كتاب : الكشاف
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
قرىء : «أثر» و«آثار» على الوحدة والجمع . وقرأ أبو حيوة وغيره : «كيف تحيي» ، أي : الرحمة { إِنَّ ذلك } يعني إنّ ذلك القادر الذي يحي الأرض بعد موتها ، هو الذي يحي الناس بعد موتهم { وَهُوَ على كُلّ شَىْء } من المقدورات قادر ، وهذا من جملة المقدورات بدليل الإنشاء .
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
{ فَرَأَوْهُ } فرأوا أثر رحمة الله . لأنّ رحمة الله هي الغيث ، وأثرها : النبات . ومن قرأ بالجمع : رجع الضمير إلى معناه؛ لأنّ معنى آثار الرحمة النبات ، واسم النبات يقع على القليل والكثير ، لأنه مصدر سمي به ما ينبت . ولئن : هي اللام الموطئة للقسم ، دخلت على حرف الشرط ، و { لَّظَلُّواْ } جواب القسم سدّ مسدّ الجوابين ، أعني : جواب القسم وجواب الشرط ، ومعناه : ليظلنّ ذمّهم الله تعالى بأنه إذا حبس عنهم القطر قنطوا من رحمته وضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين ، فإذا أصابهم برحمته ورزقهم المطر : استبشروا وابتهجوا ، فإذا أرسل ريحاً فضرب زروعهم بالصفار ، ضجوا وكفروا بنعمة الله . فهم في جميع هذه الأحوال على الصفة المذمومة ، كان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله ، فقنطوا . وأن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها ، فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار . وأن يصبروا على بلائه ، فكفروا . والريح التي اصفرّ لها النبات : يجوز أن تكون حروراً وحرجفاً ، فكلتاهما مما يصوح له النبات ويصبح هشيماً . وقال : مصفرّاً : لأنّ تلك صفرة حادثة . وقيل : فرأوا السحاب مصفراً ، لأنه إذا كان كذلك لم يمطر .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
قرىء : بفتح الضاد وضمها ، وهما لغتان . والضم أقوى في القراءة ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما : قال :
( 848 ) قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضَعف ، فأقرأني من ضُعف . وقوله : { خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ } كقوله : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] يعني أنّ أساس أمركم وما عليه جبلتكم وبنيتكم الضعف { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] أي ابتدأناكم في أوّل الأمر ضعافاً . وذلك حال الطفولة والنشء حتى بلغتم وقت الاحتلام والشبيبة ، وتلك حال القوّة إلى الاكتهال وبلوغ الأشدّ ، ثم رددتم إلى أصل حالكم وهو الضعف بالشيخوخة والهرم . وقيل : من ضعف من النطف ، كقوله تعالى : { مّن مَّاء مَّهِينٍ } [ السجدة : 8 ] ، [ المرسلات : 20 ] وهذا الترديد في الأحوال المختلفة ، والتغيير من هيئة إلى هيئة وصفة إلى صفة : أظهر دليل وأعدل شاهد على الصانع العليم القادر .
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
{ الساعة } القيامة ، سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعة الدنيا ، أو لأنها تقع بغتة وبديهة . كما تقول : «في ساعة» لمن تستعجله ، وجرت علماً لها كالنجم للثريا ، والكوكب للزهرة . وأرادوا : لبثهم في الدنيا ، أو في القبور ، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث . وفي الحديث :
( 849 ) " ما بينَ فناءِ الدُّنيا إلى وقتِ البعثِ أربعَونَ " قالوا : لا نعلم أهي أربعون سنة أم أربعون ألف سنة؟ وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم ، وإنما يقدّرون وقت لبثهم بذلك على وجه استقصارهم له . أو ينسون أو يكذبون أو يخمنون { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } أي مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا ، وهكذا كانوا يبنون أمرهم على خلاف الحق . أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الاغترار بما تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة .
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
القائلون : هم الملائكة ، والأنبياء . والمؤمنون { فِى كتاب الله } في اللوح . أو في علم الله وقضائه . أو فيما كتبه ، أي : أوجبه بحكمته . ردّوا ما قالوه وحلفوا عليه ، وأطلعوهم على الحقيقة ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم : { فهذا يَوْمُ البعث ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أنه حق لتفريطكم في طلب الحق واتباعه . فإن قلت : ما هذه الفاء؟ وما حقيقتها؟ قلت : هي التي في قوله :
فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا ... وحقيقتها : أنها جواب شرط يدل عليه الكلام ، كأنه قال : إن صح ما قلتم من أن خراسان أقصى ما يراد بنا فقد جئنا خراسان ، وآن لنا أن نخلص ، وكذلك إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث ، أي فقد تبين بطلان قولكم . وقرأ الحسن يوم البعث ، بالتحريك { لاَّ ينفَعُ } قرىء بالياء والتاء { يُسْتَعْتَبُونَ } من قولك : استعتبني فلان فأعتبته . أي : استرضاني فأرضيته ، وذلك إذا كنت جانياً عليه . وحقيقة أعتبته : أزلت عتبه . ألا ترى إلى قوله :
غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ تُقَتِّلَ عامِرٌ ... يَومَ النِّسَارِ فَأَعْتَبُوا بِالصِّيْلَمِ
كيف جعلهم غضابا ، ثم قال : فأعتبوا ، أي : أزيل غضبهم . والغضب في معنى العتب . والمعنى : لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة ، ومثله قوله تعالى : { لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } [ الجاثية : 35 ] . فإن قلت : كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات ، وغير معتبين في بعضها ، وهو قوله : { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ المعتبين } [ فصلت : 24 ] ؟ قلت : أما كونهم غير مستعتبين : فهذا معناه . وأما كونهم غير معتبين ، فمعناه : أنهم غير راضين بما هم فيه ، فشبهت حالهم بحال قوم جنى عليهم ، فهم عاتبون على الجاني غير راضين عنه ، فإن يستعتبوا الله : أي يسألوه إزالة ما هم فيه ، فما هم من المجابين إلى إزالته .
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{ وَلَقَدْ } وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن ، كصفة المبعوثين يوم القيامة ، وقصتهم ، وما يقولون وما يقال لهم ، وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم - لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة - إذا جئتهم بآية من آيات القرآن ، قالوا : جئتنا بزور وباطل ، ثم قال : مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الجهلة . ومعنى طبع الله : منع الألطاف التي ينشرح لها الصدور حتى تقبل الحق ، وإنما يمنعها من علم أنها لا تجدي عليه ولا تغني عنه ، كما يمنع الواعظ الموعظة من يتبين له أنّ الموعظة تلغو ولا تنجع فيه ، فوقع ذلك كناية عن قسوة قلوبهم وركوب الصدأ والرين إياها ، فكأنه قال : كذلك تقسو وتصدأ قلوب الجهلة ، حتى يسموا المحقين مبطلين ، وهم أعرق خلق الله في تلك الصفة { فاصبر } على عداوتهم { إِنَّ وَعْدَ الله } بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله { حَقٌّ } لا بد من إنجازه والوفاء به ، ولا يحملنك على الخفة والقلق جزعاً مما يقولون ويفعلون فإنهم قوم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك وقرىء بتخفيف النون وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب : «ولا يستحقنك» ، أي : لا يفتننك فيملكوك ويكونوا أحق بك من المؤمنين .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 850 ) " مَن قرأَ سورةَ الرومِ كانَ لَهُ منَ الأَجرِ عشرُ حسناتٍ بعددِ كلِّ ملكٍ سبحَ اللَّهُ بينَ السماءِ والأرضِ وأدركَ ما ضيَّع في يومِهِ وليلتِه "
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{ الكتاب الحكيم } ذي الحكمة . أو وصف بصفة الله تعالى على الإسناد المجازي . ويجوز أن يكون الأصل : الحكيم قائله ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فبانقلابه مرفوعاً بعد الجر استكن في الصفة المشبهة { هُدًى وَرَحْمَةً } بالنصب على الحال عن الآيات ، والعامل فيها : ما في تلك من معنى الإشارة . وبالرفع على أنه خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف { لّلْمُحْسِنِينَ } للذين يعملون الحسنات وهي التي ذكرها : من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإيقان بالآخرة ونظيره قول أوس :
الأَلْمَعِيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظَّنَّ ... كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا
حكى عن الأصمعي : أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد . أو للذين يعملون جميع ما يحسن من الأعمال ، ثم خص منهم القائمين بهذه الثلاث بفضل الاعتداد بها .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
اللهو كل باطل ألهى عن الخير وعما يعني و { لَهْوَ الحديث } نحو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها ، والتحدث بالخرفات والمضاحيك وفضول الكلام ، وما لا ينبغي من كان وكان ، ونحو الغناء وتعلم الموسيقار ، وما أشبه ذلك . وقيل : نزلت في النضر بن الحرث ، وكان يتجر إلى فارس ، فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشاً ويقول : إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة ، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن . وقيل : كان يشتري المغنيات ، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ، ويقول : هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه . وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم :
( 851 ) " لا يحلُّ بيعُ المغنياتِ ولا شراؤُهن ولا التجارةُ فيهنّ ولا أثمانهنّ " وعنه صلى الله عليه وسلم :
( 852 ) " ما مِنْ رجلٍ يَرفعُ صوتَه بالغناءِ إلا بَعث اللَّهُ عليهِ شيطانَين : أحدُهما على هذا المنكبِ والآخرُ على هذا المنكبِ ، فلا يزالان يضربانهِ بأَرجلِهِما حتى يكونَ هو الذي يسكتُ " ، وقيل : الغناءُ منفدة للمال ، مسخطة للرب ، مفسدة للقلب . فإن قلت : ما معنى إضافة اللهو إلى الحديث؟ قلت : معناها التبيين ، وهي الإضافة بمعنى من ، وأن يضاف الشيء إلى ما هو منه ، كقولك : صفّة خز وباب ساج . والمعنى : من يشتري اللهو من الحديث؛ لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره ، فبين بالحديث . والمراد بالحديث . الحديث المنكر ، كما جاء في الحديث :
( 853 ) " الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش " ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى «من» التبعيضية ، كأنه قيل : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه . وقوله : { يَشْتَرِى } إما من الشراء ، على ما روى عن النضر : من شراء كتب الأعاجم أو من شراء القيان . وإما من قوله : { اشتروا الكفر بالإيمان } [ آل عمران : 177 ] أي استبدلوه منه واختاروه عليه . وعن قتادة : اشتراؤه : استحبابه ، يختار حديث الباطل على حديث الحق . وقرىء : { لِيُضِلَّ } بضم الياء وفتحها . و { سَبِيلِ الله } دين الإسلام أو القرآن . فإن قلت : القراءة بالضم بينة ، لأن النضر كان غرضه باشتراء اللهو : أن يصدّ الناس عن الدخول في الإسلام واستماع القرآن ويضلهم عنه ، فما معنى القراءة بالفتح؟ قلت : فيه معنيان ، أحدهما : ليثبت على ضلاله الذي كان عليه ، ولا يصدف عنه ، ويزيد فيه ويمدّه ، فإن المخذول كان شديد الشكيمة في عداوة الدين وصدّ الناس عنه . والثاني : أن يوضع ليضل موضع ليضل ، من قبل أن من أضل كان ضالاً لا محالة ، فدل بالرديف على المردوف . فإن قلت : ما معنى قوله : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } قلت : لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال : يشتري بغير علم بالتجارة وبغير بصيرة بها ، حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق .
ونحوه قوله تعالى : { فَمَا رَبِحَت تجارتهم وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ البقرة : 16 ] أي : وما كانوا مهتدين للتجارة بصراء بها : وقرىء { وَيَتَّخِذَهَا } بالنصب والرفع عطفاً على يشتري . أو ليضل ، والضمير للسبيل؛ لأنها مؤنثة ، كقوله تعالى : { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } [ الأعراف : 86 ] . { ولى مُسْتَكْبِراً } زاما لا يعبأ بها ولا يرفع بها رأساً : تشبه حاله في ذلك حال من لم يسمعها وهو سامع { كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً } أي ثقلاً ولا وقر فيهما ، وقرىء : بسكون الذال . فإن قلت : ما محل الجملتين المصدرتين بكأن؟ قلت : الأولى حال من مستكبراً والثانية من لم يسمعها : ويجوز أن تكونا استئنافين ، والأصل في كأن المخففة : كأنه ، والضمير : ضمير الشأن .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
{ وَعْدَ الله حَقّا } مصدران مؤكدان ، الأوّل : مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره؛ لأن قوله : { لَهُمْ جنات النعيم } في معنى : وعدهم الله جنات النعيم ، فأكد معنى الوعد بالوعد . وأما { حَقّاً } فدال على معنى الثبات : أكد به معنى الوعد ، ومؤكدهما جميعاً قوله : { لَهُمْ جنات النعيم } { وَهُوَ العزيز } الذي لا يغلبه شيء ولا يعجزه ، يقدر على الشيء وضده ، فيعطى النعيم من شاء والبؤس من شاء ، وهو { الحكيم } لا يشاء إلا ما توجبه الحكمة والعدل { تَرَوْنَهَا } الضمير فيه للسموات ، وهو استشهاد برؤيتهم لها ، غير معمودة على قوله : { بِغَيْرِ عَمَدٍ } كما تقول لصاحبك : أنا بلا سيف ولا رمح تراني فإن قلت : ما محلها من الإعراب؟ قلت : لا محل لها لأنها مستأنفة . أو هي في محل الجرّ صفة للعمد أي : بغير عمد مرئية ، يعني : أنه عمدها بعمد لا ترى ، وهي إمساكها بقدرته { هذا } إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته . والخلق بمعنى المخلوق . و { الذين مِن دُونِهِ } آلهتهم ، بكتهم بأن هذه الأشياء العظيمة مما خلقه الله وأنشأه . فأروني ماذا خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة ، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورّط في ضلال ليس بعده ضلال .
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
هو لقمان بن باعورا : ابن أخت أيوب أو ابن خالته . وقيل : كان من أولاد آزر ، وعاش ألف سنة ، وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام ، فلما بعث قطع الفتوى ، فقيل له؟ فقال : ألا أكتفي إذا كفيت؟ وقيل : كان قاضياً في بني إسرائيل ، وأكثر الأقاويل أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لقمان لم يكن نبياً ولا ملكاً ، ولكن كان راعياً أسود ، فرزقه الله العتق ، ورضي قوله ووصيته ، فقص أمره في القرآن لتمسكوا بوصيته . وقال عكرمة والشعبي : كان نبياً . وقيل : خيّر بين النبوّة والحكمة فاختار الحكمة . وعن ابن المسيب : كان أسود من سودان مصر خياطاً ، وعن مجاهد : كان عبداً أسود غليظ الشفتين متشقق القدمين . وقيل : كان نجاراً . وقيل : كان راعياً وقيل : كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة . وعنه أنه قال لرجل ينظر إليه : إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق ، وإن كنت تراني أسود فقلبي أبيض . وروي أن رجلاً وقف عليه في مجلسه فقال : ألست الذي ترعى معي في مكان كذا؟ قال : بلى . قال ما بلغ بك ما أرى؟ قال : صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني . وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع وقد لين الله له الحديد كالطين ، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت . فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله ، فقال له داود : بحق ما سميت حكيماً . وروي أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين ، فأخرج اللسان والقلب ، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب ، فسأله عن ذلك؟ فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا ، وأخبث ما فيها إذا خبثا . وعن سعيد بن المسيب أنه قال لأسود : لا تحزن ، فإنه كان من خير الناس ثلاثة من السودان : بلال ومهجع مولى عمر ، ولقمان . { أن } هي المفسرة ، لأنّ إيتاء الحكمة في معنى القول ، وقد نبه الله سبحانه على أنّ الحكمة الأصلية والعلم الحقيقي : هو العمل بهما وعبادة الله والشكر له ، حيث فسر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر { غَنِىٌّ } غير محتاج إلى الشكر { حَمِيدٌ } حقيق بأن يحمد وإن لم يحمده أحد .
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
قيل : كان اسم ابنه «أنعم» وقال الكلبي : «أشكم» وقيل : كان ابنه وامرأته كافرين ، فما زال بهما حتى أسلما { لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } لأنّ التسوية بين من لا نعمة إلا هي منه ، ومن لا نعمة منه البتة ولا يتصوّر أن تكون منه - ظلم لا يكتنه عظمه .
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
أي { حَمَلَتْهُ } تهن { وَهْناً على وَهْنٍ } كقولك رجع عوداً على بدء ، بمعنى؛ يعود عوداً على بدء ، وهو في موضع الحال . والمعنى : أنها تضعف ضعفاً فوق ضعف ، أي : يتزايد ضعفها ويتضاعف؛ لأنّ الحمل كلما ازداد وعظم ، ازدادت ثقلاً وضعفاً . وقرىء : «وهنا على وهن» . بالتحريك عن أبي عمرو . يقال : وهن يوهن . ووهن يهن وقرىء : «وفصله» { أَنِ اشكر } تفسير لوصينا { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أراد بنفي العمل به نفيه ، أي : لا تشرك بي ما ليس بشيء ، يريد الأصنام ، كقوله تعالى : { مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْء } [ العنكبوت : 42 ] . { مَّعْرُوفاً } صحابا ، أو مصاحباً معروفاً حسناً بخلق جميل وحلم واحتمال وبر وصلة ، وما يقتضيه الكرم والمروءة { واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ } يريد : واتبع سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما فيه - وإن كنت مأموراً بحسن مصاحبتهما في الدنيا - ثم إليّ مرجعك ومرجعهما ، فأجازيك على إيمانك وأجازيهما على كفرهما ، علم بذلك حكم الدنيا وما يجب على الإنسان في صحبتهما ومعاشرتهما : من مراعاة حق الأبوة وتعظيمه ، وما لهما من المواجب التي لا يسوغ الاخلال بها ، ثم بين حكمهما وحالهما في الآخرة . وروي : أنها نزلت في سعد ابن أبي وقاص وأمّه . وفي القصة : أنها مكثت ثلاثاً لا تطعم ولا تشرب حتى شجروا فاهاً بعود . وروي أنه قال : لو كانت لها سبعون نفساً فخرجت ، لما ارتددت إلى الكفر . فإن قلت : هذا الكلام كيف وقع في أثناء وصية لقمان؟ قلت : هو كلام اعترض به على سبيل الاستطراد ، تأكيداً لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك . فإن قلت : فقوله : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وفصاله فِى عَامَيْنِ } كيف اعترض به بين المفسر والمفسر؟ قلت : لما وصى بالوالدين : ذكر ما تكابده الأمّ وتعانيه من المشاق والمتاعب في حمله وفصاله هذه المدّة المتطاولة ، إيجاباً للتوصية بالوالدة خصوصاً . وتذكيراً بحقها العظيم مفرداً ، ومن ثمّ
( 854 ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال له : من أبر؟ " أمّك ثم أمّك ثم أمّك " ثم قال بعد ذلك " ثم أباك " وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه بنفسه :
أحْمِلُ أُمِّي وَهِيَ الْحَمَّالَهْ ... تُرْضِعُنِي الدُّرَّةَ وَالْعُلاَلَه
ْوَلاَ يُجَازَى وَالِدٌ فَعَالَهْ ... فإن قلت : ما معنى توقيت الفصال بالعامين؟ قلت : المعنى في توقيته بهذه المدة أنها الغاية التي لا تتجاوز ، والأمر فيما دون العامين موكول إلى اجتهاد الأم : إن علمت أنه يقوى على الفطام فلها أن تفطمه ، ويدل عليه قوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] وبه استشهد الشافعي رضي الله عنه على أن مدة الرضاع سنتان ، لا تثبت حرمة الرضاع بعد انقضائهما ، وهو مذهب أبي يوسف ومحمد . وأما عند أبي حنيفة رضي الله عنه . فمدة الرضاع ثلاثون شهراً . وعن أبي حنيفة : إن فطمته قبل العامين فاستغنى بالطعام ثم أرضعته ، لم يكن رضاعاً . وإن أكل أكلاً ضعيفاً لم يستغن به عن الرضاع ثم أرضعته ، فهو رضاع محرم .
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
قرىء { مِثْقَالَ حَبَّةٍ } بالنصب والرفع ، فمن نصب كان الضمير للهنة من الإساءة أو الإحسان ، أي : إن كانت مثلاً في الصغر والقماءة كحبة الخردل ، فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي { يَأْتِ بِهَا الله } يوم القيامة فيحاسب بها عاملها { إِنَّ الله لَطِيفٌ } يتوصل علمه إلى كل خفي { خَبِيرٌ } عالم بكنهه . وعن قتادة : لطيف باستخراجها ، خبير بمستقرّها . ومن قرأ بالرفع : كان ضمير القصة ، وإنما أنث المثقال لإضافته إلى الحبة ، كما قال :
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ ... وروي أنّ ابن لقمان قال له : أرأيت الحبة تكون في مقل البحر - أي : في مغاصه - يعلمها الله؟ فقال : إنّ الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة : لأنّ الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء . وقيل : الصخرة هي التي تحت الأرض ، وهي السجين يكتب فيها أعمال الكفار . وقرىء : «فتكن» بكسر الكاف . من وكن الطائر يكن : إذا استقر في وكنته ، وهي مقره ليلاً .
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
{ واصبر على مَا أَصَابَكَ } يجوز أن يكون عاماً في كل ما يصيبه من المحن ، وأن يكون خاصاً بما يصيبه فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : من أذى من يبعثهم على الخير وينكر عليهم الشر { إِنَّ ذلك } مما عزمه الله من الأمور ، أي : قطعه قطع إيجاب والزام . ومنه الحديث :
( 855 ) « لاصِيامَ لمنْ لم يعزمِ الصيامَ مِنَ الليلِ » أي لم يقطعه بالنية : ألا ترى إلى قوله عليه السلام :
( 856 ) « لمنْ لم يبيتِ الصيامَ » ومنه :
( 857 ) « إنّ اللَّهَ يحبُّ أَنْ يؤخذَ برخصهِ كما يحبُّ أَنْ يؤخذَ بعزائمِهِ » ، وقولهم : عزمة من عزمات ربنا . ومنه : عزمات الملوك . وذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده : عزمت عليك إلا فعلت كذا ، إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله ولا مندوحة في تركه . وحقيقته : أنه من تسمية المفعول بالمصدر ، وأصله من معزومات الأمور ، أي : مقطوعاتها ومفروضاتها . ويجوز أن يكون مصدراً في معنى الفاعل ، أصله : من عازمات الأمور ، من قوله تعالى : { فَإِذَا عَزَمَ الأمر } [ محمد : 21 ] كقولك : جد الأمر ، وصدق القتال . وناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات ، وأنها كانت مأموراً بها في سائر الأمم ، وأنّ الصلاة لم تزل عظيمة الشأن ، سابقة القدم على ما سواها ، موصى بها في الأديان كلها .
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
تصاعر ، وتصعر : بالتشديد والتخفيف . يقال : أصعر خدّه ، وصعره ، وصاعره : كقولك أعلاه وعلاه وعالاه : بمعنى . والصعر والصيد : داء يصيب البعير يلوي منه عنقه . والمعنى : أقبل على الناس بوجهك تواضعاً ، ولا تولهم شق وجهك وصفحته ، كما يفعل المتكبرون . أراد : { وَلاَ تَمْشِ } تمرح { مَرَحاً } أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا . ويجوز أن يريد : ولا تمش لأجل المرح والأشر ، أي لا يكن غرضك في المشي البطالة والأشر كما يمشي كثير من الناس لذلك ، لا لكفاية مهم ديني أو دنيوي . ونحوه قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم بَطَراً وَرِئَاء الناس } [ الأنفال : 47 ] . والمختال : مقابل للماشي مرحاً . وكذلك الفخور للمصعر خدّه كبراً { واقصد فِى مَشْيِكَ } واعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين : لا تدب دبيب المتماوتين ، ولا تثب وثيب الشطار . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 858 ) " سرعةُ المشي تذهبُ بهاءَ المؤمنِ " وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنهما «كان إذا مشى أسرع» فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت . وقرىء : «وأقصد» بقطع الهمزة ، أي : سدّد في مشيك من أقصد الرامي إذا سدّد سهمه نحو الرمية { واغضض مِن صَوْتِكَ } وانقص منه واقصر؛ من قولك : فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه { أَنكَرَ الأصوات } أوحشها ، من قولك : شيء نكر ، إذا أنكرته النفوس واستوحشت منه ونفرت . والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة ، وكذلك نهاقه . ومن استفحاشهم لذكره مجرداً وتفاديهم من اسمه : أنهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به ، فيقولون : الطويل الأذنين ، كما يكنى عن الأشياء المستقذرة : وقد عدّ في مساوىء الآداب : أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولى المروءة . ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافاً وإن بلغت منه الرجلة ، فتشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير ، وتمثيل أصواتهم بالنهاق ، ثم إخلاء الكلام من لفظ التشبيه وإخراجه مخرج الاستعار - وإن جعلوا حميراً وصوتهم نهاقاً - مبالغة شديدة في الذم والتهجين وإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه . وتنبيه على أنه من كراهة الله بمكان . فإن قلت : لم وحد صوت الحمير ولم يجمع؟ قلت : ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع ، وإنما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت ، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس ، فوجب توحيده .
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
{ مَا فِى السماوات } الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك { وَمَا فِى الأرض } البحار والأنهار والمعادن والدواب وما لا يحصى { وَأَسْبَغَ } وقرىء بالسين والصاد ، وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف ، تقول في سلخ ، صلخ ، وفي سقر : صقر ، وفي سالغ صالغ وقرىء : «نعمه» . «ونعمة» ، «ونعمته» . فإن قلت : ما النعمة؟ قلت : كل نفع قصد به الإحسان ، والله تعالى خلق العالم كله نعمة؛ لأنه إما حيوان ، وإما غير حيوان . فما ليس بحيوان نعمة على الحيوان ، والحيوان نعمة من حيث أنّ إيجاده حياً نعمة عليه . لأنه لولا إيجاده حياً لما صح منه الانتفاع ، وكل ما أدى إلى الانتفاع وصححه فهو نعمة . فإن قلت : لم كان خلق العالم مقصوداً به الإحسان؟ قلت : لأنه لا يخلقه إلا لغرض ، وإلا كان عبثاً ، والعبث لا يجوز عليه ولا يجوز أن يكون لغرض راجع إليه من نفع؛ لأنه غني غير محتاج إلى المنافع ، فلم يبق إلا أن يكون لغرض يرجع إلى الحيوان وهو نفعه . فإن قلت : فما معنى الظاهرة والباطنة؟ قلت : الظاهرة كل ما يعلم بالمشاهدة ، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل ، أو لا يعلم أصلاً ، فكم في بدن الإنسان من نعمة لا يعلمها ولا يهتدي إلى العلم بها ، وقد أكثروا في ذلك : فعن مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصرة على الأعداء ، والباطنة : الأمداد من الملائكة . وعن الحسن رضي الله عنه : الظاهرة : الإسلام . والباطنة الستر . وعن الضحاك : الظاهرة : حسن الصورة ، وامتداد القامة . وتسوية الأعضاء . والباطنة : المعرفة . وقيل : الظاهرة البصر ، والسمع ، واللسان ، وسائر الجوارح الظاهرة . والباطنة : القلب ، والعقل ، والفهم ، وما أشبه ذلك . ويروى في دعاء موسى عليه السلام : إلهي ، دلني على أخفى نعمتك على عبادك؛ فقال : أخفى نعمتي عليهم النفس . ويروى : أن أيسر ما يعذب به أهل النار : الأخذ بالأنفاس .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
معناه { أ } يتبعونهم { وَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ } أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب .
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
قرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «ومن يسلم» بالتشديد ، يقال : أسلم أمرك وسلم أمرك إلى الله . فإن قلت : ماله عدّي بإلى ، وقد عدّي باللام في قوله : { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ البقرة : 112 ] ؟ قلت : معناه مع اللام : أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالماً لله ، أي خالصاً له . ومعناه - مع إلى - : أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه . والمراد : التوكل عليه والتفويض إليه { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } من باب التمثيل : مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق ، فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه { وإلى الله عاقبة الأمور } أي هي صائرة إليه .
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
قرىء : «يحزنك» ، و«يحزنك» من حزن ، وأحزن . والذي عليه الاستعمال المستفيض : أحزنه ويحزنه . والمعنى : لا يهمنك كفر من كفر وكيده للإسلام ، فإن الله عزّ وجلّ دافع كيده في نحره ، ومنتقم منه ، ومعاقبه على عمله { إِنَّ الله } يعلم ما في صدور عباده ، فيفعل بهم على حسبه { نُمَتّعُهُمْ } زماناً { قَلِيلاً } بدنياهم { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } شبه إلزامهم التعذيب وإرهاقهم إياه باضطرار المضطرُّ إلى الشيء الذي لا يقدر على الانفكاك منه . والغلظ : مستعار من الأجرام الغليظة . والمراد . الشدّة والثقل على المعذّب .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
{ قُلِ الحمد لِلَّهِ } إلزام لهم على إقرارهم بأنّ الذي خلق السموات والأرض هو الله وحده ، وأنه يجب أن يكون له الحمد والشكر . وأن لا يعبد معه غيره ، ثم قال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنّ ذلك يلزمهم ، وإذا نبهوا عليه لم ينتبهوا { إِنَّ الله هُوَ الغنى } عن حمد الحامدين المستحق للحمد ، وإن لم يحمدوه .
قرىء : «والبحر» بالنصب عطفاً على اسم إنّ ، وبالرفع عطفاً على محل إن ومعمولها على معنى : ولو ثبت كون الأشجار أقلاماً ، وثبت كون البحر ممدوداً بسبعة أبحر . أو على الابتداء والواو للحال ، على معنى . ولو أنّ الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدوداً ، وفي قراءة ابن مسعود : و«بحر يمدّه» على التنكير ، ويجب أن يحمل هذا على الوجه الأوّل . وقرىء : «تمدّه» و«يمدّه» بالتاء والياء . فإن قلت : كان مقتضى الكلام أن يقال : ولو أنّ الشجر أقلام ، والبحر مداد . قلت : أغنى عن ذكر المداد قوله : يمدّه ، لأنه من قولك : مدّ الدواة وأمدّها ، جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مداداً ، فهي تصب فيه مداداً أبداً صباً لا ينقطع . والمعنى : ولو أنّ أشجار الأرض أقلام ، والبحر ممدود بسبعة أبحر . وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ، لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد ، كقوله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى } [ الكهف : 109 ] . فإن قلت : زعمت أنّ قوله : { والبحر يَمُدُّهُ } حال في أحد وجهي الرفع ، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال . قلت : هو كقوله :
وَقَدِ اغْتَدَى وَالطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا ... و : جئت والجيش مصطف . وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف . ويجوز أن يكون المعنى : وبحرها ، والضمير للأرض . فإن قلت : لم قيل : { مِن شَجَرَةٍ } على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت : أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة ، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلاماً . فإن قلت : الكلمات جمع قلة ، والموضع موضع التكثير لا التقليل . فهلا قيل : كلم الله؟ قلت : معناه أنّ كلماته لا تفي بكتبتها البحار ، فكيف بكلمه؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنها نزلت جواباً لليهود لما قالوا : «قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة» وقيل : إن المشركين قالوا : إنّ هذا - يعنون الوحي - كلام سينفد ، فأعلم الله أن كلامه لا ينفد . وهذه الآية عند بعضهم مدنية ، وأنها نزلت بعد الهجرة ، وقيل هي مكية ، وإنما أمر اليهود وفد قريش أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألست تتلو فيما أنزل عليك : أنا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء { أَنَّ الله عَزِيزٌ } لا يعجزه شيء { حَكِيمٌ } لا يخرج من علمه وحكمته شيء ، ومثله لا تنفد كلماته وحكمه .
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
{ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة } إلا كخلقها وبعثها ، أي : سواء في قدرته القليل والكثير ، والواحد والجمع ، لا يتفاوت ، وذلك أنه إنما كانت تتفاوت النفس الواحدة والنفوس الكثيرة العدد : أن لو شغله شأن عن شأن وفعل عن فعل ، وقد تعالى عن ذلك { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } يسمع كل صوت ويبصر كل مبصر في حالة واحدة ، لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض ، فكذلك الخلق والبعث .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
كل واحد من الشمس والقمر يجري في فلكه ، ويقطعه إلى وقت معلوم : الشمس إلى آخر السنة ، والقمر إلى آخر الشهر . وعن الحسن : الأجل المسمى : يوم القيامة . لأنه لا ينقطع جريهما إلا حينئذٍ . دلّ أيضاً بالليل والنهار وتعاقبهما وزيادتهما ونقصانهما وجرى النيرين في فلكيهما كل ذلك على تقدير وحساب . وبإحاطته بجميع أعمال الخلق : على عظم قدرته وحكمته . فإن قلت : يجري لأجل مسمى ، ويجري إلى أجل مسمى : أهو من تعاقب الحرفين؟ قلت : كلا ، ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن . ولكن المعنيين : أعني الانتهاء والاختصاص كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض؛ لأنّ قولك يجري إلى أجل مسمى : معناه يبلغه وينتهي إليه . وقولك : يجري لأجل مسمى : تريد يجري لإدراك أجل مسمى ، تجعل الجري مختصاً بإدراك أجل مسمى . ألا ترى أن جري الشمس مختص بآخر السنة . وجري القمر مختص بآخر الشهر . فكلا المعنيين غير ناب به موضعه { ذلك } الذي وصف من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون . فكيف بالجماد الذي تدعونه من دون الله ، إنما هو بسبب أنه هو الحق الثابت إلهيته . وأنّ من دونه باطل الإلهية { وَأَنَّ الله هُوَ العلى } الشأن { الكبير } السلطان . أو ذلك الذي أوحى إليك من هذه الآيات بسبب بيان أنّ الله هو الحق ، وأنّ إلها غيره باطل ، وأنّ الله هو العليّ الكبير عن أن يشرك به .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
قرىء : «الفلك» بضم اللام . وكل فعل يجوز فيه فعل ، كما يجوز في كل فعل فعل ، على مذهب التعويض . وبنعمات الله : بسكون العين . وعين فعلات يجوز فيها الفتح والكسر والسكون { بِنِعْمَتِ الله } بإحسانه ورحمته { صَبَّارٍ } على بلائه { شَكُورٍ } لنعمائه ، وهما صفتا المؤمن ، فكأنه قال : إنّ في ذلك لآيات لكل مؤمن .
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
يرتفع الموج ويتراكب ، فيعود مثل الظلل ، والظلة : كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو غيرهما وقريء : كالظلال ، جمع ظلة . كقلة وقلال { فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } متوسط في الكفر والظلم ، خفض من غلوائه ، وانزجر بعض الانزجار . أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر ، يعني أنّ ذلك الإخلاص الحادث عن الخوف ، لا يبقى لأحد قط ، والمقتصد قليل نادر . وقيل : مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر . والخثر : أشد الغدر . ومنه قولهم : إنك لا تمدّ لنا شبراً من غدر إلا مددنا لك باعاً من ختر ، قال :
وَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ أَبَا عُمَيْر ... مَلأْتَ يَدَيْكَ مِنْ غَدْرٍ وَخَتْرِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
{ لاَّ يَجْزِى } لا يقضي عنه شيئاً . ومنه قيل للمتقاضي : المتجازي . وفي الحديث في جذعة بن نيار :
( 859 ) " تجزِي عنكَ ولا تجزِي عنْ أحدٍ بعدَك " وقرىء : «لا يجزىء» لا يغني . يقال : أجزأت عنك مجزأ فلان . والمعنى : لا يجزى فيه ، فحذف . { الغرور } الشيطان . وقيل : الدنيا وقيل : تمنيكم في المعصية المغفرة . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : الغرّة بالله : أن يتمادى الرجل في المعصية ويتمنى على الله المغفرة . وقيل : ذكرك لحسناتك ونسيانك لسيئاتك غرة . وقرىء بضم الغين وهو مصدر غره غروراً ، وجعل الغرور غارًّا ، كما قيل : جدّ جدّه . أو أريد زينة الدنيا لأنها غرور . فإن قلت : قوله : { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه . قلت : الأمر كذلك؛ لأنّ الجملة الإسمية أكد من الفعلية ، وقد انضم إلى ذلك قوله : { هُوَ } وقوله : { مَوْلُودٌ } والسبب في مجيئه على هذا السنن : أنّ الخطاب للمؤمنين وعليتهم : قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي ، فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس فيهم : أن ينفعوا آباءهم في الآخرة ، وأن يشفعوا لهم ، وأن يغنوا عنهم من الله شيئاً؛ فلذلك جيء به على الطريق الآكد . ومعنى التوكيد في لفظ المولود : أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه ، لم تقبل شفاعته ، فضلاً أن يشفع لمن فوقه من أجداده؛ لأنّ الولد يقع على الولد وولد الولد؛ بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك .
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
روي :
( 860 ) أنّ رجلاً من محارب وهو الحارث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن الساعةِ متَى قيامُها ، وإنّي قد ألقيتُ حباتِي في الأرض وقدْ أبطأتُ عنَّا السماءُ ، فمتَى تمطرُ؟ وأخبرنِّي عنِ امرأتِي فقدْ اشتملتْ ما في بطنِها ، أذكرُ أمْ أنثى؟ وإنِّي علمْتُ ما علمْتُ أمس ، فما أعملُ غداً؟ وهذا مولدِي قد عرفتُه ، فأينَ أموتُ؟ فنزلَتْ وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :
( 861 ) " مفاتحُ الغيبِ خمسٌ " وتلا هذه الآية . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب ، إياكم والكهانة فإن الكهانة تدعو إلى الشرك والشرك وأهله في النار . وعن المنصور أنه أهمه معرفة مدّة عمره ، فرأى في منامه كأن خيالاً أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس ، فاستفتى العلماء في ذلك ، فتأوّلوها بخمس سنين ، وبخمسة أشهر ، وبغير ذلك ، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله : تأويلها أنّ مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه { عِندَهُ عِلْمُ الساعة } أيان مرساها { وَيُنَزّلُ الغيث } في إبانه من غير تقديم ولا تأخير ، وفي بلد لا يتجاوزه به { وَيَعْلَمُ مَا فِى الأرحام } أذكر أم أنثى ، أتام أم ناقص ، وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ } برّة أو فاجرة { مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } من خير أو شر ، وربما كانت عازمة على خير فعملت شراً . وعازمة على شر فعملت خيراً { وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ } أين تموت ، وربما أقامت بأرض وضربت أوتادها وقالت : لا أبرحها وأقبر فيها . فترمي بها مرامي القدر حتى تموت في مكان لم يخطر ببالها ، ولا حدّثتها به ظنونها . وروي أنّ ملك الموت مرّ على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه ، فقال الرجل من هذا؟ قال : ملك الموت ، فقال : كأنه يريدني . وسأل سليمان أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند ، ففعل . ثم قال ملك الموت لسليمان كان دوام نظري إليه تعجباً منه ، لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك . وجعل العلم لله والدراية للعبد . لما في الدراية من معنى الختل والحيلة . والمعنى : أنها لا تعرف - وإن أعملت حيلها - ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها ، ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته ، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما ، كان من معرفة ما عداهما أبعد . وقرىء : «بأية أرض» . وشبه سيبويه تأنيث «أيّ» بتأنيث كل في قولهم : كلتهن .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 862 ) " مَن قرأَ سورَة لقمان كانَ له لقمانُ رفيقاً يومَ القيامةِ وأُعطي من الحسناتِ عشراً عشراً بعدد منْ عمل بالمعروفِ ونهَى عن المنكر " .
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
{ الم } على أنها اسم السورة مبتدأ خبره { تَنزِيلُ الكتاب } وإن جعلتها تعديداً للحروف ارتفع { تَنزِيلُ الكتاب } بأنه خبر مبتدأ محذوف : أو هو مبتدأ خبره { لاَ رَيْبَ فِيهِ } والوجه أن يرتفع بالابتداء ، وخبره { مِن رَّبّ العالمين } و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } : اعتراض لا محل له . والضمير في { فِيهِ } راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب في ذلك ، أي في كونه منزلاً من رب العالمين ويشهد لوجاهته قوله { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } لأنّ قولهم : هذا مفترى ، إنكار لأن يكون من رب العالمين ، وكذلك قوله : { بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ } وما فيه من تقدير أنه من الله وهذا أسلوب صحيح محكم : أثبت أولاً أن تنزيله من رب العالمين ، وأن ذلك ما لا ريب فيه ، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } لأن «أم» هي المنقطعة الكائنة بمعنى : بل والهمزة ، إنكاراً لقولهم وتعجيباً منه لظهور أمره : في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه ، ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك . ونظيره أن يعلل العالم في المسألة بعلة صحيحة جامعة ، قد احترز فيها أنواع الاحتراز . كقول المتكلمين : النظر أوّل الأفعال الواجبة على الإطلاق التي لا يعرى عن وجوبها مكلف ، ثم يعترض عليه فيها ببعض ما وقع احترازه منه ، فيرده بتلخيص أنه احترز من ذلك ، ثم يعود إلى تقرير كلامه وتمشيته . فإن قلت : كيف نفى أن يرتاب في أنه من الله ، وقد أثبت ما هو أطم من الريب ، وهو قولهم : { افتراه } ؟ قلت : معنى { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أن لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله : لأن نافي الريب ومميطه معه لا ينفك عنه وهو كونه معجزاً للبشر ، ومثله أبعد شيء من الريب . وأما قولهم : { افتراه } فإما قول متعنت مع علمه أنه من الله لظهور الإعجاز له ، أو جاهل يقوله قبل التأمل والنظر لأنه سمع الناس يقولونه : { مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ } كقوله : { مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } [ يس : 6 ] وذلك أن أن قريشاً لم يبعث الله إليهم رسولاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : فإذا لم يأتهم نذير لم تقم عليهم حجة . قلت : أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا ، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم؛ لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } فيه وجهان : أن يكون على الترجي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } [ طه : 44 ] على الترجي من موسى وهرون عليهما السلام ، وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
فإن قلت : ما معنى قوله : { مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ } قلت : هو على معنيين ، أحدهما : أنكم إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم ولياً ، أي : ناصراً ينصركم ولا شفيعاً يشفع لكم . والثاني : أن الله وليكم الذي يتولى مصالحكم ، وشفيعكم أي ناصركم على سبيل المجاز ، لأن الشفيع ينصر المشفوع له . فهو كقوله تعالى : { وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } [ البقرة : 107 ] فإذا خذلكم لم يبق لكم وليّ ولا نصير .
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
{ الأمر } المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبراً { مِنَ السماء إِلَى الأرض } ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصاً كما يريده ويرتضيه إلا في مدة متطاولة؛ لقلة عمال الله والخلص من عباده وقلة الأعمال الصاعدة ، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص ودل عليه قوله على أثره { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض : لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة ، كما قال : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] ، { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أي يصير إليه ، ويثبت عنده ، ويكتب في صحف ملائكته كل وقت من أوقات هذه المدّة : ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها ، ثم يدبر أيضاً ليوم آخر ، وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة . وقيل : ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض . ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي أو ردّه مع جبريل ، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة؛ لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة ، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل؛ لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد ، وقيل : يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ، ثم يعرج إليه ذلك الأمر كله؛ أي يصير إليه ليحكم فيه { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } وهو يوم القيامة . وقرأ ابن أبي عبلة : «يعرج» على البناء للمفعول . وقرىء : «يعدون» بالتاء والياء .
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
{ أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ } حسنه ، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة؛ فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت من حسن وأحسن ، كما قال : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] وقيل : علم كيف يخلقه من قوله : قيمة المرء ما يحسن . وحقيقته . يحسن معرفته أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان . وقريء «خلقه» على البدل ، أي : أحسن ، فقد خلق كل شيء . وخلقه : على الوصف ، أي : كل شيء خلقه فقد أحسنه . سميت الذرية نسلاً؛ لأنها تنسل منه ، أي : تنفصل منه وتخرج من صلبه ونحوه قولهم للولد : سليل ونجل ، و { سواه } قوّمه ، كقوله تعالى : { فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] ودل بإضافة الروح إلى ذاته على أنه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلا هو ، كقوله : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح . . . . . } الآية [ الإسراء : 85 ] ، كأنه قال : ونفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبمعرفته .
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
{ وَقَالُواْ } قيل القائل أبي بن خلف ، ولرضاهم بقوله أُسند إليهم جميعاً . وقرىء : «ائنا» ، و«أنا» ، على الاستفهام وتركه { ضَلَلْنَا } صرنا تراباً ، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض ، لا نتميز منه ، كما يضل الماء في اللبن أو غبنا { فِى الأرض } بالدفن فيها . من قوله :
وَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وقرأ علي وابن عباس رضي الله عنهما : «ضللنا» بكسر اللام . يقال : ضل يضل وضل يضل . وقرأ الحسن رضي الله عنه : صللنا ، من صلّ اللحم وأصلّ : إذا أنتن . وقيل : صرنا من جنس الصلة وهي الأرض . فإن قلت : بم انتصب الظرف في { أَءذَا ضَلَلْنَا } ؟ قلت : بما يدل عليه ( لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ) وهو نبعث . أو يجدد خلقنا . لقاء ربهم : هو الوصول إلى العاقبة ، من تلقى ملك الموت وما وراءه ، فلما ذكر كفرهم بالإنشاء . أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في الكفر ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة ، لا بالإنشاء وحده : ألا ترى كيف خوطبوا بتوفي ملك الموت وبالرجوع إلى ربهم بعد ذلك مبعوثين للحساب والجزاء ، وهذا معنى لقاء الله على ما ذكرنا والتوفي : استيفاء النفس وهي الروح . قال الله تعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس } [ الزمر : 42 ] وقال : أخرجوا أنفسكم ، وهو أن يقبض كلها لا يترك منها شيء . من قولك : توفيت حقي من فلان ، واستوفيته إذا أخذته وافياً كاملاً من غير نقصان . والتفعل والاستفعال : يلتقيان في مواضع : منها : تقصيته واستقصيته ، وتعجلته واستعجلته . وعن مجاهد رضي الله عنه : حويت لملك الموت الأرض ، وجعلت له مثل الطست ، يتناول منها حيث يشاء . وعن قتادة : يتوفاهم ومعه أعوان من الملائكة . وقيل : ملك الموت : يدعو الأرواح فتجيبه ، ثم يأمر أعوانه بقبضها .
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
{ وَلَوْ تَرَى } يجوز أن يكون خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه وجهان : أن يراد به التمني ، كأنه قال : وليتك ترى ، كقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة :
( 863 ) « لو نظرت إليها » والتمني لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما كان الترجي له في { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم ، فجعل الله له تمني أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم ، وأن تكون لو الامتناعية قد حذف جوابها ، وهو : لرأيت أمراً فظيعاً . أو : لرأيت أسوأ حال ترى . ويجوز : أن يخاطب به كل أحد ، كما تقول : فلان لئيم ، إن أكرمته أهانك ، وإن أحسنت إليه أساء إليك ، فلا تريد به مخاطباً بعينه ، فكأنك قلت : إن أكرم وإن أحسن إليه ، ولو وإذ : كلاهما للمضي ، وإنما جاز ذلك؛ لأن المترقب من الله بمنزلة الوجود المقطوع به في تحققه ، ولا يقدر لنرى ما يتناوله ، كأنه قيل : ولو تكون منكم الرؤية ، وإذ ظرف له . يستغيثون بقولهم { رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } فلا يغاثون ، يعني : أبصرنا صدق وعدك ووعيدك وسمعنا منك تصديق رسلك . أو كنا عمياً وصماً فأبصرنا وسمعنا { فارجعنا } هي الرجعة إلى الدنيا { لأتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } على طريق الإلجاء والقسر ، ولكننا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار ، فاستحبوا العمى على الهدى ، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون البصراء ألا ترى إلى ما عقبه به من قوله : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ } فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم : من نسيان العاقبة ، وقلة الفكر فيها ، وترك الاستعداد لها . والمراد بالنسيان : خلاف التذكر ، يعني : أن الانهماك في الشهوات أذهلكم وألهاكم عن تذكر العاقبة وسلط عليكم نسيانها ، ثم قال : { إِنَّا نسيناكم } على المقابلة ، أي : جازيناكم جزاء نسيانكم . وقيل : هو بمعنى الترك ، أي : تركتم الفكر في العاقبة ، فتركناكم من الرحمة ، وفي استئناف قوله إنا نسيناكم وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم . والمعنى فذوقوا هذا أي ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم بسبب نسيان اللقاء ، وذوقوا العذاب المخلد في جهنم بسبب ما عملتم من المعاصي والكبائر الموبقة .
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
{ إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا } أي وعظوا : سجدوا تواضعاً لله وخشوعاً ، وشكراً على ما رزقهم من الإسلام { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } ونزهوا الله من نسبة القبائح إليه ، وأثنوا عليه حامدين له { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } كما يفعل من يصر مستكبراً كأن لم يسمعها ، ومثله قوله تعالى : { إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا } [ الإسراء : 107 ] . { تتجافى } ترتفع وتتنحى { عَنِ المضاجع } عن الفرش ومواضع النوم ، داعين ربهم عابدين له؛ لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته ، وهم المتهجدون . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها :
( 864 ) " قيام العبد من الليل " وعن الحسن رضي الله عنه : أنه التهجد . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 865 ) " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم : سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم . ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؛ فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء ، فيقومون وهم قليل ، فيسرحون جميعاً إلى الجنة ، ثم يحاسب سائر الناس " وعن أنس بن مالك رضي الله عنه : كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة . فنزلت فيهم . وقيل : هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها { مَّآ أُخْفِىَ لَهُم } على البناء للمفعول . ما أخفى لهم على البناء للفاعل ، وهو الله سبحانه ، وما أخفى لهم . وما نخفي لهم . وما أخفيت لهم : الثلاثة للمتكلم ، وهو الله سبحانه . وما : بمعنى الذي ، أو بمعنى أي . وقرىء : «من قرّة أعين» «وقرات أعين» . والمعنى : لا تعلم النفوس - كلهنّ ولا نفس واحدة منهنّ لا ملك مقرب ولا نبيّ مرسل - أيّ نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك وأخفاه من جميع خلائقه ، لا يعلمه إلا هو مما تقربه عيونهم ، ولا مزيد على هذه العدة ولا مطمح وراءها ، ثم قال : { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فحسم أطماع المتمنين ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 866 ) " يقولُ اللَّهُ تعالَى : أعددتُ لعبادِي الصالحينَ ما لاَ عينُ رأتْ ولا أذنَ سمعَت ولا خطر على قلبِ بشرٍ ، بَلْهَ ما أطلعتُهم عليهِ . اقرؤُوا إن شئتمُ : فلا تعلمُ نفسُ ما أخفيَ لهمُ منْ قرةِ أعينٍ " وعن الحسن رضي الله عنه : أخفى القوم أعمالاً في الدنيا ، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت .
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
{ كَانَ مُؤْمِناً } و { كَانَ فَاسِقاً } محمولان على لفظ من و { لاَّ يَسْتَوُونَ } محمول على المعنى ، بدليل قوله تعالى : { أَمَّا الذين ءَامَنُواْ } { وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ } ونحوه قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } [ محمد : 16 ] و { جنات المأوى } نوع من الجنان؛ قال الله تعالى : { وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى عِندَ سِدْرَةِ المنتهى عِندَهَا جَنَّةُ المأوى } [ النجم : 15 ] سميت بذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : تأوي إليها أرواح الشهداء . وقيل : هي عن يمين العرش . وقرىء : «جنة المأوى» ، على التوحيد { نُزُلاً } عطاء بأعمالهم . والنزل : عطاء النازل ، ثم صار عاماً { فَمَأْوَاهُمُ النار } أي ملجؤهم ومنزلهم . ويجوز أن يراد : فجنة مأواهم النار ، أي النار لهم ، مكان جنة المأوى للمؤمنين؛ كقوله : { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] ، [ التوبة : 34 ] ، [ الإنشقاق : 24 ] ، { العذاب الأدنى } عذاب الدنيا من القتل والأسر ، وما محنوا به من السنة سبع سنين . وعن مجاهد رضي الله عنه ، عذاب القبر . و { العذاب الأكبر } عذاب الآخرة ، أي : نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى الآخرة { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي يتوبون عن الكفر ، أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه . كقوله تعالى : { فارجعنا نَعْمَلْ صالحا } [ السجدة : 12 ] وسميت إرادة الرجوع رجوعاً ، كما سميت إرادة القيام قياماً في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ويدل عليه قراءة من قرأ : «يرجعون» على البناء للمفعول . فإن قلت : من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة؟ و«لعل» من الله إرادة ، وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يمتنع ، وتوبتهم مما لا يكون ، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟ قلت : إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده ، فإذا أراد شيئاً من أفعاله كان ولم يمتنع ، للاقتدار وخلوص الداعي . وأما أفعال عباده : فإما أن يريدها وهم مختارون لها ، أو مضطرون إليها بقسره وإلجائه ، فإن أرادها وقد قسرهم عليها فحكمها حكم أفعالها ، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره ، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك وهو لا يختارها ، لأنّ اختياره لا يتعلق بقدرتك ، وإذا لم يتعلق بقدرتك لم يكن فقده دالاً على عجزك . وروي في نزولها :
( 867 ) «أنه شجر بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط يوم بدر كلام ، فقال له الوليد : اسكت فإنك صبيّ : أنا أشبّ منك شباباً ، وأجلد منك جلداً ، وأذرب منك لساناً ، وأحدّ منك سناناً ، وأشجع منك جناناً ، وأملأ منك حشواً في الكتيبة . فقال له علي رضي الله عنه : اسكت ، فإنك فاسق ، فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين ، فتناولتهما وكل من كان في مثل حالهما . وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما : أنه قال للوليد : كيف تشتم علياً وقد سماه الله مؤمناً في عشر آيات؟ وسماك فاسقاً؟ .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
ثم في قوله : { ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا } للاستبعاد . والمعنى : أنّ الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل ، كما تقول لصاحبك : وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها استبعاداً لتركه الانتهاز . ومنه ثم في بيت الحماسة :
لاَ يَكْشِفُ الغُمَّاءَ إلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ ... يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدّتها . فإن قلت : هلا قيل : إنا منه منتقمون؟ قلت : لما جعله أظلم كل ظالم ثم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ، فقد دلّ على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام ، ولو قاله بالضمير لم يفد هذه الفائدة .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
{ الكتاب } للجنس والضمير في { لّقَائِهِ } له . ومعناه : إنا آتينا موسى عليه السلام مثل ما آتيناك من الكتاب ، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي ، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ولقيت نظيره كقوله تعالى : { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِك } [ يونس : 94 ] ونحو قوله : { مّن لّقَائِهِ } وقوله : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل : 6 ] وقوله : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً } [ الإسراء : 13 ] . وجعلنا الكتاب المنزل على موسى عليه السلام { هُدًى } لقومه { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ } الناس ويدعونهم إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه ، لصبرهم وإيقانهم بالآيات . وكذلك لنجعلنّ الكتاب المنزل إليك هدى ونوراً ، ولنجعلنّ من أمّتك أئمة يهدون مثل تلك الهداية لما صبروا عليه من نصرة الدين وثبتوا عليه من اليقين . وقيل : من لقائك موسى عليه السلام ليلة الإسراء أو يوم القيامة وقيل : من لقاء موسى عليه السلام الكتاب ، أي : من تلقيه له بالرضا والقبول . وقرىء : «لما صبروا» «ولما صبروا» أي لصبرهم . وعن الحسن رضي الله عنه : صبروا عن الدنيا . وقيل : إنما جعل الله التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة ، ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل عليه السلام { يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } يقضي ، فيميز المحق في دينه من المبطل .
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
الواو في { أَوَ لَمْ يَهْدِ } للعطف على معطوف عليه منوي من جنس المعطوف ، والضمير في { لَهُمْ } لأهل مكة . وقرىء بالنون والياء ، والفاعل ما دلّ عليه { كَمْ أَهْلَكْنَا } لأنّ كم لا تقع فاعلة ، لا يقال : جاءني كم رجل ، تقديره : أو لم يهد لهم كثرة إهلاكنا القرون . أو هذا الكلام كما هو بمضمونه ومعناه ، كقولك : يعصم لا إله إلا الله الدماء والأموال . ويجوز أن يكون فيه ضمير الله بدلالة القراءة بالنون . و { القرون } عاد وثمود وقوم لوط { يَمْشُونَ فِى مساكنهم } يعني أهل مكة ، يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم . وقرىء : «يمشون» بالتشديد .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
{ الجرز } الأرض التي جرز نباتها أي قطع : إمّا لعدم الماء ، وإمّا لأنه رعي وأزيل ، ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ : جرز . ويدل عليه قوله : { فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً } وعن ابن عباس رضي الله عنه : إنها أرض اليمن . وعن مجاهد رضي الله عنه : هي أبين . { بِهِ } بالماء { تَأْكُلُ } من الزرع { أنعامهم } من عصفه { وَأَنفُسِهِمْ } من حبه . وقرىء : «يأكل» بالياء .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
الفتح : النصر ، أو الفصل بالحكومة ، من قوله : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا } [ الأعراف : 89 ] وكان المسلمون يقولون إنّ الله سيفتح لنا على المشركين . ويفتح بيننا وبينهم ، فإذا سمع المشركون قالوا : { متى هذا الفتح } أي في أيّ وقت يكون { إِن كُنتُمْ صادقين } في أنه كائن . و { يَوْمَ الفتح } يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ، ويوم نصرهم عليهم ، وقيل : هو يوم بدر . وعن مجاهد والحسن رضي الله عنهما : يوم فتح مكة . فإن قلت : قد سألوا عن وقت الفتح ، فكيف ينطبق هذا الكلام جواباً على سؤالهم . قلت : كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح ، استعجالاً منهم عن وجه التكذيب والاستهزاء ، فأجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم فقيل لهم : لا تستعجلوا به ولا تستهزؤا ، فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم ، وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان ، واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا . فإن قلت : فمن فسره بيوم الفتح أو يوم بدر كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان ، وقد نفع الطلقاء يوم فتح مكة وناساً يوم بدر . قلت : المراد أنّ المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل ، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق { وانتظر } النصرة عليهم وهلاكهم { إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } الغلبة عليكم وهلاككم ، كقوله تعالى : { فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ } [ التوبة : 52 ] وقرأ ابن السميفع رحمه الله : منتظرون ، بفتح الظاء . ومعناه : وانتظر هلاكهم فإنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم ، يعني أنهم هالكون لا محالة . أو وانتظر ذلك؛ فإن الملائكة في السماء ينتظرونه .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 868 ) " مَنْ قرأ «آلم تنزيل» « وتبارك الَّذِي بيدهِ الملك» ، أُعطي من الأجرِ كأنما أحيا ليلةَ القدرِ " ، وقالَ :
( 869 ) " منْ قرأَ آلام تنزيل في بيته لمّ يدخلِ الشيطانَ بيته ثلاثةَ أيامٍ " .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
( 870 ) عن زرّ قال : قال لي أبيّ بن كعب رضي الله عنه : كم تعدّون سورة الأحزاب؟ قلت : ثلاثاً وسبعين آية . قال : فوالذي يحلف به أبيّ بن كعب ، إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول . ولقد قرأنا منها آية الرجم : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) ، أراد أبيّ رضي الله عنه أنّ ذلك من جملة ما نسخ من القرآن . وأمّا ما يحكى : أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة رضي الله عنها فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض . جعل نداءه بالنبيّ والرسول في قوله : { ياأيها النبى اتق الله } { ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ } [ التحريم : 1 ] ، { ياأيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } [ المائدة : 67 ] وترك نداءه باسمه كما قال : يا آدم ، يا موسى ، يا عيسى ، يا داود : كرامة له وتشريفاً ، وربئاً بمحله وتنويهاً بفضله . فإن قلت : إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الإخبار في قوله : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } [ الفتح : 29 ] ، { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } [ آل عمران : 144 ] . قلت : ذاك لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به ، فلا تفاوت بين النداء والإخبار ، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره بنحو ما ذكره في النداء { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] ، و { وَقَالَ الرسول يارب } [ الفرقان : 30 ] ، { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] ، { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوب : 62 ] ، { النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ الأحزاب : 6 ] . { إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى } [ الأحزاب : 56 ] ، { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ } [ المائدة : 81 ] ، اتق الله : واظب على ما أنت عليه من التقوى ، واثبت عليه ، وازدد منه ، وذلك لأن التقوى باب لا يبلغ آخره { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } لا تساعدهم على شيء ولا تقبل لهم رأياً ولا مشورة ، وجانبهم واحترس منهم ، فإنهم أعداء الله وأعداء المؤمنين ، لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة . وروي :
( 871 ) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود : قريظة والنضير وبني قينقاع وقد بايعه أناس منهم على النفاق فكان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم . وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه . وكان يسمع منهم فنزلت . وروي :
( 872 ) أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه في الموادعة التي كانت بينه وبينهم ، وقام معهم عبد الله بن أبيّ ومعتب بن قشير والجد بن قيس ، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تشفع وتنفع وندعك وربك ، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وهموا بقتلهم ، فنزلت : أي اتق الله في نقض العهد ونبذ الموادعة ، ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا إليك .
وروي أنّ أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم ، وأن يزوّجه شيبة بن ربيعة بنته ، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع . فنزلت { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً } بالصواب من الخطإ ، والمصلحة من المفسدة { حَكِيماً } لا يفعل شيئاً ولا يأمر به إلا بداعي الحكمة { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ } في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك { إِنَّ الله } الذي يوحي إليك خبير { بِمَا تَعْمَلُونَ } فموح إليك ما يصلح به أعمالكم ، فلا حاجة بكم إلى الاستماع من الكفرة . وقرىء : «يعملون» بالياء ، أي : بما يعمل المنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } وأسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره { وَكِيلاً } حافظاً موكولاً إليه كل أمر .
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
ما جمع الله قلبين في جوف ، ولا زوجية وأمومة في أمرأه ، ولا بنوّة ودعوة في رجل . والمعنى : أن الله سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين ، لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليها ، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك ، فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً . عالماً ظاناً . موقناً شاكاً في حالة واحدة - لم ير أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أُمًّا لرجل زوجاً له؛ لأن الأم مخدومة مخفوض لها جناح الذل ، والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة وهما حالتان متنافيتان ، وأن يكون الرجل الواحد دعياً لرجل وابنا له : لأنّ البنوّة أصالة في النسب وعراقة فيه ، والدعوة : إلصاق عارض بالتسمية لا غير ، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل ، وهذا مثل ضربه الله في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيراً . وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون . فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له ، وطلبه أبوه وعمه ، فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأعتقه . وكانوا يقولون : زيد بن محمد ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية ، وقوله : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] وقيل : كان أبو معمر رجلاً من أحفظ العرب وأرواهم ، فقيل له : ذو القلبين ، وقيل : هو جميل بن أسد الفهري . وكان يقول : إن لي قلبين . أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد ، فروي أنه انهزم يوم بدر ، فمرّ بأبي سفيان وهو معلق أحدى نعليه بيده والأخرى في رجله . فقال له : ما فعل الناس؟ فقال : هم ما بين مقتول وهارب . فقال له : ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال : ما ظننت إلا أنهما في رجليّ ، فأكذب الله قوله وقولهم ، وضربه مثلاً في الظهار والتنبي . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كان المنافقون يقولون : لمحمد قلبان فأكذبهم الله . وقيل : سها في صلاته ، فقالت اليهود : له قلبان : قلب مع أصحابه ، وقلب معكم . وعن الحسن : نزلت في أن الواحد يقول : نفس تأمرني ونفس تنهاني . والتنكير في رجل ، وإدخال من الاستغراقية على قلبين تأكيدان لما قصد من المعنى ، كأنه قال : ما جعل الله لأمة الرجال ولا لواحد منهم قلبين البتة في جوفه . فإن قلت : أي فائدة في ذكر الجوف؟ قلت : الفائدة فيه كالفائدة في قوله : { القلوب التى فِى الصدور } [ الحج : 46 ] وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر والتجلي للمدلول عليه ، لأنه إذا سمع به صور لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين ، فكان أسرع إلى الإنكار .
وقرىء : «اللايىء» ، بياء وهمزة مكسورتين ، و«اللائي» بياء ساكنة بعد الهمزة : وتظاهرون : من ظاهر . وتظاهرون . من اظاهر ، بمعنى تظاهر . وتظهرون : من اظهر ، بمعنى تظهر . وتظهرون : من ظهر ، بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد . وتظهرون : من ظهر ، بلفظ فعل من الظهور . ومعنى ظاهر من امرأته : قال لها : أنت عليّ كظهر أمي . ونحوه في العبارة عن اللفظ : لبى المحرم ، إذا قال لبيك . وأفف الرجل : إذا قال : أُف وأخوات لهنّ . فإن قلت : فما وجه تعديته وأخواته بمن؟ قلت : كان الظهار طلاقاً عند أهل الجاهلية . فكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة ، فكان قولهم : تظاهر منها تباعد منها بجهة الظهار ، وتظهر منها : تحرز منها . وظاهر منها : حاذر منها ، وظهر منها : وحش منها . وظهر منها : خلص منها . ونظيره : آلى من امرأته ، لما ضمن معنى التباعد منها عدّي بمن ، وإلا فآلى في أصله الذي هو بمعنى : حلف وأقسم ، ليس هذا بحكمه . فإن قلت : ما معنى قولهم : أنت عليّ كظهر أمي؟ قلت : أرادوا أن يقولوا : أنت عليّ حرام كبطن أمي . فكنوا عن البطن بالظهر؛ لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج ، وإنما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر لأنه عمود البطن . ومنه حديث عمر رضي الله عنه : يجيء به أحدهم على عمود بطنه : أراد على ظهره . ووجه آخر : وهو أن إتيان المرأة وظهرها إلى السماء كان محرّماً عندهم محظوراً . وكان أهل المدينة يقولون : إذا أتيت المرأة ووجهها إلى الأرض جاء الولد أحول ، فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه ، شبهها بالظهر ثم لم يقنع بذلك حتى جعله ظهر أمّه فلم يترك . فإن قلت : الدعيّ فعيل بمعنى مفعول ، وهو الذي يُدعى ولداً فما له جمع على افعلاء ، وبابه : ما كان منه بمعنى فاعل ، كتقى وأتقياء ، وشقيّ وأشقياء ، ولا يكون ذلك في نحو رمى وسمى . قلت : إن شذوذه عن القياس كشذوذ قتلاء وأسراء ، والطريق في مثل ذلك التشبيه اللفظي { ذلكم } النسب هو { قَوْلُكُم بأفواهكم } هذا ابني لا غير من غير أن يواطئه اعتقاد لصحته وكونه حقاً . والله عز وجل لا يقول إلا ما هو حق ظاهره وباطنه ، ولا يهدي إلا سبيل الحق . ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق ، وهو قوله : { ادعوهم لأبَائِهِمْ } وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل ، وفي فصل هذه الجمل ووصلها : من الحسن والفصاحة مالا يغني على عالم بطرق النظم . وقرأ قتادة : «وهو الذي يهدي السبيل» . وقيل : كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه جلد الرجل وظرفه : ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه ، وكان ينسب إليه فيقال : فلان ابن فلان { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ } لهم آباء تنسبونهم إليهم { ف } هم { فإخوانكم فِى الدين } وأولياؤكم في الدين فقولوا : هذا أخي وهذا مولاي ، ويا أخي ، ويا مولاي : يريد الأخوّة في الدين والولاية فيه { مَّا تَعَمَّدَتْ } في محل الجرّ عطفاً على ما أخطأتم .
ويجوز أن يكون مرتفعاً على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح . والمعنى : لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهي ، ولكن الإثم فيما تعمدتموه بعد النهي . أو لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بنيّ على سبيل الخطإ وسبق اللسان ، ولكن إذا قلتموه متعمدين . ويجوز أن يراد العفو عن الخطإ دون العمد على طريق العموم ، كقوله عليه الصلاة والسلام :
( 873 ) « ما أخشَى عليكُم الخطأَ ولكنْ أخشَى عليْكُم العمدَ » وقوله عليه الصلاة والسلام :
( 874 ) « وُضع عن أمّتي الخطأُ والنسيانْ وما أكرهُوا عليه » ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده . فإن قلت : فإذا وجد التبني فما حكمه؟ قلت : إذا كان المتبني مجهول النسب وأصغر سناً من المتبنى ثبت نسبه منه ، وإن كان عبداً له عتق مع ثبوت النسب ، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم يثبت النسب ، ولكنه يعتق عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وعند صاحبيه لا يعتق . وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وإن كان عبداً عتق { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } لعفوه عن الخطأ وعن العمد إذا تاب العامد .
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
{ النبى أولى بالمؤمنين } في كل شيء من أمور الدين والدنيا { مّنْ أَنفُسِهِمْ } ولهذا أطلق ولم يقيد ، فيجب عليهم أن يكون أحبّ إليهم من أنفسهم ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، وحقه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها ، وأن يبذلوها دونه ويجعلوها فداءه إذا أعضل خطب ، ووقاءه إذا لقحت حرب ، وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم ولا ما تصرفهم عنه ، ويتبعوا كل ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرفهم عنه ، لأنّ كل ما دعا إليه فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين وما صرفهم عنه ، فأخذ بحجزهم لئلا يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار . أو هو أولى بهم ، على معنى أنه أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم ، كقوله تعالى : { بالمؤمنين رَءوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 875 ) " ما مِنْ مؤمنٍ إلاّ أنا أولى بهِ فِي الدنيا والآخرةِ . اقرؤوا إنْ شئتم { النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } فأيما مؤمن هلك وترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا ، وإن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ " وفي قراءة ابن مسعود : «النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم» . وقال مجاهد : كل نبيّ فهو أبو أمّته . ولذلك صار المؤمنون إخوة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين { وأزواجه أمهاتهم } تشبيه لهنّ بالأمهات في بعض الأحكام ، وهو وجوب تعظيمهنّ واحترامهن ، وتحريم نكاحهن : قال الله تعالى : { وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } [ الأحزاب : 53 ] وهنّ فيما وراء ذلك بمنزلة الأجنبيات ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : لسنا أمهات النساء . تعني أنهنّ إنما كنّ أمّهات الرجال ، لكونهنّ محرّمات عليهم كتحريم أمّهاتهم . والدليل على ذلك : أنّ هذا التحريم لم يتعد إلى بناتهنّ ، وكذلك لم يثبت لهنّ سائر أحكام الأمهات . كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة ، كما كانت تتألف قلوب قوم بإسهام لهم في الصدقات ، ثم نسخ ذلك لما دجا الإسلام وعزّ أهله ، وجعل التوارث بحق القرابة { فِى كتاب الله } في اللوح . أو فيما أوحى الله إلى نبيه وهو هذه الآية . أو في آية المواريث . أو فيما فرض الله كقوله : { كتاب الله عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] . { مِنَ المؤمنين والمهاجرين } يجوز أن يكون بياناً لأولى الأرحام ، أي : الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب . ويجوز أن يكون لابتداء الغاية . أي : أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدين ، ومن المهاجرين بحق الهجرة . فإن قلت : مم استثنى { أَن تَفْعَلُواْ } ؟ قلت : من أعم العام في معنى النفع والإحسان ، كما تقول : القريب أولى من الأجنبي إلا في الوصية ، تريد : أنه أحق منه في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك ، إلا في الوصية . والمراد بفعل المعروف : التوصية لأنه لا وصية لوارث وعدى تفعلوا بإلى ، لأنه في معنى : تسدوا وتزلوا والمراد بالأولياء : المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين { ذَلِكَ } إشارة إلى ما ذكر في الآيتين جميعاً . وتفسير الكتاب : ما مر آنفاً ، والجملة مستأنفة كالخاتمة لما ذكر من الأحكام .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
{ و } اذكر حين { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين } جميعاً { ميثاقهم } بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم { وَمِنْكَ } خصوصاً { وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى } وإنما فعلنا ذلك { لِّيَسْأَلَ } الله يوم القيامة عند تواقف الأشهاد المؤمنين الذين صدقوا عهدهم ووفوا به ، من جملة من أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى { عَن صِدْقِهِمْ } عهدهم وشهادتهم ، فيشهد لهم الأنبياء بأنهم صدقوا عهدهم وشهادتهم وكانوا مؤمنين . أو ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم . لأن من قال للصادق : صدقت ، كان صادقاً في قوله . أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم . وتأويل مسألة الرسل : تبكيت الكافرين بهم ، كقوله : { أأنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] . فإن قلت : لم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نوح فمن بعده قلت هذا العطف لبيان فضيلة الأنبياء الذين هم مشاهيرهم وذراريهم ، فلما كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء المفضلين : قدم عليهم لبيان أنه أفضلهم ، ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه . فإن قلت : فقد قدم عليه نوح عليه السلام في الآية التي هي أخت هذه الآية ، وهي قوله : { شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } [ الشورى : 13 ] ثم قدم على غيره . قلت : مورد هذه الآية على طريقة خلاف طريقة تلك ، وذلك أنّ الله تعالى إنما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنه قال : شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم ، وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث ، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير . فإن قلت : فما المراد بالميثاق الغليظ؟ قلت : أراد به ذلك الميثاق بعينه . معناه : وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقاً غليظاً . والغلظ : استعارة من وصف الأجرام ، والمراد : عظم الميثاق وجلالة شأنه في بابه . وقيل الميثاق الغليظ : اليمين بالله على الوفاء بما حملوا . فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأَعَدَّ للكافرين } ؟ قلت : على أخذنا من النبيين ، لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين . وأعد للكافرين عذاباً أليماً . أو على ما دل عليه { لِّيَسْأَلَ الصادقين } كأنه قال : فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
{ اذكروا } ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق { إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } وهم الأحزاب ، فأرسل الله عليهم ريح الصبا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 876 ) " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } وهم الملائكة وكانوا ألفاً : بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية ، فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم ، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد ، وقطعت الأطناب ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وماجت الخيل بعضها في بعض ، وقذف في قلوبهم الرعب ، وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم ، فقال طليحة بن خويلد الأسدي : أما محمد فقد بدأكم بالسحر ، فالنجاء النجاء ، فانهزموا من غير قتال ، وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة ، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه ، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام واشتدّ الخوف ، وظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير : كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصرولا نقدر أن نذهب إلى الغائط . وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان ، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن . وعامر بن الطفيل في هوازن ، وضامتهم اليهود من قريظة والنضير ، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة ، حتى أنزل الله النصر { تَعْمَلُونَ } قرىء بالتاء والياء { مّن فَوْقِكُمْ } من أعلى الوادي من قبل المشرق : بنو غطفان { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } من أسفل الوادي من قبل المغرب : قريش تحزبوا وقالوا : سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمداً { زَاغَتِ الأبصار } مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة وشخوصاً . وقيل : عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوّها لشدة الروع . الحنجرة : رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم . والحلقوم : مدخل الطعام والشراب ، قالوا : إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو الغمّ الشديد : ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ، ومن ثمة قيل للجبان : انتفخ سحره . ويجوز أن يكون ذلك مثلاً في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } خطاب للذين آمنوا . ومنهم الثبت القلوب والأقدام ، والضعاف القلوب : الذين هم على حرف ، والمنافقون : الذين لم يوجد منهم الإيمان إلا بألسنتهم فظن الأولون بالله أنه يبتليهم ويفتنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ، وأمّا الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم . وعن الحسن : ظنوا ظنوناً مختلفة : ظن المنافقون أنّ المسلمين يستأصلون ، وظنّ المؤمنون أنهم يبتلون . وقرىء «الظنون» بغير ألف في الوصل والوقف وهو القياس ، وبزيادة ألف في الوقف زادوها في الفاصلة ، كما زادها في القافية من قال :
أَقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالعِتَابَا ... وكذلك الرسولا والسبيلا . وقرىء بزيادتها في الوصل أيضاً ، إجراء له مجرى الوقف . قال أبو عبيد : وهنّ كلهنّ في الإمام بألف . وعن أبي عمرو إشمام زاي زلزلوا . وقرىء : «زلزالاً» بالفتح . والمعنى : أنّ الخوف أزعجهم أشد الإزعاج .
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
{ إِلاَّ غُرُوراً } قيل قائله : معتب بن قشير حين رأى الأحزاب قال : يعدنا محمد فتح فارس والروم ، وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقا ، ما هذا إلا وعد غرور { طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ } هم أوس بن قيظي ومن وافقه على رأيه . وعن السدي عبد الله بن أبيّ وأصحابه . ويثرب : اسم المدينة . وقيل : أرض وقعت المدينة في ناحية منها { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } قرىء بضم الميم وفتحها ، أي لا قرار لكم ههنا ، ولا مكان تقيمون فيه أو تقومون { فارجعوا } إلى المدينة : أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : قالوا لهم : ارجعوا كفاراً وأسلموا محمداً ، وإلا فليست يثرب لكم بمكان . قرىء : «عورة» بسكون الواو وكسرها ، فالعورة : الخلل ، والعورة : ذات العورة ، يقال : عور المكان عوراً إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدو والسارق . ويجوزأن تكون { عَوْرَةٌ } تخفيف : عورة ، اعتذروا أنّ بيوتهم معترضة للعدو ممكنة للسراق لأنها غير محرزة ولا محصنة ، فاستأذنوه وليحصنوها ثم يرجعوا إليه ، فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك ، وإنما يريدون الفرار { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ } المدينة . وقيل : بيوتهم ، من قولك : دخلت على فلان داره { مّنْ أَقْطَارِهَا } من جوانبها ، يريد : ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفاً منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها . وانثالت على أهاليهم وأولادهم ناهبين سابين ، ثم سئلوا عند ذلك الفزع وتلك الرجفة { الفتنة } أي الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين ، لأتوها : لجاؤها وفعلوها . وقرىء : «لآتوها» لأعطوها { وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا } وما ألبثوا إعطاءها { إِلاَّ يَسِيراً } ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف . أو وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيراً ، فإن الله يهلكهم . والمعنى : أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم ، ويتمحلون ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وعن مصافة الأحزاب الذين ملؤوهم هولاً ورعباً؛ وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر وقيل لهم كونوا على المسلمين ، لسارعوا إليه وما تعللوا بشيء ، وما ذاك إلا لمقتهم الإسلام . وشدة بغضهم لأهله ، وحبهم الكفر وتهالكهم على حزبه .
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16)
عن ابن عباس : عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم . وقيل : هم قوم غابوا عن بدر فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلنّ . وعن محمد بن إسحق عاهدوا يوم أحد أن لا يفرّوا بعدما نزل فيهم ما نزل { مَسْئُولاً } مطلوباً مقتضى حتى يوفى به { لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار } مما لا بدّ لكم من نزوله بكم من حتف أنف أو قتل . وإن نفعكم الفرار مثلاً فمنعتم بالتأخير : لم يكن ذلك التمتيع إلا زماناً قليلاً . وعن بعض المروانية : أنه مرّ بحائط مائل فأسرع ، فتليت له هذه الآية فقال : ذلك القليل نطلب .
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
فإن قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت : معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام وأجرى مجرى قوله :
مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحَا ... أو حمل الثاني على الأوّل لما في العصمة من معنى المنع .
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
{ المعوقين } المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون : كانوا يقولون { لإخوانهم } من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه ، فخلوهم و { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي قربوا أنفسكم إلينا . وهي لغة أهل الحجاز : يسوّونَ فيه بين الواحد والجماعة . وأمّا تميم فيقولون : هلمّ يا رجل ، وهلموا يا رجال ، وهو صوت سمي به فعل متعدّ مثل احضر وقرب { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ } [ الأنعام : 15 ] { إِلاَّ قَلِيلاً } إلا اتياناً قليلاً يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم ، ولا تراهم يبارزون ويقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطرّوا إليه ، كقوله : { مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً } ، { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } في وقت الحرب أضناء بكم ، يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } في تلك الحالة كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذراً أو خوراً ولواذاً بك ، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة : نقلوا ذلك الشحّ وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير - وهو المال والغنيمة - ونسوا تلك الحالة الأولى ، واجترؤا عليكم وضربوكم بألسنتهم وقالوا : وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم ، وبمكاننا غلبتم عدوّكم وبنا نصرتم عليهم . ونصب { أَشِحَّةً } على الحال أو على الذمّ . وقرىء : «أشحة» ، بالرفع . و«صلقوكم» بالصاد . فإن قلت : هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط؟ قلت : لا ولكنه تعليم لمن عسى يظن أنّ الإيمان باللسان إيمان وإن لم يوطئه القلب ، وأن ما يعمل المنافق من الأعمال يجدي عليه ، فبين أنّ إيمانه ليس بإيمان ، وأنّ كل عمل يوجد منه باطل . وفيه بعث على إتقان المكلف أساس أمره وهو الإيمان الصحيح ، وتنبيه على أن الأعمال الكثيرة من غير تصحيح المعرفة كالبناء على غير أساس ، وأنها مما يذهب عند الله هباء منثوراً . فإن قلت : ما معنى قوله : { وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } وكل شيء عليه يسير؟ قلت : معناه : أن أعمالهم حقيقة بالإحباط ، تدعو إليه الدواعي ، ولا يصرف عنه صارف { يَحْسَبُونَ } أنّ الأحزاب لم ينهزموا ، وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق إلى المدينة راجعين لما نزل بهم من الخوف الشديد ودخلهم من الجبن المفرط { وَإِن يَأْتِ الأحزاب } كرّة ثانية . تمنوا لخوفهم مما منوا به هذه الكرّة أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب { يَسْئَلُونَ } كل قادم منهم من جانب المدينة عن أخباركم وعما جرى عليكم { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ } ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال - لم يقاتلوا إلا تعلة رياء وسمعة . وقرىء : «بدّي» على فعَّل جمع باد كغاز وغزَّي . وفي رواية صاحب الإقليد : «بديّ» ، بوزن عديّ . ويساءلون ، أي : يتساءلون . ومعناه : يقول بعضهم لبعض : ماذا سمعت؟ ماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب كما تقول : رأيت الهلال وتراءيناه : كان عليكم أن تواسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسكم فتوازروه وتثبتوا معه ، كما آساكم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مرحى الحرب ، حتى كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ وجهه .
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
فإن قلت : فما حقيقة قوله : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } . وقرىء : «أسوة» بالضم؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه في نفسه أسوة حسنة ، أي : قدوة ، وهو الموتسى [ به ] ، أي : المقتدى به ، كما تقول : في البيضة عشرون منا حديد ، أي : هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد . والثاني : أن فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها وتتبع . وهي المواساة بنفسه { لّمَن كَانَ يَرْجُو الله } بدل من لكم ، كقوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] يرجو الله واليوم الآخر : من قولك رجوت زيداً وفضله ، أي : فضل زيد ، أو يرجو أيام الله . واليوم الآخر خصوصاً . والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف { وَذَكَرَ الله كَثِيراً } وقرن الرجاء بالطاعات الكثيرة والتوفر على الأعمال الصالحة ، والمؤتسى برسول الله صلى الله عليه وسلم : من كان كذلك .
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ، ويستنصروه في قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } [ البقرة : 214 ] فلما جاء الأحزاب وشخص بهم واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد { قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ } وأيقنوا بالجنة والنصر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
( 877 ) قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : « إنّ الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً » أي : في آخر تسع ليال أو عشر ، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك . وهذا إشارة إلى الخطب أو البلاء { إيمانا } بالله وبمواعيده { وَتَسْلِيماً } لقضاياه وأقداره .
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا ، وهم : عثمان بن عفان ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وحمزة ، ومصعب بن عمير ، وغيرهم ، رضي الله عنهم : { فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } يعني حمزة ومصعباً { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } يعني عثمان وطلحة . وفي الحديث :
( 877 ) « من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة » فإن قلت : ما قضاء النحب؟ قلت : وقع عبارة عن الموت؛ لأنّ كل حي لا بدّ له من أن يموت . فكأنه نذرٌ لازم في رقبته ، فإذا مات فقد قضى نحبه ، أي : نذره . وقوله : { فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } يحتمل موته شهيداً ، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : فما حقيقة قوله : { صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } ؟ قلت : يقال : صدقني أخوك وكذبني ، إذا قال لك الصدق والكذب . وأمّا المثل : صدقني سنّ بكره . فمعناه : صدقني في سن بكره ، بطرح الجار وإيصال الفعل ، فلا يخلو { مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ } إما أن يكون بمنزلة السنّ في طرح الجار ، وإمّا أن يجعل المعاهد عليه مصدوقاً على المجاز ، كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي بك ، وهم وافون به فقد صدقوه ، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ولكان مكذوباً { وَمَا بَدَّلُواْ } العهد ولا غيروه ، لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة ، ولقد
( 878 ) ثبت طلحة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد حتى أصيبت يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أوجب طلحة » وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرض القلوب : جعل المنافقون ، كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم ، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم لأنّ كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب ، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما . ويعذبهم { إِن شَاء } إذا لم يتوبوا { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } إذا تابوا { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ } الأحزاب { بِغَيْظِهِمْ } مغيظين ، كقوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] . { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } غير ظافرين ، وهما حالان بتداخل أو تعاقب . ويجوز أن تكون الثانية بياناً للأولى أو استئنافاً { وَكَفَى الله المؤمنين القتال } بالريح والملائكة { وَأَنزَلَ الذين } ظاهروا الأحزاب من أهل الكتاب { مِن صَيَاصِيهِمْ } من حصونهم . والصيصية ما تحصن به ، يقال لقرن الثور والظبي : صيصية ، ولشوكة الديك ، وهي مخلبه التي في ساقه ، لأنه يتحصن بها . روي
( 880 ) أنّ جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم - صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم - على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج ، فقال : ما هَذَا يا جبريلُ؟ قال : من متابعة قريش : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن السرج ، فقال : يا رسول الله ، إن الملائكة لم تضع السلاح ، إن اللَّهَ يأمرُكَ المسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم ، فإن الله داقهم دق البيض على الصفا ، وإنهم لكم طعمة فأذن في الناس : أَنْ مَنْ كانَ سَامعاً مطيعاً فَلاَ يصلي العصرَ إلا في بني قريظةَ .
فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : تنزلون على حكمي؟ فأبوا ، فقال : على حكم سعد بن معاذ؟ فرضوا به ، فقال سعد : حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبي ذراريهم ونساؤهم ، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً . وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير . وقرىء : «الرعب» ، بسكون العين وضمها . وتأسرون ، بضم السين . وروي
( 881 ) أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار ، فقالت الأنصار في ذلك ، فقال : «إنكم في منازلكم» ، وقال عمر رضي الله عنه : أما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال : " لا ، إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس " قال : رضينا بما صنع الله ورسوله { وَأَرْضاً لَّمْ } عن الحسن رضي الله عنه : فارس والروم . وعن قتادة رضي الله عنه : كنا نحدث أنها مكة . وعن مقاتل رضي الله عنه : هي خيبر . وعن عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة . ومن بدع التفاسير : أنه أراد نساءهم .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
( 882 ) أردن شيئاً من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن ، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . فبدأ بعائشة رضي الله عنها - وكانت أحبهنّ إليه - فخيرها وقرأ عليها القرآن ، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم اختارت جميعهنّ اختيارها ، فشكر لهنّ الله ذلك ، فأنزل { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } [ الأحزاب : 52 ] . روي أنه قال لعائشة :
( 883 ) " إنِّي ذاكرٌ لكَ أمراً ، ولا عليك أنْ لا تعجلي فيه حتّى تستأمري أبويْكَ " ثم قرأَ عليها القرآنَ فقالَت : أفي هذا أستأمر أبويَّ ، فإنِّي أريدُ الله ورسولَهُ والدارَ الآخرةَ .
( 884 ) وروي أنها قالت : لا تخبر أزواجك أنِّي اخترتك ، فقال : " إنما بعثني الله مبلغاً ولم يبعثني متعنتاً " فإن قلت : ما حكم التخيير في الطلاق؟ قلت : إذا قال لها اختاري ، فقالت : اخترت نفسي . أو قال : اختاري نفسك ، فقالت : اخترت ، لا بد من ذكر النفس في قول المخير أو المخيرة - وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه ، واعتبروا أن يكون ذلك في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض ، واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن مسعود . وعن الحسن وقتادة الزهري رضي الله عنهم : أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره ، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بإجماع فقهاء الأمصار . وعن عائشة رضي الله عنها :
( 885 ) خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعده طلاقاً . وروي : أفكان طلاقاً . وعن عليّ رضي الله عنه . إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية ، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وروي عنه أيضاً أنها إن اختارت زوجها فليس بشيء . أصل تعال : أن يقوله من في المكان المرتفع ، لمن في المكان المستوطيء ، ثم كثر حتى استوت في استعماله الأمكنة . ومعنى تعالين : أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين ، ولم يرد نهوضهنّ إليه بأنفسهنّ . كما تقول : أقبل يخاصمني ، وذهب يكلمني . وقام يهددني { أُمَتّعْكُنَّ } أعطكنّ متعة الطلاق . فإن قلت : المتعة في الطلاق واجبة أم لا؟ قلت : المطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد ، متعتها واجبة عند أبي حنيفة وأصحابه ، وأما سائر المطلقات فمتعتهن مستحبة وعن الزهري رضي الله عنه : متعتان ، إحداهما : يقضي بها السلطان : من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها . والثانية : حق على المتقين من طلق بعد ما يفرض ويدخل ، وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال : متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : المتعة حق مفروض . وعن الحسن رضي الله عنه : لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة ، والمتعة : درع وخمار وملحفة على حسب السعة والإقتار ، إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك ، فيجب لها الأقل منهما . ولا تنقص من خمسة دراهم؛ لأن أقل المهر عشرة دراهم فلا ينقص من نصفها . فإن قلت : ما وجه قراءة من قرأ : «أمتعكنّ وأسرحكنّ» بالرفع؟ قلت : وجهه الاستئناف { سَرَاحاً جَمِيلاً } من غير ضرار طلاقاً بالسنة { مِنكُنَّ } للبيان لا للتبعيض .
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
الفاحشة : السيئة البليغة في القبح وهي الكبيرة . والمبينة : الظاهرة فحشها ، والمراد كل ما اقترفن من الكبائر : وقيل هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهنّ ، وطلبهن منه ما يشق عليه أو ما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله وقيل : الزنا ، والله عاصم رسوله من ذلك ، كما مرّ في حديث الإفك ، وإنما ضوعف عذابهنّ لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهنّ وأقبح؛ لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة وزيادة النعمة على العاصي من المعصي ، وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولا على أحد منهنّ مثل ما لله عليهن من النعمة ، والجزاء يتبع الفعل ، وكون الجزاء عقاباً يتبع كون الفعل قبيحاً ، فمتى ازداد قبحاً . ازداد عقابه شدّة ، ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم : أشدّ منه للعاصي الجاهل؛ لأن المعصية من العالم أقبح ، ولذلك فضل حدّ الأحرار على حد العبيد ، حتى أن أبا حنيفة وأصحابه لا يرون الرجم على الكافر { وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً } إيذان بأن كونهن نساء النبي صلى الله عليه وسلم ليس بمغن عنهن شيئاً . وكيف يغني عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب ، فكان داعياً إلى تشديد الأمر عليهنّ غير صارف عنه . قرىء «يأت» ، بالتاء والياء . مبينة : بفتح الياء وكسرها ، من بين بمعنى تبين . يضاعف ، ويضعف : على البناء للمفعول . ويضاعف ، ونضعف : بالياء والنون . وقرىء : «تقنت» وتعمل : بالتاء والياء . ونؤتها : بالياء والنون . والقنوت : الطاعة ، وإنما ضوعف أجرهنّ لطلبهنّ رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق ، وطيب المعاشرة والقناعة ، وتوفرهنّ على عبادة الله والتقوى .
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
أحد في الأصل بمعنى وحد ، وهو الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه . ومعنى قوله : { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء } لستنِّ كجماعة واحدة من جماعات النساء ، أي : إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة ، ومثله قوله تعالى : { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } [ النساء : 152 ] يريد بين جماعة واحدة منهم ، تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين { إِنِ اتقيتن } إن أردتن التقوى ، وإن كنتن متقيات { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول } فلا تجبن بقولكن خاضعاً ، أي : لينا خنثا مثل كلام المريبات والمومسات { فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي ريبة وفجور . وقرىء بالجزم ، عطفاً على محل فعل النهي ، على أنهن نهين عن الخضوع بالقول . ونهى المريض القلب عن الطمع ، كأنه قيل : لا تخضعن فلا يطمع . وعن ابن محيصن أنه قرأ بكسر الميم ، وسبيله ضم الياء مع كسرها وإسناد الفعل إلى ضمير القول ، أي : فيطمع القول المريب { قَوْلاً مَّعْرُوفاً } بعيداً من طمع المريب بجد وخشونة من غير تخنث ، أو قولاً حسناً مع كونه خشناً .
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
{ وَقَرْنَ } بكسر القاف ، من قر يقر وقاراً . أو من قرّ يقرّ ، حذفت الأولى من رائي : أقررن ، ونقلت كسرتها إلى القاف ، كما تقول : ظلن ، وقرن : بفتحها ، وأصله : أقررن ، فحذفت الراء وألقيت فتحتها على ما قبلها ، كقولك : ظلن ، وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان : وجهاً آخر ، قال : قار يقار : إذا اجتمع . ومنه . القارة ، لاجتماعها ، ألا ترى إلى قول عضل والديش : اجتمعوا فكونوا قارة . و { الجاهلية الأولى } هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء ، وهي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام : كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشى وسط الطريق تعرض تفسها على الرجال ، وقيل : ما بين آدم ونوح . وقيل : بين إدريس ونوح . وقيل : زمن داود وسليمان ، والجاهلية الأخرى : ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى : جاهلية الكفر قبل الإسلام . والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام ، فكأن المعنى : ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل الجاهلية الكفر . ويعضده ما روي :
( 886 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي الدرداء رضي الله عنه : « إن فيك جاهلية » قال جاهلية كفر أم إسلام؟ فقال : « بل جاهلية كفر » أمرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة ، ثم جاء به عاماً في جميع الطاعات؛ لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات : من أعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما ، ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ، ووعظهنّ ، لئلا يُقارفُ أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم ، ولتصوّنو عنها بالتقوى . واستعار للذنوب : الرجس ، وللتقوى : الطهر؛ لأنّ عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنس ، كما يتلوث بدنه بالأرجاس . وأما المحسنات ، فالعرض معها نقي مصون كالثوب الطاهر . وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه ، ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به . و { أَهْلَ البيت } نصب على النداء . أو على المدح . وفي هذا دليل بيّن على أنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته .
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
ثم ذكرهنّ أنّ بيوتهن مهابط الوحي ، وأمرهنّ أن لا ينسين ما يتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين : هو آيات بينات تدلّ على صدق النبوّة؛ لأنه معجزة بنظمه . وهو حكمة وعلوم وشرائع { إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم فأنزله عليكم أو علم من يصلح لنبوّته من يصلح لأن يكرهوا أهل بيته . أو حيث جعل الكلام الواحد جامعاً بين الغرضين .
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
يروى :
( 887 ) أنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن : يا رسولَ اللَّهِ ، ذكر اللَّهُ [ تعالى ] الرجالَ في القرآنِ بخيرٍ ، أفما فينا خير نذكر بهِ؟ إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة . وقيل : السائلة أم سلمة .
وروي :
( 888 ) أنه لما نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل ، قال نساء المسلمين : فما نزل فينا شيء؟ فنزلت ، والمسلم : الداخل في السلم بعد الحرب ، المنقاد الذي لا يعاند ، أو المفوّض أمره إلى الله [ تعالى ] المتوكل عليه من أسلم وجهه إلى الله . والمؤمن : المصدق بالله ورسوله وبما يجب أن يصدق به . والقانت : القائم بالطاعة الدائم عليها . والصادق : الذي يصدق في نيته وقوله وعمله . والصابر : الذي يصبر على الطاعات وعن المعاصي . والخاشع : المتواضع لله بقلبه وجوارحه . وقيل : الذي إذا صلّى لم يعرف من عن يمينه وشماله . والمتصدق : الذي يزكي ماله ولا يخل بالنوافل . وقيل : من تصدّق في أسبوع بدرهم فهو من المتصدّقين . ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين . والذاكر لله كثيراً : من لا يكاد يخلو من ذكر الله بقلبه أو لسانه أو بهما . وقراءة القرآن والاشتغال بالعلم من الذكر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 889 ) « من استيقظ من نومه وأيقظ امرأته فصليا جميعاً ركعتين كتبا في الذاكرين لله كثيراً والذاكرات » والمعنى : والحافظاتها والذاكراته ، فحذف؛ لأنّ الظاهر يدلّ عليه . فإن قلت : أي فرق بين العطفين ، أعني عطف الإناث على الذكور وعطف الزوجين على الزوجين؟ قلت : العطف الأوّل نحو قوله تعالى : { ثيبات وَأَبْكَاراً } [ التحريم : 5 ] في أنهما جنسان مختلفان ، إذا اشتركا في حكم لم يكن بدّ من توسيط العاطف بينهما . وأما العطف الثاني فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع ، فكأن معناه : إنّ الجامعين والجامعات لهذه الطاعات { أَعَدَّ الله لَهُم } .
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
( 890 ) خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة ، فأبت وأبى أخوها عبد الله ، فنزلت ، فقال : رضينا يا رسول الله ، فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهماً وخماراً وملحفة ودرعاً وإزاراً وخمسين مدّاً من طعام وثلاثين صاعاً من تمر . وقيل :
( 891 ) هي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وهي أوّل من هاجر من النساء ، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : «قد قبلت» ، وزوّجها زيداً . فسخطت هي وأخوتها وقالا : إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزوّجنا عبده ، والمعنى وما صحّ لرجل ولا امرأة من المؤمنين { إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ } أي رسول الله أو لأن قضاء رسول الله هو قضاء الله { أمْراً } من الأمور : أن يختاروا من أمرهم ما شاؤوا ، بل من حقهم أن يجعلوا رأيهم تبعاً لرأيه ، واختيارهم تلواً لاختياره . فإن قلت : كان من حق الضمير أن يوحد كما تقول : ما جاءني من رجل ولا امرأة إلاّ كان من شأنه كذا ، قلت : نعم ولكنهما وقعا تحت النفي ، فعما كل مؤمن ومؤمنة ، فرجع الضمير على المعنى لا على اللفظ . وقرىء : «يكون» بالتاء والياء . { الخيرة } ما يتخير .
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
{ لِلَّذِى أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } بالإسلام الذي هو أجلّ النعم . وبتوفيقك لعتقه ومحبته واختصاصه { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } بما وفقك الله فيه ، فهو متقلب في نعمة الله ونعمة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو زيد بن حارثة { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } يعني زينب بنت جحش رضي الله عنها :
( 892 ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصرها بعدما أنكحها إياه ، فوقعت في نفسه ، فقال : سبحان الله مقلب القلوب ، وذلك أنّ نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها ، ولو أرادتها لاختطبها ، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ، ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أريد أن أفارق صاحبتي ، فقال : «مالك : أرابك منها شيء؟» قال : لا والله؛ ما رأيت منها إلاّ خيراً ، ولكنها تتعظم عليّ لشرفها وتؤذيني ، فقال له : " امسك عليك زوجك واتق الله " ، ثم طلقها بعد ، فلما اعتدّت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك ، اخطب عليّ زينب . قال زيد : فانطلقت فإذا هي تخمر عجينتها ، فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها ، حين علمت أنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري وقلت : يا زينب ، أبشري إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبك ، ففرحت وقالت : ما أنا بصانعه شيئاً حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن { زوجناكها } فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها ، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها : ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتدّ النهار . فإن قلت : ما أراد بقوله : { واتق الله } ؟ قلت : أراد : واتق الله فلا تطلقها ، وقصد نهي تنزيه لا تحريم ، لأن الأولى أن لا يطلق . وقيل : أراد : واتق الله فلا تذمّها بالنسبة إلى الكبر وأذّى الزوج . فإن قلت : ما الذي أخفى في نفسه؟ قلت : تعلق قلبه بها . وقيل : مودة مفارقة زيد إياها . وقيل : علمه بأن زيداً سيطلقها وسينكحها ، لأن الله قد أعلمه بذلك . وعن عائشة رضي الله عنها :
( 893 ) لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحى إليه لكتم هذه الآية . فإن قلت : فماذا أراد الله منه أن يقوله حين قال له زيد : أريد مفارقتها ، وكان من الهجنة أن يقول له : افعل ، فإني أريد نكاحها؟ قلت : كأن الذي أراد منه عزّ وجلّ أن يصمت عند ذلك ، أو يقول له : أنت أعلم بشأنك ، حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته؛ لأن الله يريد من الأنبياء تساوي الظاهر والباطن ، والتصلب في الأمور ، والتجاوب في الأحوال والاستمرار على طريقة مستتبة .
( 894 ) كما جاء في حديث إرادة رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن أبي سرح واعتراض عثمان بشفاعته له : أن عمر قال له : لقد كان عيني إلى عينك ، هل تشير إليّ فأقتله ، فقال : إن الأنبياء لا تومض ظاهرهم وباطنهم واحد . فإن قلت : كيف عاتبه الله في ستر ما استهجن التصريح به ، ولا يستهجن النبيّ صلى الله عليه وسلم التصريح بشيء إلاّ الشيء في نفسه مستهجن ، وقالة الناس لا تتعلق إلاّ بما يستقبح في العقول والعادات؟ وما له لم يعاتبه في نفس الأمر ولم يأمره بقمع الشهوة وكف النفس عن أن تنازع إلى زينب وتتبعها؟ ولم يعصم نبيه صلى الله عليه وسلم عن تعلق الهجنة به وما يعرضه للقالة؟ قلت : كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحي من اطلاع الناس عليه ، وهو في نفسه مباح متسع ، وحلال مطلق ، لا مقال فيه ولا عيب عند الله ، وربما كان الدخول في ذلك المباح سلماً إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين ويجلّ ثوابها ، ولو لم يتحفظ منه لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم إلاّ من أوتي فضلاً وعلماً وديناً ونظراً في حقائق الأمور ولبوبها دون قشورها . ألا ترى أنهم كانوا إذا طمعوا في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوا مرتكزين في مجالسهم لا يرمون مستأنسين بالحديث ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذيه قعودهم ويضيق صدره حديثهم ، والحياء يصده أن يأمرهم بالانتشار ، حتى نزلت { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النبى فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ والله لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الحق } [ الأحزاب : 53 ] ولو أبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مكنون ضميره وأمرهم أن ينتشروا ، لشقّ عليهم ، ولكان بعض المقالة ، فهذا من ذاك القبيل ، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته من امرأة أو غيرها غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع ، لأنه ليس بفعل الإنسان ولا وجوده باختياره ، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضاً ، وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ، ولا طلب إليه وهو أقرب [ إليه ] منه من زرّ قميصه أن يواسيه بمفارقتها ، مع قوة العلم بأن نفس زيد لم تكن من التعلق بها في شيء ، بل كانت تجفو عنها ، ونفس رسول الله صلى الله عليه وسلم متعلقة بها ، ولم يكن مستنكراً عندهم أن ينزل الرجل عن امرأته لصديقه ، ولا مستهجناً إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر ، فإنّ المهاجرين حين دخلوا المدينة استهم الأنصار بكل شيء ، حتى إن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر ، وإذا كان الأمر مباحاً من جميع جهاته ولم يكن فيه وجه من وجوه القبح ولا مفسدة ولا مضرّة بزيد ولا بأحد ، بل كان مستجراً مصالح ، ناهيك بواحدة منها أن بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت أُماً من أمّهات المسلمين ، إلى ما ذكر الله عزّ وجلّ من المصلحة العامّة في قوله : { لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } فبالحري أن يعاتب الله ورسوله حين كتمه وبالغ في كتمه بقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتق الله } وأن لا يرضى له إلا اتحاد الضمير والظاهر ، والثبات في مواطن الحق ، حتى يقتدي به المؤمنون ، فلا يستحيوا من المكافحة بالحق وإن كان مراً .
فإن قلت : الواو في { وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ } ، { وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ } ما هي؟ قلت : واو الحال ، أي : تقول لزيد : أمسك عليك زوجك مخفياً في نفسك إرادة أن لا يمسكها ، وتخفى خاشياً قالة الناس وتخشى الناس ، حقيقاً في ذلك بأن تخشى الله ، أو واو العطف ، كأنه قيل : وإذ تجمع بين قولك : أمسك ، وإخفاء خلافه ، وخشية الناس . والله أحقّ أن تخشاه ، حتى لا تفعل مثل ذلك . إذا بلغ البالغ حاجته من شيء له فيه همة قيل : قضى منه وطره . والمعنى : فلما لم يبق لزيد فيها حاجة ، وتقاصرت عنها همته ، وطابت عنها نفسه ، وطلقها ، وانقضت عدّتها { زوجناكها } وقراءة أهل البيت : زوّجتكها . وقيل لجعفر بن محمد رضي الله عنهما : أليس تقرأ عليّ غير ذلك ، فقال : لا والذي لا إله إلاّ هو ، ما قرأتها على أبي إلاّ كذلك ، ولا قرأها الحسن بن عليّ على أبيه إلاّ كذلك ، ولا قرأها علي بن أبي طالب على النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ كذلك { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } جملة اعتراضية ، يعني : وكان أمر الله الذي يريد أن يكونه ، مفعولاً مكوناً لا محالة ، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ، ومن نفي الحرج عن المؤمنين في إجراء ، أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهم بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن ، ويجوز أن يراد بأمر الله : المكون ، لأنه مفعول بكن ، وهو أمر الله .
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)
{ فَرَضَ الله لَهُ } قسم له وأوجب ، من قولهم : فرض لفلان في الديوان كذا . ومنه فروض العسكر لرزقاتهم { سُنَّةَ الله } اسم موضوع موضع المصدر - كقولهم : تربا ، وجندلا - : مؤكد لقوله تعالى : { مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ } كأنه قيل : سنّ الله ذلك سنة في الأنبياء الماضين ، وهو أن لا يحرج عليهم في الاقدام على ما أباح لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره ، وقد كانت تحتهم المهائر والسراري ، وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة وثلثمائة سرية ، ولسليمان عليه السلام ثلثمائة وسبعمائة { فِى الذين خَلَوْاْ } في الأنبياء الذين مضوا { الذين يُبَلّغُونَ } يحتمل وجوه الاعراب : الجرّ ، على الوصف للأنبياء ، والرفع والنصب ، على المدح على هم الذين يبلغون . أو على : أعني الذين يبلغون . وقرىء : «رسالة الله» . قدراً مقدوراً : قضاء مقضياً ، وحكماً مبتوتاً ، ووصف الأنبياء بأنهم لا يخشون إلاّ الله : تعريض بعد التصريح في قوله تعالى { وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه } [ الأحزاب : 37 ] . { حَسِيباً } كافياً للمخاوف ، أو محاسباً على الصغيرة والكبيرة ، فيجب أن يكون حق الخشية من مثله .
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } أي لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة ، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح { ولكن } كان { رَسُولِ الله } وكل رسول أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم . ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه ، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء ، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة ، فكان حكمه حكمكم ، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير { و } كان { وخَاتَمَ النبيين } يعني أنه لو كان له ولد بالغ مبلغ الرجال لكان نبياً ولم يكن هو خاتم الأنبياء ، كما يروى :
( 895 ) أنه قال في إبراهيم حين توفي : " لو عاش لكان نبياً " فإن قلت : أما كان أبا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم؟ قلت : قد أخرجوا من حكم النفي بقوله : { مِّن رّجَالِكُمْ } من وجهين ، أحدهما : أنّ هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال . والثاني : أنه قد أضاف الرجال إليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم . فإن قلت : أما كان أبا للحسن والحسين؟ قلت : بلى ، ولكنهما لم يكونا رجلين حينئذ ، وهما أيضاً من رجاله لا من رجالهم ، وشيء آخر : وهو أنه إنما قصد ولده خاصة ، لا ولد ولده؛ لقوله تعالى : { وَخَاتَمَ النبيين } ألا ترى أن الحسن والحسين قد عاشا إلى أن نيّف أحدهما على الأربعين والآخر على الخمسين . قرىء : «لكن رسول الله» بالنصب ، عطفاً على { أَبَآ أَحَدٍ } بالرفع على : ولكن هو رسول الله ، ولكنّ ، بالتشديد على حذف الخبر ، تقديره : ولكنّ رسول الله من عرفتموه ، أي : لم يعش له ولد ذكر . وخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع ، وبكسرها بمعنى الطابع وفاعل الختم . وتقوّيه قراءة ابن مسعود : ولكنّ نبياً ختم النبيين . فإن قلت : كيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان؟ قلت : معنى كونه آخر الأنبياء أنه لا ينبأ أحد بعده ، وعيسى ممن نبىء قبله ، وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعة محمد صلى الله عايه وسلم ، مصلياً إلى قبلته ، كأنه بعض أمته .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
{ اذكروا الله } أثنوا عليه بضروب الثناء من التقديس والتحميد والتهليل والتكبير وما هو أهله ، وأكثروا ذلك { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي في كافة الأوقات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 896 ) « ذكر الله على فم كل مسلم » وروي : « في قلب كل مسلم » وعن قتادة : قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ، وعن مجاهد : هذه كلمات يقولها الطاهر والجنب . والفعلان ، أعني اذكروا وسبحوا موجهان إلى البكرة والأصيل ، كقولك : صم وصلّ يوم الجمعة ، والتسبيح من جملة الذكر ، وإنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة ، ليبين فضله عى سائر الأذكار ، لأن معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال ، وتبرئته من القبائح . ومثال فضله على غيره من الأذكار فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي ، والطهر من أرجاس المآثم ، على سائر أوصافه من كثرة الصلاة والصيام ، والتوفر على الطاعات كلها ، والاشتمال على العلوم ، والاشتهار بالفضائل ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره : تكثير الطاعات ، والإقبال على العبادات؛ فإن كل طاعة وكل خير من جملة الذكر ، ثم خصّ من ذلك التسبيح بكرة وأصيلاً وهي الصلاة في جميع أوقاتها لفضل الصلاة على غيرها . أو صلاة الفجر والعشاءين؛ لأنّ أداءها أشقّ ومراعاتها أشدّ .
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
لما كان من شأن المصلي أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره حنوّاً عليه ترؤفاً . كعائد المريض في انعطافه عليه ، والمرأة في حنوّها على ولدها ، ثم كثر حتى استعمل في الرحمة والترؤف ومنه قولهم : صلّى الله عليك ، أي ترحم عليك وترأف . فإن قلت : قوله : { هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ } إن فسرته بيترحم عليكم ويترأف ، فما تصنع بقوله : { وملائكته } وما معنى صلاتهم؟ قلت : هي قولهم : اللَّهم صلّ على المؤمنين ، جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة . ونظيره قوله : حياك الله ، أي حياك وأبقاك ، وحييتك ، أي : دعوت لك بأن يحييك الله؛ لأنك لا تكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة ، وكذلك : عمرك الله ، وعمرتك ، وسقاك الله ، وسقيتك ، وعليه قوله تعالى : { إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى ياأيها الذين ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 56 ] أي ادعوا الله بأن يصلّي عليه . والمعنى : هو الذي يترحم عليكم ويترأف : حيث يدعوكم إلى الخير ويأمركم بإكثار الذكر والتوفر على الصلاة والطاعة { لِيُخْرِجَكُم } من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } دليل على أنّ المراد بالصلاة الرحمة . ويروى أنه لما نزل قوله تعالى : { إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى } [ الأحزاب : 56 ] قال أبو بكر رضي الله عنه : ما خصك يا رسول الله بشرف إلاّ وقد أشركنا فيه ، فأنزلت { تَحِيَّتُهُمْ } من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : يحيون يوم لقائه بسلام . فيجوز أن يعظمهم الله بسلامه عليهم ، كما يفعل بهم سائر أنواع التعظيم ، وأن يكون مثلاً كاللقاء على ما فسرنا . وقيل : هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم وبشارتهم بالجنة . وقيل : سلام الملائكة عند الخروج من القبور . وقيل : عند دخول الجنة ، كما قال : { والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سلام عَلَيْكُمُ } [ الرعد : 23 24 ] والأجر الكريم : الجنة .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
{ شاهدا } على من بعثت إليهم ، وعلى تكذيبهم وتصديقهم ، أي : مقبولاً قولك عند الله لهم وعليهم ، كمل يقبل قول الشاهد العدل في الحكم . فإن قلت : وكيف كان شاهداً وقت الإرسال ، وإنما يكون شاهداً عند تحمل الشهادة أو عند أدائها؟ قلت : هي حال مقدرة كمسألة الكتاب : مررت برجل معه صقر صائداً به غداً أي : مقدراً به الصيد غداً . فإن قلت : قد فهم من قوله : إنا أرسلناك داعياً : أنه مأذون له في الدعاء ، فما فائدة قوله : { بِإِذْنِهِ } ؟ قلت : لم يرد به حقيقة الإذن . وإنما جعل الإذن مستعاراً للتسهيل والتيسير؛ لأن الدخول في حقّ المالك متعذر ، فإذا صودف الإذن تسهل وتيسر ، فلما كان الإذن تسهيلاً لما تعذر من ذلك ، وضع موضعه ، وذلك أن دعاء أهل الشرك والجاهلية إلى التوحيد والشرائع أمر في غاية الصعوبة والتعذر ، فقيل : بإذنه للإيذان بأن الأمر صعب لا يتأتى ولا يستطاع إلاّ إذا سهله الله ويسّره ، ومنه قولهم في الشحيح : أنه غير مأذون له في الإنفاق ، أي : غير مسهل له الإنفاق لكونه شاقاً عليه داخلاً في حكم التعذر . [ { وَسِرَاجاً منيراً } ] جلى به [ الله ] ظلمات الشرك واهتدى به الضالون ، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به . أو أمدّ الله بنور نبوّته نور البصائر ، كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار ، وصفه بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء إذا قل سليطة ودقت فتيلته . وفي كلام بعضهم : ثلاثة تضني : رسول بطيء ، وسراج لا يضيء ، ومائدة ينتظر لها من يجيء . وسئل بعضهم عن الموحشين؟ فقال : ظلام ساتر ، وسراج فاتر . وقيل : وذا سراج منير . أو وتاليا سراجاً منيراً . ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف { أرسلناك } .
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)
الفضل : ما يتفضل به عليهم زيادة على الثواب ، وإذا ذكر المتفضل به وكبره فما ظنك بالثواب . ويجوز أن يريد بالفضل : الثواب ، من قولهم للعطايا : فضول وفواضل ، وأن يريد أنّ لهم فضلاً كبيراً على سائر الأمم ، وذلك الفضل من جهة الله ، وأنه آتاهم ما فضلوهم به .
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
{ وَلاَ تُطِعِ الكافرين } معناه : الدوام والثبات على ما كان عليه . أو التهييج { أَذَاهُمْ } يحتمل إضافته إلى الفاعل والمفعول ، يعني : ودع أن تؤذيهم بضرر أو قتل ، وخذ بظاهرهم ، وحسابهم على الله في باطنهم . أو : ودع ما يؤذونك به ولا تجازهم عليه حتى تؤمر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي منسوخة بآية السيف { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } فإنه يكفيكهم [ وكفى بالله وكيلاً ] ، وكفى به مفوّضاً إليه ، ولقائل أن يقول : وصفه الله [ تعالى ] بخمسة أوصاف ، وقابل كلاً منها بخطاب مناسب له ، قابل الشاهد بقوله : { وبشر المؤمنين } ، لأنه يكون شاهداً على أمّته وهم يكونون شهداء على سائر الأمم ، وهو الفضل الكبير والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين ، لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين ، وهو مناسب للبشارة والنذير بدع أذاهم ، لأنه إذا ترك أذاهم في الحاضر - والأذى لا بدّ له من عقاب عاجل أو آجل - كانوا منذرين به في المستقبل ، والداعي إلى الله بتيسيره بقوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } لأنّ من توكل على الله يسرّ عليه كل عسير ، والسراج المنير بالاكتفاء به وكيلاً ، لأنّ من أناره الله برهاناً على جميع خلقه ، كان جديراً بأن يكتفي به عن جميع خلقه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
النكاح : الوطء ، وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له ، من حيث أنه طريق إليه . ونظيره تسميتهم الخمر إثماً : لأنها سبب في اقتراف الإثم ، ونحوه في علم البيان قول الراجز :
أَسْنِمَةُ الآبَالِ في سَحَابِهْ ... سمى الماء بأسنمة الآبال؛ لأنه سبب سمن المال وارتفاع أسنمته ، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلاّ في معنى العقد؛ لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به . ومن آداب القرآن : الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان . فإن قلت : لم خصّ المؤمنات والحكم الذي نطقت به الآية تستوي فيه المؤمنات والكتابيات؟ قلت : في اختصاصهنّ تنبيه على أن أصل أمر المؤمن والأولى به . أن يتخير لنطفته ، وأن لا ينكح إلاّ مؤمنة عفيفة ، ويتنزّه عن مزاوجة الفواسق فما بال الكوافر ، ويستنكف أن يدخل تحت لحاف واحدة عدوّة الله ووليه ، فالتي في سورة المائدة : تعليم ما هو جائز غير محرّم ، من نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب . وهذه فيها تعليم ما هو الأولى بالمؤمنين من نكاح المؤمنات . فإن قلت : ما فائدة ثم في قوله : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } قلت : فائداته نفي التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم : بين أن يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح ، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح ويتراخى بها المدة في حبالة الزواج ثم يطلقها : فإن قلت : إذا خلا بها خلوة يمكنه معها المساس ، هل يقوم ذلك مقام المساس؟ قلت : نعم . عند أبي حنيفة وأصحابه حكم الخلوة الصحيحة حكم المساس ، وقوله : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ } دليل على أن العدة حق واجب على النساء للرجال { تَعْتَدُّونَهَا } تستوفون عددها ، من قولك : عددت الدراهم فاعتدها ، كقولك : كلته فاكتاله ، ووزنته فاتزنه . وقرىء : «تعتدونها» مخففاً؛ أي : تعتدون فيها ، كقوله :
وَيَوْمٌ شَهِدْنَاهُ ... والمراد بالاعتداد ما في قوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ } [ البقرة : 231 ] . فإن قلت : ما هذا التمتيع أواجب أو مندوب إليه؟ قلت : إن كانت غير مفروض لها كانت المتعة واجبة ، ولا تجب المتعة عند أبي حنيفة إلاّ لها وحدها دون سائر المطلقات ، وإن كان مفروضاً لها؛ فالمتعة مختلف فيها : فبعض على الندب والاستحباب ، ومنهم أبو حنيفة . وبعض على الوجوب { سَرَاحاً جَمِيلاً } من غير ضرار ولا منع واجب .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
{ أُجُورَهُنَّ } مهورهنّ : لأنّ المهر أجر على البضع . وإيتاؤها : إما إعطاؤها عاجلاً . وإما فرضها وتسميتها في العقد . فإن قلت : لم قال : { الاتي ءَاتيْتَ أُجُورَهنَّ } و { مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ } و { الاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } وما فائدة هذه التخصيصات؟ قلت : قد اختار الله لرسوله الأفضل الأولى ، واستحبه بالأطيب الأزكى ، كما اختصه بغيرها من الخصائص ، وآثره بما سواها من الأثر ، وذلك أن تسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية ، وإن وقع العقد جائزاً؛ وله أن يماسها وعليه مهر المثل إن دخل بها ، والمتعة إن لم يدخل بها . وسوق المهر إليها عاجلاً أفضل من أن يسميه ويؤجله ، وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم ، وما لا يعرف بينهم غيره . وكذلك الجارية إذا كانت سبية مالكها ، وخطبة سيفه ورمحه ، ومما غنمه الله من دار الحرب أحلّ وأطيب مما يشتري من شقّ الجلب . والسبي على ضربين : سبي طيبة ، وسبي خبيثة : فسبي الطيبة : ما سبي من أهل الحرب . وأما من كان له عهد فالمسبي منهم سبي خبيثة ، ويدلّ عليه قوله تعالى : { مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ } لأن فيء الله لا يطلق إلاّ على الطيب دون الخبيث ، كما أنّ رزق الله يجب إطلاقه على الحلال دون الحرام ، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرائبه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه .
( 897 ) وعن أم هانيء ، بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم أنزل الله هذه الآية ، فلم أحلّ له؛ لأني لم أهاجر معه ، كنت من الطلقاء . وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها ولا تطلب مهراً من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك ، ولذلك نكرها . واختلف في اتفاق ذلك ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منهنّ بالهبة . وقيل : الموهوبات أربع : ميمونة بنت الحرث ، وزينب بنت خزيمة أمّ المساكين الأنصارية ، وأمّ شريك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم - رضي الله عنهنّ . قرىء : { إِن وَهَبَتْ } على الشرط . وقرأ الحسن رضي الله عنه : { أن } بالفتح ، على التعليل بتقدير حذف اللام . ويجوز أن يكون مصدراً محذوفاً معه الزمان ، كقولك : اجلس ما دام زيد جالساً ، بمعنى دوامه جالساً ، ووقت هبتها نفسها . وقرأ ابن مسعود بغير أن . فإن قلت : ما معنى الشرط الثاني مع الأوّل؟ قلت : هو تقييد له شرط في الإحلال هبتها نفسها ، وفي الهبة : إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها؛ لأنّ إرادته هي قبول الهبة وما به تتمّ .
فإن قلت : لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى : { نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ إِنْ أَرَادَ النبى } ثم رجع إلى الخطاب؟ قلت : للإيذان بأنه مما خصّ به وأوثر ، ومجيئه على لفظ النبي للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوّة ، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوّته ، واستنكاحها : طلب نكاحها والرغبة فيه ، وقد استشهد به أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّته سواء في الأحكام إلاّ فيما خصّه الدليل ، وقال الشافعي : لا يصحّ ، وقد خصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى الهبة ولفظها جميعاً؛ لأنّ اللفظ تابع للمعنى ، والمدعي للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل . وقال أَبو الحسن الكرخي : إن عقدالنكاح بلفظ الإجارة جائز ، لقوله تعالى : { الاتي ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } وقال أبو بكر الرازي : لا يصحّ : لأنّ الإجارة عقد مؤقت ، وعقد النكاح مؤبد ، فهما متنافيان { خَالِصَةً } مصدر مؤكد ، كوعد الله ، وصبغة الله ، أي : خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة ، بمعنى خلوصاً ، والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين ، كالخارج والقاعد ، والعافية والكاذبة . والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التوكيد لها قوله : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِى أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم } بعد قوله : { مِن دُونِ المؤمنين } وهي جملة اعتراضية ، وقوله : { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } متصل بخالصة لك من دون المؤمنين ، ومعنى هذه الجملة الاعتراضية أنّ الله قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء ، وعلى أي حدّ وصفه يجب أن يفرض عليهم ففرضه ، وعلم المصلحة في اختصاص رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اختصّه به ففعل؛ ومعنى : { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } لئلا يكون عليك ضيق في دينك : حيث اختصصناك بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل ، وفي دنياك : حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات وزدنا لك الواهبة نفسها . وقرىء : «خالصة» بالرفع ، أي : ذاك خلوص لك وخصوص من دون المؤمنين ومن جعل خالصة نعتاً للمرأة ، فعلى مذهبه : هذه المرأة خالصة لك من دونهم { وَكَانَ الله غَفُوراً } للواقع في الحرج إذا تاب { رَّحِيماً } بالتوسعة على عباده .
( 898 ) روي أن أمهات المؤمنين حين تغايرن وابتغين زيادة النفقة وغظن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هجرهنّ شهراً ، ونزل التخيير ، فأشفقن أنّ يطلقهنّ ، فقلن : يا رسول الله ، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت . وروي :
( 899 ) أن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إني أرى ربك يسارع في هواك . { تُرْجِى } بهمز وغير همز : تؤخر { وَتُئْوِى } تضمّ ، يعني : تترك مضاجعة من تشاء منهن . وتضاجع من تشاء . أو تطلق من تشاء ، وتمسك من تشاء .
أو تقسم لأيتهنّ شئت ، وتقسم لمن شئت . أو تترك تزوّج من شئت من نساء أمّتك ، وتتزوج من شئت . وعن الحسن رضي الله عنه : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها ، وهذه قسمة جامعة لما هو الغرض؛ لأنه إما أن يطلق ، وإما أن يمسك؛ فإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم . وإذا طلق وعزل ، فإما أنّ تخلي المعزولة لا يبتغيها ، أو يبتغيها . روي : أنه أرجى منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة ، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء ، وكانت ممن آوى إليه : عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضي الله عنهنّ أرجى خمسة وآوى أربعة . وروي :
( 900 ) أنه كان يسوّي مع ما أطلق له وخير فيه إلاّ سودة ، فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك { ذَلِكَ } التفويض إلى مشيئتك { أدنى } إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن ورضاهن جميعاً؛ لأنه إذا سوّى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء . وارتفع التفاضل ، ولم يكن لإحداهنّ مما تريد ومما لا تريد إلاّ مثل ما للأخرى . وعلمن أنّ هذا التفويض من عند الله بوحيه - اطمأنت نفوسهن وذهب التنافس والتغاير ، وحصل الرضا وقرّت العيون ، وسلت القلوب { والله يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ } فيه وعيدٌ لمن لم ترضَ منهنّ بما دبر الله من ذلك ، وفوّض إلى مشيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعثٌ على تواطؤ قلوبهنّ والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فيه طيب نفسه . وقرىء : «تقرّ أعينهنّ» ، بضم التاء ونصب الأعين . وتقرّ أعينهنّ ، على البناء للمفعول { وَكَانَ الله عَلِيماً } بذات الصدور { حَلِيماً } لا يعاجل بالعقاب ، فهو حقيق بأن يتقى ويحذر ، { كُلُّهُنَّ } تأكيد لنون يرضين ، وقرأ ابن مسعود : «ويرضين كلهنّ ، بما آتيتهنّ» ، على التقديم . وقرأ : «كلهنّ» ، تأكيد ل «هنّ» في { ءاتَيْتَهُنَّ } .
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
{ لاَّ يَحِلُّ } وقرىء التذكير ، لأنّ تأنيث الجمع غير حقيقي ، وإذا جاز بغير فصل في قوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ } [ يوسف : 30 ] كان مع الفصل أجوز { مِن بَعْدِ } من بعد التسع ، لأنّ التسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج ، كما أن الأربع نصاب أمّته منهنّ ، فلا يحل له أن يتجاوز النصاب { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ } ولا أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً أخر بكلهنّ أو بعضهنّ ، أراد الله لهنّ كرامة وجزاء على ما اخترن ورضين . فقصر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهنّ ، وهي التسع اللاتي مات عنهنّ : عائشة بنت أبي بكر ، حفصة بنت عمر ، أمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، سودة بنت زمعة ، أمّ سلمة بنت أبي أمية ، صفية بنت حيي الخيبرية ، ميمونة بنت الحرث الهلالية ، زينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحرث المصطلقية ، رضي الله عنهنّ . من في { مِنْ أَزْوَاجٍ } لتأكيد النفي ، وفائدته استغراق جنس الأزواج بالتحريم . وقيل معناه : لا تحلّ لك النساء من بعد النساء اللاتي نصّ إحلالهنّ لك من الأجناس الأربعة من الأعرابيات والغرائب ، أو من الكتابيات ، أو من الإماء بالنكاح ، وقيل في تحريم التبدل : هو من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل : بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي ، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه . ويحكى :
( 901 ) أنّ عيينة بن حصن دخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة من غير استئذان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا عيينة ، أين الاستئذان » ؟ قال : يا رسول الله ، ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت ، ثم قال : من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « هذه عائشة أمّ المؤمنين » قال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « إنّ الله قد حرّم ذلك » ، فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها : من هذا يا رسول الله؟ قال : « أحمق مطاع ، وإنه - على ما ترين - لسيد قومه » وعن عائشة رضي الله عنها :
( 902 ) ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء ، يعني : أنّ الآية قد نسخت . ولا يخلو نسخها إما أن يكون بالسنة ، وإما بقوله تعالى : { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك } وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } في موضع الحال من الفاعل ، وهو الضمير في { تَبَدَّلُ } لا من المفعول الذي هو { مِنْ أَزْوَاجٍ } لأنه موغل في التنكير ، وتقديره : مفروضاً إعجابك بهنّ . وقيل؛ هي أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب ، والمراد أنها ممن أعجبه حسنهنّ ، واستثنى ممن حرم عليه : الإماء { رَقِيباً } حافظاً مهيمناً ، وهو تحذير عن مجاوزة حدوده وتخطي حلاله إلى حرامه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
{ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } في معنى الظرف تقديره وقت أن يؤذن لكم . و { غَيْرَ ناظرين } حال من { لاَ تَدْخُلُواْ } وقع الاستثناء على الوقت والحال معاً . كأنه قيل : لا تدخلوا بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقت الإذن ، ولا تدخلوها إلاّ غير ناظرين ، وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله ، فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه . ومعناه : لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام ، إلاّ أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ، وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصاً ، لما جاز لأحد أن يدخل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ أن يؤذن له إذناً خاصاً ، وهو الإذن إلى الطعام فحسب . وعن ابن أبي عبلة أنه قرأ : غير ناظرين ، مجروراً صفةٌ لطعام ، وليس بالوجه ، لأنه جرى على غير ما هو له ، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ ، فيقال : غير ناظرين إناه أنتم ، كقولك : هند زيد ضاربته هي ، وإني الطعام : إدراكه . يقال : أني الطعام إنىً ، كقولك : قلاه قلىً . ومنه قوله : { بَيْنَ حَمِيمٍ آن } [ الرحمن : 44 ] بالغ إناه . وقيل : «إناه» : وقته ، أي : غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله . وروي :
( 903 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بتمر وسويق وشاة ، وأمر أنساً أن يدعو بالناس ، فترادفوا أفواجاً يأكل فوج فيخرج ، ثم يدخل فوج إلى أن قال : يا رسول الله ، دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه ، فقال : " ارفعوا طعامكم " وتفرق الناس ، وبقي ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا ، فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال : " السلام عليكم أهل البيت " فقالوا : عليك السلام يا رسول الله ، كيف وجدت أهلك؟ وطاف في الحجرات فسلم عليهنّ ودعون له؛ ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدثون ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء ، فتولى ، فلما رأوه متولياً خرجوا ، فرجع ونزلت : { وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } نهوا عن أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدثه به . أو عن أن يستأنسوا حديث أهل البيت ، واستئناسه : تسمعه وتوجسه ، وهو مجرور معطوف على ناظرين . وقيل : هو منصوب على : ولا تدخلوها مستأنسين . لا بدّ في قوله : { فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ } من تقدير المضاف ، أي : من إخراجكم ، بدليل قوله : { والله لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الحق } يعني أن إخراجكم حتى ما ينبغي أن يستحيا منه ، ولما كان الحياء مما يمنع الحي من بعض الأفعال ، قيل : { لاَ يَسْتَحىِ مِنَ الحق } بمعنى لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحي منكم ، وهذا أدبٌ أدّب الله [ تعالى ] به الثقلاء . وعن عائشة رضي الله عنها : حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال : فإذا طعمتم فانتشروا .
وقرىء : «لا يستحي» بياء واحدة . الضمير في { سَأَلْتُمُوهُنَّ } لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكرن لأنّ الحال ناطقة بذكرهن { متاعا } حاجة { فَسْئَلُوهُنَّ } المتاع . قيل :
( 904 ) إن عمر رضي الله عنه كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة ، وكان يذكره كثيراً ، ويزد أن ينزل فيه ، وكان يقول : لو أُطاع فيكن ما رأتكن عين ، وقال : يا رسول الله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فنزلت . وروي أنه مر عليهن وهن مع النساء في المسجد ، فقال : لئن احتجبتن ، فإن لكن على النساء فضلاً ، كما أن لزوجكن على الرجال الفضل ، فقالت زينب رضي الله عنها : يا ابن الخطاب ، إنك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى نزلت . وقيل :
( 906 ) إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة ، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فنزلت آية الحجاب . وذكر أنّ بعضهم قال : أننهى أن نكلم بنات عمنا إلاّ من وراء حجاب ، لئن مات محمد لأتزوّجن فلانة . فأعلم الله أن ذلك محرم { وَمَا كَانَ لَكُمْ } وما صحّ لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نكاح أزواجه من بعده ، وسمى نكاحهن [ من ] بعده عظيماً عنده ، وهو من أعلام تعظيم الله [ تعالى ] لرسوله وإيجاب حرمته حياً وميتاً ، وإعلامه بذلك مما طيب به [ تعالى ] نفسه وسر قلبه واستغزر شكره . فإن نحو هذا مما يحدث الرجل به نفسه ولا يخلي منه فكره . ومن الناس من تفرظ غيرته على حرمته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده . وعن بعض الفتيان أنه كانت له جارية لا يرى الدنيا بها شغفاً واستهتاراً ، فنظر إليها ذات يوم فتنفس الصعداء ، وانتحب فعلا نحيبه مما ذهب به فكره هذا المذهب ، فلم يزل به ذلك حتى قتلها ، تصوراً لما عسى يتفق من بقائها بعده وحصولها تحت يد غير . وعن بعض الفقهاء أن الزوج الثاني في هدم الثلاث مما يجري مجرى العقوبة؛ فصين رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلاحظ ذلك .
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
{ إِن تُبْدُواْ شَيْئاً } من نكاحهن على ألسنتكم { أَوْ تُخْفُوهْ } في صدوركم { فَإِنَّ الله } يعلم ذلك فيعاقبكم به ، وإنما جاء به على أثر ذلك عاماً لكل باد وخاف ، ليدخل تحته نكاحهن وغيره ولأنه على هذه الطريقة أهول وأجزل .
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب : يا رسول الله ، أو نحن أيضاً نكلمهن من وراء الحجاب ، فنزلت { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ } أي لا إثم عليهم في أن لا يحتجبن من هؤلاء ولم يذكر العم والخال ، لأنهما يجريان مجرى الوالدين ، وقد جاءت تسمية العم أباً . قال الله تعالى : { وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } [ البقرة : 133 ] وإسماعيل عمّ يعقوب . وقيل : كره ترك الاحتجاب عنهما لأنهما يصفانها لأبنائهما ، وأبناؤهما غير محارم ، ثم نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب ، وفي هذا النقل ما يدلّ على فضل تشديد ، فقيل : { واتقين الله } فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحي من الاستتار ، واحتطن فيه ، وفيما استثنى منه ما قدرتن ، واحفظن حدودهما واسلكن طريق التقوى في حفظهما؛ وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأنتن غير محجبات ، ليفضل سركن علنكن { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء } من السرّ والعلن وظاهر الحجاب وباطنه { شَهِيداً } لاتتفاوت في علمه الأحوال .
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
قرىء : «وملائكته» بالرفع ، عطفاً على محل إن واسمها ، وهو ظاهر على مذهب الكوفيين ، ووجهه عند البصريين ، أن يحذف الخبر لدلالة يصلون عليه { صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ } أي قولوا الصلاة على الرسول والسلام . ومعناه : الدعاء بأن يترحم عليه الله ويسلم . فإن قلت : الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها؟ قلت : بل واجبة ، وقد اختلفوا في حال وجوبها . فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره . وفي الحديث :
( 907 ) " مَنْ ذكرتُ عنده فلمّ يصلِّ عليَّ فدخلَ النار فأبعَده الله " ، ويروى :
( 908 ) أنه قيل : يا رسول الله ، أرأيت قول الله تعالى : { إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى } فقال صلى الله عليه وسلم : " هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكُم به ، إنّ اللَّهَ وكّل بي ملكين فلا أذكرُ عبد مسلمٍ فيصلي عليّ إلاّ قال ذانكَ الملكان : غفرَ الله لكَ ، وقال الله تعالى وملائكته جواباً لذينك الملكين : آمينَ ، ولا أذكرُ عند عبدٍ مسلمٍ فلاَ يصلي عليّ إلاّ قال ذانك الملكان : لا غفرَ اللَّهُ لكَ ، وقالَ اللَّهُ وملائكتهُ لذينك الملكين : آمين " ، ومنهم من قال : تجب في كل مجلس مرة ، وإن تكرر ذكره ، كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس ، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره . ومنهم من أوجبها في العمر مرة ، وكذا قال في إظهار الشهادتين . والذي يقتضيه الاحتياط . الصلاة عليه عند كل ذكر ، لما ورد من الأخبار . فإن قلت : فالصلاة عليه في الصلاة ، أهي شرط في جوازها أم لا؟ قلت : أبو حنيفة وأصحابه لا يرونها شرطاً ، وعن إبراهيم النخعي : كانوا يكتفون عن ذلك - يعني الصحابة - بالتشهد ، وهو السلام عليك أيها النبي ، وأما الشافعي رحمه الله فقد جعلها شرطاً . فإن قلت : فما تقول في الصلاة على غيره؟ قلت : القياس جواز الصلاة على كل مؤمن ، لقوله تعالى : { هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ } [ الأحزاب : 43 ] وقوله تعالى : { وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلواتك سَكَنٌ لَّهُمْ } [ التوبة : 103 ] وقوله صلى الله عليه وسلم :
( 909 ) " اللَّهم صلّ على آل أبي أوفى " ولكن للعلماء تفصيلاً في ذلك : وهو أنها إن كانت على سبيل التبع كقولك : صلى الله على النبيّ وآله ، فلا كلام فيها . وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو ، فمكروه ، لأن ذلك صار شعاراً لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأنه يؤدي إلى الاتهام بالرفض . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 910 ) " من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم " .
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
{ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } فيه وجهان ، أحدهما : أن يعبر بإيذائهما عن فعل ما يكرهانه ولا يرضيانه : من الكفر والمعاصي ، وإنكار النبوّة ، ومخالفة الشريعة ، وما كانوا يصيبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنواع المكروه ، على سبيل المجاز . وإنما جعلته مجازاً فيهما جميعاً ، وحقيقة الإيذاء صحيحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا أجعل العبارة الواحدة معطية معنى المجاز والحقيقة . والثاني : أن يراد يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : في أذى الله : هو قول اليهود والنصارى والمشركين : يد الله مغلولة وثالث ثلاثة والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه . وقيل : قول الذين يلحدون في أسمائه وصفاته . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى عن ربه :
( 911 ) « شتمني ابنُ آدمَ ولم ينبغ لَهُ أنْ يشتمني ، وآذَانِي ولم ينبغِ لَهُ أنْ يؤذيني ، فأمّا شتمُهُ إياي فقولِه : إنِّي اتخذْتُ ولَداً . وأما أذاه فقولُه : إنّ الله لا يعيدني بعد أنْ بدأني » وعن عكرمة : فعل أصحاب التصاوير الذين يرمون تكوين خلق مثل خلق الله ، وقيل : في أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم : ساحر ، شاعر ، كاهن ، مجنون . وقيل : كسر رباعيته وشجّ وجهه يوم أحد . وقيل : طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حيي ، وأطلق إيذاء الله ورسوله ، وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات؛ لأن أذى الله ورسوله لا يكون إلاّ غير حق أبداً . وأما أذى المؤمنين والمؤمنات ، فمنه ومنه . ومعنى { بِغَيْرِ مَا اكتسبوا } بغير جناية واستحقاق للأذى . وقيل : نزلت في ناس من المنافقين يؤذون علياً رضي الله عنه ويسمعونه . وقيل : في الذين أفكوا على عائشة رضي الله عنها . وقيل : في زناة كانوا يتبعون النساء وهنّ كارهات . وعن الفضيل : لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق ، فكيف ، وكان ابن عون لا يكري الحوانيت إلا من أهل الذمّة ، لما فيه من الروعة عند كرّ الحول .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
الجلباب : ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقى منه ما ترسله على صدرها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل . وقيل : الملحفة وكل ما يستتر به من كساء أو غيره . قال أبو زبيد :
مُجَلْبَبٌ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ جِلْبَابَا ... ومعنى { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن } يرخينها عليهنّ ، ويغطين بها وجوههنّ وأعطافهنّ . يقال : إذا زل الثوب عن وجه المرأة : أدنى ثوبك على وجهك ، وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجيراهنّ في الجاهلية متبذلات ، تبرز المرأة في درع وخمار فصل بين الحرّة والأمة ، وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرّضون إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهنّ من النخيل والغيطان للإماء ، وربما تعرّضوا للحرّة بعلة الأمة ، يقولون : حسبناها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهنّ عن زي [ بلبس ] الأماء الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ، ليحتشمن ويهين فلا يطمع فيهن طامع ، وذلك قوله : { ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ } أي أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرّض لهن ولا يلقين ما يكرهن . فإن قلت : ما معنى { مِن } في { مِن جلابيبهن } ؟ قلت : هو للتبعيض . إلا : أن يكون معنى التبعيض محتمل وجهين ، أحدهما : أن يتجلببن ببعض ما لهنّ من الجلاليب ، والمراد أن لا تكون الحرة متبذلة في درع وخمار ، كالأمة والماهنة [ الخادمه ] ولها جلبابان فصاعداً في بيتها . والثاني : أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة . وعن ابن سيرين : سألت عبيدة السلماني عن ذلك فقال : أن تضع رداءها فوق الحاجب ثم تديره حتى تضعه على أنفها . وعن السديّ : تغطي إحدى عينيها وجبهتها ، والشقّ الآخر إلاّ العين ، وعن الكسائي : يتقنعن بملاحفهنّ منضمة عليهنّ ، أراد بالانضمام معنى الإدناء { وَكَانَ الله غَفُوراً } لما سلف منهن من التفريط مع التوبة؛ لأنّ هذا مما يمكن معرفته بالعقل .
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
{ والذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه . وقيل : هم الزناة وأهل الفجور من قوله تعالى : { فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] . { والمرجفون } ناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : هزموا وقتلوا ، وجرى عليهم كيت وكيت ، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين . يقال : أرجف بكذا ، إذا أخبر به على غير حقيقة ، لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت ، من الرجفة وهي الزلزلة . والمعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدكم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء : لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوءهم وتنوءهم ، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة ، وإلى أن لا يساكنوك فيها { إِلا } زمناً { قَلِيلاً } ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم ، فسمى ذلك إغراء ، وهو التحريش على سبيل المجاز { مَّلْعُونِينَ } نصب على الشتم أو الحال ، أي : لا يجاورونك إلاّ ملعونين ، دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معاً ، كما مرّ في قوله : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه } [ الأحزاب : 53 ] ولا يصحّ أن ينتصب عن { أُخِذُواْ } لأنّ ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها . وقيل : في { قَلِيلاً } وهو منصوب على الحال أيضاً . ومعناه : لا يجاورونك إلاّ أقلاء أذلاء ملعونين . فإن قلت : ما موقع لا يجاورونك؟ قلت : لا يجاورونك عطف على لنغرينك ، لأنه يجوز أن يجاب به القسم . ألا ترى إلى صحة قولك : لئن لم ينتهوا لا يجاورونك . فإن قلت : أما كان من حق لا يجاورونك أن يعطف بالفاء ، وأن يقال لنغرينك بهم فلا يجاورونك؟ قلت : لو جعل الثاني مسبباً عن الأوّل لكان الأمر كما قلت : ولكنه جعل جواباً آخر للقسم معطوفاً على الأوّل ، وإنما عطف بثم ، لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم وأعظم من جميع ما أصيبوا به ، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه { سُنَّةَ الله } في موضع مؤكد ، أي : سنّ الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا وعن مقاتل : يعني كما قتل أهل بدر وأسروا .
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استعجالاً على سبيل الهزء ، واليهود يسألونه امتحاناً؛ لأنّ الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به ، لم يطلع عليه ملكاً ولا نبياً ، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع ، تهديداً للمستعجلين ، وإسكاتاً للمتحنين { قَرِيبًا } شيئاً قريباً ، أو لأن الساعة في معنى اليوم ، أو في زمان قريب .
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)
السعير : النار المسعورة الشديدة الإيقاد .
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)
وقرىء : «تقلب» على البناء للمفعول . وتقلب : بمعنى يتقلب . ونقلب ، أي : نقلب نحن . وتقلب ، على أن الفعل للسعير ، ومعنى تقليبها : تصريفها في الجهات ، كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت فترامى بها الغليان من جهة إلى جهة . أو تغييرها عن أحوالها وتحويلها عن هيئاتها . أو طرحها في النار مقلوبين منكوسين . وخصت الوجوه بالذكر ، لأنّ الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده . ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة ، وناصب الظرف { يَقُولُونَ } أو محذوف ، وهو «اذكر» وإذا نصب بالمحذوف كان { يَقُولُونَ } حالاً .
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
وقرىء : «سادتنا» و«ساداتنا» : وهم رؤوساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم . يقال : ضلّ السبيل وأضله إياه ، وزيادة الألف لإطلاق الصوت : جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر ، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع ، وأن ما بعده مستأنف . وقرىء : «كثيراً» تكثيراً لإعداد اللعائن . وكبيراً ، ليدل على أشدّ اللعن وأعظمه { ضِعْفَيْنِ } ضعفاً لضلاله وضعفاً لإضلاله : يعترفون ، ويستغيثون ، ويتمنون ، ولا ينفعهم شيء من ذلك .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
{ لاَ تَكُونُواْ كالذين ءاذَوْاْ موسى } قيل : نزلت في شأن زيد وزينب ، وما سمع فيه من قالة بعض الناس . وقيل : في أذى موسى عليه السلام : هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها ، وقيل : اتهامهم إياه بقتل هارون ، وكان قد خرج معه [ إلى ] الجبل فمات هناك ، فحملته الملائكة ومرّوا به عليهم ميتاً فأبصروه حتى عرفوا أنه غير مقتول . وقيل : أحياه الله فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام . وقيل : قرفوه بعيب في جسده من برص أو أدرة ، فأطلعهم الله على أنه برىء منه { وَجِيهاً } ذا جاه ومنزلة عنده ، فلذلك كان يميط عنه التهم ، ويدفع الأذى ، ويحافظ عليه ، لئلا يلحقه وصم ولا يوصف بنقيصة ، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة ووجاهة . وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة : «وكان عبد الله وجيهاً» قال ابن خالويه : صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان ، فسمعته يقرؤها . وقراءة العامة أوجه؛ لأنها مفصحة عن وجاهته عند الله ، كقوله تعالى : { عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ } [ التكوير : 20 ] وهذه ليست كذلك ، فإن قلت : قوله : { مِمَّا قَالُواْ } معناه : من قولهم ، أو من مقولهم؛ لأنّ «ما» إما مصدرية أو موصولة ، وأيهما كان فكيف تصحّ البراءة منه؟ قلت : المراد بالقول أو المقول : مؤداه ومضمونة وهو الأمر المعيب ، ألا ترى أنهم سموا السبة بالقالة ، والقالة بمعنى القول؟ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
{ قَوْلاً سَدِيداً } قاصداً إلى الحق والسداد : القصد إلى الحق ، والقول بالعدل . يقال : سدّد السهم نحو الرمية : إذا لم يعدل به عن سمتها ، كما قالوا : سهم قاصد ، والمراد : نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول ، والبعث على أن يسد قولهم في كل باب؛ لأنّ حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله . والمعنى : راقبوا الله في حفظ ألسنتكم ، وتسديد قولكم ، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة : من تقبل حسناتكم والإثابة عليها ، ومن مغفرة سيآتكم وتكفيرها . وقيل : إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية وهذه الآية مقرّرة للتي قبلها ، بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان؛ ليترادف عليهم النهي والأمر ، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام ، وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه . لما قال : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } وعلق بالطاعة الفوز العظيم ، أتبعه قوله : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة } وهو يريد بالأمانة الطاعة ، فعظم أمرها وفخم شأنها ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنّ هذه الأجرام العظام من السموات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله عزّ وعلا انقياد مثلها - وهو ما يتأتى من الجمادات - وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها . حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة ، كما قال : { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] وأما الإنسان فلم تكن حاله - فيما يصحّ منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه ، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف - مثل حال تلك الجمادات فيما يصحّ منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع ، والمراد بالأمانة : الطاعة؛ لأنها لازمة الوجود ، كما أن الأمانة لازمة الأداء . وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها : مجاز . وأما حمل الأمانة فمن قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمّته ويخرج عن عهدتها؛ لأنّ الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ، ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ، ولي عليه حق ، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملاً لها . ونحوه قولهم ، لا يملك مولى لمولى نصراً . يريدون : أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ، ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل ، ومنه قول القائل :
أَخُوكَ الَّذِي لاَ تَمْلِكُ الْحِسَّ نَفسُه ... وَتَرْفَضُّ عِنْدَ الْمُحْفِظَاتِ الْكَتَائِفُ
أي لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده ، بل يبذل ذلك ويسمح به . ومنه قولهم أبغض حق أخيك؟ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده ، وإذا أبغضه أخرجه وأدّاه ، فمعنى ، فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان ، فأبين إلاّ أن يؤدينها وأبى الإنسان إلاّ أن يكون محتملاً لها لا يؤديها .
ثم وصفه بالظلم لكونه تاركاً لأداء الأمانة ، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها . والثاني : أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله : أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشدّه : أن يتحمله ويستقل به ، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه ، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوّته { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها ، وضمنها ثم خاس بضمانه فيها ، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب . وما جاء القرآن إلاّ على طرقهم وأساليبهم من ذلك قولهم : لو قيل للشحم : أين تذهب؟ لقال : أسوي العوج ، وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات . وتصوّر مقاولة الشحم محال ، ولكن الغرض أنّ السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه ، كما أن العجف مما يقبح حسنه ، فصوّر أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف ، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها . فإن قلت : قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد : أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى؛ لأنه مثلت حاله - في تميله وترجحه بين الرأيين وتركه المضي على أحدهما - بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه . وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة ، وليس كذلك ما في هذه الآية؛ فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه ، غير مستقيم ، فكيف صحّ بناء التمثيل على المحال ، وما مقال هذا إلاّ أن تشبه شيئاً والمشبه به غير معقول . قلت : الممثل به في الآية وفي قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب . وفي نظائره مفروض ، والمفروضات تتخيل في الذهن كما المحققات : مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها . واللام في { لّيُعَذّبَ } لام التعليل على طريق المجاز : لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة ، كما أن التأديب في ضربته للتأديب نتيجة الضرب . وقرأ الأعمش : «ويتوب»؛ ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ، ويبتدىء : «ويتوب الله» . ومعنى قراءة العامة : ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها ، لأنه إذا تيب على الوافي كان ذلك نوعاً من عذاب الغادر ، والله أعلم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 912 ) " من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه ، أعطي الأمان من عذاب القبر " .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
ما في السموات والأرض كله نعمة من الله ، وهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجله ، ولما قال : { الحمد لِلَّهِ } ثم وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيوية ، كان معناه : أنه المحمود على نعم الدنيا ، كما تقول : أحمد أخاك الذي كساك وحملك ، تريد : أحمده على كسوته وحملانه . ولما قال : { وَلَهُ الحمد فِى الأخرة } علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب . فإن قلت : ما الفرق بين الحمدين؟ قلت : أمّا الحمد في الدنيا فواجب ، لأنه على نعمة متفضل بها ، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة وهي الثواب . وأمّا الحمد في الآخرة فليس بواجب ، لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها ، وإنما هو تتمة سرور المؤمنين وتكملة اغتباطهم : يلتذون به كما يلتذ [ من به ] العطاش بالماء البارد { وَهُوَ الحكيم } الذي أحكم أمور الدارين ودبرها بحكمته { الخبير } بكل كائن يكون . ثم ذكرها مما يحيط به علماً { مَا يَلِجُ فِى الأرض } من الغيث كقوله : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض } [ الزمر : 21 ] ومن الكنوز والدفائن والأموات ، وجميع ما هي له كفات { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من الشجر والنبات ، وماء العيون ، والغلة والدواب ، وغير ذلك { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء } من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة وأنواع البركات والمقادير ، كما قال تعالى : { وَفِى السماء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الملائكة وأعمال العباد { وَهُوَ } مع كثرة نعمه وسبوغ فضله { الرحيم الغفور } للمفرطين في أداء مواجب شكرها . وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : تنزل ، بالنون والتشديد .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قولهم : { لاَ تَأْتِينَا الساعة } نفي للبعث وإنكار لمجيء الساعة . أو استبطاء لما قد وعدوه من قيامها على سبيل الهزء والسخرية ، كقولهم : { متى هذا الوعد } [ يونس : 48 ] ، [ الأنبياء : 38 ] . أوجب ما بعد النفي ببلى على المعنى : أن ليس الأمر إلا إتيانها ، ثم أعيد إيجابه مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد ، وهو التوكيد باليمين بالله عزّ وجلّ ، ثم أمد التوكيد القسمي إمداداً بما أتبع المقسم به من الوصف بما وصف به ، إلى قوله : { لِّيَجْزِىَ } لأنّ عظمة حال المقسم به تؤذن بقوّة حال المقسم عليه وشدّة ثباته واستقامته ، لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر ، وكلما كان المستشهد به أعلى كعباً وأبين فضلاً وأرفع منزلة ، كانت الشهادة أقوى وآكد ، والمستشهد عليه أثبت وأرسخ . فإن قلت : هل للوصف الذي وصف به المقسم به وجه اختصاص بهذا المعنى؟ قلت : نعم وذلك أن قيام الساعة من مشاهير الغيوب ، وأدخلها في الخفية ، وأوّلها مسارعة إلى القلب : إذا قيل : عالم الغيب ، فحين أقسم باسمه على إثبات قيام الساعة ، وأنه كائن لا محالة ، ثم وصف بما يرجع إلى علم الغيب ، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات ، واندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة ، فجاء ما تطلبه من وجه الاختصاص مجيئاً واضحاً . فإن قلت : الناس قد أنكروا إتيان الساعة وجحدوه ، فهب أنه حلف لهم بأغلظ الأيمان وأقسم عليهم جهد القسم ، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على الله كذباً كيف تكون مصححة لما أنكروه؟ قلت : هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها الحجة القاطعة البينة الساطعة وهي قوله : { لِّيَجْزِىَ } فقد وضع الله في العقول وركب في الغرائز وجوب الجزاء ، وأن المحسن لا بدّ له من ثواب ، والمسيء لا بدّ له من عقاب . وقوله : { لِّيَجْزِىَ } متصل بقوله { لَتَأْتِيَنَّكُمْ } تعليلاً له . قرىء : «لتأتينكم» بالتاء والياء . ووجه من قرأ بالياء : أن يكون ضميره للساعة بمعنى اليوم . أو يسند [ إلى ] عالم الغيب ، أي ليأتينكم أمره كما قال تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ } [ الأنعام : 158 ] وقال : { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ } [ النحل : 33 ] . وقرىء : «عالم الغيب» و «علام الغيب» : بالجرّ ، صفة لربي . وعالم الغيب ، وعالم الغيوب : بالرفع ، على المدح . ولا يعزب : بالضم والكسر في الزاي ، من العزوب وهو البعد . يقال : روض عزيب : بعيد من الناس { مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } مقدار أصغر نملة { ذلك } إشارة إلى مثقال ذرّة . وقرىء : «ولا أصغر من ذلك ولا أكبر» . بالرفع على أصل الابتداء . وبالفتح على نفي الجنس ، كقولك : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، بالرفع والنصب . وهو كلام منقطع عما قبله . فإن قلت : هل يصحّ عطف المرفوع على مثقال ذرّة ، كأنه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرة وأصغر وأكبر وزيادة ، لا لتأكيد النفي . وعطف المفتوح على ذرّة بأنه فتح في موضع الجرّ لامتناع الصرف ، كأنه قيل : لا يعزب عنه مثقال ذرّة ولا مثقال أصغر من ذلك ولا أكبر؟ قلت : يأبى ذلك حرف الاستثناء ، إلاّ إذا جعلت الضمير في { عَنْهُ } للغيب . وجعلت { الغيب } اسماً للخفيات . قبل أن تكتب في اللوح لأنّ إثباتها في اللوح من البروز عن الحجاب ، على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ، ولا يزل عنه إلاّ مسطوراً في اللوح .
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
وقرىء : «معجزين» . و«أليم» ، وبالرفع والجر . وعن قتادة : الرجز : سوء العذاب .
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
وقرىء : «معجزين» . فأليم : بالرفع والجرّ ، وعن قتادة : الرجز : سوء العذاب . ويرى في موضع الرفع ، أي : ويعلم أولو العلم ، يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يطأ أعقابهم من أمّته . أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا مثل كعب والأحبار وعبد الله ابن سلام رضي الله عنهما . { الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ . . . . الحق } هما مفعولان ليرى ، وهو فصل من قرأ «الحق» بالرفع : جعله مبتدأ و { الحق } خبراً ، والجملة في موضع المفعول الثاني . وقيل : { ويرى } في موضع النصب معطوف على { لِيَجْزِىَ } أي : وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق . علماً لا يزاد عليه في الإيقان ، ويحتجوا به على الذين كذبوا وتولوا . ويجوز أن يريد : وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه [ هو ] الحق فيزدادوا حسرة وغماً .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
{ الذين كَفَرُواْ } قريش . قال بعضهم لبعض : { هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم : يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب : أنكم تبعثون وتنشئون خلقاً جديداً بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً ويمزق أجسادكم البلى كل ممزق ، أي : يفرقكم ويبدد أجزاءكم كل تبديد . أهو مفتر على الله كذباً فيما ينسب إليه من ذلك؟ أم به جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه؟ ثم قال سبحانه ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء ، وهو مبرأ منهما؛ بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث : واقعون في عذاب النار فيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك ، وذلك أجنّ الجنون وأشدّه إطباقاً على عقولهم : جعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال ، كأنهما كائنان في وقت واحد : لأنّ الضلال لما كان العذاب من لوازمه وموجباته : جعلا كأنهما في الحقيقة مقترنان . وقرأ زيد بن عليّ رضي الله عنه : ينبيكم . فإن قلت : فقد جعلت الممزق مصدراً ، كبيت الكتاب :
أَلَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِي الْقَوَافِي ... فَلاَعِيّاً بِهِنَّ وَلاَ اجْتِلاَبَاً
فهل يجوز أن يكون مكاناً؟ قلت : نعم . ومعناه ما حصل من الأموات في بطون الطير والسباع ، وما مرّت به السيول فذهبت به كل مذهب ، وما سفته الرياح فطرحته كل مطرح . فإن قلت : ما العامل في إذا؟ قلت : ما دلّ عليه { إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } وقد سبق نظيره . فإن قلت : الجديد فعيل بمعنى فاعل أم مفعول؟ قلت : هو عند البصريين بمعنى فاعل ، تقول : جد فهو جديد ، كحدّ فهو حديد ، وقلّ فهو قليل . وعند الكوفيين بمعنى : مفعول ، من جدّه إذا قطعه . وقالوا : هو الذي جده الناسج الساعة في الثوب؛ ثم شاع . ويقولون : ولهذا قالوا ملحفة جديد ، وهي عند البصريين كقوله تعالى : { إن رحمة الله قريب } [ الأعراف : 56 ] ونحو ذلك . فإن قلت : لم أسقطت الهمزة في قوله { افترى } دون قوله : { السحر } ، وكلتاهما همزة وصل؟ قلت : القياس الطرح ، ولكون أمراً اضطرّهم إلى ترك إسقاطها في نحو { السحر } وهو خوف التباس الاستفهام بالخبر ، لكون همزة الوصل مفتوحة كهمزة الاستفهام . فإن قلت : ما معنى وصف الضلال بالبعد؟ قلت : هو من الإسناد المجازي؛ لأنّ البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادّة ، وكلما ازداد عنها بعداً كان أضلّ . فإن قلت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهوراً علماً في قريش ، وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم ، فما معنى قوله : { هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبّئُكُمْ } فنكروه لهم ، وعرضوا عليهم الدلالة عليه كما يدلّ على مجهول في أمر مجهول . قلت : كانوا يقصدون بذلك الطنز والسخرية ، فأخرجوه مخرج التحلي ببعض الأحاجي التي يتحاجى بها للضحك والتلهي متجاهلين به وبأمره .
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
[ يريد ] أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض ، وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم ، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عزّ وجلّ ، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم أو يسقط عليهم كسفاً ، لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة { إِنَّ فِى ذَلِكَ } النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلاّن عليه من قدرة الله { لأيَةً } ودلالة { لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } وهو الراجع إلى ربه المطيع له؛ لأنّ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله ، على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به . قرىء : «يشأ ويخسف ويسقط» : بالياء؛ لقوله تعالى : { افترى عَلَى الله كَذِبًا } [ الأنعام : 93 ] وبالنون لقوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا } وكسفاً : بفتح السين وسكونه . وقرأ الكسائي : «يخسف بهم» بالإدغام وليست بقوية .
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
{ ياجبال } إمّا أن يكون بدلاً من { فَضْلاً } ، وإمّا من { ءاتَيْنَا } بتقدير : قولنا يا جبال . أو : قلنا يا جبال . وقرىء : «أوّبي» و «أوبي» من التأويب . والأوب : أي رجعي معه التسبيح . أو ارجعى معه في التسبيح كلما رجع فيه؛ لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه : ومعنى تسبيح الجبال : أنّ الله سبحانه وتعالى يخلق فيها تسبيحاً كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبح : معجزة لداود . وقيل : كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين ، وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها . وقرىء : «والطير» ، رفعاً ونصباً ، وعطفاً على لفظ الجبال ومحلها . وجوّزوا أن ينتصب مفعولاً معه ، وأن يعطف على فضلاً ، بمعنى وسخرنا له الطير . فإن قلت : أي فرق بين هذا النظم وبين أن يقال : { ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } تأويب الجبال معه والطير؟ قلت : كم بينهما . ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التي لا تخفى : من الدلالة على عزّة الربوبية وكبرياء الإلهية ، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الذي إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا : إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت ، إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } وجعلناه له ليناً كالطين والعجين والشمع ، يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة . وقيل : لأن الحديد في يده لما أوتي من شدّة القوّة [ أن اعمل سابغات ] وقرىء : «صابغات» وهي الدروع الواسعة الضافية ، وهو أوّل من اتخذها وكانت قبل صفائح . وقيل : كان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ، ويتصدّق على الفقراء . وقيل : كان يخرج حين ملك بني إسرائيل متنكراً ، فيسأل الناس عن نفسه ، ويقول لهم : ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه ، فقيض الله له ملكاً في صورة آدمي فسأله على عادته ، فقال : نعم الرجل لولا خصلة فيه فريع داود ، فسأله؟ فقال : لولا أنه يطعم عياله من بيت المال ، فسأل عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغني به عن بيت المال ، فعلمه صنعة الدروع { وَقَدَّرَ في السرد } لا تجعل المسامير دقاقاً فتقلق ، ولا غلاظاً فتفصم الحلق . والسرد : نسج الدروع { واعملوا } الضمير لدواد وأهله { و } سخرنا { لسليمان الريح } فيمن نصب : ولسليمان الريح مسخرة ، فيمن رفع ، وكذلك فيمن قرأ : الرياح ، بالرفع { غُدُوُّهَا شَهْرٌ } جريها بالغداة مسيرة شهر ، وجريها بالعشي كذلك . وقرىء : «غدوتها وروحتها» . وعن الحسن رضي الله عنه : كان يغدو فيقيل باصطخر ، ثم يروح فيكون رواحه بكابل . ويحكى أنّ بعضهم رأي مكتوباً في منزل بناحية دجلة كتبه بعض أصحاب سليمان : نحن نزلناه وما بنيناه ومبنياً وجدناه ، غدونا من اصطخر فقلناه ، ونحن رائحون منه فبائتون بالشام إن شاء الله .
القطر : النحاس المذاب من القطران . فإن قلت : ماذا أراد بعين القطر؟ قلت : أراد بها معدن النحاس ولكنه أساله كما ألان الحديد لداود ، فنبع كما ينبع الماء من العين؛ فلذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه ، كما قال : { إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا } [ يوسف : 36 ] وقيل : كان يسبل في الشهر ثلاثة أيام { بِإِذْنِ رَبّهِ } بأمره { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ } ومن يعدل { عَنْ أَمْرِنَا } الذي أمرناه به من طاعة سليمان . وقرىء : «يزغ» من أزاغه . وعذاب السعير : عذاب الآخرة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن السدي : كان معه ملك بيده سوط من نار ، كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجني . المحاريب : المساكن والمجالس الشريفة المصونة عن الابتذال : سميت محاريب لأنه يحامي عليها ويذب عنها . وقيل : هي المساجد والتماثيل : صور الملائكة والنبيين والصالحين ، كانت تعمل فيه المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم . فإن قلت : كيف استجاز سليمان عليه السلام عمل التصاوير؟ قلت : هذا مما يجوز أن تختلف في الشرائع لأنه ليس من مقبحات العقل كالظلم والكذب ، وعن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرّماً . ويجوز أن يكون غير صور الحيوان كصور الأشجار وغيرها؛ لأنّ التمثال كل ما صوّر على مثل صورة غيره من حيوان وغير حيوان . أو تصوّر محذوفة الرؤوس . وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ، ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما . والجوابي : الحياض الكبار ، قال :
تَرُوحُ عَلَى آل الْمُحَلِّقِ جَفْنَةٌ ... كَجَابِيَةِ السَّيْحِ العِرَاقِيِّ تَفْهَقُ
لأنّ الماء يجبى فيها ، أي : يجمع . جعل الفعل لها مجازاً وهي من الصفات الغالية كالدابة . وقيل : كان يقعد على الجفنة ألف رجل . وقرىء : بحذف الياء اكتفاء بالكسرة . كقوله تعالى : { يَوْمَ يدعالداع } [ القمر : 6 ] . { راسيات } ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها { اعملوا ءَالَ دَاوُودَ } حكاية ما قيل لآل داود . وانتصب { شُكْراً } على أنه مفعول له ، أي : اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه . وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدّى على طريق الشكر . أو على الحال ، أي : شاكرين . أو على تقدير اشكروا شكرا ، لأن اعملوا فيه معنى اشكروا ، من حيث إنّ العمل للمنعم شكر له . ويجوز أن ينتصب باعملوا مفعولاً به . ومعناه : إنا سخّرنا لكم الجنّ يعملون لكم ما شئتم ، فاعملوا أنتم شكراً على طريق المشاكلة و { الشكور } المتوفر على أداء الشكر ، الباذل وسعه فيه : قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه ، اعتقاداً واعترافاً وكدحاً ، وأكثر أوقاته . وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ من يشكر على أحواله كلها . وعن السدي : من يشكر على الشكر . وقيل : من يرى عجزه عن الشكر . وعن داود أنه جزأ ساعات الليل والنهار على أهله ، فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلاّ وإنسان من آل داود قائم يصلي . وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول : اللَّهم اجعلني من القليل ، فقال عمر ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل : إني سمعت الله يقول : { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل ، فقال عمر : كل الناس أعلم من عمر .
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
قرىء : «فلما قضى عليه الموت» ودابة الأرض : الأرضة ، وهي الدويبة التي يقال لها السرفة والأرض فعلها ، فأضيفت إليه . يقال : أرضت الخشبة أرضاً . إذا أكلتها الأرضة . وقرىء بفتح الراء ، من أرضت الخشبة أرضاً ، وهو من باب فعلته ففعل ، كقولك : أكلت القوادح الأسنان أكلاً . فأكلت أكلاً والمنسأة : العصا . لأنه ينسأ بها ، أي : يطرد ويؤخر وقرىء : بفتح الميم وبتخفيف الهمزة قلباً وحذفاً وكلاهما ليس بقياس ، ولكن إخراج الهمزة بين بين هو التخفيف القياسي . ومنساءته على مفعالة ، كما يقال في الميضأة ميضاءة . ومن سأته ، أي : من طرف عصاه ، سميت بسأة القوس على الاستعارة . وفيها لغتان ، كقولهم : قحة وقحة ، وقرىء : «أكلت منسأته» { تَبَيَّنَتِ الجن } من تبين الشيء إذا ظهر وتجلّى . و { أَن } مع صلتها بدل من الجن بدل الاشتمال ، كقولك : تبين زيد جهله : والظهور له في المعنى ، أي : ظهر أنّ الجن { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِى العذاب } أو علم الجن كلهم علماً بيناً - بعد التباس الأمر على عامّتهم وضعفتهم وتوهّمهم - أنّ كبارهم يصدّقون في ادعائهم علم الغيب أو علم المدّعون علم الغيب منهم عجزهم ، وأنهم لا يعلمون الغيب وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم ، وإنما أريد التهكم بهم كما تتهكم بمدّعي الباطل إذا دحضت حجته وظهر إبطاله بقولك : هل تبينت أنك مبطل . وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبيناً . وقرىء : «تبينت الجن» على البناء للمفعول ، على أنّ المتبين في المعنى هو { أَن } مع ما في صلتها ، لأنه بدل . وفي قراءة أبيّ : تبينت الإنس . وعن الضحاك : تباينت الأنس بمعنى تعارفت وتعالمت . والضمير في { كَانُواْ } للجن في قوله : { وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } أي علمت الإنس أن لو كان الجن يصدقون فيما يوهمونهم من علمهم الغيب؛ ما لبثوا . وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : «تبينت الإنس أنّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب» . روي أنه كان من عادة سليمان عليه السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال ، فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله ، فيسألها : لأي شيء أنت؟ فتقول لكذا ، حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة ، فسألها ، فقالت : نبت لخراب هذا المسجد : فقال : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس ، فنزعها وغرسها في حائط له وقال : اللَّهم عم عن الجن موتي ، حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب . لأنهم كانوا يسترقون السمع ويموّهون على الإنس أنهم يعلمون الغيب ، وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني ، فقال : أمرت بك وقد بقيت من عمرك ساعة؛ فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب ، فقام يصلي متكئاً على عصاه ، فقبض روحه وهو متكىء عليها؛ وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلّى ، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلاّ احترق فمرّ به شيطان فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع ، فنظر فإذا سليمان قد خرّ ميتاً ، ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة ، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقداراً ، فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة ، وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حياً ، فأيقن الناس أنهم لو علموا الغيب لما لبثوا في العذاب سنة ، وروي أنّ داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام ، فمات قبل أن يتمه ، فوصى به إلى سليمان ، فأمر الشياطين بإتمامه ، فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ، ليبطل دعواهم علم الغيب .
روي أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه ، فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها؛ فلم يجسر أحد بعدُ أن يدنوا منه ، وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة : ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، فبقي في ملكه أربعين سنة ، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه .
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
قرىء : { لِسَبَإٍ } بالصرف ومنعه ، وقلب الهمزة ألفاً . ومسكنهم : بفتح الكاف وكسرها ، وهو موضع سكناهم ، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها ، أو مسكن كل واحد منهم . وقرىء : «مساكنهم» و { جَنَّتَانِ } بدل من آية . أو خبر مبتدإ محذوف ، تقديره : الآية جنتان . وفي الرفع معنى المدح ، تدلّ عليه قراءة من قرأ : «جنتين» ، بالنصب على المدح . فإن قلت : ما معنى كونهما؟ آية ، قلت : لم يجعل الجنتين في أنفسهما آية ، وإنما جعل قصتهما ، وأنّ أهلهما أعرضوا عن شكر الله تعالى عليهما فخربهما ، وأبدلهم عنهما الخمط والأثل : آية ، وعبرة لهم ، ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم . ويجوز أن تجعلهما آية ، أي : علامة دالة على الله ، وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره ، فإن قلت : كيف عظم الله جنتي أهل سبأ وجعلهما آية ، ورب قرية من قريات العراق يحتف بها من الجنان ما شئت؟ قلت : لم يرد بستانين اثنين فحسب ، وإنما أراد جماعتين من البساتين : جماعة عن يمين بلدهم ، وأخرى عن شمالها ، وكل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامها . كأنها جنة واحدة ، كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله ، كما قال : جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ } إما حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم ، أو لما قال لهم لسان الحال ، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك ، ولما قال : { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ } { واشكروا لَهُ } أتبعه قوله : { بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } يعني : هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة ، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت أخصب البلاد وأطيبها : تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيدها وتسير بين تلك الشجر ، فيمتلىء المكتل بما يتساقط فيه من الثمر { طَيّبَةً } لم تكن سبخة . وقيل : لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية . وقرىء : «بلدة طيبة ورباً غفوراً» بالنصب على المدح . وعن ثعلب : معناه اسكن واعبد { العرم } الجرذ الذي نقب عليهم السكر ، ضربت لهم بلقيس الملكة بسدّ ما بين الجبلين بالصخر والقار ، فحقنت به ماء العيون والأمطار ، وتركت فيه خروقاً على مقدار ما يحتاجون إليه من سقيهم ، فلما طغوا قيل : بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبياً يدعونهم إلى الله ويذكرونهم نعمته عليهم فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة سلط الله على سدّهم الخُلد فنقبه من أسفله فغرّقهم . وقيل : العرم جمع عرمة ، وهي الحجارة المركومة . ويقال للكدس من الطعام ، عرمة : والمراد : المسناة التي عقدوها سكراً : وقيل : العرم اسم الوادي ، وقيل : العرم المطر الشديد .
وقرىء : «العرم» بسكون الراء . وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم . وقرىء : «أكل» بالضم والسكون ، وبالتنوين والإضافة ، والأكل : الثمر . والخمط : شجر الأراك : وعن أبي عبيدة : كل شجر ذي شوك . وقال الزجاج : كل نبت أخذ طعماً من مرارة ، حتى لا يمكن أكله . والأثل : شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عوداً . ووجه من نون : أن أصله ذواتي أكل أكل خمط . فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذواتي أكل بشع . ومن أضاف وهو أبو عمر وحده ، فلأن أكل الخمط في معنى البرير ، كأنه قيل : ذواتي برير . والأثل والسدر : معطوفان على أكل ، لا على خمط لأن الأثل لا أكل له . وقرىء : «وأثلاً» وشيئاً . بالنصب عطفاً على جنتين . وتسمية البدل جنتين ، لأجل المشاكلة و فيه : ضرب من التهكم . وعن الحسن رحمه الله : قلل السدر : لأنه أكرم ما بدلوا . وقرىء : «وهل يجازي» و «هل نجازي» بالنون . و «هل يجازي» والفاعل الله وحده . و «هل يجزي»؛ والمعنى : أن مثل هذا الجزاء لا يستحقه إلاّ الكافر ، وهو العقاب العاجل ، وقيل : المؤمن تكفر سيآته بحسناته ، والكافر يحبط عمله فيجازى بجميع ما عمله من السوء ، ووجه آخر : وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة ، يستعمل تارة في معنى المعاقبة ، وأخرى في معنى الإثابة ، فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله : { جزيناهم بِمَا كَفَرُواْ } بمعنى : عاقبناهم بكفرهم . قيل : { وهل يجازى إلا الكفور } بمعنى : وهل يعاقب؟ وهو الوجه الصحيح؛ وليس لقائل أن يقول : لم قيل : وهل يجازى إلاّ الكفور ، على اختصاص الكفور بالجزاء ، والجزاء عام للكافر والمؤمن ، لأنه لم يرد الجزاء العام ، وإنما أراد الخاص وهو العقاب ، بل لا يجوز أن يراد العموم وليس بموضعه . ألا ترى أنك لو قلت : جزيناهم بما كفروا ، وهل يجازى إلاّ الكافر والمؤمن : لم يصحّ ولم يسد كلاماً ، فتبين أن ما يتخيل من السؤال مضمحل ، وأن الصحيح الذي لا يجوز غيره ما جاء عليه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
{ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا } وهي قرى الشام { قُرًى ظاهرة } متواصلة؛ يرى بعضها من بعض لتقاربها ، فهي ظاهرة لأعين الناظرين . أو راكبة متن الطريق : ظاهرة للسابلة؛ لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير } قيل : كان الغادي منهم يقيل في قرية ، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام لا يخاف جوعاً ولا عطشاً ولا عدواً ، ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء { سِيرُواْ فِيهَا } وقلنا لهم : سيروا؛ ولا قول ثم ، ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه؛ كأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه . فإن قلت : ما معنى قوله { لَيَالِىَ وَأَيَّاماً } قلت : معناه سيروا فيها ، إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار ، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات . أو سيروا فيها آمنين لا تخافون . وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت أياماً وليالي . أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم ، فإنكم في كل حين وزمان ، لا تلقون فيها إلا الأمن . وقرىء : «ربنا باعد بين أسفارنا» وبعد . ويا ربنا ، على الدعاء ، بطروا النعمة ، وبشموا من طيب العيش ، وملوا العافية ، فطلبوا الكد والتعب كما طلب بنو إسرائيل البصل والثوم مكان المنّ والسلوى ، وقالوا : لو كان جنى جناننا أبعد كان أجدر أن نشتهيه ، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشأم مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد ، فجعل الله لهم الإجابة . وقرىء : «ربنا بعِّد بين أسفارنا» وبعد بين أسفارنا على النداء ، وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به ، كما تقول : سير فرسخان ، وبوعد بين أسفارنا . وقرىء : «ربنا باعد بين أسفارنا» و «بين سفرنا» وبعد ، برفع ربنا على الابتداء ، والمعنى خلاف الأوّل ، وهو استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها لفرط تنعمهم وترفههم ، كأنهم كانوا يتشاجون على ربهم ويتحازنون عليه { أَحَادِيثَ } يتحدّث الناس بهم ، ويتعجبون من أحوالهم ، وفرقناهم تفريقاً اتخذه الناس مثلاً مضروباً ، يقولون : ذهبوا أيدي سبأ ، وتفرقوا أيادي سبأ . قال كثير :
أَيَادِي سَبَا يَا عَزَّ مَا كُنْتُ بَعْدَكُمْ ... فَلَمْ يَحْلُ بَالْعَيْنَيْنِ بَعْدَكِ مَنْظَرُ
لحق غسان بالشأم ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان ، { صَبَّارٍ } عن المعاصي { شَكُورٍ } للنعم .
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
قرىء : «صدّق» بالتشديد والتخفيف ، ورفع إبليس ونصب الظن ، فمن شدّد فعلى : حقق عليهم ظنه ، أو وجده صادقاً؛ ومن خفف فعلى : صدّق في ظنه أو صدّق يظن ظناً ، نحو فعلته جهدك ، وبنصب إبليس ورفع الظنّ؛ فمن شدّد فعلى : وجد ظنه صادقاً؛ ومن حفف فعلى : قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم ، يقولون : صدقك ظنك ، وبالتخفيف ورفعهما على : صدق عليهم ظن إبليس؛ ولو قرىء بالتشديد مع رفعهما لكان على المبالغة في صدق ، كقوله : صدقت فيهم ظنوني ، ومعناه : أنه حين وجد آدم ضعيف العزم قد أصغى إلى وسوسته قال : إنّ ذرّيته أضعف عزماً منه ، فظنّ بهم اتباعه وقال : لأضلنهم لأغوينهم . وقيل : ظنّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكة أنه يجعل فيها من يفسد فيها ، والضمير في { عَلَيْهِمْ } و { اتبعوه } إماّ لأهل سبأ ، أو لبني آدم . وقلل المؤمنين بقوله : { إِلاَّ فَرِيقاً } لأنهم قليل بالإضافة إلى الكفار ، كما قال : { لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] ، { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين } [ الأعراف : 17 ] . { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ } من تسليط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء إلاّ لغرض صحيح وحكمة بينة ، وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها . وعلل التسليط بالعلم والمراد ما تعلق به العلم . وقرىء : «ليعلم» على البناء للمفعول { حَفِيظٌ } محافظ عليه ، وفعيل ومفاعل : متآخيان .
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
{ قُلِ } لمشركي قومك { ادعوا الذين } عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه كما تدعون الله . والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجؤون إليه . وانتظروا استجابتهم لدعائكم ورحمتهم كما تنتظرون وأن يستجيب لكم ويرحمكم ، ثم أجاب عنهم بقوله : { لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ } من خير أو شرّ ، أو نفع أو ضرّ { فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض وَمَا لَهُمْ } في هذين الجنسين من شركة في الخلق ولا في الملك ، كقوله تعالى : { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض } [ الكهف : 51 ] وماله منهم من عوين يعينه على تدبير خلقه ، يريد : أنهم على هذه الصفة من العجز والبعد عن أحوال الربوبية ، فكيف يصحّ أن يُدْعوا كما يدعى ويُرجوا كما يرجى ، فإن قلت : أين مفعولا زعم؟ قلت : أحدهما الضمير المحذوف الراجع منه إلى الموصول . وأمّا الثاني فلا يخلو إمّا أن يكون { مِن دُونِ الله } أو { لاَّ يَمْلِكُونَ } أو محذوفاً فلا يصحّ الأول ، لأنّ قولك : هم من دون الله ، لا يلتئم كلاماً ، ولا الثاني ، لأنهم ما كانوا يزعمون ذلك ، فكيف يتكلمون بما هو حجة عليهم؛ وبما لو قالوه قالوا ما هو حق وتوحيد؟ فبقي أن يكون محذوفاً تقديره : زعمتموهم آلهة من دون الله فحذف الراجع إلى الموصول كما حذف في قوله : { أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] استخفافاً ، لطول الموصول لصلته ، وحذف آلهة لأنه موصوف صفته { مِن دُونِ الله } والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوماً ، فإذاً مفعولا زعم محذوفان جميعاً بسببين مختلفين .
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
تقول : الشفاعة لزيد ، على معنى أنه الشافع ، كما تقول : الكرم لزيد : وعلى معنى أنه المشفوع له ، كما تقول : القيام لزيد ، فاحتمل قوله : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أن يكون على أحد هذين الوجهين ، أي : لا تنفع الشفاعة إلاّ كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له . أو لا تنفع الشفاعة إلاّ كائنة لمن أذن له ، أي : لشفيعه ، أو هي اللام الثانية في قولك : أذن لزيد لعمرو ، أي لأجله ، كأنه قيل : إلاّ لمن وقع الأذن للشفيع لأجله ، وهذا وجه لطيف وهو الوجه ، وهذا تكذيب لقولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . فإن قلت : بما اتصل قوله : { حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } ولأي شيء وقعت حتى غاية؟ قلت : بما فهم من هذا الكلام من أنّ ثم انتظاراً للإذن وتوقعاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ وأنه لا يطلق الإذن إلاّ بعد مليِّ من الزمان ، وطول من التربص ، ومثل هذه الحال دلّ عليه قوله عزّ وجلّ { رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 37- 38 ] كأنه قيل : يتربصون ويتوقفون كلياً فزعين وهلين ، حتى إذا فزع عن قلوبهم ، أي : كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزّة في إطلاق الإذن : تباشروا بذلك وسأل بضعهم بعضاً { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ } قال { الحق } أي القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى . وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 913 ) " فَإذَا أُذِنَ لِمَنْ أُذنَ أَنْ يَشْفَعَ فزعْتهُ الشفاعةُ " وقرىء : «أذن له» ، أي : أذن له الله ، وأذن له على البناء للمفعول . وقرأ الحسن : «فزع» مخففاً ، بمعنى فزع . وقرىء : «فزع» ، على البناء للفاعل ، وهو الله وحده ، وفزع ، أي : نفى الوجل عنها وأفنى ، من قولهم : فرغ الزاد ، إذا لم يبق منه شيء . ثم ترك ذكر الوجل وأسند إلى الجار والمجرور ، كما تقول : دفع إليّ زيد ، إذا علم ما المدفوع وقد تخفف ، وأصله : فرغ الوجل عنها ، أي : انتفى عنها ، وفني ثم حذف الفاعل وأسند إلى الجار والمجرور . وقرأ : «افرنقع عن قلوبهم» ، بمعنى : انكشف عنها . وعن أبي علقمة أنه هاج به المرار فالتف عليه الناس ، فلما أفاق قال : ما لكم تكأكأتم عليَّ تكأكأكم على ذي جنة؟ افرنقعوا عني . والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين ، كما ركب «اقمطر» من حروف القمط ، مع زيادة الراء . وقرىء : «الحق» بالرفع ، أي : مقولة الحق { وَهُوَ العلى الكبير } ذو العلو والكبرياء ، ليس لملك ولا نبيّ أن يتكلم ذلك اليوم إلاّ بإذنه ، وأن يشفع إلاّ لمن ارتضى .
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
أمره بأن يقررهم بقوله : { مَن يَرْزُقُكُم } ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله : يرزقكم الله . وذلك بالإشعار بأنهم مقرّون به بقلوبهم ، إلاّ أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به؛ لأن الذي تمكن في صدورهم من العناد وحب الشرك قد ألجم أفواههم عن النطق بالحق مع علمهم بصحته ، ولأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم : لزمهم أن يقال لهم : فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق ، ألا ترى إلى قوله : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار } [ يونس : 31 ] حتى قال : { فَسَيَقُولُونَ الله } [ يونس : 31 ] ثم قال : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } [ يونس : 32 ] فكأنهم كانوا يقرّون بألسنتهم مرّة ، ومرّة كانوا يتلعثمون عناداً وضراراً وحذاراً من إلزام الحجة ، ونحوه قوله عزّ وجلّ : { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض قُلِ الله قُلْ أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُون لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرّا } [ الرعد : 16 ] وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } ومعناه : وإنّ أحد الفريقين من الذين يوحدون الرازق من السموات والأرض بالعبادة ومن الذين يشركون به الجماد الذي لا يوصف بالقدرة ، لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال ، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به : قد أنصفك صاحبك ، وفي درجة بعد تقدّمه ما قدم من التقرير البليغ : دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين ، ولكن التعريض والتورية أنضل بالمجادل إلى الغرض ، وأهجم به على الغلبة ، مع قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينا ونحوه قول الرجل لصاحبه : علم الله الصادق مني ومنك ، وإن أحدنا لكاذب . ومنه بيت حسان :
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
فإن قلت : كيف خولف بين حرفيّ الجرّ الداخلين على الحق والضلال؟ قلت : لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء ، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يدري أن يتوجه . وفي قراءة أبيّ : «وإنا أو أياكم إما على هدى أو في ضلال مبين» .
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
هذا أدخل في الإنصاف أبلغ فيه من الأوّل ، حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين والعمل إلى المخاطبين ، وإن أراد بالإجرام : الصغائر والزلات التي لا يخلو منها مؤمن ، وبالعمل : الكفر والمعاصي العظام . وفتح الله بينهم : وهو حكمه وفصله : أنه يدخل هؤلاء الجنة وأولئك النار .
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
فإن قلت : ما معنى قوله : { أَرُونِىَ } وكان يراهم ويعرفهم؟ قلت : أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله ، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم ليطلعهم على إحالة القياس إليه والإشراك به . و { كَلاَّ } ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسده بإبطال المقايسة ، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ الأنبياء : 67 ] بعد ما حجهم ، وقد نبه على تفاحش غلطهم وإن لم يقدروا حق الله قدره بقوله : { هُوَ الله العزيز الحكيم } كأنه قال : أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات وهو راجع إلى الله وحده . أو ضمير الشأن ، كما في قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] .
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
{ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم؛ لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم . وقال الزجاج المعنى أرسلناك جامعاً للناس في الإنذار والإبلاغ ، فجعله حالاً من الكاف وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة ، ومن جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ؛ لأنّ تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار ، وكم ترى ممن يرتكب هذا بالخطأ ثم لا يقنع به حتى يضمّ إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأوّل إلا الخطأ الثاني ، فلا بدّ له من ارتكاب الخطأين .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قرىء : «ميعاد يوم» . ومعياد يوم . وميعاد يوما . والميعاد : ظرف الوعد من مكان أو زمان ، وهو ههنا الزمان . والدليل عليه قراءة من قرأ : ميعاد يوم فأبدل منه اليوم . فإن قلت : فما تأويل من أضافه إلى يوم ، أو نصب يوماً؟ قلت : أما الإضافة فإضافة تبيين ، كما تقول : سحق ثوب ، وبعير سانية . وأما نصب اليوم فعلى التعظيم بإضمار فعلى تقديره : لكم ميعاد ، أعني يوماً أو أريد يوماً من صفته كيت وكيت . ويجوز أن يكون الرفع على هذا ، أعني التعظيم . فإن قلت : كيف انطبق هذا جواباً على سؤالهم؟ قلت : ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلاّ تعنتاً ، ولا استرشاداً ، فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقاً لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت ، وأنهم مرصدون ليوم يفاجؤهم ، فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدّماً عليه .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
الذي بين يديه : ما نزل قبل القرآن من كتب الله ، يروى : أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم ، فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع ما تقدمه من كتب الله عزّ وجلّ في الكفر ، فكفروا بها جميعاً . وقيل : الذي بين يديه يوم القيامة . والمعنى : أنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله تعالى ، وأن يكون لما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة ، ثم أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسوله عليه الصلاة والسلام أو للمخاطب { وَلَوْ تَرَى } في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحادثة ويتراجعونها بينهم ، لرأيت العجيب ، فحذف الجواب . والمستضعفون : هم الأتباع ، والمستكبرون : هم الرؤوس والمقدّمون .
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
أولى الاسم أعني { نَحْنُ } حرف الإنكار؛ لأنّ الغرض إنكار أن يكونوا هم الصادّين لهم عن الإيمان ، وإثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عنه ، وأنهم أتوا من قبل اختيارهم ، كأنهم قالوا : أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين كونكم ممكنين مختارين { بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ } بعد أن صممتم على الدخول في الإيمان وصحّت نياتكم في اختياره؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلال على الهدى وأطعتم آمر الشهوة دون آمر النهي ، فكنتم مجرمين كافرين لاختياركم لا لقولنا وتسويلنا . فإن قلت : إذ وإذا من الظروف اللازمة للظرفية ، فلم وقعت إذ مضافاً إليها؟ قلت : قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره ، فإضيف إليها الزمان ، كما أضيف إلى الجمل في قولك : جئتك بعد إذ جاء زيد ، وحينئذ ، ويومئذ ، وكان ذلك أوان الحجاج أمير ، وحين خرج زيد . لما أنكر المستكبرون بقولهم : { أَنَحْنُ صددناكم } أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وأثبتوا بقولهم : { بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } أن ذلك بكسبهم واختيارهم ، كرّ عليهم المستضعفون بقولهم : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } فأبطلوا بإضرابهم ، كأنهم قالوا : ما كان الإجرام من جهتنا ، بل من جهة مكركم لنا دائباً ليلاً ونهاراً ، وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد . ومعنى مكر الليل والنهار : مكركم في الليل والنهار ، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه . أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي . وقرىء : «بل مكر الليل والنهار» بالتنوين ونصب الظرفين . وبل مكرّ الليل والنهار بالرفع والنصب . أي تكرّون الإغواء مكرّاً دائباً لا تفترون عنه ، فإن قلت : ما وجه الرفع والنصب؟ قلت : هو مبتدأ أو خبر ، على معنى : بل سبب مكركم أو مكرّكم أو مكركم أو مكرّكم سبب ذلك . والنصب على : بل تكرّون الإغواء مكرّ الليل والنهار . فإن قلت : لم قيل : { قَالَ الذين استكبروا } ، بغير عاطف؛ وقيل : { وَقَالَ الذين استضعفوا } ؟ قلت : لأن الذين استضعفوا مرّ أولاً كلامهم ، فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف ، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين ، فعطف على كلامهم الأوّل . فإن قلت : من صاحب الضمير في { وَأَسَرُّواْ } قلت : الجنس المشتمل على النوعين من المستكبرين والمستضعفين ، وهم الظالمون في قوله : { إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ } [ سبأ : 31 ] يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم ، والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين { فِى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ } أي في أعناقهم ، فجاء بالصريح للتنويه بذمهم ، وللدلالة على ما استحقوا به الأغلال . وعن قتاده : أسروا الكلام بذلك بينهم . وقيل : أسروا الندامة أظهروها ، وهو من الأضداد .
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما مني به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به ، والمنافسة بكثرة الأموال والأولاد ، والمفاخرة وزخارفها ، والتكبر بذلك على المؤمنين ، والاستهانة بهم من أجله ، وقولهم : { أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلاّ قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة وكادوه بنحو ما كادوه به ، وقاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا ، واعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم ، ولولا أنّ المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم؛ فعلى قياسهم ذلك قالوا : { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم ، نظراً إلى أحوالهم في الدنيا .
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
وقد أبطل الله تعالى حسبانهم بأنّ الرزق فضل من الله يقسمه كما يشاء على حسب ما يراه من المصالح ، فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع ، وربما عكس ، وربما وسع عليهما وضيق عليهما ، فلا ينقاس عليه أمر الثواب الذي مبناه على الاستحقاق . وقدر الرزق : تضييقه . قال تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] وقرىء : «ويقدّر» بالتشديد والتخفيف .
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)
أراد : وماجماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم ، وذلك أنّ الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث ، ويجوز أن يكون التي هي التقوى وهي المقربة عند الله زلفى وحدها ، أي : ليست أموالكم بتلك الموضوعة للتقريب . وقرأ الحسن : باللاتي تقرّبكم؛ لأنها جماعات . وقرىء : «بالذي يقرّبكم» ، أي : بالشيء الذي يقرّبكم . والزلفى والزلفة : كالكربى والكربة ، ومحلها النصب ، أي : تقرّبكم قربة ، كقوله تعالى : { أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] { إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ } استثناء من { كَمْ } في { تُقَرّبُكُمْ } ، والمعنى : أنّ الأموال لا تقرب أحداً إلاّ المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله ، والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة ، { جزآءالضعف } من إضافة المصدر إلى المفعول ، أصله : فأولئك لهم أن يجازوا الضعف ، ثم جزاء الضعف ، ثم جزاء الضعف . ومعنى جزاء الضعف : أن تضاعف لهم حسناتهم ، الواحدة عشراً . وقرىء : «جزاء الضعف» ، على : فأولئك لهم الضعف جزاء وجزاء الضعف على : أن يجازوا الضعف ، وجزاء الضعف مرفوعان : الضعف بدل من جزاء . وقرىء : { فِى الغرفات } بضم الراء وفتحها وسكونها . وفي الغرفة .
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
{ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } فهو يعوّضه لا معوّض سواه : إما عاجلاً بالمال ، أو القناعة التي هي كنز لا ينفد . وإما آجلاً بالثواب الذي كل خلف دونه . وعن مجاهد : من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد ، فإنّ الرزق مقسوم ، ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه ، فينفق جميع ما في يده ثم يبقى طول عمره في فقر ، ولا يتأولنّ : وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ، فإن هذا في الآخرة . ومعنى الآية : وما كان من خلف فهو منه { خَيْرُ الرازقين } وأعلاهم ربّ العزّة ، بأن كل ما رزق غيره : من سلطان يرزق جنده ، أو سيد يرزق عبده أو رجل يرزق عياله : فهو من رزق الله ، أجراه على أيدي هؤلاء ، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق . وعن بعضهم : الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي؛ فكم من مشته لا يجد ، وواجد لا يشتهي .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار ، وارد على المثل السائر :
إيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ ... ونحوه قوله تعالى : { أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزهين برآء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير ، والغرض أن يقول ويقولوا ، ويسأل ويجيبوا؛ فيكون تقريعهم أشدّ ، وتعبيرهم أبلغ ، وخجلهم أعظم : وهو أنه ألزم ، ويكون اقتصاص ذلك لطفاً لمن سمعه ، وزاجراً لمن اقتص عليه . والموالاة : خلاف المعاداة . ومنها : اللَّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه . وهي مفاعلة من الولي وهو القرب ، كما أنّ المعاداة من العدواء ، وهي البعد ، والولي : يقع على الموالي والموالى جميعاً . والمعنى أنت الذي نواليه من دونهم ، إذ لا موالاة بيننا وبينهم ، فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار : براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم؛ لأنّ من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } يريدون الشياطين ، حيث أطاعوهم في عبادة غير الله . وقيل : صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها . وقيل : كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت ، فيعبدون بعبادتها . وقرىء : «نحشرهم» ونقول ، بالنون والياء .
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
الأمر في ذلك اليوم لله وحده ، لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرّة لأحد ، لأنّ الدار دار ثواب وعقاب ، والمثيب والمعاقب هو الله ، فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار تكليف ، والناس فيها مخلى بينهم ، يتضارّون ويتنافعون . والمراد : أنه لا ضارّ ولا نافع يومئذ إلا هو وحده ، ثم ذكر معاقبته الظالمين بقوله : { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } معطوفاً على { لاَ يَمْلِكُ } .
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
الإشارة الأولى : إلى النبي صلى الله عليه وسلم . والثانية : إلى القرآن . والثالثة : إلى الحق . والحق أمر النبوّة كله ودين الإسلام كما هو . وفي قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } وفي أن لم يقل وقالوا ، وفي قوله : { لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ } وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه ، وما في ( لما ) من المبادهة بالكفر : دليل على صدور الكلام عن إنكار عظيم وغضب شديد ، وتعجيب من أمرهم بليغ ، كأنه قال : وقال أولئك الكفرة المتمرّدون بجراءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق النير قبل أن يذوقوه { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } فبتوا القضاء على أنه سحر ، ثم بتوه على أنه بين ظاهر كل عاقل تأمّله سماه سحراً .
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
وما آتيناهم كتباً يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك ، ولا أرسلنا إليهم نذيراً ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا ، كما قال عزّ وجلّ : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } [ الروم : 35 ] أو وصفهم بأنهم قوم أمّيون أهل جاهلية لا ملة لهم وليس لهم عهد بإنزال كتاب ولا بعثه رسول كما قال : { أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } [ الزخرف : 21 ] فليس لتكذيبهم وجه متشبث ، ولا شبهة متعلق ، كما يقول أهل الكتاب وإن كانوا مبطلين : نحن أهل كتب وشرائع ، ومستندون إلى رسل ومن رسل الله . ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ } تقدّموهم من الأمم والقرون الخالية كما كذبوا ، وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوّة الأجرام وكثرة الأموال ، فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ، ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم به مستظهرون ، فما بال هؤلاء؟ وقرىء : «يدرّسونها» من التدريس وهو تكرير الدرس . أو من درّس الكتاب ، ودرّس الكتب : ويدرّسونها ، بتشديد الدال ، يفتعلون من الدرس . والمعشار كالمرباع ، وهما : العشر . والرابع . فإن قلت : فما معنى { فَكَذَّبُواْ رُسُلِى } وهو مستغنى عنه بقوله : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } ؟ قلت : لما كان معنى { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } : وفعل الذين من قبلهم التكذيب ، وأقدموا عليه : جعل تكذيب الرسل مسبباً عنه ونظيره أن يقول القائل : أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن ينعطف على قوله : وما بلغوا ، كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فتفضل عليه { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي للمكذبين الأوّلين ، فليحذروا من مثله .
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
{ بواحدة } بخصلة واحدة ، وقد فسرها بقوله : { أَن تَقُومُواْ } على أنه عطف بيان بها ، وأراد بقيامهم : إما القيام على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرّقهم عن مجتمعهم عنده وإما القيام الذي لا يراد به المثول على القدمين ، ولكن الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمة والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم ، وهي : أن تقوموا لوجه الله خالصاً . متفرّقين اثنين اثنين ، وواحداً واحداً { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به . أمّا الاثنان : فيتفكران ويعرض كلّ واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه متصادقين متناصفين ، لا يميل بهما اتباع هوى ولا ينبض لهما عرق عصبية ، حتى يهجم بهما الفكر الصالح والنظر على جادة الحق وسننه ، وكذلك الفرد : يفكر في نفسه بعدل ونصفة من غير أن يكابرها ويعرض فكره على عقله وذهنه وما استقر عنده من عادات العقلاء ومجاري أحوالهم ، والذي أوجب تفرّقهم مثنى وفرادى : أنّ الاجتماع مما يشوش الخواطر ، ويعمي البصائر ، ويمنع من الروية ، ويخلط القول؛ ومع ذلك يقل الإنصاف ، ويكثر الاعتساف ، ويثور عجاج التعصب ، ولا يسمع إلاّ نصرة المذهب ، وأراهم بقوله : { مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } أن هذا الأمر عظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة جميعاً ، لا يتصدّى لادعاء مثله إلاّ رجلان : إمّا مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان فعجز ، بل لا يدري ما الافتضاح وما رقبة العواقب . وإمّا عاقل راجح العقل مرشح للنبوّة ، مختار من أهل الدنيا ، لا يدعيه إلا بعد صحته عنده بحجته وبرهانه ، وإلا فما يجدي على العاقل دعوى شيء لا بينة له عليه ، وقد علمتم أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم ما به من جنة ، بل علمتموه أرجح قريش عقلاً ، وأرزنهم حلماً وأثقبهم ذهناً وآصلهم رأياً ، وأصدقهم قولاً ، وأنزههم نفساً ، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال ويمدحون به؛ فكان مظنّة لأن تظنوا به الخير ، وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب؛ وإذا فعلتم ذلك كفاكم أن تطالبوه بأن يأتيكم بآية ، فإذا أتى بها تبين أنه نذير مبين . فإن قلت : { مَا بصاحبكم } بم يتعلق؟ قلت : يجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً تنبيهاً من الله عزّ وجلّ على طريقة النظر في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويجوز أن يكون المعنى : ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة ، وقد جوّز بعضهم أن تكون ما استفهامية { بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } كقوله عليه الصلاة والسلام :
( 914 ) « بعثت في نسم الساعة » .
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
{ فَهُوَ لَكُمْ } جزاء الشرط الذي هو قوله : { مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ } تقديره : أيّ شيء سألتكم من أجر فهو لكم ، كقوله تعالى : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] وفيه معنيان ، أحدهما : نفي مسألة الأجر رأساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئاً فخذه ، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئاً ولكنه يريد به البت؛ لتعليقه الأخذ بما لم يكن . والثاني : أن يريد بالأجر ما أراد في قوله تعالى : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ] وفي قوله : { قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى } [ الشورى : 23 ] لأنّ اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم وما فيه نفعهم ، وكذلك المودّة في القرابة ، لأنّ القرابة قد انتظمته وإياهم { على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } حفيظ مهيمن ، يعلم أني لا أطلب الأجر على نصيحتكم ودعائكم إليه إلا منه ، ولا أطمع منكم في شيء .
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
القذف والرمي : تزجية السهم ونحوه بدفع واعتماد ، ويستعاران من حقيقتهما لمعنى الإلقاء ومنه قوله تعالى : { وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب } [ الأحزاب : 26 ] ، [ الحشر : 2 ] ، { أَنِ اقذفيه فِى التابوت } [ طه : 39 ] ومعنى { يَقْذِفُ بالحق } يلقيه وينزله إلى أنبيائه . أو يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه { علام الغيوب } رفع محمول على محل إن واسمها ، أو على المستكن في يقذف ، أو هو خبر مبتدإ محذوف . وقرىء : بالنصب صفة لربي ، أو على المدح . وقرىء : «الغيوب» بالحركات الثلاث ، فالغيوب كالبيوت . والغيوب كالصبور ، وهو الأمر الذي غاب وخفي جداً .
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
والحيّ إمّا أن يبدىء فعلاً أو يعيده فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة ، فجعلوا قولهم : لا يبدىء ولا يعيد مثلاً في الهلاك . ومنه قول عبيد :
أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عَبِيدُ ... فَالْيَوْمَ لاَ يُبْدِي وَلاَ يُعِيدُ
والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل ، كقوله تعالى : { جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل } [ الإسراء : 81 ] وعن ابن مسعود رضي الله عنه :
( 915 ) دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها بعود نبعة ويقول : { جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقًا } [ الإسراء : 81 ] ، { جَاء الحق وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ } . والحق : القرآن . وقيل : الإسلام . وقيل : السيف . وقيل : الباطل : إبليس لعنه الله ، أي : ما ينشىء خلقاً ولا يعيده ، المنشيء والباعث : هو الله تعالى . وعن الحسن : لا يبدىء لأهله خيراً ولا يعيده ، أي : لا ينفعهم في الدنيا والآخرة . وقال الزجاج : أيّ شيء ينشيء إبليس ويعيده ، فجعله للاستفهام . وقيل للشيطان : الباطل؛ لأنه صاحب الباطل؛ أو لأنه هالك كما قيل له : الشيطان ، من شاط إذا هلك .
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
قرىء : «ضللت أضلّ» بفتح العين مع كسرها . وضللت أضلّ ، بكسرها مع فتحها ، وهما لغتان ، نحو : ظللت أظلّ وظللت أظل . وقرىء : «إضلّ» بكسر الهمزة مع فتح العين . فإن قلت : أين التقابل بين قوله : { فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى } وقوله : { يُوحِى إِلَىَّ رَبّى } وإنما كان يستقيم أن يقال : فإنما أضل على نفسي ، وإن اهتديت فإنما اهتدى لها ، كقوله تعالى : { مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها . أو يقال : فإنما أضلّ بنفسي . قلت : هما متقابلان من جهة المعنى؛ لأنّ النفس كل ما عليها فهو بها ، أعني : أن كل ما هو وبال عليها وضار لها فهو بها وبسببها : لأنّ الأمّارة بالسوء ، وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه ، وهذا حكم عامّ لكل مكلف ، وإنما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسنده إلى نفسه؛ لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة حمله وسداد طريقته كان غيره أولى به { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } يدرك قول كل ضالّ ومهتد ، وفعله لا يخفى عليه منهما شيء .
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
{ وَلَوْ تَرَى } جوابه محذوف ، يعني : لرأيت أمراً عظيماً وحالاً هائلة . و «لو» و «إذ» والأفعال التي هي «فزعوا» و «أخذوا» وحيل بينهم : كلها للمضي . والمراد بها الاستقبال؛ لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه ، ووقت الفزع : وقت البعث وقيام الساعة . وقيل : وقت الموت . وقيل : يوم بدر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في خسف البيداء ، وذلك أن ثمانين ألفاً يغزون الكعبة ليخربوها ، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم { فَلاَ فَوْتَ } فلا يفوتون الله ولا يسبقونه . وقرىء : «فلا فوت» والأخذ من مكان قريب : من الموقف إلى النار إذا بعثوا . أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا . أو من صحراء بدر إلى القليب . أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم . فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأُخِذُواْ } ؟ قلت : فيه وجهان : العطف على فزعوا ، أي : فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم . أو على لا فوت ، على معنى : إذا فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا . وقرىء : «وأخذ» وهو معطوف على محل لا فوت ومعناه : فلا فوت هناك ، وهناك أخذ .
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
{ ءَامَنَّا بِهِ } بمحمد صلى الله عليه وسلم لمرور ذكره في قوله : { مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } : والتناوش والتناول : أخوان؛ إلاّ أنّ التناوش تناول سهل لشيء قريب ، يقال ناشه ينوشه ، وتناوشه القوم . ويقال : تناوشوا في الحرب : ناش بعضهم بعضاً . وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا : مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة ، كما يتناوله الآخر من قيس [ مقدار ] ذراع تناولاً سهلاً لا تعب فيه . وقرىء : «التناؤش» : همزت الواو المضمومة كما همزت في أجؤه وأدؤر وعن أبي عمرو التناوش بالهمز التناول من بعد من قولهم : نأشت إذا أبطأت وتأخرت . ومنه البيت :
تَمَنَّى نَئِيشاً أَنّ يَكُونَ أَطَاعَنِي ... أي أخيراً { وَيَقْذِفُونَ } معطوف على قد كفروا ، على حكاية الحال الماضية ، يعني : وكانوا يتكلمون { بالغيب } ويأتون به { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } وهو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر ، ساحر ، كذاب . وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي ، لأنهم لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً ، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله ، لأن أبعد شيء مما جاء به : الشعر والسحر ، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت : الكذب والزور : قرىء : «ويقذفون بالغيب» ، على البناء للمفعول ، أي : يأتيهم به شياطينهم ويلقنوهم إياه ، وإن شئت فعلقه بقوله : { وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ } على أنه مثلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في الآخرة ، وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئاً من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه ، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائباً عنه شاحطاً ، والغيب : الشيء الغائب ، ويجوز أن يكون الضمير للعذاب الشديد في قوله : { بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيد } [ سبأ : 46 ] وكانوا يقولون : وما نحن بمعذبين ، إن كان الأمر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب ، ونحن أكرم على الله من أن يعذّبنا ، قائسين أمر الآخرة على أمر الدنيا؛ فهذا كان قذفهم بالغيب ، وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة؛ لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف { مَّا يَشْتَهُونَ } من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة . أو من الردّ إلى الدنيا ، كما حكى عنهم { ارْجِعْنَا نَعْمَلْ صالحا } [ السجدة : 12 ] . { بأشياعهم } بأشباههم من كفرة الأمم ومن كان مذهبه مذهبهم { مُرِيبٍ } إما من أرابه ، إذا أوقعه في الريبة والتهمة . أو من أراب الرجل ، إذا صار ذا ريبة ودخل فيها ، وكلاهما مجاز؛ إلاّ أنّ بينهما فريقاً وهو أن المريب من الأول منقول ممن يصحّ أن يكون مريباً من الأعيان إلى المعنى ، والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك ، كما تقول : شعر شاعر .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 916 ) " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ سَبإٍ لَمْ يَبْقَ رسولٌ ولا نَبِيٌّ إلاّ كانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفِيقاً ومُصَافِحاً " .
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
{ فَاطِرَ السماوات } مبتدئها ومبتدعها . وعن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : ما كنت أدري ما فاطر السموات والأرض ، حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي ابتدأتها . وقرىء : الذي فطر السموات والأرض وجعل الملائكة . وقرىء : ( جاعل الملائكة ) ، بالرفع على المدح { رُسُلاً } بضم السين وسكونها { أُوْلِى أَجْنِحَةٍ } أصحاب أجنحة ، وأولوا : اسم جمع لذوو ، كما أن أولاء اسم جمع لذا ، ونظيرهما في المتمكنة : المخاض والخلفة { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } صفات لأجنحة ، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها ، وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر ، كما عدل عمر عن عامر ، وحذام عن حاذمة ، وعن تكرير إلى غير تكرير ، وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيما بين المعدولة والمعدول عنها . ألا تراك تقول : مررت بنسوة أربع ، وبرجال ثلاثة ، فلا يعرج عليها؛ والمعنى : أن الملائكة خلقاً أجنحتهم اثنان اثنان ، أي : لكل واحد منهم جناحان ، وخلقاً أجنحتهم ثلاثة ثلاثة . وخلقاً أجنحتهم أربعة أربعة { يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء } أي : يزيد في خلق الأجنحة ، وفي غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته . والأصل الجناحان : لأنهما بمنزلة اليدين ، ثم الثالث والرابع زيادة على الأصل ، وذلك أقوى للطيران وأعون عليه ، فإن قلت : قياس الشفع من الأجنحة أن يكون في كل شقّ نصفه ، فما صورة الثلاثة؟ قلت : لعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدّهما بقوة . أو لعله لغير الطيران؛ فقد مرّ في بعض الكتب أن صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بها أجسادهم ، وجناحان يطيران بهما في الأمر من أمور الله ، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله . وعن رسو ل الله صلى الله عليه وسلم :
( 917 ) " أنه رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح " وروي :
( 918 ) " أنه سأل جبريل عليه السلام أن يتراءى له في صورته فقال : إنك لن تطيق ذلك . قال : إني أحب أن تفعل " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة ، فأتاه جبريل في صورته فغشي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أفاق وجبريل عليه السلام مسنده وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه ، فقال : " سبحان الله ما كنت أرى أن شيئاً من الخلق هكذا " ، فقال جبريل : فكيف لو رأيت إسرافيل : له اثنا عشر جناحاً : جناح منها بالمشرق ، وجناح بالمغرب ، وإن العرش على كاهله ، وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع وهو العصفور الصغير . وروي : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { يَزِيدُ في الخلق مَا يَشَاء } :
( 919 ) " هو الوجه الحسن ، والصوت الحسن ، والشعر الحسن " وقيل : «الحظ الحسن» ، وعن قتادة : الملاحة في العينين ، والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق : من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام في الأعضاء؛ وقوة في البطش؛ وحصافة في العقل ، وجزالة في الرأي ، وجراءة في القلب ، وسماحة في النفس ، وذلاقة في اللسان ولباقة في التكلم ، وحسن تأنّ في مزاولة الأمور؛ وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف .
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
استعير الفتح للإطلاق والإرسال . ألا ترى إلى قوله : { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } مكان : لا فاتح له ، يعني : أي شيء يطلق الله من رحمة أي من نعمة رزق أو مطر أو صحة أو أمن أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها ، وتنكيره الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنه قال : من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية ، فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها ، وأيّ شيء يمسك الله فلا أحد يقدر على إطلاقه . فإن قلت : لم أنث الضمير أوّلاً ، ثم ذكر آخراً؟ وهو راجع في الحالين إلى الاسم المتضمن معنى الشرط؟ قلت : هما لغتان : الحمل على المعنى وعلى اللفظ ، والمتكلم على الخيرة فيهما ، فأنث على معنى الرحمة ، وذكر على أن لفظ المرجوع إليه لا تأنيث فيه ، ولأن الأوّل فسر بالرحمة ، فحسن اتباع الضمير التفسير ، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير وقرىء : «فلا مرسل لها» . فإن قلت : لا بدّ للثاني من تفسير ، فما تفسيره؟ قلت : يحتمل أن يكون تفسيره مثل تفسير الأول . ولكنه ترك لدلالته عليه ، وأن يكون مطلقاً في كل ما يمسكه من غضبه ورحمته ، وإنما فسر الأوّل دون الثاني للدلالة على أن رحمته سبقت غضبه . فإن قلت : فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة وعزاه إلى ابن عباس رضي الله عنهما؟ قلت : إن أراد بالتوبة الهداية لها والتوفيق فيها - وهو الذي أراده ابن عباس رضي الله عنهما إن قاله - فمقبول؛ وإن إراد أنه إن شاء أن يتوب العاصي تاب ، وإن لم يشأ لم يتب؛ فمردود؛ لأنّ الله تعالى يشاء التوبة أبداً ، ولا يجوز عليه أن يشاءها { مِن بَعْدِهِ } من بعد إمساكه ، كقوله تعالى : { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله } [ الجاثية : 23 ] ، { فَبِأَىّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله } [ الجاثية : 6 ] أي من بعد هدايته وبعد آياته { وَهُوَ العزيز } الغالب القادر على الإرسال والإمساك { الحكيم } الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط ، ولكن به وبالقلب ، وحفظها من الكفران والغمط وشكرها بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاعة موليها . ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه : اذكر أياديّ عندك . يريد حفظها وشكرها والعمل على موجبها ، والخطاب عام للجميع لأنّ جميعهم مغمورون في نعمة الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد : يا أهل مكة اذكروا نعمة الله عليكم ، حيث اسكنكم حرمة ومنعكم من جميع العالم ، والناس يتخطفون من حولكم . وعنه : نعمة الله العافية . وقرىء : «غير الله» بالحركات الثلاث؛ فالجرّ والرفع على الوصف لفظاً ومحلاً ، والنصب على الاستثناء . فإن قلت : ما محل { يَرْزُقُكُمْ } ؟ قلت : يحتمل أن يكون له محل إذا أوقعته صفة لخالق وأن لا يكون له محل إذا رفعت محل من خالق ، بإضمار يرزقكم ، وأوقعت يرزقكم تفسيراً له ، أو جعلته كلاماً مبتدأ بعد قوله : { هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله } . فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الخالق لا يطلق على غير الله تعالى؟ قلت : نعم إن جعلت { يَرْزُقُكُمْ } كلاماً مبتدأ وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة . وإمّا على الوجهين الآخرين : وهما الوصف والتفسير . فقد يقيد فيهما بالرزق من السماء والأرض ، وخرج من الإطلاق ، فكيف يستشهد به على اختصاصه ، بالإطلاق؛ والرزق من السماء المطر ، ومن الأرض النبات { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } جملة مفصولة لا محل لها [ من الإعراب ] ، مثل : يرزقكم في الوجه الثالث ، ولو وصلتها كما وصلت يرزقكم لم يساعد عليه المعنى؛ لأن قولك : هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلاّ ذلك الخالق : غير مستقيم : لأن قولك : هل من خالق سوى الله إثبات لله . فلو ذهبت تقول ذلك : كنت مناقضاً بالنفي بعد الإثبات { فأنى تُؤْفَكُونَ } فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك؟ .
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
نعى به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله ، وتكذيبهم بها ، وسلى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن له في الأنبياء قبله أسوة حسنة ، ثم جاء بما يشتمل على الوعد والوعيد : من رجوع الأمور إلى حكمة ومجازاة المكِذبْ والمكذَبْ بما يستحقانه . وقرىء : «ترجع» بضم التاء وفتحها . فإن قلت : ما وجه صحة جزاء الشرط؟ ومن حق الجزاء أن يتعقب الشرط وهذا سابق له . قلت : معناه : وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك ، فوضع : { فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } موضع : فتأس ، استغناء بالسبب عن المسبب : أعني بالتكذيب عن التأسي . فإن قلت : ما معنى التنكير في رسل؟ قلت : معناه فقد كذبت رسل ، أي رسل ذوو عدد كثير . وأولوا آيات ونذر . وأهل أعمار طوال وأصحاب صبر وعزم ، وما أشبه ذلك ، وهذا أسلى له ، وأحثّ على المصابرة .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
وعد الله الجزاء بالثواب والعقاب { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ } فلا تخدعنكم { الدنيا } ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } لا يقولن لكم اعملوا ما شئتم فإن الله غفور يغفر كل كبيرة ويعفو عن كل خطيئة . والغرور الشيطان لأن ذلك ديدنه . وقرىء بالضم وهو مصدر غره كاللزوم والنهوك أو جمع غارّ كقاعد وقعود أخبرنا الله عزّ وجلّ أن الشيطان لنا عدوّ مبين ، واقتص علينا قصته وما فعل بأبينا آدم عليه السلام ، وكيف انتدب لعداوة جنسنا من قبل وجوده وبعده ، ونحن على ذلك نتولاه ونطيعه فيما يريد منا مما فيه هلاكنا ، فوعظنا عزّ وجلّ بأنه كما علمتم عدوّكم الذي لا عدوّ أعرق في العداوة منه ، وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بحاله { فاتخذوه عَدُوّاً } في عقائدكم وأفعالكم . ولا يوجدن منكم إلاّ ما يدلّ على معاداته ومناصبته في سركم وجهركم . ثم لخص سر أمره وخطأ من اتبعه بأنّ غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته ومتبعي خطواته : هو أن يوردهم مورد الشقوة والهلاك ، وأن يكونوا من أصحاب السعير . ثم كشف الغطاء وقشر اللحاء ، ليقطع الأطماع الفارغة والأماني الكاذبة ، فبنى الأمر كله على الإيمان والعمل وتركهما .
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا ، قال لنبيه [ صلى الله عليه وسلم ] { أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً } يعني : أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين ، كمن لم يزين له ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا» فقال : { فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشآء وَيَهْدِى مَن يَشَآء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات } ومعنى تزيين العمل والإضلال واحد ، وهو أن يكون العاصي على صفة لا تجدي عليه المصالح ، حتى يستوجب بذلك خذلان الله تعالى وتخليته وشأنه ، فعند ذلك يهيم في الضلال ويطلق آمر النهي ، ويعتنق طاعة الهوى ، حتى يرى القبيح حسناً والحسن قبيحاً ، كأنما غلب على عقله وسلب تمييزه ، ويقعد تحت قول أبي نواس :
اْقِنِي حَتَّى تَرَانِي ... حَسَناً عِنْدِي الْقَبِيحُ
وإذا خذل الله المصممين على الكفر وخلاهم وشأنهم ، فإن على الرسول أن لا يهتم بأمرهم ولا يلقي بالاً إلى ذكرهم ، ولا يحزن ولا يتحسر عليهم : اقتداء بسنة الله تعالى في خذلانهم وتخليتهم . وذكر الزجاج أنّ المعنى : أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة ، فحذف الجواب لدلالة فلا تذهب نفسك عليه : أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله ، فحذف لدلالة { فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ } عليه حسرات : مفعول له يعني : فلا تهلك نفسك للحسرات . وعليهم صلة تذهب ، كما تقول : هلك عليه حباً ، ومات عليه حزناً . أو هو بيان للمتحسر عليه . ولا يجوز أن يتعلق بحسرات ، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته ، ويجوز أن يكون حالاً كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر ، كما قال جرير :
مَشَقَ الْهَوَاجِرُ لَحْمَهُنَّ مَعَ السُّرَى ... حَتَّى ذَهَبْنَ كَلاَكِلاً وَصُدُورَاً
يريد : رجعن كلاكلاً وصدوراً ، أي : لم يبق إلا كلاكلها وصدورها . ومنه قوله :
فَعَلَى إثْرِهِمْ تَسَاقَطُ نَفْسِي ... حَسَرَاتٍ وَذِكْرُهُمْ لِي سَقَامُ
وقرىء : «فلا تذهب نفسك» { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم .
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
وقرىء : «أرسل الريح» . فإن قلت : لم جاء { فَتُثِيرُ } على المضارعة دون ما قبله ، وما بعده؟ قلت؛ ليحكى الحال التي تقع فيها آثارة الرياح السحاب ، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدرة الربانية ، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية ، بحال تستغرب ، أو تهمّ المخاطب ، أو غير ذلك ، كما قال تأبّط شراً :
بِأَبِي قَدْ لَقِيتُ الْغُولَ تَهْوِي ... بَسَهْبٍ كَالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَان
فَأَضْرِبُهَا بِلاَ دَهَشٍ فَخَرَّت ... صَرِيعاً للْيَدَيْنِ وَلِلْجِرَانِ
لأنه قصد أن يصوّر لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول ، وكأنه يبصرهم إياها ويطلعهم على كنهها ، مشاهدة للتعجيب من جرأته على كل هول ، وثباته عند كلّ شدّة . وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت ، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها : لما كانا من الدلائل على القدرة الباهرة قيل : فسقنا ، وأحيينا؛ معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه . والكاف في { كذلك } في محلّ الرفع ، أي : مثل إحياء الموات نشور الأموات وروي :
( 920 ) أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى؟ وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ فقال : " هلْ مررتَ بِوَادِي أهْلك محلاً ثُمَّ مررتَ به يهتزّ خضراً " قال : نَعمْ . قالَ : " فكذلكَ يحيي الله الموتى وتلكَ آيتُهُ في خَلْقِهِ " وقيل : يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش كمني الرجال ، تنبت منه أجساد الخلق .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
كان الكافرون يتعزرون بالأصنام ، كما قال عزّ وجلّ : { واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } [ مريم : 81 ] ، والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين ، كما قال تعالى : { الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } [ النساء : 139 ] فبين أن لا عزة إلاّ لله ولأوليائه . وقال : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } والمعنى فليطلبها عند الله ، فوضع قوله : { فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } موضعه ، استغناء به عنه لدلالته عليه؛ لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه . ونظيره قولك : من أراد النصيحة فهي عند الأبرار ، تريد : فليطلبها عندهم؛ إلاّ أنك أقمت ما يدل عليه مقامه . ومعنى : { فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } أنّ العزّة كلها مختصة بالله : عزة الدنيا وعزة الآخرة . ثم عرف أن ما تطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } والكلم الطيب : لا إله إلاّ الله . عن ابن عباس رضي الله عنهما : يعني أنّ هذه الكلم لا تقبل . ولا تصعد إلى السماء فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة ، كما قال عزّ وجلّ : { إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ } [ المطففين : 18 ] إلاّ إذا اقترن بها العمل الصالح الذي يحققها ويصدقها فرفعها وأصعدها . وقيل : الرافع الكلم ، والمرفوع العمل؛ لأنه لا يقبل عمل إلاّ من موحد . وقيل : الرافع هو الله تعالى ، والمرفوع العمل . وقيل : الكلم الطيب : كل ذكر من تكبير وتسبيح وتهليل وقراءة قرآن ودعاء واستغفار وغير ذلك . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 921 ) « هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه » وفي الحديث :
( 922 ) « ولا يقبل الله قولاً إلاّ بعمل ، ولا يقبل قولاً ولا عملاً إلاّ بنية ، ولا يقبل قولاً وعملاً ونية إلا بإصابة السنة » وعن ابن المقفع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر . وقرىء : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } على البناء للمفعول . و { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } على تسمية الفاعل ، من أصعد والمصعد : هو الرجل أي يصعد إلى الله عزّ وجلّ الكلم الطيب ، وإليه يصعد الكلام الطيب . وقرىء : { والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } ، بنصب العمل والرافع الكلم أو الله عزّ وجلّ . فإن قلت : مكر : فعل غير متعدّ . لا يقال : مكر فلان عمله فبم نصب { السيئات } ؟ قلت : هذه صفة للمصدر ، أو لما في حكمه ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] أصله والذين مكروا والمكرات السيئات . أو أصناف المكر السيئات ، وعنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأي في إحدى ثلاث مكرات يمكرونها برسول الله صلى الله عليه وسلم : إما إثباته ، أو قتله ، أو إخراجه كما حكى الله سبحانه عنهم
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [ الأنفال : 30 ] . { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } يعني : مكر أولئك الذين مكروا تلك المكرات الثلاث هو خاصة يبور ، أي : يكسد ويفسد ، دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر ، فجمع عليهم مكراتهم جميعاً وحقق فيهم قوله : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ الأنفال : 30 ] وقوله : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } .
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
{ أزواجا } أصنافاً ، أو ذكرانا وإناثاً ، كقوله تعالى : { أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا } [ الشورى : 50 ] وعن قتادة رضي الله عنه : زوج بعضهم بعضاً { بِعِلْمِهِ } في موضع الحال ، أي : إلاّ معلومة له . فإن قلت : ما معنى قوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } ؟ قلت : معناه وما يعمر من أحد ، وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه ، فإن قلت : الإنسان إما معمر ، أي طويل العمر : أو منقوص العمر ، أي قصيره . فأما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال ، فكيف صحّ قوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } ؟ قلت : هذا من الكلام المتسامح فيه ، ثقة في تأويله بأفهام السامعين ، واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم ، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد . وعليه كلام الناس المستفيض . يقولون : لا يثيب الله عبداً ، ولا يعاقبه إلاّ بحق . وما تنعمت بلداً ولا أجتويته إلاّ قل فيه ثوائي وفيه تأويل آخر : هو أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلاّ في كتاب ، وصورته : أن يكتب في اللوح : إن حجّ فلان أو غزا فعمره أربعون سنة ، وإن حجّ وغزا فعمره ستون سنة ، فإذا جمع بينهما فبلع الستين فقد عمر . وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون ، فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون . وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :
( 923 ) " إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار " وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضي الله عنه : لو أن عمر دعا الله لأخّر في أجله ، فقيل لكعب : أليس قد قال الله : { إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ يونس : 49 ] قال : فقد قال الله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } وقد استفاض على الألسنة : أطال الله بقاءك ، وفسح في مدتك وما أشبهه . وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة ، ثم يكتب في أسفل ذلك : ذهب يوم ، ذهب يومان ، حتى يأتي على آخره . وعن قتادة رضي الله عنه : المعمر من بلغ الستين سنة ، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة ، والكتاب : اللوح . عن ابن عباس رضي الله عنهما : ويجوز أن يراد بكتاب الله : علم الله ، أو صحيفة الإنسان . وقرىء : «ولا ينقص» على تسمية الفاعل من عمره بالتخفيف .
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
ضرب البحرين : العذب والمالح مثلين للمؤمن والكافر ، ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علق بهما من نعمته وعطائه { وَمِنْ كُلّ } أي : ومن كل واحد منهما «تأكلون لحماً طرياً وهو السمك { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً } وهي اللؤلؤ والمرجان { وَتَرَى الفلك فِيهِ } في كل { مَوَاخِرَ } شواق للماء بجريها ، يقال : مخرت السفينة الماء . ويقال للسحاب : بنات مخر ، لأنها تمخر الهواء والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر ، لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره { مِن فَضْلِهِ } من فضل الله ، ولم يجر له ذكر في الآية ، ولكن فيما قبلها ، ولو لم يجر لم يشكل ، لدلالة المعنى عليه . وحرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة ، ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل ، كأنما قيل : لتبتغوا ، ولتشكروا . والفرات : الذي يكسر العطش . والسائغ : المريء السهل الانحدار لعذوبته . وقرىء : «سيغ» بوزن سيد : وسيغ بالتخفيف ، وملح : على فعل . والأجاج : الذي يحرق بملوحته . ويحتمل غير طريقة الاستطراد : وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين ، ثم يفضل البحر الأجاج على الكافر؛ بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ : وجرى الفلك فيه والكافر خلو من النفع ، فهو في طريقة قوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] ثم قال : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله } [ البقرة : 74 ] .
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
{ ذلكم } مبتدأ . و { الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك } أخبار مترادفة . أو { الله رَبُّكُمُ } خبران . وله الملك : جملة مبتدأة واقعة في قران قوله : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة . أو عطف بيان . وربكم خبراً . لولا أن المعنى يأباه : والقطمير : لفافة النواة ، وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها .
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
إن تدعوا الأوثان { لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ } لأنهم جماد { وَلَوْ سَمِعُواْ } على سبيل الفرض والتمثيل ل { مَا استجابوا لَكُمْ } لأنهم لا يدعون ما تدعون لهم من الإلهية ، ويتبرؤون منها . وقيل : ما نفعوكم { يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ أي باشراككم وعبادتكم إياهم يقولون كنتم إيانا تعبدون ] { وَلاَ يُنَبِئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم به . ويريد : أن الخبير بالأمر وحده ، هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به . والمعنى : أنّ هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق ، لأني خبير بما أخبرت به . وقرىء : «يدعون» ، بالياء والتاء .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
فإن قلت : لم عرف الفقراء؟ قلت : قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء ، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم ، لأن الفقر مما يتبع الضعف ، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر ، وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله : { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } [ النساء : 28 ] وقال سبحانه وتعالى : { الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ } [ الروم : 54 ] ولو نكر لكان المعنى أنتم بعض الفقراء . فإن قلت : قد قوبل الفقراء بالغنى ، فما فائدة الحميد؟ قلت : لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم - وليس كل غني نافعاً بغناه إلاّ إذا كان الغني جواداً منعماً فإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق - بإنعامه عليهم أن يحمدوه الحميد على ألسنه مؤمنيهم { بِعَزِيزٍ } بممتنع ، وهذا غضب عليهم لاتخاذهم له أنداداً ، وكفرهم بآياته ومعاصيهم ، كما قال : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئاً .
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
الوزر والوقر : أخوان؛ ووزر الشيء إذا حمله . والوازرة : صفة للنفس ، والمعنى : أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلاّ وزرها الذي اقترفته : لا تؤخذ نفس بذنب نفس ، كما تأخذ جبابرة الدنيا : الولي بالولي ، والجار بالجار . فإن قلت : هلا قيل : ولا تزر نفس وزر أخرى؟ ولم قيل وازرة؟ قلت : لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلاّ حاملة وزرها ، لا وزر غيرها . فإن قلت : كيف توفق بين هذا وبين قوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ؟ قلت : تلك الآية في الضالين المضلين ، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم ، وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم . ألا ترى كيف كذبهم الله تعالى في قولهم : { اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم } [ العنكبوت : 12 ] بقوله تعالى : { وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَىْء } [ العنكبوت : 12 ] . فإن قلت : ما الفرق بين معنى قوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } وبين معنى : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء } ؟ قلت : الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه ، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها ، والثاني : في أن لا غياث يومئذ لمن استغاث ، حتى أن نفساً قد أثقلتها الأوزار وبهظتها ، لو دعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث ، وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ . فإن قلت : إلام أسند كان في { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } ؟ قلت : إلى المدعو المفهوم من قوله : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } . فإن قلت : فلم ترك ذكر المدعو؟ قلت : ليعمّ ، ويشمل كل مدعوّ . فإن قلت : كيف استقام إضمار العام؟ ولا يصحّ أن يكون العام ذا قربى للمثقلة؟ قلت : هو من العموم الكائن على طريق البدل . فإن قلت : ما تقول فيمن قرأ : «ولو كان ذو قربى» على كان التامّة ، كقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 290 ] ؟ قلت : نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة؛ لأن المعنى على أن المثقلة إن دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه شيء وإن كان مدعوّها ذا قربى ، وهو معنى صحيح ملتئم ، ولو قلت : ولو وجد ذو قربى ، لتفكك وخرج من اتساقه والتئامه ، على أنّ ههنا ما ساغ أن يستتر له ضمير في الفعل بخلاف ما أوردته { بالغيب } حال من الفاعل أو المفعول ، أي : يخشون ربهم غائبين عن عذابه أو يخشون عذابه غائباً عنهم . وقيل : بالغيب في السر ، وهذه صفة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه ، فكانت عادتهم المستمرّة أن يخشوا الله ، وهم الذين أقاموا الصلاة وتركوها مناراً منصوباً وعلماً مرفوعاً ، يعني : إنما تقدر على إنذار هؤلاء وتحذيرهم من قومك ، وعلى تحصيل منفعة الإنذار فيهم دون متمرّديهم وأهل عنادهم { وَمَن تزكى } ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي . وقرىء : «من أزكى فإنما يزكي» ، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة ، لأنهما من جملة التزكي { وإلى الله المصير } وعد للمتزكين بالثواب . فإن قلت : كيف اتصل قوله : { إِنَّمَا تُنذِرُ } بما قبله؟ قلت : لما غضب عليهم في قوله : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أتبعه الإنذار بيوم القيامة وذكر أهوالها ، ثم قال : إنما تنذر كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعهم ذلك ، فلم ينفع ، فنزل : { إِنَّمَا تُنذِرُ } أو أخبره الله تعالى بعلمه فيهم .
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
{ الأعمى والبصير } مثل للكافر والمؤمن ، كما ضرب البحرين مثلاً لهما أو للصنم والله عزّ وجلّ ، والظلمات والنور والظل والحرور : مثلان للحق والباطل ، وما يؤدّيان إليه من الثواب والعقاب . والأحياء والأموات : مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه ، وأصروا على الكفر والحرور : السموم؛ إلاّ أنّ السموم يكون بالنهار ، والحرور بالليل والنهار . وقيل : بالليل خاصة . فإن قلت : لا المقرونة بواو العطف ما هي؟ قلت : إذا وقعت الواو في النفي قرنت بها لتأكيد معنى النفي . فإن قلت : هل من فرق بين هذه الواوات؟ قلت : بعضها ضمت شفعاً إلى شفع ، وبعضها وتراً إلى وتر { إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء } يعني أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه ، فيهدي الذي قد علم أنّ الهداية تنفع فيه ، ويخذل من علم أنها لا تنفع فيه . وأمّا أنت فخفي عليك أمرهم ، فلذلك تحرص وتتهالك على إسلام قوم من المخذولين . ومثلك في ذلك مثل من لا يريد أن يسمع المقبورين وينذر ، وذلك ما لا سبيل إليه ، ثم قال : { إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } أي ما عليك إلاّ أن تبلغ وتنذر ، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع ، وإن كان من المصرين فلا عليك . ويحتمل أنّ الله يسمع من يشاء وأنه قادر على أن يهدي المطبوع على قلوبهم على وجه القسر والإلجاء ، وغيرهم على وجه الهداية والتوفيق ، وأما أنت فلا حيلة لك في المطبوع على قلوبهم الذين هم بمنزلة الموتى .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
{ بالحق } حال من أحد الضميرين ، يعني : محقاً أو محقين ، أو صفة للمصدر ، أي : إرسالاً مصحوباً بالحق . أو صلة لبشير ونذير على : بشيراً بالوعد الحق ، ونذيراً بالوعيد الحق [ وإن من أُمة إلاخلا فيها نذير ] . والأمّة الجماعة الكثيرة . قال الله تعالى : { وجد عليه أمّة من الناس } [ القصص : 23 ] ، ويقال لأهل كل عصر : أمّة ، وفي حدود المتكلمين : الأمّة هم المصدقون بالرسول صلى الله عليه وسلم دون المبعوث إليهم ، وهم الذين يعتبر إجماعهم ، والمراد ههنا : أهل العصر . فإن قلت : كم من أمّة في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ولم يخل فيها نذير؟ قلت : إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس ، وحين اندرست آثار نذارة عيسى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرهما؟ قلت : لما كانت النذارة مشفوعة بالبشارة لا محالة ، دلّ ذكرها على ذكرها ، لا سيما قد اشتملت الآية على ذكرهما .
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
{ بالبينات } بالشواهد على صحة النبوّة وهي المعجزات { وبالزبر } وبالصحف { وبالكتاب المنير } نحو التوراة والإنجيل والزبور . لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسناداً مطلقاً ، وإن كان بعضها في جميعهم : وهي البينات ، وبعضها في بعضهم : وهي الزبر والكتاب . وفيه مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
{ أَلْوَانُهَا } أجناسها من الرمّان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها . والجدد : الخطط والطرائق . قال لبيد :
أَوْ مَذْهَبْ جُدَد عَلَى أَلْوَاحِهِ ... ويقال : جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره ، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه { وَغَرَابِيبُ } معطوف على بيض أو على جدد ، كأنه قيل : ومن الجبال مخطط ذو جدد ، ومنها ما هو على لون واحد غرابيب . وعن عكرمة رضي الله عنه : هي الجبال الطوال السود . فإن قلت : الغربيب تأكيد للأسود . يقال : أسود غربيب ، وأسود حلكوك : وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه . ومنه الغراب : ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك : أصفر فاقع ، وأبيض يقق وما أشبه ذلك . قلت : وجهه أن يضمر المؤكد قبله ويكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر ، كقول النابغة :
وَالْمُؤْمِنُ العَائِذَاتِ الطَّيْرِ . . . ... وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد ، حيث يدلّ على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار جميعاً ، ولا بدّ من تقدير حذف المضاف في قوله تعالى : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } بمعنى : ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود ، حتى يؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه كما قال : ثمرات مختلفاً ألوانها { وَمِنَ الناس والدواب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه } يعني : ومنهم بعض مختلف ألوانه . وقرىء : «ألوانها» ، وقرأ الزهري : «جدد» ، بالضم : جمع جديدة ، وهي الجدّة . يقال : جديدة وجدد وجدائد ، كسفينة وسفن وسفائن . وقد فسر بها قول أبي ذؤيب يصف حمار وحش :
جُونُ السَّرَاةِ لَهُ جَدَائِدُ ارْبَعُ ... وروي عنه : جدد ، بفتحتين ، وهو الطريق الواضح المسفر وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض . وقرىء : «والدواب» مخففاً ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ : «ولا الضألين» لأنّ كل واحد منهما فرار من التقاء الساكنين ، فحرك ذاك أوّلهما ، وحذف هذا أخرهما . وقوله : { كذلك } أي كاختلاف الثمرات والجبال . والمراد : العلماء به الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، فعظموه وقدروه حق قدره ، وخشوه حق خشيته ، ومن ازداد به علماً ازداد منه خوفاً ، ومن كان علمه به أقل كان آمن . وفي الحديث :
( 924 ) " أَعلمُكُم بِاللَّهِ أَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً " وعن مسروق : كفى بالمرء علماً أن يخشى ، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه . وقال رجل للشعبي : أفتني أيها العالم ، فقال : العالم من خشي الله . وقيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه . فإن قلت : هل يختلف المعنى إذا قدّم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ قلت : لا بدّ من ذلك ، فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت العلماء كان المعنى : أنّ الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم ، وإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم [ لا ] يخشون إلا الله ، كقوله تعالى :
{ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله } [ الأحزاب : 39 ] وهما معنيان مختلفان . فإن قلت : ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟ قلت : لما قال : { أَلَمْ تَرَ } بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء ، وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس وما يستدلّ به عليه وعلى صفاته ، أتبع ذلك { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } كأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك : ممن عرفه حق معرفته وعلمه كنه علمه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 925 ) " أَنَا أَرجُو أَنْ أكونَ أتقاكُم للَّهِ وأَعْلَمَكُمْ بِهِ " فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ : «إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء» وهو عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبي حنيفة؟ قلت : الخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى : إنما يجلهم ويعظمهم ، كما يجلّ المهيب المخشي من الرجال بين الناس ومن بين جميع عباده { إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوب الخشية ، لدلالته على عقوبة العصاة ، وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم ، والمعاقب المثيب : حقه أن يخشى .
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
{ يَتْلُونَ كتاب الله } يداومون على تلاوته وهي شأنهم وديدنهم . وعن مطرف رحمه الله : هي آية القرّاء . عن الكلبي رحمه الله : يأخذون بما فيه . وقيل : يعلمون ما فيه ويعملون به . وعن السدي رحمه الله : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم . وعن عطاء : هم المؤمنون { يَرْجُونَ } خبر إن . والتجارة : طلب الثواب بالطاعة . و { لِيُوَفّيَهُمْ } متعلق بلن تبور ، أي : تجارة ينتفي عنها الكساد وتنفق عند الله ليوفيهم [ بنفاقهم ] عنده { أُجُورَهُمْ } وهي ما استحقوه من الثواب { وَيَزِيدُهُمْ } من التفضل على المستحق . وإن شئت جعلت { يَرْجُونَ } في موضع الحال على : وأنفقوا راجين ليوفيهم ، أي فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله لهذا الغرض ، وخبر إن قوله : { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } على معنى : غفور لهم شكور لأعمالهم . والشكر مجاز عن الإثابة .
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
{ الكتاب } القرآن . ومن للتبيين أو الجنس . و«من» للتبعيض { مُصَدّقاً } حال مؤكدة؛ لأنّ الحق لا ينفك عن هذا التصديق { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } لما تقدّمه من الكتب { لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } يعني أنه خبرك وأبصر أحوالك ، فرآك أهلاً لأن يوحي إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب .
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
فإن قلت : ما معنى قوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثنا من بعدك أي حكمنا بتوريثه . أو قال : أورثناه وهو يريد نورثه ، لما عليه أخبار الله { الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } وهم أمّته من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة؛ لأنّ الله اصطفاهم على سائر الأمم ، وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس ، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسل الله ، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله ، ثم قسمهم إلى ظالم لنفسه مجرم وهو المرجأ لأمر الله . ومقتصد : هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وسابق من السابقين . والوجه الثاني : أنه قدم إرساله في كل أمّة رسولاً وأنهم كذبوا برسلهم وقد جاؤهم بالبينات والزبر والكتاب المنير ، ثم قال : إنّ الذين يتلون كتاب الله ، فأثنى على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم واعترض بقوله : { والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق } ثم قال : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } أي من بعد أولئك المذكورين ، يريد بالمصطفين من عباده : أهل الملة الحنيفية ، فإن قلت : فكيف جعلت { جنات عَدْنٍ } بدلاً من الفضل الكبير ، الذي هو السبق بالخيرات المشار إليه بذلك؟ قلت : لما كان السبب في نيل الثواب ، نزل منزلة المسبب ، كأنه هو الثواب ، فأبدلت عنه جنات عدن ، وفي اختصاص السابقين بعد التقسيم بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر ، فليحذر المقتصد ، وذلك الظالم لنفسه حذراً وعليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب الله ، ولا يغترا بما رواه عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 926 ) " سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له " فإنّ شرط ذلك صحة التوبة لقوله تعالى : { عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 102 ] وقوله : { إِمَّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 106 ] ولقد نطق القرآن ذلك في مواضع من استقرأها اطلع على حقيقة الأمر ولم يعلل نفسه بالخدع . وقرىء : «سباق» ومعنى : { بِإِذُنِ الله } بتيسيره وتوفيقه . فإن قلت : لم قدم الظالم؟ ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت : للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم ، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقلّ من القليل . وقرىء : «جنة عدن» على الإفراد ، كأنها جنة مختصة بالسابقين . وجنات عدن : بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر ، أي يدخلون جنات عدن يدخولنها ، ويدخلونها ، على البناء للمفعول . ويحلون : من حليت : المرأة ، فهي حال { وَلُؤْلُؤاً } معطوف على محل من أساور ، ومن داخلة للتبعيض ، أي : يحلون بعض أساور من ذهب ، كأنه بعض سابق لسائر الابعاض ، كما سبق المسوّرون به غيرهم . وقيل : إنّ ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ .
وقرىء : «ولولؤاً» بتخفيف الهمزة الأولى ، وقرىء : «الحزن» والمراد : حزن المتقين ، وهو ما أهمهم من خوف سوء العاقبة ، كقوله تعالى : { إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم } [ الطور : 26- 27 ] . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : حزن الاعراض والآفات . وعنه : حزن الموت . وعن الضحاك : حزن إبليس ووسوسته . وقيل : همّ المعاش . وقيل : حزن زوال النعم ، وقد أكثروا حتى قال بعضهم : كراء الدار ، ومعناه : أنه يعمّ كل حزن من أحزان الدين والدنيا . حتى هذا . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 927 ) " ليس على أهل لا إله إلاّ الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في مسيرهم؛ وكأني بأهل لا إله إلاّ الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " وذكر الشكور : دليل على أن القوم كثيرو الحسنات ، المقامة : بمعنى الإقامة يقال : أقمت إقامة ومقاماً ومقامة { مِن فَضْلِهِ } من عطائه وإفضاله ، من قولهم : لفلان فضول على قومه وفواضل ، وليس من الفضل الذي هو التفضل؛ لأنّ الثواب بمنزلة الأجر المستحق ، والتفضل كالتبرع . وقرىء : «لغوب» بالفتح : وهو اسم ما يلغب منه ، أي : لا تتكلف عملاً يلغبنا : أو مصدر كالقبول والولوغ ، أو صفة للمصدر ، كأنه لغوب لغوب ، كقولك : موت مائت ، فإن قلت : ما الفرق بين النصب واللغوب؟ قلت : النصب التعب والمشقة التي تصيب المنتصب للأمر المزاول له . وأما اللغوب فما يلحقه من الفتور بسبب النصب فالنصب نفس المشقة والكلفة . واللغوب : نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة .
" والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يسترخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير " " فيموتوا " جواب النفي ونصبه بإضمار أن : وقرئ : فيموتون عطفا على يقضي وإدخالا له في حكم النفي أي : لا يقضي عليهم الموت فلا يموتون كقوله تعالى : " ولا يؤذن لهم فيعتذرون " المرسلات : 36 ، " كذلك " مثل ذلك الجزاء " نجري " وقرئ : يجارى . ونجزي " كل كفور " بالنون " يسترخون " يتصارخون : يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدة . قال : كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها واستعمل في الاستغاثة لجهد المستغيث صوته . فإن قلت : هلا اكتفى بصالحا كما اكتفى به في قوله تعالى : " فارجعنا نعمل صالحا " السجدة : 12 وما فائدة زيادة " غير الذي كنا نعمل " على أنه على أنه يؤذن أنهم يعلمون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه ؟ قلت : فائدة زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به . وأما الوهم فزائل لظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي لأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال الله تعالى : " وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " الكهف : 104 فقالوا : أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نحيبه صالحا فنعمله " أولم نعمركم " توبيخ من الله يعني : فنقول لهم . وقرئ : وما يذكر فيه من أذكر على الإدغام وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر ؛ إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة . وعن مجاهد : ما بين العشرين إلى الستين . وقيل : ثماني عشرة وسبع عشرة و " النذير " الرسول صلى الله عليه وسلم . وقيل : الشيب . وقرئ : وجاءتكم النذر فإن قلت : علام عطف وجاءكم النذير ؟ قلت : على معنى : أو لم نعمركم ؛ لأن لفظه لفظ استخبار . ومعناه معنى إخبار كأنه قيل : قد عمرناكم وجاءكم النذير
" إن الله عالم غيب السموات والأرض إنه عليم بذات الصدور " " إنه عليم بذات الصدور " كالتعليل لأنه إذا علم مافي الصدور وهو أخفى ما يكوهن فقد علم كل غيب في العالم وذات الصدور : مضمراتها وهي تأنيث ذو في محو قول أبي بكر رضي الله عنه : ذو بطن خارجة جارية وقوله : لتغني عني ذا إنائك أجمعا المعنى ما في بطنها من الحبل وما في إنائك من الشراب ؛ لأن الحبل والشراب يصحبان البطن والإناء . ألا ترى إلى قولهم : معها حبل وكذلك المضمرات تصحب الصدور وهي معها وذو : موضوع لمعنى الصحبة
" هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد كفرهم إلا خسارا "
يقال للمستخلف : خليفة ؛ فالخليفة تجمع خلائف والخليف : خلفاء والمعنى أنه جعلكم خلفاءه في أرضه قد ملككم مقاليد التصريف فيها وسلطكم على ما فيها وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة " فمن كفر " منكم وغمط مثل هذه النعمة السنية فوبال كفره راجع عليه وهو مقت الله الذي ليس وراءه خزي وصغار وخسارة الآخرة الذي ما بقي بعده خسار والمقت : أشد البغض . ومنه قيل لمن ينكح امرأته أبيه : مقتي لكونه ممقوتا في كل قلب . وهو خطاب للناس . وقيل : خطاب لمن بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي جعلكم فعليه جزاء كفره من مقت الله وخسار الآخرة كما أن ذلك حكم من قبلكم
" قل أرءيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات أم ءاتيناهم كتابا فهم على بينت منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا " " أروني " بدل من أرأيتم : لأن المعنى : أرأيتم أخبروني كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الإلهية والشركة أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله أم لهم مع الله شركة في خلق السموات أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب . أو يكون الضمير في " ءاتيناكم " للمشركين كقوله : تعالى : " أم أنولنا عليهم سلطانا " الروم : 35 أم آتيناهم كتابا من قبله بل إن يعد بعضهم وهم الرؤوساء " بعضا وهم الأتباع " إلا غرورا " وهو قولهم : " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " يونس : 18 وقرئ : بينات
" إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا " " أن تزولا " كراهة أن تزولا . أو يمنعهما من أن تزولا : لأن الإمساك منع " غنه كان حليما غفورا " غير معاجل بالعقوبة حيث يمسكها وكانتا جديرتين بأن تهدا هدا لعظم كلمة الشرك كما قال : " تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض " مريم : 90 . وقرئ : ولو زالتا وإن أمسكهما : جواب القسم في " ولئن زالتا " سد مسد الجوابين ومن الأولى مزيدة لتأكيد النفي والثانية : للإبتداء . ومن بعده : من بعد إمساكه . وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لرج لمقبل من الشام : من لقيت به ؟ قال : كعبا . قال : وما سمعته يقول ؟ قال : سمعته يقول : إن السموات على منكب ملك . قال : كذب كعب . أما ترك يهوديته بعد ثم قرأ هذه الآية
" وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن اهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السي ولا يحيق المكر الئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شئ في السموات ولا في ألأرض إنه كان عليما قديرا " بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوه . وفي " إحدى الأمم " وجهان أحدهما : من بعض الأمم ومن واحدة من الأمم من اليهود والنصارى وغيرهم . والثاني : من الأمة التي يقال لها إحدى الأمم تفصيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة " ما زادهم " اسناد مجازي لأنه هو لسبب في أنزادوا أنفسهم . نفورا عن الحق وابتعادا عنه كقوله تعالى : " فزادتهم رجسا إلى رجسهم " التوبة : 125 . " استكبارا " بدل من نفورا . أو مفعول له على معنى : فما زادهم إلا أن نفروا استكبارا وعلوا " في الأرض " أو حال بمعنى : مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . ويجوز أن يكون " ومكر السئ " معطوفا على نفورا فإن قلت : فما وجه قوله : " ومكر السئ " ؟ قلت : أصله : وأن مكروا السيئ أي المكر السيئ ثم ومكرا السيئ . ثم ومكر السيئ والدليل عليه قوله تعالى : " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " ومعنى يحيق : يحيط وينزل . وقرئ : ولا يحيق المكر السيئ أي لا يحيق الله ولقد حاق بهم يوم بدر . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :ا تمكروا ولا تعينوا ماكرا ؛ فإن الله تعالى يقول : " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا يقول الله تعالى : " إنما بغيكم على أنفسكم " يونس : 23 . وعن كعب أنه قال لابن عباس رضي الله عنهما : قرأت في التوراة : من حفر مغواة وقع فيها . قال : أنا وجدت ذلك في كتاب الله وقرأ الآية . وفي أمثال العرب : من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا . وقرأ حمزة : ومكر السيئ بإسكان الهمزة وذلك لاستقاله الحركات مع الياء والهمزة ولعله اختلس فظن سكونا أو وقف وقفة خفيفة ثم ابتدى " ولا يحيق " . وقرأ ابن مسعود : ومكرا سيئا " سنت الأولين " إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم وجعل استقبالهم لذلك انتظارا له منهم وبين أن عادجته التي هي الانتقام من مكذبي الرسل عادة لا يبدلها ولا يحولها أي : لا يغيرها وأن ذلك مفعول له لا محالة واستشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم في رحلهم إلى الشام والعراق واليمن : من آثار الماضين وعلامات هلاكهم ودمارهم " ليعجزه " ليسبقه ويفوته
" ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا " " يما كسبوا " بما اقترفوا من معاصيهم " على ظهرها " على ظهر الأرض " من دابة " من نسمة تدب عليها يريد بني آدم . وقيل : ما ترك بني آدم وغيرهم من سائر الدواب بشؤم ذنوبهم . وعن ابن مسعود : كاد الجعل يعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم تلا هذه الآية . وعن أنس : إن الضب ليموت هزالا في جحره بذنب ابن آدم . وقيل : يحبس المطر فيهلك كل شئ " إلى أجل مسمى " إلى يوم القيامة " كان بعباده بصيرا " وعيد بالجزاء
من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة : أن ادخل من أي باب شئت