كتاب : الكشاف
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
{ طس } قرىء : بالتفخيم والإمالة ، و { تِلْكَ } إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين : إما اللوح ، وإبانته : أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه إبانة . وإما الصورة . وإما القرآن ، وإبانتهما : أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع ، وأنّ إعجازهما ظاهر مكشوف ، وإضافة الآيات إلى القرآن والكتاب المبين : على سبيل التفخيم لها والتعظيم ، لأنّ المضاف إلى العظيم يعظم بالإضافة إليه . فإن قلت : لم نكر الكتاب المبين؟ قلت : ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له ، كقوله تعالى : { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [ القمر : 55 ] . فإن قلت : ما وجه عطفه على القرآن إذا أريد به القرآن؟ قلت : كما تعطف إحدى الصفتين على الأخرى في نحو قولك : هذا فعل السخي والجواد الكريم ، لأنّ القرآن هو المنزل المبارك المصدّق لما بين يديه ، فكان حكمه حكم الصفات المستقلة بالمدح ، فكأنه قيل : تلك الآيات آيات المنزل المبارك آي كتاب مبين . وقرأ ابن أبي عبلة : «وكتابٌ مبينٌ» بالرفع على تقدير : وآيات كتاب مبين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . فإن قلت : ما الفرق بين هذا وبين قوله : { الرَ تِلْكَ ءايات الكتاب وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ } [ الحجر : 1 ] ؟ قلت : لا فرق بينهما إلا ما بين المعطوف والمعطوف عليه من التقدّم والتأخر ، وذلك على ضربين : ضرب جار مجرى التثنية لا يترجح فيه جانب على جانب ، وضرب فيه ترجح ، فالأول نحو قوله تعالى : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ البقرة : 58 ] ، [ الأعراف : 161 ] ، { وادخلوا الباب سُجَّدًا } [ البقرة : 58 ] ، [ الأعراف : 161 ] ومنه ما نحن بصدده . والثاني : نحو قوله تعالى : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } [ آل عمران : 18 ] ، { هُدًى وبشرى } في محل النصب أو الرفع ، فالنصب على الحال ، أي : هادية ومبشرة؛ والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ، والرفع على ثلاثة أوجه ، على : هي هدى وبشرى ، وعلى البدل من الآيات ، وعلى أن يكون خبراً بعد خبر ، أي : جمعت أنها آيات ، وأنها هدى وبشرى . والمعنى في كونها هدى للمؤمنين : أنها زائدة في هداهم . قال الله تعالى : { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا } [ التوبة : 124 ] فإن قلت : { وَهُم بالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ } كيف يتصل بما قبله؟ قلت : يحتمل أن يكون من جملة صلة الموصول ، ويحتمل أن تتم الصلة عنده ويكون جملة اعتراضية ، كأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة : هم الموقنون بالآخرة ، وهو الوجه . ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرّر فيها المبتدأ الذي هو { وَهُمْ } حتى صار معناها : وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، لأنّ خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق .
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
فإن قلت : كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته ، وقد أسنده إلى الشيطان في قوله : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } [ النمل : 24 ] ، [ العنكبوت : 38 ] ؟ قلت : بين الإسنادين فرق ، وذلك أنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة ، وإسناده إلى الله عز وجل مجاز ، وله طريقان في علم البيان . أحدهما : أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة . والثاني : أن يكون من المجاز الحكميّ ، فالطريق الأوّل : أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق . وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الروح والترفة ، ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة ، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم . وإليه أشارت الملائكة صلوات الله [ وسلامه ] عليهم في قولهم : { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حتى نَسُواْ الذكر } [ الفرقان : 18 ] والطريق الثاني : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين ، فأسند إليه لأن المجاز الحكميّ يصححه بعض الملابسات ، وقيل : هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها : زينها لهم الله فعمهوا عنها وضلوا ، وعزى إلى الحسن . والعمه : التحير والتردّد ، كما يكون حال الضال عن الطريق . وعن بعض الأعراب : أنه دخل السوق وما أبصرها قط ، فقال : رأيت الناس عمهين ، أراد : متردّدين في أعمالهم وأشغالهم { سُوء العذاب } القتل والأسر يوم بدر . و { الأخسرون } أشدّ الناس خسراناً؛ لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم ، فخسروا ذلك مع خسران النجاة وثواب الله .
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
{ لَتُلَقَّى القرءان } لتؤتاه وتلقنه { مِن } عند أيّ { حَكِيمٌ } وأيّ { عَلِيمٌ } وهذا معنى مجيئهما نكرتين . وهذه الآية بساط وتمهيد ، لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص وما في ذلك من لطائف حكمته ودقائق علمه .
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
{ إِذ } منصوب بمضمر ، وهو : اذكر ، كأنه قال على أثر ذلك : خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى . ويجوز أن ينتصب بعليم . وروي أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته ، وقد كنى الله عنها بالأهل ، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع ، وهو قوله : { امكثوا } [ طه : 10 ] . الشهاب : الشعلة . والقبس : النار المقبوسة ، وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبساً وغير قبس . ومن قرأ بالتنوين : جعل القبس بدلاً ، أو صفة لما فيه من معنى القبس . والخبر : ما يخبر به عن حال الطريق ، لأنه كان قد ضله . فإن قلت : سآتيكم منها بخبر ، ولعلي آتيكم منها بخبر : كالمتدافعين : لأنّ أحدهما ترجّ والآخر تيقن . قلت : قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه : سأفعل كذا ، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة . فإن قلت : كيف جاء بسين التسويف؟ قلت : عدة لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ ، أو كانت المسافة بعيدة . فإن قلت : فلم جاء بأو دون الواو؟ قلت بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعاً لم يعدم واحدة منهما : إمّا هداية الطريق؛ وإما اقتباس النار ، ثقة بعادة الله أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده ، وما أدراه حين قال ذلك أنه ظافر على النار بحاجتيه الكليتين جميعاً ، وهما العزَّان : عز الدنيا ، وعز الآخرة .
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
{ أَنَ } هي المفسرة : لأنّ النداء فيه معنى القول . والمعنى : قيل له بورك فإن قلت : هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة وتقديره : نودي بأنه بورك . والضمير ضمير الشأن؟ قلت : لا ، لأنه لا بدّ من «قد» . فإن قلت : فعلى إضمارها؟ قلت : لا يصح؛ لأنها علامة لا تحذف . ومعنى { بُورِكَ مَن فِى النار وَمَنْ حَوْلَهَا } بورك من في مكان النار ، ومن حول مكانها . ومكانها : البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : { نُودِىَ مِن شَاطِىء الوادى الأيمن فِى البقعة المباركة } [ القصص : 30 ] وتدل عليه قراءة أبيّ . «تباركت الأرض ومن حولها» . وعنه : «بوركت النار»؛ والذي بوركت له البقعة ، وبورك من فيها وحواليها حدوث أمر ديني فيها : وهو تكليم الله موسى واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه؛ وربّ خير يتجدّد في بعض البقاع ، فينشر الله بركة ذلك الخير في أقاصيها ، ويبث آثار يمنه في أباعدها ، فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الذي جرى في تلك البقعة . وقيل : المراد بالمبارك فيهم : موسى والملائكة الحاضرون . والظاهر أنه عامّ في كل من كان في تلك الأرض وفي تلك الوادي وحواليهما من أرض الشام ، ولقد جعل الله أرض الشام بالبركات موسومة في قوله : { ونجيناه وَلُوطاً إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين } [ الأنبياء : 71 ] وحقت أن تكون كذلك ، فهي مبعث الأنبياء صلوات الله [ وسلامه ] عليهم ومهبط الوحي إليهم وكفاتهم أحياء وأمواتاً . فإن قلت : فما معنى ابتداء خطاب الله موسى بذلك عند مجيئه؟ قلت : هي بشارة له بأنه قد قضى بأمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة { وسبحان الله رَبّ العالمين } تعجيب لموسى عليه السلام من ذلك ، وإيذان بأنّ ذلك الأمر مريده ومكوّنه رب العالمين ، تنبيهاً على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤون .
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
الهاء في { إِنَّهُ } يجوز أن يكون ضمير الشأن ، والشأن { أَنَا الله } مبتدأ وخبر . و { العزيز الحكيم } صفتان للخبر . وأن يكون راجعاً إلى ما دل عليه ما قبله ، يعني : أنّ مكلمك أنا ، والله بيان لأنا . والعزيز الحكيم : صفتان للمبين ، وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة ، يريد : أنا القويّ القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية ، الفاعل كل ما أفعله بحكمة وتدبير .
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأَلْقِ عَصَاكَ } ؟ قلت : على بورك؛ لأن المعنى : نودي أن بورك من في النار ، وأن ألق عصاك : كلاهما تفسير لنودي . والمعنى : قيل له بورك من في النار ، وقيل له : { أَلْقِ عَصَاكَ } . والدليل على ذلك قوله تعالى : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } [ القصص : 31 ] بعد قوله : { أَن يا موسى إِنّى أَنَا الله } [ القصص : 30 ] على تكرير حرف التفسير ، كما تقول : كتبت إليك أن حج وأن اعتمر ، وإن شئت أن حج واعتمر . وقرأ الحسن : ( جأن ) على لغة من يجدّ في الهرب من التقاء الساكنين ، فيقول : شأبَّة ودأبَّة . ومنها قراءة عمرو بن عبيد «ولا الضألين» { وَلَمْ يُعَقّبْ } لم يرجع ، يقال : عقب المقاتل ، إذا كرّ بعد الفرار . قال :
فَمَا عَقَّبُوا إذْ قِيلَ هَلْ مِنْ مُعَقِّبٍ ... وَلاَ نَزَلُوا يَوْمَ الكَرِيهَةِ مَنْزِلا
وإنما رعب لظنه أن ذلك لأمر أريد به ، ويدل عليه { إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون } و { إِلا } بمعنى «لكن» لأنه لما أطلق نفي الخوف عن الرسل ، كان ذلك مظنة لطروّ الشبهة ، فاستدرك ذلك . والمعنى : ولكن من ظلم منهم أي فرطت منه صغيرة مما يجوز على الأنبياء ، كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى بوكزة القبطي ، ويشك أن يقصد بهذا التعريض بما وجد من موسى ، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها . وسماه ظلماً ، كما قال موسى : { رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى } [ القصص : 16 ] والحسن ، والسوء : حسن التوبة ، وقبح الذنب . وقرىء : «ألا من ظلم» ، بحرف التنبيه . وعن أبي عمرو في رواية عصمة : حسناً .
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
و { فِى تِسْعِ ءايات } كلام مستأنف ، وحرف الجرّ فيه يتعلق بمحذوف . والمعنى : اذهب في تسع آيات { إلى فِرْعَوْنَ } ونحوه :
فَقُلتُ إلَى الطَّعَامِ فَقَالَ مِنْهُمْ ... فَرِيقٌ نَحْسُدُ الإِنسَ الطَّعَامَا
ويجوز أن يكون المعنى : وألق عصاك ، وأدخل يدك : في تسع آيات ، أي : في جملة تسع آيات وعدادهنّ . ولقائل أن يقول : كانت الآيات إحدى عشرة : ثنتان منها اليد والعصا ، والتسع : الفلق ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمسة ، والجدب في بواديهم ، والنقصان في مزارعهم .
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
المبصرة : الظاهرة البينة . جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمّليها ، لأنهم لابسوها وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها . ويجوز أن يراد بحقيقة الإبصار : كل ناظر فيها من كافة أولي العقل ، وأن يراد إبصار فرعون وملئه . لقوله : { واستيقنتها أَنفُسُهُمْ } [ النمل : 14 ] أو جعلت كأنها تبصر فتهدي ، لأنّ العمي لا تقدر على الاهتداء ، فضلاً أن تهدي غيرها . ومنه قولهم : كلمة عيناء ، وكلمة عوراء ، لأن الكلمة الحسنة ترشد ، والسيئة تغوي . ونحوه قوله تعالى : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَائِرَ } [ الإسراء : 102 ] فوصفها بالبصارة ، كما وصفها بالإبصار . وقرأ عليّ بن الحسين رضي الله عنهما وقتادة : «مَبصرة» ، وهي نحو : مجبنة ومبخلة ومجفرة ، أي : مكاناً يكثر فيه التبصر .
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
الواو في { واستيقنتها } واو الحال ، وقد بعدها مضمرة ، والعلو : الكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى ، كقوله تعالى : { فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عالين } [ المؤمنون : 46 ] ، { فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عابدون } [ المؤمنون : 47 ] وقرىء : «عليا» و«عليا» بالضم والكسر ، كما قرىء : «عتيا» ، و«عتيا» ، وفائدة ذكر الأنفس : أنهم جحدوها بألسنتهم ، واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم والاستيقان أبلغ من الإيقان ، وقد قوبل بين المبصرة والمبين ، وأي ظلم أفحش من ظلم من اعتقد واستيقن أنها آيات بينة واضحة جاءت من عند الله ، ثم كابر بتسميتها سحراً بيناً مكشوفاً لا شبهة فيه .
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
{ عِلْمًا } طائفة من العلم أو علماً سنياً غزيراً . فإن قلت : أليس هذا موضع الفاء دون الواو ، كقولك : أعطيته فشكر ، ومنعته فصبر؟ قلت : بلى ، ولكن عطفه بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه ، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد ، كأنه قال : ولقد آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة { وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذى فَضَّلَنَا } . والكثير المفضل عليه : من لم يؤت علماً . أو من لم يؤت مثل علمهما . وفيه : أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير . وفي الآية دليل على شرف العلم وإنافة محله وتقدم حملته وأهله ، وأن نعمة العلم من أجل النعم . وأجزل القسم ، وأن من أوتيه فقد أوتي فضلاً على كثير من عباد الله ، كما قال : { والذين أُوتُواْ العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] ، وما سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 794 ) «ورثةُ الأنبياءِ» إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة ، لأنهم القوّام بما بعثوا من أجله . وفيها أنه يلزمهم لهذه النعمة الفاضلة لوازم ، منها : أن يحمدوا الله على ما أوتوه من فضلهم على غيرهم . وفيها التذكير بالتواضع ، وأن يعتقد العالم أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه مثلهم . وما أحسن قول عمر : كلّ الناسِ أفقهَ منْ عمر .
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
ورث منه النبوّة والملك دون سائر بنيه - وكانوا تسعة عشر - وكان داود أكثر تعبداً ، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله { وَقَالَ ياأيها الناس } تشهيراً لنعمة الله ، وتنويهاً بها ، واعترافاً بمكانها ، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير ، وغير ذلك مما أوتيه من عظائم الأمور . والمنطق : كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف ، المفيد وغير المفيد . وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق ، وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم ، وقالت العرب : نطقت الحمامة ، وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته ، والذي علمه سليمان من منطق الطير : هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه . ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول؟ قالوا : الله ونبيه أعلم : قال يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء . وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا . وصاح طاووس ، فقال يقول : كما تدين تدان . وصاح هدهد ، فقال يقول : استغفروا الله يا مذنبين . وصاح طيطوي ، فقال يقول : كل حيّ ميت ، وكل جديد بال . وصاح خطاف فقال يقول : قدّموا خيراً تجدوه . وصاحت رخمة ، فقال تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه . وصاح قمري ، فأخبر أنه يقول : سبحان ربي الأعلى . وقال : الحدأ يقول : كل شيء هالك إلا الله . والقطاة تقول : من سكت سلم . والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه . والديك يقول : اذكروا الله يا غافلين . والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت . والعقاب يقول : في البعد من الناس أنس . والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس . وأراد بقوله : { مِن كُلّ شَىْء } كثرة ما أوتي ، كما تقول : فلان يقصده كل أحد ، ويعلم كل شيء ، تريد : كثرة قصاده ورجوعه إلى غزارة في العلم واستكثار منه . ومثله قوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } [ النمل : 23 ] . { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } قول وارد على سبيل الشكر والمحمدة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 795 ) « أَنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر » أي : أقول هذا القول شكراً ولا أقوله فخراً . فإن قلت : كيف قال علمنا وأوتينا وهو من كلام المتكبرين؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يريد نفسه وأباه . والثاني : أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع - وكان ملكاً مطاعاً - فكلم أهل طاعته على صفته وحاله التي كان عليها ، وليس التكبر من لوازم ذلك ، وقد يتعلق بتجمل الملك وتفخمه ، وإظهار آيينه وسياسته مصالح ، فيعود تكلف ذلك واجباً . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل نحواً من ذلك إذا وفد عليه وفد أو احتاج أن يرجح في عين عدوّ . ألا ترى كيف أمر العباس رضي الله عنه بأن يحبس أبا سفيان حتى تمرّ عليه الكتائب .
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة : خمسة وعشرون للجنّ ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلثمائة منكوحة . وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجنّ بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخاً في فرسخ ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب ، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة ، وحولهم الناس وحول الناس الجنّ والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا يقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر . ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ، ويأمر الرخاء تسيره ، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض : إني قد زدت في ملكك لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك ، فيحكى أنه مر بحرّاث فقال : لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً ، فألقته الريح في أذنه ، فنزل ومشى إلى الحرّاث وقال : إنما مشيت إليك لئلا تتمنى مالا تقدر عليه ، ثم قال : لتسبيحة واحدة يقبلها الله ، خير مما أوتي آل داود { يُوزَعُونَ } يحبس أولهم على آخرهم ، أي : توقف سلاف العسكر حتى تلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد ، وذلك للكثرة العظيمة .
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
قيل : هو واد بالشام كثير النمل . فإن قلت : لم عدّي { أَتَوْا } بعلى؟ قلت : يتوجه على معنيين أحدهما؛ أن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء ، كما قال أبو الطيب :
وَلَشُدَّ مَا قَرُبَتْ عَلَيْكَ الأَنْجُمُ ... لما كان قرباً من فوق . والثاني : أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره ، من قولهم : أتى على الشيء إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي ، لأنهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف حطمهم . وقرىء «نُمُلة يا أيها النمل» ، بضم الميم وبضم النون والميم ، وكان الأصل : النمل ، بوزن الرجل ، والنمل الذي عليه الاستعمال : تخفيف عنه ، كقولهم : «السبع» في السبع . قيل : كانت تمشي وهي عرجاء تتكاوس ، فنادت : { ياأيها النمل } : الآية ، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال . وقيل : كان اسمها طاخية . وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس ، فقال : سلوا عما شئتم ، وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضراً - وهو غلام حدث - . فقال : سلوه عن نملة سليمان ، أكانت ذكراً أم أنثى؟ فسألوه فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى ، فقيل له : من أين عرفت؟ قال : من كتاب الله ، وهو قوله : { قَالَتْ نَمْلَةٌ } ولو كانت ذكراً لقال : قال نملة . وذلك أنّ النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى ، فيميز بينهما بعلامة ، نحو قولهم : حمامة ذكر ، وحمامة أنثى ، وهو وهي . وقرىء : «مسكنكم ولا يحطمنكم» بتخفيف النون ، وقرىء : «لا يحطمنكم» بفتح الحاء وكسرها . وأصله : يحتطمنكم . ولما جعلها قائلة والنمل مقولاً لهم كما يكون في أولي العقل : أجرى خطابهم مجرى خطابهم . فإن قتل : لا يحطمنكم ما هو؟ قلت : يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر ، والذي جوّز أن يكون بدلاً منه : أنه في معنى : لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم ، على طريقة : لا أرينك ههنا ، أراد : لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاء بما هو أبلغ ، ونحوه : عجبت من نفسي ومن إشفاقها .
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
ومعنى { فَتَبَسَّمَ ضاحكا } تبسم شارعاً في الضحك وآخذاً فيه ، يعني أنه قد تجاوز حدّ التبسم إلى الضحك ، وكذلك ضحك الأنبياء عليهم [ الصلاة ] السلام . وأما ما روي :
( 796 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه فالغرض المبالغة في وصف ما وجد منه من الضحك النبوي ، وإلا فبدوّ النواجذ على الحقيقة إنما يكون عند الاستغراب ، وقرأ ابن السميفع : «ضحكا» فإن قلت : ما أضحكه من قولها؟ قلت : شيئان ، إعجابه بما دل من قولهما على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم ، وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى ، وذلك قولها : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } تعني أنهم لو شعروا لم يفعلوا . وسروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحداً : من إدراكه بسمعه ما همس به بعض الحكل الذي هو مثل في الصغر والقلة ، ومن إحاطته بمعناه ، ولذلك اشتمل دعاؤه على استيزاع الله شكر ما أنعم به عليه من ذلك ، وعلى استيفاقه لزيادة العمل الصالح والتقوى . وحقيقة { أَوْزِعْنِى } اجعلني أزع شكر نعمتك عندي ، وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عني ، حتى لا أنفك شاكراً لك . وإنما أدرج ذكر والديه لأنّ النعمة على الولد نعمة على الوالدين ، خصوصاً النعمة الراجعة إلى الدين ، فإنه إذا كان تقيا نفعهما بدعائه وشفاعته وبدعاء المؤمنين لهما كلما دعوا له ، وقالوا : رضي الله عنك وعن والديك . وروي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء ، فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهنّ ، ثم دعا بالدعوة . ومعنى { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين } واجعلني من أهل الجنة .
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
{ أَمْ } هي المنقطعة : نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره ، فقال : { مَالِيَ لاَ أَرَى } على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ، ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول : أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له . ونحوه قولهم : إنها لإبل أم شاء ، وذكر من قصة الهدهد أنّ سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج بحشرة ، فوافى الحرم وأقام به ما شاء ، وكان يقرّب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة ، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحاً يؤم سهيلاً؛ فوافى صنعاء وقت الزوال؛ وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضاً حسناء أعجبته خضرتها ، فنزل ليتغدّى ويصلي فلم يجدوا الماء ، وكان الهدهد قناقنه ، وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فيجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء ، فتفقده لذلك ، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهداً واقعاً ، فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء ، وذكر له صاحبه ملك بلقيس ، وأنّ تحت يدها اثنى عشر ألف قائد تحت كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر ، وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه ، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب : عليَّ به ، فارتفعت فنظرت ، فإذا هو مقبل فقصدته . فناشدها الله وقال : بحق الذي قوّاك وأقدرك عليَّ إلا رحمتيني ، فتركته وقالت : ثكلتك أمك ، إنّ نبي الله قد حلف ليعذبنك؛ قال : وما استثنى؟ قالت : بلى قال : أوليأتيني بعذر مبين ، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرّها على الأرض تواضعاً له ، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه ، فقال : يا نبي الله؛ اذكر وقوفك بين يدي الله؛ فارتعد سليمان وعفا عنه؛ ثم سأله . تعذيبه : أن يؤدّب بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه . وقيل : كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه . وقيل : أن يطلي بالقطران ويشمس . وقيل : أن يلقى للنمل تأكله . وقيل : إيداعه القفص . وقيل : التفريق بينه وبين إلفه . وقيل : لألزمنه صحبة الأضداد . وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد . وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه . فإن قلت : من أين حل له تعذيب الهدهد؟ قلت : يجوز أن يبيح له الله ذلك . لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة؛ كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع؛ وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة : جاز أن يباح له ما يستصلح به .
وقرىء : «ليأتينني» و «ليأتينن» والسلطان : الحجة والعذر . فإن قلت : قد حلف على أحد ثلاثة أشياء : فحلفه على فعليه لا مقال فيه ، ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد؟ ومن أين درى أنه يأتي بسلطان ، حتى يقول والله ليأتيني بسلطان؟ قلت : لما نظم الثلاثة «بأو» في الحكم الذي هو الحلف : آل كلامه إلى قولك : ليكونن أحد الأمور ، يعني : إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح ، وإن لم يكن كان أحدهما ، وليس في هذا ادّعاء دراية ، على أنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحيٌّ من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين ، فثلث بقوله : { أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ } عن دراية وإيقان .
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
{ فَمَكَثَ } قرىء : بفتح الكاف وضمها { غَيْرَ بَعِيدٍ } غير زمان بعيد ، كقوله : عن قريب . ووصف مكثه بقصر المدّة للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان ، وليعلم كيف كان الطير مسخراً له ، ولبيان ما أعطي من المعجزة الدالة على نبوّته وعلى قدرة الله تعالى { أَحَطتُ } بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق : ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ، ابتلاء له في علمه ، وتنبيهاً على أنّ في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به ، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه ، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة ، والإحاطة بالشيء علمها : أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم . قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الرافضة إنّ الإمام لا يخفى عليه شيء ، ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه «سبأ» . قرىء بالصرف ومنعه . وقد روي بسكون الباء . وعن ابن كثير في رواية «سبا» ، بالألف كقولهم : ذهبوا أيدي سبا . وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، فمن جعله اسماً للقبيلة لم يصرف ، ومن جعله اسماً للحيّ أو الأب الأكبر صرف . قال :
مِنْ سَبَإ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبَ إذ ... يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ الْعَرِمَا
وقال :
الُوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَي سَبَإ ... قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جِلدُ الْجَوَامِيسِ
ثم سميت مدينة مأرب بسبإ ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ، كما سميت معافر بمعافر بن أدّ . ويحتمل أن يراد المدينة والقوم . [ ( بنبأ يقين ) ] والنبأ : الخبر الذي له شأن . وقوله : { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } من جنس الكلام الذي سماه المحدّثون البديع ، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ ، بشرط أن يجيء مطبوعاً . أو يصنعه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده ، ولقد جاء ههنا زائداً على الصحة فحسن وبدع لفظاً ومعنى . ألا ترى أنه لو وضع مكان بنبإ بخبر ، لكان المعنى صحيحاً ، وهو كما جاء أصح ، لما في النبإ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال .
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
المرأة بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها ، وقد ولده أربعون ملكاً ولم يكن له ولد غيرها ، فغلبت على الملك ، وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس . والضمير في { تَمْلِكُهُمْ } راجع إلى سبإ ، فإن أريد به القوم بالأمر ظاهر ، وإن أريدت المدينة فمعناه تملك أهلها . وقيل في وصف عرشها : كان ثمانين ذراعاً في ثمانين وسمكه ثمانين . وقيل ثلاثين مكان ثمانين ، وكان من ذهب وفضة مكللاً بأنواع الجواهر ، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودرّ وزمرّد ، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق . فإن قلت : كيف استعظم عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان؟ قلت : يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان ، فاستعظم لها ذلك العرش . ويجوز أن لا يكون لسليمان مثله وإن عظمت مملكته في كل شيء ، كما يكون لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون مثله للملك الذي يملك عليهم أمرهم ويستخدمهم . ومن نوكي القصاص من يقف على قوله : { وَلَهَا عَرْشٌ } ثم يبتدىء { عظِيمٌ وَجَدتُّهَا } يريد : أمر عظيم ، أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس ، فرّ من استعظام الهدهد عرشها ، فوقع في عظيمة وهي مسخ كتاب الله . فإن قلت : كيف قال : { وَأُوتِيتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ } مع قول سليمان { وَأُوتِينا مِن كُلّ شَىْء } [ النمل : 16 ] كأنه سوّي بينهما؟ قلت : بينهما فرق بين؛ لأن سليمان عليه السلام عطف قوله على ما هو معجزة من الله ، وهو تعليم منطق الطير ، فرجع أوّلاً إلى ما أوتي من النبوّة والحكمة وأسباب الدين ، ثم إلى الملك وأسباب الدنيا ، وعطفه الهدهد على الملك فلم يرد إلا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها فبين الكلامين بون بعيد . فإن قلت : كيف خفي على سليمان مكانها وكانت المسافة بين محطه وبين بلدها قريبة ، وهي مسيرة ثلاث بين صنعاء ومأرب؟ قلت : لعل الله عز وجل أخفى عنه ذلك لمصلحة رآها ، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب .
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
فإن قلت : من أين للهدهد التهدي إلى معرفة الله ، ووجوب السجود له ، وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه؟ قلت : لا يبعد أن يلهمه الله ذلك كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوان المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها ، ومن أراد استقراء ذلك فعليه بكتاب الحيوان ، خصوصاً في زمن نبيّ سخرت له الطيور وعلم منطقها ، وجعل ذلك معجزة له . من قرأ بالتشديد أراد : «فصدّهم عن السبيل» لئلا يسجدوا فحذف الجار مع أن . ويجوز أن تكون «لا» مزيدة ، ويكون المعنى : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا . ومن قرأ بالتخفيف ، فهو «ألا يسجدوا» . ألا للتنبيه ، ويا حرف النداء ، ومناداه محذوف ، كما حذفه من قال :
أَلاَ يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيٍّ عَلَى الْبِلَى ... وفي حرف عبد الله وهي قراءة الأعمش : «هلا» ، و«هلا» : بقلب الهمزتين هاء . وعن عبد الله : «هلا تسجدون» بمعنى ألا تسجدون على الخطاب . وفي قراءة أبيّ : «ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون» ، وسمي المخبوء بالمصدر : وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأهُ عز وعلا من غيوبه . وقرىء : «الخب» ، على تخفيف الهمزة بالحذف . والخبا ، على تخفيفها بالقلب ، وهي قراءة ابن مسعود ومالك بن دينار . ووجهها : أن تخرج على لغة من يقول في الوقف : هذا الخبو ، رأيت الخبا ، ومررت بالخبي ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف ، لا على لغة من يقول : الكمأة والحمأة؛ لأنها ضعيفة مسترذلة . وقرىء : «يخفون ويعلنون» بالياء والتاء . وقيل : من أحطت إلى العظيم هو كلام الهدهد . وقيل : كلام رب العزة . وفي إخراج الخبء : أمارة على أنه من كلام الهدهد لهندسته ومعرفته الماء تحت الأرض ، وذلك بإلهام من يخرج الخبء في السموات والأرض جلت قدرته ولطف علمه ، ولا يكاد تخفى على ذي الفراسة النظار بنور الله مخائل كل مختص بصناعة أو فنّ من العلم في روائه ومنطقه وشمائله ، ولهذا ورد : ما عمل عبد عملاً إلا ألقى الله عليه رداء عمله . فإن قلت : أسجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً أم في إحداهما؟ قلت؛ هي واجبة فيهما جميعاً ، لأنّ مواضع السجدة إما أمرٌ بها ، أو مدحٌ لمن أتى بها ، أو ذمٌ لمن تركها ، وإحدى القراءتين أمر بالسجود ، والأخرى ذم للتارك . وقد اتفق أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله على أنّ سجدات القرآن أربع عشرة ، وإنما اختلفا في سجدة ص : فهي عند أبي حنيفة سجدة تلاوة . وعند الشافعي : سجدة شكر . وفي سجدتي سورة الحج وما ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد ، فغير مرجوع إليه . فإن قلت : هل يفرق الواقف بين القراءتين؟ قلت : نعم إذا خفف وقف على { فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } ثم ابتداء { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } ، وإن شاء وقف على «ألا» ثم ابتدأ { يَسْجُدُواْ } وإذا شدّد لم يقف إلا على { العرش العظيم } . فإن قلت : كيف سوّى الهدهد بين عرش بلقيس وعرش الله في الوصف ب ( العظيم ) ؟ قلت : بين الوصفين بون عظيم ، لأنّ وصف عرشها بالعظم : تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك . ووصف عرش الله بالعظم : تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض . وقرىء : «العظيم» بالرفع .
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
{ سَنَنظُرُ } من النظر الذي هو التأمل والتصفح . وأراد : أصدقت أم كذبت ، إلا أن { كُنتَ مِنَ الكاذبين } أبلغ ، لأنه إذا كان معروفاً بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً لا محالة ، وإذا كان كاذباً اتهم بالكذب فيما أخبر به فلم يوثق به ، { تَوَلَّ عَنْهُمْ } تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ، ليكون ما يقولونه بمسمع منك . و { يَرْجِعُونَ } من قوله تعالى : { يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْض القول } [ سبأ : 31 ] يقال : دخل عليها من كوّة فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوّة . فإن قلت : لم قال : فألقه إليهم ، على لفظ الجمع؟ قلت : لأنه قال : وجدتها وقومها يسجدون للشمس ، فقال : فألقه إلى الذين هذا دينهم ، اهتماماً منه بأمر الدين ، واشتغالاً به عن غيره . وبني الخطاب في الكتاب على لفظ الجمع لذلك .
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
{ كَرِيمٌ } حسن مضمونة وما فيه ، أو وصفته بالكرم ، لأنه من عند ملك كريم أو مختوم . قال صلى الله عليه وسلم :
( 797 ) " كرم الكتاب ختمه " . ( 798 ) " وكان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى العجم ، فقيل له : إنهم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم ، فاصطنع خاتماً " عن ابن المقفع : من كتب إلى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخف به . وقيل : مصدّر ببسم الله الرحمن الرحيم [ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ] : هو استئناف وتبيين لما أُلْقِيَ إليها ، كأنها لما قالت : إني أُلْقِيَ إليّ كتاب كريم ، قيل لها : ممن هو؟ وما هو؟ فقالت : إنه من سليمان وإنه : كيت وكيت . وقرأ عبد الله : «وإنه من سليمان وإنه» عطفاً على : إني . وقرىء : «أنه من سليمان وأنه» ، بالفتح على أنه بدل من كتاب ، كأنه قيل : ألقى إليّ أنه من سليمان . ويجوز أن تريد : لأنه من سليمان ولأنه ، كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان ، وتصديره باسم الله . وقرأ أبيّ : «أنْ من سليمان وأنْ بسم الله» ، على أن المفسرة . وأن في { أَلاَّ تَعْلُواْ } مفسرة أيضاً . لا تعلوا : لا تتكبروا كما يفعل الملوك . وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما بالغين معجمة من الغلو : وهو مجاوزة الحد . يروى أنّ نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فلا تعلوا عليّ وائتوني مسلمين ، وكانت كتب الأنبياء عليهم السلام جملاً لا يطيلون ولا يكثرون ، وطبع الكتاب بالمسك وختمه بخاتمه ، فوجدها الهدهد راقدة في قصرها بمأرب ، وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها ، فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية . وقيل : نقرها فانتبهت فزعة . وقيل : أتاها والقادة والجنود حواليها ، فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها ، فألقى الكتاب في حجرها ، وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل تبع بن شراحيل الحميري؛ فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت ، وقالت لقومها ما قالت : { مُسْلِمِينَ } منقادين أو مؤمنين .
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
الفتوى : الجواب في الحادثة ، اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن . والمراد بالفتوى ههنا : الإشارة عليها بما عندهم فيما حدث لها من الرأي والتدبير ، وقصدت بالانقطاع إليهم والرجوع إلى استشارتهم واستطلاع آرائهم : استعطافهم وتطييب نفوسهم ليمالئوها ويقوموا معها { قَاطِعَةً أَمْراً } فاصلة . وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : «قاضية» أي لا أبت أمراً إلا بمحضركم . وقيل : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً : كل واحد على عشرة آلاف .
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
أرادوا بالقوة : قوّة الأجساد وقوّة الآلات والعدد . وبالبأس : النجدة والبلاء في الحرب { والأمر إِلَيْكِ } أي هو موكول إليك ، ونحن مطيعون لك ، فمرينا بأمرك نطعك ولا نخالفك كأنهم أشاروا عليها بالقتال . أو أرادوا : نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأي والمشورة ، وأنت ذات الرأي والتدبير ، فانظري ماذا ترين : نتبع رأيك .
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
لما أحست منهم الميل إلى المحاربة ، رأت من الرأي الميل إلى الصلح والابتداء بما هو أحسن ، ورتبت الجواب ، فزيفت أولاً ما ذكروه وأرتهم الخطأ فيه ب { إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً } عنوة وقهراً { أَفْسَدُوهَا } أي خرّبوها - ومن ثمة قالوا للفساد : الخربة - ، وأذلوا أعزتها ، وأهانوا أشرافها؛ وقتلوا وأسروا ، فذكرت لهم عاقبة الحرب وسوء مغبتها ثم قالت : { وكذلك يَفْعَلُونَ } أرادت : وهذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير ، لأنها كانت في بيت الملك القديم ، فسمعت نحو ذلك ورأت ، ثم ذكرت بعد ذلك حديث الهدية وما رأت من الرأي السديد . وقيل : هو تصديق من الله لقولها ، وقد يتعلق الساعون في الأرض بالفساد بهذه الآية ويجعلونها حجة لأنفسهم . ومن استباح حراماً فقد كفر ، فإذا احتج له بالقرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين { مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } أي مرسلة رسلاً بهدية أصانعه بها عن ملكي { فَنَاظِرَةٌ } ما يكون منه حتى أعمل على حسب ذلك ، فروي : أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري ، وحليهنّ الأساور والأطواق ، والقِرَطَة راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر ، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة ، وتاجاً مكللاً بالدرّ والياقوت المرتفع والمسك والعنبر ، وحقاً فيه درّة عذراء ، وجزعة معوجة الثقب ، وبعثت رجلين من أشراف قومها : المنذر بن عمرو ، وآخر ذا رأي وعقل ، وقالت : إن كان نبياً ميز بين الغلمان والجواري ، وثقب الدرّة ثقباً مستوياً ، وسلك في الخرزة خيطاً ، ثم قالت للمنذر : إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك؛ فلا يهولنك ، وإن رأيته بشاً لطيفاً فهو نبيّ ، فأقبل الهدهد فأخبر سليمان ، فأمر الجنّ فضربوا لبن الذهب والفضة ، وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ ، وجعلوا حول الميدان حائطاً شرفه من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن ، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين واليسار ، ثم قعد على سريره والكراسيّ من جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ ، والإنس صفوفاً فراسخ ، والوحش والسباع والهوام والطيور كذلك ، فلما دنا القوم ونظروا : بهتوا ، ورأوا الدواب تروث على اللبن ، فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم ، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال : ما وراءكم؟ وقال : أين الحقّ؟ وأخبره جبريل عليه السلام بما فيه فقال لهم : إن فيه كذا وكذا ، ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت فيها ، فجعل رزقها في الشجرة . وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت فيها ، فجعل رزقها في الفواكه . ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها ، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ، ثم رد الهدية وقال للمنذر : ارجع إليهم ، فقالت : هو نبيّ وما لنا به طاقة ، فشخصت إليه في اثني عشر ألف قيل ، تحت كل قيل ألوف .
وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : «فلما جاءوا» { أَتُمِدُّونَنِ } وقرىء : بحذف الياء والاكتفاء بالكسرة بالإدغام ، كقوله : { أتحاجوانى } وبنون واحدة : أتمدوني . الهدية : اسم المهدَي؛ كما أن العطية اسم المعطي ، فتضاف إلى المهدي والمهدى إليه ، تقول هذه هدية فلان ، تريد : هي التي أهداها أو أهديت إليه ، والمضاف إليه ههنا هو المهدي إليه . والمعنى : أن ما عندي خير مما عندكم ، وذلك أن الله آتاني الدين الذي فيه الحظ الأوفر والغنى الأوسع ، وآتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه ، فكيف يرضى مثلي بأن يمدّ بمال ويصانع به { بَلْ أَنتُمْ } قوم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا؛ فلذلك { تَفْرَحُونَ } بما تزادون ويُهدي إليكم ، لأن ذلك مبلغ همتكم وحالي خلاف حالكم؛ وما أرضى منكم بشيء ولا أفرح به إلا بالإيمان وترك المجوسية . فإن قلت : ما الفرق بين قولك : أتمدني بمال وأنا أغنى منك ، وبين أن تقوله بالفاء؟ قلت : إذا قلته بالواو ، فقد جعلت مخاطبي عالماً بزيادتي عليه في الغنى واليسار ، وهو مع ذلك يمدني بالمال . وإذا قلته بالفاء ، فقد جعلته ممن خفيت عليه حالي ، فأنا أخبره الساعة بما لا أحتاج معه إلى إمداده ، كأني أقول له : أنكر عليك ما فعلت ، فإني غني عنه . وعليه ورد قوله : { فَمَا ءاتاني الله } . فإن قلت : فما وجه الإضراب؟ قلت : لما أنكر عليهم الإمداد وعلل إنكاره ، أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه : وهو أنهم لا يعرفون سبب رضا ولا فرح؛ إلا أن يهدي إليهم حظ من الدنيا التي لا يعلمون غيرها . ويجوز أن تجعل الهدية مضافة إلى المهدي ، ويكون المعنى : بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون فرح افتخار على الملوك ، بأنكم قدرتم على إهداء مثلها . ويحتمل أن يكون عبارة عن الردّ ، كأنه قال : بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها .
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
{ ارجع } خطاب للرسول . وقيل : للهدهد محملاً كتاباً آخر { لاَّ قِبَلَ } لا طاقة . وحقيقة القبل : المقاومة والمقابلة ، أي : لا يقدرون أن يقابلوهم . وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه : لا قبل لهم بهم . الضمير في منها لسبأ . والذل : أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العزّ والملك . والصغار : أن يقعوا في أسر واستعباد ، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً .
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
يروي : أنها أمرت عند خروجها إلى سليمان عليه السلام ، فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من قصور سبعة لها . وغلقت الأبواب ووكلت به حرساً يحفظونه ، ولعله أوحى إلى سليمان عليه السلام باستيثاقها من عرشها ، فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه الله به من إجراء العجائب على يده ، مع إطلاعها على عظيم قدرة الله وعلى ما يشهد لنبوّة سليمان عليه السلام ويصدقها . وعن قتادة : أراد أن يأخذه قبل أن تسلم ، لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحلّ له أخذ مالها . وقيل : أراد أن يؤتى به فينكر ويغير ، ثم ينظر أتثبته أم تنكره؟ اختباراً لعقلها .
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
وقرىء : «عفرية» والعفر ، والعفريت ، والعفرية ، والعفراة ، والعفارية من الرجال : الخبيث المنكر ، الذي يعفر أقرانه . ومن الشياطين : الخبيث المارد . وقالوا : كان اسمه ذكوان { لَقَوِىٌّ } على حمله { أَمِينٌ } آتى به كما هو لا اختزل منه شيئاً ولا أبدله .
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
{ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب } [ هو ] رجل كان عنده اسم الله الأعظم ، وهو : يا حي يا قيوم ، وقيل : يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت . وقيل : يا ذا الجلال والإكرام ، وعن الحسن رضي الله عنه : الله . والرحمن . وقيل : هو آصف بن برخيا كاتب سليمان عليه السلام ، وكان صديقاً عالماً . وقيل : اسمه أسطوم . وقيل : هو جبريل . وقيل : ملك أيد الله به سليمان . وقيل : هو سليمان نفسه ، كأنه استبطأ العفريت فقال له : أنا أريك ما هو أسرع مما تقول . وعن ابن لهيعة : بلغني أنه الخضر عليه السلام : علم من الكتاب : من الكتاب المنزل ، وهو علم الوحي والشرائع . وقيل : هو اللوح . والذي عنده علم منه : جبريل عليه السلام . وآتيك - في الموضعين - يجوز أن يكون فعلاً واسم فاعل . الطرف : تحريكك أجفانك إذا نظرت ، فوضع موضع النظر . ولما كان الناظر موصوفاً بإرسال الطرف في نحو قوله :
وَكُنْتَ إِذَا أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدَاً ... لِقَلْبِكَ يَوْمَاً أَتْعَبتْكَ الْمَنَاظرُ
وصف بردّ الطرف ، ووصف الطرف بالارتداد . ومعنى قوله : { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [ أي ] أنك ترسل طرفك إلى شيء ، فقبل أن تردّه أبصرت العرش بين يديك : ويروى : أن آصف قال لسليمان عليه السلام : مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمدّ عينيه فنظر نحو اليمين . ودعا آصف فغار العرش في مكانه بمأرب ، ثم نبغ عند مجلس سليمان عليه السلام بالشام بقدرة الله ، قبل أن يردّ طرفه . ويجوز أن يكون هذا مثلاً لاستقصار مدّة المجيء به ، كما تقول لصاحبك : افعل كذا في لحظة ، وفي ردّة طرف ، والتفت ترني ، وما أشبه ذلك : تريد السرعة . { يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } لأنه يحط به عنها عبء الواجب ، ويصونها عن سمة الكفران ، وترتبط به النعمة ويستمد المزيد . وقيل : الشكر ، قيد للنعمة الموجودة ، وصيد للنعمة المفقودة . وفي كلام بعض المتقدمين : إن كفران النعمة بوار ، وقلما أقشعت ناقرة فرجعت في نصابها ، فاستدع شاردها بالشكر ، واستدم راهنها بكرم الجوار . واعلم أن سبوغ ستر الله متقلص عما قريب إذا أنت لم ترج لله وقاراً { غَنِىٌّ } عن الشكر { كَرِيمٌ } بالإنعام على من يكفر نعمته ، والذي قاله سليمان عليه السلام عند رؤية العرش شاكراً لربه ، جرى على شاكلة أبناء جنسه من أنبياء الله والمخلصين من عباده يتلقون النعمة القادمة بحسن الشكر ، كما يشيعون النعمة المودعة بجميل الصبر .
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
{ نَكِّرُواْ } اجعلوه متنكراً متغيراً عن هيئته وشكله ، كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه ، قالوا : وسعوه وجعلوا مقدّمه مؤخره ، وأعلاه أسفله . وقرىء : «ننظر» بالجزم على الجواب ، وبالرفع على الاستئناف { أتهتدى } لمعرفته ، أو للجواب الصواب إذا سئلت عنه ، أو للدين والإيمان بنبوّة سليمان عليه السلام إذا رأت تلك المعجزة البينة ، من تقدّم عرشها وقد خلفته وأغلقت عليه الأبواب ونصبت عليه الحرَّاس . هكذا ثلاث كلمات : حرف التنبيه ، وكاف التشبيه ، واسم الإشارة . لم يقل : أهذا عرشك ، ولكن : أمثل هذا عرشك؛ لئلا يكون تلقيناً { قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } ولم تقل : هو هو ، ولا ليس به ، وذلك من رجاحة عقلها ، حيث لم تقطع في المحتمل { وَأُوتِينَا العلم } من كلام سليمان وملئه : فإن قلت : علام عطف هذا الكلام ، وبم اتصل؟ قلت : لما كان المقام - الذي سئلت فيه عن عرشها وأجابت بما أجابت به - مقاماً أجرى فيه سليمان وملؤه ما يناسب قولهم : { وَأُوتِينَا العلم } نحو أن يقولوا عند قولها كأنه هو : قد أصابت في جوابها وطبقت المفصل ، وهي عاقلة لبيبة ، وقد رزقت الإسلام ، وعلمت قدرة الله وصحة النبوّة بالآيات التي تقدّمت عند وفدة المنذر ، وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها - عطفوا على ذلك قولهم : وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته ، وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها ، ولم نزل على دين الإسلام شكراً لله على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله والإسلام قبلها { وَصَدَّهَا } عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة؛ ويجوز أن يكون من كلام بلقيس موصولاً بقولها : { كَأَنَّهُ هُوَ } والمعنى : وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوّة سليمان عليه السلام قبل هذه المعجزة أو قبل هذه الحالة ، تعني : ما تبينت من الآيات عند وفدة المنذر ودخلنا في الإسلام ، ثم قال الله تعالى : وصدها قبل ذلك عما دخلت فيه ضلالها عن سواء السبيل . وقيل : وصدها الله - أو سليمان - عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل [ إنها ] وقرى : «أنها» بالفتح على أنه بدل من فاعل صد . أو بمعنى لأنها .
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
الصرح : القصر . وقيل : صحن الدار . وقرأ ابن كثير «سأقيها» بالهمزة . ووجهه أنه سمع سؤقا ، فأجري عليه الواحد . والممرد : المملس ، وروي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها فبني له على طريقها قصر من زجاج أبيض ، وأجرى من تحته الماء ، وألقي فيه من دواب البحر السمك وغيره ، ووضع سريره في صدره ، فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس ، وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره ، وتحققاً لنبوته ، وثباتاً على الدين . وزعموا أنّ الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم ، لأنها كانت بنت جنية . وقيل : خافوا أن يولد له منها ولد تجتمع له فطنة الجن والإنس ، فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشدّ وأفظع ، فقالوا له : إن في عقلها شيئاً ، وهي شعراء الساقين ، ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش ، واتخذ الصرح ليتعرف ساقها ورجلها ، فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً لا أنها شعراء ، ثم صرف بصره وناداها { إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ } وقيل : هي السبب في اتخاذ النورة : أمر بها الشياطين فاتخذوها ، واستنكحها سليمان عليه السلام ، وأحبها وأقرّها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان ، وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام ، وولدت له . وقيل : بل زوجها ذا تبع ملك همدان ، وسلطة على اليمن ، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه ، فبنى له المصانع ، ولم يزل أميراً حتى مات سليمان { ظَلَمْتُ نَفْسِى } تريد بكفرها فيما تقدّم ، وقيل حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة فقالت : ظلمت نفسي بسوء ظني بسليمان عليه السلام .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
وقرىء : «أن اعبدوا» ، بالضم على إتباع النون الباء { فَرِيقَانِ } فريق مؤمن وفريق كافر . وقيل أريد بالفريقين صالح عليه السلام وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد { يَخْتَصِمُونَ } يقول كل فريق : الحق معي . السيئة : العقوبة ، والحسنة : التوبة ، فإن قلت : ما معنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة؟ وإنما يكون ذلك إذا كانتا متوقعتين إحداهما قبل الأخرى؟ قلت : كانوا يقولون لجهلهم : إن العقوبة التي يعدها صالح عليه السلام إن وقعت على زعمه ، تبنا حينئذٍ واستغفرنا - مقدّرين أن التوبة مقبولة في ذلك الوقت - . وإن لم تقع ، فنحن على ما نحن عليه ، فخاطبهم صالح عليه السلام على حسب قولهم واعتقادهم ، ثم قال لهم : هلا تستغفرون الله قبل نزول العذاب؟ { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } تنبيهاً لهم على الخطأ فيما قالوه؛ وتجهيلاً فيما اعتقدوه .
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
وكان الرجل يخرج مسافراً فيمر بطائر فيزجره ، فإن مر سانحاً تيمن ، وإن مر بارحاً تشاءم ، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر ، استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته : أو من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة . ومنه قالوا : طائر الله لا طائرك ، أي : قدر الله الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر ، لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن ، فلما قالوا : اطيرنا بكم ، أي : تشاءمنا وكانوا قد قحطوا { قَالَ طائركم عِندَ الله } أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله ، وهو قدره وقسمته ، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم . ويجوز أن يريد : عملكم مكتوب عند الله ، فمنه نزل بكم ما نزل ، عقوبة لكم وفتنة . ومنه قوله : { طائركم مَّعَكُمْ } [ يس : 19 ] ، { وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] . وقرىء : «تطيرنا بكم» ، على الأصل . ومعنى : تطير به : تشاءم به . وتطير منه : نفر منه { تُفْتَنُونَ } تختبرون . أو تعذبون . أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة .
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
{ المدينة } الحجر . وإنما جاز تمييز التسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة ، فكأنه قيل : تسعة أنفس . والفرق بين الرهط والنفر : أن الرهط من الثلاثة إلى العشرة ، أو من السبعة إلى العشرة . والنفر من الثلاثة إلى التسعة وأسماؤهم عن وهب : الهذيل بن عبد رب . غنم بن غنم . رباب بن مهرج . مصدع بن مهرج . عمير بن كردبة . عاصم بن مخرمة . سبيط بن صدقة . سمعان بن صيفي . قدار بن سالف : وهم الذين سعوا في عقر الناقة ، وكانوا عتاة قوم صالح عليه السلام ، وكانوا من أبناء أشرافهم { وَلاَ يُصْلِحُونَ } يعني أن شأنهم الإفساد البحت الذي لا يخلط بشيء من الصلاح كما ترى بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح { تَقَاسَمُواْ } يحتمل أن يكون أمراً وخبراً في محل الحال بإضمار قد ، أي : قالوا متقاسمين : وقرىء : «تقسموا» وقرىء : «لتبيتنه» ، بالتاء والياء والنون ، فتقاسموا - مع النون والتاء - يصح فيه الوجهان . ومع الياء لا يصح إلا أن يكون خبراً . والتقاسم ، والتقسم : كالتظاهر ، والتظهر : التحالف . والبَيَات : مباغتة العدو ليلاً . وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال : ليس من آيين الملوك استراق الظفر ، وقرىء : «مهلك» بفتح الميم واللام وكسرها من هلك . ومهلك بضم الميم من أهلك . ويحتمل المصدر والزمان والمكان ، فإن قلت : كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا ، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ قلت كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحاً وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين ثم قالوا : ما شهدنا مهلك أهله؛ فذكروا أحدهما : كانوا صادقين ، لأنهم فعلوا البياتين جميعاً لا أحدهما وفي هذا دليل قاطع على أن الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم . ألا ترى أنهم قصدوا قتل نبي الله ولم يرضوا لأنفسهم بأن يكونوا كاذبين حتى سووا للصدق في خبرهم حيلة يتفصون بها عن الكذب . { مَكْرِهِمْ } : ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح عليه السلام وأهله . ومكر الله : إهلاكهم من حيث لا يشعرون . شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة . روي أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه ، فقالوا : زعم صالح عليه السلام أنه يفرغ منا إلى ثلاث ، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث . فخرجوا إلى الشعب وقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم ، فبعث الله صخرة من الهِضَبّ حيالهم ، فبادروا ، فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب . فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم ، وعذب الله كلاً منهم في مكانه ، ونجى صالحاً ومن معه . وقيل : جاءوا بالليل شاهري سيوفهم ، وقد أرسل الله الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة : يرون الحجارة ولا يرون رامياً { أَنَّا دمرناهم } استئناف . ومن قرأ بالفتح رفعه بدلاً من العاقبة ، أو خبر مبتدإ محذوف تقديره : هي تدميرهم . أو نصبه على معنى : لأنا . أو على أنه خبر كان ، أي : كان عاقبة مكرهم الدمار { خَاوِيَةً } حال عمل فيها ما دل عليه تلك . وقرأ عيسى بن عمر : «خاوية» بالرفع على خبر المبتدإ المحذوف .
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
{ و } اذكر { لُوطاً } أو أرسلنا لوطاً لدلالة ( ولقد أرسلنا ) عليه . و { إِذْ } بدل على الأول ظرف على الثاني . { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } من بصر القلب ، أي : تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها ، وأن الله إنما خلق الأنثى للذكر ولم يخلق الذكر للذكر ، ولا الأنثى للأنثى ، فهي مضادّة لله في حكمته وحكمه ، وعلمكم بذلك أعظم لذنوبكم وأدخل في القبح والسماجة . وفيه دليل على أن القبيح من الله أقبح منه من عبادة؛ لأنه أعلم العالمين وأحكم الحاكمين . أو تبصرونها بعضكم من بعض ، لأنهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معالنين بها ، لا يتستر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة ، وإنهماكاً في المعصية ، وكأن أبا نواس بني على مذهبهم قوله :
وَبُحْ بِاسْمِ مَا تَأْتِي وَذَرْنِي مِنَ الْكُنَى ... فَلاَ خَيْرَ فِي اللَّذَّاتِ مِنْ دُونِهَا سِتْرُ
أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم . فإن قلت : فسرت تبصرون بالعلم وبعده { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } فكيف يكونون علماء وجهلاء؟ قلت : أراد : تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك . أو تجهلون العاقبة . أو أراد بالجهل . السفاهة والمجانة التي كانوا عليها فإن قلت : { تَجْهَلُونَ } صفة لقوم ، والموصوف لفظه لفظ الغائب ، فهلا طابقت الصفة الموصوف فقرىء بالياء دون التاء؟ وكذلك بل أنتم قوم تفتنون؟ قلت : اجتمعت الغيبة والمخاطبة ، فغلبت المخاطبة ، لأنها أقوى وأرسخ أصلاً من الغيبة .
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
وقرأ الأعمش : «جوابُ قومه» ، بالرفع . والمشهورة أحسن { يَتَطَهَّرُونَ } يتنزهون عن القاذورات كلها ، فينكرون هذا العمل القذر ، ويغيظنا إنكارهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو استهزاء { قدرناها } قدّرنا كونها { مِنَ الغابرين } كقوله : { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } [ الحجر : 60 ] فالتقدير واقع على الغبور في المعنى .
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته وقدرته على كل شيء وحكمته ، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده . وفيه تعليم حسن ، وتوقيف على أدب جميل ، وبعث على التيمن بالذكرين ، والتبرك بهما ، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه ، وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع . ولقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابراً عن كابر هذا الأدب ، فحمدوا الله عزّ وجل وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام كل علم مفاد وقبل كل عظة وتذكرة ، وفي مفتتح كل خطبة ، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن . وقيل : هو متصل بما قبله ، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم والصلاة على الأنبياء عليهم السلام وأشياعهم الناجين . وقيل : هو خطاب للوط عليه السلام ، وأن يحمد الله على هلاك كفار قومه ، ويسلم على من اصطفاه الله ونجاه من هلكتهم وعصمه من ذنوبهم [ آلله خيرٌ ما يشركون ] معلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلاً حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه ، وإنما هو إلزام لهم وتبكيت وتهكم بحالهم ، وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله ، ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لداع يدعوه إلى إيثاره من زيادة خير ومنفعة ، فقيل لهم ، مع العلم بأنه لا خير فيما آثروه ، وأنهم لم يؤثروه لزيادة الخير ولكن هوى وعبثاً ، لينبهوا على الخطأ المفرط والجهل المورط وإضلالهم التمييز ونبذهم المعقول وليعلموا أنّ الإيثار يجب أن يكون للخير الزائد . ونحوه ما حكاه عن فرعون { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذا الذى هُوَ مَهِينٌ } [ الزخرف : 52 ] مع علمه أنه ليس لموسى مثل أنهاره التي كانت تجري تحته . ثم عدّد سبحانه الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله ، كما عدّدها في موضع آخر ثم قال : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء . وقرىء : «يشركون» بالياء والتاء . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 799 ) أنه كان إذا قرأها يقول : " بل الله خير وأبقى وأجل أكرم " .
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
فإن قلت : ما الفرق بين أم وأم في { أَمْ مَا تُشْرِكُونَ } و { أَمَّنْ خَلَقَ السماوات } ؟ قلت : تلك متصلة؛ لأنّ المعنى : أيهما خير . وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة ، لما قال تعالى : آلله خير أم الآلهة؟ قال : بل أمّن خلق السموات والأرض خير؟ تقريراً لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء . وقرأ الأعمش : أمَن ، بالتخفيف . ووجهه أن يجعل بدلاً من الله ، كأنه قال : أمّن خلق السموات والأرض خير أم ما تشركون؟ فإن قلت : أي نكتة في نقل الإخبار عن الغيبة إلى التكلم عن ذاته في قوله فَأَنْبَتْنَا؟ قلت : تأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته ، والإيذان بأنّ إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع حسنها وبهجتها بماء واحد . لا يقدر عليه إلا هو وحده . ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص بقوله : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } ومعنى الكينونة : الانبغاء . أراد أن تأتي ذلك محال من غيره ، وكذلك قوله : { بَلْ هُمْ } بعد الخطاب : أبلغ في تخطئة رأيهم . والحديقة : البستان عليه حائط : من الإحداق وهو الإحاطة . وقيل ( ذات ) ؛ لأنّ المعنى : جماعة حدائق ذات بهجة ، كما يقال : النساء ذهبت . والبهجة : الحسن ، لأنّ الناظر يبتهج به { أءلاه مَّعَ الله } أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له . وقرىء : «أإلها مع الله» ، بمعنى : أتدعون ، أو أتشركون . ولك أن تحقق الهمزتين وتوسط بينهما مدّة ، وتخرج الثانية بين بين { يَعْدِلُونَ } به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد .
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
{ أَمَّن جَعَلَ } وما بعده بدل من ( أمن خلق ) فكان حكمهما حكمه { قَرَاراً } دحاها وسوّاها للاستقرار عليها { حَاجِزاً } كقوله : برزخاً .
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
الضرورة : الحالة المحوجة إلى اللجإ . والإضرار : افتعال منها . يقال : اضطرّه إلى كذا ، والفاعل والمفعول : مضطر . والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجإ والتضرع إلى الله . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هو المجهود . وعن السدّي : الذي لا حول له ولا قوة . وقيل : المذنب إذا استغفر . فإن قلت : قد عم المضطرين بقوله : { يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } وكم من مضطرّ يدعوه فلا يجاب؟ قلت؛ الإجابة موقوفة على أن يكون المدعوّ به مصلحة ، ولهذا لا يحسن دعاء العبد إلا شارطاً فيه المصلحة . وأما المضطر فمتناول للجنس مطلقاً ، يصلح لكله ولبعضه ، فلا طريق إلى الجزم على أحدهما إلا بدليل ، وقد قام الدليل على البعض وهو الذي أجابته مصلحة ، فبطل التناول على العموم { خُلَفَآءَ الأرض } خلفاء فيها ، وذلك توارثهم سكناها والتصرف فيها قرنا بعد قرن . أو أراد بالخلافة الملك والتسلط . وقرىء : «يذكرون» بالياء مع الإدغام . وبالتاء مع الإدغام والحذف . وما مزيدة ، أي : يذكرون تذاكراً قليلاً . والمعنى : نفي التذكر ، والقلة تستعمل في معنى النفي .
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
{ يَهْدِيكُمْ } بالنجوم في السماء ، والعلامات في الأرض : إذا جنّ الليل عليكم مسافرين في البر والبحر .
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
فإن قلت : كيف قيل لهم : { أَمَّن يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } وهم منكرون للإعادة؟ قلت : قد أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار ، فلم يبق لهم عذر في الإنكار { مّنَ السمآء } الماء { و } من { الأرض } النبات { إِن كُنتُمْ صادقين } أنّ مع الله إلهاً ، فأين دليلكم عليه؟
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
فإن قلت : لم رفع اسم الله ، والله يتعالى أن يكون ممن في السموات والأرض؟ قلت : جاء على لغة بني تميم ، حيث يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار ، يريدون : ما فيها إلا حمار ، كأن أحداً لم يذكر . ومنه قوله :
عَشِيَّةَ مَا تُغنِي الرِّماحُ مَكَانَهَا ... وَلاَ النَّبْلُ إلاَّ الْمَشْرَفِيُّ الْمُصَمّمُ
وقولهم : ما أتاني زيد إلا عمرو ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه . فإِن قلت : ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ قلت : دعت إليه نكتة سَرية . حيث أخرج المستثنى مخرج قوله : إلا اليعافير ، بعد قوله : ليس بها أنيس ، ليؤول المعنى إلى قولك : إن كان الله ممن في السموات والأرض ، فهم يعلمون الغيب ، يعني : أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم ، كما أنّ معنى ما في البيت : إن كانت اليعافير أنيساً ففيها أنيس ، بتاً للقول بخلوّها عن الأنيس . فإن قلت : هلا زعمت أنّ الله ممن في السموات والأرض ، كما يقول المتكلمون : الله في كل مكان ، على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها ، فكأن ذاته فيها حتى لا تحمله على مذهب بني تميم؟ قلت : يأبى ذلك أن كونه في السموات والأرض مجاز ، وكونهم فيهن حقيقة ، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازاً غير صحيحة ، على أنّ قولك : من في السموات والأرض ، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد : فيه إيهام تسوية ، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته تعالى . ألا ترى كيف قال صلى الله عليه وسلم لمن قال :
( 800 ) ومن يعصهما فقد غوى : " بئس خطيب ا لقوم أنت " وعن عائشة رضي الله عنها :
( 801 ) " من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية " ، والله تعالى يقول : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } . وعن بعضهم : أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحداً؛ لئلا يأمن أحد من عبيده مكره . وقيل : نزلت في المشركين حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة { أَيَّانَ } بمعنى متى ، ولو سمي به : لكان فعالاً ، من آن يئين ولا نصرف . وقرىء : «إيان» بكسر الهمزة .
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
وقرىء : «بل أدَّرك» ، «بل ادَّراك» ، «بل ادَّارك» ، «بل تدارك» ، «بل أأدرك» بهمزتين «بل آأدرك» ، بألف بينهما . «بل أدرك» ، بالتخفيف والنقل «بل ادّرك» بفتح اللام وتشديد الدال . وأصله : بل أدّرك؟ على الاستفهام «بلى أدرك» ، «بلى أأدرك» ، «أم تدارك» ، «أم أدرك» فهذه ثنتا عشرة قراءة : وأدّارك : أصله تدارك ، فأدغمت التاء في الدال . وادّرك : افتعل . ومعنى أدرك علمهم : انتهى وتكامل . وادّارك : تتابع واستحكم . وهو على وجهين ، أحدهما : أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيه ، قد حصلت لهم ومكنوا من معرفته ، وهم شاكون جاهلون ، وهو قوله : { بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } : يريد المشركين ممن في السموات والأرض؛ لأنهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع ، كما يقال : بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم . فإن قلت : إن الآية سيقت لاختصاص الله بعلم الغيب ، وأن العباد لا علم لهم بشيء منه وأن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به ، فكيف لاءم هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة؟ قلت : لما ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب ، ولا يشعرون بالبعث الكائن ووقته الذي يكون فيه ، وكان هذا بياناً لعجزهم ووصفاً لقصور علمهم : وصل به أن عندهم عجزا أبلغ منه ، وهو أنهم يقولون للكائن الذي لا بدّ أن يكون - وهو وقت جزاء أعمالهم - لا يكون ، مع أن عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به . والوجه الثاني : أن وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكم بهم ، كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك!على سبيل الهزؤ ، وذلك حيث شكوا وعموا عن إثباته الذي الطريق إلى علمه مسلوك ، فضلاً أن يعرفوا وقت كونه الذي لا طريق إلى معرفته : وفي : أدرك علمهم ، وادارك علمهم : وجه آخر ، وهو أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفنى ، من قولك : أدركت الثمرة؛ لأن تلك غايتها التي عندها تعدم : وقد فسره الحسن رضي الله عنه باضمحل علمهم وتدارك ، من تدارك بنو فلان : إذا تتابعوا في الهلاك فإن قلت ، فما وجه قراءة من قرأ : بل أأدرك على الاستفهام؟ قلت : هو استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم ، وكذلك من قرأ : أم أدرك . وأم تدارك؛ لأنها أم التي بمعنى بل والهمزة . فإن قلت : فمن قرأ : بلى أدرك ، وبلى أأدرك؟ قلت : لما جاء ببلى ، بعد قوله : { وَمَا يَشْعُرُونَ } كان معناه : بلى يشعرون ، ثم فسر الشعور بقوله : أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم ، فكأنه قال : شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها ، فيرجع إلى نفي الشعور على أبلغ ما يكون .
وأما من قرأ : بلى أأدرك؟ على الاستفهام فمعناه : بلى يشعرون متى يبعثون ، ثم أنكر علمهم بكونها ، وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها؛ لأنّ العلم بوقت الكائن تابع للعلم بكون الكائن { فِى الأخرة } في شأن الآخرة ومعناه . فإن قلت : هذه الاضرابات الثلاث ما معناها؟ قلت : ما هي إلا تنزيل لأحوالهم : وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة . ألا ترى أن من لم يسمع اختلاف المذاهب وتضليل أربابها بعضهم لبعض : كان أمره أهون ممن سمع بها وهو جاثم لا يشخص به طلب التمييز بين الحق والباطل ، ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى ، وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه ، لا يخطر بباله حقاً ولا باطلاً . ولا يفكر في عاقبة . وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدّاه بمن دون عن؛ لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
العامل في { إِذآ } ما دلّ عليه { أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ } وهو نخرج؛ لأنّ بين يدي عمل اسم الفاعل فيه عقابا وهي همزة الاستفهام ، وإن ولام الابتداء وواحدة منها كافية ، فكيف إذا اجتمعن؟ والمراد : الإخراج من الأرض . أو من حال الفناء إلى الحياة ، وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على «إذا» و«إن» جميعاً إنكار على إنكار ، وجحود عقيب جحود ، ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه . والضمير في إن لهم ولآبائهم؛ لأنّ كونهم تراباً قد تناولهم وآبائهم . فإن قلت : قدّم في هذه الآية { هذا } على { نَحْنُ وَءابآؤُنَا } وفي آية أخرى قدّم { نَحْنُ وَءابَآؤُنَا } على { هذا } ؟ قلت : التقديم دليل على أن المقدّم هو الغرض المتعمد بالذكر ، وإن الكلام إنما سيق لأجله ، ففي إحدى الآيتين دلّ على أن اتخاذ البعث هو الذي تعمد بالكلام ، وفي الأخرى على أن اتخاذ المبعوث بذلك الصدد .
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
لم تلحق علامة التأنيث بفعل العاقبة؛ لأنّ تأنيثها غير حقيقي؛ ولأنّ المعنى : كيف كان آخر أمرهم؟ وأراد بالمجرمين : الكافرين ، وإنما عبر عن الكفر بلفظ الإجرام ليكون لطفاً للمسلمين في ترك الجرائم وتخوّف عاقبتها ألا ترى إلى قوله : { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ } [ الشمس : 14 ] وقوله : { مِّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ } [ نوح : 25 ] . { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } لأنهم لم يتبعوك ، ولم يُسلموا فيَسلموا وهم قومه قريش ، كقوله تعالى : { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] . { فِى ضَيْقٍ } في حرج صدر من مكرهم وكيدهم لك ، ولا تبال بذلك فإن الله يعصمك من الناس . يقال : ضاق الشيء ضيقاً وضيقاً ، بالفتح والكسر . وقد قرىء بهما والضيق أيضاً : تخفيف الضيق . قال الله تعالى : { ضَيِّقاً حَرَجاً } [ الأنعام : 125 ] قرىء مخففاً ومثقلاً ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم { عسى أَن يَكُونَ } ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو : دنا لكم وأزف لكم ، ومعناه : وتبعكم ولحقكم ، وقد عدي . بمن قال :
فَلَمَّا رَدِفْنَا مِنْ عُمَيْرٍ وَصَحْبِهِ ... تَوَلَّوا سِرَاعاً وَالمَنِيَّةُ تُعْنِقُ
يعني : دنونا من عمير ، وقرأ الأعرج : ردف لكم ، بوزن ذهب ، وهما لغتان ، والكسر أفصح . وعسى ولعل وسوف - في وعد الملوك ووعيدهم - يدل على صدق الأمر وجدّه وما لا مجال للشكّ بعده ، وإنما يعنون بذلك : إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام؛ لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم أنّ عدوّهم لا يفوتهم ، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم؛ فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)
الفضل والفاضلة : الإفضال . ولفلان فواضل في قومه وفضول . ومعناه : أنه مفضل عليهم بتأخير العقوبة ، وأنه لا يعاجلهم بها ، وأكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه ولا يشكرونه ولكنهم بجهلهم يستعجلون وقوع العقاب : وهم قريش .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
قرىء تكنّ . يقال : كننت الشيء وأكننته : إذا سترته وأخفيته ، يعني : أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم ، وهو معاقبهم على ذلك بما يستوجبونه .
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
سمي الشيء الذي يغيب ويخفى : غائبة وخافية ، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العافية والعاقبة . ونظائرهما : النطيحة ، والرمية ، والذبيحة : في أنها أسماء غير صفات . ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة ، كالراوية في قولهم : ويل للشاعر من راوية السوء ، كأنه قال : وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح . المبين : الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة .
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
قد اختلفوا في المسيح فتحزبوا فيه أحزاباً ، ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضها ، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا ، يريد : اليهود والنصارى { لِلْمُؤْمِنِينَ } [ أي ] لمن أنصف منهم وآمن ، أي : من بني إسرائيل . أو منهم ومن غيرهم .
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
{ بَيْنَهُم } بين من آمن بالقرآن ومن كفر به . فإن قلت : ما معنى يقضي بحكمه؟ ولا يقال زيد يضرب بضربه ويمنع بمنعه؟ قلت . معناه بما يحكم به وهو عدله ، لأنه لا يقضي إلا بالعدل ، فسمى المحكوم به حكماً . أو أراد بحكمته - وتدل عليه قراءة من قرأ بحكمه : جمع حكمة . { وَهُوَ العزيز } فلا يردّ قضاؤه { العليم } بمن يقضي له وبمن يقضي عليه ، أو العزيز في انتقامه من المبطلين ، العليم بالفصل بينهم وبين المحقين .
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين ، وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج الذي لا يتعلق به الشكّ والظنّ . وفيه بيان أنّ صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته ، وأن مثله لا يخذل . فإن قلت : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } يشبه أن يكون تعليلاً آخر للتوكل ، فما وجه ذلك؟ قلت : وجهه أن الأمر بالتوكل جعل مسبباً عما كان يغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة المشركين وأهل الكتاب : من ترك اتباعه وتشييع ذلك بالأذى والعداوة ، فلاءم ذلك أن يعلل توكل متوكل مثله ، بأن اتباعهم أمر قد يئس منه ، فلم يبق إلا الاستنصار عليهم لعداوتهم واستكفاء شرورهم وأذاهم ، وشبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس ، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله - فكانوا أقماع القول لا تعيه آذانهم وكان سماعهم كلا سماع - : كانت حالهم - لانتفاء جدوى السماع - كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع؛ وكذلك تشبيههم بالصمّ الذين ينعق بهم فلا يسمعون . وشبهوا بالعمى حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ، وأن يجعلهم هداة بصراء إلا الله عز وجل . فإن قلت : ما معنى قوله : { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } ؟ قلت : هو تأكيد لحال الأصم ، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولي عنه مدبراً كان أبعد عن إدراك صوته . وقرىء : «ولا يسمع الصمّ» «وما أنت بهاد العمى» ، على الأصل . وتهدي العمى . وعن ابن مسعود : «وما أن تهدي العمى» ، وهداه عن الضلال . كقولك : سقاه عن العيمة أي : أبعده عنها بالسقي ، وأبعده عن الضلال بالهدى { إِن تُسْمِعُ } أي ما يجدي إسماعك إلا على الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته ، أي : يصدقون بها { فَهُم مُّسْلِمُونَ } أي مخلصون من قوله : { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ البقرة : 112 ] يعني : جعله سالماً لله خالصاً له .
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
سمى معنى القول ومؤداه بالقول ، وهو ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب ، ووقوعه : حصوله . والمراد : مشارفة الساعة وظهور أشراطها وحين لا تنفع التوبة . ودابة الأرض : الجساسة . جاء في الحديث :
( 802 ) أنَّ طولَها ستونَ ذراعاً ، لا يدركُها طالبٌ ، ولا يفوتُها هاربٌ . وروي : لها أربعٌ قوائمٌ وزغبٌ وريشٌ وجناحان وعن ابن جريج في وصفها : رأس ثور ، وعين خنزير ، وأذن فيل ، وقرن إبل ، وعنق نعامة ، وصدر أسد ، ولون نمر ، وخاصرة هرّ ، وذنب كبش ، وخف بعير . وما بين المفصلين : اثنا عشر ذراعاً بذراع آدم عليه السلام . وروي : لا تخرج إلا رأسها ، ورأسها يبلغ أعنان السماء ، أو يبلغ السحاب . وعن أبي هريرة : فيها من كل لون ، وما بين قرنيها فرسخ للراكب . وعن الحسن رضي الله عنه : لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام . وعن علي رضي الله عنه : أنها تخرج ثلاثة أيام ، والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه سئل :
( 803 ) من أين تخرج الدابة؟ فقال : " من أعظم المساجدِ حرمةً على اللَّهِ " يعني المسجد الحرام . وروي :
( 804 ) أنها تخرج ثلاث خرجات : تخرج بأقصى اليمن ثم تتمكن ، ثم تخرج بالبادية ثم تتكمن دهراً طويلاً ، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله ، فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد ، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة . وقيل : تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية بلسان ذلق فتقول { أَنَّ الناس كَانُوا بئاياتنا لاَ يُوقِنُونَ } يعني أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي؛ لأنّ خروجها من الآيات ، وتقول : ألا لعنة الله على الظالمين . وعن السدي : تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام . وعن ابن عمرو رضي الله عنه : تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل المشرق ، ثم الشام ثم اليمن فتفعل مثل ذلك . وروي : تخرج من أجياد . وروي :
( 805 ) بينا عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون ، إذ تضطرب الأرض تحتهم [ حتى ] تحرك القنديل ، وينشق الصفا مما يلي المسعى ، فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتضرب المؤمن في مسجده ، أو فيما بين عينيه بعصا موسى عليه السلام ، فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه أو فتترك وجهه كأنه كوكب درّي ، وتكتب بين عينيه : مؤمن : وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه ، فتفشو النكتة حتى يسودّ لها وجهه وتكتب بين عينيه : كافر . وروي :
( 806 ) فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم ، ثم تقول لهم : يا فلان ، أنت من أهل الجنة . ويا فلان ، أنت من أهل النار . وقرىء : «تكلمهم» من الكلم وهو الجرح .
والمراد به : الوسم بالعصا والخاتم . ويجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضاً ، على معنى التكثير . يقال : فلان مكلم ، أي مجرّح . ويجوز أن يستدل بالتخفيف على أنّ المراد بالتكليم : التجريح ، كما فسر : لنحرقنه ، بقراءة عليّ رضي الله عنه : لنحرقنه ، وأن يستدل بقراءة أبيّ : تنبئهم . وبقراءة ابن مسعود : تكلمهم بأنّ الناس ، على أنه من الكلام . والقراءة بإن مكسورة : حكاية لقول الدابة ، إما لأنّ الكلام بمعنى القول . أو بإضمار القول ، أي : تقول الدابة ذلك . أو هي حكاية لقوله تعالى عند ذلك . فإن قلت : إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف تقول بآياتنا قلت : قولها حكاية لقول الله تعالى . أو على معنى بآيات ربنا . أو لاختصاصها بالله وأثرتها عنده ، وأنها من خواص خلقه : أضافت آيات الله إلى نفسها ، كما يقول بعض خاصة الملك : خيلنا وبلادنا ، وإنما هي خيل مولاه وبلاده . ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار ، أي : تكلمهم بأن .
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
{ فَهُمْ يُوزَعُونَ } يحبس أوّلهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار . وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه ، كما وصفت جنود سليمان بذلك . وكذلك قوله : { فَوْجاً } فإن الفوج الجماعة الكثيرة . ومنه قوله تعالى : { يَدْخُلُونَ فِى دِينِ الله أَفْوَاجاً } [ النصر : 2 ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أبو جهل والوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة : يساقون بين يدي أهل مكة ، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار . فإن قلت : أي فرق بين من الأولى والثانية؟ قلت : الأولى للتبعيض ، والثانية للتبيين ، كقوله : { مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85)
الواو للحال ، كأنه قال : أكذبتم بها باديء الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها ، وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب . أو للعطف ، أي : أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها؛ فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه ، ولا يدع مع ذلك أن يقرأ ويتفهم مضامينه ويحيط بمعانيه { أمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
بها للتبكيت لا غير . وذلك أنهم لم يعملوا إلا التكذيب ، فلا يقدرون أن يكذبوا ويقولوا قد صدّقنا بها وليس إلا التصديق بها أو التكذيب . ومثاله أن تقول لراعيك - وقد عرفته رويعي سوء - أتأكل نعمي ، أم ماذا تعمل بها؟ فتجعل ما تبتدىء به وتجعله أصل كلامك وأساسه هو الذي صحّ عندك من أكله وفساده ، وترمي بقولك : أم ماذا تعمل بها ، مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل؛ لتبهته وتعلمه علمك بأنه لا يجيء منه إلا أكلها ، وأنه لا يقدر أن يدعي الحفظ والإصلاح؛ لما شهر من خلاف ذلك . أو أراد : أما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله ، أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك؟ يعني أنه لم يكن لهم عمل غيره ، كأنهم لم يخلقوا إلا للكفر والمعصية ، وإنما خلقوا للإيمان والطاعة : يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها ، وذلك قوله : { وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم } يريد أن العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم ، وهو التكذيب بآيات الله ، فيشغلهم عن النطق والاعتذار ، كقوله تعالى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } [ المرسلات : 35 ] .
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
جعل الإبصار للنهار وهو لأهله . فإن قلت : ما للتقابل لم يراع في قوله : { لِيَسْكُنُواْ } و { مُبْصِراً } حيث كان أحدهما علة والآخر حالاً؟ قلت : هو مراعي من حيث المعنى ، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف؛ لأن معنى مبصراً : ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب .
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
فإن قلت : لم قيل : { فَفَزِعَ } دون فيفزع؟ قلت : لنكتة وهي الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة ، واقع على أهل السموات والأرض؛ لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعاً به . والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون { إِلاَّ مَن شَآءَ الله } إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة ، قالوا : هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت - عليهم السلام . وقيل : الشهداء . وعن الضحاك : الحور ، وخزنة النار ، وحملة العرش . وعن جابر : منهم موسى عليه السلام ، لأنه صعق مرّة . ومثله قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَآء الله } [ الزمر : 68 ] . وقرىء : «أتوه» . «وأتاه» «ودخرين» ، فالجمع على المعنى والتوحيد على اللفظ . والداخر والدخر : الصاغر . وقيل : مع الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية . ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له .
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
{ جَامِدَةً } من جمد في مكانه إذا لم يبرح . تجمع الجبال فتسير كما تسير الريح السحاب ، فإذا نظر إليها الناظر حسبها واقفه ثابتة في مكان واحد { وَهِىَ تَمُرُّ } مرّاً حثيثاً كما يمر السحاب . وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد : إذا تحرّكت لا تكاد تتبين حركتها ، كما قال النابغة في وصف جيش :
بِأَرْعَنَ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أَنَّهُمْ ... وُقُوفٌ لِحَاجٍ وَالرِّكَابُ تَهَمْلَجُ
{ صُنْعَ الله } من المصادر المؤكدة ، كقوله : { وَعَدَ الله } [ النساء : 95 ] . و { صِبْغَةَ الله } [ البقرة : 138 ] إلا أن مؤكده محذوف ، وهو الناصب ليوم ينفخ ، والمعنى : ويوم ينفخ في الصور وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين ، ثم قال : صنع الله ، يريد به : الإثابة والمعاقبة . وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب ، حيث قال : صنع الله { الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ } يعني أن مقابلته الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب : من جملة إحكامه للأشياء وإتقانه لها ، وإجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه ، فيكافئهم على حسب ذلك . ثم لخص ذلك بقوله : { مَن جآءَ بالحسنة } إلى آخر الآيتين ، فانظر إلى بلاغة هذا الكلام ، وحسن نظمه وترتيبه ، ومكانة إضماده ، ورصانة تفسيره وأخذ بعضه بحجزة بعض ، كأنما أفرغ إفراغاً واحداً ولأمر مّا أعجز القوي وأخرس الشقاشق . ونحو هذا المصدر إذا جاء عقيب كلام ، جاء كالشاهد بصحته والمنادي على سداده ، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان . ألا ترى إلى قوله : { صُنْعَ الله } ، و { صِبْغَةَ الله } [ البقرة : 138 ] ، و { وَعَدَ الله } [ النساء : 95 ] و { فِطْرَةَ الله } [ الروم : 30 ] : بعدما وسمها بإضافتها إليه بسمة التعظيم ، كيف تلاها بقوله : { الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ } ، { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } [ البقرة : 138 ] { لا يخلف الله الميعاد } [ الزمر : 20 ] { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } [ الروم : 30 ] وقرىء : «تفعلون» ، على الخطاب . { فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } يريد الإضعاف وأنّ العمل يتقضى والثواب يدوم ، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد . وقيل : فله خير منها ، أي : له خير حاصل من جهتها وهو الجنة ، وعن ابن عباس؛ الحسنة كلمة الشهادة . وقرىء : { يَوْمَئِذٍ } مفتوحاً مع الإضافة؛ لأنه أضيف إلى غير متمكن . ومنصوباً مع تنوين فزع . فإن قلت : ما الفرق بين الفزعين؟ قلت : الفزع الأوّل : هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع وهول يفجأ ، من رعب وهيبة ، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به؛ كما يدخل الرجل على الملك بصدر هياب وقلب وجاب وإن كان ساعة إعزاز وتكرمة وإحسان وتولية . وأمّا الثاني : فالخوف من العذاب . فإن قلت : فمن قرأ { مِّن فَزَعٍ } بالتنوين ما معناه؟ قلت : يحتمل معنيين . من فزع واحد وهو خوف العقاب ، وأمّا ما يلحق الإنسان من التهيب والرعب لما يرى من الأهوال والعظائم ، فلا يخلون منه؛ لأن البشرية تقتضي ذلك . وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه . ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف : وهو خوف النار . أمن : يعدي بالجار وبنفسه ، كقوله تعالى : { أفأمنوا مَكْرَ الله } [ الأعراف : 99 ] . وقيل : السيئة : الإشراك . يعبر عن الجملة بالوجه والرأس والرقبة ، فكأنه قيل : فكبوا في النار ، كقوله تعالى : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا } [ الشعراء : 94 ] ويجوز أن يكون ذكر الوجوه إيذاناً بأنهم يكبون على وجوههم فيها منكوسين { هَلْ تُجْزَوْنَ } يجوز فيه الالتفات وحكاية ما يقال لهم عند الكب بإضمار القول .
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
أمر رسوله بأن يقول : { أُمِرْتُ } أن أخص الله وحده بالعبادة ، ولا أتخذ له شريكاً كما فعلت قريش ، وأن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام { وَأَنْ أَتْلُوَاْ القرءان } من التلاوة أو من التلوّ كقوله : { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ } [ يونس : 109 ] ، [ الأحزاب : 2 ] . والبلدة : مكة حرسها الله تعالى : اختصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها؛ لأنها أحبّ بلاده إليه ، وأكرمها عليه؛ وأعظمها عنده . وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج في مهاجره ، فلما بلغ الحزورة استقبلها بوجهه الكريم فقال :
( 807 ) " إني أعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله . ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت " وأشار إليها إشارة تعظيم لها وتقريب ، دالاً على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه . ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها ، فأجزل بذلك قسمها في الشرف والعلو ، ووصفها بأنها محرّمة لا ينتهك حرمتها إلا ظالم مضادّ لربه { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادِ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها . واللاجىء إليها آمن . وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما . وفي ذلك إشارة إلى أن ملكاً ملك مثل هذه البلدة عظيم الشأن قد ملكها وملك إليها كل شيء : اللهم بارك لنا في سكناها ، وآمنا فيها شرَّ كل ذي شرّ ، ولا تنقلنا من جوار بيتك إلا إلى دار رحمتك . وقرىء : «التي حرّمها» . واتل عليهم هذا القرآن : عن أبيّ «وأن أتل» : عن ابن مسعود . { فَمَنِ اهتدى } باتباعه إياي فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفي الأنداد عنه ، والدخول في الملة الحنيفية ، واتباع ما أنزل عليّ من الوحي؛ فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إليّ { وَمَن ضَلَّ } ولم يتبعني فلا عليّ ، وما أنا إلا رسول منذر ، وما على الرسول إلا البلاغ . ثم أمره أن يحمد الله على ما خوّله من نعمة النبوّة التي لا توازيها نعمة ، وأن يهدّد أعداءه بما سيريهم الله من آياته التي تلجئهم إلى المعرفة ، والإقرار بأنها آيات الله . وذلك حين لا تنفعهم المعرفة . يعني في الآخرة . عن الحسن وعن الكلبي : الدخان ، وانشقاق القمر . وما حلّ بهم من نقمات الله في الدنيا . وقيل : هو كقوله : { سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الأفاق وفى أَنفُسِهِمْ } الآية [ فصلت : 53 ] . وكل عمل يعملونه ، فالله عالم به غير غافل عنه لأنّ . الغفلة والسهو لا يجوزان على عالم الذات ، وهو من وراء جزاء العالمين . قرىء : «تعملون» ، بالتاء والياء .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 808 ) " مَن قرأَ طس سليمانَ كانَ لَهُ مِنَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بِعددٍ مِنْ صدّقَ سليمانَ وكذَب به وهود وشعيبِ وصالحٍ وإبراهيمَ ، ويخرجُ منْ قبرِهِ وهو ينادِي لاَ إلهَ إِلاَّ الله " .
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
{ مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ } مفعول نتلو ، أي : نتلو عليك بعض خبرهما { بالحق } محقين ، كقوله تنبت بالدهن { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } لمن سبق في علمنا أنه يؤمن ، لأنّ التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم .
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
{ إِنَّ فِرْعَوْنَ } جملة مستأنفة كالتفسير للمجمل ، كأن قائلاً قال : وكيف كان نبؤهما فقال : إن فرعون { عَلاَ فِى الارض } يعني أرض مملكته قد طغى فيها وجاوز الحدّ في الظلم والعسف { شِيَعاً } فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه ، لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه . قال الأعشى :
وَبَلْدَةٍ يَرْهَبُ الْجَوَّابُ دُلْجَتَهَا ... حَتَّى تَرَاهُ عَلَيْهَا يَبْتَغِي الشِّيَعَا
أو يشيع بعضهم بعضاً في طاعته . أو أصنافاً في استخدامه يتسخر صنفاً في بناء وصنفاً في حرث وصنفاً في حفر ، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية ، أو فرقاً مختلفة قد أغرى بينهم العداوة ، وهم بنو إسرائيل والقبط . والطائفة المستضعفة : بنو إسرائيل : وسبب ذبح الأبناء : أنّ كاهناً قال له : يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده . وفيه دليل بيّن على ثخانة حمق فرعون ، فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن ، وإن كذب فما وجه القتل؟ و { يَسْتَضْعِفُ } حال من الضمير في { وَجَعَلَ } أو صفة لشيعا . أو كلام مستأنف . و { يُذَبِّحُ } بدل من يستضعف . وقوله : { إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين } بيان أنّ القتل ما كان إلا فعل المفسدين فحسب ، لأنه فعل لا طائل تحته ، صدق الكاهن أو كذب .
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
فإن قلت : علام عطف قوله : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ } وعطفه على { نتلو } و { يَسْتَضْعِفُ } غير سديد؟ قلت : هي جملة معطوفة على قوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض } لأنها نظيرة «تلك» في وقوعها تفسيراً لنبأ موسى وفرعون ، واقتصاصاً له . { وَنُرِيدُ } : حكاية حال ماضية . ويجوز أن يكون حالاً من يستضعف ، أي يستضعفهم فرعون ، ونحن نريد أن نمنّ عليهم . فإن قلت : كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله المنة عليهم؟ وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يتوقف إلى وقت آخر ، قلت : لما كانت منة الله بخلاصهم من فرعون قريبة الوقوع ، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم { أَئِمَّةً } مقدّمين في الدين والدنيا ، يطأ الناس أعقابهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : قادة يقتدى بهم في الخير . وعن مجاهد رضي الله عنه : دعاة إلى الخير ، وعن قتادة رضي الله عنه : ولاة ، كقوله تعالى : { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } [ المائدة : 20 ] . { الوارثين } يرثون فرعون وقومه ملكهم وكل ما كان لهم . مكن له : إذا جعل له مكاناً يقعد عليه أو يرقد ، فوطأه ومهده ونظيره : أرّض له . ومعنى التمكين لهم في الأرض وهي أرض مصر والشام : أن يجعلها بحيث لا تنبو بهم ولا تغث عليهم؛ كما كانت في أيام الجبابرة ، وينفذ أمرهم ، ويطلق أيديهم ويسلطهم . وقرىء : «ويرى فرعون وهامان وجنودهما» ، أي : يرون { مّنْهُمْ مَّا } حذروه : من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم .
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
اليم : البحر . قيل : هو نيل مصر . فإن قلت : ما المراد بالخوفين حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر؟ قلت : أما الأوّل فالخوف عليه من القتل؛ لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته فينموا عليه . وأما الثاني ، فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في يد بعض العيون المبثوثة من قبل فرعون في تطلب الولدان ، وغير ذلك من المخاوف . فإن قلت : ما الفرق بين الخوف والحزن؟ قلت : الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع . والحزن : غم يلحقه لواقع وهو فراقه والإخطار به ، فنهيت عنهما جميعاً ، وأومنت بالوحي إليها ، ووعدت ما يسليها ويطامن قلبها ويملؤها غبطة وسروراً : وهو ردّه إليها وجعله من المرسلين . وروي : أنه ذبح في طلب موسى عليه السلام تسعون ألف وليد . وروي : أنها حين أقربت وضربها الطلق وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها ، فقالت لها : لينفعني حبك اليوم ، فعالجتها ، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه ، وارتعش كل مفصل منها ، ودخل حبه قلبها ، ثم قالت : ما جئتك إلا لأقبل مولودك وأخبر فرعون ، ولكني وجدت لابنك حباً ما وجدت مثله فاحفظيه ، فلما خرجت جاء عيون فرعون ، فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور ، لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها ، فطلبوا فلم يجدوا شيئاً ، فخرجوا وهي لا تدري مكانه ، فسمعت بكاءه من التنور ، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً . فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحى الله إليها فألقته في اليم . وقد روي أنها أرضعته ثلاثة أشهر في تابوت من بردي مطلي بالقار من داخله .
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
اللام في { لِيَكُونَ } هي لام كي التي معناها التعليل ، كقولك : جئتك لتكرمني سواء بسواء ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة ، لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوّاً وحزناً ، ولكن : المحبة والتبني ، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته ، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله ، وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء ، والتأدب الذي هو ثمرة الضرب في قولك : ضربته ليتأدّب . وتحريره : أن هذه اللام حكمها حكم الأسد ، حيث استعيرت لما يشبه التعليل ، كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد . وقرىء : «وحزناً» وهما لغتان : كالعُدم والعَدم { كَانُواْ خاطئين } في كل شيء ، فليس خطؤهم في تربية عدوّهم ببدع منهم . أو كانوا مذنبين مجرمين ، فعاقبهم الله بأن ربي عدوّهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم . وقرىء : «خاطين» ، تخفيف خاطئين ، أو خاطين الصواب إلى الخطأ .
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
روي أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه ، فلم يقدروا عليه ، فعالجوا كسره فأعياهم ، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نوراً ، فعالجته ففتحته ، فإذا بصبيّ نوره بين عينيه وهو يمصّ إبهامه لبناً فأحبوه ، وكانت لفرعون بنت برصاء ، وقالت له الأطباء : لا تبرأ إلا من ، قبل البحر ، يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه ، فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرأت . وقيل لما نظرت إلى وجهه برأت ، فقالت : إن هذه لنسمة مباركة ، فهذا أحد ما عطفهم عليه ، فقال الغواة من قومه : هو الصبي الذي نحذر منه ، فأذن لنا في قتله ، فهمّ بذلك فقالت آسية { قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ } فقال فرعون : لك لا لي . وروي في حديث :
( 809 ) " لو قالَ هوَ قرّةُ عين لي كما هُوَ لَكَ ، لهداهُ اللَّهُ كما هداهَا " ، وهذا على سبيل الفرض والتقدير ، أي : لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها ، ولأسلم كما أسلمت : هذا إن صح الحديث تأويله ، والله أعلم بصحته . وروي أنها قالت له : لعله من قوم آخرين ليس من بني إسرائيل . { قُرَّةُ عَيْنٍ } : خبر مبتدأ محذوف ولا يقوى أن تجعله مبتدأ و { لاَ تَقْتُلُوهُ } خبراً ، ولو نصب لكان أقوى . وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه دليل على أنه خبر ، قرأ : «لا تقتلوه قرّة عين لي ولك» ، بتقديم ( لا تقتلوه ) . { عسى أَن يَنفَعَنَا } فإنّ فيه مخايل اليمن ودلائل النفع لأهله ، وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء ، ولعلها توسمت في سيماه النجابة المؤذنة بكونه نفاعاً . أو نتبناه ، فإنه أهل للتبني ، ولأن يكون ولداً لبعض الملوك . فإن قلت : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حال ، فما ذو حالها؟ قلت : ذو حالها آل فرعون . وتقدير الكلام : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ، وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه . وقوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ } الآية : جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه ، مؤكدة لمعنى خطئهم . وماأحسن نظم هذا الكلام عند المرتاض بعلم محاسن النظم .
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
{ فَارِغاً } صفراً من العقل . والمعنى : أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع والدهش . ونحو قوله تعالى : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } [ إبراهيم : 43 ] أي جوّف لا عقول فيها ومنه بيت حسان :
أَلاَ أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي ... فَأَنْتَ مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هَوَاءُ
وذلك أن القلوب مراكز العقول . ألا ترى إلى قوله : { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } [ الحج : 46 ] ويدل عليه قراءة من قرأ : فرغاً . وقرىء : «قرعاً» أي خالياً من قولهم : أعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء . وفرغاً ، من قولهم : دماؤهم بينهم فرغ ، أي هدر ، يعني : بطل قلبها وذهب ، وبقيت لا قلب لها من شدّة ما ورد عليها { لَتُبْدِى بِهِ } لتصحر به . والضمير لموسى والمراد بأمره وقصته ، وأنه ولدها { لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } بإلهام الصبر ، كما يربط على الشيء المنفلت ليقرّ ويطمئن { لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين } من المصدقين بوعد الله ، وهو قوله : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } إليك ويجوز : وأصبح فؤادها فارغاً من الهم ، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه إن كادت لتبدي بأن ولدها؛ لأنها لم تملك نفسها فرحاً وسروراً بما سمعت ، لولا أنا طامنا قلبها وسكنَّا قلقه الذي حدث به من شدّة الفرح والابتهاج ، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لا بتبني فرعون وتعطفه . وقرىء : «مؤسى» ، بالهمزة : جعلت الضمة في جارة الواو وهي الميم كأنها فيها ، فهمزت كما تهمز واو وجوه { قُصّيهِ } اتبعي أثره وتتبعي خبره . وقرىء : «فبصرت» بالكسر يقال بصرت به عن جنب وعن جنابة ، بمعنى : عن بعد . وقرىء : «عن جانب» ، «وعن جنب» . والجنب : الجانب . يقال : قعد إلى جنبه وإلى جانبه ، أي : نظرت إليه مزورة متجانفة مخاتلة . { وهم لا يشعرون } وهم لا يحسون بأنها أخته ، وكان اسمها مريم .
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
التحريم : استعارة للمنع؛ لأنّ من حرم عليه الشيء فقد منعه . ألا ترى إلى قولهم : محظور . وحجر ، وذلك لأن الله منعه أن يرضع ثدياً ، فكان لا يقبل ثدي مرضع قط ، حتى أهمهم ذلك . والمراضع : جمع مرضع ، وهي المرأة التي ترضع . أو جمع مرضع ، وهو موضع الرضاع يعني الثدي أو الرضاع { مِن قَبْلُ } من قبل قصصها أثره . روي أنها لما قالت : { وَهُمْ لَهُ ناصحون } قال هامان : أنها لتعرفه وتعرف أهله ، فقالت : إنما أردت وهم للمك ناصحون والنصح : إخلاص العمل من شائب الفساد ، فانطلقت إلى أمها بأمرهم ، فجاءت بها والصبيّ على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع ، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها ، فقال لها فرعون : ومن أنت منه فقد أبى كل ثدي؟ إلا ثديك؟ قالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن ، لا أوتي بصبي إلا قبلني ، فدفعه إليها وأجرى عليها ، وذهبت به إلى بيتها ، وأنجز الله وعهده في الردّ ، فعندها ثبت واستقرّ في علمها أن سيكون نبياً . وذلك قوله : { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يريد . وليثبت علمها ويتمكن . فإن قلت : كيف حل لها أن تأخذ الأجر إلى إرضاع ولدها؟ قلت : ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع ، ولكنه مال حربيّ كانت تأخذه على وجه الاستباحة . وقوله : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } داخل تحت علمها . المعنى : لتعلم أن وعد الله حق ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه حق فيرتابون . ويشبه التعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى ، فجزعت وأصبح فؤادها فارغاً يروى أنها حين ألقت التابوت في اليم جاءها الشيطان فقال لها : يا أم موسى ، كرهت أن يقتل فرعون موسى فتؤجري ، ثم ذهبت فتوليت قتله ، فلما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه قالت : وقع في يد العدوّ ، فنسيت وعد الله . ويجوز أن يتعلق { ولكن } بقوله : { وَلِتَعْلَمَ } ومعناه : أن الردّ إنما كان لهذا الغرض الديني ، وهو علمها بصدق وعد الله . ولكنّ الأكثر لا يعلمون بأن هذا هو الغرض الأصلي الذي ما سواه تبع له من قرّة العين وذهاب الحزن .
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
{ واستوى } واعتدل وتمّ استحكامه ، وبلغ المبلغ الذي لا يزاد عليه ، كما قال لقيط :
واستحملوا أَمْرَكُمْ لِلهِ دَرُّكُمُو ... شَزْرَ الْمَرِيرَةِ لاقَمحاًوَلاَ ضَرَعَا
وذلك أربعون سنة ، ويروى :
( 810 ) أنه لم يبعث نبيّ إلا على رأس أربعين سنة . العلم . التوراة . والحكم : السنة . وحكمة الأنبياء : سنتهم . قال الله تعالى : { واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايات الله والحكمة } [ الأحزاب : 34 ] وقيل : معناه أتيناه سيرة الحكماء العلماء ، وسمتهم قبل البعث ، فكان لا يفعل فعلاً يستجهل فيه .
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
المدينة : مصر . وقيل : مدينة منف من أرض مصر . وحين غفلتهم : ما بين العشاءين . وقيل : وقت القائلة . وقيل : يوم عيد لهم هم مشتغلون فيه بلهوهم . وقيل : لما شبّ وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم ، فأخافوه ، فلا يدخل قرية إلا على تغفل . وقرأ سيبويه : «فاستعانه» { مِن شِيعَتِهِ } ممن شايعه على دينه من بني إسرائيل . وقيل : هو السامريّ { مِنْ عَدُوّهِ } من مخالفيه من القبط ، وهو فاتون ، وكان يتسخر الإسرائيلي لحمل الحطب إلى مطبخ فرعون . والوكز : الدفع بأطراف الأصابع . وقيل : بجمع الكف ، وقرأ ابن مسعود : «فلكزه» باللام { فقضى عَلَيْهِ } فقتله . فإن قلت : لم جعل قتل الكافر من عمل الشيطان وسماه ظلماً لنفسه واستغفر منه؟ قلت : لأنه قتله قبل أن يؤذن له في القتل ، فكان ذنباً يستغفر منه . وعن ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر { بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ } يجوز أن يكون قسماً جوابه محذوف ، تقديره : أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة لأتوبنّ { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ } وأن يكون استعطافاً ، كأنه قال : رب اعصمني بحق ما أنعمت عليّ من المغفرة ، فلن أكون إن عصمتني ظهيراً للمجرمين . وأراد بمظاهرة المجرمين : إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد ، وكان يسمى ابن فرعون . وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم ، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له . وعن ابن عباس : لم يستثن فابتلى به مرّة أخرى . يعني : لم يقل : ( فلن أكون ) إن شاء الله . وهذا نحو قوله : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } [ هود : 113 ] وعن عطاء : أنّ رجلاً قال له : إنّ أخي يضرب بقلمه ولا يعدو رزقه . قال : فمن الرأس ، يعني من يكتب له؟ قال : خالد بن عبد الله القسري : قال : فأين قول موسى؟ وتلا هذه الآية . وفي الحديث :
( 811 ) " ينادي مناد يوم القيامة : أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة ، حتى من لاق لهم دواة أو بري لهم قلماً ، فيجمعون في تابوت من حديد فيرمي به في جهنم " وقيل معناه : بما أنعمت عليّ من القوة ، فلن استعملها إلا في مظاهرة أوليائك وأهل طاعتك والإيمان بك . ولا أدع قبطياً يغلب أحداً من بني إسرائيل .
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
{ يَتَرَقَّبُ } المكروه وهو الاستقادة منه ، أو الإخبار وما يقال فيه ، ووصف الإسرائيلي بالغيّ؛ لأنه كان سبب قتل رجل ، وهو يقاتل آخر . وقرىء : «يبطش» ، بالضم . والذي هو عدوّ لهما : القبطي؛ لأنه ليس على دينهما ، ولأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل . والجبار : الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم ، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحس : وقيل : المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله ، ولما قال هذا : أفشى على موسى فانتشر الحديث في المدينة ورقي إلى فرعون ، وهموا بقتله .
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
قيل : الرجل : مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم فرعون ، و { يسعى } يجوز ارتفاعه وصفاً لرجل ، واتتصابه حالاً عنه؛ لأنه قد تخصص بأن وصف بقوله : { مِنْ أَقْصَى المدينة } وإذا جعل صلة لجاء ، لم يجز في { يسعى } إلا الوصف . والائتمار : التشاور . يقال : الرجلان يتآمران ويأتمران ، لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر . والمعنى : يتشاورون بسببك { لَكَ } بيان ، وليس بصلة الناصحين .
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
{ يَتَرَقَّبُ } التعرّض له في الطريق . أو أن يلحق .
{ تِلْقَاء مَدْيَنَ } قصدها ونحوها . ومدين : قرية شعيب عليه السلام ، سميت بمدين بن إبراهيم ، ولم تكن في سلطان فرعون ، وبينها وبين مصر مسيرة ثمان ، وكان موسى لا يعرف إليها الطريق قال ابن عباس : خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه . و { سَوَاءَ السبيل } وسطه ومعظم نهجه . وقيل : خرج حافياً لا يعيش إلا بورق الشجر ، فما وصل حتى سقط خف قدمه . وقيل : جاءه ملك على فرس بيده عنزة ، فانطلق به إلى مدين .
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
{ مَاءَ مَدْيَنَ } ماءهم الذي يستقون منه ، وكان بئراً فيما روي . ووروده : مجيئه والوصول إليه { وَجَدَ عَلَيْهِ } وجد فوق شفيره ومستقاه { أُمَّةً } جماعة كثيفة العدد { مِنَ الناس } من أناس مختلفين { مِن دُونِهِمُ } في مكان أسفل من مكانهم . والذود : الطرد والدفع وإنما كانتا تذودان؛ لأنّ على الماء من هو أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي . وقيل : كانتا تكرهان المزاحمة على الماء . وقيل : لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ، وقيل : تذودان عن وجوههما نظر الناظر لتسترهما { مَا خَطْبُكُمَا } ما شأنكما . وحقيقته : ما مخطوبكما ، أي : مطلوبكما من الذياد ، فسمى المخطوب خطباً ، كما سمى المشئون شأناً في قولك : ما شأنك؟ يقال : شأنت شأنه ، أي : قصدت قصده . وقرىء «لا نسقي» و«يصدر» . و«الرعاء» بضم النون والياء والراء . والرعاء : اسم جمع كالرخال والثناء . وأما الرعاء بالكسر فقياس ، كصيام وقيام { كَبِيرٌ } كبير السن { فسقى لَهُمَا } فسقى غنمهما لأجلهما . وروي أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجراً لا يقله إلا سبعة رجال . وقيل : عشرة . وقيل : أربعون . وقيل : مائة ، فأقله وحده . وروي أنه سألهم دلواً من ماء فأعطوه دلوهم وقالوا : استق بها ، وكانت لا ينزعها إلا أربعون ، فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا بالبركة ، وروىغنمهما وأصدرهما وروي أنه دفعهم عن الماء حتى سقى لهما . وقيل : كانت بئراً أخرى عليها الصخرة . وإنما فعل هذا رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف . والمعنى : أنه وصل إلى ذلك الماء وقد ازدحمت عليه أمّة من أناس مختلفة متكاثفة العدد ، ورأى الضعيفتين من ورائهم مع غنيمتهما مترقبتين لفراغهم ، فما أخطأت همته في دين الله تلك الفرصة ، مع ما كان به من النصب وسقوط خف القدم والجوع ، ولكنه رحمهما فأغاثهما ، وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوّة قلبه وقوّة ساعده ، وما آتاه الله من الفضل في متانة الفطرة ورصانة الجبلة وفيه مع إرادة اقتصاص أمره وما أوتي من البطش والقوّة وما لم يغفل عنه ، على ما كان به من انتهاز فرصة الاحتساب ، ترغيب في الخير ، وانتهاز فرصه ، وبعث على الاقتداء في ذلك بالصالحين والأخذ بسيرهم ومذاهبهم . فإن قلت : لم ترك المفعول غير مذكور في قوله : { يَسْقُوْنَ } و { تَذُودَانِ } و { نَسْقِى } ؟ قلت : لأن الغرض هو الفعل لا المفعول . ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي . ولم يرحمها لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلاً ، وكذلك قولهما { لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء } المقصود فيه السقي لا المسقي . فإن قلت : كيف طابق جوابهما سؤاله قلت : سألهما عن سبب الذود فقالتا : السبب في ذلك أنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم ، فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا ، وما لنا رجل يقوم بذلك ، وأبونا شيخ قد أضعفه الكبر فلا يصلح للقيام به : أبلتا إليه عذرهما في توليهما السقي بأنفسهما .
فإن قلت : كيف ساغ لنبيّ الله الذي هو شعيب عليه السلام أن يرضى لابنتيه بسقي الماشية؟ قلت : الأمر في نفسه ليس بمحظور ، فالدين لا يأباه . وأما المروءة ، فالناس مختلفون في ذلك ، والعادات متباينة فيه ، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ، ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر ، خصوصاً إذاكانت الحالة حالة ضرورة { إِنّى } لأي شيء { أَنزَلْتَ إِلَىَّ } قليل أو كثير ، غث أو سمين ل { فَقِيرٌ } وإنما عُدي فقير باللام؛ لأنه ضمن معنى سائل وطالب . قيل : ذكر ذلك وإن خضرة البقل يتراءى في بطنه من الهزال ، ما سأل الله إلا أكلة . ويحتمل أن يريد : إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين . لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة : قال ذلك رضا بالبدل السني ، وفرحا به ، وشكراً له ، وكان الظل ظل سمرة { عَلَى استحياء } في موضع الحال ، أي : مستحيية متخفرة وقيل . قد استترت بكم درعها . روي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي ، فتبعها موسى فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته ، فقال لها : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فلما قص عليه قصته قال له . لا تخف فلا سلطان لفرعون بأرضنا . فإن قلت : كيف ساغ لموسى أن يعمل بقول امرأة ، وأن يمشي معها وهي أجنبيه؟ قلت : أما العمل بقول امرأة فكما يعمل بقول الواحد حرّاً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى في الأخبار ، وما كانت إلا مخبرة عن أبيها بأنه يدعوه ليجزيه . وأما مماشاته امرأة أجنبية فلا بأس بها في نظائر تلك الحال ، مع ذلك الاحتياط والتورّع . فإن قلت : كيف صح له أخذ الأجر على البرّ والمعروف؟ قلت : يجوز أن يكون قد فعل ذلك لوجه الله وعلى سبيل البر والمعروف . وقيل إطعام شعيب وإحسانه لا على سبيل أخذ الأجر ، ولكن على سبيل التقبل لمعروف مبتدإ . كيف وقد قص عليه قصصه وعرفه أنه من بيت النبوّة من أولاد يعقوب؟ ومثله حقيق بأن يضيَّف ويكرم خصوصاً في دار نبيّ من أنبياء الله ، وليس بمنكر أن يفعل ذلك لاضطرار الفقر والفاقة طلباً للأجر . وقد روي ما يعضد كلا القولين : روي أنها لما قالت : ليجزيك ، كره ذلك ، ولما قدّم إليه الطعام امتنع وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع الأرض ذهباً ، ولا نأخذ على المعروف ثمناً ، حتى قال شعيب : هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا .
وعن عطاء ابن السائب : رفع صوته بدعائه ليسمعهما ، فلذلك قيل له : ليجزيك أجر ما سقيت ، أي؛ جزاء سقيك . والقصص : مصدر كالعلل ، سمي به المقصوص . كبراهما : كانت تسمى صفراء ، والصغرى : صفيراء . وصفراء : هي التي ذهبت به وطلبت إلى أبيها أن يستأجره ، وهي التي تزوجها . وعن ابن عباس : أن شعيبا أحفظته الغيرة فقال : وما علمك بقوّته وأمانته؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو ، وأنه صوّب رأسه حين بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه . وقولها : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوى الامين } كلام حكيم جامع لا يزاد عليه ، لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان؛ أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك؛ وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل ، والحكمة أن تقول استأجره لقوّته وأمانته . فإن قلت : كيف جعل خير من استأجرت اسماً لإنّ والقوي الأمين خبراً؟ قلت : هو مثل قوله :
أَلاَ إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ حَيًّا وَهَالِكَا ... أَسِيرُ ثَقِيفٍ عِنْدَهُمْ فِي السَّلاَسِلِ
في أن العناية هي سبب التقديم ، وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق بأن يكون خبراً اسماً ، وورود الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف . ومنه قولهم : أهون ما أعملت لسان ممخ . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أفرس الناس ثلاثة : بنت شعيب ، وصاحب يوسف ، في قوله : { عسى أَن يَنفَعَنَا } [ يوسف : 21 ] وأبو بكر في عمر . روي أنه أنكحه صفراء . وقوله : { هَاتَيْنِ } فيه دليل على أنه كانت له غيرهما { تَأْجُرَنِى } من أجرته إذا كنت له أجيراً ، كقولك : أبوته إذا كنت له أبا ، و { ثَمَانِىَ حِجَجٍ } ظرفه . أو من أجرته كذا ، إذا أثبته إياه . ومنه : تعزية رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 812 ) « أجرَكم اللَّهُ ورحمكم » وثماني حجج : مفعول به ، ومعناه : رعية ثماني حجج فإن قلت : كيف صح أن ينكحه إحدى ابنتيه من غير تمييز؟ قلت : لم يكن ذلك عقداً للنكاح ، ولكن مواعدة ومواصفة أمر قد عزم عليه ، ولو كان عقداً لقال : قد أنكحتك ولم يقل : إني أريد أن أنكحك . فإن قلت : فكيف صح أن يمهرها إجارة نفسه في رعية الغنم ، ولا بد من تسليم ما هو مال؟ ألا ترى إلى أبي حنيفة كيف منع أن يتزوج امرأة بأن يخدمها سنة وجوّز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة ، أو يسكنها داره سنة ، لأنه في الأول : مسلم نفسه وليس بمال ، وفي الثاني : هو مسلم مالاً وهو العبد أو الدار ، قلت : الأمر على مذهب أبي حنيفة على ما ذكرت . وأما الشافعي : فقد جوّز التزوّج على الإجارة لبعض الأعمال والخدمة ، إذا كان المستأجر له أو المخدوم فيه أمراً معلوماً ، ولعلّ ذلك كان جائزاً في تلك الشريعة . ويجوز أن يكون المهر شيئاً آخر ، وإنما أراد أن يكون راعي غنمه هذه المدّة ، وأراد أن ينكحه ابنته ، فذكر له المرادين ، وعلق الإنكاح بالرعية على معنى : إني أفعل هذا إذا فعلت ذاك على وجه المعاهدة لا على وجه المعاقدة .
ويجوز أن يستأجره لرعية ثماني سنين بمبلغ معلوم ويوفيه إياه ، ثم ينكحه ابنته به ، ويجعل قوله : { على أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ } عبارة عما جرى بينهما { فَإِنْ أَتْمَمْتَ } عمل عشر حجج { فَمِنْ عِندِكَ } فإتمامه من عندك . ومعناه : فهو من عندك لا من عندي ، يعني : لا ألزمكه ولا أحتمه عليك ، ولكنك إن فعلته فهو منك تفضل وتبرع ، وإلا فلا عليك { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } بإلزام أتمّ الأجلين وإيجابه . فإن قلت : ما حقيقة قولهم : شققت عليه ، وشق عليه الأمر؟ قلت : حقيقته أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين ، تقول تارة : أطيقه ، وتارة : لا أطيقه . أو وعده المساهلة والمسامحة من نفسه ، وأنه لا يشق عليه فيما استأجره له من رعي غنمه ، ولا يفعل نحو ما يفعل المعاسرون من المسترعين ، من المناقشة في مراعاة الأوقات ، والمداقة في استيفاء الأعمال ، وتكليف الرعاة أشغالاً خارجة عن حدّ الشرط ، وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس . ومنه الحديث :
( 813 ) « كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي ، فكان خير شريك لا يداري ولا يشاري ولا يماري » وقوله : { سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصالحين } يدل على ذلك ، يريد بالصلاح : حسن المعاملة ووطأة الخلق ولين الجانب . ويجوز أن يريد الصلاح على العموم . ويدخل تحته حسن المعاملة ، والمراد باشتراط مشيئة الله بما وعد من الصلاح : الاتكال على توفيقه فيه ومعونته ، لا أنه يستعمل الصلاح إن شاء الله ، وإن شاء استعمل خلافه { ذلك } مبتدأ ، و { بَيْنِى وَبَيْنَكَ } خبره ، وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب ، يريد . ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم بيننا جميعاً ، لا نخرج كلانا عنه ، لا أنا عما شرطت عليّ ولا أنت عما شرطت على نفسك . ثم قال : أي أجل من الأجلين قضيت : أطولهما الذي هو العشر ، أو أقصرهما الذي هو الثمان { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ } أي لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة عليه . فإن قلت : تصوّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو الأقصر وهو المطالبة بتتمة العشر ، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعاً؟ قلت : معناه كما أني إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدواناً لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان . أراد بذلك تقرير أمر الخيار ، وأنه ثابت مستقرّ ، وأن الأجلين على السواء : إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء وأما التتمة فموكولة إلى رأيي : إن شئت أتيت بها ، وإلا لم أجبر عليها .
وقيل : معناه فلا أكون متعدّياً ، وهو في نفي العدوان عن نفسه ، كقولك : لا إثم عليّ ، ولا تبعة عليّ . وفي قراءة ابن مسعود : أي الأجلين ما قضيت . وقرىء : «أيما» بسكون الياء ، كقوله :
تنَظَّرْتُ نَصْراً وَالسِّمَاكَيْنِ أَيْهُمَا ... عَلَيَّ مِنَ الْغَيْثِ اسْتُهِلَّتْ مَوَاطِرُهْ
وعن ابن قطيب : عدوان ، بالكسر . فإن قلت : ما الفرق بين موقعي ( ما ) المزيدة في القراءتين؟ قلت : وقعت في المستفيضة مؤكدة لإبهام ، أيّ : زائدة في شياعها : وفي الشاذة تأكيداً للقضاء ، كأنه قال : أي الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له . الوكيل : الذي وكل إليه الأمر ، ولما استعمل في موضع الشاهد والمهيمن والمقيت ، عدي بعلى لذلك . روي أنّ شعيباً كانت عنده عصى الأنبياء فقال لموسى بالليل : ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي . فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ، ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب ، فمسها وكان مكفوفاً ، فضنّ بها فقال : غيرها ، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات ، فعلم أنّ له شأناً . وقيل : أخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلاً . وقيل : أودعها شعيباً ملك في صورة رجل ، فأمر بنته أن تأتيه بعصا ، فأتته بها فردها سبع مرّات فلم يقع في يدها غيرها ، فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة ، فتبعه فاختصما فيها ، ورضيا أن يحكم بينهما أوّل طالع ، فأتاهما الملك فقال : ألقياها فمن رفعها فهي له ، فعالجها الشيخ فلم يطقها؛ ورفعها موسى . وعن الحسن : ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضاً . وعن الكلبي : الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ، ومنها كانت عصاه . ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك ، فإنّ الكلأ وإن كان بها أكثر ، إلا أنّ فيها تنيناً أخشاه عليك وعلى الغنم ، فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها ، فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله ، فنام فإذا بالتنين قد أقبل ، فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية ، فلما أبصرها دامية والتنين مقتولاً أرتاح لذلك ، ولما رجع إلى شعيب مسّ الغنم ، فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن ، فأخبره موسى ففرح وعلم أنّ لموسى والعصا شأنا ، وقال له : إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كلّ أدرع ودرعاء ، فأوحى إليه في المنام : أن أضرب بعصاك مستقى الغنم ، ففعل؛ ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع ودرعاء ، فوفى له بشرطه .
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
( 814 ) سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُّ الأجلَينِ قضَى موسَى؟ فقال : « أبعدهما وأبطأهما » وروي أنه قال :
( 815 ) « قَضى أوفَاهُما ، وتزوّج صغرَاهُما » وهذا خلاف الرواية التي سبقت . الجذوة باللغات الثلاث . وقرىء بهنّ جميعاً : العود الغليظ ، كانت في رأسه نار أو لم تكن ، قال كُثَيِّرُ :
بَاتَتْ حَوَاطِبُ لَيْلَى يَلْتَمِسْنَ لَهَا ... جَزْلَ الْجُذَى غَيْرَ خَوَّارٍ وَلاَ دَعِرِ
وقال :
وَأَلْقَى عَلَى قَبْشٍ مِنَ النَّارِ جَذْوَةً ... شَدِيداً عَلَيْهِ حَرُّهَا وَالْتِهَابُهَا
{ مِن } الأولى والثانية لابتداء الغاية ، أي : أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة . و { مِنَ الشجرة } بدل من قوله : من شاطىء الوادي ، بدل الاشتمال؛ لأنّ الشجرة كانت نابتة على الشاطىء ، كقوله تعالى : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] وقرىء : { البقعة } بالضم والفتح . و { الرهب } بفتحتين ، وضمتين ، وفتح وسكون ، وضم وسكون : وهو الخوف . فإن قلت : ما معنى قوله : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } ؟ قلت : فيه معنيان ، أحدهما : أنّ موسى عليه السلام لما قلب الله العصا حية : فزع واضطرب ، فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء ، فقيل له : إنّ إتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء . فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية ، فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ، ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب ما هو غضاضة عليك ، وإظهار معجزة أخرى . والمراد بالجناح : اليد؛ لأنّ يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر . وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى ، فقد ضمّ جناحه إليه . والثاني : أن يراد بضم جناحه إليه : تجلده وضبطه نفسه . وتشدّده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب ، استعارة من فعل الطائر؛ لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما . وإلا فجناحاه مضمومتان إليه مشمران . ومنه ما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أنّ كاتباً له كان يكتب بين يديه ، فانفلتت منه فلتة ريح ، فخجل وانكسر ، فقام وضرب بقلمه الأرض ، فقال له عمر : خذ قلمك ، واضمم إليك جناحك ، وليفرخ روعك ، فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي . ومعنى قوله : ( من الرهب ) من أجل الرهب ، أي : إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك : جعل الرهب الذي كان يصيبه سبباً وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه . ومعنى : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } ، وقوله : { اسلك يَدَكَ فِى جَيْبِكَ } على أحد التفسيرين : واحد . ولكن خولف بين العبارتين ، وإنما كرّر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين ، وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني : إخفاء الرهب . فإن قلت قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموماً وفي الآخر مضموماً إليه ، وذلك قوله : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } وقوله :
{ واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } [ طه : 22 ] فما التوفيق بينهما؟ قلت : المراد بالجناح المضموم . هو اليد اليمنى ، وبالمضموم إليه : اليد اليسرى وكلّ واحدة من يمنى اليدين ويسراهما : جناح . ومن بدع التفاسير : أنّ الرهب : الكم ، بلغة حمير وأنهم يقولون : أعطني مما في رهبك ، وليت شعري كيف صحته في اللغة؟ وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترتضي عربيتهم؟ ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية؟ وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمي لها { فَذَانِكَ } قرىء مخففاً ومشدّداً ، فالمخفف مثنى ذاك . والمشدّد مثنى ذلك ، { برهانان } حجتان بينتان نيرتان . فإن قلت : لم سميت الحجة برهانا؟ قلت : لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء . برهرهة ، بتكرير العين واللام معا . والدليل على زيادة النون قولهم : أبره الرجل ، إذا جاء بالبرهان . ونظيره تسميتهم إياها سلطاناً من السليط وهو الزيت ، لإنارتها .
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
يقال : ردأته : أعنته . والردء : اسم ما يعان به ، فعل بمعنى مفعول كما أن الدفء اسم لما يدفأ به . قال سلامة بن جندل :
وَرِدْئي كُلُّ أبْيَضَ مَشْرَفِيٍّ ... شَحِيذِ الْحَدِّ عَضْبٍ ذِي فُلُولِ
وقرىء : «رداً» على التخفيف ، كما قرىء «الخب» { رِدْءاً يُصَدّقُنِى } بالرفع والجزم صفة وجواب ، ونحو { وَلِيّاً يَرِثُنِى } سواء . فإن قلت : تصديق أخيه ما الفائدة فيه؟ قلت : ليس الغرض بتصديقه أن يقول له : صدقت ، أو يقول للناس : صدق موسى ، وإنما هو أن يلخص بلسانه الحق ، ويبسط القول فيه ، ويجادل به الكفار ، كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة ، فذلك جار مجرى التصديق المفيد ، كما يصدّق القول بالبرهان . ألا ترى إلى قوله : «وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ » ، وفضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لذلك ، لا لقوله : صدقت ، فإنّ سحبان وباقلا يستويان فيه ، أو يصل جناح كلامه بالبيان ، حتى يصدّقه الذي يخاف تكذيبه ، فأسند التصديق إلى هرون ، لأنه السبب فيه إسناداً مجازياً . ومعنى الإسناد المجازي : أن التصديق حقيقة في المصدّق ، فإسناده إليه حقيقة وليس في السبب تصديق ، ولكن استعير له الإسناد لأنه لابس التصديق بالتسبب كما لابسه الفاعل بالمباشرة . والدليل على هذا الوجه قوله : { إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ } وقراءة من قرأ : «ردءا يصدقوني» . وفيها تقوية للقراءة بجزم يصدقني .
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
العضد : قوام اليد ، وبشدّتها تشتد . قال طرفة :
أَبَنِي لُبَينَى لَسْتُمُو بِيَدٍ ... إِلاَّ يَداً لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ
ويقال في دعاء الخير : شدّ الله عضدك . وفي ضده؛ فت الله في عضدك . ومعنى { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } سنقويك به ونعينك ، فإمّا أن يكون ذلك لأن اليد تشتد بشدة العضد . والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور . وإمّا لأنّ الرجل شبة باليد في اشتدادها باشتداد العضد ، فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة { سلطانا } غلبة وتسلطا . أو حجة واضحة { بأاياتنآ } متعلق بنحو ما تعلق به في تسع آيات ، أي اذهبا بآياتنا . أو بنجعل لكما سلطانا ، أي : نسلطكما بآياتنا . أو بلا يصلون ، أي : تمتنعون منهم بآياتنا . أو هو بيان للغالبون لا صلة ، لامتناع تقدم الصلة على الموصول . ولو تأخر : لم يكن إلا صله له . ويجوز أن يكون قسماً جوابه : لا يصلون ، مقدماً عليه . أو من لغو القسم .
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
{ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } سحر تعمله أنت ثم تفتريه على الله . أو سحر ظاهر افتراؤه . أو موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله { وفي آياتنا } حال منصوبة عن هذا ، أي : كائناً في زمانهم وأيامهم ، يريد : ما حدثنا بكونه فيهم ، ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك ، وقد سمعوا وعلموا بنحوه . أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته . أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى ومجيئه بما جاء به . وهذا دليل على أنهم حجوا وبهتوا ، وما وجدوا ما يدفعون به ما جاءهم من الآيات إلا قولهم هذا سحر وبدعة لم يسمعوا بمثلها .
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
يقول : { ربى أَعْلَمُ } منكم بحال من أهله الله للفلاح الأعظم ، حيث جعله نبياً وبعثه بالهدى ، ووعده حسن العقبى : يعني نفسه ، ولو كان كما تزعمون كاذباً ساحراً مفترياً لما أهله لذلك ، لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ، ولا ينبىء الساحرين ، ولا يفلح عنده الظالمون . و { عاقبة الدار } هي العاقبة المحمودة . والدليل عليه قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار جنات عَدْنٍ } [ الرعد : 22-23 ] وقوله : { وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار } [ الرعد : 42 ] والمراد بالدار : الدنيا ، وعاقبتها وعقباها : أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت . فإن قلت : العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار؛ لأنّ الدنيا إمّا أن تكون خاتمتها بخير أو بشر ، فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر؟ قلت : قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازاً إلى الآخرة وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ، وما خلقهم إلا لأجله ليتلقوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق ، ومن عمل فيها خلاف ما وضعها الله فقد حرف؛ فإذاً عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير . وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها؛ لأنها من نتائج تحريف الفجار . وقرأ ابن كثير : «قال موسى» بغير واو ، على ما في مصاحف أهل مكة ، وهي قراءة حسنة؛ لأنّ الموضع موضع سؤال وبحث عما أجابهم به موسى عليه السلام عند تسميتهم مثل تلك الآيات الباهرة : سحراً مفترى . ووجه الأخرى : أنهم قالوا ذلك . وقال موسى عليه السلام هذا ، ليوازن الناظر بين القول والمقول ، ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر :
وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأشْيَاءُ ... وقرىء : «تكون» ، بالياء والتاء .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
روى أنه لما أمر ببناء الصرح ، جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير ، فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق ، فكان الباني لا يقدر أن يقف على رأسه يبني ، فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس ، فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع : وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب ، ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك . ويروى في هذه القصة : أنّ فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء ، فأراد الله أن يفتنهم فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم؛ فقال : قد قتلت إله موسى ، فعندها بعث الله جبريل عليه السلام لهدمه ، والله أعلم بصحته . قصد بنفي علمه بإله غيره : نفي وجوده ، معناه : { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرِى } [ الأعراف : 59 ] كما قال الله تعالى : { قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السموات وَلاَ فِى الارض } [ يونس : 18 ] معناه بما ليس فيهن ، وذلك لأنّ العلم تابع للمعلوم لا يتعلق به إلا على ما هو عليه ، فإذا كان الشيء معدوماً لم يتعلق به موجود ، فمن ثمة كان انتفاء العلم بوجوده لا انتفاء وجوده . وعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده . ويجوز أن يكون على ظاهره ، وأنّ إلها غيره غير معلوم عنده ، ولكنه مظنون بدليل قوله : { وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الكاذبين } ، وإذا ظنّ موسى عليه السلام كاذباً في إثباته إلهاً غيره ولم يعلمه كاذباً ، فقد ظنّ أن في الوجود إلهاً غيره ، ولو لم يكن المخذول ظاناً ظناً كاليقين ، بل عالماً بصحة قول موسى عليه السلام لقول موسى له : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السموات والأرض بَصَائِرَ } [ الإسراء : 102 ] لما تكلف ذلك البنيان العظيم ، ولما تعب في بنائه ما تعب ، لعله يطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام ، وإن كان جاهلاً مفرط الجهل به وبصفاته ، حيث حسب أنه في مكان كما كان هو في مكان ، وأنه يطلع إليه كما كان يطلع إليه إذا قعد في عليته ، وأنه ملك السماء كما أنه ملك الأرض . ولا ترى بينة أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته وجهل ملئه وغباوتهم : من أنهم راموا نيل أسباب السموات بصرح يبنونه ، وليت شعري؛ أكان يلبس على أهل بلاده ويضحك من عقولهم ، حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن وأشبههم بالبهائم بذلك؟ أم كان في نفسه بتلك الصفة؟ وإن صحّ ما حكى من رجوع النشابة إليه ملطوخة بالدم ، فتهكم به بالفعل ، كما جاء التهكم بالقول في غير موضع من كتاب الله بنظرائه من الكفرة . ويجوز أن يفسر الظن على القول الأوّل باليقين ، كقوله :
فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بِأَلفِيْ مُدَجَّجِ ... ويكون بناء الصرح مناقضة لما ادعاه من العلم واليقين ، وقد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم . أولم تخف عليهم ، ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه ، وسيفه ، وإنما قال : { فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين } ولم يقل : اطبخ لي الآجر واتخذه ، لأنه أوّل من عمل الآجر ، فهو يعلمه الصنعة ، ولأن هذه العبارة أحسن طباقاً لفصاحة القرآن وعلوّ طبقته وأشبه بكلام الجبابرة . وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين منادى باسمه بيا في وسط الكلام . دليل التعظيم والتجبر . وعن عمر رضي الله عنه أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر فقال : ما علمت أن أحداً بنى بالآجر غير فرعون . والطلوع والإطلاع : الصعود . يقال : طلع الجبل وأطلع : بمعنى .
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
الاستكبار بالحق : إنما هو لله تعالى ، وهو المتكبر على الحقيقة ، أي : المتبالغ في كبرياء الشأن . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حكى عن ربه :
( 816 ) « الكبرياء ردائي والعظمةُ إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما ألقيتُه في النار » وكلُ مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق { يَرْجَعُونَ } بالضم والفتح { فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم } من الكلام الفخم الذي دل به على عظمة شأنه وكبرياء سلطانه . شبههم استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم ، وإن كانوا الكثر الكثير والجم الغفير ، بحصيات أخذهنّ آخذ في كفه فطرحهنّ في البحر . ونحو ذلك قوله : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شامخات } [ المرسلات : 27 ] ، { وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة } [ الحاقة : 14 ] ، { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] وما هي إلا تصويرات وتمثيلات لاقتداره ، وأن كل مقدور وإن عظم وجل ، فهو مستصغر إلى جنب قدرته .
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
فإن قلت : ما معنى قوله : { وجعلناهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار } ؟ قلت : معناه : ودعوناهم أئمة دعاة إلى النار ، وقلنا : إنهم أئمة دعاة إلى النار ، كما يدعي خلفاء الحق أئمة دعاة إلى الجنة . وهو من قولك : جعله بخيلاً وفاسقاً ، إذا دعاه وقال : إنه بخيل وفاسق . ويقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله : جعله بخيلاً وفاسقاً . ومنه قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } [ الزخرف : 19 ] ومعنى دعوتهم إلى النار : دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي { وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة . ويجوز : خذلناهم حتى كانوا أئمة الكفر . ومعنى الخذلان : منع الألطاف ، وإنما يمنعها من علم أنها لا تنفع فيه ، وهو المصمم على الكفر الذي لا تغني عنه الآيات والنذر ، ومجراه مجرى الكناية؛ لأنّ منع الألطاف يردف التصميم ، والغرض بذكره : التصميم نفسه ، فكأنه قيل : صمموا على الكفر حتى كانوا أئمة فيه دعاة إليه وإلى سوء عاقبته . فإن قلت : فأي فائدة في ترك المردوف إلى الرادفة؟ قلت : ذكر الرادفة يدل على وجود المردوف فيعلم وجود المردوف مع الدليل الشاهد بوجوده ، فيكون أقوى لإثباته من ذكره . ألا ترى أنك تقول : لولا أنه مصمم على الكفر مقطوع أمره مثبوت حكمه لما منعت منه الألطاف ، فبذكر منع الألطاف يحصل العلم بوجود التصميم على الكفر وزيادة ، وهو قيام الحجة على وجوده . وينصر هذا الوجه قوله : { وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } كأنه قيل : وخذلناهم في الدنيا وهم يوم القيامة مخذولون ، كما قال : { وأتبعناهم فِى هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً } أي طرداً وإبعاداً عن الرحمة { وَيَوْمَ القيامة هُمْ مِّنَ المقبوحين } أي من المطرودين المبعدين .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
{ بَصَائِرَ } نصب على الحال . والبصيرة : نور القلب الذي يستبصر به ، كما أن البصر نور العين الذي تبصر به ، يريد : آتيناه التوراة أنواراً للقلوب ، لأنها كانت عمياء لا تستبصر ولا تعرف حقا من باطل . وإرشاداً؛ لأنهم كانوا يخبطون في ضلال { وَرَحْمَةً } لأنهم لو عملوا بها وصلوا إلى نيل الرحمة { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } إرادة أن يتذكروا ، شبهت الإرادة بالترجي فاستعير لها . ويجوز أن يراد به ترجي موسى عليه السلام لتذكرهم ، كقوله تعالى : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } [ طه : 44 ] .
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
{ الغربى } المكان الواقع في شق الغرب ، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور وكتب الله له في الألواح . والأمر المقضي إلى موسى عليه السلام : الوحي الذي أوحى إليه؛ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : وما كنت حاضراً المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام ، ولا كنت { مِنَ } جملة { الشاهدين } للوحي إليه ، أو على الوحي إليه؛ وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات ، حتى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى عليه السلام في ميقاته . وكتبة التوراة له في الألواح ، وغير ذلك .
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
فإن قلت : كيف يتصل قوله : { وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً } بهذا الكلام؟ ومن أي وجه يكون استدراكاً له؟ قلت : اتصاله به وكونه استدراكاً له ، من حيث أن معناه : ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى عهدك قرونا كثيرة { فَتَطَاوَلَ } على آخرهم : وهو القرن الذي أنت فيهم { العمر } أي أمد انقطاع الوحي واندرست العلوم ، فوجب إرسالك إليهم ، فأرسلناك وكسبناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى عليهم السلام ، كأنه قال : وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه ، ولكنا أوحينا إليك . فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة؛ ودلّ به على المسبب على عادة الله عز وجل في اختصاراته؛ فإذاً هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً } أي مقيماً { فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } وهم شعيب والمؤمنون به { تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا } تقرؤها عليهم تعلماً منهم ، يريد : الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه ، ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها .
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
{ إِذْ نَادَيْنَا } يريد مناداة موسى عليه السلام ليلة المناجاة وتكليمه ، و { لَكِن } علمناك { رَحْمَةً } وقرىء : «رحمة» ، بالرفع : أي هي رحمة { مَا ءاتاهم } من نذير في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهي خمسمائة وخمسون سنة ، ونحوه قوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } [ يس : 6 ] .
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{ لَوْلاَ } الأولى امتناعية وجوابها محذوف ، والثاني تحضيضية ، وإحدى الفاءين للعطف ، والأخرى جواب لولا ، لكونها في حكم الأمر ، من قبل أن الأمر باعث على الفعل ، والباعث والمحضض من واد واحد . والمعنى : ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدّموا من الشرك والمعاصي : هلا أرسلت إلينا رسولاً ، محتجين علينا بذلك : لما أرسلنا إليهم ، يعني : أن إرسال الرسول إليهم إنما هو ليلزموا الحجة ولا يلزموها ، كقوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] ، { أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } [ المائدة : 19 ] ، { لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءاياتك } . فإن قلت : كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول ، لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت : القول هو المقصود بأن يكون سبباً لإرسال الرسل ، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها ، جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول ، فأدخلت عليها لولا ، وجيء بالقول معطوفاً عليها بالفاء المعطية معنى السببية ، ويؤول معناه إلى قولك : ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ، ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة : وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً على كفرهم وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين : لم يقولوا : { لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم . وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسخوه فيهم ما لا يخفى ، كقوله تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] . ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي : جعل كل عمل معبراً عنه باجتراح الأيدي وتقدم الأيدي وإن كان من أعمال القلوب ، وهذا من الاتساع في الكلام وتصيير الأقل تابعاً للأكثر وتغليب الأكثر على الأقل .
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
{ فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق } وهو الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات وقطعت معاذيرهم وسدّ طريق احتجاجهم { قَالُواْ لَوْلا أُوتِىَ مِثْلَ مَا أُوتِىَ موسى } من الكتاب المنزل جملة واحدة ، ومن قلب العصا حية وفلق البحر وغيرهما من الآيات؛ فجاءوا بالاقتراحات المبنية على التعنت والعناد ، كما قالوا : لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ، وما أشبه ذلك { أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ } يعني أبناء جنسهم ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم عنادهم ، وهم الكفرة في زمن موسى عليه السلام { بِمَا أُوتِىَ موسى } وعن الحسن رحمه الله : قد كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام ، فمعناه على هذا : أو لم يكفر آباؤهم { قَالُواْ } في موسى وهرون { سِحْرَانِ تظاهرا } أي تعاونا . وقرىء : «إظهاراً» على الإدغام . وسحران . بمعنى : ذوا سحر . أو جعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر . أو أرادوا نوعان من السحر { بِكُلٍّ } بكل واحد منهما . فإن قلت : بم علقت قوله من قبل في هذا التفسير؟ قلت : ب ( أولم ) يكفروا ، ولي أن أعلقه بأوتي ، فينقلب المعنى إلى أن أهل مكة الذين قالوا هذه المقالة كما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن فقد كفروا بموسى عليه السلام وبالتوراة ، وقالوا في موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام : ساحران تظاهرا . أو في الكتابين : سحران تظاهرا؛ وذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد صلى الله عليه وسلم ، فأخبرهم أنه نعته وصفته ، وأنه في كتابهم ، فرجع الرهط إلى قريش فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا عند ذلك : ساحران تظاهرا .
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)
{ هُوَ أهدى مِنْهُمَا } مما أنزل على موسى عليه السلام ومما أنزل عليّ . هذا الشرط من نحو ما ذكرت أنه شرط المدل بالأمر المتحقق لصحته؛ لأنّ امتناع الإتيان بكتاب أهدى من الكتابين أمر معلوم متحقق لا مجال فيه للشكّ . ويجوز أن يقصد بحرف الشكّ : التهكم بهم .
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
فإن قلت : ما الفرق بين فعل الاستجابة في الآية ، وبينه في قوله :
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ ... حيث عدّى بغير اللام؟ قلت : هذا الفعل يتعدّى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام ، ويحذف الدعاء إذا عدّي إلى الداعي في الغالب ، فيقال؛ استجاب الله دعاءه أو استجابة له ، ولا يكاد يقال : استجاب له دعاءه . وأما البيت فمعناه : فلم يستجب دعاءه ، على حذف المضاف . فإن قلت : فالاستجابة تقتضي دعاء ولا دعاء ههنا . قلت : قوله فأتوا بكتاب أمر بالإتيان والأمر بعث على الفعل ودعاء إليه ، فكأنه قال : فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى ، فاعلم أنهم قد ألزموا ولم تبق لهم حجة إلا اتباع الهوى ، ثم قال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ } لا يتبع في دينه إلا { هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله } أي مطبوعاً على قلبه ممنوع الألطاف { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى } أي لا يلطف بالقوم الثابتين على الظلم الذين اللاطف بهم عابث . وقوله بغير هدى في موضع الحال ، يعني مخذولاً مخلى بينه وبين هواه .
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
قرىء : { وَصَّلْنَا } بالتشديد والتخفيف . والمعنى : أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً ، وعداً ووعيداً ، وقصصاً وعبراً ، ومواعظ ونصائح : إرادة أن يتذكروا فيفلحوا . أو نزل عليهم نزولاً متصلاً بعضه في أثر بعض . كقوله : { وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ } [ الشعراء : 5 ]
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
نزلت في مؤمني أهل الكتاب وعن رفاعة بن قرظة : نزلت في عشرة أنا أحدهم . وقيل : في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل : اثنان وثلاثون جاؤوا مع جعفر من أرض الحبشة ، وثمانية من الشام ، والضمير في { مِن قَبْلِهِ } للقرآن .
وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
فإن قلت : أي فرق بين الاستئنافين إنه وإنا؟ قلت : الأوّل تعليل للإيمان به ، لأن كونه حقاً من الله حقيق بأن يؤمن به . والثاني : بيان لقوله : { ءَامَنَّا بِهِ } لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيده ، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم؛ لأنّ آباءهم القدماء قرؤوا في الكتب الأول ذكره وأبناءهم من بعدهم { مِن قَبْلِهِ } من قبل وجوده ونزوله { مُسْلِمِينَ } كائنين على دين الإسلام؛ لأن الإسلام صفة كل موحد مصدّق للوحي .
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
{ بِمَا صَبَرُواْ } بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن . أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله . أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب . ونحوه { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] ، { بالحسنة السيئة } بالطاعة المعصية المتقدمة . أو بالحلم الأذى .
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
{ سلام عَلَيْكُمْ } توديع ومتاركة . وعن الحسن رضي الله عنه : كلمة حلم من المؤمنين { لاَ نَبْتَغِى الجاهلين } لا نريد مخالطتهم وصحبتهم فإن قلت : من خاطبوا بقولهم { وَلَكُمْ أعمالكم } ؟ قلت : اللاغين الذين دل عليهم قوله : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو } .
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
{ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم ، لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره { ولكن الله } يدخل في الإسلام { مَن يَشَآءُ } وهو الذي علم أنه غير مطبوع على قلبه ، وأن الألطاف تنفع فيه ، فيقرن به ألطافه حتى تدعوه إلى القبول { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } بالقابلين من الذين لا يقبلون . قال الزجاج : أجمع المسلمون أنها نزلت في أبي طالب ، وذلك أن أبا طالب قال عند موته :
( 817 ) يا معشر بني هاشم ، أطيعوا محمداً وصدِّقوه تفلحوا وترشدوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك » ؟ قال : فما تريد يا ابن أخي؟ قال : « أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا : أن تقول لا إله إلا الله ، أشهد لك بها عند الله » قال : يا ابن أخي ، قد علمت إنك لصادق ، ولكني أكره أن يقال : خرع عند الموت ، ولولا أن تكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة ومسبة بعدي ، لقلتها ، ولأقررت بها عينك عند الفراق ، لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك ، ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف .
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
قالت قريش ، وقيل : إن القائل الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف : نحن نعلم أنك على الحق ، ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك وإنما نحن أكلة رأس ، أي : قليلون أن يتخطفونا من أرضنا ، فألقمهم الله الحجر . بأنه مكن لهم في الحرم الذي آمنه بحرمة البيت وآمن قطانه بحرمته ، وكانت العرب في الجاهلية حولهم يتغاورون ويتناحرون ، وهم آمنون في حرمهم لا يخافون ، وبحرمة البيت هُم قارّون بواد غير ذي زرع ، والثمرات والأرزاق تجبى إليهم من كل أوب ، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرضهم للتخوّف والتخطف ، ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة ، وإلى الحرم مجاز { يجبى إِلَيْهِ } تجلب وتجمع . قرىء : بالياء والتاء . وقرىء : «تجنى» ، بالنون ، من الجني . وتعديته بإلى كقوله : يجني إليّ فيه ، ويجني إلى الخافة . وثمرات : بضمتين وبضمة وسكون . ومعنى الكلية : الكثرة كقوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء } [ النمل : 23 ] { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } متعلق بقوله { مِّن لَّدُنَّا } أي قليل منهم يقرون بأنّ ذلك رزق من عند الله ، وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك ولا يفطنون له ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده . ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به وخلعوا أنداده . فإن قلت : بم انتصب رزقاً؟ قلت : إن جعلته مصدراً جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله؛ لأنّ معنى { يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ } ويرزق ثمرات كل شيء : واحد ، وأن يكون مفعولاً له . وإن جعلته بمعنى : مرزوق ، كان حالاً من الثمرات لتخصصها بالإضافة ، كما تنتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش ، فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر ، فدمّرهم الله وخرّب ديارهم . وانتصبت { مَعِيشَتَهَا } إمّا بحذف الجار وإيصال الفعل ، كقوله تعالى : { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] وإمّا على الظرف بنفسها ، كقولك : زيد ظني مقيم . أو بتقدير حذف الزمان المضاف ، أصله : بطرت أيام معيشتها ، كخفوق النجم ، ومقدم الحاج : وإمّا بتضمين { بَطِرَتْ } معنى : كفرت وغمطت . وقيل : البطر سوء احتمال الغنى : وهو أن لا يحفظ حق الله فيه { إِلاَّ قَلِيلاً } من السكنى . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوماً أو ساعة ويحتمل أنّ شؤم معاصي المهلكين بقي أثره في ديارهم ، فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً { وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } لتلك المساكن من ساكنيها ، أي : تركناها على حال لا يسكنها أحد ، أو خرّبناها وسوّيناها بالأرض .
تَتَخَلَّفُ الآثَارُ عَنْ أَصْحَابِهَا ... حِيناً وَيُدْرِكُهَا الْفَنَاءُ فَتَتْبَعُ
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
وما كانت عادة ربك أن يهلك القرى في كل وقت { حتى يَبْعَثَ فِى } القرية التي هي أمّها ، أي : أصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها { رَسُولاً } لإلزام الحجة وقطع المعذرة ، مع علمه أنهم لا يؤمنون؛ أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أمر القرى يعني مكة رسولاً وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء . وقرىء : «أمها» بضم الهمزة وكسرها لا تباع الجرّ ، وهذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم ، حيث أخبر بأنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الهلاك بظلمهم ، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل ، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم ، ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } [ هود : 117 ] فنصّ في قوله : { بظلم } أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلماً منه ، وأنّ حاله في غناه وحكمته منافية للظلم ، دلّ على ذلك بحرف النفي مع لامه ، كما قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } [ البقرة : 143 ] .
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
وأي شيء أصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلا تمتع وزينة أياماً قلائل ، وهي مدة الحياة المتقضية { وَمَا عِندَ الله } وهو ثوابه { خَيْرٌ } في نفسه من ذلك { وأبقى } لأنّ بقاءه دائم سرمد وقرىء : «يعقلون» بالياء ، وهو أبلغ في الموعظة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف : المؤمن ، والمنافق ، والكافر؛ فالمؤمن يتزوّد ، والمنافق يتزين ، والكافر يتمتع .
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
هذه الآية تقرير وإيضاح للتي قبلها . والوعد الحسن : الثواب؛ لأنه منافع دائمة على وجه التعظيم والاستحقاق ، وأي شيء أحسن منها ، ولذلك سمى الله الجنة بالحسنى . و { لاَقِيهِ } كقوله تعالى : { ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً } ، وعكسه { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] { مِنَ المحضرين } من الذين أحضروا النار . ونحوه : { لَكُنتُ مِنَ المحضرين } [ الصافات : 57 ] ، { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [ الصافات : 127 ] قيل : نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل . وقيل : في علي وحمزة وأبي جهل . وقيل : في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة . فإن قلت : فسر لي الفاءين وثم ، وأخبرني عن مواقعها . قلت : قد ذكر في الآية التي قبلها متاع الحياة الدنيا وما عند الله وتفاوتهما ، ثم عقبه بقوله : { أَفَمَن وعدناه } على معنى : أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوّي بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا ، فهذا معنى الفاء الأولى وبيان موقعها . وأمّا الثانية فللتسبيب : لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخير . وأمّا «ثم» فلتراخي حال الإحضار عن حال التمتيع ، لا لتراخي وقته عن وقته . وقرىء : «ثم هو» بسكون الهاء ، كما قيل عضْد في عضُد . تشبيهاً للمنفصل بالمتصل ، وسكون الهاء في : فهو : وهو ، ولهو : أحسن؛ لأنّ الحرف الواحد لا ينطق به وحده فهو كالمتصل .
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
{ شُرَكَائِىَ } مبني على زعمهم ، وفيه تهكم ، فإن قلت : زعم يطلب مفعولين ، كقوله :
. . . . وَلَمْ أَزْعُمْكِ عَنْ ذَاكَ مَعْزِلاَ ... فأين هما؟ قلت : محذوفان ، تقديره : الذين كنتم تزعمونهم شركائي . ويجوز حذف المفعولين في باب ظننت ، ولا يصح الاقتصار على أحدهما .
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
{ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } الشياطين أو أئمة الكفر ورؤوسه . ومعنى حق عليهم القول : وجب عليهم مقتضاه وثبت ، وهو قوله : { لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ] ، [ السجدة : 13 ] و { هَؤُلاءِ } مبتدأ ، و { الذين أَغْوَيْنَا } صفته ، والراجع إلى الموصول محذوف ، و { أغويناهم } الخبر ، والكاف صفة مصدر محذوف ، تقديره : أغويناهم ، فغووا غيا مثل ما غوينا ، يعنون : أنا لم نغو إلا باختيارنا ، لا أن فوقنا مغوين أغوونا بقسر منهم وإلجاء . أو دعونا إلى الغيّ وسوّلوه لنا ، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم؛ لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلاً لا قسراً وإلجاء ، فلا فرق إذاً بين غينا وغيهم . وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر ، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل ، وما بعث إليهم من الرسل وأنزل عليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر ، وناهيك بذلك صارفاً عن الكفر وداعياً إلى الإيمان ، وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى فَلاَ تلوموني ولوموا أنفسكم } [ إبراهيم : 22 ] والله تعالى قدّم هذا المعنى أوّل شيء ، حيث قال لإبليس { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] . { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ } منهم وما اختاروه من الكفر بأنفسهم ، هوى منهم للباطل ومقتاً للحق ، لا بقوّة منا على استكراههم ولا سلطان { مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم . وإخلاء الجملتين من العاطف ، لكونهما مقرّرتين لمعنى الجملة الأولى .
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
{ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب . أو لو أنهم كانوا مهتدين مؤمنين ، لما رأوه . أو تمنوا لو كانوا مهتدين . أو تحيروا عند رؤيته وسدروا فلا يهتدون طريقا . حكى أوّلا ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء ، ثم ما يقوله الشياطين أو أئمتهم عند توبيخهم لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة ، اعتذروا بأن الشياطين هم الذي استغووهم وزينوا لهم عبادتها ، ثم ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم ، ثم ما يبكتون به من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانباء } فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا تهتدي إليهم { فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ } لا يسأل بعضهم بعضاً كما يتساءل الناس في المشكلات ، لأنهم يتساوون جميعاً في عمى الأنباء عليهم والعجز عن الجواب . وقرىء : «فعميت» ، والمراد بالنبأ : الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله ، وإذاكانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال ، ويفوّضون الأمر إلى علم الله ، وذلك قوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } [ المائدة : 109 ] فما ظنك بالضُّلال من أممهم .
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
{ فَأَمَّا مَن تَابَ } من المشركين من الشرك ، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح { فعسى أَن } يفلح عند الله ، و«عسى» من الكرام تحقيق . ويجوز أن يراد : ترجي التائب وطمعه ، وكأنه قال : فليطمع أن يفلح .
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
الخيرة من التخير ، كالطيرة من التطير : تستعمل بمعنى المصدر هو التخير ، وبمعنى المتخير كقولهم : محمد خيرة الله من خلقه { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } بيان لقوله : { وَيَخْتَارُ } لأنّ معناه : ويختار ما يشاء ، ولهذا لم يدخل العاطف . والمعنى : أنّ الخيرة لله تعالى في أفعاله ، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ، ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه . قيل : السبب فيه قول الوليد بن المغيرة : { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] يعني : لا يبعث الله الرسل باختيار المرسل إليهم . وقيل : معناه ويختار الذي لهم فيه الخيرة ، أي : يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح ، وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم ، من قولهم في الأمرين : ليس فيهما خيرة لمختار . فإن قلت : فأين الراجع من الصلة إلى الموصول إذا جعلت ما موصولة؟ قلت : أصل الكلام : ما كان لهم فيه الخيرة ، فحذف «فيه» كما حذف ، منه في قوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامور } [ الشورى : 43 ] لأنه مفهوم { سبحان الله } أي الله بريء من إشراكهم ومايحملهم عليه من الجراءة على الله واختيارهم عليه ما لا يختار .
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
{ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } من عداوة رسول الله وحسده { وَمَا يُعْلِنُونَ } من مطاعنهم فيه . وقولهم : هلا اختير عليه غيره في النبوّة { وهُوَ الله } وهو المستأثر بالإلهية المختص بها ، و { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } تقرير لذلك ، كقولك : الكعبة القبلة ، لا قبلة إلا هي . فإن قلت : الحمد في الدنيا ظاهر فما الحمد في الآخرة؟ قلت : هو قولهم : { الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } [ فاطر : 34 ] ، { الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [ الزمر : 74 ] { وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبّ العالمين } [ الزمر : 75 ] والتحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة . وفي الحديث :
( 818 ) « يلهمونَ التسبيحَ والتقديس » { وَلَهُ الحكم } القضاء بين عباده .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
{ أَرَءيْتُمْ } وقرىء : «أريتم» : بحذف الهمزة ، وليس بحذف قياسي . ومعناه : أخبروني من يقدر على هذا؟ والسرمد : الدائم المتصل ، من السرد وهو المتابعة . ومنه قولهم في الأشهر الحرم : ثلاثة سردٍ ، وواحد فرد ، والميم مزيدة . ووزنه فعمل . ونظيره . دلامص ، من الدلاص . فإن قلت : هلا قيل : بنهار تتصرفون فيه ، كما قيل : { بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } ؟ قلت ذكر الضياء وهو ضوء الشمس : لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ، ليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ، ومن ثمة قرن بالضياء { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } لأنّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } لأنّ غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره . وأنت من السكون ونحوه { وَمِن رَّحْمَتِهِ } زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة : لتسكنوا في أحدهما وهو الليل ، ولتبتغوا من فضل الله في الآخر وهو النهار ولإرادة شكركم .
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)
وقد سلكت بهذه الآية طريقة اللف في تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء : إيذان بأن لا شيء أجلب لغضب الله من الإشراك به ، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده . اللهم فكما أدخلتنا في أهل توحيدك ، فأدخلنا في الناجين من وعيدك .
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
{ وَنَزَعْنَا } وأخرجنا { مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } وهو نبيهم : لأن أنبياء الأمم شهداء عليهم ، يشهدون بما كانوا عليه { فَقُلْنَا } للأمة { هَاتُواْ برهانكم } فيما كنتم عليه من الشرك ومخالفة الرسول { فَعَلِمُواْ } حينئذٍ { أَنَّ الحق لِلَّهِ } ولرسوله ، لا لهم ولشياطينهم { وَضَلَّ عَنْهُم } وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من الكذب والباطل .
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
{ قارون } اسم أعجمي مثل هرون ، ولم ينصرف للعجمة والتعريف ، ولو كان فاعولاً من قرن لانصرف . وقيل : معنى كونه من قومه أنه آمن به . وقيل : كان إسرائيلياً ابن عم موسى : هو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب . وموسى بن عمران بن قاهث . وقيل : كان موسى ابن أخيه ، وكان يسمى المنور لحسن صورته ، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ، ولكنه نافق كما نافق السامري وقال : إذا كانت النبوّة لموسى عليه السلام ، والمذبح والقربان إلى هرون فمالي؟ وروي : أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة والحبورة لهرون يقرّب القربان ويكون رأساً فيهم وكان القربان إلى موسى فجعله موسى إلى أخيه وجد قارون في نفسه وحسدهما ، فقال لموسى : الأمر لكما ولست على شيء ، إلى متى أصبر؟ قال موسى : هذا صنع الله قال : والله لا أصدق حتى تأتي بآية ، فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل واحد بعصاه ، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها ، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل ، فأصبحوا وإذا بعصا هرون تهتز ولها ورق أخضر ، وكانت من شجر اللوز ، فقال قارون : ما هو بأعجب مما تصنع من السحر { فبغى عَلَيْهِمْ } من البغي وهو الظلم . قيل : ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم . وقيل : من البغي وهو الكبر والبذخ : تبذخ عليهم بكثرة ماله وولده . وقيل : زاد عليهم في الثياب شبراً . المفاتح : جمع مفتح بالكسر : وهو ما يفتح به . وقيل هي الخزائن ، وقياس واحدها : مفتح بالفتح . ويقال : ناء به الحمل ، إذا أثقله حتى أماله . والعصبة : الجماعة الكثيرة والعصابة : مثلها . واعصوصبوا : اجتمعوا . وقيل : كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلاً ، لكل خزانة مفتاح ، ولا يزيد المفتاح على أصبع . وكانت من جلود . قال أبو رزين يكفي الكوفة مفتاح ، وقد بولغ في ذكر ذلك بلفظ : الكنوز ، والمفاتح ، والنوء ، والعصبة ، وأولى القوة . وقرأ بُديل بن ميسرة : لينوء بالياء . ووجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ، ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال ، كقولك ذهبت أهل اليمامة . ومحل إذ منصوب بتنوء { لاَ تَفْرَحْ } كقوله : { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم } [ الحديد : 23 ] وقول القائل :
وَلَسْتُ بِمِفْرَاحٍ إذَا الدَّهْرُ سَرَّنِي ... وذلك أنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن . وأمّا من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب ، لم تحدّثه نفسه بالفرح . وما أحسن ما قال القائل :
أَشَدُّ الغمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ ... تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ انْتِقَالاَ
{ وابتغ فِيمَا ءاتَاكَ الله } من الغنى والثروة { الدار الاخرة } بأن تفعل فيه أفعال الخير من أصناف الواجب والمندوب إليه ، وتجعله زادك إلى الآخرة { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ } وهو أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك { وَأَحْسِن } إلى عباد الله { كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } أوأحسن بشكرك وطاعتك لله كما أحسن إليك . والفساد في الأرض : ما كان عليه من الظلم والبغي . وقيل إن القائل موسى عليه السلام . وقرىء : «واتبع» .
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
{ على عِلْمٍ } أي على استحقاق واستيجاب لما فيّ من العلم الذي فضلت به الناس ، وذلك أنه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة . وقيل : هو علم الكيمياء . عن سعيد بن المسيب : كان موسى عليه السلام يعلم علم الكيمياء ، فأفاد يوشع بن نون ثلثه ، وكالب بن يوفنا ثلثه ، وقارون ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا . وقيل : علم الله موسى علم الكيمياء ، فعلمه موسى أخته ، فعلمته أخته قارون . وقيل : هو بصره بأنواع التجارة والدهقنة وسائر المكاسب . وقيل : { عِندِى } معناه : في ظني ، كا تقول الأمر عندي كذا ، كأنه قال : إنما أوتيته على علم ، كقوله تعالى : { ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } [ الزمر : 49 ] ثم زاد { عِندِى } أي هو في ظني ورأيي هكذا . يجوز أن يكون إثباتاً لعلمه بأنّ الله قد أهلك من القرون قبله من هو أقوى منه وأغنى ، لأنه قد قرأه في التوراة ، وأخبر به موسى ، وسمعه من حفاظ التواريخ والأيام كأنه قيل : { أَوَ لَمْ يَعْلَمْ } في جملة ما عنده من العلم هذا ، حتى لا يغتر بكثرة ماله وقوّته . ويجوز أن يكون نفياً لعلمه بذلك؛ لأنه لما قال : أوتيته على علم عندي ، فتنفج بالعلم وتعظم به . قيل : أعنده مثل ذلك العلم الذي ادعاه ورأى نفسه به مستوجبة لكل نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين { وَأَكْثَرُ جَمْعاً } للمال ، أو أكثر جماعة وعدداً . فإن قلت : ما وجه اتصال قوله : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } بما قبله؟ قلت : لما ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الذي كانوا أقوى منه وأغنى ، قال على سبيل التهديد له : والله مطلع على ذنوب المجرمين ، لا يحتاج إلى سؤالهم عنها واستعلامهم . وهو قادر على أن يعاقبهم عليها ، كقوله تعالى : { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ آل عمران : 153 ] وغيرها ، { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ البقرة : 283 ] ، [ المؤمنون : 51 ] ، [ النور : 28 ] وما أشبه ذلك .
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
{ فِى زِينَتِهِ } قال الحسن : في الحمرة والصفرة . وقيل : خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف على زيه . وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعن يمينه ثلثمائة غلام ، وعن يساره ثلثمائة جارية ، بيض عليهنّ الحلي والديباج . وقيل : في تسعين ألفاً عليهم المعصفرات ، وهو أوّل يوم رؤي فيه المعصفر : كان المتمنون قوماً مسلمين وإنما تمنوه على سبيل الرغبة في اليسار والاستغناء كما هو عادة البشر . وعن قتادة : تمنوه ليتقربوا به إلى الله وينفقوه في سبل الخير . وقيل : كانوا قوماً كفاراً . الغابط : هو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه . والحاسد : هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دونه فمن الغبطة قوله تعالى : { ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قارون } ومن الحسد قوله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْض } [ النساء : 32 ] وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 819 ) هل يضر الغبط؟ فقال : « لا إلا كما يضر العضاه . . . . . . . الخبط » والحظ : الجدّ ، وهو البخت والدولة : وصفوه بأنه رجل مجدود مبخوت ، يقال : فلان ذو حظ ، وحظيظ ، ومحظوظ ، وما الدنيا إلا أحاظ وجدود .
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
ويلك : أصله الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى ، كما استعمل : لا أبا لك . وأصله الدعاء على الرجل بالأقراف في الحث على الفعل . والراجع في { وَلاَ يُلَقَّاهَا } للكلمة التي تكلم بها العلماء . أو للثواب ، لأنه في معنى المثوبة أو الجنة ، أو للسيرة والطريقة ، وهي الإيمان والعمل الصالح { الصابرون } على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير . كان قارون يؤذي نبي الله موسى عليه السلام كل وقت ، وهو يداريه للقرابة التي بينهما ، حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم فحسبه فاستكثره فشحت به نفسه ، فجمع بني إسرائيل وقال : إنّ موسى أرادكم على كل شيء ، وهو يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا : أنت كبيرنا وسيدنا ، فمر بما شئت ، قال : نبرطل فلانة البغيّ حتى ترميه بنفسها فيرفضه بنو إسرائيل ، فجعل لها ألف دينار . وقيل : طستاً من ذهب . وقيل : طستاً من ذهب مملوءة ذهباً . وقيل : حكمها فلما كان يوم عيد قام موسى فقال : يا بني إسرائيل ، من سرق قطعناه ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه ، وإن أحصن رجمناه ، فقال قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا ، قال : فإنّ بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة ، فأحضرت ، فناشدها موسى بالذي فلق البحر ، وأنزل التوراة أن تصدق ، فتداركها الله فقالت : كذبوا ، بل جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك لنفسي ، فخرّ موسى ساجداً يبكي وقال : يا رب ، إن كنت رسولك فاغضب لي . فأوحى إليه : أن مر الأرض بما شئت ، فإنها مطيعة لك . فقال : يا بني إسرائيل ، إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليلزم مكانه ، ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزلوا جميعاً غير رجلين ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه بالله والرحم ، وموسى لا يلتفت إليهم لشدّة غضبه ، ثم قال : خذيهم ، فانطبقت عليهم . وأوحى الله إلى موسى : ما أفظك : استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم ، أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً ، فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم : إنما دعا موسى على قارون ليستبد بداره وكنوزه ، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله { مِنَ المنتصرين } من المنتقمين من موسى عليه السلام ، أو من الممتنعين من عذاب الله . يقال : نصره من عدوه فانتصر ، أي : منعه منه فامتنع .
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
قد يذكر الأمس ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك ، ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة { مَكَانَهُ } منزلته من الدنيا ( وي ) مفصولة عن كأن ، وهي كلمة تنبُّهٍ على الخطأ وتندُّم . ومعناه : أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وقولهم : { ياليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قارون } وتندموا ثم قالوا : { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } أي : ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح ، وهو مذهب الخليل وسيبويه . قال :
وَيْ كَأَنَّ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ ... بب وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ
وحكى الفراء أنّ أعرابية قالت لزوجها : أين ابنك؟ فقال : وي كأنه وراء البيت . وعند الكوفيين أنّ «ويك» بمعنى : ويلك ، وأنّ المعنى ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون . ويجوز أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وي ، كقوله :
. . . وَيْكَ عَنْتَرُ أَقْدِمِ ... وأنه بمعنى لأنه ، واللام لبيان المقول لأجله هذا القول ، أو لأنه لا يفلح الكافرون كان ذلك ، وهو الخسف بقارون ، ومن الناس من يقف على ( وي ) ويبتدىء ( كَأَنَّهُ ) ومنهم من يقف على «ويك» . وقرأ الأعمش «لولا منّ الله علينا» . وقرىء : { لَخَسَفَ بِنَا } وفيه ضمير الله . ولا نخسف بنا ، كقولك : انقطع به . ولتخسف بنا .
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
{ تِلْكَ } تعظيم لها وتفخيم لشأنها ، يعني : تلك التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها . لم يعلق الموعد بترك العلو والفساد ، ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما ، كما قال : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } [ هود : 113 ] فعلق الوعيد بالركون . وعن علي رضي الله عنه : إنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل تحتها . وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال : ذهبت الأماني ههنا . وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يردّدها حتى قبض . ومن الطماع من يجعل العلوّ لفرعون ، والفساد لقارون ، متعلقاً بقوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض } [ القصص : 4 ] ، { وَلاَ تَبْغِ الفساد فِى الأرض } [ القصص : 77 ] ويقول : من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ، ولا يتدبر قوله : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } كما تدبره عليّ والفضيل وعمر .
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
معناه : فلا يجزون ، فوضع { الذين عَمِلُواْ السيئات } موضع الضمير؛ لأن في إسناد عمل السيئة إليهم مكرراً . فضل تهجين لحالهم ، وزيادة تبغيض للسيئة إلى قلوب السامعين { إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إلا مثل ما كانوا يعملون ، وهذا من فضله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها ، ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة ، وهو معنى قوله : { فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا } .
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
{ فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان } أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه ، يعني : أن الذي حملك صعوبة هذا التكليف لمثيبك عليها ثواباً لا يحيط به الوصف . و { لَرَادُّكَ } بعد الموت { إلى مَعَادٍ } أي معاد ليس لغيرك من البشر وتنكير المعاد لذلك : وقيل : المراد به مكة : ووجهه أن يراد رده إليها يوم الفتح : ووجه تنكيره أنها كانت في ذلك اليوم معاداً له شأن ، ومرجعاً له اعتداد؛ لغلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها ، وقهره لأهلها ، ولظهور عز الإسلام وأهله وذل الشرك وحزبه . والسورة مكية ، فكأن الله وعده وهو بمكة في أذى وغلبة من أهلها : أنه يهاجر به منها ، ويعيده إليها ظاهراً ظافراً . وقيل : نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره . وقد اشتاق إلى مولده ومولد آبائه وحرم إبراهيم ، فنزل جبريل فقال له : أتشتاق إلى مكة؟ قال : نعم ، فأوحاها إليه . فإن قلت : كيف اتصل قوله تعالى : { قُل رَّبّى أَعْلَمُ } بما قبله؟ قلت : لما وعد رسوله الردّ إلى معاد ، قال : قل للمشركين : { رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى } يعني نفسه وما يستحقه من الثواب في معاده { وَمَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ } يعنيهم وما يستحقونه من العقاب في معادهم .
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
فإن قلت : قوله : { إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } ما وجه الاستثناء فيه؟ قلت : هذا كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : وما ألقى عليك الكتاب إلا رحمه من ربك . ويجوز أن يكون إلا بمعنى لكن للاستدراك ، أي : ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك .
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
وقرىء : «يصدنك» ، من أصدّه بمعنى صدّه ، وهي في لغة كلب . وقال :
أُنَاسٌ أَصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمُو ... صُدُودَ السَّوَاقي عَنْ أُنُوفِ الْحَوَائِمِ
{ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } بعد وقت إنزاله وإذ تضاف إليه أسماء الزمان ، كقولك : حينئذٍ وليلتئذٍ ويومئذٍ وما أشبه ذلك . والنهي عن مظاهرة الكافرين ونحو ذلك من باب التهييج الذي سبق ذكره .
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{ إِلاَّ وَجْهَهُ } إلا إياه . والوجه يعبر به عن الذات .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 820 ) « مَنْ قَرأَ طاسم القصص كانَ لَهُ الأجرُ بعددِ مَنْ صدَّقَ موسى وكذَّبَ بهِ ، ولمْ يبقَ ملكٌ في السمواتِ والأرضِ إلاّ شهدَ لَهُ يومَ القيامةِ أنّه كانَ صادِقاً أنّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلاَّ وجهُه ، لهُ الحكمُ وإليه ترجعُونَ » .
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
الحسبان لا يصح تعليقه بمعاني المفردات ، ولكن بمضامين الجمل . ألا ترى أنك لو قلت : حسبت زيداً وظننت الفرس : لم يكن شيئاً حتى تقول : حسبت زيداً عالماً؛ وظننت الفرس جواداً ، لأنّ قولك : زيد عالم ، أو الفرس جواد : كلام دال على مضمون ، فأردت الإخبار عن ذلك المضمون ثابتاً عندك على وجه الظن لا اليقين ، فلم تجد بدّا في العبارة عن ثباته عندك على ذلك الوجه ، من ذكر شطري الجملة مدخلاً عليهما فعل الحسبان ، حتى يتم لك غرضك . فإن قلت : فأين الكلام الدال على المضمون الذي يقتضيه الحسبان في الآية؟ قلت : هو في قوله : { أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } وذلك أن تقديره : أحسبوا تركهم غير مفتونين ، لقولهم : آمنا ، فالترك أول مفعولي حسب؛ ولقولهم : آمنا ، هو الخبر . وأما «غير مفتونين» فتتمة الترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كقوله :
فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّبَاعِ يَنُشْنَهُ ... ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان ، تقدر أن تقول : تركهم غير مفتونين ، لقولهم : آمنا ، على تقدير : حاصل ومستقر ، قبل اللام . فإن قلت : { أَن يَقُولُواْ } هو علة تركهم غير مفتونين ، فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت : كما تقول خروجه لمخافة الشر ، وضربه للتأديب ، وقد كان التأديب والمخافة في قولك : خرجت مخافة الشر ، وضربته تأديباً : تعليلين . وتقول أيضاً : حسبت خروجه لمخافة الشر ، وظننت ضربه للتأديب ، فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبراً . والفتنة : الامتحان بشدائد التكليف : من مفارقة الأوطان ، ومجاهدة الأعداء ، وسائر الطاعات الشاقة ، وهجر الشهوات والملاذ ، وبالفقر؛ والقحط ، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ، وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم . والمعنى : أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم وأظهروا القول بالإيمان : أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين ، بل يمحنهم الله بضروب المحن ، حتى يبلو صبرهم ، وثبات أقدامهم ، وصحة عقائدهم ، ونصوع نياتهم ، ليتميز المخلص من غير المخلص ، والراسخ في الدين من المضطرب ، والمتمكن من العابد على حرف ، كما قال : { لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } [ آل عمران : 186 ] وروي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جزعوا من أذى المشركين . وقيل في عمار بن ياسر : وكان يعذب في الله . وقيل : في ناس أسلموا بمكة ، فكتب إليهم المهاجرون : لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا ، فخرجوا فتبعهم المشركون فردّوهم ، فلما نزلت كتبوا بها إليهم؛ فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا . وقيل : في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو أوّل قتيل من المسلمين يوم بدر ، رماه عامر بن الحضرمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 821 )
« سيد الشهداء مهجع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة » فجزع عليه أبواه وامرأته { وَلَقَدْ فَتَنَّا } موصول بأحسب أو بلا يفتنون ، كقولك : ألا يمتحن فلان وقد امتحن من هو خير منه ، يعني : أن أتباع الأنبياء عليهم السلام قبلهم ، قد أصابهم من الفتن والمحن نحو ما أصابهم . أو ما هو أشدّ منه فصبروا ، كما قال : { وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ . . . } الآية [ آل عمران : 146 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 822 ) « قد كان مَن قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ، وما يصرفه ذلك عن دينه؛ ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه » { فَلَيَعْلَمَنَّ الله } بالامتحان { الذين صَدَقُوا } في الإيمان { وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } فيه . فإن قلت : كيف وهو عالم بذلك فيما لم يزل؟ قلت : لم يزل يعلمه معدوماً ، ولا يعلمه موجوداً إلا إذا وجد ، والمعنى : وليتميزن الصادق منهم من الكاذب . ويجوز أن يكون وعداً ووعيداً ، كأنه قال : وليثيبن الذي صدقوا وليعاقبنّ الكاذبين . وقرأ علي رضي الله عنه والزهري : وليعلمنّ ، من الإعلام ، أي : وليعرفنهم الله الناس من هم . أو ليسمنهم بعلامة يعرفون بها من بياض الوجوه وسوادها ، وكحل العيون وزرقتها .
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
{ أَن يَسْبِقُونَا } أي يفوتونا ، يعني أنّ الجزاء يلحقهم لا محالة ، وهم لم يطمعوا في الفوت ، ولم يحدّثوا به نفوسهم ، ولكنهم لغفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة وإصرارهم على المعاصي : في صورة من يقدر ذلك ويطمع فيه . ونظيره { وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض } [ العنكبوت : 22 ] ، { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } [ الأنفال : 59 ] . فإن قلت : أين مفعولا «حسب»؟ قلت : اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سدّ مسدّ المفعولين؛ كقوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } [ البقرة : 214 ] ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر وأم منقطعة . ومعنى الإضراب فيها : أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأوّل ، لأن ذاك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه ، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا . أو بئس حكماً يحكمونه حكمهم هذا ، فحذف المخصوص بالذم .
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
لقاء الله : مثل للوصول إلى العاقبة ، من تلقي ملك الموت ، والبعث ، والحساب ، والجزاء : مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل ، وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر ، فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفعاله ، أو بضد ذلك لما سخطه منها ، فمعنى قوله : { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله } : من كان يأمل تلك الحال . وأن يلقى فيها الكرامة من الله والبشر { فَإِنَّ أَجَلَ الله } وهو الموت { لآتٍ } لا محالة؛ فليبادر العمل الصالح الذي يصدق رجاءه ، ويحقق أمله ، ويكتسب به القربة عند الله والزلفى { وَهُوَ السميع العليم } الذي لا يخفى عليه شيء مما يقوله عباده ومما يفعلونه ، فهو حقيق بالتقوى والخشية . وقيل : { يَرْجُو } : يخاف من قول الهذلي في صفة عسّال :
إِذَا لَسَعْتُه الدَّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... فإن قلت : فإن أجل الله لآت ، كيف وقع جواباً للشرط؟ قلت : إذا علم أن لقاء الله عنيت به تلك الحال الممثلة والوقت الذي تقع فيه تلك الحال هو الأجل المضروب للموت : فكأنه قال : من كان يرجو لقاء الله فإن لقاء الله لآت ، لأن الأجل واقع فيه اللقاء ، كما تقول : من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب ، إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة .
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
{ وَمَن جَاهَدَ } نفسه في منعها ما تأمر به وحملها على ما تأباه { فَإِنَّمَا يجاهد } لها ، لأن منفعة ذلك راجعة إليها ، وإنما أمر الله عز وجل ونهى ، رحمة لعباده وهو الغني عنهم وعن طاعتهم .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
إما أن يريد قوماً مسلمين صالحين قد أساءوا في بعض أعمالهم وسيئاتهم مغمورة بحسناتهم فهو يكفرها عنهم ، أي يسقط عقابها بثواب الحسنات ويجزيهم أحسن الذي كانوا يعملون ، أي : أحسن جزاء أعمالهم : وإما قوماً مشركين آمنوا وعملوا الصالحات ، فالله عز وجل يكفر سيئاتهم بأن يسقط عقاب ما تقدم لهم من الكفر والمعاصي ويجزيهم أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام .
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
«وصى» حكمه حكم «أمر» في معناه وتصرفه . يقال : وصيت زيداً بأن يفعل خيراً ، كما تقول : أمرته بأن يفعل . ومنه بيت الإصلاح :
وَذُبُيَانِيَّةٍ وَصَّتْ بَنِيهَا ... بِأَنْ كَذَبَ القَرَاطِفُ وَالْقُرُوفُ
كما لو قال : أمرتهم بأن ينتهبوها . ومنه قوله تعالى : { ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ } [ البقرة : 132 ] أي وصاهم بكلمة التوحيد وأمرهم بها ، وقولك : وصيت زيداً بعمرو ، معناه : وصيته بتعهد عمرو ومراعاته ونحو ذلك ، وكذلك معنى وقوله : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } : وصيناه بإيتاء والديه حسناً ، أو بإيلاء والديه حسناً؛ أي : فعلا ذا حسن ، أو ما هو في ذاته حسن لفرط حسنه ، كقوله تعالى : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا } [ البقرة : 83 ] وقرىء : «حسنا» ، و«إحسانا» ويجوز أن تجعل «حسنا» من باب قولك : زيداً ، بإضمار «أضرب» إذا رأيته متهيئاً للضرب ، فتنصبه بإضمار أولهما . أو أفعل بهما ، لأن التوصية بهما دالة عليه ، وما بعده مطابق له ، كأنه قال : قلنا : أوْ لِهما معروفاً و { فَلاَ تُطِعْهُمَا } في الشرك إذا حملاك عليه . وعلى هذا التفسير إن وقف على { بوالديه } وابتدأ { حُسْنًا } حسن الوقف ، وعلى التفسير الأول لا بد من إضمار القول ، معناه : وقلنا إن جاهداك أيها الإنسان { مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } أي لا علم لك بإلهيته . والمراد بنفي العلم : نفي المعلوم ، كأنه قال : لتشرك بي شيئاً لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم : وصاه بوالديه وأمره بالإحسان إليهما ، ثم نبه بنهيه عن طاعتهما إذا أراداه على ما ذكره ، على أن كل حق وإن عظم ساقط إذاجاء حق الله ، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ثم قال : إليّ مرجع من آمن منكم ومن أشرك ، فأجازيكم حق جزائكم . وفيه شيئان ، أحدهما : أن الجزاء إليّ ، فلا تحدث نفسك بجفوة والديك وعقوقهما لشركهما ، ولا تحرمهما برّك ومعروفك في الدنيا ، كما أني لا أمنعهما رزقي . والثاني : التحذير من متابعتهما على الشرك ، والحث على الثبات والاستقامة في الدين بذكر المرجع والوعيد . روي :
( 823 ) أن سعد بن أبي وقاص الزهري رضي الله عنه حين أسلم قالت أمّه وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس يا سعد ، بلغني أنك قد صبأت ، فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح؛ وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد وكان أحبّ ولدها إليها فأبى سعد وبقيت ثلاث أيام كذلك ، فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ، فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان . وروي أنهانزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، وذلك :
( 824 ) أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة ، فخرج أبو جهل بن هشام والحرث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة : أمرأة من بني تميم من بني حنظلة فنزلا بعياش وقالا له : إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين ، وقد تركت أمّك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتاً حتى تراك ، وهي أشدّ حباً لك منا فاخرج معنا ، وفتلا منه في الذروة والغارب فاستشار عمر رضي الله عنه فقال : هما يخدعانك ، ولك عليّ أن أقسم مالي بيني وبينك ، فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر ، فقال له عمر : أما إذ عصيتني فخذ ناقتي ، فليس في الدنيا بعير يلحقها ، فإن رابك منهما ريب فارجع ، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي قد كلت فاحملني معك .
قال : نعم ، فنزل ليوطىء لنفسه وله ، فأخذاه وشدّاه وثاقاً ، وجلده كل واحد منهما مائة جلدة ، وذهبا به إلى أمه فقالت : لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد ، فنزلت .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
{ فِى الصالحين } في جملتهم . والصلاح من أبلغ صفات المؤمنين ، وهو متمني أنبياء الله . قال الله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين } [ النمل : 19 ] وقال في إبراهيم عليه السلام : { وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين } [ البقرة : 130 ] ، [ النحل : 122 ] ، [ العنكبوت : 27 ] أو في مدخل الصالحين وهي الجنة ، وهذا نحو قوله تعالى : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } الآية [ النساء : 69 ] .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
هم ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم ، فإذا مسهم أذى من الكفار وهو المراد بفتنة الناس ، كان ذلك صارفاً لهم عن الإيمان ، كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر . أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفاً ، وإذا نصر الله المؤمنين وغنمهم اعترضوهم وقالوا : { إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } أي مشايعين لكم في دينكم ، ثابتين عليه ثباتكم ، ما قدر أحد أن يفتننا ، فأعطونا نصيبنا من المغنم . ثم أخبر سبحانه أنه أعلم { بِمَا فِى صُدُورِ العالمين } من العالمين بما في صدورهم ، ومن ذلك ما تكن صدور هؤلاء من النفاق ، وهذا إطلاع منه للمؤمنين على ما أبطنوه ، ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين ، وقرىء : «ليقولنّ» بفتح اللام .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
أمروهم باتباع سبيلهم وهي طريقتهم التي كانوا عليها في دينهم ، وأمروا أنفسهم بحمل خطاياهم فعطف الأمر على الأمر ، وأرادوا : ليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم . والمعنى : تعليق الحمل بالاتباع ، وهذا قول صناديد قريش : كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم ، فإن عسى كان ذلك فإنا نتحمل عنكم الإثم . ونرى في المتسمين بالإسلام من يستنّ بأولئك فيقول لصاحبه - إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم : افعل هذا وإثمه في عنقي . وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامّة وجهلتهم - ومنه ما يحكى أنّ أبا جعفر المنصور رفع إليه بعض أهل الحشو حوائجه ، فلما قضاها قال : يا أمير المؤمنين ، بقيت الحاجة العظمى . قال : وما هي؟ قال شفاعتك يوم القيامة ، فقال له عمرو بن عبيد رحمه الله : إياك وهؤلاء ، فإنهم قطاع الطريق في المأمن . فإن قلت : كيف سماهم كاذبين ، وإنما ضمنوا شيئاً علم الله أنهم لا يقدرون على الوفاء به ، وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به ، لا يسمى كاذباً لا حين ضمن ولا حين عجز ، لأنه في الحالين لا يدخل تحت حدّ الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه؟ قلت : شبه الله حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به ، فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر ، عنه . ويجوز أن يريد أنهم كاذبون ، لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه ، كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } أي أثقال أنفسهم { وَأَثْقَالاً } يعني أثّقالا أخر غير الخطايا التي ضمنوا للمؤمنين حملها ، وهي أثقال الذين كانوا سبباً في ضلالهم { وَلَيُسْئَلُنَّ } سؤال تقريع { عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي يختلقون من الأكاذيب والأباطيل . وقرىء : «من خطيآتهم» .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
كان عمر نوح عليه السلام ألفاً وخمسين سنة ، بعث على رأس أربعين ، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين ، وعاش بعد الطوفان ستين . وعن وهب : أنه عاش ألفاً وأربعمائة سنة . فإن قلت : هلا قيل : تسعمائة وخمسين سنة؟ قلت : ما أورده الله أحكم . لأنه لو قيل كما قلت ، لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره ، وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك ، وكأنه قيل : تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد ، إلا أنّ ذلك أخصر وأعذب لفظاً وأملأ بالفائدة ، وفيه نكتة أخرى : وهي أنّ القصة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمّته وما كابده من طول المصابرة ، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً له ، فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه ، أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدّة صبره . فإن قلت : فلم جاء المميز أوّلاً بالسنة وثانياً بالعام؟ قلت : لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة ، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك . و { الطوفان } ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة ، من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما . قال العجاج :
وَغَمَّ طُوفَانُ الظَّلاَمِ الأَثْأَبَا ... { وأصحاب السفينة } كانوا ثمانية وسبعين نفساً : نصفهم ذكور ، ونصفهم إناث ، منهم أولاد نوح عليه السلام : سام ، وحام ، ويافث ، ونساؤهم . وعن محمد بن إسحق : كانوا عشرة . خمسة رجال وخمس نسوة . وقد روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :
( 825 ) « كانوا ثمانية : نوح وأهله وبنوه الثلاثة » والضمير في { وجعلناها } للسفينة أو للحادثة والقصة .
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
نصب { إِبْرَاهِيمَ } بإضمار اذكر ، وأبدل عنه { إِذْ } بدل الاشتمال؛ لأنّ الأحيان تشتمل على ما فيها . أو هو معطوف على { نُوحاً } وإذ ظرف لأرسلنا ، يعني : أرسلناه حين بلغ من السنّ والعلم مبلغاً صلح فيه لأن يعظ قومه وينصحهم ويعرض عليهم الحق ويأمرهم بالعبادة والتقوى وقرأ إبراهيم النخعي وأبو حنيفة رحمهما الله . «وإبراهيم» ، بالرفع على معنى : ومن المرسلين إبراهيم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } يعني : إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم . أو إن نظرتم بعين الدراية المبصرة دون عين الجهل العمياء : علمتم أنه خير لكم وقرىء : «تخلقون من خلق» بمعنى التكثير في خلق . وتخلقون ، من تخلق بمعنى تكذب وتخرص . وقرىء : «إفكاً» ، [ و ] فيه وجهان : أن يكون مصدراً ، نحو : كذب ولعب . والإفك : مخفف منه ، كالكذب واللعب من أصلهما ، وأن يكون صفة على فعل ، أي خلقاً إفكا ، أي ذا إفك وباطل . واختلاقهم الإفك : تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله أو شفعاء إليه . أو سمى الأصنام : إفكا ، وعملهم لها ونحتهم : خلقاً للإفك . فإن قلت : لم نكر الرزق ثم عرفه؟ قلت : لأنه أراد لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئاً من الرزق ، فابتغوا عند الله الرزق كله . فإنه هو الرزاق وحده لا يرزق غيره { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وقرىء : بفتح التاء ، فاستعدوا للقائه بعبادته والشكر له على أنعمه ، وإن تكذبونني فلا تضرونني بتكذيبكم ، فإنّ الرسل قبلي قد كذبتهم أممهم ، وما ضرّوهم وإنما ضروا أنفسهم ، حيث حلّ بهم ما حل بسبب تكذيب الرسل : وأما الرسول فقد تم أمره حين بلغ البلاغ المبين الذي زال معه الشكّ ، وهو اقترانه بآيات الله ومعجزاته . أو : وإن كنت مكذباً فيما بينكم فلي في سائر الأنبياء أسوة وسلوة حيث كذبوا ، وعلى الرسول أن يبلغ وما عليه أن يصدق ولا يكذب ، وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم صلوات الله عليه لقومه ، وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشأن قريش بين أوّل قصة إبراهيم وآخرها . فإن قلت : إذا كانت من قول إبراهيم فما المراد بالأمم قبله؟ قلت : قوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم ، وكفى بقوم نوح أمّة في معنى أمم جمة مكذبة ، ولقد عاش إدريس ونوح وغيرهم ، وكفى بقوم نوح أمّة في معنى أمم جمة مكذبة ، ولقد عاش إدريس ألف سنة في قومه إلى أن رفع إلى السماء . وآمن به ألف إنسان منهم على عدد سنيه ، وأعقابهم على التكذيب .
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
فإن قلت : فما تصنع بقوله : { قُلْ سِيرُواْ فِى الارض } ؟ قلت : هي حكاية كلام حكاه إبراهيم عليه السلام لقومه ، كما يحكي رسولنا صلى الله عليه وسلم كلام الله على هذا المنهاج في أكثر القرآن فإن قلت : فإذا كانت خطاباً لقريش فما وجه توسطهما بين طرفي قصة إبراهيم والجملة؟ أو الجمل الاعتراضية لا بد لها من اتصال بما وقعت معترضة فيه؟ ألا تراك لا تقول : مكة وزيد أبوه قائم خير بلاد الله؟ قلت : إيراد قصة إبراهيم ليس إلا إرادة للتنفيس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن تكون مسلاة له ومتفرجا بأنّ أباه إبراهيم خليل الله كان ممنوّا بنحو مامني به من شرك قومه وعبادتهم الأوثان ، فاعترض بقوله : وإن تكذبوا ، على معنى إنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمداً فقد كذب إبراهيم قومه وكل أمة نبيها؛ لأن قوله : { فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ } لا بد من تناوله لأمّه إبراهيم ، وهو كما ترى اعتراض واقع متصل ، ثم سائر الآيات الواطئة عقبها من أذيالها وتوابعها ، لكونها ناطقة بالتوحيد ودلائله ، وهدم الشرك وتوهين قواعده ، وصفة قدرة الله وسلطانه ، ووضوح حجته وبرهانه قرىء : { يَرَوْاْ } بالياء والتاء . ويبدىء ويبدأ . وقوله : { ثُمَّ يُعِيدُهُ } ليس بمعطوف على يبدىء ، وليست الرؤية واقعة عليه ، وإنما هو إخبار على حياله بالإعادة بعد الموت ، كما وقع النظر في قوله تعالى : { فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىء النشأة الأخرة } على البدء دون الإنشاء ، ونحوه قولك : ما زلت أوثر فلاناً وأستخلفه على من أخلفه ، فإن قلت : هو معطوف بحرف العطف ، فلا بد له من معطوف عليه ، فما هو؟ قلت : هو جملة قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىءُ الله الخلق } وكذلك : وأستخلفه ، معطوف على جملة قوله : ما زلت أوثر فلاناً ذلك يرجع إلى ما يرجع إليه هو في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] من معنى يعيد . دل بقوله { النشأة الاخرة } على أنهما نشأتان ، وأن كل واحدة منهما إنشاء ، أي : ابتداء واختراع ، وإخراج من العدم إلى الوجود ، لا تفاوت بينهما إلا أن الآخر إنشاء بعد إنشاء مثله ، والأولى ليست كذلك . وقرىء «النشأة» و«النشاءة» كالرأفة والرآفة ، فإن قلت : ما معنى الإفصاح باسمه مع إيقاعه مبتدأ في قوله : { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الأخرة } بعد إضماره في قوله : كيف بدأ الخلق؟ وكان القياس أن يقال : كيف بدأ الله الخلق ثم ينشىء النشأة الآخرة؟ قلت : الكلام معهم كان واقعاً في الإعادة ، وفيها كانت تصطك الركب ، فلما قرّرهم في الإبداء بأنه من الله ، احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء ، فإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لم يعجزه الإبداء ، فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة ، فكأنه قال : ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشىء النشأة الآخرة ، فللدلالة والتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ { يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } تعذيبه { وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ } رحمته ، ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن وهو من يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا ، ومن المعصوم والتائب { تُقْلَبُونَ } تردون وترجعون { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } ربكم أي لا تفوتونه إن هربتم من حكمه وقضائه { فِى الارض } الفسيحة { وَلاَ فِى السماء } التي هي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها ، كقوله تعالى :
{ إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السموات والأرض فانفذوا } [ الرحمن : 33 ] ، وقيل : ولا من في السماء كما قال حسان رضي الله عنه :
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُم ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
ويحتمل أن يراد : لا تعجزونه كيفما هبطتم في مهاوي الأرض وأعماقها ، أو علوتم في البروج والقلاع الذاهبة في السماء ، كقوله تعالى : { وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] أو لا تعجزون أمره الجاري في السماء والأرض أن يجري عليكم ، فيصيبكم ببلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء [ ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير ] .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
{ بأايات الله } بدلائله على وحدانيته وكتبه ومعجزاته ولقائه والبعث { يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى } وعيد ، أي ييأسون يوم القيامة ، كقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون } [ الروم : 12 ] . أو هو وصف لحالهم؛ لأنّ المؤمن إنما يكون راجياً خاشياً ، فأما الكافر فلا يخطر بباله رجاء ولا خوف . أو شبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من الرحمة : وعن قتادة رضي الله عنه : إن الله ذمّ قوماً هانوا عليه فقال : { أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى } وقال : { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته ، وأن لا يأمن عذابه وعقابه صفة المؤمن أن يكون راجياً لله عز وجل خائفاً .
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
قرىء : «جواب قومه» بالنصب والرفع { قَالُواْ } قال بعضهم لبعض . أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين ، فكانوا جميعاً في حكم القائلين . وروي أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بالنار ، نعني : يوم ألقي إبراهيم في النار ، وذلك لذهاب حرّها .
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
قرىء على النصب بغير إضافة وبإضافة ، وعلى الرفع كذلك ، فالنصب على وجهين : على التعليل ، أي لتتوادّوا بينكم وتتواصلوا ، لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم ، كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم . وأن يكون مفعولاً ثانياً ، كقوله : { اتخذ إلهه } [ الفرقان : 43 ] ، [ الجاثية : 23 ] أي اتخذتم الأوثان سبب المودّة بينكم ، على تقدير حذف المضاف . أو اتخذتموها مودّة بينكم ، بمعنى مودودة بينكم ، كقوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ الله } [ البقرة : 165 ] وفي الرفع وجهان : أن يكون خبراً لأنّ على أن ما موصولة . وأن يكون خبر مبتدأ محذوف . والمعنى : أنّ الأوثان مودّة بينكم ، أي : مودودة ، أو سبب مودّة . وعن عاصم : مودّة بينكم : بفتح بينكم مع الإضافة ، كما قرىء : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] ففتح وهو فاعل . وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه : أوثاناً إنما مودّة بينكم في الحياة الدنيا ، أي : إنما تتوادّون عليها ، أو تودّونها في الحياة الدنيا { ثُمَّ يَوْمَ القيامة } يقوم بينكم التلاعن والتباغض والتعادي : يتلاعن العبدة . ويتلاعن العبدة والأصنام ، كقوله تعالى : { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] .
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
كان لوط ابن أخت إبراهيم عليهما السلام ، وهو أول من آمن له حين رأى النار لم تحرقه { وَقَالَ } يعني إبراهيم { إِنِّى مُهَاجِرٌ } من «كوثى» وهي من سواد الكوفة إلى «حرّان» ثم منها إلى فلسطين ، ومن ثمة قالوا : لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان ، وكان معه في هجرته : لوط ، وامرأته سارة ، وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة { إلى رَبِّى } إلى حيث أمرني بالهجرة إليه { إِنَّهُ هُوَ العزيز } الذي يمنعني من أعدائي { الحكيم } الذي لا يأمرني إلا بما هو مصلحتي .
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{ أَجْرُهُ } الثناء الحسن ، والصلاة عليه آخر الدهر والدرية الطيبة والنبوّة ، وأن أهل الملل كلهم يتولونه . فإن قلت : ما بال إسماعيل عليه السلام لم يذكر ، وذكر إسحق وعقبه؟ قلت : قد دلّ عليه في قوله : { وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة والكتاب } وكفى الدليل لشهرة أمره وعلوِّ قدره . فإن قلت : ما المراد بالكتاب؟ قلت : قصد به جنس الكتاب ، حتى دخل تحته ما نزل على ذريّته من الكتب الأربعة : التي هي التوراة والزبور والإنجيل والقرآن؟
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
{ وَلُوطاً } معطوف على إبراهيم ، أو على ما عطف عليه . و { الفاحشة } الفعلة البالغة في القبح . و { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين } جملة مستأنفة مقررة لفحاشة تلك الفعلة ، كأن قائلاً قال : لم كانت فاحشة؟ فقيل له : لأن أحداً قبلهم لم يقدم عليها اشمئزازاً منها في طباعهم لإفراط قبحها ، حتى أقدم عليها قوم لوط لخبث طينتهم وقذر طباعهم . قالوا لم ينزُ ذكر على ذكر قبل قوم لوط قط . وقريء : إنكم ، بغير استفهام في الأوّل دون الثاني : قال أبو عبيدة : وجدته في الإمام بحرف واحد بغير ياء ، ورأيت الثاني بحرفين الياء والنون وقطع السبيل : عمل قطاع الطريق ، من قتل الأنفس وأخذ الأموال . وقيل : اعتراضهم السابلة بالفاحشة . وعن الحسن : قطع النسل بإتيان ما ليس بحرث . و { المنكر } عن ابن عباس رضي الله عنهما هو الخذف بالحصى ، والرمي بالبنادق ، والفرقعة ، ومضغ العلك ، والسواك بين الناس ، وحل الأزرار ، والسباب ، والفحش في المزاح . وعن عائشة رضي الله عنها : كانوا يتحابقون وقيل السخرية بمن مرَّ بهم . وقيل : المجاهرة في ناديهم بذلك العمل ، وكل معصية فإظهارها أقبح من سترها ، ولذلك جاء : من خرق جلباب الحياء فلا غيبة له . ولا يقال للمجلس : ناد ، إلا ما دام فيه أهله ، فإذا قاموا عنه لم يبق نادياً { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فيما تعدناه من نزول العذاب . كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعاً وكرهاً ولأنهم ابتدعوا الفاحشة وسنوها فيمن بعدهم ، وقال الله تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] فأراد لوط عليه السلام أن يشتد غضب الله عليهم ، فذكر لذلك صفة المفسدين في دعائه .
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
{ بالبشرى } هي البشارة بالولد . والنافلة : وهما إسحق ويعقوب . وإضافة مهلكو إضافة تخفيف لا تعريف . والمعنى الاستقبال . والقرية : سدوم التي قيل فيها : أجور من قاضي سدوم { كَانُواْ ظالمين } معناه أنّ الظلم قد استمر منهم إيجاده في الأيام السالفة ، وهم عليه مصرون ، وظلمهم : كفرهم وألوان معاصيهم { إِنَّ فِيهَا لُوطاً } ليس إخباراً لهم بكونه فيها ، وإنما هو جدال في شأنه : لأنهم لما عللوا إهلاك أهلها بظلمهم : اعترض عليهم بأن فيها من هو بريء من الظلم ، وأراد بالجدال : إظهار الشفقة عليهم ، وما يجب للمؤمن من التحزن لأخيه ، والتشمر في نصرته وحياطته ، والخوف من أن يمسه أذى أو يلحقه ضرر . قال قتادة : لا يرى المؤمن ألا يحوط المؤمن ، ألا ترى إلى جوابهم بأنهم أعلم منه { بِمَن فِيهَا } يعنون : نحن أعلم منك وأخبر بحال لوط وحال قومه ، وامتيازه منهم الامتياز البين ، وأنه لا يستأهل ما يستأهلون ، فخفض على نفسك وهوّن عليك الخطب . وقريء { لَنُنَجّيَنَّهُ } بالتشديد والتخفيف ، وكذلك منجوك .
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
{ أَن } صلة أكدت وجود الفعلين مترتباً أحدهما على الآخر في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما؛ كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان ، كأنه قيل : كما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث ، خيفة عليهم من قومه { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } وضاق بشأنهم وبتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته ، وقد جعلت العرب ضيق الذراع والذرع : عبارة عن فقد الطاقة ، كما قالوا : رحب الذراع بكذا ، إذا كان مطيقاً له ، والأصل فيه أنّ الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع ، فضرب ذلك مثلاً في العجز والقدرة .
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
الرجز والرجس : العذاب ، من قولهم : ارتجز وارتجس إذا اضطرب ، لما يلحق المعذب من القلق والاضطراب . وقريء { مُنزِلُونَ } مخففاً ومشدّداً { مِنْهَا } من القرية { ءَايَةً بَيِّنَةً } هي آثار منازلهم الخربة . وقيل : بقية الحجارة . وقيل : الماء الأسود على وجه الأرض . وقيل : الخبر عما صنع بهم { لِقَوْمِهِ } متعلق بتركنا أو ببينة .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
{ وارجوا } وافعلوا ما ترجون به العاقبة . فأقيم المسبب مقام السبب . أو أمروا بالرجاء : والمراد : اشتراط ما يسوّغه من الإيمان ، كما يؤمر الكافر بالشرعيات على إرادة الشرط . وقيل : هو من الرجاء بمعنى الخوف . والرجفة : الزلزلة الشديدة . وعن الضحاك : صيحة جبريل عليه السلام؛ لأنّ القلوب رجفت لها { فِي دَارِهِمْ } في بلدهم وأرضهم . أو في ديارهم ، فاكتفى بالواحد لأنه لا يلبس { جاثمين } باركين على الركب ميتين .
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
{ وَعَاداً } منصوب بإضمار «أهلكنا»لأن قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } يدل عليه ، لأنه في معنى الإهلاك { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم } ذلك : يعني ما وصفه من إهلاكهم { مِّن } جهة { مساكنهم } إذا نظرتم إليها عند مروركم بها . وكان أهل مكة يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها { وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } عقلاء متمكنين من النظر والافتكار . ولكنهم لم يفعلوا . أو كانوا متبينين أن العذاب نازل بهم لأن الله تعالى قد بين لهم على ألسنة الرسل عليهم السلام ، ولكنهم لجوا حتى هلكوا .
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
{ سابقين } فائتين ، أدركهم أمر الله فلم يفوتوه .
الحاصب : لقوم لوط ، وهي ريح عاصف فيها حصباء . وقيل : ملك كان يرميهم . والصيحة : لمدين وثمود . والخسف : لقارون . والغرق : لقوم نوح وفرعون .
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
الغرض تشبيه ما اتخذوه متكلاً ومعتمداً في دينهم وتولوه من دون الله ، بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوّة . وهو نسج العنبكوت . ألا ترى إلى مقطع التشبيه وهو قوله : { وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت } ؟ فإن قلت : ما معنى قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } وكل أحد يعلم وهن بيت العنكبوت؟ قلت : معناه لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن . ووجه آخر : وهو أنه إذا صحّ تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت ، وقد صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت ، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعملون . أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز ، فكأنه قال : وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون . ولقائل أن يقول : مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله ، مثل عنكبوت يتخذ بيتاً ، بالإضافة إلى رجل يبني بيتاً بآجر وجص أو ينحته من صخر ، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت ، كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون . قرىء : «تدعون» بالتاء والياء . وهذا توكيد للمثل وزيادة عليه ، حيث لم يجعل ما يدعونه شيئاً { وَهُوَ العزيز الحكيم } فيه تجهيل لهم حيث عبدوا ما ليس بشيء؛ لأنه جماد ليس معه مصحح العلم والقدرة أصلاً ، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء ، الحكيم الذي لا يفعل شيئاً إلا بحكمة وتدبير .
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
كان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون إنَّ ربّ محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، فلذلك قال : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون } أي لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها إلا هم ، لأنّ الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار حتى تبرزها وتكشف عنها وتصوّرها للأفهام ، كما صوّر هذا التشبيه الفرق بين حال المشرق وحال الموحد وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية فقال :
( 826 ) « العالمُ مَنْ عقلَ عنِ اللَّهِ فعملَ بطاعَتِهِ واجتنبَ سخطهِ »
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
{ بالحق } أي بالغرض الصحيح الذي هو حق لا باطل ، وهو أن تكونا مساكن عبادة وعبرة للمعتبرين منهم ، ودلائل على عظم قدرته : ألا ترى إلى قوله : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } ونحوه قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السماء والارض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا } [ ص : 27 ] ثم قال : { ذلك ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } [ ص : 27 ] .
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
الصلاة تكون لطفاً في ترك المعاصي ، فكأنها ناهية عنها . فإن قلت : كم من مصل يرتكب ولا تنهاه صلاته؟ قلت الصلاة التي هي الصلاة عند الله المستحق بها الثواب : أن يدخل فيها مقدّماً للتوبة النصوح ، متقياً؛ لقوله تعالى : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } [ المائدة : 27 ] ويصليها خاشعاً بالقلب والجوارح ، فقد روي عن حاتم : كأنّ رجلي على الصراط والجنة عن يميني والنار عن يساري وملك الموت من فوقي ، وأصلي بين الخوف والرجاء؛ ثم يحوطها بعد أن يصليها فلا يحبطها ، فهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر . وعن ابن عباس رضي الله عنهما :
( 827 ) « من لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً » وعن الحسن رحمه الله : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فليست صلاته بصلاة ، وهي وبال عليه . وقيل : من كان مراعياً للصلاة جرّه ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يوماً ما ، فقد روي أنه
( 828 ) قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل ، فقال : « إنّ صلاته لتردعه » وروي
( 829 ) أنّ فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلوات ، ولا يدع شيئاً من الفواحش إلا ركبه ، فوصف له فقال : « إن صلاته ستنهاه » فلم يلبث أن تاب . وعلى كل حال إنّ المراعي للصلاة لا بدّ أن يكون أبعد من الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها . وأيضاً فكم من مصلين تنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر ، واللفظ لا يقتضي أن لا يخرج واحد من المصلين عن قضيتها ، كما تقول : إنّ زيداً ينهى عن المنكر فليس غرضك أنه ينهى عن جميع المناكير ، وإنما تريد أنّ هذه الخصلة موجودة فيه وحاصلة منه من غير اقتضاء للعموم { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } يريد : وللصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله كما قال : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } [ الجمعة : 9 ] وإنما قال : ولذكر الله : ليستقلّ بالتعليل ، كأنه قال : وللصلاة أكبر ، لأنها ذكر الله . أو ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر ، فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته { والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } من الخير والطاعة ، فيثيبكم أحسن الثواب .
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
{ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } بالخصلة التي هي أحسن : وهي مقابلة الخشونة باللين ، والغضب بالكظم . والسورة بالأناة ، كما قال : { ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ } [ المؤمنون : 96 ] ، { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } فأفرطوا في الاعتداء والعناد ولم يقبلوا النصح ولم ينفع فيهم الرفق . فاستعملوا معهم الغلظة ، وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقيل إلا الذين أثبتوا الولد والشريك وقالوا : يد الله مغلولة . وقيل : معناه ولا تجادلوا الداخلين في الذمّة المؤدّين للجزية إلا بالتي هي أحسن ، إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمّة ومنعوا الجزية ، فإن أولئك مجادلتهم بالسيف . وعن قتادة : الآية منسوخة بقوله تعالى : { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الاخر } [ التوبة : 29 ] ولا مجادلة أشد من السيف : وقوله : { وَقُولُواْ ءامَنَّا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا } من جنس المجادلة بالتي هي أحسن . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 830 ) « ما حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدّقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلاً لم تصدّقوهم ، وإن كان حقاً لم تكذبوهم » .
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
ومثل ذلك الإنزال { أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } أي : أنزلناه مصدّقاً لسائر الكتب السماوية ، تحقيقاً لقوله : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم . وقيل : كما أنزلنا الكتب إلى من كان قبلك أنزلنا إليك الكتاب { فالذين ءاتيناهم الكتاب } هم عبد الله بن سلام ومن آمن معه { وَمِنْ هَؤُلاءِ } من أهل مكة وقيل : أراد بالذين أوتوا الكتاب الذين تقدموا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب . ومن هؤلاء ممن في عهده منهم { وَمَا يَجْحَدُ باياتنآ } مع ظهورها وزوال الشبهة عنها ، إلا المتوغلون في الكفر المصممون عليه . وقيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه .
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
وأنت أميّ ما عرفك أحد قط بتلاوة كتاب ولا خط { إِذاً } لو كان شيء من ذلك ، أي ، من التلاوة والخط { لارتاب المبطلون } من أهل الكتاب وقالوا : الذي نجده في كتبنا أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس به . أو لارتاب مشركو مكة وقالوا : لعله تعلمه أو كتبه بيده . فإن قلت : لم سماهم مبطلين ، ولو لم يكن أمّياً وقالوا : ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا صادقين محقين؟ ولكان أهل مكة أيضاً على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه فإنه رجل قارىء كاتب؟ قلت : سماهم مبطلين لأنهم كفروا به وهو أميّ بعيد من الريب ، فكأنه قال : هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أمّياً لارتابوا أشدّ الريب ، فحين ليس بقارىء كاتب فلا وجه لارتيابهم . وشيء آخر : وهو أن سائر الأنبياء عليهم السلام لم يكونوا أمّيين ، ووجب الإيمان بهم وبما جاؤوا به ، لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات ، فهب أنه قارىء كاتب فمالهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى عليهما السلام؟ على أن المنزلين ليسا بمعجزين ، وهذا المنزل معجز ، فإذاً هم مبطلون حيث لم يؤمنوا به وهو أمي ، ومبطلون لو لم يؤمنوا به وهو غير أمي . فإن قلت : ما فائدة قوله : { بِيَمِينِكَ } قلت ذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط : زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتباً . ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات؛ رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه ، كان أشد لإثباتك أنه تولى كتبته ، فكذلك النفي { بَلِ } القرآن { ءايات بينات فِى صُدُورِ } العلماء به وحفاظه ، وهما من خصائص القرآن : كون آياته بينات الإعجاز ، وكونه محفوظاً في الصدور يتلوه أكثر الأمة ظاهراً : بخلاف سائر الكتب ، فإنها لم تكن معجزات ، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف . ومنه ما جاء في صفة هذه الأمة
( 831 ) «صدورهم أناجيلهم» { وَمَا يَجْحَدُ } بآيات الله الواضحة ، إلا المتوغلون في الظلم المكابرون .
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
قرىء «آية» و«آيات» أرادوا : هلا أنزل عليه آية مثل ناقة صالح ومائدة عيسى عليهما السلام ونحو ذلك { إِنَّمَا الايات عِندَ الله } ينزل أيتها شاء ، ولو شاء أن ينزل ما تقترحونه لفعل { وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ } كلفت الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات ، وليس لي أن أتخير على الله آياته فأقول : أنزل عليّ آية كذا دون آية كذا ، مع علمي أنّ الغرض من الآية ثبوت الدلالة ، والآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك ، ثم قال : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ } آية مغنية عن سائر الآيات - إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين -هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحلّ . كما تزول كل آية بعد كونها ، وتكون في مكان دون مكان [ إن في ذلك ] إنّ في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر { لَرَحْمَةً } لنعمة عظيمة لا تشكر [ وذكرى ] وتذكرة { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وقيل : أولم يكفهم ، يعني اليهود : أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك . وقيل :
( 832 ) إنّ ناساً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقود اليهود ، فلما أن نظر إليها ألقاها وقال : كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم ، فنزلت . والوجه ما ذكرناه { كفى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } أني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم ، وأنكم قابلتموني بالجحد والتكذيب { يَعْلَمُ مَا فِى السماوات والارض } فهو مطلع على أمري وأمركم ، وعالم بحقي وباطلكم { والذين ءامَنُواْ بالباطل } منكم وهو ما تعبدون من دون الله { وَكَفَرُواْ بالله } وآياته { أولئك هُمُ الخاسرون } المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان ، إلا أن الكلام ورد مورد الإنصاف ، كقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] وكقول حسان :
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ ... وروي أنّ كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا : يا محمد ، من يشهد لك بأنك رسول الله ، فنزلت .
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
كان استعجال العذاب استهزاء منهم وتكذيباً ، والنضر بن الحرث هو الذي قال : اللَّهم أمطر علينا حجارة من السماء ، كما قال أصحاب الأيكة : فأسقط علينا كسفاً من السماء { وَلَوْلاَ أَجَلٌ } قد سماه الله وبينه في اللوح لعذابهم ، وأوجبت الحكمة تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى { لَّجَاءهُمُ العذاب } عاجلاً . والمراد بالأجل : الآخرة ، لما روي
( 833 ) أنّ الله تعالى وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعذب قومه ولا يستأصلهم ، وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة . وقيل : يوم بدر . وقيل : وقت فنائهم بآجالهم { لَمُحِيطَةٌ } أي ستحيط بهم { يَوْمَ يغشاهم العذاب } أو هي محيطة بهم في الدنيا : لأنّ المعاصي التي توجبها محيطة بهم . أو لأنها مآلهم ومرجعهم لا محالة فكأنها الساعة محيطة بهم . و { يَوْمَ يغشاهم } على هذا منصوب بمضمر ، أي : يوم يغشاهم العذاب كان كيت وكيت . { مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } كقوله تعالى : { لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] ، { وَيَقُولُ } قرىء بالنون والياء { مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي جزاءه .
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
معنى الآية : أنّ المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه كما يحب فليهاجر عنه إلى بلد يقدّر أنه فيه أسلم قلباً وأصح ديناً وأكثر عبادة وأحسن خشوعاً . ولعمري إن البقاع تتفاوت في ذلك التفاوت الكثير ، ولقد جربنا وجرّب أوّلونا ، فلم نجد فيما درنا وداروا : أعون على قهر النفس وعصيان الشهوة وأجمع للقلب المتلفت وأضم للهم المنتشر وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من كثير من الفتن وأضبط للأمر الديني في الجملة - من سكنى حرم الله وجوار بيت الله ، فللَّه الحمد على ما سهل من ذلك وقرب ، ورزق من الصبر وأوزع من الشكر . وعن النبي صلى الله عليه وسلم
( 834 ) « مَنْ فَرَّ بدينهِ مِنْ أَرْضٍ إِلى أرضِ وإنْ كانَ شبراً منَ الأَرْضِ؛ استوجَبَ الجنةَ وكانَ رفيقَ إبراهيم ومحمدٍ » وقيل : هي في المستضعفين بمكة الذين نزل فيهم : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا } [ النساء : 97 ] وإنما كان ذلك لأنّ أمر دينهم ما كان يستتب لهم بين ظهراني الكفرة { فَإِيَّاىَ فاعبدون } في المتكلم ، نحو : إياه ضربته ، في الغائب وإياك عضتك ، في المخاطب . والتقدير : فإياي فاعبدوا : فاعبدون . فإن قلت : ما معنى الفاء في { فاعبدون } وتقديم المفعول؟ قلت : الفاء جواب شرط محذوف؛ لأنّ المعنى : إنّ أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فاخلصوها لي في غيرها ، ثم حذف الشرط وعوّض من حذفه تقديم المفعول ، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)
لما أمر عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق البلاد وإن شسعتْ ، أتبعه قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت } أي واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق . ومعناه : إنكم ميتون فواصلون إلى الجزاء ، ومن كانت هذه عاقبته لم يكن له بد من التزود لها والاستعداد بجهده .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
{ لَنُبَوّئَنَّهُمْ } لننزلنهم { مِنَ الجنة } علالي . وقرىء «لنثوّينهم» من الثواء وهو النزول للإقامة . يقال : ثوى في المنزل ، وأثوى هو ، وأثوى غيره وثوى : غير متعد ، فإذا تعدى بزيادة همزة النقل لم يتجاوزه مفعولاً واحداً ، نحو : ذهب ، وأذهبته . والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف : إمّا إجراؤه مجرى لننزلنهم ونبوئنهم . أو حذف الجار وإيصال الفعل : أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم . وقرأ يحيى بن وثاب : «فنعم» ، فزيادة الفاء { الذين صَبَرُواْ } على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين . وعلى أذى المشركين ، وعلى المحن والمصائب ، وعلى الطاعات ، وعن المعاصي [ وعلى ربهم يتوكلون ] ولم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله تعالى .
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم بمكة بالهجرة ، خافوا الفقر والضيعة . فكان يقول الرجل منهم : كيف أقدم بلدة ليس لي فيها معيشة ، فنزلت . والدابة : كل نفس دبت على وجه الأرض ، عقلت أو لم تعقل . { تَحْمِلُ رِزْقَهَا } لا تطيق أن تحمله لضعفها على حمله { الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله ، ولا يرزقكم أيضاً أيها الأقوياء إلا هو وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها ، لأنه لو لم يقدركم ولم يقدّر لكم أسباب الكسب ، لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل ، وعن الحسن { لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } لا تدّخره ، إنما تصبح فيرزقها الله . وعن ابن عيينة : ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة . وعن بعضهم : رأيت البلبل يحتكر في حضنيه . ويقال : للعقعق مخابىء إلا أنه ينساها { وَهُوَ السميع } لقولكم : نخشى الفقر والضيعة { العليم } بما في ضمائركم .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
الضمير في { سَأَلْتَهُمْ } لأهل مكة { فأنى يُؤْفَكُونَ } فكيف يصرفون عن توحيد الله وأن لا يشركوا به ، مع إقرارهم بأنه خالق السموات والأرض .
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
قدر الرزق وقتره بمعنى إذا ضيقه . فإن قلت : الذي رجع إليه الضمير في قوله : { وَيَقْدِرُ لَهُ } هو من يشاء ، فكأن بسط الرزق وقدره جعلا لواحد . قلت : يحتمل الوجهين جميعاً : أن يريد ويقدر لمن يشاء ، فوضع الضمير موضع من يشاء ، لأن { مَن يَشَآءُ } مبهم غير معين ، فكان الضمير مبهماً مثله ، وأن يريد تعاقب الأمرين على واحد على حسب المصلحة { إنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
استحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه ممن أقر بنحو ما أقروا به؛ ثم نفعه ذلك في توحيد الله ونفي الأنداد والشركاء عنه ، ولم يكن إقراراً عاطلاً كإقرار المشركين؛ وعلى أنهم أقروا بما هو حجة عليهم حيث نسبوا النعمة إلى الله وقد جعلوا العبادة للصنم ، ثم قال : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد . أو لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد لله ، ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم؟
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
{ هذه } فيها ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها ، وكيف لا يصغرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة . يريد : ما هي لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون { وَإِنَّ الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان } أي ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة خالدة لا موت فيها ، فكأنها في ذاتها حياة . والحيوان : مصدر حي ، وقياسه حييان ، فقلبت الياء الثانية واواً ، كما قالوا : حيوة ، في اسم رجل ، وبه سمى ما فيه حياة : حيوانا [ كما ] قالوا : اشتر من الموتان ولا تشتر من الحيوان . وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة ، وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب ، كالنزوان والنغصان واللهبان ، وما أشبه ذلك . والحياة : حركة ، كما أن الموت سكون ، فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة ، مبالغة في معنى الحياة ، ولذلك اختيرت على الحياة في هذا الموضع المقتضى للمبالغة { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } فلم يؤثروا الحياة الدنيا عليها .
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
فإن قلت : بم اتصل قوله { فَإِذَا رَكِبُواْ } ؟ قلت : بمحذوف دلّ عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم ، معناه : هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين ، حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون معه إلها آخر . وفي تسميتهم مخلصين : ضرب من التهكم { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر } وآمنوا عادوا إلى حال الشرك واللام في { لِيَكْفُرُواْ } محتملة أن تكون لام كي ، وكذلك في { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } فيمن قرأها بالكسر . والمعنى : أنهم يعودون إلى شركهم ليكونوا - بالعود إلى شركهم - كافرين بنعمة النجاة ، قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير ، على خلاف ما هو عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة : إذا أنجاهم الله أن يشكروا نعمة الله في إنجائهم ، ويجعلوا نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة ، لا إلى التمتع والتلذذ ، وأن تكون لام الأمر وقراءة من قرأ وليتمتعوا بالسكون تشهد له . ونحوه قوله تعالى : { اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ فصلت : 41 ] . فإن قلت : كيف جاز أن يأمر الله تعالى بالكفر وبأن يعمل العصاة ما شاءوا ، وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت : هو مجاز عن الخذلان والتخلية ، وأن ذلك الأمر متسخط إلى غاية . ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر ، وعندك أنّ ذلك الأمر خطأ ، وأنه يؤدي إلى ضرر عظيم ، فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه ، فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم ، حردت عليه وقلت [ له ] : أنت وشأنك وافعل ما شئت ، فلا تريد بهذا حقيقة الأمر . وكيف والآمر بالشيء مريد له ، وأنت شديد الكراهة متحسر ، ولكنك كأنك تقول له : فإذ قد أبيت قبول النصيحة ، فأنت أهل ليقال لك : افعل ما شئت وتبعث عليه ، ليتبين لك - إذا فعلت - صحة رأي الناصح وفساد رأيك .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضاً ، ويتغاورون ، ويتناهبون ، وأهل مكة قارّون آمنون فيها ، لا يغزون ولا يغار عليهم مع قلتهم وكثرة العرب ، فذكرهم الله هذه النعمة الخاصة عليهم ، ووبخهم بأنهم يؤمنون بالباطل الذي هم عليه ، ومثل هذه النعمة المكشوفة الظاهرة وغيرها من النعم التي لا يقدر عليها إلا الله وحده مكفورة عندهم .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)
افتراؤهم على الله [ تعالى ] كذباً : زعمهم أن لله شريكاً . وتكذيبهم بما جاءهم من الحق : كفرهم بالرسول والكتاب . وفي قوله : { لَمَّا جَاءهُ } تسفيه لهم ، يعني : لم يتلعثموا في تكذيبه وقت سمعوه ، ولم يفعلوا كما يفعل المراجيح العقول المثبتون في الأمور : يسمعون الخبر فيستعملون فيه الروية والفكر . ويستأنسون إلى أن يصح لهم صدقه أو كذبه { أَلَيْسَ } تقرير لثوائهم في جهنم ، كقوله :
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... قال بعضهم : ولو كان استفهاماً ما أعطاه الخليفة مائة من الإبل . وحقيقته : أن الهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي ، فرجع إلى معنى التقرير ، فهما وجهان ، أحدهما : ألا يثوون في جهنم ، وألا يستوجبون الثواء فيها ، وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله ، وكذبوا بالحق هذا التكذيب والثاني : ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين ، حتى اجترؤوا مثل هذه الجرأة؟ .
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول . ليتناول كل ما يجب مجاهدته من النفس الأمّارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين { فِينَا } في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصاً { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقاً ، كقوله تعالى : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] وعن أبي سليمان الداراني : والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا . وعن بعضهم : من عمل بما يعلم وفق لما لا يعلم . وقيل : إن الذي نرى من جهلنا بما لا نعلم ، إنما هو من تقصيرنا فيما نعلم { لَمَعَ المحسنين } لناصرهم ومعينهم .
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 835 ) « مَنْ قَرأَ سورةَ العنكبوتِ كانَ لَهُ منَ الأَجرِ عشرُ حسناتٍ بعددِ كلِّ المؤمنينَ والمنافقينَ » .
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
القراءة المشهورة الكثيرة { غُلِبَتِ } بضم الغين . وسيغلبون بفتح الياء . والأرض : أرض العرب ، لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم . والمعنى : غلبوا في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام . أو أراد أرضهم ، على إنابة اللام مناب المضاف إليه ، أي : في أدنى أرضهم إلى عدوّهم . قال مجاهد : هي أرض الجزيرة ، وهي أدنى أرض الروم إلى فارس . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الأردن وفلسطين . وقريء «في أداني الأرض» والبضع ما بين الثلاث إلى العشر عن الأصمعي . وقيل :
( 836 ) احتربت الروم وفارس بين أذرعات وبصرى ، فغلبت فارس الروم ، فبلغ الخبر مكة فشق على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ لأن فارس مجوس لا كتاب لهم والروم أهل الكتاب ، وفرح المشركون وشمتوا وقالوا : أنتم والنصارى أهل الكتاب ، ونحن وفارس أميون ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ، ولنظهرنّ نحن عليكم ، فنزلت . فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه : لا يقرر الله أعينكم ، فوالله لتظهرنّ الروم على فارس بعد بضع سنين فقال له أبيّ بن خلف : كذبت يا أبا فصيل ، اجعل بيننا أجلاً أُناحبك عليه . والمناحبة : المراهنة فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما ، وجعلا الأجل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايده في الخطر ومادّه في الأجل " فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين . ومات أُبيُّ من جرح رسول الله ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين . وقيل :
( 837 ) كان النصر يوم بدر للفريقين ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ ، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : تصدّق به . وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة على صحة النبوّة ، وأن القرآن من عند الله لأنها إنباء عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله . وقرىء : «غلبهم» بسكون اللام . والغلب والغلب مصدران كالجلب والجلب ، والحلب والحلب . وقريء : «غلبت الروم» بالفتح ، وسيغلبون ، بالضم . ومعناه أن الروم غلبوا على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون في بضع سنين . وعند انقضاء هذه المدّة أخذ المسلمون في جهاد الروم ، وإضافة غلبهم تختلف باختلاف القراءتين ، فهي في إحداهما إضافة المصدر إلى المفعول . وفي الثانية إضافته إلى الفاعل . ومثالهما { مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ } [ البقرة : 85 ] ، { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } [ الحج : 47 ] . فإن قلت : كيف صحت المناحبة وإنما هي قمار؟ قلت : عن قتادة رحمه الله تعالى أنه كان ذلك قبل تحريم القمار . ومن مذهب أبي حنيفة ومحمد : أن العقود الفاسدة من عقود الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار . وقد احتجا على صحة ذلك بما عقده أبو بكر بينه وبين أبيّ بن خلف { مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } أي في أوّل الوقتين وفي آخرهما حين غلبوا وحين يغلبون ، كأنه قيل : من قبل كونهم غالبين ، وهو وقت كونهم مغلوبين .
ومن بعد كونهم مغلوبين ، وهو وقت كونهم غالبين ، يعني أن كونهم مغلوبين أوّلاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمر الله وقضائه { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } [ آل عمران : 140 ] وقرىء : «من قبل ومن بعد» على الجرّ من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه . كأنه قيل : قبلاً وبعداً ، بمعنى أوّلاً وآخراً { وَيَوْمَئِذٍ } ويوم تغلب الروم على فارس ويحل ما وعده الله عزّ وجل من غلبتهم { يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله } وتغليبه من له كتاب على من لا كتاب له . وغيظ من شمت بهم من كفار مكة . وقيل : نصر الله : هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم وقيل نصر الله أنه ولي بعض الظالمين بعضاً وفرق بين كلمهم ، حتى تفانوا وتناقصوا ، وفلّ هؤلاء شوكة هؤلاء وفي ذلك قوّة للإسلام . وعن أبي سعيد الخدري : وافق ذلك يوم بدر ، وفي هذا اليوم نصر المؤمنين { وَهُوَ العزيز الرحيم } ينصر عليكم تارة وينصركم أخرى .
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
{ وَعْدَ الله } مصدر مؤكد ، كقولك : لك عليّ ألف درهم عرفاً : لأنّ معناه : أعترف لك بها اعترافاً ، ووعد الله ذلك وعداً؛ لأنّ ما سبقه في معنى وعد . ذمّهم الله عزّ وجل بأنهم عقلاء في أمور الدنيا ، بله في أمر الدين ، وذلك أنهم كانوا أصحاب تجارات ومكاسب . وعن الحسن . بلغ من حذق أحدهم أنه يأخذ الدرهم فينقره بأصبعه ، فيعلم أرديء أم جيد . وقوله : { يَعْلَمُونَ } بدل من قوله : { لاَ يَعْلَمُونَ } وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه ، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه ، ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا . وقوله : { ظاهرا مّنَ الحياة الدنيا } يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً ، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها . وباطنها وحقيقتها أنها مجاز إلى الآخرة : يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة . وفي تنكير الظاهر : أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة الظواهر . و«هم» الثانية يجوز أن يكون مبتدأ . و { غافلون } خبره ، والجملة خبر «هم» الأولى ، وأن يكون تكريراً للأولى ، وغافلون خبر الأولى . وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرّها ومعلمها ، وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع .
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
{ فِى أَنفُسِهِمْ } يحتمل أن يكون ظرفاً ، كأنه قيل : أولم يحدثوا التفكر في أنفسهم ، أي : في قلوبهم الفارغة من الفكر ، والتفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك ، وأن يكون صلة للتفكر ، كقولك : تفكر في الأمر وأجال فيه فكره . و { مَّا خَلَقَ } متعلق بالقول المحذوف ، معناه : أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول . وقيل : معناه : فيعلموا ، لأنّ في الكلام دليلاً عليه { إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًى } أي ما خلقها باطلاً وعبثاً بغير غرض صحيح وحكمة بالغة ، ولا لتبقى خالدة : إنما خلقها مقرونة بالحق مصحوبة بالحكمة ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها من أن تنتهي إليه ، وهو قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب . ألا ترى إلى قوله تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] كيف سمي تركهم غير راجعين إليه عبثاً . والباء في قوله : { إِلاَّ بالحق } مثلها في قولك : دخلت عليه بثياب السفر ، واشترى الفرس بسرجه ولجامه ، تريد : اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام ، غير منفك عنهما . وكذلك المعنى ما خلقها إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به ، فإن قلت : إذا جعلت { فى أَنفُسِهِمْ } صلة للتفكر ، فما معناه؟ قلت : معناه : أولم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات ، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها ، فتدبروا ما أودعها الله ظاهراً وباطناً من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكيم الذي دبر أمرها على الإحسان إحساناً وعلى الإساءة مثلها ، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت ، والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
{ أَوَلَمْ يَسِيرُواْ } تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المدمّرين من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية ، ثم أخذ يصف لهم أحوالهم وأنهم { كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض } وحرثوها قال الله تعالى : { لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض } [ البقرة : 71 ] وقيل لبقر الحرث : المثيرة . وقالوا : سمي ثوراً لإثارته الأرض وبقرة؛ لأنها تبقرها أي تشقها { وَعَمَرُوهَا } يعني أولئك المدمّرون { أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } من عمارة أهل مكة ، وأهل مكة : أهل واد غير ذي زرع ، ما لهم إثارة الأرض أصلاً ولا عمارة لها رأساً فما هو إلا تهكم بهم ، وبضعف حالهم في دنياهم؛ لأنّ معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة ، وهم أيضاً ضعاف القوى ، فقوله : { كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } أي عاد وثمود وأضرابهم من هذا القبيل ، كقوله : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] وإن كان هذا أبلغ ، لأنه خالق القوى والقدر . فما كان تدميره إياهم ظلماً لهم ، لأنّ حاله منافية للظلم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث عملوا ما أوجب تدميرهم .
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
قرىء «عاقبة» بالنصب والرفع . و { السواأى } تأنيث الأسوأ وهو الأقبح ، كما أنّ الحسنى تأنيث الأحسن . والمعنى : أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ، ثم كانت عاقبتهم سوأى؛ إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر ، أي : العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة ، وهي جهنم التي أعدّت للكافرين . و { أَن كَذَّبُواْ } بمعنى لأن كذبوا . ويجوز أن يكون أن بمعنى : أي؛ لأنه إذا كان تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء كانت في معنى القول ، نحو : نادى . وكتب ، وما أشبه ذلك . ووجه آخر : وهو أن يكون { أساءوا السواأى } بمعنى اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا ، و { أَن كَذَّبُواْ } عطف بيان لها ، وخبر كان محذوف كما يحذف جواب لما ولو ، إرادة الإبهام .
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
{ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي إلى ثوابه وعقابه . وقرىء بالتاء والياء .
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)
الإبلاس : أي يبقى بائساً ساكناً متحيراً . يقال : ناظرته فأبلس . إذا لم ينبس وبئس من أن يحتجّ . ومنه الناقة المبلاس : التي لا ترغو . وقريء «يبلس» بفتح اللام ، من أبلسه إذا أسكته { مِّن شُرَكآئِهِمْ } من الذين عبدوهم من دون الله { وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كافرين } أي يكفرون بآلهتهم ويجحدونها . أو وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم . وكتب { شفعاؤا } في المصحف بواو قبل الألف ، كما كتب { عُلَمَاء بَنِي إِسْرائيلَ } [ الشعراء : 197 ] وكذلك كتبت { الساوأى } بألف قبل الياء إثباتاً للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها .
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
الضمير في { يَتَفَرَّقُونَ } للمسلمين والكافرين ، لدلالة ما بعده عليه . وعن الحسن رضي الله عنه : هو تفرّق المسلمين والكافرين : هؤلاء في عليين ، وهؤلاء في أسفل السافلين - وعن قتادة رضي الله عنه : فرقة لا اجتماع بعدها { فِى رَوْضَةٍ } في بستان ، وهي الجنة . والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه . والروضة عند العرب : كل أرض ذات نبات وماء . وفي أمثالهم : أحسن من بيضة في روضة ، يريدون : بيضة النعامة { يُحْبَرُونَ } يسرون . يقال : حبره إذا سرّه سروراً تهلل له وجهه وظهر فيه أثره ، ثم اختلفت فيه الأقاويل لاحتماله وجوه جميع المسارّ؛ فعن مجاهد رضي الله عنه : يكرمون ، وعن قتادة : ينعمون . وعن ابن كيسان : يحلون . وعن أبي بكر بن عياش : التيجان على رؤوسهم . وعن وكيع : السماع في الجنة . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :
( 838 ) أنَّه ذكرَ الجنةَ وما فيها منَ النعيم ، وفي آخرِ القوم أعرابيّ فقال : يا رسولَ اللَّهِ ، هل في الجنةِ من سماع؟ قالَ : " نعم يا أَعرابي ، إنّ في الجنة لنهراً حافتاه الأبكار من كلِّ بيضاء خوصانية ، يتغنين بأصواتٍ لم تسمعّ الخلائق بمثلها قط ، فذلكَ أفضلَ نعم الجنة " قال الراوي : فسألت أبا الدرداء : بم يتغنين؟ قال : بالتسبيح . وروي :
( 839 ) «إنّ في الجنة لأشجاراً عليها أجراس من فضة ، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحاً من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار ، فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طرباً» { مُحْضَرُونَ } لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم ، كقوله : { وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } [ المائدة : 37 ] ، { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } [ الزخرف : 75 ] .
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
لما ذكر الوعد والوعيد ، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد والمراد بالتسبيح ظاهره الذي هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدّد فيها من نعمة الله الظاهرة . وقيل : الصلاة . وقيل لابن عباس رضي الله عنهما : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال : نعم ، وتلا هذه الآية { تُمْسُونَ } صلاتا المغرب والعشاء { تُصْبِحُونَ } صلاة الفجر { وَعَشِيّاً } صلاة العصر . و { تُظْهِرُونَ } صلاة الظهر . وقوله : { وَعَشِيّاً } متصل بقوله : { حِينَ تُمْسُونَ } وقوله : { وَلَهُ الحمد فِى السماوات والأرض } اعتراض بينهما . ومعناه : إنّ على المميزين كلهم من أهل السموات والأرض أن يحمدوه . فإن قلت : لم ذهب الحسن رحمه الله إلى أنّ هذه الآية مدنية؟ قلت : لأنه كان يقول : فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم . والقول الأكثر أنّ الخمس إنما فرضت بمكة . وعن عائشة رضي الله عنها :
( 840 ) " فرضت الصلاة ركعتين فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقرّت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر " وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 841 ) " من سره أن يكال له بالقفيز الأوفي فليقل : { فسبحان الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( 17 ) } . . . الآية " وعنه عليه السلام :
( 842 ) " من قال حين يصبح : { فسبحان الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } إلى قوله : { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أدرك ما فاته في يومه . ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته " ، وفي قراءة عكرمة : «حينا تمسون وحينا تصبحون» والمعنى : تمسون فيه وتصبحون فيه . كقوله : { يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } [ البقرة : 48 ] بمعنى فيه { الحى مِنَ الميت } الطائر من البيضة ، و { الميت مِنَ الحى } البيضة من الطائر . وإحياء الأرض : إخراج النبات منها { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور وتبعثون . والمعنى : أنّ الإبداء والإعادة متساويان في قدرة من هو قادر على الطرد والعكس من إخراج الميت من الحيّ وإخراج الحي من الميت وإحياء الميت وإماتة الحي . وقرىء «الميت» بالتشديد . «وتخرجون» ، بفتح التاء .
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
{ خَلَقَكُم مّن تُرَابٍ } لأنه خلق أصلهم منه . و { إِذَآ } للمفاجأة . وتقديره : ثم فاجأتهم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض . كقوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء } [ النساء : 1 ] ، { مِّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا } لأنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم عليه السلام ، والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال . أو من شكل أنفسكم وجنسها ، لا من جنس آخر ، وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الإلف والسكون ، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر { وَجَعَلَ بَيْنَكُم } التوادّ والتراحم بعصمة الزواج ، بعد أن لم تكن بينكم سابقة معرفة ، ولا لقاء ، ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة أو رحم . وعن الحسن رضي الله عنه : المودة كناية عن الجماع ، والرحمة عن الولد ، كما قال : { وَرَحْمَةً مِّنَّا } [ مريم : 21 ] وقال : { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ } [ مريم : 2 ] . ويقال : سكن إليه ، إذا مال إليه ، كقولهم : انقطع إليه ، واطمأن إليه - ومنه السكن . وهو الإلف المسكون إليه . فعل بمعنى مفعول . وقيل : إن المودة والرحمة من قبل الله وإن الفرك من قبل الشيطان .
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
الألسنة : اللغات ، أو أجناس النطق وأشكاله . خالف عزّ وعلا بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ، ولا جهارة ، ولا حدّة ، ولا رخاوة ، ولا فصاحة ، ولا لكنة ، ولا نظم ، ولا أسلوب ، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله ، وكذلك الصور وتخطيطها ، والألوان وتنويعها ، ولاختلاف ذلك وقع التعارف ، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس ، ولتعطلت مصالح كثيرة ، وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية ، فيعروك الخطأ في التمييز بينهما ، وتعرف حكمة الله في المخالفة بين الحليّ وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد ، وفرّعوا من أصل فذ ، وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله مختلفون متفاوتون . وقريء «للعالمين» بفتح اللام وكسرها ، ويشهد للكسر قوله تعالى : { وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] .
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
هذا من باب اللفّ [ والنشر ] وترتيبه : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار ، إلا أنه فصل بين القرينين الأوّلين بالقرينين الآخرين . لأنهما زمانان ، والزمان والواقع فيه كشيء واحد ، مع إعانة اللفّ على الاتحاد . ويجوز أن يراد : منامكم في الزمانين ، وابتغاءكم فيهما ، والظاهر هو الأول لتكرّره في القرآن ، وأسدّ المعاني ما دل عليه القرآن يسمعونه بالآذان الواعية .
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
في { يُرِيكُمْ } وجهان : إضماران ، وإنزال الفعل منزلة المصدر ، وبهما فسر المثل : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه . وقول القائل :
وَقَالُوا مَا تَشَاءُ فَقُلْتُ أَلْهُو ... إِلَى الإِصبَاحِ آثَرَ ذِي أَثِيرِ
{ خَوْفًا } من الصاعقة أو من الإخلاف { وَطَمَعًا } في الغيث . وقيل : خوفاً للمسافر ، وطمعاً للحاضر ، وهما منصوبان على المفعول له . فإن قلت : من حق المفعول له أن يكون فعلاً لفاعل الفعل المعلل؛ والخوف والطمع ليسا كذلك . قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن المفعولين فاعلون في المعنى ، لأنهم راءون ، فكأنه قيل : يجعلكم رائين البرق خوفاً وطمعاً . والثاني : أن يكون على تقدير حذف المضاف ، أي : إرادة خوف وإرادة طمع ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . ويجوز أن يكون حالين؛ أي : خائفين وطامعين . وقرىء «ينزل» بالتشديد .
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
{ وَمِنْ ءاياته } قيام السموات والأرض واستمساكهما بغير عمد { بِأَمْرِهِ } أي بقوله : كونا قائمتين . والمراد بإقامته لهما : إرادته لكونهما على صفة القيام دون الزوال . وقوله : { إِذَا دَعَاكُمْ } بمنزلة قوله : يريكم ، في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى ، كأنه قال : ومن آياته قيام السموات والأرض ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة : يا أهل القبور اخرجوا . والمراد سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا تلبث ، كما يجيب الداعي المطاع مدعوّه ، كما قال القائل :
دَعَوْتُ كلَيْباً دَعْوَةً فَكَأَنَّمَا ... دَعَوْتُ بِهِ ابْنَ الطَّوْدِ أَوْ هُوَ أَسْرَعُ
يريد بابن الطود : الصدى ، أو الحجر إذا تدهدى ، وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بثم ، بياناً لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور ، قوموا؛ فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر ، كما قال تعالى : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] . قولك : دعوته من مكان كذا ، كما يجوز أن يكون مكانك يجوز أن يكون مكان صاحبك ، تقول : دعوت زيداً من أعلى الجبل فنزل عليّ : ودعوته من أسفل الوادي فطلع إليّ . فإن قلت : بم تعلق { مِّنَ الأرض } أبالفعل أم بالمصدر؟ قلت : هيهات ، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل . فإن قلت : ما الفرق بين إذا وإذا؟ قلت : الأولى للشرط ، والثانية للمفاجأة ، وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط . وقرىء «تخرجون» بضم التاء وفتحها { قانتون } [ أي ] منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يمتنعون عليه .
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } فيما يجب عندكم وينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم؛ لأنّ من أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها ، وتعتذرون للصانع إذا خطيء في بعض ما ينشئه بقولكم : أوّل الغزو أخرق ، وتسمون الماهر في صناعته معاوداً ، تعنون أنه عاودها كرّة بعد أخرى؛ حتى مرن عليها وهانت عليه . فإن قلت : لم ذكر الضمير في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } والمراد به الإعادة؟ قلت : معناه : وأن يعيده أهون عليه . فإن قلت : لم أخرت الصلة في قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } وقدّمت في قوله : { هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } [ مريم : 21 ] ؟ قلت : هناك قصد الاختصاص وهو محزه ، فقيل : هو عليّ هين ، وإن كان مستصعباً عندكم أن يولد بين همّ وعاقر؛ وأما ههنا فلا معنى للاختصاص ، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أنّ الإعادة أسهل من الابتداء؛ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى . فإن قلت : ما بال الإعادة استعظمت في قوله : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ } حتى كأنها فضلت على قيام السموات والأرض بأمره ، ثم هوّنت بعد ذلك؟ قلت : الإعادة في نفسها عظيمة ، ولكنها هوّنت بالقياس إلى الإنشاء . وقيل الضمير في عليه للخلق . ومعناه : أنّ البعث أهون على الخلق من الإنشاء ، لأن تكوينه في حدّ الاستحكام ، والتمام أهون عليه وأقل تعباً وكبداً ، من أن يتنقل في أحوال ويندرج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحدّ . وقيل : الأهون بمعنى الهين . ووجه آخر : وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله ، والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بدّ له من فعله ، لأنه لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب ، والأفعال : إما محال والمحال ممتنع أصلاً خارج عن المقدور ، وإما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح ، وهو رديف المحال؛ لأنّ الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة . وإما تفضل والتفضل حالة بين بين ، للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله . وإما واجب لا بدّ من فعله ، ولا سبيل إلى الإخلال به ، فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول . فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب ، كانت أبعد الأفعال من الامتناع . وإذا كانت أبعدها من الامتناع ، كانت أدخلها في التأني والتسهل ، فكانت أهون منها . وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الإنشاء { وَلَهُ المثل الأعلى } أي الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به . ووصف في السموات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدورات ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَهُوَ العزيز الحكيم } أي القاهر لكل مقدور { الحكيم } الذي يجري كل فعل على قضايا حكمته وعلمه . وعن مجاهد { المثل الأعلى } قول لا إله إلا الله ، ومعناه : وله الوصف الأعلى الذي هو الوصف بالوحدانية . ويعضده قوله تعالى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ } [ الروم : 28 ] وقال الزجاج : { وَلَهُ المثل الأعلى فِى السماوات والأرض } أي : قوله تعالى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } قد ضربه لكم مثلاً فيما يصعب ويسهل . يريد : التفسير الأوّل .
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
فإن قلت : أي فرق بين الأولى والثانية والثالثة في قوله تعالى : { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ، { مِّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم } ، { مِّن شُرَكَاءَ } ؟ قلت : الأولى للابتداء ، كأنه قال : أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم ولم يبعد ، والثانية للتبعيض ، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي . ومعناه : هل ترضون لأنفسكم - وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد - أن يشارككم بعضهم { فِى مَا رزقناكم } من الأموال وغيرها ما تكونون أنتم وهم فيه على السواء ، من غير تفضلة بين حرّ وعبد : تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم ، وأن تفتاتوا بتدبير عليهم كما يهاب بعضكم بعضاً من الأحرار ، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم ، فكيف ترضون لرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟ { كذلك } أي مثل هذا التفصيل { نُفَصِّلُ الأيات } أي نبينها : لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها؛ لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها . ألا ترى كيف صوّر الشرك بالصورة المشوّهة؟ .
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
{ الذين ظلموا } أي أشركوا ، كقوله تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي اتبعوا أهواءهم جاهلين لأنّ العالم إذا ركب هواه ربما ردعه علمه وكفه . وأما الجاهل فيهيم على وجهه كالبهيمة لا يكفه شيء { مَنْ أَضَلَّ الله } من خذله ولم يلطف به ، لعلمه أنه ممن لا لطف له ، فمن يقدر على هداية مثله . وقوله : { وَمَا لَهُم مِّن ناصرين } دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان .
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ } فقوِّم وجهك له وعدِّ له ، غير ملتفت عنه يميناً ولا شمالاً ، وهو تمثيل لإقباله على الدين ، واستقامته عليه ، وثباته ، واهتمامه بأسبابه ، فإنّ من اهتم بالشيء عقد عليه طرفه ، وسدّد إليه نظره ، وقوّم له وجهه ، مقبلاً به عليه . و { حَنِيفاً } حال من المأمور . أو من الدين { فِطْرَتَ الله } أي الزموا فطرة الله . أو عليكم فطرة الله . وإنما أضمرته على خطاب الجماعة لقوله : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } ومنيبين : حال من الضمير في : الزموا . وقوله : ( واتقوه وَأَقِيمُواْ . . . وَلاَ تَكُونُواْ ) معطوف على هذا الضمير . والفطرة : الخلقة . ألا ترى إلى قوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } والمعنى : أنه خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإسلام ، غير نائين عنه ولا منكرين له ، لكونه مجاوباً للعقل ، مساوقاً للنظر الصحيح ، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه ديناً آخر ، ومن غوى منهم فبإغواء شياطين الإنس والجن . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
( 843 ) " كل عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري " وقوله عليه السلام :
( 844 ) " كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصرانه " ، { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } أي ما ينبغي أن تبدّل تلك الفطرة أو تغير . فإن قلت : لم وحد الخطاب أوّلاً ، ثم جمع؟ قلت : خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً ، وخطاب الرسول خطاب لأمته مع ما فيه من التعظيم للإمام ، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص { مِنَ الذين } بدل من المشركين «فارقوا دينهم» تركوا دين الإسلام . وقرىء : «فرّقوا دينهم» بالتشديد ، أي : حعلوه أدياناً مختلفة لاختلاف أهوائهم { وَكَانُواْ شِيَعاً } فرقاً ، كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها { كُلُّ حِزْبٍ } منهم فرح بمذهبه مسرور ، يحسب باطله حقاً - ويجوز أن يكون { مِنَ الذين } منقطعاً مما قبله ، ومعناه : من المفارقين دينهم كل حزب فرحين بما لديهم ، ولكنه رفع فرحون على الوصف لكل ، كقوله :
وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ ...
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
الضر : الشدّة من هزال أو مرض أو قحط أو غير ذلك . والرحمة : الخلاص من الشدّة . واللام في { لِيَكْفُرُواْ } مجاز مثلها في { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } [ القصص : 8 ] . { فَتَمَتَّعُواْ } نظير { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وبال تمتعكم . وقرأ ابن مسعود : وليتمتعوا .
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
السلطان : الحجة ، وتكلمه . مجاز ، كما تقول : كتابه ناطق بكذا ، وهذا مما نطق به القرآن . ومعناه الدلالة والشهادة ، كأنه قال : فهو يشد بشركهم وبصحته . وما في { بِمَا كَانُواْ } مصدرية أي : بكونهم بالله يشركون . ويجوز أن تكون موصولة ويرجع الضمير إليها . ومعناه : فهو يتكلم بالأمر الذي يسببه يشركون ، ويحتمل أن يكون المعنى : أم أنزلنا عليهم ذا سلطان ، أي : ملكاً معه برهان فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يشركون .
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
{ وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً } أي نعمة من مطر أو سعة أو صحة { فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي بلاء من جدب أو ضيق أو مرض - والسبب فيها شؤم معاصيهم - قنطوا من الرحمة .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
ثم أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه هو الباسط القابض ، فما لهم يقنطون من رحمته ، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدّة من أجلها ، حتى يعيد إليهم رحمته .
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
حق ذي القربى : صلة الرحم . وحق المسكين وابن السبيل : نصيبهما من الصدقة المسماة لهما . وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب . وعند الشافعي رحمه الله : لا نفقة بالقرابة إلا على الولد والوالدين : قاس سائر القرابات على ابن العم ، لأنه لا ولاد بينهم . فإن قلت : كيف تعلق قوله : { فَئَاتِ ذَا القربى } بما قبله حتى جيء بالفاء؟ قلت : لما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم ، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك { يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } يحتمل أن يراد بوجهه ذاته أو جهته وجانبه ، أي : يقصدون بمعروفهم إياه خالصاً وحقه ، كقوله تعالى : { إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى } [ الليل : 20 ] أو يقصدون جهة التقرّب إلى الله لا جهة أخرى ، والمعنيان متقاربان ، ولكن الطريقة مختلفة .
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
هذه الآية في معنى قوله تعالى : { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } [ البقرة : 278 ] سواء بسواء ، يريد : وما أعطيتم أكلة الربا { مِّن رِباً لِّيَرْبُوَاْ فى } أموالهم : ليزيد ويزكو في أموالهم ، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه { وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زكاوة } أي صدقة تبتغون به وجهه خالصاً ، لا تطلبون به مكافأة ولا رياء وسمعة { فأولائك هُمُ المضعفون } ذوو الإضعاف من الحسنات . ونظير المضعف : المقوى والموسر ، لذي القوّة واليسار : وقرىء بفتح العين . وقيل نزلت في ثقيف ، وكانوا يربون . وقيل : المراد أن يهب الرجل للرجل أو يهدي له ، ليعوّضه أكثر مما وهب أو أهدى ، فليست تلك الزيادة بحرام ، ولكن المعوّض لا يثاب على تلك الزيادة . وقالوا : الربا ربوان : فالحرام : كل قرض يؤخذ فيه أكثر منه : أو يجرّ منفعة . والذي ليس بحرام : أن يستدعى بهبته أو بهديته أكثر منها . وفي الحديث : المستغزر يثاب من هبته وقرىء : «وما أتيتم من ربا» بمعنى : وما غشيتموه أو رهقتموه من إعطاء ربا . وقرىء : «لتربوا» ، أي : لتزيدوا في أموالهم ، كقوله تعالى : { وَيُرْبِى الصدقات } أي يزيدها . وقوله تعالى : { فأولائك هُمُ المضعفون } التفات حسن ، كأنه قال لملائكته وخواص خلقه : فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم : هم المضعفون . فهو أمدح لهم من أن يقول : فأنتم المضعفون . والمعنى : المضعفون به ، لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما ، ووجه آخر : وهو أن يكون تقديره : فمؤتوه أولئك هم المضعفون . والحذف لما في الكلام من الدليل عليه ، وهذا أسهل مأخذاً ، والأوّل أملأ بالفائدة .
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
{ الله } مبتدأ وخبره { الذى خَلَقَكُمْ } أي الله هو فاعل هذه الأفعال الخاصة التي لا يقدر على شيء منها أحد غيره ، ثم قال : { هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ } الذين اتخذتموهم أنداداً له من الأصنام وغيرها { مَّن يَفْعَلُ } شيئاً قط من تلك الأفعال؛ حتى يصح ما ذهبتم إليه ، ثم استبعد حاله من حال شركائهم . ويجوز أن يكون { الذى خَلَقَكُمْ } صفة للمبتدأ ، والخبر : هل من شركائكم ، وقوله : { مِن ذلكم } هو الذي ربط الجملة بالمبتدأ ، لأن معناه : من أفعاله ومن الأولى والثانية والثالثة : كل واحدة منهنّ مستقلة بتأكيد ، لتعجيز شركائهم ، وتجهيل عبدتهم .
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
{ الفساد فِى البر والبحر } نحو : الجدب ، والقحط ، وقلة الريع في الزراعات والربح في التجارات ، ووقوع الموتان في الناس والدواب ، وكثر الحرق والغرق ، وإخفاق الصيادين والغاصة ، ومحق البركات من كل شيء ، وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضارّ . وعن ابن عباس : أجدبت الأرض وانقطعت مادّة البحر . وقالوا : إذا انقطع القطر عميت دواب البحر . وعن الحسن أنّ المراد بالبحر : مدن البحر وقراه التي على شاطئه . وعن عكرمة : العرب تسمي الأمصار البحار . وقرىء : «في البر والبحور» { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس } بسبب معاصيهم وذنوبهم ، كقوله تعالى : { وَمَا أصابكم مِّن مُّصِيبَةٍ فيِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] وعن ابن عباس { ظَهَرَ الفساد فِى البر } بقتل ابن آدم أخاه . وفي البحر بأن جلندي كان يأخذ كل سفينة غصباً ، وعن قتادة : كان ذلك قبل البعثه ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع راجعون عن الضلال والظلم . ويجوز أن يريد ظهور الشر والمعاصي بكسب الناس ذلك . فإن قلت : ما معنى قوله : { لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الذى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ؟ قلت أمّا على التفسير الأول فظاهر ، وهو أنّ الله قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها ، ليذيقهم وبال بعضهم أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة ، لعلهم يرجعون عما هم عليه ، وأمّا على الثاني فاللام مجاز ، على معنى أنّ ظهور الشرور بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله وبال أعمالهم إرادة الرجوع ، فكأنهم إنما أفسدوا وتسببوا لفشوّ المعاصي في الأرض لأجل ذلك . وقرىء : «لنذيقهم» بالنون .
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
ثم أكد تسبب المعاصي لغضب الله ونكاله : حيث أمرهم بأن يسيروا في الأرض فينظروا كيف أهلك الله الأمم وأذاقهم سوء العاقبة لمعاصيهم ، ودل بقوله : { كَانَ أَكْثَرُهُمُ مُّشْرِكِينَ } على أنّ الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم ، وأنّ ما دونه من المعاصي يكون سبباً لذلك .
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
القيم : البليغ الاستقامة الذي لا يتأتى فيه عوج { مِنَ الله } إمّا أن يتعلق بيأتي ، فيكون المعنى : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يردّه أحد ، كقوله تعالى : { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } [ الأنبياء : 40 ] أو بمردّ ، على معنى : لا يردّه هو بعد أن يجيء به ، ولا ردّ له من جهته . والمردّ : مصدر بمعنى الردّ { يَصَّدَّعُونَ } يتصدّعون : أي يتفرقون ، كقوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] .
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
{ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } كلمة جامعة لما لا غاية وراءه من المضارّ . لأنّ من كان ضاره كفره؛ فقد أحاطت به كلّ مضرّة { فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي يسوّون لأنفسهم ما يسوّيه لنفسه الذي يمهد فراشه ويوطئه ، لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه عليه وينغص عليه مرقده : من نتوء أو قضض أو بعض ما يؤذي الراقد . ويجوز أن يريد : فعلى أنفسهم يشفقون ، من قولهم في المشفق : أمّ فرشت فأنامت . وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على أنّ ضرر الكفر لا يعود إلا على الكافر لا يتعدّاه . ومنفعة الإيمان والعمل الصالح : ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه { لِيَجْزِىَ } متعلق بيمهدون تعليل له { مِن فَضْلِهِ } مما يتفضل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب؛ وهذا يشبه الكناية ، لأن الفضل تبع للثواب ، فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له : أو أراد من عطائه وهو ثوابه؛ لأن الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب . وتكرير { الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح . وقوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين } تقرير بعده تقرير ، على الطرد والعكس .
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
{ الرياح } هي الجنوب والشمال والصبا ، وهي رياح الرحمة . وأما الدبور ، فريح العذاب . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
( 845 ) « اللَّهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » وقد عدد الأغراض في إرسالها ، وأنه أرسلها للبشارة بالغيث ولإذاقة الرحمة ، وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه ، والروح الذي مع هبوب الريح وزكاء الأرض . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 846 ) « إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض » وإزالة العفونة من الهواء ، وتذرية الحبوب ، وغير ذلك { وَلِتَجْرِىَ الفلك } في البحر عند هبوبها . وإنما زاده { بِأَمْرِهِ } لأن الريح قد تهب ولا تكون مؤاتية ، فلا بد من إرساء السفن والاحتيال لحبسها ، وربما عصفت فأغرقتها { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يريد تجارة البحر؛ ولتشكروا نعمة الله فيها . فإن قلت : بم يتعلق وليذيقكم؟ قلت : فيه وجهان : أن يكون معطوفاً على مبشرات على المعنى ، كأنه قيل : ليبشركم وليذيقكم . وأن يتعلق بمحذوف تقديره : وليذيقكم ، وليكون كذا وكذا : أرسلناها .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
اختصر الطريق إلى الغرض بأن أدرج تحت ذكر الانتصار والنصر ذكر الفريقين ، وقد أخلى الكلام أوّلاً عن ذكرهما . وقوله : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } تعظيم للمؤمنين ، ورفع من شأنهم ، وتأهيل لكرامة سنية ، وإظهار لفضل سابقة ومزية ، حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم ، مستوجبين عليه أن يظهرهم ويظفرهم ، وقد يوقف على { حَقّاً } . ومعناه : وكان الانتقام منهم حقاً ، ثم يبتدأ : { عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 847 ) « ما من امرىء مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة » ثم تلا قوله تعالى : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } .
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
{ فَيَبْسُطُهُ } متصلاً تارة { وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } أي قطعاً تارة { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } في التارتين جميعاً . والمراد بالسماء . سمت السماء وشقها ، كقوله تعالى : { وَفَرْعُهَا فِى السماء } [ إبراهيم : 24 ] ، وبإصابة العباد : إصابة بلادهم وأراضيهم { مِن قَبْلِهِ } من باب التكرير والتوكيد ، كقوله تعالى : { فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِى النار خالدين فِيهَا } [ الحشر : 17 ] . ومعنى التوكيد فيه : الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم بأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك .