كتاب : الكشاف
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري
وقوله : { لِيَهْلِكَ } بدل منه . واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام ، أي ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة ، لا عن مخالجة شبهة ، حتى لا تبقى له على الله حجة ، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به وذلك أن ما كان من وقعة بدر من الآيات الغرّ المحجلة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها . وقرىء : «ليهلك» بفتح اللام وحي ، بإظهار التضعيف { لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } يعلم كيف يدبر أموركم ويسوي مصالحكم . أو لسميع عليم بكفر من كفر وعقابه ، وبإيمان من آمن وثوابه .
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ الله } نصبه بإضمار اذكر . أو هو بدل ثان من يوم الفرقان ، أو متعلق بقوله { لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك { فِى مَنَامِكَ } في رؤياك . وذلك أن الله عزّ وجل أراه في رؤياه قليلاً ، فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم . وعن الحسن : في منامك في عينك ، لأنها مكان النوم ، كما قيل للقطيفة : المنامة ، لأنه ينام فيها . وهذا تفسير فيه تعسف ، وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن ، وما يلائم عليه بكلام العرب وفصاحته { لَّفَشِلْتُمْ } لجبنتم وهبتم الإقدام { ولتنازعتم } في الرأي ، وتفرقت فيما تصنعون كلمتكم ، وترجحتم بين الثبات والفرار { ولكن الله سَلَّمَ } أي عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع .
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
{ وَإِذَا يُرِيكُمُوهُمْ } الضميران مفعولان . معنى : وإذ يبصركم إياهم . و { قَلِيلاً } نصب على الحال ، وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدّوا ويثبتوا . قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا له : كم كنتم؟ قال : ألفاً { وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ } حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور . فإن قلت : الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر ، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثرهم فيها بعده ليجترؤا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا ، وتفل شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم ، وذلك قوله : { يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ العين } [ آل عمران : 13 ] ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أوّلاً وكثرتهم آخراً . فإن قلت : بأي طريق يبصرون الكثير قليلاً؟ قلت بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير ، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين . قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين ، وكان بين يديه ديك واحد فقال : مالي لا أرى هذين الديكين أربعة؟ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
{ إذا لَقِيتُمْ فِئَةً } إذا حاربتم جماعة من الكفار ، وترك أن يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار . واللقاء اسم للقتال غالب { فاثبتوا } لقتالهم ولا تفرّوا { واذكروا الله كَثِيراً } في مواطن الحرب مستظهرين بذكره ، مستنصرين به ، داعين له على عدوكم : اللهم اخذلهم ، اللهم اقطع دابرهم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لعلكم تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة . وفيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هما ، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره . وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في أيام صفين وفي مشاهده مع البغاة والخوارج - من البلاغة والبيان ولطائف المعاني ، وبليغات المواعظ والنصائح - دليلاً على أنهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقم الأمر { وَلاَ تنازعوا } قرىء بتشديد التاء { فَتَفْشَلُواْ } منصوب بإضمار أن ، أو مجزوم لدخوله في حكم النهي ، وتدل على التقديرين قراءة من قرأ : «وتذهب ريحكم» بالتاء والنصب وقراءة من قرأ : «ويذهب ريحكم» بالياء والجزم والريح : الدولة ، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها ، فقيل : هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره . ومنه قوله :
يَا صَاحِبَيَّ ألاَ لاَحَيَّ بِالْوَادِي ... إلاّ عبِيدٌ قُعُودٌ بَيْنَ أذوَاد
أتُنْظِرَانِ قَلِيلاً رَيْثَ غَفَلَتِهِم ... أمْ تَعْدُوَانِ فَإِنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِي
وقيل : لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى . وفي الحديث :
( 426 ) " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " .
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
حذرهم - بالنهي عن التنازع واختلاف الرأي - نحو ما وقع لهم بأحد لمخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فشلهم وذهاب ريحهم { كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم } هم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير ، فأتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة : أن ارجعوا فقد سلمت عيركم ، فأبى أبو جهل وقال : حتى نقدم بدراً نشرب بها الخمور ، وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب . فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم ، فوافوها ، فسقوا كؤس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان ، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم ، وأن يكونوا من أهل التقوى ، والكآبة والحزن من خشية الله عز وجل ، مخلصين أعمالهم لله .
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
{ و } اذكر { إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووسوس إليهم أنهما لا يغلبون ولا يطاقون ، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم ، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن رحمه الله : كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم . وقيل :
( 427 ) لما اجتمعت قريش على السير ذكرت الذي بينها وبين بني كنانة من الحرب ، فكان ذلك يثنيهم ، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني - وكان من أشرافهم - في جند من الشياطين معه راية ، وقال : لا غالب لكم اليوم ، وإني مجيركم من بني كنانة . فلما رأى الملائكة تنزل ، نكص وقيل : كانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نكص قال له الحارث : إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحال؟ فقال : إني أرى ما لا ترون ، ودفع في صدر الحارث وانطلق ، وانهزموا ، فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان . وفي الحديث :
( 428 ) « وما رؤى إبليس يوماً أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رؤي يوم بدر » فإن قلت : هلا قيل لا غالباً لكم كما يقال : لا ضارباً زيداً عندنا؟ قلت : لو كان ( لكم ) مفعولاً لغالب ، بمعنى : لا غالباً إياكم لكان الأمر كما قلت؛ لكنه خبر تقديره : لا غالب كائن لكم .
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
{ إِذْ يَقُولُ المنافقون } بالمدينة { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } يجوز أن يكون من صفة المنافقين ، وأن يراد الذين هم على حرف ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام . وعن الحسن : هم المشركون { غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ } يعنون أنّ المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوّون به وينصرون من أجله ، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف ، ثم قال جواباً لهم { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ } غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي .
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
{ وَلَوْ تَرَى } ولو عاينت وشاهدت؛ لأن «لو» تردّ المضارع إلى معنى الماضي؛ كما تردّ «إن» الماضي إلى معنى الاستقبال . و { إِذْ } نصب على الظرف وقرىء : «يتوفى» بالياء والتاء و { الملائكة } رفعها بالفعل و { يَضْرِبُونَ } حال منهم ، ويجوز أن يكون في { يَتَوَفَّى } ضمير الله عز وجل ، و { الملائكة } مرفوعة بالابتداء ، و { يَضْرِبُونَ } خبر . وعن مجاهد : وأدبارهم : استاههم ، ولكن الله كريم يكنى ، وإنما خصوهما بالضرب . لأنّ الخزي والنكال في ضربهما أشدّه ، وبلغني عن أهل الصين أن عقوبة الزاني عندهم أن يصبر ، ثم يعطي الرجل القوي البطش شيئاً عمل من حديد كهيئة الطبق فيه رزانة وله مقبض ، فيضربه على دبره ضربه واحد بقوّته فيجمد في مكانه . وقيل : يضربون ما أقبل منهم وما أدبر { وَذُوقُواْ } معطوف على { يَضْرِبُونَ } على إرادة القول : أي ويقولون ذوقوا { عَذَابَ الحريق } أي مقدمة عذاب النار . أو وذوقوا عذاب الآخرة : بشارة لهم به . وقيل : كانت معهم مقامع من حديد ، كلما ضربوا بها التهبت النار أو ويقال لهم يوم القيامة : ذوقوا . وجواب { لَوْ } محذوف : أي لرأيت أمراً فظيعاً منكراً { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } يحتمل أن يكون من كلام الله ومن كلام الملائكة ، و { ذلك } رفع بالابتداء و { بِمَا قَدَّمَتْ } خبره { وَأَنَّ الله } عطف عليه ، أي ذلك العذاب بسببين : بسبب كفركم ومعاصيكم وبأن الله { لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } لأن تعذيب الكفار من العدل كإثابة المؤمنين . وقيل : ظلام للتكثير لأجل العبيد أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاماً بليغ الظلم متفاقمه .
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
الكاف في محل الرفع : أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون . ودأبهم : عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه : أي داوموا عليه وواظبوا . و { كَفَرُواْ } تفسير لدأب آل فرعون . و { ذلك } إشارة إلى ما حل بهم ، يعني ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم ينبغ له ولم يصحّ في حكمته أن يغير نعمته عند قوم { حتى يُغَيّرُواْ مَا } بهم من الحال . فإن قلت : فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله نعمته عليهم؟ ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة قلت : كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة ، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها ، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام ، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه ، غيروا حالهم إلى أسوإ مما كانت ، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ } لما يقول مكذبو الرسل { عَلِيمٌ } بما يفعلون { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } تكرير للتأكيد . وفي قوله : { بآيات رَبّهِمْ } زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق . وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب { وَكُلٌّ كَانُواْ ظالمين } وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي .
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
{ الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي أصروا على الكفر ولجوا فيه ، فلا يتوقع منهم إيمان وهم بنو قريظة ، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا : نسينا وأخطأنا ، ثم عاهدهم فنكثوا ومالوا معهم يوم الخندق ، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم { الذين عاهدت مِنْهُمْ } بدل من الذين كفروا ، أي الذين عاهدتهم من الذين كفروا جعلهم شر الدواب ، لأن شر الناس الكفار ، وشر الكفار المصرون منهم ، وشر المصرين الناكثون للعهود { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون ما فيه من العار والنار { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الحرب } فإما تصادفنهم وتظفرن بهم { فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } ففرق عن محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم ، من وراءهم من الكفرة ، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد ، اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه «فشرذ» بالذال المعجمة بمعنى : ففرق ، وكأنه مقلوب «شذر» من قولهم ( ذهبوا شذر مذر ) ، ومنه : الشذر : المتلقط من المعدن لتفرّقه وقرأ أبو حيوة «من خلفهم» ومعناه : فافعل التشريد من ورائهم ، لأنه إذا شرد الذين وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء وأوقعه فيه؛ لأن الوراء جهة المشردين ، فإذا جعل الوراء ظرفاً للتشريد فقد دلّ على تشريد من فيه ، فلم يبق فرق بين القراءتين { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } لعلّ المشردين من ورائهم يتعظون .
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ } معاهدين { خِيَانَةً } ونكثا بأمارات تلوح لك { فانبذ إِلَيْهِمْ } فاطرح إليهم العهد { على سَوَاء } على طريق مستو قصد ، وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخباراً مكشوفاً بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم ، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } فلا يكن منك إخفاء نكث العهد والخداع وقيل : على استواء في العلم بنقض العهد . وقيل على استواء في العداوة . والجار والمجرور في موضع الحال ، كأنه قيل : فانبذ إليهم ثابتاً على طريق قصد سوى ، أو حاصلين على استواء في العلم أو العداوة ، على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معاً .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
{ سَبَقُواْ } أفلتوا وفاتوا من أن يظفر بهم { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم وقرىء : أنهم بالفتح بمعنى : لأنهم ، كل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل إلاَّ أنَّ المكسورة على طريقة الاستئناف والمفتوحة تعليل صريح وقرىء : «يعجزون» بالتشديد وقرأ ابن محيضن : «يعجزون» ، بكسر النون وقرأ الأعمش «ولا تحسبِ الذين كفروا» بكسر الباء وبفتحها على حذف النون الخفيفة وقرأ حمزة : «ولا يحسبن» بالياء على أن الفعل للذين كفروا وقيل فيه : أصله أن سبقوا ، فحذفت أن ، كقوله : { وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق } [ الروم : 24 ] واستدل عليه بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه : «أنهم سبقوا» . وقيل : وقع الفعل على أنهم لا يعجزون ، على أن «لا» صلة ، وسبقوا في محل الحال ، بمعنى سابقين أي مفلتين هاربين . وقيل معناه : ولا يحسبنهم الذين كفروا سبقوا ، فحذف الضمير لكونه مفهوماً . وقيل : ولا يحسبن قبيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا . وهذه الأقاويل كلها متمحلة ، وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة . وعن الزهري أنها نزلت فيمن أفلت من فل المشركين .
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
{ مِن قُوَّةٍ } من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها . وعن عقبة بن عامر :
( 429 ) سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " ألا إن القوة الرمي " قالها ثلاثاً . ومات عقبة عن سبعين قوساً في سبيل الله . وعن عكرمة : هي الحصون ، والرباط : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله . ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال وقرأ الحسن «ومن ربط الخيل» بضم الباء وسكونها جمع رباط . ويجوز أن يكون قوله : { وَمِن رّبَاطِ الخيل } تخصيصاً للخيل من بين ما يتقوى به ، كقوله : { وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] وعن ابن سيرين رحمه الله : أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون؟ فقال : يشتري به الخيل ، فترابط في سبيل الله ويغزي عليها ، فقيل له : إنما أوصى في الحصون ، فقال : ألم تسمع قول الشاعر :
أَنَّ الْحُصُونَ الْخَيْلُ لاَ مَدَرُ الْقُرَى ... { تُرْهِبُونَ } قرىء بالتخفيف والتشديد وقرأ ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما «تخزون» والضمير في { بِهِ } راجع إلى ما استطعتم { عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } هم أهل مكة { وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } هم اليهود ، وقيل : المنافقون وعن السدي : هم أهل فارس ، وقيل : كفرة الجن ، وجاء في الحديث :
( 430 ) " إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا داراً فيها فرس عتيق " وروي :
( 431 ) أنّ صهيل الخيل يرهب الجن .
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
جنح له وإليه : إذا مال . والسلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب قال :
السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِه ... وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ
وقرىء بفتح السين وكسرها . وعن ابن عباس رضي الله عنه أن الآية منسوخة بقوله تعالى : { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } [ التوبة : 29 ] وعن مجاهد بقوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم ، وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً ، أو يجابوا إلى الهدنة أبداً وقرأ الأشهب العقيلي : «فاجنح» بضم النون { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم ، فإنّ الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم . قال مجاهد ، يريد قريظة .
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
{ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } فإن محسبك الله : قال جرير :
إنِّي وَجَدّتُ مِنَ الْمَكَارِمِ حَسْبَكُم ... أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة ، لأنّ العرب - لما فيهم من الحمية والعصبية ، والإنطواء على الضغينة في أدنى شىء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا - لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتحدوا ، وأنشؤا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتوادّ ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب . فهو يقلبها كما شاء . ويصنع فيها ما أراد ، وقيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤسائهم ودق جماجمهم ، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى ، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس ، وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها وتكرهه وتنفر عنه ، فأنساهم الله تعالى ذلك كله حتى اتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً ، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
{ وَمَنِ اتبعك } الواو بمعنى مع وما بعده منصوب ، تقول : حسبك وزيداً درهم ، ولا تجرّ؛ لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع قال :
فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ عَضْبٌ مُهَنَّدُ ... والمعنى : كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً أو يكون في محل الرفع : أي كفاك الله وكفاك المؤمنون ، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال ، وعن ابن عباس رضي الله عنه نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه ، وعن سعيد بن جبير : أنه أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ثم أسلم عمر ، فنزلت .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
التحريض : المبالغة في الحث على الأمر من الحرض ، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفى على الموت ، أو أن تسميه حرضاً : وتقول له : ما أراك إلا حرضاً في هذا الأمر وممرضاً فيه ، ليهيجه ويحرّك منه . ويقال : حركه وحرضه وحرصه وحرشه وحربه ، بمعنى ، وقرىء «حرص» ، بالصاد غير المعجمة ، حكاها الأخفش ، من الحرص ، وهذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده ، ثم قال : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } أي بسبب أنَّ الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم ، فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ويستحقون خذلانه ، خلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله تعالى . وعن ابن جريج كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد منهم للعشرة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حمزة رضي الله عنه في ثلاثين راكباً ، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب . قيل : ثم ثقل عليهم ذلك وضجوا منه ، وذلك بعد مدّة طويلة ، فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين ، وقيل : كان فيهم قلة في الابتداء ، ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف . وقرىء «ضعفاً» ، بالفتح والضم ، كالمكث والمكث ، والفقر والفقر . وضعفاً : جمع ضعيف . وقرىء الفعل المسند إلى المائة بالتاء والياء في الموضعين ، والمراد بالضعف : الضعف في البدن . وقيل : في البصيرة والاستقامة في الدين ، وكانوا متفاوتين في ذلك فإن قلت : لم كرّر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرّتين قبل التخفيف وبعده؟ قلت : للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت؛ لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف ، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين .
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
وقرىء : «للنبي» ، على التعريف وأسارى . ويثخن ، بالتشديد . ومعنى الإثخان : كثرة القتل والمبالغة فيه ، من قولهم : أثخنته الجراحات إذا أثبتته حتى تثقل عليه الحركة . وأثخنه المرض إذا أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة ، يعني حتى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل في أهله ، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر . ثم الأسر بعد ذلك . ومعنى { مَا كَانَ } ما صح له وما استقام ، وكان هذا يوم بدر ، فلما كثر المسلمون نزل { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } [ محمد : 4 ] وروي :
( 432 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتي بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب ، فاستشار أبا بكر رضي الله عنه فيهم فقال : قومك وأهلك استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك . وقال عمر رضي الله عنه : كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم ، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر ، وإن الله أغناك عن الفداء : مكن علياً من عقيل ، وحمزة من العباس ، ومكني من فلان لنسيب له ، فلنضرب أعناقهم . فقال صلى الله عليه وسلم : " إنّ الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة ، وإنّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال : " { فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] " ومثلك يا عمر مثل نوح ، قال : " { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الارض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ثم قال لأصحابه : " أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق " وروي : أنه قال لهم :
( 433 ) إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم ، واستشهد منكم بعدّتهم ، فقالوا : بل نأخذ الفداء ، فاستشهدوا بأحد ، وكان فداء الأسارى عشرين أوقية ، وفداء العباس أربعين أوقية . وعن محمد بن سيرين : كان فداؤهم مائة أوقية ، والأوقية أربعون درهماً وستة دنانير . وروي :
( 434 ) أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية ، فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت ، فقال : أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ، ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه - وروى أنه قال :
( 435 ) لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ ، رضي الله عنهما ، لقوله كان الإثخان في القتل أحب إليّ { عَرَضَ الدنيا } حطامها ، سمى بذلك لأنه حدث قليل اللبث ، يريد الفداء { والله يُرِيدُ الأخرة } يعني ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل وقرىء : «يريدون» ، بالياء وقرأ بعضهم «والله يريد الآخرة»؛ بجرّ الآخرة على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على حاله كقوله :
أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسبِينَ امْرَأ ... وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارَاً
ومعناه والله يريد عرض الآخرة . على التقابل ، يعني ثوابها { والله عَزِيزٌ } يغلب أولياءه على أعدائه ويتكنون منهم قتلاً وأسراً ويطلق لهم الفداء ، ولكنه { حَكِيمٌ } يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزوا وهم يعجلون { لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ } لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحد بخطأ ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد؛ لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم ، وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله ، وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم . وقيل : كتابه أنه سيحل لهم الفدية التي أخذوها . وقيل : إن أهل بدر مغفور لهم . وقيل : إنه لا يعذب قوماً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ، ولم يتقدم نهي عن ذلك { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } روي : أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدّوا أيديهم إليها ، فنزلت . وقيل : هو إباحة للفداء ، لأنه من جملة الغنائم { واتقوا الله } فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه .
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
فإن قلت : ما معنى الفاء؟ قلت : التسبيب والسبب محذوف ، معناه : قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم . وحلالاً : نصب على الحال من المغنوم ، أو صفة للمصدر ، أي أكلاً حلالاً ، وقوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } معناه أنكم إذا اتقيتموه بعد ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه ، غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
{ فى أَيْدِيكُم } في ملكتكم ، كأن أيديكم قابضة عليهم وقرىء : «من الأسرى» { فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } خلوص إيمان وصحة نية { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ } من الفداء ، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه ، أو يثيبكم في الآخرة وفي قراءة الأعمش . «يثبكم خيراً» وعن العباس رضي الله عنه أنه قال :
( 436 ) كنت مسلماً ، لكنهم استكرهوني . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك " فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا أوكان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وخرج بالذهب لذلك . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس :
( 437 ) " افد ابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ، فقال : يا محمد ، تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت . فقال له : فأين الذهب الذي دفعته إلى أمّ الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا ، فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل؛ فقال العباس وما يدريك؟ قال : «أخبرني به ربي» " قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق ، وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ، ولقد دفعته إليها في سواد الليل ، ولقد كنت مرتاباً في أمرك ، فأمّا إذ أخبرتني بذلك فلا ريب . قال العباس رضي الله عنه : فأبدلني الله خيراً من ذلك ، لي الآن عشرون عبداً ، إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً ، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة ، وأنا أنتظر المغفرة من ربي . وروي :
( 438 ) أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مال البحرين ثمانون ألفاً ، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه ما قدر على حمله ، وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة ) وقرأ الحسن وشيبة : «مما أُخِذَ منكم» ، على البناء للفاعل .
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
{ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ } نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم { فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ } في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة . وقيل : المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
الذين هاجروا : أي فارقوا أوطانهم وقومهم حباً لله ورسوله : هم المهاجرون . والذي آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم : هم الأنصار { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي يتولى بعضهم بعضاً في الميراث ، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون ذوي القرابات ، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى { وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } وقرىء : «من ولايتهم» ، بالفتح والكسر أي من توليهم في الميراث . ووجه الكسر أن تولى بعضهم بعضاً شبه بالعمل والصناعة ، كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملاً { فَعَلَيْكُمُ النصر } فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين { إِلاَّ على قَوْمٍ } منهم { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ } عهد فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدؤون بالقتال ، إذا الميثاق مانع من ذلك .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
{ والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله تعالى في المسلمين { أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } [ الأنفال : 72 ] ومعناه : نهى المسلمين عن موالاة الذين كفروا وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانو أقارب ، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضاً ثم قال : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } أي إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضاً حتى في التوارث ، تفضيلاً لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار . ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة ، لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك ، كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً وقرىء «كثير» بالثاء .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
{ أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه ، بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والانسلاخ من المال لأجل الدين ، وليس بتكرار لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم والشهادة لهم مع الموعد الكريم ، والأولى للأمر بالتواصل { والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ } يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة ، كقوله : { والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } [ الحشر : 10 ] ألحقهم بهم وجعلهم منهم تفضلاً منه وترغيباً { وَأُوْلُو الارحام } أولو القرابات أولى بالتوارث ، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة { فِى كتاب الله } تعالى في حكمه وقسمته . وقيل في اللوح . وقيل في القرآن ، وهو آية المواريث وقد استدل به أصحاب أبي حنيفة رحمه الله على توريث ذوي الأرحام .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 439 ) « من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة ، وشاهد أنه برىء من النفاق وأعطى عشر حسنات بعد كل منافق ومنافقة ، وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا » .
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
{ بَرَآءَةٌ } خبر مبتدأ محذوف أي هذه براءة و { مِّنَ } لابتداء الغاية ، متعلق بمحذوف وليس بصلة ، كما في قولك : برئت من الدين . والمعنى : هذه براءة واصلة من الله ورسوله { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ } كما يقال : كتاب من فلان إلى فلان . ويجوز أن يكون { بَرَآءَةٌ } مبتدأ لتخصيصها بصفتها ، والخبر { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ } كما تقول : رجل من بني تميم في الدار وقرىء «براءة» بالنصب ، على : اسمعوا براءة وقرأ أهل نجران «مِن الله» بكسر النون والوجه الفتح مع لام التعريف لكثرته . والمعنى أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذ إليهم . فإن قلت : لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ قلت : قد أذن الله في معاهدة المشركين أوّلاً فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهدوهم ، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم ، فخوطب المسلمون بما [ تجّدد ] من ذلك فقيل لهم : اعلموا أنّ الله ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين . وروي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب ، فنكثوا إلا ناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فنبذ العهد إلى الناكثين ، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤا لا يتعرض لهم ، وهي الأشهر الحرم في قوله : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها .
( 441 ) وكان نزولها سنة تسع من الهجرة وفتح مكة سنة ثمان ، وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد ، فأمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه على موسم سنة تسع ، ثم أتبعه علياً رضي الله عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم ، فقيل له : لو بعثت بها إلى أبي بكر رضي الله عنه؟ فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني ، فلما دنا عليّ سمع أبو بكر الرغاء ، فوقف ، وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور . وروي :
( 442 ) أنّ أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ، لا يبلغنّ رسالتك إلا رجل منك ، فأرسل علياً ، فرجع أبو بكر رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أشيء نزل من السماء قال : " نعم ، فسر وأنت على الموسم ، وعليّ ينادي بالآي " فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضي الله عنه وحدثهم عن مناسكهم ، وقام علي رضي الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس ، إني رسول رسول الله إليكم . فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية .
وعن مجاهد رضي الله عنه ثلاثة عشرة آية ، ثم قال : أمرت بأربع : « أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده » فقالوا عند ذلك يا علي ، أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا ، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف . وقيل : إنما أمر أن لا يبلغ عنه إلا رجل منه؛ لأنّ العرب عادتها في نقض عهودها أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها ، فلو تولاه أبو بكر رضي الله عنه . لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما يعرف فينا من نقض العهود فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضي الله عنه فإن قلت : الأشهر الأربعة ما هي؟ قلت : عن الزهري رضي الله عنه أنّ براءة نزلت في شوال ، فهي أربعة أشهر : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، وقيل هي عشرون من ذي الحجة ، والمحرّم ، وصفر ، وشهر ربيع الأوّل ، وعشر من شهر ربيع الآخر . وكانت حرماً؛ لأنهم أُومنوا فيها وحرّم قتلهم وقتالهم . أو على التغليب؛ لأنّ ذا الحجة والمحرّم منها . وقيل : لعشر من ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول؛ لأنّ الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم ، ثم صار في السنة الثانية من ذي الحجة . فإن قلت ما وجه إطباق أكثر العلماء على جواز مقاتلة المشركين في الأشهر الحرم وقد صانها الله تعالى عن ذلك؟ قلت : قالوا قد نسخ وجوب الصيانة وأبيح قتال المشركين فيها { غَيْرُ مُعْجِزِي الله } لا تفوتونه وإن أمهلكم ، وهو مخزيكم : أي مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب .
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
{ وَأَذَانٌ } ارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين ، ثم الجملة معطوفة على مثلها ، ولا وجه لقول من قال : إنه معطوف على براءة ، كما لا يقال : عمرو معطوف على زيد ، في قولك : زيد قائم ، وعمرو قاعد ، والأذان : بمعنى الإيذان وهو الإعلام ، كما أنّ الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء . فإن قلت : أي فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية؟ قلت : تلك إخبار بثبوت البراءة . وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت . فإن قلت : لم علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت : لأنّ البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأمّا الأذان فعام لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث { يَوْمَ الحج الأكبر } يوم عرفة . وقيل : يوم النحر؛ لأنّ فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ، من الطواف . والنحر ، والحلق ، والرمي . وعن علي رضي الله عنه : أن رجلاً أخذ بلجام دابته فقال : ما الحج الأكبر؟ قال يومك هذا . خل عن دابتي . وعن ابن عمر رضي الله عنهما :
( 443 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال " هذا يوم الحج الأكبر " ووصف الحج بالأكبر لأنّ العمرة تسمى الحج الأصغر ، أو جعل الوقوف بعرفة هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته؛ لأنه إذا فات فات الحج ، وكذلك إن أريد به يوم النحر؛ لأن ما يفعل فيه معظم أفعال الحج - فهو الحج الأكبر . وعن الحسن رضي الله عنه : سمي يوم الحج الأكبر لاجتماع المسلمين والمشركين فيه وموافقته لأعياد أهل الكتاب ، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده ، فعظم على قلب كل مؤمن وكافر . حذفت الباء التي هي صلة الأذان تخفيفاً وقرىء «إنّ الله» بالكسر لأنّ الأذان في معنى القول { وَرَسُولُهُ } عطف على المنوي في { بَرِىء } أو على محل «إن» المكسورة واسمها وقرىء بالنصب ، عطفاً على اسم إن أو لأنّ الواو بمعنى مع : أي بريء معه منهم ، وبالجرّ على الجوار . وقيل : على القسم ، كقوله : لعمرك . ويحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال : إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء ، فلببه الرجل إلى عمر ، فحكى الأعرابي قراءته ، فعندها أمر عمر رضي الله عنه بتعلم العربية { فَإِن تُبْتُمْ } من الكفر والغدر { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } عن التوبة ، أو ثبتم على التولي والإعراض عن الإسلام والوفاء فاعلموا أنكم غير سابقين الله تعالى ولا فائتين أخذه وعقابه .
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
فإن قلت : مم استثنى قوله { إِلاَّ الذين عاهدتم } ؟ قلت : وجهه أن يكون مستثنى من قوله : { فَسِيحُواْ فِى الأرض } [ التوبة : 2 ] لأن الكلام خطاب للمسلمين . ومعناه : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين . فقولوا لهم سيحوا ، إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم والاستثناء بمعنى الاستدراك ، وكأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين ، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ، ولا تجروهم مجراهم ، ولا تجعلوا الوفيَّ كالغادر { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } يعني أنّ قضية التقوى أن لا يسوّي بين القبيلين فاتقوا الله في ذلك { لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } لم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط { وَلَمْ يظاهروا } ولم يعاونوا { عَلَيْكُمْ } عدوّاً ، كما عدت بنو بكر على خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشد :
لاَهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا ... حِلْفَ أبِينَا وَأبِيكَ الأتْلَدَا
إن قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا ... وَنَقَضُوا ذِمَامكَ الْمُؤَكَّدَا
هُمْ بَيَّتُونَا بِالْحَطِيمِ هُجَّدا ... وَقَتَلُونَا رُكَّعاً وَسُجَّدَا
فقال عليه الصلاة والسلام :
( 444 " لا نصرت إن لم أنصركم " وقرىء : «لم ينقضوكم» ، بالضاد معجمة أي لم ينقضوا عهدكم . ومعنى { فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ } فأدّوه إليهم تامّاً كاملاً . قال ابن عباس رضي الله عنه : بقي لحيّ من كنانة من عهدهم تسعة أشهر ، فأتمّ إليهم عهدهم .
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
انسلخ الشهر ، كقولك انجرد الشهر ، وسنة جرداء . و { الاشهر الحرم } التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا { فاقتلوا المشركين } يعني الذين نقضوكم وظاهروا عليكم { حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } من حلٍّ أو حرم { وَخُذُوهُمْ } وأسروهم . والأخيذ : الأسير { واحصروهم } وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد . وعن ابن عباس رضي الله عنه : حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام { كُلَّ مَرْصَدٍ } كلّ ممرّ مجتاز ترصدونهم به ، وانتصابه على الظرف كقوله { لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم } [ الأعراف : 16 ] . { فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر . أو فكفوا عنهم ولا تتعرّضوا لهم كقوله :
خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِي الْمَنَارَ بِهِ ... وعن ابن عباس رضي الله عنه : دعوهم وإتيان المسجد الحرام { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر .
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{ أَحَدٌ } مرتفع بفعل الشرط مضمراً يفسره الظاهر ، تقديره : وإن استجارك أحد استجارك ولا يرتفع بالابتداء ، لأنّ «إن» من عوامل الفعل لا تدخل على غيره . والمعنى : وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه ولا ميثاق ، فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن ، وتبين ما بعثت له فأمّنه { حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله } ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر { ثُمَّ أَبْلِغْهُ } بعد ذلك داره التي يأمن فيها إن لم يسلم . ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة ، وهذا الحكم ثابت في كل وقت . وعن الحسن رضي الله عنه : هي محكمة إلى يوم القيامة . وعن سعيد بن جبير : جاء رجل من المشركين إلى عليّ رضي الله عنه فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله ، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال : لا ، لأنّ الله تعالى يقول : { وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك } الآية . وعن السُدّي والضحاك رضي الله عنهما : هي منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] . { ذلك } أي ذلك الأمر ، يعني الأمر بالإجارة في قوله : { فَأَجِرْهُ } . { ب } سبب { أَنَّهُمْ } قوم جهلة { لاَّ يَعْلَمُونَ } ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه ، فلا بدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق .
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
{ كَيْفَ } استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد؛ لأن يكون للمشركين عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم أضداد وغرة صدورهم ، يعني : محال أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم . ثم استدرك ذلك بقوله : { إِلاَّ الذين عاهدتم } أي ولكن الذين عاهدتم منهم { عِندَ المسجد الحرام } ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة ، فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم { فَمَا استقاموا لَكُمْ } على العهد { فاستقيموا لَهُمْ } على مثله { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } يعني أن التربص بهم من أعمال المتقين { كَيْفَ } تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، وحذف الفعل لكونه معلوماً كما قال :
وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى ... فَكَيْف وَهَاتَا هَضْبَة وَقَليبُ
يريد : فكيف مات . أي : كيف يكون لهم عهد { و } حالهم أنهم { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق ، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولم يبقوا عليكم { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ } لا يراعوا حلفاً . وقيل : قرابة . وأنشد لحسان رضي الله عنه :
لَعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيْش ... كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ
وقيل : { إِلاًّ } إلها وقرىء : «إيلا» ، بمعناه وقيل : جبرئيل ، وجبرئل ، من ذلك . وقيل : منه اشتق الآل بمعنى القرابة ، كما اشتقت الرحم من الرحمن ، والوجه ان اشتقاق الإلّ بمعنى الحلف ، لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه ، من الأل وهو الجؤار ، وله أليل : أي أنين يرفع به صوته . ودعت ألليها : إذا ولولت ، ثم قيل لكل عهد وميثاق : إلّ . وسميت به القرابة ، لأن القرابة عقدت بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق { يُرْضُونَكُم } كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن ، مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد . وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان ، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل { وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون } متمرّدون خلعاء لا مروءة تزعهم ، ولا شمائل مرضية تردعهم ، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة ، من التفادي عن الكذب والنكث ، والتعفف عما يثلم العرض ويجرّ أحدوثة السوء .
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
{ اشتروا } استبدلوا { بآيات الله } بالقرآن والإسلام { ثَمَناً قَلِيلاً } وهو اتباع الأهواء والشهوات { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم . وقيل : هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم { هُمُ المعتدون } المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة .
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
{ فَإِن تَابُواْ } عن الكفر ونقض العهد { فَإِخوَانُكُمْ فِى الدين } فهم إخوانكم على حذف المبتدأ ، كقوله تعالى : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم } [ الأحزاب : 5 ] ، { وَنُفَصّلُ الايات } ونبينها . وهذا اعتراض ، كأنه قيل : وإن من تأمّل تفصيلها فهو العالم بعثاً وتحريضاً على تأمّل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين ، وعلى المحافظة عليها .
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
{ وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ } وثلبوه وعابوه { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } فقاتلوهم ، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم : إشعاراً بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمرّداً وطغياناً وطرحاً لعادات الكرام الأوفياء من العرب ، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخواناً للمسلمين في الدين ، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود ، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمدبشيء ، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدم فيه ، لا يشق كافر غبارهم . وقالوا : إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعناً ظاهراً ، جاز قتله؛ لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن ، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمّة { إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ } جمع يمين : «وقرىء : لا إيمان لهم ، أي لا إسلام لهم» أو لا يعطون الأمان بعد الردّة والنكث ، ولا سبيل إليه ، فإن قلت : كيف أثبت لهم الإيمان في قوله : { وَإِن نَّكَثُواْ أيمانهم } ثم نفاها عنهم؟ قلت : أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال لا إيمان لهم على الحقيقة ، وأيمانهم ليست بأيمان . وبه استشهد أبو حنيفة رحمه الله على أن يمين الكافر لا تكون يميناً . وعند الشافعي رحمه الله : يمينهم يمين . وقال : معناه أنهم لا يوفون بها ، بدليل أنه وصفها بالنكث { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } متعلق بقوله { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر } أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عما هم عليه . وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد . فإن قلت : كيف لفظ أئمة؟ قلت : همزة بعدها همزة بين بين ، أي : بين مخرج الهمزة والياء . وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة ، وإن لم تكن بمقبولة عند البصريين . وأما التصريح بالياء فليس بقراءة . ولا يجوز أن تكون قراءة . ومن صرح بها فهو لاحن محرف .
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
{ أَلاَ تقاتلون } دخلت الهمزة على { لاَ تقاتلون } تقريراً بانتفاء المقاتلة . ومعناه : الحضّ عليها على سبيل المبالغة { نَّكَثُواْ أيمانهم } التي حلفوها في المعاهدة { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول } من مكة حين تشاوروا في أمره بدار الندوة ، حتى أذن الله تعالى له في الهجرة ، فخرج بنفسه { وَهُم بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المنير وتحداهم به ، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادءون بالقتال والبادىء أظلم ، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله ، وأن تصدموهم بالشرّ كما صدموكم؟ وبخهم بترك مقاتلتهم وحضّهم عليها ، ثم وصفهم بما يوجب الحضّ عليها . ويقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب ، حقيق بأن لا تترك مصادمته ، وأن يوبخ من فرط فيها { أَتَخْشَوْنَهُمْ } تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها { فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } فتقاتلوا أعداءه { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلاّ ربه ، ولا يبالي بمن سواه ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله } [ الأحزاب : 39 ] .
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
[ و ] لما وبخهم الله على ترك القتال ، جرّد لهم الأمر به فقال : { قاتلوهم } ووعدهم - ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم - أنه يعذبهم بأيديهم قتلاً ، ويخزيهم أسراً ، ويوليهم النصر والغلبة عليهم { وَيَشْفِ صُدُورَ } طائفة من المؤمنين ، وهم خزاعة ، قال ابن عباس رضي الله عنه : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا ، فلقوا من أهلها أذى شديداً ، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه ، فقال : " أبشروا فإن الفرج قريب " { وَيُذْهِبْ غَيْظَ } قلوبكم لما لقيتم منهم من المكروه ، وقد حصّل الله لهم هذه المواعيد كلها ، فكان ذلك دليلاً على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء } ابتداء كلام ، وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره ، وكان ذلك أيضاً ، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم ، وقرىء : «ويتوب» بالنصب بإضمار «أن» ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى { والله عَلِيمٌ } يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان { حَكِيمٌ } لا يفعل إلاّ ما اقتضته الحكمة .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
{ أَمْ } منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان . والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه ، حتى يتبين الخلص منكم ، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله لوجه الله ، ولم يتخذوا وليجة أي بطانة ، من الذين يضادّون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم { وَلَمَّا } معناها التوقع ، وقد دلّت على أن تبين ذلك ، وإيضاحه متوقع كائن ، وأن الذين لم يخلصوا دينهم لله يميز بينهم وبين المخلصين . وقوله : { وَلَمْ يَتَّخِذُواْ } معطوف على جاهدوا ، داخل في حيز الصلة ، كأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم المخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله . والوليجة : فعيلة من ولج ، كالدخيلة من دخل . والمراد بنفي العلم نفي المعلوم ، كقول القائل . ما علم الله مني ما قيل فيّ ، يريد : ما وجد ذلك مني .
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ } ما صحّ لهم ما استقام { أَن يَعْمُرُواْ مساجد الله } يعني المسجد الحرام ، لقوله : { وَعِمَارَةَ المسجد الحرام } وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان ، أحدهما : أن يراد المسجد الحرام ، وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها؛ فعامره كعامر جميع المساجد ، ولأن كل بقعة منه مسجد . والثاني : أن يراد جنس المساجد ، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها ، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد ، لأنّ طريقته طريقة الكناية ، كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله ، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك . و { شاهدين } حال من الواو في { يَعْمُرُواْ } والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة متعبدات الله ، مع الكفر بالله وبعبادته . ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر : ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت ، وكانوا يطوفون عراة ويقولون : لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي ، وكلما طافوا بها شوطاً سجدوا لها . وقيل : هو قولهم لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك . وقيل :
( 445 ) قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك ، فطفق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول . فقال العباس : تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا . فقال : أو لكم محاسن؟ قالوا : نعم ونحن أفضل منكم أجراً . إنا لنعمر المسجد الحرام . ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ونفك العاني ، فنزلت { حَبِطَتْ أعمالهم } التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة . وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها ، فما ظنك بالمقارن . وإلى ذلك أشار في قوله : { شاهدين } حيث جعله حالاً عنهم ودلّ على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة ، وذلك محال غير مستقيم .
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
{ إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله } وقرىء بالتوحيد : أي : إنما تستقيم عمارة هؤلاء وتكون معتداً بها ، والعمارة تتناول رمّ ما استرمّ منها ، وقمها وتنظيفها ، وتنويرها بالمصابيح ، وتعظيمها ، واعتيادها للعبادة والذكر ، ومن الذكر درس العلم ، بل هو أجلّه وأعظمه ، وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 446 ) « ( يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة » وفي الحديث :
( 447 ) « الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش » وقال عليه [ الصلاة و ] السلام :
( 448 ) « قال الله تعالى : إن بيوتي في أرضي المساجد ، وإن زوّاري فيها عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي ، فحق على المزور أن يكرم زائره » وعنه عليه [ الصلاة و ] السلام :
( 449 ) « من ألف المسجد ألفه الله » وقال عليه [ الصلاة و ] السلام :
( 450 ) « إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان » وعن أنس رضي الله عنه :
( 451 ) ( من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه ) . فإن قلت : هلاّ ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : لما علم وشهر أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول عليه [ الصلاة و ] السلام لاشتمال كلمة الشهادة والأذان ، والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين كأنهما شيء واحد غير منفك أحدهما عن صاحبه ، انطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول عليه [ الصلاة و ] السلام . وقيل : دلّ عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة؟ فإن قلت : كيف قيل : { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } والمؤمن يخشى المحاذير ، ولا يتمالك أن لا يخشاها؟ قلت : هي الخشية والتقوى في أبواب الدين ، وأن لا يختار على رضا الله غيره لتوقع مخوف ، وإذا اعترضه أمران : أحدهما حقّ الله ، والآخر حق نفسه أن يخاف الله ، فيؤثر حقّ الله على حقّ نفسه . وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها ، فأريد نفي تلك الخشية عنهم { فعسى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء وحسن لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها وأملوا عاقبتها ، بأن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع مع استشعار الخشية والتقوى ، اهتداؤهم دائر بين عسى ولعل ، فما بال المشركين يقطعون أنهم مهتدون ونائلون عند الله الحسنى . وفي هذا الكلام ونحوه لطف للمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء ورفض الاغترار بالله تعالى .
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
السقاية والعمارة : مصدران من سقى وعمر ، كالصيانة والوقاية . ولا بدّ من مضاف محذوف تقديره { أَجَعَلْتُمْ } أهل { سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله } تصدقه قراءة ( ابن الزبير وأبي وجزة السعدي ) وكان من القراء : «سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام» ، والمعنى إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين ، وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة ، وأن يسوي بينهم . وجعل تسويتهم ظلماً بعد ظلمهم بالكفر . وروي أن المشركين قالوا لليهود : نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام ، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود : أنتم أفضل . وقيل : إن علياً رضي الله عنه قال للعباس :
( 452 ) يا عمّ ألا تهاجرون ، ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : ألست في أفضل من الهجرة : أسقي حاجّ بيت الله ، وأعمر المسجد الحرام ، فلما نزلت قال العباس : ما أراني إلاّ تارك سقايتنا . فقال عليه السلام : " أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً " .
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
هم { أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله } من أهل السقاية والعمارة عندكم { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون } لا أنتم والمختصون بالفوز دونكم وقرىء : «يبشرهم» بالتخفيف والتثقيل ، وتنكير المبشر به لوقوعه وراء صفة الواصف وتعريف المعرّف . وعن ابن عباس رضي الله عنه : هي في المهاجرين خاصة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
وكان قبل فتح مكة من آمن لم يتمّ إيمانه إلاّ بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم . فقالوا : يا رسول الله : إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا ، وبقينا ضائعين ، فنزلت ، فهاجروا ، فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ، ثم رخص لهم بعد ذلك . وقيل : نزلت في التسعة الذين ارتدّوا ولحقوا بمكة فنهى الله تعالى عن موالاتهم . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :
( 453 ) " لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحبّ في الله ويبغض في الله : حتى يحبّ في الله أبعد الناس ، ويبغض في الله أقرب الناس إليه " وقرىء : «عشيرتكم» و «عشيراتكم» . وقرأ الحسن : وعشائركم { فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ } وعبيد عن ابن عباس هو فتح مكة وعن الحسن هي عقوبة عاجلة أو آجلة . وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها ، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين ، واضطراب حبل اليقين ، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها بمصلحته فلا يدري أي طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين ، فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟ .
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
مواطن الحرب : مقاماتها ومواقفها قال :
وَكَمْ مَوْطِنٍ لَوْلاَيَ طُحْتَ كَمَا هَوَى ... بِأَجْرَامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي
وامتناعه من الصرف لأنه جمع ، وعلى صيغة لم يأت عليها واحد ، والمواطن الكثيرة : وقعات بدر ، وقريظة ، والنضير ، والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكة . فإن قلت : كيف عطف الزمان والمكان وهو { يَوْمٍ حُنَيْنٍ } على المواطن؟ قلت : معناه وموطن يوم حنين . أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين . ويجوز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين ، على أنّ الواجب أن يكون يوم حنين منصوباً بفعل مضمر لا بهذالظاهر . وموجب ذلك أنّ قوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ } بدل من يوم حنين ، فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصحّ؛ لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ولم يكونوا كثيراً في جميعها ، فبقي أن يكون ناصبه فعلاً خاصاً به ، إلاّ إذا نصبت «إذ» بإضمار «اذكر» وحنين : وادٍ بين مكة والطائف ، كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً الذين حضروا فتح مكة ، منضماً إليهم ألفان من الطلقاء ، وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف فيمن ضامّهم من إمداد سائر العرب فكانوا الجمّ الغفير ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : لن نغلب اليوم من قلة ، فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل قائلها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : أبو بكر رضي الله عنه وذلك قوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } فاقتتلوا قتالاً شديداً وأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة ، وزلّ عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة ، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وهو ثابت في مركزه لا يتحلحل ، ليس معه إلاّ عمه العباس رضي الله تعالى عنه آخذ بلجام دابته وأبو سفيان بن الحرث ابن عمه ، وناهيك بهذه الوحدة شهادة صدق على تناهي شجاعته ورباطة جأشه صلى الله عليه وسلم ، وما هي إلاّ من آيات النبوة وقال :
( 454 ) يا ربي ائتني بما وعدتني . وقال صلى الله عليه وسلم للعباس - وكان صيتاً : صيح بالناس ، فنادى الأنصار فخذاً فخذاً ، ثم نادى : يا أصحاب الشجرة ، با أصحاب البقرة ، فكرّوا عنقاً واحداً وهم يقولون : لبيك لبيك ، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال : هذا حين حمي الوطيس ، ثم أخذ كفاً من تراب فرماهم به ثم قال : انهزموا ورب الكعبة فانهزموا ، قال العباس : لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض . خلفهم على بغلته { بِمَا رَحُبَتْ } ما مصدرية ، والباء بمعنى مع ، أي مع رحبها وحقيقته ملتبسة برحبها ، على أن الجارّ والمجرور في موضع الحال ، كقولك : دخلت عليه بثياب السفر ، أي ملتبساً بها لم أحلها ، تعني مع ثياب السفر .
والمعنى : لا تجدون موضعاً تستصلحونه لهربكم إليه ونجاتكم لفرط الرعب ، فكأنها ضاقت عليكم { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } ثم انهزمتم { سَكِينَتَهُ } رحمته التي سكنوا بها وآمنوا { وَعَلَى المؤمنين } الذين انهزموا . وقيل : هم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب { وَأَنزَلَ جُنُوداً } يعني الملائكة ، وكانوا ثمانية آلاف ، وقيل : خمسة آلاف ، وقيل : ستة عشر ألفاً { وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ } بالقتل والأسر ، وسبي النساء والذراري { ثُمَّ يَتُوبُ الله } أي يسلم بعد ذلك ناس منهم . وروي :
( 455 ) أنّ ناساً منهم جاؤوا فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام وقالوا : يا رسول الله ، أنت خير الناس وأبرّ الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا . قيل : سبي يومئذ ستة آلاف نفس ، وأخذ من الأبل والغنم ما لا يحصى ، فقال : إنّ عندي ما تروون ، إنّ خير القول أصدقه ، اختاروا : إما ذراريكم ونساءكم ، وإما أموالكم . قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «إنّ هؤلاء جاؤوا مسلمين ، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً ، فمن كان بيده شيء طابت نفسه أن يردّه فشأنه ، ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه . قالوا : رضينا وسلمنا ، فقال : إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى ، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا ، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
النجس : مصدر ، يقال : نجس نجساً ، قذر قذراً . ومعناه ذوو نجس؛ لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، ولأنّهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات ، فهي ملابسة لهم . أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها ، مبالغة في وصفهم بها . وعن ابن عباس رضي الله عنه : أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير . وعن الحسن : من صافح مشركاً توضأ . وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين . وقرىء : «نجس» ، بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف ، كأنه قيل : إنما المشركون جنس نجس ، أو ضرب نجس ، وأكثر ما جاء تابعاً لرجس وهو تخفيف نجس ، نحو : كبد ، في كبد { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام } فلا يحجوا ولا يعتمروا ، كما كانوا يفعلون في الجاهلية { بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } بعد حجّ عامهم هذا وهو عام تسع من الهجرة حين أمّر أبو بكر على الموسم ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، ويدلّ عليه قول عليّ كرمّ الله وجهه حين نادى ببراءة : ألا لا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك ، ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عندهم . وعند الشافعي : يمنعون من المسجد الحرام خاصة . وعند مالك : يمنعون منه ومن غيره من المساجد . وعن عطاء رضي الله عنه أن المراد بالمسجد الحرام : الحرم ، وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله ، ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه ، وقيل : المراد أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحة ويعزلوا عن ذلك { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي فقراً بسبب منع المشركين من الحجّ وما كان لكم في قدومهم عليكم من الأرفاق والمكاسب { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } من عطائه أو من تفضله بوجه آخر ، فأرسل السماء عليهم مدراراً ، فأغزر بها خيرهم وأكثر ميرهم وأسلم أهل تبالة وجرش فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به ، فكان ذلك أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال : من أين تأكلون؟ فأمرهم الله بقتال أهل الكتاب وأغناهم بالجزية . وقيل : بفتح البلاد والغنائم . وقرىء : «عائلة» ، بمعنى المصدر كالعافية ، أو حالاً عائلة . ومعنى قوله : { إِن شَاء } الله . إن أوجبت الحكمة إغناءكم وكان مصلحة لكم في دينكم { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بأحوالكم { حَكِيمٌ } لا يعطي ولا يمنع إلاّ عن حكمة وصواب .
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
{ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } بيان للذين مع ما في حيزه . نفى عنهم الإيمان بالله لأنّ اليهود مثنية والنصارى مثلثة . وإيمانهم باليوم الآخر لأنهم فيه على خلاف ما يجب وتحريم ما حرّم الله ورسوله؛ لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة . وعن أبي روق : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل ، وأن يدينوا دين الحق ، وأن يعتقدوا دين الإسلام الذي هو الحق وما سواه الباطل . وقيل : دين الله ، يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذه دينه ومعتقده . سميت جزية؛ لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه ، أو لأنّهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل { عَن يَدٍ } إما أن يراد يد المعطي أو الآخذ فمعناه على إرادة يد المعطي حتى يعطوها عن يد : أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة لأنّ من أبى وامتنع لم يعط يده ، بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده . إذا انقاد وأصحب . ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، كما يقال : خلع ربقة الطاعة عن عنقه ، أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة ، لا مبعوثاً على يد أحد . ولكن عن يد المعطي إلى يد الأخذ ، وأما على إرادة يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية ، أو عن إنعام عليهم . لأنّ قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم { وَهُمْ صاغرون } أي تؤخذ منهم على الصغار والذل . وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ، ويسلمها وهو قائم - والمتسلم جالس ، وأن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيبه ، ويقال له : أدّ الجزية ، وإن كان يؤدّيها ويزخ في قفاه ، وتسقط بالإسلام عند أبي حنيفة ولا يسقط به خراج الأرض . واختلف فيمن تضرب عليه ، فعند أبي حنيفة : تضرب على كل كافر من ذمي ومجوسي وصابىء وحربي ، إلاّ على مشركي العرب وحدهم . روى الزهري :
( 456 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية ، إلاّ من كان من العرب وقال لأهل مكّة : « هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم بها العرب وأدّت إليكم العجم الجزية » ، وعند الشافعي لا تؤخذ من مشركي العجم . والمأخوذ عند أبي حنيفة في أوّل سنة من الفقير الذي له كسب : اثنا عشر درهماً . ومن المتوسط في الغني : ضعفها ، ومن المكثر : ضعف الضعف ثمانية وأربعون ، ولا تؤخذ من فقير لا كسب له . وعند الشافعي : يؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينار ، فقيراً كان أو غنياً ، كان له كسب أو لم يكن .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
{ عُزَيْرٌ ابن الله } مبتدأ وخبر ، كقوله : المسيح ابن الله ، وعزير : اسم أعجمي كعازر وعيزار وعزرائيل ، ولعجمته وتعريفه : امتنع صرفه . ومن نوّن فقد جعله عربياً . وأمّا قول من قال : سقوط التنوين للالتقاء الساكنين كقراءة من قرأ : «أحد الله» أو لأنّ الابن وقع وصفاً والخبر محذوف وهو معبودنا ، فتمحل عنه مندوحة ، وهو قول ناس من اليهود ممن كان بالمدينة ، وما هو بقول كلهم عن ابن عباس رضي الله عنه : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلامُ بنِ مشْكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف ، فقالوا ذلك . وقيل : قاله فنحاص . وسبب هذا القول أنّ اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام ، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم ، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض ، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له : إلى أين تذهب؟ قال : أطلب العلم فحفظه التوراة . فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفاً ، فقالوا ما جمع الله التوراة في صدره وهو غلام إلاّ لأنه ابنه . والدليل على أنّ هذا القول كان فيهم : أنّ الآية تليت عليهم ، فما أنكروا ولا كذبوا؛ مع تهالكهم على التكذيب . فإن قلت : كل قول يقال بالفم فما معنى قوله : { ذلك قَوْلُهُم بأفواههم } ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما : أن يراد أنه قول لا يعضده برهان ، فما هو إلاّ لفظ يفوهون به ، فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدلّ على معان . وذلك أن القول الدال على معنى لفظه مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب . وما لا معنى له مقول بالفم لا غير . والثاني : أن يراد بالقول المذهب ، كقولهم : قول أبي حنيفة ، يريدون مذهبه وما يقول به ، كأنه قيل : ذلك مذهبهم ودينهم بأفواههم لا بقلوبهم ، لأنه لا حجة معه ولا شبهة حتى يؤثر في القلوب ، وذلك أنهم إذا اعترفوا أنه لا صاحبة له لم تبق شبهة في انتفاء الولد { يضاهون } لا بدّ فيه من حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قولهم ، ثم حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه؛ فانقلب مرفوعاً . والمعنى : أن الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم ، يعني أنه كفر قديم فيهم غير مستحدث . أو يضاهي قول المشركين : الملائكة بنات الله تعالى الله عنه . وقيل : الضمير للنصارى ، أي يضاهي قولهم : المسيح ابن الله ، قول اليهود : عزير ابن الله ، لأنهم أقدم منهم . وقرىء : «يضاهؤن» بالهمز من قولهم : امرأة ضهيأ على فعيل : وهي التي ضاهأت الرجال في أنها لا تحيض وهمزتها مزيدة كما في عرقىء { قاتلهم الله } أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا ، تعجباً من شناعة قولهم ، كما يقال لقوم ركبوا شنعاء : قاتلهم الله ما أعجب فعلهم { أنى يُؤْفَكُونَ } كيف يصرفون عن الحق؟ .
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
اتخاذهم أرباباً : أنهم أطاعوهم في الأمر بالمعاصي وتحليل ما حرَّم الله وتحريم ما حلّله ، كما تطاع الأرباب في أوامرهم . ونحوه تسميه أتباع الشيطان فيما يوسوس به : عباده ، بل كانوا يعبدون الجنّ { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } [ مريم : 44 ] وعن عديّ بن حاتم رضي الله عنه :
( 457 ) انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال : " أليسوا يحرّمون ما أحلّ الله فتحرمونه ، ويحلّون ما حرّمه الله فتحلونه " ؟ قلت : بلى . قال : «فتلك عبادتهم» . وعن فضيل رضي الله عنه . ما أبالي أطعت مخلوقاً في معصية الخالق ، أو صليت لغير القبلة . وأمّا المسيح فحين جعلوه ابناً لله فقد أهلوه للعبادة . ألا ترى إلى قوله : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } [ الزخرف : 81 ] . { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا } أمرتهم بذلك أدلّة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام : أنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة { سبحانه } تنزيه له عن الإشراك به ، واستبعاد له . ويجوز أن يكون الضمير في { وَمَا أُمِرُواْ } للمتخذين أرباباً ، أي : وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلاّ ليعبدوا الله ويوحدوه ، فكيف يصحّ أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبدون مثلهم .
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب ، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ، يريد الله أن يزيده ويبلغه الغاية القصوى في الإشراق أو الإضاءة . ليطفئه بنفخة ويطمسه { لِيُظْهِرَهُ } ليظهر الرسول عليه السلام { عَلَى الدين كُلّهِ } على أهل الأديان كلهم . أو ليظهر دين الحق على كل دين . فإن قلت : كيف جاز ، أبى الله إلاّ كذا ، ولا يقال : كرهت أو أبغضت إلا زيداً؟ قلت : قد أجرى «أبى» مجرى «لم يرد» ألا ترى كيف قوبل { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ } بقوله : { ويأبى الله } وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلاّ أن يتمّ نوره .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
معنى أكل الأموال على وجهين : إما أن يستعار الأكل للأخذ . ألا ترى إلى قولهم : أخد الطعام وتناوله . وإمّا على أن الأحوال يؤكل بها فهي سبب الأكل . ومنه قوله :
إنَّ لَنَا أَحْمِرَةً عِجَافَا ... يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافَا
يريد : علفاً يشترى بثمن إكاف . ومعنى أكلهم بالباطل : أنهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام ، والتخفيف والمسامحة في الشرائع { والذين يَكْنِزُونَ } يجوز أن يكون إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان ، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم : أخذ البراطيل ، وكنز الأموال ، والضنّ بها عن الإنفاق في سبيل الخير . ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ، ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى ، تغليظاً ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت ، ومن لا يعطي منكم طيب ماله : سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم . وقيل : نسخت الزكاة آية الكنز . وقيل : هي ثابتة ، وإنما عني بترك الإنفاق في سبيل الله منع الزكاة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 458 ) " ما أدّى زكاته فليس بكنز وإن كان باطناً ، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهراً " وعن عمر رضي الله عنه أنّ رجلاً سأله عن أرض له باعها فقال : أحرز مالك الذي أخذت ، احفر له تحت فراش امرأتك . قال : أليس بكنز؟ قال : ما أدّى زكاته فليس بكنز وعن [ ابن ] عمر رضي الله عنهما : كل ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما لم يؤدّ زكاته فهو الذي ذكر الله تعالى وإن كان على ظهر الأرض فإن قلت : فما تصنع بما روى سالم بن [ أبي ] الجعد رضي الله عنهم أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 459 ) " تباً للذهب تباً للفضة " قالها ثلاثاً . فقالوا له : أيّ مال نتخذ؟ قال : " لساناً ذاكراً ، وقلباً خاشعاً ، وزوجة تعين أحدكم على دينه " وبقوله عليه الصلاة والسلام :
( 460 ) " من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها "
( 461 ) وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كية» وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال : «كيتان» قلت : كان هذا قبل أن تفرض الزكاة ، فأمّا بعد فرض الزكاة ، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالاً من حيث أذن له فيه ، ويؤدّي عنه ما أوجب عليه فيه ، ثم يعاقبه . ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وعبيد الله رضي الله عنهم يقتنون ويتصرفون فيها ، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية ، لأنّ الإعراض اختيار للأفضل ، وإلاّ دخل في الورع والزهد في الدنيا ، والاقتناء مباح موسع لا يذمّ صاحبه ، ولكل شيء حدّ .
وما روي عن علي رضي الله عنه : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، فما زاد فهو كنز . كلام في الأفضل . فإن قلت : لم قيل : ولا ينفقونها ، وقد ذكر شيئان؟ قلت : ذهاباً بالضمير إلى المعنى دون اللفظ : لأن كل واحد منهما جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم ، فهو كقوله : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } وقيل : ذهب به إلى الكنوز ، وقيل : إلى الأموال . وقيل : معناه ولا ينفقونها والذهب ، كما أن معنى قوله :
فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ ... وقيار كذلك . فإن قلت : لم خصّا بالذكر من بين سائر الأموال؟ قلت : لأنهما قانون التمول وأثمان الأشياء ، ولا يكنزهما إلاّ من فضلا عن حاجته ، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما لم يعدم سائر أجناس المال ، فكان ذكر كنزهما دليلاً على ما سواهما ، فإن قلت : ما معنى قوله : { يُحْمَى عَلَيْهَا } ؟ وهلا قيل : تحمى ، من قولك : حمى الميسم وأحميته ، ولا تقول : أحميت على الحديد؟ قلت : معناه أن النار تحمى عليها ، أي توقد ذات حمى وحرّ شديد ، من قوله : { نَارٌ حَامِيَةٌ } [ القارعة : 11 ] ولو قيل : يوم تحمى ، لم يعط هذا المعنى . فإن قلت : فإذا كان الإحماء للنار ، فلم ذكر الفعل؟ قلت : لأنه مسند إلى الجار والمجرور ، أصله : يوم تحمى النار عليها ، فلما حذفت النار قيل : يحمى عليها ، لانتقال الإسناد عن النار إلى عليها ، كما تقول : رفعت القصة إلى الأمير ، فإن لم تذكر القصة قلت : رفع إلى الأمير وعن ابن عامر أنه قرأ : «تحمى» بالتاء . وقرأ أبو حيوة : «فيكوى» بالياء . فإن قلت : لم خصّت هذه الأعضاء؟ قلت : لأنهم لم يطلبوا بأموالهم - حيث لم ينفقوها في سبيل الله - إلاّ الأغراضَ الدنيوية ، ومن وجاهة عند الناس ، وتقدّم ، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم ، يتلقون بالجميل ، ويحيون بالإكرام ، ويبجلون ويحتشمون ، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم ، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم ، كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم ، لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 462 ) " ذهب أهل الدثور بالأجور " وقيل : لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا ، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم . وقيل : معناه يكون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم { هذا مَا كَنَزْتُمْ } على إرادة القول . وقوله : { لأَنفُسِكُمْ } أي كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وتلتذ وتحصل لها الأغراض التي حامت حولها وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وتتعذب وهو توبيخ لهم { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } . وقرىء : «تكنزون» بضم النون أي وبال المال الذي كنتم تكنزونه أو وبال كونكم كانزين .
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
{ فِى كتاب الله } فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصواباً . وقيل في اللوح : { أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ثلاثة سرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ، وواحد فرد وهو رجب . ومنه قوله عليه السلام في خطبته في حجة الوداع :
( 463 ) « ألا إنَّ الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض » والسنة اثنا عشر شهراً : منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة ، والمحرّم . ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان . والمعنى : رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه ، وعاد الحج في ذي الحجّة ، وبطل النسىء الذي كان في الجاهلية ، وقد وافقت حجّة الوداع ذا الحجّة ، وكان حجّة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة { ذلك الدين القيم } يعني أنّ تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم ، دين إبراهيم وإسماعيل ، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما ، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ويحرّمون القتال فيها ، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه ، وسموا رجباً : الأصم ومنصل الأسنة ، حتى أحدثت النسىء فغيروا { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ } في الحرم { أَنفُسَكُمْ } أي لا تجعلوا حرامها حلالاً . وعن عطاء : تالله ما يحلّ للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلاّ أن يقاتلوا ، وما نسخت ، وعن عطاء الخراساني رضي الله عنه : أحلّت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله . وقيل : معناه لا تأتموا فيهن ، بياناً لعظم حرمتهن ، كما عظم أشهر الحجّ بقوله تعالى : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } الآية [ البقرة : 197 ] وإن كان ذلك محرّماً في سائر الشهور { كَآفَّةً } حال من الفاعل أو المفعول { مَعَ المتقين } ناصر لهم ، حثّهم على التقوى بضمان النصر لأهلها .
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
والنسىء : تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شقّ عليهم ترك المحاربة ، فيحلّونه ويحرّمون مكانه شهر آخر ، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ، فكانوا يحرّمون من شقّ شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله تعالى : { لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } أي ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين . وربما زادوا في عدد الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت . ولذلك قال عزّ وعلا { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْرا } [ التوبة : 36 ] يعني من غير زيادة زادوها . والضمير في : يحلونه ، ويحرّمونه للنسىء . أي إذا أحلّوا شهراً من الأشهر الحرم عاماً ، رجعوا فحرّموه في العام القابل ، وروي : أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة ، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعاً في الجاهلية ، وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته : إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرم فأحلوه ، ثم يقوم في القابل فيقول : إنّ آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه . جعل النسىء زيادة في الكفر ، لأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفراً ، { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] ، كما أن المؤمن إذا أحدث الطاعة ازداد إيماناً { فَزَادَتْهُمْ إيمانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ التوبة : 124 ] . وقرىء : «يُضِل» على البناء للمفعول ، و «يَضَل» بفتح الياء والضاد ، و { يُضَلُّ } على أن الفعل لله عزّ وجلّ . وقرأ الزهري : «ليوطئوا» بالتشديد . والنسىء مصدر نسأه إذا أخره . يقال نسأه ونسأ ونساء ونسيئاً ، كقولك : مسه مساً ومساساً ومسيساً . وقرىء بهنّ جميعاً . وقرىء : «النَسَى» بوزن الندى . و «النِسي» بوزن النهي ، وهما تخفيف النسىء والنسء . فإن قلت : ما معنى قوله : { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله } ؟ قلت : معناه فيحلوا بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرّم الله من القتال ، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها { زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم } خذلهم الله فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة { والله لاَ يَهْدِى } أي لا يلطف بهم بل يخذلهم . وقرىء : «زين لهم سوء أعمالهم» على البناء للفاعل ، وهو الله عزّ وجلّ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
{ اثاقلتم } تثاقلتم . وبه قرأ الأعمش ، أي تباطأتم وتقاعستم . وضمن معنى الميل والإخلاد فعدي بإلى . والمعنى : ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه ، ونحوه : { أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ } [ الأعراف : 176 ] وقيل : ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم . وقرىء : «أثاقلتم»؟ على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ . فإن قلت : فما العامل في «إذا» وحرف الاستفهام مانعة أن يعمل فيه؟ قلت : ما دلّ عليه قوله : { اثاقلتم } أو ما في { مَالَكُمْ } من معنى الفعل ، كأنه قيل : ما تصنعون إذا قيل لكم كما تعمله في الحال إذا قلت : مالك قائماً ، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف . استتفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو ، فشقّ عليهم . وقيل : ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة إلاّ ورّى عنها بغيرها إلاّ في غزوة تبوك ليستعدّ الناس تمام العدة { مِنَ الاخرة } أي بدل الآخرة كقوله : لَجَعَلْنَا مِنكُمْ ملائكة [ الزخرف : 60 ] . { فِى الآخرة } في جنب الآخرة { إِلاَّ تَنفِرُواْ } سخط عظيم على المتثاقلين حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين ، وأنه يهلكهم ويستبدل بهم قوماً آخرين خيراً منهم وأطوع ، وأنه غني عنهم في نصرة دينه ، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئاً : وقيل : الضمير للرسول : أي ولا تضروه ، لأنّ الله وعده أن يعصمه من الناس وأن ينصره ، ووعد الله كائن لا محالة ، وقيل : يريد بقوله : { قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ التوبة : 39 ] أهل اليمن . وقيل : أبناء فارس ، والظاهر مستغن عن التخصيص . فإن قلت : كيف يكون قوله : { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } جواباً للشرط؟ قلت : فيه وجهان أحدهما : إلاّ تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلاّ رجل واحد ولا أقل من الواحد ، فدلّ بقوله : { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } على أنه ينصره في المستقبل ، كما نصره في ذلك الوقت . والثاني : أنه أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت ، فلن يخذل من بعده . وأسند الإخراج إلى الكفار كما أسند إليهم في قوله : { مّن قَرْيَتِكَ التى أَخْرَجَتْكَ } [ محمد : 13 ] لأنهم حين هموا بإخراجه أذن الله له في الخروج فكأنهم أخرجوه { ثَانِيَ اثنين } أحد اثنين ، كقوله : { ثالث ثلاثة } وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه . يروى :
( 464 ) ( أنّ جبريل عليه السلام لما أمره بالخروج قال : من يخرج معي؟ قال : أبو بكر ) وانتصابه على الحال . وقرىء : «ثاني اثنين» بالسكون و { إِذْ هُمَا } بدل من إذ أخرجه . والغار : ثقب في أعلى ثور ، وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة ، مكثا فيه ثلاثاً { إِذْ يَقُولُ } بدل ثان .
وقيل :
( 465 ) طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال : إن تصب اليوم ذهب دين الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " وقيل :
( 466 ) لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله ، والعنكبوت فنسجت عليه . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللَّهم أعم أبصارهم " فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يفطنون . وقد أخذ الله بأبصارهم عنه . وقالوا : من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه فقد كفر ، لإنكاره كلام الله ، وليس ذلك لسائر الصحابة { سَكِينَتَهُ } ما ألقى في قلبه من الأمنة ، التي سكن عندها وعلم أنهم لا يصلون إليه ، والجنود الملائكة يوم بدر ، والأحزاب وحنين . وكلمة الذين كفروا : دعوتهم إلى الكفر { وَكَلِمَةُ الله } دعوته إلى الإسلام . وقرىء : «كلمة الله» بالنصب ، والرفع أوجه و { هِىَ } فصل أو مبتدأ ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلوّ ، وأنها المختصة به دون سائر الكلم { خِفَافًا وَثِقَالاً } خفافاً في النفور لنشاطكم له ، وثقالاً عنه لمشقته عليكم ، أو خفافاً لقلة عيالكم وأذيالكم ، وثقالاً لكثرتها . أو خفافاً من السلاح وثقالاً منه . أو ركباناً ومشاة . أو شباباً وشيوخاً . أو مهازيل وسماناً . أو صحاحاً ومراضاً . وعن ابن أمّ مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعليّ أن أنفر؟ قال : نعم ، حتى نزل قوله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } [ النور : 61 ] . وعن ابن عباس : نسخت بقوله : { لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى } [ التوبة : 91 ] وعن صفوان بن عمرو : كنت والياً على حمص ، فلقيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو . فقلت : يا عمّ لقد أعذر الله إليك فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، إلا أنه من يحبه الله يبتله . وعن الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو ، وقد ذهبت إحدى عينيه ، فقيل له : إنك عليل صاحب ضرر ، فقال : استنفرنا الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكنّي الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع { وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ } إيجاب للجهاد بهما إن أمكن ، أو بأحدهما على حسب الحال والحاجة .
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
العرض : ما عرض لك من منافع الدنيا . يقال : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ، أي لو كان ما دعوا إليه غنماً قريباً سهل المنال { وَسَفَرًا قَاصِدًا } وسطاً مقارباً { الشقة } المسافة الشاقّة . وقرأ عيسى بن عمر : «بعدت عليهم الشقة» بكسر العين والشين ومنه قوله :
يَقُولُونَ لاَ تَبْعُدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَه ... وَلاَ بُعْدَ إلاَّ مَا تُوَارِي الصَّفَائِحُ
{ بالله } متعلق بسيحلفون ، أو هو من جملة كلامهم . والقول مراد في الوجهين ، أي سيحلفون بعني المتخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله { لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أو سيحلفون بالله ويقولون : لو استطعنا ، وقوله : { لَخَرَجْنَا } سدّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعاً ، والإخبار بما سوف يكون بعد القفول من حلفهم واعتذارهم . وقد كان من جملة المعجزات . ومعنى الاستطاعة : استطاعة العدّة ، أو استطاعة الأبدان ، كأنهم تمارضوا . وقرىء : «لو استطعنا» ، بضم الواو تشبيهاً لها بواو الجمع في قوله : { فَتَمَنَّوُاْ الموت } [ البقرة : 94 ] . { يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ } إما أن يكون بدلاً من سيحلفون ، أو حالاً بمعنى مهلكين . والمعنى : أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب وما يحلفون عليه من التخلف . ويحتمل أن يكون حالاً من قوله : { لَخَرَجْنَا } أي لخرجنا معكم ، وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك الشقة . وجاء به على لفظ الغائب ، لأنه مخبر عنهم . ألا ترى أنه لو قيل : سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا ، لكان سديداً ، يقال : حلف بالله ليفعلنّ ولأفعلنّ ، فالغيبة على حكم الإخبار ، والتكلم على الحكاية .
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
{ عَفَا الله عَنكَ } كناية عن الجناية ، لأن العفو رادف لها . ومعناه : أخطأت وبئس ما فعلت . و { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } بيان لما كنى عنه بالعفو . ومعناه : مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلوا لك بعللهم وهلاّ استأنيت بالإذن { حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ } من صدق في عذره ممن كذب فيه . وقيل : شيئان فعلهما رسول الله ولم يؤمر بهما : إذنه للمنافقين وأخذه من الأسارى فعاتبه الله تعالى .
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
{ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ } ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار يقولون : لا نستأذن النبي أبداً ، ولنجاهدنّ أبداً معه بأموالنا وأنفسنا . ومعنى { أَن يجاهدوا } في أن يجاهدوا أو كراهة أن يجاهدوا { والله عَلِيمٌ بالمتقين } شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين ، وعدة لهم بأجزل الثواب .
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
{ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ } يعني المنافقين ، وكانوا تسعة وثلاثين رجلاً { يَتَرَدَّدُونَ } عبارة عن التحير ، لأنّ التردد ديدن المتحير ، كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر . وقرىء : «عدة» ، بمعنى عدّته فعل بالعدّة ما فعل بالعدة من قال :
وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا ... من حذف تاء التأنيث ، وتعويض المضاف إليه منها . وقرىء : «عِدة» بكسر العين بغير إضافة ، و «عدة» بإضافة . فإن قلت : كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت : لما كان قوله : { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج } معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو . قيل : { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم ، كما تقول : ما أحسن إليَّ زيد ، ولكن أساء إليّ { فَثَبَّطَهُمْ } فكسلهم وخذلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث { وَقِيلَ اقعدوا } جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود . وقيل : هو قول الشيطان بالوسوسة . وقيل : هو قولهم لأنفسهم . وقيل : هو إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في القعود . فإن قلت : كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة ، وتعالى الله عن إلهام القبيح؟ قلت : خروجهم كان مفسدة ، لقوله : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسناً ومصلحة . فإن قلت : فلم خطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأذن لهم فيما هو مصلحة؟ قلت : لأنّ إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم لم يكن للنظر في هذه المصلحة ولا علمها إلا بعد القفول بإعلام الله تعالى ، ولكن لأنهم استأذنوه في ذلك واعتذروا إليه ، فكان عليه أن يتفحص عن كنه معاذيرهم ولا يتجوّز في قبولها ، فمن ثم أتاه العتاب ويجوز أن يكون في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإذن لهم مع تثبيط الله إياهم مصلحة أخرى ، فبإذنه لهم فقدت تلك المصلحة ، وذلك أنهم إذا ثبطهم الله فلم ينبعثوا وكان قعودهم بغير إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قامت عليهم الحجّة ولم تبق لهم معذرة . ولقد تدارك الله ذلك حيث هتك أستارهم وكشف أسرارهم وشهد عليهم بالنفاق ، وأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر . فإن قلت : ما معنى قوله : { مَعَ القاعدين } ؟ قلت : هو ذمّ لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى : { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف } [ التوبة : 87 ، 93 ] . { إِلاَّ خَبَالاً } ليس من الاستثناء المنقطع في شيء كما يقولون لأنَّ الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه ، كقولك : ما زادوكم خيراً إلاّ خبالا ، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور ، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعمّ العام الذي هو الشيء ، فكان استثناء متصلاً؛ لأنّ الخبال بعض أعمّ العام كأن قيل ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً والخبال الفساد والشر { ولأَوْضَعُواْ خلالكم } ولسعوا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين .
يقال : وضع البعير وضعاً إذا أسرع وأوضعته أنا ، والمعنى : ولأوضع ركائبهم بينكم ، والمراد الإسراع بالنمائم؛ لأنّ الراكب أسرع من الماشي . وقرأ ابن الزبير رضي الله عنه : «ولأرقصوا» من رقصت الناقة رقصاً إذا أسرعت وأرقصتها قال :
وَالرَّاقِصَاتِ إلَى مِنى فَالْغَبْغَبِ ... وقرىء : «ولأوفضوا» فإن قلت : كيف خطّ في المصحف : ولا أوضعوا ، بزيادة ألف؟ قلت : كانت الفتحة تكتب إلفاً قبل الخط العربي ، والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن ، وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً ، وفتحتها ألفاً أخرى ، ونحو : أو لا أذبحنه . { يَبْغُونَكُمُ الفتنة } يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم { وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ } أي نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم . أو فيكم قوم يسمعون للمنافقين ويطيعونهم { وَلَقَدْ ابتغوا الفتنة } أي العنت ونصب الغوائل والسعي في تشتيت شملك وتفريق أصحابك عنك ، كما فعل عبد الله بن أبيّ يوم أحد حين انصرف بمن معه وعن ابن جريج رضي الله عنه : وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلة العقبة وهم اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به { مِن قَبْلُ } من قبل غزوة تبوك { وَقَلَّبُواْ لَكَ الامور } ودبروا لك الحيل والمكايد ، ودوَّروا الآراء في إبطال أمرك . وقرىء؛ «وقلبوا» بالتخفيف { حتى جَاء الحق } وهو تأييدك ونصرك { وَظَهَرَ أَمْرُ الله } وغلب دينه وعلا شرعه .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
{ ائذن لّي } في القعود { وَلاَ تَفْتِنّى } ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم ، بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت . وقيل : ولا تلقني في الهلكة ، فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي . وقيل : قال الجدّ بن قيس : قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلا تفتنّي ببنات الأصفر يعني نساء الروم ، ولكني أعينك بمال فاتركني . وقرىء : «ولا تفتني» من أفتنه { أَلا فِى الفتنة سَقَطُواْ } أي إنّ الفتنة هي التي سقطوا فيها ، وهي فتنة التخلف . وفي مصحف أبيّ رضي الله عنه : سقط؛ لأنّ «من» موحد اللفظ مجموع المعنى { لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } يعني أنها تحيط بهم يوم القيامة . أو هي محيطة بهم الآن؛ لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها .
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
{ إِن تُصِبْكَ } في بعض الغزوات { حَسَنَةٌ } ظفر وغنيمة { تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } نكبة وشدّة في بعضها نحو ما جرى في يوم أحد يفرحوا بحالهم في الإنحراف عنك ، و { يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا } أي أمرنا الذي نحن متسمون به ، من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم { مِن قَبْلُ } من قبل ما وقع . وتولوا عن مقام التحدّث بذلك والاجتماع له إلى أهاليهم { وَّهُمْ فَرِحُونَ } مسرورون . وقيل : تولوا : أعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قرأ ابن مسعود رضي الله عنه : «قل هل يصيبنا» . وقرأ طلحة رضي الله عنه : «هل يصيّبنا» ، بتشديد الياء . ووجهه أن يكون «يفعيل» لا «يفعل» لأنه من بنات الواو ، كقولهم : الصواب ، وصاب السهم يصوب ، ومصاوب في جمع مصيبة ، فحقّ «يفعل» منه «يصوّب» ألا ترى إلى قولهم : صوّب رأيه ، إلاّ أن يكون من لغة من يقول : صاب السهم يصيب . ومن قوله : أسهمي الصائبات والصيب ، واللام في قوله : { إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } مفيدة معنى الاختصاص كأنه قيل : لن يصيبنا إلاّ ما اختصنا الله [ به ] بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة . ألا ترى إلى قوله : { هُوَ مولانا } أي الذي يتولانا ونتولاه ، ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } وحق المؤمنين أن لا يتوكلوا على غير الله ، فليفعلوا ما هو حقهم .
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
{ إِلا إِحْدَى الحسنيين } إلاّ إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسن العواقب ، وهما النصرة والشهادة { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } إحدى السوأتين من العواقب ، إمّا { أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ } وهو قارعة من السماء كما نزلت على عاد وثمود { أَوْ } بعذاب { بِأَيْدِينَا } وهو القتل على الكفر { فَتَرَبَّصُواْ } بنا ما ذكرنا من عواقبنا { إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ } ما هو عاقبتكم ، فلا بدّ أن يلقى كلنا ما يتربصه لا يتجاوزه .
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
{ أَنفَقُواْ } يعني في سبيل الله ووجوه البر { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } نصب على الحال ، أي طائعين أو مكرهين . فإن قلت : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } ؟ قلت : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله تبارك وتعالى : { قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } [ مريم : 75 ] ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً . ونحوه قوله تعالى : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] وقوله :
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لاَ مَلُومَةً ... أي لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، ولا نلومك - أسأت إلينا أم أحسنت . فإن قلت : متى يجوز نحو هذا؟ قلت : إذا دلّ الكلام عليه كما جاز عكسه في قولك : رحم الله زيداً وغفر له ، فإن قلت : لم فعل ذلك؟ قلت : لنكتة فيه ، وهي أنّ كثيراً كأنه يقول لعزة : امتحني لطف محلك عندي وقوّة محبتي لك ، وعامليني بالإساءة . والإحسان ، وانظري هل يتفاوت حالي معك مسيئة كنت أو محسنة؟ وفي معناه قول القائل :
أَخُوكَ الَّذِي إنْ قُمْتَ بِالسَّيْفِ عَامِدا ... لِتَضْرِبَهُ لَمْ يَسْتَفِثَّكَ فِي الْوُدِّ
وكذلك المعنى : أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، وانظر هل ترى اختلافاً بين حال الاستغفار وتركه؟ فإن قلت : ما الغرض في نفي التقبل؟ أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله منهم وردّه عليهم ما يبذلون منه؟ أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ذاهباً هباء لا ثواب له؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعاً . وقوله : { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } معناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله ، أو ملزمين . وسمي الإلزام إكراهاً ، لأنهم منافقون ، فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه . أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم ، لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه ، أو مكرهين من جهتهم . وروي : أنها نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا مالي أعينك به فاتركني { إِنَّكُمْ } تعليل لردّ إنفاقهم . والمراد بالفسق : التمرّد والعتو .
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
{ أَنَّهُمْ } فاعل منع . وهم ، وأن تقبل مفعولاه . وقرىء : «أن تقبل» ، بالتاء والياء على البناء للمعفول . ونفقاتهم ، ونفقتهم ، على الجمع والتوحيد . وقرأ السلمي : «أن يَقْبل منهم نفقاتهم» على أن الفعل لله عزّ وجلّ { كسالى } بالضم والفتح ، جمع كسلان ، نحو سكارى وغيارى ، في جمع سكران وغيران ، وكسلهم لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثواباً ، ولا يخشون بتركها عقاباً فهي ثقيلة عليهم كقوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] وقرأت في بعض الأخبار :
( 467 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كره للمؤمن أن يقول : كسلت ، كأنه ذهب إلى هذه الآية ، فإنّ الكسل من صفات المنافقين ، فما ينبغي أن يسنده المؤمن إلى نفسه . فإن قلت : الكراهية خلاف الطواعية وقد جعلهم الله تعالى طائعين في قوله { طَوْعاً } ثم وصفهم بأنهم لا ينفقون إلاّ وهم كارهون . قلت : المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من رؤسائهم ، وما طوعهم ذاك إلاّ عن كراهية واضطرار ، لا عن رغبة واختيار .
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
الإعجاب بالشيء : أن يسرّ به سرور راض به متعجب من حسنه . والمعنى : فلا تستحسن ولا تفتنن بما أوتوا من زينة الدنيا ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } [ طه : 131 ] فإن الله تعالى إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب ، بأن عرضه للتغنم والسبي ، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب ، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير ، وهم كارهون له على رغم أنوفهم ، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم . فإن قلت : إن صحّ تعليق التعذيب بإرادة الله تعالى ، فما بال زهوق أنفسهم { وَهُمْ كافرون } ؟ قلت : المراد الاستدراج بالنعم ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة .
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
{ لَمِنكُمْ } لمن جملة المسلمين { يَفْرَقُونَ } يخافون القتل وما يفعل بالمشركين ، فيتظاهرون بالإسلام تقية { مَلْجَئاً } مكاناً يلتجئون إليه متحصنين به من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة { أَوْ مغارات } أو غيراناً . وقرىء بضم الميم ، من أغار الرجل وغار إذا دخل الغور . وقيل : هو تعدية غار الشيء وأغرته أنا ، يعني : أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم . ويجوز أن يكون من : أغار الثعلب ، إذا أسرع ، بمعنى مهارب ومفارّ { أَوْ مُدَّخَلاً } أو نفقاً يندسون فيه وينجحرون ، وهو مفتعل من الدخول . وقرىء مدخلاً من دخل ومدخلاً من أدخل : مكاناً يدخلون فيه أنفسهم . وقرأ أبيّ بن كعب رضي الله عنه : متدخلاً وقرىء : لو ألوا إليه لالتجؤا إليه { يَجْمَحُونَ } يسرعون إسراعاً لا يردّهم شيء؛ من الفرس الجموح ، وهو الذي إذا حمل لم يردّه اللجام . وقرأ أنس رضي الله عنه : يجمزون . فسئل فقال : يجمحون ويجمزون ويشتدّون واحد .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
{ يَلْمِزُكَ } يعيبك في قسمه الصدقات ويطعن عليك . قيل : هم المؤلفة قلوبهم . وقيل : هو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال :
( 468 ) اعدل يا رسول الله ، فقال صلوات الله عليه وسلامه " ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ " وقيل : هو أبو الجواظ ، من المنافقين ، قال :
( 469 ) ألا ترون إلى صاحبكما إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ، وهو يزعم أنه يعدل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا أبالك أما كان موسى راعياً أما كان داود راعياً» فلما ذهب قال عليه الصلاة والسلام «احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون» . وقرىء : يلمزك بالضم ، ويلمزك ويلامزك . التثقيل والبناء على المفاعلة مبالغة في اللمز . ثم وصفهم بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم ، لا للدين وما فيه صلاح أهله ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون منه . وإذا للمفاجأة : أي وإن لم يعطوا منها فاجؤا للسخط .
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
جواب «لو» محذوف تقديره : لو أنهم رضوا لكان خيراً لهم . والمعنى : ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قلّ نصيبهم وقالوا : كفانا فضل الله وصنعه ، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا الله غنيمة أخرى فيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما أتانا اليوم { إِنَّا إِلَى الله } في أن يغنمنا ويخولنا فضله لراغبون .
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
{ إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء } قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة وأنها مختصة بها ، لا تتجاوزها إلى غيرها ، كأنه قيل : إنما هي لهم لا لغيرهم . ونحوه قولك : إنما الخلافة لقريش ، تريد لا تتعداهم ولا تكون لغيرهم فيحتمل أن تصرف إلى الأصناف كلها وأن تصرف إلى بعضها ، وعليه مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه . وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أنهم قالوا : في أي صنف منها وضعتها أجزاك . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحبّ إليّ . وعند الشافعيّ رضي الله عنه ، لا بدّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية وعن عكرمة رضي الله عنه أنها تفرق في الأصناف الثمانية . وعن الزهري أنه كتب لعمر بن عبد العزيز تفريق الصدقات على الأصناف الثمانية { والعاملين عَلَيْهَا } السعاة الذين يقبضونها { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } أشراف من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم على أن يسلموا فيرضخ لهم شيئاً منها حين كان في المسلمين قلة . والرقاب : المكاتبون يعانون منها . وقيل : الأسارى . وقيل : تبتاع الرقاب فتعتق { والغارمين } الذين ركبتهم الديون ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب . وقيل : الذين تحملوا الحمالات فتداينوا فيها وغرموا { وَفِى سَبِيلِ الله } فقراء الغزاة والحجيج المنقطع بهم { وابن السبيل } المسافر المنقطع عن ماله فهو فقير حيث هو غنيّ حيث ماله { فَرِيضَةً مّنَ الله } في معنى المصدر المؤكد ، لأن قوله إنما الصدقات للفقراء معناه فرض الله الصدقات لهم . وقرىء : «فريضة» بالرفع على : تلك فريضة . فإن قلت : لم عدل عن اللام إلى «في» في الأربعة الأخيرة؟ قلت : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن «في» للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصباً ، وذلك لما في فكّ الرقاب من الكتابة أو الرقّ أو الأسر ، وفي فكّ الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال ، وتكرير «في» في قوله : { وَفِى سَبِيلِ الله وابن السبيل } فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين . فإن قلت : فكيف وقعت هذه الآية في تضاعف ذكر المنافقين ومكايدهم؟ قلت : دلّ بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم ، حسماً لأطماعهم وإشعاراً باستيجابهم الحرمان ، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم وما لها؟ وما سلطهم على التكلم فيها ولمز قاسمها صلوات الله عليه وسلامه؟ .
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
الأذن : الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد ، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع ، كأن جملته أذنٌ سامعة ، ونظيره قولهم للربيئة . عين . وإيذاؤهم له : هو قولهم فيه { هُوَ أُذُنٌ } . وأذن خير ، كقولك : رجل صدق ، تريد الجودة والصلاح ، كأنه قيل : نعم هو أذن ، ولكن نعم الأذن . ويجوز أن يريد : هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله ، وليس بأذن في غير ذلك ودلّ عليه قراءة حمزة «ورحمةٍ» بالجرّ عطفاً عليه أي : هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله . ثم فسر كونه أذن خير بأنه يصدق بالله ، لما قام عنده من الأدلة ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار ، وهو رحمة لمن آمن منكم ، أي أظهر الإيمان أيها المنافقون حيث يسمع منكم ويقبل إيمانكم الظاهر ، ولا يكشف أسراركم ولا يفضحكم ، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم ، فهو أذن كما قلتم ، إلاّ أنه أذن خير لكم لا أذن سوء فسلم لهم قولهم فيه ، إلا أنه فسر بما هو مدح له وثناء عليه ، وإن كانوا قصدوا به المذمّة والتقصير بفطنته وشهامته ، وأنه من أهل سلامة القلوب والغرّة . وقيل : إنّ جماعة منهم ذمّوه صلوات الله عليه وسلامه وبلغه ذلك ، فاشتغلت قلوبهم فقال بعضهم : لا عليكم فإنما هو أذن سامعة قد سمع كلام المبلغ فأذن ، ونحن نأتيه ونعتذر إليه فيسمع عذرنا أيضاً فيرضى ، فقيل : هو أذن خير لكم . وقرىء : «أذن خير لكم» ، على أن أذن خبر مبتدإ محذوف؛ وخير كذلك ، أي هو أذن هو خير لكم يعني إن كان كما تقولون فهو خير لكم ، لأنه يقبل معاذيركم ولا يكافئكم على سوء دخلتكم . وقرأ نافع بتخفيف الذال . فإن قلت : لم عدّي فعل الإيمان بالباء إلى الله تعالى ، وإلى المؤمنين باللام؟ قلت : لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به ، فعدّي بالباء وقصد السماع من المؤمنين ، وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدّقه ، لكونهم صادقين عنده ، فعدّي باللام ، ألا ترى إلى قوله : { وَما أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صادقين } [ يوسف : 17 ] ما أنبأه عن الباء . ونحوه : { فما آمن لموسى إلاّ ذرية من قومه } [ يونس : 83 ] ، { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] ، { ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } [ طه : 71 ] فإن قلت : ما وجه قراءة ابن أبي عبلة : ورحمة بالنصب؟ قلت : هي علة معللها محذوف تقديره : ورحمة لكم يأذن لكم ، فحذف لأنّ قوله : { أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } يدلّ عليه .
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
{ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الخطاب للمسلمين وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد ، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم ، فقيل لهم : إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق . وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم ، فكانا في حكم مرضيّ واحد ، كقولك : إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني . أو والله أحقّ أن يرضوه ، ورسوله كذلك .
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
المحادة مفاعلة من الحدّ كالمشاقة من الشقّ { فَأَنَّ لَهُ } على حذف الخبر ، أي : فحق أن له { نَارِ جَهَنَّمَ } وقيل : معناه فله ، وأنّ : تكرير؛ لأن في قوله : { أَنَّهُ } تأكيداً ، ويجوز أن يكون { فأَنَّ لَهُ } معطوفاً على أنه ، على أن جواب { مَن } محذوف تقديره : ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له نار جهنم . وقرىء : «ألم تعلموا» بالتاء .
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
كانوا يستهزؤن بالإسلام وأهله وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم؛ حتى قال بعضهم : والله لا أرانا إلاّ شرّ خلق الله ، لوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة؛ وأن لا ينزل فينا شيء يفضحنا . والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين . وفي قلوبهم : للمنافقين . وصحّ ذلك لأن المعنى يقود إليه . ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين؛ لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم . ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم كأنها تقول لهم : في قلوبكم كيت وكيت ، يعني أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة فكأنها تخبرهم بها . وقيل : معنى يحذر : الأمر بالحذر ، أي ليحذر المنافقون . فإن قلت : الحذر واقع على إنزال السورة في قوله : { يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ } فما معنى قوله : { مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } ؟ قلت : معناه محصل مبرز إنزال السورة . أو أنّ الله مظهر ما كنتم تحذرونه ، أي تحذرون إظهاره من نفاقكم .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
( 470 ) بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونه ، هيهات هيهات ، فأطلع الله نبيه عليه السلام على ذلك فقال : احبسوا عليّ الركب ، فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا ، فقالوا : يا نبي الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك ، ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر { أبالله وءاياته وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } لم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه ، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم ، وبأنه موجود منهم ، حتى وبخوا بأخطائهم موقع الاستهزاء ، حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير ، وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته { لاَ تَعْتَذِرُواْ } لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة ، فإنها لا تنفعكم بعد ظهور سركم { قَدْ كَفَرْتُمْ } قد ظهر كفركم باستهزائكم { بَعْدَ إيمانكم } بعد إظهاركم الإيمان { إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ } بإحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق { نُعَذّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } مصرين على النفاق غير تائبين منه . أو أن نعف عن طائفة منكم لم يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستهزؤوا فلم نعذبهم في العاجل نعذب في العاجل طائفة بأنهم كانوا مجرمين مؤذين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مستهزئين . وقرأ مجاهد : إن تعف عن طائفة على البناء للمفعول مع التأنيث ، والوجه التذكير : لأنّ المسند إليه الظرف ، كما تقول : سير بالدابة . ولا تقول : سيرت بالدابة ، ولكنه ذهب إلى المعنى ، كأنه قيل : إن ترحم طائفة ، فأنث لذلك وهو غريب ، والجيد قراءة العامّة : إن يعف عن طائفة ، بالتذكير . وتعذب طائفة ، بالتأنيث . وقرىء : إن يعف عن طائفة يعذب طائفة ، على البناء للفاعل وهو الله عزّ وجلّ .
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
{ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ } أريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين ، وتكذيبهم في قولهم : { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } [ التوبة : 56 ] وتقرير قوله : { وَمَا هُم مّنكُمْ } [ التوبة : 56 ] ثم وصفهم بما يدلّ على مضادة حالهم لحال المؤمنين { يَأْمُرُونَ بالمنكر } بالكفر والمعاصي { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف } عن الإيمان والطاعات { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } شحا بالمبارّ والصدقات والإنفاق في سبيل الله { نَسُواْ الله } أغفلوا ذكره { فَنَسِيَهُمْ } فتركهم من رحمته وفضله { هُمُ الفاسقون } هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرّد في الكفر والانسلاخ عن كل خير ، وكفى المسلم زاجراً أن يلم بما يكسبه هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين حين بالغ في ذمهم ، وإذا كره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يقول كسلت ، لأن المنافقين وصفوا بالكسل في قوله : { كسالى } [ النساء : 142 ] فما ظنك بالفسق { خالدين فِيهَا } مقدّرين الخلود { هِىَ حَسْبُهُمْ } دلالة على عظم عذابها ، وأنه لا شيء أبلغ منه ، وأنه بحيث لا يزاد عليه ، نعوذ بالله من سخطه وعذابه { وَلَعَنَهُمُ الله } وأهانهم من التعذيب ، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين ، كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المكرمين { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ولهم نوع من العذاب سوى الصلي بالنار ، مقيم دائم كعذاب النار . ويجوز أن يريد : ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه ، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق ، والظاهر المخالف للباطن ، خوفاً من المسلمين وما يحذرونه أبداً من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم .
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
الكاف محلها رفع على : أنتم مثل الذين من قبلكم . أو نصب على : فعلتم ما فعل الذين من قبلكم وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا . ونحوه قول النمر :
كَالْيَوْمِ مَطْلُوباً وَلاَ طَلَبَا ... بإضمار «لم أر» وقوله : { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً } تفسير لتشبيههم بهم ، وتمثيل فعلهم بفعلهم . والخلاق : النصيب وهو ما خلق للإنسان ، أي قدّر من خير ، كما قيل له «قسم» لأنه قسم . ونصيب ، لأنه نصب ، أي أثبت . والخوض : الدخول في الباطل واللهو { كالذي خَاضُواْ } كالفوج الذي خاضوا ، وكالخوض الذي خاضوه . فإن قلت : أي فائدة في قوله : { فاستمتعوا بخلاقهم } وقوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بخلاقهم } مغن عنه كما أغنى قوله : { كالذى خَاضُواْ } عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا؟ قلت : فائدته أن يذمّ الأوّلين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الرضى به ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول : أنت مثل فرعون ، كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل فعله . وأما { وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } فمعطوف على ما قبله مستند إلى مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة { حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والاخرة } نقيض قوله : { وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } [ العنكبوت : 27 ] .
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
{ وأصحاب مَدْيَنَ } وأهل مدين وهم قوم شعيب { والمؤتفكات } مدائن قوم لوط . وقيل : قريات قوم لوط وهود وصالح . وائتفاكهنّ : انقلاب أحوالهنّ عن الخير إلى الشر { فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } فما صحّ منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح وأن يعاقبهم بغير جرم ، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه .
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } في مقابلة قوله في المنافقين : { بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ } . { سَيَرْحَمُهُمُ الله } السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة ، فهي تؤكد الوعد ، كما تؤكد الوعيد في قولك : سأنتقم منك يوماً ، تعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك ، ونحوه { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } [ مريم : 96 ] ، { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] ، { سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } [ النساء : 152 ] . { عَزِيزٌ } غالب على كل شيء قادر عليه ، فهو يقدر على الثواب والعقاب { حَكِيمٌ } واضع كلا موضعه على حسب الاستحقاق { ومساكن طَيّبَةً } عن الحسن : قصوراً من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد . و { عَدْنٍ } علم ، بدليل قوله : { جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن } [ مريم : 61 ] ويدلّ عليه ما روى أبو الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 471 ) «عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النبيون ، والصدّيقون ، والشهداء . يقول الله تعالى طوبى لمن دخلك» وقيل : هي مدينة في الجنة . وقيل : نهر جناته على حافاته { ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ } وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله ، لأنّ رضاه هو سبب كل فوز وسعادة ، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته ، والكرامة أكبر أصناف الثواب ، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم ، وإنما تتهنأ له برضاه ، كما إذا علم بسخطته تنغصت عليه ، ولم يجد لها لذة وإن عظمت . وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس المرّة من مشايخنا يقول : لا تطمح عيني ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة ، كما تطمح وتنازع إلى رضاه عني ، وأن أحشر في زمرة المهديين المرضيين عنده { ذلك } إشارة إلى ما وعد الله ، أو إلى الرضوان : أي هو { الفوز العظيم } وحده دون ما يعدّه الناس فوزاً . وروى :
( 472 ) " أنّ الله عزّ وجلّ يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا : وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال : أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً " .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
{ جاهد الكفار } بالسيف { والمنافقين } بالحجّة { واغلظ عَلَيْهِمْ } في الجهادين جميعاً ، ولا تحابهم وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه ، يجاهد بالحجة ، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها ، وعن ابن مسعود : إن لم يستطع بيده فبلسانه ، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه فإن لم يستطع فبقلبه . يريد الكراهة والبغضاء والتبرأ منه . وقد حمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها .
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
( 473 ) أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ، ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم ، منهم الجلاس بن سويد . فقال الجُلاَس : والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا ، فنحن شرّ من الحمير . فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس : أجل ، والله إنّ محمداً لصادق وأنت شرّ من الحمار . وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستحضر فحلف بالله ما قال ، فرفع عامر يده فقال : اللَّهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق فنزلت { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } فقال الجلاس : يا رسول الله ، لقد عرض الله عليّ التوبة . والله لقد قلته وصدق عامر ، فتاب الجلاس وحسنت توبته { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم } وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك عند مرجعه من تبوك :
( 474 ) تواثق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل ، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح ، فالتفت فإذا قوم متلثمون ، فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا . وقيل : همّ المنافقون بقتل عامر لردّه على الجلاس . وقيل : أرادوا أن يتوّجوا عبد الله بن أبيّ وإن لم يرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم { وَمَا نَقَمُواْ } وما أنكروا وما عابوا { إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله } وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى { فَإِن يَتُوبُواْ } هي الآية التي تاب عندها الجلاس { فِى الدنيا والاخرة } بالقتل والنار .
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
روي : أنّ ثعلبة بن حاطب قال :
( 475 ) يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : «يا ثعلبة ، قليل تؤدّي شكره وخير من كثير لا تطيقه» فراجعه وقال : والذي بعثك بالحقّ لئن رزقني الله مالاً لأعطينّ كل ذي حقّ حقّه ، فدعا له ، فاتخذ غنماً فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة ، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : كثر ماله حتى لا يسعه واد . قال : «يا ويح ثعلبة» ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقين لأخذ الصدقات ، فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ، ومرّا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائض ، فقال : ما هذه إلاّ جزية ، ما هذه إلاّ أخت الجزية ، وقال : ارجعا حتى أرى رأيي ، فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه : «يا ويح ثعلبة» مرّتين ، فنزلت ، فجاءه ثعلبة بالصدقة ، فقال : «إنّ الله منعني أن أقبل منك ، فجعل التراب على رأسه فقال : هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها ، وجاء إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها ، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه . وقرىء : «لنصدّقن ولنكوننْ» بالنون الخفيفة فيهما { مّنَ الصالحين } قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد الحجّ { فَأَعْقَبَهُمْ } عن الحسن وقتادة رضي الله عنهما : أن الضمير للبخل . يعني : فأورثهم البخل { نِفَاقاً } متمكناً { فِى قُلُوبِهِمْ } لأنه كان سبباً فيه وداعياً إليه . والظاهر أن الضمير لله عزّ وجلّ . والمعنى : فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدّق والصلاح وكونهم كاذبين . ومنه : جعل خلف الوعد ثلث النفاق . وقرىء : «يكذبون» ، بالتشديد ، وألم تعلموا ، بالتاء . عن عليّ رضي الله عنه .
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
{ سِرَّهُمْ ونجواهم } ما أسرّوه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها .
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
{ الذين يَلْمِزُونَ } محله النصب أو الرفع على الذمّ . ويجوز أن يكون في محل الجرّ بدلاً من الضمير في سرهم ونجواهم . وقرىء : «يلمزون» ، بالضم { المطوعين } المتطوّعين المتبرعين . روي :
( 476 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حثّ على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب . وقيل : بأربعة آلاف درهم وقال : كان لي ثمانية آلاف ، فأقرضت ربي أربعة وأمسكت أربعة لعيالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت " - فبارك الله له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً - وتصدّق عاصم بن عديّ بمائة وسق من تمر ، وجاء أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه بصاع من تمر فقال : بتّ ليلتي أجرّ بالجرير على صاعين ، فتركت صاعاً لعيالي ، وجئت بصاع فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات ، فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاّ رياء ، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ، ولكنه أحبّ أن يذكر بنفسه ليعطي من الصدقات ، فنزلت { إِلاَّ جُهْدَهُمْ } إلاّ طاقتهم . قرىء بالفتح والضم { سَخِرَ الله مِنْهُمْ } كقوله : { الله يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] في أنه دعاء . ألا ترى إلى قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
( 477 ) سأل عبد الله بن عبد الله بن أبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رجلاً صالحاً أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل ، فنزلت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين " فنزلت : { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ المنافقون : 6 ] وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر ، كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، وإن فيه معنى الشرط ، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر ، والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير ، قال عليّ بن أبي طالب عليه السلام :
لاّصْبَحَنَّ الْعَاصِ وَابْنَ الْعَاصِي ... سَبْعِينَ أَلْفاً عَاقِدِي النَّوَاصِي
فإن قلت : كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار ، كيف وقد تلاه بقوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ } . . . الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال : «قد رخص لي ربي فسأزيد على السبعين» قلت : لم يخف عليه ذلك ، ولكنه خيل بما قال إظهاراً لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه ، كقول إبراهيم عليه السلام { وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم الرأفة والرحمة : لطف لأمّته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض .
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
{ المخلفون } الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين فأذن لهم وخلفهم في المدينة في غزوة تبوك ، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان { بِمَقْعَدِهِمْ } بقعودهم عن الغزو { خلاف رَسُولِ الله } خلفه . يقال : أقام خلاف الحي . بمعنى بعدهم ظعنوا ولم يظعن معهم ، وتشهد له قراءة أبي حيوة : خلف رسول الله . وقيل : هو بمعنى المخالفة لأنهم خالفوه حيث قعدوا ونهض ، وانتصابه على أنه مفعول له أو حال ، أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له { أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ } تعريض بالمؤمنين وبتحملهم المشاقّ العظام لوجه لله تعالى وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض . وكره ذلك المنافقون . وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا } استجهال لهم ، لأنّ من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصوُّن في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل : ولبعضهم :
مَسَرَّةُ أَحْقَابٍ تَلَقَّيْتُ بَعْدَهَا ... مَسَاءَةَ يَوْمٍ أَرْيُهَا شِبْهُ الصَّاب
فَكَيْفَ بَأَنْ تَلْقَى مَسَرَّةَ سَاعَة ... وَرَاءَ تَقَضِّيهَا مَسَاءَة أَحْقَابِ
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
معناه : فسيضحكون قليلاً ، ويبكون كثيراً { جَزَاءً } إلاّ أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره . يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا ، لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم .
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
وإنما قال { إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ } لأنّ منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف ، أو اعتذر بعذر صحيح . وقيل : لم يكن المخلقون كلهم منافقين ، فأراد بالطائفة : المنافقين منهم { فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ } يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك . { أَوَّلَ مَرَّةٍ } هي الخروج إلى غزوة تبوك ، وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله أنه لم يدعهم إليه إلاّ النفاق ، بخلاف غيرهم من المتخلفين { مَعَ الخالفين } قد مرّ تفسيره . [ و ] قرأ مالك بن دينار رحمه الله : «مع الخلفين» على قصر الخالفين . فإن قلت : { مَرَّةٍ } نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل ، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات؟ قلت : أكثر اللغتين : هند أكبر النساء ، وهي أكبرهنّ . ثم إنّ قولك : هي كبرى امرأة ، لا تكاد تعثر عليه . ولكن هي أكبر امرأة ، وأول مرة وآخر مرة . وعن قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً قيل فيهم ما قيل .
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
روي :
( 478 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم فلما مرض رأس النفاق عبد الله بن أبيّ بعث إليه ليأتيه ، فلما دخل عليه قال : أهلكك حبّ اليهود . فقال : يا رسول الله بعثت إليك لتستغفر لي لا لتؤنبني وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده ويصلّي عليه ، فلما مات دعاه ابنه حباب إلى جنازته ، فسأله عن اسمه فقال : أنت عبد الله ابن عبد الله . الحباب : اسم شيطان ، فلما همّ بالصلاة عليه قال له عمر : أتصلّي على عدوّ الله ، فنزلت وقيل : أراد أن يصلّي عليه فجذبه جبريل . فإن قلت : كيف جازت له تكرمة المنافق وتكفينه في قميصه؟ قلت : كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له . وذلك
( 479 ) أنّ العباس رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيراً ببدر لم يجدوا له قميصاً وكان رجلاً طوالاً ، فكساه عبد الله قميصه .
( 480 ) وقال له المشركون يوم الحديبية : إنا لا نأذن لمحمد ولكنا نأذن لك ، فقال : لا ، إن لي في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم له ذلك ، وإجابة له إلى مسئلته إياه ، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يردّ سائلاً ، وكان يتوفر على دواعي المروءة ويعمل بعادات الكرام ، وإكراماً لابنه الرجل الصالح ، فقد روي : أنه قال له :
( 481 ) أسألك أن تكفنه في بعض قمصانك ، وأن تقوم على قبره ، ولا يشمت به الأعداء ، وعلماً بأن تكفينه في قميصه لا ينفعه مع كفره ، فلا فرق بينه وبين غيره من الأكفان ، وليكون إلباسه إياه لطفاً لغيره ، فقد روي أنه قيل له :
( 482 ) لم وجهت إليه بقميصك وهو كافر؟ فقال : « إنّ قميصي لن يغني عنه من الله شيئاً ، وإني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب » فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك ترحمه واستغفاره كان للدعاء إلى التراحم والتعاطف ، لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان وباطنه على خلاف ذلك ، دعا المسلم إلى أن يتعطف على من واطأ قلبه لسانه ورآه حتماً عليه . فإن قلت : فكيف جازت الصلاة عليه؟ قلت : لم يتقدم نهي عن الصلاة عليهم ، وكانوا يجرون مجرى المسلمين لظاهر إيمانهم ، لما في ذلك من المصلحة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما أدري ما هذه الصلاة ، إلاّ أني أعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخادع { مَّاتَ } صفة لأحد . وإنما قيل : مات ، وماتوا بلفظ الماضي - والمعنى على الاستقبال - على تقدير الكون والوجود؛ لأنه كائن موجود لا محالة { أَنَّهُمْ كَفَرُواْ } تعليل للنهي ، وقد أعيد قوله : { وَلاَ تُعْجِبْكَ } لأنّ تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده ، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه ، وأن يعتقد أن العمل به مهمّ يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه ، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه .
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
يجوز أن يراد السورة بتمامها ، وأن يراد بعضها في قوله : { وَإِذَا نُزّلَتْ سُورَةٌ } كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه . وقيل : هي براءة ، لأنّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد { أَنْ ءَامِنُوا } هي أن المفسرة { أُوْلُو الطول } ذوو الفضل والسعة ، من طال عليه طولاً { مَعَ القاعدين } مع الذين لهم علة وعذر في التخلف { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الشقاء والهلاك { لكن الرسول } أي إن تخلف هؤلاء فقد نهد إلى الغزو من هو خير منهم وأخلص نية ومعتقداً ، كقوله : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً } [ الأنعام : 89 ] ، { فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبّكَ } [ فصلت : 38 ] . { الخَيْرَاتِ } تتناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ . وقيل : الحور ، لقوله : { فِيهِنَّ خيرات } [ الرحمن : 70 ] .
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
{ المعذرون } من عذر في الأمر ، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدّ : وحقيقته أنه يوهم أن له عذراً فيما يفعل ولا عذر له : أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز في العربية كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها لإتباع الميم ، ولكن لم تثبت بهما قراءة ، وهم الذين يعتذرون بالباطل ، كقوله : { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } وقرىء : «المعذرون» بالتخفيف : وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه . قيل : هم أسد وغطفان . قالوا : إن لنا عيالاً : وإن بنا جهداً فائذن لنا في التخلف . وقيل :
( 483 ) هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيّ على أهالينا ومواشينا ، فقال صلى الله عليه وسلم : «سيغنيني الله عنكم» . وعن مجاهد . نفر من غفار ، اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى : وعن قتادة : اعتذروا بالكذب . وقرىء : «المعذرون» بتشديد العين والذال ، من تعذر بمعنى اعتذر ، وهذا غير صحيح؛ لأنّ التاء لا تدغم في العين إدغامها في الطاء والزاي والصاد ، في المطوّعين ، وأزكى وأصدق . وقيل : أريد المعتذرون بالصحة ، وبه فسر المعذرون والمعذرون ، على قراءة ابن عباس رضي الله عنه الذين لم يفرطوا في العذر { وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ } هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا ، وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان . وقرأ أبيّ : «كذبوا» بالتشيد { سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ } من الأعراب { عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنار .
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
{ الضعفاء } الهرمى والزمنى . والذين لا يجدون : الفقراء . وقيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة . والنصح لله ورسوله : الإيمان بهما ، وطاعتهما في السرّ والعلن ، وتوليهما ، والحبّ والبغض فيهما كما يفعل الموالي الناصح بصاحبه { عَلَى المحسنين } على المعذورين الناصحين ، ومعنى : لا سبيل عليهم : لا جناح عليهم . ولا طريق للعاتب عليهم { قُلْتَ لاَ أَجِدُ } حال من الكاف في { أَتَوْكَ } وقد قبله مضمرة ، كما قيل في قوله : { أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [ النساء : 90 ] أي إذا ما أتوك قائلاً لا أجد { تَوَلَّوْاْ } ولقد حصر الله المعذورين في التخلف الذين ليس لهم في أبدانهم استطاعة ، والذين عدموا آلة الخروج ، والذين سألوا المعونة فلم يجدوها . وقيل : «المستحملون» أبو موسى الأشعري وأصحابه . وقيل : البكاؤون ، وهم ستة نفر من الأنصار { تَفِيضُ مِنَ الدمع } كقولك : تفيض دمعاً ، وهو أبلغ من يفيض دمعها ، لأنّ العين جعلت كأن كلها دمع فائض ، و «من» للبيان كقولك : أفديك من رجل ، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز { أَلاَّ يَجِدُواْ } لئلا يجدوا . ومحله نصب على أنه مفعول له ، وناصبه المفعول له الذي هو حزناً .
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
فإن قلت : { رَضُواْ } ما موقعه؟ قلت : هو استئناف ، كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل : رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف { وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ } يعني أن السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة وخذلان الله تعالى إياهم . فإن قلت : فهل يجوز أن يكون قوله : { قُلْتَ لاَ أَجِدُ } استئنافاً مثله ، كأنه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولوا ، فقيل : ما لهم تولوا باكين؟ فقيل : قلت لا أجد ما أحملكم عليه . إلاّ أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض { قُلْتَ } نعم ويحسن { لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } علة للنهي عن الاعتذار؛ لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به ، فإذا علم أنه مكذب وجب عليه الإخلال وقوله : { قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } علة لانتفاء تصديقهم لأنّ الله عزّ وجلّ إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم من الشرّ والفساد ، لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم { وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ } أتنيبون أم تثبتون على كفركم { ثُمَّ تُرَدُّونَ } إليه وهو عالم كل غيب وشهادة وسرّ وعلانية ، فيجازيكم على حسب ذلك .
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
{ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } فأعطوهم طلبتهم { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } تعليل لترك معاتبتهم ، يعني أنّ المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم ، إنما يعاتب الأديب ذو البشرة . والمؤمن يوبخ على زلة تفرط منه ، ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار ، وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يعني وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً ، فلا تتكلفوا عتابهم .
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
{ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } أي غرضهم في الحلف بالله طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم { فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } فإن رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كان الله ساخطاً عليهم وكانوا عرضة لعاجل عقوبته وآجلها . وقيل : إنما قيل ذلك لئلا يتوهم متوهم أن رضا المؤمنين يقتضي رضا الله عنهم . وقيل :
( 484 ) هم جدّ بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما ، وكانوا ثمانين رجلاً منافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة : « لا تجالسوهم ولا تكلموهم » وقيل : جاء عبد الله بن أبيّ يحلف أن لا يتخلف عنه أبداً .
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
{ الاعراب } أهل البدو { أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا } من أهل الحضر لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم ، ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء ومعرفة الكتاب والسنّة { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ } وأحقّ بجهل حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
( 485 ) « إنّ الجفاء والقسوة في الفدّادين » { والله عَلِيمٌ } يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر { حَكِيمٌ } فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم ومخطئهم ومصيبهم من عقابه وثوابه .
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
{ مَغْرَمًا } غرامة وخسراناً . والغرامة : ما ينفقه الرجل وليس يلزمه ، لأنه لا ينفق إلاّ تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله عزّ وجلّ وابتغاء المثوبة عنده { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر } دوائر الزمان : دوله وعقبه لتذهب غلبتكم عليه ليتخلص من إعطاء الصدقة { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء } دعاء معترض ، دعى عليهم بنحو ما دعوا به ، كقوله عزّ وجلّ : { قَالَتْ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } [ المائدة : 64 ] وقرىء «السُّوء» بالضم وهو العذاب ، كما قيل له سيئة . والسوء بالفتح ، وهو ذمّ للدائرة ، كقولك : رجل سوء ، في نقيض قولك : رجل صدق ، لأنّ من دارت عليه ذامّ لها { والله سَمِيعٌ } لما يقولون إذا توجهت عليهم الصدقة { عَلِيمٌ } بما يضمرون . وقيل : هم أعراب أسد وغطفان وتميم { قربات } مفعول ثان ليتخذ . والمعنى : أنّ ما ينفقه سبب لحصول القربات عند الله { وصلوات الرسول } لأنّ الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ، كقوله :
( 486 ) " اللَّهم صلّ على آل أبي أوفى " وقال تعالى : { وَصَلّ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 103 ] فلما كان ما ينفق سبباً لذلك قيل : يتخذ ما ينفق قربات وصلوات { ألا إِنَّهَا } شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف ، مع حرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكنه ، وكذلك { سَيُدْخِلُهُمُ } وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدلّ هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين ، وأن الصدقة منه بمكان إذا خلصت النية من صاحبها . وقرىء : «قُربة» بضم الراء . وقيل : هم عبد الله وذو البجادين ورهطه .
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
{ وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ } هم الذين صلّوا إلى القبلتين . وقيل : الذين شهدوا بدراً . وعن الشعبي : من بايع بالحديبية وهي بيعة الرضوان ما بين الهجرتين { و } من { الأنصار } أهل بيعة العقبة الأولى ، وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن . وقرأ عمر رضي الله عنه : «والأنصارُ» بالرفع عطفاً على ( السابقون ) . وعن عمر أنه كان يرى أن قوله : { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } بغير واو صفة للأنصار ، حتى قال له زيد : إنه بالواو ، فقال : ائتوني بأبيّ ، فقال تصديق ذلك في أول الجمعة { وَءاخَرِينَ مِنْهُم } [ الجمعة : 3 ] وأوسط الحشر { والذين جاءوا مّن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] وآخر الأنفال { والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ } [ الأنفال : 75 ] . وروي : أنه سمع رجلاً يقرؤه بالواو ، فقال : من أقرأك؟ قال : أبيّ ، فدعاه فقال : أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنك لتبيع القرظ بالبقيع ، قال : صدقت ، وإن شئت قلت : شهدنا وغبتم ، ونصرنا وخذلتم ، وآوينا وطردتم . ومن ثم قال عمر : لقد كنت أرانا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ، وارتفع السابقون بالابتداء ، وخبره { رَّضِىَ الله عَنْهُمْ } ومعناه : رضي عنهم لأعمالهم { وَرَضُواْ عَنْهُ } لما أفاض عليهم من نعمته الدينية والدنيوية وفي مصاحف أهل مكة : تجري من تحتها ، وهي قراءة ابن كثير ، وفي سائر المصاحف : تحتها ، بغير من .
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم } يعني حول بلدتكم وهي المدينة { منافقون } وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار ، كانوا نازلين حولها { وَمِنْ أَهْلِ المدينة } عطف على خبر المبتدإ الذي هو ممن حولكم ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدإ والخبر إذا قدّرت : ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق ، على أنّ { مَرَدُواْ } صفة موصوف محذوف كقوله :
أَنَا ابْنُ جَلاَ . . . . . . . . . . . . ... وعلى الوجه الأول لا يخلو من أن يكون كلاماً مبتدأ أو صفة لمنافقون ، فصل بينها وبينه بمعطوف على خبره { مَرَدُواْ عَلَى النفاق } تمهروا فيه ، من مرن فلان عمله ، ومرد عليه : إذا درب به وضرى ، حتى لان عليه ومهر فيه ، ودّل على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه بقوله : { لاَ تَعْلَمُهُمْ } أي يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك ، لفرط تنوّقهم في تحامي ما يشكك في أمرهم ، ثم قال : { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } أي لا يعلمهم إلاّ الله ، ولا يطلع على سرهم غيره ، لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً ، ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين ، لا تشك معه في إيمانهم ، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به ، فلهم فيه اليد الطولى { سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } قيل : هما القتل وعذاب القبر . وقيل : الفضيحة وعذاب القبر . وعن ابن عباس رضي الله عنه أنهم اختلفوا في هاتين المرّتين ، فقال :
( 487 ) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال : «اخرج يا فلان فإنك منافق ، اخرج يا فلان فإنك منافق» فأخرج ناساً وفضحهم ) ، فهذا العذاب الأوّل ، والثاني عذاب القبر . وعن الحسن : أخذ الزكاة من أموالهم ونهك أبدانهم { إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ } إلى عذاب النار .
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
{ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ } أي لم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا متذممين نادمين ، وكانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن حزام . وقيل :
( 488 ) كانوا عشرة ، فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم : بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك ، فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل المسجد فصلى ركعتين - وكانت عادته صلى الله عليه وسلم كلما قدم من سفر -فرآهم موثقين ، فسأل عنهم ، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلهم ، فقال : وأنا أقسم أن لا أحلّهم حتى أومر فيهم ، فنزلت ، فأطلقهم وعذرهم ، فقالوا : يا رسول الله ، هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا ، فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً ، فنزلت : خذ من أموالهم { عَمَلاً صالحا } خروجاً إلى الجهاد { وَءَاخَرَ سَيِّئاً } تخلفاً عنه . عن الحسن وعن الكلبي : التوبة والإثم . فإن قلت : قد جعل كل واحد منهما مخلوطاً فما المخلوط به؟ قلت : كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به؛ لأنّ المعنى خلط كل واحد منهما الآخر ، كقولك : خلطت الماء واللبن ، تريد : خلطت كل واحد منهما بصاحبه . وفيه ما ليس في قولك : خلطت الماء باللبن؛ لأنّك جعلت الماء مخلوطاً واللبن مخلوطاً به ، وإذا قلته بالواو وجعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطاً بهما ، كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء ، ويجوز أن يكون من قولهم : بعت الشاة شاة ودرهماً ، بمعنى شاة بدرهم . فإن قلت : كيف قيل : { أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } وما ذكرت توبتهم؟ قلت : إذا ذكر اعترافهم بذنوبهم ، وهو دليل على التوبة ، فقد ذكرت توبتهم .
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
{ تُطَهّرُهُمْ } صفة لصدقة . وقرىء : «تطهرهم» ، من أطهره بمعنى طهره . و «تطهرهم» ، بالجزم جواباً للأمر . ولم يقرأ { وَتُزَكّيهِمْ } إلاّ بإثبات الياء . والتاء في { تُطَهّرُهُمْ } للخطاب أو لغيبة المؤنث . والتزكية : مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال { وَصَلّ عَلَيْهِمْ } واعطف عليهم بالدعاء لهم وترحم ، والسنّة أن يدعو المصدق لصاحب الصدقة إذا أخذها . وعن الشافعي رحمه الله : أحب أن يقول الوالي عند أخذ الصدقة : أجرك الله فيما أعطيت ، وجعله طهوراً ، وبارك لك فيما أبقيت . وقرىء : «إن صلاتك» على التوحيد { سَكَنٌ لَّهُمْ } يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم { والله سَمِيعٌ } يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم { عَلِيمٌ } بما في ضمائرهم ، والغمّ من الندم لما فرط منهم .
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
قرىء : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ } بالياء والتاء ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن يراد المتوب عليهم ، يعني : ألم يعلموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم { أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة } إذا صحّت ، ويقبل الصدقات إذا صدرت عن خلوص النية ، وهو للتخصيص والتأكيد ، وأن الله تعالى من شأنه قبول توبة التائبين . وقيل : معنى التخصيص في هو : أن ذلك ليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما الله سبحانه هو الذي يقبل التوبة ويردّها ، فاقصدوه بها ووجهوها إليه .
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{ وَقُلِ } لهؤلاء التائبين { اعملوا } فإن عملكم لا يخفى - خيراً كان أو شراً - على الله وعباده كما رأيتم وتبين لكم . والثاني : أن يراد غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة ، فقد روي أنهم لما تيب عليهم قال الذين لم يتوبوا : هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت . فإن قلت : فما معنى قوله : { وَيَأْخُذُ الصدقات } قلت : هو مجاز عن قبوله لها ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : إن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل والمعنى : أنه يتقبلها ويضاعف عليها ، وقوله : { فَسَيَرَى الله } وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار والذهول عن التوبة .
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قرىء : «مرجون» و «مرجؤن» من أرجيته ، وأرجأته : إذا أخرته . ومنه المرجئة ، يعني : وآخرون من المتخلفين موقوف أمرهم { إِمَّا يُعَذّبُهُمْ } إن بقوا على الإصرار ولم يتوبوا { وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } إن تابوا ، وهم ثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة ابن الربيع : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ، ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شدّ أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغمّ ، فلما علموا أنّ أحداً لا ينظر إليهم فوّضوا أمرهم إلى الله تعالى ، وأخلصوا نياتهم ، ونصحت توبتهم ، فرحمهم الله { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . وفي قراءة عبد الله : غفور رحيم . وإمّا للعباد : أي خافوا عليهم العذاب وارجوا لهم الرحمة .
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
في مصاحف أهل المدينة والشام : الذين اتخذوا بغير واو ، لأنها قصة على حيالها . وفي سائرها بالواو على عطف قصة مسجد الضرار الذي أحدثه المنافقون على سائر قصصهم . روي :
( 489 ) أنّ بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي فيه ، ويصلّي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام ، ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوتهم ، وهو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد : لا أجد قوماً يقاتلوك إلا قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلما انهزمت هوازن خرج هارباً إلى الشام ، وأرسل إلى المنافقين . أن استعدّوا بما استطعتم من قوة وسلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمداً وأصحابه من المدينة ، فبنوا مسجداً بجنب مسجد قباء ، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ، ونحن نحبّ أن تصلّي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة ، فقال صلى الله عليه وسلم : إني على جناح سفر وحال شغل . وإذا قدمنا إن شاء الله صلّينا فيه ، فلما قفل من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد ، فنزلت عليه ، فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عديّ وعامر بن السكن ووحشي قاتل حمزة ، فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه ، ففعلوا ، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة ، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين { ضِرَارًا } مضارْة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء ومعازة { وَكُفْراً } وتقوية للنفاق { وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين } لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم ، فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم { وَإِرْصَادًا } وإعداداً { ل } أجل { منْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ } وهو الراهب : أعدوه له ليصلّي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله أو بمال غير طيب ، فهو لاحق بمسجد الضرار . وعن شقيق أنه لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر؛ فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد ، فقال : لا أحبّ أن أصلّي فيه ، فإنّه بني على ضرار ، وكل مسجد بني على ضرار أو رياء أو سمعة فإنّ أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني ضراراً . وعن عطاء : لما فتح الله تعالى الأمصار على يد عمر رضي الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضارّ أحدهما صاحبه ، فإن قلت : { والذين اتخذوا } ما محله من الإعراب؟ قلت : محله النصب على الاختصاص .
كقوله : { المقيمين الصلاة } [ النساء : 162 ] وقيل : هو مبتدأ خبره محذوف ، معناه : وفيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله : { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] . فإن قلت : بم يتصل قوله : { مِن قَبْلُ } ؟ قلت : باتخذوا ، أي اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف { إِنْ أَرَدْنَا } ما أردنا ببناء هذا المسجد { إِلاَّ } إلا الخصلة { الحسنى } أو الإرادة الحسنة ، وهي الصلاة . وذكر الله والتوسعة على المصلين { لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التقوى } قيل : هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء ، وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وخرج يوم الجمعة ، وهو أولى ، لأنّ الموازنة بين مسجدي قباء أوقع . وقيل : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وعن أبي سعيد الخدري :
( 490 ) سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى ، فأخذ حصباء فضرب بها الأرض وقال : " هو مسجدكم هذا مسجد المدينة " { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } من أول يوم من أيام وجوده { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } قيل :
( 491 ) لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء ، فإذا الأنصار جلوس فقال : أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم ، ثم أعادها : فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم . فقال صلى الله عليه وسلم : «أترضون بالقضاء؟» قالوا : نعم ، قال : «أتصبرون على البلاء؟» قالوا : نعم . قال : «أتشكرون في الرخاء؟» قالوا : نعم . قال صلى الله عليه وسلم : «مؤمنون ورب الكعبة» . فجلس ثم قال : يا معشر الأنصار ، إنّ الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط ، فقالوا : يا رسول الله ، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ، ثم نتبع الأحجار الماء . فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } . وقرىء؛ «أن يطهروا» بالإدغام . وقيل : هو عام في التطهر من النجاسات كلها . وقيل : كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ، ويتبعون الماء أثر البول . وعن الحسن : هو التطهر من الذنوب بالتوبة . وقيل : يحبّون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم ، فحموا عن آخرهم . فإن قلت : ما معنى المحبتين؟ قلت : محبتهم للتطهر أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحبّ للشيء المشتهى له على إيثاره . ومحبة الله تعالى إياهم : أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم ، كما يفعل المحبّ بمحبوبه .
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
قرىء : أسس بنيانه» و «أُسس بنيانه» ، على البناء للفاعل والمفعول . وأسس بنيانه ، جمع أساس على الأضافة ، وأساس بنيانه ، بالفتح والكسر : جمع أس؛ وآساس بنيانه على أفعال ، جمع أس أيضاً ، وأس بنيانه . والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه { خَيْرٌ أَم مَّنْ } أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها وأقلها بقاء ، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل { شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } في قلة الثبات والاستمساك ، وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى؛ لأنه جعل مجازاً عما ينافي التقوى . فإن قلت : فما معنى قوله : { فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ } ؟ قلت : لما جعل الجرف الهائر مجازاً عن الباطل قيل : فانهار به في نار جهنم ، على معنى : فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلاّ أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف ، وليصور أنّ المبطل كأنه أسس بنياناً على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها . والشفا : الحرف والشفير . وجرف الوادي : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهياً . والهار : الهائر وهو المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط . ووزنه فعل ، قصر عن فاعل ، كخلف من خالف . ونظيره : شاك وصات ، في شائك وصائت . وألفه ليست بألف فاعل ، إنما هي عينه . وأصله هور وشوك وصوت . ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدلّ على حقيقة الباطل وكنه أمره . وقرىء : جرف ، بسكون الراء : فإن قلت : فما وجه ما روى سيبويه عن عيسى بن عمر : على تقوىً من الله ، بالتنوين؟ قلت : قد جعل الألف للإلحاق لا للتأنيث ، كتترى فيمن نوّن ، ألحقها بجعفر . وفي مصحف أبيّ : فانهارت به قواعده . وقيل : حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منه . وروي أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار ، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته أن يأذن لمجمع فيؤمهم في مسجدهم فقال : لا ، ولا نعمة عين ، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لا تعجل عليّ ، فوالله لقد صليت بهم والله يعلم أني لا أعلم ما أضمروا فيه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، كنت غلاماً قارئاً للقرآن وكانوا شيوخاً لا يقرؤون من القرآن شيئاً ، فعذره وصدّقه وأمره بالصلاة بقومه .
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
{ رِيبَةً } شكاً في الدين ونفاقاً ، وكان القوم منافقين ، وإنما حملهم على بناء ذلك المسجد كفرهم ونفاقهم كما قال عزّ وجلّ : { ضِرَارًا وَكُفْرًا } [ التوبة : 107 ] فلما هدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا -لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم - تصميماً على النفاق ومقتاً للإسلام ، فمعنى قوله : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ } لا يزال هدمه سبب شكّ ، ونفاق زائد على شكّهم ونفاقهم لا يزول وسمه عن قلوبهم ولا يضمحلّ أثره { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } قطعاً وتفرّق أجزاء ، فحينئذٍ يسلون عنه . وأمّا ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة ، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها . ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار . وقرىء : «يقطع» ، بالياء . و «تقطع» بالتخفيف . و «تَقطع» بفتح التاء بمعنى تتقطع . وتقطع قلوبهم ، على أن الخطاب للرسول أي إلاّ أن تقطع أنت قلوبهم بقتلهم . وقرأ الحسن : إلى أن ، وفي قراءة عبد الله : «ولو قطعت قلوبهم» . وعن طلحة : ولو قطعت قلوبهم على خطاب الرسول أو كل مخاطب . وقيل : معناه إلاّ أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم .
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشروى . وروى : تاجرهم فأغلى لهم الثمن . وعن عمر رضي الله عنه فجعل لهم الصفقتين جميعاً . وعن الحسن : أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها . وروي :
( 492 ) أنّ الأنصار حين بايعوه على العقبة قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . قال : اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم . قال : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : لكم الجنة . قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل . ومرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيّ وهو يقرؤها فقال : كلام من؟ قال كلام الله . قال : بيع الله مربح لا نقيله ولا نستقيله ، فخرج إلى الغزو فاستشهد { يقاتلون } فيه معنى الأمر ، كقوله : { وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف : 11 ] . وقرىء : «فيقتلون» و «يقتلون» على بناء الأوّل للفاعل والثاني للمفعول ، وعلى العكس { وَعْدًا } مصدر مؤكد . أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته { فِي التوراة والإنجيل } كما أثبته في القرآن ، ثم قال : { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } لأنّ إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم ، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح قط ، ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ .
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
{ التائبون } رفع على المدح . أي : هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين . ويدلّ عليه قراءة عبد الله وأبيّ رضي الله عنهما : «التائبين» بالياء إلى : والحافظين ، نصباً على المدح . ويجوز أن يكون جراً صفة للمؤمنين . وجوّز الزجاج أن يكون مبتدأ خبره محذوف ، أي : التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا ، كقوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ النساء : 95 ] وقيل : هو رفع على البدل من الضمير في يقاتلون . ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره العابدون ، وما بعده خبر بعد خبر ، أي التائبون من الكفر على الحقيقة الجامعون لهذه الخصال . وعن الحسن : هم الذين تابوا من الشرك وتبرؤا من النفاق . و { العابدون } الذين عبدوا الله وحده وأخلصوا له العبادة وحرصوا عليها . و { السائحون } الصائمون شبهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم . وقيل : هم طلبة العلم يسيحون في الأرض يطلبونه في مظانه .
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
قيل :
( 493 ) قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب : « أنت أعظم الناس عليَّ حقاً ، وأحسنهم عندي يداً ، فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي » ، فأبى فقال : « لا أزال أتسغفر لك ما لم أنه عنه » ، فنزلت . وقيل :
( 494 ) لما افتتح مكة سأل أي أبويه أحدث به عهداً؟ فقيل : أمك آمنة ، فزار قبرها بالأبواء ، ثم قام مستعبراً فقال : إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي ، فنزلت . وهذا أصحّ لأنّ موت أبي طالب كان قبل الهجرة ، وهذا آخر ما نزل بالمدينة . وقيل : استغفر لأبيه . وقيل :
( 495 ) قال المسلمون ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا وذوي قرابتنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه ، وهذا محمد يستغفر لعمه { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ } ما صح له الاستغفار في حكم الله وحكمته { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم } لأنهم ماتوا على الشرك .
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
قرأ طلحة وما استغفر إبراهيم لأبيه ، وعنه : وما يستغفر إبراهيم ، على حكاية الحال الماضية { إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } أي وعدها إبراهيم أباه ، وهو قوله : { لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] ويدلّ عليه قراءة الحسن وحماد الراوية : وعدها أباه . فإن قلت : كيف خفي على إبراهيم أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده؟ قلت : يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى منه الإيمان جاز الاستغفار له ، على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي ، لأنّ العقل يجوّز أن يغفر الله للكافر . ألا ترى إلى قوله عليه السلام لعمه : لأستغفرنّ لك ما لم أنه . وعن الحسن
( 496 ) قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فلاناً يستغفر لأبائه المشركين ، فقال : ونحن نستغفر لهم فنزلت . وعن علي رضي الله عنه :
( 497 ) رأيت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت له ، فقال : أليس قد استغفر إبراهيم فإن قلت : فما معنى قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } ؟ قلت : معناه : فلما تبين له من جهة الوحي أنه لن يؤمن وأنه يموت كافراً وانقطع رجاؤه عنه ، قطع استغفاره فهو كقوله : { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم } [ التوبة : 113 ] . { أَوَّاهٌ } فعال ، من أوه كلأل من اللؤلؤ ، وهو الذي يكثر التأوه . ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له ، مع شكاسته عليه ، وقوله : «لأرجمنك» .
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
يعني ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه وبين أنه محظور لا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ، ولا يسميهم ضلالاً ، ولا يخذلهم إلاّ إذا أقدموا عليه بعد بيان خطره عليهم وعلمهم أنه واجب الاتقاء والاجتناب . وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم ، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم . وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي عنه . وفي هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها : وهي أنّ المهديّ للإسلام إذا أقدم على بعض محظورات الله داخل في حكم الإضلال ، والمراد بما يتقون : ما يجب اتقاؤه للنهي ، فأما ما يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ، وردّ الوديعة فغير موقوف على التوقيف .
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
{ تَابَ الله على النبى } كقوله : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] وقوله : { واستغفر لِذَنبِكَ } وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلاّ وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرون والأنصار ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأن صفة التوابين الأوّابين صفة الأنبياء ، كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح . وقيل : معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه ، كقوله : { عَفَا الله عَنكَ } [ التوبة : 43 ] ، { فِى سَاعَةِ العسرة } في وقتها ، والساعة مستعملة في معنى الزمان المطلق ، كما استعملت الغداة والعشية واليوم :
غَدَاةً طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ... وَكُنَّا حَسِبْنَا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً
عَشِيَّةَ قَارَعْنَا جُذَامَ وَحِمْيَراً ... إذَا جَاءَ يَوْماً وَارِثِي يَبْتَغِي الْغِنَى
يَجِدْ جُمْعَ كَفٍّ غَيْرَ مَلأَى وَلاَ صِفْر ... والعسرة : حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة من الظهر : يعتقب العشرة على بعير واحد . وفي عسرة من الزاد : تزوّدوا التمر المدود والشعير المسوّس والإهالة الزنخة ، وبلغت بهم الشدّة أن اقتسم التمرة اثنان ، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء . وفي عسرة من الماء ، حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها . وفي شدّة زمان ، من حمارّة القيظ ومن الجدب والقحط والضيقة الشديدة { كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ } عن الثبات على الإيمان ، أو عن اتباع الرسول في تلك الغزوة والخروج معه . وفي «كاد» ضمير الشأن ، وشبهه سيبويه بقولهم : ليس خلق الله مثله . وقرىء : «يزيغ» بالياء . وفي قراءة عبد الله : «من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم» ، يريد المتخلفين من المؤمنين كأبي لبابة وأمثاله { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } تكرير للتوكيد . ويجوز أن يكون الضمير للفريق : تاب عليهم لكيدودتهم .
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
{ الثلاثة } كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية . ومعنى { خُلّفُواْ } خلفوا عن الغزو وقيل عن أبي لبابة وأصحابه حين تيب عليهم بعدهم وقرىء «خلفوا» أي خلفوا الغازين بالمدينة ، أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم . وقرأ جعفر الصادق رضي الله عنه : «خالفوا» . وقرأ الأعمش : «وعلى الثلاثة المخلفين» { بِمَا رَحُبَتْ } برحبها ، أي : مع سعتها ، وهو مثل للحيرة في أمرهم ، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يقرّون فيه قلقاً وجزعاً مما هم فيه { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } أي قلوبهم ، لا يسعها أنس ولا سرور؛ لأنها حرجت من فرط الوحشة والغمّ { وَظَنُّواْ } وعلموا { أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ } سخط { الله إِلاَّ } إلى استغفاره { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرّة بعد أخرى ، ليستقيموا على توبتهم ويثبتوا وليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة ، علماً منهم أن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة . روي أن ناساً من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به . عن الحسن : بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيراً من مائة ألف درهم فقال : يا حائطاه ، ما خلفني إلاّ ظلك وانتظار ثمرك ، اذهب فأنت في سبيل الله . ولم يكن لآخر إلاّ أهله فقال : يا أهلاه ما بطأني ولا خلفني إلاّ الضنّ بك لا جرم ، والله لأكابدنّ المفاوز حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فركب ولحق به . ولم يكن لآخر إلاّ نفسه لا أهل ولا مال ، فقال : يا نفس ما خلفني إلاّ حبّ الحياة لك والله لأكابدنّ الشدائد حتى ألحق برسول الله ، فتأبط زاده ولحق به . قال الحسن : كذلك والله المؤمن يتوب من ذنوبه ولا يصرّ عليها .
( 498 ) وعن أبي ذرّ الغفاري : أن بعيره أبطأ به فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده : كن أبا ذرّ ، فقال الناس : هو ذاك ، فقال : " رحم الله أبا ذرّ ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده " ( 499 )
وعن أبي خيثمة أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء ، فرشت له في الظلّ ، وبسطت له الحصير ، وقرّبت إليه الرطب والماء البارد ، فنظر فقال : ظلّ ظليل ، ورطب يانع ، وماء بارد ، وامرأة حسناء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضحّ والريح . : ما هذا بخير ، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومرّ كالريح ، فمدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق ، فإذا براكب يزهاه السراب فقال : «كن أبا خيثمة» فكانه .
ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له .
ومنهم من بقي لم يلحق به . منهم الثلاثة .
( 500 ) قال كعب : لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه فردّ عليّ كالمغضب بعد ما ذكرني وقال : «ليت شعري ما خلف كعباً»؟ فقيل له : ما خلفه إلاّ حسن برديه والنظر في عطفيه . فقال معاذ : [ بئس ما قلت والله يا رسول الله ] ما أعلم إلاّ فضلاً وإسلاماً ، ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة ، فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد ، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهنّ ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع : أبشر يا كعب بن مالك ، فخررت ساجداً وكنت كما وصفني ربي { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } وتتابعت البشارة ، فلبست ثوبي وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمين ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله حتى صافحني وقال : لتهنك توبة الله عليك ، فلن أنساها لطلحة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر : ( أبشر يا كعب بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك ، ثم تلا علينا الآية ) . وعن أبي بكر الورّاق أنه سئل عن التوبة النصوح؟ فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت ، وتضيق عليه نفسه ، كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
{ مَعَ الصادقين } وقرىء : «من الصادقين» وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولاً وعملاً ، أو الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم لله ورسوله على الطاعة من قوله : { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] وقيل : هم الثلاثة ، أي كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم . وعن ابن عباس رضي الله عنه : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب ، أي كونوا مع المهاجرين والأنصار ، ووافقوهم وانتظموا في جملتهم ، واصدقوا مثل صدقهم . وقيل لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك . وعن ابن مسعود رضي الله عنه :
( 501 ) لا يصلح الكذب في جدّ ولا هزل ، ولا أن يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجزه . اقرءوا إن شئتم : وكونوا مع الصادقين فهل فيها من رخصة؟ { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء ، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط ، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما تلقاه نفسه ، علماً بأنها أعزُّ نفس عند الله وأكرمها عليه . فإذا تعرضت مع كرامتها وعزّتها للخوض في شدّة وهول ، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرّضت له ، ولا يكترث لها أصحابها ولا يقيموا لها وزناً ، وتكون أخفّ شيء عليهم وأهونه ، فضلاً عن أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه ، وهذا نهي بليغ ، مع تقبيح لأمرهم ، وتوبيخ لهم عليه ، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية { ذلك } إشارة إلى ما دلّ عليه قوله : ما كان لهم أن يتخلفوا من وجوب مشايعته ، كأنه قيل ذلك الوجوب { ب } سبب { إِنَّهُمْ لا يُصِيبَهُم } شيء من عطش ، ولا تعب ، ولا مجاعة في طريق الجهاد ، ولا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم وأرجلهم . ولا يتصرفون في أرضهم تصرفاً يغيظهم ويضيق صدورهم { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً } ولا يرزءونهم شيئاً بقتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة أو غير ذلك { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } واستوجبوا الثواب ونيل الزلفى عند الله ، وذلك مما يوجب المشايعة . ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة ، لا الوطء بالأقدام والحوافر ، كقوله عليه السلام :
( 502 ) " آخر وطأة وطئها الله بوج " والموطىء . إما مصدر كالمورد وإما مكان فإن كان مكاناً فمعنى يغيظ الكفار : يغيظهم وطئه والنيل أيضاً يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً ، وأن يكون بمنعى المنيل . ويقال : نال منه إذا رزأه ونقصه ، وهو عام في كل ما يسؤوهم وينكبهم ويلحق بهم ضرراً . وفيه دليل على أن من قصد خيراً كان سعيه فيه مشكوراً من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك ، وكذلك الشرّ . وبهذه الآية استشهد أصحاب أبي حنيفة أنّ المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك لنا الجيش في الغنيمة ، لأنّ وطء ديارهم مما يغيظهم وينكي فيهم .
( 503 ) ولقد أسهم النبي صلى الله عليه وسلم لابني عامر ، وقد قدما بعد تقضي الحرب ، وأمدّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه المهاجر بن أبي أمية وزياد بن أبي لبيد بعكرمة بن أبي جهل مع خمسمائة نفس ، فلحقوا بعد ما فتحوا فأسهم لهم . [ و ] عند الشافعي : لا يشارك المدد الغانمين ، وقرأ عبيد ابن عمير : «ظماء» بالمدح يقال : ظمىء ظماءة وظماء { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً } ولو تمرة ولو علاقة سوط { وَلاَ كَبِيرَةً } مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا } أي أرضاً في ذهابهم ومجيئهم ، والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل ، وهو في الأصل «فاعل» من ودى إذا سال . ومنه الودي . وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض . يقولون : لا تصلّ في وادي غيرك { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } ذلك من الإنفاق وقطع الوادي : ويجوز أن يرجع الضمير فيه إلى عمل صالح وقوله : { لِيَجْزِيَهُمُ } متعلق بكتب أي أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء .
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
اللام لتأكيد النفي . ومعناه أن نفير الكافة عن أوطانهم لطلب العلم غير صحيح ولا ممكن . وفيه أنه لو صحّ وأمكن ، ولم يؤدّ إلى مفسدة لوجب التفقه على الكافة ، ولأنّ طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة { فَلَوْلاَ نَفَرَ } فحين لم يمكن نفير الكافة ولم يكن مصلحة فهلا نفر { مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ } أي من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم يكفونهم النفير { لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين } ليتكلفوا الفقاهة فيه ، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه : إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم ، لا ما ينتحيه الفقهاء من الأغراض الخسيسة ويؤمّونها من المقاصد الركيكة ، ومن التصدّر والترؤس والتبسط في البلاد ، والتشبه بالظلمة في ملابسهم ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضاً ، وفشوّ داء الضرائر بينهم وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح ببصره مدرسة لآخر ، أو شرذمة جثوا بين يديه ، وتهالكه على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم ، فما أبعد هؤلاء من قوله عزّ وجلّ : { لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأرض وَلاَ فَسَاداً } [ القصص : 83 ] . { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملاً صالحاً . ووجه آخر : وهو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث بعثاً - بعد غزوة تبوك وبعد ما أنزل في المتخلفين من الآيات الشداد - استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير وانقطعوا جميعاً عن استماع الوحي والتفقه في الدين ، فأمروا أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون ، حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ، لأنّ الجدال بالحجّة أعظم أثراً من الجلاد بالسيف . وقوله : { لّيَتَفَقَّهُواْ } الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطواف ، النافرة من بينهم { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم وعلى الأوّل الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
{ يَلُونَكُمْ } يقربون منكم ، والقتال واجب مع كافة الكفرة قريبهم وبعيدهم ، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب . ونظيره { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، ثم غيرهم من عرب الحجاز ، ثم غزا الشام . وقيل : هم قريظة والنضير وفدك وخيبر . وقيل : الروم ، لأنهم كانوا يسكنون الشأم والشأم أقرب إلى المدينة من العراق وغيره ، وهكذا المفروض على أهل كل ناحية أن يقاتلوا من وليهم ، ما لم يضطر إليهم أهل ناحية أخرى . وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن قتال الديلم؟ فقال : عليك بالروم . وقرىء : «غلظة» بالحركات الثلاث ، فالغلظة كالشدّة ، والغلظة كالضغطة ، والغلظة كالسخطة ونحوه { واغلظ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ] { وَلاَ تَهِنُواْ } [ آل عمران : 139 ] وهو يجمع الجرأة والصبر على القتال وشدّة العداوة والعنف في القتل والأسر ، ومنه { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله } [ النور : 2 ] . { مَعَ المتقين } ينصر من اتقاه فلم يترأف على عدّوه .
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
{ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ } فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه } السورة { إيمانا } إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين واعتقادهم زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به . وأيكم : مرفوع بالابتداء . وقرأ عبيد بن عمير : «أيكم» بالفتح على إضمار فعل يفسره { زَادَتْهُ } تقديره : أيكم زادت زادته هذه إيماناً { فَزَادَتْهُمْ إيمانا } لأنها أزيد لليقين والثبات ، وأثلج للصدر . أو فزادتهم عملاً ، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان ، لأنّ الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } كفراً مضموماً إلى كفرهم ، لأنهم كلما جدّدوا بتجديد الله الوحي كفراً ونفاقاً ، ازداد كفرهم واستحكم وتضاعف عقابهم .
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
قرىء : «أولا يرون» ، بالياء والتاء { يُفْتَنُونَ } يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله ثم لا ينتهون ولا يتوبون عن نفاقهم ، ولا يذكرون ، ولا يعتبرون ، ولا ينظرون في أمرهم ، أو يبتلون في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل الله عليه من نصرته وتأييده . أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم ، ثم لا ينزجرون { نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } تغامزوا بالعيون إنكاراً للوحي وسخرية به قائلين { هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ } من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك ، فنخاف الافتضاح بينهم . أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لواذا يقولون : هل يراكم من أحد . وقيل : معناه : إذا ما أنزلت سورة في عيب المنافقين { صَرَفَ الله قُلُوبَهُم } دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح { قُلُوبَهُم } بسبب أنهم { قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } لا يتدبرون حتى يفقهوا .
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{ مّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم ومن نسبكم عربي قرشي مثلكم ، ثم ذكر ما يتبع المجانسة والمناسبة من النتائج بقوله : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي شديد عليه شاق - لكونه بعضاً منكم - عنتكم ولقاؤكم المكروه ، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } حتى لا يخرج أحد منكم عن اتباعه والاستسعاد بدين الحقّ الذي جاء به { بالمؤمنين } منكم ومن غيركم { رَءوفٌ رَّحِيمٌ } . وقرىء : «من أنْفَسِكم» أي من أشرفكم وأفضلكم . وقيل : هي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة وعائشة رضي الله عنهما . وقيل : لم يجمع الله اسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { رَءوفٌ رَّحِيمٌ } . { فَإِن تَوَلَّوْاْ } فإن أعرضوا عن الإيمان بك وناصبوك فاستعن وفوّض إليه ، فهو كافيك معرّتهم ولا يضرونك وهو ناصرك عليهم . وقرىء : { العظيم } بالرفع . وعن ابن عباس رضي الله عنه : العرش لا يقدر أحد قدره . وعن أبيّ ابن كعب : آخر آية نزلت : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 504 ) " ما نزل عليّ القرآن إلاّ آية آية وحرفاً حرفاً ، ما خلا سورة براءة وقل هو الله أحد ، فإنهما أنزلتا عليّ ومعهما سبعون ألف صفّ من الملائكة " .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
{ الر } تعديد للحروف على طريق التحدي . و { تِلْكَ ءايات الكتاب } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة . و { الحكيم } ذو الحكمة لاشتماله عليها ونطقه بها . أو وصف بصفة محدثة . قال الأعشى :
وَغَرِيبَةٍ تَأْتِي الْمُلُوكَ حَكِيمَة ... قَدْ قُلْتُها لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا
الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه . و { أَنْ أَوْحَيْنَا } اسم كان ، وعجباً : خبرها . وقرأ ابن مسعود : «عجب» فجعله اسماً وهو نكرة و { أَنْ أَوْحَيْنَا } خبراً وهو معرفة ، كقوله :
يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ ... والأجود أن تكون «كان» تامة ، وأن أوحينا بدلاً من عجب . فإن قلت : فما معنى اللام في قوله : { كَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا } ؟ وما هو الفرق بينه وبين قولك : أكان عند الناس عجباً؟ قلت : معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ، ونصبوه علماً لهم يوجهون نحوه استهزائهم وإنكارهم ، وليس في عند الناس هذا المعنى ، والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر ، وأن يكون رجلاً من أفناء رجالهم ، دون عظيم من عظمائهم ، فقد كانوا يقولون : العجب أنّ الله لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلاّ يتيم أبي طالب ، وأن يذكر لهم البعث وينذر بالنار ويبشر بالجنة ، وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب ، لأنّ الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلاّ بشر مثلهم . وقال الله تعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب أيضاً ، لأنّ الله تعالى : إنما يختار من استحق الاختيار ، لجمعه أسباب الاستقلال بما اختير له من النبوّة . والغنى والتقدم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء { وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } [ سبأ : 37 ] والبعث للجزاء على الخير والشرّ هو الحكمة العظمى فكيف يكون عجباً؟ إنما العجب العجيب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء { أَنْ أَنذِرِ الناس } أن هي المفسرة؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول : ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، وأصله : أنه أنذر الناس ، على معنى : أن الشأن قولنا أنذر الناس . و { أَنَّ لَهُمْ } الباء معه محذوف { قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ } أي سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة . فإن قلت : لم سميت السابقة قدماً؟ قلت : لما كان السعي والسبق بالقدم ، سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً ، كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد . وباعاً لأنّ صاحبها يبوع بها ، فقيل : لفلان قدم في الخير . وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل ، وأنه من السوابق العظيمة ، وقيل : مقام صدق { إِنَّ هَذَا } إن هذا الكتاب وما جاء به محمد { لسحر } ومن قرأ : «لساحر» فهذا إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً ، وفي قراءة أبيّ : «ما هذا إلاّ سحر» .
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
{ يُدَبِّرُ } يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعل المتحري للصواب الناظر في أدبار الأمور وعواقبها ، لئلا يلقاه ما يكره آخراً . و { الامر } أمر الخلق كله وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش . فإن قلت : ما موقع هذه الجملة؟ قلت : قد دلّ بالجملة قبلها على عظمة شأنه وملكه بخلق السموات والأرض ، مع بسطتها واتساعها في وقت يسير ، وبالاستواء على العرش ، وأتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره ، وكذلك قوله : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } دليل على العزة والكبرياء ، كقوله : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } [ النبأ : 38 ] و { ذلكم } إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة ، أي ذلك العظيم الموصوف بما وصف به هو ربكم ، وهو الذي يستحق منكم العبادة { فاعبدوه } وحده ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان ، فضلاً عن جماد لا يضرّ ولا ينفع { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } فإن أدنى التفكر والنظر ينبهكم على الخطأ فيما أنتم عليه { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } أي لا ترجعون في العاقبة إلاّ إليه فاستعدوا للقائه { وَعَدَ الله } مصدر مؤكد لقوله : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } و { حَقًّا } مصدر مؤكد لقوله : { وَعَدَ الله } . { إنَّهُ يبدؤ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه ، وهو أنّ الغرض ومقتضى الحكمة بابتداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم . وقرىء : «أنه يبدؤ الخلق» بمعنى لأنه . أو هو منصوب بالفعل الذي نصب وعد الله : أي وعد الله وعداً بدأ الخلق ثم إعادته . والمعنى : إعادة الخلق بعد بدئه . وقرىء : «وعد الله» ، على لفظ الفعل . ويبدىء ، من أبدأ . ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقاً ، أي حقّ حقاً بدأ الحلق ، كقوله :
أَحَقّاً عِبَادَ اللَّهِ أَنّ لَسْتُ جَائِيا ... وَلاَ ذَاهِباً إلاّ عَلَيَّ رَقِيبُ
وقرىء : «حق أنه يبدؤ الخلق» كقولك : حق أنّ زيداً منطلق { بالقسط } بالعدل ، وهو متعلق بيجزى . والمعنى : ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم . أو بقسطهم وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا صالحاً ، لأنّ الشرك ظلم . قال الله تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] والعصاة : ظلاّم أنفسهم ، وهذا أوجه ، لمقابلة قوله : { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
الياء في { ضِيَاء } منقلبة عن واو ضوء لكسرة ما قبلها . وقرىء : «ضئاء» بهمزتين بينهما ألف على القلب ، بتقديم اللام على العين ، كما قيل في عاق : عقا . والضياء أقوى من النور { وَقَدَّرَهُ } وقدّر القمر . والمعنى وقدّر مسيره { مَنَازِلَ } أو قدّره ذا منازل ، كقوله تعالى : { والقمر قدرناه مَنَازِلَ } [ يس : 39 ] . { والحساب } وحساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي { ذلك } إشارة إلى المذكور أي ما خلقه إلاّ ملتبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثاً . وقرىء : «يفصل» ، بالياء .
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
خصّ المتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى النظر والتدبر .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
{ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } لا يتوقعونه أصلاً ، ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم المستولية عليهم ، المذهلة باللذات وحبّ العاجل عن التفطن للحقائق . أو لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف { وَرَضُواْ بالحياة الدنيا } من الآخرة ، وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي ، كقوله تعالى : { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } [ التوبة : 38 ] . { واطمأنوا بِهَا } وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها ، فبنوا شديداً وأمّلوا بعيداً .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } يسدّدهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدّي إلى الثواب ، لذلك جعل { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } بياناً له وتفسيراً ، لأنّ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها ، ويجوز أن يريد : يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة ، كقوله تعالى : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } [ الحديد : 12 ] ومنه الحديث :
( 505 ) " إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صُوِّر حسنة ، فيقول له : أنا عملك ، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة وأما الكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار " فإن قلت : فلقد دلّت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة ، هو إيمان مقيد ، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح ، والإيمان الذي لم يقرن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور . قلت : الأمر كذلك . ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعاً فيها بين الإيمان والعمل ، كأنه قال : إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ، ثم قال : بإيمانهم ، أي بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح ، وهو بين واضح لا شبهة فيه { دَعْوَاهُمْ } دعاؤهم ، لأنّ «اللَّهم» نداء لله ومعناه : اللَّهم إنا نسبحك ، كقول القانت في دعاء القنوت : اللَّهم إياك نعبد ولك نصلّي ونسجد . ويجوز أن يراد بالدعاء : العبادة { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] على معنى : أن لا تكليف في الجنة ولا عبادة ، وما عبادتهم إلاّ أن يسبحوا الله ويحمدوه ، وذلك ليس بعبادة ، إنما يلهمونه فينطقون به تلذذاً بلا كلفة ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } [ الأنفال : 35 ] . { وَءَاخِرُ دعواهم } وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح { أَنِ } يقولوا : { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } . ومعنى { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } أنّ بعضهم يحيي بعضاً بالسلام . وقيل : هي تحية الملائكة إياهم ، إضافة للمصدر إلى المفعول . وقيل : تحية الله لهم . وأن هي المخففة من الثقيلة ، وأصله : أنه الحمد لله ، على أن الضمير للشأن كقوله :
أَنّ كُلَّ هالِكٌ مَنْ يَحْفَي وَيَنْتَعِلُ ... وقرىء : «أَنَّ الحمدَ لله» بالتشديد ونصب الحمد .
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
أصله { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر } تعجيله لهم الخير ، فوضع { استعجالهم بالخير } موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم ، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيل لهم ، والمراد أهل مكة . وقولهم : فأمطر علينا حجارة من السماء ، يعني : ولو عجلنا لهم الشرّ الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } لأميتوا وأهلكوا . وقرىء : «لقضى إليهم أجلهم» على البناء للفاعل ، وهو الله عزّ وجلّ ، وتنصره قراءة عبد الله : «لقضينا إليهم أجلهم» فإن قلت : فكيف اتصل به قوله : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } وما معناه؟ قلت : قوله : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله } متضمن معنى نفي التعجيل ، كأنه قيل : ولا نعجل لهم الشرّ ، ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم { فِي طغيانهم } أي فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم ، إلزاماً للحجّة عليهم .
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{ لِجَنبِهِ } في موضع الحال ، بدليل عطف الحالين عليه أي دعانا مضطجعاً { أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا } . فإن قلت : فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟ قلت : معناه أنّ المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضرّ ، فهو يدعونا في حالاته كلها - إن كان مضطجعاً عاجز النهض متخاذل النوء أو كان قاعداً لا يقدر على القيام ، أو كان قائماً لا يطيق المشي والمضطرب - إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها والمسحة بتمامها . ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشدّ حالاً وهو صاحب الفراش . ومنهم من هو أخفّ وهو القادر على القعود . ومنهم المستطيع للقيام ، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء ، لأنّ الإنسان للجنس { مَرَّ } أي مضى على طريقته الأولى قبل مسّ الضرّ ، ونسي حال الجهد . أو مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه ، كأنه لا عهد له به { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا } ، كأنه لم يدعنا ، فخفف وحذف ضمير الشأن قال :
كَأَنْ ثَدْيَاهُ حُقّانِ ... { كذلك } مثل ذلك التزيين { زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ } زين الشيطان بوسوسته أو الله بخذلانه وتخليته { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات .
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
{ لَمَّا } ظرف لأهلكنا : والواو في { وَجَاءتْهُمْ } للحال ، أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات . وقوله : { وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } يجوز أن يكون عطفاً على ظلموا ، وأن يكون اعتراضاً واللام لتأكيد النفي ، يعني : ما كانوا يؤمنون حقاً تأكيداً لنفي إيمانهم ، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على كفرهم ، وأن الإيمان مستبعد منهم . والمعنى : أن السبب في إهلاكهم تكذيب الرسل ، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجّة ببعثه الرسل { كذلك } مثل ذلك الجزاء يعني الإهلاك { نَجْزِي } كل مجرم ، وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرىء : «يجزي» بالياء { ثُمَّ جعلناكم } الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم ، أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكنا { لِنَنظُرَ } أتعملون خيراً أم شراً فنعاملكم على حسب عملكم . و { كَيْفَ } في محل النصب بتعلمون لا بننظر ، لأنّ معنى الاستفهام فيه يحجب أن يتقدّم عليه عامله . فإن قلت : كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة قلت : هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجوداً شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
غاظهم ما في القرآن من ذمّ عبادة الأوثان والوعيد للمشركين ، فقالوا : { ائت بِقُرْءانٍ } آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك { أَوْ بَدّلْهُ } بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة ، وتسقط ذكر الآلهة وذمّ عبادتها . فأمر بأن يجيب عن التبديل ، لأنه داخل تحت قدرة الإنسان ، وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل ، وأن يسقط ذكر الآلهة . وأما الإتيان بقرآن آخر ، فغير مقدور عليه للإنسان { مَا يَكُونُ لِى } ما ينبغي لي وما يحلّ ، كقوله تعالى : { مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ } [ المائدة : 116 ] . { أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى } من قبل نفسي . وقرىء : بفتح التاء : من غير أن يأمرني بذلك ربي { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } لا آتي ولا أذر شيئاً من نحو ذلك ، إلاّ متبعاً لوحي الله وأوامره ، إن نسخت آية تبعت النسخ ، وأن بدِّلت آية مكان آية تبعت التبديل ، وليس إليّ تبديل ولا نسخ { إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } بالتبديل والنسخ من عند نفسي { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } . فإن قلت : أما ظهر وتبين لهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن حتى قالوا : { ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا } ؟ قلت : بلى ، ولكنهم كانوا لا يعترفون بالعجز ، وكانوا يقولون : لو نشاء لقلنا مثل هذا . ويقولون : افترى على الله كذباً ، فينسبونه إلى الرسول ويزعمونه قادراً عليه وعلى مثله . مع علمهم بأنّ العرب مع كثرة فصحائها وبلغائها إذا عجزوا عنه ، كان الواحد منهم أعجز . فإن قلت : لعلهم أرادوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدّله ، من جهة الوحي كما أتيت بالقرآن من جهته . وأراد بقوله : { مَا يَكُونُ لِى } ما يتسهل لي وما يمكنني أن أُبدّله . قلت : يردّه قوله : { إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } . فإن قلت : فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأنكرهم في هذا الاقتراح؟ قلت : الكيد والمكر . أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ، ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله ، فأبدل مكانه آخر ، وأما اقتراح التبديل والتغيير ، فللطمع ولاختبار الحال . وأنه إن وجد منه تبديل ، فإما أن يهلكه الله فينجو منه ، أو لا يهلكه فيسخروا منه ، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله .
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
{ لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } يعني أن تلاوته ليست إلاّ بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات ، وهو أن يخرج رجل أميّ لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره ، ولا نشأ في بلد فيه علماء فيقرأ عليهم كتاباً فصيحاً ، يبهر كل كلام فصيح ، ويعلو على كل منثور ومنظوم ، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع ، وأخبار مما كان وما يكون ، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلاّ الله ، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره ، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك ، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به { وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } ولا أعلمكم به على لساني . وقرأ الحسن : «ولا أدراتكم به» على لغة من يقول : اعطاته وأرضاته ، في معنى أعطيته وأرضيته . وتعضده قراءة ابن عباس : «ولا أنذرتكم به» . ورواه الفراء : «ولا ادرأتكم به» وبالهمز . وفيه وجهان ، أحدهما : أن تقلب الألف همزة ، كما قيل : لبأت بالحج . ورثأت الميت وحلأت السويق ، وذلك لأنّ الألف والهمزة من وادٍ واحد . ألا ترى أنّ الألف إذا مستها الحركة انقلبت همزة . والثاني : أن يكون من درأته إذا دفعته ، وأدرأته إذا جعلته دارئاً . والمعنى : ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني . وعن ابن كثير : «ولأدراكم به» بلام الابتداء لإثبات الإدراء ومعناه : لو شاء الله ما تلوته أنا عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري ، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده ، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلاً دون سائر الناس { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً } وقرىء : «عمراً» بالسكون . يعني : فقد أقمت فيما بينكم يافعاً وكهلاً ، فلم تعرفوني متعاطياً شيئاً من نحوه ولا قدرت عليه ، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان فتتهموني باختراعه { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فتعلموا أنه ليس إلاّ من الله لا من مثلي . وهذا جواب عما دسّوه تحت قولهم : ائت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
{ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في قولهم : إنه ذو شريك وذو ولد ، وأن يكون تفادياً مما أضافوه إليه من الافتراء .
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
{ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضرّ . وقيل : إن عبدوها لن تنفعهم ، وإن تركوا عبادتها لم تضرّهم ، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية . وكان أهل الطائف يعبدون اللات ، وأهل مكة العزّى ومناة وهبل وأسافاً ونائلة { و } كانوا { يَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } وعن النضر بن الحرث : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزّى { أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ } أتخبرونه بكونكم شفعاء عنده ، وهو إنباء بما ليس بالمعلوم لله ، وإذا لم يكن معلوماً له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات ، لم يكن شيئاً لأنّ الشيء ما يعلم [ به ] ويخبر عنه ، فكان خبراً ليس له مخبر عنه . فإن قلت : كيف أنبأوا الله بذلك؟ قلت : هو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام ، وإعلام بأنّ الذي أنبؤا به باطل غير منطوٍ تحت الصحة ، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه كما يخبر الرجل الرجل بما لا يعلمه . وقرىء : «أتنبئون» بالتخفيف . وقوله : { فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض } تأكيد لنفيه؛ لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم { تُشْرِكُونَ } قرىء بالتاء والياء وما موصولة أو مصدرية ، أي عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم .
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
{ وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم ، وذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل هابيل . وقيل : بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين دياراً { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } وهوتأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة { لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ } عاجلاً فيما اختلفوا فيه ، ولميز المحق من المبطل ، وسبق كلمته بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف ، وتلك دار ثواب وعقاب . وقالوا : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } أرادوا آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها ، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات ، دقيقة المسلك من بين المعجزات ، وجعلوا نزولها كلا نزول ، وكأنه لم ينزل آية قط ، حتى قالوا : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ رَبَّهُ } ، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرّد وانهماكهم في الغيّ { فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ } أي هو المختصّ بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به ، يعني أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلاّ هو { فانتظروا } نزول ما اقترحتموه { إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين } لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات .
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
سلط الله القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ، ثم رحمهم بالحيا ، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه ، و «إذا» الأولى للشرط ، والآخرة جوابها وهي للمفاجأة ، والمكر : إخفاء الكيد وطيه ، من الجارية الممكورة المطوية الخلق . ومعنى { مَسَّتْهُمْ } خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم . فإن قلت : ما وصفهم بسرعة المكر ، فكيف صحّ قوله : { أَسْرَعُ مَكْرًا } ؟ قلت : بلى دلت على ذلك كلمة المفاجأة ، كأنه قال : وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجئوا وقوع المكر منهم ، وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤوسهم من مسّ الضرّاء ، ولم يتلبثوا ريثما يسيغون غصتهم . والمعنى : أنّ الله تعالى دبر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون في إطفاء نور الإسلام { إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ } إعلام بأنّ ما تظنونه خافياً مطوياً لا يخفى على الله ، وهو منتقم منكم . وقرىء : «يمكرون» ، بالتاء والياء . وقيل : مكرهم قولهم : سقينا بنوء كذا . وعن أبي هريرة :
( 506 ) إنّ الله ليُصَبِّح القوم بالنعمة ويُمَسِّيهم بها ، فتصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون : مطرنا بنوء كذا .
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
قرأ زيد بن ثابت : «ينشركم» ومثله قوله : { فانتشروا فِى الأرض } [ الجمعة : 10 ] ، { ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُون } [ الروم : 20 ] فإن قلت : كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر ، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ قلت : لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر ، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد «حتى» بما في حيّزها ، كأنه قيل : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظنّ للهلاك والدعاء بالإنجاء . فإن قلت : ما جواب «إذا»؟ قلت : جاءتها . فإن قلت : فدعوا؟ قلت : بدل من ظنوا؛ لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به . فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة؟ قلت : المبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح . فإن قلت : ما وجه قراءة أمّ الدرداء : «في الفلكي» بزيادة ياء النسب؟ قلت : قيل هما زائدتان كما في الخارجي والأحمري . ويجوز أن يراد به اللجّ والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلاّ فيه .
والضمير في { جرين } للفلك ، لأنه جمع فلك كالأسد ، في فعل أخي فعل . وفي قراءة أمّ الدرداء : «للفلك» أيضاً؛ لأنّ الفلكي يدلّ عليه { جَاءتْهَا } جاءت الريح الطيبة ، أي تلقتها . وقيل : الضمير للفلك { من كُلّ مَّكَانَ } من جميع أمكنة الموج { أُحِيطَ بِهِمْ } أي أهلكواجعل إحاطة العدوّ بالحي مثلاً في الهلاك { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } من غير إشراك به؛ لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا } على إرادة القول . أو لأنّ { دَعَوُاْ } من جملة القول : { يَبْغُونَ فِى الأرض } يفسدون فيها ويعبثون متراقين في ذلك ، ممعنين فيه ، من قولك : بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد . فإن قلت : فما معنى قوله : { بِغَيْرِ الحق } والبغي لا يكون بحق؟ قلت : بلى ، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة ، وهدم دورهم ، وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة . قرىء : «متاع الحياة الدنيا» ، بالنصب : فإن قلت : ما الفرق بين القراءتين؟ قلت : إذا رفعت كان المتاع خبراً للمبتدإ الذي هو { بَغْيُكُمْ } و { على أَنفُسِكُمْ } صلته ، كقوله : { فبغى عَلَيْهِمْ } ومعناه : إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا لابقاء لها وإذا نصبت { فَعَلَىَّ أَنفُسَكُمْ } خبر غير صلة معناه إنما بغيكم بال على أنفسكم ، و { متاع الحياة الدنيا } في موضع المصدر المؤكد ، كأنه قيل : تتمتعون متاع الحياة الدنيا . ويجوز أن يكون الرفع على : هو متاع الحياة الدنيا بعد تمام الكلام . وعن البني صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( 507 )
« لا تمكر ولا تعن ماكراً ، ولا تبغ ولا تعن باغياً ، ولا تنكث ولا تعن ناكثاً » وكان يتلوها . وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 508 ) « أسرع الخير ثواباً صلة الرحم ، وأعجل الشرّ عقاباً البغي واليمين الفاجرة » ، وروي :
( 509 ) « ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا : البغي وعقوق الوالدين » وعن ابن عباس رضي الله عنه :
( 510 ) لو بغى جبل على جبل لدك الباغي . وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه :
يَا صَاحِبَ الْبَغْيِ إنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَة ... فَارْبَعْ فَخَيْرُ فِعَالِ الْمَرْءِ أَعْسَلُهُ
فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْماً عَلَى جَبَل ... لانْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ
وعن محمد بن كعب : ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه : البغي والنكث والمكر . قال الله تعالى : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } .
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
هذا من التشبيه المركب ، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال ، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف وتكاثف ، وزين الأرض بخضرته ورفيفه { فاختلط بِهِ } فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً { أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت } كلام فصيح : جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس ، إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون ، فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين . وأصل { ازّينت } تزينت ، فأدغم . وبالأصل قرأ عبد الله . وقرىء : «وأزينت» ، أي أفعلت ، من غير إعلال الفعل كأغيلت أي صارت ذات زينة . وازيانت ، بوزن ابياضت { قَادِرُونَ عَلَيْهَا } متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها ، رافعون لعلتها { أَتَاهَا أَمْرُنَا } وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم { فَجَعَلْنَاهَا } فجعلنا زرعها { حَصِيداً } شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } كأن لم يغن زرعها ، أي لم ينبت على حذف المضاف في هذه المواضع لا بدّ منه ، وإلاّ لم يستقم المعنى . وقرأ الحسن : «كأن لم يغن» بالياء على أن الضمير للمضاف المحذوف ، الذي هو الزرع . وعن مروان أنه قرأ على المنبر : «كأن لم تتغن» بالأمس ، من قول الأعشى :
طَوِيلُ الثّوَاءِ طَوِيلُ التَّغَنِّي ... والأمس مثل في الوقت القريب كأنه قيل : كأن لم تغن آنفاً .
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{ دَارُ السلام } الجنة ، أضافها إلى اسمه تعظيماً لها . وقيل السلام السلامة؛ لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه . وقيل : لفشوّ السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم { إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما } [ الواقعة : 26 ] { وَيَهْدِى } ويوفق { مَن يَشَآء } وهم الذين علم أنّ اللطف يجدي عليهم ، لأنّ مشيئته تابعة لحكمته ومعناه : يدعو العباد كلهم إلى دار السلام ، ولا يدخلها إلاّ المهديون .
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
{ الحسنى } المثوبة الحسنى { وَزِيَادَةٌ } وما يزيد على المثوبة وهي التفضل . ويدلّ عليه قوله تعالى : { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } [ النساء : 173 ] وعن عليّ رضي الله عنه : الزيادة : غرفة من لؤلؤة واحدة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : الحسنى : الحسنة ، والزيادة : عشر أمثالها . وعن الحسن رضي الله عنه : عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وعن مجاهد رضي الله عنه : الزيادة مغفرة من الله ورضوان . وعن يزيد بن شجرة : الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئاً إلاّ أمطرتهم . وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى ، وجاءت بحديث مرفوع :
( 511 ) « إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحبّ إليهم منه » { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ } لا يغشاها { قَتَرٌ } غبرة فيها سواد { وَلاَ ذِلَّةٌ } ولا أثر هوان وكسوف بال . والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النارإذكاراً بما ينقذهم منه برحمته . ألا ترى إلى قوله تعالى { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [ عبس : 41 ] { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } [ يونس : 27 ] .
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
فإن قلت : ما وجه قوله : { والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } وكيف يتلاءم؟ قلت : لا يخلو ، إمّا أن يكون { والذين كَسَبُواْ } معطوفاً على قوله : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } [ يونس : 26 ] كأنه قيل : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، وإمّا أن يقدّر : وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها على معنى : جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها ، وهذا أوجه من الأوّل ، لأنّ في الأوّل عطفاً على عاملين وإن كان الأخقش بجيزه . وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل ، لأنه دلّ بترك الزيادة على السيئة على عدله ، ودلّ ثمة بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله . وقرىء : «يرهقهم ذلة» بالياء { مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } أي لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه . ويجوز ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين { مُظْلِماً } حال من الله . ومن قرأ : ( قطعاً ) بالسكون من قوله : { بِقِطْعٍ مّنَ اليل } [ هود : 81 ] جعله صفة له . وتعضده قراءة أبيّ بن كعب : كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم . فإن قلت : إذا جعلت مظلماً حالاً من الليل ، فما العامل فيه؟ قلت : لا يخلو إمّا أن يكون { أُغْشِيَتْ } من قبل إن { مِّنَ اليل } صفة لقوله : { قِطَعًا } فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإضفائه إلى الصفة ، وإمّا أن يكون معنى الفعل في { مِّنَ اليل } .
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
{ مَكَانَكُمْ } الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم . و { أَنتُمْ } أكد به الضمير في مكانكم لسدّه مسدّ قوله : الزموا { وَشُرَكَاؤُكُمْ } عطف عليه . وقرىء : «وشركاءكم» على أنّ الواو بمعنى مع ، والعامل فيه ما في مكانكم من معنى الفعل { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } ففرّقنا بينهم وقطعنا أقرانهم . والوصل التي كانت في بينهم في الدنيا . أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف . وتبرؤ شركائهم منهم ومن عبادتهم ، كقوله تعالى : { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } [ غافر : 73 ] وقرىء : «فزايلنا بينهم» كقولك : صاعر خدّه وصعره ، وكالمته وكلّمته . { مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } إنما كنتم تعبدون الشياطين ، حيث أمروكم أن تتخذوا لله أنداداً فأطعتموهم .
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{ إَن كُنَّا } هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، وهم الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دون الله من أولي العقل ، وقيل : الأصنام ينطقها الله عزّ وجلّ فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي زعموها وعلقوا بها أطماعهم { هُنَالِكَ } في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أوفى ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان { تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ } تختبر وتذوق { مَّا أَسْلَفَتْ } من العمل فتعرف كيف هو ، أقبيح أم حسن ، أنافع أم ضارّ ، أمقبول أم مردود؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرّفه ليكتنه حاله . ومنه قوله تعالى : { يَوْمَ تبلى السرائر } [ الطارق : 9 ] وعن عاصم : نبلو كلَّ نفس ، بالنون ونصب كل : أي نختبرها باختبار ما أسلفت من العمل ، فنفرق حالها بمعرفة حال عملها : إن كان حسناً فهي سعيدة ، وإن كان سيئاً فهي شقية . والمعنى : نفعل بها فعل الخابر ، كقوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشرّ . وقرىء : «تتلو» ، أي تتبع ما أسلفت؛ لأنّ عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار . أو تقرأ في صحيفتها ما قدّمت من خير أو شرّ { مولاهم الحق } ربهم الصادق ربوبيته؛ لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة . أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم ، العدل الذي لا يظلم أحداً . وقرىء : «الحق» بالفتح على تأكيد قوله : { رُدُّواْ إلى الله } [ الأنعام : 62 ] كقولك : هذا عبد الله الحق لا الباطل . أو على المدح كقولك : الحمد لله . أهل الحمد { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } وضاع عنهم ما كانوا يدعون أنهم شركاء لله . أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة .
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض } أي يرزقكم منهما جميعاً ، لم يقتصر برزقكم على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته { مِنْ يَمْلِكُ السمع والأبصار } من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحدّ الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة . أو من يحميهما ويحصنهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال ، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه { وَمَن يُدَبّرُ الأمر } ومن يلي تدبير أمر العالم كله ، جاء بالعموم بعد الخصوص { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أفلا تقون أنفسكم ولا تحذرون عليها عقابه فيما أنتم بصدده من الضلال { فَذَلِكُمُ } إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله { رَبُّكُمُ الحق } الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } يعني أن الحق والضلال لا واسطة بينهما ، فمن تخطى الحق وقع في الضلال { فأنى تُصْرَفُونَ } عن الحق إلى الضلال ، وعن التوحيد إلى الشرك ، وعن السعادة إلى الشقاء { كَذَلِكَ } مثل ذلك الحق { حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ } أي كما حق وثبت أنّ الحق بعده الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق ، فكذلك حقّت كلمة ربك { عَلَى الذين فَسَقُواْ } أي تمرّدوا في كفرهم وخرجوا إلى الحدّ الأقصى فيه ، و { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بدل من الكلمة أي حقّ عليهم انتفاء الإيمان ، وعلم الله منهم ذلك . أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان ، وأن إيمانهم غير كائن . أو أراد بالكلمة : العدة بالعذاب ، وأنهم لا يؤمنون تعليل ، بمعنى : لأنهم لا يؤمنون .
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
فإن قلت : كيف قيل لهم { هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يبدأالخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } وهم غير معترفين بالإعادة؟ قلت : قد وضعت إعادة الخلق لظهور برهانها موضع ما إن دفعه دافع كان مكابراً ردّاً للظاهر البين الذي لا مدخل للشبهة فيه ، دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمراً مسلماً معترفاً بصحته عند العقلاء ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } فأمره بأن ينوب عنهم في الجواب ، يعني أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فكلم عنهم . يقال : هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين : ويقال : هدى بنفسه بمعنى اهتدى ، كما يقال : شرى بمعنى اشترى . ومنه قوله : { أَمَّن لاَّ يَهِدِّى } . وقرىء : «لا يهدّى» بفتح الهاء وكسرها مع تشديد الدال . والأصل : يهتدي ، فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء ، أو كسرت لالتقاء الساكنين ، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها . وقرىء : «إلاّ أن يهدى» من هداه وهدّاه للمبالغة . ومنه قولهم : تهدى . ومعناه أن الله وحده هو الذي يهدي للحق ، بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم ، وبما لطف بهم ووفقهم وألهمهم وأخطر ببالهم ووقفهم على الشرائع ، فهل من شركائكم الذين جعلتم أنداداً لله أحد من أشرفهم كالملائكة والمسيح وعزير ، يهدي إلى الحق مثل هداية الله . ثم قال : أفمن يهدي إلى الحق هذه الهداية أحقّ بالاتباع ، أم الذي لا يهدي أي لا يهتدي بنفسه ، أو لا يهدي غيره إلاّ أن يهديه الله وقيل : معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه { إِلاَّ أَن يهدى } إلاّ أن ينقل ، أو لا يهتدي ولا يصحّ منه الاهتداء إلاّ أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } بالباطل ، حيث تزعمون أنهم أنداداً لله .
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ } في قرارهم بالله { إِلاَّ ظَنّا } لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم { إَنَّ الظن } في معرفة الله { لاَ يُغْنِى مِنَ الحق } وهو العلم { شَيْئاً } وقيل : وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنَّها شفعاء عند الله إلاّ الظنّ . والمراد بالأكثر : الجميع { إِنَّ الله عَلِيمٌ } وعيد على ما يفعلون من اتباع الظنّ وتقليد الآباء . وقرىء : «تفعلون» بالتاء .
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
{ وَمَا كَانَ هذا القرءان } افتراء { مِن دُونِ الله ولكن } كان { تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة ، لأنه معجز دونها فهو عيار عليها وشاهد لصحتها ، كقوله تعالى : { هُوَ الحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ فاطر : 31 ] . وقرىء : «ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب» على : ولكن هو تصديق وتفصيل . ومعنى وَمَا كَانَ أن يَفْتَرِى . وما صحّ وما استقام ، وكان محالاً أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفتري { وَتَفْصِيلَ الكتاب } وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع ، من قوله : { كتاب الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] . فإن قلت : بم اتصل قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ العالمين } قلت : هو داخل في حيز الاستدراك . كأنه قال : ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب كائناً من رب العالمين . ويجوز أن يراد : ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه لا ريب في ذلك ، فيكون { مِن رَّبِّ العالمين } متعلقاً بتصديق وتفصيل ، أو يكون { لاَ رَيْبَ فِيهِ } اعتراضاً ، كما تقول : زيد لا شكّ فيه كريم { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } بل أيقولون : اختلقه ، على أن الهمزة تقرير لإلزام الحجة عليهم . أو إنكار لقولهم واستبعاد . والمعنيان متقاربان { قُلْ } إن كان الأمر كما تزعمون { فَأْتُواْ } أنتم على وجه الافتراء { بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } فأنتم مثلي في العربية والفصاحة . ومعنى { بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } أي شبيهة به في البلاغة وحسن النظم . وقرىء : «بسورة مثله» على الإضافة ، أي : بسورة كتاب مثله { وادعوا } من دون الله { مَنِ استطعتم } من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله : يعني : أنّ الله وحده هو القادر على أن يأتي بمثله لا يقدر على ذلك أحد غيره ، فلا تستعينوه وحده ، ثم استعينوا بكل من دونه { إِن كُنتُمْ صادقين } أنه افتراء { بَلْ كَذَّبُواْ } بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن ، وفاجؤه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره ، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم ، كالناشيء على التقليد من الحشوية ، إذا أحسّ بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه - وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة - أنكرها في أوّل وهلة ، واشمأز منها قبل أن يحسّ إدراكها بحاسّة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد ، لأنه لم يشعر قلبه إلاّ صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب . فإن قلت : ما معنى التوقع في قوله : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ؟ قلت : معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل ، تقليداً للآباء . وكذبوه بعد التدبر ، تمرداً وعناداً ، فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به ، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرّر عليهم التحدّي ، ورازوا قواهم في المعارضة واستيقنوا عجزهم عن مثله ، فكذبوا به بغياً وحسداً { كَذَلِكَ } أي مثل ذلك التكذيب { كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم ، ولكن قلدوا الآباء وعاندوا .
وقيل : هو في الذين كذبوا وهم شاكون . ويجوز أن يكون معنى { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته ، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق ، يعني أنه كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه ، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب ، فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حدّ الإعجاز ، وقبل أن يخبروا أخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } يصدق به في نفسه ، ويعلم أنه حق ، ولكنه يعاند بالتكذيب . ومنهم من يشكّ فيه لا يصدق به ، أو يكون للاستقبال ، أي : ومنهم من سيؤمن به ومنهم من سيصرّ { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين } بالمعاندين ، أو المصرين .
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
{ وَإِن كَذَّبُوكَ } وإن تموا على تكذيبك ويئست من إجابتهم ، فتبرأ منهم وخلهم فقد أعذرت ، كقوله تعالى : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء } [ الشعراء : 216 ] وقيل : هي منسوخة بآية السيف .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } معناه : ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرآت القرآن وعلمت الشرائع ، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون وناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يصدقون . ثم قال : أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم؛ لأن الأصم العاقل ربما تفرّس واستدلّ إذا وقع في صماخه دويّ الصوت ، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعاً فقد تمّ الأمر . وأتحسب أنك تقدر على هداية العمي ولو انضم إلى العمى - وهو فقد البصر - فقد البصيرة؛ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن . وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء ، يعني أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا ، كالصمّ والعمي الذين لا بصائر لهم ولا عقول . وقوله : { أَفَأَنتَ . . . . . أَفَأَنتَ } دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلاّ الله عزّ وجلّ بالقسر والإلجاء ، كما لا يقدر على ردّ الأصم والأعمى المسلوبي العقل حديدي السمع والبصر راجحي العقل ، إلاّ هو وحده .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
{ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا } أي لا ينقصهم شيئاً مما يتصل بمصالحهم من بعثة الرسل وإنزال الكتب ، ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والتكذيب ، ويجوز أن يكون وعيداً للمكذبين ، يعني : أن ما يلحقهم يوم القيامة من العذاب لاحق بهم على سبيل العدل والاستيجاب . ولا يظلمهم الله به ، ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف ما كان سبباً فيه .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
{ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار } يستقربون وقت لبثهم في الدنيا . وقيل : في القبور ، لهول ما يرون { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } يعرف بعضهم بعضاً ، كأنهم لم يتفارقوا إلاّ قليلاً ، وذلك عند خروجهم من القبور ثم ينقطع التعارف بينهم لشدّة الأمر عليهم . فإن قلت : { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ } و { يَتَعَارَفُونَ } كيف موقعهما؟ قلت : أما الأولى فحال من «هم» أي يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلاّ ساعة . وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف . وإما أن تكون مبينة ، لقوله : { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً } لأنّ التعارف لا يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً { قَدْ خَسِرَ } على إرادة القول ، أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك ، أو هي شهادة من الله تعالى على خسرانهم . والمعنى أنهم وضعوا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } للتجارة عارفين بها ، وهو استئناف فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أخسرهم!
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
{ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } جواب نتوفينك ، وجواب نرينك محذوف ، كأنه قيل : وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك ، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة . فإن قلت : الله شهيد على ما يفعلون في الدارين ، فما معنى ثم؟ قلت : ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب ، كأنه قال : ثم الله معاقب على ما يفعلون . وقرأ ابن أبي عبلة : «ثم» بالفتح ، أي هنالك . ويجوز أن يراد : أنّ الله مؤدّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة ، حين ينطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم .
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
{ وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ } يبعث إليهم لينبههم على التوحيد ، ويدعوهم إلى دين الحق { فَإِذَا جَاء } هم { رَسُولَهُمْ } بالبينات فكذبوه ، ولم يتبعوه { قُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي بين النبيّ ومكذّبيه { بالقسط } بالعدل ، فأنجى الرسول وعذّب المكذّبون ، كقوله؛ { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] أو لكل أمّة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به ، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان ، كقوله تعالى : { وَجِىء بالنبيين والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق } [ الزمر : 69 ] .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
{ متى هذا الوعد } استعجال لما وعدوا من العذاب استبعاداً له { لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا } من مرض أو فقر { وَلاَ نَفْعاً } من صحة أو غنى { إِلاَّ مَا شَاء الله } استثناء منقطع : أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن ، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب؟ { لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } يعني أن عذابكم له أجل مضروب عند الله وحدّ محدود من الزمان { إِذَا جَاء } ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة ، فلا تستعجلوا . وقرأ ابن سيرين : «فإذا جاء آجالهم» .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
{ بَيَاتًا } نصب على الظرف ، بمعنى . وقت بيات ، فإن قلت : هلا قيل ليلاً أو نهاراً؟ قلت : لأنه أريد : إن أتاكم عذابه وقت بيات فبيتكم وأنتم ساهون لا تشعرون ، كما يبيت العدو المباغت . والبيات بمعنى التبييت ، كالسلام بمعنى التسليم ، وكذلك قوله : { نَهَارًا } معناه في وقت أنتم فيه مشتغلون بطلت بالمعاش والكسب . ونحوه { بياتا وَهُمْ نَائِمُونَ } [ الأعراف : 98 ] ، { ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ الأعراف : 98 ] الضمير في { مِنْهُ } للعذاب . والمعنى : أن العذاب كله مكروه مرّ المذاق موجب للنفار ، فأي شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال . ويجوز أن يكون معناه التعجب ، كأنه قيل أي شيء هول شديد يستعجلون منه ، ويجب أن تكون «من» للبيان في هذا الوجه . وقيل : الضمير في { مِنْهُ } لله تعالى . فإن قلت : بم تعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط قلت تعلق بأرأيتم لأنَّ المعنى : أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون وجواب الشرط محذوف وهو : تندموا على الاستعجال ، أو تعرفوا الخطأ فيه . فإن قلت : فهلا قيل : ماذا تستعجلون منه . قلت : أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام؛ لأنّ من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه ، ويهلك فزعاً من مجيئه وإن أبطأ ، فضلاً أن يستعجله . ويجوز أن يكون { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } جواباً للشرط ، كقولك : إن أتيتك ماذا تطعمني؟ بما تتعلق الجملة بأرأيتم ، وأن يكون { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ } جواب الشرط ، و { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } اعتراضاً . والمعنى : إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ، ودخول حرف الاستفهام على ثم ، كدخوله على الواو والفاء في قوله : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 97 ] ، { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 98 ] . { ءآلئان } على إرادة القول ، أي : قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب : آلآن آمنتم به { وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } يعني : وقد كنتم به تكذبون؛ لأنّ استعجالهم كان على جهة التكذيب والإنكار . وقرىء : «آلان» ، بحذف الهمزة بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام { ثُمَّ قِيلَ الذين ظَلَمُواْ } عطف على «قيل» المضمر قبل آلآن .
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
{ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ } ويستخبرونك فيقولون : { أَحَقٌّ هُوَ } وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء . وقرأ الأعمش : «آلحق هو» ، وهو أدخل في الاستهزاء ، لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل . وذلك أنّ اللام للجنس ، فكأنه قيل : أهو الحق لا الباطل؟ أو أهو الذي سميتموه الحق ، والضمير للعذاب الموعود . و { إِى } بمعنى «نعم» في القسم خاصة ، كما كان «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصة . وسمعتهم يقولون في التصديق : إيوَ ، فيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } بفائتين العذاب ، وهو لاحق بهم لا محالة .
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
{ ظَلَمَتْ } صفة لنفس على : ولو أنّ لكل نفس ظالمة { مَّا فِى الأرض } أي ما في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها وجميع منافعها على كثرتها { لاَفْتَدَتْ بِهِ } لجعلته فدية لها . يقال : فده فافتدى . ويقال : افتداه أيضاً بمعنى فداه { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ولم يخطر ببالهم وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم وبهرهم فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخاً ولا ما يفعله الجازع ، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب ، كما ترى المقدّم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخطب ، ويغلب حتى لا ينبس بكلمة ويبقى جامداً مبهوتاً ، وقيل : أسر رؤساؤهم الندامة من سفالتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم وقيل أسروها أخلصوها ، إما لأن إخفاءها إخلاصها ، وإما من قولهم : سرّ الشيء ، خالصه . وفيه تهكم بهم وبأخطائهم وقت إخلاص الندامة . وقيل : أسروا الندامة : أظهروها ، من قولهم : أسر الشيء وأشره إذا أظهره . وليس هناك تجلد { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي بين الظالمين والمظلومين ، دلّ على ذلك ذكر الظلم . ثم أتبع ذلك الإعلام بأنّ له الملك كله ، وأنه المثيب المعاقب ، وما وعدوه من الثواب والعقاب فهو حق . وهو القادر على الإحياء والإماتة ، لا يقدر عليهما غيره ، وإلى حسابه وجزائه المرجع ، ليعلم أن الأمر كذلك ، فيخاف ويرجىء ولا يغتر به المغترون .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
{ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ } أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد { و } هو { شِفَآء } أي دواء { لِّمَا فِي } صدوركم من العقائد الفاسدة ودعاء إلى الحق { وَرَحْمَةً } لمن آمن به منكم . وأصل الكلام : بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ، فبذلك فليفرحوا ، والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا ، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه ، والفاء داخلة لمعنى الشرط؛ كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح ، فإنه لا مفروح به أحق منهما . ويجوز أن يراد : بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا . ويجوز أن يراد : قد جاءتكم موعطة بفضل الله وبرحمته ، فبذلك : فبمجيئها فليفرحوا .
( 512 ) وقرىء : «فلتفرحوا» بالتاء وهو الأصل والقياس ، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي . وعنه :
( 513 ) لتأخذوا مصافكم» قالها في بعض الغزوات . وفي قراءة أبيّ : «فافرحوا» { هُوَ } راجع إلى ذلك . وقرىء : «مما تجمعون» بالياء والتاء . وعن أبيّ بن كعب :
( 514 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ } فقال : بكتاب الله والإسلام» وقيل : «فضله» الإسلام «ورحمته» ما وعد عليه .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
{ أَرَأَيْتُمْ } أخبروني . و { مَّاَ أَنزَلَ الله } «ما» في موضع النصب ، بأنزل ، أو بأرأيتم ، في معنى : أخبرونيه { فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً } أي أنزله الله رزقاً حلالاً كله فبعضتموه وقلتم : هذا حلال وهذا حرام ، كقولهم : { هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ } ، { مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا } { الله أَذِنَ لَكُمْ } متعلق بأرأيتم . وقل : تكرير للتوكيد . والمعنى : أخبروني آلله أذن لكم في التحليل والتحريم فأنتم تفعلون ذلك بإذنه ، أم تتكذبون على الله في نسبة ذلك إليه . ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار ، وأم منقطعة بمعنى : بل أتفترون على الله ، تقريراً للافتراء . وكفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسئل عنه من الأحكام . وباعثة على وجوب الاحتياط فيه ، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلاّ بعد إيقان وإتقان ، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت ، وإلاّ فهو مفتر على الله { يَوْمُ القيامة } منصوب بالظن ، وهو ظنّ واقع فيه ، يعني : أي شيء ظنّ المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة ، وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره . وقرأ عيسى ابن عمر : «وما ظنّ» على لفظ الفعل . ومعناه : وأي ظنّ ظنّوا يوم القيامة . وجيء به على لفظ الماضي لأنه كائن فكأن قد كان { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بالوحي وتعليم الحلال والحرام { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } هذه النعمة ولا يتبعون ما هدوا إليه .
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
{ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ } «ما» نافية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والشأن : الأمر ، وأصله الهمز بمعنى القصد ، من شأنت شأنه إذا قصدت قصده . والضمير في { مِنْهُ } للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هو معظم شأنه ، أو للتنزيل ، كأنه قيل : وما تتلو من التنزيل من قرآن ، لأنّ كلّ جزء منه قرآن ، والإضمار قبل الذكر تفخيم له . أو لله عزّ وجلّ . وما { تَعْمَلُونَ } أنتم جميعاً { مِنْ عَمَلٍ } أيّ عمل كان { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا } شاهدين رقباء نحصي عليكم { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } من أفاض في الأمر إذا اندفع فيه { وَمَا يَعْزُبُ } . قرىء بالضم والكسر «وما يبعد وما يغيب» ، ومنه : الروض العازب { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ } القراءة بالنصب والرفع ، والوجه النصب على نفي الجنس ، والرفع على الابتداء ليكون كلاماً برأسه ، وفي العطف على محل { مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ } أو على لفظ { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] فتحاً في موضع الجرّ لامتناع الصرف : إشكال ، لأنّ قولك : «لا يعزب عنه شيء إلاّ في كتاب» مشكل . فإن قلت : لم قدّمت الأرض على السماء ، بخلاف قوله : في سورة سبأ { عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض } [ سبأ : 3 ] ؟ قلت : حق السماء أن تقدم على الأرض ، ولكنه لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ، ووصل بذلك قوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ } [ سبأ : 3 ] لاءم ذلك أن قدّم الأرض على السماء ، على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية .
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
{ أَوْلِيَاء الله } الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة . وقد فسر ذلك في قوله : { الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } فهم توليهم إياه { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِى الأخرة } فهو توليه إياهم . وعن سعيد بن جبير :
( 515 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل : من أولياء الله؟ فقال : « هم الذين يذكر الله برؤيتهم » يعني السمت والهيئة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الإخبات والسكينة . وقيل : هم المتحابون في الله . وعن عمر رضي الله عنه : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول :
( 516 ) « إنَّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله » قالوا : يا رسول الله ، خبرنا من هم وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم ، قال : « هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور ، وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس » ثم قرأ الآية : { الذين كَفَرُواْ } نصب أو رفع على المدح أو على وصف الأولياء أو على الابتداء والخبر لهم البشرى ، والبشرى في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 517 ) « هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له » وعنه عليه الصلاة والسلام : ذهبت النبوّة وبقيت المبشرات . وقيل : هي محبة الناس له والذكر الحسن . وعن أبي ذرّ :
( 518 ) قلت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم : الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال : « تلك عاجل بشرى المؤمن » وعن عطاء : لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة . قال الله تعالى : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة أَن لا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة } [ فصلت : 30 ] وأمّا البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة ، وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرءون منها ، وغير ذلك من البشارات { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله } لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده ، كقوله تعالى : { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ } [ ق : 29 ] و { ذلك } إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين ، وكلتا الجملتين اعتراض .
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
{ وَلاَ يَحْزُنكَ } وقرىء : «ولا يحزنك» من أحزنه { قَوْلُهُمْ } تكذيبهم لك ، وتهديدهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك ، وسائر ما يتكلمون به في شأنك { إِنَّ العزة للَّهِ } استئناف بمعنى التعليل ، كأنه قيل : ما لي لا أحزن؟ فقيل : إن العزّة لله جميعاً ، أي إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً ، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم ، فهو يغلبهم وينصرك عليهم { كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] . { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] وقرأ أبو حيوة «أن العزة» بالفتح بمعنى لأن العزة على صريح التعليل ومن جعله بدلاً من قولهم ثم أنكره ، فالمنكر هو تخريجه ، لا ما أنكر من القراءة به { هُوَ السميع العليم } يسمع ما يقولون . ويعلم ما يدبرون ويعزمون عليه . وهو مكافئهم بذلك .
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
{ مَن فِى السماوات وَمَنْ فِى الأرض } يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان ، وإنما خصّهم ، ليؤذن أنّ هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكته فهم عبيد كلهم ، وهو سبحانه وتعالى : ربهم ولا يصلح أحد منهم للربوبية ، ولا أن يكون شريكاً له فيها ، ما وراءهم مما لا يعقل أحقّ أن لا يكون له ندّاً وشريكاً ، وليدلّ على أن من اتّخذ غيره رباً من ملك أو إنسي فضلاً عن صنم أو غير ذلك ، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر . ومعنى : وما يتبعون شركاء ، أي : وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء ، لأنّ شركة الله في الربوبية محال { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ } ظنهم أنها شركاء { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } يحزرون ويقدرون أن تكون شركاء تقديراً باطلاً . ويجوز أن يكون { وَمَا يَتَّبِعُ } في معنى الاستفهام ، يعني : وأي شيء يتبعون . و { شُرَكَاء } على هذا نصب بيدعون ، وعلى الأوّل بيتبع . وكان حقه . وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء ، فاقتصر على أحدهما للدلالة . ويجوز أن تكون «ما» موصولة معطوفة على «من» كأنه قيل : ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء ، أي : وله شركاؤهم . وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : تدعون ، بالتاء ، ووجهه أن يحمل { وَمَا يَتَّبِعُ } على الاستفهام ، أي : وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين ، يعني : أنهم يتبعون الله ويطيعونه ، فما لكم لا تفعلون مثل فعلهم؟ كقوله تعالى : { أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة } [ الإسراء : 57 ] ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقال : إن يتبع هؤلاء المشركون إلاّ الظن ، ولا يتبعون ما يتبع الملائكة والنبييون من الحق .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
ثم نبه على عظيم قدرته ونعمته الشاملة لعباده التي يستحق بها أن يوحّدوه بالعبادة ، بأنه جعل لهم الليل مظلماً ليسكنوا فيه مما يقاسون في نهارهم من تعب التردّد في المعاش ، والنهار مضيئاً يبصرون فيه مطالب أرزاقهم ومكاسبهم { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } سماع معتبر مدّكر .
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
{ سبحانه } تنزيه له عن اتخاذ الولد ، وتعجب من كلمتهم الحمقاء { هُوَ الغنى } علة لنفي الولد لأنّ ما يطلب به الولد من يلد ، وما يطلبه له السبب في كله الحاجة ، فمن الحاجة منتفية عنه كان الولد عنه منتفياً { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا { إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا } ما عندكم من حجة بهذا القول والباء حقها أن تتعلق بقوله : { إِنْ عِندَكُمْ } على أن يجعل القول مكاناً للسلطان ، كقولك : ما عندكم بأرضكم موز ، كأنه قيل : إن عندكم فيما تقولون سلطان { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين ، فدلّ على أنّ كل قول لا برهان عليه لقائله فذاك جهل وليس بعلم .
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } بإضافة الولد إليه { متاع فِى الدنيا } أي افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا ، وذلك حيث يقيمون رياستهم في الكفر ومناصبة النبي صلى الله عليه وسلم بالتظاهر به ، ثم يلقون الشقاء المؤبد بعده .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{ كَبُرَ عَلَيْكُمْ } عظم عليكم وشقّ وثقل . ومنها قوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] . ويقال : تعاظمه الأمر { مَّقَامِى } مكاني ، يعني نفسه ، كما تقول : فعلت كذا لمكان فلان : وفلان ثقيل الظل . ومنه : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } [ الرحمن : 46 ] بمعنى خاف ربه . أو قيامي ومكثي بين أظهركم مدداً طوالاً أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً أو مقامي وتذكيري؛ لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ، ليكون مكانهم بيناً وكلامهم مسموعاً ، كما يحكى عن عيسى صلوات الله عليه أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ } من أجمع الأمر ، وأزمعه ، إذا نواه وعزم عليه . قال :
هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْماً وَأَمْرِي مُجْمعُ ... والواو بمعنى «مع» يعني : فأجمعوا أمركم مع شركائكم . وقرأ الحسن : «وشركاؤكم» بالرفع عطفاً على الضمير المتصل ، وجاز من غير تأكيد بالمنفصل لقيام الفاصل مقامه لطول الكلام ، كما تقول : اضرب زيداً وعمرو . وقرىء : «فاجمعوا» من الجمع . وشركاءكم نصب للعطف على المفعول ، أو لأنّ الواو بمعنى «مع» وفي قراءة أبيّ : «فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم» فإن قلت : كيف جاز إسناد الإجماع إلى الشركاء؟ قلت : على وجه التهكم ، كقوله : { قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ } [ الأعراف : 195 ] فإن قلت : ما معنى الأمرين؟ أمرهم الذي يجمعونه ، وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة؟ قلت : أمّا الأمر الأوّل فالقصد إلى إهلاكه ، يعني : فأجمعوا ما تريدون من إهلاكي واحتشدوا فيه وابذلوا وسعكم في كيدي . وإنما قال ذلك إظهاراً لقلة مبالاته وثقته بما وعده ربه من كلاءته وعصمته إياه ، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلاً . وأما الثاني ففيه وجهان ، أحدهما : أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم المكروهة عندهم ، يعني : ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة : أي غماً وهماً ، والغم والغمة ، كالكرب والكربة . والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأوّل ، والغمة السترة من غمه إذا ستره . ومنها قوله عليه السلام :
( 519 ) " ولا غمة في فرائض الله " أي لا تستر ، ولكن يجاهر بها ، يعني : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهرونني به { ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ } ذلك الأمر الذي تريدون بي ، أي : أدّوا إليَّ قطعه وتصحيحه ، كقوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } [ الحجر : 66 ] أو أدّوا إليّ ما هو حق عليكم عندكم من هلاكي كما يقضي الرجل غريمه { وَلاَ تُنظِرُونَ } ولا تمهلوني . قرىء : «ثم افضوا إليّ» بالفاء بمعنى : ثم انتهوا إليّ بشرّكم . وقيل : هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء ، أي أصحروا به إليَّ وأبرزوه لي { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي { فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ } فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم وطلب أجر على عظتكم { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة أي : ما نصحتكم إلاّ لوجه الله ، لا لغرض من أغراض الدنيا { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئاً ولا يطلبون به دنيا ، يريد : أن ذلك مقتضى الإسلام ، والذي كل مسلم مأمور به .
والمراد أن يجعل الحجّة لازمة لهم ويبرىء ساحته ، فذكر أن توليهم لم يكن [ عن ] تفريط منه في سوق الأمر معهم على الطريق الذي يجب أن يساق عليه ، وإنما ذلك لعنادهم وتمرّدهم لا غير { فَكَذَّبُوهُ } فتموا على تكذيبه ، وكان تكذيبهم له في آخر المدّة المتطاولة كتكذيبهم في أوّلها ، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ } يخلفون الهالكين بالغرق { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين } تعظيم لما جرى عليهم ، وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله ، وتسلية له .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
{ مِن بَعْدِهِ } من بعد نوح { رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ } يعني هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً { فَجَاءوهُم بالبينات } بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } فما كان إيمانهم إلاّ ممتنعاً كالمحال لشدّة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق . فما وقع فصل بين حالتهم بعد بعثة الرسل وقبلها ، كأن لم يبعث إليهم أحد { كَذَلِكَ نَطْبَعُ } مثل ذلك الطبع المحكم نطبع { على قُلوبِ المعتدين } والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم ، لأنّ الخذلان يتبعه . ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به .
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
{ مّن بَعْدِهِمْ } من بعد الرسل { بئاياتنا } بالآيات التسع { فاستكبروا } عن قبولها ، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها ، ويتعظموا عن تقبلها { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } كفاراً ذوي آثام عظام ، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردّها { فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا } فلما عرفوا أنه هو الحق ، وأنه من عند الله ، لا من قبل موسى وهارون { قالوا } لحبهم الشهوات { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلاّ تمويهاً وباطلاً . فإن قلت : هم قطعوا بقولهم : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } على أنه سحر ، فكيف قيل لهم : أتقولون أسحر هذا؟ قلت : فيه أوجه : أن يكون معنى قوله : { أَتقُولُونَ لِلْحَقّ } أتعيبونه وتطعنون فيه . وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه ، من قولهم : فلان يخاف القالة ، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه ، ونحو القول : الذكر ، في قوله : { سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ } [ الأنبياء : 60 ] ثم قال : { أَسِحْرٌ هذا } فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه ، وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دلّ عليه قولهم : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } كأنه قيل : أتقولون ما تقولون ، يعني قولهم : إن هذا لسحر مبين ، ثم قيل : أسحر هذا؟ وأن يكون جملة قوله : { أَسِحْرٌ هذا وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } حكاية لكلامهم ، كأنهم قالوا : أَجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } كما قال موسى للسحرة : ما جئتم به آلسحر ، إنّ الله سيبطله { لِتَلْفِتَنَا } لتصرفنا . واللفت والفتل : أخوان ، ومطاوعهما الالتفات والانفتال { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } يعنون عبادة الأصنام { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء } أي الملك؛ لأن الملوك موصوفون بالكبر . ولذلك قيل للملك الجبار ، ووصف بالصيد والشوس ، ولذلك وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله :
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأْفَةٍ لَيْسَ فِيه ... جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلاَ كُبْرِيَاءُ
ينفي ما عليه الملوك من ذلك . ويجوز أن يقصدوا ذمّهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا ، كما قال القبطي لموسى عليه السلام : إن تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } أي مصدّقين لكما فيما جئتما به . وقرىء : «يطبع» ويكون لكما ، بالياء .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
{ مَا جِئْتُمْ بِهِ } ما موصولة واقعة مبتدأ . و { السحر } خبر ، أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله . وقرىء : «آلسحر» على الاستفهام . فعلى هذه القراءة «ما» استفهامية ، أي : أيّ شيء جئتم به ، أهو السحر؟ وقرأ عبد الله : «ما جئتم به سحر» وقرأ أبيّ : «ما أتيتم به سحر» . والمعنى : لا ما أتيت به { إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } سيمحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة { لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين } لا يثبته ولا يديمه ، ولكن يسلط عليه الدمار { وَيُحِقُّ الله الحق } ويثبته { بكلماته } بأوامره وقضاياه . وقرىء : «بكلمته» بأمره ومشيئته .
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
{ فَمَا ءامَنَ لموسى } في أوّل أمره { إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ } إلاّ طائفة من ذراري بني إسرائيل ، كأنه قيل : إلاّ أولاد من أولاد قومه . وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون ، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف . وقيل : الضمير في قومه لفرعون ، والذرية : مؤمن آل فرعون ، وآسية امرأته ، وخازنه ، وامرأة خازنه وماشطته . فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : { وَمَلَئِهِمْ } ؟ قلت : إلى فرعون ، بمعنى آل فرعون ، كما يقال : ربيعة ومضر . أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له . ويجوز أن يرجع إلى الذرية ، أي على خوف من فرعون وخوف من أشراف بني إسرائيل ، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم . ويدلّ عليه قوله : { أَن يَفْتِنَهُمْ } يريد أن يعذبهم { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض } لغالب فيها قاهر { وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } في الظلم والفساد ، وفي الكبر والعتوّ بادعائه الربوبية .
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
{ إن كُنْتُمْ ءَامَنْتُم بِاللهِ } صدقتم به وبآياته { فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون . ثم شرط في التوكل الإسلام ، وهو أن يسلموا نفوسهم لله ، أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظّ للشيطان فيها؛ لأن التوكل لا يكون مع التخليط . ونظيره في الكلام : إن ضربك زيد فاضربه ، وإن كانت بك قوّة { فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا } إنما قالوا ذلك ، لأن القوم كانوا مخلصين ، لا جرم أن الله سبحانه قبل توكلهم ، وأجاب دعاءهم ، ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه ، وجعلهم خلفاء في أرضه ، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه والتفويض إليه ، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } موضع فتنة لهم ، أي : عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا . أو فتنة لهم يفتتنون بنا ويقولون : لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
تبوّأ المكان : اتخذه مباءة ، كقولك : توطنه ، إذا اتخذه وطناً . والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه { واجعلوا بُيُوتَكُمْ } تلك { قِبْلَةً } أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة ، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة ، وكانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة ، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم ، كما كان المؤمنون على ذلك في أوّل الإسلام بمكة . فإن قلت : كيف نوّع الخطاب ، فثنى أوّلاً ، ثم جمع ، ثم وحد آخراً . قلت : خوطب موسى وهارون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتاً ، ويختاراها للعبادة ، وذلك مما يفوّض إلى الأنبياء . ثم سيق الخطاب عامّاً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأنّ ذلك واجب على الجمهور ، ثم خصّ موسى عليه السلام بالبشارة التي هي الغرض ، تعظيماً لها وللمبشر بها .
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
الزينة : ما يتزين به من لباس أو حلي أو فرش أو أثاث أو غير ذلك . وعن ابن عباس رضي الله عنه : كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت . فإن قلت : ما معنى قوله : { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } ؟ قلت : هو دعاء بلفظ الأمر ، كقوله : { رَبَّنَا اطمس } ، { واشدد } ، وذلك أنه لما عرض عليهم أيات الله وبيناته عرضاً مكرّراً وردّد عليهم النصائح والمواعظ زماناً طويلاً ، وحذرهم عذاب الله وانتقامه ، وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين ، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً ، وعلى الإنذار إلاّ استكباراً ، وعن النصيحة إلاّ نبوّا ، ولم يبق له مطمع فيهم ، وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلاّ الغي والضلال ، وأنّ إيمانهم كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة ، أو علم ذلك بوحي من الله - اشتد غضبه عليهم ، وأفرط مقته وكراهته لحالهم ، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره ، كما تقول : لعن الله إبليس ، وأخزى الله الكفرة ، مع علمك أنه لا يكون غير ذلك ، وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة ، وأنهم لا يستأهلون إلاّ أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه ، كأنه قال : ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال . وليكونوا ضلالاً ، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا وما عليّ منهم ، هم أحقّ بذلك وأحقّ كما يقوله الأب المشفق لولده الشاطر إذا ما لم يقبل منه ، حسرة على ما فاته من قبول نصيحته ، وحرداً عليه ، لا أن يريد خلاعته واتباعه هواه . ومعنى الشدّ على القلوب . الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان { فَلاَ يُؤْمِنُواْ } جواب للدعاء الذي هو «اشدد» أو دعاء بلفظ النهي ، وقد حملت اللام في ليضلوا على التعليل ، على أنهم جعلوا نعمة الله سبباً في الضلال ، فكأنهم أوتوها ليضلّوا . وقوله : { فَلاَ يُؤْمِنُواْ } عطف على ليضلوا . وقوله : { رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ } دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه . وقرأ الفضل الرقاشي : «أئنك آتيت» على الاستفهام ، واطمس بضم الميم .
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
قرىء : «دعواتكما» . قيل : كان موسى يدعو وهارون يؤمّن . ويجوز أن يكونا جميعاً يدعوان . والمعنى : إنّ دعاءكما مستجاب ، وما طلبتما كائن ولكن في وقته { فاستقيما } فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجّة ، فقد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف عام إلاّ قليلاً ولا تستعجلا . قال ابن جريج ، فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة { وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } أي لا تتبعا طريق الجهلة بعادة الله في تعليقه الأمور بالمصالح ، ولا تعجلا فإن العجلة ليست بمصلحة . وهذا كما قال لنوح عليه السلام { إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ هود : 46 ] . وقرىء : «ولا تتبعان» بالنون الخفيفة ، وكسرها لالتقاء الساكنين تشبيهاً بنون التثنية ، وبتخفيف التاء من تبع .
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
قرأ الحسن : وجوزنا من أجاز المكان وجوزه وجاوزه ، وليس من جوز الذي في بيت الأعشى :
وَإذَا تَجَوَّزْنَا حِبَالِ قَبِيلَةٍ ... لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال وجوّزنا بني إسرائيل في البحر كما قال :
كَمَا جَوَّزَ السَّكِّيّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ ... { فَأَتْبَعَهُمْ } فلحقهم . يقال : تبعته حتى أتبعته . وقرأ الحسن : «وعدوّا» . وقرىء : أنه بالفتح على حذف الياء التي هي صلة الإيمان ، وإنه بالكسر على الاستئناف بدلاً من آمنت . كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصاً على القبول ، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته . وقاله حين لم يبق له اختيار قط ، وكانت المّرة الواحدة كافية في حال الاختيار وعند بقاء التكليف .
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
{ ءآلئان } أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك . قيل : قال ذلك حين ألجمه الغرق يعني حين أوشك أن يغرق . وقيل : قاله بعد أن غرق في نفسه . والذي يحكي أنه حين قال : { ءامَنتُ } أخذ جبريل من حال البحر فدسه في فيه ، فللغضب لله على الكافر في وقت قد علم أنّ إيمانه لا ينفعه . وأمّا ما يضم إليه من قولهم : خشية أن تدركه رحمة الله فمن زيادات الباهتين لله وملائكته : وفيه جهالتان ، إحداهما : أنّ الإيمان يصحّ بالقلب كإيمان الأخرس ، فحال البحر لا يمنعه . والأخرى : أنّ من كره إيمان الكافر وأحبّ بقاءه على الكفر فهو كافر لأن الرضا بالكفر كفر { مِنَ المفسدين } من الضالين المضلين عن الإيمان ، كقوله : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [ النحل : 98 ] . وروي : أنّ جبريل عليه السلام أتاه بفتيا : ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه : يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماه أن يغرق في البحر ، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل خطه فعرفه { نُنَجّيكَ } بالتشديد والتخفيف : نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر . وقيل : نلقيك بنجوة من الأرض . وقرىء : «ننحيك» بالحاء : نلقيك بناحية مما يلي البحر ، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر قال كعب : رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور { بِبَدَنِكَ } في موضع الحال ، أي : في الحال التي لا روح فيك ، وإنما أنت بدن ، أو ببدنك كاملاً سوياً لم ينقص منه شيء ولم يتغير ، أو عرياناً لست إلا بدناً من غير لباس ، أو بدرعك . قال عمرو بن معديكرب :
أَعَاذِلُ شكَّتِي بَدَنِي وَسَيْفِي ... وَكُلُّ مُقَلِّصٍ سَلِسُ القِيَادِ
وكانت له درع من ذهب يعرف بها . وقرأ أبو حنيفة رحمه الله : «بأبدانك» هو على وجهين : إما أن يكون مثل قولهم : هوى بأجرامه ، يعني : ببدنك كله وافياً بأجزائه . أو يريد : بدروعك كأنه كان مظاهراً بينها { لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً } لمن وراءك من الناس علامة ، وهم بنو إسرائيل ، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق . وروي أنهم قالوا : ما مات فرعون ولا يموت أبداً . وقيل : أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدّقوه ، فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه ، وكأن مطرحه كان على ممرّ من بني إسارئيل حتى قيل : لمن خلفك . وقيل : { لِمَنْ خَلْفَكَ } لمن يأتي بعدك من القرون . ومعنى كونه آية : أن تظهر للناس عبوديته ومهانته ، وأنّ ما كان يدّعيه من الربوبية باطل محال ، وأنه مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه عزّ وجلّ ، فما الظنّ بغيره ، أو لتكون عبرة تعتبر بها الأمم بعدك ، فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا بحالك وبهوانك على الله . وقرىء : «لمن خلقك» بالقاف : أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته . ويجوز أن يراد : ليكون طرحك على الساحل وحدك وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك ، ولئلا يقولوا لادّعائك العظمة إنّ مثله لا يغرق ولا يموت آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره ، وليعلموا أنَّ ذلك تعمد منه لإماطة الشبه في أمرك .
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
{ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } منزلاً صالحاً مرضياً وهو مصر والشام { فَمَا اختلفوا } في دينهم وما تشعبوا فيه شعباً إلاّ من بعد ما قرأوا التوراة وكسبوا العلم بدين الحق ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة ، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرّق عنه . وقيل : هو العلم بمحمد صلى الله عليه وسلم واختلاف بني إسرائيل ، وهم أهل الكتاب ، اختلافهم في صفته ونعته ، وأنه هو أم ليس به . بعد ما جاءهم العلم والبيان أنه هو لم يرتابوا فيه . كما قال الله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ } [ البقرة : 146 ] .