير عند النصارى جميعهم المختلفة ألسنتهم المتفرقين في سبعة أقاليم العالم المتمسكين بدين النصرانية قول واحد ونص واحد على ما تسلموه من الحواريين وردوهم عن عبادة الأصنام فسلموها إليهم كل أمة بلسانها وهي على هيئتها إلى يومنا هذا
فإن هذا الكلام يتضمن عدة دعاوى ليس فيها ما يمكن قائله أن يكون عالما به فعلم أن هؤلاء تكلموا بهذا الكلام بلا علم بل بالجهل والضلال كما هو عادتهم فإنه يقال لهم من الذي جمع كل نسخة في العالم من جميع التوراة والإنجيل والزبور وسائر النبوات الأربعة والعشرين بلسان واحد كالعربي مثلا وهل ميز جميع النسخ
فلم يجد نسخة تزيد على نسخة ولا تنقص عنها
ومعلوم إن كان هذا ممكنا أمكن أن يقال جمعها جامع وغير بعض ألفاظها فلا يمكنهم دعوى بقائها بلا تغيير وإن لم يمكن ذلك لم يمكن أحد أن يقول أنا أعلم موافقة كل نسخة من نسخ هذه الكتب لكل نسخة توجد في سبعة أقاليم العالم بذلك اللسان فضلا عن اثنين وسبعين لسانا فضلا عن أن يقال أنا أعلم أن هذه الألسن كلها تكلمت بها الحواريون وهي باقية على لفظهم إلى اليوم
ومعلوم أن الإنسان إذا أمكنه جمع نسخ كتاب واحد من جميع الفنون من كتب الطب والحساب والهندسة والنحو والفقه والحديث كان إمكان تغيير بعض ألفاظ تلك النسخ أيسر عليهم من مقابلة ألفاظ كل نسخة بألفاظ تلك النسخ مثلها
فإن هذا لا يقدر عليه في العادة بل هو متعذر أو متعسر ولا سيما والمقابلة إن كانت بين اثنين فكل منهما ينقل للآخر لفظ
نسخته فيكون مدار المقابلة على خبر واحد لم يقترن بخبره ما يعلم به صدقه فقد يغلطان أو يكذبان جميعا
وإن كانت بين عدد يحصل بهم العلم احتاجت كل نسخة بكل لسان إلى أن يشهد بلفظها جمع يحصل بهم العلم وأولئك بأعيانهم يشهدون بلفظ كل نسخة بكل لسان ويشهدون بلفظ كل نسخة ويشهد لهم من هو مثلهم بلفظ النسخة الأخرى وموافقتها لها وهؤلاء أو مثلهم بموافقة النسخة الثانية
ومعلوم أن هذا لم يفعله أحد ولا يقدر عليه أحد بل لو اجتمع جميع ملوك النصارى على ذلك وعلماء بلادهم على ذلك لم يقدروا عليه فإن من النسخ ما هو عند المسلمين ومنها ما هو في بلاد لا حكم لهم عليها وأيضا فقد يكون في بلادهم من النسخ ما لم يظهرها أصحابها
فكل من شهد من النصارى وغيرهم بأن كل نسخة في العالم بهذه الكتب توافق جميع النسخ فهو شاهد زور شهد بما لا يعلم بل شهد بما يعلم أنه كاذب فيه
وكذلك لو شهد بمثل هذا لنسخ أي كتاب كان فإن العادة المعروفة أن نسخ الكتب تختلف ويزيد بعضها وينقص بعضها والقرآن المنقول بالتواتر لم يكن الاعتماد في نقله على نسخ المصاحف بل الاعتماد على حفظ أهل التواتر له في صدورهم
ولهذا إذا وجد مصحف يخالف حفظ الناس أصلحوه وقد يكون في بعض نسخ المصاحف غلط فلا يلتفت إليه مع أن المصاحف التي كتبها الصحابة قد قيد الناس صورة الخط ورسمه وصار ذلك أيضا منقولا بالتواتر فنقلوا بالتواتر لفظ القرآن حفظا ونقلوا رسم المصاحف أيضا بالتواتر
ونحن لا ندعي اتفاق جميع نسخ المصاحف كما لا ندعي أن كل من يحفظ القرآن لا يغلط بل ألفاظه منقولة بالتواتر حفظا ورسما فمن خرج عن ذلك علم الناس أنه غلط لمخالفته النقل المتواتر بخلاف هذه الكتب فإن النصارى لم يحفظوها كلها في قلوبهم تلقيا لها عن الحوارين حفظا منقولا بالتواتر بل لم يمكن أحد منهم يحفظها كلها فضلا عن أن يحفظها كلها أهل التواتر فضلا عن أن يحفظ كل لسان منها من تواتر بهم ذلك اللسان
وهذا أمر معلوم لجميع النصارى وغيرهم أنه لم يحفظها كلها بكل لسان من زمن الحواريين عدد التواتر بل ولا في زمن من الأزمان بل بعد انتشار النصارى وكثرتهم وتفرقهم في الأقاليم السبعة لا يكاد يوجد فيهم من يحفظها كلها عن قلبه كما يحفظ صبيان مكاتب المسلمين القرآن فكيف يحفظها في كل زمان أهل التواتر فكيف يحفظ كل لسان من الاثنين وسبعين أهل التواتر
وإذا كان اعتمادهم إنما هو على الكتب وهم لا يمكنهم معرفة اتفاق جميع النسخ بلسان واحد فضلا عن جميع الألسنة علم أن دعواهم أنها لم تزل متفقة على نص واحد ولفظ واحد وأن جميع نسخها متفقة في هذا الزمان وفيما قبله كلام مجازف يتكلم بلا علم بل يتكلم بما يعلم أنه باطل
الوجه الثامن أن هذا لو قدر إمكانه فإنما يكون منقولا لو لم يعلم أنه كذب فكيف مع العلم بأنه كذب فإنه يوجد في هذا الزمان نسخ التوراة والإنجيل والزبور والنبوات مختلفة متناقضة
والنسخ التي عند النصارى مختلفة وهي أيضا تخالف نسخ اليهود والسامرة في مواضع وحينئذ فإذا قالت النصارى نسخنا هي الصحيحة لم يكن هذا أولى من قول اليهود نسخنا هي الصحيحة
بل معلوم أن اعتناء اليهود بالتوراة أعظم من اعتناء النصارى ثم بعد هذا ما ذكروه لا يكفي إن لم يعلم أن نسخهم توافق النسخ التي عند اليهود حتى السامرة وهذا غير معلوم
وإن قالوا إذا خالف نقل اليهود لنقل الحواريين لم يلتفت إليه
لأنهم معصومون كل هذا مبينا على دعوى عصمتهم وقد عرف فساده وإذا قالت النصارى نحن ننقلها عن الحواريين المعصومين قالت اليهود نحن ننقلها عن موسى المعصوم باتفاق أهل الملل أو عن العارف المعصوم باتفاق اليهود والنصارى وكثير من المسلمين فالتوراة باتفاق الخلق مأخوذة عن موسى بن عمران وهو معصوم وإنما يطعن من يطعن في نقل بعضها لانقطاع التواتر في أثناء المدة لما خرب بيت المقدس ولم يبق فيه ساكن أكثر من سبعين سنة فيقول بعض الناس إن بعض ألفاظها غير حينئذ ويقول بعضهم لم تغير ألفاظ جميع النسخ وإنما غير ألفاظ بعض النسخ وانتشرت النسخ المغيرة عند كثير من الناس حتى لا يعرفوا غيرها
ثم بنوا إسرائيل لم يزل فيهم نبي بعد نبي حتى جاء المسيح وبعد المسيح فلم يزالوا خلقا كثيرا لا يمكن تواطؤهم في مشارق الأرض ومغاربها على تغيير نسخ التوراة بخلاف الإنجيل فإنه إنما نقله أربعة ومن كتب التوراة والزبور والنبوات من أتباع المسيح فإنما كتبوها من النسخ التي كانت بأيدي اليهود
وإذا قالوا كانوا معصومين فهذا ممنوع عند المسلمين واليهود وعلى تقدير تسليمه فاليهود ينقلونها أيضا عن المعصوم قبل هؤلاء فلا يمكن مع هذا أن يدعي مدع أن النبوات التي عند النصارى تواترت عن المعصوم أعظم من تواتر ما عند اليهود بل لا يشك العقلاء العادلون أن نقل حروف التوراة أصح من نقل حروف الإنجيل
وهذا أمر يعرف من وجوه متعددة فإن التوراة أخذت عن المعصوم باتفاق أهل الملل وكانت منقولة قبل المسيح بين الأنبياء وبين بني إسرائيل أعظم من نقل الإنجيل وبعد المسيح نقلها اليهود والنصارى
وإذا كان كذلك فإذا وجد ما عند اليهود والسامرة من نسخ النبوات يخالف ما عند النصارى في بعض الألفاظ كان هذا دليلا على أن هذه الكتب ليست ألفاظها منقولة عن نص واحد وأنه ليس كل لفظ من ألفاظها متواترا والله أعلم
الوجه التاسع أن جميع ما عندهم من النصوص الصحيحة لا يدل على مذهبهم ألبتة نصا بل غاية ما يدعون فيها الظهور وهم منازعون في ذلك حتى يقال بل الظاهر فيما يحتجون به خلاف قولهم
ومعلوم أن أصول الإيمان التي يؤمن أهل الإيمان بها ويكفرون من خالفها لا بد أن تكون معلومة عندهم عن الأنبياء والعلم لا يحصل بلفظ محتمل فعلم أنه لا علم عندهم عن الأنبياء عليهم السلام وهو محل النزاع
الوجه العاشر أن أصرح ما عندهم من التثليث هو قوله عمدوا الناس باسم الاب والابن وروح القدس وعلى هذا القول بنوا قولهم بالتثليث وأثبتوا لله ثلاثة أقانيم
ولفظ الأقانيم لم ينطق به أحد من الأنبياء ولا أحد من الحواريين باتفاقهم بل هو مما ابتدعوه قيل إنه لفظ رومي معناه الأصل ثم أقنوم الابن تارة يقولون هو علم الله وتارة يقولون هو حكمة الله وتارة يقولون هو كلمة الله وتارة يقولون هو نطق الله
وروح القدس تارة يقولون هو حياة الله وتارة يقولون هو قدرة الله
والكتب المنقولة عن الأنبياء عندهم ليس فيها تسمية شيء من صفات الله لا باسم ابن ولا باسم روح القدس فلا يوجد أن أحدا من الأنبياء سمى علم الله وحكمته وكلامه ابنا ولا سمى حياة الله أو قدرته روح القدس بل روح القدس في كلام الأنبياء يراد بها معنى ليس هو حياة الله كما يراد بها ملك الله أو ما ينزله في قلوب الأنبياء والصالحين من هداه ونوره وتأييده ونحو ذلك
وإذا كان كذلك علم أن ما فسروا به قول المسيح عليه السلام عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس كذب صريح عليه وكذلك ما فسروا به كلام الأنبياء من إثبات الأقانيم الثلاثة كذب صريح عليهم كقولهم إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرادوا به إثبات ثلاثة آلهة فإن هذا مما يعلم بالضرورة ضلالهم فيه وافتراءهم على الأنبياء ويعلم أن إله الثلاثة هو إله واحد ليس إله إبراهيم إلها آخر غير إله إسحاق حتى لو قيل بالأقانيم فلا يقول عاقل إن أحد الأقانيم إله هذا والأقنوم الآخر إله الآخر فإن هذا
لم يقله أحد من العقلاء لا النصارى ولا غيرهم لا يقولون إن الأب إله إبراهيم مثلا والابن إله إسحاق وروح القدس إله يعقوب بل هم متفقون مع قولهم بالتثليث أن الجميع إله واحد لجميع المرسلين ليس إله هذا أقنوما وإله الآخر أقنوما آخر فعلم أن ما يفسرون به كلام الأنبياء كذب لا يصح لا على تثيلثهم الذي ابتدعوه ولا قول أهل التوحيد المتبعين لرسل الله تعالى
فصل
قال الحاكي عنهم فقلت لهم إذا كانت هذه النبوات عند اليهود وهم مقرون معترفون بها أنها حق وأنها عتيدة أن تكمل عند مجيء المسيح فأي حجة لهم يحتجون بها عن الإيمان به
أجابوا قائلين إن الله اختار بني إسرائيل واصطفاهم على الناس له شعبا في ذلك الزمان وحيث كانوا في أرض مصر في عبودية فرعون أرسل إليهم موسى النبي دلهم على معرفة الله ووعدهم أن الله يخلصهم من عبودية فرعون ويخرجهم من مصر ويريهم أرض الميعاد التي هي أرض بيت المقدس فطلب موسى من الله وعمل العجائب قدام عيونهم
وضرب أهل مصر العشر ضربات وهم يرون ذلك جميعه ويعلمون أن الله يصنعه لأجلهم وأخرجهم من مصر بيد قوية وشق لهم البحر وأدخلهم فيه وصار لهم الماء حائطا عن يمينهم وحائطا عن شمالهم ودخل فرعون وجميع جنوده في البحر وبنو إسرائيل ينظرون ذلك فلما برز موسى وبنو إسرائيل من البحر وخلفهم فرعون بجنوده فيه أمر الله لموسى أن يرد عصاه إلى الماء فعاد الماء كما كان وغرق فرعون وجميع جنوده في البحر وبنو إسرائيل يشهدون ذلك
فلما غاب عنهم موسى إلى الجبل ليناجي ربه وأخذ لهم التوراة من يد الله تركوا عبادة الله ونسوا جميع أفعاله وكفروا به وعبدوا رأس العجل من بعد ذلك ثم عبدوا الأصنام مرارا كثيرة ليس مرة واحدة وذبحوا لها الذبائح ليست حيوانات بل بنيهم مع البنات حسبما ذكر فيما قبل ذلك وجميع أفعالهم مكتوبة في أخبار بني إسرائيل فلما رأى الله قساوة قلوبهم وغلظ رقابهم وكفرهم به ورأى أفعالهم النجسة الخبيثة غضب عليهم وجعلهم مرذولين وطبع على قلوبهم فلا يؤمنون وجعلهم مهانين في جميع الأمم وليس لهم ملك ولا بلاد ولا نبي ولا كاهن إلى الأبد حسبما تنبئت عليهم الأنبياء على ما ذكرناه قبل وتشهد به كتبهم التي في أيديهم إلى يومنا هذا
وكذا قال الله لأشعيا اذهب إلى هذا الشعب فقل لهم تسمعون سماعا ولا تفهمون وينظرون نظرا ولا تبصرون لأن قلب هذا الشعب قد غلظ وقد سمعوا بأفهامهم سمعا ثقيلا وقد غمضوا أعينهم لئلا يبصروا بها وسمعوا بآذانهم ولا يفهمون بقلوبهم ويرجعون إلي فأرحمهم
وقال أشعيا قال الله هكذا مقتت نفسي سبوتكم ورؤوس شهوركم صارت عندي مرذولة وقال وفي ذلك اليوم يقول الله سأبطل السبوت والأعياد كلها وأعطيكم سنة جديدة مختارة لا كالسنة التي أعطيتها لموسى عبدي يوم حوريب يوم الجمع الكثير بل سنة جديدة مختارة أمر بها وأخرجها من صهيون فصهيون هي أورشليم والسنة الجديدة المختارة هي السنة التي تسلمناها نحن معشر النصارى من يدي الرسل الحواريين الأطهار الذين خرجوا من أورشليم وداروا في سبعة أقاليم العالم وأنذروا بهذه السنة الجديدة فأي بيان يكون أوضح وأصح من هذا البيان إذ قد أوردناه من قول الله ولا سيما وأعداؤنا اليهود المخالفون لديننا شهدوا لنا بصحة ذلك جميعه
وأما حجة اليهود في هذه النبوات يقولون ويعتقدون أنها حق وأنها قول الله لكن يقولون إنها عتيدة فهذه النبوات مثلما هي عند اليهود كذلك هي عندنا معشر النصارى في اثنين وسبعين لسانا فيراهم جميع
الأمم قولا واحدا وأنها قول الله وقالت اليهود نحن مصدقون بها أن تكمل وتتم عند مجيء المسيح لكن المسيح لم يجيء بعد وأن الذي جاء ليس هو المسيح هذا قولهم وكفاهم أنهم يكفرون ويفجرون مع الكفر ويقولون إن المسيح كان ضالا مضلا وأما المسيح الحق فعتيد أنه يأتي ويكمل نبوات الأنبياء إذا جاء وإذا جاء اتبعناه وكنا أنصاره وهذا رأيهم واعتقادهم في السيد المسيح فماذا يكون أعظم من هذا الكفر الذي هم عليه
ولأجل ذلك في هذا الكتاب سماهم المغضوب عليهم لأجل خلافهم لقول الله الذي أرسل نطقه على أفواه الأنياء ولما كنا نحن النصارى متمسكين بما أمرتنا به الرسل الأطهار سمانا في هذا الكتاب المنعم عليهم وأما قولنا في الله ثلاثة أقانيم إله واحد فهو أن الله نطق به وأوضحه في التوراة وفي كتب الأنبياء ومن ذلك ما جاء في السفر الأول من التوراة يقول حيث شاء الله أن يخلق
آدم قال لنخلق خلقا على شبهنا ومثالنا فمن هو شبههه ومثاله سوى كلمته وروح قدسه وحين خالف آدم وعصى ربه ها آدم قد صار كواحد منا
وهذا واضح أن الله قال هذا القول لابنه أي كلمته وروح قدسه وقال هذا القول يستهزىء بآدم أي طلب أن يصير كواحد منا صار عريا مفتضحا
وقال الله عندما أخسف بسدوم وعامورة قال في التوراة وأمطر الرب عند الرب من السماء على سدوم وعامورة نارا وكبريتا
أوضح بهذا ربوبية الآب والابن بذكر ثالث
والجواب أن يقال أما كفر اليهود كلهم لما أرسل المسيح عليه السلام إليهم فلم يؤمنوا به وكفر من كفر منهم قبل ذلك إما بقتل النبيين وإما بتكذيبهم إما بالشرك وإما بغير ذلك مما كفروا فيه بما أنزل الله فهذا حق
وهذا هو نظير كفر النصارى كلهم الذين بلغتهم دعوة محمد وأقام الله عليهم الحجة به فلم يؤمنوا به وكفر من كفر منهم قبل ذلك بما أنزل الله إما بتكذيب بعض ما أنزله وإما بتبديله بغيره وإما بجعل ما لم ينزله الله منزلا منه وإما بغير ذلك مما فيه كفر بما أنزل الله عز و جل
وكذلك ما ذكر من أن الله أقام سنة جديدة وعهدا جديدا وهو ما بعث به المسيح عليه السلام من الشريعة التي بعث بها وفيها تحليل بعض ما حرم الله في التوراة كما قال في القرآن عن المسيح
ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم
فهذا أيضا حق
فصل
وأما قولكم السنة الجديدة المختارة هي السنة التي تسلمناها من يدي الرسل الأطهار على ما تسلموها هم من المسيح عليه السلامفيقال لو كنتم على تلك السنة لم تغيروها لم ينفعكم المقام عليها إذا كذبتم الرسول النبي الأمي الذي بعث إليكم وإلى سائر الخلق بسنة أخرى أكمل من السنن التي كانت قبله كما لم ينفع اليهود ولو تمسكوا بسنة التوراة ولم يتبعوا سنة المسيح الذي أرسل إليهم بل من كذب برسول واحد فهو كافر
كما قال تعالى
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا
فإنه وإن كانت السنة التي جاء بها المسيح عليه السلام حقا وكل من كان متبعا له فهو مؤمن مسلم من أولياء الله من أهل الجنة الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كما قال تعالى
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وقال تعالى
كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
فمن اتبع المسيح كان مؤمنا ومن كفر به كان كافرا
وقال تعالى
سورة آل عمران الآيات 55 57
لكن غيرتموها وبدلتموها قبل مبعث محمد فصرتم كفارا بتبديل شريعة المسيح وتكذيب شريعة محمد كما كفرت اليهود بتبديل شريعة التوراة وتكذيب شريعة الإنجيل ثم كفروا بتكذيب شريعة محمد وعلى سائر رسل الله أجمعين
فإن المسيح لم يسن لكم التثليث والقول بالأقانيم ولا القول بأنه رب العالمين ولا سن لكم استحلال الخنزير وغيره من المحرمات ولا ترك الختان ولا الصلاة إلى المشرق ولا اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ولا الشرك واتخاذ التماثيل والصليب ودعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والصالحين وغيرهم وسؤالهم الحوائج ولا الرهبانية وغير ذلك من المنكرات التي أحدثتموها ولم يسنها لكم المسيح ولا ما أنتم عليه هي السنة التي تسلمتموها من رسل المسيح
بل عامة ما أنتم عليه من السنن أمور محدثة مبتدعة بعد الحواريين كصومكم خمسين يوما زمن الربيع واتخاذكم عيدا يوم الخميس والجمعة والسبت فإن هذا لم يسنه المسيح ولا أحد من الحواريين وكذلك عيد الميلاد والغطاس وغير ذلك من أعيادكم
بل عيد الصليب إنما ابتدعته هيلانة الحرانية القندقانية
أم قسطنطين فأنتم تقولون إنها هي التي أظهرت الصليب وصنعت لوقت ظهوره عيدا وذلك بعد المسيح والحواريين بمدة طويلة زمن الملك قسطنطين بعد المسيح بأكثر من ثلثمائة سنة
وفي ذلك الزمان أحدثتم الأمانة لنصوص الأنبياء في غير موضع وأظهرتم استحلال الخنزير وعقوبة من لم يأكله وابتدعتم في ذلك الزمان تعظيم الصليب وغير ذلك من بدعكم وكذلك كتب القوانين التي عندكم جعلتموها سنة وشريعة فيها شيء عن الأنبياء والحواريين وكثير مما فيها ابتدعه من بعدهم لا ينقلونه لا عن المسيح ولا عن الحواريين فكيف تدعون أنكم على السنة والشريعة التي كان عليها المسيح عليه السلام وهذا مما يعلم بالاضطرار والتواتر أنه كذب بين
فصل
قالوا وأما قولنا في الله ثلاثة أقانيم إله واحد فهو أن الله نطق به وأوضحه في التوراة وفي كتب الأنبياء ومن ذلك ما جاء في السفر الأول من التوراة يقول حيث شاء الله أن يخلق آدم قال الله لنخلق خلقا على شبهنا ومثالنا فمن هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروحه
وحين خالف آدم وعصى ربه قال الله تعالى ها آدم قد صار كواحد منا وهو قول واضح أن الله قال هذا القول لابنه وروح قدسه
والجواب أن استدلالهم بهذا على قولهم في المسيح هو في غاية الفساد والضلال فإن لفظ التوراة نصنع آدم كصورتنا وشبهنا وبعضهم يترجمه نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا
والمعنى واحد وهذا كما قال النبي
أن الله خلق آدم على صورته وفي رواية على صورة
الرحمن فقولهم من هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروحه من أبطل الباطل من وجوه
أحدها أن الله ليس كمثله شيء وليس لفظ النص على مثالنا
الثاني أنه لا اختصاص للمسيح بما ذكر على تقدير حق وباطل فإنه بأي تفسير فسر قوله سنخلق بشرا على صورتنا شبهنا لم يخص ذلك المسيح
الثالث أنهم إن أرادوا بالكلمة التي هي شبهه ومثاله صفته التي هي العلم القائم به والحياة القائمة به مثلا فالصفة لا تكون مثلا للموصوف إذ الموصوف هو الذات القائمة بنفسها والصفة قائمة بها والقائم بغيره لا يكون مثل القائم بنفسه
وإن أرادوا به شيئا غير صفاته مثل بدن المسيح وروحه
فذلك مخلوق له والمخلوق لا يكون مثل الخالق وكذلك روح القدس سواء أريد به ملك أو هدي وتأييد ليس مثلا لله عز و جل
الرابع أنه قال لنخلق خلقا أو قال نخلق آدم أو نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا وعلى ما قالوه نخلق خلقا على شبهنا ومثالنا وبكل حال فهذا وكلمة الله وروحه عندهم غير مخلوق فامتنع أن يكون المراد بذلك كلمته وروحه
وإن قالوا أراد بذلك الناسوت المسيحي فلا فرق بين ذلك الناسوت وسائر النواسيت مع أن المراد بذلك النص آدم أبو البشر باتفاق الأمم والناسوت نفسه ليس هو كلمة الله وروحه
الخامس أنه لو قدر أنه أريد بذلك أن كلام الله يشبه ذاته من بعض الوجوه مثل كونه قديما بقدمه لم يكن في ذلك ما يدل على الأقانيم الثلاثة
وكذلك اللفظ المعروف وهو قوله سنخلق بشرا على صورتنا شبهنا فهذا لا يدل على التثليث بوجه من الوجوه وشبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه وذلك لا يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع وإذا قيل هذا حي
عليم قدير وهذا حي عليم قدير فتشابها في مسمى الحي والعليم والقدير لم يوجب ذلك أن يكون هذا المسمى مماثلا لهذا المسمى فيما يجب ويجوز ويمتنع
بل هنا ثلاثة أشياء
أحدها القدر المشترك الذي تشابها فيه وهو معنى كلي لا يختص به أحدهما ولا يوجد كليا عاما مشتركا إلا في علم العالم
والثاني ما يختص به هذا كما يختص الرب بما يقوم به من الحياة والعلم والقدرة
والثالث ما يختص به ذاك كما يختص به العبد من الحياة والعلم والمقدرة فما اختص به الرب عز و جل لا يشركه فيه العبد ولا يجوز عليه شيء من النقائص التي تجوز على صفات العبد وما يختص به العبد لا يشركه فيه الرب ولا يستحق شيئا من صفات الكمال التي يختص بها الرب عز و جل
وأما القدر المشترك كالمعنى الكلي الثابت في ذهن الإنسان فهذا لا يستلزم خصائص الخالق ولا خصائص المخلوق فالاشتراك فيه لا محذور فيه
ولفظ التوراة فيه سنخلق بشرا على صورتنا يشبهنا لم يقل على مثالنا وهو كقول النبي في الحديث الصحيح
لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك فإن الله تعالى خلق آدم على صورته فلم يذكر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كموسى ومحمد إلا لفظة شبه دون لفظ مثل
وقد تنازع الناس هل لفظ الشبه والمثل بمعنى واحد أو معنيين على قولين
أحدهما أنهما بمعنى واحد وأن ما دل عليه لفظ المثل مطلقا ومقيدا يدل عليه لفظ الشبه وهذا قول طائفة من النظار
والثاني أن معناها مختلف عند الإطلاق لغة وشرعا وعقلا وإن كان مع التقيد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر وهذا قول أكثر الناس وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية وهو أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه وللناس في ذلك قولان فمن منع أن يشبهه من وجه دون وجه قال المثل والشبه واحد ومن قال إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه فرق بينهما عند الإطلاق
وهذا قول جمهور الناس فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان تشتبه في كونها ألوانا مع أن السواد ليس مثل البياض وكذلك الأجسام والجواهر عند جمهور العقلاء تشتبه في مسمى الجسم والجوهر وإن كانت حقائقها ليست متماثلة فليست حقيقة الماء مماثلة لحقيقة التراب ولا حقيقة النبات مماثلة لحقيقة الحيوان ولا حقيقة النار مماثلة لحقيقة الماء وإن اشتركا في أن كلا منهما جوهر وجسم وقائم بنفسه
وأيضا فمعلوم في اللغة أنه يقال هذا يشبه هذا وفيه شبه من هذا إذا أشبهه من بعض الوجوه وإن كان مخالفا له في الحقيقة
قال الله تعالى وأتوا به متشابها
وقال
منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم
فوصف القولين بالتماثل والقلوب بالتشابه لا بالتماثل فإن القلوب وإن اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة وقال النبي
الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس
فدل على أنه يعلمها بعض الناس وهي في نفس الأمر ليست متماثلة بل بعضها حرام وبعضها حلال
والوجه السادس أن قوله سنخلق خلقا على شبهنا لا يتناول صفته مثل كلامه وحياته القائمة به فإن ذلك ليس بمخلوق وحينئذ فهذا لا يتناول اللاهوت الذي يزعمون أنه تدرع بالناسوت فإن اللاهوت ليس بمخلوق
وأما الناسوت فهو كسائر نواسيت الناس لا اختصاص له بأن يكون شبيها لله دون سائر النواسيت فقوله فمن هو الشبه المخلوق سوى كلمته وروحه باطل على كل تقدير
وأما قوله ها آدم قد صار كواحد منا وقولهم إن هذا قول
واضح أن الله قال هذا القول لابنه روح قدسه فإن أرادوا أن يجعل الذي صار كواحد منا لابنه كان هذا من أبطل الكلام فإن هذا الابن إن كان المراد به الكلمة التي هي صفة لله فتلك لم يخلق لها أمر يصير كواحد منهم وتلك لا تسمى آدم ولا سماها الله ابنا
وإن أريد به ناسوت المسيح فذاك مخلوق مبتدع يمتنع أن يكون كالقديم الأزلي وأيضا فإن الله قال عن آدم وآدم ليس هو المسيح ولا يجوز أن يقال آدم ويراد به المسيح كما لا يجوز أن يقال عصى آدم ويراد به المسيح وأيضا فإنه قال ها آدم قد صار كواحد منا هذه إشارة إلى أمر قد كان في الزمن الماضي ليس هو إشارة إلى ما سيكون بعد ذلك بألوف من السنين وإن أرادوا أن الله قال لابنه الذي هو كلمته وروحه وهذا هو مرادهم كقولهم إنه قال هذا القول يستهزىء بآدم أي أنه طلب أن يصير كواحد منا صار هكذا عريانا مفتضحا ويكون شبهتم قوله منا لأنه عبر بصيغة الجمع وكذلك إن أرادوا هذا بقوله نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا فاحتجوا على التثليث بصيغة الجمع
وهذا مما احتج به نصارى نجران على النبي فاحتجوا بقوله تعالى إنا نحن قالوا وهذا يدل على أنهم ثلاثة وكان هذا من المتشابه الذي اتبعوه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وتركوا المحكم المبين الذي لا يحتمل إلا واحدا فإن الله في جميع كتب الإلهية قد بين أنه إله واحد وأنه لا شريك له ولا مثل له
وقوله إنا نحن لفظ يقع في جميع اللغات على من كان له شركاء وأمثال وعلى الواحد المطاع العظيم الذي له أعوان يطيعونه وإن لم يكونوا شركاء ولا نظراء والله تعالى خلق كل ما سواه فيمتنع أن يكون له شريك أو مثل والملائكة وسائر العالمين جنوده تعالى
قال تعالى
وما يعلم جنود ربك إلا هو
وقال تعالى
ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما
فإذا كان الواحد من الملوك يقول إنا ونحن ولا يريدون أنهم ثلاثة ملوك فمالك الملك رب العالمين رب كل شيء ومليكه هو أحق بأن يقول إنا ونحن مع أنه ليس له شريك ولا مثيل بل له جنود السماوات والأرض
وأيضا فمن المعلوم أن آدم لم يطلب أن يصير مثل الله ولا مثل صفاته كعلمه وحياته وأيضا فليس في ظاهر اللفظ أن الله خاطب صفاته بتلك
وأيضا فالصفة القائمة بالموصوف لا تخاطب ولا تخاطب وإنما يخاطب الموصوف ولم يكن قد خلق آدم ناسوت المسيح ولا غيره من البشر حتى يخاطبه فعلم أن دعواهم أن الله خاطب صفته التي سموها ابنا وروح قدس كلام باطل بل قد يخاطب ملائكته
وآدم عليه السلام أراد ما أطمعه الشيطان من الخلد والملك كما قال تعالى
فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى
فصل
قالوا وقال الله عندما أخسف بسدوم وعامورة قال في التوراة وأمطر الرب من عند الرب من السماء على سدوم وعامورة نارا وكبريتا أوضح بهذا ربوبية الأب والابنوالجواب أن احتجاجهم بهذا من أبطل الباطل لوجوه
أحدها أن تسمية الله علمه وحياته ابنا وربا تسمية باطلة لم يسم موسى في التوراة شيئا من صفات الله باسم الابن ولا باسم الأب فدعوى المدعي أن موسى عليه السلام أراد بالرب شيئا من صفات الله أو أن له صفة تسمى ابنه كلام باطل
الثاني أنه لو قدر أن صفة الله تسمى بذلك فمعلوم أن الذي أمطر هو الذي كان المطر عنده لم يكن المطر عند أحدهما والآخر هو الممطر كما لا يجوز أن يقال خلق أحدهما من شيء عند الآخر ولا أنزل أحدهما المطر من سحاب الآخر
الثالث أن الصفة لا تفعل شيئا ولا عندها شيء بل هي قائمة بالموصوف والذات المتصفة بالصفة هي التي تفعل وعندها يكون ما يكون
الرابع أن هذا بمنزلة قوله أمطر الرب من عنده لكن جعل الاسم الظاهر موضع المضمر إظهارا لأن الأمر له وحده في هذا وهذا
ومثل هذا في القرآن كقوله
الحاقة ما الحاقة
القارعة ما القارعة
وقال تعالى
تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم
تنزيل من الرحمن الرحيم
والله هو المنزل ولم يقل مني
فصل
قالوا نذكر ثالثا وقال داود في الزبور في المزمور المئة والتسعة قائلا قال لرب لربي أجلس عن يميني حتى أضع أعداءك تحت موطأ قدميك
والجواب من وجوه
أحدها أنه لا يجوز أن يراد بربي شيئا من صفات الله فإنه لم يسم داود ولا أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله ربا ولا ابنا ولا قال أحد لشيء من صفات الله يا رب ارحمني ولا قال لعلم الله أو كلامه أو قدرته يا رب وإذا لم يكونوا يسمون صفات الله ربا ولو كان المسيح صفة من صفاته لم يجز أن يكون هو المراد بلفظ الرب فكيف وناسوته أبعد عن اللاهوت أن يراد بذلك
فعلم أنهم لم يريدوا بذلك لا اللاهوت ولا الناسوت
الثاني أنه قال قال الرب لربي فأضاف إليه الثاني دون الأول
وأنه هو ربه الذي خلقه وعامة ما عند النصارى من الغلو أن يقولوا إله حق من إله حق ويجعلونه خالقا أما أن يجعلوه أحق من الأب بكونه رب داود فهذا لم يقولوه وهو ظاهر البطلان
الثالث أنه ليس في هذا ذكر الأقانيم الثلاثة غايته لو كان كما تألوه أن يكون فيه ذكر الابن وأما الأقانيم الثلاثة فلم ينطق بها شيء من كتب الله التي بأيديهم فضلا عن القرآن لا بلفظها ولا معناها بل ابتدعوا لفظ الأقنوم وعبروا به عن ما جعلوه مدلول كتب الله وهي لا تدل على ذلك فكانوا في ذلك مترجمين لكلام الله وهم لم يفهموا معناه ولا عبروا عنه بعبارة تدل على المراد
الرابع أنه قال لربي وهذا يراد به السيد كما قال يوسف
إنه ربي أحسن مثواي
وقال لغلام الملك
اذكرني عند ربك
وقال تعالى
فأنساه الشيطان ذكر ربه
ولهذا ذكر الأول مطلقا والثاني مقيدا فيكون المعنى وقال الله لسيدي قال رب العالمين لسيدي وسماه سيدا تواضعا من داود وتعظيما له لاعتقاده أنه أفضل منه
فصل
قالوا نذكر رابعا وقال في المزمور الثاني الذي قال لي أنت ابني وأنا اليوم ولدتكوالجواب من وجوه
أحدها أن هذا ليس فيه تسمية صفات الله علمه وحياته ابنا ولا فيه ذكر الأقانيم الثلاثة فليس فيه حجة لشيء مما تدعونه
والثاني أن هذا حجة عليهم فإنه هو سمى داود ابنه فعلم أن اسم الابن ليس مختصا بالمسيح عليه السلام بل سمى غيره من عباده ابنا فعلم أن اسم الابن ليس اسما لصفاته بل هو اسم لمن رباه من عبيده
وحينئذ فلا تكون تسمية المسيح ابنا لكون الرب أو صفته اتحدت به بل كما سمى داود ابنا وكما سمى إسرائيل ابنا فقال أنت ابني بكري
وهذا في كتبهم كما ذكر فإن كان ما في كتبهم قول الله فلا حجة فيه لأنه أراد المربى وإن لم يكن قول الله ورسله فلا حجة فيه لأن قول غير المعصوم ليس بحجة
الثالث أن قوله وأنا اليوم ولدتك يدل على حدوث هذا الفعل وعندهم تولد الكلمة التي يسمونها الابن من الأب قديم أزلي كما قالوا في أمانتهم وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من جوهر أبيه مولود غير مخلوق مساو الأب في الجوهر الذي به كان كل شيء
فهذا الابن عندهم مولود من الأب قبل كل الدهور وذاك ولد
في يوم خاطبه بعد خلق داود فلم يكن في هذا المحدث دليل على وجود ذلك القديم
الوجه الرابع أنه إذا كان الأب في لغتهم هو الرب الذي يربي عبده أعظم مما يربي الأب ابنه كان معنى لفظ الولادة مما يناسب معنى هذه الأبوة فيكون المعنى اليوم جعلتك مرحوما مصطفى مختارا
والنصارى قد يجعلون الخطاب الذي هو ضمير لغير المسيح يراد به المسيح فقد يقولون المراد بهذا المسيح وهذا باطل لا يدل اللفظ عليه وبتقدير صحته فهو يدل على أن المسيح هو الناسوت المخلوق وهو المسمى بالابن لقوله وأنا اليوم ولدتك
واللاهوت عندهم مولود من قبل الدهور وحينئذ فإن كان المراد به يوم ولادته فالمعنى خلقتك وإن كان يوم اصطفاه فالمراد اليوم اصطفيتك وأحببتك كأنه قال اليوم جعلتك ولدا وابنا على لغتهم
فصل
قالوا نذكر خامسا وفي السفر الثاني من التوراة وكلم الله موسى من العليقة قائلا أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب ولم يقل أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب بل كرر اسم الإله ثلاث دفوع قائلا أنا إله وإله لتحقق مسألة الثلاث أقانيم في لاهوته
والجواب أن الاحتجاج بهذا على الأقانيم الثلاثة من أفسد الأشياء وذلك يظهر من وجوه
أحدها أنه لو أريد بلفظ الإله أقنوم الوجود وبلفظ الإله مرة ثانية أقنوم الكلمة وبالثالث أقنوم الحياة لكان الأقنوم الواحد إله إبراهيم والأقنوم الثاني إله إسحاق والأقنوم الثالث إله يعقوب فيكون
كل من الأقانيم الثلاثة إله أحد الأنبياء الثلاثة والأقنومين ليسا بإلهين له
وهذا كفر عندهم وعند جميع أهل الملل وأيضا فيلزم من ذلك أن يكون الآلهة ثلاثة وهم يقولون آله واحد ثم هم إذا قالوا كل من الأقانيم إله واحد فيجعلون الجميع إله كل نبي فإذا احتجوا بهذا النص على قولهم لزم أن يكون إله كل نبي ليس هو إله النبي الآخر مع كون الآلهة ثلاثة
الوجه الثاني أنه يقال إن الله رب العالمين ورب السماوات ورب الأرض ورب العرش ورب كل شيء أفيلزم أن يكون رب السماوات ليس هو رب الأرض رب كل شيء
وكذلك يقال إله موسى وإله محمد مع قولنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أفتكون الآلهة خمسة وقد قال يعقوب لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
أفتراه أثبت إلهين أحدهما إلهه والآخر إله الثلاثة
الوجه الثالث أن العطف يكون تارة لتغاير الذوات وتارة لتغاير الصفات كقوله تعالى
سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى
والذي خلق هو الذي قدر وأخرج وكذلك قوله
إلهك وإله آبائك
وهو هو سبحانه وقال إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلامه لقومه
سورة الشعراء الآيات 75 82
والذي خلقه هو الذي يطعمه ويسقيه وهو الذي يميته ثم يحييه
فقوله في التوراة إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب هو من هذا الباب ولا يختص هذا بثلاثة بل يقال في الاثنين والأربعة والخمسة بحسب ما يقصد المتكلم ذكره من الصفات وفي هذا من الفائدة ما ليس في قوله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فإنه لو قيل ذلك لم يفد إلا أنه معبود الثلاثة لا يدل على أنهم عبدوه مستقلين كل منهم عبده عبادة اختص بها لم تكن هي نفس عبادة الأول
وأيضا فإنه إذا قيل إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب دل على عبادة كل منهم باللزوم وإذا قال وإله دل على أنه معبود كل من الثلاثة فأعاده باسم الإله الذي يدل على العبادة دلالة باللفظ المتضمن لها وفي ذلك من ظهور المعنى للسامع وتفرعه بصورة له من غير فكر ما ليس في دلالة الملزوم
فصل
قالوا وكذلك شهد أشعيا بتحقق الثالوث بوحدانية جوهره وذلك بقوله رب القوات وبقوله رب السماوات والأرض ومثل هذا القول في التوراة والمزامير شيء كثير حتى اليهود يقرون هذه النبوات ولا يعرفون لها تأويلا وهم معترفون بذلك ولا ينكرون منه كلمة واحدة وإنما قلوبهم مغلوقة عن فهمه لقساوتها على ما ذكرنا قبل ذلك وأنهم إذا اجتمعوا في كنيستهم كل سبت يقف الحران أمامهم ويقول كلاما عبرانيا هذا تفسيره ولا يجحدونه نقدسك ونعظمك ونثلث لك تقديسا مثلثا كالمكتوب على لسان نبيك
فيصرخ الجميع مجاوبين قدوس قدوس قدوس رب القوات ورب السماوات والأرض
فما أوضح إقرارهم بالثالوث وأشد كفرهم بمعناه فنحن لأجل هذا البيان الواضح الذي قاله الله في التوراة وفي كتب الأنبياء فجعلوه ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا طبيعة واحدة إلها واحدا ربا واحدا خالقا واحدا وهو الذي نقوله أب وابن وروح قدس
ووالجواب أما ما في كتب الأنبياء عليهم السلام من تثنية اسم الرب عند إضافته إلى مخلوق آخر فهو من نمط تثنية اسم الإله
وهذا لا يقتضي تعدد الأرباب والآلهة ولهذا لايقتضي جعلهم اثنين وأربعة إذا ذكر اللفظ مرتين وأربعة
فكذلك إذا ذكر ثلاث مرات لا يقتضي أن الأرباب ثلاثة وهم أيضا لا يقولون بثلاثة أرباب وثلاثة آلهة فلو كان هذا يدل على ثلاثة أرباب وثلاثة آلهة لدل على نقيض قولهم بل هم يزعمون أنهم إنما يثبتون إلها واحدا ولكنهم يناقضون فيصرحون بثلاثة آلهة ويقولون هم إله واحد
والكتب لا تدل على قولهم المتناقض بوجه من الوجوه وأما ما ذكروه من اعتراف اليهود بألفاظ هذه النبوات ودعواه أنهم لا يعرفون لها تأويلا فإن أرادوا بالتأويل تفسيرها وما يدل عليه لفظها فهذا ظاهر لا يخفى على الصبيان من اليهود وغيرهم
ولكن النصارى ادعوا ما لا يدل عليه اللفظ وإن أرادوا بالتأويل معنى يخالف ظاهر اللفظ فهذا إنما يحتاج إليه إن كان
يحتاج إليه إذا كان ظاهره معنى باطلا لا يجوز إرادته وليس ما ذكروا هنا من هذا الباب بل الكتب الإلهية يكثر فيها مثل هذا الكلام عند أهل الكتاب وعند المسلمين ولايفهم منها ثلاثة أرباب أو ثلاثة آلهة إلا من اتبع هواه بغير هدى من الله وقال قولا مختلفا يؤفك عنه من أفك ومثل هذا موجود في سائر الكلام يقال هذا أمير البلد الفلاني وأمير البلد الفلاني وأمير البلد الفلاني وهو أمير واحد
ويقال هذا رسول الله إلى الأميين ورسول إلى أهل الكتاب ورسول إلى الجن والإنس وهو رسول واحد
فصل
وأما قولهم نقدسك ونعظمك ونثلث لك تقديسا مثلثا كالمكتوب على لسان نبيك أشعيا
وقولهم قدوس قدوس قدوس رب القوات ورب السماوات والأرض فيقال هذا الكلام صريح في أن المثلث هو نفس التقديس لا نفس الإله المقدس
وكذلك قولهم قدوس قدوس قدوس قدسوه ثلاث مرات فإنه قال نقدسك ونثلث لك تقديسا مثلثا فنصب التثليث على المصدر الذي ينصب بفعل التقديس فقال نقدسك تقديسا مثلثا
فنصب التقديس على المصدر كما تقول سبحتك تسبيحا مثلثا أي سبحتك ثلاث مرات وقال نثلث لك أي نثلث تقديسا لك لم يقل أنت ثلاثة بل جعلوا أنفسهم هم الذين يقدسون التقديس المثلث وهم يثلثون له وهذا صريح في أنهم يسبحونه ثلاث مرات ولا يسبحون ثلاثة آلهة ولا ثلاثة أقانيم
وهذا كما في السنن عن ابن مسعود عن النبي أنه قال إذا قال العبد في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثا فقد تم ركوعه وذلك أدناه وإذا قال في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا فقد تم سجوده وذلك أدناه والتسبيح هو تقديس الرب وأدناه أن يقدسه ثلاث مرات فمعناه قدسوه ثلاث مرات لا تقتصروا على مرة واحدة
ولهذا يقولون مجاوبين قدوس قدوس قدوس فيقدسونه ثلاث مرات فعلم أن المراد تثليث التقديس حيث ما دل عليه لفظه وما يفعلونه ممتثلين لهذا الأمر وما يفعل في نظير ذلك من تثليث تقديسه وأن يقدس ثلاث مرات لا أن يكون المقدس ثلاث أقانيم فإن هذا أمر لم ينطق نبي من الأنبياء به لا لفظا
ولا معنى بل جميع الأنبياء عليهم السلام أثبتوا إلها واحدا له الأسماء الحسنى
وأسماؤه متعددة تدل على صفاته المتعددة ولا يختص ذلك بثلاثة أسماء ولا بثلاث صفات وليست الصفات أقنوما هو ذات وصفة بل ليس إلا ذات واحدة لها صفات متعددة فالتعدد في الصفات لا في الذات التي يسمونها الجوهر ولا في الذات والصفة التي يسمونها الأقنوم
فصل
قالوا فما أعظم إقرارهم في الثالوث وأشد كفرهم بمعناهفيقال هذا من الافتراء الظاهر على اليهود وإن كان اليهود كفارا فلم يكن كفرهم لأجل إنكار الثالوث بل لو أقروا به لكان زيادة في كفرهم يزيد به عذابهم
كما أن النصارى لما كفروا لم يكن كفرهم بإقرارهم بأن المسيح المبشر به الذي قد ظهر ليس هو المسيح الدجال الذي تنتظره اليهود وإذا خرج كانوا شيعته ويقتلهم المسلمون معه شر قتلة حتى إن الشجر والحجر يقول يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله
بل لو كفروا بالمسيح كما كفرت اليهود لكان ذلك زيادة في كفرهم
وعند اليهود وعندهم في التوراة من التوحيد المحض الذي
يبطل تثليثكم ما لا يخفى إلا عمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله وهداه الذي هدى به عباده
فصل
قالوا فمن أجل هذا البيان الواضح الذي قاله الله في التوراة وفي كتب الأنبياء نجعل ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا إلها واحدا خالقا واحدا
وهو الذي نقوله أب وابن وروح قدس
والجواب من وجوه
أحدها أن في التوراة والكتب الإلهية من إثبات وحدانية الله ونفي تعدد الآلهة ونفي إلهية ما سواه ما هو صريح في إبطال قول النصارى ونحوهم وليس فيها ذكر الأقانيم لا لفظا ولا معنى حيث يجعلون الأقنوم اسما للذات مع الصفة والذات واحدة والتعدد في الصفات لا في الذات
ولا يمكن أن تتحد صفة دون الأخرى ولا دون الذات فيمتنع اتحاد أقنوم أو حلوله بشيء من المخلوقات دون الأقنوم الآخر ولا إثبات ثلاثة أقانيم ولا إثبات ثلاث صفات دون ما سواها في شيء من الكتب الإلهية ولا كلام الحواريين ولا إثبات إله حق من إله حق ولا تسمية صفات الله مثل كلامه وحياته لا ابنا ولا إلها ولا ربا ولا إثبات
اتحاد الرب خالق السماوات والأرض بشيء من الآدميين ولا حلول ذات وصفة دون ذات مع الصفات الأخرى بل ولا حلول نفس الصفة القائمة به في غيره لا علمه ولا كلامه ولا حياته ولا غير ذلك
بل جميع ما أثبتوه من التثليث والحلول والاتحاد ليس في كتب الأنبياء التي بأيديهم ما يدل عليه بل فيها أقوال كثيرة صريحة بنقيض ذلك مع القرآن والعقل فهم مخالفون للمعقول وكتب الله المنزلة
الثاني أنهم يقولون إنما نثبت إلها واحدا ثم يقولون في أمانتهم وأدلتهم وغير ذلك من كلامهم ما هو صريح بإثبات ثلاثة آلهة فينقضون كلامهم بعضهم ببعض ويقولون من الأقوال المتناقضة ما يعلم بطلانه كل عاقل تصوره
وهذا لا ينضبط لهم قول مطرد كما يقول من يقول من عقلاء الناس إن النصارى ليس لهم قول يعقله عاقل وليس أقوالهم منصوصة
عن الأنبياء فليس معهم لا سمع ولا عقل كما قال الله تعالى عن أصحاب النار
لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير
وهم أيضا يبطنون خلاف ما يظهرون ويفهم جمهور الناس من مقالاتهم خلاف ما يزعم بعضهم أنه مرادهم فإنه قد تقدم آنفا من استدلالهم بالتوراة وقوله وكلم الله موسى من العليقة قائلا أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب قالوا ولم يقل أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب بل كرر اسم آله ثلاث دفوع قائلا أنا إله وإله وإله لتحقق مسألة الثلاث أقانيم في لاهوته فيقال لهم وإن كان هذا التكرير لا يقتضي إلا إثبات إله واحد فلا حجة لكم فيه كما لو قال أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإن كان يقتضي إثبات ثلاثة آلهة فقد أثبتم ثلاثة آلهة وأنتم تقولون لا نثبت إلا إلها واحدا وإن كان المعنى إنه إله واحد موصوف بأنه معبود إبراهيم ومعبود إسحاق ومعبود يعقوب فلا حجة لكم فيه على التثليث والأقانيم بحيث تجعلون الأقنوم اسما للذات مع صفة والذات واحدة فالتعدد في
الصفات لا في الذات ولا يمكن أن تتحد صفة دون أخرى ولا دون الذات فيمتنع اتحاد أقنوم وحلوله بشيء من المخلوقات دون الأقنوم الآخر
الوجه الثالث قولهم وهو الذي نقوله أب وابن وروح القدس قد تقدم أن هذا القول هم معترفون بأنهم لم يقولوه ابتداء ولا علموا بالعقل التثليث الذي قالوه في امانتهم ثم عبروا عنه بهذه العبارة بل هذه العبارة منقولة عندهم في بعض الأناجيل أن المسيح عليه الصلاة و السلام أمر أن يعمدوا الناس بها وحينئذ فالواجب إذا كان المسيح قالها أن ينظر ما أراد بها وينظر سائر ألفاظه ومعانيها فيفسر كلامه بلغته التي تكلم بها تفسيرا يناسب سائر كلامه
وهؤلاء حملوا كلام المسيح والأنبياء عليهم السلام على شيء لا يدل عليه كلامهم بل يدل على نقيضه فسموا كلام الله أو علمه أو حكمته أو نطقه ابنا وهذه تسمية ابتدعوها لم يسم أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله باسم الابن ولا باسم الرب ولا باسم الإله ثم لما أحدثوا هذه التسمية قالوا مراد المسيح بالابن هو الكلمة وهذا افتراء على المسيح عليه السلام وحمل لكلامه على معنى لا يدل عليه لفظه
ولفظ الابن عندهم في كتبهم يراد به من رباه الله تبارك وتعالى فلا يطلق عندهم في كلام الأنبياء لفظ الابن قط إلا على مخلوق محدث ولايطلق إلا على الناسوت دون اللاهوت فيسمى عندهم إسرائيل ابنا وداود ابنا لله والحواريون كذلك بل عندهم في إنجيل يوحنا في ذكر المسيح إلى خاصته أي وخاصته لم يقبلوه والذين قبلوه أعطاهم ليكونوا أبناء الله الذي ليس من دم ولا من مشبه لحم ولا من مشبه رجل بل من الله ولد
فهذا إخبار بأنهم يكونون جميعا أبناء الله وهم معترفون بأنه ليس فيهم لاهوت يتحد بناسوت بل كل منهم ناسوت محض فعلم أن الكتب ناطقة بأن لفظ ابن الله يتناول الناسوت فقط وليس معهم لفظ ابن الله والمراد به صفة من صفات الله
فقولهم إن المسيح أراد بلفظ الابن اللاهوت كذب بين عليه والمسيح لا يسمى ابنا بهذا الاعتبار وروح القدس لم يعبر
بها أحد من الأنبياء عن حياة الله التي هي صفته بل روح القدس في كتب الله يراد بها الملك ويراد بها الهدى والوحي والتأييد فيقال روح الله كما يقال نور الله وهدى الله ووحي الله وملك الله ورسول الله لم يرد به أحد من الأنبياء بقوله روح الله وروح القدس ما يريده الإنسان بقوله روحي
فالإنسان مركب من روح وبدن وفي بدنه بخار يخرج من القلب ويسري في بدنه وله جوف يخرج منه هواء ويدخل فيه فإذا قيل روح الإنسان فقد يراد بها الروح التي بها البخار اللطيف الذي في البدن وقد يراد بها الريح الذي يخرج من جوف البدن ويدخل فيه
والله تبارك وتعالى بإجماع المسلمين واليهود والنصارى ليس هو روحا وبدنا كالإنسان وهو سبحانه أحد صمد لا جوف له ولا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء لا بخار ولا هواء متردد
وقد يعبر بعض الناس بلفظ الروح عن الحياة والله تعالى حي له حياة لكن لم ترد الأنبياء عليهم السلام بقولهم روح القدس حياة الله بل أرادوا به ما يجعله الله في قلوب الأنبياء
ويؤيدهم به كما يراد بنور الله ذلك قال الله تعالى
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم
فضرب الله مثلا للمؤمن الذي جعل صدره كالمشكاة وقلبه كالزجاجة في المشكاة ونور الإيمان الذي في قلبه وهو نور الله كالمصباح الذي في الزجاجة وذلك النور الذي في قلبه ليس هو نفس صفة الله القائمة به
فتبين أن العارف كلما تدبر ما قالته الأنبياء وما قاله أهل البدع من النصارى وغيرهم لم يجد لهم في كلام الأنبياء إلا ما يدل على نقيض ضلالهم لا ما يدل على ضلالهم
فصل
قالوا وقد علمنا أنه لايلزمنا إذا قلنا هذا عبادة ثلاثة آلهة بل إله واحد كما لا يلزمنا إذا قلنا الإنسان ونطقه وروحه ثلاثة أناسي بل إنسان واحد ولا إذا قلنا لهيب النار وضوء النار وحرارة النار ثلاثة نيران ولا إذا قلنا قرص الشمس وضوء الشمس وشعاع الشمس ثلاثة شموس وإذا كان هذا رأينا في الله تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه فلا لوم علينا ولا ذنب لنا إذ لم نهمل ما تسلمناه ولا نرفض ما تقلدناه ونتبع ما سواه ولا سيما أن لنا هذه الشهادات البينات والدلائل الواضحات من الكتاب الذي أتى به هذا الرجلوالجواب من وجوه
أحدها أنكم صرحتم بتعدد الآلهة والأرباب في عقيدة إيمانكم وفي استدلالكم وغير ذلك من كلامكم فليس ذلك شيئا
ألزمكم الناس به بل أنتم تصرحون بذلك كما تقدم من قولكم نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل خالق ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من جوهر أبيه يولد غير مخلوق مساو الأب في الجوهر وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي مع الأب مسجود له وممجد
فهذا تصريح بالثلاثة أرباب وأن الابن إله حق من إله حق ومع تصريحكم بثلاثة أرباب وتصريحكم بأن هذا إله حق من إله حق تقولون إن ذلك إله واحد وهذا تصريح بتعدد الآلهة مع القول بإله واحد
ولو لم تذكروا ما يقتضي أنه جوهر آخر لأمكن أن يحمل كلامكم على عطف الصفة لكن يكون كلامكم أعظم كفرا فتكونون قد جعلتم المسيح هو نفس الإله الواحد الأب خالق ما يرى وما لا يرى وهذا أعظم من كفركم مع أن هذا حقيقة قولكم فإنكم تقولون المسيح هو الله وتقولون هو ابن الله كما ذكر الله القولين عنكم في كلامه وكفركم بذلك وليس هذا هذا قول طائفة وهذا قول
طائفة كما يقوله بعض الناس بل القولان جميعا يقولهما فرق النصارى كالنسطورية واليعقوبية والملكية ونحوهم وهذا أيضا من تناقضكم فإنه إن كان هو الله لم يكن هو ابن الله سواء عبر بالابن عن الصفة أو غيرها فإن الأب هو الذات والذات ليست هي الصفة وإن عنى بالابن الذات مع صفة الكلام كما تفسرون الأقنوم بذلك فهذه الذات متصفة مع ذلك بالحياة والكلام سواء عنوا به العلم أو البيان مع العلم هو مع الحياة قائم بالأب والصفة ليست عين الموصوف بل ولا يعبر عنها بأنها ابن الموصوف ولا عبر بذلك أحد من الأنبياء عليهم السلام
والمقصود أنهم لم يريدوا بقولهم وبرب واحد يسوع المسيح عطف الصفة وأن هذا هو الأب كما قال إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب فهذا إله واحد والعطف لتغاير الصفة فلو كان المراد بالابن نفس الأب لكان هذا خلاف مذهبهم ويكونون قد جعلوه إلها من نفسه فقالوا إلهان بل ثلاثة وهو واحد
فهذا لو أرادوه لكان أعظم في الكفر بل قالوا وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من جوهر أبيه مولود غير مخلوق فصرحوا بأنه رب وأنه إله حق من إله حق وصرحوا بإله ثان مع الإله الأول
وقالوا مع ذلك إنه مولود من الأب قبل كل الدهور وأنه مولود غير مخلوق فامتنع أن يريدوا بذلك الناسوت فإن الناسوت مخلوق
وهم يقولون إن الكلمة هي المتولدة من الأب والكلمة صفة المتكلم وقائمة به والكلام ليس برب ولا بإله بل هو كلام الرب الإله كما أن سائر كلام الله كالتوراة والإنجيل والقرآن ليس هو الرب والآله ثم قلتم مساو الأب في الجوهر فاقتضى هذا أن يكون المولود الذي هو الكلمة جوهرا وأنه مساو الأب في الجوهر والمساوى ليس هو المساوي
وهذا يقتضي إثبات جوهر ثان مساو الجوهر الأول وهو
صريح بإثبات إلهين ويقولون مع ذلك إنه إله واحد جوهر واحد ولا يقال الجوهر مع العلم الذي يعبرون عنه بالأقنوم مساو الجوهر الذي هو الذات فإن الجوهر هو الذات وليس هنا جوهران أحدهما مجرد عن العلم والآخر متصف به حتى يقال إن أحدهما مساو للآخر بل الرب تعالى هو الذات المتصفة بالعلم فإن كان الأب هو الذات المجردة فالابن أكمل من الأب وهو الذات مع العلم والأب بعض الابن
وكذلك يلزمهم أن يكون الابن هو بعض روح القدس فإنهم في أمانتهم جعلوا روح القدس هو الرب المحيي والرب المحيي هو الذات المتصفة بالحياة والذات المجردة بعض ذلك فإن كان الأب هو الذات المجردة فالابن بعض روح القدس
ثم قلتم في أقنوم روح القدس الذي جعلتموه الرب المحيي أنه منبثق من الأب مسجود له ممجد ناطق في الأنبياء فإن كان المنبثق ربا حيا فهذا إثبات إله ثالث وقد جعلتم الذات الحية منبثقة من الذات المجردة وفي كل منهما من الكفر والتناقض ما لا يخفى
ثم جعلتم هذا الثالث مسجودا له والمسجود له هو الإله المعبود وهذا تصريح بالسجود لإله ثالث مع ما فيه من التناقض ثم جعلتموه ناطقا بالأنبياء وهذا تصريح بحلول هذا الأقنوم الثالث
بجميع الأنبياء فيلزمكم أن تجعلوا كل نبي مركبا من لاهوت وناسوت وأنه إله تام وإنسان تام كما قلتم في المسيح إذ لا فرق بين حلول الكلمة وحلول روح القدس كلاهما أقنوم
وأيضا فيمتنع حلول إحدى الصفتين دون الأخرى وحلول الصفة دون الذات فيلزم أن يكون الإله الحي الناطق بأقانيمه الثلاثة حالا في كل نبي ويكون كل نبي هو رب العالمين ويقال مع ذلك هو ابنه وفي هذا من الكفر الكبير والتناقض العظيم ما لا يخفى وهذا لازم للنصارى لزوما لا محيد عنه فإن ما ثبت للشيء ثبت لنظيره ولا يجوز التفريق بين المتماثلين وليس لهم أن يقولوا الحلول أو الاتحاد في المسيح ثبت بالنص ولا نص في غيره لوجوه
أحدها أن النصوص لم تدل على شيء من ذلك كما قد تبين
الثاني أن في غير المسيح من النصوص ما شابه النصوص الواردة فيه كلفظ الابن ولفظ حلول روح القدس فيه ونحو ذلك
الثالث أن الدليل لا ينعكس فلايلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول وليس كل ما علمه الله وأكرم به أنبياءه أعلم به الخلق بنص صريح بل من جملة الدلالات دلالة الالتزام
وإذا ثبت الحلول والاتحاد في أحد النبيين بمعنى مشترك بينه وبين النبي الآخر وجب التسوية بين المتماثلين كما إذا ثبت أن النبي
يجب تصديقه لأنه نبي
ويكفر من كذبه لأنه نبي فيلزم من ذلك أنه يجب تصديق كل نبي وتكفير من كذبه
الرابع هب أنه لا دليل على ثبوت ذلك في الغير فيلزم تجويز ذلك في الغير إذ لا دليل على انتفائه كما يقولون إن ذلك كان ثابتا في المسيح قبل إظهاره الآيات على قولهم وحينئذ فيلزمهم أن يجوزوا في كل نبي أن يكون الله قد جعله إلها تاما وإنسانا تاما كالمسيح وإن لم يعلم ذلك
الخامس أنه لو لم يقع ذلك لكنه جائز عندهم إذ لا فرق في قدرة الله بين اتحاده بالمسيح واتحاده بسائر الآدميين فيلزمهم تجويز أن يجعل الله كل إنسان إلها تاما وإنسانا تاما ويكون كل إنسان مركبا من لاهوت وناسوت وقد تقرب إلى هذا اللازم الباطل من قال بأن أرواح بني آدم من ذات الله وأنها لاهوت قديم أزلي فيجعلون نصف كل آدمي لاهوتا ونصفه ناسوتا وهؤلاء يلزمهم من المحالات أكثر مما يلزم النصارى من بعض الوجوه والمحالات التي تلزم النصارى أكثرمن بعض الوجوه
الوجه الثاني قولهم ولا يلزمنا إذا قلنا هذه عبادة ثلاثة آلهة بل
إله واحد كما لا يلزمنا إذا قلنا الإنسان وروحه ونطقه ثلاثة أناسي ولا إذا قلنا النار وحرها وضوءها ثلاث نيران ولا إذا قلنا الشمس وضوؤها وشعاها ثلاث شموس
فيقال هذا تمثيل باطل لوجوه
أحدها أن حر النار وضؤها القائم بها ليس نارا من نار ولا جوهرا من جوهر ولا هو مساوي النار والشمس في الجوهر وكذلك نطق الإنسان ليس هو إنسانا من إنسان ولا هو مساو الإنسان في الجوهر وكذلك الشمس وضوؤها القائم بها وشعاعها القائم بها ليس شمسا ولا جوهرا قائما بنفسه وأنتم قلتم إله حق من إله حق فقلتم في الأمانة نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من جوهر أبيه مساوي الأب في الجوهر وقلتم في روح القدس إنه رب ممجد مسجود له فأثبتم ثلاثة أرباب
والثاني أن الضوء في الشمس والنار يراد به نفس الضوء القائم بها ويراد به الشعاع القائم بالأرض والجدران وهذا مباين لها ليس قائما بها ولفظ النور يعبر به عن هذا وهذا وكلاهما صفة قائمة بغيرها وعرض وقد يراد بلفظ النور نفس النار ونفس الشمس والقمر
فيكون النور جوهرا قائما بنفسه وإذا كان كذلك فهم جعلوا الأب ربا جوهرا قائما بنفسه والابن أيضا ربا جوهرا قائما بنفسه وروح القدس ربا جوهرا قائما بنفسه
ومعلوم أن ضوء النار والشمس وحرارتها ليس كل منهما شمسا ونارا قائما بنفسها ولا جوهرا قائما بنفسه فلو أثبتوا حياة الله وعلمه أو كلامه صفتين قائمتين به ولم يجعلوا هذا ربا جوهرا قائما بنفسه وهذا ربا جوهرا قائما بنفسه لكان قولهم حقا وتمثيلهم مطابقا ولكنهم لم يقتصروا على مجرد جعلهما صفتين لله حتى جعلوا كلا منهما ربا وجوهرا وخالقا بل صرحوا بأن المسيح الذي يزعمون اتحاد أحدهما به إلها واحدا وخالقا فلو كان نفس كلمة الله وعلمه لم يكن إلها خالقا فإن كلام الله وعلمه ليس إلها خالقا فكيف والمسيح مخلوق بكلمة الله ليس هو نفس كلمة الله
الوجه الثالث أن قولهم الشمس وشعاعها وضوؤها إن أرادوا بالضوء ما يقوم بها وبالشعاع ما ينفصل عنها فليس هذا مثال النار وحرها ولهبها إذ كلاهما يقوم بها وعلى هذا فالشمس لم تقم بها إلا صفة واحدة لا صفتين فلا يكون التمثيل بها مطابقا وإن أرادوا بالضوء والشعاع كلاهما ما يقوم بها أو كلاهما ما ينفصل عنها فكلاهما صفة
واحدة ليس هما صفتان كالحياة والعلم فعلم أن تمثيلهم بالشمس خطأ وبعضهم يقول الشمس وحرها وضوؤها كما يقولون مثل ذلك في النار
وهذا التمثيل أصح لو ثبت أن في جرم الشمس حرارة تقوم بها فإن هذا لم يقم عليه دليل وكثير من العقلاء ينكره ويزعم أن جرم الشمس والقمر والكواكب لا توصف بحرارة ولا برودة وهو قول أرسطو وأتباعه
وأما تمثيلهم بروح الإنسان ونطقه فإن أرادوا بالروح حياته فليس هذا هو مفهوم الروح وإن أرادوا بالروح التي تفارق بدنه بالموت وتسمى النفس الناطقة فهذه جوهر قائم بنفسه ليس عرضا من أعراضه وحينئذ فيلزم أن تكون روح الله جوهرا قائما بنفسه مع جوهر آخر نظير بدن الإنسان ويكون الرب سبحانه وتعالى مركبا من بدن وروح كالإنسان وليس هذا قول أهل الملل لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى بل هو كفر عندهم فتبين أن تمثيلهم بالثلاثة باطل
والوجه الرابع أن التمثيل إما أن يقع بصفات الشمس والنار والإنسان أو النفس القائمة بهذه الجواهر أو بما هو مباين لذلك كالضوء
الذي يقع على الأرض والحيطان والهواء وغير ذلك من الأجسام إذا قابلت الشمس أو النار أو الإنسان أو النفس القائمة بهذه الجواهر فإن أريد هذا فهذا شعاع منعكس وضوء منقلب وليس صفة قائمة بالشمس والنار
وإذا أريد بما حل في المسيح هذا وهذا يسمى نورا وروحا ويسمى نور الله كما قال تعالى
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء
وقال تعالى
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا
فأخبرنا أنه جعل الروح الذي أوحاه نورا يهدي به من يشاء
وقال تعالى
أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه
وقال تعالى
فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه
وقال تعالى
ويجعل لكم نورا تمشون به
وقال تعالى
ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
فإذا أريد ما حل في المسيح من الروح والكلمة بهذا المعنى فلا اختصاص للمسيح بذلك فإن هذا يحل في جميع الأنبياء والمؤمنين وإن كانوا متفاضلين فيه بحسب درجاتهم وليس هذا الحال فيهم نفس صفة الله القائمة به وإن كان ذلك حاصلا عنها ومسببا عنها لكن ليس هو نفس صفة الله وإن كان من الناس من يقول بل صفة الله التي اتصف بها حلت في العبد فهذا القول خطأ فإن صفة الموصوف القائمة به يمتنع قيامها بعينها بغيره ولكن الإنسان إذا تعلم علم
غيره وبلغ كلام غيره يقال هذا علم فلان وكلامه لأن هذا الثاني بلغه عنه والمقصود هو علم الأول وكلامه مع العلم بأن نفس ما قام بذات الأول ليس هو عين ما قام بذات الثاني وإن كان قد يكون مثله وقد يكون الأول هو المقصود بالثاني مثل من بلغ كلام غيره فكلام المبلغ هو المقصود بالتبليغ
وصفات المبلغ كحركته وصوته التي بها يحصل التبليغ ليس هو نفس المقصود وإذا قيل هذا كلام المبلغ عنه فالإشارة إلى حقيقة الكلام المقصود بالتبليغ لا إلى ما يختص به المبلغ من أفعاله وصفاته ولهذا شبه الناس من قال بحلول صفة الرب في عبده بالنصارى القائلين بالحلول وهو شبيه بهم من بعض الوجوه
لكن النصارى لا يقولون بحلول صفة مجردة بل بحلول الأقنوم الذي هو ذات متصفة بالصفة ويقولون إن المسيح خالق ورازق وهو خالق آدم ومريم وهو ولد آدم ومريم وهو خالق لهم بلاهوته ابن لهما بناسوته
ويقولون هو ابن الله وهو الله بلاهوته ويقولون أيضا باللاهوت والناسوت لأجل الاتحاد والله كفرهم بقولهم إن الله هو المسيح ابن مريم ونحو ذلك
وإن أرادوا بتمثيلهم بصفات الشمس والنار والنفس التمثيل بنفس ما يقوم بالشمس والنار والنفس من الضوء والحياة والنطق وجعلوا ما يثبتونه من الأب والابن وروح القدس صفات الله كما أن هذه
صفات لهذه المخلوقات
قيل لهم أولا لم يعبر أحد من الأنبياء عليهم السلام عن صفات الله باسم الأب والابن وروح القدس فليس لكم إذا وجدتم في كلام المسيح عليه السلام أو غيره من الأنبياء ذكر الإيمان بالأب والابن وروح القدس أن تقولوا مرادهم بذلك صفة الله التي هي الكلمة والعلم ولا حياة الله إذ كانوا لم يريدوا هذا المعنى بهذا اللفظ وإنما أرادوا باسم الابن وروح القدس ما هو بائن عن الله عز و جل
والبائن عن الله ليس صفة لله فضلا عن أن يكون هو الخالق فضلا عن أن يكون البشر المتحد به خالقا فقد ضللتم ضلالا بعد ضلال ضلالا حيث جعلتم مراد المسيح وغيره بالابن وروح القدس صفة الرب ثم ضلالا ثانيا حيث جعلتم الصفة خالقا وربا ثم ضلالا ثالثا حيث جعلتم الصفة تتحد ببشر هو عيسى ويسمى المسيح ويكون هو الخالق رب العالمين فضللتم في الحلول ضلالا مثلثا بعد ضلالكم في التثليث أيضا ضلالات أخر حيث أثبتم ثلاث صفات دون غيرها وجعلتموها جواهرا أربابا ثم قلتم إله واحد فضللتم ضلالا مثلثا في التثليث وضلالا مثلثا في الاتحاد
وقيل لكم ثانيا إذا جعلتم ذلك صفات لله كما أن الضوء والنطق والحرارة صفات لما تقوم بها امتنع أن تحل بغيرها وامتنع مع
الحلول أن تكون فاعلة فعل النار والشمس والنفس وأنتم جعلتم الكلمة والحياة حالة بغير الله وجعلتم ما يحل به إلها خالقا بل هو الإله الخالق ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا يجعل ما يحصل فيه ضوء النار نارا ولا ما يحصل فيه شعاع الشمس شمسا ولا ما يحصل فيه نطق زيد وعلمه هو نفس زيد فكان جعلكم المسيح هو الخالق للعالم مخالفا لتمثيلكم
وتبين بذلك أن ما ذكرتموه لا يطابقه شيء من الأمثلة إذ كان كاملا باطلا متناقضا يمتنع تحققه فلا تمثيل بشيء من الموجودات الثابتة المعلومة إلا إذا كان تمثيلا غير مطابق
ولهذا يشبهون الحلول والاتحاد تارة بحلول الماء في الظرف وتارة بحلول النار في الحديد وتارة بالنفس والبدن وتارة يقولون بأنهما جوهر واحد اختلطا كاختلاط الماء واللبن وكل هذه الأمثال التي ضربوها لله أمثال باطلة فإن الماء في الظرف وغيره من الأوعية محتاج إلى وعائه لو انخرق وعاؤه لتبدد وهو محيط به ولا يتصف الظرف بشيء من صفات الماء والرب تعالى يمتنع أن يحتاج إلى شيء من مخلوقاته لا إلى العرش ولا إلى غيره أو يحيط به شيء من الموجودات إذ هو الظاهر فليس فوقه شيء
كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء
وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء فهو غني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه ولهذا لم يكن ما وصف الله به نفسه مماثلا لصفات المخلوقين كما لم تكن ذاته كذوات المخلوقين فهو مستو على عرشه كما أخبرنا عن نفسه مع غناه عن العرش
والمخلوق المستوي على السرير أو الفلك أو الدابة لو ذهب ما تحته لسقط لحاجته إليه والله غني عن كل ما سواه وهو الحامل بقدرته للعرش ولحملة العرش
وفرق النصارى الثلاثة يقولون بالاتحاد فلا ينفعهم التمثيل بحلول الماء في الظرف ولو قدر أنهم قالوا بالحلول المجرد مع أن الرب لا يحتاج إلى الناسوت لا يحويه ولا يمسه بل كما خاطب موسى من الشجرة فهذا يوجب أن الناسوت لا يتصف بشيء من الإلهية كالشجرة
ثم إنه معلوم بالضرورة أن الصوت الذي كان يسمع هو صوت الناسوت فالتمثيل بالشجرة أيضا باطل كما بسط في موضعه
وأما الحديد والخشب وغيرهما إذا ألقى في النار فإنه يستحيل نارا لاتصاله بالنار لا أن النار الذي استحال إليها كانت موجودة فحلت به فهذا استحالة بلا حلول والنار الذي صارت في الحديد حادثة عن تلك النار ليست إياها ثم تلك الحديدة إذا طرقت وقع التطريق على النار وكذلك إذا ألقيت في الماء فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لكان الضرب والصلب والإهانة وقع على اللاهوت وكان اللاهوت هو الذي يغتسل بالماء وهو الذي يأكل ويشرب وهذا من أعظم الكفر
ويحكى عن بعض طائفة منهم كاليعقوبية أنه يقول بهذا الكفر وإن كان كثير منهم كالملكية والنسطورية ينكره فهو لازم لهم وكذلك إذا شبهوه بالنفس والبدن فإن النفس تتألم تألم البدن وتستحيل صفاتها بكونها في البدن وتكتسب عن البدن أخلاقا وصفات فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لزم تألم اللاهوت بآلام البدن وأن يكون متألما بجوع البدن وعطشه وضربه وصلبه وأن يكون مستحيلا لما