كتاب : الكشاف
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري
وإن كان مصدراً : فإما أن ينتصب بفعله مضمراً ، أي : تحسم حسوماً ، بمعنى تستأصل استئصالاً . أو يكون صفة كقولك : ذات حسوم . أو يكون مفعولاً له ، أي : سخرها للاستئصال . وقال عبد العزيز ابن زرارة الكلابي :
فَفَرَّقَ بَيْنَ بَيْنِهِمُ زَمَان ... تَتَابَعَ فِيهِ أَعْوَامٌ حُسُوم
وقرأ السدى «حسوماً» ، بالفتح حالاً من الريح ، أي : سخرها عليهم مستأصلة . وقيل : هي أيام العجوز؛ وذلك أن عجوزاً من عاد توارت في سرب ، فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها . وقيل : هي أيام العجز ، وهي آخر الشتاء : وأسماؤها : الصن والصنبر ، والوبر . والآمر ، والمؤتمر ، والمعلل ، ومطفىء الجمر . وقيل : مكفيء الظعن ومعنى { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ } سلطها عليهم كما شاء { فِيهَا } في مهابها . أو في الليالي والأيام . وقرىء : «أعجاز نخيل» { مِّن بَاقِيَةٍ } من بقية أو من نفس باقية . أو من بقاء ، كالطاغية : بمعنى الطغيان .
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)
{ وَمِن قَبْلِهِ } يريد : ومن عنده من تباعه . وقرىء : «ومن قبله» ، أي : ومن تقدمه . وتعضد الأولى قراءة عبد الله وأبي «ومن معه» وقراءة أبي موسى : «ومن تلقاءه» { والمؤتفكات } قرى قوم لوط { بِالْخَاطِئَةِ } بالخطأ . أو بالفعلة ، أو الأفعال ذات الخطأ العظيم { رَّابِيَةً } شديدة زائدة في الشدة ، كما زادت قبائحهم في القبح . يقال : ربا الشيء يربو : إذا زاد { لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ الناس } [ الروم : 39 ] .
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
{ حملناكم } حملنا آباءكم { فِى الجارية } في سفينة؛ لأنهم إذا كانوا من نسل المحمولين الناجين ، كان حمل آبائهم منة عليهم ، وكأنهم هم المحمولون ، لأن نجاتهم سبب ولادتهم { لِنَجْعَلَهَا } الضمير للفعلة : وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة { تَذْكِرَةً } عظة وعبرة { أُذُنٌ واعية } من شأنها أن تعي وتحفظ ما سمعت به ولا تضيعه بترك العمل ، وكل ما حفظته في نفسك فقد وعيته وما حفظته في غير نفسك فقد أوعيته كقولك : وعيت الشيء في الظرف . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .
( 1223 ) أنه قال لعليّ رضي اللَّه عنه عند نزول هذه الآية : " سألت اللَّه أن يجعلها أذنك يا عليّ " قال عليّ رضي اللَّه عنه : فما نسيت شيئاً بعد وما كان لي أن أنسى . فإن قلت : لم قيل : أذن واعية ، على التوحيد والتنكير؟ قلت : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم؛ وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن اللَّه فهي السواد الأعظم عند اللَّه ، وأن ما سواها لا يبالي بهم بالة وإن ملئوا ما بين الخافقين . وقرىء : «وتعيها» بسكون العين للتخفيف : شبه تعي بكبد .
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
أسند الفعل إلى المصدر ، وحسن تذكيره للفصل . وقرأ أبو السمال «نفخة واحدة» بالنصب مسنداً للفعل إلى الجار والمجرور . فإن قلت : هما نفختان ، فلم قيل : واحدة؟ قلت معناه أنها لا تثني في وقتها . فإن قلت : فأي النفختين هي؟ قلت الأولى لأن عندها فساد العالم ، وهكذا الرواية عن ابن عباس . وقد روى عنه أنها الثانية . فإن قلت : أما قال بعد ، { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } والعرض إنما هو عند النفخة الثانية؟ قلت : جعل اليوم إسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان والصعقة والنشور والوقوف والحساب ، فلذلك قيل : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } كما تقول : جئته عام كذا؛ وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته { وَحُمِلَتِ } ورفعت من جهاتها بريح بلغت من قوّة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال . أو بخلق من الملائكة . أو بقدرة اللَّه من غير سبب . وقرىء : «وحملت» بحذف المحمل وهو أحد الثلاثة { فَدُكَّتَا } فدكت الجملتان : جملة الأرضين وجملة الجبال ، فضرب بعضها ببعض حتى تندقّ وترجع كثيباً مهيلا وهباء منبثاً والدك أبلغ من الدق . وقيل : فبسطتا بسطة واحدة ، فصارتا أرضاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا ، من قولك : اندكّ السنام إذا انفرش وبعير أدك وناقة دكاء . ومنه : الدكان { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة ( 15 ) } فحينئذٍ نزلت النازلة وهي القيامة { وَاهِيَةٌ } مسترخية ساقطة القوّة جدّا بعد ما كانت محكمة مستمسكة . يريد : والخلق الذي يقال له الملك ، وردّ إليه الضمير مجموعاً في قوله : { فَوْقَهُمُ } على المعنى : فإن قلت : ما الفرق بين قوله : { والملك } ، وبين أن يقال ( والملائكة ) ؟ قلت : الملك أعمّ من الملائكة ، ألا ترى أن قولك : ما من ملك إلا وهو شاهد ، أعم من قولك : ما من ملائكة { على أَرْجَآئِهَا } على جوانبها : الواحد رجا مقصور ، يعني : أنها تنشق ، وهي مسكن الملائكة ، فينضوون إلى أطرافها وما حولها من حافاتها { ثمانية } أي : ثمانية منهم . وعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :
( 1224 ) " هم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية " وروي : ثمانية أملاك : أرجلهم في تخوم الأرض السابعة ، والعرش فوق رؤوسهم ، وهم مطرقون مسبحون . وقيل : بعضهم على صورة الإنسان ، وبعضهم على صورة الأسد ، وبعضهم على صورة الثور ، وبعضهم على صورة النسر . وروي : ثمانية أملاك في خلق الأوعال ، ما بين أظلافها إلى ركبها : مسيرة سبعين عاماً . وعن شهر بن حوشب : أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك؛ وأربعة يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك وعن الحسن : الله أعلم كم هم ، أثمانية أم ثمانية آلاف؟ وعن الضحاك : ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلا الله . ويجوز أن تكون الثمانية من الروح ، أو من خلق آخر ، فهو القادر على كل خلق ، { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون } [ يس : 36 ] . العرض : عبارة عن المحاسبة والمساءلة . شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرف أحواله . وروى أنّ في يوم القيامة ثلاثة عرضات . فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ ، وأما الثالثة ففيها تنشر الكتب فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله { خَافِيَةٌ } سريرة وحال كانت تخفي في الدنيا بستر اللَّه عليكم .
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
{ فَأَمَّا } تفصيل للعرض : ها : صوت يصوّت به فيفهم منه معنى «خذ» كأفّ وحس ، وما أشبه ذلك . و { كتابيه } منصوب بهاؤم عند الكوفيين ، وعند البصريين باقرؤا ، لأنه أقرب العاملين . وأصله : هاؤم كتابي اقرؤا كتابي ، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه . ونظيره { اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] ، قالوا : ولو كان العامل الأوّل لقيل : اقرؤه وأفرغه ، والهاء في { كتابيه } للسكت ، وكذلك في { حِسَابِيَهْ } و { مَالِيَهْ } و { سلطانيه } وحق هذه الهآت أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل ، وقد استحب إيثار الوقف إيثاراً لثباتها في المصحف . وقيل : لا بأس بالوصل والإسقاط . وقرأ ابن محيصن بإسكان الياء بغير هاء . وقرأ جماعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف جميعاً لاتباع المصحف { ظَنَنتُ } علمت . وإنما أجري الظن مجرى العلم ، لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام . ويقال : أظن ظناً كاليقين أنّ الأمر كيت وكيت { رَّاضِيَةٍ } منسوبة إلى الرضا؛ كالدارع والنابل . والنسبة نسبتان : نسبة بالحرف ، ونسبة بالصيغة . أو جعل الفعل لها مجازاً وهو لصاحبها { عَالِيَةٍ } مرتفعة المكان في السماء . أو رفيعة الدرجات . أو رفيعة المباني والقصور والأشجار { دَانِيَةٌ } ينالها القاعد والنائم . يقال لهم { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً } أكلا وشرباً هنيئاً . أو هنيتم هنيئاً على المصدر { بِمَا أَسْلَفْتُمْ } بما قدمتم من الأعمال الصالحة { فِى الأيام الخالية } الماضية من أيام الدنيا . وعن مجاهد : أيام الصيام ، أي : كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله . وروى يقول الله عز وجل : يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة؛ وغارت أعينكم ، وخمصت بطونكم ، فكونوا اليوم في نعيمكم ، وكلوا وأشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية .
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
الضمير في { ياليتها } للموتة : يقول : يا ليت الموتة التي متها { كَانَتِ القاضية } أي القاطعة لأمري ، فلم أبعث بعدها؛ ولم ألق ما ألقى . أو للحالة ، أي : ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت عليّ ، لأنه رأى تلك الحالة أبشع وأمرّ مما ذاقه من مرارة الموت وشدته؛ فتمناه عندها { مَآ أغنى } نفي أو استفهام على وجه الإنكار ، أي : أيّ شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار { هَلَكَ عَنّى سلطانيه ( 29 ) } ملكي وتسلطي على الناس ، وبقيت فقيراً ذليلاً . وعن ابن عباس : أنها نزلت في الأسود بن عبد الأشد . وعن فناخسرو الملقب بالعضد ، أنه لما قال :
عَضُدُ الدَّوْلَةِ وَابْنُ رُكْنِهَا ... مَلِكُ الأمْلاَكِ غَلاَّبُ الْقَدَرْ
لم يفلح بعده وجنّ فكان لا ينطق لسانه إلا بهذه الآية . وقال ابن عباس : ضلت عني حجتي . ومعناه : بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا .
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
{ ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ ( 31 ) } ثم لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى ، لأنه كان سلطاناً يتعظم على الناس . يقال : صلى النار وصلاه النار . سلكه في السلسلة : أن تلوى على جسده حتى تلتف عليه أثناؤها؛ وهو فيما بينها مرهق مضيق عليه لا يقدر على حركة؛ وجعلها سبعين ذراعاً إرادة الوصف بالطول . كما قال : { إن تستغفر لهم سبعين مرة } [ التوبة : 80 ] ، يريد : مرات كثيرة ، لأنها إذا طالت كان الإرهاق أشد . والمعنى في تقديم السلسلة على السلك : مثله في تقديم الجحيم على التصلية . أي : لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة ، كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم . ومعنى { ثُمَّ } الدلالة على تفاوت ما بين الغل والتصلية بالجحيم ، وما بينها وبين السلك في السلسلة ، لا على تراخي المدة ( إنه ) تعليل على طريق الاستئناف ، وهو أبلغ؛ كأنه قيل : ما له يعذب هذا العذاب الشديد؟ فأجيب بذلك . وفي قوله : { وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين ( 34 ) } دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المسكين ، أحدهما : عطفه على الكفر ، وجعله قرينة له . والثاني : ذكر الحض دون الفعل ، ليعلم أنّ تارك الحض بهذه المنزلة ، فكيف بتارك الفعل ، وما أحسن قول القائل :
إذَا نَزَلَ الأضْيَافُ كَانَ عَذَوَّرا ... عَلَى الْحَىِّ حَتَّى تَسْتَقِلَّ مَرَاجِلُهْ
يريد حضهم على القرى واستعجلهم وتشاكس عليهم . وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ، وكان يقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع نصفها الآخر؟ وقيل : هو منع الكفار . وقولهم : { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] والمعنى على بذل طعام المسكين { حَمِيمٌ } قريب يدفع عنه ويحزن عليه ، لأنهم يتحامونه ويفرون منه ، كقوله : { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 10 ] ، والغسلين : غسالة أهل النار وما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم؛ فعلين من الغسل { الخاطئون } الآثمون أصحاب الخطايا . وخطىء الرجل : إذا تعمد الذنب ، وهم المشركون : عن ابن عباس : وقرىء : «الخاطيون» بإبدال الهمزة ياء ، والخاطون بطرحها . وعن ابن عباس : ما الخاطون؟ كلنا نخطو ، وروى عنه أبو الأسود الدؤلي : ما الخاطون؟ إنما هو الخاطئون؛ ما الصابون؟ إنما هو الصابئون : ويجوز أن يراد : الذين يتخطون الحق إلى الباطل ، ويتعدوّن حدود اللَّه .
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
هو إقسام بالأشياء كلها على الشمول والإحاطة ، لأنها لا تخرج من قسمين : مبصر وغير مبصر . وقيل : الدنيا والآخرة ، والأجسام والأرواح ، والإنس والجنّ ، والخلق والخالق ، والنعم الظاهرة والباطنة ، إن هذا القرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } أي يقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند اللَّه { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } ولا كاهن كما تدعون والقلة في معنى العدم . أي : لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتة . والمعنى : ما أكفركم وما أغفلكم { تَنزِيلٌ } أي : هو تنزيل . بياناً لأنه قول رسول نزل عليه { مِن رَّبِّ العالمين } وقرأ أبو السمال : تنزيلاً ، أي نزل تنزيلاً . وقيل الرسول الكريم جبريل عليه السلام . وقوله : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } دليل على أنه محمد صلى الله عليه وسلم : لأنّ المعنى على إثبات أنه رسول ، لا شاعر ولا كاهن .
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
التقوّل : افتعال القول ، لأن فيه تكلفاً من المفتعل ، وسمى الأقوال المتقولة «أقاويل» تصغيراً بها وتحقيراً ، كقولك : الأعاجيب والأضاحيك ، كأنها جمع أفعولة من القول والمعنى : ولو ادعى علينا شيئاً لم نقله لقتلناه صبراً ، كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم معاجلة بالسخط والانتقام ، فصوّر قتل الصبر بصورته ليكون أهول : وهو أن يؤخذ بيده وتضرب رقبته . وخص اليمين عن اليسار لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره ، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يكفحه بالسيف ، وهو أشد على المصبور لنظره إلى السيف أخذ بيمينه ومعنى { لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ( 45 ) } لأخذنا بيمينه ، كما أن قوله { لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } لقطعنا وتينه ، وهذا بيّن ، والوتين : نياط القلب وهو حبل الوريد : إذا قطع مات صاحبه . وقرىء : «ولو تقوّل» على البناء للمفعول قيل { حاجزين } في وصف أحد؛ لأنه في معنى الجماعة ، وهو اسم يقع في النفي العام مستوياً فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث . ومنه قوله تعالى : { اَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] ، { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء } [ الأحزاب : 32 ] ، والضمير في عنه للقتل ، أي : لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه . أو لرسول الله ، أي : لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه؛ والخطاب للناس ، وكذلك في قوله تعالى : { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ } وهو إيعاد على التكذيب . وقيل الخطاب للمسلمين . والمعنى : أن منهم ناساً سيكفرون بالقرآن { وَإِنَّهُ } الضمير للقرآن { لَحَسْرَةٌ } على الكافرين به المكذبين له إذا رأوا ثواب المصدقين به . أو للتكذيب ، وأن القرآن اليقين حق اليقين ، كقولك : هو العالم حق العالم ، وجدّ العالم . والمعنى : لعين اليقين ، ومحض اليقين { فَسَبِّحْ } اللَّه بذكر اسمه العظيم وهو قوله : سبحان اللَّه؛ وأعبده شكراً على ما أهلك له من إيحائه إليك .
عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :
( 1225 ) " من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حساباً يسيراً " .
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
ضمن { سَأَلَ } معنى دعا ، فعدّي تعديته ، كأنه قيل : دعا داع { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } من قولك : دعا بكذا . إذا استدعى وطلبه . ومنه قوله تعالى : { يدعون فيها بكل فاكهة } [ الدخان : 55 ] وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما : هو النضر بن الحرث قال : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . وقيل : هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، استعجل بعذاب للكافرين . وقرىء : «سال سائل» وهو على وجهين : إما أن يكون من السؤال وهي لغة قريش ، يقولون : سلت تسأل ، وهما يتسايلان؛ وأن يكون من السيلان . ويؤيده قراءة ابن عباس «سال سيل» ، والسيل : مصدر في معنى السائل ، كالغور بمعنى الغائر . والمعنى : اندفع عليهم وادي عذاب فذهب بهم وأهلكهم . وعن قتادة : سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع؟ فنزلت ، وسأل على هذا الوجه مضمن معنى : عنى واهتم فإن قلت : بم يتصل قوله : { للكافرين } قلت : هو على القول الأوّل متصل بعذاب صفة له ، أي : بعذاب واقع كائن للكافرين ، أو بالفعل ، أي : دعا للكافرين بعذاب واقع ، أو بواقع؛ أي : بعذاب نازل لأجلهم ، وعلى الثاني : هو كلام مبتدأ جواب للسائل ، أي : هو للكافرين . فإن قلت : فقوله { مِّنَ الله } بم يتصل؟ قلت : يتصل بواقع ، أي واقع من عنده ، أو بدافع؛ بمعنى : ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته وأوجبت الحكمة وقوعه { ذِي المعارج } ذي المصاعد جمع معرج ، ثم وصف المصاعد وبعد مداها في العلو والارتفاع فقال : { تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ } إلى عرشه وحيث تهبط منه أوامره { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ } كمقدار مدة { خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } مما يعد الناس . والروح . جبريل عليه السلام ، أفرده لتميزه بفضله . وقيل : الروح خلق هم حفظة على الملائكة ، كما أنّ الملائكة حفظة على الناس . فإن قلت : بم يتعلق قوله { فاصبر } ؟ قلت : بسأل سائل؛ لأنّ استعجال النصر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والتكذيب بالوحي ، وكان ذلك مما يضجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بالصبر عليه ، وكذلك من سأل عن العذاب لمن هو ، فإنما سأل على طريق التعنت ، وكان من كفار مكة . ومن قرأ : «سال سائل» أو سيل ، فمعناه : جاء العذاب لقرب وقوعه ، فاصبر فقد شارفت الانتقام ، وقد جعل { فِى يَوْمٍ } من صلة { وَاقِعٍ } أي : يقع في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم ، وهو يوم القيامة : إما أن يكون استطالة له لشدّته على الكفار ، وإما لأنه على الحقيقة كذلك . قيل : فيه خمسون موطناً كل موطن ألف سنة ، وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر .
الضمير في { يَرَوْنَهُ } للعذاب الواقع ، أو ليوم القيامة فيمن علق ( في يوم ) بواقع؛ أي : يستبعدونه على جهة الإحالة نحن { نَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) } هيناً في قدر في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذر ، فالمراد بالبعيد : البعيد من الإمكان ، وبالقريب : القريب منه نصب { يَوْمَ تَكُونُ } بقريباً ، أي : يمكن ولا يتعذر في ذلك اليوم . أو بإضمار يقع ، لدلالة ( واقع ) عليه أو يوم تكون السماء كالمهل . كان كيت وكيت . أو هو بدل عن ( في يوم ) فيمن علقه بواقع { كالمهل } كدردي الزيت . وعن ابن مسعود : كالفضة المذابة في تلوّنها { كالعهن } كالصوف المصبوغ ألواناً لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ، فإذا بست وطيرت في الجو : أشبهت العهن المنقوش إذا طيرته الريح { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( 10 ) } أي لا يسأله بكيف حالك ولا يكلمه ، لأن بكل أحد ما يشغله عن المساءلة { يُبَصَّرُونَهُمْ } أي يبصر الأحماء الأحماء ، فلا يخفون عليهم ، فما يمنعهم من المساءلة أنّ بعضهم لا يبصر بعضاً ، وإنما يمنعهم التشاغل : وقرىء : «يبصرونهم» وقرىء : «ولا يسئل» على البناء للمفعول ، أي : لا يقال لحميم أين حميمك ولا يطلب منه؛ لأنهم يبصرونهم فلا يحتاجون إلى السؤال والطلب . فإن قلت : ما موقع يبصرونهم؟ قلت : هو كلام مستأنف ، كأنه لما قال { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( 10 ) } قيل : لعله لا يبصره ، فقيل : يبصرونهم ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم . فإن قلت : لم جمع الضميران في { يُبَصَّرُونَهُمْ } وهما للحميمين؟ قلت : المعنى على العموم لكل حميمين لا لحميمين اثنين . ويجوز أن يكون { يُبَصَّرُونَهُمْ } صفة ، أي : حميماً مبصرين معرّفين إياهم . قرىء : «يومئذ» بالجرّ والفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن ، ومن عذاب يومئذ ، بتنوين ( عذاب ) ونصب { يَوْمَئِذٍ } وانتصابه بعذاب . لأنه في معنى تعذيب { وَفَصِيلَتِهِ } عشيرته الأدنون الذين فصل عنهم { تُئْوِيهِ } تضمه انتماء إليها ، أو لياذاً بها في النوائب . { يُنجِيهِ } عطف على يفتدي ، أي : يودّ لو يفتدى ، ثم لو ينجيه الافتداء . أو من في الأرض . وثم : لاستبعاد الإنجاء ، يعني : تمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ، ثم ينجيه ذلك وهيهات أن ينجيه { كَلاَّ } ردّع للمجرم عن الودادة ، وتنبيه على أنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب ، ثم قال : { إِنَّهَا } والضمير للنار ، ولم يجر لها ذكر؛ لأنّ ذكر العذاب دل عليها . ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً ترجم عنه الخبر ، أو ضمير القصة . و { لظى } علم للنار ، منقول من اللظى : بمعنى اللهب . ويجوز أن يراد اللهب . و { نَزَّاعَةً } خبر بعد خبر؛ لأنّ أو خبر للظى إن كانت الهاء ضمير القصة ، أو صفة له إن أردت اللهب ، والتأنيث لأنه في معنى النار . أو رفع على التهويل ، أي : هي نزاعة .
وقرىء : «نزاعة» بالنصب على الحال المؤكدة ، أو على أنها متلظية نزاعة؛ أو على الاختصاص للتهويل . والشوى : الأطراف أو جمع شواة : وهي جلدة الرأس تتزعها نزعاً فتبتكها؟ ثم تعاد { تَدْعُواْ } مجاز عن إحضارهم ، كأنها تدعوهم فتحضرهم . ونحوه قول ذي الرمّة :
. . . . . . تَدْعُو أَنْفَهُ الرِّببُ ... وقوله :
لَيَالِى اللَّهْوِ يُطْبِينِي فَأَتْبَعُهُ ... وقول أبي النجم :
تَقُولُ للِرَّائِدِ أَعْشَبْت َانْزِلِ ... وقيل : تقول لهم : إليّ إليّ يا كافر يا منافق . وقيل : تدعو المنافقين والكافرين بلسان فصيح ثم تلتقطهم التقاط الحب ، فيجوز أن يخلق الله فيها كلاماً كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم ، وكما خلقه في الشجرة ويجوز أن يكون دعاء الزبانية . وقيل : تدعو تهلك ، من قول العرب : دعاك الله ، أي : أهلكك . قال :
دَعَاكَ اللَّهُ مِنْ رَجُلٍ بِأفْعَى ... { مَنْ أَدْبَرَ } عن الحق { وتولى } عنه [ وجمع ] المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤدّ الزكاة والحقوق الواجبة فيه ، وتشاغل به عن الدين؛ وزهى بإقتنائه وتكبر .
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
أريد بالإنسان الناس؛ فلذلك استثنى منه إلا المصلين . والهلع : سرعة الجزع عند مسّ المكروه وسرعة المنع عند مسّ الخير ، من قولهم : ناقة هلواع سريعة السير . وعن أحمد بن يحيى ، قال لي محمد بن عبد اللَّه بن طاهر : ما الهلع؟ فقلت : قد فسره اللَّه ، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدّة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس والخير : المال والغنى؛ والشرّ : الفقر . أو الصحة والمرض : إذا صحّ الغني منع المعروف وشحّ بماله ، وإذا مرض جزع وأخذ يوصي . والمعنى : أن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه ورسوخهما فيه ، كأنه مجبول عليهما مطبوع ، وكأنه أمر خلقي وضروري غير اختياري ، كقوله تعالى : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] والدليل عليه أنه حين كان في البطن والمهد لم يكن به هلع ، ولأنه ذمّ والله لا يذمّ فعله ، والدليل عليه : استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وظلّفوها عن الشهوات ، حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .
( 1226 ) " شرّ ما أعطي ابن آدم شحّ هالع وجبن خالع " فإن قلت : كيف قال : { على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } ثم على صلاتهم يحافظون؟ قلت : معنى دوامهم عليها أن يواظبوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشىء من الشواغل ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم .
( 1227 ) " أفضل العمل أدومه وإن قلّ " وقول عائشة :
( 1228 ) كان عمله ديمة . ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها ويقيموا أركانها ويكملوها بسنتها وآدابها ، ويحفظوها من الإحباط باقتراف المآثم ، فالدوام يرجع إلى أنفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها { حَقٌّ مَّعْلُومٌ } هو الزكاة ، لأنها مقدرة معلومة؛ أو صدقة يوظفها الرجل على نفسه يؤديها في أوقات معلومة . السائل : الذي يسأل { والمحروم } الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنياً فيحرم { يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين } تصديقاً بأعمالهم واستعدادهم له ، ويشفقون من عذاب ربهم ، واعترض بقوله : { إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } أي لا ينبغي لأحد وإن بالغ في الطاعة والاجتهاد أن يأمنه . وينبغي أن يكون مترجحاً بين الخوف والرجاء . قرىء : «بشهادتهم» «وبشهاداتهم» والشهادة من جملة الأمانات . وخصها من بينها إبانة لفضلها ، لأنّ في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها . وفي زيها : تضييعها وإبطالها .
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
كان المشركون يحتفون حول النبي صلى الله عليه وسلم حلقاً حلقاً وفرقاً فرقاً ، يستمعون ويستهزؤون بكلامه . ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم ، فنزلت { مُهْطِعِينَ } مسرعين نحوك ، مادّي أعناقهم إليك ، مقبلين بأبصارهم عليك { عِزِينَ } فرقا شتى جمع عزة ، وأصلها عزوة ، كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى : فهم مفترقون . قال الكميت .
وَنَحْنُ وَجَنْدَلٌ بَاغٍ تَرَكْنَا ... كَتَائِبَ جَنْدَكٍ شَتَّى عِزِيناً
وقيل : كان المستهزؤون خمسة أرهط { كَلاَّ } ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة ، ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ } إلى آخر السورة ، وهو كلام دال على إنكارهم البعث ، فكانه قال : كلا إنهم منكرون للبعث والجزاء؛ فمن أين يطعمون في دخول الجنة؟ فإن قلت : من أي وجه دل هذا الكلام على إنكار البعث؟ قلت : من حيث أنه احتجاج عليهم بالنشأة الأولى ، كالاحتجاج بها عليهم في مواضع من التنزيل ، وذلك قوله : { خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ } أي من النطف ، وبالقدرة على أن يهلكهم ويبدل ناساً خيراً منهم ، وأنه ليس بمسبوق على ما يريد تكوينه لا يعجزه شيء ، والغرض أن من قدر على ذلك لم تعجزه الإعادة . ويجوز أن يراد : إنا خلقناهم مما يعلمون ، أي : من النطفة المذرة ، وهي منصبهم الذي لا منصب أوضع منه . ولذلك أبهم وأخفى : إشعاراً بأنه منصب يستحيا من ذكره ، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم ويقولون : لندخلن الجنة قبلهم . وقيل : معناه إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلهم ، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد منهم الجنة إلا بالإيمان والعمل الصالح ، فلم يطمع أن يدخلها من ليس له إيمان وعمل . وقرىء : «برب المشرق والمغرب» ويخرجون ، ويخرجون ومن الأجداث سراعاً ، بالإظهار والإدغام . ونصب ، ونصب : وهو كل ما نصب فعبد من دون الله { يُوفِضُونَ } يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1229 ) " من قرأ سورة سأل سائل أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون " .
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
{ أَنْ أَنذِرْ } أصله : بأن أنذر ، فخذف الجار وأوصل الفعل : وهي أن الناصبة للفعل ، والمعنى : أرسلناه بأن قلنا له أنذر ، أي : أرسلناه بالأمر بالإنظار . ويجوز أن تكون مفسرة؛ لأنّ الإرسال فيه معنى القول . وقرأ ابن مسعود «أنذر» بغير «أن» على إرادة القول . و { أَنِ اعبدوا } نحو { أَنْ أَنذِرْ } في الوجهين . فإن قلت : كيف قال { وَيُؤَخِّرْكُمْ } مع إخباره بامتناع تأخير الأجل ، وهل هذا إلا تناقض؟ قلت : قضى الله مثلاً أنّ قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة . فقيل لهم : آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى ، أي : إلى وقت سماه الله وضربه أمداً تنتهون إليه لا تتجاوزونه ، وهو الوقت الأطول تمام الألف ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ، ولم تكن لكم حيلة ، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير .
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
{ لَيْلاً وَنَهَاراً } دائباً من غير فتور مستغرقاً به الأوقات كلها { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآءى } جعل الدعاء فاعل زيادة الفرار . والمعنى على أنهم ازدادوا عنده فراراً؛ لأنه سبب الزيادة . ونحوه { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] { فَزَادَتْهُمْ إيمانا } [ التوبة : 124 ] { لِتَغْفِرَ لَهُمْ } ليتوبوا عن كفرهم فتغفر لهم ، فذكر المسبب الذي هو حظهم خالصاً ليكون أقبح لإعراضهم عنه . سدّوا مسامعهم عن استماع الدعوة { واستغشوا ثِيَابَهُمْ } وتغطوا بها ، كأنهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم ، أو تغشيهم لئلا يبصروه كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله . وقيل لئلا يعرفهم؛ ويعضده قوله تعالى : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } [ هود : 5 ] ، الإصرار : من أصر الحمار على العانة إذا صرّ أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها : استعير للإقبال على المعاصي والإكباب عليها { واستكبروا } وأخذتهم العزة من اتباع نوح وطاعته ، وذكر المصدر تأكيد ودلالة على فرط استقبالهم وعتوهم . فإن قلت : ذكر أنه دعاهم ليلا ونهاراً ، ثم دعاهم جهاراً ، ثم دعاهم في السر والعلن؛ فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصح العطف . قلت : قد فعل عليه الصلاة والسلام كما يفعل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر : في الابتداء بالأهون والترقي في الأشد فالأشد ، فافتتح بالمناصحة في السر ، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة ، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان . ومعنى { ثُمَّ } الدلالة على تباعد الأحوال ، لأن الجهار أغلظ من الإسرار؛ والجمع بين الأمرين ، أغلظ من إفراد أحدهما . و { جِهَارَاً } منصوب بدعوتهم ، نصب المصدر لأنّ الدعاء أحد نوعيه الجهار ، فنصب به نصب القرفصاء بقعد ، لكونها أحد أنواع القعود . أو لأنه أراد بدعوتهم جاهرتهم . ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا ، بمعنى دعاء جهاراً ، أي : مجاهراً به . أو مصدراً في موضع الحال ، أي : مجاهراً . أمرهم بالاستغفار الذي هو التوبة عن الكفر والمعاصي ، وقدّم إليهم الموعد بما هو أوقع في نفوسهم وأحبّ إليهم من المنافع الحاضرة والفوائد العاجلة ، ترغيباً في الإيمان وبركاته والطاعة ونتائجها من خير الدارين ، كما قال : { وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن الله } [ الصف : 13 ] ، { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات } [ الأعراف : 96 ] ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } [ المائدة : 66 ] ، { وَأنَّ لو استقاموا عَلَى الطريقة لاسقيناهم } [ الجن : 16 ] ، وقيل : لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة : حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة . وروي : سبعين فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله تعالى الخصب ودفع عنهم ما كانوا فيه . وعن عمر رضي اللَّه عنه : أنه خرج يستسقي ، فما زاد على الاستغفار ، فقيل له : ما رأيناك استسقيت! فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطىء وعن الحسن : أنّ رجلاً شكا إليه الجدب فقال : استغفر الله؛ وشكا إليه آخر الفقر ، وآخر قلة النسل ، وآخر قلة ريع أرضه ، فأمرهم كلهم بالاستغفار ، فقال له الربيع بن صبيح : أتاك رجال يشكون أبواباً ويسألون أنواعاً ، فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فتلا له هذه الآية .
والسماء : المظلة؛ لأنّ المطر منها ينزل إلى السحاب؛ ويجوز أن يراد السحاب أو المطر ، من قوله :
إذَا نَزَلَ السَّمَاءِ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... والمدرار : الكثير الدرور ، ومفعال مما يستوى فيه المذكر والمؤنث ، كقولهم : رجل أو امرأة معطار و متفال { جنات بساتين { لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } لا تأملون له توقيراً أي تعظيماً . والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب ، و { لِلَّهِ } بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صلة للوقار . وقوله : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } في موضع الحال ، كأنه قال : ما لكم لا تؤمنون باللَّه والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به ، لأنه خلقكم أطواراً : أي تارات : خلقكم أوّلا تراباً ، ثم خلقكم نطفاً ، ثم خلقكم علقاً ، ثم خلقكم مضغاً ، ثم خلقكم عظاماً ولحماً ، ثم أنشأكم خلقاً آخر . أولا تخافون لله حلماً وترك معاجلة العقاب فتؤمنوا؟ وقيل : ما لكم لا تخافون لله عظمة؟ وعن ابن عباس : لا تخافون لله عاقبة ، لأن العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب ، من «وقر» إذا ثبت واستقرّ . نبههم على النظر في أنفسهم أوّلاً؛ لأنها أقرب منظور فيه منهم ، ثم على النظر في العالم وما سوّى فيه من العجائب الشاهدة على الصانع الباهر قدرته وعلمه من السموات والأرض والشمس والقمر { فِيهِنَّ } في السموات ، وهو في السماء الدنيا؛ لأنّ بين السموات ملابسة من حيث أنها طباق فجاز أن يقال : فيهنّ كذا وإن لم يكن في جميعهنّ ، كما يقال : في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها . وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما : أنّ الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء وظهورهما مما يلي الأرض { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى أبصاره ، والقمر ليس كذلك ، إنما هو نور لم يبلغ قوّة ضياء الشمس . ومثله قوله تعالى : { هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً } [ يونس : 5 ] ، والضياء : أقوى من النور . استعير الإنبات للإنشاء ، كما يقال : زرعك الله للخير ، وكانت هذه الاستعارة أدلّ على الحدوث ، لأنهم إذا كانوا نباتاً كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات : ومنه قيل للحشوية : النابتة والنوابت ، لحدوث مذهبهم في الإسلام من غير أوّلية لهم فيه . ومنه قولهم : نجم فلان لبعض المارقة . والمعنى : أنبتكم فنبتم نباتاً . أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } مقبورين ثم { يُخْرِجُكُمْ } يوم القيامة ، وأكده بالمصدر كأنه قال يخرجكم حقاً ولا محالة جعلها بساطاً مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه { فِجَاجاً } واسعة منفجة .
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
{ واتبعوا } رؤسهم المقدمين أصحاب الأموال والأولاد ، وارتسموا ما رسموا لهم من التمسك بعبادة الأصنام ، وجعل أموالهم وأولادهم التي لم تزدهم إلا وجاهة ومنفعة في الدنيا زائدة { خَسَارًا } في الآخرة ، وأجرى ذلك مجرى صفة لازمة لهم وسمة يعرفون بها ، تحقيقاً له وتثبيتاً ، وإبطالاً لما سواه . وقرىء : «وولده» بضم الواو وكسرها { وَمَكَرُواْ } معطوف على لم يزده ، وجمع الضمير وهو راجع إلى من؛ لأنه في معنى الجمع والماكرون : هم الرؤساء ومكرهم : احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح ، وتحريش الناس على أذاه ، وصدّهم عن الميل إليه والاستماع منه . وقولهم لهم : لانذرنّ آلهتكم إلى عبادة رب نوح { مَكْراً كُبَّاراً } قرىء بالتخفيف والتثقيل . والكبار كبر من الكبير والكبار أكبر من الكبار ، ونحوه : طوال وطوّال { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً } كأن هذه المسميات كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم ، فخصوها بعد قولهم { لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ } وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب ، فكان ودّ لكلب ، وسواع لهمذان ، ويغوث لمذحج ، ويعوق لمراد ، ونسر لحمير؛ ولذلك سمت العرب بعبد ودّ وعبد يغوث ، وقيل هي أسماء رجال صالحين . وقيل : من أولاد آدم ماتوا ، فقال إبليس لمن بعدهم : لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم ، ففعلوا؛ فلما مات أولئك قال لمن بعدهم : إنهم كانوا يعبدونهم؛ فعبدوهم . وقيل : كان ودّ على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر . وقرىء «ودّا» بضم الواو . وقرأ الأعمش «ولا يغوثا ويعوقا» بالصرف ، وهذه قراءة مشكلة ، لأنهما إن كانا عربيين أو عجميين ففيهما سببا منع الصرف : إما التعريف ووزن الفعل ، وإما التعريف والعجمة؛ ولعله قصد الازدواج فصرفهما ، لمصادفته أخواتهما منصرفات ودا وسواعاً ونسراً ، كما قرىء : «وضحاها» بالإمالة ، لوقوعه مع الممالات للازدواج { وَقَدْ أَضَلُّواْ } الضمير للرؤساء . ومعناه : وقد أضلوا { كَثِيراً } قبل هؤلاء الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام ليسوا بأوّل من أضلوهم . أو وقد أضلوا بإضلالهم كثيراً ، يعني أنّ هؤلاء المضلين فيهم كثرة . ويجوز أن يكون للأصنام ، كقوله تعالى : { إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس } [ إبراهيم : 36 ] . فإن قلت : علام عطف قوله : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين } ؟ قلت : على قوله : { رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى } على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد { قَالَ } وبعد الواو النائبة عنه : ومعناه قال رب إنهم عصوني ، وقال : لا تزد الظالمين إلا ضلالاً ، أي : قال هذين القولين وهما في محل النصب ، لأنهما مفعولا «قال» كقولك : قال زيد نودي للصلاة وصل في المسجد؛ تحكى قوليه معطوفاً أحدهما على صاحبه . فإن قلت : كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو الله بزيادته؟ قلت : المراد بالضلال : أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف ، لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم ، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به ، بل لا يحسنَ الدعاء بخلافه . ويجوز أن يريد بالضلال : الضياع والهلاك ، لقوله تعالى : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } [ نوح : 28 ] .
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
تقديم { مّمَّا خطيائاتهم } لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان ، فإدخالهم النار إلا من أجل خطيئاتهم ، وأكد هذا المعنى بزيادة «ما» وفي قراءة ابن مسعود «من خطيئاتهم ما أغرقوا» بتأخير الصلة ، وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا ، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم ، وإن كانت كبراهنّ ، وقد نعيت عليهم سائر خطيئاتهم كما نعى عليهم كفرهم ، ولم يفرق بينه وبينهن في استيجاب العذاب ، لئلا يتكل المسلم الخاطىء على إسلامه ، ويعلم أنّ معه ما يستوجب به العذاب وإن خلا من الخطيئة الكبرى . وقرىء «خطيئاتهم» بالهمزة . وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها وخطاياهم وخطيئتهم بالتوحيد على إرادة الجنس . ويجوز أن يراد الكفر { فَأُدْخِلُواْ نَاراً } جعل دخولهم النار في الآخرة كأنه متعقب لإغراقهم ، لاقترابه ، ولأنه كائن لا محالة ، فكأنه قد كان . أو أريد عذاب القبر . ومن مات في ماء أو في نار أو أكلته السباع والطير : أصابه ما يصيب المقبور من العذاب . وعن الضحاك : كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب . وتنكير النار إما لتعظيمها ، أو لأن الله أعد لهم على حسب خطيئاتهم نوعاً من النار { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً } تعريض بإتخاذهم آلهة من دون الله وأنها غير قادرة على نصرهم ، وتهكم بهم ، كأنه قال : فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله ، كقوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا } [ الأنبياء : 43 ] . { دَيَّاراً } من الأسماء المستعملة في النفي العام ، يقال : ما بالدار ديار وديور ، كقيام وقيوم؛ وهو فيعال من الدور . أو من الدار؛ أصله ديوار ، ففعل به ما فعل بأصل سيد وميت ، ولو كان فعالاً لكان دوّاراً . فإن قلت : بم علم أن أولادهم يكفرون ، وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة؟ قلت : لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فذاقهم وأكلهم وعرف طباعهم وأحوالهم ، وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه ، ويقول : أحذر هذا ، فإنه كذاب ، وإن أبي حذرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك؛ وقد أخبره الله عزّ وجل أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن؛ ومعنى { وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } لا يلدوا إلا من سيفجر ويكفر . فوصفهم بما يصيرون إليه ، كقوله عليه الصلاة والسلام .
( 1230 ) " من قتل قتيلاً فله سلبه " .
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
{ ولوالدى } أبوه لمك بن متوشلخ ، وأمه شمخا بنت أنوش : كانا مؤمنين . وقيل هما آدم وحواء . وقرأ الحسين بن علي «ولولدي» يريد : ساما وحاما { بَيْتِىَ } منزلي . وقيل : مسجدي . وقيل : سفينتي؛ خص أوّلا من يتصل به؛ لأنهم أولى وأحق بدعائه ، ثم عم المؤمنين والمؤمنات { تَبَاراً } هلاكاً . فإن قلت : ما فعل صبيانهم حين أغرقوا؟ قلت : غرقوا معهم لا على وجه العقاب ، ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت ، وكم منهم من يموت بالغرق والحرق ، وكأن ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون . ومنه قوله عليه الصلاة و السلام :
( 1231 ) " يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى " وعن الحسن : أنه سئل عن ذلك فقال : علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب . وقيل : أعقم الله أرحام نسائهم وأيبس أصلاب آبائهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة ، فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1232 ) " من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام " .
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)
قرىء «أحى» وأصله وحي؛ يقال : أوحي إليه ووحى إليه ، فقلبت الواو همزة ، كما يقال : أعد وأزن { وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ } [ المرسلات : 11 ] ، وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة؛ وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضاً كإشاح وإسادة ، وإعاء أخيه ، وقرأ ابن أبي عبلة «وحى» على الأصل { أَنَّهُ استمع } بالفتح ، لأنه فاعل أوحى . وإنا سمعنا : بالكسر؛ لأنه مبتدأ محكي بعد القول ، ثم تحمل عليهما البواقي ، فما كان من الوحي فتح ، وما كان من قول الجنّ كسر : وكلهن من قولهم إلا الثنتين الأخريين { وَأَنَّ المساجد } [ الجن : 18 ] ، { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ } [ الجن : 19 ] ، ومن فتح كلهنّ فعطفاًعلى محل الجار والمجرور في آمنا به ، كأنه قيل : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وأنه كان يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي { نَفَرٌ مِّنَ الجن } جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة . وقيل : كانوا من الشيصبان ، وهم أكثر الجنّ عدداً وعامة جنود إبليس منهم { فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا } أي : قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم ، كقوله : { فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ( 29 ) قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كتابا } [ الأحقاف : 29 30 ] ، { عَجَبًا } بديعاً مباينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه ، قائمة فيه دلائل الإعجاز . وعجب مصدر يوضع موضع العجيب . وفيه مبالغة : وهو ما خرج عن حد أشكاله ونظائره { يهدى إِلَى الرشد } يدعو إلى الصواب . وقيل : إلى التوحيد والإيمان . والضمير في { بِهِ } للقرآن؛ ولما كان الإيمان به إيماناً بالله وبوحدانيته وبراءة من الشرك : قالوا : { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } أي : ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به في طاعة الشيطان . ويجوز أن يكون الضمير لله عز وجل؛ لأنّ قوله : { بِرَبِّنَا } يفسره { جَدُّ رَبِّنَا } عظمته من قولك : جدّ فلان في عيني ، أي : عظم . وفي حديث عمر رضي اللَّه عنه : كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا . وروي في أعيننا . أو ملكه وسلطانه أو غناه ، استعارة من الجد الذي هو الدولة والبخت؛ لأن الملوك والأغنياء هم المجدودون والمعنى : وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته . أو لسلطانه وملكوته أو لغناه . وقوله : { مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً } بيان لذلك . وقرىء «جدّا ربنا» على التمييز و«جدّ ربنا» بالكسر ، أي : صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد ، وذلك أنهم لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والإيمان ، تنبهوا على الخطأ فيما اعتقده كفرة الجنّ من تشبيه الله بخلقه واتخاذه صاحبة وولداً ، فاستعظموه ونزهوه عنه . سفيههم : إبليس لعنه الله أو غيره من مردة الجن . والشطط : مجاوزة الحدّ في الظلم وغيره . ومنه : أشط في السوم ، إذا أبعد فيه ، أي : يقول قولا هو في نفسه شطط؛ لفرط ما أشطَّ فيه ، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله ، وكان في ظننا أنّ أحداً من الثقلين لن يكذب على الله ولن يفتري عليه ما ليس بحق ، فكنا نصدّقهم فيم أضافوا إليه من ذلك ، حتى تبين لنا بالقرآن كذبهم وافتراؤهم { كَذِبًا } قولاً كذباً ، أي : مكذوباً فيه . أو نصب نصب المصدر لأنّ الكذب نوع من القول . ومن قرأ «أن لن تقوّل» وضع كذباً موضع تقوّلا ، ولم يجعله صفة؛ لأنّ التقوّل لا يكون إلا كذباً .
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
الرهق : غشيان المحارم . والمعنى : أنّ الإنس بإستعاذتهم بهم زادوهم كبراً وكفراً؛ وذلك أنّ الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر في بعض مسايره وخاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، يريد الجن وكبيرهم؛ فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا : سدنا الجن والإنس؛ فذلك رهقهم . أو فزاد الجن الإنس رهقاً بإغوائهم وإضلالهم لاستعاذتهم بهم { وَأَنَّهُمْ } وأنّ الإنس { ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ } وهو من كلام الجن ، يقوله بعضهم لبعض . وقيل الآيتان من جملة الوحي . والضمير في ( وأنهم ظنوا ) للجنّ ، والخطاب في { ظَنَنتُمْ } لكفار قريش .
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
اللمس : المس ، فاستعير للطلب؛ لأن الماس طالب متعرف قال :
مَسَسْنَا مِنَ الآبَاءِ شَيْئاً وَكُلُّنَا ... إلى نَسَبٍ في قَوْمِهِ غَيْرِ وَاضِعِ
يقال : لمسه والتمسه ، وتلمسه «كطلبه وأطلبه وتطلبه» ونحوه : الجس . وقولهم؛ جسوه بأعينهم وتجسسوه . والمعنى : طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها . والحرس : اسم مفرد في معنى الحرّاس ، كالخدم في معنى الخدّام؛ ولذلك وصف بشديد ، ولو ذهب إلى معناه لقيل : شداداً؛ ونحوه .
أَخْشَى رُجَيْلاً أَوْ رُكُيْباً غَادِيَا ... لأنّ الرجل والركب مفردان في معنى الرجال والركاب . والرصد : مثل الحرس : اسم جمع للراصد ، على معنى : ذوى شهاب راصدين بالرجم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ، ويمنعونهم من الاستماع . ويجوز أن يكون صفة للشهاب . بمعنى الراصد أو كقوله :
. . . . . . وَمعى جِيَاعاً ... يعني يجد شهاباً راصداً له ولأجله . فإن قلت : كأن الرجم لم يكن في الجاهلية ، وقد قال الله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين } [ الملك : 5 ] ، فذكر فائدتين في خلق الكواكب : التزيين ، ورجم الشياطين؟ قلت : قال بعضهم حدث بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إحدى آياته ، والصحيح أنه كان قبل المبعث؛ وقد جاء ذكره في شعر أهل الجاهلية . قال بشر بن أبي خازم :
وَالْعِيرُ يُرْهِقُهَا الْغُبَارُ وَجَحْشُهَا ... يَنْقَضُّ خَلْفَهُمَا انْقِضَاضَ الْكَوْكَبِ
وقال أوس بن حجر :
وَانْقَضَّ كَالدُّرِّيِّ يَتْبَعُه ... نَقْعٌ يَثُورُ تَخَالهُ طُنُبَا
وقال عوف بن الخرع :
يَرُدُّ عَلَيْنَا الْعِيرَ مِنْ دُونِ إلْفِهِ ... أَوِ الثَّوْرَ كَالدُّرِّىِّ يَتْبَعُهُ الدَّمُ
ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأحوال ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم : كثر الرجم وزاد زيادة ظاهرة؛ حتى تنبه لها الإنس والجن ، ومنع الاستراق أصلاً . وعن معمر : قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم . قلت : أرأيت قوله تعالى : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ } فقال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم . وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما :
( 1233 ) بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار ، فقال : " ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ " فقالوا : كنا نقول : يموت عظيم أو يولد عظيم . وفي قوله : { مُلِئَتْ } دليل على أن الحادث هو المل والكثرة ، وكذلك قوله : { نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد } أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب ، والآن ملئت المقاعد كلها ، وهذا ذكر ما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته .
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
يقولون : لما حدث هذا الحادث من كثرة الرجم ومنع الاستراق ، قلنا : ما هذا إلا لأمر أراده الله بأهل الأرض ، ولا يخلو من أن يكون شراً أو رشداً ، أي : خيراً ، من عذاب أو رحمة ، أو من خذلان أو توفيق .
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)
{ مِنَّا الصالحون } منا الأبرار المتقون { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } ومنا قوم دون ذلك ، فحذف الموصوف ، كقوله : { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] وهم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه أو أرادوا الطالحين { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } بيان للقسمة المذكورة ، أي : كنا ذوي مذاهب مفترقة مختلفة . أو كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة . أو كنا في طرائق مختلفة ، كقوله :
كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ ... أو كانت طرائقنا طرائق قدداً على حذف المضاف الذي هو الطرائق وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه؛ والقدّة من قدّ ، كالقطعة من قطع ، ووصفت الطرائق بالقدد ، لدلالتها على معنى التقطع والتفرّق .
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)
{ فِى الأرض } و { هَرَباً } حالان ، أي : لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها ، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء . وقيل : لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمراً ، ولن نعجزه هرباً إن طلبنا . والظن بمعنى اليقين؛ وهذه صفة أحوال الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم : منهم أخيار ، وأشرار ، ومقتصدون؛ وأنهم يعتقدون أنّ الله عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب ولا ينجى عنه مهرب .
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
{ لَمَّا سَمِعْنَا الهدى ا } هو سماعهم القرآن وإيمانهم به { فَلاَ يَخَافُ } فهو لا يخاف ، أي فهو غير خائف؛ ولأنّ الكلام في تقدير مبتدأ وخبر دخلت الفاء ، ولولا ذاك لقيل : لا يخف . فإن قلت : أي فائدة : في رفع الفعل وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء ، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال : لا يخف؟ قلت : الفائدة فيه أنه إذا فعل ذلك ، فكأنه قيل : فهو لا يخاف ، فكان دالاً على تحقيق أنّ المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره وقرأ الأعمش : فلا يخف ، على النهي { بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } أي جزاء بخس ولا رهق ، لأنه لم يبخس أحداً حقاً ولا رهق ظلم أحد فلا يخاف جزاءهما . وفيه دلالة على أن من حق من آمن باللَّه أن يجتنب المظالم . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام .
( 1234 ) « المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم » ويجوز أن يراد : فلا يخاف أن يبخس بل يجزى الجزاء الأوفى ، ولا أن ترهقه ذلة ، من قوله عز وجل : { ترهقهم ذلة } [ القلم : 43 ] .
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
{ القاسطون } الكافرون الجائرون عن طريق الحق . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : أنّ الحجاج قال له حين أراد قتله : ما تقول فيّ؟ قال : قاسط عادل ، فقال القوم : ما أحسن ما قال ، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل؛ فقال الحجاج : يا جهلة ، إنه سماني ظالماً مشركاً ، وتلا لهم قوله تعالى : { وَأَمَّا القاسطون } وقوله تعالى : { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] ، وقد زعم من لا يرى للجن ثواباً أنّ الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم؛ وكفى به وعداً أن قال : { فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } فذكر سبب الثواب وموجبه ، والله أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد .
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
{ وَأَلَّوِ استقاموا } أن مخففة من الثقيلة ، وهو من جملة الموحى والمعنى : وأوحي إليّ أن الشأن والحديث لو استقام الجن على الطريقة المثلى ، أي : لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله والطاعة ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام ، لأنعمنا عليهم ولوسعنا رزقهم . وذكر الماء الغدق وهو الكثير بفتح الدال وكسرها . وقرىء بهما ، لأنه أصل المعاش وسعة الرزق { لنفتنهم فِيهِ } لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خوّلوا منه . ويجوز أن يكون معناه : وأن لو استقام الجن الذين استمعوا على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لوسعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم ، لنفتنهم فيه : لتكون النعمة سبباً في اتباعهم شهواتهم ، ووقوعهم في الفتنة ، وازديادهم إثماً؛ أو لنعذبهم في كفران النعمة { عَن ذِكْرِ رَبِّهِ } عن عبادته أو عن موعظته أو عن وحيه { يَسْلُكْهُ } وقرىء بالنون مضمومة ومفتوحة ، أي : ندخله { عَذَاباً } والأصل : نسلكه في عذاب ، كقوله : { مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ } [ المدثر : 42 ] فعدّى إلى مفعولين : إمّا بحذف الجار وإيصال الفعل ، كقوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] وإمّا بتضمينه معنى «ندخله» يقال : سلكه وأسلكه قال :
حَتَّى إذَا أسْلَكُوهُمْ في قتَائِدَةٍ ... والصعد : مصدر صعد ، يقال : صعد صعداً وصعوداً ، فوصف به العذاب ، لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه . ومنه قول عمر رضي اللَّه عنه : ما تصعدَني شيء ما تصعَّدَتني خطبة النكاح ، يريد : ما شق على ولا غلبني .
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
{ وَأَنَّ المساجد } من جملة الموحى . وقيل معناه : ولأن المساجد { لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ } على أنّ اللام متعلقة بلا تدعوا ، أي : فلا تدعوا { مَعَ الله أَحَداً } في المساجد ، لأنها لله خاصة ولعبادته . وعن الحسن : يعني الأرض كلها؛ لأنها جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم مسجداً . وقيل : المراد بها المسجد الحرام ، لأنه قبلة المساجد . ومنه قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه } [ البقرة : 114 ] وعن قتادة : كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم أشركوا بالله ، فأمرنا أن نخلص لله الدعوة إذا دخلنا المساجد . وقيل : المساجد أعضاء السجود السبعة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1235 ) « أمرت أن أسجد على سبعة آراب : وهي الجبهة ، والأنف ، واليدان ، والركبتان ، والقدمان » وقيل : هي جمع مسجد وهو السجود .
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
{ عَبْدُ الله } النبي صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : هلا قيل : رسول الله أو النبي؟ قلت : لأن تقديره : وأوحى إليَّ أنه لما قام عبد الله فلما كان واقعاً في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه : جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل أو لأن المعنى أن عبادة عبد الله ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر ، حتى يكونوا عليه لبداً . ومعنى ( قام يدعوه ) قام يعبده ، يريد : قيامه لصلاة الفجر بنخلة حين أتاه الجن فاستمعوا لقراءته صلى الله عليه وسلم { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } أي يزدحمون عليه متراكمين تعجباً مما رأوا ممن عبادته واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً وساجداً ، وإعجاباً بما تلا من القرآن ، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله ، وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره . وقيل معناه : لما قام رسولاً يعبد الله وحده مخالفاً للمشركين في عبادتهم الآلهة من دونه : كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين { لِبَداً } جمع لبدة وهو ما تلبد بعضه على بعض ، ومنها «لبدة الأسد» وقرىء «لبدا» واللبدة في معنى اللبدة؛ ولبدا : جمع لابد ، كساجد وسجد ولبدا بضمتين : جمع لبود ، كصبور وصبر وعن قتادة : تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من ناوأه . ومن قرأ «وإنه» بالكسر : جعله من كلام الجن : قالوه لقومهم حين رجعوا إليهم حاكين ما رأوا من صلاته وازدحام أصحابه عليه في ائتمامهم به .
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
( قال ) للمتظاهرين عليه { إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّى } يريد : ما أتيتكم بأمر منكر ، إنما أعبد ربي وحده { وَلآ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } وليس ذاك مما يوجب إطباقكم على مقتى وعداوتي . أو قال للجن عند ازدحامهم متعجبين : ليس ما ترون من عبادتي الله ورفضي الإشراك به بأمر يتعجب منه ، إنما يتعجب ممن يدعو غير الله ويجعل له شريكاً . أو قال الجن لقومهم ذلك حكاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَلاَ رَشَداً } ولا نفعاً أو أراد بالضر : الغيّ ، ويدل عليه قراءة أبيّ «غياً ولا رشداً» والمعنى لا أستطيع أن أضركم وأن أنفعكم ، إنما الضارّ والنافع الله . أو لا أستطيع أن أقسركم على الغيّ والرشد ، إنما القادر على ذلك الله عز وجل : و { إِلاَّ بلاغا } استثناء منه . أي لا أملك إلا بلاغاً من الله و { قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى } جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه ، على معنى أنّ الله إن أراد به سوءاً من مرض أو موت أو غيرهما : لم يصح أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذا يأوي إليه : والملتحد : الملتجأ ، وأصله المدَّخل ، من اللحد . وقيل : محيصاً ومعدلاً وقرىء «قال لا أملك» أي قال عبد الله للمشركين أو للجن . ويجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم . وقيل : ( بلاغاً ) بدل من { مُلْتَحَدًا } أي : لن أجد من دونه منجى إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به . وقيل : { إِلاَّ } هي «أن لا» ومعناه : أن لا أبلغ بلاغاً كقولك : إن لا قياماً فقعوداً { ورسالاته } عطف على بلاغاً ، كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات . والمعنى : إلا أن أبلغ عن الله فأقول : قال الله كذا ، ناسباً لقوله إليه ، وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان . فإن قلت : ألا يقال : بلغ عنه ومنه قوله عليه الصلاة والسلام .
( 1236 ) " بلغوا عني بلغوا عني " ؟ قلت : من ليست بصلة للتبليغ ، إنما هي بمنزلة من في قوله : { بَرَاءةٌ مّنَ الله } [ التوبة : 1 ] بمعنى بلاعاً كائناً من الله . وقرىء «فأن له نار جهنم» على : فجزاؤه أنّ له نار جهنم كقوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] أي : فحكمه أنّ لله خمسه . وقال : { خالدين } حملا على معنى الجمع في من . فإن قلت : بم تعلق «حتى» ، وجعل ما بعده غاية له؟ قلت : بقوله : { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [ الجن : 19 ] على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ، ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } من يوم بدر وإظهار الله له عليهم . أو من يوم القيامة { فَسَيَعْلَمُونَ } حينئذ أنهم { أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال : من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده ، كأنه قال : لا يزالون على ما هم عليه { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } قال المشركون : متى يكون هذا الموعود؟ إنكاراً له ، فقيل { قُلْ } إنه كائن لا ريب فيه ، فلا تنكروه؛ فإن الله قد وعد ذلك وهو لا يخلف الميعاد .
وأما وقته فما أدري متى يكون؛ لأنّ الله لم يبينه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة . فإن قلت : ما معنى قوله : { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربى أَمَداً } والأمد يكون قريباً وبعيداً ألا ترى إلى قوله : { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا } [ آل عمران : 30 ] ؟ قلت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقرب الموعد ، فكأنه قال : ما أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم مؤجل ضربت له غاية أي : هو { عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ } فلا يطلع و { مِن رَّسُولٍ } تبيين لمن ارتضى ، يعني : أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي هو مصطفى للنبوة خاصة ، لا كل مرتضى . وفي هذا إبطال للكرامات؛ لأنّ الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين ، فليسوا برسل . وقد خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم ، لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } يدي من ارتضى للرسالة { وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين يطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم وتخاليطهم ، حتى يبلغ ما أوحى به إليه . وعن الضحاك : ما بعث نبيّ إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك { لِّيَعْلَمَ } الله { أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبِّهِمْ } يعني الأنبياء : وحد أولا على اللفظ في قوله : ( من بين يديه ومن خلفه ) ثم جمع على المعنى ، كقوله : { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خالدين } [ الجن : 23 ] ، والمعنى : ليبلغوا رسالات ربهم كما هي ، محروسة من الزيادة والنقصان؛ وذكر العلم كذكره في قوله تعالى : { حتى نَعْلَمَ المجاهدين } [ محمد : 31 ] ، وقرىء : «ليعلم» على البناء للمفعول { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } بما عند الرسل من الحكم والشرائع ، لا يفوته منها شيء ولا ينسى منها حرفاً ، فهو مهيمن عليها حافظ لها { وأحصى كُلَّ شَىْءٍ عَدَداً } من القطر والرمل وورق الأشجار ، وزبد البحار ، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه وعدداً : حال ، أي : وضبط كل شيء معدوداً محصوراً . أو مصدر في معنى إحصاء .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1237 ) " من قرأ سورة الجن كان له بعدد كل جنيّ صدق محمداً صلى الله عليه وسلم وكذب به عتق رقبة " .
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
{ المزمل } المتزمّل ، وهو الذي تزمّل في ثيابه : أي تلفف بها ، بإدغام التاء في الزاي : ونحوه : «المدثر» في المتدثر وقرىء «المتزمّل» على الأصل : والمزمل بتخفيف الزاي وفتح الميم وكسرها . على أنه اسم فاعل أو مفعول ، من زمله ، وهو الذي زمله غيره أو زمل نفسه؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً بالليل متزملاً في قطيعة فنبه ونودي بما يهجن إليه الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته واستعداده للاستثقال في النوم ، كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن . ألا ترى إلى قول ذي الرمّة :
وَكَائِنْ تَخَطَّتْ نَاقتِي مِنْ مَفَازَةٍ ... وَمِنْ نَائِمٍ عَنْ لَيْلِهَا مُتَزَمِّلِ
يريد : الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب ، ولا يحمل نفسه المشاق والمتاعب ، ونحوه :
فَأَنْتَ بِهِ حُوشَ الْفُؤَادِ مُبَطَّناً ... سُهُداً إذَا مَا نَامَ لَيْلُ الْهَوْجَلِ
وفي أمثالهم :
أَوْرَدَهَا سَعْدٌ وَسَعْدٌ مُشْتَمِلْ ... مَا هكَذَا تُورَدُ يَا سَعْدُ الإِبِلْ
فذمه بالاشتمال بكسائه ، وجعل ذلك خلاف الجلد والكيس ، وأمر بأن يختار على الهجود التهجد ، وعلى التزمل التشمر ، والتخفف للعبادة والمجاهدة في الله ، لا جرم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تشمر لذلك مع أصحابه حق التشمر ، وأقبلوا على إحياء لياليهم ، ورفضوا له الرقاد والدعة ، وتجاهدوا فيه حتى انتفخت أقدامهم واصفرت ألوانهم ، وظهرت السيمى في وجوههم وترامى أمرهم إلى حد رحمهم له ربهم . فخفف عنهم . وقيل : كان متزملا في مرط لعائشة يصلي ، فهو على هذا ليس بتهجين ، بل هو ثناء عليه وتحسين لحاله التي كان عليها ، وأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه . وعن عائشة رضي اللَّه عنها : أنها سئلت ما كان تزميله؟ قالت : كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعاً نصفه علي وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي ، فسئلت : ما كان؟ قالت : والله ما كان خزاً ولا قزاً ولا مرعزي ولا إبريسما ولا صوفاً : كان سداه شعراً ولحمته وبراً . وقيل : دخل على خديجة ، وقد جَثَتْ فرقا أول ما أتاه جبريل وبوادره ترعد ، فقال : زملوني زملوني ، وحسب أنه عرض له؛ فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل : يا أيها المزمل . وعن عكرمة : أنّ المعنى : يا أيها الذي زمل أمراً عظيماً ، أي : حمله ، والزمل : الحمل . وازدمله : احتمله وقرىء «قم الليل» بضم الميم وفتحها . قال عثمان بن جنى : الغرض بهذه الحركة التبلغ بها هرباً من التقاء الساكنين ، فبأي الحركات تحرّك فقد وقع الغرض { نِّصْفَهُ } بدل من الليل . وإلا قليلاً : استثناء من النصف ، كأنه قال : قم أقل من نصف الليل . والضمير في منه وعليه للنصف ، والمعنى التخيير بين أمرين؛ بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه .
وإن شئت جعلت نصفه بدلا من قليلاً ، وكان تخييراً بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه وبين قيام الزائد عليه؛ وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل ، وإن شئت قلت : لما كان معنى { قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ } إذا أبدلت النصف من الليل ، قم أقل من نصف الليل ، رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف ، فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل . أو : قم أنقص من ذلك الأقل أو أزيد منه قليلاً . فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث . ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلا وفسرته به أن تجعل قليلاً الثاني بمعنى نصف النصف : وهو الربع ، كأنه قيل أو انقص منه قليلاً نصفه . وتجعل المزيد على هذا القليل ، أعني الربع ، نصف الربع كأنه قيل : أو زد عليه قليلاً نصفه . ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث ، فيكون تخييراً بين النصف والثلث والربع . فإن قلت : أكان القيام فرضاً أم نفلاً؟ قلت : عن عائشة رضي اللَّه عنها أنّ الله جعله تطوّعاً بعد أن كان فريضة . وقيل كان فرضاً قبل أن تفرض الصلوات الخمس ، ثم نسخ بهنّ إلا ما تطوّعوا به . وعن الحسن : كان قيام ثلث الليل فريضة ، وكانوا على ذلك سنة . وقيل : كان واجباً ، وإنما وقع التخيير في المقدار ، ثم نسخ بعد عشر سنين . وعن الكلبي : كان يقوم الرجل حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين؛ ومنهم من قال : كان نفلاً بدليل التخيير في المقدار ، ولقوله تعالى : { وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] ، ترتيل القرآن : قراءته على ترسل وتؤدة بتبيين الحروف وإشباع الحركات ، حتى يجيء المتلوّ منه شبيها بالثغر المرتل : وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان ، وألا بهذّه هذا ولا يسرده سرداً ، كما قال عمر رضي الله عنه : شر السير الحقحقة . وشر القراءة الهذرمة ، حتى يشبه المتلو في تتابعه الثغر الألص . وسئلت عائشة رضي الله عنها عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : لا كسردكم هذا ، لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها و { تَرْتِيلاً } تأكيد في إيجاب الأمر به ، وأنه ما لا بد منه للقارىء .
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
هذه الآية اعتراض ، ويعني بالقول الثقيل : القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين ، وخاصة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأنه متحملها بنفسه ومحملها أمته؛ فهي أثقل عليه وأبهظ له وأراد بهذا الاعتراض : أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن ، لأنّ الليل وقت السبات والراحة والهدوء فلا بد لمن أحياه من مضادة لطبعه ومجاهدة لنفسه . وعن ابن عباس رضي الله عنه : كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد له جلده . وعن عائشة رضي اللَّه عنها :
( 1238 ) رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليرفضُّ عرقاً . وعن الحسن : ثقيل في الميزان . وقيل : ثقيل على المنافقين . وقيل : كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف .
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
{ نَاشِئَةَ اليل } النفس الناشئة بالليل ، التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة ، أي : تنهض وترتفع ، من نشأت السحابة : إذا ارتفعت ، ونشأ من مكانه ونشز : إذا نهض ، قال :
نَشَأْنَا إلى خُوصٍ بَرَى نَيَّهَا السُّرَى ... وَأَلْصَقَ مِنْهَا مُشْرِفَاتِ الْقَمَاحِدِ
وقيام الليل ، على أن الناشئة مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعلة : كالعاقبة ويدل عليه ما روى عن عبيد بن عمير : قلت لعائشة : رجل قام من أوّل الليل ، أتقولين له قام ناشئة؟ قالت لا؛ إنما الناشئة القيام بعد النوم . ففسرت الناشئة بالقيام عن المضجع أو العبادة التي تنشأ بالليل ، أي : تحدث ، وترتفع . وقيل : هي ساعات الليل كلها؛ لأنها تحدث واحدة بعد أخرى . وقيل : الساعات الأول منه . وعن علي بن الحسين رضي اللَّه عنهما أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء ويقول : أما سمعتم قول الله تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ اليل } هذه ناشئة الليل { هِىَ أَشَدُّ وَطْأً } هي خاصة دون ناشئة النهار ، أشدّ مواطأة يواطىء قلبها لسانها : إن أردت النفس . أو يوطىء فيها قلب القائم لسانه : إن أردت القيام أو العبادة أو الساعات . أو أشدّ موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص . وعن الحسن : أشدّ موافقة بين السر والعلانية ، لانقطاع رؤية الخلائق . وقرىء : «أشدّ وطأ» بالفتح والكسر . والمعنى : أشد ثبات قدم وأبعد من الزلل . أو أثقل وأغلظ على المصلي من صلاة النهار ، من قوله عليه السلام .
( 1239 ) " اللهم اشدد وطأتك على مضر " { وَأَقْوَمُ قِيلاً } وأسد مقالا وأثبت قراءة لهدوّ الأصوات . وعن أنس رضي الله عنه أنه قرأ : وأصوب قيلا ، فقيل له : يا أبا حمزة ، إنما هي : وأقوم؛ فقال : إنّ أقوم وأصوب وأهيأ واحد . وروى أبو زيد الأنصاري عن أبي سرار الغنوي أنه كان يقرأ : فحاسوا ، بحاء غير معجمة ، فقيل له : إنما هو { جاسوا } [ الإسراء : 5 ] بالجيم ، فقال : وجاسوا وحاسوا واحد .
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
{ سَبْحاً } تصرفاً وتقلباً في مهماتك وشواغلك ، ولا تفرغ إلا بالليل؛ فعليك بمناجاة الله التي تقتضي فراغ البال وانتفاء الشواغل . وأما القراءة بالخاء فاستعارة من سبخ الصوف ، وهو نفشه ونشر أجزائه؛ لانتشار الهم وتفرّق القلب بالشواغل ، كلفه قيام الليل ، ثم ذكر الحكمة فيما كلفه منه : وهو أن الليل أعون على المواطأة وأشد للقراءة ، لهدوّ الرجل وخفوت الصوت ، وأنه أجمع للقلب وأضم لنشر الهم من النهار؛ لأنه وقت تفرق الهموم وتوزع الخواطر والتقلب في حوائج المعاش والمعاد . وقيل : فراغاً وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك وقيل : إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه .
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
{ واذكر اسم رَبِّكَ } ودم على ذكره في ليلك ونهارك ، واحرص عليه ، وذكر الله يتناول كل ما كان من ذكر طيب : تسبيح ، وتهليل ، وتكبير ، وتمجيد ، وتوحيد ، وصلاة ، وتلاوة قرآن ، ودراسة علم ، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغرق به ساعة ليله ونهاره { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ } وانقطع إليه . فإن قلت : كيف قيل { تَبْتِيلاً } مكان تبتلا؟ قلت : لأن معنى تبتل بتل نفسه ، فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل { رَّبُّ المشرق والمغرب } قرىء مرفوعاً على المدح ، ومجروراً على البدل من ربك . وعن ابن عباس : على القسم بإضمار حرف القسم ، كقولك : الله لأفعلنّ ، وجوابه { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } كما تقول : والله لا أحد في الدار إلا زيد . وقرأ ابن عباس «رب المشارق والمغارب» { فاتخذه وَكِيلاً } مسبب على التهليلة؛ لأنه هو وحده هو الذي يجب لتوحده بالربوبية أن توكل إليه الأمور . وقيل { وَكِيلاً } : كفيلاً بما وعدك من النصر والإظهار . الهجر الجميل : أن يجانبهم بقلبه وهواه ، ويخالفهم مع حسن المخالفة والمداراة والإغضاء وترك المكافأة . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه : إنا لنكشر في وجوه قوم ونضحك إليهم ، وإن قلوبنا لتقليهم وقيل : هو منسوخ بآية السيف .
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
إذا عرف الرجل من صاحبه أنه مستهم بخطب يريد أن يكفاه ، أو بعدوّ يشتهي أن ينتقم له منه وهو مضطلع بذلك مقتدر عليه قال : ذرني وإياه أي : لا تحتاج إلى الظفر بمرادك ومشتهاك ، إلا أن تخلى بيني وبينه بأن تكل أمره إليّ وتستكفينيه ، فإنّ فيّ ما يفرغ بالك ويجلي همك ، وليس ثم منع حتى يطلب إليه أن يذره وإياه إلا ترك الاستكفاء والتفويض ، كأنه إذا لم يكل أمره إليه ، فكأنه منعه منه؛ فإذا وكله إليه فقد أزال المنع وتركه وإياه ، وفيه دليل على الوثوق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما تدور حوله أمنية المخاطب وبما يزيد عليه النعمة : - بالفتح - التنعم ، وبالكسر : الإنعام وبالضم : المسرة؛ يقال : نعم ، ونعمة عين ، وهم صناديد قريش ، وكانوا أهل تنعم وترفه { إِنَّ لَدَيْنَآ } ما يضاد تنعمهم من أنكال : وهي القيود الثقال ، عن الشعبي . إذا ارتفعوا استفلت بهم . الواحد : نكل ونكل . ومن جحيم : وهي النار الشديدة الحر والاتقاد . ومن طعام ذي غصة وهو الذي ينشب في الحلوق فلا يساغ يعني الضريع وشجر الزقوم . ومن عذاب أليم من سائر العذاب فلا ترى موكولاً إليه أمرهم موذوراً بينه وبينهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام . وروي :
( 1240 ) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق . وعن الحسن : أنه أمسى صائماً . فأتي بطعام ، فعرضت له هذه الآية؛ فقال : ارفعه ، ووضع عنده الليلة الثانية ، فعرضت له ، فقال : ارفعه ، وكذلك الليلة الثالثة ، فأخبر ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء ، فجاؤا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق { يَوْمَ تَرْجُفُ } منصوب بما في لدينا . والرجفة . الزلزلة والزعزعة الشديدة . والكثيب : الرمل المجتمع من كثب الشيء إذا جمعه ، كأنه فعيل بمعنى مفعول في أصله . ومنه الكثبة من اللبن ، قالت الضائنة : أجز جفالا وأحلب كثباً عجالا ، أي : كانت مثل رمل مجتمع هيل هيلا ، أي : نثر وأسيل .
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
الخطاب لأهل مكة { شاهدا عَلَيْكُمْ } يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم . فإن قلت : لم نكر الرسول ثم عرف؟ قلت : لأنه أراد : أرسلنا إلى فرعون بعض الرسل ، فلما أعاده ، وهو معهود بالذكر أدخل لام التعريف إشارة إلى المذكور بعينه { وَبِيلاً } ثقيلاً غليظاً ، من قولهم : كلأ وبيل وخم لا يستمرأ لثقله . والوبيل : العصا الضخمة ومنه : الوابل للمطر العظيم .
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
{ يَوْماً } مفعول به ، أي : فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهو له ، إن بقيتم على الكفر . ولم تؤمنوا وتعملوا صالحاً . ويجوز أن يكون ظرفاً ، أي : فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا ويجوز أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم ، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء ، أن تقوى الله خوف عقابه { يَجْعَلُ الولدان شِيباً } مثل في الشدة يقال في اليوم الشديد : يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل فيه : أنّ الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب . قال أبو الطيب :
وَالْهَمُّ يَخْتَرِمُ الْجَسِيمَ نَحَافَةً ... وَيُشِيبُ نَاصِيَةَ الصَّبِيِّ وَيُهْرِمُ
وقد مرّ بي في بعض الكتب أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنك الغراب . وأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة ، فقال : أريت القيامة والجنة والنار في المنام ، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار ، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون . ويجوز أن يوصف اليوم بالطول . وأنّ الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } وصف لليوم بالشدّة أيضاً . وأنّ السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه ، فما ظنك بغيرها من الخلائق . وقرىء : «منفطر ومتفطر» والمعنى : ذات انفطار . أو على تأويل السماء بالسقف أو على تأويل السماء شىء منفطر والباء في { بِهِ } مثلها في قولك : فطرت العود بالقدوم فانفطر به ، يعني : أنها تنفطر بشدة ذلك اليوم وَهَوْله كما ينفطر الشيء بما يفطر به . ويجوز أن يراد السماء مثقلة به إثقالاً يؤدّي إلى انفطارها لعظمه عليها وخشيتها من وقوعه ، كقوله : { ثَقُلَتْ فِى السموات والأرض } [ الأعراف : 187 ] ، { وَعْدَهُ } من إضافة المصدر إلى المفعول ، والضمير لليوم . ويجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل وهو الله عز وعلا ، ولم يجر له ذكر لكونه معلوماً .
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
{ إِنَّ هذه } الآيات الناطقة بالوعيد الشديد { تَذْكِرَةٌ } موعظة { فَمَن شَآءَ } اتعظ بها . واتخذ سبيلاً إلى الله بالتقوى والخشية . ومعنى اتخاذ السبيل إليه : التقرّب والتوسل بالطاعة .
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
{ أدنى من ثُلُثَىِ الَّيْلِ } أقل منهما؛ وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل؛ لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت : قل ما بينهما من الأحياز؛ وإذا بعدت كثر ذلك . وقرىء «ونصفه وثلثه» بالنصب على أنك تقوم أقل من الثلثين ، وتقوم النصف والثلث : وهو مطابق لما مرّ في أوّل السورة : من التخيير بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه - وهو الثلث - وبين قيام الزائد عليه - وهو الأدنى من الثلثين . وقرىء «ونصفه» ، وثلثه : بالجرّ ، أي : تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث ، وهو مطابق للتخيير بين النصف : وهو أدنى من الثلثين والثلث : وهو أدنى من النصف . والربع : وهو أدنى من الثلث ، وهو الوجه الأخير { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ } ويقوم ذلك جماعة من أصحابك { والله يُقَدّرُ اليل والنهار } ولا يقدر على تقدير الليل والنهار ومعرفة مقادير ساعاتهما إلا الله وحده؛ وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنياً عليه «يقدّر» ، هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير؛ والمعنى : إنكم لا تقدرون عليه ، والضمير في { لَّن تُحْصُوهُ } لمصدر يقدّر ، أي علم أنه لا يصح منكم ضبط الأوقات ولا يتأتى حسابها بالتعديل والتسوية ، إلا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط : وذلك شاق عليكم بالغ منكم { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدّر . كقوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالن باشروهن } [ البقرة : 187 ] والمعنى : أنه رفع التبعة في تركه عنكم ، كما يرفع التبعة عن التائب . وعبر عن الصلاة بالقراءة؛ لأنها بعض أركانها ، كما عبر عنها بالقيام والركوع والسجود يريد : فصلوا ما تيسر عليكم ، ولم يتعذر من صلاة الليل؛ وهذا ناسخ للأوّل ، ثم نسخا جميعاً بالصلوات الخمس . وقيل : هي قراءة القرآن بعينها؛ قيل : يقرأ مائة آية ومن قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن ، وقيل : من قرأ مائة آية كتب من القانتين . وقيل : خمسين آية . وقد بين الحكمة في النسخ . وهي تعذر القيام على المرضى ، والضاربين في الأرض للتجارة ، والمجاهدين في سبيل الله . وقيل : سوّى الله بين المجاهدين والمسافرين لكسب الحلال . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
( 1241 ) أيما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً ، فباعه بسعر يومه : كان عند الله من الشهداء . وعن عبد الله بن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل : أضرب في الأرض أبتغى من فضل الله . و { عَلِمَ } استئناف على تقدير السؤال عن وجه النسخ { وَأَقِيمُواْ الصلاة } يعني المفروضة والزكاة الواجبة وقيل : زكاة الفطر؛ لأنه لم يكن بمكة زكاة . وإنما وجبت بعد ذلك . ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنيا { وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً } يجوز أن يريد : سائر الصدقات وأن يريد : أداء الزكاة على أحسن وجه : من إخراج أطيب المال وأعوده على الفقراء ، ومراعاة النية وابتغاء وجه الله ، والصرف إلى المستحق ، وأن يريد : كل شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال { خَيْرًا } ثاني مفعولي وجد .
وهو فصل . وجاز وإن لم يقع بين معرفتين . لأنّ أفعل من أشبه في امتناعه من حرف التعريف المعرفة . وقرأ أبو السمال «هو خير وأعظم أجراً» بالرفع على الابتداء والخبر .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1242 ) " من قرأ سورة المزمّل دفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة " .
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
{ المدثر } لابس الدثار ، وهو ما فوق الشعار : وهو الثوب الذي يلي الجسد . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1243 ) " الأنصار شعار والناس دثار " وقيل : هي أوّل سورة نزلت . وروى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1244 ) " كنت على جبل حراء فنوديت : يا محمد ، إنك رسول الله ، فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئاً ، فنظرت فوقي فرأيت شيئا " وفي رواية عائشة : " فنظرت فوقي فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض " - يعني الملك الذي ناداه - " فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت : دثروني دثروني ، فنزل جبريل وقال : «يا أيها المدثر» " وعن الزهري :
( 1245 ) أوّل ما نزل : سورة { اقرأ باسم رَبّكَ } إلى قوله : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلو شواهق الجبال ، فأتاه جبريل فقال : إنك نبيّ الله ، فرجع إلى خديجة وقال : دثروني وصبوا عليّ ماء بارداً ، فنزل : يا أيها المدثر . وقيل : سمع من قريش ما كرهه فاغتم ، فتغطى بثوبه مفكراً كما يفعل المغموم . فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه . وعن عكرمة أنه قرأ على لفظ اسم المفعول . من دثره . وقال : دثرت هذا الأمر وعصب بك ، كما قال في المزمّل : قم من مضجعك أو قم قيام عزم وتصميم { فَأَنذِرْ } فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا . والصحيح أنّ المعنى : فأفعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد { وَرَبَّكَ فَكَبّرْ } واختص ربك بالتكبير : وهو الوصف بالكبرياء؛ وأن يقال : الله أكبر . ويروى :
( 1246 ) أنه لما نزل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الله أكبر» فكبرت خديجة وفرحت ، وأيقنت أنه الوحي؛ وقد يحمل على تكبير الصلاة ، ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل : وما كان فلا تدع تكبيره { وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ } أمر بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات؛ لأنّ طهارة الثياب شرط في الصلاة لا تصح إلا بها ، وهي الأولى والأحب في غير الصلاة ، وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثاً . وقيل : هو أمر بتقصيرها ، ومخالفة العرب في تطويلهم الثياب وجرهم الذيول ، وذلك ما لا يؤمن معه إصابة النجاسة . وقيل : هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ويستهجن من العادات . يقال : فلان طاهر الثياب وطاهر الجيب والذيل والأردان إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق . وفلان دنس الثياب للغادر؛ وذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان ويشتمل عليه ، فكنى به عنه . ألا ترى إلى قولهم : أعجبني زيد ثوبه ، كما يقولون : أعجبني زيد عقله وخلقه ، ويقولون : المجد في ثوبه ، والكرم تحت حلته؛ ولأنّ الغالب أنّ من طهر باطنه ونقاه عنى بتطهير الظاهر وتنقيته ، وأبى إلا اجتناب الخبث وإيثار الطهر في كل شيء «والرجز» قرىء بالكسر والضم ، وهو العذاب ، ومعناه : اهجر ما يؤدي إليه من عبادة الأوثان وغيرها من المآثم . والمعنى : الثبات على هجره؛ لأنه كان بريئاً منه .
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
قرأ الحسن «ولا تمنّ» «وتستكثر» مرفوع منصوب المحل على الحال ، أي : ولا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه كثيراً ، أو طالباً للكثير : نهى عن الاستغزار : وهو أن يهب شيئاً وهو يطمع أن يتعوّض من الموهوب له أكثر من الموهوب ، وهذا جائز . ومنه الحديث :
( 1247 ) " المستغزر يثاب من هبته " وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون نهياً خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنّ الله تعالى اختار له أشرف الآداب وأحسن الأخلاق ، والثاني : أن يكون نهى تنزيه لا تحريم له ولأمته وقرأ الحسن «تستكثر» بالسكون . وفيه ثلاثة أوجه : الإبدال من تمنن . كأنه قيل : ولا تمنن لا تستكثر؛ على أنه من المنّ في قوله عز وجل : { ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى } [ البقرة : 262 ] لأنّ من شأن المنان بما يعطي أن يستكثره ، أي : يراه كثيراً ويعتدّ به ، وأن يشبه ثرو بعضد ، فيسكن تخفيفاً ، وأن يعتبر حال الوقف . وقرأ الأعمش بالنصب بإضمار «أن» كقوله :
أَلاَ أَيُّهذَا الزَّاجِرِى أحْضُرَ الْوَغَىء ... وتؤيده قراءة ابن مسعود «ولا تمنن أن تستكثر» ويجوز في الرفع أن تحذف «أن» ويبطل عملها ، كما روي : أحضر الوغى بالرفع ، { وَلِرَبّكَ فاصبر } ولوجه الله فاستعمل الصبر . وقيل : على أذى المشركين . وقيل : على أداء الفرائض . وعن النخعى : على عطيتك ، كأنه وصله بما قبله ، وجعله صبراً على العطاء من غير استكثار ، والوجه أن يكون أمراً بنفس الفعل ، وأن يتناول على العموم كل مصبور عليه ومصبور عنه ، ويراد الصبر على أذى الكفار؛ لأنه أحد ما يتناوله العام .
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
والفاء في قوله : { فَإِذَا نُقِرَ } للتسبيب ، كأنه قال : اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم ، وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه . والفاء في { فَذَلِكَ } للجزاء فإن قلت : بم انتصب إذا ، وكيف صح أن يقع { يَوْمَئِذٍ } ظرفاً ليوم عسير؟ قلت : انتصب إذا بما دلّ عليه الجزاء ، لأنّ المعنى : فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين ، والذي أجاز وقوع { يَوْمَئِذٍ } ظرفاً ليوم عسير : أنّ المعنى : فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير ، لأنّ يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور . واختلف في أنها النفخة الأولى أم الثانية . ويجوز أن يكون يومئذ مبنياً مرفوع المحل ، بدلا من { ذلك } و { يَوْمٌ عَسِيرٌ } خبر ، كأنه قيل : فيوم النقر يوم عسير . فإن قلت : فما فائدة قوله : { غَيْرُ يَسِيرٍ } و { عَسِيرٌ } مغن عنه؟ قلت : لما قال : { عَلَى الكافرين } فقصر العسر عليهم قال : { غَيْرُ يَسِيرٍ } ليؤذن بأن لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً ، ليجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً ، كما يرجى تيسر العسير من أمور الدنيا .
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
{ وَحِيداً } حال من الله عز وجل على معنيين ، أحدهما : ذرني وحدي معه ، فأنا أجزيك في الانتقام منه عن كل منتقم . والثاني : خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد . أو حال من المخلوق على معنى : خلقته وهو وحيد فريد لا مال له ولا ولد ، كقوله : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 94 ] ، وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي وكان يلقب في قومه بالوحيد ، ولعله لقب بذلك بعد نزول الآية؛ فإن كان ملقباً به قبل فهو تهكم به وبلقبه ، وتغيير له عن الغرض الذي كانوا يؤمونه - من مدحه ، والثناء عليه بأنه وحيد قومه لرياسته ويساره وتقدّمه في الدنيا - إلى وجه الذم والعيب : وهو أنه خلق وحيداً لا مال له ولا ولد ، فآتاه الله ذلك ، فكفر بنعمة الله وأشرك به واستهزأ بدينه { مَّمْدُوداً } مبسوطاً كثيراً : أو ممدّاً بالنماء ، من مدّ النهر ومدّ نهر آخر . قيل : كان له الزرع والضرع والتجارة . وعن ابن عباس : هو ما كان له بين مكة والطائف من صنوف الأموال . وقيل : كان له بستان بالطائف لا ينقطع ثماره صيفاً وشتاء . وقيل : كان له ألف مثقال . وقيل : أربعة آلاف وقيل تسعة آلاف وقيل : ألف ألف ، وعن ابن جريج : غلة شهر بشهر { وَبَنِينَ شُهُوداً } حضوراً معه بمكة لا يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة ، لأنهم مكفيون لوفور نعمة أبيهم واستغنائهم عن التكسب وطلب المعاش بأنفسهم ، فهو مستأنس بهم لا يشتغل قلبه بغيبتهم ، وخوف معاطب السفر عليهم ولا يحزن لفراقهم والاشتياق إليهم . ويجوز أن يكون معناه : أنهم رجال يشهدون معه المجامع والمحافل . أو تسمع شهادتهم فيما يتحاكم فيه . وعن مجاهد : كان له عشرة بنين . وقيل : ثلاثة عشر . وقيل : سبعة كلهم رجال : الوليد بن الوليد ، وخالد ، وعمارة ، وهشام ، والعاص ، وقيس ، وعبد شمس : أسلم منهم ثلاثة : خالد ، وهشام ، وعمارة { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه ، فأتمت عليه نعمتي المال والجاه واجتماعهما : هو الكمال عند أهل الدنيا . ومنه قول الناس : آدام الله تأييدك وتمهيدك ، يريدون : زيادة الجاه والحشمة . وكان الوليد من وجهاء قريش وصناديدهم؛ ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش { ثُمَّ يَطْمَعُ } استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه ، يعنى أنه لا مزيد على ما أوتي سعة وكثرة وقيل : إنه كان يقول : إن كان محمد صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي { كَلاَّ } ردع له وقطع لرجائه وطمعه { إِنَّهُ كان لأياتنا عَنِيداً } تعليل للردع على وجه الاستئناف كأن قائلا قال : لم لا يزاد؟ فقيل : إنه عاند آيات المنعم وكفر بذلك نعمته ، والكافر لا يستحق المزيد ، ويروى : أنه ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله حتى هلك { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } سأغشيه عقبة شاقة المصعد : وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعد الذي لا يطاق وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1248 )
« يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذابت ، فإذا رفعها عادت ، وإذا وضع رجله ذابت ، فإذا رفعها عادت » وعنه عليه السلام :
( 1249 ) « الصَّعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبداً » ، { إِنَّهُ فَكَّرَ } تعليل للوعيد ، كأن الله تعالى عاجله بالفقر بعد الغنى ، والذل بعد العز في الدنيا بعناده ، ويعاقبه في الآخرة بأشدّ العذاب وأفظعه لبلوغه بالعناد غايته وأقصاه في تفكيره ، وتسميته القرآن سحراً . ويجوز أن تكون كلمة الردع متبوعة بقوله : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } ردّاً لزعمه أن الجنة لم تخلق إلا له؛ وإخباراً بأنه من أشدّ أهل النار عذاباً ، ويعلل ذلك بعناده ، ويكون قوله : { إِنَّهُ فَكَّرَ } بدلاً من قوله : { إِنَّهُ كان لأياتنا عَنِيداً } بياناً لِكُنْهِ عناده . ومعناه { فكر } ماذا يقول في القرآن { وَقَدَّرَ } في نفسه ما يقول وهيأه { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } تعجيب من تقديره وإصابته فيه المحزّ . ورميه الغرض الذي كان تنتحيه قريش . أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به أو هي حكاية لما كرروه من قولهم . { قتل كيف قدّر } تهكما بهم وبإعجابهم بتقديره ، واستعظامهم لقوله . ومعنى قول القائل : قتله الله ما أشجعه . وأخزاه الله ما أشعره : الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك . روي :
( 1250 ) أنّ الوليد قال لبني مخزوم : والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، إنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى؛ فقالت قريش : صبأ والله الوليد ، والله لتصبأن قريش كلهم؛ فقال أبو جهل : أنا اكفيكموه ، فقعد إليه حزيناً وكلمه بما أحماه فقام فأتاهم فقال : تزعمون أن محمداً مجنون ، فهل رأيتموه يخنق؛ وتقولون إنه كاهن ، فهل رأيتموه قط يتكهن؛ وتزعمون أنه شاعر ، فهل رأيتموه يتعاطى شعراً قط؛ وتزعمون أنه كذاب ، فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب ، فقالوا في كل ذلك : اللهم لا ، ثم قالوا : فما هو؟ ففكر فقال : ما هو إلا ساحر . أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ، وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل ، فارتج النادي فرحاً ، وتفرّقوا معجبين بقوله متعجبين منه { ثُمَّ نَظَرَ } في وجوه الناس ، ثم قطب وجهه ، ثم زحف مدبراً ، وتشاوس مستكبراً لما خطرت بباله الكلمة الشنعاء ، وهمّ بأن يرمي بها وصف أشكاله التي تشكل بها حتى استنبط ما استنبط ، استهزاء به . وقيل : قدرّ ما يقوله ، ثم نظر فيه ، ثم عبس لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول .
وقيل : قطب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثُمَّ أَدْبَرَ } عن الحق { واستكبر } عنه فقال ما قال . و { ثُمَّ نَظَرَ } عطف على { فَكَّرَ وَقَدَّرَ } والدعاء : اعتراض بينهما . فإن قلت : ما معنى { ثُمَّ } الداخلة في تكرير الدعاء؟ قلت؛ الدلالة على أن الكرّة الثانية أبلغ من الأولى . ونحوه قوله :
أَلاَ يَا اسْلَمِى ثُمَّ اسْلَمِى ثُمَّتَ اسْلَمِى ... فإن قلت : ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟ قلت : الدلالة على أنه قد تأنى في التأمّل وتمهل ، وكأنّ بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد . فإن قلت : فلم قيل { فَقَالَ إِنْ هذا } بالفاء بعد عطف ما قبله بثم؟ قلت : لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث . فإن قلت : فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين؟ قلت : لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التوكيد من المؤكد .
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
{ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } بدل من { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [ المدثر : 17 ] ، { لاَ تُبْقِى } شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته؛ وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يعاد . أو لا تبقي على شيء ، ولا تدعه من الهلاك ، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة { لَوَّاحَةٌ } من لوح الهجير . قال :
تَقُولُ مَا لاَحَكَ يَا مُسَافِرُ ... يَا آبْنَةَ عَمِّي لاَحَنِى الْهَوَاجِرُ
قيل : تلفح الجلد لفحة فتدعه أشدّ سواداً من الليل . والبشر : أعالي الجلود . وعن الحسن . تلوح للناس ، كقوله : { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين } [ التكاثر : 7 ] وقرىء «لواحة» نصباً على الاختصاص للتهويل { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } أي يلي أمرها ويتسلط على أهلها تسعة عشر ملكاً . وقيل : صنفاً من الملائكة . وقيل : صفة . وقيل : نقيباً . وقرىء : «تسعة عشر» بسكون العين لتوالي الحركات في ما هو في حكم اسم واحد وقرىء «تسعة أعشر» جمع عشير ، مثل : يمين وأيمن جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس ، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة ، ولا يستروحون إليهم ، ولأنهم أقوم مّنْ خلق الله بحق الله وبالغضب له ، فتؤمن هوادتهم ، ولأنهم أشد الخلق بأساً وأقواهم بطشاً . عن عمرو بن دينار : واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر . وعن النبي صلى الله عليه وسلم .
( 1251 ) " كأن أعينهم البرق ، وكأن أفواههم الصياصي يجرون أشعارهم ، لأحدهم مثل قوّة الثقلين ، يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمى بهم في النار بالجبل عليهم " وروي أنه لما نزلت { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحى وكان شديد البطش ، أنا أكفيكم سبعة عشر ، فأكفوني أنتم اثنين ، فأنزل الله { وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار إِلاَّ مَلَئِكَةً } أي ما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون . فإن قلت : قد جعل افتنان الكافرين بعدة الزبانية سبباً لاستيقان أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين ، فما وجه صحة ذلك؟ قلت ما جعل افتتانهم بالعدة سبباً لذلك ، وإنما العدة نفسها هي التي جعلت سبباً ، وذلك أن المراد بقوله { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر ، فوضع { فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } موضع { تِسْعَةَ عَشَرَ } لأن حال هذه العدة الناقصة واحداً من عقد العشرين أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزيء ، ولا يذعن إذعان المؤمن ، وإن خفى عليه وجه الحكمة ، كأنه قيل ولقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها ، لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين واستيقان أهل الكتاب ، لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين ، فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله ، وازدياد المؤمنين إيماناً لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل ، ولما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أنه كذلك .
فإن قلت : لم قال { وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون } والاستيقان وازدياد الإيمان دالا على انتفاء الارتياب؟ قلت : لأنه إذا جمع لهم إثبات اليقين ونفي الشك . كان آكد وأبلغ لوصفهم بسكون النفس وثلج الصدر ، ولأن فيه تعريضاً بحال من عداهم ، كأنه قال : ولتخالف حالهم حال الشاكين المرتابين من أهل النفاق والكفر . فإن قلت : كيف ذكر الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون ، والسورة مكية ، ولم يكن بمكة نفاق ، وإنما نجم بالمدينة؟ قلت : معناه وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة { والكافرون } بمكة { مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } وليس في ذلك إلا إخبار بما سيكون كسائر الإخبارات بالغيوب ، وذلك لا يخالف كون السورة مكية . ويجوز أن يراد بالمرض : الشك والارتياب ، لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين وبعضهم قاطعين بالكذب . فإن قلت : قد علل جعلهم تسعة عشر بالاستيقان وانتفاء الارتياب وقول المنافقين والكافرين ما قالوا فهب أن الإستيقان وإنتفاء الإرتياب يصح أن يكونا غرضين فكيف صح أن يكون قول المنافقين والكافرين غرضاً؟ قلت : أفادت اللام معنى العلة والسبب ، ولا يجب في العلة أن تكون غرضاً ، ألا ترى إلى قولك : خرجت من البلد لمخافة الشر ، فقد جعلت المخافة علة لخروجك وما هي بغرضك . { مَثَلاً } تمييز لهذا ، أو حال منه ، كقوله : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً } [ هود : 64 ] ، فإن قلت : لم سموه مثلا؟ قلت : هو استعارة من المثل المضروب . لأنه مما غرب من الكلام وبدع ، استغراباً منهم لهذا العدد واستبداعاً له . والمعنى : أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب ، وأي غرض قصد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين سواء ، ومرادهم إنكاره من أصله ، وأنه ليس من عند الله ، وأنه لو كان من عند الله لما جاء بهذا العدد الناقص . الكاف في { كَذَلِكَ } نصب ، وذلك : إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى ، أي : مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى يضل الكافرين ويهدي المؤمنين ، يعني : يفعل فعلا حسناً مبنياً على الحكمة والصواب ، فيراه المؤمنون حكمة ويذعنون له لاعتقادهم أن أفعال الله كلها حسنة وحكمة فيزيدهم إيماناً ، وينكره الكافرون ويشكون فيه فيزيدهم كفراً وضلالا { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ } وما عليه كل جند من العدد الخاص من كون بعضها على عقد كامل وبعضها على عدد ناقص ، وما في اختصاص كل جند بعدده من الحكمة { إِلاَّ هُوَ } ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك كما لا يعرف الحكمة في أعداد السموات والأرضين وأيام السنة والشهور والبروج والكواكب وأعداد النصب والحدود والكفارات والصلوات في الشريعة أو : وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو ، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها وهو يعلمها . وقيل : هو جواب لقول أبي جهل : أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر ، { وما جعلنا أصحاب النار - إلى قوله - إلا هو } : اعتراض . وقوله : { وَمَا هِىَ إِلاَّ ذكرى } متصل بوصف سقر وهي ضميرها أي : وما سقر وصفتها إلا تذكرة { لِلْبَشَرِ } أو ضمير الآيات التي ذكرت فيها .
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
{ كَلاَّ } إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى ، لأنهم لا يتذكرون ، أو ردع لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيراً . و ( دبر ) بمعنى أدبر ، كقبل بمعنى أقبل . ومنه صاروا كأمس الدابر . وقيل : هو من دبر الليل النهار إذا خلفه . وقرىء «إذ أدبر» { إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر } جواب القسم أو تعليل لكلا ، والقسم معترض للتوكيد . والكبر : جمع الكبرى ، جعلت ألف التأنيث كتائها ، فلما جمعت فعلة على فعل : جمعت فعلى عليها ، ونظير ذلك : السوافي في جمع السافياء . والقواصع في جمع القاصعاء ، كأنها جمع فاعلة ، أي : لإحدى البلايا أو الدواهي الكبر ، ومعنى كونها إحداهنّ : أنها من بينهن واحدة في العظم لا نظيرة لها . كما تقول : هو أحد الرجال ، وهي إحدى النساء و { نَذِيراً } تمييز من إحدى ، على معنى : إنها لإحدى الدواهي إنذاراً ، كما تقول : هي إحدى النساء عفافاً . وقيل هي حال . وقيل : هو متصل بأوّل السورة ، يعني : قم نذيراً ، وهو من بدع التفاسير . وفي قراءة أبي «نذير» بالرفع خبر بعد خبر «لأن» أو بحذف المبتدأ { أَن يَتَقَدَّمَ } في موضع الرفع بالابتداء . ولمن شاء : خبر مقدّم عليه ، كقولك : لمن توضأ أن يصلي؛ ومعناه مطلق لمن شاء التقدّم أو التأخر أن يتقدّم أو يتأخر ، والمراد بالتقدّم والتأخر : السبق إلى الخير والتخلف عنه : وهو كقوله : { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] ، ويجوز أن يكون { لِمَن شَآءَ } بدلاً من { لّلْبَشَرِ } على أنها منذرة للمكلفين الممكنين : الذين إن شاؤا تقدّموا ففازوا وإن شاؤا تأخروا فهلكوا .
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
{ رَهِينَةٌ } ليست بتأنيث رهين في قوله : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } [ الطور : 21 ] ، لتأنيث النفس؛ لأنه لو قصدت الصفة لقيل : رهين؛ لأنّ فعيلاً بمعنى مفعول يستوى فيه المذكر والمؤنث ، وإنما هي اسم بمعنى الرهن ، كالشتيمة بمعنى الشتم ، كأنه قيل : كل نفس بما كسبت رهن ، ومنه بيت الحماسة :
أبَعْدَ الَّذيِ بِالنَّعْفِ نَعْفِ كُوَيكِبٍ ... رَهِينَةِ رَمْس ذِي تُرَابٍ وَجَنْدَلِ
كأنه قال : رهن رمس . والمعنى : كل نفس رهن بكسبها عند بكسبها عند الله غير مفكوك { إِلاَّ أصحاب اليمين } فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم ، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق . وعن علي رضي الله عنه أنه فسر أصحاب اليمين بالأطفال ، لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها . وعن ابن عباس رضي الله عنه : هم الملائكة { فِى جنات } أي هم في جنات لا يكتنه وصفها { يَتَسَاءلُونَ عَنِ المجرمين } يسأل بعضهم بعضاً عنهم . أو يتساءلون غيرهم عنهم ، كقولك : دعوته وتداعيناه . فإن قلت : كيف طابق قوله { مَا سَلَكَكُمْ } وهو سؤال للمجرمين : قوله : { يَتَسَاءلُونَ عَنِ المجرمين } وهو سؤال عنهم؟ وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل : يتساءلون المجرمين ماسلككم قلت : ماسلككم ليس ببيان للتساؤل عنهم ، وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم؛ لأنّ المسؤلين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين ، فيقولون : قلنا لهم { ماسلككم فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار ، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه الخوض : الشروع في الباطل وما لا ينبغي فإن قلت : لم يسألونهم وهم عالمون بذلك قلت : توبيخا لهم وتحسيراً ، وليكون حكاية الله ذلك في كتابه تذكرة للسامعين . وقد عضد بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالأطفال : أنهم إنما سألوهم لأنهم ولدان لا يعرفون موجب دخول النار . فإن قلت : أيريدون أنّ كل واحد منهم بمجموع هذه الأربع دخل النار ، أم دخلها بعضهم بهذه وبعضهم بهذه؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعاً . فإن قلت : لم أخر التكذيب وهو أعظمها؟ قلت : أرادوا أنهم بعد ذلك كله كانوا مكذبين بيوم الدين تعظيماً للتكذيب . كقوله { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } [ البلد : 17 ] ، و { اليقين } الموت ومقدماته ، أي : لو شفع لهم الشافعون جميعاً من الملائكة والنبيين وغيرهم؛ لم تنفعهم شفاعتهم : لأنّ الشفاعة لمن ارتضاه الله وهم مسخوط عليهم . وفيه دليل على أنّ الشفاعة تنفع يومئذ؛ لأنها تزيد في درجات المرتضين .
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
{ عَنِ التذكرة } عن التذكير وهو العظة ، يريد : القرآن أو غيره من المواعظ و { مُعْرِضِينَ } نصب على الحال ، كقولك : مالك قائماً «والمستنفرة» الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له وحملها عليه . وقرىء بالفتح : وهي المنفرة المحمولة على النفار : والقسورة : جماعة الرماة الذين يتصيدونها . وقيل : الأسد يقال : ليوث قساور وهي فعولة من القسر : وهو القهر والغلبة ، وفي وزنه «الحيدرة» من أسماء الأسد . وعن ابن عباس : ركز الناس وأصواتهم . وعن عكرمة : ظلمة الليل ، شبههم في إعراضهم عن القرآن واستماع الذكر والموعظة وشرادهم عنه ، بحمر جدّت في نفارها مما أفزعها . وفي تشبيههم بالحمر : مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بيّن . كما في قوله : { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] ، وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل . ولا ترى مثل نفار حمير الوحش واطرادها في العدو إذا رأبها رائب؛ ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل وشدّة سيرها بالحمر ، وعدوها إذا وردت ماء فأحست عليه بقانص { صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها أو كتباً كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشرة على أيديها غضة رطبة لم تطو بعد؛ وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من رب العالمين إلى فلان بن فلان ، نؤمر فيها باتباعك ونحوه قوله : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءهُ } [ الإسراء : 93 ] ، وقال : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتابا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ . . . } الآية [ الأنعام : 7 ] . وقيل : قالوا إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءته وأمنه من النار . وقيل : كانوا يقولون : بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوباً على رأسه ذنبه وكفارته ، فأتنا بمثل ذلك؛ وهذا من الصحف المنشرة بمعزل . إلا أن يراد بالصحف المنشرة : الكتابات الظاهرة المكشوفة . وقرأ سعيد بن جبير : «صحفا منشرة» بتخفيفهما ، على أن أنشر الصحف ونشرها : واحد ، كأنزله ونزله . ردعهم بقوله { كَلاَّ } عن تلك الإرادة ، وزجرهم عن اقتراح الآيات ، ثم قال : { بَل لاَّ يَخَافُونَ الأخرة } فلذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف ، ثم ردعهم عن إعراضهم عن التذكرة وقال : { إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } يعني تذكرة بليغة كافية ، مبهم أمرها في الكفاية { فَمَن شَآءَ } أن يذكره ولا ينساه ويجعله عينه فعل ، فإنّ نفع ذلك راجع إليه . والضمير في { إِنَّهُ } و { ذَكَرَهُ } للتذكرة في قوله { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وإنما ذكر لأنها في معنى الذكر أو القرآن { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله } يعني : إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه . لأنهم مطبوع على قلوبهم . معلوم أنهم لا يؤمنون اختياراً { هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } هو حقيق بأن يتقيه عباده ، ويخافوا عقابه ، فيؤمنوا ويطيعوا ، وحقيق بأن يغفر لهم إذا آمنوا وأطاعوا وروى أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1252 ) " هو أهل أن يتقي ، وأهل أن يغفر لمن اتقاه " وقرىء «يذكرون» بالياء والتاء مخففاً ومشدداً .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1253 ) " من قرأ سورة المدثر أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وكذب به بمكة " .
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)
إدخال «لا» النافية على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس :
لاَ وَأَبِيك ابْنَةَ الْعَامِرِيّ ... لاَ يَدَّعِى الْقَوْمُ أَنِّي أفِرّ
وقال غوثة بن سلمى :
أَلاَ نَادَتْ أُمَامَةُ بِاحْتِمالِ ... لِتَخْزُنَني فَلاَ بِكِ ما أُبَالِي
وفائدتها توكيد القسم ، وقالوا إنها صلة مثلها في { لئلا يعلم أهل الكتاب } [ الحديد : 29 ] وفي قوله :
في بئْرِ لاحورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ ... اعترضوا عليه بأنها إنما تزاد في وسط الكلام لا في أوّله ، وأجابوا بأنّ القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض ، والاعتراض صحيح؛ لأنها لم تقع مزيدة إلا في وسط الكلام ، ولكن الجواب غير سديد . ألا ترى إلى امرىء القيس كيف زادها في مستهل قصيدته . والوجه أن يقال : هي للنفي . والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له يدلك عليه قوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم ( 75 ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( 76 ) } [ الواقعة : 75 - 76 ] ، فكأنه بإدخال حرف النفي يقول : إنّ إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام؛ يعني أنه يستأهل فوق ذلك . وقيل إن «لا» نفي لكلام وردّ له قبل القسم ، كأنهم أنكروا البعث فقيل : لا ، أي ليس الأمر على ما ذكرتم ، ثم قيل : أقسم بيوم القيامة . فإن قلت : قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ النساء : 65 ] والأبيات التي أنشدتها : المقسم عليه فيها منفي ، فهلا زعمت أنّ «لا» التي قبل القسم زيدت موطئة للنفي بعده ومؤكدة له ، وقدّرت المقسم عليه المحذوف ههنا منفياً ، كقوله : { لآ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة ( 1 ) } ، لا تتركون سدى؟ قلت : لو قصر الأمر على النفي دون الإثبات لكان لهذا القول مساغ ، ولكنه لم يقصر . ألا ترى كيف لقي { لا أُقْسِمُ بهذا البلد } [ البلد : 1 ] ، بقوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } [ التين : 4 ] ، وكذلك { فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] ، بقوله : ( إنه لقرآن كريم ) وقرىء : «لأقسم» على أنّ اللام للابتداء . وأقسم خبر مبتدأ محذوف ، معناه : لأنا أقسم . قالوا : ويعضده أنه في الإمام بغير ألف { بالنفس اللوامة } بالنفس المتقية التي تلوم النفوس فيه أي في يوم القيامة على تقصيرهن في التقوى أو بالتي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الإحسان . وعن الحسن : إن المؤمن لا تراه إلا لائماً نفسه ، وإنّ الكافر يمضي قدما لا يعاتب نفسه . وقيل : هي التي تتلوّم يومئذ على ترك الازدياد إن كانت محسنة . وعلى التفريط إن كانت مسيئة . وقيل : هي نفس آدم ، لم تزل تتلوّم على فعلها الذي خرجت به من الجنة . وجواب القسم ما دل عليه قوله { أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } وهو لتبعثن . وقرأ قتادة : «أن لن تُجمِع عظامه» ، على البناء للمفعول . والمعنى : نجمعها بعد تفرّقها ورجوعها رميماً ورفاتا مختلطاً بالتراب ، وبعدما سفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض .
وقيل إن عدّي ابن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهما :
( 1254 ) " اللهم اكفني جاري السوء " قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره؟ فأخبره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن به أو يجمع الله العظام ، فنزلت { بلى } أوجبت ما بعد النفي وهو الجمع ، فكأنه قيل { بلى } نجمعها و { قادرين } حال من الضمير في نجمع ، أي : نجمع العظام قادرين على تأليف جميعها وإعادتها إلى التركيب الأوّل إلى أن نسوّي بنانه أي : أصابعه التي هي أطرافه ، وآخر ما يتم به خلقه . أو على أن نسوي بنانه ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولاً من غير نقصان ولا تفاوت ، فكيف بكبار العظام . وقيل : معناه بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوي أصابع يديه ورجليه ، أي نجعلها مستوية شيئاً واحداً كخف البعير وحافر الحمار لا نفرق بينها ، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاً مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال ، والبسط والقبض ، والتأتي لما يريد من الحوائج . وقرىء «قادرون» أي : نحن قادرون ، { بَلْ يُرِيدُ } عطف على { أَيَحْسَبُ } فيجوز أن يكون مثله استفهاماً ، وأن يكون إيجاباً على أن يضرب عن مستفهم عنه إلى آخر . أو يضرب عن مستفهم عنه إلى موجب { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : يقدم الذنب ويؤخر التوبة . يقول : سوف أتوب ، سوف أتوب : حتى يأتيه الموت على شرّ أحواله وأسوأ أعماله { يَسْئَلُ } سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة في قوله { أَيَّانَ يَوْمُ القيامة } ونحوه : ويقولون متى هذا الوعد .
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
{ بَرِقَ البصر } تحير فزعا؛ وأصله من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره . وقرىء : «برق» من البريق ، أي لمع من شدة شخوصه . وقرأ أبو السمال «بلق» إذا انفتح وانفرج . يقال : بلق الباب وأبلقته وبلقته : فتحته { وَخَسَفَ القمر ( 8 ) } وذهب ضوؤه ، أو ذهب بنفسه . وقرىء : «وخسف» على البناء للمفعول { وَجُمِعَ الشمس والقمر ( 9 ) } حيث يطلعهما الله من المغرب . وقيل : وجمعا في ذهاب الضوء وقيل : يجمعان أسودين مكوّرين كأنهما ثوران عقيران في النار . وقيل يجمعان ثم يقذفان في البحر ، فيكون نار الله الكبرى { المفر } بالفتح المصدر؛ وبالكسر : المكان . ويجوز أن يكون مصدراً كالمرجع . وقرىء بهما { كَلاَّ } ردع عن طلب المفرّ { لاَ وزر } لا ملجأ ، وكل ما التجأت إليه من جبل أو غيره وتخلصت به فهو وزرك { إلى رَبِّكَ } خاصة { يَوْمَئِذٍ } مستقرّ العباد ، أي استقرارهم . يعني : أنهم لا يقدرون أن يستقرّوا إلى غيره وينصبوا إليه أو إلى حكمه ترجع أمور العباد ، لا يحكم فيها غيره ، كقوله : { لّمَنِ الملك اليوم } [ غافر : 16 ] ، أو إلى ربك مستقرّهم ، أي : موضع قرارهم من جنة أو نار ، أي : مفوّض ذلك إلى مشيئته ، من شاء أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار { بِمَا قَدَّمَ } من عمل عمله { و } بما { أَخَّرَ } منه لم يعمله أو بما قدم من ماله فتصدق به ، وبما أخره فخلفه . أو بما قدم من عمل الخير والشر ، وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة فعمل بها بعده . وعن مجاهد : بأوّل عمله وآخره . ونحوه : فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه { بَصِيرَةٌ } حجة بينة وصفت بالبصارة على المجاز ، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله : { فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءاياتنا مُبْصِرَةً } [ النمل : 13 ] أو عين بصيرة . والمعنى أنه ينبأ بأعماله وإن لم ينبأ ، ففيه ما يجزىء عن الإنباء؛ لأنه شاهد عليها بما عملت؛ لأنّ جوارحه تنطق بذلك { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] ، { وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه ويجادل عنها . وعن الضحاك : ولو أرخى ستوره ، وقال : المعاذير الستور ، واحدها معذار ، فإن صح فلأنه يمنع رؤية المحتجب ، كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب . فإن قلت : أليس قياس المعذرة أن تجمع معاذر لا معاذير؟ قلت : المعاذير ليس بجمع معذرة ، إنما هو اسم جمع لها ، ونحوه : المناكير في المنكر .
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
الضمير في { بِهِ } للقرآن . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقن الوحي نازع جبريل القراءة ، ولم يصبر إلى أن يتمها ، مسارعة إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه ، فأمر بأن يستنصت له ملقياً إليه بقلبه وسمعه ، حتى يقضى إليه وحيه ، ثم يقفيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه . والمعنى : لا تحرّك لسانك بقراءة الوحي ما دام جبريل صلوات الله عليه يقرأ { لِتَعْجَلَ بِهِ } لتأخذه على عجلة ، ولئلا يتفلت منك . ثم علل النهي عن العجلة بقوله { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } في صدرك وإثبات قراءته في لسانك { فَإِذَا قرأناه } جعل قراءة جبريل قراءته : والقرآن القراءة { فاتبع قُرْءَانَهُ } فكن مقفياً له فيه ولا تراسله ، وطأمن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ ، فنحن في ضمان تحفيظه { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } إذا أشكل عليك شيء من معانيه ، كأنه كان يعجل في الحفظ والسؤال عن المعنى جميعاً ، كما ترى بعض الحراص على العلم؛ ونحوه { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] ، { كَلاَّ } ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة وإنكار لها عليه ، وحثّ على الأناة والتؤدة ، وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله : { بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة } كأنه قال : بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ، ومن ثم تحبون العاجلة { وَتَذَرُونَ الأخرة } وقرىء بالياء وهو أبلغ فإن قلت : كيف اتصل قوله { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } إلى آخره ، بذكر القيامة؟ قلت : اتصاله به من جهة هذا للتخلص منه ، إلى التوبيخ بحب العاجلة ، وترك الأهتمام بالآخرة . الوجه : عبارة عن الجملة والناضرة من نضرة النعيم { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } تنظر إلى ربها خاصة لا تنظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم المفعول ، ألا ترى إلى قوله : { إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر ( 12 ) } [ القيامة : 12 ] ، { إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق ( 30 ) } ، { إِلَى الله تَصِيرُ الامور } [ الشورى : 53 ] ، { وإلى الله المصير } [ آل عمران : 28 ] ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 245 ] ، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [ هود : 88 ] ، كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص ، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم ، فإنّ المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظوراً إليه : محال ، فوجب حمله على معنى يصح معه الاختصاص ، والذي يصح معه أن يكون من قول الناس : أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ، تريد معنى التوقع والرجاء . ومنه قول القائل :
وَإذَا نَطَرْتُ إلَيْكَ مِنْ ملك ... وَالْبَحْرُ دُونَكَ زِدْتَني نِعَمَا
وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ، ويأوون إلى مقائلهم ، تقول : عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم ، والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم ، كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلا إياه ، والباسر : الشديد العبوس ، والباسل : أشد منه ، ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحه { تَظُنُّ } تتوقع أن يفعل بها فعل هو في شدّته وفظاعته { فَاقِرَةٌ } داهية تقصم فقار الظهر ، كما توقعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كل خير .
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)
{ كَلاَّ } ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة ، كأنه قيل : ارتدعوا عن ذلك ، وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم ، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين . والضمير في { بَلَغَتِ } للنفس وإن لم يجر لها ذكر ، لأنّ الكلام الذي وقعت فيه يدل عليها ، كما قال حاتم :
أَمَاوِيَّ مَا يُغْني الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى ... إذَا حَشْرَجَتْ يَوْماً وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
وتقول العرب : أرسلت ، يريدون : جاء المطر ، ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء { التراقى } العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال . ذكرهم صعوبة الموت الذي هو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح التراقي ودنا زهوقها : وقال حاضروا صاحبها - وهو المحتضر - بعضهم لبعض { مَنْ رَاقٍ } أيكم يرقيه مما به؟ وقيل : هو كلام ملائكة الموت : أيكم يرقى بروحه؟ ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ { وَظَنَّ } المحتضر { أَنَّهُ الفراق } أنّ هذا الذي نزل به هو فراق الدنيا المحبوبة { والتفت } ساقه بساقه والتوت عليها عند علز الموت . وعن قتادة : ماتت رجلاه فلا تحملانه ، وقد كان عليهما جوّالاً . وقيل : شدّة فراق الدنيا بشدّة إقبال الآخرة ، على أن الساق مثل في الشدّة . وعن سعيد بن المسيب : هما ساقاه حين تلفان في أكفانه { المساق } أي يساق إلى الله وإلى حكمه .
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)
{ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى ( 31 ) } يعني الإنسان في قوله : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } [ القيامة : 3 ] ألا ترى إلى قوله : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى } [ القيامة : 36 ] ، وهو معطوف على { يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة } [ القيامة : 6 ] أي : لا يؤمن بالبعث ، فلا صدق بالرسول والقرآن . ولا صلى ويجوز أن يراد : فلا صدق ماله ، بمعنى : فلا زكاة . وقيل : نزلت في أبي جهل { يتمطى } يتبختر . وأصله يتمطط ، أي : يتمدد ، لأن المتبختر يمدّ خطاه . وقيل : هو من المطا وهو الظهر ، لأنه يلويه . وفي الحديث :
( 1255 ) « إذا مشت أمتى المطيطاء وخدمتهم فارس والروم فقد جعل بأسهم بينهم » يعني : كذب برسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى عنه وأعرض ، ثم ذهب إلى قومه يتبختر افتخاراً بذلك { أولى لَكَ } بمعنى ويل لك ، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره .
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
{ فَخَلَقَ } فقدر { فسوى } فعدل { مِنْهُ } من الإنسان { الزوجين } الصنفين { أَلَيْسَ ذَلِكَ } الذي أنشأ هذا الإنشاء { بقادر } على الإعادة . وروي :
( 1256 ) أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال « سبحانك بلى »
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1257 ) « من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أنه كان مؤمناً بيوم القيامة » .
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
هل بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة ، والأصل : أهل ، بدليل قوله :
أَهَلْ رَأَوْنَا بِسَفْعِ الْقَاعِ ذِي الأكمِ ... فالمعنى : أقد أتى؟ على التقرير والتقريب جميعاً ، أي : أتى على الإنسان قبل زمان قريب { حِينٌ مّنَ الدهر لَمْ يَكُن } فيه { شَيْئاً مَّذْكُوراً } أي كان شيئاً منسياً غير مذكور نطفة في الأصلاب والمراد بالإنسان : جنس بني آدم ، بدليل قوله : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ } [ الإنسان : 2 ] ؟ { حين منالدهر } طائفة من الزمن الطويل الممتد فإن قلت : ما محل { لم يكن شيئاً مذكوراً } قلت : محله النصب على الحال من الإنسان ، كأنه قيل : هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور . أو الرفع على الوصف لحين ، كقوله : { يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } [ لقمان : 33 ] ، وعن بعضهم : أنها تليت عنده فقال : ليتها تمت ، أراد : ليت تلك الحالة تمت ، وهي كونه شيئاً غير مذكور ولم يخلق ولم يكلف .
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
{ نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } كبرمة أعشار ، وبرد أكياش : وهي ألفاظ مفردة غير جموع ، ولذلك وقعت صفات للأفراد . ويقال أيضاً : نطفة مشج ، قال الشماخ :
طَوَتْ أَحْشَاءُ مُرْتَجَةٍ لِوَقْتٍ ... عَلَى مَشَجٍ سُلاَلَتُهُ مَهِينُ
ولا يصحّ أمشاج أن يكون تكسيراً له ، بل هما مثلان في الإفراد ، لوصف المفرد بهما . ومشجه ومزجه : بمعنى . والمعنى من نطفة قد امتزج فيها الماءان . وعن ابن مسعود : هي عروق النطفة . وعن قتادة : أمشاج ألوان وأطوار ، يريد : أنها تكون نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة { نَّبْتَلِيهِ } في موضع الحال ، أي : خلقناه مبتلين له ، بمعنى : مريدين ابتلاءه ، كقولك : مررت برجل معه صقر صائداً به غداً ، تريد : قاصداً به الصيد غداً . ويجوز أن يراد : ناقلين له من حال إلى حال ، فسمي ذلك ابتلاء على طريق الاستعارة . وعن ابن عباس : نصرّفه في بطن أمّه نطفة ثم علقة . وقيل : هو في تقدير التأخير ، يعني : فجعلناه سميعاً بصيراً لنبتليه ، وهو من التعسف .
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
شاكراً وكفوراً : حالان من الهاء في هديناه ، أي : مكناه وأقدرناه في حالتيه جميعاً . أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل «السمع» كان معلوماً منه أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة . ويجوز أن يكونا حالين من السبيل ، أي : عرّفناه السبيل إما سبيلاً شاكراً وإما سبيلاً كفوراً كقوله : { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز . وقرأ أبو السّمّال بفتح الهمزة في ( أما ) وهي قراءة حسنة والمعنى : أما شاكراً فبتوفيقنا ، وأما كفوراً فبسوء اختياره .
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)
ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد . وقرىء «سلاسل» غير منوّن . «وسلاسلا» ، بالتنوين . وفيه وجهان : أحدهما أن تكون هذه النون بدلا من حرف الإطلاق ، ويجري الوصل مجرى الوقف . والثاني : أن يكون صاحب القراءة به ممن ضري برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف .
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
{ الأبرار } جمع برّ أو بارّ ، كرب وأرباب ، وشاهد وأشهاد . وعن الحسن : هم الذين لا يؤذون الذرّ والكأس : الزجاجة إذا كانت فيها خمر ، وتسمى الخمر نفسها : كأساً { مِزَاجُهَا } ما تمزج به { كَافُوراً } ماء كافور ، وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده . و { عَيْناً } بدل منه . وعن قتادة : تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك . وقيل : تخلق فيها رائحة الكافور وبياضه وبرده ، فكأنها مزجت بالكافور . و { عَيْناً } على هذين القولين : بدل من محل { مِن كَأْسٍ } على تقدير حذف مضاف ، كأنه قيل : يشربون فيها خمراً خمر عين . أو نصب على الاختصاص . فإن قلت : لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أوّلاً ، وبحرف الإلصاق آخراً؟ قلت : لأنّ الكأس مبدأ شربهم وأوّل غايته؛ وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكان المعنى : يشرب عباد الله بها الخمر ، كما تقول : شربت الماء بالعسل { يُفَجّرُونَهَا } يجرونها حيث شاؤا من منازلهم { تَفْجِيرًا } سهلا لا يمتنع عليهم { يُوفُونَ } جواب من عسى ، يقول : ما لهم يرزقون ذلك ، والوفاء بالنذر مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات؛ لأنّ من وفى بما أوجبه هو على نفسه لوجه الله كان بما أوجبه الله عليه أوفى { مُسْتَطِيراً } فاشياً منتشراً بالغاً أقصى المبالغ ، من استطار الحريق ، واستطار الفجر . وهو من طار ، بمنزلة استنفر من نفر { على حُبِّهِ } الضمير للطعام ، أي : مع اشتهائه والحاجة إليه . ونحوه { وآتى المال على حبه } [ البقرة : 177 ] ، { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] ، وعن الفضيل بن عياض : على حب الله { وَأَسِيراً } عن الحسن : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول : أحسن إليه؛ فيكون عنده اليومين والثلاثة ، فيؤثره على نفسه . وعند عامة العلماء : يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات وعن قتادة : كان أسيرهم يومئذ المشرك ، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه . وعن سعيد بن جبير وعطاء : هو الأسير من أهل القبلة ، وعن أبي سعيد الخدري : هو المملوك والمسجون . وسمى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الغريم أسيراً ، فقال « غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك » { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ } على إرادة القول . ويجوز أن يكون قولا باللسان منعاً لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر؛ لأن إحسانهم مفعول لوجه الله؛ فلا معنى لمكافأة الخلق . وأن يكون قولهم لهم لطفاً وتفقيها وتنبيهاً ، على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله . وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ، ثم تسأل الرسول ما قالوا؟ فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصاً عند الله .
ويجوز أن يكون ذلك بياناً وكشفاً عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئاً . وعن مجاهد : أما إنهم ما تكلموا به ، ولكن علمه الله منهم فأثنى عليهم . والشكور والكفور : مصدران كالشكر والكفر { إِنَّا نَخَافُ } يحتمل أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم ، لا لإرادة مكافأتكم؛ وإنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدقة . ووصف اليوم بالعبوس . مجاز على طريقين : أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء ، كقولهم : نهارك صائم : روي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران ، وأن يشبه في شدته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل : والقمطرير : الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه . قال الزجاج : يقال : اقمطرت الناقة : إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزمت بأنفها فاشتقه من القطر وجعل الميم مزيدة . قال أسد بن ناعصة .
واصطليت الْحُرُوبَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ... بَاسِلَ الشَّرِّ قَمْطَرِيرَ الصَّبَاحِ
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
{ ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً } أي : أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسروراً في القلوب ، وهذا يدل على أنّ اليوم موصوف بعبوس أهله { بِمَا صَبَرُواْ } بصبرهم على الإيثار . وعن ابن عباس رضي الله عنه :
( 1258 ) أنّ الحسن والحسين مرضا ، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه؛ فقالوا : يا أبا الحسن ، لو نذرت على ولدك ، فنذر عليّ وفاطمة وفضة جارية لهما إن برآ مما بهما : أن يصوموا ثلاثة أيام ، فشفيا وما معهم شيء ، فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء ، وأصبحوا صياماً؛ فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم ، فآثروه؛ ووقف عليهم أسير في الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك؛ فلما أصبحوا أخد علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال : ماأشد ما يسوءني ما أرى بكم ، وقام فانطلق ، معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها . فساءه ذلك ، فنزل جبريل وقال : خذها يا محمد هنأك اللَّه في أهل بيتك فأقرأه السورة . فإن قلت : ما معنى ذكر الحرير مع الجنة؟ قلت : المعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدّي إليه من الجوع والعرى بستانا فيه مأكل هنيّ ، «وحريراً» فيه ملبس بهيّ . يعني : أن هواءها معتدل ، لا حرّ شمس يحمي ولا شدّة برد تؤذي . وفي الحديث : " هواء الجنة سجسج ، لا حرّ ولا قرّ " وقيل : الزمهرير القمر . وعن ثعلب : أنه في لغة طيىء . وأنشد :
وَلَيْلَةٍ ظَلاَمُهَا قَدِ اعتَكَرْ ... قَطَعْتُهَا وَالزَّمْهَرِيرُ مَا زَهَرْ
والمعنى : أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها شمس وقمر . فإن قلت : { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها } علام عطفت؟ قلت : على الجملة التي قبلها؛ لأنها في موضع الحال من المجزيين؛ وهذه حال مثلها عنهم لرجوع الضمير منها إليهم في عليهم ، إلا أنها اسم مفرد ، وتلك جملة في حكم مفرد تقديره : غير رائين فيها شمساً ولا زمهريراً ، ودانية عليهم ظلالها؛ ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم ، كأنه قيل : وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحرّ والقرّ ودنوّ الظلال عليهم وقرىء «ودانية» بالرفع ، على أن ظلالها مبتدأ ، ودانية خبر ، والجملة في موضع الحال؛ والمعنى : لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ، والحال أن ظلالها دانية عليهم؛ ويجوز أن تجعل { مُتَّكِئِينَ } و { لاَ يَرَوْنَ } و { ودَانِيَةً } كلها صفات لجنة .
ويجوز أن يكون { وَدَانِيَةً } معطوفة على جنة ، أي : وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها ، على أنها وعدوا جنتين ، كقوله { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] ، لأنهم وصفوا بالخوف : { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا } [ الإنسان : 10 ] ، فإن قلت : فعلام عطف { وَذُلِّلَتْ } ؟ قلت : هي - إذا رفعت { وَدَانِيَةً } - جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية ، وإذا نصبتها على الحال ، فهي حال من دانية ، أي : تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم . أو معطوفة عليها على : ودانية عليهم ظلالها ، ومذللة قطوفها؛ وإذا نصبت { وَدَانِيَةً } على الوصف ، فهي صفة مثلها؛ ألا ترى أنك لو قلت : جنة ذللت قطوفها : كان صحيحاً؛ وتذليل القطوف : أن تجعل ذللا لا تمتنع على قطافها كيف شاؤا . أو تجعل ذليلة لهم خاضعة متقاصرة ، من قولهم : حائط ذليل إذا كان قصيراً { قَوارِيرَ قَوارِيرَ } قرئا غير منونين ، وبتنوين الأول ، ، وبتنوينهما . وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق ، لأنه فاصلة؛ وفي الثاني لإتباعه الأوّل ، ومعنى قوارير من { فِضَّةٍ } أنها مخلوقة من فضة ، وهي مع بياض الفضة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفها . فإن قلت : ما معنى { كانت } ؟ قلت هو من - يكون - في قوله : { كُنْ فَيَكُونُ } [ البقرة : 117 ] أي : تكوّنت قوارير ، بتكون الله تفخيماً لتلك الخلقة العجيبة الشأن ، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين . ومنه كان في قوله : { كان مزاجها كافوراً } . وقرىء «قوارير من فضة» بالرفع على : هي قوارير { قَدَّرُوهَا } صفة لقوارير من فضة . ومعنى تقديرهم لها : أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم ، فجاءت كما قدّروا . وقيل : الضمير للطائفين بها ، دل عليهم قوله : { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ } [ الإنسان : 15 ] ، على أنهم قدروا شرابها على قدر الرّي ، وهو ألذ للشارب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ولا يعجز . وعن مجاهد : لا تفيض ولا تغيض . وقرىء : «قدّروها» على البناء للمفعول . ووجهه أن يكون من قدر ، منقولا من قدر . تقول : قدرت الشيء وقدرنيه فلان : إذا جعلك قادراً له . ومعناه : جعلوا قادرين له كما شاؤا . وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا ، سميت العين زنجبيلاً لطعم الزنجبيل فيها ، والعرب تستلذه وتستطيبه .
قال الأعشى :
كَأَنَّ الْقَرَنْفُلَ وَالزَّنْجَبِيلَ ... بَاتَا بِفِيهَا وَأَرْياً مَشُورَا
وقال المسيب بن علس .
وَكَأَنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبِيلِ بِه ... إذْ ذُقْتُهُ وَسُلاَفَةَ الْخَمْرِ
و { سَلْسَبِيلاً } لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها ، يعني : أنها في طعم الزنجبيل وليس فيها لذعه ، ولكن نقيض اللذع وهو السلاسة . يقال : شراب سلسل وسلسال وسلسبيل ، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية . ودلت على غاية السلاسة . قال الزجاج : السلسبيل في اللغة : صفة لماكان في غاية السلاسة . وقرىء «سلسبيل» على منع الصرف ، لاجتماع العلمية والتأنيث : وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن معناه سل سبيلا إليها ، وهذا غير مستقيم على ظاهره .
إلا أن يراد أن جملة قول القائل : سل سبيلاً ، جعلت علما للعين ، كما قيل : تأبط شراً؛ وذرّى حباً؛ وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلاً بالعمل الصالح ، وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع؛ وعزوُه إلى مثل علي رضي الله عنه أبدع وفي شعر بعض المحدثين :
سَلْ سَبِيلاً فِيهَا إلَى رَاحَةِ النَّفْ ... سِ بِرَاحٍ كَأَنَّهَا سَلْسَبِيلُ
و { عَيْناً } بدل من { زَنجَبِيلاً } وقيل : تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه . أو يخلق الله طعمه فيها . و { عَيْناً } على هذا القول : مبدلة من { كَأْساً } كأنه قيل : ويسقون فيها كأساً كأس عين . أو منصوبة على الاختصاص . شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم باللؤلؤ المنثور وعن المأمون : أنه ليلة زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساط منسوج من ذهب وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ . فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط ، فاستحسن المنظر وقال : لله درّ أبي نواس ، وكأنه أبصر هذا حيث يقول :
كَأَنَّ صُغْرَى وَكُبْرَى مِنْ فَوَاقِعِهَا ... حَصْبَاءُ دُرٍّ عَلَى أَرْضٍ مِنَ الذَّهَبِ
وقيل : شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه ، لأنه أحسن وأكثر ماء { رَأَيْتَ } ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع ويعم ، كأنه قيل : وإذا أوجدت الرؤية ، ثم ومعناه : أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير و { ثَمَّ } في موضع النصب على الظرف ، يعني في الجنة ومن قال : معناه : «ما ثم» فقد أخطأ ، لأن «ثم» صلة لما ، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة { كَبِيراً } واسعاً وهنيئاً . يروى : أن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه . وقيل لا زوال له . وقيل : إذا أرادوا شيأ كان . وقيل : يسلم عليهم الملائكة ويستأذنون عليهم قرىء «عاليهم» بالسكون ، على أنه مبتدأ خبره { ثِيَابُ سُندُسٍ } أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس . وعاليهم بالنصب ، على أنه حال من الضمير في { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ } أو في { حَسِبْتَهُمْ } أي يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثياب . أو حسبتهم لؤلؤاً عالياً لهم ثياب . ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب . وعاليتهم : بالرفع والنصب على ذلك . وعليهم . وخضر وإستبرق : بالرفع ، حملا على الثياب بالجرّ على السندس . وقرىء «وإستبرق» نصباً في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي ، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف؛ تقول : الإستبرق ، إلا أن يزعم ابن محيصن أنه قد يجعل علماً لهذا الضرب من الثياب . وقرىء «واستبرق» ، بوصل الهمزة والفتح : على أنه مسمى باستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضاً : لأنه معرب مشهور تعريبه ، وأنّ أصله : استبره { وحلوا } عطف على { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ } .
فإن قلت : ذكر ههنا أنّ أساورهم من فضة ، وفي موضع آخر أنها من ذهب . قلت : هب أنه قيل وحلوا أساور من ذهب ومن فضة ، وهذا صحيح لا إشكال فيه ، على أنهم يسورون بالجنسين : إما على المعاقبة ، وإما على الجمع ، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلي وتجمع بينها ، وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران : سوار من ذهب ، وسوار من فضة { شَرَاباً طَهُوراً } ليس برجس كخمر الدنيا؛ لأنّ كونها رجساً بالشرع لا بالعقل ، وليست الدار دار تكليف . أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة ، وتدوسه الأقدام الدنسة ، ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها . أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقاً من أبدانهم له ريح كريح المسك . أي : يقال لأهل الجنة { إِنَّ هذا } وهذا إشارة إلى ما تقدّم من عطاء الله لهم : ما جوزيتم به على أعمالكم وشكر به سعيكم ، والشكر مجاز .
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
تكرير الضمير بعد إيقاعه إسماً لانّ : تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل ، ليتقرّر في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله على أي وجه نزل إلا حكمة وصواباً ، كأنه قيل : ما نزّل عليك القرآن تنزيلاً مفرقاً منجماً إلا أنا لا غيري ، وقد عرفتني حكيماً فاعلاً لكل ما أفعله بدواعي الحكمة؛ ولقد دعتني حكمة بالغة إلى أن أنزل عليك الأمر بالمكافة والمصابرة ، وسأنزل عليك الأمر بالقتال والانتقام بعد حين { فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ } الصادر عن الحكمة وتعليقه الأمور بالمصالح ، وتأخيره نصرتك على أعدائك من أهل مكة؛ ولا تطع منهم أحداً قلة صبر منك على أذاهم وضجراً من تأخر الظفر ، وكانوا مع إفراطهم في العداوة والإيذاء له ولمن معه يدعونه إلى أن يرجع عن أمره ويبذلون له أموالهم وتزويج أكرم بناتهم إن أجابهم . فإن قلت : كانوا كلهم كفرة ، فما معنى القسمة في قوله { ءَاثِماً أوكَفُوراً } ؟ قلت : معناه ولا تطع منهم راكباً لما هو إثم داعياً لك إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعياً لك إليه؛ لأنهم إما أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر ، أو غير إثم ولا كفر ، فنهى أن يساعدهم على الاثنين دون الثالث . وقيل : الآثم عتبة؛ والكفور : الوليد؛ لأنّ عتبة كان ركاباً للمآثم ، متعاطياً لأنواع الفسوق؛ وكان الوليد غالباً في الكفر شديد الشكيمة في العتوّ . فإن قلت : معنى أو : ولا تطع أحدهما ، فهلا جيء بالواو ليكون نهياً عن طاعتهما جميعاً؟ قلت : لو قيل : ولا تطعهما ، جاز أن يطيع أحدهما؛ وإذا قيل : لا تطع أحدهما ، علم أنَّ الناهي عن طاعة أحدهما : عن طاعتهما جميعاً أنهى . كما إذا نهى أن يقول لأبويه : أف ، علم أنه منهي عن ضربهما على طريق الأولى { واذكر اسم رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } ودم على صلاة الفجر والعصر { وَمِنَ اليل فاسجد لَهُ } وبعض الليل فصل له . أو يعني صلاة المغرب والعشاء ، وأدخل ( من ) على الظرف للتبعيض ، كما دخل على المفعول في قوله : { يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح : 4 ] ، { وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } وتهجد له هزيعاً طويلا من الليل : ثلثيه ، أو نصفه ، أو ثلثه .
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
{ إِنَّ هاؤلآء } الكفرة { يُحِبُّونَ العاجلة } يؤثرونها على الآخرة ، كقوله : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا } [ الأعلى : 16 ] ، { وَرَآءَهُمْ } قدّامهم أو خلف ظهورهم لا يعبأون به { يَوْماً ثَقِيلاً } استعير الثقيل لشدّته وهولِه ، من الشيء الثقيل الباهظ لحامله . ونحوه : { ثَقُلَتْ فِى السموات والأرض } [ الأعراف : 187 ] ، الأسر : الربط والتوثيق . ومنه : أسر الرجل إذا أوثق بالقدّ وهو الإسار . وفرس مأسور الخلق . وترس مأسور بالعقب . والمعنى : شددنا توصيل عظامهم بعضها ببعض ، وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب . ومثله قولهم : جارية معصوبة الخلق ومجدولته { وَإِذَا شِئْنَا } أهلكناهم و { بَدَّلْنآ أمثالهم } في شدّة الأسر ، يعني : النشأة الأخرى . وقيل : معناه : بدلنا غيرهم ممن يطيع . وحقه أن يجيء بإن ، لا بإذا ، كقوله : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] ، { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } [ النساء : 133 ] .
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
{ هذه } إشارة إلى السورة أو إلى الآيات القريبة { فَمَن شَآءَ } فمن اختار الخير لنفسه وحسن العاقبة واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه والتوسل بالطاعة { وَمَا يشاؤن } الطاعة { إِلاَّ أَن يَشآءَ الله } بقسرهم عليها { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بأحوالهم وما يكون منهم { حَكِيماً } حيث خلقهم مع علمه بهم . وقرىء «تشاؤن» بالتاء . فإن قلت : ما محل ( أن يشاء الله ) ؟ قلت النصب على الظرف ، وأصله : إلا وقت مشيئة الله ، وكذلك قراءة ابن مسعود : إلا ما يشاء الله؛ لأنَّ ( ما ) مع الفعل كأن معه { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ } هم المؤمنون ونصب { والظالمين } بفعل يفسره . أعدّ لهم ، نحو : أوعد وكافأ ، وما أشبه ذلك وَقرأ ابن مسعود : وللظالمين ، على : وأعدّ للظالمين وقرأ ابن الزبير : والظالمون على الابتداء ، وغيرها أولى لذهاب الطباق بين الجملة المعطوفة والمعطوف عليها فيها ، مع مخالفتها للمصحف .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1259 ) " من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريراً " .
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)
أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة ، أرسلهنّ بأوامره فعصفن في مضيهن كما تعصف الرياح ، تخففاً في امتثال أمره ، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي . أو نشرن الشرائع في الأرض . أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين ، ففرّقن بين الحق والباطل ، فألقين ذكراً إلى الأنبياء { عُذْراً } للمحقين { أَوْ نُذْراً } للمبطلين . أو أقسم برياح عذاب أرسلهن . فعصفن ، وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجوّ ففرّقن بينه ، كقوله : { وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } [ الروم : 48 ] ، أو بسحائب نشرن الموات ، ففرّقن بين من يشكر لله تعالى وبين من يكفر ، كقوله : { لأسقيناهم مَّاءً غَدقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } [ الجن : 16 ] فألقين ذكراً إمّا عذراً للذين يعتذرون إلى الله بتوبتهم واستغفارهم إذا رأوا نعمة الله في الغيث ويشكرونها ، وإما إنذاراً للذين يغفلون الشكر لله وينسبون ذلك إلى الأنواء ، وجعلن ملقيات للذكر لكونهن سبباً في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت . فإن قلت : ما معنى عرفاً؟ قلت : متتابعة كشَعَر العرف يقال : جاؤا عرفاً واحداً؛ وهم عليه كعرف الضبع : إذا تألبوا عليه ، ويكون بمعنى العرف الذي هو نقيض النكر؛ وانتصابه على أنه مفعول له ، أي : أرسلن للإحسان والمعروف؛ والأول على الحال . وقرىء «عرفا» على التثقيل ، نحو نكر في نكر . فإن قلت : قد فسرت المرسلات بملائكة العذاب ، فكيف يكون إرسالهم معروفاً؟ قلت : إن لم يكن معروفاً للكفار فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله لهم منهم . فإن قلت : ما العذر والنذر ، وبما انتصبا؟ قلت : هما مصدران من أعذر إذا محا الإساءة ، ومن أنذر إذا خوّف على فعل ، كالكفر والشكر ، ويجوز أن يكون جمع عذير ، بمعنى المعذرة؛ وجمع نذير بمعنى الإنذار . أو بمعنى العاذر والمنذر . وأما انتصابهما فعلى البدل من ذكراً على الوجهين الأوّلين أو على المفعول له . وأما على الوجه الثالث فعلى الحال بمعنى عاذرين أو منذرين . وقرئا : مخففين ومثقلين .
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
إن الذي توعدونه من مجيء يوم القيامة لكائن نازل لا ريب فيه ، وهو جواب القسم ، وعن بعضهم : أن المعنى : ورب المرسلات { طُمِسَتْ } محيت ومحقت . وقيل : ذهب بنورها ومحق ذواتها ، موافق لقوله ( انتثرت ) و ( انكدرت ) ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور { فُرِجَتْ } فتحت فكانت أبواباً . قال الفارجي : باب الأمير المبهم { نُسِفَتْ } كالحب إذا نسف بالمنسف . نحوه { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } [ الواقعة : 5 ] ، { وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً } [ المزمل : 14 ] ، وقيل : أخذت بسرعة من أماكنها ، من انتسفت الشيء إذا اختطفته وقرئت «طمست» وفرجت ونسفت مشدّدة . قرىء «أقتت» ووقتت ، بالتشديد والتخفيف فيهما . والأصل : الواو ومعنى توقيت الرسل : تبيين وقتها الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم . والتأجيل : من الأجل ، كالتوقيت : من الوقت { لاِيِّ يَوْمٍ أُجّلَتْ ( 12 ) } تعظيم لليوم ، وتعجيب من هوله { لِيَوْمِ الفصل ( 13 ) } بيان ليوم التأجيل ، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق . والوجه أن يكون معنى وقتت : بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره : وهو يوم القيامة . وأجلت : أخرت . فإن قلت : كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 15 ) } ؟ قلت : هو في أصله مصدر منصوب سادّ مسدّ فعله ، ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه . ونحوه { سلام عَلَيْكُمُ } [ الأنعام : 54 ] ، ويجوز : ويلا ، بالنصب؛ ولكنه لم يقرأ به . يقال : ويلا له ويلا كيلا .
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
قرأ قتادة «نهلك» ، بفتح النون ، من هلكه بمعنى أهلكه ، قال الحجاج :
وَمَهْمَهٍ هَالِكِ مَنْ تَعَرَّجَا ... { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ } بالرفع على الاستئناف ، وهو وعيد لأهل مكة يريد : ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين ، ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم ، ويقويها قراءة ابن مسعود «ثم سنتبعهم» وقرىء بالجزم للعطف على نهلك . ومعناه : أنه أهلك الأولين من قوم نوح وعاد وثمود ، ثم أتبعهم الآخرين من قوم شعيب ولوط وموسى { كَذَلِكَ } مثل ذلك الفعل الشنيع { نَفْعَلُ } بكل من أجرم إنذاراً وتحذيراً من عاقبة الجرم وسوء أثره .
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
{ إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( 22 ) } إلى مقدار من الوقت معلوم قد علمه الله وحكم به : وهو تسعة الأشهر ، أو ما دونها ، أو ما فوقها { فَقَدَرْنَا } فقدّرنا ذلك تقديراً { فَنِعْمَ القادرون } فنعم المقدّرون له نحن . أو فقدرنا على ذلك فنعم القدرون عليه نحن؛ والأوّل أولى لقراءة من قرأ «فقدّرنا بالتشديد» ولقوله { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [ عبس : 19 ] .
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
الكفات : من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه : وهو اسم ما يكفت ، كقولهم : الضمام والجماع لما يضم ويجمع ، يقال : هذا الباب جماع الأبواب ، وبه انتصب { أَحْيَآءً وأمواتا } كأنه قيل : كافتة أحياء وأمواتاً . وبفعل مضمر يدل عليه وهو تكفت . والمعنى : تكفت أحياء على ظهرها ، وأمواتاً في بطنها . وقد استدل بعض أصحاب الشافعي رحمه الله على قطع النباش بأنّ الله تعالى جعل الأرض كفاتاً للأموات ، فكان بطنها حرزاً لهم؛ فالنباش سارق من الحرز . فإن قلت : لم قيل أحياء وأمواتاً على التنكير ، وهي كفات الأحياء والأموات جميعاً؟ قلت : هو من تنكير التفخيم ، كأنه قيل : تكفت أحياء لا يعدون وأمواتاً لا يحصرون ، على أنّ أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات . ويجوز أن يكون المعنى : تكفتكم أحياء وأمواتاً ، فينتصبا على الحال من الضمير؛ لأنه قد علم أنها كفات الإنس . فإن قلت : فالتنكير في { رواسى شامخات } و { مَّآءً فُرَاتاً } ؟ قلت : يحتمل إفادة التبعيض؛ لأنّ في السماء جبالا قال الله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] ، وفيها ماء فرات أيضاً ، بل هي معدنه ومصبه ، وأن يكون للتفخيم .
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
أي يقال لهم : انطلقوا إلى ما كذبتم به من العذاب ، وانطلقوا الثاني تكرير . وقرىء : «انطلقوا» على لفظ الماضي إخباراً بعد الأمر عن عملهم بموجبه ، لأنهم مضطرون إليه لا يستطيعون امتناعاً منه { إلى ظِلٍّ } يعني دخان جهنم ، كقوله : { وظل من يحموم } [ الواقعة : 43 ] { ذِى ثلاث شُعَبٍ } بتشعب لعظمه ثلاث شعب ، وهكذا الدخان العظيم تراه يتفرق ذوائب . وقيل : يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ، ويتشعب من دخانها ثلاث شعب ، فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم؛ والمؤمنون في ظل العرش { لاَّ ظَلِيلٍ } تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين { وَلاَ يُغْنِى } في محل الجر ، أي : وغير مغن عنهم من حرّ اللهب شيئاً { بِشَرَرٍ } وقرىء : «بشرار» { كالقصر } أي كل شررة كالقصر من القصور في عظمها . وقيل : هو الغليظ من الشجر ، الواحدة قصرة ، نحو : جمرة وجمر . وقرىء «كالقصر» بفتحتين : وهي أعناق الإبل ، أو أعناق النخل ، نحو شجرة وشجر . وقرأ ابن مسعود : كالقصر بمعنى القصور ، كرهن ورهن . وقرأ سعيد ابن جبير «كالقصر» في جمع قصرة ، كحاجة وحوج { جمالة } جمع جمال . أو جمالة جمع جمل؛ شبهت بالقصور ، ثم بالجمال لبيان التشبيه . ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان والمجادل . وقرىء : «جمالات» بالضم : وهي قلوس الجسور . وقيل : قلوس سفن البحر ، الواحدة جمالة وقرىء «جمالة» بالكسر ، بمعنى : جمال وجمالة بالضم : وهي القلس . وقيل { صُفْرٌ } لإرادة الجنس . وقيل { صُفْرٌ } سود تضرب إلى الصفرة . وفي شعر عمران ابن حطان الخارجي :
دَعَتْهُمْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا وَرَمَتْهُمُ ... بِمِثْلِ الْجِمَالِ الصُّفْرِ نَزْاعَةُ الشِّوَى
وقال أبو العلاء :
حَمْرَاءُ سَاطِعَةُ الذَّوَائِبِ في الدُّجَى ... تَرْمِى بِكلِّ شَرَارَةٍ كَطِرَافِ
فشبهها بالطراف وهو بيت الأدم في العظم والحمرة ، وكأنه قصد بخبثه : أن يزيد على تشبيه القرآن ولتبجحه بما سوّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته بقوله «حمراء» توطئة لها ومناداة عليها ، وتنبيها للسامعين على مكانها ، ولقد عمي : جمع الله له عمى الدارين عن قوله عز وعلا ، { كأنه جمالات صفر } ؛ فإنه بمنزلة قوله : كبيت أحمر؛ وعلى أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيها من جهتين : من جهة العظم ، ومن جهة الطول في الهواء ، وفي التشبيه بالجمالات وهي القلوس : تشبيه من ثلاث جهات : من جهة العظم والطول والصفرة ، فأبعد الله إغرابه في طرافه وما نفخ شدقيه من استطرافه .
قرىء بنصب «اليوم» ونصبه الأعمش ، أي : هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ ، ويوم القيامة طويل ذو مواطن ومواقيت : ينطقون في وقت ولا ينطقون في وقت؛ ولذلك ورد الأمران في القرآن . أو جعل نطقهم كلا نطق؛ لأنه لا ينفع ولا يسمع { فَيَعْتَذِرُونَ } عطف على { يُؤْذَنُ } منخرط في سلك النفي . والمعنى : ولا يكون لهم إذن واعتذار متعقب له ، من غير أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الإذن ولو نصب لكان مسبباً عنه لا محالة .
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
{ جمعناكم والأولين } كلام موضح لقوله : { هذا يَوْمُ الفصل } لأنه إذا كان يوم الفصل بين السعداء والأشقياء وبين الأنبياء وأممهم . فلا بدّ من جمع الأولين والآخرين ، حتى يقع ذلك الفصل بينهم { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ( 39 ) } تقريع لهم على كيدهم لدين الله وذويه ، وتسجيل عليهم بالعجز والاستكانة { كُلُواْ واشربوا } في موضع الحال من ضمير المتقين ، في الظرف الذي هو في ظلال ، أي : هم مستقرّون في ظلال ، مقولا لهم ذلك .
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
كلوا وتمتعوا فإن قلت : كيف يصح أن يقال لهم ذلك في الآخرة؟ قلت : يقال لهم ذلك في الآخرة إيذاناً بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم ، وكانوا من أهله تذكيراً بحالهم السمجة وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم والملك الخالد . وفي طريقته قوله :
إخْوَتِي لاَ تبْعَدُوا أَبَدا ... وَبَلَى وَاللَّهِ قَدْ بَعِدُوا
يريد : كنتم أحقاء في حياتكم بأن يدعى لكم بذلك ، وعلل ذلك بكونهم مجرمين دلالة على أن كل مجرم ماله إلا الأكل والتمتع أياماً قلائل ، ثم البقاء في الهلاك أبداً . ويجوز أن يكون { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ } [ المرسلات : 46 ] ، كلاماً مستأنفاً خطاباً للمكذبين في الدنيا { اركعوا } اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وحيه واتباع دينه . واطرحوا هذا الاستكبار والنخوة ، لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ، ويصرون على استكبارهم . وقيل : ما كان على العرب أشدّ من الركوع والسجود : وقيل :
( 1260 ) نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة ، فقالوا : لا نجبى فإنها مسبة علينا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود " { بَعْدَهُ } بعد القرآن ، يعني أنّ القرآن من بين الكتب المنزلة آية مبصرة ومعجزة باهرة ، فحين لم يؤمنوا به فبأي كتاب بعده { يُؤْمِنُونَ } وقرىء «تؤمنون» بالتاء .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1261 ) " من قرأ سورة والمرسلات كتب أنه ليس من المشركين "
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
{ عَمَّ } أصله عما ، على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية وهو في قراءة عكرمة وعيسى بن عمر . قال حسان رضي الله عنه :
عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِى لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
والاستعمال الكثير على الحذف ، والأصل : قليل ومعنى هذا الاستفهام : تفخيم الشأن ، كأنه قال عن أي شأن يتساءلون ونحوه ما في قولك : زيد ما زيد؟ جعلته لانقطاع قرينه وعدم نظيره كأنه شيء خفي عليك جنسه فأنت تسأل عن جنسه وتفحص عن جوهره ، كما تقول : ما الغول وما العنقاء؟ تريد : أي شيء هو من الأشياء هذا أصله؛ ثم جرد العبارة عن التفخيم ، حتى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية { يَتَسَآءَلُونَ } يسأل بعضهم بعضاً . أو يتساءلون غيرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين نحو : يتداعونهم ويتراءونهم . والضمير لأهل مكة : كانوا يتساءلون فيما بينهم عن البعث ، ويتساءلون غيرهم عنه على طريق الاستهزاء { عَنِ النبإ العظيم ( 2 ) } بيان للشأن المفخم . وعن ابن كثير قرأ «عمه» بهاء السكت ، ولا يخلو : إما أن يجري الوصل مجرى الوقف وإما أن يقف ويبتدىء { يَتَسآءَلُونَ عَنِ النبأ العظيم ( 2 ) } على أن يضمر { يتساولون } لأنّ ما بعده يفسره ، كشيء يبهم ثم يفسر . فإن قلت : قد زعمت أنّ الضمير في يتساءلون للكفار . فما تصنع بقوله { هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } ؟ قلت : كان فيهم من يقطع القول بإنكار البعث ، ومنهم من يشك . وقيل : الضمير للمسلمين والكافرين جميعاً ، وكانوا جميعاً يسألون عنه . أما المسلم فليزداد خشية واستعداداً وأما الكافر فليزداد استهزاء . وقيل : المتساءل عنه القرآن . وقيل : نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم . وقرىء «يساءلون» بالإدغام ، وستعلمون بالتاء .
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)
{ كلا } ردع للمتسائلين هزؤا . و { سَيَعْلَمُونَ } وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون أنّ ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق ، لأنه واقع لا ريب فيه . وتكرير الردع مع الوعيد تشديد في ذلك ومعنى { ثُمَّ } الإشعار بأنّ الوعيد الثاني أبلغ من الأوّل وأشد .
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
فإن قلت : كيف اتصل به قوله : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا ( 6 ) } قلت : لما أنكروا البعث قيل لهم : ألم يخلق من يضاف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة الدالة على كمال القدرة ، فما وجه إنكار قدرته على البعث ، وما هو إلا اختراع كهذه الاختراعات أو قيل لهم : ألم يفعل هذه الأفعال المتكاثرة . والحكيم لا يفعل فعلا عبثاً ، وما تنكرونه من البعث والجزاء مؤدّ إلى أنه عابث في كل ما فعل { مهادا } فراشاً . وقرىء «مهداً» ومعناه : أنها لهم كالمهد للصبي : وهو ما يمهد له فينوّم عليه ، تسمية للممهود بالمصدر ، كضرب الأمير . أو وصفت بالمصدر . أو بمعنى : ذات مهد ، أي أرسيناها بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد { سُبَاتاً } موتاً . والمسبوت . الميت ، من السبت وهو القطع؛ لأنه مقطوع عن الحركة . والنوم : أحد التوفيين ، وهو على بناء الأدواء . ولما جعل النوم موتاً ، جعل اليقظة معاشاً ، أي : حياة في قوله : { وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } [ النبأ : 11 ] ، أي : وقت معاش تستيقظون فيه وتتقلبون في حوائجكم ومكاسبكم . وقيل : السبات الراحة { لِبَاساً } يستركم عن العيون إذا أردتم هرباً من عدوّ ، أو بياتاً له . أو إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه من كثير من الأمور .
وَكَمْ لِظَلاَمِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَدٍ ... تُخَبِّرُ أَنَّ المَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ
{ سَبْعاً } سبع سموات { شِدَاداً } جمع شديدة ، يعني : محكمة قوية الخلق لا يؤثر فيها مرور الأزمان { وَهَّاجاً } متلألئا وقاداً ، يعني : الشمس : وتوهجت النار : إذا تلمظت فتوهجت بضوئها وحرها . المعصرات : السحائب إذا أعصرت ، أي : شارفت أن تعصرها الرياح فتمطر ، كقولك : أجز الزرع ، إذا حان له أن يجز . ومنه : أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض . وقرأ عكرمة : «بالمعصرات» ، وفيه وجهان : أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب ، وأن تراد السحائب؛ لأنه إذا كان الإنزال منها فهو بها ، كما تقول : أعطى من يده درهما ، وأعطى بيده ، وعن مجاهد : المعصرات الرياح ذوات الأعاصير . وعن الحسن وقتادة : هي السموات . وتأويله : أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب ، فكأنّ السموات يعصرن ، أي : يحملن على العصر ويمكنّ منه . فإن قلت : فما وجه من قرأ . { مِنَ المعصرات } وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير ، والمطر لا ينزل من الرياح؟ قلت : الرياح هي التي تنشىء السحاب وتدرّ أخلافه فصحّ أن تجعل مبدأ للإنزال؛ وقد جاء : أنّ الله تعالى يبعث الرياح فتحمل الماء من السماء إلى السحاب ، فإن صحّ ذلك فالإنزال منها ظاهر ، فإن قلت : ذكر ابن كيسان أنه جعل المعصرات بمعنى المغيثات ، والعاصر هو المغيث لا المعصر . يقال : عصره فاعتصر . قلت : وجهه أن يريد اللاتي أعصرن ، أي حان لها أن تعصر ، أي : تغيث { ثَجَّاجاً } منصباً بكثرة يقال : ثجه وثج نفسه وفي الحديث :
" أفضل الحج : العجّ والثجّ " أي رفع الصوت بالتلبية ، وصب دماء الهدي . وكان ابن عباس مثجاً يسيل غرباً ، يعني أنه يثج الكلام ثجا في خطبته . وقرأ الأعرج : «ثجاجاً» ومثاجج الماء : مصابه ، والماء ينثجج في الوادي { حَبّاً وَنَبَاتاً } يريد ما يتقوّت من الحنطة والشعير وما يعتلف من التبن والحشيش ، كما قال : { كُلُواْ وارعوا أنعامكم } [ طه : 54 ] ، و { والحب ذُو العصف والريحان } [ الرحمن : 12 ] . { أَلْفَافاً } ملتفة ولا واحد له ، كالأوزاع والأخياف . وقيل : الواحد لف . وقال صاحب الإقليد : أنشدني الحسن بن علي الطوسي :
جَنَّةٌ لِفٌّ وَعَيْشٌ مُغْدِقٌ ... ونَدَامَى كُلُّهُمْ بِيضٌ زُهُرْ
وزعم ابن قتيبة أنه لفاء ولف ، ثم ألفاف : وما أظنه واجداً له نظيراً من نحو خضر وأخضار وحمر وأحمار ، ولو قيل : هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد ، لكان قولاً وجيها .
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
{ كَانَ ميقاتا } كان في تقدير الله وحكمه حدّا توقت به الدنيا وتنتهي عنده؛ أو حدا للخلائق ينتهون إليه { يَوْمَ يُنفَخُ } بدل من يوم الفصل ، أو عطف بيان { فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } من القبور إلى الموقف أمماً كل أمة مع إمامهم . وقيل : جماعات مختلفة . وعن معاذ رضي الله عنه أنه سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
( 1262 ) " يا معاذ ، سألت عن أمر عظيم من الأمور ، ثم أرسل عينيه وقال : تحشر عشرة أصناف من أمّتي : بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكسون : أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عمياً ، وبعضهم صماً بكماً ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم : يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتناً من الجيف ، وبعضهم ملبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم؛ فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس . وأما الذين على صورة الخنازير : فأهل السحت . وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا ، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم ، وأما الصمّ البكم فالمعجبون بأعمالهم ، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم ، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران ، وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، وأما الذين هم أشدّ نتناً من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله في أموالهم ، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء " وقرىء «وفتحت» بالتشديد والتخفيف . والمعنى : كثرة أبوابها المفتحة لنزول الملائكة ، كأنها ليست إلا أبواباً مفتحة ، كقوله : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } [ القمر : 12 ] ، كأن كلها عيون تتفجر . وقيل : الأبواب الطرق والمسالك ، أي : تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقاً لا يسدّها شيء { فَكَانَتْ سَرَاباً } ، كقوله : { فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً } [ الواقعة : 6 ] . يعني أنها تصير شيئاً كلا شيء ، لتفرّق أجزائها وانبثاث جواهرها .
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
المرصاد : الحدّ الذي يكون فيه الرصد . والمعنى : أن جهنم هي حدّ الطاغين الذي يرصدون فيه للعذاب وهي مآبهم . أو هي مرصاد لأهل الجنة ترصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها ، لأن مجازهم عليها ، وهي مآب للطاغين . وعن الحسن وقتادة نحوه ، قالا : طريقاً وممرّاً لأهل الجنة . وقرأ ابن يعمر «أنّ جهنم» بفتح الهمزة على تعليل قيام الساعة بأنّ جهنم كانت مرصاداً للطاغين ، كأنه قيل : كان ذلك لإقامة الجزاء . قرىء «لابثين» «ولبثين» واللبث أقوى ، لأنّ اللابث من وجد منه اللبث ، ولا يقال «لبث» إلا لمن شأنه اللبث ، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفك منه { أَحْقَاباً } حقباً بعد حقب ، كلما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية ، ولا يكاد يستعمل الحقب والحقبة إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها ، والاشتقاق يشهد لذلك . ألا ترى إلى حقيبة الراكب ، والحقب الذي وراء التصدير وقيل : الحقب ثمانون سنة ، ويجوز أن يراد : لابثين فيها أحقاباً غير ذائقين فيها برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً ، ثم يبدلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب . وفيه وجه آخر : وهو أن يكون من : «حقب عامنا» إذا قل مطره وخيره ، وحقب فلان : إذا أخطأه الرزق ، فهو حقب ، وجمعه أحقاب ، فينتصب حالا عنهم ، يعني لابثين فيها حِقبين جحدين . وقوله : { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً ( 24 ) } تفسير له والاستثناء منقطع ، يعني : لا يذوقون فيها برداً وروحاً ينفس عنهم حرّ النار ، ولا شراباً يسكن من عطشهم ، ولكن يذوقون فيها حميماً وغساقاً وقيل «البرد» النوم ، وأنشد :
فَلَوْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ تَقَاخاً وَلاَ بَرْدَا
وعن بعض العرب : منع البرد البرد . وقرىء «غساقاً» بالتخفيف والتشديد : وهو ما يغسق ، أي : يسيل من صديدهم { وِفَاقاً } وصف بالمصدر . أو ذا وفاق . وقرأ أبو حيوة : «وفاقاً» فعال من وفقه كذا «كذاباً» تكذيباً؛ وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره؛ وسمعنى بعضهم أفسر آية فقال لقد فسرتها فساراً ما سمع بمثله . وقرىء بالتخفيف ، وهو مصدر كذب ، بدليل قوله :
فَصَدَقْتُهَا وَكَذَبْتُهَا ... وَالمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذَابُهْ
وهو مثل قوله : { أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] يعني : وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً . أو تنصبه بكذبوا ، لأنه يتضمن معنى كذبوا ، لأنّ كل مكذب بالحق كاذب ، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه : وكذبوا بآياتنا ، فكاذبوا مكاذبة . أو كذبوا بها مكاذبين ، لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يغالب في أمر ، فيبلغ فيه أقصى جهده . وقرىء «كذاباً» وهو جمع كاذب ، أي : كذبوا بآياتنا كاذبين؛ وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، يقال : رجل كذاب ، كقولك : حسان ، وبخال؛ فيجعل صفة لمصدر كذبوا ، أي : تكذيباً كذاباً مفرطاً كذبه ، وقرأ أبو السمال : وكل شيء أحصيناه ، بالرفع على الابتداء { كتابا } مصدر في موضع إحصاء وأحصينا في معنى كتبنا ، لانتفاء الإحصاء ، والكتبة في معنى الضبط والتحصيل .
أو يكون حالا في معنى : مكتوباً في اللوح وفي صحف الحفظة . والمعنى : إحصاء معاصيهم ، كقوله : { أحصاه الله وَنَسُوهُ } [ المجادلة : 6 ] وهو اعتراض . وقوله : { فَذُوقُواْ } مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات ، وهي آية في غاية الشدّة ، وناهيك بلن نزيدكم ، وبدلالته على أن ترك الزيادة كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة . وبمجيئها على طريقة الالتفات شاهداً على أنّ الغضب قد تبالغ ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1263 ) « هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار » .
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
{ مَفَازاً } فوزاً وظفراً بالبغية . أو موضع فوز . وقيل : نجاة مما فيه أولئك . أو موضع نجاة . وفسر المفاز بما بعده . والحدائق : البساتين فيها أنواع الشجر المثمر . والأعناب : الكروم . والكواعب : اللاتي فلكت ثديهن ، وهن النواهد . والأتراب . اللدات : والدهاق : المترعة . وأدهق الحوض : ملأه حتى قال قطنى . وقرىء «ولا كذاباً» بالتشديد والتخفيف ، أي : لا يكذب بعضه بعضاً ولا يكذبه . أو لا يكاذبه . وعن علي رضي الله عنه أنه قرأ بتخفيف الاثنين { جَزَآءً } مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً ( 31 ) } كأنه قال : جازى المتقين بمفاز . و { عَطَآءً } نصب بحزاء نصب المفعول به . أي : جزاهم عطاء . و { حِسَاباً } صفة بمعنى : كافياً . من أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال حسبي . وقيل : على حسب أعمالهم . وقرأ ابن قطيب «حساباً» بالتشديد ، على أنّ الحساب بمعنى المحسب ، كالدرّاك بمعنى المدرك .
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
قرىء «رب السموات» «والرحمن» بالرفع ، على : هو رب السموات الرحمن . أو رب السموات مبتدأ ، والرحمن صفة ، ولا يملكون : خبر أو هما خبران وبالجر على البدل من ربك ، بجر الأوّل ورفع الثاني على أنه مبتدأ خبره { لاَ يَمْلِكُونَ } أو هو الرحمن لا يملكون والضمير في { لاَ يَمْلِكُونَ } لأهل السموات والأرض ، أي : ليس في أيديهم مما يخاطب به الله ويأمر به في أمر الثواب والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرف الملاك ، فيزيدون فيه أو ينقصون منه . أو لا يمكلون أن يخاطبوه بشيء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب ، إلا أن يهب لهم ذلك ويأذن لهم فيه . و { يَوْمَ يَقُومُ } متعلق بلا يملكون ، أو بلا يتكلمون . والمعنى : إنّ الذين هم أفضل الخلائق وأشرفهم وأكثرهم طاعة وأقربهم منه وهم الروح والملائكة لا يملكون التكلم بين يديه ، فما ظنك بمن عداهم من أهل السموات والأرض؟ والروح : أعظم خلقاً من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين . وقيل : هو ملك عظيم ما خلق الله بعد العرش خلقاً أعظم منه . وقيل : ليسوا بالملائكة ، وهم يأكلون . وقيل : جبريل . هما شريطتان : أن يكون المتكلم منهم مأذوناً له في الكلام . وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى ، لقوله تعالى : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] .
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
{ المرء } هو الكافر لقوله تعالى : { إِنَّآ أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً } والكافر : ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم ، ويعني { مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } من الشر ، كقوله : { وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الأنفال : 50 - 51 ] ، { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 9 10 ] ، { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين } [ البقرة : 95 ] ، و ( ما ) يجوز أن تكون استفهامية منصوبة بقدّمت ، أي ينظر أي شيء قدّمت يداه ، وموصلة منصوبة بينظر ، يقال : نظرته بمعنى نظرت إليه ، والراجع من الصلة محذوف ، وقيل : المرء عام ، وخصص منه الكافر . وعن قتادة : هو المؤمن { ياليتنى كُنتُ ترابا } في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف . أو ليتني كنت تراباً في هذا اليوم فلم أبعث . وقيل : يحشر الله الحيوان غير المكلف حتى يقتص للجماء من القرناء ، ثم يردّه تراباً ، فيودّ الكافر حاله وقيل : الكافر إبليس ، يرى آدم وولده وثوابهم ، فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 ] .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1264 ) « من قرأ سورة عم يتساءلون سقاه الله برد الشراب يوم القيامة » .
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف التي تنشطها أي تخريجها . من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ، وبالطوائف التي تسبح في مضيها ، أي : تسرع فتسبق إلى ما أمروا به ، فتدبر أمراً من أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم كما رسم لهم { غَرْقاً } إغراقاً في النزع ، أي : تنزعها من أقاصى الأجساد من أناملها وأظفارها أو أقسم بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها؛ لأنها عراب . والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب من قولك : «ثور ناشط» إذا خرج من بلد إلى بلد ، والتي تسبح في جريها فتسبق إلى الغاية فتدبر الغلبة والظفر ، وإسناد التدبير إليها ، لأنها من أسبابه . أو أقسم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب . وإغراقها في النزع : أن تقطع الفلك كله حتى تنحط في أقصى الغرب ، والتي تخرج من برج إلى برج ، والتي تسبح في الفلك من السيارة فتسبق فتدبر أمراً من علم الحساب . وقيل النازعات أيدي الغزاة ، أو أنفسهم تنزع القسيّ بإغراق السهام ، والتي تنشط الأوهاق والمقسم عليه محذوف ، وهو «لتبعثن» لدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة . و { يَوْمَ تَرْجُفُ } منصوب بهذا المضمر . و { الراجفة } الواقعة التي ترجف عندها الأرض والجبال ، وهي النفخة الأولى : وصفت بما يحدث بحدوثها { تَتْبَعُهَا الرادفة } أي الواقعة التي تردف الأولى ، وهي النفخة الثانية . ويجوز أن تكون الرادفة من قوله تعالى : { قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ } [ النمل : 72 ] ، أي القيامة التي يستعجلها الكفرة استبعاداً لها ، وهي رادفة لهم لاقترابها . وقيل ( الراجفة ) الأرض والجبال ، من قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال } [ المزمل : 14 ] والرادفة : السماء والكواكب؛ لأنها تنشق وتنتثر كواكبها على أثر ذلك . فإن قلت : ما محل تتبعها؟ قلت : الحال ، أي : ترجف تابعتها الرادفة . فإن قلت : كيف جعلت { يَوْمَ تَرْجُفُ } ظرفاً للمضمر الذي هو لتبعثن ، ولا يبعثون عند النفخة الأولى؟ قلت : المعنى لتبعثنّ في الوقت الواسع الذي يقع فيه النفختان ، وهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع ، وهو وقت النفخة الأخرى . ودلّ على ذلك أنّ قوله : { تَتْبَعُهَا الرادفة } جعل حالاً عن الراجفة . ويجوز أن ينتصب { يَوْمَ تَرْجُفُ } بما دلّ عليه { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } أي يوم ترجف وجفت القلوب { وَاجِفَةٌ } شديدة الاضطراب ، والوجيب والوجيف : أخوان { خاشعة } ذليلة . فإن قلت : كيف جاز الابتدء بالنكرة؟ قلت : { قُلُوبٍ } مرفوعة بالابتداء و { وَاجِفَةٌ } صفتها ، و { أبصارها خاشعة } خبرها فهو كقوله : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ } [ البقرة : 221 ] ، فإن قلت : كيف صح إضافة الأبصار إلى القلوب؟ قلت : معناه أبصار أصحابها بدليل قوله : { يَقُولُونَ } { فِى الحافرة } في الحالة الأولى ، يعنون : الحياة بعد الموت .
فإن قلت : ما حقيقة هذه الكلمة؟ قلت : يقال : رجع فلان في حافرته ، أي : في طريقه التي جاء فيها فحفرها ، أي : أثر فيها بمشيه فيها : جعل أثر قدميه حفراً ، كما قيل : حفرت أسنانه حفراً : إذا أثر الأكال في أسناخها . والخط المحفور في الصخر . وقيل : حافرة ، كما قيل : عيشة راضية ، أي : منسوبة إلى الحفر والرضا ، أو كقولهم : نهارك صائم ، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه : رجع إلى حافرته ، أي طريقته وحالته الأولى . قال :
أَحَافِرَةٌ عَلَى صلَعٍ وَشَيْبٍ ... مَعَاذَ اللَّهِ مِنْ سَفَهٍ وَعَارٍ
يريد : أرجوعاً إلى حافرة؟ وقيل : النقد عند الحافرة ، يريدون عند الحالة الأولى : وهي الصفقة وقرأ أبو حيوة «في الحفرة» والحفرة بمعنى : المحفورة . يقال : حفرت أسنانه فحفرت حفراً ، وهي حفرة؛ وهذه القراءة دليل على أن الحافرة في أصل الكلمة بمعنى المحفورة . يقال : «نخر» العظم فهو نخر وناخر ، كقولك طمع فهو طمع وطامع؛ وفعل أبلغ من فاعل؛ وقد قرىء بهما : وهو البالي الأجوف الذي تمر فيه الريح فيسمع له نخير . و { إِذاً } منصوب بمحذوف ، تقديره : أئذاكنا عظاماً نرد ونبعث { كَرَّةٌ خاسرة } منسوبة إلى الخسران ، أو خاسر أصحابها . والمعنى : أنها إن صحت فنحن إداً خاسرون لتكذيبنا بها ، وهذا استهزاء منهم فإن قلت بم تعلق قوله { فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة } قلت : بمحذوف ، معناه : لا تستصعبوها ، فإنما هي زجرة واحدة؛ يعني : لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله عز وجل ، فإنها سهلة هينة في قدرته ، ما هي إلا صيحة واحدة ، يريد النفخة الثانية { فَإِذَا هُم } أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتاً في جوفها ، من قولهم : زجر البعير ، إذا صاح عليه . والساهرة : الأرض البيضاء المستوية ، سميت بذلك لأنّ السراب يجري فيها ، من قولهم : عين ساهرة جارية الماء ، وفي ضدها : نائمة . قال الأشعث بن قيس :
وَسَاهِرَةٍ يُضْحِى السَّرابُ مُجَلَّلاً ... لأَقْطَارِهَا قَدْ جُبْتُهَا مُتَلَثِّمَا
أو لأنّ سالكها لا ينام خوف الهلكة . وعن قتادة : فإذا هم في جهنم .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
{ اذهب } على إرادة القول . وفي قراءة عبد الله «أن اذهب» لأنّ في النداء معنى القول . هل لك في كذا ، وهل لك إلى كذا؛ كما تقول : هل ترغب فيه ، وهل ترغب إليه { إلى أَن تزكى } إلى أن تتطهر من الشرك ، وقرأ أهل المدينة «تزكى» بالإدغام { وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ } وأرشدك إلى معرفة الله أنبهك عليه فتعرفه { فتخشى } لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة . قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] أي العلماء به؛ وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر ، من خشي الله : أتى منه كل خير . ومن أمن : اجترأ على كل شرّ . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1265 ) " من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل " بدأ مخاطبته بالاستفهام الذي معناه العرض ، كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا ، وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه بالتلطف في القول ، ويستنزله بالمداراة من عتوه ، كما أمر بذلك في قوله : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً } [ طه : 44 ] ، { الأية الكبرى } قلب العصا حية لأنها كانت المقدمة والأصل ، والأخرى كالتبع لها؛ لأنه كان يتقيها بيده ، فقيل له : أدخل يدك في جيبك ، أو أرادهما جميعاً ، إلا أنه جعلهما واحدة؛ لأن الثانية كأنها من جملة الأولى لكونها تابعة لها { فَكَذَّبَ } بموسى والآية الكبرى ، وسماهما ساحراً وسحراً { وعصى } الله تعالى بعد ما علم صحة الأمر ، وأنّ الطاعة قد وجبت عليه { ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى } أي لما رأى الثعبان أدبر مرعوباً ، يسعى : يسرع في مشيته . قال الحسن كان رجلاً طياشاً خفيفاً . أو تولى عن موسى يسعى ويجتهد في مكايدته ، وأريد : ثم أقبل يسعى ، كما تقول : أقبل فلان يفعل كذا ، بمعنى : أنشأ يفعل ، فوضع { أَدْبَرَ } موضع : أقبل؛ لئلا يوصف بالإقبال { فَحَشَرَ } فجمع السحرة ، كقوله : { فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى المدائن حاشرين } [ الشعراء : 53 ] . { فنادى } في المقام الذي اجتمعوا فيه معه . أو أمر منادياً في الناس بذلك . وقيل قام فيهم خطيباً فقال تلك العظيمة . وعن ابن عباس : كلمته الأولى : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } [ القصص : 38 ] والآخرة : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 34 ] . { نَكَالَ } هو مصدر مؤكد ، كوعد الله ، وصبغة الله؛ كأنه قيل : نكل الله به نكال الآخرة والأولى والنكال بمعنى التنكيل ، كالسلام بمعنى التسليم . يعني الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة . وعن ابن عباس : نكال كلمتيه الآخرة ، وهي قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } والأولى وهي قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } [ القصص : 28 ] ، وقيل : كان بين الكلمتين أربعون سنة . وقيل عشرون .
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
الخطاب لمنكرى البعث ، يعني { أَءَنتُمْ } أصعب { خَلْقاً } وإنشاء { أَمِ السمآء } ثم بين كيف خلقها فقال { بناها } ثم بين البناء فقال { رَفَعَ سَمْكَهَا } أي جعل مقدار ذهابها في سمت العلو مديداً رفيعاً مسيرة خمسمائة عام { فَسَوَّاهَا } فعدلها مستوية ملساء ، ليس فيها تفاوت ولا فطور . أو فتممها بما علم أنها تتم به وأصلحها ، من قولك : سوى فلان أمر فلان . غطش الليل وأغطشه الله ، كقولك : ظلم وأظلمه . ويقال أيضاً : أغطش الليل ، كما يقال أظلم { وَأَخْرَجَ ضحاها } وأبرز ضوء شمسها ، يدل عليه قوله تعالى : { والشمس وضحاها } [ الشمس : 1 ] ، يريد وضوئها . وقولهم : وقت الضحى ، للوقت الذي تشرق فيه الشمس ويقوم سلطانها؛ وأضيف الليل والشمس إلى السماء ، لأن الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوها { مَاءهَا } عيونها المتفجرة بالماء { ومرعاها } ورعيها ، وهو في الأصل موضع الرعى . ونصب الأرض والجبال بإضمار «دحا» و«أرسى» وهو الإضمار على شريطة التفسير . وقرأهما الحسن مرفوعين على الابتداء . فإن قلت : هلا أدخل حرف العطف على أخرج؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون معنى { دحاها } بسطها ومهدها للسكنى ، ثم فسر التمهيد بما لا بدّ منه في تأتي سكناها ، من تسوية أمر المأكل والمشرب؛ وإمكان القرار عليها ، والسكون بإخراج الماء والمرعى ، وإرساء الجبال وإثباتها أوتادا لها حتى تستقر ويستقر عليها . والثاني : أن يكون { وأَخْرَجَ } حالاً بإضمار «قد» كقوله : { أَوْ جَاؤكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [ النساء : 90 ] وأراد بمرعاها : ما يأكل الناس والأنعام . واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله : { نَرتعُ وَنَلْعَبُ } [ يوسف : 12 ] وقرىء : «نرتع» من الرعى؛ ولهذا قيل : دلّ اللَّه سبحانه بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض حتى الملح ، لأنه من الماء { متاعا لَّكُمْ } فعل ذلك تمتيعاً لكم { ولأنعامكم } لأن منفعة ذلك التمهيد واصلة إليهم وإلى أنعامهم .
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
{ الطآمة } الداهية التي تطم على الدواهي ، أي : تعلو وتغلب . وفي أمثالهم : جرى الوادي فطمَّ على القرى ، وهي القيامة لطمومها على كل هائلة . وقيل : هي النفخة الثانية . وقيل : الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ } بدل من إذا جاءت ، يعني : إذا رأى أعماله مدونة في كتابه تذكرها وكان قد نسيها ، كقوله : { أحصاه الله وَنَسُوهُ } [ المجادلة : 6 ] ، و { مَا } في { مَا سعى } موصولة ، أو مصدرية { وَبُرّزَتِ } أظهرت وقرأ أبو نهيك «وبرزت» { لِمَن يرى } للرائين جميعاً ، أي : لكل أحد ، يعني : أنها تظهر إظهاراً بينا مكشوفاً ، يراها أهل الساهرة كلهم ، كقوله : قد بين الصبح لذي عينين ، يريد : لكل من له بصر؛ وهو مثل في الأمر المنكشف الذي لا يخفى على أحد وقرأ ابن مسعود «لمن رأى» وقرأ عكرمة «لمن ترى» والضمير للجحيم ، كقوله : { إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ الفرقان : 12 ] وقيل : لمن ترى يا محمد .
فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)
{ فَأَمَّا } جواب { فَإِذَا } أي : فإذا جاءت الطاقة فإنّ الأمر كذلك والمعنى : فإنّ الجحيم مأواه ، كما تقول للرجل : غض الطرف ، تريد : طرفك ، وليس الألف واللام بدلاً من الإضافة ، ولكن لما علم أنّ الطاغى هو صاحب المأوى ، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره : تركت الإضافة؛ ودخول حرف التعريف في المأوى والطرف للتعريف ، لأنهما معروفان ، و { هِىَ } فصل أو مبتدأ .
وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
{ وَنَهَى النفس } الأمارة بالسوء { عَنِ الهوى } المردي وهو اتباع الشهوات وزجرها عنه وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخير . وقيل : الآيتان نزلتا في أبي عزيز بن عمير ومصعب بن عمير ، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزير يوم أحد ، ووقى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه .
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
{ أَيَّانَ مرساها } متى إرساؤها ، أي إقامتها ، أرادوا : متى يقيمها الله ويثبتها ويكونها؟ وقيل أيان منتهاها ومستقرّها ، كما أنّ مرسى السفينة مستقرّها ، حيث تنتهي إليه { فِيمَ أَنتَ } في أي شيء أنت من أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به ، يعني : ما أنت من ذكرها لهم وتبيين وقتها في شيء . وعن عائشة رضي الله عنها :
( 1266 ) لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت ، فهو على هذا تعجب من كثرة ذكره لها ، كأنه قيل : في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها . والمعنى : أنهم يسألونك عنها ، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها ، ثم قال { إلى رَبّكَ منتهاها } أي منتهى علمها لم يؤت علمها أحداً من خلقه . وقيل : { فِيمَ } إنكار لسؤالهم ، أي فيم هذا السؤال ، ثم قيل : أنت من ذكراها ، أي : إرسالك وأنت خاتم الأنبياء وآخر الرسل المبعوث في نسم الساعة ذكر من ذكرها وعلامة من علاماتها ، فكفاهم بذلك دليلا على دنوّها ومشارقها ووجوب الاستعداد لها ، ولا معنى لسؤالهم عنها { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها } أي : لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة الذي لا فائدة لهم في علمه ، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون من إنذارك لطفاله في الخشية منها . وقرىء «منذر» بالتنوين ، وهو الأصل؛ والإضافة تخفيف ، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال؛ فإذا أريد الماضي فليس إلا الإضافة؛ كقولك : هو منذر زيد أمس ، أي : كأنهم لم يلبثوا في الدنيا ، وقيل : في القبور { إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها } فإن قلت : كيف صحت إضافة الضحى إلى العشية؟ قلت : لما بينهما من الملابسة لاجتماعهما في نهار واحد . فإن قلت : فهلا قيل : إلا عشية أو ضحى وما فائدة الإضافة؟ قلت : الدلالة على أن مدّة لبثهم كأنها لم تبلغ يوماً كاملاً ، ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه؛ فلما ترك اليوم أضافه إلى عشيته ، فهو كقوله : { لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ } [ الأحقاف : 35 ] .
عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :
( 1267 ) " من قرأ سورة النازعات كان ممن حبسه الله في القبر والقيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة المكتوبة " .
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
( 2268 ) أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أمّ مكتوم - وأمّ مكتوم أمّ أبيه ، واسمه عبد الله بن شريح بن مالك ابن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي -وعنده صناديد قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام . والعباس ابن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم - فقال : يا رسول اللَّه ، أقرئني وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه ، فنزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه : مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ، ويقول له : هل لك من حاجة؟ واستخلفه على المدينة مرتين؛ وقال أنس : رأيته يوم القادسية وعليه درع وله راية سوداء . وقرىء «عبس» بالتشديد للمبالغة؛ ونحوه : كلح في كلح { أَن جَآءَهُ } منصوب بتولى ، أو بعبس ، على اختلاف المذهبين . ومعناه : عبس ، لأن جاءه الأعمى . أو أعرض لذلك . وقرىء «ءاأن جاءه» بهمزتين وبألف بينهما ، ووقف على { عَبَسَ وتولى } ثم ابتديء ، على معنى : ألأن جاءه الأعمى فعل ذلك إنكاراً عليه . وروى أنه ما عبس بعدها في وجه فقير قط ، ولا تصدى لغني . وفي الإخبار عما فرط منه ، ثم الإقبال عليه بالخطاب : دليل على زيادة الإنكار ، كمن يشكو إلى الناس جانباً جنى عليه ، تم يقبل على الجاني إذا حمى في الشكاية مواجهاً له بالتوبيخ وإلزام الحجة . وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك ، كأنه يقول : قد استحق عنده العبوس والإعراض لأنه أعمى ، وكان يجب أن يزيده لعماه تعطفا وترؤفاً وتقريباً وترحيباً ، ولقد تأدّب الناس بأدب الله في هذا تأدباً حسناً؛ فقد روي عن سفيان الثوري رحمه الله أنّ الفقراء كانوا في مجلسه أمراء { وَمَا يُدْرِيكَ } وأي شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى؟ { لَعَلَّهُ يزكى } أي يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أوضار الإثم { أَوْ يَذَّكَّرُ } أو يتعظ { فَتَنفَعَهُ } ذكراك ، أي : موعظتك؛ وتكون له لطفاً في بعض الطاعات . والمعنى : أنك لا تدري ما هو مترقب منه ، من تزكّ أو تذكر ، ولو دريت لما فرط ذلك منك . وقيل : الضمير في { لَعَلَّهُ } للكافر . يعني أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام ، أو يتذكر فتقرّبه الذكرى إلى قبول الحق؛ وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن . وقرىء «فتنفعه» ، بالرفع عطفاً على يذكر . وبالنصب جواباً للعلّ ، كقوله : { فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى } [ غافر : 37 ] ، { تصدى } تتعرض بالإقبال عليه ، والمصاداة ، المعارضة؛ وقرىء «تصدى» بالتشديد ، بإدغام التاء في الصاد . وقرأ أبو جعفر : «تصدى» ، بضم التاء ، أي : تعرّض . ومعناه : يدعوك داع إلى التصدي له : من الحرص والتهالك على إسلامهُ ، وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ } [ الشورى : 48 ] ، { يسعى } يسرع في طلب الخير { وَهُوَ يخشى } الله أو يخشى الكفار ، وأذاهم في إتيانك . وقيل : جاء وليس معه قائد ، فهو يخشى الكبوة { تلهى } تتشاغل ، من لهى عنه . والتهى . وتلهى . وقرأ طلحة بن مصرف : «تتلهى» ، وقرأ أبو جعفر «تلهى» أي : يلهيك شأن الصناديد ، فإن قلت : قوله : { فَأَنتَ لَهُ تصدى } ، ( فأنت عنه تلهى ) كأن فيه اختصاصاً قلت : نعم ، ومعناه : إنكار التصدي والتلهي عليه ، أي : مثلك خصوصاً لا ينبغي له أن يتصدى للغنيّ ويتلهى عن الفقير .
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
{ كَلاَّ } ردع عن المعاتب عليه ، وعن معاودة مثله { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } أي موعظة يجب الاتعاظ والعمل بموجبها { فَمَن شَآء ذَكَرَهُ } أي كان حافظاً له غير ناس ، وذكر الضمير لأنّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ { فَى صُحُفٍ } صفة لتذكرة ، يعني : أنها مثبتة في صحف منتسخة من اللوح { مُّكَرَّمَةٍ } عند الله { مَّرْفُوعَةٍ } في السماء . أو مرفوعة المقدار { مُّطَهَّرَةٍ } منزهة عن أيدي الشياطين ، لا يمسها إلا أيدي ملائكة مطهرين { سَفَرَةٍ } كتبة ينتسخون الكتب من اللوح { بَرَرَةٍ } أتقياء . وقيل : هي صحف الأنبياء كقوله : { إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى } [ الأعلى : 18 ] وقيل السفرة : القرّاء وقيل : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
{ قُتِلَ الإنسان } دعاء عليه ، وهي من أشنع دعواتهم لأنّ القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها . و { مَا أَكْفَرَهُ } تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله ، ولا ترى أسلوباً أغلظ منه ، ولا أخشن مساً ، ولا أدل على سخط ، ولا أبعد شوطاً في المذمة ، مع تقارب طرفيه ، ولا أجمع للأئمة على قصر متنه ثم أخذ في وصف حاله من ابتداء حدوثه ، إلى أن انتهى وما هو مغمور فيه من أصول النعم وفروعها . وما هو غارز فيه رأسه من الكفران والغمط وقلة الالتفات إلى ما يتقلب فيه وإلى ما يجب عليه من القيام بالشكر { مِنْ أَىّ شَىْءٍ خَلَقَهُ } من أي شيء حقير مهين خلقه ، ثم بين ذلك الشيء بقوله : { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } فهيأه لما يصلح له ويختص به . ونحو { وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : 2 ] ، نصب السبيل بإضمار «يسر» وفسره بيسر والمعنى : ثم سهل سبيله وهو مخرجه من بطن أمّه . أو السبيل الذي يختار سلوكه من طريقي الخير والشر بإقداره وتمكينه ، كقوله : { إِنَّا هديناه السبيل } [ الإنسان : 3 ] وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما : بين له سبيل الخير والشر { فَأَقْبَرَهُ } فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له ، ولم يجعله مطروحاً على وجه الأرض جزراً للسباع والطير كسائر الحيوان . يقال : قبر الميت إذا دفنه . وأقبره الميت . إذا أمره أن يقبره ومكنه منه . ومنه قول من قال للحجاج : أقبرنا صالحاً { أَنشَرَهُ } أنشأه النشأة الأخرى . وقرىء «نشره» { كَلاَّ } ردع للإنسان عما هو عليه { لَمَّا يَقْضِ } لم يقض بعد ، مع تطاول الزمان وامتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية { مَآ أَمَرَهُ } الله حتى يخرج عن جميع أوامره ، يعني : أنّ إنساناً لم يخل من تقصير قط .
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
ولما عدد النعم في نفسه : أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه ، فقال : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ ( 24 ) } إلى مطعمه الذي يعيش به كيف دبرنا أمره «أنا صببنا الماء» يعني الغيث . قرىء بالكسر على الاستئناف ، وبالفتح على البدل من الطعام ، وقرأ الحسين بن علي رضي اللَّه عنهما «أنى صببنا» بالإمالة على معنى : فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء . وشققنا : من شق الأرض بالنبات ويجوز أن يكون من شقها بالكراب على البقر؛ وأسند الشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب . والحب : كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما . والقضب : الرطبة والمقضاب : أرضه ، سمي بمصدر قضبه إذا قطعه؛ لأنه يقضب مرَّة بعد مرّة { وَحَدَآئِقَ غُلْباً ( 30 ) } يحتمل أن يجعل كل حديقة غلباء ، فيريد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها ، كما تقول : حديقة ضخمة ، وأن يجعل شجرها غلباً ، أي : عظاماً غلاظاً . والأصل في الوصف بالغلب : الرقاب؛ فاستعير . قال عمرو بن معد يكرب :
يَمْشي بِهَا غُلْبُ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ ... بُزْلٌ كُسِينَ مِنَ الْكُحَيْلِ جِلاَلاً
والأب : المرعى ، لأنه يؤبّ أي يؤم وينتجع . والأبّ والأمّ أخوان قال :
جِذْمُنَا قَيْسٌ وَنَجْدٌ دَارُنَا ... وَلَنَا الأبُّ بِهِ وَالْمَكَرَعُ
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأبّ فقال : أيّ سماء تظلني ، وأيّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به . وعن عمر رضي الله عنه : أنه قرأ هذه الآية فقال : كل هذا قد عرفنا ، فما الأب؟ ثم رفض عصاً كانت بيده وقال : هذا لعمر الله التكلف ، وما عليك يا ابن أمّ عمر أن لا تدري ما الأب ، ثم قال : اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب ، وما لا فدعوه فإن قلت : فهذا يشبه النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته . قلت : لم يذهب إلى ذلك ، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل ، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفاً عندهم؛ فأراد أنّ الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره ، وقد علم من فحوى الآية أنّ الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعاً له أو لإنعامه؛ فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله - على ما تبين لك ولم يشكل - مما عدّد من نعمه ، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له ، واكتف بالمعرفة الجميلة إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن .
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
يقال : صخّ لحديثه ، مثل : أصاخ له ، فوصفت النفخة بالصاخة مجازاً؛ لأن الناس يصخون لها { يفرّ } منهم لاشتغاله بما هو مدفوع إليه ، ولعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئاً؛ وبدأ بالأخ ، ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ، ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أقرب وأحب؛ كأنه قال : يفرّ من أخيه ، بل من أبويه ، بل من صاحبته وبنيه . وقيل : يفرّ منهم حذراً من مطالبتهم بالتبعات . يقول الأخ : لم تواسني بمالك . والأبوان : قصرت في برنا . والصاحبة : أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت . والبنون : لم تعلمنا ولم ترشدنا ، وقيل : أوّل من يفرّ من أخيه : هابيل؛ ومن أبويه : إبراهيم ومن صاحبته : نوح ولوط؛ ومن ابنه نوح { يُغْنِيهِ } يكفيه في الاهتمام به . وقرىء «يعنيه» أي يهمه { مسفرة } مضيئة متهللة ، من أسفر الصبح : إذا أضاء وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما : من قيام الليل؛ لما روي في الحديث :
( 1269 ) " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " وعن الضحاك : من آثار الوضوء . وقيل : من طول ما اغبرت في سبيل الله { غَبَرَةٌ } غبار يعلوها { فترة } سواد كالدخان؛ ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه ، كما ترى من وجوه الزنوج إذا اغبرت؛ وكأن الله عز وجل يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة ، كما جمعوا الفجور إلى الكفر .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1270 ) " من قرأ سورة عبس وتولى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر " .
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
في التكوير وجهان : أن يكون من كوّرت العمامة إذا لففتها ، أي : يلف ضوءها لفاً فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق ، وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها؛ لأنها ما دامت باقية كان ضياؤها منبسطاً غير ملفوف . أو يكون لفها عبارة عن رفعها وسترها؛ لأنّ الثواب إذا أريد رفعه لفّ وطوي؛ ونحوه قوله : { يَوْمَ نَطْوِى السماء } [ الأنبياء : 104 ] وأن يكون من طعنه فجوّره وكوّره : إذا ألقاه ، أي : تلقى وتطرح عن فلكها ، كما وصفت النجوم بالانكدار ، فإن قلت : ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية؟ قلت : بل على الفاعلية رافعها فعل مضمر يفسره كوّرت؛ لأنّ «إذا» يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط { انكدرت } انقضت قال :
أَبْصَرَ خِرْبَانٌ فَضَاءَ فَانْكَدَرْ ... ويروى في الشمس والنجوم : أنها تطرح في جهنم ليراها من عبدها كما قال : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ، { سُيّرَتْ } أي على وجه الأرض وأبعدت . أو سيرت في الجوّ تسيير السحاب كقوله { وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب } [ النمل : 88 ] والعشار في جمع عشراء ، كالنفاس في جمع نفساء : وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر ، ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة ، وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزّها { عُطِّلَتْ } تركت مسيبة مهملة . وقيل : عطلها أهلها عن الحلب والصر ، لاشتغالهم بأنفسهم وقرىء «عطلت» بالتخفيف { حُشِرَتْ } جمعت من كل ناحية . قال قتادة : يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص . وقيل : إذا قضى بينها ردّت تراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته . كالطاووس ونحوه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : حشرها موتها . يقال : إذا أجحفت السنة بالناس وأموالهم حشرتهم السنة . وقرىء «حشرت» بالتشديد { سُجِّرَتْ } قرىء بالتخفيف والتشديد ، من سجر التنور : إذا ملأه بالحطب ، أي : ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى تعود بحراً واحداً . وقيل : ملئت نيراناً تضطرم لتعذيب أهل النار . وعن الحسن : يذهب ماؤها فلا تبقى فيها قطرة { زُوّجَتْ } قرنت كل نفس بشكلها وقيل : قرنت الأرواح بالأجساد . وقيل بكتبها وأعمالها . وعن الحسن هو كقوله : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثلاثة } [ الواقعة : 7 ] وقيل : نفوس المؤمنين بالحور ، ونفوس الكافرين بالشياطين وأد يئد مقلوب من آد يؤد : إذا أثقل . قال الله تعالى : { وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة : 255 ] ، لأنه إثقال بالتراب : كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها : ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية؛ وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها : طيبيها وزينيها ، حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها : انظري فيها ، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليهالتراب ، حتى تستوي البئر بالأرض .
وقيل : كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة؛ فإذا ولدت بنتاً رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت ابناً حبسته فإن قلت : ما حملهم على وأد البنات؟ قلت : الخوف من لحوق العار بهم من أجلهنّ . أو الخوف من الإملاق ، كما قال الله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق } [ الإسراء : 31 ] ، وكانوا يقولون : إن الملائكة بنات الله ، فألحقوا البنات به ، فهو أحق بهنّ . وصعصعة بن ناجية ممن منع الوأد؛ فبه افتخر الفرزدق في قوله :
وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ... فَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ تُوأَدِ
فإن قلت : فما معنى سؤال المؤودة عن ذنبها الذي قتلت به؛ وهلا سئل الوائد عن موجب قتله لها؟ قلت : سؤالها وجوابها تبكيت لقاتلها نحو التبكيت في قوله تعالى لعيسى : { أأنت قلت للناس . . . } إلى قوله : { . . . سبحانك مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ } [ المائدة : 116 ] ، وقرىء «سألت» ، أي : خاصمت عن نفسها ، وسألت الله أوقاتلها؛ وإنما قيل { قُتِلَتْ } بناء على أن الكلام إخبار عنها؛ ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت . فقيل : قتلت أو كلاهما حين سئلت لقيل : قتلت . وقرأ ابن عباس رضي عنهما : قتلت ، على الحكاية وقرىء «قتلت» ، بالتشديد ، وفيه دليل بين على أن أطفال المشركين لا يعذبون ، وعلى أن التعذيب لا يستحق إلا بالذنب ، وإذا بكت الله الكافر ببراءة الموؤدة من الذنب : فما أقبح به ، وهو الذي لا يظلم مثقال ذرّة أن يكرّ عليها بعد هذا التبكيت فيفعل بها ما تنسى عنده فعل المبكت من العذاب الشديد السرمد ، وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه سئل عن ذلك ، فاحتجّ بهذه الآية «نشرت» قرىء بالتخفيف والتشديد ، يريد : صحف الأعمال تطوى صحيفة الإنسان عند موته ، ثم تنشر إذا حوسب . عن قتادة : صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك ، ثم تنشر يوم القيامة ، فلينظر رجل ما يملي في صحيفته وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا قرأها قال : إليك يساق الأمر يا ابن آدم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( 2271 ) " يحشر الناس عراة حفاة " فقالت أمّ سلمة : كيف بالنساء؟ فقال : شغل الناس يا أمّ سلمة قالت : وما شغلهم؟ قال : نشر الصحف فيها مثاقيل الذرّ ومثاقيل الخردل» ويجوز أن يراد : نشرت بين أصحابها ، أي فرقت بينهم . وعن مرثد بن وداعة : إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش ، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية ، وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك ، وهي صحف غير صحف الأعمال { كُشِطَتْ } كشفت وأزيلت ، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة ، والغطاء عن الشيء وقرأ ابن مسعود «قشطت» واعتقاب الكاف والقاف كثير . يقال : لبكت الثريد ولبقته ، والكافور والقافور { سُعّرَتْ } أوقدت إيقاداً شديداً وقرىء «سعرت» بالشديد للمبالغة .
قيل : سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم { أُزْلِفَتْ } أدنيت من المتقين ، كقوله تعالى : { وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ ق : 31 ] ، قيل : هذه اثنتا عشرة خصلة . ست منها في الدنيا ، وست في الآخرة . و { علمت } هو عامل النصب في { إِذَا الشمس كُوّرَتْ } وفيما عطف عليه . فإن قلت : كل نفس تعلم ما أحضرت ، كقوله : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا } [ آل عمران : 30 ] لا نفس واحدة فما معنى قوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } ؟ قلت : هو من عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه . ومنه قوله عز وجل : { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } [ الحجر : 2 ] ومعناه : معنى كم وأبلغ منه . وقول القائل :
قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرَّا أَنَامِلُهُ ... وتقول لبعض قوّاد العساكر : كم عندك من الفرسان؟ فيقول : رب فارس عندي . أو لا تعدم عندي فارساً ، وعنده المقانب : وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه . ولكنه أراد إظهار براءته من التزيد ، وأنه ممن يقلل كثير ما عنده ، فضلا أن يتزيد ، فجاء بلفظ التقليل ، ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ قارئاً قرأها عنده ، فلما بلغ { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ ( 14 ) } قال : وانقطاع ظهرياه .
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)
{ الخنس } الرواجع ، بينا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعاً إلى أوّله و { الجوار } السيارة . و { الكنس } الغيب من كنس الوحشى : إذا دخل كناسه . قيل : هي الدراري الخمسة : بهرام وزحل ، وعطارد ، والزهرة ، والمشتري ، تجري مع الشمس والقمر ، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس : فخنوسها رجوعها : وكنوسها : اختفاؤها تحت ضوء الشمس . وقيل : هي جميع الكواكب ، تخنس بالنهار فتغيب عن العيون ، وتكنس بالليل : أي تطلع في أماكنها ، كالوحش في كنسها ، عسعس الليل وسعسع : إذا أدبر . قال العجاج :
حَتّى إذَا الصُّبْحُ لَهَا تَنَفَّسَا ... وَانْجَابَ عَنْهَا لَيْلُهَا وَعَسْعَسَا
وقيل عسعس : إذا أقبل ظلامه . فإن قلت : ما معنى تنفس الصبح؟ قلت : إذا أقبل الصبح : أقبل بإقباله روح ونسيم ، فجعل ذلك نفساً له على المجاز وقيل : تنفس الصبح .
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
{ إِنَّهُ } الضمير للقرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } هو جبريل صلوات الله عليه { ذِى قُوَّةٍ } كقوله تعالى : { شَدِيدُ القوى ذُو مِرَّةٍ } [ النجم : 5 -6 ] لما كانت حال المكانة على حسب حال الممكن ، قال : { عِندَ ذِى العرش } ليدل على عظم منزلته ومكانته { ثَمَّ } إشارة إلى الظرف المذكور ، أعني : عند ذي العرش ، على أنه عند الله مطاع في ملائكته المقرَّبين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه . وقرىء «ثم» تعظيماً للأمانة . وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة .
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
{ وَمَا صَاحِبُكُم } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { بِمَجْنُونٍ } كما تبهته الكفرة ، وناهيك بهذا دليًلا على جلالة مكان جبريل عليه السلام وفضله على الملائكة ، ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم ، إذا وازنت بين الذكرين حين قرن بينهما ، وقايست بين قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } وبين قوله : { وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ } .
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)
{ وَلَقَدْ رَءَاهُ } ولقد رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جبريل { بالأفق المبين } بمطلع الشمس الأعلى { وَمَا هُوَ } وما محمد على ما يخبر به من الغيب من رؤية جبريل والوحي إليه وغير ذلك { بِضَنِينٍ } بمتهم من الظنة وهي التهمة وقرىء «بضنين» من الضنّ وهو البخل أي : لا يبخل بالوحي فيزوي بعضه غير مبلغه؛ أو يسأل تعليمه فلا يعلمه؛ وهو في مصحف عبد الله بالظاء ، وفي مصحف أبيّ بالضاد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما . وإتقان الفصل بين الضاد والظاء : واجب . ومعرفة مخرجيهما مما لا بد منه للقارىء ، فإنّ أكثر العجم لا يفرّقون بين الحرفين وإن فرقوا ففرقا غير صواب ، وبينهما بون بعيد؛ فإن مخرج الضاد من أصل حافة اللسان ، وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره ، وكان عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أضبط يعمل بكلتا يديه ، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه ، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين ، وأما الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا ، وهي أحد الأحرف الذولقية أخت الذال والثاء . ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة ، ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب فإن قلت : فإن وضع المصلي أحد الحرفين مكان صاحبه . قلت : هو كواضع الذال مكان الجيم ، والثاء مكان الشين ، لأن التفاوت بني الضاد والظاء كالتفاوت بين أخواتهما { وَمَا هُوَ } وما القرآن { بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ } أي بقول بعض المسترقة للسمع وبوحيهم إلى أوليائهم من الكهنة .
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
{ فَأيْنَ تَذْهَبُونَ ( 26 ) } استضلال لهم كما يقال لتارك الجادّة اعتسافاً أو ذهاباً في بنيات الطريق : أين تذهب؛ مثلت حالهم بحاله في تركهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ } بدل من العالمين وإنما أبدلوا منهم لأنّ الذين شاؤا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعظين جميعاً { وَمَا تَشَآءُونَ } الاستقامة يامن يشاؤها إلا بتوفيق الله ولطفه . أو : وما تشاؤنها أنتم يامن لا يشاؤها إلا بقسر الله وإلجائه .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1272 ) « من قرأ سورة إذا الشمس كوّرت أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر صحيفته » .
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
{ انفطرت } انشقت { فُجِّرَتْ } فتح بعضها إلى بعض ، فاختلط العذب بالمالح ، وزال البرزخ الذي بينهما ، وصارت البحار بحراً واحداً وروي أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار ، فتصير مستوية ، وهو معنى التسجير عند الحسن ، وقرىء «فجرت» بالتخفيف . وقرأ مجاهد : فجرت على النباء للفاعل والتخفيف . بمعنى : بغت لزوال البرزخ نظراً إلى قوله تعالى : { لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 20 ] لأنّ البغي والفجور أخوان . بعثر وبحثر بمعنى ، وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما . والمعنى : يحثت وأخرج موتاها . وقيل : لبراءة المبعثرة لأنها بعثرت أسرار المنافقين .
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
فإن قلت : ما معنى قوله : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم } وكيف طابق الوصف بالكرم إنكار الاغترار به ، وإنما يغتر بالكريم ، كما يروى عن عليّ رضي اللَّه عنه أنه صاح بغلام له كرّات فلم يلبه ، فنظر فإذا هو بالباب ، فقال له : ما لك لم تجبني؟ قال : لثقتي بحلمك وأمني من عقوبتك ، فاستحسن جوابه وأعتقه ، وقالوا : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه . قلت معناه أنّ حق الإنسان أن لا يغترّ بتكرم الله عليه ، حيث خلقه حياً لينفعه ، وبتفضله عليه بذلك حتى يطمع بعدما مكنه وكلفه فعصى وكفر النعمة المتفضل بها أن يتفضل عليه بالثواب وطرح العقاب ، اغتراراً بالتفضل الأوّل ، فإنه منكر خارج من حد الحكمة ، ولهذا :
( 1273 ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلاها . " غرّه جهله " وقال عمر رضي الله عنه : غرّه حمقه وجهله . وقال الحسن : غره والله شيطانه الخبيث ، أي : زين له المعاصي وقال له : أفعل ما شئت ، فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلا وهو متفضل عليك آخراً ، حتى ورطه وقيل للفضيل ابن عياض : إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك : { مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم } ماذا تقول؟ قال أقول : غرّتني ستورك المرخاة . وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر ، وليس باعتذار كما يظنه الطماع ، ويطّن به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم : إنما قال { بِرَبّكَ الكريم } دون سائر صفاته ، ليلقن عبده الجواب حتى يقول : غرّني كرم الكريم . وقرأ سعيد بن جبير : «ما أغرّك» إما على التعجب ، وإما على الاستفهام؛ من قولك : غرّ الرجل فهو غارّ : إذا غفل ، من قولك : بيتهم العدوّ وهم غارّون . وأغرّه غيره : جعله غاراً { فسواك } فجعلك سويا سالم الأعضاء { فَعَدَلَكَ } فصيرك معتدلاً متناسب الخلق من غير تفاوت فيه ، فلم يجعل إحدى اليدين أطول ، ولا إحدى العينين أوسع ، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود ، ولا بعض الشعر فاحماً وبعضه أشقر . أو جعلك معتدل الخلق تمشي قائماً لا كالبهائم . وقرىء «فعدلك» بالتخفيف وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون بمعنى المشدّد ، أي : عدل بعض أعضائك ببعض حتى اعتدلت والثاني { فَعَدَلَكَ } فصرفك . يقال : عدله عن الطريق يعني : فعدلك عن خلقة غيرك وخلقك خلقة حسنة مفارقة لسائر الخلق . أو فعدلك إلى بعض الأشكال والهيآت . { مَّا } في { مَّا شَآءَ } مزيدة ، أي : ركبك في أيّ صورة اقتضتها مشيئته وحكمته من الصور المختلقة في الحسن والقبح والطول والقصر والذكورة والأنوثة ، والشبه ببعض الأقارب وخلاف الشبه فإن قلت : هلا عطفت هذه الجملة كما عطف ما قبلها؟ قلت : لأنها بيان لعدلك . فإن قلت : بم يتعلق الجار؟ قلت : يجوز أن يتعلق بركبك . على معنى : وضعك في بعض الصور ومكنك فيه ، وبمحذوف أي ركبك حاصلاً في بعض الصور؛ ومحله النصب على الحال إن علق بمحذوف ويجوز أن يتعلق بعدلك ، ويكون في ( أي ) معنى التعجب ، أي فعدلك في صورة عجيبة ، ثم قال : ما شاء ركبك . أي ركبك ما شاء من التراكيب ، يعني تركيباً حسناً .
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
{ كَلاَّ } ارتدعوا عن الاغترار بكرم الله والتسلق به . وهو موجب الشكر والطاعة ، إلى عكسهما الذي هو الكفر والمعصية . ثم قال : { بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين } أصلا وهو الجزاء . أو دين الإسلام . فلا تصدّقون ثواباً ولا عقاباً وهو شرّ من الطمع المنكر { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين } تحقيق لما يكذبون به من الجزاء ، يعني أنكم تكذبون بالجزاء والكاتبون يكتبون عليكم أعمالكم لتجازوا بها . وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم : تعظيم لأمر الجزاء ، وأنه عند الله من جلائل الأمور؛ ولولا ذلك لما وكل بضبط ما يحاسب عليه ، ويجازي به الملائكة الكرام الحفظة الكتبة . وفيه إنذار وتهويل وتشوير للعصاة ولطف للمؤمنين وعن الفضيل أنه كان إذا قرأها قال : ما أشدّها من أية على الغافلين .
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)
{ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } كقوله : { وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } [ المائدة : 37 ] ، ويجوز أن يراد : يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك ، يعني : في قبورهم ، وقيل : أخبر الله في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات : حال الحياة التي يحفظ فيها عمله ، وحال الآخرة التي يجازى فيها ، وحال البرزخ وهو قوله : { وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ ( 16 ) } .
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
يعني أن أمر يوم الدين بحيث لا تدرك دراية دار كنهه في الهول والشدّة وكيفما تصورّته فهو فوق ذلك وعلى أضعافه ، والتكرير لزيادة التهويل ، ثم أجمل القول في وصفه فقال { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } أي لا تستطيع دفعاً عنها ولا نفعاً لها بوجه ولا أمر إلا لله وحده . من رفع فعلى البدل من يوم الدين ، أو على : هو يوم لا تملك . ومن نصب فبإضمار يدانون؛ لأنّ الدين يدل عليه . أو بإضمار اذكر . ويجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو في محل الرفع .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1274 ) « من قرأ إذا السماء انفطرت كتب الله له بعدد كل قطرة من السماء حسنة وبعدد كل قبر حسنة » .
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
التطفيف : البخس في الكيل والوزن : لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير . وروى :
( 1275 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا ، فنزلت فأحسنوا الكيل . وقيل : قدمها وبها رجل يعرف بأبي جهينة ومعه صاعان : بكيل بأحدهما ويكتال بالآخر . وقيل :
( 1276 ) كان أهل المدينة تجاراً يطففون ، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة ، فنزلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم . وقال : «خمس بخمس» قيل : يا رسول الله ، وما خمس بخمس؟ قال : " ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر " وعن علي رضي الله عنه : أنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له : أقم الوزن بالقسط ، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت . كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها ويفصل الواجب من النفل . وعن ابن عباس : إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين : بهما هلك من كان قبلكم : المكيال والميزان؛ وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعاً وكانا مفرّقين في الحرمين : كان أهل مكة يزنون وأهل المدينة يكيلون ، وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول له : اتق الله وأوف الكيل ، فإنّ المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم . وعن عكرمة : أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار . فقيل له : إنّ ابنك كيال أو وزان؛ فقال : أشهد أنه في النار . وعن أبيّ رضي الله عنه : لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم : أبدل «على» مكان «من» للدلالة على ذلك . ويجوز أن يتعلق «على» بيستوفون ، ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية ، أي : يستوفون على الناس خاصة؛ فأما أنفسهم فيستوفون لها؛ وقال الفراء «من» و«على» يعتقبان في هذا الموضع ، لأنه حق عليه؛ فإذا قال اكتلت عليك ، فكأنه قال : أخذت ما عليك؛ وإذا قال : اكتلت منك ، فكقوله : استوفيت منك . والضمير في { كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } ضمير منصور راجع إلى الناس . وفيه وجهان : أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم؛ فحذف الجار وأوصل الفعل ، كما قال :
وَلَقَدْ جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وَعَسَاقِلاً ... وَلَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ نَبَاتِ الأوْبَرِ
والحريص يصيدك إلا الجواد ، بمعنى : جنيت لك ، ويصيد لك ، وأن يكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، والمضاف هو المكيل أو الموزون ، ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً للمطففين ، لأنّ الكلام يخرج به إلى نظم فاسد؛ وذلك أنّ المعنى : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا أعطوهم أخسروا؛ وإن جعلت الضمير للمطففين انقلب إلى قولك : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام متنافر لأنّ الحديث واقع في الفعل لا في المباشر ، والتعلق في إبطاله بخط المصحف ، وأنّ الألف التي تكتب بعد واو الجمع غير ثابتة فيه : ركيك؛ لأنّ خط المصحف لم يراع في كثير منه حدّ المصطلح عليه في علم الخط ، على أني رأيت في الكتب المخطوطة بأيدي الأئمة المتقنين هذه الألف مرفوضة لكونها غير ثابتة في اللفظ والمعنى جميعاً؛ لأن الواو وحدها معطية معنى الجمع ، وإنما كتبت هذه الألف تفرقة بين واو الجمع وغيرها في نحو قولك : هم لم يدعوا ، وهو يدعو؛ فمن لم يثبتها قال : المعنى كاف في التفرقة بينهما .
وعن عيسى بن عمر وحمزة : أنهما كانا يرتكبان ذلك ، أي يجعلان الضميرين للمطففين ، ويقفان عند الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادا فإن قلت : هلا قيل : أو اتزنوا ، كما قيل { أَوْ وَّزَنُوهُمْ } ؟ قلت : كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة ، لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء ، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً { يُخْسِرُونَ } ينقصون يقال : خسر الميزان وأخسره { أَلا يَظُنُّ } إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف ، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخميناً { أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ } ومحاسبون على مقدار الذرّة والخردلة . وعن قتادة : أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك ، وأعدل كما تحب أن يعدل لك . وعن الفضيل : بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة . وعن عبد الملك بن مروان : أن أعرابياً قال له : قد سمعت ما قال الله في المطففين : أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به ، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن ، ووصف اليوم بالعظم ، وقيام الناس فيه لله خاضعين ، ووصفه ذاته برب العالمين : بيان بليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط ، والعمل على السوية والعدل في كل أخذ وإعطاء ، بل في كل قول وعمل ، وقيل : الظنّ بمعنى اليقين ، والوجه ما ذكر؛ ونصب { يَوْمَ يَقُومُ } بمبعوثون . وقرىء بالجر بدلاً من ( يوم عظيم ) وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله : { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين ( 6 ) } بكى نحيباً وامتنع من قراءة ما بعده .
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
{ كَلاَّ } ردعهم عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن ذكر البعث والحساب ، ونبههم على أنه مما يجب أن يتاب عنه ويندم عليه ، ثم أتبعه وعيد الفجار على العموم . وكتاب الفجار : ما يكتب من أعمالهم . فإن قلت : قد أخبر الله عن كتاب الفجار بأنه في سجين ، وفسر سجيناً بكتاب مرقوم؛ فكأنه قيل : إن كتابهم في كتاب مرقوم . فما معناه : قلت { سِجِّينٍ } كتاب جامع هو ديوان الشر : دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس ، وهو كتاب مرقوم مسطور بين الكتابة . أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه فالمعنى أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان ، وسمى سجيناً : فعيلاً من السجن ، وهو الحبس والتضييق . لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم ، أو لأنه مطروح كما روي تحت الأرض السابعة في مكان وحش مظلم ، وهو مسكن إبليس وذرّيته استهانة به وإذالة ، وليشهده الشياطين المدحورون ، كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون . فإن قلت : فما سجين ، أصفة هو أم اسم؟ قلت : بل هو اسم علم منقول من وصف كحاتم . وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف .
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
{ الذين يُكَذِّبُونَ } مما وصف به للذم لا للبيان ، كقولك فعل ذلك فلان الفاسق الخبيث { كَلاَّ } ردع للمعتدي الأثيم عن قوله : { رَانَ على قُلُوبِهِمْ } ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها : وهو أن يصر على الكبائر ويسوّف التوبة حتى يطبع على قلبه ، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه . وعن الحسن : الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب . يقال : ران عليه الذنب وغان عليه ، رينا وغينا ، والغين : الغيم ، ويقال : ران فيه النوم رسخ فيه ، ورانت به الخمر : ذهبت به . وقرىء بإدغام اللام في الراء وبالإظهار ، والإدغام أجود . وأميلت الألف وفخمت { كَلاَّ } ردع عن الكسب الرائن على قلوبهم . وكونهم محجوبين عنه : تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم ، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم . قال :
إذَا اعْتَرَوْا بَابَ ذِي عُبْيَةٍ رُجِبُوا ... وَالنَّاسُ مِنْ بَيْنِ مَرْجُوبٍ وَمَحْجُوبٍ
عن ابن عباس وقتادة وابن أبي مليكة : محجوبين عن رحمته . وعن ابن كيسان : عن كرامته .
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
{ كَلآ } ردع عن التكذيب . وكتاب الأبرار : ما كتب من أعمالهم . وعليون : علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين ، منقول من جمع «عليّ» فعيل من العلو كسجين من السجن ، سمى بذلك إمّا لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة ، وإمّا لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون ، تكريماً له وتعظيماً . وروي
( 1277 ) «إن الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلونه ، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانة أوحى إليهم إنكم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه ، وأنه أخلص عمله فاجعلوه في عليين ، فقد غفرت له؛ وإنها لتصعد بعمل العبد فيزكونه ، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحي إليهم : أنتم الحفظة على عبدي وأنا الرقيب على ما في قلبه ، وإنه لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين» .
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
{ الأرآئك } الأسرة في الحجال { يَنظُرُونَ } إلى ما شاؤا مدّ أعينهم إليه من مناظر الجنة ، وإلى ما أولاهم الله من النعمة والكرامة ، وإلى أعدائهم يعذبون في النار ، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك { نَضْرَةَ النعيم } بهجة التنعم وماءه ورونقه ، كما ترى في وجوه الأغنياء وأهل الترفه ، وقرىء «تعرف» على البناء للمفعول ونضرة النعيم بالرفع . الرحيق الشراب الخالص الذي لا غش فيه { مَّخْتُومٍ } تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة . وقيل { ختامه مِسْكٌ } مقطعه رائحة مسك إذا شرب . وقيل : يمزج بالكافور ، ويختم مزاجه بالمسك . وقرىء «خاتمه» ، بفتح التاء وكسرها ، أي : ما يختم به ويقطع { فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون } فليرتغب المرتغبون { تَسْنِيمٍ } علم لعين بعينها : سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه : إمّا لأنها أرفع شراب في الجنة وإمّا لأنها تأتيهم من فوق ، على ما روي أنها تجري في الهواء متسنمة فتنصبّ في أوانيهم . و { عَيْناً } نصب على المدح . وقال الزجاج : نصب على الحال . وقيل : هي للمقربين ، يشربونها صرفاً ، وتمزج لسائر أهل الجنة .
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
هم مشركو مكة : أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم : كانوا يضحكون من عمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين ويستهزؤن بهم . وقيل : جاء علي ابن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ، ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه ، فنزلت قبل أن يصل عليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم { يَتَغَامَزُونَ } يغمز بعضهم بعضاً ، ويشيرون بأعينهم { فَكِهِينَ } ملتذين بذكرهم والسخرية منهم ، أي : ينسبون المسلمين إلى الضلال { وَمَا أُرْسِلُواْ } على المسلمين { حافظين } موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ، ويهيمنون على أعمالهم ، ويشهدون برشدهم وضلالهم؛ وهذا تهكم بهم . أو هو من جملة قول الكفار ، وإنهم إذا رأوا المسلين قالوا : إنّ هؤلاء لضالون؛ وإنهم لم يرسلوا عليهم حافظين إنكاراً لصدّهم إياهم عن الشرك ، ودعائهم إلى الإسلام وجدّهم في ذلك .
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ ( 23 ) } حال من { يَضْحَكُونَ } أي : يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر ومن ألوان العذاب بعد النعيم والترفه : وهم على الأرائك آمنون . وقيل : يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم : اخرجوا إليها؛ فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم ، يفعل ذلك بهم مراراً ، فيضحك المؤمنون منهم «ثوبه» وأثابه : بمعنى ، إذا جازاه قال أوس :
سَأَجزِيِك أَوْ يَجْزِيِك عَنِّى مُثَوِّب ... وَحَسْبُكِ أَنْ يُثْنَى عَلَيْكِ وَتُحْمَدِى
وقرىء بإدغام اللام في الثاء .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1278 ) " من قرأ سورة المطففين سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة " .
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
حذف جواب إذا ليذهب المقدر كل مذهب أو اكتفاء بماعلم في مثلها من سورتي التكوير والانفطار . وقيل : جوابها ما دلّ عليه ( فملاقيه ) أي إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه . ومعناه : إذا انشقت بالغمام ، كقوله تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] ، وعن علي رضي الله عنه : تنشق من المجرّة أذن له : استمع له . ومنه قوله عليه السلام :
( 1279 ) « ما أذن الله لشيء كأذنه لنبيّ يتغنى بالقرآن » وقول حجاف بن حكيم :
أَذِنْتُ لَكُمْ لَمَّا سَمِعْتُ هَرِيرَكُمْ ... والمعنى : أنها فعلت في انقيادها لله حين أراد انشقاقها فعل المطواع الذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنصت له وأذعن ولم يأب ولم يمتنع ، كقوله : { أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ، { وَحُقَّتْ } من قولك هو محقوق بكذا وحقيق به ، يعني : وهي حقيقة بأن تنقاد ولا تمتنع . ومعناه الإيذان بأنّ القادر بالذات يجب أن يتأتى له كل مقدور ويحق ذلك { مُدَّتْ } من مدّ الشيء فامتدّ : وهو أن تزال جبالها وآكامها وكل أمت فيها ، حتى تمتدّ وتنبسط ويستوي ظهرها ، كما قال تعالى : { قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } [ طه : 106 107 ] ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : مدّت مدّ الأديم العكاظي؛ لأن الأديم إذا مدّ زال كل انثناء فيه وأمت واستوى أو من مدّه بمعنى أمدّه ، أي : زيدت سعة وبسطة { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا } ورمت بما في جوفها مما دفن فيها من الموتى والكنوز { وَتَخَلَّتْ } وخلت غاية الخلو حتى لم يبق شيء في باطنها ، كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو ، كما يقال : تكرم الكريم ، وترحم الرحيم : إذا بلغا جهدهما في الكرم والرحمة ، وتكلفا فوق ما في طبعهما { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا } في إلقاء ما في بطنها وتخليها .
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
الكدح : جهد النفس في العمل والكدّ فيه حتى يؤثر فيها ، من كدح جلده : إذا خدشه ومعنى { كَادِحٌ إلى رَبّكَ } جاهد إلى لقاء ربك ، وهو الموت وما بعده من الحال الممثلة باللقاء { فملاقيه } فملاق له لا محالة لا مفرّ لك منه ، وقيل : الضمير في ملاقيه للكدح { يَسِيراً } سهلاً هينا لا يناقش فيه ولا يعترض بما يسوءه ويشق عليه ، كما يناقش أصحاب الشمال . وعن عائشة رضي الله عنها : هو أن يعرّف ذنوبه ، ثم يتجاوز عنه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( 1280 ) " من يحاسب يعذب " فقيل يا رسول الله : فسوف يحاسب حساباً يسيراً . قال : " ذلكم العرض ، من نوقش في الحساب عذب " { إلى أَهْلِهِ } إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين . أو إلى فريق المؤمنين . أو إلى أهله في الجنة من الحور العين { وَرَاءَ ظَهْرِهِ } قيل : تغلّ يمناه إلى عنقه ، وتجعل شماله وراء ظهره ، فيؤتى كتابه بشماله من روءا ظهره . وقيل تخلع يده اليسرى من وراء ظهره ، { يَدْعُو ثُبُوراً } يقول : يا ثبوراه . والثبور : الهلاك . وقرىء «ويصلى سعيراً» كقوله : { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } [ الواقعة : 94 ] ، ويصلى : بضم الياء والتخفيف ، كقوله : { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } [ النساء : 115 ] ، { فِى أَهْلِهِ } فيما بين ظهرانيهم ، أو معهم ، على أنهم كانوا جميعاً مسرورين ، يعني أنه كان في الدنيا مترفا بطرا مستبشراً كعادة الفجار الذين لا يهمهم أمر الآخرة ولا يفكرون في العواقب . ولم يكن كئيباً حزيناً متفكراً كعادة الصلحاء والمتقين وحكاية الله عنهم { إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } [ الطور : 26 ] { ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } لن يرجع إلى الله تعالى تكذيباً بالمعاد . يقال : لا يحور ولا يحول ، أي : لا يرجع ولا يتغير . قال لبيد :
يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ ... وعن ابن عباس : ما كنت أدري ما معنى يحور حتى سمعت أعرابية تقول لبنية لها : حوري ، أي : أرجعي { بلى } إيجاب لما بعد النفي في { لَّن يَحُورَ } أي : بلى ليحورنّ { إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } وبأعماله لا ينساها ولا تخفى عليه ، فلا بدّ أن يرجعه ويجازيه عليها . وقيل : نزلت الآيتان في أبي سلمة بن عبد الأشدّ وأخيه الأسود بن عبد الأشد .
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
الشفق : الحمرة التي ترى في المغرب بعد سقوط الشمس ، وبسقوطه يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء ، إلا ما يروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه في إحدى الروايتين : أنه البياض . وروى أسد بن عمرو : أنه رجع عنه ، سمي لرقته . ومنه الشفقة على الإنسان : رقة القلب عليه { وَمَا وَسَقَ } وما جمع وضم ، يقال : وسقه فاتسق واستوسق . قال :
مُسْتَوْسِقَاتٌ لَوْ يَجِدْنَ سَائِقَا ... ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين : اتسع واستوسع . ومعناه : وما جمعه وستره وآوى إليه من الدواب وغيرها { إِذَا اتسق } إذا اجتمع واستوى ليلة أربع عشرة . قرىء : «لتركبن» على خطاب الإنسان في { ياأيها الإنسان } ولنركبن ، بالضم على خطاب الجنس ، لأن النداء للجنس؛ ولتركبن بالكسر على خطاب النفس ، وليركبن بالياء على : ليركبن الإنسان . والطبق : ما طابق غيره . يقال : ما هذا بطبق لذا ، أي : لا يطابقه . ومنه قيل للغطاء الطبق . وإطباق الثرى : ما تطابق منه ، ثم قيل للحال المطابقة لغيرها : طبق . ومنه قوله عز وعلا { طَبَقاً عَن طَبقٍ } أي حالاً بعد حال : كل واحدة مطابقة لأختها في الشدّة والهول : ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة ، من قولهم : هو على طبقات . ومنه : طبق الظهر لفقاره الواحدة : طبقة ، على معنى : لتركبنّ أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدّة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها . فإن قلت : ما محل عن طبق؟ قلت : النصب على أنه صفة لطبقاً ، أي : طبقا مجاوزاً لطبق . أو حال من الضمير في لتركبنّ ، أي : لتركبن طبقاً مجاوزين لطبق . أو مجاوزاً أو مجاوزة ، على حسب القراءة : وعن مكحول : كل عشرين عاماً تجدون أمراً لم تكونوا عليه .
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
{ لاَ يَسْجُدُونَ } لا يستكينون ولا يخضعون . وقيل :
( 1281 ) قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم { واسجد واقترب } [ العلق : 19 ] فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفر ، فنزلت وبه احتج أبو حنيفة رضي الله عنه على وجوب السجدة ، وعن ابن عباس ليس في المفصل سجدة . وعن أبي هريرة رضي الله عنه :
( 1282 ) أنه سجد فيها وقال : والله ما سجدت فيها إلا بعد أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها . وعن أنس : صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان فسجدوا وعن الحسن : هي غير واجبة { الذين كَفَرُواْ } إشارة إلى المذكورين { بِمَا يُوعُونَ } بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر والحسد والبغي والبغضاء . أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب { إِلاَّ الذين ءَامَنُواْ } استثناء منقطع .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1283 ) « من قرأ سورة انشقت أعاذه الله أن يعطيه كتابه وراء ظهره » .
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
هي البروج الاثنا عشر ، وهي قصور السماء على التشبيه . وقيل : { البروج } النجوم التي هي منازل القمر . وقيل : عظام الكواكب . سميت بروجاً لظهورها . وقيل : أبواب السماء { واليوم الموعود ( 2 ) } يوم القيامة { وشاهد وَمَشْهُودٍ ( 3 ) } يعني وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه والمراد بالشاهد : من يشهد فيه من الخلائق كلهم؛ وبالمشهود : ما في ذلك اليوم من عجائبه وطريق تنكيرهما : إما ما ذكرته في قوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } [ التكوير : 14 ] كأنه قيل : وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود . وإما الإبهام في الوصف ، كأنه قيل : وشاهد مشهود لا يكتنه وصفهما . وقد اضطربت أقاويل المفسرين فيهما؛ فقيل : الشاهد والمشهود : محمد صلى الله عليه وسلم ، ويوم القيامة . وقيل : عيسى وأمّته . لقوله : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [ المائدة : 117 ] ، وقيل : أمّة محمد ، وسائر الأمم : وقيل : يوم التروية ، ويوم عرفة ، وقيل : يوم عرفة ، ويوم الجمعة . وقيل الحجر الأسود والحجيج وقيل الأيام والليالي وبنو آدم وعن الحسن ما من يوم إلا وينادى : إني يوم جديد وإني على ما يعمل فيّ شهيد؛ فاغتنمني ، فلو غابت شمس لم تدركني إلى يوم القيامة؛ وقيل : الحفظة وبنو آدم . وقيل : الأنبياء ومحمد صلى الله عليه وسلم .
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
فإن قلت : أين جواب القسم؟ قلت : محذوف يدل عليه قوله : { قُتِلَ أصحاب الاخدود } كأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون ، يعني كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود؛ وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة ، وتذكيرهم بما جرى على من تقدّمهم : من التعذيب على الإيمان . وإلحاق أنواع الأذى ، وصبرهم وثباتهم ، حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ، ويعلموا أن كفارهم عند الله بمنزلة أولئك المعذبين المحرّقين بالنار ، ملعونون أحقاء بأن يقال فيهم : قتلت قريش ، كما قيل : قتل أصحاب الأخدود وقتل : دعاء عليهم ، كقوله : { قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] وقرىء «قتل» بالتشديد . والأخدود : الخدّ في الأرض وهو الشق ، ونحوهما بناء ومعنى : الخق والأخقوق . ومنه فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( 1284 ) " كان لبعض الملوك ساحر ، فلما كبر ضمّ إليه غلاماً ليعلمه السحر ، وكان في طريق الغلام راهب : فسمع منه ، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس . فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها فقتلها؛ وكان الغلام بعد ذلك يبريء الأكمه والأبرص ، ويشفي من الأدواء ، وعمي جليس للملك فأبرأه فأبصره الملك فسأله فقال : من ردّ عليك بصرك؟ فقال : ربي ، فغضب فعذبه . فدل على الغلام فعذبه ، فدل على الراهب ، فلم يرجع الراهب عن دينه ، فقدّ بالمنشار وأبي الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته ، فدعا فرجف بالقوم ، فطاحوا ونجا ، فذهب به إلى قرقور فلججوا به ليغرقوه ، فدعا فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ونجا ، فقال للملك : لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهماً من كنانتي وتقول : بسم الله رب الغلام ، ثم ترميني به ، فرماه فرقع في صدغه فوضع يده عليه ومات؛ فقال الناس : أمنا برب الغلام؛ فقيل للملك . نزل بك ما كنت تحذر؛ فأمر بأخاديد في أفواه السكك وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاعست أن تقع فيها ، فقال الصبي : يا أماه ، أصبري فإنك على الحق؛ فاقتحمت . وقيل : قال لها قعى ولا تنافقي . وقيل : قال لها ما هي إلا غميضة فصبرت " وعن علي رضي الله عنه :
( 1285 ) أنهم حين اختفلوا في أحكام المجوس قال : هم أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم ، فتناولها بعض ملوكهم فسكر ، فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج ، فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول : يا أيها الناس ، إنّ الله قد أحل نكاح الأخوات ، ثم تخطبهم بعد ذلك فتقول : إن الله حرّمه؛ فخطب فلم يقبلوا منه فقالت له : ابسط فيهم السوط؛ فلم يقبلوا؛ فقالت له : ابسط فيهم السيف ، فلم يقبلوا؛ فأمرته بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها؛ فهم الذين أرادهم الله بقوله : { قُتِلَ أصحاب الاخدود ( 44 ) } وقيل : وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام ، فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير ، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا ، فأحرق منهم اثني عشر ألفاً في الأخاديد .
وقيل : سبعين ألفاً؛ وذكر أنّ طول الأخدود : أربعون ذراعاً وعرضه اثنا عشر ذراعاً . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1289 ) " أنه كان إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوّذ من جهد البلاء " { النار } بدل اشتمال ممن الأخدود { ذَاتِ الوقود } وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس ، وقرىء «الوقود» بالضم { إِذْ } ظرف لقتل ، أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها . ومعنى { عَلَيْهَا } على ما يدنو منها من حافات الأخدود ، كقوله :
وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالْمُحَلِّقُ ... وكما تقول : مررت عليه ، تريد : مستعليا لمكان يدنو منه ، ومعنى شهادتهم على إحراق المؤمنين : أنهم وكلوا بذلك وجعلوا شهوداً يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنّ أحداً منهم لم يفرط فيما أمر به وفوض إليه من التعذيب . ويجوز أن يراد : أنهم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين ، يؤدّون شهادتهم يوم القيامة { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] ، { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } وما عابوا منهم وما أنكروا إلا الإيمان كقوله :
وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنْ سُيُوفَهُمْ ... قال ابن الرقيات :
مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إلاَّ ... أَنَّهُمْ يَحْلُمُونَ إنْ غَضِبُوا
وقرأ أبو حيوة «نقموا» بالكسر ، والفصيح : هو الفتح . وذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به ويعبد ، وهو كونه عزيزاً غالباً قادراً يخشى عقابه حميداً منعماً . يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه { لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض } فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له تقديراً ، لأن { مَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغيّ ، وإن الناقمين أهل لانتقام الله منهم بعذاب لا يعدله عذاب { والله على كُلّ شَىْءٍ شَهِيدٌ } وعيد لهم ، يعني أنه علم ما فعلوا ، وهو مجازيهم عليه .
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
ويجوز أن يريد بالذين فتنوا : أصحاب الأخدود خاصة ، وبالذين آمنوا : المطروحين في الأخدود . ومعنى فتنوهم عذبوهم بالنار وأحرقوهم { فَلَهُمْ } في الآخرة { عَذَابُ جَهَنَّمَ } بكفرهم { وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق بإحراقهم المؤمنين . أو لهم عذاب جهنم في الآخرة ، ولهم عذاب الحريق في الدنيا ، لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم . ويجوز أن يريد : الذين فتنوا المؤمنين ، أي : بلوهم بالأذى على العموم؛ والمؤمنين : المفتونين؛ وأن للفاتنين عذابين في الآخرة : لكفرهم ، ولفتنتهم .
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
البطش : الأخذ بالعنف؛ فإذا وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم : وهو بطشه بالجبابرة والظلمة ، وأخذهم بالعذاب والانتقام { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ ( 13 ) } أي يبدىء البطش ويعيده . يعني : يبطش بهم في الدنيا وفي الآخرة . أو دل باقتداره على الابداء والإِعادة على شدة بطشه وأوعد الكفرة بأنه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا بالإعادة وقرىء «يبدأ» { الودود } الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود : من إعطائهم ما أرادوا وقرىء «ذي العرش» صفة لربك وقرىء «المجيد» بالجر صفة للعرش . ومجد الله عظمته ومجد العرش : علوه وعظمته { فَعَّالٌ } خبر مبتدأ محذوف . وإنما قيل : فعال؛ لأنّ ما يريد ويفعل في غاية الكثرة .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
{ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ( 18 ) } بدل من الجنود وأراد بفرعون إياه وآله ، كما في قوله : { مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } [ يونس : 83 ] ، والمعنى : قد عرفت تكذيب تلك الجنود الرسل وما نزل بهم لتكذيبهم { بَلِ الذين كَفَرُواْ } من قومك { فِى تَكْذِيبٍ } أيّ : تكذيب واستيجاب للعذاب ، والله عالم بأحوالهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه . والإحاطة بهم من ورائهم : مثل لأنهم لا يفوتونه ، كما لا يفوت فائت الشيء المحيط به . ومعنى الإضراب : أن أمرهم أعجب من أمر أولئك؛ لأنهم سمعوا بقصصهم وبما جرى عليهم ، ورأوا آثار هلاكهم ولم يعتبروا ، وكذبوا أشد من تكذيبهم { بَلْ هُوَ } أي بل هذا الذي كذبوا به { قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ } شريف عالي الطبقة في الكتب وفي نظمه وإعجازه . وقرىء «قرآن مجيد» ، بالإضافة ، أي : قرآن رب مجيد . وقرأ يحيى بن يعمر : «في لوح» واللوح : الهواء ، يعني : اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح { مَّحْفُوظٍ } من وصول الشياطين إليه وقرىء «محفوظ» بالرفع صفة القرآن .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1287 ) " من قرأ سورة البروج أعطاه الله بعدد كل يوم جمعة وكل يوم عرفة يكون في الدنيا عشر حسنات " .
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
{ النجم الثاقب } المضيء ، كأنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه ، كما قيل : درّيء ، لأنه يدرؤه ، أي : يدفعه . ووصف بالطارق؛ لأنه يبدو بالليل ، كما يقال للآتي ليلا : طارق : أو لأنه يطرق الجني ، أي يصكه . والمراد : جنس النجوم ، أو جنس الشهب التي يرجم بها . فإن قلت : ما يشبه قوله : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطارق ( 2 ) النجم الثاقب ( 3 ) } إلا ترجمة كلمة بأخرى ، فبين لي أي فائدة تحته؟ قلت : أراد الله عزّ من قائل : أن يقسم بالنجم الثاقب تعظيماً له ، لما عرف فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة ، وأن ينبه على ذلك فجاء بما هو صفة مشتركة بينه وبين غيره ، وهو الطارق ، ثم قال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق ( 2 ) } ثم فسره بقوله : { النجم الثاقب ( 3 ) } كل هذا إظهار لفخامة شأنه ، كما قال { فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 75 - 76 ] روي :
( 1288 ) أنّ أبا طالب كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانحط نجم ، فامتلأ ما ثم نوراً فجزع أبو طالب وقال : أي شيء هذا؟ فقال عليه السلام : « " هذا نجم رمي به ، وهو آية من آيات الله " فعجب أبو طالب ، فنزلت .
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
فإن قلت : ما جواب القسم؟ قلت { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } لأنّ «إن» لا تخلو فيمن قرأ لما مشددة ، بمعنى : إلا أن تكون نافية . وفيمن قرأها مخففة على أن «ما» صلة تكون مخففة من الثقيلة ، وأيتهما كانت فهي مما يتلقى به القسم ، حافظ مهيمن عليها رقيب ، وهو الله عز وجل { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء رَّقِيباً } [ الأحزاب : 52 ] ، { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء مُّقِيتاً } [ النساء : 85 ] ، وقيل : ملك يحفظ عملها ويحصى عليها ما تكسب من خير وشر . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1289 ) " وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب . ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين " .
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
فإن قلت : ما وجه اتصال قوله { فَلْيَنظُرِ } بما قبله؟ قلت : وجه اتصاله به أنه لما ذكر أن على كل نفس حافظاً ، أتبعه توصية الإنسان بالنظر في أوّل أمره ونشأته الأولى ، حتى يعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ، ولا يملى على حافظه إلا ما يسره في عاقبته؛ و { مِمَّ خُلِقَ } استفهام جوابه { خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ( 6 ) } والدفق : صبّ فيه دفعٌ . ومعنى دافق : النسبة إلى الدفق الذي هو مصدر دفق ، كاللابن والتامر . أو الإسناد المجازي . والدفق في الحقيقة لصاحبه ، ولم يقل ماءين لامتزاجهما في الرحم ، واتحادهما حين ابتدىء في خلقه { مِن بَيْنِ الصلب والترائب } من بين صلب الرجل وترائب المرأة : وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة . وقرىء «الصلب» بفتحتين ، والصلب بضمتين . وفيه أربع لغات : صَلْب ، وصُلْب ، وصَلَب وصَاْلب قال العجاج :
في صَلَبٍ مِثْلِ الْعِنَانِ الْمُؤْدَمِ ... وقيل : العظم والعصب من الرجل ، واللحم والدم من المرأة .
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
{ إِنَّهُ } الضمير للخالق ، لدلالة ( خلق ) عليه . ومعناه : إنّ ذلك الذي خلق الإنسان ابتداء من نطفه { على رَجْعِهِ } على إعادته خصوصاً { لَقَادِرٌ } لبين القدرة لا يلتاث عليه ولا يعجز عنه . كقوله : إنني لفقير { يَوْمَ تبلى } منصوب برجعه؛ ومن جعل الضمير في { رَجْعِهِ } وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب أو الإحليل . أو إلى الحالة الأولى نصب الظرف بمضمر { السرائر } ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها ، وما أخفى من الأعمال وبلاؤها . تعرّفها وتصفحها ، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث وعن الحسن أنه سمع رجلاً ينشد :
سَيَبْقَى لَهَا في مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا ... سَرِيرَةُ وُدٍّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
فقال : ما أغفله عما في { والسماء والطارق ( 1 ) } { فَمَا لَهُ } فما للإنسان { مِن قُوَّةٍ } من منعة في نفسه يمتنع بها { وَلاَ نَاصِرٍ } ولا مانع يمنعه .
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
سمي المطر رجعاً ، كما سمي أوباً قال :
رَبَّاءُ شَمَّاءُ لاَ يَأْوِي لِقُلتِهَا ... إلاَّ السَّحَابُ وَإلاَّ الأوْبُ والسَّبلُ
تسمية بمصدري : رجع ، وآب؛ وذلك أنّ العرب كانوا يزعمون أنّ السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ، ثم يرجعه إلى الأرض . أو أرادوا التفاؤل فسموه رجعاً . وأوبا ، ليرجع ويؤب . وقيل : لأنّ الله يرجعه وقتاً فوقتاً . قالت الخنساء : كالرجع في المدجنة السارية . والصدع : ما يتصدّع عنه الأرض من النبات { إِنَّهُ } الضمير للقرآن { فَصْلٌ } فاصل بين الحق والباطل ، كما قيل له فرقان { وَمَا هوَ بالهزل ( 14 ) } يعني أنه جدّ كله لا هوادة فيه . ومن حقه وقد وصفه الله بذلك أن يكون مهيباً في الصدور ، معظماً في القلوب ، يترفع به قارئه وسامعه وأن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح ، وأن يلقى ذهنه إلى أنّ جبار السموات يخاطبه فيأمره وينهاه ، ويعده وبوعده ، حتى إن لم يستفزه الخوف ولم تتبالغ فيه الخشية ، فأدنى أمره أن يكون جادّا غير هازل ، فقد نعى الله ذلك على المشركين في قوله : { وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سامدون } [ النجم : 60 61 ] ، { والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] .
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
{ إِنَّهُمْ } يعني أهل مكة يعملون المكايد في إبطال أمر الله وإطفاء نور الحق ، وأنا أقابلهم بكيدي : من استدراجي لهم وانتظاري بهم الميقات الذي وقته للانتصار منهم { فَمَهِّلِ الكافرين } يعني لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل به { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } أي إمهالا يسيراً؛ وكرّر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين منه والتصبير .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1290 ) « من قرأ سورة الطارق أعطاه الله بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات » .
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
تسبيح اسمه عز وعلا : تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني التي هي إلحاد في أسمائه ، كالجبر والتشبيه ونحو ذلك ، مثل أن يفسر الأعلى بمعنى العلو الذي هو القهر والاقتدار ، لا بمعنى العلوّ في المكان والاستواء على العرش حقيقة؛ وأن يصان عن الابتذال والذكر ، لا على وجه الخشوع والتعظيم . ويجوز أن يكون { الأعلى } صفة للرب ، والاسم؛ وقرأ علي رضي الله عنه : سبحان ربي الأعلى . وفي الحديث
( 1291 ) لما نزلت : فسبح باسم ربك العظيم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوها في ركوعكم " فلما نزل سبح اسم ربك الأعلى قال : " اجعلوها في سجودكم " وكانوا يقولون في الركوع : اللهم لك ركعت ، وفي السجود : اللهم لك سجدت { خَلَقَ فسوى } أي خلق كل شيء فسوّى خلقه تسوية ، ولم يأت به متفاوتا غير ملتئم ، ولكن على إحكام واتساق ، ودلالة على أنه صادر عن عالم ، وأنه صنعة حكيم { قَدَّرَ فهدى } قدّر لكل حيوان ما يصلحه ، فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به يحكى أنّ الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت ، وقد ألهمها الله أنّ مسح العين بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها ، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوى تلك المسافة على طولها وعلى عماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها ، فتحك بها عينيها وترجع باصرة بإذن الله وهدايات الله للإنسان إلى ما لا يحدّ من مصالحه وما لا يحصر من حوائجه في أغذيته وأدويته ، وفي أبواب دنياه ودينه ، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض : باب واسع ، وشوط بطين ، لا يحيط به وصف واصف؛ فسبحان ربي الأعلى . وقرىء : «قدر» بالتخفيف { أحوى } صفة لغثاء ، أي { أَخْرَجَ المرعى } أنبته { فَجَعَلَهُ } بعد خضرته ورفيفه { غُثَاءً أحوى } دربنا أسود . ويجوز أن يكون { أحوى } حالا من المرعى ، أي : أخرجه أحوى أسود من شدّة الخضرة والري ، فجعله غثاء بعد حوّيه .
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
بشره الله بإعطاء آية بينة ، وهي : أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ ، فيحفظه ولا ينساه { إِلاَّ مَا شَاءَ الله } فذهب به عن حفظه برفع حكمه وتلاوته ، كقوله : { أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] وقيل : كان يعجل بالقراءة إذا لقنه جبريل ، فقيل : لا تعجل ، فإنّ جبريل مأمور بأن يقرأه عليك قراءة مكررة إلى أن تحفظه؛ ثم لا تنساه إلا ما شاء الله ، ثم تذكره بعد النسيان . أو قال : إلا ما شاء الله ، يعني : القلة والندرة ، كما روي
( 1292 ) ( أنه أسقط آية في قراءته في الصلاة ، فحسب أبي أنها نسخت ، فسأله فقال : نسيتها ) أو قال : إلا ما شاء الله : والغرض نفى النسيان رأساً كما يقول الرجل لصاحبه أنت سهيمي فيما أملك إلا فيما شاء الله ولا يقصد استثناء شيء وهو استعمال القلة في معنى النفي . وقيل قوله : { فَلاَ تنسى } على النهي ، والألف مزيدة للفاصلة ، كقوله : { السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] ، يعني : فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه ، إلا ما شاء الله أن ينسيكه برفع تلاوته للمصلحة { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر } يعني أنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه السلام مخافة التفلت ، والله يعلم جهرك معه وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر ، فلا تفعل ، فأنا أكفيك ما تخافه . أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم ، وما ظهر وبطن من أحوالكم ، وما هو مصلحة لكم في دينكم ومفسدة فيه ، فينسى من الوحي ما يشاء؛ ويترك محفوظاً ما يشاء .
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
{ وَنُيَسِّرُكَ لليسرى ( 8 ) } معطوف على { سَنُقْرِئُكَ } وقوله : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى } اعتراض ومعناه : ونوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل ، يعني : حفظ الوحي . وقيل للشريعة السمحة التي هي أيسر الشرائع وأسهلها مأخذاً . وقيل : نوفقك لعمل الجنة . فإن قلت : كان الرسول صلى الله عليه وسلم مأموراً بالذكرى نفعت أو لم تنفع ، فما معنى اشتراط النفع؟ قلت : هو على وجهين ، أحدهما : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم ، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوّاً وطغياناً ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلظى حسرة وتلهفاً ويزداد جداً في تذكيرهم وحرصاً عليه ، فقيل له : { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] ، { فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سلام } [ الزخرف : 89 ] ، { فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى ( 9 ) } وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير . والثاني : أن يكون ظاهره شرطاً ، ومعناه ذمّا للمذكرين ، وإخباراً عن حالهم ، واستبعاداً لتأثير الذكرى فيهم ، وتسجيلاً عليهم بالطبع على قلوبهم ، كما تقول للواعظ : عظ المكاسين إن سمعوا منك . قاصداً بهذا الشرط استبعاد ذلك ، وأنه لن يكون { سَيَذَّكَّرُ } فيقبل التذكرة وينتفع بها { مَن يخشى } الله وسوء العاقبة ، فينظر ويفكر حتى يقوده النظر إلى اتباع الحق : فأمّا هؤلاء فغير خاشين ولا ناظرين ، فلا تأمل أن يقبلوا منك { وَيَتَجَنَّبُهَا } ويتجنب الذكرى ويتحاماها { الأشقى } الكافر؛ لأنه أشقى من الفاسق . أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة { النار الكبرى } السفلى من أطباق النار وقيل { الكبرى } نار جهنم . والصغرى نار الدنيا وقيل { ثُمَّ } لأنّ الترجح بين الحياة والموت أفظع من الصلي ، فهو متراخ عنه في مراتب الشدّة والمعنى : لا يموت فيستريح ، ولا يحيى حياة تنفعه .
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)
{ تزكى } تطهر من الشرك والمعاصي . أو تطهر للصلاة . أو تكثر من التقوى ، من الزكاة وهو النماء . أو تفعل من الزكاة ، كتصدق من الصدقة { فصلى } أي الصلوات الخمس ، نحو قوله : { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } [ البقرة : 177 ] ، وعن ابن مسعود : رحم الله امرأة تصدق وصلى . وعن علي رضي الله عنه أنه التصدق بصدقة الفطر وقال : لا أبالي أن لا أجد في كتابي غيرها ، لقوله ( قد أفلح من تزكى ) أي أعطى زكاة الفطر ، فتوجه إلى المصلى ، فصلى صلاة العيد ، وذكر اسم ربه فكبر تكبيرة الإفتتاح وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح ، وعلى أنها ليست من الصلاة لأن الصلاة معطوفة عليها ، وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه فصلى له . وعن الضحاك : وذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى صلاة العيد { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا ( 16 ) } فلا تفعلون ما تفلحون به . وقرىء : «يؤثرون» على الغيبة . ويعضد الأولى قراءة ابن مسعود : بل أنتم تؤثرون { خَيْرٌ وأبقى } أفضل في نفسها وأنعم وأدوم . وعن عمر رضي الله عنه : ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب .
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
{ هذا } إشارة إلى قوله : { قَدْ أَفْلَحَ } إلى { أبقى } يعني أنّ معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف . وقيل : إلى ما في السورة كلها . وروي :
( 1293 ) عن أبي ذر رضي الله عنه «أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم أنزل الله من كتاب؟ فقال : مائة وأربعة كتب ، منها على آدم : عشر صحف ، وعلى شيث : خمسون صحيفة ، وعلى أخنوخ وهو إدريس : ثلاثون صحيفة ، وعلى إبراهيم : عشر صحائف والتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان» وقيل : إنّ في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1294 ) " من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله تعالى على إبراهيم وموسى ومحمد "
( 1296 ) وكان إذا قرأها قال : سبحان ربي الأعلى وكان علي وابن عباس يقولان ذلك .
( 195 ) وكان يحبها
( 1297 ) وقال : أول من قال «سبحان ربي الأعلى» مكيائيل .
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
{ الغاشية } الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها . يعني القيامة ، من قوله : { يَوْمَ يغشاهم العذاب } [ العنكبوت : 55 ] ، وقيل : النار ، من قوله : { وتغشى وُجُوهَهُمْ النار } [ إبراهيم : 50 ] ، { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] ، { يَوْمَئِذٍ } يوم إذ غشيت { خاشعة } ذليلة { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } تعمل في النار عملاً تتعب فيه ، وهو جرها السلاسل والأغلال ، وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل ، وارتقاؤها دائبة في صعود من نار ، وهبوطها في حدور منها . وقيل : عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها وتنعمت ، فهي في نصب منها في الآخرة ، وقيل : عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة . من قوله { وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ } [ الفرقان : 23 ] . { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الكهف : 104 ] ، { أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ أعمالهم } [ آل عمران : 22 ] ، وقيل : هم أصحاب الصوامع ، ومعناه : أنها خشعت لله وعملت ونصبت في أعمالها من الصوم الدائب ، والتهجد الواصب وقرىء «عاملة ناصبة» على الشتم . قرىء «تصلى» بفتح التاء . وتصلى بضمها . وتصلى بالتشديد . وقيل : المصلى عند العرب : أن يحفروا حفيراً فيجمعوا فيه جمراً كثيراً ، ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه ، فأما ما يشوى فوق الجمر أو على المقلى أو في التنور ، فلا يسمى مصلياً { ءانِيَةٍ } متناهية في الحرّ ، كقوله : { وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ } [ الرحمن : 44 ] الضريع يبيس الشبرق ، وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطباً ، فإذا يبس تحامته الإبل وهو سم قاتل قال أبو ذؤيب :
رَعَى الشِّبْرِقَ الرَّيَّانَ حَتَّى إذَا ذَوَى ... وَعَادَ ضَرِيعاً بَانَ عَنْهُ النَّحَائِصُ
وقال :
وَحُبِسَ فِي هَزْمِ الضِّرِيعِ فَكُلْهَا ... حَدْبَاءُ دَامِيَةُ الْيَدَيْنِ حَرُودُ
فإن قلت : كيف قيل { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } وفي الحاقة { ولا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } [ الحاقة : 36 ] قلت : العذاب ألوان ، والمعذبون طبقات؛ فمنهم أكلة الزقوم ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم أكلة الضريع : لكل باب منهم جزء مقسوم { لاَّ يُسْمِنُ } مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام . أو ضريع ، يعني : أنّ طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس ، وإنما هو شوك والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به . وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه . ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه : وهما إماطة الجوع ، وإفادة القوّة والسمن في البدن . أو أريد : أن لا طعام لهم أصلاً : لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس؛ لأن الطعام ما أشبع أو أسمن ، وهو منهما بمعزل كما تقول ليس لفلان ظل إلا الشمس ، تريد : نفي الظل على التوكيد . وقيل : قالت كفار قريش : إن الضريع لتسمن عليه إبلنا فنزلت { لاَّ يُسْمِنُ } فلا يخلوا إما أن يتكذبوا ويتعنتوا بذلك وهو الظاهر ، فيردّ قولهم بنفي السمن والشبع . وإما أن يصدقوا فيكون المعنى : أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم ، إنما هو من ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع .
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
{ نَّاعِمَةٌ } ذات بهجة وحسن ، كقوله : { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم } [ المطففين : 24 ] ، أو متنعمة { لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } رضيت بعملها لما رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة والثواب { عَالِيَةٍ } من علو المكان أو المقدار { لاَّ تَسْمَعُ } يا مخاطب . أو الوجوه { لاغية } أي لغوا ، أو كلمة ذات لغو . أو نفساً تلغو ، لا يتكلم أهل الجنة إلا بالحكمة وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم . وقرىء : «لا تُسمع» على البناء للمفعول بالتاء والياء { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } يريد عيوناً في غاية الكثرة ، كقوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ التكوير : 14 ] ، { مَّرْفُوعَةٍ } من رفعة المقدار أو السمك ، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله ربه من الملك والنعيم . وقيل : مخبوءة لهم ، من رفع الشيء إذا خبأه { مَّوْضُوعَةٌ } كلما أرادوها وجدوها موضوعة بين أيديهم عتيدة حاضرة ، لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها . أو موضوعة على حافات العيون معدّة للشرب . ويجوز أن يراد : موضوعة عن حد الكبار ، أوساط بين الصغر والكبر ، كقوله : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } [ الإنسان : 16 ] { مَصْفُوفَةٌ } بعضها إلى جنب بعض . مساند ومطارح ، أينما أراد أن يجلس على مسورة واستند إلى أخرى { وَزَرَابِيُّ } وبسط عراض فاخرة . وقيل : هي الطنافس التي لها خمل رقيق . جمع زربية { مَبْثُوثَةٌ } مبسوطة أو مفرقة في المجالس .
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
{ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل } نظر اعتبار { كَيْفَ خُلِقَتْ } خلقاً عجيباً ، دالاً على تقدير مقدر ، شاهداً بتدبير مدبر ، حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرها إلى البلاد الشاحطة فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ، ثم تنهض بما حملت ، وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها : لا تعاز ضعيفاً ولا تمانع صغيراً ، وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار . وعن بعض الحكماء . أنه حدث عن البعير وبديع خلقه ، وقد نشأ في بلاد لا إبل بها ، ففكر ثم قال : يوشك أن تكون طوال الأعناق ، وحين أراد بها أن تكون سفائن البر صبرها على احتمال العطش؛ حتى إن أظماءها لترتفع إلى العشر فصاعداً ، وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا يرعاه سائر البهائم . وعن سعيد بن جبير قال : لقيت شريحاً القاضي فقلت : أين تريد؟ قال : أريد الكناسة : قلت : وما تصنع بها؟ قال : أنظر إلى الإبل كيف خلقت . فإن قلت : كيف حسن ذكر الإبل مع السماء والجبال والأرض ولا مناسبة؟ قلت : قد انتظم هذه الأشياء نظر العرب في أوديتهم وبواديهم؛ فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم ، ولم يدع من زعم أن الإبل السحاب إلى قوله : إلا طلب المناسبة ، ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب ، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين ، وغير ذلك ، وإنما رأى السحاب مشبها بالإبل كثيراً في أشعارهم ، فجوز أن يراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز { كَيْفَ رُفِعَتْ } رفعاً بعيد المدى بلا مساك وبغير عمد . { كَيْفَ نُصِبَتْ } نصبا ثابتاً ، فهي راسخة لا تميل ولا تزول و { كَيْفَ سُطِحَتْ } سطحاً بتمهيد وتوطئة ، فهي مهاد للمتقلب عليها . وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه «خلقت» ورفعت؛ ونصبت ، وسطحت : على البناء للفاعل وتاء الضمير ، والتقدير : فعلتها . فحذف المفعول . وعن هارون الرشيد أنه قرأ : «سطحّت» بالتشديد والمعنى : أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق ، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه . أي : لا ينظرون ، فذكرهم ولا تلح عليهم ، ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا يذكرون { إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ } كقوله : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ } [ الشورى : 48 ] . { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } بمتسلط ، كقوله : { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ ق : 45 ] ، وقيل : هو في لغة تميم مفتوح الطاء؛ على أن «سيطر» معتد عندهم وقولهم : تسيطر ، يدل عليه { إِلاَّ مَن تولى } استثناء منقطع ، أي : لست بمستول عليهم ، ولكن من تولى { وَكَفَرَ } منهم؛ فإن لله الولاية والقهر . فهو يعذبه { العذاب الأكبر } الذي هو عذاب جهنم . وقيل : هو استثناء من قوله : { فَذَكّرْ } أي : فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى ، فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض .
وقرىء «إلاَّ مَن تولى» على التنبيه . وفي قراءة ابن مسعود «فإنه يعذبه» وقرأ أبو جعفر المدني «إيابهم» بالتشديد . ووجهه أن يكون «فيعالا» مصدر «أيب» فيعل من الإياب . أو أن يكون أصله أوّاباً : فعالاً من أوّب ، ثم قيل : إيواباً كديوان في دوّان ، ثم فعل به ما فعل بأصل : سيد وميت . فإن قلت : ما معنى تقديم الظرف؟ قلت : معناه التشديد في الوعيد ، وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام ، وأن حسابهم ليس بواجب إلا عليه ، وهو الذي يحاسب على النقير والقطمير . ومعنى الوجوب : الوجوب في الحكمة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1298 ) " من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله حساباً يسيراً " .
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
أقسم بالفجر كما أقسم بالصبح في قوله : { والصبح إِذَا أَسْفَرَ } [ المدثر : 34 ] ، { والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } [ التكوير : 18 ] ، وقيل : بصلاة الفجر . أراد بالليالي العشر : عشر ذي الحجة . فإن قلت : فما بالها منكرة من بين ما أقسم به؟ قلت : لأنها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر بعض منها . أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها . فإن قلت : فهلا عرفت بلام العهد ، لأنها ليال معلومة معهودة؟ قلت : لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير؛ ولأن الأحسن أن تكون اللامات متجانسة ، ليكون الكلام أبعد من الألغاز والتعمية ، وبالشفع والوتر : إما الأشياء كلها شفعها ووترها ، وإما شفع هذه الليالي ووترها . ويجوز أن يكون شفعها يوم النحر ، ووترها يوم عرفة ، لأنه تاسع أيامها وذاك عاشرها ، وقد
( 1299 ) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسرهما بذلك . وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه ، وذلك قليل الطائل ، جدير بالتلهي عنه ، وبعد ما أقسم بالليالي المخصوصة أقسم بالليل على العموم { إِذَا يَسْرِ } إذا يمضي؛ كقوله : { واليل إِذَا أَدْبَرَ } [ المدثر : 33 ] ، { واليل إِذْا عَسْعَسَ } [ التكوير : 17 ] ، وقرىء «والوتر» بفتح الواو ، وهما لغتان كالحبر والحبر في العدد ، وفي الترة : الكسر وحده . وقرىء «الوتر» بفتح الواو وكسر التاء : رواها يونس عن أبي عمرو ، وقرىء «والفجر» والوتر ، ويسر : بالتنوين ، وهو التنوين الذي يقع بدلاً من حرف الإطلاق . وعن ابن عباس : وليال عشر ، بالإضافة يريد : وليال أيام عشر . وياء { يَسْرِ } تحذف في الدرج ، اكتفاء عنها بالكسرة ، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة ، وقيل : معنى «يسري» يسري فيه { هَلْ فِى ذَلِكَ } أي فيما أقسمت به من هذه الأشياء { قَسَمٌ } أي مقسم به { لِّذِى حِجْرٍ } يريد : هل يحق عنده أن تعظم بالإقسام بها . أو : هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر ، أي : هل هو قسم عظيم يؤكد بمثله المقسم عليه . والحجر : العقل؛ لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي ، كما سمى عقلا ونهية؛ لأنه يعقل وينهى . وحصاة : من الإحصاء وهو الضبط وقال الفراء : يقال : إنه لذو حجر ، إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها؛ والمقسم عليه محذوف وهو «ليعذبن» يدل عليه قوله : { أَلَمْ تَرَ } إلى قوله : { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } [ الفجر : 13 ] .
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
قيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح : عاد ، كما يقال لبني هاشم : هاشم . ثم قيل للأوّلين منهم عاد الأولى وإرم ، تسمية لهم باسم جدّهم ، ولمن بعدهم : عاد الأخيرة . قال ابن الرقيات :
مَجْداً تَلِيداً بَنَاهُ أَوَّلُهُ ... أَدْرَكَ عَاداً وَقَبْلَهَا إرَمَا
فإرم في قوله { بعاد إرَمَ } عطف بيان لعاد ، وإيذان بأنهم عاد الأولى القديمة . وقيل : { إِرَمَ } بلدتهم وأرضهم التي كانوا فيها ويدل عليه قراءة ابن الزبير «بعاد إرم» على الإضافة وتقديره : بعاد أهل إرم ، كقوله : { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] ، ولم تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث . وقرأ الحسن : «بعاد أرم» ، مفتوحتين . وقرىء «بعاد إرم» بسكون الراء على التخفيف ، كما قرىء : «بورقكم» وقرىء «بعاد إرم ذات العماد» بإضافة إرم إلى ذات العماد . والإرم : العلم ، يعني : بعاد أهل أعلام ذات العماد . و { ذَاتِ العماد } اسم المدينة وقرىء «بعاد إرمّ ذات العماد» أي جعل الله ذات العماد رميماً بدلاً من فعل ربك؛ وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة ، فالمعنى : أنهم كانوا بدويين أهل عمد ، أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة ومنه قولهم : رجل معمد وعمدان : إذا كان طويلاً . وقيل : ذات البناء الرفيع ، وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى : أنها ذات أساطين . وروي أنه كان لعاد ابنان : شداد وشديد؛ فملكا وقهرا ، ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد ، فملك الدنيا ودانت له ملوكها ، فسمع بذكر الجنة فقال أبني مثلها ، فبني إرم في بعض صحاري عدن في ثلثمائة سنة ، وكان عمره تسعمائة سنة : وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة ، وأساطينها من الزبرجد والياقوت . وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة؛ ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته؛ فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا . وعن عبد الله بن قلابة : أنه خرج في طلب إبل له ، فوقع عليها ، فحمل ما قدر عليه مما ثم ، وبلغ خبره معاوية فاستحضره ، فقص عليه ، فبعث إلى كعب فسأله فقال : هي إرم ذات العماد ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال ، يخرج في طلب إبل له؛ ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال : هذا والله ذلك الرجل { لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا } مثل عاد { فِى البلاد } عظم أجرام وقوّة ، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع ، وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحي فيهلكهم ، أو لم يخلق مثل مدينة شدّاد في جميع بلاد الدنيا . وقرأ ابن الزبير «لم يخلق ملثها» ، أي : لم يخلق الله مثلها { جَابُواْ الصخر } قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتاً ، كقوله : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً } [ الشعراء : 149 ] قيل : أول من نحت الجبال والصخور والرخام : ثمود ، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة .
قيل له : ذو الأوتاد ، لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا ، أو لتعذيبه بالأوتاد ، كما فعل بماشطة بنته وبآسية { الذين طَغَوْاْ } أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم . ويجوز أن يكون مرفوعاً على : هم الذين طغوا أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون يقال : صب عليه السوط وغشاه وقنعه ، وذكر السوط : إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعدّلهم في الآخرة ، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به . وعن عمرو بن عبيد : كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال : إن عند الله أسواطاً كثيرة ، فأخذهم بسوط منها . المرصاد : المكان الذي يترتب فيه الرصد «مفعال» من رصده . كالميقات من وقته . وهذامثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه . وعن بعض العرب أنه قيل له : أين ربك؟ فقال : بالمرصاد . وعن عمرو بن عبيد رحمه الله أنه قرأ هذه السورة عند بعض الظلمة حتى بلغ هذه الآية فقال : إنّ ربك لبالمرصاد يا فلان ، عرّض له في هذا النداء بأنه بعض من توعد بذلك من الجبابرة ، فالله درّه أيُّ أسد فرّاس كان بين ثوبيه ، يدق الظلمة بإنكاره ، ويقصع أهل الأهواء والبدع باحتجاجه .
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
فإن قلت : بم اتصل قوله { فَأَمَّا الإنسان } ؟ قلت : بقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } كأنه قيل : إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة ، وهو مرصد بالعقوبة للعاصي؛ فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها . فإن قلت : فكيف توازن قوله ، فأما الإنسان ، { إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ } وقوله : { وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه } وحق التوازن أن يتقابل الواقعان بعد أما وأما ، تقول : أما الإنسان فكفور ، وأما الملك فشكور . أما إذا أحسنت إلى زيد فهو محسن إليك؛ وأما إذا أسأت إليه فهو مسيء إليك؟ قلت : هما متوازنان من حيث إنّ التقدير : وأما هو إذا ما ابتلاه ربه؛ وذلك أن قوله { فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ } خبر المبتدأ الذي هو الإنسان ، ودخول الفاء لما في «أما» من معنى الشرط ، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في تقدير التأخير ، كأنه قيل : فأما الإنسان فقائل ربي أكرمن وقت الابتلاء ، فوجب أن يكون { فَيَقُولُ } الثاني خبر لمبتدأ واجب تقديره . فإن قلت : كيف سمي كلا الأمرين من بسط الرزق وتقديره ابتلاء؟ قلت : لأنّ كل واحد منهما اختبار للعبد ، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر؟ وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع؟ فالحكمة فيهما واحدة . ونحوه قوله تعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ، فإن قلت : هلا قال : فأهانه وقدر عليه رزقه ، كما قال فأكرمه ونعمه؟ قلت لأن البسط إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة ، وأما التقدير فليس بإهانة له؛ لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ، ولكن تركا للكرامة ، وقد يكون المولى مكرماً لعبده ومهيناً له ، وغير مكرم ولا مهين؛ وإذا أهدى لك زيد هدية قلت : أكرمني بالهدية ، ولا تقول : أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد لك . فإن قلت : فقد قال : { فَأَكْرَمَهُ } فصحح إكرامه وأثبته ، ثم أنكر قوله : { رَبّى أَكْرَمَنِ } وذمّه عليه ، كما أنكر قوله : { أَهَانَنِ } وذمّه عليه . قلت : فيه جوابان ، أحدهما : أنه إنما أنكر قوله ربي أكرمن وذمّه عليه ، لأنه قال على قصد خلاف ما صححه الله عليه وأثبته ، وهو قصده إلى أنّ الله أعطاه ما أعطاه إكراماً له مستحقاً مستوجباً على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم ، كقوله : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عِندِى } [ القصص : 78 ] ، وإنما أعطاه الله على وجه التفضل من غير استيجاب منه له ولا سابقة ما لا يعتدّ الله إلا به ، وهو التقَّوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها . والثاني : أن ينساق الإنكار والذمّ إلى قوله : { رَبّى أَهَانَنِ } يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه ، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هواناً وليس بهوان ، ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله : { فَأَكْرَمَهُ } وقرىء «فقدر» بالتخفيف والتشديد وأكرمن ، وأهانن : بسكون النون في الوقف ، فيمن ترك الياء في الدرج مكتفياً منها بالكسرة .
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
{ كَلاَّ } ردع للإنسان عن قوله : ثم قال : بل هناك شرّ من القول . وهو : أنّ الله يكرمهم بكثرة المال ، فلا يؤدّون ما يلزمهم فيه من إكرام اليتيم بالتفقد والمبرّة ، وحض أهله على طعام المسكين ويأكلونه أكل الأنعام ، ويحبونه فيشحون به وقرىء «يكرمون» وما بعده بالياء والتاء . وقرىء «تحاضون» أي : يحض بعضكم بعضاً : وفي قراءة ابن مسعود : «ولا تحاضون» بضم التاء ، من المحاضة { أَكْلاً لَّمّاً } ذا لمّ وهو الجمع بين الحلال والحرام . قال الحطيئة :
إذَا كَانَ لَمَّا يَتْبَع الذَّمُّ رَبَّهُ ... فَلاَ قَدَّسَ الرحمن تِلْكَ الطَّوَاحِنَا
يعني : أنهم يجمعون في أكلهم بين نصيبهم من الميراث ونصيب غيرهم . وقيل كانوا لا يورّثون النساء ولا الصبيان ، ويأكلون تراثهم مع تراثهم . وقيل : يأكلون ما جمعه الميت من الظلمة ، وهو عالم بذلك فيلم في الأكل بين حلاله وحرامه . ويجوز أن يذمّ الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا ، من غير أن يعرق فيه جبينه ، فيسرف في إنفاقه ، ويأكله أكلا واسعاً جامعاً بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه ، كما يفعل الورّاث البطالون { حُبّاً جَمّاً } كثيراً شديداً مع الحرص والشره ومنع الحقوق .
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
{ كَلاَّ } ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم . ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرّطوا فيه حين لا تنفع الحسرة؛ ويومئذ بدل من { إِذَا دُكَّتِ الأرض } وعامل النصب فيهما { يَتَذَكَّرُ } { دَكّاً دَكّاً } دكا بعد دك . كقوله : حسبته بابا بابا ، أي : كرّر عليها الدك حتى عادت هباء منبثا . فإن قلت : ما معنى إسناد المجىء إلى الله ، والحركة والانتقال إنما يجوزان على من كان في جهة قلت : هو تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قهره وسلطانه : مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم { صَفّاً صَفّاً } ينزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفاً بعد صف محدقين بالجن والإنس { وجاىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } كقوله : { وَبُرّزَتِ الجحيم } [ النازعات : 36 ] وروي :
( 1300 ) أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ، فأخبروا علياً رضي الله عنه ، فجاء فاحتضنه ومن خلفه وقبله بين عاتقيه؛ ثم قال : يا نبيّ الله ، بأبي أنت وأمي ما الذي حدث اليوم ، ما الذي غيَّرك؟ فتلا عليه الآية . فقال علي : كيف يجاء بها؟ قال : " يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام ، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع " أي : يتذكر ما فرّط فيه ، أو يتعظ { وأنى لَهُ الذكرى } ومن أين له منفعة الذكرى؟ لا بد من تقدير حذف المضاف ، وإلا فبين : يوم يتذكر ، وبين { وأنى لَهُ الذكرى } تناف وتناقض { قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } هذه ، وهي حياة الآخرة ، أو وقت حياتي في الدنيا ، كقولك : جئته لعشر ليال خلون من رجب؛ وهذا أبين دليل على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقاً بقصدهم وإرادتهم ، وأنهم لم يكونوا محجوبين عن الطاعات مجبرين على المعاصي ، كمذهب أهل الأهواء والبدع ، وإلا فما معنى التحسر؟ قرىء : بالفتح «يعذب ويوثق» ، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن أبي عمرو أنه رجع إليها في آخر عمره . والضمير للإنسان الموصوف . وقيل : هو أبيّ بن خلف أي : لا يعذب أحد مثل عذابه ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه؛ لتناهيه في كفره وعناده ، أو لا يحمل عذاب الإنسان أحد ، كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الإسراء : 15 ] وقرىء بالكسر ، والضمير لله تعالى ، أي : لا يتولى عذاب الله أحد؛ لأنّ الأمر لله وحده في ذلك اليوم . أو للإنسان ، أي : لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه .