كتاب : الكشاف
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
كل من أهل السموات والأرض مفتقرون إليه ، فيسأله أهل السموات ما يتعلق بدينهم ، وأهل الأرض ما يتعلق بدينهم ودنياهم { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } أي كل وقت وحين يحدث أموراً ويجدّد أحوالاً ، كما روى :
( 1117 ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تلاها فقيل له : وما ذلك الشأن؟ فقال : « من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ، ويرفع قوماً ويضع آخرين » وعن ابن عيينه : الدهر عند الله تعالى يومان ، أحدهما : اليوم الذي هو مدّة عمر الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والإحياء والإعطاء والمنع . والآخر : يوم القيامة ، فشأنه فيه الجزاء والحساب . وقيل : نزلت في اليهود حين قالوا : إنّ الله لا يقضي يوم السبت شيئاً . وسأل بعض الملوك وزيره عنها فاستمهله إلى الغد وذهب كئيباً يفكر فيها ، فقال غلام له أسود : يا مولاي ، أخبرني ما أصابك لعل الله يسهل لك على يدي ، فأخبره فقال له : أنا أفسرها للملك فأعلمه ، فقال : أيها الملك شأن الله أن يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، ويشفي سقيماً ويسقم سليماً ، ويبتلى معافاً ويعافى مبتلى ، ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً ويفقر غنياً ويغني فقيراً؛ فقال الأمير : أحسنت وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة فقال : يا مولاي هذا من شأن الله . وعن عبد الله بن طاهر أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له : أشكلت على ثلاث آيات ، دعوتك لتكشفها لي : قوله تعالى : { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } [ المائدة : 31 ] وقد صح أنّ الندم توبة وقوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } وقد صح أنّ القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة . وقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين : يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمّة . ويكون توبة في هذه الأمّة؛ لأنّ الله تعالى خص هذه الأمّة بخصائص لم يشاركهم فيها الأمم ، وقيل إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ، ولكن على حمله ، وأما قوله : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) فمعناه : ليس له إلا ما سعى عدلاً ، ولي أن أجزيه بواحدة ألفاً فضلاً ، وأما قوله : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } فإنها شؤون يبديها لا شؤون يبتدئها ، فقام عبد الله وقبل رأسه وسوّغ خراجه .
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)
{ سَنَفْرُغُ لَكُمْ } مستعار من قول الرجل لمن يتهدده : سأفرغ لك ، يريد : سأتجرّد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك ، حتى لا يكون لي شغل سواه ، والمراد : التوفر على النكاية فيه والانتقام منه ، ويجوز أن يراد : ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها ، وتنتهي عند ذلك شؤون الخلق التي أرادها بقوله : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم ، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل ، وقرىء : «سيفرغ لكم» ، أي : الله تعالى ، «وسأفرغ لكم» و«سنفرغ» بالنون ، مفتوحاً مكسوراً وفتح الراء ، و«سيفرَغ» بالياء مفتوحاً ومضموماً مع فتح الراء ، وفي قراءة أبيّ «سنفرغ إليكم» بمعنى : سنقصد إليكم ، والثقلان : الإنس والجن ، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض .
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
{ يامعشر الجن والإنس } كالترجمة لقوله : أيها الثقلان { إِنِ استطعتم } أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي ، فافعلوا ، ثم قال : لا تقدرون على النفوذ { إِلاَّ بسلطان } يعني بقوّة وقهر وغلبة ، وأنى لكم ذلك ، ونحوه : { وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض وَلاَ فِى السماء } [ العنكبوت : 22 ] وروى : أنّ الملائكة عليهم السلام تنزل فتحيط بجميع الخلائق ، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا ، فلا يأتون وجهاً إلا وجدوا الملائكة أحاطت به . قرىء : «شواظ ونحاس» ، كلاهما بالضم والكسر؛ والشواظ : اللهب الخالص . والنحاس : الدخان؛ وأنشد :
تُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ ... لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ فِيهِ نُحَاسَا
وقيل : الصفر المذاب يصب على رؤوسهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر . وقرىء : «ونحاس» ، مرفوعاً عطفاً على شواظ . ومجروراً عطفاً على نار . وقرىء : «ونحس» جمع نحاس ، وهو الدخان ، نحو لحاف ولحف . وقرىء : «ونحس» أي : ونقتل بالعذاب . وقرىء : «نرسل عليكم شواظاً من نار ونحاساً» { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } فلا تمتنعان .
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)
{ وَرْدَةً } حمراء { كالدهان } كدهن الزيت ، كما قال : ( كالمهل ) ، وهو درديّ الزيت ، وهو جمع دهن . أو اسم ما يدهن به كالخزام والإدام . قال :
كَأَنَّهُمَا مَزَادَتَا مُتَعَجِّل ... فَرِيَّانِ لَمَّا تُدْهَنَا بِدِهَانِ
وقيل : الدهان الأديم الأحمر . وقرأ عمرو بن عبيد «وردة» بالرفع ، بمعنى : فحصلت سماء وردة ، وهو من الكلام الذي يسمى التجريد ، كقوله :
فَلَئِنْ بَقِيتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَة ... تَحْوِي الْغَنَائِمَ أَو يَمْوتَ كَرِيمُ
{ إِنسٌ } بعض من الإنس { وَلاَ جَانٌّ } أريد به : ولا جن : أي : ولا بعض من الجن ، فوضع الجانّ الذي هو أبو الجن موضع الجن ، كما يقال : هاشم ، ويراد ولده . وإنما وحد ضمير الإنس في قوله : { عَن ذَنبِهِ } لكونه في معنى البعض . والمعنى : لا يسألون لأنهم يعرفون بسيما المجرمين وهي سواد الوجوه وزرقة العيون . فإن قلت : هذا خلاف قوله تعالى : { فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] وقوله : { وقفوهم إنهم مسؤلون } [ الصافات : 24 ] . قلت : ذلك يوم طويل وفيه مواطن فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر : قال قتادة : قد كانت مسألة ، ثم ختم على أفواه القوم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . وقيل لا يسأل عن ذنبه ليعلم من جهته ، ولكن يسأل سؤال توبيخ . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد «ولا جأَنٌّ» فراراً من التقاء الساكنين ، وإن كان على حده .
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
{ فَيُؤْخَذُ بالنواصى والأقدام } عن الضحاك : يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره وقيل تسحبهم الملائكة : تارة تأخذ بالنواصي؛ وتارة تأخذ بالأقدام { حَمِيمٍ ءانٍ } ماء حار قد انتهى حرّه ونضجه ، أي : يعاقب عليهم بين التصلية بالنار وبين شرب الحميم . وقيل : إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم . وقيل : إن وادياً من أودية جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فينطلق بهم في الأغلال ، فيغمسون فيه حتى تنخلع أوصالهم؛ ثم يخرجون منه وقد أحدث الله لهم خلقاً جديداً . وقرىء : «يطوّفون» من التطويف . ويطوّفون ، أي : يتطوّفون ويطافون . وفي قراءة عبد الله : «هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان تصليان لا تموتان فيها ولا تحييان يطوفون بينهما» ونعمة الله فيما ذكره من هول العذاب : نجاة الناجي منه برحمته وفضله ، وما في الإنذار به من اللطف .
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)
{ مَقَامَ رَبّهِ } موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين } [ المطففين : 6 ] ونحوه : { لِمَنْ خَافَ مَقَامِى } [ إبراهيم : 14 ] ويجوز أن يراد بمقام ربه : أن الله قائم عليه؛ أي : حافظ مهيمن من قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] فهو يراقب ذلك فلا يجسر على معصيته . وقيل : هو مقحم كما تقول : أخاف جانب فلان ، وفعلت هذا لمكانك . وأنشد :
ذَعَرْتُ بِهِ الْقَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ
يريد : ونفيت عنه الذئب . فإن قلت : لم قال : { جَنَّتَانِ } ؟ قلت : الخطاب للثقلين؛ فكأنه قيل : لكل خائفين منكما جنتان : جنة للخائف الإنسي ، وجنة للخائف الجني . ويجوز أن يقال : جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصي؛ لأن التكليف دائر عليهما وأن يقال : جنة يثاب بها ، وأخرى تضم إليها على وجه التفضل ، كقوله تعالى : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] خص الأفنان بالذكر : وهي الغصنة التي تتشعب من فروع الشجرة : لأنها هي التي تورق وتثمر ، فمنها تمتد الظلال ، ومنها تجتنى الثمار . وقيل : الأفنان ألوان النعم ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين . قال :
وَمِنْ كُلِّ أَفْنَانِ اللَّذَاذَةِ وَالصَّبَا ... لَهَوْتُ لَهَوْتُ بِهِ وَالْعَيْشُ أَخْضَرُ نَاضِرُ
{ عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } حيث شاءوا في الأعالي والأسافل . وقيل : تجريان من جبل من مسك . وعن الحسن : تجريان بالماء الزلال : إحداهما التسنيم ، والأخرى : السلسبيل { زَوْجَانِ } صنفان : قيل : صنف معروف وصنف غريب { مُتَّكِئِينَ } نصب على المدح للخائفين . أو حال منهم ، لأنّ من خاف في معنى الجمع { بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } من ديباج ثخين ، وإذا كانت البطائن من الإستبرق ، فما ظنك بالظهائر؟ وقيل : ظهائرها من سندس . وقيل : من نور { دَانٍ } قريب يناله القائم والقاعد والنائم . وقرىء : «وجنى» ، بكسر الجيم .
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
{ فِيهِنَّ } في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين والفاكهة والفرش والجنى . أو في الجنتين ، لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس { قاصرات الطرف } نساء قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ : لا ينظرن إلى غيرهم . لم يطمث الإنسيات منهنّ أحد من الإنس ، ولا الجنيات أحد من الجن وهذا دليل عى أنّ الجن يطمثون كما يطمث الإنس ، وقرىء : «لم يطمثهنّ» بضم الميم . قيل : هنّ في صفاء الياقوت وبياض المرجان وصغار الدر : أنصع بياضاً . قيل : إنّ الحوراء تلبس سبعين حلة ، فيرى مخ ساقها من ورائها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء { هَلْ جَزَآءُ الإحسان } في العمل { إِلاَّ الإحسان } في الثواب . وعن محمد بن الحنفية : هي مسجلة للبر والفاجر . أي : مرسلة ، يعني : أنّ كل من أحسن أُحسن إليه ، وكل من أَساء أسيء إليه .
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)
{ وَمِن دُونِهِمَا } ومن دون تينك الجنتين الموعودتين للمقربين { جَنَّتَانِ } لمن دونهم من أصحاب اليمين { مُدْهَامَّتَانِ ( 64 ) } قد ادهامّتا من شدّة الخضرة { نَضَّاخَتَانِ } فوّارتان بالماء . والنضخ أكثر من النضح ، لأنّ النضح غير معجمة مثل الرش ، فإن قلت : لم عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها؟ قلت : اختصاصاً لهما وبياناً لفضلهما ، كأنهما لما لهما من المزية جنسان آخران ، كقوله تعالى : { وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] أو لأنّ النخل ثمره فاكهة وطعام ، والرمان فاكهة ودواء ، فلم يخلصا للتفكه . ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله : إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رماناً أو رطباً : لم يحنث ، وخالفه صاحباه .
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
{ خيرات } خيرات فخففت ، كقوله عليه السلام :
( 1118 ) " هينون لينون " وأما «خير» الذي هو بمعنى أخير ، فلا يقال فيه خيرون ولا خيرات . وقرىء : «خيرات» على الأصل . والمعنى : فاضلات الأخلاق حسان الخلق { مقصورات } قصرن في خدورهنّ . يقال : امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة مخدرة . وقيل : إنّ الخيمة من خيامهنّ درّة مجوّفة { قَبْلَهُمْ } قبل أصحاب الجنتين ، دل عليهم ذكر الجنتين { مُتَّكِئِينَ } نصب على الاختصاص . والرفرف : ضرب من البسط . وقيل البسط وقيل الوسائد ، وقيل كل ثوب عريض رفرف . ويقال لأطراف البسط فضول الفسطاط : رفارف . ورفرف السحاب : هيدبه والعبقري : منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنه بلد الجن؛ فينسبون إليه كل شيء عجيب . وقرىء : «رفارف خضر» بضمتين . وعباقرى ، كمدائني : نسبة إلى عباقري في اسم البلد : وروى أبو حاتم : عباقرى ، بفتح القاف ومنع الصرف ، وهذا لا وجه لصحته . فإن قلت : كيف تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل : ومن دونهما؟ قلت : مدهامّتان ، دون ذواتا أفنان . ونضاختان دون : تجريان . وفاكهة دون : كل فاكهة . وكذلك صفة الحور والمتكأ . وقرىء : «ذو الجلال» صفة ، للاسم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1119 ) " من قرأ سورة الرحمن أدّى شكر ما أنعم الله عليه " .
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)
{ وَقَعَتِ الواقعة } كقولك : كانت الكائنة ، وحدثت الحادثة ، والمراد القيامة : وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة ، فكأنه قيل : إذا وقعت التي لا بدّ من وقوعها ، ووقوع الأمر : نزوله . يقال : وقع ما كنت أتوقعه ، أي : نزل ما كنت أترقب نزوله . فإن قلت : بم انتصب إذا؟ قلت : بليس . كقولك يوم الجمعة ليس لي شغل . أو بمحذوف ، يعني : إذا وقعت كان كيت وكيت ، أو بإضمار اذكر { كَاذِبَةٌ } نفس كاذبة ، أي : لا تكون حين تقع نفس تكذب على الله وتكذب في تكذيب الغيب؛ لأنّ كل نفس حينئذٍ مؤمنة صادقة مصدّقة ، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذبات ، كقوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بالله وَحْدَهُ } [ غافر : 84 ] ، { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم } [ الشعراء : 201 ] ، { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً } [ الحج : 55 ] واللام مثلها في قوله تعالى : { ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } [ الفجر : 24 ] أو : ليس لها نفس تكذبها وتقول لها : لم تكوني كما لها اليوم نفوس كثيرة يكذبنها ، يقلن لها : لن تكوني . أو هي من قولهم : كذبت فلاناً نفسه في الخطب العظيم ، إذا شجعته على مباشرته وقالت له : إنك تطيقه وما فوقه فتعرّض له ولا تبال به ، على معنى : أنها وقعة لا تطاق شدّة وفظاعة . وأن لا نفس حينئذٍ تحدث صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور وتزين له احتمالها وإطاقتها ، لأنهم يومئذٍ أضعف من ذلك وأذل . ألا ترى إلى قوله تعالى : { كالفراش المبثوث } [ القارعة : 4 ] والفراش مثل في الضعف . وقيل : { كَاذِبَةٌ } مصدر كالعاقبة بمعنى التكذيب ، من قولك : حمل على قرنه فما كذب ، أي : فما جبن وماتثبط . وحقيقته : فما كذب نفسه فيما حدثته به . من إطاقته له وإقدامه عليه . قال زهير :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . إذَا ... مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أَقْرَانِهِ صَدَقَا
أي : إذا وقعت لم تكن لها رجعة ولا ارتداد { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ ( 3 ) } على : هي خافضة رافعة ، ترفع أقواماً وتضع آخرين : إما وصفاً لها بالشدّة؛ لأنّ الواقعات العظام كذلك ، يرتفع فيها ناس إلى مراتب ويتضع ناس ، وإما لأنّ الأشقياء يحطون إلى الدركات ، والسعداء يرفعون إلى الدرجات؛ وإما أنها تزلزل الأشياء وتزيلها عن مقارّها ، فتخفض بعضاً وترفع بعضاً : حيث تسقط السماء كسفاً وتنتثر الكواكب وتنكدر وتسير الجبال فتمرّ في الجوّ مرّ السحاب ، وقرىء : «خافضة رافعة» بالنصب على الحال { رُجَّتِ } حرّكت تحريكاً شديداً حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء { وَبُسَّتِ الجبال } وفتت حتى تعود كالسويق ، أو سيقت من بس الغنم إذا ساقها . كقوله : { وَسُيّرَتِ الجبال } [ النبأ : 20 ] ، «منبثاً» متفرقاً . وقرىء بالتاء أي : منقطعاً . وقرىء : «رجت وبست» أي : ارتجت وذهبت . وفي كلام بنت الخس : عينها هاج ، وصلاها راج . وهي تمشي تفاج . فإن قلت : بم انتصب إذا رجت؟ قلت : هو بدل من إذا وقعت . ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة . أي : تخفض وترفع وقت رج الأرض ، وبس الجبال لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض { أزواجا } أصنافاً ، يقال للأصناف التي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض أزواج .
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
{ فأصحاب الميمنة } الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم { وأصحاب المشئمة } الذي يؤتونها بشمائلهم . أو أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية ، من قولك : وفلان مني باليمين ، فلان مني بالشمال : إذا وصفتهما بالرفعة عندك والضعة؛ وذلك لتيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل ، ولتفاؤلهم بالسانح وتطيّرهم من البارح ، ولذلك اشتقوا لليمين الاسم من اليمن ، وسموا الشمائل الشؤمى . وقيل : أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة : أصحاب اليمن والشؤم؛ لأنّ السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم ، والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم . وقيل : يؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين وبأهل النار ذات الشمال .
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
{ والسابقون } المخلصون الذين سبقوا إلى ما دعاهم الله إليه وشقوا الغبار في طلب مرضاة الله عز وجل وقيل : الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا؛ فهذا السابق المقرَّب ، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ، ثم تراجع بتوبة؛ فهذا صاحب اليمين ، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ، ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا ، فهذا صاحب الشمال ( ما أصحاب الميمنة ) . ( ما أصحاب المشأمة ) تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة . والمعنى : أي شيء هم؟ والسابقون السابقون ، يريد : والسابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم ، كقوله وعبد الله عبد الله . وقول أبي النجم :
وشعري شعري ... كأنه قال : وشعري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وبراعته ، وقد جعل السابقون تأكيداً . وأولئك المقرّبون : خبراً وليس بذاك : ووقف بعضهم على : والسابقون؛ وابتدأ السابقون أولئك المقرّبون ، والصواب أن يوقف على الثاني ، لأنه تمام الجملة ، وهو في مقابلة : ما أصحاب الميمنة ، وما أصحاب المشأمة { المقربون فِى جنات النعيم ( 12 ) } الذين قربت درجاتهم في الجنة من العرش وأعليت مراتبهم . وقرىء : «في جنة النعيم» والثلة : الأمة من الناس الكثيرة . قال :
وَجَاءَتْ إلَيْهِمْ ثُلَّةٌ خِنْدِفِيَّة ... بِجَيْشٍ كَتَيَّارٍ مِن السَّيّلِ مُزْبِدِ
وقوله عز وجل : { وَقَلِيلٌ مِّنَ الأخرين ( 14 ) } كفى به دليلاً على الكثرة ، وهي من الثل وهو الكسر ، كما أنّ الأمّة من الأمّ وهو الشج ، كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم . والمعنى : أنّ السابقين من الأوّلين كثير ، وهم الأمم من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم { وَقَلِيلٌ مِّنَ الأخرين ( 14 ) } وهم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : { مِّنَ الأولين } من متقدّمي هذه الأمة ، و { مِّنَ الأخرين } من متأخريها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1120 ) " الثلتان جميعاً من أمّتي " فإن قلت : كيف قال : { وقليل من الآخرين } ، ثم قال : { وَثُلَّةٌ مّنَ الأخرين ( 40 ) } ؟ قلت : هذا في السابقين وذلك في أصحاب اليمين؛ وأنهم يتكاثرون من الأولين والآخرين جميعاً . فإن قلت : فقد روى أنها لما نزلت شق ذلك على المسلمين ، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجع ربه حتى نزلت { ثَلة من الأولين وثلة من الأخرين } [ الواقعة : 39 - 40 ] . قلت : هذا لا يصح لأمرين ، أحدهما : أنّ هذه الآية واردة في السابقين وروداً ظاهراً ، وكذلك الثانية في أصحاب اليمين . ألا ترى كيف عطف أصحاب اليمين ووعدهم ، على السابقين ووعدهم ، والثاني : أنّ النسخ في الأخبار غير جائز وعن الحسن رضي الله عنه : سابقو الأمم أكثر من سابقي أمّتنا ، وتابعو الأمم مثل تابعي هذه الأمّة . وثلة : خبر مبتدإ محذوف ، أي : هم ثلة { مَّوْضُونَةٍ } مرمولة بالذهب ، مشبكة بالدرّ والياقوت ، قد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع .
قال الأعشى :
وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ مَوْضُونَة ... وقيل : متواصلة ، أدنى بعضها من بعض . { مُتَّكِئِينَ } حال من الضمير في على ، وهو العامل فيها ، أي : استقرّوا عليها متكئين { متقابلين } لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض . وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق والآداب { مُّخَلَّدُونَ } مبقون أبداً على شكل الولدان وحدّ الوصافة لا يتحوّلون عنه . وقيل : مقرّطون ، والخلدة : القرط . وقيل : هم أولاد أهل الدنيا : لم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ، ولا سيئات فيعاقبوا عليها . روى عن علي رضي الله عنه وعن الحسن . وفي الحديث :
( 1121 ) " أولاد الكفار خدّام أهل الجنة " الأكواب : أوان بلا عرى وخراطيم ، والأباريق ، ذوات الخراطيم { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } أي بسببها ، وحقيقته : لا يصدر صداعهم عنها . أو لا يفرّقون عنها . وقرأ مجاهد : «لا يصدعون» ، بمعنى : لا يتصدعون لا يتفرقون ، كقوله : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] ويصدعون ، أي : لا يصدع بعضهم بعضاً ، لا يفرّقونهم { يَتَخَيَّرُونَ } يأخذون خيره وأفضله { يَشْتَهُونَ } يتمنون . وقرىء : «ولحوم طير» قرىء : «وحور عين» بالرفع على : وفيها حور عين ، كبيت الكتاب :
إِلاَّ رَوَاكِدُ جَمْرُهُنَّ هَبَاء ... وَمُشَجَّجٌ . . . . . . . . . . . .
أو للعطف على ولدان ، وبالجر : عطفاً على جنات النعيم ، كأنه قال : هم في جنات النعيم ، وفاكهة ولحم وحور . أو على أكواب ، لأن معنى { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ ( 17 ) { بِأَكْوَابٍ } ينعمون بأكواب ، وبالنصب على : ويؤتون حورا { جَزَآءً } مفعول له ، أي : يفعل بهم ذلك كله جزاء بأعمالهم { سلاما سلاما } إما بدل من { قِيلاً } بدليل قوله { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سلاما } [ مريم : 62 ] وإما مفعول به لقيلا ، بمعنى : لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاما سلاما . والمعنى : أنهم يفشون السلام بينهم ، فيسلمون سلاماً بعد سلام . وقرىء : «سلام سلام» ، على الحكاية .
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
السدر : شجر النبق . والمخضود : الذي لا شوك له ، كأنما خضد شوكه . وعن مجاهد : الموقر الذي تثنى أغصانه كثرة حمله ، من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب . والطلح : شجر الموز . وقيل : هو شجر أم غيلان ، وله نوار كثير طيب الرائحة . وعن السدي : شجر يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل . وعن علي رضي الله عنه أنه قرأ : «وطلع» ( فقال ) ، وما شأن الطلح ، وقرأ قوله : { لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ ق : 10 ] فقيل له : أَوَ تُحوِّلها؟ فقال : آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحوّل . وعن ابن عباس نحوه . والمنضود : الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه؛ فليست له ساق بارزة { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ( 30 ) } ممتدّ منبسط لا يتقلص ، كظلّ ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس { مَّسْكُوبٍ } يسكب لهم أين شاؤوا وكيف شاؤوا لا يتعنون فيه . وقيل : دائم الجرية لا ينقطع . وقيل : مصبوب يجري على الأرض في غير أخدود { لاَّ مَقْطُوعَةٍ } هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات كفواكه الدنيا { وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } لا تمنع عن متناولها بوجه ، ولا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا . وقرىء : «فاكهة كثيرة» ، بالرفع على : وهناك فاكهة ، كقوله : { وحور عين } [ الواقعة : 22 ] { وَفُرُشٍ } جمع فراش . وقرىء : «وفرش» بالتخفيف { مَّرْفُوعَةٍ } نضدت حتى ارتفعت . أو مرفوعة على الأسرة . وقيل : هي النساء ، لأن المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة على الأرائك . قال الله تعالى : { هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الارائك مُتَّكِئُونَ } [ يس : 56 ] ، ويدل عليه قوله تعالى : { إِنَّا أنشأناهن إِنشآءَ ( 35 ) } وعلى التفسير الأول أضمر لهنّ ، لأنّ ذكر الفرش وهي المضاجع دلّ عليهن { أنشأناهن إِنشَاء } أي ابتدأنا خلقهن ابتداء جديداً من غير ولادة ، فإما أن يراد . اللاتي ابتدىء إنشاؤهن؛ أو اللاتي أعيد إنشاؤهن . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1122 ) أنّ أمّ سلمة رضي الله عنها سألته عن قول الله تعالى : { إِنَّا أنشأناهن } فقال : " يا أم سلمة هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا ، جعلهنّ الله بعد الكبر " { أَتْرَاباً } على ميلاد واحد في الاستواء ، كلما أتاهنَّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا؛ فلما سمعت عائشة رضي الله عنها ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : واوجعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس هناك وجع "
( 1123 ) وقالت عجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يدخلني الجنة ، فقال : " إنّ الجنة لا تدخلها العجائز " ، فولت وهي تبكي ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أخبروها أنها ليست يومئذٍ بعجوز " وقرأ الآية { عُرُباً } وقرىء : «عربا» بالتخفيف جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل { أَتْرَاباً } مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين ، وأزواجهنّ أيضاً كذلك . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1124 ) " يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين " واللام في { لأصحاب اليمين ( 38 ) } من صلة أنشأنا وجعلنا .
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
{ فِى سَمُومٍ } في حر نار ينفذ في المسام { وَحَمِيمٍ } وماء حار متناه في الحرارة { وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ } من دخان أسود بهيم { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ( 44 ) } نفي لصفتي الظل عنه ، يريد : أنه ظل ، ولكن لا كسائر الظلال : سماه ظلاً ، ثم نفى عنه برد الظل وروحه ونفعه لمن يأوي إليه من أذى الحر وذلك كرمه ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه . والمعنى أنه ظلّ حارّ ضارّ إلا أنّ للنفي في نحو هذا شأنا ليس للإثبات . وفيه تهكم بأصحاب المشأمة ، وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة . وقرىء : «لا بارد ولا كريم» بالرفع ، أي : لا هو كذلك و { الحنث } الذنب العظيم . ومنه قولهم : بلغ الغلام الحنث ، أي : الحلم ووقت المؤاخذة بالمآثم . ومنه : حنث في يمينه ، خلاف برّ فيها . ويقال : تحنث إذا تأثم وتحرج { أَوَ ءَابَآؤُنَا } دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف . فإن قلت : كيف حسن العطف على المضمر في { لَمَبْعُوثُونَ } من غير تأكيد بنحن؟ قلت : حسن للفاصل الذي هو الهمزة ، كما حسن في قوله تعالى : { مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } لفصل ( لا ) المؤكدة للنفي . وقرىء : «أو آباؤنا» وقرىء : «لمجمعون» { إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم والإضافة بمعنى من ، كخاتم فضة . والميقات : ماوقت به الشيء ، أي : حدّ . ومنه مواقيت الإحرام : وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرماً { أَيُّهَا الضآلون } عن الهدى { المكذبون } بالبعث ، وهم أهل مكة ومن في مثل حالهم { مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ } من الأولى لابتداء الغاية ، والثانية لبيان الشجر وتفسيره . وأنث ضمير الشجر على المعنى ، وذكره على اللفظ في قوله : ( منها ) و ( عليه ) ومن قرأ : «من شجرة من زقوم» فقد جعل الضميرين للشجرة ، وإنما ذكر الثاني على تأويل الزقوم ، لأنه تفسيرها وهي في معناه «شرب الهيم» وقرىء : بالحركات الثلاث ، فالفتح والضم مصدران . وعن جعفر الصادق رضي الله عنه : أيام أكل وشرب ، بفتح الشين . وأما المكسور فبمعنى المشروب ، أي : ما يشربه الهيم وهي الإبل التي بها الهيام ، وهو داء تشرب منه فلا تروى : جمع أهيم وهيماء . قال ذو الرمّة :
فَأَصْبَحْتُ كَالْهَيْمَاءِ لاَ المَاءُ مُبْرِدٌ ... صَدَاهَا وَلاَ يَقْضِي عَلَيْهَا هُيَامُهَا
وقيل الهيم : الرمال . ووجهه أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا يتماسك ، جمع على فعل كسحاب وسحب ، ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض . والمعنى : أنه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقوم الذي هو كالمهل؛ فإذا ملؤا منه البطون يسلط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم ، فيشربونه شرب الهيم . فإن قلت : كيف صحّ عطف الشاربين على الشاربين ، وهما لذوات متفقة ، وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسه؟ قلت : ليستا بمتفقتين ، من حيث إنّ كونهم شاربين للحميم على ما هو عليه : من تناهي الحرارة وقطع الأمعاء أمر عجيب ، وشربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضاً ، فكانتا صفتين مختلفتين . النزل : الرزق الذي يعدّ للنازل تكرماً له . وفيه تهكم ، كما في قوله تعالى : { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وكقول أبي الشعر الضبي .
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا وَالمُرْهِفَاتِ لَهُ نُزْلاَ
وقرىء : «نزلهم» بالتخفيف .
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
{ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } تحضيض على التصديق : إما بالخلق لأنهم وإن كانوا مصدّقين به ، إلا أنهم لما كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق ، فكأنهم مكذبون به . وإما بالبعث؛ لأنّ من خلق أولاً لم يمتنع عليه أن يخلق ثانياً «ما تمنون» ما تمنونه ، أي : تقذفونه في الأرحام من النطف وقرأ أبو السّمّال بفتح التاء يقال : أمنى النطفة ومناها . قال الله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى } [ النجم : 46 ] . { تَخْلُقُونَهُ } تقدرونه تصوّرونه { قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت } تقديراً وقسمناه عليكم قسمة الرزق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا ، فاختلفت أعماركم من قصير وطويل ومتوسط . وقرىء : «قدرنا» بالتخفيف . سبقته على الشيء : إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه ، فمعنى قوله : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أمثالكم } أنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه ، وأمثالكم جمع مثل : أي على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق ، وعلى أن ( ننشأكم ) في خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها ، يعني : أنا نقدر على الأمرين جميعاً : على خلق ما يماثلكم ، وما لا يماثلكم؛ فكيف نعجز عن إعادتكم . ويجوز أن يكون { أمثالكم } جمع مثل ، أي : على أن نبدّل ونغير صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم ، وننشئكم في صفات لا تعلمونها . قرىء : «النشأة» والنشاءة . وفي هذا دليل على صحة القياس حيث جهَّلهم في ترك قياس النشأة الأخرى على الأولى .
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
( أفرأيتم ما تحرثون ) ه من الطعام ، أي : تبذرون حبه وتعملون في أرضه { ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ } تنبتونه وتردونه نباتاً ، يرف وينمي إلى أن يبلغ الغاية . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1125 ) " لا يقولن أحدكم : زرعت ، وليقل : حرثت " قال أبو هريرة : أرأيتم إلى قوله : { أَفَرَءَيْتُم . . . } الآية . والحطام : من حطم ، كالفتات والجذاذ من فت وجذ : وهو ما صار هشيماً وتحطم { فَظَلْتُمْ } وقرىء بالكسر ( فظللتم ) على الأصل { تَفَكَّهُونَ } تعجبون . وعن الحسن رضي الله عنه : تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه . أو على ما اقترفتم من المعاصي التي أصبتم بذلك من أجلها . وقرىء : «تفكنون» ومنه الحديث :
( 1126 ) " مثل العالم كمثل الحمة يأيتها البعدآء ويتركها القرباء فبيناهم إذ غار ماؤها فانتفع بها قوم وبقي قوم يتفكنون " أي : يتندمون { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ( 66 ) } لملزمون غرامة ما أنفقنا . أومهلكون لهلاك رزقنا ، من الغرام : وهو الهلاك { بَلْ نَحْنُ } قوم { مَحْرُومُونَ } محارفون محدودون ، لا حظ لنا ولا بخت لنا؛ ولو كنا مجدودين ، لما جرى علينا هذا . وقرىء : «أئنا» .
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
{ المآء الذى تَشْرَبُونَ } يريد : الماء العذب الصالح للشرب . و { المزن } السحاب : الواحدة مزنة . وقيل : هو السحاب الأبيض خاصة ، وهو أعذب ماء { أُجَاجاً } ملحاً زعاقاً لا يقدر على شربه . فإن قلت : لم أدخلت اللام على جواب ( لو ) في قوله : { لَجَعَلْنَاهُ حطاما } [ الواقعة : 65 ] ونزعت منه ههنا؟ قلت : إنّ «لو» لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ، ولم تكن مخلصة للشرط كإن ولا عاملة مثلها ، وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقاً من حيث إفادتها في مضموني جملتيها أنّ الثاني امتنع لامتناع الأوّل افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علماً على هذا التعلق ، فزيدت هذه اللام لتكون علماً على ذلك ، فإذا حذفت بعد ما صارت علماً مشهوراً مكانه ، فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفاً ومأنوساً به : لم يبال بإسقاطه عن اللفظ ، استغناء بمعرفة السامع . ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنه كان يقول : خير ، لمن قال له : كيف أصبحت؟ فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه . وتساوي حالي حذفه وإثباته لشهرة أمره . وناهيك بقول أوس :
حَتى إذَا الْكلاَّبُ قَالَ لَهَا ... كَالْيَوْمِ مَطْلُوباً وَلاَ طَلَبَا
وحذفه «لم أر» فإذن حذفها اختصار لفظي وهي ثابتة في المعنى ، فاستوى الموضعان بلا فرق بينهما؛ على أن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة مغن عن ذكرها ثانية ونائب عنه . ويجوز أن يقال : إنّ هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة ، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب ، للدلالة على أن أمر المطعوم مقدّم على أمر المشروب ، وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب ، من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعاً للمطعوم . ألا ترى أنك إنما تسقى ضيفك بعد أن تطعمه ، ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء :
إذَا سُقِيَتْ ضُيُوفُ النَّاسِ مَحْضاً ... سَقَوْا أَضْيَافَهُمْ شَبَماً زَلاَلاَ
وسقى بعض العرب فقال : أنا لا أشرب إلا على ثميلة؛ ولهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب .
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
{ تُورُونَ } تقدحونها وتستخرجونها من الزناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر ، ويسمون الأعلى : الزند ، والأسفل : الزندة؛ شبهوهما بالفحل والطروقة { شَجَرَتَهَآ } التي منها الزناد { تَذْكِرَةً } تذكيراً لنار جهنهم ، حيث علقنا بها أسباب المعايش كلها ، وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به . أو جعلناها تذكرة وأنموذجاً من جهنم ، لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1127 ) « ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزأ من حرّ جهنم » { ومتاعا } ومنفعة { لّلْمُقْوِينَ } للذين ينزلون القواء وهي القفر . أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام . يقال : أقويت من أيام ، أي لم آكل شيئاً { فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ } فأحدث التسبيح بذكر اسم ربك ، أو أراد بالاسم : الذكر ، أي : بذكر ربك . و { العظيم } صفة للمضاف أو للمضاف إليه . والمعنى : أنه لما ذكر ما دل على قدرته وإنعامه على عباده قال : فأحدث التسبيح وهو أن يقول : سبحان الله ، إمّا تنزيهاً له عما يقول الظالمون الذين يجحدون وحدانيته ويكفرون نعمته ، وإما تعجباً من أمرهم في غمط آلائه وأياديه الظاهرة ، وإما شكراً لله على النعم التي عدّها ونبه عليها .
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
{ فَلاَ أُقْسِمُ } معناه فأقسم . ولا مزيدة مؤكدة مثلها في قوله : { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] وقرأ الحسن : «فلأقسم» . ومعناه : فلأنا أقسم : اللام لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر ، وهي : أنا أقسم ، كقولك : «لزيد منطلق» ثم حذف المبتدأ ، ولا يصح أن تكون اللام لام القسم لأمرين ، أحدهما : أن حقها أن يقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح . والثاني : أن «لأفعلن» في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال { بمواقع النجوم } بمساقطها ومغاربها ، لعل لله تعالى في آخر الليل إذا انحطت النجوم إلى المغرب أفعالاً مخصوصة عظيمة ، أو للملائكة عبادات موصوفة ، أو لأنه وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه من عباده الصالحين ، ونزول الرحمة والرضوان عليهم؛ فلذلك أقسم بمواقعها ، واستعظم ذلك بقوله { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( 76 ) } أو أراد بمواقعها : منازلها ومسايرها ، وله تعالى في ذلك من الدليل على عظيم القدرة والحكمة ما لا يحيط به الوصف . وقوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( 76 ) } اعتراض في اعتراض؛ لأنه اعترض به بين المقسم والمقسم عليه ، وهو قوله : { إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ ( 77 ) } واعترض ب { لَّوْ تَعْلَمُونَ } بين الموصوف وصفته . وقيل : مواقع النجوم : أوقات وقوع نجوم القرآن ، أي : أوقات نزولها كريم حسن مرضي في جنسه من الكتب . أو نفاع جم المنافع . أو كريم على الله { فِى كتاب مَّكْنُونٍ ( 78 ) } مصون من غير المقربين من الملائكة ، لا يطلع عليه من سواهم ، وهم المطهرون من جميع الأدناس أدناس الذنوب وما سواها : إن جعلت الجملة صفة لكتاب مكنون وهو اللوح . وإن جعلتها صفة للقرآن؛ فالمعنى لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس ، يعني مس المكتوب منه ، ومن الناس من حمله على القراءة أيضاً ، وعن ابن عمر أحب إليَّ أن لا يقرأ إلا وهو طاهر ، وعن ابن عباس في رواية أنه كان يبيح القراءة للجنب ، ونحوه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1128 ) " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " أي لا ينبغي له أن يظلمه أو يسلمه . وقرىء : «المتطهرون» و«المطهرون» بالإدغام . و«المطهرون» ، من أطهره بمعنى طهره . والمطهرون بمعنى : يطهرون أنفسهم أو غيرهم بالاستغفار لهم والوحي الذي ينزلونه { تَنزِيلٌ } صفة رابعة للقرآن ، أي : منزل من رب العالمين . أو وصف بالمصدر؛ لأنه نزل نجوماً من بين سائر كتب الله تعالى ، فكأنه في نفسه تنزيل؛ ولذلك جرى مجرى بعض أسمائه ، فقيل : جاء في التنزيل كذا ، ونطق به التنزيل . أو هو تنزيل على المبتدأ . وقرىء : «تنزيلاً» على : نزل تنزيلاً .
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
{ أفبهذا الحديث } يعني القرآن { أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } أي : متهاونون به ، كمن يدهن في الأمر ، أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاوناً به { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ( 82 ) } على حذف المضاف ، يعني : وتجعلون شكر رزقكم التكذيب ، أي : وضعتم التكذيب موضع الشكر . وقرأ علي رضي الله عنه : «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون» وقيل : هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى وتجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به . وقيل : نزلت في الأنواء ونسبتهم السقيا إليها . والرزق : المطر ، يعني : وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله ، حيث تنسبونه إلى النجوم . وقرىء : «تكذبون» وهو قولهم في القرآن : شعر وسحر وافتراء . وفي المطر : وهو من الأنواء ، ولأنّ كل مكذب بالحق كاذب .
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
ترتيب الآية : فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين . و ( فلولا ) الثانية مكررة للتوكيد ، والضمير في { تَرْجِعُونَهَا } للنفس وهي الروح ، وفي { أَقْرَبُ إِلَيْهِ } للمحتضر { غَيْرَ مَدِينِينَ } غير مربوبين ، من دان السلطان الرعية إذا ساسهم . { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } يا أهل الميت بقدرتنا وعلمنا ، أو بملائكة الموت . والمعنى : إنكم في جحودكم أفعال الله تعالى وآياته في كل شيء إن أنزل عليكم كتاباً معجزاً قلتم : سحر وافتراء . وإن أرسل إليكم رسولاً قلتم : ساحر كذاب ، وإن رزقكم مطراً يحييكم به قلتم : صدق نوء كذا ، على مذهب يؤدي إلى الإهمال والتعطيل فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثم قابض وكنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد { فَأَمَّا إِن كَانَ } المتوفى { مِنَ المقربين } من السابقين من الأزواج الثلاثة المذكورة في أوّل السورة { فَرَوْحٌ } فله استراحة .
( 1129 ) وروت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فَرُوح» ، بالضم . وقرأ به الحسن وقال : الروح الرحمة ، لأنها كالحياة للمرحوم . وقيل : البقاء ، أي : فهذان له معاً ، وهو الخلود مع الرزق والنعيم . والريحان : الرزق { فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين ( 91 ) } فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي : يسلمون عليك . كقوله تعالى : { إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما } [ الواقعة : 26 ] { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ( 93 ) } كقوله تعالى : { هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين } [ الواقعة : 56 ] وقرىء بالتخفيف { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ( 94 ) } قرئت بالرفع والجر عطفاً على نزل وحميم { إِنَّ هذا } الذي أنزل في هذه السورة { لَهُوَ حَقُّ اليقين } أي الحق الثابت من اليقين .
عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم :
( 1130 ) " من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً " .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
جاء في بعض الفواتح { سَبِّحَ } على لفظ الماضي ، وفي بعضها على لفظ المضارع ، وكل واحد منهما معناه : أنّ من شأن من أسند إليه التسبيح أن يسبحه ، وذلك هجيراه وديدنه ، وقد عدى هذا الفعل باللام تارة وبنفسه أخرى في قوله تعالى : { وتسبحوه } [ الفتح : 9 ] وأصله : التعدي بنفسه ، لأنّ معنى سبحته : بعدته عن السوء ، منقول من سبح إذا ذهب وبعد ، فاللام لا تخلو إما أن تكون مثل اللام في : نصحته ، ونصحت له ، وإما أن يراد بسبح لله : أحدث التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً ، { مَا فِى السماوات والارض } ما يتأتى منه التسبيح ويصح . فإن قلت : ما محل { يُحْىِ } ؟ قلت : يجوز أن لا يكون له محل ، ويكون جملة برأسها؛ كقوله : { لَّهُ مُلْكُ السموات } [ البقرة : 107 ] وأن يكون مرفوعاً على : هو يحيي ويميتُ ، ومنصوباً حالاً من المجرور في ( له ) والجار عاملاً فيها . ومعناه : يحيي النطف والبيض والموتى يوم القيامة ويميت الأحياء { هُوَ الاول } هو القديم الذي كان قبل كل شيء { والاخر } الذي يبقى بعد هلاك كل شيء { والظاهر } بالأدلة الدالة عليه { والباطن } لكونه غير مدرك بالحواس . فإن قلت : فما معنى الواو؟ قلت الواو الأولى معناها الدلالة على أنه الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية ، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء . وأما الوسطى ، فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الآخريين ، فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية ، وهو في جميعها ظاهر وباطن : جامع للظهور بالأدلة والخفاء ، فلا يدرك بالحواس . وفي هذا حجة على من جوّز إدراكه في الآخرة بالحاسة . وقيل : الظاهر العالي على كل شيء الغالب له ، من ظهر عليه إذا علاه وغلبهُ . والباطن الذي بطن كل شيء ، أي علم باطنه : وليس بذاك مع العدول عن الظاهر المفهوم .
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
{ مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها ، وإنما موّلكم إياها ، وخوّلكم الاستمتاع بها ، وجعلكم خلفاء في التصرف فيها ، فليست هي بأموالكم في الحقيقة . وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنوّاب ، فأنفقوا منها في حقوق الله ، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه . أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم : بتوريثه إياكم ، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم ، وسينقل منكم إلى من بعدكم؛ فلا تبخلوا به ، وانفعوا بالإنفاق منها أنفسكم { لاَ تُؤْمِنُونَ } حال من معنى الفعل في مالكم ، كما تقول : مالك قائماً ، بمعنى : ما تصنع قائماً ، أي : وما لكم كافرين بالله . والواو في { والرسول يَدْعُوكُمْ } واو الحال ، فهما حالان متداخلتان . وقرىء : «وما لكم لا تؤمنون بالله ورسوله والرسول يدعوكم» والمعنى : وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبراهين والحجج ، وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان : حيث ركب فيكم العقول ، ونصب لكم الأدلة ، ومكنكم من النظر ، وأزاح عللكم ، فإذ لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول ، فما لكم لا تؤمنون { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لموجب مّا؛ فإن هذا الموجب لا مزيد عليه . وقرىء : «أخذ ميثاقكم» على البناء للفاعل ، وهو الله عز وجل .
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)
{ لِيُخْرِجَكُمْ } الله بآياته من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان . أو ليخرجكم الرسول بدعوته { لَرَءُوفٌ } وقرىء : «لرؤُف» .
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
{ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ } في أن لا تنفقوا { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والارض } يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره ، يعني : وأيّ غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم ، وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله . ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال : { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ } قبل فتح مكة قبل عز الإسلام وقوّة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجاً وقلة الحاجة إلى القتال والنفقة فيه ، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لوضوح الدلالة { أولئك } الذي أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1131 ) " لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه " أعظم درجة وقرىء : «قبل الفتح» { وَكُلاًّ } وكل واحد من الفريقين { وَعَدَ الله الحسنى } أي المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات . وقرىء : بالرفع على «وكل وعده الله» وقيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، لأنه أول من أسلم وأول من أنفق في سبيل الله . القرض الحسن : الإنفاق في سبيله . شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز ، لأنه إذاأعطى ماله لوجهه فكأنه أقرضه إياه { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } أي يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفاً { أَضْعَافًا } من فضله { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } يعني : وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه : وقرىء : «فيضعفه» وقرئا منصوبين على جواب الاستفهام والرفع عطف على { يُقْرِضُ } ، أو على : فهو يضاعفه .
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
{ يَوْمَ تَرَى } ظرف لقوله : { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أو منصوب بإضمار «اذكر» تعظيماً لذلك اليوم . وإنما قال : { بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } لأنّ السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين؛ كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ومن وراء ظهورهم ، فجعل النور في الجهتين شعاراً لهم وآية؛ لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا ، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون : سعى بسعيهم ذلك النور جنيبا لهم ومتقدماً . ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة : { بُشْرَاكُمُ اليوم } . وقرىء : «ذلك الفوز» .
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
{ يَوْمَ يَقُولُ } بدل من يوم ترى { انظرونا } انتظرونا ، لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على ركاب تزف بهم . وهؤلاء مشاة . وانظروا إلينا؛ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به . وقرىء : «أنظرونا» من النظرة وهي الإمهال : جعل اتئادهم في المضيّ إلى أن يلحقوا بهم أنظاراً لهم { نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } نصب منه؛ وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به { قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُوراً } طرد لهم وتهكم بهم ، أي : ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك ، فمن ثم يقتبس . أو ارجعوا إلى الدنيا ، فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان . أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا ، فالتمسوا نوراً آخر ، فلا سبيل لكم إلى هذا النور ، وقد علموا أن لا نور وراءهم؛ وإنما هو تخييب وإقناط لهم { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } بين المؤمنين والمنافقين بحائط حائل بين شقّ الجنة وشق النار . وقيل : هو الأعراف لذلك السور { بَابٌ } لأهل الجنة يدخلون منه { بَاطِنُهُ } باطن السور أو الباب ، وهو الشق الذي يلى الجنة { وظاهره } ما ظهر لأهل النار { مِن قِبَلِهِ } من عنده ومن جهته { العذاب } وهو الظلمة والنار . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنهما : «فضرب بينهم» على البناء للفاعل { أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } يريدون موافقتهم في الظاهر { فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } محنتموها بالنفاق وأهلكتموها { وَتَرَبَّصْتُمْ } بالمؤمنين الدوائر { وَغرَّتْكُمُ الامانى } طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار { حتى جَاءَ أَمْرُ الله } وهو الموت { وَغَرَّكُم بالله الغرور } وغرّكم الشيطان بأنّ الله عفوّ كريم لا يعذبكم . وقرىء : «الغرور» بالضم { فِدْيَةٌ } ما يفتدى به { هِىَ مولاكم } قيل : هي أولى بكم ، وأنشد قول لبيد :
فَغَدَتْ كِلاَ الْفَرَجَيْنِ تَحْسِبُ أَنَّهُ ... مُولِي المَخَافَةَ خَلْفَهَا وَأَمَامَهَا
وحقيقة مولاكم : محراكم ومقمنكم . أي : مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم ، كما قيل : هو مئنة للكرم ، أي مكان؛ لقول القائل : إنه الكريم . ويجوز أن يراد : هي ناصركم ، أي لا ناصر لكم غيرها . والمراد : نفي الناصر على البتات . ونحوه قولهم : أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع . ومنه قوله تعالى : { يغاثوا بماء كالمهل } [ الكهف : 9 ] وقيل : تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار .
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
{ أَلَمْ يَأْنِ } من أنى الأمر يأني ، إذا جاء إناه ، أي : وقته . وقرىء : «ألم يئن» من آن يئين بمعنى : أنى يأنى ، وألما يأن ، قيل : كانوا مجدبين بمكة ، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه ، فنزلت . وعن ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبتا بهذه الآية إلا أربع سنين . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إنّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن . وعن الحسن رضي الله عنه : أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرؤون . فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق . وعن أبي بكر رضي الله عنه أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة ، فبكوا بكاءً شديداً ، فنظر إليهم فقال هكذا كنا حتى قست القلوب . وقرىء : «نزّل ونزل» وأنزل { وَلاَ يَكُونُواْ } عطف على تخشع ، وقرىء بالتاء على الالتفات ، ويجوز أن يكون نهياً لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا ، وذلك أنّ بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم ، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم ، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره . فإن قلت : ما معنى : { لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق } ؟ قلت : يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق : القرآن؛ لأنه جامع للأمرين : للذكر والموعظة ، وأنه حق نازل من السماء ، وأن يراد خشوعها إذا ذكر الله وإذا تلى القرآن كقوله تعالى : { إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياته زادتهم إيماناً } [ الأنفال : 2 ] أراد بالأمد : الأجل ، كقوله :
. . . . . . إذَا انْتَهَى أَمَدُهْ ... وقرىء : «الأمدّ» ، أي : الوقت الأطول { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين .
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
{ اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } قيل : هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب ، وأنه يحييها كما يحيي الغيث الأرض .
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
{ المصدقين } المتصدّقين . وقرىء على الأصل «والمصدّقين» . من صدق ، وهم الذين صدقوا الله ورسوله يعني المؤمنين . فإن قلت : علام عطف قوله { وَأَقْرِضُواُ } ؟ قلت : على معنى الفعل في المصدّقين؛ لأنّ اللام بمعنى الذين ، واسم الفاعل بمعنى أصدّقوا ، كأنه قيل : إنّ الذين أصدّقوا وأقرضوا . والقرض الحسن : أنّ يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة . وقرىء : «يضعف» ويضاعف ، بكسر العين ، أي : يضاعف الله .
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
يريد أنّ المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصدّيقين والشهداء؛ وهم الذي سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي : مثل أجر الصدّيقين والشهداء ومثل نورهم . فإن قلت : كيف يسوّي بينهم في الأجر ولا بدّ من التفاوت؟ قلت : المعنى أنّ الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله ، حتى يساوى أجرهم مع إضعافه أجر أولئك . ويجوز أن يكون { والشهدآء } مبتدأ ، و { لَهُمْ أَجْرُهُمْ } خبره .
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
أراد أنّ الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر . وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام ، وهي : العذاب الشديد والمغفرة ورضوان الله . وشبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات ، فبعث عليه العاهة فهاج واصفرّ وصار حطاماً عقوبة لهم على جحودهم ، كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين . وقيل : { الكفار } الزراع . وقرىء : «مصفارّاً» .
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
{ سَابِقُواْ } سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار ، إلى جنة { عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض } قال السدي : كعرض سبع السموات وسبع الأرضين ، وذكر العرض دون الطول؛ لأنّ كل ماله عرض وطول فإنّ عرضه أقل من طوله ، فإذا وصف عرضه بالبسطة : عرف أنّ طوله أبسط وأمدّ . ويجوز أن يراد بالعرض : البسطة ، كقوله تعالى : { فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] لما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة : بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك : وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة { ذلك } الموعود من المغفرة والجنة { فضلا للَّهِ } عطاؤه { يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } وهم المؤمنون .
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
المصيبة في الأرض : نحو الجدب وآفات الزروع والثمار . وفي الأنفس : نحو الأدواء والموت { فِى كتاب } في اللوح { مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا } يعني الأنفس أو المصائب { إِنَّ ذَلِكَ } إنّ تقدير ذلك وإثباته في كتاب { عَلَى الله يَسِيرٌ } وإن كان عسيراً على العباد ، ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه فقال : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ . . . . . } يعني أنكم إذا علمتم أنّ كل شيء مقدر مكتوب عند الله قلّ أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي؛ لأنّ من علم أن ما عنده معقود لا محالة : لم يتفاقم جزعه عند فقده ، لأنه وطن نفسه على ذلك ، وكذلك من علم أنّ بعض الخير واصل إليه ، وأن وصوله لا يفوته بحال : لم يعظم فرحه عند نيله { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } لأنّ من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه : اختال وافتخر به وتكبر على الناس . قرىء : «بما آتاكم» وأتاكم ، من الإيتاء والإتيان . وفي قراءة ابن مسعود «بما أوتيتم» فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح . قلت : المراد : الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين ، والفرح المطغى الملهى عن الشكر؛ فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام ، والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر : فلا بأس بهما { الذين يَبْخَلُونَ } بدل من قوله : { كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } كأنه قال : لا يحب الذين يبخلون ، يريد : الذين يفرحون الفرح المطغى إذا رزقوا مالاً وحظاً من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم وعظمه في عيونهم : يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به ، ولا يكفيهم أنهم بخلوا حتى يحملوا الناس على البخل ويرغبوهم في الإمساك ويزينوه لهم ، وذلك كله نتيجة فرحهم به وبطرهم عند إصابته { وَمَن يَتَوَلَّ } عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي : فإنّ الله غني عنه . وقرىء : «بالبخل» وقرأ نافع : «فإنّ الله الغني» ، وهو في مصاحف أهل المدينة والشام كذلك .
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا } يعني الملائكة إلى الأنبياء { بالبينات } بالحجج والمعجزات { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب } أي الوحي { والميزان } روى أنّ جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال : مر قومك يزنوا به { وَأَنزْلْنَا الحديد } قيل : نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد : السندان ، والكلبتان ، والميقعة والمطرقة ، والإبرة . وروى : ومعه المرّ والمسحاة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1132 ) « أنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : أنزل الحديد ، والنار ، والماء ، والملح » وعن الحسن { وَأَنزَلْنَا الحديد } : خلقناه ، كقوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام } [ الزمر : 60 ] وذلك أنّ أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } وهو القتال به { ومنافع لِلنَّاسِ } في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم ، فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها؛ أو ما يعمل بالحديد { وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ } باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين { بالغيب } غائباً عنهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ينصرونه ولا يبصرونه { إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ } غني بقدرته وعزته في إهلاك من يريد هلاكه عنهم ، وإنما كلفهم الجهاد لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
{ والكتاب } والوحي . وعن ابن عباس : الخط بالقلم ، يقال : كتب كتاباً وكتابة { فَمِنْهُم } فمن الذرية أو من المرسل إليهم ، وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين . وهذا تفصيل لحالهم ، أي : فمنهم مهتد ومنهم فاسق ، والغلبة للفساق .
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
قرأ الحسن : «الأنجيل» بفتح الهمزة ، وأمره أهون من أمر البرطيل والسكينة فيمن رواهما بفتح الفاء ، لأنّ الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب . وقرىء : «رآفة» على : فعالة ، أي : وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم . ونحوه في صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] . والرهبانية : ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين ، مخلصين أنفسهم للعبادة ، وذلك أنّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى ، فقاتلوهم ثلاث مرات ، فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل ، فخافوا أن يفتنوا في دينهم ، فاختاروا الرهبانية : ومعناه الفعلة المنسوبة إلى الرهبان ، وهو الخائف : فعلان من رهب ، كخشيان من خشى . وقرىء : «ورهبانية» بالضم ، كأنها نسبة إلى الرهبان : وهو جمع راهب كراكب وركبان ، وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر : تقديره . وابتدعوا رهبانية { ابتدعوها } يعني : وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها { مَا كتبناها عَلَيْهِمْ } لم نفرضها نحن عليهم { إِلاَّ ابتغاء رضوان الله } استثناء منقطع ، أي : ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } كما يجب على الناذر رعاية نذره؛ لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه { فَئَاتَيْنَا الذين ءَامَنُواْ } يريد : أهل الرحمة والرأفة الذين اتبعوا عيسى { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون } الذين لم يحافظوا على نذرهم . ويجوز أن تكون الرهبانية معطوفة على ما قبلها ، وابتدعوها : صفة لها في محل النصب ، أي : وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم ، بمعنى : وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها ، ما كتبناها عليهم إلا ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب ، على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم ليتخلصوا من الفتن ويبتغوا بذلك رضا الله وثوابه ، فما رعوها جميعاً حق رعايتها؛ ولكن بعضهم ، فآتينا المؤمنين المراعين منهم للرهبانية أجرهم ، وكثير منهم فاسقون . وهم الذين لم يرعوها .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ } يجوز أن يكون خطاباً للذين آمنوا من أهل الكتاب والذين آمنوا من غيرهم ، فإن كان خطاباً لمؤمني أهل الكتاب . فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد { يُؤْتِكُمْ } الله { كِفْلَيْنِ } أي نصيبين { مّن رَّحْمَتِهِ } لإيمانكم بمحمد وإيمانكم بمن قبله { وَيَجْعَل لَّكُمْ } يوم القيامة { نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } وهو النور المذكور في قوله : { يسعى نُورُهُم } [ الحديد : 12 ] . { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ما أسلفتم من الكفر والمعاصي .
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{ لّئَلاَّ يَعْلَمَ } ليعلم { أَهْلُ الكتاب } الذين لم يسلموا . ولا مزيدة { أَلاَّ يَقْدِرُونَ } أن مخففة من الثقيلة ، أصله : أنه لا يقدرون ، يعني : أنّ الشأن لا يقدرون { على شَىْءٍ مّن فَضْلِ الله } أي : لا ينالون شيئاً مما ذكر من فضله من الكفلين : والنور والمغفرة ، لأنهم لم يؤمنوا برسول الله ، فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ، ولم يكسبهم فضلاً قط . وإن كان خطاباً لغيرهم ، فالمعنى : اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم برسول الله يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله : { أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [ القصص : 54 ] ولا ينقصكم من مثل أجرهم ، لأنكم مثلهم في الإيمانين لا تفرقون بين أحد من رسله . روى :
( 1133 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جعفراً رضي الله عنه في سبعين راكباً إلى النجاشي يدعوه ، فقدم جعفر عليه فدعاه فاستجاب له ، فقال ناس ممن آمن من أهل مملكته وهم أربعون رجلاً . ائذن لنا في الوفادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذن لهم فقدموا مع جعفر وقد تهيأ لوقعة أحد ، فلما رأوا ما بالمسلمين من خصاصة : استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجعوا وقدموا بأموال لهم فآسوا بها المسلمين ، فأنزل الله { الذين ءاتيناهم الكتاب . . . . } [ البقرة : 121 ] إلى قوله : { . . . . وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] فلما سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله : { يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [ القصص : 54 ] فخروا على المسلمين وقالوا : أما من آمن بكتابكم وكتابنا فله أجره مرّتين ، وأما من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم ، فما فضلكم علينا؟ فنزلت . وروي أنّ مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرّتين ، وادعوا الفضل عليهم ، فنزلت . وقرىء : «لكي يعلم» و«لكيلا يعلم» . و«ليعلم» . و«لأن يعلم»؛ بإدغام النون في الياء . و«لين يعلم» . بقلب الهمزة ياء وإدغام النون في الياء . وعن الحسن : «ليلا يعلم» ، بفتح اللام وسكون الياء . ورواه قطرب بكسر اللام . وقيل : في وجهها : حذفت همزة أن ، وأدغمت نونها في لام لا؛ فصار «للا» ثم أبدلت من اللام المدغمة ياء ، كقولهم : ديوان ، وقيراط . ومن فتح اللام فعلى أن أصل لأم الجرّ الفتح ، كما أنشد :
أُرِيدُ لِأنْسَى ذِكْرَهَا . . . ... وقرىء : «أن لا يقدروا» { بِيَدِ الله } في ملكه وتصرفه . واليد مثل { يُؤْتِيهِ مَن يَشآءُ } ولا يشاء إلا إيتاء من يستحقه . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1134 ) " من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله " .
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
{ قَدْ سَمِعَ الله } .
( 1135 ) قالت عائشة رضي الله عنها : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات : لقد كلمت المجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وأنا عنده لا أسمع ، وقد سمع لها . وعن عمر أنه كان إذا دخلت عليه أكرمها وقال : قد سمع الله لها . وقرىء : «تحاورك» أي : تراجعك الكلام . وتحاولك ، أي : تسائلك ، وهو خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة :
( 1136 ) رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم ، فلما سلمت راودها فأبت ، فغضب وكان به خفة ولمم ، فظاهر منها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، فلما خلا سني ونثرت بطني أي : كثر ولدي جعلني عليه كأمّه . وروى :
( 1137 ) أنها قالت له : إنّ لي صبية صغاراً ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا . فقال : ما عندي في أمرك شيء . وروى :
( 1138 ) أنه قال لها : حرمت عليه ، فقالت : يا رسول الله ، ما ذكر طلاقاً وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إليّ ، فقال : حرمت عليه ، فقالت : أشكو إلى الله فاقتى ووجدي ، كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت عليه ، هتفت وشكت إلى الله ، فنزلت { فِى زَوْجِهَا } في شأنه ومعناه { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } يصح أن يسمع كل مسموع ويبصر كل مبصر . فإن قلت : ما معنى ( قد ) في قوله : ( قد سمع ) ؟ قلت : معناه التوقع؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرّج عنها .
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
{ الذين يظاهرون مِنكُمْ } في { مِنكُمْ } توبيخ للعرب وتهجين لعادتهم في الظهار ، لأنه كان من أيمان أهل جاهليتهم خاصة دون سائر الأمم { مَّا هُنَّ أمهاتهم } وقرىء : بالرفع على اللغتين الحجازية والتميمية . وفي قراءة ابن مسعود : «بأمّهاتهم» وزيادة الباء في لغة من ينصب . والمعنى أن من يقول لامرأته أنت عليّ كظهر أمي : ملحق في كلامه هذا للزوج بالأم ، وجاعلها مثلها . وهذا تشبيه باطل لتباين الحالين { إِنْ أمهاتهم إِلاَّ الا®ئى وَلَدْنَهُمْ } يريد أن الأمهات على الحقيقة إنما هنّ الوالدات وغيرهنّ ملحقات بهنّ لدخولهنّ في حكمهنّ ، فالمرضعات أمّهات؛ لأنهنّ لما أرضعن دخلن بالرضاع في حكم الأمهات ، وكذلك أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين؛ لأن الله حرّم نكاحهن على الأمة فدخلن بذلك في حكم الأمهات . وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة لأنهنّ لسن بأمّهات على الحقيقة . ولا بداخلات في حكم الأمهات ، فكان قول المظاهر : منكراً من القول تنكره الحقيقة وتنكره الأحكام الشرعية وزوراً وكذباً باطلاً منحرفاً عن الحق { وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } لما سلف منه إذا تيب منه ولم يعد إليه ، ثم قال : { والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } يعني : والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام ، ثم يعودون لمثله ، فكفارة من عاد أن يحرّر رقبة ثم يماس المظاهر منها لا تحل له مماستها إلا بعد تقديم الكفارة . ووجه آخر : ثم يعودون لما قالوا : ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه . ومنه المثل : عاد غيث على ما أفسد ، أي : تداركه بالإصلاح . والمعنى : أن تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظهار . ووجه ثالث : وهو أن يراد بما قالوا : ما حرّموه على أنفسهم بلفظ الظهار ، تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكرنا في قوله تعالى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [ مريم : 80 ] ويكون المعنى : ثم يريدون العود للتماس . والمماسة : الاستمتاع بها من جماع ، أو لمس بشهوة ، أو نظر إلى فرجها لشهوة { ذَلِكُمْ } الحكم { تُوعَظُونَ بِهِ } لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية ، فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه . فإن قلت : هل يصح الظهار بغير هذا اللفظ؟ قلت : نعم إذا وضع مكان أنت عضواً منها يعبر به عن الجملة كالرأس والوجه والرقبة والفرج ، أو مكان الظهر عضواً آخر يحرم النظر إليه من الأم كالبطن والفخذ . ومكان الأمّ ذات رحم محرم منه من نسب أو رضاع أو صهر أو جماع ، نحو أن يقول : أنت علي كظهر أختي من الرضاع أو عمتي من النسب أو امرأة ابني أو أبي أو أمّ امرأتي أو بنتها ، فهو مظاهر .
وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه . وعن الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري وغيرهم نحوه . وقال الشافعي : لا يكون الظهار إلا بالأمّ وحدها وهو قول قتادة والشعبي . وعن الشعبي : لم ينس الله أن يذكر البنات والأخوات والعمات والخالات؛ إذ أخبر أن الظهار إنما يكون بالأمّهات الوالدات دون المرضعات . وعن بعضهم : لا بد من ذكر الظهر حتى يكون ظهاراً . فإن قلت : فإذا امتنع المظاهر من الكفارة ، هل للمرأة أن ترافعه؟ قلت : لها ذلك . وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر ، وأن يحبسه؛ ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها ، لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والامتناع من الاستمتاع ، فيلزم إيفاء حقها . فإن قلت : فإن مسّ قبل أن يكفر؟ قلت : عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر ، لما روى :
( 1139 ) أن سلمة بن صخر البياض قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها ، فقال عليه الصلاة والسلام : « استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر » فإن قلت : أي رقبة تجزىء في كفارة الظهار؟ قلت : المسلمة والكافرة جميعاً ، لأنها في الآية مطلقة . وعند الشافعي لا تجزي إلا المؤمنة . لقوله تعالى في كفارة القتل : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [ النساء : 92 ] ولا تجزى أمّ الولد والمدبر والمكاتب الذي أدّى شيئاً ، فإن لم يؤدّ شيئاً جاز . وعند الشافعي : لا يجوز : فإن قلت : فإن أعتق بعض الرقبة أو صام بعض الصيام ثم مس؟ قلت : عليه أن يستأنف - نهاراً مس - أو ليلاً - ناسياً أو عامداً - عند أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد : عتق بعض الرقبة عتق كلها فيجزيه ، وإن كان المسّ يفسد الصوم استقبل ، وإلا بنى . فإن قلت : كم يعطي المسكين في الإطعام؟ قلت : نصف صاع من برّ أو صاعاً من غيره عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي مدّاً من طعام بلده الذي يقتات فيه . فإن قلت : ما بال التماس لم يذكر عند الكفارة بالإطعام كما ذكره عند الكفارتين؟ قلت : اختلف في ذلك ، فعند أبي حنيفة : أنه لا فرق بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها على المساس ، وإنما ترك ذكره عند الإطعام دلالة على أنه إذا وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم إذا وقع في خلاله . وعند غيره : لم يذكر للدلالة على أن التكفير قبله وبعده سواء . فإن قلت : الضمير في أن يتماسا إلام يرجع؟ قلت : إلى ما دلّ عليه الكلام من المظاهر والمظاهر منها { ذَلِكَ } البيان والتعليم للأحكام والتنبيه عليها لتصدقوا { بالله وَرَسُولِهِ } في العمل بشرائعه التي شرعها من الظهار وغيره ، ورفض ما كنتم عليه في جاهليتكم { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } التي لا يجوز تعدّيها { وللكافرين } الذي لا يتبعونها ولا يعملون عليها { عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
{ يُحَآدُّونَ } يعادون ويشاقون { كُبِتُواْ } أخزوا وأهلكوا { كَمَا كُبِتَ } من قبلهم من أعداء الرسل . قيل : أريد كبتهم يوم الخندق { وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات } تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به { وللكافرين } بهذه الآيات { عَذَابٌ مُّهِينٌ } يذهب بعزهم وكبرهم { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ } منصوب بلهم . أو بمهين . أو بإضمار اذكر تعظيماً لليوم { جَمِيعاً } كلهم لا يترك منهم أحد غير مبعوث . أو مجتمعين في حال واحدة ، كما تقول : حي جميع { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } تخجيلاً لهم وتوبيخاً وتشهيراً بحالهم ، يتمنون عنده المسارعة بهم إلى النار ، لما يلحقهم من الخزى على رؤوس الأشهاد { أحصاه الله } أحاط به عدداً لم يفته منه شيء { وَنَسُوهُ } لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه لم يبالوا به لضراوتهم بالمعاصي ، وإنما تحفظ معظمات الأمور .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
{ مَا يَكُونُ } من كان التامة . وقرىء بالياء والتاء ، والياء على أنّ النجوى تأنيثها غير حقيقي ومن فاصله . أو على أنّ المعنى ما يكون شيء من النجوى . والنجوى : التناجي ، فلا تخلو إما أن تكون مضافة إلى ثلاثة ، أي : من نجوى ثلاثة نفر . أو موصوفة بها ، أي : من أهل نجوى ثلاثة ، فحذف الأهل . أو جعلوا نجوا في أنفسهم مبالغة ، كقوله تعالى : { خَلَصُواْ نَجِيّا } [ يوسف : 80 ] وقرأ ابن أبي عبلة : «ثلاثة وخمسة» ، بالنصب على الحال بإضمار يتناجون؛ لأن نجوى يدل عليه . أو على تأويل نجوى بمتناجين ، ونصبها من المستكن فيه . فإن قلت : ما الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن قوما من المنافقين تحلقوا للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين : ثلاثة وخمسة ، فقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون كذلك { وَلاَ أدنى مِن } عدديهم { وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ } والله معهم يسمع ما يقولون ، فقد روى عن ابن عباس رضي الله عنه : أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية : كانوا يوماً يتحدثون ، فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً . وقال الثالث : إن كان يعلم بعضاً فهو يعلم كله؛ وصدق . لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها لأن كونه عالماً بغير سبب ثابت له مع كل معلوم ، والثاني : أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والمتخالين للشورى والمندبون لذلك ليسوا بكل أحد وإنما هم طائفة مجتباة من أولى النهى والأحلام ، ورهط من أهل الرأي والتجارب ، وأول عددهم الاثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال وحكم الاستصواب . ألا ترى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع ، فذكر عز وعلا الثلاثة والخمسة وقال : { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ } فدلّ على الاثنين والأربعة وقال { وَلاَ أَكْثَرَ } فدلّ على ما يلي هذا العدد ويقاربه . وفي مصحف عبد الله : إلا الله رابعهم ، ولا أربعة إلا الله خامسهم ، ولا خمسة إلا الله سادسهم ، ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا انتجوا . وقرىء : «ولا أدنى من ذلك ولا أكثر» ، بالنصب على أن لا لنفي الجنس . ويجوز أن يكون : ولا أكثر ، بالرفع معطوفاً على محل مع أدنى ، كقولك : لا حول ولا قوّة إلا بالله ، بفتح الحول ورفع القوّة . ويجوز أن يكون مرفوعين على الابتداء ، كقولك : لا حول ولا قوّة إلا بالله ، وأن يكون ارتفاعهما عطفاً على محل ( لا ) { مِن نجوى } كأنه قيل : ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم . ويجوز أن يكونا مجرورين عطفاً على نجوى ، كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم . وقرىء : «ولا أكبر» بالباء . ومعنى كونه معهم : أنه يعلم ما يتناجون به ولا يخفى عليه ما هم فيه ، فكأنه مشاهدهم ومحاضرهم ، وقد تعالى عن المكان والمشاهدة . وقرىء «ثم ينبئهم» على التخفيف .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين ، يريدون أن يغيظوهم ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعادوا لمثل فعلهم ، وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمعصية الرسول ومخالفته . وقرىء : «ينتجون بالإثم والعدوان» بكسر العين ، ومعصيات الرسول { حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } يعني أنهم يقولون في تحيتك : السام عليك يا محمد؛ والسام : الموت؛ والله تعالى يقول : { وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى } [ النمل : 59 ] و { يا أيها الرسول } [ المائدة : 41/67 ] و { يا أيها النبي } [ الأنفال : 64 ] { لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } كانوا يقولون : ماله إن كان نبياً لا يدعو علينا حتى يعذبنا الله بما نقول ، فقال الله تعالى : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } عذاباً .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
{ ياأيها الذين ءامنوا } خطاب للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم . ويجوز أن يكون للمؤمنين ، أي : إذا تناجيتم فلا تتشبهوا بأولئك في تناجيهم بالشر { وتناجوا بالبر والتقوى } وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1140 ) " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه " وروى : «دون الثالث» . وقرىء : «فلا تناجوا» وعن ابن مسعود : إذا انتجيتم فلا تنتجوا { إِنَّمَا النجوى } اللام إشارة إلى النجوى بالإثم والعدوان ، بدليل قوله تعالى : { لِيَحْزُنَ الذين ءَامَنُواْ } والمعنى : أنّ الشيطان يزينها لهم ، فكأنها منه ليغيظ الذين آمنوا ويحزنهم { وَلَيْسَ } الشيطان أو الحزن { بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله } . فإن قلت : كيف لا يضرهم الشيطان أو الحزن إلا بإذن الله؟ قلت : كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتغامزهم أن غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا ، فقال : لا يضرهم الشيطان أو الحزن بذلك الموهم إلا بإذن الله ، أي : بمشيئته ، وهو أن يقضي الموت على أقاربهم أو الغلبة على الغزاة . وقرىء : «ليحزن» و«ليحزن» .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
{ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس } توسعوا فيه وليفسح بعضكم عن بعض ، من قولهم : أفسح عني ، أي : تنحّ؛ ولا تتضامّوا . وقرى : «تفاسحوا» والمراد : مجلس رسول الله ، وكانوا يتضامّون فيه تنافساً على القرب منه ، وحرصاً على استماع كلامه ، وقيل : هو المجلس من مجالس القتال ، وهي مراكز الغزاة ، كقوله تعالى : { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] وقرىء : «في المجالس» قيل : كان الرجل يأتي الصف فيقول : تفسحوا ، فيأبون لحرصهم على الشهادة . وقرىء : «في المجلس» بفتح اللام : وهو الجلوس ، أي : توسعوا في جلوسكم ولا تتضايقوا فيه { يَفْسَحِ الله لَكُمْ } مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر وغير ذلك { انشزوا } انهضوا للتوسعة على المقبلين . أو انهضوا عن مجلس رسول الله إذا أمرتم بالنهوض عنه ، ولا تملوا رسول الله بالارتكاز فيه : أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال الخير إذا استنهضتم ، ولا تثبطوا ولا تفرطوا { يَرْفَعِ الله } المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله ، والعالمين منهم خاصة { درجات والله بِمَا تَعْمَلُونَ } قرىء : بالتاء والياء . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أنه كان إذا قرأها قال يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1141 ) " بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة " وعنه عليه السلام :
( 1142 ) " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " وعنه عليه السلام :
( 1143 ) " يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ، ثم الشهداء " فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوّة والشهادة بشهادة رسول الله . وعن ابن عباس : خيّر سليمان بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم فأعطى المال والملك معه . وقال عليه السلام :
( 1144 ) " أوحى الله إلى إبراهيم ، يا إبراهيم ، إني عليم أحب كل عليم " وعن بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم ، وأي شيء فات من أدرك العلم ، وعن الأحنف : كاد العلماء يكونون أرباباً ، وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير . وعن الزبيري العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
{ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم } استعارة ممن له يدان . والمعنى : قبل نجواكم كقول عمر : من أفضل ما أوتيت العرب الشعر ، يقدِّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم ، يريد : قبل حاجته ( ذلكم ) التقديم { خَيْرٌ لَّكُمْ } في دينكم { وَأَطْهَرُ } لأنّ الصدقة طهرة . روى أن الناس أكثروا مناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريدون حتى أملوه وأبرموه ، فأريد أن يكفوا عن ذلك ، فأمروا بأن من أراد يناجيه قدّم قبل مناجاته صدقة . قال علي رضي الله عنه :
( 1145 ) لما نزلت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما تقول في دينار؟ قلت : لا يطيقونه . قال : كم؟ قلت : حبة أو شعيرة؛ قال : إنك لزهيد . فلما رأوا ذلك : اشتدّ عليهم فارتدعوا وكفوا . أما الفقير فلعسرته ، وأما الغنيّ فلشحه . وقيل : كان ذلك عشر ليال ثم نسخ . وقيل : ما كان إلا ساعة من نهار . وعن علي رضي الله عنه :
( 1146 ) إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي : كان لي دينار فصرفته ، فكنت إذا ناجيته تصدقت بدرهم . قال الكلبي : تصدق به في عشر كلمات سألهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عمر : كان لعليّ ثلاث : لو كانت لي واحدة منهنّ كانت أحب إليّ من حمر النعم : تزوجه فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر ، وآية النجوى . قال ابن عباس : هي منسوخة بالآية التي بعدها ، وقيل : هي منسوخة بالزكاة { ءَأَشْفَقْتُمْ } أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي تكرهونه ، وأنّ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } ما أمرتم به وشق عليكم ، و { وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ } وعذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوه ، فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات { بِمَا تَعْمَلُونَ } قرىء بالتاء والياء .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
كان المنافقون يتولون اليهود وهم الذين غضب الله عليهم في قوله تعالى : { من لعنه الله وغضب عليه } [ المائدة : 60 ] ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين { مَّا هُم مِّنكُمْ } يا مسلمون { وَلاَ مِنْهُمْ } ولا من اليهود ، كقوله تعالى : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } [ النساء : 143 ] ، { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب } أي يقولون : والله إنا لمسلمون ، فيحلفون على الكذب الذي هو ادعاء الإسلام { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن المحلوف عليه كذب بحت . فإن قلت : فما فائدة قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ؟ قلت : الكذب : أن يكون الخبر لا على وفاق المخبر عنه ، سواء علم المخبر أو لم يعلم ، فالمعنى : أنهم الذين يخبرون وخبرهم خلاف ما يخبرون عنه ، وهم عالمون بذلك متعمدون له ، كمن يحلف بالغموس وقيل :
( 1147 ) كان عبد الله بن نبتل المنافق يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يرفع حديثه إلى اليهود ، فبينا رسول الله في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان ، فدخل ابن نبتل وكان أزرق ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «علام تشتمني أنت وأصحابك»؟ فحلف بالله ما فعل ، فقال عليه السلام : «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبوه ، فنزلت { عَذَاباً شَدِيداً } نوعاً من العذاب متفاقماً { إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعني أنهم كانوا في الزمان الماضي المتطاول على سوء العمل مصرين عليه . أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة . وقرىء : «إيمانهم» بالكسر ، أي : اتخذوا أيمانهم التي حلفوا بها . أو إيمانهم الذي أظهروه { جُنَّةً } أي سترة يتسترون بها من المؤمنين ومن قتلهم { فَصَدُّواْ } الناس في خلال أمنهم وسلامتهم { عَن سَبِيلِ الله } وكانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويضعفون أمر المسلمين عندهم . وإنما وعدهم الله العذاب المهين المخزي لكفرهم وصدهم ، كقوله تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب } [ النحل : 88 ] . { مِنَ الله } من عذاب الله { شَيْئاً } قليلاً من الإغناء . وروي أنّ رجلاً منهم قال : لنننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا { فَيَحْلِفُونَ } لله تعالى على أنهم مسلمون في الآخرة { كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } في الدنيا على ذلك { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْءٍ } من النفع ، يعني : ليس العجب من حلفهم لكم ، فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر ، وأن لهم نفعاً في ذلك دفعاً عن أرواحهم واستجرار فوائد دنيوية ، وأنهم يفعلونه في دار لا يضطرون فيها إلى علم ما يوعدون ، ولكن العجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة مع عدم النفع والإضطرار إلى علم ما أنذرتهم الرسل ، والمراد : وصفهم بالتوغل في نفاقهم ومرونهم عليه ، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل ، كما قال :
{ وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] وقد اختلف العلماء في كذبهم في الآخرة ، والقرآن ناطق بثباته نطقاً مكشوفاً . كما ترى في هذه الآية وفي قوله تعالى : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 23 - 24 ] ونحو حسبانهم أنهم على شيء من النفع إذا حلفوا استنظارهم المؤمنين ليقتبسوا من نورهم ، لحسبان أن الإيمان الظاهر مما ينفعهم . وقيل عند ذلك : يختم على أفواههم { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } يعني أنهم الغاية التي لا مطمح وراءها في قول الكذب ، حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة { استحوذ عَلَيْهِمُ } استولى عليهم ، من حاذ الحمار العانة إذا جمعها وساقها غالباً لها . ومنه : كان أحوذياً نسيج وحده ، وهو أحد ما جاء على الأصل ، نحو : استصوب واستنوق ، أي : ملكهم { الشيطان } لطاعتهم له في كل ما يريده منهم ، حتى جعلهم رعيته وحزبه { فأنساهم } أن يذكروا الله أصلاً لا بقلوبهم ولا بألسنتهم . قال أبو عبيدة : حزب الشيطان جنده .
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
{ فِى الأذلين } في جملة من هو أذل خلق الله لا ترى أحداً أذل منهم .
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
{ كَتَبَ الله } في اللوح { لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } بالحجة والسيف . أو بأحدهما .
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً } من باب التخييل . خيل أن من الممتنع المحال : أن تجد قوماً مؤمنين يوالون المشركين ، والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك ، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال ، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته ، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم ، وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله : { وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءَهُمْ } وبقوله : { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان } وبمقابلة قوله : { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان } [ المجادلة : 99 ] بقوله : ( أولئك حزب الله ) فلا تجد شيئاً أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه ، بل هو الإخلاص بعينه { كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان } أثبته فيها بما وفقهم فيه وشرح له صدورهم { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } بلطف من عنده حييت به قلوبهم . ويجوز أن يكون الضمير للإيمان ، أي : بروح من الإيمان ، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به . وعن الثوري أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان . وعن عبد العزيز بن أبي رواد : أنه لقيه المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقول :
( 1148 ) " اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة ، فإني وجدت فيما أوحيت إليّ : « لا تجد قوماً . . . " الآية . وروى :
( 1149 ) أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك أنّ أبا قحافة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصكه صكة سقط منها ، فقال له رسول الله : «أو فعلته»؟ قال : نعم ، قال : لا تعد» قال : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته . وقيل في أبي عبيدة بن الجراح : قتل أباه عبد الله الجراح يوم أحد .
( 1150 ) وفي أبي بكر : دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، وقال لرسول الله : دعني أكرّ في الرعلة الأولى : قال : «متعنا بنفسك يا أبا بكر ، أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» . وفي مصعب بن عمير : قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد . وفي عمر : قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر . وفي علي وحمزة وعبيد بن الحرث : قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1151 ) " من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله يوم القيامة " .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
( 1152 ) صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة لا ترد له راية ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة فحالفوا عليه قريشاً عند الكعبة فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعباً غيلة وكان أخاه من الرضاعة ، ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم : أخرجوا من المدينة ، فقالوا : الموت أحب إلينا من ذاك ، فتنادوا بالحرب . وقيل : استمهلوا رسول الله عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ، فدس عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه إليهم : لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ، ولئن خرجتم لنخرجنّ معكم ، فدربوا على الأزقة وحصنوها فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين : طلبوا الصلح ، فأبى عليهم إلا الجلاء؛ على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات ، إلا أهل بيتين منهم : آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة . اللام في { لأَوَّلِ الحشر } تتعلق بأخرج ، وهي اللام في قوله تعالى : { يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } [ الفجر : 24 ] وقولك : جئته لوقت كذا . والمعنى : أخرج الذين كفروا عند أوّل الحشر . ومعنى أوّل الحشر : أن هذا أوّل حشرهم إلى الشأم ، وكانوامن سبط لم يصبهم جلاء قط ، وهم أوّل من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام . أو هذا أوّل حشرهم؛ وآخر حشرهم : إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام . وقيل : آخر حشرهم حشر يوم القيامة؛ لأنّ المحشر يكون بالشام . وعن عكرمة : من شك أنّ المحشر ههنا - يعني الشام -فليقرأ هذه الآية . وقيل : معناه أخرجهم من ديارهم لأوّل ما حشر لقتالهم : لأنه أوّل قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } لشدة بأسهم ومنعتهم ، ووثاقة حصونهم ، وكثرة عددهم وعدتهم ، وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم من بأس الله { فأتاهم } أمر الله { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم : وهو قتل رئيسهم كعب ابن الأشرف غرّة على يد أخيه ، وذلك مما أضعف قوتهم وفل من شوكتهم ، وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة بما قذف فيها من الرعب ، وألهمهم أن يوافقوا المؤمنين في تخريب بيوتهم ويعينوا على أنفسهم ، وثبط المنافقين الذين كانوا يتولونهم عن مظاهرتهم . وهذا كله لم يكن في حسبانهم . ومنه أتاهم الهلاك . فإن قلت : أي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم ، وبين النظم الذي جاء عليه؟ قلت : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم؛ وفي تصيير ضميرهم إسماً لأن وإسناد الجملة إليه : دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعه لا يبالي معها بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم؛ وليس ذلك في قولك : وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم .
وقرىء : «فآتاهم الله» أي : فآتاهم الهلاك . والرعب : الخوف الذي يرعب الصدر ، أي يملؤه؛ وقذفه : إثباته وركزه . ومنه قالوا في صفة الأسد : مقذف ، كأنما قذف باللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه . وقرىء : «يخرّبون ويخربون» ، مثقلاً ومخففاً . والتخريب والإخراب : الإفساد بالنقض والهدم . والخربة : الفساد ، كانوا يخربون بواطنها والمسلمون ظواهرها : لما أراد الله من استئصال شأفتهم وأن لا يبقى لهم بالمدينة دار ولا منهم ديار ، والذي دعاهم إلى التخريب : حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدّوا بها أفواه الأزقة . وأن لا يتحسروا بعد جلائهم على بقائها مساكن للمسلمين ، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جد الخشب والساج المليح . وأما المؤمنون فداعيهم إزالة متحصنهم ومتمنعهم . وأن يتسع لهم مجال الحرب . فإن قلت : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمينن؟ قلت : لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوهم إياه { فاعتبروا } بما دبر الله ويسر من أمر إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال . وقيل : وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يورثهم الله أرضهم وأموالهم بغير قتال ، فكان كما قال .
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
يعني : أنّ الله قد عزم على تطهير أرض المدينة منهم وإراحة المسلمين من جوارهم وتوريثهم أموالهم ، فلولا أنه كتب عليهم الجلاء واقتضته حكمته ودعاه إلى اختياره أنه أشق عليهم من الموت { لَعَذَّبَهُمْ فِى الدنيا } بالقتل كما فعل بإخوانهم بني قريظة { وَلَهُمْ } سواء أجلوا أو قتلوا { عَذَابَ النار } يعني : إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة .
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
{ مّن لّينَةٍ } بيان لما قطعتم . ومحل ( ما ) نصب بقطعتم ، كأنه قال : أي شيء قطعتم ، وأنث الضمير الراجع إلى ما في قوله : { أَوْ تَرَكْتُمُوهَا } لأنه في معنى اللينة . واللينة : النخلة من الألوان ، وهي ضروب النخل ما خلا العجوة . والبرنية ، وهما أجود النخيل ، وياؤها عن واو ، قلبت لكسرة ما قبلها ، كالديمة . وقيل : «اللينة» النخلة الكريمة ، كأنهم اشتقوها من اللين . قال ذو الرمّة :
كَأَنَّ قُتُودِي فَوْقَهَا عُشُّ طَائِرٍ ... عَلَى لِينَةٍ سَوْقَاءَ تَهْفُو جُنُوبُهَا
وجمعها لين . وقرىء : «قوّما» على أصلها . وفيه وجهان : أنه جمع أصل كرهن ورهن . أو اكتفى فيه بالضمة عن الواو . وقرىء : «قائماً على أصوله» ذهاباً إلى لفظ ما { فَبِإِذْنِ الله } فقطعها بإذن الله وأمره { وَلِيُخْزِىَ الفاسقين } وليذل اليهود ويغيظهم إذن في قطعها ، وذلك :
( 1153 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر أن تقطع نخلهم وتحرق قالوا : يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض ، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء . فنزلت ، يعني : أنّ الله أذن لهم في قطعها ليزيدكم غيظاً ويضاعف لكم حسرة إذا رأيتموهم يتحكمون في أموالكم كيف أحبوا ويتصرفون فيها ما شاؤوا . واتفق العلماء أنّ حصون الكفرة وديارهم لا بأس بأن تهدم وتحرق وتغرق وترمى بالمجانيق . وكذلك أشجارهم لا بأس بقلعها مثمرة كانت أو غير مثمرة . وعن ابن مسعود : قطعوا منها ما كان موضعا للقتال . فإن قلت : لم خصت اللينة بالقطع؟ قلت : إن كانت من الألوان فليستبقوا لأنفسهم العجوة والبرنية ، وإن كانت من كرام النخل فليكون غيظ اليهود أشد وأشق . وروى :
( 1154 ) أن رجلين كانا يقطعان : أحدهما العجوة ، والآخر اللون ، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا : تركتها لرسول الله ، وقال هذا : قطعتها غيظاً للكفار . وقد استدل به على جواز الاجتهاد ، وعلى جوازه بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهما بالاجتهاد فعلا ذلك ، واحتج به من يقول : كل مجتهد مصيب .
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
{ أَفَاء الله على رَسُولِهِ } جعله له فيئاً خاصة . والإيجاف من الوجيف . وهو السير السريع . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في الإفاضة من عرفات .
( 1155 ) " ليس البرّ بإيجاف الخيل ولا إيضاع الإبل على هينتكم " ومعنى { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ } فما أوجفتم على تحصيله وتغنمه خيلاً ولا ركاباً ، ولا تعبتم في القتال عليه ، وإنما مشيتم إليه على أرجلكم . والمعنى : أنّ ما خوّل الله رسوله من أموال بني النضير شيء لم تحصلوه بالقتال والغلبة ، ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم كما كان يسلط رسله على أعدائهم ، فالأمر فيه مفوّض إليه يضعه حيث يشاء ، يعني : أنه لا يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها وأخذت عنوة وقهراً ، وذلك أنهم طلبوا القسمة فنزلت . لم يدخل العاطف على هذه الجملة ، لأنها بيان للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها . بين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله عليه ، وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوماً على الأقسام الخمسة «والدولة والدولة» - بالفتح والضم - وقد قرىء : بهما ما يدول للإنسان ، أي يدور من الجد . يقال : دالت له الدولة . وأديل لفلان . ومعنى قوله تعالى : { كي لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ } كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها جداً بين الأغنياء يتكاثرون به . أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم . ومعنى الدولة الجاهلية : أن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة لأنهم أهل الرياسة والدولة والغلبة ، وكانوا يقولون من عزّ بزّ . والمعنى : كيلا يكون أخذه غلبة وأثرة جاهلية . ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولا ، ومال الله دولاً ، يريد : من غلب منهم أخذه واستأثر به . وقيل : «الدولة» ما يتداول ، كالغرفة : اسم ما يغترف ، يعني : كيلا يكون الفيء شيئاً يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه ، فلا يصيب الفقراء ، والدولة - بالفتح - : بمعنى التداول ، أي : كيلا يكون ذا تداول بينهم . أو كيلا يكون إمساكه تداولاً بينهم لا يخرجونه إلى الفقراء ، وقرىء : «دولة» بالرفع على «كان» التامة كقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] يعني كيلا يقع دولة جاهلية ولينقطع أثرها أو كيلا يكون تداول له بينهم . أو كيلا يكون شيء متعاور بينهم غير مخرج إلى الفقراء { وَمَا ءاتاكم الرسول } من قسمة غنيمة أو فيء { فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم } عن أخذه منها { فانتهوا } عنه ولا تتبعه أنفسكم { واتقوا الله } أن تخالفوه وتتهاونوا بأوامره ونواهيه { إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } لمن خالف رسوله ، والأجود أن يكون عاماً في كل ما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه ، وأمر الفيء داخل في عمومه . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أنه لقي رجلاً محرماً وعليه ثيابه فقال له : انزع عنك هذا فقال الرجل : اقرأ عليّ في هذا آية من كتاب الله . قال : نعم ، فقرأها عليه .
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
{ لِلْفُقَرَاء } بدل من قوله : { لذي القربى } والمعطوف عليه والذي منع الإبدال من : لله وللرسول والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عزّ وجلّ أخرج رسوله من الفقراء في قوله : { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } وأنه يترفع برسول الله عن التسمية بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عزّ وجل { أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون } في إيمانهم وجهادهم .
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
{ والذين تَبَوَّءُو } معطوف على المهاجرين ، وهم الأنصار فإن قلت : ما معنى عطف الإيمان على الدار ، ولا يقال : تبوّؤا الإيمان؟ قلت : معناه تبوّؤا الدار وأخلصوا الإيمان ، كقوله :
عَلَفْتُها تَيْنَاً وَمَاءً بَارِدَا ... أو : وجعلوا الإيمان مستقراً ومتوطناً لهم لتمكنهم منه واستقامتهم عليه ، كما جعلوا المدينة كذلك . أو : أراد دار الهجرة ودار الإيمان ، فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه . أو سمى المدينة لأنها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان { مِن قَبْلِهِمُ } من قبل المهاجرين؛ لأنهم سبقوهم في تبوّىء دار الهجرة والإيمان . وقيل : من قبل هجرتهم { وَلاَ يَجِدُونَ } ولا يعلمون في أنفسهم { حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ } أي طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة؛ يقال : خذ منه حاجتك ، وأعطاه من ماله حاجته ، يعني : أنّ نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطمح إلى شيء منه يحتاج إليه { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } أي خلة ، وأصلها : خصاص البيت ، وهي فروجه؛ والجملة في موضع الحال ، أي : مفروضة خصاصتهم :
( 1156 ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين : أبادجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحرث بن الصمة . وقال لهم : " إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة " ، فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها ، فنزلت» «الشح» بالضم والكسر ، وقد قرىء بهما - : اللؤم ، وأن تكون نفس الرجل كزة حريصة على المنع ، كما قال :
يُمَارِسُ نَفْساً بَيْنَ جَنْبَيْهِ كَزَّةً ... إذَا هَمَّ بِالْمَعْرُوفِ قَالَتْ لَهُ مَهْلاَ
وقد أضيف إلى النفس؛ لأنه غريزة فيها . وأما البخل فهو المنع نفسه . ومنه قوله تعالى : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } [ النساء : 128 ] . { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } ومن غلب ما أمرته به منه وخالف هواها بمعونة الله وتوفيقه { فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } الظافرون بما أرادوا . وقرىء : «ومن يوقَّ» .
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
{ والذين جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ } عطف أيضاً على المهاجرين : وهم الذين هاجروا من بعد . وقيل : التابعون بإحسان { غِلاًّ } وقرىء : «غمرا» وهما الحقد .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
{ لإِخْوَانِهِمُ } الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر ، ولأنهم كانوا يوالونهم ويواخونهم ، وكانوا معهم على المؤمنين في السر { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ } في قتالكم أحداً من رسول الله والمسلمين إن حملنا عليه . أو في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة { لكاذبون } أي في مواعيدهم لليهود . وفيه دليل على صحة النبوّة : لأنه إخبار بالغيوب . فإن قلت : كيف قيل { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ } بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم؟ قلت : معناه : ولئن نصروهم على الفرض والتقدير ، كقوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] وكما يعلم ما يكون ، فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون . والمعنى : ولئن نصر المنافقون اليهود لينهزمن المنافقون ثم لا ينصرون بعد ذلك ، أي : يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم . أو لينهزمنَّ اليهود ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين .
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
{ رَهْبَةً } مصدر رهب المبني للمفعول ، كأنه قيل : أشد مرهوبية . وقوله : { فِى صُدُورِهِمْ } دلالة على نفاقهم ، يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله وأنتم أهيب في صدورهم من الله . فإن قلت : كأنهم كانوا يرهبون من الله حتى تكون رهبتهم منهم أشدّ . قلت : معناه أن رهبتهم في السر منكم أشدّ من رهبتهم من الله التي يظهرونها لكم - وكانو يظهرون لهم رهبة شديدة من الله - ويجوز أن يريد أنّ اليهود يخافونكم في صدورهم أشدّ من خوفهم من الله؛ لأنهم كانوا قوماً أولى بأس ونجدة ، فكانوا يتشجعون لهم مع إضمار الخيفة في صدورهم { لاَّ يَفْقَهُونَ } لا يعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته { لاَ يقاتلونكم } لا يقدرون على مقاتلتكم { جَمِيعاً } مجتمعين متساندين ، يعني اليهود والمنافقين { إِلاَّ } كائنين { فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } بالخنادق والدروب { أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ } دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم ، لقذف الله الرعب في قلوبهم ، وأن تأييد الله تعالى ونصرته معكم . وقرىء : «جدر» ، بالتخفيف . وجدار . وجدر وجدر ، وهما : الجدار { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } يعني أنّ البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا؛ ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدّة؛ لأنّ الشجاع يجبن والعزيز يذل عند محاربة الله ورسوله { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً } مجتمعين ذوي ألفة واتحاد { وَقُلُوبُهُمْ شتى } متفرقة لا ألفة بينها ، يعني . أنّ بينهم إحنا وعداوات ، فلا يتعاضدون حق التعاضد ، ولا يرمون عن قوس واحدة . وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم { قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم ويعين على أرواحهم { كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي مثلهم كمثل أهل بدر في زمان قريب . فإن قلت : بم انتصب { قَرِيبًا } ؟ قلت : بمثل ، على : كوجود مثل أهل بدر قريباً { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } سوء عاقبة كفرهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، من قولهم كلأ وبيل : وخيم سيء العاقبة ، يعني ذاقوا عذاب القتل في الدنيا { وَلَهُمْ } في الآخرة عذاب النار . مثل المنافقين في إغرائهم اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ، ثم متاركتهم لهم وإخلافهم { كَمَثَلِ الشيطان } إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة ، والمراد استغواؤه قريشاً يوم بدر؛ وقوله لهم : { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } إلى قوله { إِنِّى برىء مِّنكَ } [ الأنفال : 48 ] وقرأ ابن مسعود : «خالدان فيها» ، على أنه خبر أنّ ، و { فِى النار } لغو ، وعلى القراءة المشهورة : الظرف مستقر ، وخالدين فيها : حال . وقرىء : «أنا بريء» وعاقبتهما بالرفع .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
كرر الأمر بالتقوى تأكيداً : واتقوا الله في أداء الواجبات؛ لأنه قرن بما هو عمل ، واتقوا الله في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد . والغد : يوم القيامة ، سماه باليوم الذي يلي يومك تقريباً له وعن الحسن : لم يزل يقربه حتى جعله كالغد . ونحوه قوله تعالى : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس } [ يونس : 24 ] يريد : تقريب الزمان الماضي . وقيل : عبر عن الآخرة بالغد كأن الدنيا والآخرة نهاران : يوم وغد . فإن قلت : ما معنى تنكير النفس والغد؟ قلت : أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قد مْنَ للآخرة ، كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك . وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره ، كأنه قيل : لغد لا يعرف كنهه لعظمه . وعن مالك بن دينار : مكتوب على باب الجنة : وجدنا ما عملنا ، ربحنا ما قدّمنا . خسرنا ما خلفنا { نَسُواْ الله } نسوا حقه ، فجعلهم ناسين حق أنفسهم بالخذلان ، حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده . أو فأراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم ، كقوله تعالى : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } [ إبراهيم : 43 ] .
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
هذا تنبيه للناس وإيذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات : كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما ، وأن الفوز مع أصحاب الجنة؛ فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه ، كما تقول لمن يعق أباه : هو أبوك ، تجعله بمنزلة من لا يعرفه ، فتنبهه بذلك على حق الأبوّة الذي يقتضي البر والتعطف . وقد استدل أصحاب الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر ، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر .
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
هذا تمثيل وتخييل ، كما مرّ في قوله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة } [ الأحزاب : 72 ] وقد دل عليه قوله : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره . وقرىء : «مصدّعاً» على الإدغام { وَتِلْكَ الأمثال } إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل .
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
{ الغيب } المعدوم { والشهادة } الموجود المدرك كأنه يشاهده . وقيل : ما غاب عن العباد وما شاهدوه . وقيل : السر والعلانية . وقيل : الدنيا والآخرة { القدوس } بالضم والفتح - وقد قرىء بهما - البليغ في النزاهة عما يستقبح . ونظيره : السبوح ، وفي تسبيح الملائكة : سبوح قدوس رب الملائكة والروح . و { السلام } بمعنى السلامة . ومنه { دَارُ السلام } [ يونس : 25 ] { وسلام عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] وصف به مبالغة في وصف كونه سليماً من النقائص . أو في إعطائه السلامة «والمؤمن» واهب الأمن . وقرىء بفتح الميم بمعنى المؤمن به على حذف الجار ، كما تقول في قوم موسى من قوله تعالى : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] المختارون بلفظ صفة السبعين . و { المهيمن } الرقيب على كل شيء ، الحافظ له ، مفيعل من الأمن؛ إلا أن همزته قلبت هاء . و { الجبار } القاهر الذي جبر خلقه على ما أراد ، أي أجبره ، و { المتكبر } البليغ الكبرياء والعظمة . وقيل : المتكبر عن ظلم عباده . و { الخالق } المقدر لما يوجده «والبارىء» المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة . و { المصور } الممثل . وعن حاطب بن أبي بلتعة أنه قرأ : «البارىء المصوّر» ، بفتح الواو ونصب الراء ، أي : الذي يبرأ المصوّر أي : يميز ما يصوّره بتفاوت الهيئات . وقرأ ابن مسعود : «وما في الأرض» .
عن أبي هريرة رضي الله عنه :
( 1157 ) «سألت حبيبي صلى الله عليه وسلم عن اسم الله الأعظم فقال : " عليك بآخر الحشر فأكثر قراءته " فأعدت عليه فأعاد عليّ ، فأعدت عليه فأعاد عليّ . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1158 ) " من قرأ سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
روي :
( 1159 ) أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح ، فقال لها : أمسلمة جئت؟ قالت : لا . قال : أفمهاجرة جئت؟ قالت : لا . قال : فما جاء بك؟ قالت : كنتم الأهل والموالي والعشيرة ، وقد ذهبت الموالي ، تعني : قتلوا يوم بدر ، فاحتجت حاجة شديدة فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزوّدوها ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً ، واستحملها كتاباً إلى أهل مكة نسخته : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ، اعلموا أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد - وكانوا فرساناً - وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة ، فخذوه منها وخلوها ، فإن أبت فاضربوا عنقها ، فأدركوها فجحدت وحلفت ، فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله ، وسلّ سيفه ، وقال : أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك ، فأخرجته من عقاص شعرها . وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة : هي أحدهم ، فاستحضر رسول الله حاطباً وقال : ما حملك عليه؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم؛ ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش . وروى : عزيزاً فيهم ، أي : غريباً ، ولم أكن من أنفسها ، وكل من معكم من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري ، فخشيت على أهلي ، فأردت أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أن الله تعالى ينزل عليهم بأسه . وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فصدقه وقبل عذره ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق؛ فقال : «وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم ، فنزلت ، عدّى «اتخذ» إلى مفعوليه ، وهما عدوي ، وأولياء . والعدوّ : فعول ، من عدا؛ كعفوّ من عفا؛ ولكونه على زنه المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد . فإن قلت : { تُلْقُونَ } بم يتعلق؟ قلت : يجوز أن يتعلق بلا تتخذوا حالاً من ضميره؛ وبأولياء صفة له . ويجوز أن يكون استئنافاً . فإن قلت : إذا جعلته صفة لأولياء وقد جرى على غير من هوله ، فأين الضمير البارز وهو قولك : تلقون إليهم أنتم بالمودّة؟ قلت : ذلك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال ، لو قيل : أولياء ملقين إليهم بالمودّة على الوصف .
لما كان بد من الضمير البارز؛ والإلقاء عبارة عن إيصال المودّة والإفضاء بها إليهم : يقال ألقى إليه خراشي صدره ، وأفضى إليه بقشوره . والباء في { بالمودة } إما زائدة مؤكدة للتعدي مثلها في { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] وإما ثابتة على أن مفعول تلقون محذوف ، معناه : تلقون إليهم أخبار رسول الله بسبب المودّة التي بينكم وبينهم . وكذلك قوله : { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } أي : تفضون إليهم بمودتكم سراً . أو تسرّون إليهم إسرار رسول الله بسبب المودّة . التي بينكم وبينهم فإن قلت : { وَقَدْ كَفَرُواْ } حال مماذا؟ قلت : إما من { لاَ تَتَّخِذُواْ } وإما من { تُلْقُونَ } أي : لا تتولوهم أو توادّونهم وهذه حالهم . و { يُخْرِجُونَ } استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوّهم . أو حال من كفروا . و { أَن تُؤْمِنُواْ } تعليل ليخرجون ، أي يخرجونكم لإيمانكم ، و { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } متعلق بلا تتخذوا ، يعني : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي . وقول النحويين في مثله : هو شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه . و { تُسِرُّونَ } استئناف ، ومعناه : أيّ طائل لكم في إسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي لا تفاوت بينهما ، وأنا مطلع رسولي على ما تسرون { وَمَن يَفْعَلْهُ } ومن يفعل هذا الإسرار فقد أخطأ طريق الحق والصواب . وقرأ الجحدري «لما جاءكم» أي : كفروا لأجل ما جاءكم ، بمعنى : أن ما كان يجب أن يكون سبب إيمانهم جعلوه سبباً لكفرهم . { إِن يَثْقَفُوكُمْ } إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم { يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً } خالصي العداوة ، ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم { وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء } بالقتال والشتم ، وتمنوا لو ترتدّون عن دينكم ، فإذن مودة أمثالهم ومناصحتهم خطأ عظيم منكم ومغالطة لأنفسكم ونحوه قوله تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] فإن قلت : كيف أورد جواب الشرط مضارعاً مثله ثم قال { وَوَدُّواْ } بلفظ الماضي؟ قلت : الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب ، فإن فيه نكتة ، كأنه قيل : وودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم ، يعني : أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضارّ الدنيا والدين جميعاً : من قتل الأنفس ، وتمزيق الأعراض ، وردّكم كفاراً أسبق المضارّ عندهم وأوّلها؛ لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم ، لأنكم بذَّالون لها دونه ، والعدوّ أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه .
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
{ لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم } أي قراباتكم { وَلاَ أولادكم } الذين توالون الكفار من أجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم ، ثم قال : { يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } وبين أقاربكم وأولادكم { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ . . . } [ عبس : 34 ] الآية فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لحق من يفرّ منكم غداً : خطأ رأيهم في موالاة الكفار بما يرجع إلى حال من والوه أوّلاً ، ثم بما يرجع إلى حال من اقتضى تلك الموالاة ثانياً؛ ليريهم أن ما أقدموا عليه من أي جهة نظرت فيه وجدته باطلاً . قرىء : «يُفصَل ويُفصَّل» ، على البناء للمفعول . ويَفصِل ويُفصِّل ، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجل . ونفصل ونفصل ، بالنون .
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
وقرىء : «أسوة وإسوة» وهو اسم المؤتسى به ، أي كان فيهم مذهب حسن مرضي بأن يؤتسى به ويتبع أثره ، وهو قولهم لكفار قومهم ما قالوا ، حيث كاشفوهم بالعداوة وقشروا لهم العصا ، وأظهروا البغضاء والمقت ، وصرحوا بأن سبب عداوتهم وبغضائهم ليس إلا كفرهم بالله؛ ومادام هذا السبب قائماً كانت العداوة قائمة ، حتى إن أزالوه وآمنوا بالله وحده انقلبت العداوة موالاة ، والبغضاء محبة ، والمقت مقة ، فأفصحوا عن محض الإخلاص . ومعنى { كَفَرْنَا بِكُمْ } وبما تعبدون من دون الله : أنا لا نعتدّ بشأنكم ولا بشأن آلهتكم ، وما أنتم عندنا على شيء . فإن قلت : مم استثني قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم } ؟ قلت : من قوله : { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } لأنه أراد بالأسوة الحسنة : قولهم الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذونه سنة يستنون بها . فإن قلت : فإن كان قوله { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } مستثنى من القول الذي هو أسوة حسنة ، فما بال قوله : { وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَىْءٍ } وهو غير حقيق بالاستثناء . ألا ترى إلى قوله { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً } [ المائدة : 17 ] قلت : أراد استثناء جملة قوله لأبيه ، والقصد إلى موعد الاستغفار له ، وما بعده مبنيّ عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار . فإن قلت : بم اتصل قوله : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } ؟ قلت : بما قبل الاستثناء ، وهو من جملة الأسوة الحسنة . ويجوز أن يكون المعنى : قولوا ربنا ، أمراً من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه ، وتعليماً منه لهم تتميماً لما وصاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار ، والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم ، وتنبيهاً على الإنابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر ، والاستغفار مما فرط منهم . وقرى : «برآء» كشركاء . وبراء كظراف . وبراء على إبدال الضم من الكسر ، كرخال ورباب . وبراء على الوصف بالمصدر . والبراء والبراءة كالظماء والظماءة .
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
ثم كرّر الحث على الائتساء بإبراهيم وقومه تقريراً وتأكيداً عليهم ، ولذلك جاء به مصدّراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد ، وأبدل عن قوله : { لَكُمْ } قوله : { لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الأخر } وعقبه بقوله : { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد } فلم يترك نوعاً من التأكيد إلا جاء به .
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
ولما نزلت هذه الآيات : تشدَّد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع أقربائهم من المشركين ومقاطعتهم ، فلما رأى الله عز وجل منهم الجدّ والصبر على الوجه الشديد وطول التمني للسبب الذي يبيح لهم الموالاة والمواصلة . رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنوه ، فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم ، فأسلم قومهم ، وتمّ بينهم من التحاب والتصافي ما تمّ . وقيل :
( 1160 ) تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّ حبيبة ، فلانت عند ذلك عريكة أبي سفيان واسترخت شكيمته في العداوة ، وكانت أمّ حبيبة قد أسلمت وهاجرت مع زوجها عبد الله بن أبي جحش إلى الحبشة ، فتنصر وأرادها على النصرانية ، فأبت وصبرت على دينها ، ومات زوجها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها عليه ، وساق عنه إليها مهرها أربعمائة دينار ، وبلغ ذلك أباها فقال : ذلك الفحل لا يُقْدَعُ أنفه . و { عَسَى } وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج : عسى أو لعل : فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك . أو قصد به إطماع المؤمنين ، والله قدير على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن أسلم من المشركين .
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
{ أَن تَبَرُّوهُمْ } بدل من الذين لم يقاتلوكم . وكذلك { أَن تَوَلَّوْهُمْ } من الذين قاتلوكم : والمعنى : لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء ، وإنما ينهاكم عن تولى هؤلاء . وهذا أيضاً رحمة لهم لتشدّدهم وجدّهم في العداوة متقدّمة لرحمته بتيسير إسلام قومهم ، حيث رخص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين وإخراجهم من ديارهم . وقيل : أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه . وعن مجاهد : هم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا . وقيل : هم النساء والصبيان . وقيل :
( 1161 ) قدمت على أسماء بنت أبي بكر أمّها قتيلة بنت عبد العزى وهي مشركة بهدايا فلم تقبلها ولم تأذن لها في الدخول ، فنزلت ، فأمرها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها . وعن قتادة : نسختها آية القتال { وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ } وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم . وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم ، مترجمة عن حال مسلم يجترىء على ظلم أخيه المسلم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
{ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات } سماهنّ مؤمنات لتصديقهنّ بألسنتهنّ ونطقهنّ بكلمة الشهادة ولم يظهر منهنّ ما ينافي ذلك . أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهم بالامتحان { فامتحنوهن } فابتلوهن بالحلف والنظر في الأمارات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن .
( 1162 ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للممتحنة : « بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج ، بالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، بالله ما خرجت التماس دنيا ، بالله ما خرجت إلا حباً لله ولرسوله » { الله أَعْلَمُ بإيمانهن } منكم لأنكم لا تكسبون فيه علماً تطمئن معه نفوسكم ، وإن استحلفتموهن ورزتم أحوالهن ، وعند الله حقيقة العلم به { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات } العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الأمارات { فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين ، لأنه لا حلّ بين المؤمنة والمشرك { وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } وأعطوا أزواجهنّ مثل ما دفعوا إليهنّ من المهور ، وذلك :
( 1163 ) أن صلح الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة ردّ إليهم ، ومن أتى منكم مكة لم يردّ إليكم؛ وكتبوا بذلك كتاباً وختموه ، فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافر المخزومي . وقيل صيفي بن الراهب فقال : يا محمد ، أردد عليّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طينة الكتاب لم تجف ، فنزلت بياناً لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء . وعن الضحاك : كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد : أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا ، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن تردّ على زوجها الذي أنفق عليها ، وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك . وعن قتادة : ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد براءة ، فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت ، فأعطى زوجها ما أنفق وتزوّجها عمر . فإن قلت : كيف سمى الظنّ علماً في قوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ } ؟ قلت : إيذاناً بأن الظن الغالب وما يفضي إليه الاجتهاد والقياس جار مجرى العلم ، وأن صاحبه غير داخل في قوله : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] فإن قلت : فما فائدة قوله : { الله أَعْلَمُ بإيمانهن } وذلك معلوم لا شبهة فيه؟ قلت : فائدته بيان أن لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن . فإنّ ذلك مما استأثر به علام الغيوب ، وأن ما يؤدي إليه الامتحان من العلم كاف في ذلك ، وأن تكليفكم لا يعدوه؛ ثم نفى عنهم الجناح في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا آتوهنّ أجورهنّ أي مهورهنّ ، لأن المهر أجر البضع ، ولا يخلو إما أن يراد بها ما كان يدفع إليهنّ ليدفعنه إلى أزواجهنّ فيشترط في إباحة تزوجهنّ تقديم أدائه ، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهنّ على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس ، وإما أن يبين لهم أن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق ، وبه احتج أبو حنيفة على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً أو بذمة وبقي الآخر حربياً : وقعت الفرقة ، ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها إلا أن تكون حاملاً { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } والعصمة ما يعتصم به من عقد وسبب ، يعني : إياكم وإياهنّ ، ولا تكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية .
قال ابن عباس : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدنّ بها من نسائه ، لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه . وعن النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر . وعن مجاهد : أمرهم بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن { وَسْئَلُواْ مَآ أَنْفَقْتُم } من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار { وَلْيَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } من مهور نسائهم المهاجرات . وقرىء : «ولا تمسكوا» بالتخفيف . ولا تمسكوا بالتثقيل . ولا تمسكوا . أي : ولا تتمسكوا { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله } يعني جميع ما ذكر في هذه الآية { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } كلام مستأنف . أو حال من حكم الله على حذف الضمير ، أي : يحكمه الله . أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة . روى أنها لما نزلت هذه الآية أدى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى أزواجهنّ المشركين ، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئاً من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين ، فنزل قوله : { وَإِن فَاتَكُمْ } وإن سبقكم وانفلت منكم { شَىْءٌ } من أزواجكم : أحد منهن إلى الكفار ، وهو في قراءة ابن مسعود : أحد . فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموقع فائدة؟ قلت : نعم ، الفائدة فيه : أن لا يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر ، غير معوض منه تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه { فعاقبتم } من العقبة وهي التوبة : شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة ، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره . ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر ، فآتوا من فاتته امرأته إلى الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة ، ولا تؤتوه زوجها الكافر ، وهكذا عن الزهري : يعطي من صداق من لحق بهم . وقرىء : «فأعقبتم» فعقبتم بالتشديد . فعقبتم بالتخفيف ، بفتح القاف وكسرها ، فمعنى أعقبتم : دخلتم في العقبة ، وعقبتم : من عقبه إذا قفاه ، لأنّ كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه ، وكذلك عقبتم بالتخفيف ، يقال : عقبه يعقبه .
وعقبتم نحو تبعتم . وقال الزجاج : فعاقبتم فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، والذي ذهبت زوجته كان يعطي من الغنيمة المهر ، وفسر غيرها من القراآت فكانت العقبى لكم ، أي : فكانت الغلبة لكم حتى غنمتم . وقيل : جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الإسلام ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزى بن نضلة وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص . وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر ، فأعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
{ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن } وقرىء : «يقتلن» ، بالتشديد ، يريد : وأد البنات { وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها : هو ولدي منك . كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً ، لأنّ بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ } فيما تأمرهن به من المحسنات وتنهاهنّ عنه من المقبحات . وقيل : كل ما وافق طاعة الله فهو معروف . فإن قلت : لو اقتصر على قوله : { وَلاَ يَعْصِينَكَ } فقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بمعروف؟ قلت : نبه بذلك على أنّ طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي والاجتناب . وروي :
( 1164 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال : أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها فقال عليه الصلاة والسلام : «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً فرفعت هند رأسها وقالت : والله لقد عبدنا الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال تبايع الرجال على الإسلام والجهاد ، فقال عليه الصلاة والسلام : و«لا يسرقن» فقالت : إنّ أبا سفيان رجل شحيح ، وإني أصبت من ماله هنات ، فما أدري ، أتحل لي أم لا . فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها : وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت : نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك ، فقال : «ولا يزنين» : فقالت : أو تزني الحرة وفي رواية : ما زنت منهن امرأة قط ، فقال عليه الصلاة والسلام «ولا يقتلن أولادهن» فقالت : ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى ، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «لا يأتين ببهتان» فقالت : والله إنّ البهتان لأمر قبيح ، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، فقال : «ولا يعصينك في معروف» فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء .
وقيل في كيفية المبايعة :
( 1165 ) دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده ، ثم غمسن أيديهن . وقيل :
( 1166 ) صافحهن وكان على يده ثوب قطري . وقيل :
( 1167 ) كان عمر يصافحهن عنه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
روي أنّ بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم . فقيل لهم { لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً } مغضوباً عليهم { قَدْ يَئِسُواْ } من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة { كَمَا يَئِسَ الكفار } من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء . وقيل : { مِنْ أصحاب القبور } بيان للكفار ، أي : كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة؛ لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1168 ) « من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة » .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
{ لِمَ } هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : بم ، وفيم ، ومم ، وعم ، وإلام ، وعلام . وإنما حذفت الألف؛ لأنّ ما والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالهما كثيراً في كلام المستفهم؛ وقد جاء استعمال الأصل قليلاً والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان . ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف ، كما سمع : ثلاثة ، أربعة ، بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ، وهذا الكلام يتناول الكذب وإخلاف الموعد . وروي أنّ المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه ولبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فدلهم الله تعالى على الجهاد في سبيله ، فولوا يوم أحد فعيرهم . وقيل : لما أخبر الله بثواب شهداء بدر قالوا : لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ، ففروا يوم أحد ولم يفوا . وقيل : كان الرجل يقول : قتلت ولم يقتل ، وطعنت ولم يطعن ، وضربت ولم يضرب ، وصبرت ولم يصبر . وقيل :
( 1169 ) كان قد أذى المسلمين رجل ونكى فيهم ، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر ، فقال عمر لصهيب : أخبر النبي عليه السلام أنك قتلته ، فقال : إنما قتلته لله ولرسوله ، فقال عمر : يا رسول الله قتله صهيب ، قال : كذلك يا أبا يحيى؟ قال : نعم ، فنزلت في المنتحل . وعن الحسن : نزلت في المنافقين . ونداؤهم بالإيمان : تهكم بهم وبإيمانهم؛ هذا من أفصح كلام وأبلغه في معناه قصد في { كَبُرَ } التعجب من غير لفظه كقوله :
غَلَتْ نَابٌ كُلَيْبٌ بَوَاءُهَا ... ومعنى التعجب : تعظيم الأمر في قلوب السامعين؛ لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله ، وأسند إلى أن تقولوا . ونصب { مَقْتاً } على تفسيره ، دلالة على أنّ قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، لفرط تمكن المقت منه؛ واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه . ومنه قيل : نكاح المقت ، للعقد على الرابة ، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيراً ، حتى جعل أشده وأفحشه . و { عَندَ الله } أبلغ من ذلك ، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك . وعن بعض السلف أنه قيل له : حدّثنا ، فسكت ثم قيل له حدثنا؛ فقال : تأمرونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله . في قوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ } عقيب ذكر مقت المخلف : دليل على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار فلم يفوا . وقرأ زيد بن علي «يقاتلون» بفتح التاء . وقرىء : «يقتلون» { صَفّاً } صافين أنفسهم أو مصفوفين { كَأَنَّهُم } في تراصهم من غير فرجة ولا خلل { بنيان } رص بعضه إلى بعض ورصف . وقيل : يجوز أن يريد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص . وعن بعضهم : فيه دليل على فضل القتال راجلاً؛ لأنّ الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة . وقوله : { صَفّاً كَأَنَّهُم بنيان } حالان متداخلتان .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
{ وَإِذْ } منصوب بإضمار اذكر . أو : وحين قال لهم ما قال كان كذا وكذا { تُؤْذُونَنِى } كانوا يؤذونه بأنواع الأذى من انتقاصه وعيبه في نفسه ، وجحود آياته ، وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه ، وعبادتهم البقر ، وطلبهم رؤية الله جهرة ، والتكذيب الذي هو تضييع حق الله وحقه { وَقَد تَّعْلَمُونَ } في موضع الحال ، أي : تؤذونني عالمين علماً يقيناً { أَنِّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } وقضية علمكم بذلك وموجبه تعظيمي وتوقيري ، لا أن تؤذوني وتستهينوا بي؛ لأن من عرف الله وعظمته عظم رسوله ، علماً بأن تعظيمه في تعظيم رسوله ، ولأنّ من آذاه كان وعيد الله لاحقاً به { فَلَمَّا زَاغُواْ } عن الحق { أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } بأن منع ألطافه عنهم { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } لا يلطف بهم لأنهم ليسوا من أهل اللطف . فإن قلت : ما معنى ( قد ) في قوله { قَدْ تَعْلَمُونَ } ؟ قلت : معناه التوكيد كأنه قال : وتعلمون علماً يقيناً لا شبهة لكم فيه .
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
قيل : إنما قال : ( يا بني إسرائيل ) ولم يقل : يا قوم كما قال موسى؛ لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه . والمعنى : أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني { مِنَ التوراة } وفي حال تبشيري { بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى } يعني : أن ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن تقدم وتأخر . وقرىء : «من بعدي» ، بسكون الياء وفتحها ، والخليل وسيبويه يختاران الفتح . وعن كعب : أن الحواريين قالوا لعيسى : يا روح الله ، هل بعدنا من أمّة؟ قال : نعم أمّة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم باليسير من العمل . فإن قلت : بم انتصب مصدقاً ومبشراً؟ أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟ قلت : بل بمعنى الإرسال؛ لأن { إِلَيْكُم } صلة للرسول ، فلا يجوز أن تعمل شيئاً لأن حروف الجرّ لا تعمل بأنفسها ، ولكن بما فيها من معنى الفعل؛ فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل ، فمن أين تعمل؟ وقرىء : «هذا ساحر مبين» .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)
وأي الناس أشد ظلماً ممن يدعوه ربه على لسان نبيه إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين ، فيجعل مكان إجابته إليه افتراء الكذب على الله بقوله لكلامه الذي هو دعاء عباده إلى الحق : هذا سحر ، لأنّ السحر كذب وتمويه . وقرأ طلحة بن مصرف : «وهو يدعي» ، بمعنى دعاه وادّعاه ، نحو : لمسه والتمسه . وعنه : يدّعي ، بمعنى يدعو ، وهو الله عز وجل .
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
أصله ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ ) كما جاء في سورة براءة ، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيداً له ، لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لإكرامك ، كما زيدت اللام في : لا أبالك ، تأكيداً لمعنى الإضافة في : لا أباك ، وإطفاء نور الله بأفواههم : تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن : هذا سحر ، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه «والله متمّ نوره» أي متمّ الحق ومبلغه غايته . وقرىء : بالإضافة .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
{ وَدِينِ الحق } الملة الحنفية { لِيُظْهِرَهُ } ليعليه { عَلَى الدين كُلِّهِ } على جميع الأديان المخالفة له؛ ولعمري لقد فعل ، فما بقي دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام . وعن مجاهد : إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام . وقرىء : «أرسل نبيه» .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
{ تُنجِيكُم } قرىء مخففاً ومثقلاً . و { تُؤْمِنُونَ } استئناف ، كأنهم قالوا : كيف : نعمل؟ فقال : تؤمنون ، وهو خبر في معنى الأمر؛ ولهذا أجيب بقوله : { يغفر لكم } وتدل عليه قراءة ابن مسعود : آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا . فإن قلت : لم جيء به على لفظ الخبر؟ قلت : للإيذان بوجوب الامتثال ، وكأنه امتثل فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين . ونظيره قول الداعي : غفر الله لك ، ويغفر الله لك : جعلت المغفرة لقوّة الرجاء ، كأنها كانت ووجدت . فإن قلت : هل لقول الفراء أنه جواب { هَلْ أَدُلُّكُمْ } وجه؟ قلت : وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة ، والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد؛ فكأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم؟ فإن قلت : فما وجه قراءة زيد بن علي رضي الله عنهما : ( تؤمنوا . . . وتجاهدوا ) ؟ قلت : وجهها أن تكون على إضمار لام الأمر ، كقوله :
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إذَا مَا خفت مِنْ أَمْرٍ تَبَالاَ
وعن ابن عباس أنهم قالوا : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه ، فنزلت هذه الآية ، فمكثوا ما شاء الله يقولون : ليتنا نعلم ما هي ، فدلهم الله عليها بقوله : { تُؤْمِنُونَ } وهذا دليل على أن { تُؤْمِنُونَ } كلام مستأنف ، وعلى أنّ الأمر الوارد على النفوس بعد تشوّف وتطلع منها إليه : أوقع فيها وأقرب من قبولها له مما فوجئت به { ذَلِكُمْ } يعني ما ذكر من الإيمان والجهاد { خَيْرٌ لَّكُمْ } من أموالكم وأنفسكم . فإن قلت : ما معنى قوله : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ؟ قلت : معناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيراً لكم حينئذٍ؛ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتموه أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أنفسكم وأموالكم ، فتخلصون وتفلحون { وأخرى تُحِبُّونَهَا } ولكم إلى هذه النعمة المذكورة من المغفرة والثواب في الآجلة نعمة أخرى عاجلة محبوبة إليكم ، ثم فسرها بقوله : { نَصْرٌ مّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي عاجل وهو فتح مكة . وقال الحسن : فتح فارس والروم . وفي { تُحِبُّونَهَا } شيء من التوبيخ على محبة العاجل . فإن قلت : علام عطف قوله { وَبَشِّرِ المؤمنين } ؟ قلت : على { تُؤْمِنُونَ } لأنه في معنى الأمر ، كأنه قيل : آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم ، وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك . فإن قلت : لم نصب من قرأ نصراً من الله وفتحاً قريباً؟ قلت : يجوز أن ينصب على الاختصاص . أو على تنصرون نصراً ، ويفتح لكم فتحاً . أو على : يغفر لكم ويدخلكم جنات ، ويؤتكم أخرى نصراً من الله وفتحاً .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
قرىء : «كونوا أنصار الله وأنصاراً لله» . وقرأ ابن مسعود : «كونوا أنتم أنصار الله» . وفيه زيادة حتم للنصرة عليهم . فإن قلت : ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى صلوات الله عليه : { مَنْ أنصارى إِلَى الله } ؟ قلت : التشبيه محمول على المعنى ، وعليه يصح . والمراد : كونوا أنصار الله كما الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم : { مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله } . فإن قلت : ما معنى قوله : { مَنْ أنصارى إِلَى الله } ؟ قلت : يجب أن يكون معناه مطابقاً لجواب الحواريين { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } والذي يطابقه أن يكون المعنى : من جندي متوجهاً إلى نصرة الله ، وإضافة { أنصارى } خلاف إضافة { أَنْصَارَ الله } فإنّ معنى { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } : نحن الذين ينصرون الله . ومعنى { مَنْ أنصارى } من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله؛ ولا يصح أن يكون معناه : من ينصرني مع الله؛ لأنه لا يطابق الجواب . والدليل عليه : قراءة من قرأ : «من أنصار الله» . والحواريون أصفياؤه وهم أوّل من آمن به وكانوا اثنى عشر رجلاً؛ وحواري الرجل : صفيه وخلصانه من الحوار وهو البياض الخالص . والموارى : الدرمك . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1170 ) " الزبير ابن عمتي وحواريي من أمتي " وقيل : كانوا قصارين يحوّرون الثياب يبيضونها . ونظير الحواري في زنته : الحوالي : الكثير الحيل { فَئَامَنَت طَّآئِفَةٌ } منهم بعيسى { وَكَفَرَت } به { طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا } مؤمنيهم على كفارهم ، فظهروا عليهم . وعن زيد بن علي : كان ظهورهم بالحجة .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1171 ) " من قرأ سورة الصف كان عيسى مصلياً عليه مستغفراً له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه " .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
قرئت صفات الله عزّ وعلا بالرفع على المدح ، كأنه قيل : هو الملك القدوس ، ولو قرئت منصوبة لكان وجها ، كقول العرب : الحمد لله أهل الحمد . الأمي : منسوب إلى أمّة العرب ، لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم . وقيل : بدأت الكتابة بالطائف ، أخذوها من أهل الحيرة ، وأهل الحيرة من أهل الأنبار . ومعنى { بَعَثَ فِى الأميين رَسُولاً مّنْهُمْ } بعث رجلاً أمياً في قوم أميين ، كما جاء في حديث شعياء : أني أبعث أعمى في عميان ، وأميّاً في أميين وقيل { منهم } ، كقوله تعالى : { مّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] يعلمون نسبه وأحواله . وقرىء : «في الأمين» ، بحذف ياءي النسب { يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته } يقرؤها عليهم مع كونه أميّاً مثلهم لم تعهد منه قراءة ولم يعرف بتعلم ، وقراءة أمي بغير تعلم أية بينة { وَيُزَكّيهِمْ } ويطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة } القرآن والسنة . وإن في { وَإِن كَانُواْ } هي المخففة من الثقيلة واللام دليل عليها ، أي : كانوا في ضلال لا ترى ضلالاً أعظم منه { وَءاخَرِينَ } مجرور عطف على الأميين ، يعني : أنه بعثه في الأميين الذين على عهده ، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون بهم ، وهم الذين بعد الصحابة رضي الله عنهم . وقيل : [ 1172 ] لما نزلت قيل : من هم يا رسول الله ، فوضع يده على سلمان ثم قال : " لو كان الإيمان عند الثريا لتناوله رجال من هؤلاء " وقيل : هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة ، ويجوز أن ينتصب عطفاً على المنصوب في { وَيُعَلّمُهُمُ } أي : يعلمهم ويعلم آخرين؛ لأن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستنداً إلى أوّله ، فكأنه هو الذي تولى كل ما وجد منه { وَهُوَ العزيز الحكيم } في تمكينه رجلاً أميّاً من ذلك الأمر العظيم ، وتأييده عليه ، واختياره إياه من بين كافة البشر { ذَلِكَ } الفضل الذي أعطاه محمداً وهو أن يكون نبي أبناء عصره ، ونبي أبناء العصور الغوابر . هو { فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } إعطاءه وتقتضيه حكمته .
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
شبه اليهود - في أنهم حملة التوراة وقرّاؤها وحفاظ ما فيها ، ثم إنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها ، وذلك أنّ فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به ولم يؤمنوا به - بالحمار حمل أسفاراً ، أي كتباً كباراً من كتب العلم ، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب . وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله ، وبئس المثل { بِئْسَ } مثلاً { مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله } وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم . ومعنى : { حُمّلُواْ التوراة } : كلفوا علمها والعمل بها ، { ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } ثم لم يعملوا بها ، فكأنهم لم يحملوها . وقرىء : «حملوا التوراة» ، أي حملوها ثم لم يحملوها في الحقيقة لفقد العمل . وقرىء : «يحمل الأسفار» فإن قلت : ( يحمل ) ما محله؟ قلت : النصب على الحال ، أو الجر على الوصف؛ لأنّ الحمار كاللئيم في قوله :
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ...
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
هاد يهود : إذا تهود { أَوْلِيَاء لِلَّهِ } كانوا يقولون . نحن أبناء الله وأحباؤه ، أي : إن كان قولكم حقاً وكنتم على ثقة { فَتَمَنَّوُاْ } على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه ، ثم قال : { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً } بسبب ما قدّموا من الكفر ، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1172 ) " والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه " فلولا أنهم كانوا موقنين بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم لتمنوا ، ولكنهم علموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد ، فما تمالك أحد منهم أن يتمنى؛ وهي إحدى المعجزات . وقرىء : «فتمنوا الموت» بكسر الواو ، تشبيهاً بلو استطعنا . ولا فرق بين «لا» و«لن» في أن كل واحدة منهما نفي للمستقبل ، إلا أن في «لن» تأكيداً وتشديداً ليس في «لا» فأتى مرّة بلفظ التأكيد { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ } [ البقرة : 95 ] ومرّة بغير لفظه { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ } [ الجمعة : 7 ] ثم قيل لهم { إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ } ولا تجسرون أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم؛ لا تفوتونه وهو ملاقيكم لا محالة { ثُمَّ تُرَدُّونَ } إلى الله فيجازيكم بما أنتم أهله من العقاب . وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه : إنه ملاقيكم . وفي قراءة ابن مسعود : تفرون منه ملاقيكم ، وهي ظاهرة . وأما التي بالفاء ، فلتضمن الذي معنى الشرط ، وقد جعل { إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ } كلاماً برأسه في قراءة زيد ، أي : إن الموت هو الشيء الذي تفرّون منه ، ثم استؤنف : إنه ملاقيكم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
«يوم الجمعة» يوم الفوج المجموع ، كقولهم : ضحكة ، للمضحوك منه . و«يوم الجمعة» ، بفتح الميم : يوم الوقت الجامع ، كقولهم : ضحكة ، ولعنة ، ولعبة؛ ويوم الجمعة تثقيل للجمعة ، كما قيل : عسرة في عسر . وقرىء : بهن جميعاً . فإن قلت : من في قوله : { مِن يَوْمِ الجمعة } ما هي؟ قلت : هي بيان لإذا وتفسير له . والنداء : الأذان . وقالوا : المراد به الأذان عند قعود الإمام على المنبر ، وقد :
( 1173 ) كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد ، فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد؛ فإذا نزل أقام للصلاة ، ثم كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على ذلك؛ حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذناً آخر ، فأمر بالتأذين الأوّل على داره التي تسمى زوراء ، فإذا جلس على المنبر : أذن المؤذن الثاني ، فإذا نزل أقام للصلاة ، فلم يعب ذلك عليه . وقيل : أول من سماها «جمعة» كعب بن لؤي ، وكان يقال لها : العروبة . وقيل :
( 1174 ) إنّ الأنصار قالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام ، وللنصارى مثل ذلك؛ فهلموا نجعل لنا يوم نجتمع فيه فنذكر الله فيه ونصلى . فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى ، فاجعلوا يوم العروبة فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلى بهم يومئذٍ ركعتين وذكرهم ، فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، فأنزل الله آية الجمعة ، فهي أوّل جمعة ، كانت في الإسلام وأما أوّل جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهي :
( 1175 ) أنه لما قدم المدينة مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف ، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، فخطب وصلى الجمعة . وعن بعضهم : قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث : افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه ، فكذبهم في قوله : { فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صادقين } وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً؛ وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1176 ) " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه تقوم الساعة ، وهو عند الله يوم المزيد " وعنه عليه السلام :
( 1177 ) " أتاني جبريل وفي كفه مرآة بيضاء وقال : هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولأمتك من بعدك ، وهو سيد الأيام عندنا ، ونحن ندعوه إلى الآخرة يوم المزيد " وعنه صلى الله عليه وسلم :
( 1178 ) " إنّ لله تعالى في كل جمعة ستمائة ألف عتيق من النار "
وعن كعب : إنّ الله فضل من البلدان : مكة ، ومن الشهور : رمضان ، ومن الأيام : الجمعة . وقال عليه الصلاة والسلام :
( 1179 ) " من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ، ووقي فتنة القبر " وفي الحديث : ( 1180 ) " إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب ، يكتبون الأوِّل فالأوَّل على مراتبهم " وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج . وقيل : أوّل بدعة أحدثت في الإسلام : ترك البكور إلى الجمعة . وعن ابن مسعود : أنه بكر فرأى ثلاثة نفر سبقوه ، فاغتم وأخذ يعاتب نفسه يقول : أراك رابع أربعة وما رابع أربعة بسعيد . ولا تقام الجمعة عند أبي حنيفة رضي الله عنه إلا في مصر جامع ، لقوله عليه السلام :
( 1181 ) " لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع " والمصر الجامع : ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام ، ومن شروطها الإمام أو من يقوم مقامه ، لقوله عليه السلام :
( 1182 ) " فمن تركها وله إمام عادل أو جائر . . . الحديث " وقوله صلى الله عليه وسلم :
( 1183 ) " أربع إلى الولاة : الفيء ، والصدقات ، والحدود ، والجمعات " فإن أمّ رجل بغير إذن الإمام أو من ولاه من قاض أو صاحب شرطة : لم يجز؛ فإن لم يكن الاستئذان فاجتمعوا على واحد فصلى بهم : جاز ، وهي تنعقد بثلاثة سوى الإمام . وعند الشافعي بأربعين . ولا جمعة على المسافرين والعبيد والنساء والمرضى والزمنى ، ولا على الأعمى عند أبي حنيفة ، ولا على الشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد . وقرأ عمر وابن عباس وابن مسعود وغيرهم : «فامضوا» . وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقرأ : «فاسعوا» . فقال : من أقرأك هذا؟ قال أبيّ بن كعب ، فقال : لا يزال يقرأ بالمنسوخ ، لو كانت { فاسعوا } لسعيت حتى يسقط ردائي . وقيل : المراد بالسعي القصد دون العدو ، والسعي : التصرف في كل عمل . ومنه قوله تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى } [ الصافات : 102 ] ، { وأن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] وعن الحسن : ليس السعي على الأقدام ، ولكنه على النيات والقلوب . وذكر محمد بن الحسن رحمه الله في موطئه : أن عمر سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي . قال محمد : وهذا لا بأس به ما لم يجهد نفسه { إلى ذِكْرِ الله } إلى الخطبة والصلاة ، ولتسمية الله الخطبة ذكراً له قال أبو حنيفة رحمه الله : إن اقتصر الخطيب على مقدار يسمى ذكر الله كقوله : الحمد لله ، سبحان الله : جاز . وعن عثمان أنه صعد المنبر فقال : الحمد لله وأرتج عليه ، فقال : إن أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً ، وإنكم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوّال ، وستأتيكم الخطب ، ثم نزل ، وكان ذلك بحضرة الصحابة ولم ينكر عليه أحد .
وعند صاحبيه والشافعي : لا بد من كلام يسمى خطبة . فإن قلت : كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها ذكر غير الله؟ قلت : ما كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله ، فأمّا ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم ، وهم أحقاء بعكس ذلك؛ فمن ذكر الشيطان وهو من ذكر الله على مراحل ، وإذا قال المنصت للخطبة لصاحبه «صه» فقد لغا ، أفلا يكون الخطيب الغالي في ذلك لاغياً ، نعوذ بالله من غربة الإسلام ونكد الأيام . أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا ، وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم ، وينصبون إلى المصر من كل أوب ووقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص الأسواق بهم إذا انتفخ النهار وتعالى الضحى ودنا وقت الظهيرة ، وحينئذٍ تحرّ التجارة ويتكاثر البيع والشراء ، فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول بالبيع عن ذكر الله والمضي إلى المسجد ، قيل لهم : بادروا تجارة الآخرة ، واتركوا تجارة الدنيا ، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح { وَذَرُواْ البيع } الذي نفعه يسير وربحه مقارب . فإن قلت : فإذا كان البيع في هذا الوقت مأموراً بتركه محرماً ، فهل هو فاسد؟ قلت : عامّة العلماء على أن ذلك لا يوجب فساد البيع . قالوا : لأنّ البيع لم يحرم لعينه ، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب ، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب ، والوضوء بماء مغصوب ، وعن بعض الناس : أنه فاسد . ثم أطلق لهم ما حظر عليهم بعد قضاء الصلاة من الانتشار وابتغاء الربح ، مع التوصية بإكثار الذكر ، وأن لا يلهيهم شيء من تجارة ولا غيرها عنه ، وأن تكون هممهم في جميع أحوالهم وأوقاتهم موكلة به لا ينفضون عنه ، لأنّ فلاحهم فيه وفوزهم منوط به ، وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ، إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله : وعن الحسن وسعيد بن المسيب : طلب العلم ، وقيل : صلاة التطوّع : وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا نظراً في هذه الآية .
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
روي :
( 1184 ) أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد ، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة؛ فقاموا إليه ، خشوا أن يسبقوا إليه ، فما بقي معه إلا يسير . قيل : ثمانية ، وأحد عشر ، واثنا عشر ، وأربعون ، فقال عليه السلام : " والذي نفس محمد بيده ، لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً " وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق ، فهو المراد باللهو ، وعن قتادة : فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل مقدم عير . فإن قلت : فإن افتق تفرق الناس عن الإمام في صلاة الجمعة كيف يصنع؟ قلت : إن بقي وحده أو مع أقل من ثلاثة ، فعند أبي حنيفة : يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع . وعند صاحبيه : إذا كبر وهم معه مضى فيها . وعند زفر : إذا نفروا قبل التشهد بطلت . فإن قلت : كيف قال : { إِلَيْهَا } وقد ذكر شيئين؟ قلت : تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهوا انفضوا إليه؛ فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، وكذلك قراءة من قرأ : «انفضوا إليه» . وقراءة من قرأ : «لهوا أو تجارة انفضوا إليها» وقرىء : «إليهما» .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1185 ) " من قرأ سورة الجمعة أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين " .
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)
أرادوا بقولهم : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم . فقال الله عزّ وجلّ : قالوا ذلك { والله يَعْلَمُ } أن الأمر كما يدل عليه قولهم : إنك لرسول الله ، والله يشهد أنهم لكاذبون في قولهم : نشهد؛ وادعائهم فيه المواطأة . أو إنهم لكاذبون فيه ، لأنه إذا خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة؛ فهم كاذبون في تسميته شهادة . أو أراد : والله يشهد إنهم لكاذبون عند أنفسهم : لأنهم كانوا يعتقدون أنّ قولهم : { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه . فإن قلت : أي فائدة في قوله تعالى : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } ؟ قلت : لو قال : قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد إنهم الكاذبون ، لكان يوهم أنّ قولهم هذا كذب؛ فوسط بينهما قوله : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } ؟ ليميط هذا الإيهام { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } يجوز أن يراد أنّ قولهم نشهد إنك لرسول الله يمين من أيمانهم الكاذبة ، لأنّ الشهادة تجري مجرى الحلف فيما يراد به من التوكيد ، يقول الرجل : أشهد وأشهد بالله ، وأعزم وأعزم بالله في موضع أقسم وأولى . وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن «أشهد» يمين . ويجوز أن يكون وصفاً للمنافقين في استجنانهم بالأيمان . وقرأ الحسن البصري : إيمانهم ، أي : ما أظهروه من الإيمان بألسنتهم . ويعضده قوله تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُوا } . { سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله . وفي { سَآءَ } معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين { ذلك } إشارة إلى قوله : { سَآء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي ذلك القول الشاهد عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالا ( ب ) سبب ( أنهم آمنوا ثم كفروا ) أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان ، أي : ذلك كله بسبب أنهم آمنوا ثم كفروا { فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ } فجسروا على كل عظيمة . فإن قلت : المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم ، فما معنى قوله : { ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } ؟ قلت : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : آمنوا ، أي : نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ، ثم كفروا : ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وتبين بما أطلع عليه من قولهم : إن كان ما يقوله محمد حقاً فنحن حمير ، وقولهم في غزوة تبوك : أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات . ونحوه قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم } [ التوبة : 74 ] أي : وظهر كفرهم بعد أن أسلموا . ونحوه قوله تعالى : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم } [ التوبة : 66 ] والثاني آمنوا : أي نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام ، كقوله تعالى : { وَإِذَا لَقُواْ الذين ءَامَنُواْ } [ البقرة : 14 ] إلى قوله تعالى : { إِنَّمَا نَحْنُ مستهزؤون } [ البقرة : 14 ] والثالث : أن يراد أهل الردة منهم . وقرىء : «فطبع على قلوبهم» ، وقرأ زيد بن علي : «فطبع الله» .
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
كان عبد الله بن أبيّ رجلاً جسيماً صبيحاً ، فصيحاً ، ذلق اللسان وقوم من المنافقين في مثل صفته ، وهم رؤساء المدينة ، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستندون فيه ، ولهم جهارة المناظر وفصاحة الألسن؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم . فإن قلت : ما معنى قوله : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } ؟ قلت : شبهوا في استنادهم - وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير - بالخشب المسندة إلى الحائط؛ ولأنّ الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكاً فارغاً غير منتفع به أسند إلى الحائط ، فشبهوا به في عدم الانتفاع . ويجوز أن يراد بالخشب المسندة : الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان؛ شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم؛ والخطاب في { رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ } لرسول الله ، أو لكل من يخاطب . وقرىء : «يُسمع» على البناء للمفعول ، وموضع { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ } رفع على هم كأنهم خشب . أو هو كلام مستأنف لا محل له . وقرىء : «خشب» جمع خشبة ، كبدنة وبدن . وخشب ، كثمرة وثمر . وخشب ، كمدرة ومدر ، وهي في قراءة ابن عباس . وعن اليزيدي أنه قال في { خُشُبٌ } : جمع خشباء ، والخشباء : الخشبة التي دعر جوفها : شبهوا بها في نفاقهم وفساد بواطنهم { عَلَيْهِمْ } ثاني مفعولي يحسبون ، أي : يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وضارة لهم ، لجبنهم وهلعهم وما في قلوبهم من الرعب : إذا نادى مناد في العسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة : ظنوه إيقاعاً بهم . وقيل : كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم . ومنه أخذ الأخطل :
مَا زِلْتَ تَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُم ... خَيْلاَ تَكِرُّ عَلَيْهِمُ وَرِجَالاَ
يوقف على { عَلَيْهِمْ } ويبتدأ { هُمُ العدو } أي الكاملون في العداوة : لأنّ أعدى الأعداء العدوّ المداجي ، الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي { فاحذرهم } ولا تغترر بظاهرهم . ويجوز أن يكون { هُمُ العدو } المفعول الثاني ، كما لو طرحت الضمير . فإن قلت : فحقه أن يقال : هي العدوّ . قلت : منظور فيه إلى الخبر ، كما ذكر في { هذا رَبّى } [ الأنعام : 76 ] وأن يقدر مضاف محذوف على : يحسبون كل أهل صحية { قاتلهم الله } دعاء عليهم ، وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم . أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك { أنى يُؤْفَكُونَ } كيف يعدلون عن الحق تعجباً من جهلهم وضلالتهم .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
{ لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ } عطفوها وأما لوها إعراضاً عن ذلك واستكباراً . وقرىء بالتخفيف والتشديد للتكثير .
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
روى :
( 1186 ) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم وقتل منهم : ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد أجير لعمر يقود فرسه ، وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبيّ ، واقتتلا ، فصرخ جهجاه يا للمهاجرين : وسنان : يا للأنصار؛ فأعان جهجاها جعَّال من فقراء المهاجرين ولطم سنانا . فقال عبد الله لجعال . وأنت هناك ، وقال : ما صحبنا محمداً إلا لنلطم ، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال : سمن كلبك يأكلك ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ، عنى بالأعز : نفسه ، وبالأذل ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لقومه : ماذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم؛ أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، ولأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث ، فقال : أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمد في عزّ من الرحمن وقوّة من المسلمين ، فقال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب؛ فأخبر زيد رسول الله فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول الله ، فقال : إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب . قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجري . فأمر به أنصارياً فقال : فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمداً يقتل أصحابه؛ وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله : أنت صاحب الكلام الذي بلغني؟ قال : والله الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاً من ذلك ، وإن زيداً لكاذب ، وهو قوله تعالى : { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } [ المنافقون : 2 ] فقال الحاضرون : يا رسول الله : شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام ، عسى أن يكون قد وهم . وروى أن رسول الله قال له : لعلك غضبت عليه؛ قال : لا؛ قال : فلعله أخطأ سمعك؛ قال : لا؛ قال : فلعله شبه عليك؛ قال : لا . فلما نزلت : لحق رسول الله زيداً من خلفه فعرك أذنه وقال : وفت أذنك يا غلام ، إنّ الله قد صدقك وكذب المنافقين . ولما أراد عبد الله أن يدخل المدينة : اعترضه ابنه حباب ، وهو عبد الله بن عبد الله غير رسول الله اسمه ، وقال : إنّ حباباً اسم شيطان . وكان مخلصاً وقال : وراءك ، والله؛ لا تدخلها حتى تقول رسول الله الأعز وأنا الأذل ، فلم يزل حبيساً في يده حتى أمره رسول الله بتخليته . وروي أنه قال له : لئن لم تقرّ لله ورسوله بالعز لأضربن عنقك ، فقال : ويحك ، أفاعل أنت؟ قال : نعم . فلما رأى منه الجدّ قال : أشهد أنّ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فقال رسول الله لابنه : « جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيراً »
؛ فلما بان كذب عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد ، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أومن فآمنت ، وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت ، فما بقي إلا أن أسجد لمحمد ، فنزلت : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله } [ المنافقون : 5 ] ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات { سَوآءً عَلَيْهِمْ } الاستغفار وعدمه ، لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم . أو لأن الله لا يغفر لهم . وقرىء : «استغفرت» على حذف حرف الاستفهام؛ لأنّ «أم» المعادلة تدل عليه . وقرأ أبو جعفر «آستغفرت» ، إشباعاً لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان ، لا قلبا لهمزة الوصل ألفاً ، كما في : آلسحر ، وآلله { يَنفَضُّواْ } يتفرقوا . وقرىء : «ينفضوا» من أنفض القوم إذا فنيت أزوادهم . وحقيقته : حان لهم أن ينفضوا مزاودهم { وَلِلَّهِ خَزآئِنُ السماوات والأرض } وبيده الأرزاق والقسم ، وهو رازقهم منها؛ وإن أبي أهل المدينة أن ينفقوا عليهم ، ولكن عبد الله وأضرابه جاهلون { لاَّ يَفْقَهُونَ } ذلك فيهذون بما يزين لهم الشيطان . وقرىء : «ليخرجنّ الأعز منها الأذل» بفتح الياء . وليخرجنّ ، على البناء للمفعول . قرأ الحسن وابن أبي عبلة : لنخرجنّ ، بالنون ونسب الأعز والأذل . ومعناه : خروج الأذل . أو إخراج الأذل . أو مثل الأذل { وَلِلَّهِ العزة } الغلبة والقوّة ، ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين ، وهم الأخصاء بذلك ، كما أنّ المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين . وعن بعض الصالحات - وكانت في هيئة رثة - ألست على الإسلام؟ وهو العز الذي لا ذل معه ، والغنى الذي لا فقر معه . وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما : أنّ رجلاً قال له : إنّ الناس يزعمون أنّ فيك تيهاً؛ قال : ليس بتيه ، ولكنه عزة ، وتلا هذه الآية .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
{ لاَ تُلْهِكُمْ } لا تشغلكم { أموالكم } والتصرف فيها : والسعي في تدبير أمرها : والتهالك على طلب النماء فيها بالتجارة والاغتلال ، وابتغاء النتاج والتلذذ بها؛ والاستمتاع بمنافعها { وَلاَ أولادكم } وسروركم بهم ، وشفقتكم عليهم ، والقيام بمؤنهم ، وتسوية ما يصلحهم من معايشهم في حياتكم وبعد مماتكم ، وقد عرفتم قدر منفعة الأموال والأولاد ، وأنه أهون شيء وأدونه في جنب ما عند الله { عَن ذِكْرِ الله } وإيثاره عليها { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } يريد الشغل بالدنيا عن الدين { فأولائك هُمُ الخاسرون } في تجارتهم حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني . وقيل : ذكر الله الصلوات الخمس . وعن الحسن : جميع الفرائض ، كأنه قال : عن طاعة الله . وقيل : القرآن . وعن الكلبي : الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{ مِن } في { مَّا رزقناكم } للتبعيض ، والمراد : الإنفاق الواجب { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت } من قبل أن يرى دلائل الموت ، ويعاين ما ييأس معه من الإمهال ، ويضيق به الخناق ، ويتعذر عليه الإنفاق ويفوت وقت القبول ، فيتحسر على المنع ، ويعضّ أنامله على فقد ما كان متمكناً منه . وعن ابن عباس رضي الله عنه : تصدّقوا قبل أن ينزل عليك سلطان الموت ، فلا تقبل متمكناً منه . وعن ابن عباس رضي الله عنه : تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت ، فلا تقبل توبة ، ولا ينفع عمل . وعنه : ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي ، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت ، فيسأل ربه الكرة فلا يعطاها . وعنه : أنها نزلت في ما نعى الزكاة ، ووالله لو رأى خيراً لما سأل الرجعة ، فقيل له : أما تتقي الله ، يسأل المؤمنون الكرة؟ قال : نعم ، أنا أقرأ عليكم به قرآنا ، يعني : أنها نزلت في المؤمنين وهم المخاطبون بها ، وكذا عن الحسن : ما من أحد لم يزك ولم يصم ولم يحج إلا سأل الرجعة . وعن عكرمة أنها نزلت في أهل القبلة { لَوْلا أَخَّرْتَنِىَ } . وقرىء : «أخرتن» ، يريد : هلا أخرت موتى { إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } إلى زمان قليل { فَأَصَّدَّقَ } وقرأ أُبي« فأتصدق» على الأصل . وقرى : «وأكن» ، عطفاً على محل { فَأَصَّدَّقَ } كأنه قيل : إن أخرتني أصدّق وأكن . ومن قرأ : «وأكون» على النصب ، فعلى اللفظ . وقرأ عبيد بن عمير : «وأكون» ، على «وأنا أكون» عدة منه بالصلاح { وَلَن يُؤَخّرَ الله } نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه منافاة المنفي الحكمة . والمعنى : إنكم إذا علمتم أنّ تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه . وأنه هاجم لا محالة ، وأنّ الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها ، من منع واجب وغيره : لم تبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجبات والاستعداد للقاء الله . وقرىء : «تعملون»؛ بالتاء والياء . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1187 ) " من قرأ سورة المنافقين بريء من النفاق " .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله عز وجل ، وذلك لأنّ الملك على الحقيقة له ، لأنه مبديء كل شيء ومبدعه ، والقائم به ، والمهيمن عليه؛ وكذلك الحمد ، لأنّ أصول النعم وفروعها منه . وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء ، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده { هُوَ الذى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } يعني : فمنكم آت بالكفر وفاعل له ومنكم آت بالإيمان وفاعل له ، كقوله تعالى : { وجعلنا في ذريتهما النبوّة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون } [ الحديد : 26 ] والدليل عليه قوله تعالى : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي عالم بكفركم وإيمانكم اللذين هما من عملكم . والمعنى : هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم ، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح ، وتكونوا بأجمعكم عباداً شاكرين ، فما فعلتم مع تمكنكم ، بل تشعبتم شعباً ، وتفرقتم أمماً؛ فمنكم كافر ومنكم مؤمن ، وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم . وقيل : هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ، ومنكم مؤمن به . فإن قلت : نعم ، إن العباد هم الفاعلون للكفر ، ولكن قد سبق في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر ولم يختاروا غيره ، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم؟ وهل خلق القبيح وخلق فاعل القبيح إلا واحد؟ وهل مثله إلا مثل من وهب سيفا باترا لمن شهر بقطع السبيل وقتل النفس المحرّمة فقتل به مؤمنا؟ أما يطبق العقلاء على ذم الواهب وتعنيفه والدق في فروته كما يذمون القاتل؟ بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد؟ قلت : قد علمنا أنّ الله حكيم عالم بقبح القبيح عالم بغناه عنه ، فقد علمنا أن أفعاله كلها حسنة ، وخلق فاعل القبيح فعله ، فوجب أن يكون حسناً ، وأن يكون له وجه حسن؛ وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه ، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها { بالحق } بالغرض الصحيح والحكمة البالغة ، وهو أن جعلها مقارّ المكلفين ليعملوا فيجازيهم { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } وقرىء : «صوركم» بالكسر ، لتشكروا . وإليه مصيركم فجزاؤكم على الشكر والتفريط فيه . فإن قلت : كيف أحسن صوركم؟ قلت : جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه ، بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور . ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب ، كما قال عز وجل : { فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] . فإن قلت : فكم من دميم مشوّه الصورة سمج الخلقة تقتحمه العيون؟ قلت : لا سماجة ثم ولكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب ، فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطاً بيناً وإضافتها إلى الموفى عليها لا تستملح ، وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة عن حدّه .
ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها ، ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن منها فينبو عن الأولى طرفك ، وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها . وقالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما : الجمال ، والبيان . نبه بعلمه ما في السموات والأرض ، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه ، ثم بعلمه ذوات الصدور : أن شيئاً من الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه ، فحقه أن يتقي ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه . وتكوير العلم في معنى تكرير الوعيد ، وكل ما ذكره بعد قوله تعالى : { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] كما ترى في معنى الوعيد على الكفر ، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته ، والخلق : أعظم نعمة من الله على عباده ، والكفر : أعظم كفران من العباد لربهم .
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } الخطاب لكفار مكة . { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا وما أعدّ لهم من العذاب في الآخرة { بِأَنَّهُ } بأنّ الشأن والحديث { كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم . . . . أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } أنكروا أن تكون الرسل بشراً ، ولم ينكروا أن يكون الله حجراً { واستغنى الله } أطلق ليتناول كل شيء ، ومن جملته إيمانهم وطاعتهم . فإن قلت : قوله : { وَتَوَلَّواْ واستغنى الله } يوهم وجود التولي والاستغناء معاً ، والله تعالى لم يزل غنياً . قلت : معناه : وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك .
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
الزعم : ادعاء العلم : ومنه قوله عليهالصلاة والسلام :
( 1188 ) " زعموا مطية الكذب " وعن شريح : لكل شيء كنية وكنية الكذب «زعموا» ويتعدّى إلى المفعولين تعدّي العلم . قال :
. . . وَلَمْ أَزْعُمكِ عَنْ ذَاكَ مَعْزِلاَ ... و ( أن ) مع ما في حيزه قائم مقامهما . والذين كفروا . أهل مكة . و { بلى } إثبات لما بعد لن ، وهو البعث { وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } أي لا يصرفه عنه صارف . وعنى برسوله والنور : محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن .
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
وقرىء : «نجمعكم» ونكفر . وندخله ، بالياء والنون . فإن قلت : بم انتصب الظرف؟ قلت : بقوله : لتنبؤن ، أو بخبير ، لما فيه من معنى الوعيد ، كأنه قيل : والله معاقبكم يوم يجمعكم أو بإضمار «اذكر» { لِيَوْمِ الجمع } ليوم يجمع فيه الأوّلون والآخرون . التغابن : مستعار من تغابن القوم في التجارة؛ وهو أن يغبن بعضهم بعضاً ، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء . وفيه تهكم بالأشقياء؛ لأنّ نزولهم ليس بغبن . وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1189 ) " ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ، ليزداد شكراً . وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ، ليزداد حسرة " ومعنى { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } - وقد يتغابن الناس في غير ذلك اليوم - : استعظام له وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة ، لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت { صالحا } صفة للمصدر ، أي : عملاً صالحاً .
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
{ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } إلا بتقديره ومشيئته ، كأنه أذن للمصيبة أن تصيبه { يَهْدِ قَلْبَهُ } يلطف به ويشرحه للإزدياد من الطاعة والخير . وقيل : هو الاسترجاع عند المصيبة . وعن الضحاك : يهد قلبه حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه . وما أخطأه لم يكن ليصيبه . وعن مجاهد : إن ابتلى صبر ، وإن أعطى شكر ، وإن ظلم غفر . وقرىء : «يهد قلبه» ، على البناء للمفعول ، والقلب : مرفوع أو منصوب . ووجه النصب : أن يكون مثل سفه نفسه ، أي : يهد في قلبه . ويجوز أن يكون المعنى : أنّ الكافر ضال عن قلبه بعيد منه ، والمؤمن واجد له مهتد إليه ، كقوله تعالى : { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ ق : 37 ] وقرىء : «نهد قلبه» ، بالنون . ويهدّ قلبه ، بمعنى : يهتد . ويهدأ قلبه : يطمئن . ويهد . ويهدا على التخفيف { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يعلم ما يؤثر فيه اللطف من القلوب مما لا يؤثر فيه فيمنحه ويمنعه .
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
{ فَإِن تَولَّيْتُمْ } فلا عليه إذا توليتم ، لأنه لم يكتب عليه طاعتكم ، إنما كتب عليه أن يبلغ ويبين فحسب { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } بعث لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على التوكل عليه والتقوى به في أمره ، حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
إنّ من الأزواج أزواجاً يعادين بعولتهنّ ويخاصمنهم ويجلبن عليهم ، ومن الأولاد أولاداً يعادون آبائهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى { فاحذروهم } الضمير للعدوّ أو للأزواج والأولاد جميعاً ، أي : لما علمتم أنّ هؤلاء لا يخلون من عدوّ ، فكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم { وَإِن تَعْفُواْ } عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها ، فإن الله يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم . وقيل : إنّ ناساً أرادوا الهجرة عن مكة ، فثبطهم أزواجهم وأولادهم وقالوا : تنطلقون وتضيعوننا فرقوا لهم ووقفوا ، فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين : أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم ، فزين لهم العفو . وقيل : قالوا لهم : أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم ، فغضبوا عليهم وقالوا : لئن جمعنا الله في دار الهجرة لم نصبكم بخير ، فلما هاجروا منعوهم الخير ، فحثوا أن يعفوا عنهم ويردّوا إليهم البر والصلة . وقيل : كان عوف بن مالك الأشجعي ذا أهل وولد ، فإذا أراد أن يغزو أو تعلقوا به وبكوا إليه ورققوه ، فكأنه همّ بأذاهم ، فنزلت . { فِتْنَةٌ } بلاء ومحنة ، لأنهم يوقعون في الإثم والعقوبة ، ولا بلاء أعظم منهما؛ ألا ترى إلى قوله : { والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } وفي الحديث :
( 1190 ) " يؤتى برجل يوم القيامة فيقال : أكل عياله حسناته " وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1191 ) " أنه كان يخطب ، فجاء الحسن ، والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان ، فنزل إليهما فأخذهما ووضعهما في حجره على المنبر فقال : «صدق الله { إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما " ثم أخذ في خطبته . وقيل : إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتنكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما .
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
{ مَّا استطعتم } جهدكم ووسعكم ، أي : ابذلوا فيها استطاعتكم { واسمعوا } ما توعظون به { وَأَطِيعُواْ } فيما تأمرون به وتنهون عنه { وَأَنْفِقُواْ } في الوجوه التي وجبت عليكم النفقة فيها { خَيْراً لاِنفُسِكُمْ } نصب بمحذوف ، تقديره : ائتوا خيراً لأنفسكم ، وافعلوا ما هو خير لها وأنفع؛ وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر ، وبيان لأنّ هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وما أنتم عاكفون عليه من حب الشهوات وزخارف الدنيا .
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
وذكرُ القرض : تلطف في الاستدعاء { يضاعفه لَكُمْ } يكتب لكم بالواحدة عشراً ، أو سبعمائة إلى ما شاء من الزيادة . وقرىء : «يضعفه» { شَكُورٌ } مجاز ، أي : يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب ، وكذلك { حَلِيمٌ } يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسيء ، فلا يعاجلكم بالعقاب مع كثرة ذنوبكم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1192 ) " من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة " .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب؛ لأنّ النبي إمام أمّته وقدوتهم ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، إظهاراً لتقدّمه واعتباراً لترؤسه ، وأنه مدرهُ قومه ولسانهم ، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه ، فكان هو وحده في حكم كلهم ، وسادّاً مسدّ جميعهم . ومعنى { إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } إذا أردتم تطليقهنّ وهممتم به على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه : كقوله عليه السلام :
( 1193 ) « من قتل قتيلاً فله سلبه » ومنه كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فطلقوهن مستقبلات لعدتهن ، كقولك : أتيته لليلة بقيت من المحرم ، أي : مستقبلاً لها . وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : في قُبلِ عدتهنّ ، وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأوّل من أقرائها ، فقد طلقت مستقبلة لعدتها . والمراد : أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه ، ثم يخلين حتى تنقضى عدّتهن . وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعده من الندم ، ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة ، ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدّة ، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثاً في ثلاثة أطهار . وقال مالك بن أنس رضي الله عنه : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة ، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو متفرقة . وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحد في طهر واحد ، فأما مفرقاً في الأطهار فلا؛ لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض :
( 1194 ) « ما هكذا أمرك الله ، إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً ، وتطلقها لكل قرء تطليقة » وروى أنه قال لعمر :
( 1195 ) « مر ابنك فليراجعها ، ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ، ثم ليطلقها إن شاء؛ فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء » . وعند الشافعي رضي الله عنه : لا بأس بإرسال الثلاث ، وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح . فما لك تراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت؛ وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت؛ والشافعي يراعي الوقت وحده . فإن قلت : هل يقع الطلاق المخالف للسنة؟ قلت : نعم ، وهو آثم؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1196 ) أنّ رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه ، فقال لا « أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم » وفي حديث ابن عمر أنه قال :
( 1197 ) يا رسول الله ، أرأيت لو طلقتها ثلاثاً ، فقال له :
" إذن عصيت وبانت منك امرأتك " وعن عمر رضي الله عنه :
( 1198 ) أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثاً إلا أوجعه ضرباً . وأجاز ذلك عليه . وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين : أنّ من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلث لم يقع ، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف . فإن قلت : كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل وغير المدخول بها؟ قلت : الصغيرة والآيسة والحامل كلهن عند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر ، وخالفما محمد وزفر في الحامل فقالا : لا تطلق للسنة إلا واحدة . وأما غير المدخول بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة ، ولا يراعي الوقت . فإن قلت : هل يكره أن تطلق المدخول بها واحدة بائنة؟ قلت : اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا . والظاهر الكراهة . فإن قلت : قوله إذا طلقتم النساء عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء والآيسات والصغائر والحوامل ، فكيف صحّ تخصيصه بذوات الأقراء المدخول بهن؟ قلت : لا عموم ثم ولا خصوص ، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس ، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن ، فجاز أن يراد بالنساء هذاوذاك ، فلما قيل : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } علم أنه أطلق على بعضهنّ وهنّ المدخول بهن من المعتدات بالحيض { وَأَحْصُواْ العدة } واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن ، { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ } حتى تنقضي عدتهنّ { مِن بُيُوتِهِنَّ } من مساكنهنّ التي يسكنها قبل العدة ، وهي بيوت الأزواج؛ وأضيفت إليهنّ لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى . فإن قلت : ما معنى الجمع بين إخراجهم أو خروجهن؟ قلت : معنى الإخراج : أن لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن ، أو لحاجة لهم إلى المساكن ، وأن لا يأذنوا لهنّ في الخروج إذا طلبن ذلك ، إيذاناً بأنّ إذنهم لا أثر له في رفع الحظر ، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } قرىء : بفتح للياء وكسرها . قيل : هي الزنا ، يعني إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن وقيل : إلا أن يطلقن على النشوز ، والنشوز يسقط حقهن في السكنى . وقيل : إلا أن يبذون فيحل إخراجهنّ لبذائهنّ؛ وتؤكده قراءة أبي «إلا أن يفحش عليكم» وقيل : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه . الأمر الذي يحدثه الله : أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها . ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها . والمعنى : فطلقوهنّ لعدتهن وأحصوا العدة ، لعلكم ترغبون وتندمون فتراجعون { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } وهو آخر العدة وشارفته ، فأنتم بالخيار : إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف والإحسان ، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتقاء الضرار وهو أن يراجعها في آخر عدتها ثم يطلقها تطويلاً للعدة عليها وتعذيباً لها { وَأَشْهِدُواْ } يعني عند الرجعة والفرقة جميعاً .
وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله : { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] وعند الشافعي : هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة . وقيل : فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد ، وأن لا يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث { مِّنكُمْ } قال الحسن : من المسلمين . وعن قتادة : من أحراركم { لِلَّهِ } لوجهه خالصاً ، وذلك أن تقيموها لا للشهود له ولا للمشهود عليه ، ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الظلم ، كقوله تعالى : { كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } [ النساء : 135 ] أي : { ذَلِكُمْ } الحث على إقامة الشهادة لوجه الله ولأجل القيام بالقسط ، { يُوعَظُ بِهِ . . . وَمَن يَتَّقِ الله } يجوز أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة ، وطريقه الأحسن والأبعد من الندم ، ويكون المعنى : ومن يتق الله فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد { يَجْعَلْ } الله { لَّهُ مَخْرَجاً } مما في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ، ويفرج عنه وينفس ويعطه الخلاص { وَيَرْزُقْهُ } من وجه لا يخطره بباله ولا يحتسبه إن أوفى المهر وأدى الحقوق والنفقات وقل ماله . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1199 ) " أنه سئل عمن طلق ثلاثاً أو ألفاً ، هل له من مخرج؟ فتلاها " وعن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال : لم تتق الله فلم يجعل لك مخرجا ، بانت منك بثلاث والزيادة إثم في عنقك . ويجوز أن يجاء بها على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ } يعني : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ومخلصاً من غموم الدنيا والآخرة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1200 ) أنه قرأها فقال : " مخرجاً من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة " وقال عليه السلام :
( 1201 ) " إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم { وَمَن يَتَّقِ الله } فما زال يقرؤها ويعيدها " وروى :
( 1202 ) أنّ عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً . فأتى رسول الله فقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة؛ فقال : ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، ففعل فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدو فاستاقها ، فنزلت هذه الآية { بالغ أَمْرِهِ } أي يبلغ ما يريد لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب . وقرىء : «بالغ أمره» بالإضافة «وبالغ أمره» بالرفع ، أيّ : نافذ أمره وقرأ المفضل : «بالغاً أمره» ، على أنّ قوله : { قَدْ جَعَلَ الله } خبر إن ، وبالغاً حال { قَدْراً } تقديراً وتوقيتاً . وهذا بيان لوجوب التوكل على الله ، وتفويض الأمر إليه؛ لأنه إذا علم أنّ كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته : لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل .
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
روي أن ناساً قالوا : قد عرفنا عدة ذوات الأقراء ، فما عدة اللائي لا يحضن؛ فنزلت : فمعنى { إِنِ ارتبتم } : إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهنّ ، وقيل : إن ارتبتم في ذم البالغات مبلغ اليأس وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين ، أهو دم حيض أو استحاضة؟ { فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها ، فغير المرتاب بها أولى بذلك { والائى لَمْ يَحِضْنَ } هن الصغائر . والمعنى : فعدتهن ثلاثة أشهر ، فحذف لدلالة المذكور عليه . اللفظ مطلق في أولات الأحمال ، فاشتمل على المطلقات والمتوفى عنهن . وكان ابن مسعود وأبيّ وأبو هريرة وغيرهم لا يفرقون . وعن علي وابن عباس : عدة الحامل المتوفى عنها أبعد الأجلين . وعن عبد الله : من شاء لاعنته أنّ سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في البقرة ، يعني : أنّ هذا اللفظ مطلق في الحوامل . وروت أم سلمة :
( 1203 ) أنّ سبيعة الأسلمية ولدت بعد وفاة زوجها بليال ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها : « قد حللت فانكحي » { يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } ييسر له من أمره ويحلل له من عقده بسبب التقوى { ذَلِكَ أَمْرُ الله } يريد ما علم من حكم هؤلاء المعتدات . والمعنى : ومن يتق الله في العمل بما أنزل الله من هذه الأحكام وحافظ على الحقوق الواجبة عليه مما ذكر من الإسكان وترك الضرار والنفقة على الحوامل وإيتاء أجر المرضعات وغير ذلك : استوجب تكفير السيئات والأجر العظيم .
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
{ أَسْكِنُوهُنَّ } وما بعده : بيان لما شرط من التقوى في قوله : { وَمَن يَتَّقِ الله } كأنه قيل : كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل : اسكنوهن . فإن قلت : من في { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } ما هي؟ قلت : هي من التبعيضية مبعضها محذوف معناه : أسكنوهن مكاناً من حيث سكنتم ، أي بعض مكان سكناكم ، كقوله تعالى : { يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم } [ النور : 30 ] أي بعض أبصارهم . قال قتادة : إن لم يكن إلا بيت واحد ، فأسكنها في بعض جوانبه . فإن قلت : فقوله : «من وجدكم»؟ قلت : هو عطف بيان لقوله : { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } وتفسير له ، كأنه قيل : أسكنوهن مكاناً من مسكنكم مما تطيقونه . والوجد : الوسع والطاقة . وقرىء بالحركات الثلاث . والسكنى والنفقة : واجبتان لكل مطلقة . وعند مالك والشافعي : ليس للمبتوتة إلا السكنى ولا نفقة لها . وعن الحسن وحماد : لا نفقة لها ولا سكنى؛ لحديث فاطمة بنت قيس :
( 1204 ) أن زوجها أبتّ طلاقها ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا سكنى لك ولا نفقة " . وعن عمر رضي الله عنه :
( 1205 ) لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم : " لها السكنى والنفقة " { وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ } ولا تستعملوا معهن الضرار { لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ } في المسكن ببعض الأسباب : من إنزال من لا يوافقهن ، أو يشغل مكانهن ، أو غير ذلك ، حتى تضطروهن إلى الخروج . وقيل : هو أن يراجعها إذا بقي من عدتها يومان ليضيق عليها أمرها . وقيل : هو أن يلجئها إلى أن تفتدي منه . فإن قلت : فإذا كانت كل مطلقة عندكم تجب لها النفقة ، فما فائدة الشرط في قوله : { وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ } قلت : فائدته أن مدة الحمل ربما طالت فظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحائل ، فنفى ذلك الوهم . فإن قلت : فما تقول في الحامل المتوفى عنها؟ قلت : مختلف فيها؛ فأكثرهم على أنه لا نفقة لها ، لوقوع الإجماع على أنّ من أجبر الرجل على النفقة عليه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه من ماله بعد موته ، فكذلك الحامل . وعن علي وعبد الله وجماعة : أنهم أوجبوا نفقتها { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } يعني هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولداً من غيرهنّ أو منهنّ بعد انقطاع عصمة الزوجية { فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } حكمهن في ذلك حكم الأظار ، ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم الاستئجار إذا كان الولد منهم ما لم يبنّ . ويجوز عند الشافعي . الائتمار بمعنى التآمر ، كالاشتوار بمعنى التشاور . يقال : ائتمر القوم وتآمروا ، إذا أمر بعضهم بعضاً .
والمعنى : وليأمر بعضكم بعضاً ، والخطاب للآباء والأمهات { بِمَعْرُوفٍ } بجميل وهو المسامحة ، وأن لا يماكس الأب ولا تعاسر الأم؛ لأنه ولدهما معا ، وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } فستوجد ولا تعوز مرضعة غير الأم ترضعه؛ وفيه طرف من معاتبة الأم على المعاسرة ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى : سيقضيها غيرك ، تريد : لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم ، وقوله : { لَهُ } أي للأب ، أي : سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه { لِيُنفِقْ } كل واحد من الموسر والمعسر ما بلغه وسعه يريد : ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات ، كما قال : { وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ } [ البقرة : 236 ] وقرىء : «لينفق» بالنصب ، أي شرعنا ذلك لينفق . وقرأ ابن أبي عبلة «قدّر» { سَيَجْعَلُ الله } موعد لفقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم ، أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقصروا .
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
{ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا } أعرضت عنه على وجه العتوّ والعناد { حِسَاباً شَدِيداً } بالاستقصاء والمناقشة { عَذَاباً نُّكْراً } وقرىء : «نكرا» منكراً عظيماً ، والمراد : حساب الآخرة وعذابها وما يذوقون فيها من الوبال ويلقون من الخسر ، وجيء به على لفظ الماضي ، كقوله تعالى : { وَنَادَى أصحاب الجنة } [ الأعراف : 44 ] ، { ونادى أصحاب النار } [ الأعراف : 50 ] ونحو ذلك؛ لأنّ المنتظر من وعد الله ووعيده ملقى في الحقيقة ، وما هو كائن فكأن قد كان . وقوله : { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } تكرير للوعيد وبيان لكونه مترقباً ، كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب فليكن لكم ذلك { ياأولي الألباب } من المؤمنين لطفاً في تقوى الله وحذر عقابه . ويجوز أن يراد إحصاء السيئات ، واستقصاؤها عليهم في الدنيا ، وإثباتها في صحائف الحفظة ، وما أصيبوا به من العذاب في العاجل؛ وأن يكون { عَتَتْ } وما عطف عليه : صفة للقرية . وأعد الله لهم : جواباً لكأين { رَسُولاً } هو جبريل صلوات الله عليه : أبدل من ذكرا ، لأنه وصف بتلاوة آيات الله ، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر فصح إبداله منه . أو أريد بالذكر : الشرف ، من قوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] فأبدل منه ، كأنه في نفسه شرف : إما لأنه شرف للمنزل عليه ، وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله ، كقوله تعالى : { عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ } [ التكوير : 20 ] أو جعل لكثرة ذكره لله وعبادته كأنه ذكر . أو أريد : ذا ذكر ، أي ملكاً مذكوراً في السموات وفي الأمم كلها . أو دل قوله : { أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً } [ الطلاق : 10 ] على : أرسل فكأنه قيل : أرسل رسولا؛ أو أعمل ذكراً في رسولا إعمال المصدر في المفاعيل ، أي : أنزل الله أن ذكر رسولا أو ذكره رسولا . وقرىء : «رسول» ، على : هو رسول . أنزله { لّيُخْرِجَ الذين ءَامَنُواْ } بعد إنزاله ، أي ليحصل لهم ما هم عليه الساعة من الإيمان والعمل الصالح : لأنهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين ، وإنما آمنوا بعد الإنزال والتبليغ . أو ليخرج الذين عرف منهم أنهم يؤمنون . قرىء : «يدخله» ، بالياء والنون { قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } فيه معنى التعجب والتعظيم ، لما رزق المؤمن من الثواب .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
{ الله الذى خَلَقَ } مبتدأ وخبر . وقرىء : «مثلهنّ» بالنصب ، عطفاً على سبع سموات؛ وبالرفع على الابتداء ، وخبره : من الأرض . قيل : ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه . وقيل : بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام ، وغلظ كل سماء كذلك ، والأرضون مثل السموات { يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ } أي يجري أمر الله وحكمه بينهن ، وملكه ينفذ فيهن . وعن قتادة : في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه . وقيل : هو ما يدبر فيهنّ من عجائب تدبيره . وقرىء : «ينزل الأمر» ، وعن ابن عباس : أن نافع بن الأزرق سأله هل تحت الأرضين خلق؟ قال : نعم . قال : فما الخلق؟ قال : إما ملائكة أو جنّ «لتعلموا» قرىء بالتاء والياء .
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( 1206 ) " من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
روي :
( 1207 ) " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة ، وعلمت بذلك حفصة ، فقال لها : اكتمي عليّ ، وقد حرمت مارية على نفسي ، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتيّ ، فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين . وقيل : خلا بها في يوم حفصة ، فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم ، فطلقها واعتزل نساءه؛ ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية " وروى :
( 1208 ) أن عمر قال لها : لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك ، فنزل جبريل عليه السلام وقال : راجعها فإنها صوّامة قوّامة ، وإنها لمن نسائك في الجنة . وروي :
( 1209 ) " أنه شرب عسلاً في بيت زينب بنت جحش ، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له : إنا نشم منك ريح المغافير ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره التفل ، فحرّم العسل " ، فمعناه { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } من ملك اليمين أو العسل . و { تَبْتَغِى } إما تفسير لتحرم . أو حال : أو استئناف ، وكان هذا زلة منه لأنه ليس لأحد أن يحرّم ما أحلّ الله لأن الله عزّ وجل إنما أحل ما أحل لحكمة ومصلحة عرفها في إحلاله ، فإذا حرّم كان ذلك قلب المصلحة مفسدة { والله غَفُورٌ } قد غفر لك ما زللت فيه { رَّحِيمٌ } قد رحمك فلم يؤاخذك به { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } فيه معنيان ، أحدهما : قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم ، من قولك : حلل فلان في يمينه ، إذا استثنى فيها . ومنه : حلا أبيت اللعن ، بمعنى : استثن في يمينك إذا أطلقها؛ وذلك أن يقول : «إن شاء الله» عقيبها ، حتى لا يحنث . والثاني : قد شرع الله لكم تحلتها بالكفارة . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 1210 ) " لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم " وقول ذي الرمّة :
قَلِيلاً كَتَحْلِيلِ الأُلِيِّ ... فإن قلت : ما حكم تحريم الحلال؟ قلت : قد اختلف فيه ، فأبو حنيفة يراه يميناً في كل شيء ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرّمه؛ فإذا حرّم طعاماً فقد حلف على أكله ، أو أمة فعلى وطئها ، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية؛ وإن نوى الظهار فظهار؛ وإن نوى الطلاق فطلاق بائن «وكذلك إن نوى ثنتين وإن نوى ثلاثاً فكما نوى ، وإن قال : نويت الكذب ديِّن فيما بينه وبين الله تعالى ، ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء . وإن قال : كل حلال عليّ حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو ، وإلا فعلى ما نوى ، ولا يراه الشافعي يميناً . ولكن سبباً في الكفارة في النساء وحده وحدهنّ ، وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده .
وعن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد رضي الله عنهم : أنّ الحرام يمين وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعي . وعن علي رضي الله عنه : ثلاث . وعن زيد : واحدة بائنة . وعن عثمان : ظهار . وكان مسروق لا يراه شيئاً ويقول : ما أبالي أحرمتها أم قصعة من ثريد ، وكذلك عن الشعبي قال : ليس بشيء ، محتجاً بقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] وقوله تعالى : { لا تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ } [ المائدة : 87 ] وما لم يحرمه الله تعالى فليس لأحد أن يحرّمه ولا أن يصير بتحريمه حراماً ، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله الله : هو حرام عليّ ، وإن امتنع من مارية ليمين تقدمت منه ، وهو قوله عليه الصلاة و السلام : والله لا أقربها بعد اليوم ، فقيل له : { لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } أي لم تمتنع منه بسبب اليمين ، يعني : أقدم على ما حلفت عليه ، وكفر عن يمينك . ونحوه قوله تعالى : { وحرّمنا عليه المراضع } [ القصص : 12 ] أي؛ منعناه منها . وظاهر قوله تعالى : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } أنه كانت منه يمين . فإن قلت : هل كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك؟ قلت : عن الحسن : أنه لم يُكَفِّر؛ لأنه كان مغفوراً له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وإنما هو تعليم للمؤمنين . وعن مقاتل : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية { والله مولاكم } سيدكم ومتولي أموركم { وَهُوَ العليم } بما يصلحكم فيشرعه لكم { الحكيم } فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما توجبه الحكمة . وقيل : مولاكم أولى بكم من أنفسكم ، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم .
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
{ بَعْضِ أزواجه } حفصة . والحديث الذي أسر إليها : حديث مارية وإمامة الشيخين { نَبَّأَتْ بِهِ } أفشته إلى عائشة . وقرىء : «أنبأت» به { وَأَظْهَرَهُ } وأطلع النبي عليه السلام { عَلَيْهِ } على الحديث ، أي : على إفشائه على لسان جبريل . وقيل : أظهر الله الحديث على النبي صلى الله عليه وسلم من الظهور { عَرَّفَ بَعْضَهُ } أعلم ببعض الحديث تكرماً . قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام . وقرىء : «عرف بعضه» ، أي : جاز عليه ، من قولك للمسيء : لأعرفن لك ذلك ، وقد عرفت ما صنعت . ومنه : أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ، وهو كثير في القرآن؛ وكان جزاؤه تطليقه إياها . وقيل : المعرف : حديث الإمامة ، والمعرض عنه : حديث مارية : وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : ألم أقل لك اكتمي عليّ ، قالت : والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله بها أباها . فإن قلت : هلا قيل : فلما نبأت به بعضهن وعرفها بعضه؟ قلت : ليس الغرض بيان من المذاع إليه ومن المعرف ، وإنما هو ذكر جناية حفصة في وجود الإنباء به وإفشائه من قبلها ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرمه وحلمه ، لم يوجد منه إلا الإعلام ببعضه ، وهو حديث الإمامة . ألا ترى أنه لما كان المقصود في قوله : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا } ذكر المنبأ . كيف أتى بضميره .
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
{ إِن تَتُوبَا } خطاب لحفصة وعائشة على طريقة الالتفات ، ليكون أبلغ في معاتبتهما . وعن ابن عباس :
( 1211 ) لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عنهما حتى حج وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق عدل وعدلت معه بالإداوة ، فسكبت الماء على يده فتوضأ ، فقلت : من هما؟ فقال : عجباً يا ابن عباس كأنه كره ما سألته عنه ثم قال : هما حفصة وعائشة { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فقد وجد منكما ما يوجب التوبة ، وهو ميل قلوبكما عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه وكراهة ما يكرهه . وقرأ ابن مسعود : «فقد زاغت» { وَإِن تَظَاهَرَا } وإن تعاونا { عَلَيْهِ } بما يسوءه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره ، فلن يعدم هو من يظاهره ، وكيف يعدم المظاهر من الله [ مولاه ] أي وليه وناصره؛ وزيادة { هُوَ } إيذان بأن نصرته عزيمة من عزائمه ، وأنه يتولى ذلك بذاته { وَجِبْرِيلُ } رأس الكروبيين؛ وقرن ذكره بذكره مفرداً له من بين الملائكة تعظيماً له وإظهاراً لمكانته عنده { وصالح اْلمُؤْمِنِينَ } ومن صلح من المؤمنين ، يعني : كل من آمن وعمل صالحاً . وعن سعيد بن جبير : من برىء منهم من النفاق . وقيل : الأنبياء وقيل : الصحابة . وقيل : الخلفاء منهم . فإن قلت : صالح المؤمنين واحد أم جمع؟ قلت : هو واحد أريد به الجمع ، كقولك : لا يفعل هذا الصالح من الناس ، تريد الجنس ، كقولك : لا يفعله من صلح منهم . ومثله قولك : كنت في السامر والحاضر . ويجوز أن يكون أصله : صالحوا المؤمنين بالواو ، فكتب بغير واو على اللفظ؛ لأنّ لفظ الواحد والجمع واحد فيه ، كما جاءت أشياء في المصحف متبوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط { والملئكة } على تكاثر عددهم ، وامتلاء السموات من جموعهم { بَعْدَ ذَلِكَ } بعد نصرة الله وناموسه وصالحي المؤمنين { ظَهِيرٌ } فوج مظاهر له ، كأنهم يد واحدة على من يعاديه ، فما يبلغ تظاهر امرأتين علي من هؤلاء ظهراؤه؟ فإن قلت : قوله : { بَعْدَ ذَلِكَ } تعظيم للملائكة ومظاهرتهم . وقد تقدّمت نصرة الله وجبريل وصالح المؤمنين ، ونصرة الله تعالى أعظم وأعظم . قلت : مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله ، فكأنه فضل نصرته تعالى بهم وبمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته تعالى ، لفضلهم على جميع خلقه . وقرىء : «تظاهرا» وتتظاهرا . وتظهرا .
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
قرىء : «يبدله» ، بالتخفيف والتشديد للكثرة { مسلمات مؤمنات } مقرّات مخلصات { سائحات } صائمات . وقرىء : «سيحات» ، وهي أبلغ . وقيل للصائم : سائح؛ لأنّ السائح لا زاد معه ، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد ما يطعمه ، فشبه به الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره . وقيل : سائحات مهاجرات ، وعن زيد بن أسلم : لم تكن في هذه الأمّة سياحة إلى الهجرة . فإن قلت : كيف تكون المبدلات خيراً منهن ، ولم تكن على وجه الأرض نساء خير من أمّهات المؤمنين؟ قلت : إذا طلقهن رسول الله لعصيانهن له وإيذائهن إياه ، لم يبقين على تلك الصفة ، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والنزول على هواه ورضاه خيراً منهن ، وقد عرض بذلك في قوله : { قانتات } لأنّ القنوت هو القيام بطاعة الله ، وطاعة الله في طاعة رسوله . فإن قلت : لم أخليت الصفات كلها عن العاطف ووسط بين الثيبات والأبكار؟ قلت : لأنهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات ، فلم يكن بدّ من الواو .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
{ قُواْ أَنفُسَكُمْ } بترك المعاصي وفعل الطاعات { وَأَهْلِيكُمْ } بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم . وفي الحديث :
( 1212 ) " رحم الله رجلاً قال يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعلّ الله يجمعهم معه في الجنة " وقيل : إنّ أشد الناس عذاباً يوم القيامة من جهل أهله . وقرىء : «وأهلوكم» ، عطفاً على واو { قوا } وحسن العطف للفاصل . فإن قلت : أليس التقدير : قوا أنفسكم ، وليق أهلوكم أنفسهم؟ قلت : لا ، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو ، وأنفسكم واقع بعده ، فكأنه قيل : قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه ، فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب { نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة } نوعاً من النار لا يتقد إلا بالناس والحجارة ، كما يتقد غيرها من النيران بالحطب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي حجارة الكبريت ، وهي أشدّ الأشياء حراً إذا أوقد عليها . وقرىء : «وقودها» بالضم ، أي ذو وقودها { عليها } يلي أمرها وتعذيب أهلها { ملائكة } يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم { غِلاَظٌ شِدَادٌ } في أجرامهم غلظة وشدّة ، أي : جفاء وقوّة . أو في أفعالهم جفاء وخشونة ، لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله والغضب له والانتقام من أعدائه { مَا أَمَرَهُمْ } في محل النصب على البدل ، أي : لا يعصون ما أمر الله . أي : أمره ، كقوله تعالى : { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } [ طه : 93 ] أو لا يعصونه فيما أمرهم . فإن قلت : أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت : لا ، فإنّ معنى الأولى أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ، ومعنى الثانية : أنهم يؤدون ما يؤمرون به لا يتثافلون عنه ولا يتوانون فيه . فإن قلت : قد خاطب الله المشركين المكذبين بالوحي بهذا بعينه في قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التى وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] وقال : { أُعِدَّتْ للكافرين } [ البقرة : 24 ] فجعلها معدّة للكافرين ، فما معنى مخاطبته به بالمؤمنين؟ قلت : الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار ، فإنهم مساكنون الكفار في دار واحدة فقيل للذين آمنوا : قوا أنفسكم باجتناب الفسوق مساكنة الكفار الذين أعدت لهم هذه النار الموصوفة . ويجوز أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد ، والندم على الدخول في الإسلام ، وأن يكون خطاباً للذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون؛ ويعضد ذلك قوله تعالى على أثره { ياأيها الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 7 ) } أي : يقال لهم ذلك عند دخولهم النار لا تعتذروا ، لأنه لا عذر لكم . أو لأنه لا ينفعكم الاعتذار .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
{ تَوْبَةً نَّصُوحاً } وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازى؛ والنصح : صفة التائبين ، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم ، فيأتوا بها على طريقها متداركة للفرطات ماحية للسيئات ، وذلك : أن يتوبوا عن القبائح لقبحها ، نادمين عليها ، مغتمين أشدّ الاغتمام لارتكابها ، عازمين على أنهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلى أن يعود اللبن في الضرع ، موطنين أنفسهم على ذلك . وعن علي رضي الله تعالى عنه : أنه سمع أعرابياً يقول : اللهم إني استغفرك وأتوب إليك ، فقال : يا هذا ، إنّ سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين . قال : وما التوبة؟ قال : يجمعها ستة أشياء : على الماضي من الذنوب : الندامة ، وللفرائض : الإعادة ، ورد المظالم ، واستحلال الخصوم ، وأن تعزم على أن لا تعود ، وأن تذيب نفسك في طاعة الله ، كما ربيتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي . وعن حذيفة : بحسب الرجل من الشر أن يتوب عن الذنب ثم يعود فيه . وعن شهر بن حوشب : أن لا يعود ولو حز بالسيف وأحرق بالنار . وعن ابن السماك : أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من الله أمام عينك وتستعد لمنتظرك . وقيل : توبة لا يتاب منها . وعن السدي : لا تصح التوبة إلا بنصيحة النفس والمؤمنين ، لأن من صحت توبته أحب أن يكون الناس مثله . وقيل : نصوحاً من نصاحة الثوب ، أي : توبة ترفو خروقك في دينك ، وترمّ خَلّك . وقيل : خالصة ، من قولهم : عسل ناصح إذا خلص من الشمع . ويجوز أن يراد : توبة تنصح الناس ، أي : تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها ، واستعماله الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها . وقرأ زيد بن علي «توبا نصوحا» وقرىء : «نصوحا» بالضم ، وهو مصدر نصح . والنصح والنصوح ، كالشكر والشكور ، والكفر والكفور أي : ذات نصوح . أو تنصح نصوحاً . أو توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له { عسى رَبُّكُمْ } إطماع من الله لعباده ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن يكون على ما جرت به عادة الجبابرة من الإجابة بعسى ولعل . ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت . والثاني : أن يجيء به تعليماً للعباد وجوب الترجح بين الخوف والرجاء ، والذي يدل على المعنى الأول وأنه في معنى البت : قراءة ابن أبي عبلة : «ويدخلكم بالجزم» ، عطفاً على محل ( عسى أن يكفر ) كأنه قيل : توبوا يوجب لكم تكفير سيآتكم ويدخلكم { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله } نصب بيدخلكم ، ولا يخزي : تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسوق ، واستحماد إلى المؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم { يسعىنورهم } على الصراط { أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } قال ابن عباس : يقولون ذلك إذا طفىء نور المنافقين إشفاقاً . وعن الحسن : الله متممه لهم ولكنهم يدعون تقرباً إلى الله ، كقوله تعالى :
{ واستغفر لِذَنبِكَ } [ غافر : 55 ] وهو مغفور له . وقيل : يقوله أدناهم منزلة ، لأنهم يعطون من النور قدر ما يبصرون به مواطىء أقدامهم ، لأنّ النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلاً . وقيل : السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط ، وبعضهم كالريح ، وبعضهم حبوا وزحفاً؛ فأولئك الذين يقولون : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } فإن قلت : كيف يشفقون والمؤمنون آمنون ، { أم من يأتي آمنا يوم القيامة } [ فصلت : 40 ] . { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ يونس : 62 ] ، { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الاكبر } [ الأنبياء : 103 ] أو كيف يتقربون وليست الدار دار تقرّب؟ قلت : أما الإشفاق فيجوز أن يكون على عادة البشرية وإن كانوا معتقدين الأمن . وأما التقرّب فلما كانت حالهم كحال المتقربين حيث يطلبون ما هو حاصل لهم من الرحمة : سماه تقرّبا .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
{ جاهد الكفار } بالسيف { والمنافقين } بالاحتجاج؛ واستعمل الغلظة والخشونة على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة . وعن قتادة : مجاهدة المنافقين لإقامة الحدود عليهم . وعن مجاهد : بالوعيد . وقيل : بإفشاء أسرارهم .
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم من غير إبقاء ولا محاباة ، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر؛ لأن عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله قطع العلائق وبت الوصل ، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد ، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبيا من أنبياء الله بحال امرأة نوح وامرأة لوط : لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج إغناء ما من عذاب الله { وَقِيلَ } لهما عند موتهما أو يوم القيامة : { ادخلا النار مَعَ } سائر { الداخلين } الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء . أو مع داخليها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط . ومثل حال المؤمنين في أنّ وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص شيئاً من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى ، مع كونها زوجة أعدى أعداء الله الناطق بالكلمة العظمى ، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين ، مع أنّ قومها كانوا كفاراً . وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأميّ المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشد ، لما في التمثيل من ذكر الكفر . ونحوه في التغليظ قوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين ، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله ، فإنّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين ، والتعريض بحفصة أرجح ، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله ، وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدا يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره . فإن قلت ، ما فائدة قوله : { مِّنْ عِبَادِنَا } ؟ قلت : لما كان مبنى التمثيل على وجود الصلاح في الإنسان كائناً من كان ، وأنه وحده هو الذي يبلغ به الفوز وينال ما عند الله : قال عبدين من عبادنا صالحين ، فذكر النبيين المشهورين العلمين بأنهما عبدان لم يكونا إلا كسائر عبادنا ، من غير تفاوت بينهما وبينهم إلا بالصلاح وحده إظهاراً وإبانة ، لأن عبداً من العباد لا يرجح عنده إلا بالصلاح لا غير ، وأن ما سواه مما يرجح به الناس عند الناس ليس بسبب للرجحان عنده . فإن قلت : ما كانت خيانتهما؟ قلت : نفاقهما وإبطانهما الكفر ، وتظاهرهما على الرسولين ، فامرأة نوح قالت لقومه : إنه مجنون ، وامرأة لوط دلت على ضيفانه . ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور لأنه سمج في الطباع نقيصة عند كل أحد ، بخلاف الكفر فإن الكفار لا يستسمجونه بل يستحسنونه ويسمونه حقاً ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما بغت امرأة نبي قط .
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
وامرأة فرعون : آسية بنت مزاحم . وقيل : هي عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت بتلقف عصا موسى الإفك ، فعذبها فرعون . عن أبي هريرة : أن فرعون وتد امرأته بأربعة أوتاد ، واستقبل بها الشمس؛ وأضجعها على ظهرها ، ووضع رحى على صدرها . وقيل : أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله فرقي بروحها ، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه . وعن الحسن : فنجاها الله أكرم نجاة؛ فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم فيها . وقيل : لما قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة : أريت بيتها في الجنة يبنى . وقيل : إنه من درة . وقيل : كانت تعذب في الشمس فتظلها الملائكة . فإن قلت : ما معنى الجمع بين عندك وفي الجنة؟ قلت طلبت القرب من رحمة الله والبعد من عذاب أعدائه ، ثم بينت مكان القرب بقولها : { فِى الجنة } أو أرادت ارتفاع الدرجة في الجنة وأن تكون جنتها من الجنان التي هي أقرب إلى العرش وهي جنات المأوى ، فعبرت عن القرب إلى العرش بقولها : { عِندَكَ } . { مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } من عمل فرعون . أو من نفس فرعون الخبيثة وسلطانه الغشوم ، وخصوصاً من عمله وهو : الكفر ، وعبادة الأصنام ، والظلم ، والتعذيب بغير جرم { وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين } من القبط كلهم . وفيه دليل على أنّ الاستعاذة بالله والالتجاء إليه ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل : من سير الصالحين وسنن الأنبياء والمرسلين : { فافتح بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ المؤمنين } ، [ الشعراء : 118 ] { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين } [ يونس : 86 ] . { فِيهِ } في الفرج . وقرأ ابن مسعود : فيها ، كما قرىء في سورة الأنبياء ، والضمير للجملة ، وقد مرّ لي في هذا الظرف كلام . ومن بدع التفاسير : أنّ الفرج هو جيب الدرع ، ومعنى أحصنته : منعته جبربل ، وأنه جمع في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها ، تسلية للأرامل وتطييباً لأنفسهنّ { وَصَدَّقَتْ } قرىء بالتشديد والتخفيف على أنها جعلت الكلمات والكتب صادقة ، يعني : وصفتها بالصدق ، وهو معنى التصديق بعينه . فإن قلت : فما في كلمات الله وكتبه؟ قلت : يجوز أن يراد بكلماته : صحفه التي أنزلها على إدريس وغيره ، سماها كلمات لقصرها ، وبكتبه : الكتب الأربعة ، وأن يراد جميع ما كلم الله به ملائكته وغيرهم ، وجميع ما كتبه في اللوح وغيره . وقرىء : «بكلمة الله وكتابه» ، أي : بعيسى وبالكتاب المنزل عليه وهو الإنجيل . فإن قلت : لم قيل { مِنَ القانتين } على التذكير؟ قلت : لأنّ القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين ، فغلب ذكوره على إناثه . و { مِنَ } للتبعيض ويجوز أن يكون لابتداء الغاية ، على أنهاولدت من القانتين؛ لأنها من أعقاب هرون أخي موسى صلوات الله عليهما .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 1213 ) " كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد . وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " وأما ما روي أنّ عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف سمى الله المسلمة؟ تعني مريم ، ولم يسم الكافرة؟ فقال : بغضاً لها : قالت : وما اسمها؟ قال : اسم امرأة نوح «واعلة» واسم امرأة لوط «واهلة» فحديث أثر الصنعة عليه ظاهر بين ، ولقد سمى الله تعالى جماعة من الكفار بأسمائهم وكناهم ، ولو كانت التسمية للحب وتركها للبغض لسمى آسية ، وقد قرن بينها وبين مريم في التمثيل للمؤمنين ، وأبى الله إلا أن يجعل للمصنوع أمارة تنم عليه ، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكم وأسلم من ذلك .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1214 ) " من قرأ سورة التحريم آتاه الله توبة نصوحاً " .
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
{ تبارك } تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين { الذى بِيَدِهِ الملك } على كل موجود { وَهُوَ على كُلِّ } ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة { قَدِيرٌ } وذكر اليد مجاز عن الإحاطة بالملك والاستيلاء عليه . والحياة : ما يصح بوجوده الإحساس . وقيل : ما يوجب كون الشيء حياً ، وهو الذي يصح منه أن يعلم ويقدر . والموت عدم ذلك فيه ، ومعنى خلق الموت والحياة : إيجاد ذلك المصحح وإعدامه . والمعنى : خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون { لِيَبْلُوَكُمْ } وسمى علم الواقع منهم باختيارهم «بلوى» وهي الخبرة استعارة من فعل المختبر . ونحوه قوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ } [ محمد : 31 ] . فإن قلت : من أين تعلق قوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } بفعل البلوى؟ قلت : من حيث أنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملا؛ وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه ، كما تقول : علمته هو أحسن عملا . فإن قلت : أتسمي هذا تعليقاً؟ قلت : لا ، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعاً ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق . ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدراً بحرف الإستفهام وغير مصدر به ، ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك : علمت أزيد منطلق . وعلمت زيداً منطلقاً : { أَحْسَنُ عَمَلاً } . قيل : أخلصه وأصوبه؛ لأنه إذا كان خالصاً غير صواب لم يقبل ، وكذلك إذا كان صواباً غير خالص؛ فالخالص : أن يكون لوجه الله تعالى؛ والصواب : أن يكون على السنة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلاها ، فلما بلغ قوله : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } قال :
( 1215 ) " أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله " يعني : أيكم أتم عقلا عن الله وفهما لأغراضه؛ والمراد : أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل وتستمكنون منه ، وسلط علكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح ، لأن وراءه البعث والجزاء الذي لا بد منه . وقدم الموت على الحياة ، لأنّ أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم { وَهُوَ العزيز } الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل { الغفور } لمن تاب من أهل الإساءة { طِبَاقاً } مطابقة بعضها فوق بعض ، من طابق النعل : إذا خصفها طبقاً على طبق ، وهذا وصف بالمصدر . أو على ذات طباق ، أو على : طوبقت طباقاً { مِن تفاوت } وقرىء : «من تفوت» ، ومعنى البناءين واحد ، كقولهم : تظاهروا من نسائهم . وتظهروا . وتعاهدته وتعهدته ، أي : من اختلاف واضطراب في الخلقة ولا تناقض؛ إنما هي مستوية مستقيمة .
وحقيقة التفاوت : عدم التناسب ، كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه . ومنه قولهم : خلق متفاوت . وفي نقيضه : متناصف . فإن قلت : كيف موقع هذه الجملة مما قبلها؟ قلت : هي صفة مشايعة لقوله : { طِبَاقاً } وأصلها : ما ترى فيهنّ من تفاوت ، فوضع مكان الضمير قوله : { خَلْقِ الرحمن } تعظيماً لخلقهنّ ، وتنبيهاً على سبب سلامتهنّ من التفاوت : وهو أنه خلق الرحمن ، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب ، والخطاب في ما ترى للرسول أو لكل مخاطب . وقوله تعالى : { فارجع البصر } متعلق به على معنى التسبيب؛ أخبره بأنه لا تفاوت في خلقهنّ ، ثم قال : { فارجع البصر } حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة ، ولا تبقى معك شبهة فيه { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } من صدوع وشقوق : جمع فطر وهو الشق . يقال : فطره فانفطر . ومنه : فطر ناب البعير ، كما يقال : شق وبزل . ومعناه : شق اللحم فطلع . وأمره بتكرير البصر فيهنّ متصفحاً ومتتبعاً يلتمسُ عيباً وخللاً { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ } أي إن رجعت البصر وكررت النظر لم يرجع إليك بصرك بما التمسته من رؤية الخلل وإدراك العيب ، بل يرجع إليك بالخسوء والحسور ، أي : بالبعد عن إصابة الملتمس ، كأنه يطرد عن ذلك طرداً بالصغار والقماءة ، وبالإعياء والكلال لطول الإجالة والترديد . فإن قلت : كيف ينقلب البصر خاسئاً حسيراً برجعه كرّتين اثنتين؟ قلت : معنى التثنية التكرير بكثرة ، كقولك : لبيك وسعديك ، تريد إجابات كثيرة بعضها في أثر بعض ، وقولهم في المثل : دهدرّين سعد القين من ذلك ، أي : باطلاً بعد باطل . فإن قلت : فما معنى ثم ارجع؟ قلت : أمره برجع البصر ، ثم أمره بأن لا يقتنع بالرجعة الأولى وبالنظرة الحمقاء ، وأن يتوقف بعدها ويجم بصره ، ثم يعاود ويعاود ، إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة ، فإنه لا يعثر على شيء من فطور .
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
{ الدنيا } القربى؛ لأنها أقرب السموات إلى الناس ، ومعناها : السماء الدنيا منكم . والمصابيح السرج ، سميت بها الكواكب ، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بأثقاب المصابيح ، فقيل : ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها { بمصابيح } أي بأي مصابيح لا توازيهامصابيحكم إضاءة ، وضممنا إلى ذلك منافع أخر : أنا ( جعلنا رجوما ) لأعدائكم : ( للشياطين ) الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات وتهتدون بها في ظلمات البر والبحر . قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها . فمن تأوّل فيها غير ذلك فقد تكلف مالا علم له به وعن محمد بن كعب : في السماء والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم ، ولكنهم يبتغون الكهانة ويتخذون النجوم علة . والرجوم : جمع رجم : وهو مصدر سمي به ما يرجم به . ومعنى كونها مراجم للشياطين : أنّ الشهب التي تنقض لرمي المسترقة منهم منفصلة من نار الكواكب ، لا أنهم يرجمون بالكواكب أنفسها؛ لأنها قارة في الفلك على حالها . وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار ، والنار ثابتة كاملة لا تنقص . وقيل : من الشياطين المرجومة من يقتله الشهاب . ومنهم من يخبله . وقيل : معناه وجعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم النجامون . { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } في الآخرة بعد عذاب الإحراق بالشهب في الدنيا .
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } أي : ولكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم { عَذَابُ جَهَنَّمَ } ليس الشياطين المرجومين مخصوصين بذلك . وقرىء : «عذاب جهنم» بالنصب عطفاً على عذاب السعير { إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا } أي طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة ، ويرمى به . ومثله قوله تعالى : { حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] . { سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا } إمّا لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها . أو من أنفسهم ، كقوله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [ هود : 106 ] وإما للنار تشبيهاً لحسيسها المنكر الفظيع بالشهيق { وَهِىَ تَفُورُ } تغلي بهم غليان المرجل بما فيه . وجعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم ، ويقولون : فلان يتميز غيظاً ويتقصف غضباً ، وغضب فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء : إذا وصفوه بالإفراط فيه . ويجوز أن يراد : غيظ الزبانية { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } توبيخ يزدادون به عذاباً إلى عذابهم وحسرة إلى حسرتهم . وخزنتها : مالك وأعوانه من الزبانية { قَالُواْ بلى } اعتراف منهم بعدل الله ، وإقرار بأن الله عز وعلا أزاح عللهم ببعثه الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه ، وأنهم لم يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة؛ وإنما أتوا من قبل أنفسهم ، واختيارهم خلاف ما اختار الله وأمر به وأوعد على ضده . فإن قلت : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ } من المخاطبون به؟ قلت : هو من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين ، على أنّ النذير بمعنى الإنذار . والمعنى : ألم يأتكم أهل نذير . أو وصف منذروهم لغلوهم في الإنذار ، كأنهم ليسوا إلا إنذاراً؛ وكذلك { قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ } ونظيره قوله تعالى : { إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] أي حاملاً رسالته . ويجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول : أرادوا حكاية ما كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا . أو أرادوا بالضلال؛ الهلاك . أو سموا عقاب الضلال باسمه . أو من كلام الرسل لهم حكوه الخزنة ، أي قالوا لنا هذا فلم نقبله { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ } الإنذار سماع طالبين للحق . أي نعقله عقل متأمّلين . وقيل : إنما جمع بين السمع والعقل؛ لأنّ مدار التكليف على أدلة السمع والعقل . ومن بدع التفاسير : أنّ المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي ، كأنّ هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين ، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم ، وكأن من كان من هؤلاء فهو من الناجين لا محالة؛ وعدّة المبشرين من الصحابة : عشرة ، لم يضم إليهم حادي عشر ، وكأن من يجوز على الصراط أكثرهم لم يسمعوا باسم هذين الفريقين { بِذَنبِهِمْ } بكفرهم في تكذيبهم الرسل { فَسُحْقًا } قرىء بالتخفيف والتثقيل ، أي : فبعداً لهم ، اعترفوا أو جحدوا؛ فإنّ ذلك لا ينفعهم .
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
ظاهره الأمر بأحد الأمرين : الإسرار والإجهار . ومعناه : ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما ، ثم أنه علله ب ( بإنه عليم بذات الصدور ) أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها ، فكيف لا يعلم ما تكلم به . ثم أنكر أن لا يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر { مَنْ خَلَقَ } الأشياء ، وحاله أنه اللطيف الخبير ، المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن . ويجوز أن يكون { مَنْ خَلَقَ } منصوباً بمعنى : ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله . وروي أنّ المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء ، فيظهر الله رسوله عليها ، فيقولون : أسروا قولكم لئلا يسمعه إله محمد ، فنبه الله على جهلهم . فإن قلت : قدرت في { أَلاَ يَعْلَمُ } مفعولاً على معنى : ألا يعلم ذلك المذكور مما أضمر في القلب وأظهر باللسان من خلق ، فهلا جعلته مثل قولهم : هو يعطي ويمنع؛ وهلا كان المعنى : ألا يكون عالماً من هو خالق؛ لأنّ الخلق لا يصح إلا مع العلم؟ قلت : أبت ذلك الحال التي هي قوله : { وَهُوَ اللطيف الخبير } لأنك لو قلت : ألا يكون عالماً من هو خالق وهو اللطيف الخبير : لم يكن معنى صحيحاً؛ لأنّ ألا يعلم معتمد على الحال . والشيء لا يوقت بنفسه ، فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
المشي في مناكبها : مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية؛ لأنّ المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك . وقيل : مناكبها جبالها . قال الزجاج : معناه سهل لكم السلوك في جبالها ، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها ، فهو أبلغ التذليل . وقيل : جوانبها . والمعنى : وإليه نشوركم ، فهو مسائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم .
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
{ مَّن فِى السمآء } فيه وجهان : أحدهما من ملكوته في السماء؛ لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه . والثاني : أنهم كانوا يعتقدون التشبيه ، وأنه في السماء ، وأنّ الرحمة والعذاب ينزلان منه ، وكانوا يدعونه من جهتها ، فقيل لهم على حسب اعتقادهم : أأمنتم من تزعمون أنه في السماء ، وهو متعال عن المكان أن يعذبكم بخسف أو بحاصب ، كما تقول لبعض المشبهة : أما تخاف من فوق العرش أن يعاقبك بما تفعل ، إذا رأيته يركب بعض المعاصي { فَسَتَعْلَمُونَ } قرىء : بالتاء والياء { كَيْفَ نَذِيرِ } أي إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم { صافات } باسطات أجنحتهنّ في الجوّ عند طيرانها؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً { وَيَقْبِضْنَ } ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن . فإن قلت : لم قيل : ويقبضن ، ولم يقل : وقابضات؟ قلت : لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة؛ لأنّ الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مدّ الأطراف وبسطها . وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل ، على معنى أنهن صافات ، ويكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن } بقدرته وبما دبر لهن من القوادم والخوافي ، وبني الأجسام على شكل وخصائص قد تأتى منها الجري في الجو { إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ } يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب .
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
{ أَمَّنْ } يشار إليه من الجموع ويقال { هذا الذى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الله } إن أرسل عليكم عذابه { أَمَّنْ } يشار إليه ويقال { هذا الذى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } وهذا على التقدير . ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم ، فكأنهم الجند الناصر والرازق . ونحوه قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا } [ الأنبياء : 43 ] . { بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } بل تمادوا في عناد وشراد عن الحق لثقله عليهم فلم يتبعوه .
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
يجعل «أكب» مطاوع «كبه» يقال : كببته فأكب ، من الغرائب والشواذ . ونحوه : قشعت الريح السحاب فأقشع ، وما هو كذلك؛ ولا شيء من بناء أفعل مطاوعاً ، ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه؛ وإنما «أكب» من باب «انفض ، وألأم» ومعناه : دخل في الكب ، وصار ذا كب؛ وكذلك أقشع السحاب : دخل في القشع . ومطاوع كب وقشع : انكب وانقشع . فإن قلت ما معنى { يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ } ؟ وكيف قابل { يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صراط مُّسْتَقِيمٍ } ؟ قلت : معناه : يمشي معتسفاً في مكان معتاد غير مستو فيه انخفاض وارتفاع ، فيعثر كل ساعة فيخر على وجهه منكباً ، فحاله نقيض حال من يمشي سوياً ، أي : قائماً سالماً من العثور والخرور . أو مستوي الجهة قليل الانحراف خلاف المعتسف الذي ينحرف هكذا وهكذا على طريق مستو . ويجوز أن يراد الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف ، فلا يزال ينكب على وجهه ، وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصر الماشي في الطريق المهتدي له ، وهو مثل للمؤمن والكافر . وعن قتادة : الكافر أكب على معاصي الله تعالى فحشره الله يوم القيامة على وجهه . وعن الكلبي : عنى به أبو جهل بن هشام . وبالسويّ : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
{ فَلَمَّا رَأَوْهُ } الضمير للوعد . والزلفة : القرب ، وانتصابها على الحال أو الظرف ، أي : رأوه ذا زلفة أو مكاناً ذا زلفة { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } أي ساءت رؤية الوعد وجوههم : بأن علتها الكآبة وغشيها الكسوف والقترة ، وكلحوا ، وكما يكون وجه من يقاد إلى القتل أو يعرض على بعض العذاب { وَقِيلَ } القائلون : الزبانية { تَدَّعُونَ } تفتعلون من الدعاء ، أي : تطلبون وتستعجلون به . وقيل : هو من الدعوى ، أي : كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون . وقرىء : «تدعون» ، وعن بعض الزهاد : أنه تلاها في أول الليل في صلاته ، فبقي يكررها وهو يبكي إلى أن نودي لصلاة الفجر ، ولعمري إنها لوقاذة لمن تصور تلك الحالة وتأملها .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)
كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك ، فأمر بأن يقول لهم : نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنيين : إما أن نهلك كما تتمنون فننقلب إلى الجنة ، أو نرحم بالنصرة والإدالة للإسلام كما نرجو ، فأنتم ما تصنعون؟ من يجيركم - وأنتم كافرون - من عذاب النار؟ لا بدّ لكم منه ، يعني : إنكم تطلبون لنا الهلاك الذي هو استعجال للفوز والسعادة ، وأنتم في أمر هو الهلاك الذي لا هلاك بعده ، وأنتم غافلون لا تطلبون الخلاص منه . أو إن أهلكنا الله بالموت فمن يجيركم بعد موت هداتكم ، والآخذين بحجزكم من النار ، وإن رحمنا بالإمهال والغلبة عليكم وقتلكم فمن يجيركم؛ فإنّ المقتول على أيدينا هالك . أو إن أهلكنا الله في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون ، فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم؛ وإن رحمنا بالإيمان فيمن يجير من لا إيمان له .
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)
فإن قلت لم أخر مفعول آمنا وقدم مفعول توكلنا؟ قلت : لوقوع آمنا تعريضاً بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم ، كأنه قيل : آمنا ولم نكفر كما كفرتم ، ثم قال : وعليه توكلنا خصوصاً لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{ غوراً } غائراً ذاهباً في الأرض . وعن الكلبي لا تناله الدلاء ، وهو وصف بالمصدر كعدل ورضا . وعن بعض الشطار أنها تليت عنده فقال : تجيء به الفؤوس والمعاول ، فذهب ماء عينيه؛ نعوذ بالله من الجراءة على الله وعلى آياته .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1216 ) « من قرأ سورة الملك فكأنما أحيا ليلة القدر » .
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
قرىء : «ن والقلم» بالبيان والإدغام ، وبسكون النون وفتحها وكسرها ، كما في ص . والمراد هذا الحرف من حروف المعجم : وأمّا قولهم : هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي؟ ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً أو علماً ، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوين ، وإنّ كان علماً فأين الإعراب ، وأيهما كان فلا بد له من موقف في تأليف الكلام . فإن قلت : هو مقسم به وجب إن كان جنساً أن تجرّه وتنوّنه ، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة ، كأنه قيل : ودواة والقلم ، وإن كان علماً أن تصرفه وتجرّه ، أو لا تصرفه وتفتحه للعلمية والتأنيث ، وكذلك التفسير بالحوت : إما أن يراد نون من النينان ، أو يجعل علماً للبهموت الذي يزعمون ، والتفسير باللوح من نور أو ذهب ، والنهر في الجنة نحو ذلك ، وأقسم بالقلم : تعظيماً له ، لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة ، ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف { وَمَا يَسْطُرُونَ } وما يكتب من كتب وقيل ما يسطره الحفظة وما موصولة أو مصدرية ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في { يَسْطُرُونَ } لهم كأنه قيل : وأصحاب القلم ومسطوراتهم . أو وسطورهم ، ويراد بهم كل ما يسطر ، أو الحفظة .
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
فإن قلت : بم يتعلق الباء في { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } وما محله؟ قلت : يتعلق بمجنون منفياً ، كما يتعلق بعاقل مثبتاً في قولك : أنت بنعمة الله عاقل ، مستوياً في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً ، وما ضرب زيد عمراً : تعمل الفعل مثبتاً ومنفياً إعمالاً واحداً؛ ومحله النصب على الحال ، كأنه قال : ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك؛ ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله ، لأنها زائدة لتأكيد النفي . والمعنى؛ استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسداً ، وأنه من إنعام الله عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوّة ، بمنزلة { وَإِنَّ لَكَ } على احتمال ذلك وإساغة الغصة فيه والصبر عليه { لأجْرًا } لثواباً { غَيْرَ مَمْنُونٍ } غير مقطوع كقوله : { عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] أو غير ممنون عليك به ، لأنّه ثواب تستوجبه على عملك ، وليس بتفضل ابتداء؛ وإنما تمنّ الفواضل لا الأجور على الأعمال .
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
استعظم خلقه لفرط احتماله الممضات من قومه وحسن مخالقته ومداراته لهم . وقيل : هو الخلق الذي أمره الله تعالى به في قوله تعالى : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] وعن عائشة رضي الله عنها :
( 1217 ) أن سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، ألست تقرأ القرآن : قد أفلح المؤمنون .
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
{ المفتون } المجنون ، لأنه فتن : أي محن بالجنون . أو لأن العرب يزعمون أنه من تخبيل الجن ، وهم الفتان للفتاك منهم ، والباء مزيدة . أو المفتون مصدر كالمعقول والمجلود ، أي : بأيكم الجنون ، أو بأي الفريقين منكم الجنون ، أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين؟ أي : في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم : وهو تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأضرابهما ، وهذا كقوله تعالى : { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر } [ القمر : 26 ] .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
{ إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ } بالمجانين على الحقيقة ، وهم الذين ضلوا عن سبيله { وَهُوَ أَعْلَمُ } بالعقلاء وهم المهتدون . أو يكون وعيداً ووعداً ، وأنه أعلم بجزاء الفريقين { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم ، وكانوا قد أرادوه على أن يعبد الله مدة ، وآلهتهم مدة ، ويكفوا عنه غوائلهم { لَوْ تُدْهِنُ } لو تلين وتصانع { فَيُدْهِنُونَ } فإن قلت : لم رفع { فَيُدْهِنُونَ } ولم ينصب بإضمار ( أن ) وهو جواب التمني؟ قلت : قد عدل به إلى طريق آخر : وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهم يدهنون ، كقوله تعالى : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ } [ الجن : 13 ] على معنى : ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذٍ . أو ودوا إدهانك فهم الآن يدهنون؛ لطمعهم في إدهانك . قال سيبويه : وزعم هرون أنها في بعض المصاحف ودوا لو تدهن فيدهنوا .
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
{ حَلاَّفٍ } كثير الحلف في الحق والباطل ، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف . ومثله قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عرضةلأيمانكم } [ البقرة : 224 ] . { مُّهِينٍ } من المهانة وهي القلة والحقارة ، يريد القلة في الرأي والتمييز . أو أراد الكذاب لأنه حقير عند الناس { هَمَّازٍ } عياب طعان . وعن الحسن . يلوى شدقيه في أقفية الناس { مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } مضرب نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم . والنميم والنميمة : السعاية ، وأنشدني بعض العرب :
تَشَبَّبِي تَشَبُّبَ النَّمِيمَهْ ... تَمْشِي بِهَا زَهْرَا إِلَى تَمِيمَهْ
{ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ } بخيل . والخير : المال . أو مناع أهه الخير وهو الإسلام ، فذكر الممنوع منه دون الممنوع ، كأنه قال : مناع من الخير . قيل : هو الوليد بن المغيرة المخزومي : كان موسراً ، وكان له عشرة من البنين ، فكان يقول لهم وللحمته : من أسلم منكم منعته رفدي عن ابن عباس . وعنه : أنه أبو جهل . وعن مجاهد : الأسود بن عبد يغوث . وعن السدي : الأخنس بن شريق ، أصله في ثقيف وعداده في زهرة ، ولذلك قيل : زنيم { مُعْتَدٍ } مجاوز في الظلم حده { أَثِيمٍ } كثير الآثام { عُتُلٍّ } غليظ جاف ، من عتله : إذا قاده بعنف وغلظة { بَعْدَ ذَلِكَ } بعدما عدّ له من المثالب والنقائص { زَنِيمٍ } دعي . قال حسان :
وَأنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ فِي ءَالِ هَاشِم ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ
وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم ، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده . وقيل : بغت أمّه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية ، جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه ، لأنه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية ، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشىء منها . ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1218 ) " لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده " و { بَعْدَ ذَلِكَ } نظير ( ثم ) في قوله : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } [ البلد : 17 ] وقرأ الحسن : «عتل» رفعاً على الذم وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك . والزنيم : من الزنمة وهي الهنة من جلد الماعزة تقطع فتخلى معلقة في حلقها ، لأنه زيادة معلقة بغير أهله { أَن كَانَ ذَا مَالٍ } متعلق بقوله : { وَلاَ تُطِعْ } يعني ولا تطعه مع هذه المثالب ، لأن كل ذا مال . أي : ليساره وحظه من الدنيا . ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى : لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين كذب آياتنا ولا يعمل فيه { قَالَ } الذي هو جواب إذا ، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب . وقرىء : «أأن كان»؟ على الاستفهام على : إلا لأن كان ذا مال وبنين ، كذب .
أو أتطيعه لأن كان ذا مال . وروى الزبيري عن نافع : إن كان ، بالكسر والشرط للمخاطب ، أي : لا تطع كل حلاف شارطاً يساره ، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ، ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجي إليه في قوله تعالى : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } [ طه : 44 ] الوجه : أكرم موضع في الجسد ، والأنف أكرم موضع من الوجه لتقدمه له ، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية ، واشتقوا منه الأنفة . وقالوا الأنف في الأنف ، وحمى أنفه ، وفلان شامخ العرنين . وقالوا في الذليل : جدع أنفه ، ورغم أنفه ، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة ، لأن السمة على الوجه شين وإذالة ، فكيف بها على أكرم موضع منه ، ولقد :
( 1219 ) وسم العباس أباعره في وجوهها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكرموا الوجوه " فوسمها في جواعرها وفي لفظ «الخرطوم» استخفاف به واستهانة . وقيل معناه : سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يبين بها عن سائر الكفرة ، كما عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة بأن بها عنهم . وقيل : خطم يوم بدر بالسيف فبقيت سمة على خرطومه . وقيل : سنشهره بهذه الشتيمة في الدارين جميعاً ، فلا تخفى ، كما لا تخفى السمة على الخرطوم . وعن النضر بن شميل : أن الخرطوم الخمر ، وأن معناه : سنحده على شربها وهو تعسف . وقيل للخمر : الخرطوم ، كما قيل لها : السلافة . وهي ما سلف من عصير العنب . أو لأنها تطير في الخياشيم .
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
إنا بلونا أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم { كَمَا بلونا أصحاب الجنة } وهم قوم من أهل الصلاة كانت لأبيهم هذه الجنة دون صنعاء بفرسخين ، فكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي ، وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل ، وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب ، وما بقي على البساط الذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت ، فكان يجتمع لهم شيء كثير ، فلما مات قال بنوه : إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال ، فحلفوا ليصرمنها مصبحين في السدف خفية عن المساكين ، ولم يستثنوا في يمينهم ، فأحرق الله جنتهم . وقيل : كانوا من بني إسرائيل { مُصْبِحِينَ } داخلين في الصبح مبكرين { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ ( 18 ) } ولا يقولون إن شاء الله . فإن قلت : لم سمي استثناء ، وإنما هو شرط؟ قلت : لأنه يؤدي مؤدى الاستثناء ، من حيث إن معنى قولك : لأخرجنّ إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله . واحد { فَطَافَ عَلَيْهَا } بلاء أو هلاك { طَآئِفٌ } كقوله تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] وقرىء : «طيف» { فَأَصْبَحَتْ كالصريم ( 20 ) } كالمصرومة لهلاك ثمرها . وقيل : الصريم الليل ، أي . احترقت فاسودت . وقيل : النهار أي : يبست وذهبت خضرتها . أو لم يبق شيء فيها ، من قولهم : بيض الإناء ، إذا فرغه . وقيل الصريم الرمال { صارمين } حاصدين . فإن قلت : هلا قيل : اغدوا إلى حرثكم؛ وما معنى ( على ) ؟ قلت : لما كان الغدوّ إليه ليصرموه ويقطعوه : كان غدوّا عليه ، كما تقول : غداً عليهم العدوّ . ويجوز أن يضمن الغدوّ معنى الإقبال ، كقولهم : يفدى عليه بالجفنة ويراح ، أي : فأقبلوا على حرثكم باكرين { يتخافتون } يتسارّون فيما بينهم . وخفى ، وخفت ، وخفد : ثلاثتها في معنى الكتم؛ ومنه الخفدود للخفاش { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا } أن مفسرة . وقرأ ابن مسعود بطرحها بإضمار القول ، أي يتخافتون يقولون لا يدخلنها؛ والنهي عن الدخول للمسكين نهي لهم عن تمكينه منه ، أي : لا تمكنوه من الدخول حتى يدخل كقولك : لا أرينك ههنا . الحرد : من حردت السنة إذا منعت خيرها؛ وحردت الإبل إذا منعت درّها . والمعنىّ : وغدوا قادرين على نكد ، لا غير عاجزين عن النفع ، يعني أنهم عزموا أن يتنكدوا على المساكين ويحرموهم وهم قادرون على نفعهم ، فغدوا بحال فقر وذهاب مال لا يقدرون فيها إلا على النكد والحرمان ، وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان والمسكنة . أو وغدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها قادرين ، بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها ومنافعها ، أي : غدوا حاصلين على الحرمان مكان الانتفاع ، أو لما قالوا اغدوا على حرثكم وقد خبثت نيتهم : عاقبهم الله بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها ، فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد .
و { قادرين } من عكس الكلام للتهكم ، أي : قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين ، وعلى حرد ليس بصلة قادرين ، وقيل : الحرد بمعنى الحرد . وقرىء : «على حرد» ، أي لم يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهم على بعض ، كقوله تعالى : { يتلاومون } [ القلم : 30 ] وقيل : الحرد القصد والسرعة؛ يقال : حردت حردك . وقال :
أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ أمرِ اللَّهْ ... يَحْرُدُ حَرْدَ الْجَنَّةِ اْلمُغْلَّةْ
وقطا حراد : سراع ، يعني : وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة ونشاط ، قادرين عند أنفسهم ، يقولون : نحن نقدر على صرامها وزيّ منفعتها عن المساكين . وقيل : { حَرْدٍ } علم للجنة ، أي غدواً على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم . أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام والحرمان { قَالُواْ } في بديهة وصولهم { إِنَّا لَضَالُّونَ } أي ضللنا جنتنا ، وما هي بها لما رأوا من هلاكها؛ فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } حرمنا خيرها لجنايتنا على أنفسنا { أَوْسَطُهُمْ } أعدلهم وخيرهم ، من قولهم : هو من سطة قومه ، وأعطني من سطات مالك . ومنه قوله تعالى : { أُمَّةً وَسَطًا } [ البقرة : 143 ] . { لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نيتكم ، كأن أوسطهم قال لهم حين عزموا على ذلك : اذكروا الله وانتقامه من المجرمين ، وتوبوا عن هذه العزيمة الخبيثة من فوركم ، وسارعواإلى حسم شرها قبل حلول النقمة ، فعصوه فعيرهم . والدليل عليه قولهم : { سبحان رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظالمين } فتكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به على أثر مقارفة الخطيئة ، ولكن بعد خراب البصرة . وقيل : المراد بالتسبيح . الاستثناء لالتقائهما في معنى التعظيم لله ، لأنّ الاستثناء تفويض إليه ، والتسبيح تنزيه له؛ وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم . وعن الحسن : هو الصلاة ، كأنهم كانوا يتوانون في الصلاة؛ وإلاّ لنهتهم عن الفحشاء والمنكر ، ولكانت لهم لطفاً في أن يستثنوا ولا يحرموا { سُبْحَانَ رَبِّنَآ } سبحوا الله ونزهوه عن الظلم وعن كل قبيح ، ثم اعترفوا بظلمهم في منع المعروف وترك الاستثناء { يتلاومون } يلوم بعضهم بعضاً؛ لأنّ منهم من زين ، ومنهم من قبل ، ومنهم من أمر بالكف وعذر ومنهم من عصى الأمر ، ومنهم من سكت وهو راض { أَن يُبْدِلَنَا } قرىء بالتشديد والتخفيف { إلى رَبّنَا راغبون } طالبون منه الخير راجون لعفوه { كَذَلِكَ العذاب } مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا { وَلَعَذَابُ الأخرة } أشد وأعظم منه ، وسئل قتادة عن أصحاب الجنة : أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال : لقد كلفتني تعباً . وعن مجاهد : تابوا فأبدلوا خيراً منها . وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه : بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان : فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً .
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)
{ عِندَ رَبِّهِمْ } أي في الآخرة { جنات النعيم } ليس فيها إلا التنعم الخالص ، لا يشوبه ما ينغصه كما يشوب جنان الدنيا .
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)
كان صناديد قريش يرون وفور حظهم من الدنيا وقلة حظوظ المسلمين منها ، فإذا سمعوا بحديث الآخرة وما وعد الله المسلمين قالوا : إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم تكن حالهم وحالنا إلا مثل ما هي في الدنيا ، وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا ، وأقصى أمرهم أن يساوونا ، فقيل : أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين . ثم قيل لهم على طريقة الالتفات { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 36 ) } هذا الحكم الأعوج؟ كأنّ أمر الجزاء مفوّض إليكم حتى تحكموا فيه بما شئتم { أَمْ لَكُمْ كتاب } من السماء { تَدْرُسُونَ } في ذلك الكتاب أنّ ما تختارونه وتشتهونه لكم ، كقوله تعالى : { أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ ( 156 ) } فأتوا بكتابكم والأصل تدرسون أنّ لكم ما تخيرون ، بفتح أنّ؛ لأنه مدروس؛ فلما جاءت اللام كسرت . ويجوز أن تكون حكاية للدروس ، كما هو ، كقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين ( 78 ) سلام على نُوحٍ فِى العالمين ( 79 ) } [ الصافات : 78-79 ] . وتخير الشيء واختاره : أخذ خيره ، ونحوه : تنخله وانتخله : إذا أخذ منخوله . لفلان عليّ يمين بكذا : إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به ، يعني : أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد فإن قلت : بم يتعلق { إلى يَوْمِ القيامة } ؟ قلت : بالقدر في الظرف ، أي : هي ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة لا تخرج عن عهدتها إلا يومئذٍ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون . ويجوز أن يتعلق ببالغة ، على أنها تبلغ ذلكم اليوم وتنتهي إليه وافرة لم تبطل منها يمين إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم . وقرأ الحسن «بالغة» بالنصب على الحال من الضمير في الظرف { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } جواب القسم؛ لأنّ معنى { أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا } أم أقسمنا لكم .
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
{ أَيُّهُم بذلك } الحكم { زَعِيمٌ } أي قائم به وبالاحتجاج لصحته ، كما يقوم الزعيم المتكلم عن القوم المتكفل بأمورهم { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ } أي ناس يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم عليه ويذهبون مذهبهم فيه { فَلْيَأْتُواْ } بهم { إِن كَانُواْ صادقين } في دعواهم ، يعني : أنّ أحداً لا يسلم لهم هذا ولا يساعدهم عليه ، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به ، ولا عهد لهم به عند الله ، ولا زعيم لهم يقوم به .
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام : مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب ، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهنّ في الهرب ، وإبداء خدامهن عند ذلك . قال حاتم :
أَخُو الْحَرْبِ إنْ غَضَّتْ بِهِ الْحَرْبُ عَضَّهَا ... وَإنْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا الْحَرْبُ شَمَّرَا
وقال ابن الرقيات :
تُذْهِلُ الشَّيْخَ عَنْ بَنِيهِ وَتُبْدِي ... عَنْ خِدَامِ الْعَقِيلَةِ الْعَذْرَاءِ
فمعنى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } في معنى : يوم يشتدّ الأمر ويتفاقم ، ولا كشف ثم ولا ساق ، كماتقول للأقطع الشحيح : يده مغلولة ، ولا يد ثم ولا غل؛ وإنما هو مثل في البخل . وأما من شبه فلضيق عطنه وقلة نظره في علم البيان ، والذي غرّه منه حديث ابن مسعود رضي الله عنه :
( 1220 ) " يكشف الرحمن عن ساقه؛ فأمّا المؤمنون فيخرّون سجداً ، وأما المنافقون فتكون ظهورهم طبقاً طبقاً كأنّ فيها سفافيد " ومعناه : يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله ، وهو الفزع الأكبر يوم القيامة ، ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه ، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن . فإن قلت : فلم جاءت منكرة في التمثيل؟ قلت : للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة منكر خارج عن المألوف ، كقوله : { يَوْمَ يَدْعُو الداع إلى شَىْء نُّكُرٍ } [ القمر : 6 ] كأنه قيل : يوم يقع أمر فظيع هائل؛ ويحكى هذا التشبيه عن مقاتل : وعن أبي عبيدة : خرج من خراسان رجلان ، أحدهما : شبه حتى مثل ، وهو مقاتل بن سليمان ، والآخر نفي حتى عطل وهو جهم بن صفوان؛ ومن أحس بعظم مضارّ فقد هذا العلم علم مقدار عظم منافعه . وقرىء : «يوم نكشف» بالنون . وتكشف بالتاء على البناء للفاعل والمفعول جميعاً ، والفعل للساعة أو للحال ، أي : يوم تشتدّ الحال أو الساعة ، كما تقول : كشفت الحرب عن ساقها ، على المجاز . وقرىء : «تكشف» بالتاء المضمومة و كسر الشين ، من أكشف : إذا دخل في الكشف . ومنه . أكشف الرجل فهو مكشف ، إذا انقلبت شفته العليا . وناصب الظرف : فليأتوا . أو إضمار «اذكر» أو يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت ، فحذف للتهويل البليغ . وإن ثم من الكوائن ما لا يوصف لعظمه . عن ابن مسعود رضي الله عنه : تعقم أصلابهم واحداً ، أي ترد عظاماً بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض . وفي الحديث : وتبقى أصلابهم طبقا واحدا ، أيّ ، فقارة واحدة . فإن قلت : لم يدعون إلى السجود ولا تكليف؟ قلت : لا يدعون إليه تعبداً وتكليفاً ، ولكن توبيخاً وتعنيفاً على تركهم السجود في الدنيا ، مع إعقام أصلابهم والحيلولة بينهم وبين الاستطاعة تحسيراً لهم وتنديماً على ما فرّطوا فيه حين دعوا إلى السجود ، وهم سالمون الأصلاب والمفاصل يمكنون مزاحو العلل فيما تعبدوا به .
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
يقال : ذرني وإياه ، يريدون كله إليّ ، فإني أكفيكه ، كأنه يقول : حسبك إيقاعاً به أن تكل أمره إليّ وتخلي بيني وبينه ، فإني عالم بما يجب أن يفعل به مطيق له ، والمراد : حسبي مجازياً لمن يكذب بالقرآن ، فلا تشغل قلبك بشأنه وتوكل عليّ في الانتقام منه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتهديداً للمكذبين . استدرجه إلى كذا : إذا استنزله إليه درجة فدرجة ، حتى يورّطه فيه . واستدراج الله العصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة ، فيجعلوا رزق الله ذريعة ومتسلقاً إلى ازدياد الكفر والمعاصي { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج وهو الإنعام عليهم ، لأنهم يحسبونه إيثاراً لهم وتفضيلاً على المؤمنين ، وهو سبب لهلاكهم { وَأُمْلِى لَهُمْ } وأمهلهم ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] والصحة والرزق والمدّ في العمر : إحسان من الله وإفضال يوجب عليهم الشكر والطاعة ، ولكنهم يجعلونه سبباً في الكفر باختيارهم ، فلما تدرّجوا به إلى الهلاك وصف المنعم بالاستدراج . وقيل : كم من مستدرج بالإحسان إليه ، وكم من مفتون بالثناء عليه ، وكم من مغرور بالستر عليه . وسمي إحسانه وتمكينه كيداً كما سماه استدراجاً ، لكونه في صورة الكيد حيث كان سبباً للتورّط في الهلكة ، ووصفه بالمتانة لقوّة أثر إحسانه في التسبب للهلاك .
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
المغرم : الغرامة ، أي لم تطلب منهم على الهداية والتعليم أجراً ، فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم ، فيثبطهم ذلك عن الإيمان { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } أي اللوح { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } منه ما يحكمون به .
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
{ لِحُكْمِ رَبِّكَ } وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم { وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت } يعني : يونس عليه السلام { إِذْ نادى } في بطن الحوت { وَهُوَ مَكْظُومٌ } مملوء غيظاً ، من كظم السقاء إذا ملأه ، والمعنى : لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة ، فتبتلى ببلائه ، حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه . وقرأ ابن عباس وابن مسعود : «تداركته» . وقرأ الحسن : «تداركه» ، أي تتداركه على حكاية الحال الماضية ، بمعنى : لو أن كان يقال فيه تتداركه ، كما يقال : كان زيد سيقوم فمنعه فلان ، أي كان يقال فيه سيقوم . والمعنى : كان متوقعاً منه القيام . ونعمة ربه : أن أنعم عليه بالتوفيق للتوبة وتاب عليه . وقد اعتمد في جواب «لولا» على الحال ، أعني قوله : { وَهُوَ مَذْمُومٌ } يعني أنّ حاله كانت على خلاف الذمّ حين نبذ بالعراء ، ولولا توبته لكانت حاله على الذمّ . روى أنها نزلت بأحد حين حل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل به ، فأراد أن يدعو على الذين انهزموا . وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف . وقرىء : «رحمة من ربه» { فاجتباه رَبُّهُ } فجمعه إليه ، وقربه بالتوبة عليه ، كما قال : { ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى } [ طه : 122 ] { فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين } أي من الأنبياء . وعن ابن عباس : ردّ الله إليه الوحي وشفعه في نفسه وقومه .
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
إن مخففة من الثقيلة واللام علمها . وقرأ« ليزلقونك» بضم الياء وفتحها . وزلقه وأزلقه بمعنى : ويقال : زلق الرأس وأزلقه : حلقه ، وقرأ« ليزهقونك » من زهقت نفسه وأزهقها ، يعني : أنهم من شدة تحديقهم ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء ، يكادون يزلون قدمك أويهلكونك ، من قولهم نظر إلى نظرا يكاد يصرعني ، ويكاد يأكلني ، أي : لو أمكنه بنظره الصراع أو الأكل لفعله ، قال :
يتقارضون إذا التقوا في مَوْطِنٍ ... نظرا يزّل مواطىء الأقدامْ
وقيل كانت العين في بنى أسد ، فكان الرجل منهم يتجوّع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله إلا عانه ، فأريد بعض العيانين على أن يقول فى رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك ، فقال : لم أر كاليوم رجلا فعصمه لله . وعن الحسن : دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية { لما سمعوا الذكر } أي القرآن لم يملكوا أنفسهم حسدا على ما أوتيت من النبوة { ويقولون إنه لمجنون } حيرة فى أمره وتنفيرا عنه؛ وإلا فقد علموا أنه أعقلهم . والمعنى : أنهم جننوه لأجل القرآن { وماهو إلا ذكر } وموعظة { للعالمين } فكيف يجنن من جاء بمثله .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم "
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
{ الحاقة } الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء ، التي هي آتية لا ريب فيها . أو التي فيها حواق الأمور من الحساب والثواب والعقاب . أو التي تحق فيها الأمور ، أي : تعرف على الحقيقة ، من قولك لا أحق هذا ، أي : لا أعرف حقيقته . جعل الفعل لها وهو لأهلها وارتفاعها على الابتداء وخبرها { مَا الحآقة ( 2 ) } والأصل : الحاقة ما هي ، أي أيّ شيء هي تفخيماً لشأنها وتعظيماً لهولها ، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ لأنه أهول لها { وَمَآ أَدْرَاكَ } وأيّ شيء أعلمك ما الحاقة ، يعني : أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها ، عى أنه من العظم والشدة بحيث لا يبلغه دراية أحد ولا وهمه ، وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك ، و ( ما ) في موضع الرفع على الابتداء . و { أَدْرَاكَ } معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام . ( القارعة ) التي تقرع الناس بالأفزاع والأهوال ، والسماء بالانشقاق والإنفطار ، والأرض والجبال بالدك والنسف ، والنجوم بالطمس والانكدار . ووضعت موضع الضمير لتدل على معنى القرع . في الحاقة : زيادة في وصف شدتها؛ ولما ذكرها وفخمها أتبع ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب ، تذكيراً لأهل مكة وتخويفاً لهم من عاقبة تكذيبهم { بالطاغية } بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة . واختلف فيها ، فقيل : الرجفة . وعن ابن عباس : الصاعقة . وعن قتادة : بعث الله عليهم صيحة فأهمدتهم . وقيل : الطاغية مصدر كالعافية ، أي : بطغيانهم؛ وليس بذاك لعدم الطباق بينها وبين قوله { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } والصرصر : الشديدة الصوت لها صرصرة . وقيل : الباردة من الصر ، كأنها التي كرر فيها البرد وكثر : فهي تحرق لشدة بردها { عَاتِيَةٍ } شديدة العصف والعتو استعارة . أو عتت على عاد ، فما قدروا على ردّها بحيلة ، من استتار ببناء ، أو لياذ بجبل ، أو اختفاء في حفرة؛ فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم . وقيل : عتت على خزانها ، فخرجت بلا كيل ولا وزن : وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 1222 ) « ما أرسل الله سفينة من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال إلا يوم عاد ويوم نوح ، فإنّ الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه السبيل » ، ثم قرأ : { إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء حملناكم فِى الجارية } [ الحاقة : 11 ] « وإن الريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل » ثم قرأ { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط فيها . الحسوم : لا يخلو من أن يكون جمع حاسم كشهود وقعود . أو مصدراً كالشكور والكفور؛ فإن كان جمعاً فمعنى قوله : { حُسُوماً } نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة . أو متتابعة هبوب الرياح : ماخفتت ساعة حتى أتت عليهم تمثيلاً لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء ، مرة بعد أخرى حتى ينحسم .