كتاب : الكشاف
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
لما عصوه وتمرّدوا عليه وخالفوه وقالوا ما قالوا من كلمة الكفر ولم يبق معه مطيع موافق يثق له إلا هارون { قَالَ رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ } لنصرة دينك { إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى } وهذا من البث والحزن والشكوى إلى الله والحسرة ورقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة ونحوه قول يعقوب عليه السلام { إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله } [ يوسف : 86 ] . وعن عليّ رضي الله عنه أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة ، فما أجابه إلا رجلان فتنفس الصعداء . ودعا لهما وقال : أين تقعان مما أريد؟ وذكر في إعراب ( أخي ) وجوه : أن يكون منصوباً عطفاً على نفسي أو على الضمير في ( إني ) بمعنى : ولا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملك إلا نفسه . ومرفوعا عطفاً على محل إن واسمها . كأنه قيل : أنا لا أملك إلا نفسي ، وهارون كذلك لا يملك إلا نفسه أو على الضمير في لا أملك . وجاز للفصل . مجروراً عطفاً على الضمير في نفسي ، وهو ضعيف لقبح العطف على ضمير المجرور إلا بتكرير الجار . فإن قلت : أما كان معه الرجلان المذكوران؟ قلت : كأنه لم يثق بهما كل الوثوق ولم يطمئن إلى ثباتهما ، لما ذاق على طول الزمان واتصال الصحبة من أحوال قومه وتلونهم وقسوة قلوبهم ، فلم يذكر إلا النبي المعصوم الذي لا شبهة في أمره ، ويجوز أن يقول ذلك لفرط ضجره عندما سمع منهم تقليلاً لمن يوافقه . ويجوز أن يريد : ومن يؤاخيني على ديني { فافرق } فافصل { بَيْنِنَا } وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق ، وتحكم عليهم بما يستحقون ، وهو في معنى الدعاء عليهم . ولذلك وصل به قوله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } على وجه التسبيب ، أو فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله : { وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين } [ القصص : 21 ] { فَإِنَّهَا } فإن الأرض المقدسة { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } لا يدخلونها ولا يملكونها ، فإن قلت : كيف يوفق بين هذا وبين قوله : { الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [ المائدة : 21 ] ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد كتبها لكم بشرط أن تجاهدوا أهلها فلمَّا أبوا الجهاد قيل : فإنها محرّمة عليهم . والثاني : أن يراد فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة ، فإذا مضت الأربعون كان من كتب ، فقد روي أن موسى سار بمن بقي من بني إسرائيل وكان يوشع على مقدمته ففتح أريحاء وأقام فيها ما شاء الله ثم قبض صلوات الله عليه . وقيل : لما مات موسى بعث يوشع نبياً ، فأخبرهم بأنه نبيّ الله ، وأن الله أمره بقتال الجبابرة ، فصدقوه وبايعوه وسار بهم إلى أريحاء وقتل الجبارين وأخرجهم ، وصار الشام كله لبني إسرائيل . وقيل : لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال : { إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا } وهلكوا في التيه ونشأت نواشيء من ذرّياتهم فقاتلوا الجبارين ودخلوها والعامل في الظرف إما ( محرمة ) وإما ( يتيهون ) ومعنى { يَتِيهُونَ فِى الأرض } يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقاً .
والتيه : المفازة التي يتاه فيها . روى أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين ، حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، وكان الغمام يظللهم من حرّ الشمس ، ويطلع لهم عمود من نور بالليل يضيء لهم ، وينزل عليهم المنّ والسلوى ، ولا تطول شعورهم ، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله . فإن قلت : فلم كان ينعم عليهم بتظليل الغمام وغيره ، وهم معاقبون؟ قلت : كما ينزل بعض النوازل على العصاة عركاً لهم ، وعليهم مع ذلك النعمة متظاهرة . ومثل ذلك مثل الوالد المشفق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولا يقطع عنه معروفه وإحسانه . فإن قلت : هل كان معهم في التيه موسى وهارون عليهما السَّلام؟ قلت : اختلف في ذلك ، فقيل لم يكونا معهم لأنه كان عقاباً ، وقد طلب موسى إلى ربه أن يفرق بينهما وبينهم . وقيل : كانا معهم إلا أنه كان ذلك روحاً لهما وسلامة ، ولا عقوبة ، كالنار لإبراهيم ، وملائكة العذاب . وروي أن هارون مات في التيه . ومات موسى بعده فيه بسنة . ودخل يوشع أريحاء بعد موته بثلاثة أشهر . ومات النقباء في التيه بغتة ، إلا كالب ويوشع { فَلاَ تَأْسَ } فلا تحزن عليهم لأنه ندم على الدعاء عليهم ، فقيل : إنهم أحقاء لفسقهم بالعذاب ، فلا تحزن ولا تندم .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
هما ابنا آدم لصلبه قابيل وهابيل ، أوحى الله إلى آدم أن يزوّج كل واحد منهما توأمة الآخر ، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها ( إقليما ) فحسد عليها أخاه وسخط . فقال لهما آدم : قرّبا قرباناً ، فمن أيكما تقبل زوّجها ، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته؛ فازداد قابيل حسداً وسخطاً ، وتوعده بالقتل . وقيل : هما رجلان من بني إسرائيل { بالحق } تلاوة متلبسة بالحق والصحة . أو اتله نبأ متلبساً بالصدق موافقاً لما في كتب الأوّلين . أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد؛ لأن المشركين وأهل الكتاب كلهم كانوا يحسدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبغون عليه . أو اتل عليهم وأنت محق صادق . و { إِذْ قَرَّبَا } نصب بالنبأ أي قصتهم وحديثهم في ذلك الوقت ، ويجوز أن يكون بدلاً من النبأ ، أي اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت ، على تقدير حذف المضاف . والقربان : اسم ما يتقرّب به إلى الله من نسيكة أو صدقة ، كما أنّ الحلوان اسم ما يحلّى أي يعطى . يقال : قرّب صدقة وتقرّب بها ، لأن تقرّب مطاوع قرب : قال الأصمعي : تقرّبوا قرف القمع فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى قرب . فإن قلت : كيف كان قوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } جواباً لقوله : { لأَقْتُلَنَّكَ } ؟ قلت : لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل قال له : إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى ، لا من قبلي ، فلم تقتلني؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان . وفيه دليل على أنّ الله تعالى لا يقبل طاعة إلا من مؤمن متق ، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم . وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة فقيل له : ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال إني أسمع الله يقول : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } . { مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } قيل : كان أقوى من القاتل وأبطش منه ، ولكنه تحرّج عن قتل أخيه واستسلم له خوفاً من الله؛ لأنّ الدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت . قاله مجاهد وغيره { إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ } أن تحتمل إثم قتلي لك لو قتلتك وإثم قتلك لي . فإن قلت : كيف يحمل إثم قتله له ولا تزر وازرة وزر أخرى؟ قلت : المراد بمثل إثمي على الاتساع في الكلام ، كما تقول : قرأت قراءة فلان ، وكتبت كتابته ، تريد المثل وهو اتساع فاش مستفيض لا يكاد يستعمل غيره . ونحوه قوله عليه الصلاة والسلام :
( 347 ) « المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم »
على أنّ البادي عليه إثم سبه ، ومثل إثم سب صاحبه؛ لأنه كان سبباً فيه ، إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفوّ عنه ، لأنه مكافىء مدافع عن عرضه . ألا ترى إلى قوله : ( ما لم يعتد المظلوم ) لأنه إذا خرج من حدّ المكافأة واعتدى لم يسلم . فإن قلت : فحين كف هابيل عن قتل أخيه واستسلم وتحرج عما كان محظوراً في شريعته من الدفع ، فأين الإثم حتى يتحمل أخوه مثله فيجتمع عليه الإثمان؟ قلت : هو مقدّر فهو يتحمل مثل الإثم المقدّر ، كأنه قال : إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت يدي إليك . وقيل : ( بإثمي ) بإثم قتلي ( وإثمك ) الذي من أجله لم يتقبل قربانك فإن قلت : فكيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه النار؟ قلت : كان ظالماً وجزاء الظالم حسن جائز أن يراد . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين } وإذا جاز أن يريده الله ، جاز أن يريده العبد؛ لأنه لا يريد إلا ما هو حسن . والمراد بالإثم وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب ، فإن قلت : لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله : { لَئِن بَسَطتَ . . . . مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ } ؟ قلت : ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع . ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي ، { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } فوسعته له ويسرته ، من طاع له المرتع : إذا اتسع . وقرأ الحسن : «فطاوعت» . وفيه وجهان : أن يكون مما جاء من فاعل بمعنى فعل ، وأن يراد أنّ قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع ، وله لزيادة الربط كقولك : حفظت لزيد ماله . وقيل : قتل وهو ابن عشرين سنة ، وكان قتله عند عقبة حراء ، وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم { فَبَعَثَ الله غُرَاباً } روي : أنه أوّل قتيل قتل على وجه الأرض من بني آدم . ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به ، فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعكفت عليه السباع ، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ، فحفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة { قَالَ ياويلتا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب } ويروى أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض ، فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلاً ، فقال : بل قتلته ولذلك اسودِّ جسدك . وروي أن آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك وأنه رثاه بشعر ، وهو كذب بحت ، وما الشعر إلا منحول ملحون . وقد صحّ أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر . { لِيُرِيَهُ } ليريه الله . أو ليريه الغراب ، أي ليعلمه؛ لأنه لما كان سبب تعليمه ، فكأنه قصد تعليمه على سبيل المجاز { سَوْءَةَ أَخِيهِ } عورة أخيه وما لا يجوز أن ينكشف من جسده .
والسوأة : الفضيحة لقبحها . قال :
يَا لَقَوْمِ لِلسَّوْأةِ السَّوْآء ... أي للفضيحة العظيمة فكنى بها عنها { فَأُوَارِيَ } بالنصب على جواب الاستفهام . وقرىء بالسكون على : فأنا أواري . أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف { مِنَ النادمين } على قتله ، لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره ، وتبين له من عجزه ، وتلمذه للغراب ، واسوداد لونه وسخط أبيه ، ولم يندم ندم التائبين { مِنْ أَجْلِ ذلك } بسبب ذلك وبعلته . وقيل : أصله من أجل شرا إذا جناه يأجله أجلاً . ومنه قوله :
وَأَهِل خِبَاءٍ صَالِحٍ ذَاتُ بَيْنِهِم ... قَدِ احْتَرَبُوا في عَاجِلٍ أَنَا آجِلُهْ
كأنك إذا قلت : من أجلك فعلت كذا ، أردت من أن جنيت فعلته وأوجبته ، ويدل عليه قولهم : من جراك فعلته ، أي من أن جررته بمعنى جنيته . وذلك إشارة إلى القتل المذكور ، أي من أن جنى ذلك القتل الكتب وجرّه { كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل } و ( من ) لابتداء الغاية ، أي ابتدأ الكتب و نشأ من أجل ذلك . ويقال : فعلت كذا لأجل كذا . وقد يقال : أجل كذا ، بحذف الجار وإيصال الفعل قال : أجل إنّ الله قد فضلكم . وقرىء : «من اجل ذلك» ، بحذف الهمزة وفتح النون لإلقاء حركتها عليها . وقرأ أبو جعفر : «من إجل ذلك» ، بكسر الهمزة وهي لغة فإذا خفف كسر النون ملقياً لكسرة الهمزة عليها { بِغَيْرِ نَفْسٍ } بغير قتل نفس ، لا على وجه الاقتصاص { أَوْ فَسَادٍ } عطف على نفس بمعنى أو بغير فساد { فِى الأرض } وهو الشرك . وقيل : قطع الطريق { وَمَنْ أحياها } ومن استنقذها من بعض أسباب الهلكة قتل أو غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك . فإن قلت : كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟ قلت : لأن كل إنسان يدلي بما يدلي به الآخر من الكرامة على الله وثبوت الحرمة ، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على الله وهتكت حرمته وعلى العكس ، فلا فرق إذاً بين الواحد والجميع في ذلك . فإن قلت : فما الفائدة في ذكر ذلك؟ قلت : تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها ، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها؛ لأنّ المتعرض لقتل النفس إذا تصوّر قتلها بصورة قتل الناس جميعاً عظم ذلك عليه فثبطه ، وكذلك الذي أراد إحياءها . وعن مجاهد : قاتل النفس جزاؤه جهنم ، وغضب الله ، والعذاب العظيم . ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك . وعن الحسن : يا ابن آدم ، أرأيت لو قتلت الناس جميعاً أكنت تطمع أن يكون لك عمل يوازي ذلك فيغفر لك به؟ كلا إنه شيء سوَّلته لك نفسك والشيطان ، فكذلك إذا قتلت واحداً { بَعْدَ ذَلِكَ } بعدما كتبنا عليهم وبعد مجيء الرسل بالآيات { لَمُسْرِفُونَ } يعني في القتل لا يبالون بعظمته .
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
{ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومحاربة المسلمين في حكم محاربته { وَيَسْعَوْنَ فِى الأرض فَسَاداً } مفسدين ، أو لأنّ سعيهم في الأرض لما كان على طريق الفساد نزل منزلة : ويفسدون في الأرض فانتصب فساداً . على المعنى ، ويجوز أن يكون مفعولاً له ، أي الفساد . نزلت في قوم هلال بن عويمر وكان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وقد مرّ بهم قوم يريدون رسول الله فقطعوا عليهم . وقيل : في العرنيين ، فأوحى إليه أنّ من جمع بين القتل وأخذ المال قتل وصلب ومن أفرد القتل قتل . ومن أفرد أخذ المال قطعت يده لأخذ المال ، ورجله لإخافة السبيل . ومن أفرد الإخافة نفي من الأرض . وقيل : هذا حكم كل قاطع طريق كافراً كان أو مسلماً . ومعناه { أَن يُقَتَّلُواْ } من غير صلب ، إن أفردوا القتل { أَوْ يُصَلَّبُواْ } مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ . قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله ، يصلب حياً ، ويطعن حتى يموت { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خلاف } إن أخذوا المال { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } إذا لم يزيدوا على الإخافة . وعن جماعة منهم الحسن والنخعي : أن الإمام مخير بين هذه العقوبات في كلّ قاطع طريق من غير تفصيل . والنفي : الحبس عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي : النفي من بلد إلى بلد ، لا يزال يطلب وهو هارب فزعاً ، وقيل : ينفى من بلده ، وكانوا ينفونهم إلى ( دهلك ) وهو بلد في أقصى تهامة ، و ( ناصع ) وهو بلد من بلاد الحبشة { خِزْىٌ } ذلّ وفضيحة { إِلاَّ الذين تَابُواْ } استثناء من المعاقبين عقاب قطع الطريق خاصة . وأما حكم القتل والجراح وأخذ المال فإلى الأولياء ، إن شاؤا عفواً ، وإن شاؤا استوفوا . وعن عليّ رضي الله عنه : أن الحرث بن بدر جاءه تائباً بعدما كان يقطع الطريق ، فقبل توبته ودرأ عنه العقوبة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
الوسيلة : كل ما يتوسل به أي يتقرّب من قرابة أو صنيعة أو غير ذلك ، فاستعيرت لما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي . وأنشد للبيد :
أَرَى النَّاسَ لاَ يَدْرُونَ مَا قَدْرُ أَمْرِهِم ... أَلاَ كُلُّ ذِي لُبٍّ إلَى اللَّهِ وَاسِلُ
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
{ لِيَفْتَدُواْ بِهِ } ليجعلوه فدية لأنفسهم . وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم ، وأنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 348 ) " يقال للكافر يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به ، فيقول : نعم ، فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك " و ( لو ) مع ما في حيزه خبر ( أن ) . فإن قلت : لم وحد الراجع في قوله : { لِيَفْتَدُواْ بِهِ } وقد ذكر شيئان؟ قلت : نحو قوله :
فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ ... أو على إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة ، كأنه قيل : ليفتدوا بذلك . ويجوز أن يكون الواو في ( مثله ) بمعنى ( مع ) فيتوحد المرجوع إليه . فإن قلت : فبم ينصب المفعول معه؟ قلت : بما يستدعيه ( لو ) من الفعل ، لأن التقدير : لو ثبت أن لهم ما في الأرض . قرأ أبو واقد «أن يُخرجوا» بضم الياء من أخرج . ويشهد لقراءة العامّة قوله : ( بخارجين ) . وما يروى عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس : يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم أن قوماً يخرجون من النار ، وقد قال الله تعالى : { وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا } فقال : ويحك ، اقرأ ما فوقها . هذا للكفار . فما لفقته المجبرة وليس بأول تكاذيبهم وفراهم . وكفاك بما فيه من مواجهة ابن الأزرق ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهر أعضاده من قريش وأنضاده من بني عبد المطلب وهو حبر الأمّة وبحرها ومفسرها ، بالخطاب الذي لا يجسر على مثله أحد من أهل الدنيا ، وبرفعه إلى عكرمة دليلين ناصين أن الحديث فرية ما فيها مرية .
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
{ والسارق والسارقة } رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه ، كأنه قيل : وفيما فرض عليكم السارق والسارقة أي حكمهما . ووجه آخر وهو أن يرتفعا بالابتداء ، والخبر { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } ودخول الفاء لتضمنهما معنى الشرط ، لأن المعنى : والذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما ، والاسم الموصول يضمن معنى الشرط . وقرأ عيسى بن عمر بالنصب ، وفضلها سيبويه على قراءة العامّة لأجل الأمر لأنّ ( زيداً فاضربه ) أحسن من ( زيد فاضربه ) { أَيْدِيَهُمَا } يديهما ، ونحوه : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف . وأريد باليدين اليمينان ، بدليل قراءة عبد الله : «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم» ، والسارق في الشريعة : من سرق من الحرز : والمقطع . الرسغ . وعند الخوارج : المنكب . والمقدار الذي يجب به القطع عشرة دراهم عند أبي حنيفة ، وعند مالك والشافعي رحمهما الله ربع دينار . وعن الحسن درهم وفي مواعظه : احذر من قطع يدك في درهم { جَزَاء } و { نكالا } مفعول لهما { فَمَن تَابَ } من السرّاق { مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ } من بعد سرقته { وَأَصْلَحَ } أمره بالتفصي عن التبعات { فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ } ويسقط عنه عقاب الآخرة . وأمّا القطع فلا تسقطه التوبة عند أبي حنيفة وأصحابه وعند الشافعي في أحد قوليه تسقطه ( مَن يَشَآءُ ) من يجب في الحكمة تعذيبه والمغفرة له من المصرين والتائبين . وقيل : يسقط حدّ الحربي إذا سرق بالتوبة ، ليكون أدعى له إلى الإسلام وأبعد من التنفير عنه ، ولا يسقطه عن المسلم : لأنّ في إقامته الصلاح للمؤمنين والحياة { وَلَكُمْ فِي القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] . فإن قلت : لم قدّم التعذيب على المغفرة؟ قلت : لأنه قوبل بذلك تقدم السرقة على التوبة .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
قرىء «لا يحزنك» بضم الياء . ويسرعون . والمعنى : لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين { فِى الكفر } أي في إظهاره بما يلوح منهم من آثار الكيد للإسلام ومن موالاة المشركين ، فإني ناصرك عليهم وكافيك شرّهم . يقال : أسرع فيه الشيب . وأسرع فيه الفساد ، بمعنى : وقع فيه سريعاً ، فكذلك مسارعتهم في الكفر ووقوعهم وتهافتهم فيه ، أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها . و { ءَامَنَّا } مفعول قالوا . و { بأفواههم } متعلق بقالوا لا بآمَنَّا { وَمِنَ الذين هِادُواْ } منقطع مما قبله خبر لسماعون ، أي : ومن اليهود قوم سماعون . ويجوز أن يعطف على { من الذين قالوا } ويرتفع سماعون على : هم سماعون . والضمير للفريقين . أو للذين هادوا . ومعنى { سماعون لِلْكَذِبِ } قابلون لما يفتريه الأحبار ويفتعلونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولك الملك يسمع كلام فلان . ومنه ( سمع الله لمن حمده ) { سماعون لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } يعني اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجافوا عنه لما أفرط فيهم من شدّة البغضاء وتبالغ من العداوة ، أي قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك . وقيل : سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمسخوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير ، سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود وجهوهم عيوناً ليبلغوهم ما سمعوا منه . وقيل : السَّمَّاعون : بنو قريظة . والقوم الآخرون : يهود خيبر { يُحَرّفُونَ الكلم } يميلونه ويزيلونه { عَن مواضعه } التي وضعه الله تعالى فيها ، فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا مواضع { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا } المحرف المزال عن مواضعه { فَخُذُوهُ } واعلموا أنه الحق واعملوا به { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ } وأفتاكم محمد بخلافه { فاحذروا } وإياكم وإياه فهو الباطل والضلال . وروي :
( 349 ) أن شريفاً من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحّدهما الرجم في التوراة ، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، وقالوا : إن أمركم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا وإن يأمركم بالرجم فلا تقبلوا ، وأرسلوا الزانيين معهم ، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا ، فقال : " هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له : ابن صوريا " ؟ قالوا : نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض ورضوا به حكماً . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه ، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ "
قال : نعم ، فوثب عليه سفلة اليهود ، فقال : خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب . ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ } تركه مفتوناً وخذلانه { فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً { أُوْلَئِكَ الذين لَمْ يُرِدِ الله } أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم؛ لأنهم ليسوا من أهلها ، لعلمه أنها لا تنفع فيهم ولا تنجع { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله } [ النحل : 104 ] ، { كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم } [ آل عمران : 86 ] .
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
{ السحت } كل ما لا يحل كسبه ، وهو من - سحته - إذا استأصله لأنه مسحوت البركة كما قال تعالى : { يَمْحَقُ الله الربا } [ البقرة : 276 ] والربا باب منه . وقرىء : «السحت» بالتخفيف والتثقيل . والسحت بفتح السين على لفظ المصدر من سحته . «والسحت» ، بفتحتين . «والسحت» ، بكسر السين . وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام . وعن الحسن : كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراها إياه وتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب . وحكى أن عاملاً قدم من عمله فجاءه قومه ، فقدم إليهم العراضة وجعل يحدثهم بما جرى له في عمله ، فقال أعرابي من القوم : نحن كما قال الله تعالى : { سماعون لِلْكَذِبِ أكالون لِلسُّحْتِ } وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 350 ) " كل لحم أَنبته السحت فالنار أولى به " قيل : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيراً - إذا تحاكم إليه أهل الكتاب - بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم . وعن عطاء والنخعي والشعبي : أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين ، فإن شاءوا حكموا وإن شاءوا أعرضوا . وقيل : هو منسوخ بقوله : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله } وعند أبي حنيفة رحمه الله : إن احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام ، وإن زنى منهم رجل بمسلمة أو سرق من مسلم شيئاً أقيم عليه الحدّ . وأما أهل الحجاز فإنهم لا يرون إقامة الحدود عليهم ، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود . ويقولون : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين قبل نزول الجزية { فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } لأنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأيسر والأهون عليهم ، كالجلد مكان الرجم . فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم ، شقّ عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضاروه ، فأمن الله سربه { بالقسط } بالعدل والاحتياط كما حكم بالرجم { وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ } تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه ، مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذي يدّعون الإِيمان به { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك } ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به { وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين } بكتابهم كما يدّعون . أو وما أولئك بالكاملين في الإيمان على سبل التهكم بهم . فإن قلت : { فِيهَا حُكْمُ الله } ما موضعه من الإعراب؟ قلت : إمّا أن ينتصب حالاً من التوراة وهي مبتدأ خبره عندهم وإمّا أن يرتفع خبراً عنها كقولك : وعندهم في التوراة ناطقة بحكم الله وإمّا أن لا يكون له محل وتكون جملة مبنية ، لأنّ عندهم ما يغنيهم عن التحكيم ، كما تقول : عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب ، فما تصنع بغيره؟ فإن قلت : لم أنثت التوراة؟ قلت : لكونها نظيرة لموماة ودوداة ونحوها في كلام العرب . فإن قلت : علام عطف ثم يتولون؟ قلت : على يحكمونك .
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
{ فِيهَا هُدًى } يهدي للحق والعدل { وَنُورٌ } يبين ما استبهم من الأحكام { الذين أَسْلَمُواْ } صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح ، كالصفات الجارية على القديم سبحانه لا للتفصلة والتوضيح ، وأريد بإجرائها التعريض باليهود ، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث ، وأنّ اليهودية بمعزل منها . وقوله : { الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } مناد على ذلك { والربانيون والأحبار } والزهاد والعلماء من ولد هارون ، الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود { بِمَا استحفظوا مِن كتاب الله } بما سألهم أنبياؤهم حفظه من التوراة ، أي بسبب سؤال أنبيائهم إياهم أن يحفظوه من التغيير والتبديل ، و ( من ) في ( من كتاب الله ) للتبيين { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء } رقباء لئلا يبدل . والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبييون - بين موسى وعيسى وكان بينهماألف بني وعيسى - للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم ، وإبائه عليهم ما اشتهوه من الجلد . وكذلك حكم الربانيون والأحبار والمسلمون بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم من كتاب الله والقضاء بأحكامه ، وبسبب كونهم عليه شهداء . ويجوز أن يكون الضمير في ( استحفظوا ) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعاً ويكون الاستحفاظ من الله ، أي كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس } نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل لخشية سلطان ظالم أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء { وَلاَ تَشْتَرُواْ } ولا تستبدلوا ولا تستعيضوا { بآياتي } وأحكامه { ثَمَناً قَلِيلاً } وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرّف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة فهلكوا { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله } مستهيناً به { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون } والظالمون والفاسقون : وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهانة . وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنّ الكافرين والظالمين والفاسقين : أهل الكتاب . وعنه : نعم القوم أنتم ، ما كان من حلو فلكم ، ومن كان من مرة فهو لأهل الكتاب ، من جحد حكم الله كفر ، ومن لم يحكم به وهو مقرّ فهو ظالم فاسق . وعن الشعبي : هذه في أهل الإسلام والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى . وعن ابن مسعود : هو عام في اليهود وغيرهم . وعن حذيفة : أنتم أشبه الأمم سمتاً ببني إسرائيل : لتركبن طريقهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ، غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟ .
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
في مصحف أبيّ : ( وأنزل الله على بني إسرائيل فيها ) : وفيه : ( وأن الجروح قصاص ) . والمعطوفات كلها قرئت منصوبة ومرفوعة ، والرفع للعطف على محل أن النفس ، لأن المعنى وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا ، وإما لأنّ معنى الجملة التي هي قولك النفس بالنفس مما يقع عليه الكتاب كما تقع عليه القراءة . تقول : كتبت الحمد لله ، وقرأ سورة أنزلناها . ولذلك قال الزجاج : لو قرىء : إن النفس بالنفس ، بالكسر؛ لكان صحيحاً . أو للاستئناف . والمعنى : فرضنا عليهم فيها { أَنَّ النفس } مأخوذة { بالنفس } مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق { و } كذلك { العين } مفقوءة { بالعين والأنف } مجدوع { بالأنف والأذن } مصلومة { بالاذن والسن } مقلوعة { بالسن والجروح قِصَاصٌ } ذات قصاص ، وهو المقاصة ، ومعناه : ما يمكن فيه القصاص وتعرف المساواة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت : { فَمَن تَصَدَّقَ } من أصحاب الحق { بِهِ } بالقصاص وعفا عنه { فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } فالتصدق به كفارة للمتصدق يكفر الله من سيآته ما تقتضيه الموازنة كسائر طاعاته ، وعن عبد الله بم عمرو يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به ، وقيل : فهو كفارة للجاني ، إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه ، وفي قراءة أبيّ : فهو كفارته له يعني فالمتصدق كفارته له أي الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها ، وهو تعظيم لما فعل ، كقوله تعالى { فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] وترغيب في العفو .
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
قفيته مثل عقبته ، إذا اتبعته ثم يقال قفيته بفلان وعقبته به ، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء ، فإن قلت : فأين المفعول الأول في الآية؟ قلت : هو محذوف والظرف الذي هو { على ءاثارهم } كالسَّادِّ مسدّه؛ لأنه إذا قفى به على أثره فقد قفى به إياه ، والضمير في آثارهم للنبيين في قوله : { يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ } . وقرأ الحسن : ( الأَنجيل ) بفتح الهمزة؛ فإن صحّ عنه فلأنه أعجمي خرج لعجمته عن زِناتِ العربية ، كما خرج هابيل وآجر { وَمُصَدّقًا } عطف على محل { فِيهِ هُدًى } ومحله النصب على الحال { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } يجوز أن ينتصبا على الحال . كقوله : { مُصَدّقاً } وأن ينتصبا مفعولاً لهما ، كقوله : { وَلْيَحْكُمْ } كأنه قيل . وللهدى والموعظة آتيناه الإنجيل ، وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام . فإن قلت : فإن نظمت { هُدًى وَمَوْعِظَةً } في سلك مصدقاً ، فما تصنع بقوله ( وليحكم ) قلت : اصنع به ما صنعت بهدى وموعظة حين جعلتهما مفعولاً لهما ، فأقدّر : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه . وقرىء : «وَلْيحكُمْ» على لفظ الأمر بمعنى : وقلنا ليحكم . وروي في قراءة أبيّ : «وأن ليحكم» ، بزيادة ( أن ) مع الأمر على أنّ ( أن ) موصولة بالأمر ، كقولك : أمرته بأن قم كأنه قيل : وآتيناه الأنجيل وأمرنا بأن يحكم أهل الإنجيل . وقيل : إن عيسى عليه السلام كان متعبداً بما في التوراة من الأحكام؛ لأن الإنجيل مواعظ وزواجر والأحكام فيه قليلة . وظاهر قوله : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَا أَنزَلَ الله فِيهِ } يردّ ذلك ، وكذلك قوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا } [ المائدة : 48 ] وإن ساغ لقائل أن يقول : معناه : وليحكموا بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة .
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
فإن قلت : أي فرق بين التعريفين في قوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } وقوله : { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب } ؟ قلت : الأول : تعريف العهد ، لأنه عنى به القرآن . والثاني : تعريف الجنس ، لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة : ويجوز أن يقال : هو للعهد؛ لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق ، وإنما أريد نوع معلوم منه ، وهو ما أنزل من السماء سوى القرآن { وَمُهَيْمِناً } ورقيباً على سائر الكتب؛ لأنه يشهد لها بالصحة والثبات . وقرىء : «مهيمناً عليه» بفتح الميم ، أي هو من عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل ، كما قال : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] والذي هيمن الله عليه عزّ وجلّ أو الحفاظ في كل بلد ، لو حُرِّف حَرْف منه أو حركة أو سكون لتنبه عليه كل أحد ، ولا شمأزوا رادّين ومنكرين . ضمن { لاَ تَتَّبِعُواْ } معنى ولا تنحرف؛ فلذلك عدّي بعن كأنه قيل : ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ } أيها الناس { شِرْعَةً } شريعة . وقرأ يحيى بن وثاب بفتح الشين { ومنهاجا } وطريقا واضحاً في الدين تجرون عليه . وقيل : هذا دليل على أنَّا غير متعبدين بشرائع من قبلنا { لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة } جماعة متفقة على شريعة واحدة ، أو ذوي أمّة واحدة أي دين واحد لا اختلاف فيه { ولكن } أراد { لِيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءاتاكم } من الشرائع المختلفة ، هل تعملون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات ، معترفين بأن الله لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة؟ أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل؟ { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } فابتدروها وتسابقوا نحوها { إلى الله مَرْجِعُكُمْ } استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات { فَيُنَبّئُكُمْ } فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم ، وعاملكم ومفرطكم في العمل .
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
فإن قلت : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ } معطوف على ماذا؟ قلت : على ( الكتاب ) في قوله : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } كأنه قيل : وأنزلنا إليك أن احكم على أنّ ( أن ) وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال : ويجوز أن يكون معطوفاً على ( بالحق ) أي أنزلناه بالحق وبأن احكم { أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } أن يضلوك عنه ويستزلوك : وذلك :
( 351 ) أن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس من أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد نفتنه عن دينه ، فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود ، وأنا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود كلهم ولم يخالفونا ، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ، ونحن نؤمن بك ونصدّقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن الحكم بما أنزل الله إليك وأرادوا غيره { فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } يعني بذنب التولي عن حكم الله وإرادة خلافه ، فوضع { بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } موضع ذلك وأرادأنّ لهم ذنوباً جمة كثيرة العدد ، وأنّ هذا الذنب مع عظمه بعضها وواحد منها ، وهذا الإبهام لتعظيم التولي واستسرافهم في ارتكابه . ونحو البعض في هذا الكلام ما في قول لبيد :
أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا ... أراد نفسه : وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام ، كأنه قال : نفساً كبيرة ، ونفساً أيّ نفس ، فكما أن التنكير يعطي معنى التكبير وهو معنى البعضية ، فكذلك إذا صرح بالبعض { لفَاَسِقُونَ } لمتمرّدون في الكفر معتدون فيه ، يعني أنّ التولي عن حكم الله من التمرّد العظيم والاعتداء في الكفر .
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
{ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } فيه وجهان ، أحدهما : أنّ قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى : وروي : ( ( 352 أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : «القتلى بواء» فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بذلك فنزلت : والثاني : أن يكون تعبيراً لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم ، وهم يبغون حكم الملة الجاهلية التي هي هوى وجهل ، لا تصدر عن كتاب ولا ترجع إلى وحي من الله تعالى : وعن الحسن : هو عامّ في كل من يبغي غير حكم الله : والحكم حكمان : حكم بعلم فهو حكم الله ، وحكم بجهل فهو حكم الشيطان . وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض ، فقرأ هذه الآية : وقرىء : «تبغون» ، بالتاء والياء : وقرأ السلمي : «أفحكمُ الجاهلية يبغون» ، برفع الحكم على الابتداء ، وإيقاع يبغون خبراً وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في { أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 31 ] وعن الصفة في : الناس رجلان : رجل أهنت ، ورجل أكرمت . وعن الحال في ( مررت بهند يضرب زيد ) وقرأ قتادة : { أَفَحُكْمَ الجاهلية } على أنّ هذا الحكم الذي يبغونه إنما يحكم به أفعى نجران ، أو نظيره من حكام الجاهلية ، فأرادوا بسفههم أن يكون محمد خاتم النبيين حكماً كأولئك الحكام . اللام في قوله : { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } للبيان كاللام في ( هيت لك ) أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون ، فإنهم الذين يتيقنون أن لا أعدل من الله ولا أحسن حكماً منه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
لا تتخذوهم أولياء تنصرونهم وتستنصرونهم وتؤاخونهم وتصافونهم وتعاشرونهم معاشرة المؤمنين . ثم علل النهي بقوله : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } أي إنما يوالي بعضهم بعضاً لاتحاد ملتهم واجتماعهم في الكفر ، فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ } من جملتهم وحكمه حكمهم . وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 353 ) " لا تراءى ناراهما " ومنه قول عمر رضي الله عنه لأبي موسى في كاتبه النصراني : لا تكرموهم إذ أهانهم الله ، ولا تأمنوهم إذ خوّنهم الله ، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله : وروي : أنه قال له أبو موسى : لا قوام للبصرة إلا به ، فقال : مات النصراني والسلام ، يعني هب أنه قد مات ، فما كنت تكون صانعاً حينئذ فاصنعه الساعة ، واستغن عنه بغيره { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } يعني الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفر يمنعهم الله ألطافه ويخذلهم مقتاً لهم { يسارعون فِيهِمْ } ينكمشون في موالاتهم ويرغبون فيها ويعتذرون بأنهم لا يأمنون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان ، أي صرف من صروفه ودولة من دوله ، فيحتاجون إليهم وإلى معونتهم ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه
( 354 ) أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنّ لي من موالي من يهود كثيراً عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم وأُوالي الله ورسوله فقال عبد الله بن أبيّ : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية مواليّ وهم يهود بني قينقاع .
{ فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح } لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين { أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ } يقطع شأفة اليهود ويجليهم عن بلادهم ، فيصبح المنافقون نادمين على ما حدثوا به أنفسهم : وذلك أنهم كانوا يشكون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون : ما نظن أن يتم له أمر ، وبالحري أن تكون الدولة والغلبة لهؤلاء . وقيل أو أمر من عنده : أو أن يؤمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم فيندموا على نفاقهم . وقيل : أو أمر من عند الله لا يكون فيه للناس فعل كبني النضير الذين طرح الله في قلوبهم الرعب . فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب { وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ } قرىء بالنصب عطفاً على أن يأتي . وبالرفع على أنه كلام مبتدأ ، أي : ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت : وقرىء : «يقول» : بغير واو ، وهي في مصاحف مكة والمدينة والشأم كذلك على أنه جواب قائل يقول : فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل : يقول الذين آمنوا هؤلاء الذين أقسموا . فإن قلت : لمن يقولون هذا القول؟ قلت : إمّا أن يقوله بعضهم لبعض تعجباً من حالهم واغتباطاً بما منّ الله عليهم من التوفيق في الإخلاص { أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ } لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار . وإمّا أن يقولوه لليهود لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة . كما حكى الله عنهم { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } [ الحشر : 11 ] . { حَبِطَتْ أعمالهم } من جملة قول المؤمنين ، أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأى أعين الناس . وفيه معنى التعجيب كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم! فما أخسرهم! أو من قول الله عزّ وجلّ شهادة لهم بحبوط الأعمال وتعجبا من سوء حالهم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
وقرىء : «من يرتد» ومن «يرتدد» ، وهو في الإمام بدالين ، وهو من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها . وقيل : بل كان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة : ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم :
بنو مدلج ، ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي ، وكان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده ، وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن ، فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي بَيَّتَهُ فقتله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل ، فسرّ المسلمون وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد . وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول .
وبنو حنيفة ، قوم مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله . أمّا بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك . فأجاب عليه الصلاة والسلام : " من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب . أمّا بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " فحاربه أبو بكر رضي الله عنه بجنود المسلمين ، وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة . وكان يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية ، وشرّ الناس في الإسلام ، أراد في جاهليتي وإسلامي . وبنو أسد : قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالداً فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه . وسبع في عهد أبي بكر رضي الله عنه : فزاره قوم عيينة بن حصين وغطفان قوم قرّة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل .
وبنو يربوع ، قوم مالك بن نويرة وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب ، وفيها يقول أبو العلاء المعري في كتاب استغفر واستغفري :
أَمَّتْ سجَاحٌ وَوَالاَهَا مُسَيْلِمَة ... كَذَّابَةٌ فِي بَنِي الدُّنْيَا وَكَذَّابُ
وكندة ، قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطيم بن زيد ، وكفى الله أمرهم على يد أبي بكر رضي الله عنه . وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله عنه : غسان قوم جبلة ابن الأيهم نصرته اللطيمة وسيرته إلى بلاد الروم بعد إسلامه { فَسَوْفَ يَأْتِى الله بِقَوْمٍ } قيل :
( 355 ) لما نزلت أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري فقال : «قوم هذا» وقيل : هم ألفان من النخع ، وخمسة آلاف من كندة وبجيلة ، وثلاثة آلاف من أفناء الناس جاهدوا يوم القادسية . وقيل : هم الأنصار . وقيل :
( 356 ) سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال : «هذا وذووه» ثم قال :
« لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس » { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته ، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه ، ومحبة الله لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم : وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة ، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئا ، وهم الفرقة المفتعلة المتفعلة من الصوف ، وما يدينون به من المحبة والعشق ، والتغني على كراسيهم خربها الله ، وفي مراقصهم عطلها الله ، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء ، وصعقاتهم التي أين عنها صعقة موسى عند دكّ الطور ، فتعالى الله عنه علواً كبيراً ، ومن كلماتهم : كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته ، فإنّ الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات . ومنها : الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة ، فإذا لم يكن ذلك لم تكن فيه حقيقة . فإن قلت : أين الراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن لمعنى الشرط؟ قلت : هو محذوف معناه : فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم ، أو ما أشبه ذلك { أَذِلَّةٍ } جمع ذليل . وأما ذلول فجمعه ذلل . ومن زعم أنه من الذلّ الذي هو نقيض الصعوبة ، فقد غبى عنه أن ذلولاً لا يجمع على أذلة . فإن قلت : هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما أن يضمن الذلّ معنى الحنوّ والعطف كأنه قيل : عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع . والثاني : أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم . ونحوه قوله عزّ وجلّ : { أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] وقرىء : أذلة وأعزة بالنصب على الحال { وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ } يحتمل أن تكون الواو للحال ، على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين ، فإنهم كانوا موالين لليهود - لعنت - فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود ، فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم . وأمّا المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط . وأن تكون للعطف ، على أن من صفتهم المجاهدة في سبيل الله ، وأنهم صلاب في دينهم ، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين إنكار منكر أو أمر بمعروف ، مضوا فيه كالمسامير المحماة ، لا يرعبهم قول قائل ولا اعتراض معترض ولا لومة لائم ، يشقّ عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم . واللومة : المرّة من اللوم ، وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل : لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللوام . و { ذلك } إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة { يُؤْتِيهُ } يوفق له { مَن يَشَآءُ } ممن يعلم أنّ له لطفاً { واسع } كثير الفواضل والألطاف { عَلِيمٌ } بمن هو من أهلها .
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
عقب النهي عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين ءامَنُواْ } ومعنى ( إنما ) وجوب اختصاصهم بالموالاة . فإن قلت : قد ذكرت جماعة فهلا قيل : إنما أولياؤكم؟ قلت : أصل الكلام : إنما وليكم الله ، فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة ، ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التبع ، ولو قيل : إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا ، لم يكن في الكلام أصل وتبع وفي قراءة عبد الله : «إنما مولاكم» . فإن قلت : { الذين يُقِيمُونَ } ما محله؟ قلت : الرفع على البدل من الذين آمنوا ، أو على : هم الذين يقيمون . أو النصب على المدح . وفيه تمييز للخلص من الذين آمنوا نفاقاً ، أو واطأت قلوبهم ألسنتهم إلا أنهم مفرطون في العمل { وَهُمْ رَاكِعُونَ } الواو فيه للحال ، أي يعملون ذلك في حال الركوع وهو الخشوع والإخبات والتواضع لله إذا صلوا وإذا زكوا . وقيل : هو حال من يؤتون الزكاة ، بمعنى يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة ، و
( 357 ) أنها نزلت في عليٍّ كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه .
كأنه كان مرجاً في خنصره ، فلم يتكلف لخلعه كثير عما تفسد بمثله صلاته ، فإن قلت : كيف صحّ أن يكون لعليّ رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة؟ قلت : جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحداً ، ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقد الفقراء ، حتى إن لزهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة ، لم يؤخروه إلى الفراغ منها .
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
{ فَإِنَّ حِزْبَ الله } من إقامة الظاهر مقام المضمر . ومعناه : فإنهم هم الغالبون ، ولكنهم بذلك جعلوا أعلاماً لكونهم حزب الله . وأصل الحزب؟ القوم يجتمعون لأمر حزبهم . ويحتمل أن يريد بحزب الله : الرسول والمؤمنين . ويكون المعنى : ومن يتولهم فقد تولى حزب الله ، واعتضد بمن لا يغالب .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
روي أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث كانا قد أظهرا الإسلام ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يؤادّونهما ، فنزلت . يعني أن اتخاذهم دينكم هزواً ولعباً لا يصحّ أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء ، بل يقابل ذلك بالبغضاء والشنآن والمنابذة . وفصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفار - وإن كان أهل الكتاب من الكفار - إطلاقاً للكفار على المشركين خاصة . والدليل عليه قراءة عبد الله : «ومن الذين أشركوا» . وقرىء : «والكفار» بالنصب والجرّ . وتعضد قراءة الجرّ قراءة أُبيّ : «ومن الكفار» { واتقوا الله } في موالاة الكفار وغيرها { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } حقاً؛ لأن الإيمان حقاً يأبى موالاة أعداء الدين { اتخذوها } الضمير للصلاة أو للمناداة . قيل : كان رجلاً من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول : ( أشهد أن محمداً رسول الله ) قال : حرّق الكاذب ، فدخلت خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم ، فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت ، واحترق هو وأهله . وقيل : فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده { لاَ يَعْقِلُونَ } لأنّ لعبهم وهزؤهم من أفعال السفهاء والجهلة ، فكأنه لا عقل لهم .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
قرأ الحسن : «هل تنقمون» بفتح القاف . والفصيح كسرها . والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالكتب المنزلة كلها { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون } . فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأَنْ أَكْثَرَكُمْ فاسقون } ؟ قلت : فيه وجوه : منها أن يعطف على أن آمنا ، بمعنى : وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم وخروجكم عن الإيمان ، كأنه قيل : وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه . ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف ، أي واعتقاد أنكم فاسقون ومنها أن يعطف على المجرور ، أي وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم فاسقون . ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ، أي وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أنّ أكثركم فاسقون . ويجوز أن يكون تعليلاً معطوفاً على تعليل محذوف ، كأنه قيل : وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم واتباعكم الشهوات . ويدل عليه تفسير الحسن : بفسقكم نقمتم ذلك علينا .
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
وروي :
( 358 ) أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال : " أومن بالله وما أنزل إلينا إلى قوله : ونحن له مسلمون " فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام : ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ، ولا ديناً أشرّ من دينكم . فنزلت . وعن نعيم بن ميسرة : «وإنّ أكثركم» ، بالكسر . ويحتمل أن ينتصب ( وأن أكثركم ) بفعل محذوف يدل عليه هل تنقمون ، أي : ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون ، أو يرتفع على الابتداء والخبر محذوف ، أي [ و ] فسقكم ثابت معلوم عندكم ، لأنكم علمتم أنا على الحق وأنكم على الباطل ، إلا أن حب الرياسة وكسب الأموال لا يدعكم فتنصفوا { ذلك } إشارة إلى المنقوم ، ولا بدّ من حذف مضاف قبله ، أو قبل ( من ) تقديره : بشرّ من أهل ذلك ، أو دين من لعنه الله . و { مَن لَّعَنَهُ الله } في محل الرفع على قولك : هو من لعنه الله ، كقوله تعالى : { قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلكم النار } [ الحج : 72 ] أو في محل الجرّ على البدل من شرّ . وقرىء : «مثوبة» . «ومثوبة» . ومثالهما : مشورة ، ومشورة . فإن قلت : المثوبة مختصة بالإحسان ، فكيف جاءت في الإساءة؟ قلت : وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله :
شع تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ... ومنه { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] . فإن قلت : المعاقبون من الفريقين هم اليهود ، فلم شورك بينهم في العقوبة؟ قلت : كان اليهود - لعنوا -يزعمون أن المسلمين ضالون مستوجبون للعقاب ، فقيل لهم : من لعنه الله شرّ عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم { وَعَبَدَ الطاغوت } عطف على صلة ( من ) كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت . وفي قراءة أبيّ «وعبدوا الطاغوت» ، على المعنى . وعن ابن مسعود : «ومن عبدوا» . وقرىء : «وعابد الطاغوت» عطفاً على القردة . «وعابدي» . «وعباد» . «وعبد» . «وعبد» . ومعناه : الغلوّ في العبودية ، كقولهم ، رجل حذر وفطن ، للبليغ في الحذر والفطنة . قال :
أَبَنِي لُبَيْنَى إنَّ أُمَّكُم ... أَمَةٌ وَإنَّ أَبَاكُمُو عَبْدُ
وعبد بوزن حطم . وعبيد . وعبد - بضمتين - جمع عبيد : وعبدة بوزن كفرة . وعبد ، وأصله عبدة ، فحذفت التاء للإضافة . أو هو كخدم في جمع خادم . وعبد وعباد . وأعبد ، وعبد الطاغوت ، على البناء للمفعول ، وحذف الراجع ، بمعنى : وعبد الطاغوت فيهم ، أو بينهم ، وعبد الطاغوت بمعنى صار الطاغوت معبوداً من دون الله ، كقولك ( أمر ) إذا صار أميراً . وعبد الطاغوت ، بالجر عطفاً على { مَن لَّعَنَهُ الله } . فإن قلت : كيف جاز أن يجعل الله منهم عباد الطاغوت؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه خذلهم حتى عبدوه . والثاني : أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به ، كقوله تعالى :
{ وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } [ الزخرف : 19 ] وقيل : الطاغوت : العجل؛ لأنه معبود من دون الله ، ولأن عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان ، فكانت عبادتهم له عبادة للشيطان وهو الطاغوت . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه : أطاعوا الكهنة ، وكل من أطاع أحداً في معصية الله فقد عبده . وقرأ الحسن : «الطواغيت» . وقيل : وجعل منهم القردة أصحاب السبت ، والخنازير كفار أهل مائدة عيسى . وقيل : كلا المسخين من أصحاب السبت ، فشبانهم مسخوا قردة ، ومشايخهم مسخوا خنازير . وروي أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود ويقولون : يا أخوة القردة والخنازير فينكسون رءوسهم { أولئك } الملعونون الممسوخون { شَرٌّ مَّكَاناً } جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله . وفيه مبالغة ليست في قولك : أولئك شرّ وأضلّ ، لدخوله في باب الكناية التي هي أخت المجاز . نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقاً ، فأخبره الله تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا ، لم يتعلق بهم شيء مما سمعوا به من تذكيرك بآيات الله ومواعظك . وقوله : ( بالكفر ) و ( به ) حالان ، أي دخلوا كافرين وخرجوا كافرين . وتقديره : ملتبسين بالكفر . وكذلك قوله : ( وقد دخلوا ) ؛ ( وهم قد خرجوا ) ولذلك دخلت ( قد ) تقريباً للماضي في الحال . ولمعنى آخر : وهو أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعاً لإظهار الله ما كتموه ، فدخل حرف التوقع وهو متعلق بقوله : ( قالوا آمنا ) أي قالوا ذلك وهذه حالهم .
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
الإثم الكذب بدليل قوله تعالى : { عَن قَوْلِهِمُ الإثم } . { والعدوان } الظلم . وقيل : الإثم كلمة الشرك . وقولهم عزير ابن الله . وقيل : الإثم ما يختص بهم . والعدوان : ما يتعداهم إلى غيرهم . والمسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة { السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير لأن كل عامل لا يسمى صانعاً ، ولا كل عمل يسمى صناعة حتى يتمكن فيه ويتدرّب وينسب إليه ، وكأن المعنى في ذلك أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها ، وأما الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره ، فإذا فرط في الإنكار كان أشدّ حالاً من المواقع . ولعمري إن هذه الآية مما يقد السامع وينعي على العلماء توانيهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هي أشدّ آية في القرآن . وعن الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط ، ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه لأنهما كلامان متعقبان على حقيقة واحدة ، حتى أنه يستعمله في ملك لا يعطي عطاء قط ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وبسطها وقبضها ، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلاً لقالوا : ما أبسط يده بالنوال ، لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود ، وقد استعملوهما حيث لا تصحّ اليد كقوله :
جَادَ الْحِمَى بَسْطُ الْيَدَيْنِ بِوَابِل ... شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلاَعُه وَوِهَادُهُ
ولقد جعل لبيد للشمال يداً في قوله :
إذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمَالِ زِمَامُهَا ... ويقال بسط اليأس كفيه في صدري ، فجعلت لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان . ومن لم ينظر في علم البيان عمي عن تبصر محجة الصواب في تأويل أمثال هذه الآية ، ولم يتخلص من يد الطاعن إذا عبثت به . فإن قلت : قد صحّ أن قولهم : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } عبارة عن البخل . فما تصنع بقوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } ؟ ومن حقه أن يطابق ما تقدمه وإلا تنافر الكلام وزل عن سننه؟ قلت : يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل والنكد ، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم . ونحوه بيت الأشتر :
بَقِيتُ وَفْرى وَانْحَرَفْتُ عَنِ الْعُلا ... وَلَقِيتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ
ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة ، يغللون في الدنيا أسارى ، وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم : والطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز ، كما تقول : سبني سب الله دابره ، أي قطعه؛ لأنَّ السَّب أصله القطع . فإن قلت : كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ قلت : المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم ، فيزيدون بخلاً إلى بخلهم ونكداً إلى نكدهم ، أو بما هو مسبب عن البخل والنكد من لصوق العار بهم وسوء الأحدوثة التي تخزيهم وتمزق أعراضهم . فإن قلت : لم ثنيت اليد في قوله تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وهي مفردة في { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } ؟ قلت : ليكون ردّ قولهم وإنكاره أبلغ وأدل على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه . وذلك أنّ غاية ما يبذله السخي بماله من نفسه أن يعطيه بيديه جميعاً فبني المجاز على ذلك . وقرىء : «ولعنوا» بسكون العين . وفي مصحف عبد الله : «بل يداه بسطان» . يقال : يده بسط بالمعروف . ونحوه مشية شحح وناقة صرح { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } تأكيد للوصف بالسخاء ، ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة .
روي أن الله تبارك وتعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً ، فلما عصوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف الله تعالى ما بسط عليهم من السعة ، فعند ذلك قال فنحاص ابن عازوراء : يد الله مغلولة ، ورضي بقوله الآخرون فأشركوا فيه { وَلَيَزِيدَنَّ } أي يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تمادياً في الجحود وكفروا بآيات الله { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة } فكلمهم أبداً مختلف ، وقلوبهم شتى ، لا يقع اتفاق بينهم ولا تعاضد { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً } كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله على أحد قط ، وقد أتاهم الإسلام في ملك المجوس . وقيل : خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين . وقيل : كلما حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نصر عليهم . وعن قتادة رضي الله عنه لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس { وَيَسْعَوْنَ } ويجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتبهم .
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب } مع ما عددنا من سيآتهم { ءامَنُواْ } برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به . وقرنوا إيمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ } تلك السيئات ولم نؤاخذهم بها { ولأدخلناهم } مع المسلمين الجنة . وفيه إعلام بعظهم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيآتهم ، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى ، وأن الإيمان لا ينجي ولا يسعد إلا مشفوعاً بالتقوى ، كما قال الحسن : هذا العمود فأين الإطناب { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } من سائر كتب الله ، لأنهم مكلفون الإيمان بجميعها ، فكأنها أنزلت إليهم؛ وقيل : هو القرآن . لوسع الله عليهم الرزق وكانوا قد قحطوا . وقوله : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } عبارة عن التوسعة . وفيه ثلاث أوجه : أن يفيض عليهم بركات السماء وبركات الأرض وأن يكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلة أن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر ، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم { مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } طائفة حالها أمم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : هي الطائفة المؤمنة عبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون من النصارى ، و { سَاء مَا يَعْمَلُونَ } فيه معنى التعجب ، كأنه قيل : وكثير منهم ما أسوأ عملهم ، وقيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
{ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } جميع ما أنزل إليك وأي شيء أنزل إليك غير مراقب في تبليغه أحداً ، ولا خائف أن ينالك مكروه { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } وإن لم تبلغ جميعه كما أمرتك { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } وقرىء : «رسالاته» ، فلم تبلغ إذاً ما كلفت من أداء الرسالات ، ولم تؤدّ منها شيئاً قط ، وذلك أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض ، وإن لم تؤدّ بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً ، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها ، لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها . وكونا كذلك في حكم شيء واحد . والشيء الواحد لا يكون مبلغاً غير مبلغ ، مؤمناً به غير مؤمن به . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إن كتمت آية لم تبلغ رسالاتي . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 359 ) " بعثني الله برسالاته فضقت بها ذرعاً ، فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك . وضمن لي العصمة فقويت " فإن قلت : وقوع قوله : { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } جزاء للشرط ما وجه صحته؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبيلغ الرسالات وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولاً كان أمراً شنيعاً لاخفاء بشناعته ، فقيل : إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كان كلمة واحدة ، فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها ، كما عظم قتل النفس بقوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] والثاني : أن يراد : فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده قوله عليه الصلاة والسلام : " فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك " { والله يَعْصِمُكَ } عدة من الله بالحفظ والكلاءة والمعنى : والله يضمن لك العصمة من أعدائك ، فما عذرك في مراقبتهم؟ فإن قلت : أين ضمان العصمة
( 360 ) وقد شجّ في وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته صلوات الله عليه؟ قلت : المراد أنه يعصمه من القتل . وفيه : أن عليه أن يحتمل كل ما دون النفس في ذات الله ، فما أشدّ تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقيل : نزلت بعد يوم أحد ، والناس الكفار بدليل قوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين } ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك . وعن أنس :
( 361 ) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت ، فأخرج رأسه من قبة أدم وقال : " انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس " .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
{ لَسْتُمْ على شَىْء } أي على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه ، كما تقول : هذا ليس بشيء تريد تحقيره وتصغير شأنه . وفي أمثالهم : أقل من لا شيء { فَلاَ تَأْسَ } فلا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم ، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ، وفي المؤمنين غنى عنهم .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
{ والصابئون } رفع على الابتداء وخبره محذوف ، والنية به التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها ، كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا ، والصابئون كذلك ، وأنشد سيبويه شاهداً له :
وإلاَّ فَاعْلَمُوا أَنَّا وَأَنْتُم ... بُغَاةٌ مَا بَقِيْنَا فِي شِقَاقِ
أي فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك ، فإن قلت : هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل إن واسمها؟ قلت : لا يصحّ ذلك قبل الفراغ من الخبر ، لا تقول : إن زيداً وعمرو منطلقان . فإن قلت لم لا يصحّ والنية به التأخير ، فكأنك قلت : إن زيداً منطلق وعمرو؟ قلت : لأني إذا رفعته رفعته عطفاً على محل إن واسمها ، والعامل في محلهما هو الابتداء ، فيجب أن يكون هو العامل في الخبر لأن الابتداء ينتظم الجزأين في عمله كما تنتظمها ( إن ) في عملها؛ فلو رفعت الصابئون المنويّ به التأخير بالابتداء وقد رفعت الخبر بأنّ ، لأعملت فيهما رافعين مختلفين . فإن قلت : فقوله والصابئون معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟ قلت : هو مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ . . . } الخ ولا محل لها ، كما لا محل للتي عطفت عليها ، فإن قلت : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة ، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت : فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صحّ منهم الإيمان والعمل الصالح ، فما الظنّ بغيرهم . وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدّهم غياً ، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها ، أي خرجوا ، كما أن الشاعر قدم قوله : ( وأنتم ) تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه ، حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو ( بغاة ) لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم ، مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدماً فإن قلت : فلو قيل : والصابئين وإياكم لكان التقديم حاصلاً . قلت : لو قيل : هكذا لم يكن من التقديم في شيء ، لأنه لا إزالة فيه عن موضعه ، وإنما يقال مقدّم ومؤخر للمزال لا للقارّ في مكانه . ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض في الكلام ، فإن قلت : كيف قال : { الذين آمنوا } ثم قال : { مَنْ ءامَنَ } ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد بالذين آمنوا : الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون وأن يراد بمن آمن . من ثبت على الإيمان واستقام ولم يخالجه ريبة فيه . فإن قلت : ما محل من آمن قلت : إما الرفع على الابتداء وخبره { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ثم الجملة كما هي خبر إن ، وإما النصب على البدل من اسم إن وما عطف عليه ، أو من المعطوف عليه . فإن قلت : فأين الراجع إلى اسم إن؟ قلت : هو محذوف تقديره من آمن منهم ، كما جاء في موضع آخر . وقرىء : «والصابيون» ، بياء صريحة ، وهو من تخفيف الهمزة ، كقراءة من قرأ : «يستهزيون» . «والصابون» : وهو من صبوت ، لأنهم صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم ولم يتبعوا أدلة العقل والسمع . وفي قراءة أبيّ رضي الله عنه : «والصابئين» ، بالنصب . وبها قرأ ابن كثير . وقرأ عبد الله : «يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون» .
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
{ لَقَدْ أَخَذْنَا } ميثاقهم بالتوحيد { وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً } ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم { كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ } جملة شرطية وقعت صفة لرسلاً ، والراجع محذوف أي رسول منهم { بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ } بما يخالف هواهم ويضادّ شهواتهم من مشاق التكليف والعمل بالشرائع . فإن قلت : أين جواب الشرط فإن قوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ناب عن الجواب ، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه يحسن أن تقول إن أكرمت أخي أخاك أكرمت؟ قلت : هو محذوف يدل عليه قوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } كأنه قيل كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه ، وقوله : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ } جواب مستأنف لقائل يقول : كيف فعلوا برسلهم؟ فإن قلت : لم جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً؟ قلت : جيء يقتلون على حكاية الحال الماضية استفظاعاً للقتل واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها . قرىء : أن لا يكون ، بالنصب على الظاهر . وبالرفع عن ( أن ) هي المخففة من الثقيلة ، أصله : أنه لا يكون فتنة فخففت ( أن ) وحذف ضمير الشأن .
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
فإن قلت : كيف دخل فعل الحسبان على ( أن ) التي للتحقيق؟ قلت : نزل حسبانهم لقوّته في صدورهم منزلة العلم : فإن قلت : فأين مفعولا حسب؟ قلت : سدّ ما يشتمل عليه صلة أن وأنّ من المسند والمسند إليه مسدّ المفعولين ، والمعنى : وحسب بنو إسرائيل أنه لا يصيبهم من الله فتنة ، أي بلاء وعذاب في الدنيا والآخرة { فَعَمُواْ } عن الدين { وَصَمُّواْ } حين عبدوا العجل ، ثم تابوا عن عبادة العجل ف { تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } كرة ثانية بطلبهم المحال غير المعقول في صفات الله وهو الرؤية : وقرىء : «عموا وصموا» ، بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم ، أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم ، كما يقال : نزكته إذا ضربته بالنيزك وركبته إذا ضربته بركبتك { كَثِيرٌ مّنْهُمْ } بدل من الضمير : أو على قولهم : أكلوني البراغيث ، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم .
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
لم يفرق عيسى عليه الصلاة والسلام بينه وبينهم في أنه عبد مربوب كمثلهم ، وهو احتجاج على النصارى { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله } في عبادته ، أو فيما هو مختص به من صفاته أو أفعاله { فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة } التي هي دار الموحدين أي حرّمه دخولها ومنعه منه ، كما يمنع المحرّم من المحرّم عليه { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } من كلام الله على أنهم ظلموا وعدلوا عن سبيل الحق فيما تقوّلوا على عيسى عليه السلام ، فلذلك لم يساعدهم عليه ولم ينصر قولهم ردّه وأنكره ، وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره . أو من قول عيسى عليه السلام ، على معنى : ولا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن المعقول . أو [ و ] لا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب الله .
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
من في قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد } للاستغراق وهي القدرة مع ( لا ) التي لنفي الجنس في قولك { لاَ إله إِلاَّ الله } والمعنى : وما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له ، وهو الله وحده لا شريك له : و ( من ) في قوله : { لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ } للبيان كالتي في قوله تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] فإن قلت : فهلا قيل : ليمسنهم عَذَابٌ أَلِيمٌ . قلت : في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ } وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير ( الذين كفروا منهم ) أنهم بمكان من الكفر . والمعنى : ليمسنّ الذين كفروا من النصارى خاصة { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي نوع شديد الألم من العذاب كما تقول : أعطني عشرين من الثياب ، تريد من الثياب خاصة لا من غيرها من الأجناس التي يجوز أن يتناولها عشرون . ويجوز أن تكون للتبعيض ، على معنى : ليمسنّ الذين بقوا على الكفر منهم ، لأنّ كثيراً منهم تابوا من النصرانية { أَفَلاَ يَتُوبُونَ } ألا يتوبون بعد هذه الشهادة المكرّرة عليهم بالكفر . وهذا الوعيد الشديد مما هم عليه . وفيه تعجب من إصرارهم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفر لهؤلاء إن تابوا ولغيرهم { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } صفة لرسول ، أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها ، أن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده ، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى ، وفلق بها البحر ، وطمس على يد موسى . وإن خلقه من غير ذكر ، فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى { وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ } أي وما أمه أيضاً إلا كصديقة كبعض النساء المصدّقات للأنبياء المؤمنات بهم ، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين : أحدهما نبي ، والآخر صحابي . فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه . ثم صرح ببعدهما عما نسب إليهما في قوله : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام { كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الأيات } أي الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم : { أنى يُؤْفَكُونَ } كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله . فإن قلت : ما معنى التراخي في قوله ثم انظر؟ قلت : معناه ما بين العجبين ، يعني أنه بين لهم الآيات بياناً عجيباً ، وإنّ إعراضهم عنها أعجب منه .
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
{ مَا لاَ يَمْلِكُ } هو عيسى ، أي شيئاً لا يستطيع أن يضركم بمثل ما يضركم به الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال ، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب ، ولأنّ كل ما يستطيعه البشر من المضارّ والمنافع فبإقدار الله وتمكينه ، فكأنه لا يملك منه شيئاً . وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية ، حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً . وصفة الرب أن يكون قادراً على كل شيء لا يخرج مقدور على قدرته { والله هُوَ السميع العليم } متعلق ب ( أتعبدون ) ، أي أتشركون بالله ولا تخشونه ، وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون أو أتعبدون العاجز والله هو السميع العليم الذي يصح منه أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم ، ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
{ غَيْرَ الحق } صفة للمصدر أي لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق أي غلوا باطلاً؛ لأنّ الغلو في الدين غلوَّان غلوّ حق : وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون من أهل العدل والتوحيد رضوان الله عليهم . وغلوّ باطل وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه ، كما يفعل أهل الأهواء والبدع { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } هم أئمتهم في النصرانية ، كانوا على الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } ممن شايعهم على التثليث { وَضَلُّواْ } لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم { عَن سَوَاء السبيل } حين كذبوه وحسدوه وبغوا عليه .
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
نزّل الله لعنهم في الزبور { على لِسَانِ دَاوُودُ } وفي الإنجيل على لسان عيسى . وقيل إن أهل أيلة ، لما اعتدوا في السبت قال داود عليه السلام : اللَّهم العنهم واجعلهم آية ، فمسخوا قردة . ولما كفر أصحاب عيسى عليه السلام بعد المائدة قال عيسى عليه السلام : اللَّهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين ، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت ، فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ، ما فيهم امرأة ولا صبيّ { ذلك بِمَا عَصَواْ } أي لم يكن ذلك اللعن الشنيع الذي كان سبب المسخ ، إلا لأجل المعصية والاعتداء ، لا لشيء آخر؛ ثم فسر المعصية والاعتداء بقوله : { كَانُواْ لاَ يتناهون } لا ينهى بعضهم بعضاً { عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } ثم قال : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } للتعجيب من سوء فعلهم ، مؤكداً لذلك بالقسم ، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير ، وقلة عبثهم به ، كأنه ليس من ملة الإسلام في شيء مع ما يتلون من كلام الله وما فيه من المبالغات في هذا الباب . فإن قلت كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيراً للمعصية والاعتداء؟ قلت : من قبل أنّ الله تعالى أمر بالتناهي ، فكان الإخلال به معصية وهو اعتداء ، لأنّ في التناهي حسماً للفساد فكان تركه على عكسه . فإن قلت : ما معنى وصف المنكر بفعلوه ، ولا يكون النهي بعد الفعل؟ قلت : معناه لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن مثل منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله ، كما ترى أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوّى وتهيأ فتنكر . ويجوز أن يراد : لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه ، بل يصبرون عليه ويداومون على فعله . يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه وتركه { ترى كَثِيراً مّنْهُمْ } هم منافقو أهل الكتاب ، كانوا يوالون المشركين ويصافونهم { أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ } هو المخصوص بالذمّ ، ومحله الرفع ، كأنه قيل : لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم . والمعنى : موجب سخط الله { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ } إيماناً خالصاً غير نفاق ما اتخذوا المشركين { أَوْلِيَاء } يعني أنّ موالاة المشركين كفى بها دليلاً على نفاقهم ، وأنّ إيمانهم ليس بإيمان { ولكن كَثِيراً مّنْهُمْ فاسقون } متمرّدون في كفرهم ونفاقهم . وقيل معناه : ولو كانوا يؤمنون بالله وموسى كما يدّعون ، ما اتخذوا المشركين أولياء كما لم يوالهم المسلمون .
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
وصف الله شدّة شكيمة اليهود وصعوبة إجابتهم إلى الحق ولين عريكة النصارى وسهولة ارعوائهم وميلهم إلى الإسلام ، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدّة العداوة للمؤمنين ، بل نبه على تقدّم قدمهم فيها بتقديمهم على الذين أشركوا ، وكذلك فعل في قوله : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ } [ البقرة : 96 ] ولعمري إنهم لكذلك وأشدّ . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :
( 362 ) " ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله " وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودّتهم للمؤمنين { بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً } أي علماء وعباداً { وَإِنَّهُمْ } قوم فيهم تواضع واستكانة ولا كبر فيهم ، واليهود على خلاف ذلك . وفيه دليل بين على أنّ التعلم أنفع شيء وأهداه إلى الخير وأدله على الفوز حتى علم القسيسين ، وكذلك غم الآخرة والتحدّث بالعاقبة وإن كان في راهب ، والبراءة من الكبر وإن كانت في نصراني . ووصفهم الله برقة القلوب وأنهم يبكون عند استماع القرآن ، وذلك نحو ما يحكى عن النجاشيّ رضي الله عنه أنه قال لجعفر بن أبي طالب - حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة والمشركون لعنوا وهم يغرونه عليهم ويتطلبون عنتهم عنده - : هل في كتابكم ذكر مريم؟ قال جعفر : فيه سورة تنسب إليها ، فقرأها إلى قوله : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ مريم : 34 ] وقرأ سورة طه إلى قوله : { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } [ طه : 9 ] فبكى النجاشي وكذلك فعل قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم سبعون رجلاً حين قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس . فبكوا . فإن قلت : بم تعلقت اللام في قوله : { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } ؟ قلت : بعداوة ومودّة ، على أنّ عداوة اليهود التي اختصت المؤمنين أشدّ العداوات وأظهرها ، وأن مودّة النصارى التي اختصت المؤمنين أقرب المودّات ، وأدناها وجوداً ، وأسهلها حصولاً . ووصف اليهود بالعداوة والنصارى بالمودّة مما يؤذن بالتفاوت ، ثم وصف العداوة والمودّة بالأشدّ والأقرب . فإن قلت : ما معنى قوله : { تَفِيضُ مِنَ الدمع } قلت : معناه تمتلىء من الدمع حتى تفيض ، لأن الفيض أن يمتلىء الإناء أو غيره حتى يطلع ما فيه من جوانبه ، فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الإمتلاء ، وهو من إقامة المسبب مقام السبب ، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها ، أي تسيل من الدمع من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعاً فإن قلت : أي فرق بين من ومن في قوله : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } ؟ قلت الأولى لابتداء الغاية ، على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق ، وكان من أجله وبسببه . والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا . وتحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق ، فأبكاهم وبلغ منهم ، فكيف إذا عرفوه كله وقرؤا القرآن وأحاطوا بالسنة؟ وقرىء «ترى أعينهم» على البناء للمفعول { رَبَّنَا ءامَنَّا } المراد به إنشاء الإيمان ، والدخول فيه { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم شهداء على سائر الأمم يوم القيامة
{ لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله } إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين ، وقيل : لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك . أو أرادوا : وما لنا لا نؤمن بالله وحده لأنهم كانوا مثلثين ، وذلك ليس بإيمان بالله : ومحل ( لا نؤمن ) النصب على الحال ، بمعنى : غير مؤمنين ، كقولك مالك قائماً . والواو في { وَنَطْمَعُ } واو الحال . فإن قلت : ما العامل في الحال الأولى والثانية؟ قلت : العامل في الأولى ما في اللام من معنى الفعل ، كأنه قيل : أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ، وفي الثانية معنى هذا الفعل ، ولكن مقيداً بالحال الأولى؛ لأنك لو أزلتها وقلت : وما لنا ونطمع ، لم يكن كلاماً . ويجوز أن يكون ( ونطمع ) حالاً من لا نؤمن ، على أنهم أنكروا على نفوسهم أنهم لا يوحدون الله ، ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين ، وأن يكون معطوفاً على لا نؤمن على معنى : وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصاحين ، أو على معنى : وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام ، لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين . قرأ الحسن : «فآتاهم» { بِمَا قَالُواْ } بما تكلموا به عن اعتقاد وإخلاص ، من قولك : هذا قول فلان ، أي اعتقاده وما يذهب إليه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
{ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ } ما طاب ولذ من الحلال . ومعنى { لاَ تُحَرّمُواْ } لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم . أو لا تقولوا حرّمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً وروي :
( 363 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة يوماً لأصحابه ، فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار ، فرقوا واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون ، واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين ، وأن لا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح ويسيحوا في الأرض ، ويجبوا مذاكيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : « إني لم أومر بذلك ، إن لأنفسكم عليكم حقاً ، فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني » ونزلت . وروي :
( 364 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الدجاج والفالوذ ، وكان يعجبه الحلواء والعسل . وقال : « إن المؤمن حلو يحب الحلاوة » ، وعن ابن مسعود أن رجلاً قال له : إني حرمت الفراش فتلا هذه الآية وقال : نم على فراشك وكفر عن يمينك . وعن الحسن أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السنجيّ وأصحابه ، فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك ، فاعتزل فرقد ناحية ، فسأل الحسن : أهو صائم؟ قالوا : لا ، ولكنه يكره هذه الألوان . فأقبل الحسن عليه وقال : يا فريقد ، أترى لعاب النحل بلباب البرّ بخالص السمن يعيبه مسلم . وعنه أنه قيل له . فلان لا يأكل الفالوذ ويقول : لا أؤدّي شكره . قال : أفيشرب الماء البارد؟ قالوا : نعم . قال : إنه جاهل ، إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ . وعنه أن الله تعالى أدّب عباده فأحسن أدبهم . قال الله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ } [ الطلاق : 7 ] ما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا ، ولا عذر قوماً زواهاً عنهم فعصوه { وَلاَ تَعْتَدُواْ } ولا تتعدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرّم عليكم . أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات . أو جعل تحريم الطيبات اعتداء وظلماً ، فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها دخولاً أولياً لوروده على عقبه أو أراد ولا تعتدوا بذلك { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } أي من الوجوه الطيبة التي تسمى رزقاً { حلالا } حال مما رزقكم الله { واتقوا الله } تأكيد للتوصية بما أمر به . وزاده تأكيداً بقوله : { الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } لأنّ الإيمان به يوجب التقوى في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه .
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
اللغو في اليمين : الساقط الذي لا يتعلق به حكم : واختلف فيه ، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عنه فقالت : هو قول الرجل «لا والله ، بلى والله» وهو مذهب الشافعي . وعن مجاهد : هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن . وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله { بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية . وروي أن الحسن رضي الله عنه سئل عن لغو اليمين وكان عنده الفرزدق فقال : يا أبا سعيد ، دعني أجب عنك فقال :
وَلَسْتُ بِمَأْخُوذِ بِلَغْوٍ تَقُولُه ... إِذَا لَمْ تَعَمَّدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ
وقرىء : «عقدتم» ، بالتخفيف . «وعاقدتم» . والمعنى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم ، فحذف وقت المؤاخذة . لأنه كان معلوماً عندهم ، أو بنكث ما عقدتم . فحذف المضاف { فَكَفَّارَتُهُ } فكفارة نكثه . والكفارة : الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ } من أقصده ، لأنّ منهم من يسرف في إطعام أهله ، ومنهم من يقتر وهو عند أبي حنيفة رحمه الله نصف صاع من برّ أو صاع من غيره لكل مسكين ، أو يغديهم ويعشيهم . وعند الشافعي رحمه الله : مدّ لكل مسكين . وقرأ جعفر بن محمد : «أهاليكم» ، بسكون الياء ، والأهالي : اسم جمع لأهل : كالليالي في جمع ليلة ، والأراضي في جمع أرض . وقولهم : ( أهلون ) كقولهم ( أرضون ) بسكون الراء . وأما تسكين الياء في حال النصب فللتخفيف ، كما قالوا : رأيت معد يكرب ، تشبيها للياء بالألف { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } عطف على محل ( من أوسط ) وقرىء بضم الكاف ، ونحوه : قُدوة في قِدوة ، وأسوة في إسوة ، والكسوة ثوب يغطي العورة ، وعن ابن عباس رضي الله عنه كانت العباءة تجزىء يومئذٍ . وعن ابن عمر : إزار أو قميص أو رداء أو كساء . وعن مجاهد : ثوب جامع . وعن الحسن : ثوبان أبيضان . وقرأ سعيد بن المسيب واليماني : «أو كأسوتهم» ، بمعنى : أو مثل ماتطعمون أهليكم إسرافاً كان أو تقتيراً . لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم ، ولكن تواسون بينهم وبينهم . فإن قلت : ما محل الكاف؟ قلت : الرفع ، تقديره : أو طعامهم كأسوتهم ، بمعنى : كمثل طعامهم إن لم يطعموهم الأوسط { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } شرط الشافعي رحمه الله الإيمان قياساً على كفارة القتل . وأما أبو حنيفة وأصحابه ، فقد جوّزوا تحرير الرقبة الكافرة في كل كفارة سوى كفارة القتل . فإن قلت : ما معنى أو؟ قلت : التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث على الاطلاق ، بأيتها أخذ المكفر فقد أصاب { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } إحداها { فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ } متتابعات عند أبي حنيفة رحمه الله ، تمسكاً بقراءة أبيّ وابن مسعود رضي الله عنهما : «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» . وعن مجاهد : كل صوم متتابع إلا قضاء رمضان ، ويخير في كفارة اليمين { ذلك } المذكور { كَفَّارَةُ أيمانكم } ولو قيل : تلك كفارة أيمانكم ، لكان صحيحاً بمعنى تلك الأشياء أو لتأنيث الكفارة .
والمعنى { إِذَا حَلَفْتُمْ } وحنثتم . فترك ذكر الحنث لوقوع العلم بأنّ الكفارة إنما تجب بالحنث في الحلف ، لا بنفس الحلف ، والتكفير قبل الحنث لا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه ويجوز عند الشافعي بالمال إذا لم يعص الحانث { واحفظوا أيمانكم } فبروا فيها ولا تحنثوا أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية ، لأن الأيمان اسم جنس يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله . وقيل : احفظوها بأن تكفروها . وقيل : احفظوها كيف حلفتم بها ، ولا تنسوها تهاوناً بها { كذلك } مثل ذلك البيان { يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته } أعلام شريعته وأحكامه { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج منه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد منها تصدير الجملة بإنما ، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام
( 365 ) « شارب الخمر كعابد الوثن » ومنها أنه جعلهما رجساً ، كما قال تعالى : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان ، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحت ، ومنها أنه أمر بالاجتناب . ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح ، وإذا كان الاجتناب فلاحاً ، كان الارتكاب خيبة ومحقة . ومنها أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال ، وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب الخمر والقمر ، وما يؤدّيان إليه من الصدّ عن ذكر الله ، وعن مراعاة أوقات الصلاة . وقوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } من أبلغ ما ينهى عنه ، كأنه قيل : قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع ، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون . أم أنتم على ما كنتم عليه ، كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟ فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : { فاجتنبوه } ؟ قلت : إلى المضاف المحذوف ، كأنه قيل : إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك . ولذلك قال : { رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشيطان } فإن قلت : لم جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولاً ثم أفردهما آخراً؟ قلت : لأن الخطاب مع المؤمنين . وإنما نهاهم عما كانوا يتعاطونه من شرب الخمر واللعب بالميسر ، وذكر الأنصاب والأزلام لتأكيد تحريم الخمر والميسر ، وإظهار أنّ ذلك جميعاً من أعمال الجاهلية وأهل الشرك ، فوجب اجتنابه بأسره ، وكأنه لا مباينة بين من عبد صنماً وأشرك بالله في علم الغيب ، وبين من شرب خمراً أو قامر ، ثم أفردهما بالذكر ليرى أن المقصود بالذكر الخمر والميسر . وقوله : { وَعَنِ الصلاة } اختصاص للصلاة من بين الذكر كأنه قيل : وعن الصلاة خصوصاً .
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
{ واحذروا } وكونوا حذرين خاشين ، لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة . ويجوز أن يراد : واحذروا ما عليكم في الخمر ولميسر ، أو في ترك طاعة الله والرسول { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا } أنكم لم تضروا بتوليكم الرسول ، لأنّ الرسول ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات ، وإن ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتم .
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
رفع الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذات المطاعم ومشتهياتها { إِذَا مَا اتقوا } ما حرم عليهم منها { وَءامَنُواْ } وثبتوا على الإيمان والعمل الصالح وازدادوه { ثُمَّ اتَّقَواْ وَءامَنُواْ } ثم ثبتوا على التقوى والإيمان { ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } ثم ثبتوا على اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم ، أو أحسنوا إلى الناس : واسوهم بما رزقهم الله من الطيبات . وقيل
( 366 ) لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة : يا رسول الله ، فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فنزلت . يعني أن المؤمنين لا جناح عليهم في أي شيء طعموه من المباحات إذا ما اتقوا المحارم ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، على معنى : أنّ أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم وحمداً لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان . ومثاله أن يقال لك : هل على زيد فيما فعل جناح؟ فتقول - وقد علمت أن ذلك أمر مباح - : ليس على أحد جناح في المباح ، إذا اتقى المحارم ، وكان مؤمناً محسناً ، تريد : أن زيداً تقيّ مؤمن محسن؛ وأنه غير مؤاخذ بما فعل .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
نزلت عام الحديبية ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون ، وكثر عندهم حتى كان يغشاهم في رحالهم فيستمكنون من صيده ، أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم { لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب } ليتميز من يخاف عقاب الله وهو غائب منتظر في الآخرة فيتقي الصيد ، ممن لا يخافه فيقدم عليه { فَمَنِ اعتدى } فصاد { بَعْدَ ذَلِكَ } الابتلاء فالوعيد لاحق به . فإن قلت : ما معنى التقليل والتصغير في قوله : { بِشَىْء مّنَ الصيد } ؟ قلت : قلل وصغر ليعلم أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابتين ، كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال ، وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك ، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده فكيف شأنهم عند ما هو أشدّ منه . وقرأ إبراهيم : يناله ، بالياء .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
{ حَرَّمَ } محرمون ، جمع حرام ، كردح في جمع رداح . والتعمد : أن يقتله وهو ذاكر لإحرامه ، أو عالم أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله ، فإن قتله وهو ناس لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد فإذا هو صيد ، أو قصد برميه غير صيد فعدل السهم عن رميته فأصاب صيداً فهو مخطىء . فإن قلت : فمحظورات الإحرام يستوي فيها العمد والخطأ ، فما بال التعمد مشروطاً في الآية؟ قلت : لأن مورد الآية فيمن تعمد؛ فقد روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش ، فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله ، فقيل له : إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت ولأن الأصل فعل التعمد ، والخطأ لاحق به للتغليظ . ويدل عليه قوله تعالى : { لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } وعن الزهري : نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ وعن سعيد بن جبير : لا أرى في الخطأ شيئاً أخذاً باشتراط العمد في الآية . وعن الحسن روايتان { فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ } برفع جزاء ومثل جميعاً ، بمعنى : فعليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد ، وهو عند أبي حنيفة قيمة المصيد يقوّم حيث صيد . فإن بلغت قيمته ثمن هدى ، تخير بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد ، وبين أن يشتري بقيمته طعاماً ، فيعطي كل مسكين نصف صاع من برّ أو صاع من غيره ، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً ، فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين صام عنه يوماً أو تصدّق به . وعند محمد والشافعي رحمهما الله مثله نظيره من النعم ، فإن لم يوجد له نظير من النعم عدل إلى قول أبي حنيفة رحمه الله . فإن قلت : فما يصنع من يفسر المثل بالقيمة بقوله : { مِنَ النعم } وهو تفسير للمثل ، وبقوله : هدياً بالغ الكعبة؟ قلت : قد خير من أوجب القيمة بين أن يشتري بها هدياً أو طعاماً أو يصوم ، كما خير الله تعالى في الآية . فكان قوله : { مِنَ النعم } بياناً للهدى المشترى بالقيمة في أحد وجوه التخيير؛ لأن من قوم الصيد واشترى بالقيمة هدياً فأهداه ، فقد جزى بمثل ما قتل من النعم . على أن التخيير الذي في الآية بين أن يجزي بالهدى أو يكفر بالإطعام أو بالصوم ، إنما يستقيم استقامة ظاهرة بغير تعسف إذا قوّم ونظر بعد التقويم أيّ الثلاثة يختار ، فأما إذا عمد إلى النظير وجعله الواجب وحده من غير تخيير - فإذا كان شيئاً لا نظير له قوّم حينئذٍ ، ثم يخير بين الإطعام والصوم - ففيه نبوّ عما في الآية . ألا ترى إلى قوله تعالى : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } كيف خير بين الأشياء الثلاثة ، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقويم .
وقرأ عبد الله : فجزاؤه مثل ما قتل ، وقرىء : فجزاء مثل ما قتل ، على الإضافة ، وأصله . فجزاء مثل ما قتل ، بنصب مثل بمعنى : فعليه أن يجزى مثل ما قتل ، ثم أضيف كما تقول : عجبت من ضرب زيد ، وقرأ السلميّ على الأصل وقرأ محمد بن مقاتل ، فجزاء مثل ما قتل ، بنصبهما ، بمعنى : فليجز جزاء مثل ما قتل . وقرأ الحسن : من النعم . بسكون العين ، استثقل الحركة على حرف الحلق فسكنه { يَحْكُمُ بِهِ } بمثل ما قتل { ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } حكمان عادلان من المسلمين . قالوا : وفيه دليل على أن المثل القيمة ، لأنّ التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون الأشياء المشاهدة . وعن قبيصة أنه أصاب ظبياً وهو محرم فسأل عمر ، فشاور عبد الرحمن بن عوف ، ثم أمره بذبح شاة ، فقال قبيصة لصاحبه : والله ما علم أمير المؤمنين حتى سأل غيره ، فأقبل عليه ضرباً بالدرّة وقال : أتغمص الفتيا وتقتل الصيد وأنت محرم . قال الله تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } فأنا عمر ، وهذا عبد الرحمن . وقرأ محمد بن جعفر ( ذو عدل منكم ) ، أراد يحكم به من يعدل منكم ولم يرد الوحدة . وقيل أراد الإمام { هَدْياً } حال عن جزاء فيمن وصفه بمثل ، لأنّ الصفة خصصته فقرّبته من المعرفة ، أو بدل عن مثل فيمن نصبه ، أو عن محله فيمن جرّه . ويجوز أن ينتصب حالاً عن الضمير في به . ووصف هدياً ب { بالغ الكعبة } لأن إضافته غير حقيقية . ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم ، فأما التصدّق به فحيث شئت عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي في الحرم . فإن قلت : بم يرفع { كَفَّارَةٌ } من ينصب جزاء؟ قلت : يجعلها خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل : أو الواجب عليه كفارة . أو يقدر : فعليه أن يجزي جزاء أو كفارة . فيعطفها على أن يجزي . وقرىء : أو كفارة طعام مساكين على الإضافة ، وهذه الإضافة مبينة ، كأنه قيل : أو كفارة من طعام مساكين ، كقولك : خاتم فضة ، بمعنى خاتم من فضة . وقرأ الأعرج : أو كفارة طعام مسكين . وإنما وحد ، لأنه واقع موقع التبيين ، فاكتفى بالواحد الدال على الجنس . وقرىء : أو عدل ذلك ، بكسر العين . والفرق بينهما أن عدل الشيء ما عادله من غير جنسه ، كالصوم والإطعام . وعدله ما عدل به في المقدار ، ومنه عدلا الحمل ، لأن كل واحد منهما عدل بالآخر حتى اعتدلا ، كأن المفتوح تسمية المصدر ، والمكسور بمعنى المفعول به ، كالذبح ونحوه ، ونحوهما الحمل والحمل . و { ذلك } إشارة إلى الطعام { وصياماً } تمييز للعدل كقولك : لي مثله رجلاً . والخيار في ذلك إلى قاتل الصيد عند أبي حنيفة وأبي يوسف . وعند محمد إلى الحكمين { لّيَذُوقَ } متعلق بقوله : ( فجزاء ) أي فعليه أن يجازي أو يكفر ، ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام .
والوبال : المكروه والضرر الذي يناله في العاقبة من عمل سوء لثقله عليه ، كقوله تعالى : { فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً } [ المزمل : 16 ] ثقيلاً . والطعام الوبيل : الذي يثقل على المعدة فلا يستمرأ { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } لكم من الصيد في حال الإحرام قبل أن تراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألوه عن جوازه . وقيل : عما سلف لكم في الجاهلية منه ، لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرماً { وَمَنْ عَادَ } إلى قتل الصيد وهو محرم بعد نزول النهي { فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } ينتقم : خبر مبتدأ محذوف تقديره . فهو ينتقم الله منه ، ولذلك دخلت الفاء . ونحوه { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ } [ الحجر : 13 ] يعني ينتقم منه في الآخرة . واختلف في وجوب الكفارة على العائد ، فعن عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير والحسن : وجوبها ، وعليه عامة العلماء . وعن ابن عباس وشريح : أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر ، وأنه لم يذكر الكفارة .
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
{ صَيْدُ البحر } مصيدات البحر مما يؤكل وما لا يؤكل { وَطَعَامُهُ } وما يطعم من صيده والمعنى : أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر ، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبي حنيفة . وعند ابن أبي ليلى جميع ما يصاد منه ، على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه { متاعا لَّكُمْ } مفعول له ، أي أحل لكم تمتيعاً لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] في باب الحال ، لأن قوله : { متاعا لَّكُمْ } مفعول له مختص بالطعام ، كما أن نافلة حال مختصة بيعقوب ، يعني أحل لكم طعامه تمتيعاً لتنائكم يأكلونه طرياً ، ولسيارتكم يتزوّدونه قديداً ، كما تزوّد موسى عليه السلام الحوت في مسيره إلى الخضر عليهما السلام . وقرىء : «وطعمه» . وصيد البر : ما صيد فيه . وهو ما يفرّخ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات ، كطير الماء عند أبي حنيفة . واختلف فيه فمنهم من حرّم على المحرم كل شيء يقع عليه اسم الصيد ، وهو قول عمر وابن عباس ، وعن أبي هريرة وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير : أنهم أجازوا للمحرم أكل ما صاده الحلال ، وإن صاده لأجله ، إذا لم يدل ولم يشر ، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمه الله ، وعند مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله : لا يباح له ما صيد لأجله . فإن قلت : ما يصنع أبو حنيفة بعموم قوله : صيد البر؟ قلت قد أخذ أبو حنيفة رحمه الله بالمفهوم من قوله : { وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً } لأن ظاهره أنه صيد المحرمين دون صيد غيرهم ، لأنهم هم المخاطبون فكأنه قيل : وحرم عليكم ما صدتم في البر ، فيخرج منه مصيد غيرهم ، ومصيدهم حين كانوا غير محرمين . ويدل عليه قوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وقرأ ابن عباس رضي الله عنه : «وحرّم عليكم صيد البرّ» ، أي الله عزّ وجلّ . وقرىء «ما دمتم» بكسر الدال ، فيمن يقول دام يدام .
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
{ البيت الحرام } عطف بيان على جهة المدح ، لا على جهة التوضيح ، كما تجيء الصفة كذلك { قِيَاماً لّلنَّاسِ } انتعاشاً لهم في أمر دينهم ودنياهم ، ونهوضاً إلى أغراضهم ومقاصدهم في معاشهم ومعادهم ، لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم ، وأنواع منافعهم . وعن عطاء ابن أبي رباح : لو تركوه عاماً واحداً لم ينظروا ولم يؤخروا { والشهر الحرام } الشهر الذي يؤدى فيه الحج ، وهو ذو الحجة ، لأنّ لاختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأناً قد عرّفه الله تعالى . وقيل : عنى به جنس الأشهر الحرم { والهدى والقلائد } والمقلد منه خصوصاً وهو البدن ، لأن الثواب فيه أكثر ، وبهاء الحج معه أظهر { ذلك } إشارة إلى جعل الكعبة قياماً للناس ، أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره { لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ } كل شيء وهو عالم بما يصلحكم وما ينعكشم مما أمركم به وكلفكم { شَدِيدُ العقاب } لمن انتهك محارمه { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن حافظ عليها .
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
{ مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ } تشديد في إيجاب القيام بما أمر به ، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ ، وقامت عليكم الحجة ، ولزمتكم الطاعة ، فلا عذر لكم في التفريط .
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
البون بين الخبيث والطيب بعيد عند الله تعالى وإن كان قريباً عندكم ، فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه لكثرته على القليل الطيب ، فإنّ ما تتوهمونه في الكثرة من الفضل ، لا يوازي النقصان في الخبيث ، وفوات الطيب ، وهو عام في حلال المال وحرامه ، وصالح العمل وطالحه ، وصحيح المذاهب وفاسدها ، وجيد الناس ورديهم { فاتقوا الله } وآثروا الطيب ، وإن قل ، على الخبيث وإن كثر . ومن حق هذه الآية أن تكفح بها وجوه المجبرة إذا افتخروا بالكثرة كما قيل :
وَكَاثِرْ بِسَعْدٍ إِنَّ سَعْداً كَثِيرَةٌ ... وَلاَ تَرْجُ مِنْ سَعْدٍ وَفَاءاً وَلاَ نَصْرَا
وكما قيل :
لاَ يَدْهَمَنَّكَ مِنْ دَهْمَائِهِمْ عَدَدٌ ... فَإِنَّ جُلَّهُمُ بَلْ كُلَّهُمْ بَقَرُ
وقيل : نزلت في حجاج اليمامة ، حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم ، فنهوا عن الإيقاع بهم وإن كانوا مشركين .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
الجملة الشرطية والمعطوفة عليها أعني قوله : { إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } صفة للأشياء . والمعنى : لا تكثروا مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم ، إن أفتاكم بها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها . وذلك نحو ما روي :
( 367 ) أن سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن قال : يا رسول الله ، الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد مسألته ثلاث مرّات ، فقال صلى الله عليه وسلم : « ويحك! ما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، ولو تركتم لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » { وَإِن تَسْئَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرءان } ، وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه ، تبد لكم . تلك التكاليف الصعبة التي تسؤكم ، وتؤمروا بتحملها ، فتعرّضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها { عَفَا الله عَنْهَا } عفا الله عما سلف ، من مسألتكم ، فلا تعودوا إلى مثلها { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } لا يعاجلكم فيما يفرط منكم بعقوبته . فإن قلت : كيف قال : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء } ثم قال : { قَدْ سَأَلَهَا } ولم يقل . قد سأل عنها؟ قلت : الضمير في { سَأَلَهَا } ليس براجع إلى أشياء حتى تَجب تعديته بعن ، وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها { لاَ تَسْئَلُواْ } يعني قد سأل قوم هذه المسألة من الأولين { ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا } أي بمرجوعها أو بسببها { كافرين } وذلك أنّ بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبيائهم عن أشياء ، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا .
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر ، بحروا أذنها ، أي شقوها وحرّموا ركوبها ، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى ، وإذا لقيها المعيّي لم يركبها . واسمها البحيرة . وكان يقول الرجل : إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة . وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها . وقيل : كان الرجل إذا أعتق عبداً قال : هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث . وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم ، وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم . فإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم . وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا من حمى ظهره ، فلا يركب ، ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى . ومعنى { مَّا جَعَلَ } ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك ، ولكنهم بتحريمهم ما حرّموا { يَفْتَرُونَ على الله الكذب وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } فلا ينسبون التحريم إلى الله حتى يفتروا ، ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارها .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
الواو في قوله : { أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ } واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار . وتقديره : أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم { لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } والمعنى أنّ الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي ، وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتوّ والعناد من الكفرة ، يتمنون دخولهم في الإسلام ، فقيل لهم { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طرق الهدى { لاَ يَضُرُّكُمْ } الضلال عن دينكم إذا كنتم مهتدين ، كما قال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات } [ فاطر : 8 ] وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ، ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم . فهو مخاطب به ، وليس المراد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد ، وإنما هو بعض الضلال الذين فصلت الآية بينهم وبينه ، وعن ابن مسعود : أنها قرئت عنده فقال : إن هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة . ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم ، فحينئذٍ عليكم أنفسكم ، فهي على هذا تسلية لمن يأمر وينهى فلا يقبل منه ، وبسط لعذره . وعنه : ليس هذا زمان تأويلها . قيل : فمتى؟ قال : إذا جعل دونها السيف والسوط والسجن .
وعن أبي ثعلبة الخشني :
( 368 ) أنه سئل عن ذلك فقال للسائل : سألت عنها خبيراً . سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال : " ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا ما رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك نفسك ودع أمر العوام . وإنّ من ورائكم أياماً الصبر فيهنّ كقبض على الجمر ، للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله " وقيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له : سفهت آباءك ، ولاموه . فنزلت { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } عليكم : من أسماء الفعل ، بمعنى : الزموا إصلاح أنفسكم ، ولذلك جزم جوابه . وعن نافع : عليكم أنفسكم ، بالرفع . وقرىء «لا يضركم» وفيه وجهان أن يكون خبراً مرفوعاً وتنصره قراءة أبي حيوة ، «لا يضيركم»؛ وأن يكون جواباً للأمر مجزوماً ، وإنما ضمت الراء إتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة . والأصل : لا يضرركم ، ويجوز أن يكون نهياً ، ولا يضركم ، بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
ارتفع اثنان على أنه خبر للمبتدأ الذي هو { شهادة بَيْنِكُمْ } على تقدير : شهادة بينكم شهادة اثنين . أو على أنه فاعل شهادة بينكم على معنى : فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان : وقرأ الشعبي . «شهادة بينكم» بالتنوين . وقرأ الحسن : «شهادة» ، بالنصب والتنوين على : ليقم شهادة اثنان . و { إِذَا حَضَرَ } ظرف للشهادة . و { حِينَ الوصية } بدل منه ، إبداله منه دليل على وجوب الوصية ، وأنها من الأمور اللازمة التي ما ينبغي أن يتهاون بها مسلم ويذهل عنها . وحضور الموت : مشارفته وظهور أمارات بلوغ الأجل { مِّنْكُمْ } من أقاربكم . و { مِنْ غَيْرِكُمْ } من الأجانب { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الأرض } يعني إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم ، فاستشهدوا أجنبيين على الوصية ، جعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بأحوال الميت وما هو أصلح وهم له أنصح . وقيل { منكم } من المسلمين ، و { مِنْ غَيْرِكُمْ } من أهل الذمة . وقيل : هو منسوخ لا تجوز شهادة الذمي على المسلم ، وإنما جازت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذر وجودهم في حال السفر . وعن مكحول : نسخها قوله تعالى : { وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ } وروي :
( 369 ) أنه خرج بُديل بن أبي مريم مولى عمرو بن العاص وكان من المهاجرين ، مع عدي بن زيد وتميم بن أوس - وكانا نصرانيين - تجاراً إلى الشام ، فمرض بديل وكتب كتاباً فيه ما معه ، وطرحه في متاعه ولم يخبر به صاحبيه ، وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله . ومات ففتشا متاعه ، فأخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشاً بالذهب ، فغيباه ، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء ، فجحدا فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت { تَحْبِسُونَهُمَا } تقفونهما وتصبرونهما للحلف { مِنْ بعدالصلاوة } من بعد صلاة العصر ، لأن وقت اجتماع الناس . وعن الحسن : بعد صلاة العصر أو الظهر؛ لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما . وفي حديث بديل : أنها لما نزلت صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعديّ وتميم فاستحلفهما عند المنبر ، فحلفا ، ثم وجد الإناء بمكة ، فقالوا : إنا اشتريناه من تميم وعدي . وقيل : هي صلاة أهل الذمّة ، وهم يعظمون صلاة العصر { إِنِ ارتبتم } اعتراض بين القسم والمقسم عليه . والمعنى : إن ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما . وقيل : إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين : وإن أريد الوصيان فليس بمنسوخ تحليفهما . وعن عليّ رضي الله عنه : أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما والضمير في { بِهِ } للقسم . وفي { كَانَ } للمقسم له يعني : لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضاً من الدنيا ، أي لا نحلف كاذبين لأجل المال ، ولو كان من نقسم له قريباً منا ، على معنى : أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً ، وأنهم داخلون تحت قوله تعالى :
{ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين } [ النساء : 135 ] . { شهادة الله } أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها . وعن الشعبي أنه وقف على شهادة ، ثم ابتدأ الله بالمدّ ، على طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه . وروي عنه بغير مدّ على ما ذكر سيبويه أن منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوض منه همزة الاستفهام ، فيقول : ألله لقد كان كذا . وقرىء : «لملاثمين» بحذف الهمزة وطرح حركتها على اللام وإدغام نون من فيها ، كقوله : عاد لولي : فإن قلت : ما موقع تحبسونهما؟ قلت : هو استئناف كلام ، كأنه قيل بعد اشتراط العدالة فيهما ، فكيف نعمل إن ارتبنا بهما ، فقيل : تحبسونهما فإن قلت : كيف فسرت الصلاة بصلاة العصر وهي مطلقة؟ قلت : لما كانت معروفة عندهم بالتحليف بعدها ، أغنى ذلك عن التقييد ، كما لو قلت في بعض أئمة الفقه : إذا صلّى أخذ في الدرس علم أنها صلاة الفجر . ويجوز أن تكون اللام للجنس ، وأن يقصد بالتحليف على أثر الصلاة أن تكون الصلاة لطفاً في النطق بالصدق ، وناهية عن الكذب والزور { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] { فَإِنْ عُثِرَ } فإن اطلع { على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً } أي فعلا مّا أوجب إثماً ، واستوجبا أن يقال إنهما لمن الآثمين { فَآخَرَانِ } فشاهدان آخران { يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ } أي من الذين استحق عليهم الإثم . معناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرتهم . وفي قصة بديل : أنه لما ظهرت خيانة الرجلين ، حلف رجلان من ورثته أنه إناء صاحبهما ، وأن شهادتهما أحق من شهادتهما . { الأوليان } الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما ، وارتفاعهما على : هما الأوليان كأنه قيل ومن هما؟ فقيل : الأوليان . وقيل : هما بدل من الضمير في يقومان ، أو من آخران . ويجوز أن يرتفعا باستحق ، أي من الذين استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة لإطلاعهم على حقيقة الحال . وقرىء «الأوّلين» على أنه وصف للذين استحق عليهم ، مجرور ، أو منصوب على المدح . ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحقّ بها . وقرىء : «الأولين» على التثنية ، وانتصابه على المدح . وقرأ الحسن : «الأولان» ، ويحتج به من يرى رد اليمين على المدعي . وأبو حنيفة وأصحابه لا يرون ذلك . فوجهه عندهم أن الورثة قد ادعوا على النصرانيين أنهما قد اختانا فحلفا ، فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتما ، فأنكر الورثة فكانت اليمين على الورثة لإنكارهم الشراء . فإن قلت : فما وجه قراءة من قرأ استحق عليهم الأوليان على البناء للفاعل ، وهم علي : وأبيّ وابن عباس؟ قلت : معناه من الورثة الذي استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة ، أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين { ذلك } الذي تقدم من بيان الحكم { أدنى } أن يأتي الشهداء على نحو تلك الحادثة { بالشهادة على وَجْهِهَا أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان } أن تكرّ أيمان شهود آخرين بعد إيمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم كما جرى في قصة بديل . { واسمعوا } سمع إجابة وقبول .
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
{ يَوْمَ يَجْمَعُ } بدل من المنصوب في قوله : ( واتقوا الله ) وهو من بدل الاشتمال ، كأنه قيل : واتقوا الله يوم جمعه . أو ظرف لقوله : ( لا يهدي ) أي لا يهديهم طريق الجنة يومئذ كما يفعل بغيرهم . أو ينصب على إضمار اذكر . أو يوم يجمع الله الرسل كان كيت وكيت . و { مَاذَا } منتصب بأجبتم انتصاب مصدره ، على معنى : أي إجابة أجبتم . ولو أريد الجواب لقيل : بماذا أجبتم . فإن قلت : ما معنى سؤالهم؟ قلت : توبيخ قومهم ، كما كان سؤال الموؤدة توبيخاً للوائد . فإن قلت : كيف يقولون : { لاَ عِلْمَ لَنَا } وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت : يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم وكابدوا من سوء إجابتهم ، إظهاراً للتشكي واللجإ إلى ربهم في الانتقام منهم ، وذلك أعظم على الكفرة وأفت في أعضادهم وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم إذا اجتمع توبيخ الله وتشكي أنبيائه عليهم . ومثاله أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصة من خواصه نكبة قد عرفها السلطان واطلع على كنهها وعزم على الانتصار له منه ، فيجمع بينهما ويقول له : ما فعل بك هذا الخارجي وهو عالم بما فعل به ، يريد توبيخه وتبكيته ، فيقول له : أنت أعلم بما فعل بي تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه ، واتكالاً عليه ، وإظهاراً للشكاية ، وتعظيماً لما حلّ به منه . وقيل : من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب ، ثم يجيبون بعدما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم . وقيل : معناه علمنا ساقط مع علمك ومغمور به ، لأنك علام الغيوب . ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة الأمم لرسلهم ، فكأنه لا علم لنا إلى جنب علمك . وقيل : لا علم لنا بما كان منهم بعدنا ، وإنما الحكم للخاتمة . وكيف يخفى عليهم أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون موبخين . وقرىء : «علام الغيوب» بالنصب على أنّ الكلام قد تم بقوله : { إِنَّكَ أَنتَ } أي أنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره ثم نصب علام الغيوب على الاختصاص ، أو على على النداء ، أو هو صفة لاسم أنّ { إِذْ قَالَ الله } بدل من ( يوم يجمع ) والمعنى : أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم ، وبتعديد ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام ، فكذبوهم وسموهم سحرة . أو جاوزوا حدّ التصديق إلى أن اتخذوهم آلهة ، كما قال بعض بني إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى عليه السلام من البينات والمعجزات { هذا سحر مبين } [ الأحقاف : 7 ] واتخذه بعضهم وأمه إلهين { أَيَّدتُّكَ } قوّيتك . وقرىء : «أيدتك» ، على أفعلتك { بِرُوحِ القدس } بالكلام الذي يحيا به الدين ، وأضافه إلى القدس ، لأنه سبب الطهر من أوضار الآثام .
والدليل عليه قوله تعالى : { تُكَلّمَ الناس } و { فِى المهد } في موضع الحال ، لأنّ المعنى تكلمهم طفلاً { وَكَهْلاً } إلا أن في المهد فيه دليل على حدّ من الطفولة . وقيل روح القدس : جبريل عليه السلام ، أيّد به لتثبيت الحجة . فإن قلت : ما معنى قوله : ( في المهد وكهلاً ) ؟ قلت : معناه تكلمهم في هاتين الحالتين ، من غير أن يتفاوت كلامك في حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد والحدّ الذي يستنبأ فيه الأنبياء { والتوراة والإنجيل } خصّا بالذكر مما تناوله الكتاب والحكمة ، لأن المراد بهما جنس الكتاب والحكمة . وقيل : ( الكتاب ) الخط . و ( الحكمة ) الكلام المحكم الصواب { كَهَيْئَةِ الطير } هيئة مثل هيئة الطير { بِإِذْنِى } بتسهيلي { فَتَنفُخُ فِيهَا } الضمير للكاف ، لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى عليه السلام وينفخ فيها ، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها؛ لأنها ليست في خلقه ولا من نفخه في شيء . وكذلك الضمير في فتكون { تُخْرِجُ الموتى } تخرجهم من القبور وتبعثهم . قيل : أخرج سام ابن نوح ورجلين وامرأة وجارية { وَإِذَا كَفَفْتُ بَنِى إسراءيل عَنكَ } يعني اليهود حين هموا بقتله . وقيل : لما قال الله تعالى لعيسى { اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ } كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد يقول : مع كل يوم رزقه ، لم يكن له بيت فيخرب ، ولا ولد فيموت ، أينما أمسى بات .
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
{ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } أمرتهم على ألسنة الرسل { مُّسْلِمُونَ } مخلصون ، من أسلم وجهه لله { عِيسَى } في محل النصب على إتباع حركة الابن ، كقولك : يا زيد بن عمرو ، وهي اللغة الفاشية ويجوز أن يكون مضموماً كقولك : يا زيد بن عمرو . والدليل عليه قوله :
أَحَارِ بْنَ عَمْرٍو كَأَنِّي خَمْر ... وَيَبْدُو عَلَى الْمَرْءِ مَا يَأْتَمِرْ
لأنّ الترخيم لا يكون إلا في المضموم . فإن قلت : كيف قالوا : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ قلت : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص ، وإنما حكى ادعاءهم لهما ، ثم أتبعه قوله : { إِذَ قَالُواْ } فآذن إنّ دعواهم كانت باطلة ، وإنهم كانوا شاكين ، وقوله : ( هل يستطيع ربك ) كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربهم ، وكذلك قول عيسى عليه السلام لهم معناه : اتقوا الله ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ، ولا تقترحوا عليه ، ولا تتحكموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } إن كانت دعواكم للإيمان صحيحة . وقرىء : «هل تستطيع ربك» ، أي هل تستطيع سؤال ربك ، والمعنى : هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله . والمائدة : الخوان إذا كان عليه الطعام ، وهي من ( مادّة ) إذا أعطاه ورفده كأنها تميد من تقدّم إليه { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين } نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ، أو نكون من الشاهدين لله بالوحدانية ولك وبالنبوّة ، عاكفين عليها ، على أن عليها في موضع الحال ، وكانت دعواهم لإرادة ما ذكروا كدعواهم الإيمان والإخلاص . وإنما سأل عيسى وأجيب ليلزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا . وقرىء : «ويعلم» ، بالياء على البناء للمفعول . «وتعلم» . «وتكون» ، بالتاء . والضمير للقلوب { اللهم } أصله يا ألله . فحذف حرف النداء ، وعوضت منه الميم . و { رَبَّنَا } نداء ثان { تَكُونُ لَنَا عِيداً } أي يكون يوم نزولها عيداً . قيل : هو يوم الأحد . ومن ثم اتخذه النصارى عيداً ، وقيل : العيد السرور العائد ، ولذلك يقال : يوم عيد . فكأنّ معناه : تكون لنا سروراً وفرحاً ، وقرأ عبد الله : «تكون» ، على جواب الأمر . ونظيرهما . يرثني ، ويرثني { لأَوَّلِنَا وَءاخِرِنَا } بدل من لنا بتكرير العامل ، أي لمن في زماننا من أهل ديننا ، ولمن يأتي بعدنا . وقيل : يأكل منها آخر الناس كما يأكل أولهم : ويجوز للمقدّمين منا والأتباع . وفي قراءة زيد : «لأولانا وأخرانا» ، والتأنيث بمعنى الأمّة والجماعة { عَذَاباً } بمعنى تعذيباً . والضمير في ( لا أعذبه ) للمصدر ، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به ، لم يكن بدّ من الباء . وروي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفاً ، ثم قال : اللَّهم أنزل علينا ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين : غمامة فوقها وأخرى تحتها ، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى عليه السلام وقال : اللَّهم اجعلني من الشاكرين ، اللَّهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، وقال لهم : ليقم أحسنكم عملاً يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها .
فقال شمعون رأس الحواريين : أنت أولى بذلك ، فقام عيسى وتوضأ وصلّى وبكى ، ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين ، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسماً . وعند رأسها ملح ، وعند ذنبها خل ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكرّاث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد . فقال شمعون : يا روح الله ، أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال : ليس منهما ، ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية ، كلوا ما سألتم واشكروا الله يمددكم الله ويزدكم من فضله : فقال الحواريون : يا روح الله ، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى ، فقال : يا سمكة أحيي بإذن الله ، فاضطربت . ثم قال لها : عودي كما كنت ، فعادت مشوية . ثم طارت المائدة ، ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير . وروي أنهم لما سمعوا بالشريطة وهي قوله تعالى : { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ } قالوا : لا نريد فلم تنزل . وعن الحسن : والله ما نزلت ، ولو نزلت لكان عيداً إلى يوم القيامة ، لقوله : ( وآخرنا ) . والصحيح أنها نزلت .
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
{ سبحانك } من أن يكون لك شريك { مَا يَكُونُ لِى } ما ينبغي لي { أَنْ أَقُولَ } قولاً لا يحق لي أن أقوله { فِى نَفْسِى } في قلبي : والمعنى : تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ، ولكنه سلك بالكلام طريق المشاكلة وهو من فصيح الكلام وبينه ، فقيل : { فِى نَفْسِكَ } لقوله في نفسي { إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب } تقرير للجملتين معاً ، لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ، ولأن ما يعلمه علام الغيوب لا ينتهي إليه علم أحد .
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
( أن ) في قوله { أَنِ اعبدوا الله } إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بدّ من مفسر . والمفسر إما فعل القول وإما فعل الأمر ، وكلاهما لا وجه له . أما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن يتوسط بينهما حرف التفسير ، لا تقول : ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله . ولكن : ما قلت لهم إلا اعبدوا الله . وأما فعل الأمر ، فمسند إلى ضمير الله عزّ وجلّ . فلو فسرته باعبدوا الله ربي وربكم لم يستقم؛ لأن الله تعالى لا يقول : اعبدوا الله ربي وربكم ، وإن جعلتها موصولة بالفعل لم تخل من أن تكون بدلاً من ما أمرتني به ، أو من الهاء في به ، وكلاهما غير مستقيم : لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه . ولا يقال : ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله ، بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته؛ لأن العبادة لا تقال . وكذلك إذا جعلته بدلاً من الهاء لأنك لو أقمت ( أن اعبدوا الله ) مقام الهاء ، فقلت : إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله ، لم يصح ، لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته . فإن قلت : فكيف يصنع؟ قلت : يحمل فعل القول على معناه؛ لأن معنى ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ) . ما أمرتهم إلا بما أمرتني به ، حتى يستقيم تفسيره بأن اعبدوا الله ربي وربكم . ويجوز أن تكون ( أن ) موصولة عطف بيان للهاء لا بدلاً { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } رقيباً كالشاهد على المشهود عليه ، أمنعهم من أن يقولوا ذلك ويتدينوا به { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } تمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلة ، وأنزلت عليهم من البينات ، وأرسلت إليهم من الرسل { إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } الذين عرفتهم عاصين جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز } القوي القادر على الثواب والعقاب { الحكيم } الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب . فإن قلت : المغفرة لا تكون للكفار فكيف قال : ( وإن تغفر لهم ) ؟ قلت : ما قال إنك تغفر لهم ، ولكنه بنى الكلام على : إن غفرت ، فقال : إن عذبتهم عدلت ، لأنهم أحقاء بالعذاب ، وإن غفرت لهم مع كفرهم لم تعدم في المغفرة وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول ، بل متى كان الجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن .
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
قرىء : «هذا يوم ينفع» بالرفع والإضافة . وبالنصب إما على أنه ظرف لقال : وإما على أنّ ( هذا ) مبتدأ ، والظرف خبر . ومعناه : هذا الذي ذكرنا من كلام عيسى واقع يوم ينفع . ولا يجوز أن يكون فتحاً ، كقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } [ الانفطار : 9 ] لأنه مضاف إلى متمكن . وقرأ الأعمش : «يومٌ ينفع» بالتنوين ، كقوله تعالى : { واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْرِى نَفْسٌ } [ البقرة : 48 ] فإن قلت : ما معنى قوله : ينفع الصادقين صدقهم؟ إن أريد صدقهم في الآخرة فليست الآخرة بدار عمل ، وإن أريد صدقهم في الدنيا فليس بمطابق لما ورد فيه؛ لأنه في معنى الشهادة لعيسى عليه السلام بالصدق فيما يجيب به يوم القيامة؟ قلت : معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم . وعن قتادة : متكلمان تكلما يوم القيامة . أمّا إبليس فقال : إنّ الله وعدكم وعد الحق ، فصدق يومئذ وكان قبل ذلك كاذباً ، فلم ينفعه صدقه . وأما عيسى عليه السلام فكان صادقاً في الحياة وبعد الممات فنفعه صدقه .
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
قإن قلت : في السموات والأرض العقلاء وغيرهم ، فهلا غلب العقلاء ، فقيل : ومن فيهنّ؟ قلت : ( ما ) يتناول الأجناس كلها تناولاً عاماً . ألا تراك تقول إذا رأيت شبحاً من بعيد : ما هو؟ قبل أن تعرف أعاقل هو أم غيره ، فكان أولى بإرادة العموم .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 370 ) « من قرأ سورة المائدة أعطى من الأجر عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا » .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
{ جَعَلَ } يتعدّى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كقوله : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صيَّر ، كقوله : { وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } [ الزخرف : 19 ] والفرق بين الخلق والجعل : أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفي الجعل معنى التضمين ، كإنشاء شيء من شيء ، أو تصيير شيء شيئاً ، أو نقله من مكان إلى مكان . ومن ذلك { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] { وَجَعَلَ الظلمات والنور } ؛ لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار { ثم جعلكم أزواجاَ } [ فاطر : 11 ] { أَجَعَلَ الالهة إلها واحدا } [ ص : 5 ] . فإن قلت : لم أفرد النور؟ قلت : للقصد إلى الجنس ، كقوله تعالى : { والملك على أَرْجَائِهَا } [ الحاقة : 17 ] أو لأن الظلمات كثيرة ، لأنه ما من جنس من أجناس الأجرام إلاّ وله ظلّ ، وظلّه هو الظلمة ، بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار . فإن قلت : علام عطف قوله : { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } ؟ قلت : إما على قوله : { الحمد للَّهِ } على معنى أن الله حقيق بالحمد على ما خلق؛ لأنه ما خلقه إلاّ نعمة ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ، وإما على قوله : { خَلَقَ السماوات } على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه . فإن قلت : فما معنى ثم؟ قلت : استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته ، وكذلك { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } [ الأنعام : 2 ] استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم .
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
{ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً } أجل الموت { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } أجل القيامة . وقيل : الأجل الأوّل : ما بين أن يخلق إلى أن يموت . والثاني : ما بين الموت والبعث وهو البرزخ . وقيل : الأوّل النوم . والثاني : الموت . فإن قلت : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفاً وجب تأخيره ، فلم جاز تقديمه في قوله : { وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ } ؟ قلت : لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة ، كقوله : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ } [ البقرة : 221 ] فإن قلت : الكلام السائر أن يقال : عندي ثوب جيد ، ولي عبد كيس ، وما أشبه ذلك؛ فما أوجب التقديم؟ قلت : أوجبه أن المعنى : وأي أجل مسمىً عنده تعظيماً لشأن الساعة ، فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم .
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
{ فِى السماوات } متعلق بمعنى اسم الله ، كأنه قيل : وهو المعبود فيها . ومنه قوله : { وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الارض إله } [ الزخرف : 84 ] أو وهو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالإلهية فيها ، أو هو الذي يقال له : الله فيها- لا يشرك به في هذا الاسم ، ويجوز أن يكون { الله فِي السموات } خبراً بعد خبر على معنى : أنه الله وأنه في السموات والأرض بمعنى أنه عالم بما فيهما لا يخفى عليه منه شيء ، كأن ذاته فيهما ، فإن قلت : كيف موقع قوله : { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } ؟ قلت : إن أردت التوحد بالإلهية كان تقريراً له؛ لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية هو الله وحده ، وكذلك إذا جعلت في السموات خبراً بعد خبر ، وإلا فهو كلام مبتدأ بمعنى : هو يعلم سركم وجهركم . أو خبر ثالث { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } من الخير والشرّ ، ويثيب عليه ، ويعاقب .
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
{ مِّنْ في { مِّنْ ءَايَةٍ } للاستغراق . وفي { من آيات ربهم } للتبعيض . يعني : وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار ، إلا كانوا عنه معرضين : تاركين للنظر لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأساً ، لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب ، { فقد كذبوا } مردود على كلام محذوف كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها وهو الحق { لَمَّا جَاءهُمْ } يعني القرآن الذي تحدُّوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء } الشيء الذي { كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } وهو القرآن ، أي أخباره وأحواله ، بمعنى : سيعلمون بأي شيء استهزءوا . وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء ، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلوّ كلمته .
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
مكن له في الأرض : جعل له مكاناً له فيها . ونحوه : أرّض له . ومنه قوله : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض } [ الكهف : 84 ] { أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ } [ القصص : 57 ] وأمّا مكنته في الأرض فأثبته فيها . ومنه قوله : { وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ } [ الأحقاف : 26 ] ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله : { مكناهم فِى الارض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ } والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم ، من البسطة في الأجسام ، والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا . والسماء المظلة؛ لأن الماء ينزل منها إلى السحاب ، أو السحاب أو المطر . والمدرار : المغزار . فإن قلت : أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟ قلت : الدلالة على أنه لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده منهم؟ فإنه قادر على أن ينشىء مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده ، كقوله تعالى : { وَلاَ يَخَافُ عقباها } [ الشمس : 15 ] .
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
{ كتابا } مكتوباً { فِى قِرْطَاسٍ } في ورق { فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } ولم يقتصر بهم على الرؤية ، لئلا يقولوا سكرت أبصارنا ، ولا تبقى لهم علة . لقالوا { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } تعنتاً وعناداً للحق بعد ظهوره { لَّقُضِىَ الامر } لقضي أمر إهلاكهم { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } بعد نزوله طرفة عين . إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن ، ثم لا يؤمنون كما قال : { وَلَوْأننا َنزَلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى } [ الأنعام : 111 ] لم يكن بدّ من إهلاكهم ، كما أهلك أصحاب المائدة ، وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة ، فيجب إهلاكهم . وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون ومعنى { ثُمَّ } بعد ما بين الأمرين : قضاء الأمر ، وعدم الإنظار . جعل عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر ، لأنّ مفاجأة الشدّة أشدّ من نفس الشدّة { وَلَوْ جعلناه مَلَكاً } ولو جعلنا الرسول ملكاً كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون : لولا أنزل على محمد ملك . وتارة يقولون : { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } [ المؤمنون : 33 ] ، { وَلَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ ملائكة } [ فصلت : 14 ] { لجعلناه رَجُلاً } لأرسلناه في صورة رجل ، كما .
كان ينزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعم الأحوال في صورة دحية . لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم } ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ ، فإنهم يقولون : إذا رأوا الملك في صورة إنسان : هذا إنسان وليس بملك ، فإن قال لهم : الدليل على أني ملك أني جئت بالقرآن المعجز ، وهو ناطق بأني ملك لا بشر- كذبوه كما كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما هم مخذولون الآن ، فهو لبس الله عليهم . ويجوز أن يراد : { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم } حينئذ مثل ما يلبسون على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات الله البينة : وقرأ ابن محيصن : «ولبسنا عليهم» ، بلام واحدة . وقرأ الزهري : «وللبَّسْنا عليهم ما يلبِّسُون» ، بالتشديد .
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ وَلَقَدِ استهزىء } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من قومه { فَحَاقَ } بهم فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق ، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به .
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
فإن قلت : أي فرق بين قوله { فانظروا } وبين قوله : { ثُمَّ انظروا } ؟ قلت : جعل النظر مسبباً عن السير في قوله : { فانظروا } فكأنه قيل سيروا لأجل النظر ، ولا تسيروا سير الغافلين . وأما قوله : { سِيرُواْ فِى الارض ثُمَّ انظروا } فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين . ونبه على ذلك بثم ، لتباعد ما بين الواجب والمباح .
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
{ لّمَن مَّا فِى السماوات والارض } سؤال تبكيت ، و { قُل لِلَّهِ } تقرير لهم ، أي هو الله لا خلاف بيني وبينكم ، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئاً منه إلى غيره { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } أي أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته ، ونصب الأدلة لكم على توحيده بما أنتم مقرون به من خلق السموات الأرض ، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر وإشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة } فيجازيكم على إشراككم . وقوله : { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } نصب على الذم ، أو رفع : أي أريد الذين خسروا أنفسهم ، أو أنتم الذين خسروا أنفسهم . فإن قلت : كيف جعل عدم إيمانهم مسبباً عن خسرانهم ، والأمر على العكس؟ قلت : معناه : الذين خسروا أنفسهم في علم الله : لاختيارهم الكفر . فهم لا يؤمنون .
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
{ وَلَهُ } عطف على الله { مَا سَكَنَ فِى اليل والنهار } من السكنى وتعديه بفي كما في قوله : { وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } . { وَهُوَ السميع العليم } يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم ، فلا يخفى عليه شيء مما يشتمل عليه الملوان .
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
أوَليّ { أَغَيْرَ الله } ؟ همزة الاستفهام دون الفعل الذي هو { اتخذ } لأن الإنكار في اتخاذ غير الله ولياً ، لا في اتخاذ الولي ، فكان أولى بالتقديم . ونحوه { أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون } [ الزمر : 64 ] { ءَآللهُ أَذِنَ لَكُمْ } [ يونس : 59 ] . وقرىء { فَاطِرِ السماوات } بالجرّ صفة لله ، وبالرفع على المدح . وقرأ الزهري : «فَطَرَ» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما عرفت ما فاطر السموات والأرض ، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدعتها { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } وهو يرزُق ولا يُرْزَق ، كقوله : { مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } [ الذاريات : 59 ] والمعنى : أن المنافع كلها من عنده ، ولا يجوز عليه الانتفاع . وقرىء : «ولا يَطعم» ، بفتح الياء . وروى ابن المأمون عن يعقوب : «وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِمُ» ، على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل ، والضمير لغير الله ، وقرأ الأشهب : «وهو يطعم ولا يطعم» ، على بنائهما للفاعل . وفسر بأن معناه : وهو يطعم ، ولا يستطعم . وحكى الأزهري : أطعمت ، بمعنى استطعمت ، ونحوه أفدت . ويجوز أن يكون المعنى : وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح ، كقولك : وهو يعطي ويمنع ، ويبسط ، ويقدر ، ويغني ويفقر { أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } لأنّ النبي سابق أمته في الإسلام ، كقوله { وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } [ الأنعام : 163 ] وكقول موسى : { سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } [ الأعراف : 143 ] { وَلاَ تَكُونَنَّ } وقيل لي لا تكونن { مِنَ المشركين } ومعناه : أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك . و { مِنْ يُصْرَفْ عَنْهُ } العذاب { يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } الله الرحمة العظمى وهي النجاة ، كقولك : إن أطعمت زيداً من جوعه فقد أحسنت إليه؟ تريد : فقد أتممت الإحسان إليه أو ، فقد أدخله الجنة ، لأن من لم يعذب لم يكن له بدّ من الثواب . وقرىء : «من يَصْرِفْ عنه» على البناء للفاعل ، والمعنى : من يصرف الله عنه في ذلك اليوم فقد رحمه ، بمعنى : من يدفع الله عنه . ويحفظه ، وقد علم من المدفوع عنه . وترك ذكر المصروف؛ لكونه معلوماً أو مذكوراً قبله وهو العذاب . ويجوز أن ينتصب يومئذ يصرف انتصاب المفعول به ، أي من بيصرف الله عنه ذلك اليوم : أي هوله ، فقد رحمه . وينصر هذه القراءة قراءة أبيّ رضي الله عنه : من يصرف الله عنه .
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
{ وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ } من مرض أو فقر أو غير ذلك من بلاياه ، فلا قادر على كشفه إلا هو { وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } من غنى أو صحة { فَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدُيرٌ } فكان قادراً على إدامته أو إزالته .
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
{ فَوْقَ عِبَادِهِ } تصوير للقهر والعلوّ بالغلبة والقدرة ، كقوله : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون } [ الأعراف : 127 ] الشيء أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه ، فيقع على القديم والجرم والعرض والمحال والمستقيم . ولذلك صحّ أن يقال في الله عزّ وجلّ : شيء لا كالأشياء ، كأنك قلت : معلوم لا كسائر المعلومات ، ولا يصح : جسم لا كالأجسام .
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
وأراد : أي شهيد { أَكْبَرُ شهادة } فوضع شيئاً مقام شهيد ليبالغ في التعميم { قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } يحتمل أن يكون تمام الجواب عند قوله : { قُلِ الله } بمعنى الله أكبر شهادة ، ثم ابتدىء { شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } أي هو شهيد بيني وبينكم ، وأن يكون { الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } هو الجواب ، لدلالته على أنّ الله عزّ وجلّ إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم ، فأكبر شيء شهادة شهيد له { وَمَن بَلَغَ } عطف على ضمير المخاطبين من أهل مكة . أي : لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم . وقيل : من الثقلين . وقيل : من بلغه إلى يوم القيامة . وعن سعيد بن جبير : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم { أئنكم لتشهدون } تقرير لهم مع إنكار واستبعاد { قُل لاَّ أَشْهَدُ } شهادتكم .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
{ الذين ءاتيناهم الكتاب } يعني اليهود والنصارى يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليته ونعته الثابت في الكتابين معرفة خالصة { كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } بحلاهم ونعوتهم لا يخفون عليهم ولا يلتبسون بغيرهم . وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب به وبصحة نبوّته . ثم قال : { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } من المشركين من أهل الكتاب الجاحدين { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } به ، جمعوا بين أمرين متناقضين ، فكذبوا على الله بما لا حجة عليه ، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة ، والبرهان الصحيح ، حيث قالوا : { لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] وقالوا : { والله أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] وقالوا : { الملائكة بَنَاتُ الله } و { هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } [ يونس : 18 ] ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب ، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات ، وسموها سحراً ، ولم يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم .
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } ناصبه محذوف تقديره : ويوم نحشرهم كان كيت وكيت ، فترك ليبقى على الإبهام الذي هو داخل في التخويف { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ } أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله . وقوله : { الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } معناه تزعمونهم شركاء ، فحذف المفعولان . وقرىء : «يحشرهم» . «ثم يقول» : بالياء فيهما . وإنما يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ ، ويجوز أن يشاهدوهم ، إلا أنهم حين لا ينفعونهم ولا يكون منهم ما رجوا من الشفاعة . فكأنهم غيب عنهم ، وأن يحال بينهم وبينهم في وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها ، فيروا مكان خزيهم ، وحسرتهم { فِتْنَتُهُمْ } كفرهم . والمعنى : ثم لم تكن عاقبة كفرهم - الذي لزموه أعمارهم ، وقاتلوا عليه وافتخروا به ، وقالوا دين آبائنا- إلا جحوده والتبرؤ منه ، والحلف على الانتفاء من التدين به . ويجوز أن يراد : ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا فسمي فتنة؛ لأنه كذب . وقرىء : «تكن» بالتاء و ( فتنتهم ) ، بالنصب . وإنما أنث { أَن قَالُواْ } لوقوع الخبر مؤنثاً ، كقولك : من كانت أمّك؟ وقرىء بالياء ونصب الفتنة . وبالياء والتاء مع رفع الفتنة . وقرىء : «ربنا» بالنصب على النداء { وَضَلَّ عَنْهُم } وغاب عنهم { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي يفترون إلهيته وشفاعته . فإن قلت : كيف يصحّ أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور على أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت : الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشاً : ألا تراهم يقولون : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون } [ المؤمنون : 107 ] وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه ، { وَنَادَوْاْ يامالك مالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] وقد علموا أنه لا يقضى عليهم . وأما قول من يقول : معناه : ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا أنا على خطأ في معتقدنا ، وحملُ قوله : { انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ } يعني في الدنيا فتمحل وتعسف وتحريف لأفصح الكلام إلى ما هو عيّ وإقحام ، لأن المعنى الذي ذهبوا إليه ليس هذا الكلام بمترجم عنه ولا منطبق عليه ، وهو نابٍ عنه أشدّ النبوّ . وما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } [ المجادلة : 18 ] بعد قوله : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ المجادلة : 14 ] فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } حين تتلوا القرآن . روي :
( 372 ) أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل ، وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا للنضر : يا أبا قُتَيْلَة ، ما يقول محمد؟ فقال : والذي جعلها بيته - يعني الكعبة - ما أدري ما يقول ، إلا أنه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأوّلين ، مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية ، فقال أبو سفيان : إني لأراه حقاً . فقال أبو جهل : كلا ، فنزلت . والأكنة على القلوب ، والوقر في الأذان : مثلٌ في نبوّ قلوبهم ومسامعهم عن قبوله واعتقاد صحته . ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله : { وَجَعَلْنَا } للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم ، كأنهم مجبولون عليه . أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم { وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] وقرأ طلحة : «وقراً» بكسر الواو { حتى إِذَا جاءوك يجادلونك } هي حتى التي تقع بعدها الجمل . والجملة قوله : { إِذَا جاءوك } { يَقُولُ الذين كَفَرُواْ } و { يجادلونك } موضع الحال . ويجوز أن تكون الجارة ويكون إذا جاؤك في محل الجرّ بمعنى حتى وقت مجيئهم ، ويجادلونك حال ، وقوله : يقول { الذين كفروا } . وتفسير له . والمعنى بأنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويناكرونك . وفسر مجادلتهم بأنهم يقولون : { إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين } فيجعلون كلام الله وهو أصدق الحديث ، خرافات وأكاذيب ، وهي الغاية في التكذيب { وَهُمْ يَنْهَوْنَ } الناس عن القرآن أو عن الرسول عليه الصلاة والسلام وأتباعه ، ويثبطونهم عن الإيمان به { عَنْهُ وَيَنْئَوْنَ } بأنفسهم فيضلون ويضلون { وَإِن يُهْلِكُونَ } بذلك { إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } ولا يتعداهم الضرر إلى غيرهم ، وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : هو أبو طالب لأنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينأى عنه ولا يؤمن به . وروي أنهم اجتمعوا إلى أبي طالب وأرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً . فقال :
وَاللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم ... حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وَابْشِرْ بِذَاكَ وَقَرَّ مِنْهُ عُيُونَا
وَدَعَوتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّكَ نَاصِحٌ ... وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِينَا
وَعَرَضْتُ دِيناً لاَ مَحَالَةَ أَنَّهُ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أَوْ حَذَارِيَ سُبَّةً ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا
فنزلت .
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
{ وَلَوْ تَرَى } جوابه محذوف تقديره . ولو ترى لرأيت أمراً شنيعاً { وُقِفُواْ عَلَى النار } أروها حتى يعاينوها . أو اطلعوا عليها اطلاعاً هي تحتهم ، أو أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها من قولك : وقفته على كذا إذا فهمته وعرفته ، وقرىء : «وقفوا» على البناء للفاعل ، ومن وقف عليه وقوفاً { ياليتنا نُرَدُّ } تم تمنيهم . ثم ابتدؤا { وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } واعدين الإيمان ، كأنهم قالوا : ونحن لا نكذب ونؤمن على وجه الإثبات . شبهة سيبويه بقولهم : دعني ولا أعود ، بمعنى : دعني وأنا لا أعود ، تركتني أو لم تتركني . ويجوز أن يكون معطوفاً على نردّ ، أو حالاً على معنى : يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين ، فيدخل تحت حكم التمني . فإن قلت : يدفع ذلك قوله : { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } لأن المتمنّي لا يكون كاذباً . قلت : هذا تمنٍّ قد تضمن معنى العدة ، فجاز أن يتعلق به التكذيب ، كما يقول الرجل : ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك وأكافئك على صنيعك ، فهذا متمنّ في معنى الواعد ، فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه ولم يكافئه كذب ، كأنه قال : إن رزقني الله مالاً كافأتك على الإحسان . وقرىء : «ولا نكذب ونكون» بالنصب بإضمار أن على جواب التمني ومعناه : إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم؛ فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجراً؛ لا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا . وقيل : هو في المنافقين وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه . وقيل : هو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَلَوْ رُدُّواْ } إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار { لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } من الكفر والمعاصي { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } فيما وعدوا من أنفسهم لا يفون به .
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
{ وَقَالُواْ } عطف على لعادوا . أي : ولو ردّوا لكفروا ولقالوا : { إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة . ويجوز أن يعطف على قوله : وإنهم لكاذبون ، على معنى : وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء ، وهم الذين قالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا . وكفى به دليلاً على كذبهم .
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
{ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ } مجاز على الحبس للتوبيخ والسؤال ، كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاتبه . وقيل : وقفوا على جزاء ربهم . وقيل : عرفوه حق التعريف { قَالَ } مردود على قول قائل قال : ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فقيل : قال : { أَلَيْسَ هذا بالحق } وهذا تعيير من الله تعالى لهم على التكذيب . وقولهم - لما كانوا يسمعون من حديث البعث والجزاء - : ما هو بحق وما هو إلا باطل { بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } بكفركم بلقاء الله ببلوغ الآخرة وما يتصل بها . وقد حقق الكلام فيه في مواضع أخر . و { حتى } غاية لكذبوا لا لخسر ، لأن خسرانهم لا غاية له . أي ما زال بهم التكذيب إلى حسرتهم وقت مجيء الساعة . فإن قلت : أما يتحسرون عند موتهم؟ قلت : لما كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدماتها جعل من جنس الساعة وسمي باسمها ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 373 ) « من مات فقد قامت قيامته » أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة { بَغْتَةً } فجأة وانتصابها على الحال بمعنى باغتة ، أو على المصدر كأنه قيل : بغتتهم الساعة بغتة { فَرَّطْنَا فِيهَا } الضمير للحياة الدنيا ، جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة ، أو للساعة على معنى : قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها ، كما تقول : فرّطت في فلان . ومنه فرّطت في جنب الله { يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } كقوله : { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور ، كما ألف الكسب بالأيدي { سَاء مَا يَزِرُونَ } بئس شيئاً يزرون وزرهم ، كقوله { سَاء مَثَلاً القوم } [ الأعراف : 177 ] .
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
جعل أعمال الدنيا لعباً ولهواً واشتغالاً بما لا يعني ولا يعقب منفعة ، كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة . وقوله : { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } دليل على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو . وقرأ ابن عباس رضي الله عنه : ( ولدار الآخرة ) وقرىء : «تعقلون» بالتاء والياء .
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
{ قَدْ } في { قد نعلم } بمعنى «ربما» الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته ، كقوله :
أَخُو ثِقَةٍ لاَ تُهْلِكُ الْخَمْرُ مَالَه ... وَلَكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ الْمَالَ نَائِلُهْ
والهاء في { إِنَّهُ } ضمير الشأن { لَيَحْزُنُكَ } قرىء بفتح الياء وضمها . و { الذى يَقُولُونَ } هو قولهم : ساحر كذاب { لاَ يُكَذّبُونَكَ } قرىء بالتشديد والتخفيف من كذبه إذا جعله كاذباً في زعمه وأكذبه إذا وجده كاذباً . والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله ، لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته ، فاله عن حزنك لنفسك وإن هم كذبوك وأنت صادق ، وليشغلك عن ذلك ما هو أهمّ وهو استعظامك بجحود آيات الله تعالى والاستهانة بكتابه . ونحوه قول السيد لغلامه -إذا أهانه بعض الناس - إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني . وفي هذه الطريقة قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفتح : 10 ] وقيل : فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ، ولكنهم يجحدون بألسنتهم . وقيل : فإنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق الموسوم بالصدق ، ولكنهم يجحدون بآيات الله . وعن ابن عباس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ، ولكنهم كانوا يجحدون . وكان أبو جهل يقول : ما نكذبك لأنك عندنا صادق ، وإنما نكذب ما جئتنا به . وروي :
( 374 ) أنّ الأخنس بن شريق قال لأبي جهل : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد ، أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال له : والله إن محمداً لصادق وما كذب قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والنبوّة ، فماذا يكون لسائر قريش ، فنزلت ، وقوله : { ولكن الظالمين } من إقامة الظاهر مقام المضمر ، للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم .
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
{ وَلَقَدْ كُذّبَتْ } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا دليل على أن قوله : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ } [ الأنعام : 33 ] ليس بنفي لتكذيبه ، وإنما هو من قولك لغلامك : ما أهانوك ولكنهم أهانوني { على مَا كُذّبُواْ وَأُوذُواْ } على تكذيبهم وإيذائهم { وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله } لمواعيده من قوله : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } [ الصافات : 171 ] { وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين } بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين .
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
كان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزل : { لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } [ الشعراء : 3 ] ، { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] ، { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الأرض } منفذاً تنفذ فيه إلى ما تحت الأرض حتى تطلع لهم آية يؤمنون بها { أَوْ سُلَّماً فِى السماء فَتَأْتِيَهُمْ } منها { بئَايَةٍ } فافعل . يعني أنك لا تستطيع ذلك . والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وتهالكه عليه ، وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم . وقيل : كانوا يقترحون الآيات فكان يودُّ أن يجابوا إليها لتمادي حرصه على إيمانهم . فقيل له : إن استطعت ذلك فافعل ، دلالة على أنه بلغ من حرصه أنه لو استطاع ذلك لفعله حتى يأتيهم بما اقترحوا من الآيات لعلهم يؤمنون . ويجوز أن يكون ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء هو الإتيان بالآيات ، كأنه قيل : لو استطعت النفوذ إلى ما تحت الأرض أو الرقي إلى السماء لفعلت ، لعل ذلك يكون لك آية يؤمنون عندها . وحذف جواب «إن» كما تقول إن شئت أن تقوم بنا إلى فلان نزوره ولو شاء الله لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ } يعني أن الذين تحرص على أن يصدّقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون ، وإنما يستجيب من يسمع ، كقوله : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } [ النمل : 80 ] { والموتى يَبْعَثُهُمُ الله } مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة بأنه هو الذي يبعث الموتى من القبور يوم القيامة { ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } للجزاء فكان قادراً على هؤلاء الموتى بالكفر أن يحييهم بالإيمان . وأنت لا تقدر على ذلك . وقيل : معناه : وهؤلاء الموتى - يعني الكفرة - يبعثهم الله . ثم إليه يرجعون ، فحينئذ يسمعون . وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استماعهم وقرىء : «يرجعون» ، بفتح الياء .
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
{ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ } نزل بمعنى أنزل . وقرىء : «أن ينزل» بالتشديد والتخفيف . وذكر الفعل والفاعل مؤنث . لأن التأنيث آية غير حقيقي ، وحسن للفصل . وإنما قالوا ذلك مع تكاثر ما أنزل من الآيات على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لتركهم الاعتداد بما أنزل عليه ، كأنه لم ينزل عليه شيء من الآيات عناداً منهم { قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزّلٍ ءايَةً } تضطرهم إلى الإيمان . كنتق الجبل على بني إسرائيل ونحوه ، أو آية إن جحدوها جاءهم العذاب { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن الله قادر على أن ينزل تلك الآية ، وأن صارفاً من الحكمة يصرفه عن إنزالها .
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
{ أُمَمٌ أمثالكم } مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبت أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم { مَّا فَرَّطْنَا } ما تركنا وما أغفلنا { فِى الكتاب } في اللوح المحفوظ { مِن شَىْء } من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب أن يثبت مما يختص به { ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ } يعني الأمم كلها من الدواب والطير فيعوضها وينصف بعضها من بعض ، كما روي :
( 375 ) " أنه يأخذ للجماء من القرناء " ، فإن قلت : كيف قيل : { إِلاَّ أُمَمٌ } مع إفراد الدابة والطائر؟ قلت : لما كان قوله تعالى : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأرض وَلاَ طَائِرٍ } دالاً على معنى الاستغراق ومغنياً عن أن يقال : وما من دواب ولا طير ، حمل قوله : { إِلاَّ أُمَمٌ } على المعنى ، فإن قلت : هلا قيل : وما من دابة ولا طائر إلا أمم أمثالكم؟ وما معنى زيادة قوله : { وفِى الأرض } و { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } قلت : معنى ذلك زيادة التعميم والإحاطة ، كأنه قيل : وما من دابة فقط في جميع الأرضين السبع ، وما من طائر قط في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها . فإن قلت : فما الغرض في ذكر ذلك؟ قلت : الدلالة على عظم قدرته ، ولطف علمه ، وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس ، المتكاثرة الأصناف ، وهو حافظ لما لها وما عليها ، مهيمن على أحوالها ، لا يشغله شأن عن شأن ، وأنّ المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان . وقرأ ابن أبي عبلة : «ولا طائر» ، بالرفع على المحل ، كأنه قيل : وما دابة ولا طائر . وقرأ علقمة «ما فرطنا» بالتخفيف .
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
فإن قلت : كيف أتبعه قوله : { والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } ؟ قلت : لما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يشهد لربوبيته وينادي على عظمته قال : والمكذبون { صُمٌّ } لايسمعون كلام المنبه { وَبُكْمٌ } لا ينطقون بالحق ، خابطون في ظلمات الكفر ، فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه ، ثم قال إيذاناً بأنهم من أهل الطبع { مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ } أي يخذله ويخله وضلاله لم يلطف به ، لأنه ليس من أهل اللطف { وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ } أي يلطف به لأنّ اللطف يجدي عليه .
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
{ أَرَأَيْتُكُم } أخبروني . والضمير الثاني لا محل له من الإعراب؛ لأنك تقول : أرأيتك زيداً ما شأنه ، فلو جعلت للكاف محلاً لكنت كأنك تقول : أرأيت نفسك زيداً ما شأنه؟ وهو خلف من القول ، ومتعلق الاستخبار محذوف ، تقديره : إن أتاكم عذاب الله { أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة } من تدعون . ثم بكتهم بقوله : { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } بمعنى أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ ، أم تدعون الله دونها { بَلْ إياه تَدْعُونَ } بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } أي ما تدعونه إلى كشفه { إِن شَاء } إن أراد أن يتفضل عليكم ولم يكن مفسدة { وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } وتتركون آلهتكم أو لا تذكرونها في ذلك الوقت : لأن أذهانكم في ذلك الوقت مغمورة بذكر ربكم وحده ، إذ هو القادر على كشف الضرّ دون غيره ، ويجوز أن يتعلق الاستخبار بقوله : { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ } كأنه قيل : أغير الله تدعون إن أتاكم عذاب الله . فإن قلت : إن علقت الشرط به فما تصنع بقوله : { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } مع قوله : { أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة } وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين؟ قلت : قد اشترط في الكشف المشيئة ، وهو قوله : { إِن شَاء } إيذاناً بأنه إن فعل كان له وجه من الحكمة ، إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
البأساء ، والضراء : البؤس ، والضر . وقيل : البأساء : القحط والجوع . والضراء : المرض ونقصان الأموال والأنفس . والمعنى : ولقد أرسلنا إليهم الرسل فكذبوهم فأخذناهم { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } يتذللون ويتخشعون لربهم ويتوبون عن ذنوبهم { فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } معناه : نفي التّضرع ، كأنه قيل : فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا . ولكنه جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم ، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ } من البأساء والضراء : أي تركوا الاتعاظ به ولم ينفع فيهم ولم يزجرهم { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء } من الصحة والسعة وصنوف النعمة ، ليزاوج عليهم بين نوبتي الضراء والسراء ، كما يفعل الأب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى ، طلباً لصلاحه { حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ } من الخير والنعم ، لم يزيدوا على الفرح والبطر ، من غير انتداب لشكر ولا تصدّ لتوبة واعتذار { أخذناهم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } واجمون ، متحسرون آيسون { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم } آخرهم لم يترك منهم أحد ، قد استؤصلت شأفتهم { والحمد للَّهِ رَبّ العالمين } إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة ، وأنه من أجلّ النعم وأجزل القسم . وقرىء : { فَتَحْنَا } بالتشديد .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
{ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم } بأن يصمكم ويعميكم { وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ } بأن يغطي عليها ما يذهب عنده فهمكم وعقلكم { يَأْتِيكُمْ بِهِ } أي يأتيكم بذلك ، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة أو بما أخذ وختم عليه { يَصْدِفُونَ } يعرضون عن الآيات بعد ظهورها .
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
لما كانت البغتة أن يقع الأمر من غير أن يشعر به وتظهر أماراته ، قيل : { بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً } وعن الحسن : ليلاً أو نهاراً . وقرىء : «بغتة أو جهرة» { هَلْ يُهْلَكُ } أي ما يهلك هلاك تعذيب وسخط إلا الظالمون . وقرىء : ( هل يهلك ) بفتح الياء .
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
{ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } من آمن بهم وبما جاؤا به وأطاعهم ، ومن كذبهم وعصاهم ولم يرسلهم ليتلهى بهم ويقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم بالبراهين القاطعة { وَأَصْلَحَ } ما يجب عليه إصلاحه مما كلف .
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
جعل العذاب ماساً ، كأنه حيّ يفعل بهم ما يريد من الآلام . ومنه قولهم : لقيت منه الأمرّين والأقورين ، حيث جمعوا جمع العقلاء . وقوله : { إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] .
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
أي لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله - وهي قسمة بين الخلق وإرزاقه ، وعلم الغيب ، وأني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلقه الله تعالى وأفضله وأقربه منزلة منه . أي لم أدّع إلهية ولا ملكية؛ لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزل الملائكة ، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكرونها . وإنما أدّعي ما كان مثله لكثير من البشر وهو النبوّة { هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير } مثل للضالّ والمهتدي ويجوز أن يكون مثلاً لمن اتبع ما يوحي إليه . ومن لم يتبع . أو لمن ادّعى المستقيم وهو النبوة . والمحال وهو الإلهية أو الملكية { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } فلا تكونوا ضالين أشباه العميان . أو فتعلموا أني ما ادعيت ما لا يليق بالبشر . أو فتعلموا أن اتباع ما يوحى إليَّ مما لا بدّ لي منه . فإن قلت : { أَعْلَمُ الغيب } ما محله من الإعراب؟ قلت : النصب عطفاً على قوله : { عِندِى خَزَائِنُ الله } ، لأنه من جملة المقول كأنه قال : لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول .
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
{ وَأَنذِرْ بِهِ } الضمير راجع إلى قوله : و { وَمَا يُوحِى إِلَىَّ } و { الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ } إمّا قوم داخلون في الإسلام مقرّون بالبعث إلاّ أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما يوحي إليه { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي يدخلون في زمرة المتقين من المسلمين . وأمّا أهل الكتاب لأنهم مقرّون بالبعث . وإمّا ناس من المشركين علم من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا ، فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار ، دون المتمردّين منهم ، فأمر أن ينذر هؤلاء . وقوله : { لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } في موضع الحال من يحشروا ، بمعنى يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم ، ولا بدّ من هذه الحال ، لأنّ كلاًّ محشور ، فالمخوف إنما هو الحشر على هذه الحال .
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
ذكر غير المتقين من المسلمين وأمر بإنذارهم ليتقوا ، ثم أردفهم ذكر المتقين منهم وأمره بتقريبهم وإكرامهم ، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك ، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أي عبادته ويواظبون عليها ، والمراد بذكر الغداة والعشي : الدوام . وقيل معناه : يصلون صلاة الصبح والعصر ، ووسمهم بالإخلاص في عبادتهم بقوله : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } والوجه يعبر به عن ذات الشيء وحقيقته . روي :
( 376 ) أن رؤوساً من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو طردت عنا هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين ، وهم عمار وصهيب وبلال وخباب وسلمان وأضرابهم رضوان الله عليهم - وأرواح جبابهم - وكانت عليهم جباب من صوف جلسنا إليك وحادثناك ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما أنا بطارد المؤمنين . فقالوا : فأقمهم عنا إذا جئنا ، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت . فقال : نعم ، طمعاً في إيمانهم . وروي : أن عمر رضي الله عنه قال : لو فعلت حتى ننظر إلى ما يصيرون . قال فاكتب بذلك كتاباً ، فدعا بصحيفة وبعليّ رضي الله عنه ليكتب . فنزلت . فرمى بالصحيفة ، واعتذر عمر من مقالته .
( 377 ) قال سلمان وخباب : فينا نزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبتنا ركبته . وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمّتي . معكم المحيا ومعكم الممات و { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } كقوله : { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى } [ الشعراء : 113 ] وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم ، فقال : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه الله في أعمالهم على معنى : وإن كان الأمر على ما يقولون عند الله ، فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيمة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم عليهم لازم لهم لا يتعدّاهم إليك ، كما أن حسابك عليك لا يتعدّاك إليهم ، كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الزمر : 7 ] . فإن قلت : أما كفى قوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء } حتى ضم إليه { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء } ؟ قلت : قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة ، وقصد بهما مؤدى واحد وهو المعنيّ في قوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الزمر : 7 ] ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعاً ، كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه . وقيل : الضمير للمشركين . والمعنى : لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت بحسابهم ، حتى يهمك إيمانهم ويحرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين { فَتَطْرُدَهُمْ } جواب النفي { فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } جواب النهي . ويجوز أن يكون عطفاً على { فَتَطْرُدَهُمْ } على وجه التسبيب ، لأن كونه ظالماً مسبب عن طردهم . وقرىء : «بالغدوة والعشي» .
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
{ وكذلك فَتَنَّا } ومثل ذلك الفتن العظيم ، فتنا بعض الناس ببعض ، أي ابتليناهم بهم . وذلك أنّ المشركين كانوا يقولون للمسلمين { أهؤلاء } الذين { مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا } أي أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحق ولما يسعدهم عنده من دوننا ، ونحن المقدمون والرؤساء ، وهم العبيد والفقراء ، إنكاراً لأن يكون أمثالهم على الحق وممنوناً عليهم من بينهم بالخير ، ونحوه { أَءلْقِىَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } [ القمر : 25 ] ، { وَلَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] . ومعنى فتناهم ليقولوا ذلك : خذلناهم فافتتنوا ، حتى كان افتنانهم سبباً لهذا القول ، لأنه لا يقول مثل قولهم هذا إلاّ مخذول مفتون { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان . وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق .
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
{ فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ } إما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم . وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لقلوبهم . وكذلك قوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } من جملة ما يقول لهم ليسرهم ويبشرهم بسعة رحمة الله وقبوله التوبة منهم . وقرىء : «إنه» فإنه بالكسر على الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ } وبالفتح على الإبدال من الرحمة { بِجَهَالَةٍ } في موضع الحال ، أي عمله وهو جاهل . وفيه معنيان ، أحدهما : أنه فاعل فعل الجهلة لأنّ من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظانّ فهو من أهل السفه والجهل ، لا من أهل الحكمة والتدبير . ومنه قول الشاعر :
عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ عَشِيَّةَ زُرْتُهَا ... جَهِلْتَ عَلَى عَمْدٍ وَلَمْ تَكُ جَاهِلا
والثاني : أنه جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة . ومن حق الحكيم أن لا يقدم على شيء حتى يعلم حاله وكيفيته . وقيل : إنها نزلت في عمر رضي الله عنه حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما سألوا ولم يعلم أنها مفسدة .
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
وقرىء : «ولتستبين» بالتاء والياء مع رفع السبيل لأنها تذكر وتؤنث . وبالتاء على خطاب الرسول مع نصب السبيل . يقال : استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته . والمعنى : ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين . من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه ، ومن يرى فيه إمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة ، ومن دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده ، ولتستوضح سبيلهم فتعامل كلاً منهم بما يجب أن يعامل به ، فصلنا ذلك التفصيل .
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
{ نُهِيتُ } صرفت وزجرت ، بما ركب فيّ من أدلة العقل ، وبما أوتيت من أدلة السمع عن عبادة ما تعبدون { مِن دُونِ الله } وفيه استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا فيه على غير بصيرة { قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ } أي لا أجري في طريقتكم التي سلكتموها في دينكم من اتباع الهوى دون اتباع الدليل ، وهو بيان للسبب الذي منه وقعوا في الضلال ، وتنبيه لكل من أراد إصابة الحق ومجانبة الباطل { قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً } أي إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال وما أنا من الهدى في شيء يعني أنكم كذلك . ولما نفى أن يكون الهوى متبعاً نبه على ما يجب اتباعه بقوله : { قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } ومعنى قوله : { إِنّى على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَكَذَّبْتُم بِهِ } : إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه ، على حجة واضحة وشاهد صدق { وَكَذَّبْتُم بِهِ } أنتم حيث أشركتم به غيره . ويقال : أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه ، إذا كان ثابتاً عندك بدليل . ثم عقبه بما دل على استعظام تكذيبهم بالله وشدة غضبه عليهم لذلك وأنهم أحقاء بأن يغافصوا بالعذاب المستأصل فقال : { مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } في تأخير عذابكم { يَقْضي الحق } أي القضاء الحق في كل ما يقضي من التأخير والتعجيل في أقسامه { وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين } أي القاضين . وقرىء : «يقص الحق» أي يتبع الحق والحكمة فيما يحكم به ويقدّره ، من قص أثره { لَّوْ أَنَّ عِندِى } أي في قدرتي وإمكاني { مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } من العذاب { لَقُضِىَ الامر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي وامتعاضاً من تكذيبكم به . ولتخلصت منكم سريعاً { والله أَعْلَمُ بالظالمين } وبما يجب في الحكمة من كنه عقابهم . وقيل { على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } على حجة من جهة ربي وهي القرآن { وَكَذَّبْتُم بِهِ } أي بالبينة . وذكر الضمير على تأويل البيان أو القرآن . فإن قلت : بم انتصب الحق؟ قلت : بأنه صفة لمصدر يقضي أي يقضي القضاء الحق . ويجوز أن يكون مفعولاً به من قولهم : قضى الدرع إذا صنعها ، أي يصنع الحق ويدبره . وفي قراءة عبد الله : «يقضى بالحق» فإن قلت : لم أسقطت الياء في الخط؟ قلت : إتباعاً للخط اللفظ ، وسقوطها في اللفظ لالتقاء الساكنين .
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة ، لأنّ المفاتح يتوصل بها إلى ما في المخازن المتوثق منها بالأغلاق والأقفال . ومن علم مفاتحها وكيف تفتح ، توصل إليها ، فأراد أنه هو المتوصل إلى المغيبات وحده لا يتوصل إليها غيره كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ، فهو المتوصل إلى ما في المخازن . والمفاتح : جمع مفتح وهو المفتاح . وقرىء : «مفاتيح» ، وقيل : هي جمع مفتح - بفتح الميم - وهو المخزن . { وَلاَ حَبَّةٍ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ } عطف على ورقة وداخل في حكمها ، كأنه قيل : وما يسقط من شيء من هذه الأشياء إلا يعلمه . وقوله : { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } كالتكرير لقوله : { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } لأنّ معنى { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } ومعنى { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } واحد . والكتاب المبين : علم الله تعالى ، أو اللوح : وقرىء : «ولا حبةٌ ، ولا رطبٌ ، ولا يابسٌ» بالرفع . وفيه وجهان : أن يكون عطفاً على محل { مِن وَرَقَةٍ } وأن يكون رفعاً على الابتداء وخبره { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } : كقولك : لا رجل منهم ولا امرأة إلاّ في الدار .
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
{ وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل } الخطاب للكفرة ، أي أنتم منسدحون الليل كله كالجيف { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } ما كسبتم من الآثام فيه { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم ، من النوم بالليل ، وكسب الأثام بالنهار ، ومن أجله ، كقولك : فيم دعوتني؟ فتقول : في أمر كذا { ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى } وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم . { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } وهو المرجع إلى موقف الحساب { ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في ليلكم ونهاركم .
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
{ حَفَظَةً } ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبون . وعن أبي حاتم السجستاني أنه كان يكتب عن الأصمعي كل شيء يلفظ به من فوائد العلم ، حتى قال فيه : أنت شبيه الحفظة ، تكتب لغط اللفظة : فقال أبو حاتم : وهذا أيضاً مما يكتب . فإن قلت : الله تعالى غنيّ بعلمه عن كتبة الملائكة ، فما فائدتها؟ قلت : فيها لطف للعباد ، لأنهم إذا علموا أن الله رقيب عليهم والملائكة الذين هم أشرف خلقه موكلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤس الأشهاد في مواقف القيامة ، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح وأبعد عن السوء { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } أي استوفت روحه وهم ملك الموت وأعوانه . وعن مجاهد : جعلت الأرض له مثل الطست يتناول من يتناوله . وما من أهل بيت إلاّ ويطوف عليهم في كل يوم مرّتين . وقرىء : «توفاه» ، ويجوز أن يكون ماضياً ومضارعاً بمعنى تتوفاه . و { يُفَرّطُونَ } بالتشديد والتخفيف ، فالتفريط التواني والتأخير عن الحدّ ، والإفراط مجاوزة الحدّ أي لا ينقصون مما أمروا به أو لا يزيدون فيه { ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله } أي إلى حكمه وجزائه { مولاهم } مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم { الحق } العدل الذي لا يحكم إلاّ بالحق { أَلاَ لَهُ الحكم } يومئذ لا حكم فيه لغيره { وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين } لا يشغله حساب عن حساب . وقرىء : «الحقَّ» بالنصب على المدح كقولك : الحمد لله الحقَّ .
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
{ ظلمات البر والبحر } مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما . يقال لليوم الشديد : يوم مظلم ، ويوم ذو كواكب . أي اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل؛ ويجوز أن يراد . ما يشفون عليه من الخسف في البر والغرق في البحر بذنوبهم ، فإذا دعوا وتضرعوا كشف الله عنهم الخسف والغرق فنجوا من ظلماتها { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا } على إرادة القول { مِنْ هذه } من هذه الظلمة الشديدة . وقرىء : { يُنَجّيكُمْ } بالتشديد والتخيف ، وأنجانا ، وخفية ، بالضم والكسر .
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
{ هُوَ القادر } هو الذي عرفتموه قادراً وهو الكامل القدرة { عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ } كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة ، وأرسل على قوم نوح الطوفان { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } كما أغرق فرعون وخسف بقارون ، وقيل من فوقكم : من قبل أكابركم وسلاطينكم . ومن تحت أرجلكم : من قبل سفلتكم وعبيدكم . وقيل : هو حبس المطر والنبات { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } أو يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى ، كل فرقة منكم مشايعة لإمام . ومعنى خلطهم : أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال ، من قوله :
وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَة ... حَتَّى إذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 378 ) « سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني ، وأخبرني جبريل أنّ فناء أمتي بالسيف » ، وعن جابر بن عبد الله :
( 379 ) لما نزل { مّن فَوْقِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعوذ بوجهك » فلما نزل : { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } قال : « هاتان أهون » ومعنى الآية : الوعيد بأحد أصناف العذاب المعدودة . والضمير في قوله : { وَكَذَّبَ بِهِ } راجع إلى العذاب { وَهُوَ الحق } أي لا بدّ أن ينزل بهم { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } بحفيظ وكُل إليَّ أمركم أمنعكم من التكذيب إجباراً ، إنما أنا منذر { لِّكُلِّ نَبَإٍ } لكل شيء ينبأ به ، يعني إنباءهم بأنهم يعذبون وإيعادهم به { مُّسْتَقِرٌّ } وقت استقرار وحصول لا بدّ منه . وقيل : الضمير في { نَبَإٍ } للقرآن .
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
{ يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا } في الاستهزاء بها والطعن فيها؛ وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } فلا تجالسهم وقم عنهم { حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ } فلا بأس أن تجالسهم حينئذ { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان } وإن شغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم { فَلاَ تَقْعُدْ } معهم { بَعْدَ الذكرى } بعد أن تذكر النهي . وقرىء : «ينسينك» بالتشديد . ويجوز أن يراد : وإن كان الشيطان ينسينك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول { فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى } بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم { وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْءٍ } وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم { ولكن } عليهم أن يذكروهم { ذكرى } إذا سمعوهم يخوضون ، بالقيام عنهم ، وإظهار الكراهة لهم ، وموعظتهم { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } لعلهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم . ويجوز أن يكون الضمير للذين يتقون ، أي يذكرونهم إرادة أن يثبتوا على تقواهم ويزدادوها . وروي : أن المسلمين قالوا : لئن كنا نقوم كلما استهزؤا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف ، فرخص لهم . فإن قلت : ما محل { ذكرى } ؟ قلت : يجوز أن يكون نصباً على : ولكن يذكرونهم ذكرى ، أي تذكيراً . ورفعاً على : ولكن عليهم ذكرى . ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل { مِن شَىْءٍ } ، كقولك : ما في الدار من أحد ولكن زيد ، لأنّ قوله : { مِنْ حِسَابِهِم } يأبى ذلك .
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً } أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لعباً ولهواً . وذلك أن عبدة الأصنام وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك ، من باب اللعب واللهو واتباع هوى النفس والعمل بالشهوة ، ومن جنس الهزل دون الجد . أواتخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها ديناً لهم . أواتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً ، حيث سخروا به واستهزؤا . وقيل : جعل الله لكل قوم عيداً يعظمونه ويصلون فيه ويعمرونه بذكر الله والناس كلهم من المشركين وأهل الكتاب اتخذوا عيدهم لعباً ولهواً ، وغير المسلمين فإنهم اتخذوا عيدهم كما شرعه الله . ومعنى «ذرهم» أعرض عنهم ، ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ولا تشغل قلبك بهم ، { وَذَكّرْ بِهِ } أي : بالقرآن { أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ } مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسبها . وأصل الإبسال المنع ، لأن المسلم إليه يمنع المسلم ، قال :
وَإبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْم ... بَعَوْنَاهُ وَلاَ بِدَمٍ مُرَاقِ
ومنه : هذا عليك بسل ، أي حرام محظور . والباسل : الشجاع لامتناعه من قرنه ، أو لأنه شديد البسور . يقال : بسر الرجل إذا اشتد عبوسه . فإذا زاد قالوا : بسل . والعابس : منقبض الوجه { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا } وإن تفد كل فداء ، والعدل : الفدية . لأن الفادي يعدل المفدي بمثله . وكلّ عدل : نصب على المصدر . وفاعل { يُؤْخَذْ } قوله : { مِنْهَآ } لا ضمير العدل لأن العدل ههنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ . وأما في قوله تعالى : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 48 ] فبمعنى المفديّ به ، فصحّ إسناده إليه { أولئك } إشارة إلى المتخذين دينهم لعباً ولهواً . قيل : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأوثان .
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
{ قُلْ أَنَدْعُواْ } أنعبد { مِن دُونِ الله } الضارّ النافع ما لا يقدر على نفعنا ولا مضرتنا { وَنُرَدُّ على أعقابنا } راجعين إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله منه وهدانا للإسلام { كالذى استهوته الشياطين } كالذي ذهبت به مردة الجن والغيلان { فِى الأرض } المهمه { حَيْرَانَ } تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري كيف يصنع { لَهُ } أي لهذا المستهوى { أصحاب } رفقة { يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى } إلى أن يهدوه الطريق المستوي . أو سمي الطريق المستقيم بالهدى ، يقولون له { ائتنا } وقد اعتسف المهمه تابعاً للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم . وهذا مبني على ما تزعمه العرب وتعتقده : أن الجنّ تستهوي الإنسان . والغيلان تستولي عليه ، كقوله : { كالذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } [ البقرة : 275 ] فشبه الضالّ عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم { قُلْ إِنَّ هُدَى الله } وهو الإسلام { هُوَ الهدى } وحده وما وراءه ضلال وغيّ { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا } [ آل عمران : 85 ] . { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } [ يونس : 32 ] . فإن قلت : فما محل الكاف في قوله : { كالذى استهوته } ؟ قلت النصب على الحال من الضمير في { نُرَدُّ على أعقابنا } أي : أننكص مشبهين من استهوته الشياطين؟ فإن قلت : ما معنى { استهوته } ؟ قلت : هو استفعال ، من هوى في الأرض إذا ذهب فيها ، كأن معناه : طلبت هويه وحرصت عليه . فإن قلت : ما محل : { أَمْرُنَا } قلت : النصب عطفاً على محل قوله : { إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } على أنهما مقولان ، كأنه قيل : قل هذا القول وقل أمرنا لنسلم . فإن قلت : ما معنى اللام في { لِنُسْلِمَ } ؟ قلت : هي تعليل للأمر ، بمعنى : أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم . فإن قلت : فإذا كان هذا وارداً في شأن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فكيف قيل للرسول عليه الصلاة والسلام قل أندعو؟ قلت : للاتحاد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، خصوصاً بينه وبين الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنه .
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
فإن قلت : علام عطف قوله : { وَأَنْ أَقِيمُواْ } ؟ قلت : على موضع { لِنُسْلِمَ } كأنه قيل : وأمرنا أن نسلم ، وأن أقيموا ويجوز أن يكون التقدير وأمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا : أي للإسلام ولإقامة الصلاة { قَوْلُهُ الحق } مبتدأ . ويوم يقول : خبره مقدّماً عليه ، وانتصابه بمعنى الاستقراء ، كقولك : يوم الجمعة القتال . واليوم بمعنى الحين . والمعنى : أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحق والحكمة ، وحين يقول لشيء من الأشياء { كُن } فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة ، أي لا يكون شيئاً من السموات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب . و { يَوْمَ يُنفَخُ } ظرف لقوله : { وَلَهُ الملك } كقوله : { لّمَنِ الملك اليوم } ؟ [ غافر : 16 ] ويجوز أن يكون { قَوْلُهُ الحق } فاعل يكون ، على معنى : وحين يقول لقوله الحق ، أي لقضائه الحق { كُن } فيكون قوله الحق . وانتصاب اليوم لمحذوف دلّ عليه قوله { بالحق } كأنه قيل : وحين يكوّن ويقدّر يقوم بالحق { عالم الغيب } هو عالم الغيب ، وارتفاعه على المدح .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
{ ءَازَرَ } اسم أبي إبراهيم عليه السلام . وفي كتب التواريخ أنّ اسمه بالسريانية تارح . والأقرب أن يكون وزن { ءَازَرَ } فاعل مثل تارح وعابر وعازر وشالخ وفالغ وما أشبهها من أسمائهم ، وهو عطف بيان لأبيه . وقرىء : «آزر» بالضم على النداء . وقيل : «آزر» اسم صنم ، فيجوز أن ينبز به للزومه عبادته ، كما نبز ابن قيس بالرقيات اللاتي كان يشبب بهنّ ، فقيل : ابن قيس الرقيات . وفي شعر بعض المحدثين :
أُدْعَى بَأَسْمَاءَ نَبْزاً في قَبَائِلِهَا ... كَأَنَّ أَسْمَاءَ أَضْحَتْ بَعْدُ أَسْمَائِي
أو أريد عابد آزر ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقرىء : «ءأزر» تتخذ أصناماً آلهة بفتح الهمزة وكسرها بعد همزة الاستفهام وزاي ساكنة وراء منصوبة منونة ، وهو اسم صنم . ومعناه : أتعبد آزراً على الإنكار؟ ثم قال : تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً ، وهو داخل في حكم الإنكار ، لأنه كالبيان له { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل } عطف على قال إبراهيم لأبيه : وقوله : { وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم } جملة معترض بها بين المعطوف والمعطوف عليه . والمعنى : مثل ذلك التعريف والتبصير نعرف إبراهيم ونبصره . ملكوت السموات والأرض : يعني الربوبية والإلهية ونوفقه لمعرفتها ونرشده بما شرحنا صدره وسدّدنا نظره وهديناه لطريق الاستدلال . وليكون من الموقنين : فعلنا ذلك . ونروي : حكاية حال ماضية ، وكان أبوه [ آزر ] وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب ، فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم ، وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤدّ إلى أن شيئاً منها لا يصحّ أن يكون إلها ، لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن وراءها محدثاً أحدثها ، وصانعاً صنعها ، مدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها { هذا رَبّى } قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل ، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه . لأن ذلك أدعى إلى الحق وأنجى من الشغب ، ثم يكرّ عليه بعد حكايته فيبطله بالحجة { لا أُحِبُّ الأفلين } لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال ، المتنقلين من مكان إلى آخر ، المحتجبين بستر ، فإنّ ذلك من صفات الأجرام { بَازِغاً } مبتدئاً في الطلوع { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى } تنبيه لقومه على أنّ من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكوكب في الأفول ، فهو ضال ، وأنّ الهداية إلى الحق بتوفيق الله ولطفه { هذا أَكْبَرُ } من باب استعمال النصفة أيضاً مع خصومه { إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها { إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السماوات والأرض } أي للذي دلت هذه المحدثات عليه وعلى أنه مبتدؤها ومبتدعها . وقيل : هذا كان نظره واستدلاله في نفسه ، فحكاه الله . والأوّل أظهر لقوله : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى } وقوله : { قَالَ ياقوم إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } .
فإن قلت : لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ ، وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت : الاحتجاج بالأفول أظهر ، لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب . فإن قلت : ما وجه التذكير في قوله : { هذا رَبّى } والإشارة للشمس؟ قلت : جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد ، كقولهم : ما جاءت حاجتك ، ومن كانت أمك ، و { لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث . ألا تراهم قالوا في صفة الله «علام» ولم يقولوا «علامة» وإن كان العلامة أبلغ ، احترازاً من علامة التأنيث . وقرىء : «تري إبراهيمَ ملكوتُ السموات والأرض» بالتاء ورفع الملكوت . ومعناه : تبصره دلائل الربوبية .
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
{ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى الله } وكانوا حاجوه في توحيد الله ونفي الشركاء عنه منكرين لذلك { وَقَدْ هدان } يعني إلى التوحيد { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } وقد خوفوه أن معبوداتهم تصيبه بسوء { إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً } إلاّ وقت مشيئة ربي شيئاً يخاف ، فحذف الوقت ، يعني لا أخاف معبوداتكم في وقت قط؛ لأنها لا تقدر على منفعة ولا مضرة ، إلاّ إذا شاء ربي أن يصيبني بمخوف من جهتها إن أصبت ذنباً استوجب به إنزال المكروه ، مثل أن يرجمني بكوكب أو بشقة من الشمس أو القمر ، أو يجلعها قادرة على مضرتي { وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً } أي ليس بعجب ولا مستبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف بي من جهتها { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز { وَكَيْفَ أَخَافُ } لتخويفكم شيئاً مأمون الخوف لا يتعلق به ضرر بوجه { و } أنتم { لا تخافون } ما يتعلق به كل مخوف وهو إشراككم بالله ما لم ينزل بإشراكه { سلطانا } أي حجة ، لأن الإشراك لا يصحّ أن يكون عليه حجة ، كأنه قال : وما لكم تنكرون علي الأمن في موضع الأمن ، ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف . ولم يقل : فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم ، احترازاً من تزكيته نفسه ، فعدل عنه إلى قوله : { فَأَىُّ الفريقين } يعني فريقي المشركين والموحدين . ثم استأنف الجواب على السؤال بقوله : { الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ } أي لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم . وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللبس { وَتِلْكَ } إشارة إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام على قومه من قوله : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل } إلى قوله : { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } . ومعنى { ءاتيناهآ } أرشدناه إليها ووفقناه لها { نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء } يعني في العلم والحكمة . وقرىء بالتنوين { وَمِن ذُرّيَّتِهِ } الضمير لنوح أو لإبراهيم . و { دَاوُودُ } عطف على نوحاً ، أي وهدينا داود { وَمِنْ ءابَائِهِمْ } في موضع النصب عطفاً على كلاًّ ، بمعنى : وفضلنا بعض آبائهم { وَلَوْ أَشْرَكُواْ } مع فضلهم وتقدمهم وما رفع لهم من الدرجات . لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم ، كما قال تعالى وتقدّس { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] . { ءاتيناهمالكتاب } يريد الجنس { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا } بالكتاب والحكمة والنبوّة . أو بالنبوّة { هؤلاء } يعني أهل مكة { قَوْماً } هم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم بدليل قوله : { أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } وبدليل وصل قوله : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء } بما قبله . وقيل : هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكل من آمن به . وقيل : كل مؤمن من بني آدم .
وقيل : الملائكة وادّعى الأنصار أنها لهم . وعن مجاهد : هم الفرس . ومعنى توكيلهم بها : أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكّل الرجل بالشيء ليقوم به ، ويتعهده ويحافظ عليه . والباء في { بِهَا } صلة كافرين . وفي { بكافرين } تأكيد النفي . { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } فاختص هداهم بالاقتداء ، ولا تقتد إلاّ بهم . وهذا معنى تقديم المفعول ، والمراد بهداهم طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع ، فإنها مختلفة وهي هدى ، ما لم تنسخ . فإذا نسخت لم تبق هدى ، بخلاف أصول الدين فإنها هدى أبداً . والهاء في { اقتده } للوقف تسقط في الدرج . واستحسن إيثار الوقف لثبات الهاء في المصحف .
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
{ وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } وما عرفوه حق معرفته في الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم ، وذلك من أعظم وأجلّ نعمته { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدّة بطشه بهم ، ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة . والقائلون هم اليهود ، بدليل قراءة من قرأ : «تجعلونه» بالتاء . وكذلك { تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ } وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى عليه السلام وأدرج تحت الإلزام توبيخهم وأن نعي عليهم سوء جهلهم لكتابهم وتحريفهم ، وإبداء بعض وإخفاء بعض فقيل : { جَاء بِهِ موسى } وهو نور وهدى للناس ، حتى غيروه ، ونقصوه وجعلوه قراطيس مقطعة وورقات مفرقة ، ليتمكنوا مما راموا من الإبداء والإخفاء . وروي :
( 380 ) أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أنّ الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين ، قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود " فضحك القوم ، فغضب ، ثم التفت إلى عمر فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء ، فقال له قومه : ويلك ما هذا الذي بلغنا عنك؟ قال : إنه أغضبني ، فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف . وقيل : القائلون قريش وقد ألزموا إنزال التوراة لأنهم كانوا يسمعون من اليهود بالمدينة ذكر موسى والتوراة ، وكانوا يقولون لو أنا أنزل علينا الكتاب ، لكنا أهدى منهم { وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ } الخطاب لليهود ، أي علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم مما أوحى إليه ما لم تعلموا أنتم ، وأنتم حملة التوراة ، ولم يعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم { إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ النمل : 76 ] وقيل الخطاب لمن آمن من قريش ، كقوله تعالى : { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم } [ يس : 6 ] . { قُلِ الله } أي أنزله الله ، فإنهم لا يقدرون أن يناكروك { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ } في باطلهم الذي يخوضون فيه ، ولا عليك بعد إلزام الحجة . ويقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه : إنما أنت لاعب . و { يَلْعَبُونَ } حال من ذرهم ، أو من خوضهم ، ويجوز أن يكون { فِى خَوْضِهِمْ } حالاً من يلعبون ، وأن يكون صلة لهم أو لذرهم .
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
{ مُّبَارَكٌ } كثير المنافع والفوائد { وَلِتُنذِرَ } معطوف على ما دلّ عليه صفة الكتاب ، كأنه قيل : أنزلناه للبركات ، وتصديق ما تقدمه من الكتب والإنذار . وقرىء : «ولينذر» بالياء والتاء . وسميت مكة { أُمَّ القرى } لأنها مكان أول بيت وضع للناس ، ولأنها قبلة أهل القرى كلها ومحجهم . لأنها أعظم القرى شأناً لبعض المجاورين :
فَمَنْ يَلْقَى فِي الْقُرَيَّاتِ رَحْلَه ... فَأُمُّ الْقُرَى مُلْقَى رِحَالِي وَمُنْتَابِي
{ والذين يُؤْمِنُونَ بالاخرة } يصدّقون بالعاقبة ويخافونها { يُؤْمِنُونَ } بهذا الكتاب . وذلك أنّ أصل الدين خوف العاقبة ، فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن . وخصّ الصلاة لأنها عماد الدين . ومن حافظ عليها كانت لطفاً في المحافظة على أخواتها .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
{ افترى عَلَى الله كَذِبًا } فزعم أن الله بعثه نبياً { أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء } وهو مسيلمة الحنفي الكذاب . أو كذاب صنعاء الأسود العنسي . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب فكبرا عليّ وأهماني فأوحى الله إليّ أن أنفخهما ، فنفختهما فطارا عني ، فأولتهما الكذابين الذين أنا بينهما : كذاب اليمامة مسيلمة . وكذاب صنعاء الأسود العنسي » { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله } هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي .
( 382 ) كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا أملى عليه سميعاً عليماً ، كتب هو : عليماً حكيماً . وإذا قال : عليماً حكيماً ، كتب غفوراً رحيماً . فلما نزلت : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] إلى آخر الآية ، عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان : فقال : تبارك الله أحسن الخالقين . فقال عليه الصلاة والسلام اكتبها : فكذلك نزلت ، فشك عبد الله وقال : لئن كان محمداً صادقاً لقد أوحي إليّ مثل ما أُوحي إليه . ولئن كان كاذباً فلقد قلت كما قال : فارتدّ عن الإسلام ولحق بمكة ، ثم رجع مسلماً قبل فتح مكة . وقيل : هو النضر بن الحرث والمستهزؤن { وَلَوْ تَرَى } جوابه محذوف . أي : رأيت أمراً عظيماً { إِذِ الظالمون } يريد الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة ، فتكون اللام للعهد . ويجوز أن تكون للجنس فيدخل فيه هؤلاء لاشتماله . و { غَمَرَاتِ الموت } شدائده وسكراته ، وأصل الغمرة : ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدّة الغالبة { بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ } يبسطون إليهم أيديهم يقولون : هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم . وهذه عبارة عن العنف في السياق ، والإلحاح ، والتشديد في [ الإزهاق ] ، من غير تنفيس وإمهال ، وإنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط يبسط يده إلى من عليه الحق ، ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ، ويقول له : [ أخرج ] إليّ ما لي عليك الساعة ، ولا أريم مكاني ، حتى أنزعه من أحداقك . وقيل : معناه باسطو أيديهم عليهم بالعذاب { أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ } خلصوها من أيدينا ، أي لا تقدرون على الخلاص { اليوم تُجْزَوْنَ } يجوز أن يريدوا وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع ، وأن يريدوا الوقت الممتدّ المتطاول الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة . والهون الشديد ، وإضافة العذاب إليه كقولك : رجل سوء يريد العراقة في الهوان والتمكن فيه { عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ } فلا تؤمنون بها .
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
{ فرادى } منفردين عن أموالكم وأولادكم وما حرصتم عليه ، وآثرتموه من دنياكم ، وعن أوثانكم التي زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله { كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ } على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد { وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم } ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة { وَرَاء ظُهُورِكُمْ } لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيراً ولا قدّمتموه لأنفسكم { فِيكُمْ شُرَكَاء } في استبعادكم ، لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها ، فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم . وقرىء : «فرادى» بالتنوين . وفراد ، مثل ثلاث . وفردى ، نحو سكرى : فإن قلت : كما خلقناكم ، في أي محل هو؟ قلت : في محل النصب صفة لمصدر جئتمونا ، أي مجيئنا مثل خلقنا لكم { تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } وقع التقطع بينكم ، كما تقول : جمع بين الشيئين ، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل ومن رفع فقد أسند الفعل إلى الظرف كما تقول قوتل خلفكم وأمامكم . وفي قراءة عبد الله : «لقد تقطع ما بينكم» .
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
{ فَالِقُ الحب والنوى } بالنبات والشجر . وعن مجاهد : أراد الشقين الذين في النواة والحنطة { يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } أي الحيوان ، والنامي من النطف . والبيض والحب والنوى { وَمُخْرِجُ } هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي . فإن قلت : كيف قال : { مُخْرَجَ الميت مِنَ الحى } بلفظ اسم الفاعل ، بعد قوله : { يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } قلت : عطفه على فالق الحب والنوى ، لا على الفعل . ويخرج الحيَّ من الميت : موقعة موقع الجملة المبينة لقوله : { فَالِقُ الحب والنوى } لأنّ فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحيّ من الميت ، لأنّ النامي في حكم الحيوان . ألا ترى إلى قوله : { يحيي الأرض بعد موتها } [ الروم : 50 ] ، { ذَلِكُمُ الله } أي ذلكم المحي والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية { فأنى تُؤْفَكُونَ } فكيف تصرفون عنه وعن توليه إلى غيره .
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
{ الإصباح } مصدر سمي به الصبح . وقرأ الحسن بفتح الهمزة جمع صبح ، وأنشد قوله :
[ أفْنَى ] رَبَاحاً وَبَنِي رَبَاح ... تنَاسُخُ الإمْسَاءِ وَالإصْبَاح
بالكسر والفتح مصدرين ، وجمع مساء وصبح . فإن قلت : فما معنى فلق الصبح ، والظلمة هي التي تنفلق عن الصبح . كما قال :
تَرَدَّتْ بِهِ ثُمَّ انْفَرَي عَنْ أدِيمِهَا ... تَفَرَّى لَيْلٍ عَنْ بَيَاضِ نَهَارٍ
قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد فالق ظلمة الإصباح ، وهي الغبش في آخر الليل ، ومنقضاه الذي يلي الصبح . والثاني : أن يراد فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار وإسفاره . وقالوا : انشق عمود الفجر . وانصدع الفجر . وسموا الفجر فلقاً بمعنى مفلوق . وقال الطائي :
وَأزْرَقُ الْفَجْرِ يَبْدُو قَبْلَ أبَيْضِهِ ... وَأَوَّلُ الْغَيْثِ قَطْرٌ ثُمَّ يَنْسَكِبُ
وقرىء : «فالق الإصباح ، وجاعل الليل سكناً» بالنصب على المدح . وقرأ النخعي : «فلق الإصباح وجعل الليل» السكن : ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناساً به واسترواحاً إليه ، من زوج أو حبيب . ومنه قيل للنار : سكن؛ لأنه يستأنس بها . ألا تراهم سموها المؤنسة ، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه ، ويجوز أن يراد : وجعل الليل مسكوناً فيه من قوله : { لتسكنوا فيه } { والشمس والقمر } قرئاً بالحركات الثلاث ، فالنصب على إضمار فعل دلّ عليه جاعل الليل ، أي وجعل الشمس والقمر حسباناً . أو يعطفان على محل الليل . فإن قلت كيف يكون لليل محل والإضافة حقيقية ، لأنّ اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضيّ ، ولا تقول : زيد ضارب عمراً أمس؟ قلت : ما هو في معنى المضيّ ، وإنما هو دال على جعل مستمرّ في الأزمنة المختلفة ، وكذلك فالق الحب ، وفالق الإصباح ، كما تقول : الله قادر عالم ، فلا تقصد زماناً دون زمان ، والجر عطف على لفظ الليل ، والرفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والشمس والقمر مجعولان حسباناً ، أو محسوبان حسباناً . ومعنى جعل الشمس والقمر حسباناً : جعلهما على حسبان ، لأنّ حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما . والحسبان - بالضم - : مصدر حسب ، كما أنّ الحسبان - بالكسر - مصدر حسب . ونظيره الكفران والشكران { ذلك } إشارة إلى جعلهما حسباناً ، أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم { تَقْدِيرُ العزيز } الذي قهرهما وسخرهما { العليم } بتدبيرهما وتدويرهما .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
{ فِى ظلمات البر والبحر } في ظلمات الليل بالبر والبحر ، وأضافها إليهما لملابستها لهما ، أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات .
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
من فتح قاف المستقر ، كان المستودع اسم مكان مثله أو مصدراً . ومن كسرها ، كان اسم فاعل والمستودع اسم مفعول . والمعنى فلكم مستقرّ في الرحم . ومستودع في الصلب ، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها . أو فمنكم مستقر ومنكم مستودع . فإن قلت : لم قيل { يَعْلَمُونَ } مع ذكر النجوم و { يَفْقَهُونَ } مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت : كان إنشاء الإنس من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيراً ، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقاً له .
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ } بالماء { نَبَاتَ كُلّ شَىْء } نبت كل صنف من أصناف النامي ، يعني أن السبب واحد وهو الماء . والمسببات صنوف مفتنة ، كما قال : { يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل } [ الرعد : 4 ] . { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } من النبات { خَضِرًا } شيئاً غضاً أخضر . يقال أخضر وخضر ، كأعور وعور ، وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة { نُخْرِجُ مِنْهُ } من الخضر { حَبّاً مُّتَرَاكِباً } وهو السنبل . و { قنوان } رفع الابتداء . و { مِنْ النخل } خبره . و { مِن طَلْعِهَا } بدل منه ، كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل قنوان . ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة أخرجنا عليه تقديره ومخرجة من طلع النخل قنوان ومن قرأ يخرج منه حب متراكب ، كان { قنوان } عنده معطوفاً على حب . والقنوان : جمع قنو ، ونظيره : صنو وصنوان . وقرىء : بضم القاف وبفتحها ، على أنه اسم جمع كركب؛ لأنّ فعلان ليس من زيادة التكسير { دَانِيَةٌ } سهلة المجتنى معرضة للقاطف ، كالشيء الداني القريب المتناول؛ ولأنّ النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتي بالثمر لا تنتظر الطول . وقال الحسن : دانية قريب بعضها من بعض . وقيل : ذكر القريبة وترك ذكر البعيدة ، لأنّ النعمة فيها أظهر وأدلّ بذكر القريبة على ذكر البعيدة ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] وقوله : { وجنات مّنْ أعناب } فيه وجهان ، أحدهما : أن يراد : وثم جنات من أعناب ، أي مع النخل . والثاني : أن يعطف على { قنوان } على معنى : وحاصلة ، أو ومخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب ، أي من نبات أعناب . وقرىء : «وجنات» بالنصب عطفاً على { نَبَاتَ كُلّ شَىْء } أي : وأخرجنا به جنات من أعناب ، وكذلك قوله : { والزيتون والرمان } والأحسن أن ينتصبا على الاختصاص ، كقوله : { والمقيمين الصلاة } [ النساء : 162 ] لفضل هذين الصنفين { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه } يقال اشتبه الشيئان وتشابها ، كقولك استويا وتساويا . والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً . وقرىء : «متشابهاً وغير متشابه» وتقديره : والزيتون متشابهاً وغير متشابه ، والرمّان كذلك كقوله :
كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدَيَّ بَرِيًّا ... والمعنى : بعضه متشابهاً وبعضه غير متشابه ، في القدر واللون والطعم . وذلك دليل على التعمد دون الإهمال { انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به . وانظروا إلى حال ينعه ونضجه كيف يعود شيئاً جامعاً لمنافع وملاذ ، نظر اعتبار واستبصار واستدلال على قدرة مقدّره ومدبره وناقله من حال إلى حال . وقرىء { وَيَنْعِهِ } بالضم . يقال : ينعت الثمرة ينعاً وينعاً . وقرأ ابن محيصن : «ويانعه» . وقرىء : «وثمره» ، بالضم .
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
إن جعلت { للَّهِ شُرَكَاء } مفعولي جعلوا ، نصبت الجنّ بدلاً من شركاء ، وإن جعلت { للَّهِ } لغواً كان { شُرَكَاء الجن } مفعولين قدم ثانيهما على الأول . فإن قلت : فما فائدة التقديم؟ قلت : فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك مَن كان ملكاً أو جنياً أو إنسياً أو غير ذلك . ولذلك قدّم اسم الله على الشركاء . وقرىء : «الجن» بالرفع ، كأنه قيل : من هم؟ فقيل : الجن . وبالجرّ على الإضافة التي للتبيين . والمعنى أشركوهم في عبادته ، لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله . وقيل : هم الذين زعموا أنّ الله خالق الخير وكل نافع ، وإبليس خالق الشر وكل ضارّ { وَخَلَقَهُمْ } وخلق الجاعلين لله شركاء . ومعناه : وعلموا أن الله خالقهم دون الجن ، ولم يمنعهم علمهم أن يتخذوا من لا يخلق شريكاً للخالق . وقيل : الضمير للجن . وقرىء : «وخلقهم» ، أي اختلاقهم الإفك ، يعني : وجعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم { والله أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] ، { وَخَرَقُواْ لَهُ } وخلقوا له ، أي افتعلوا له { بَنِينَ وَبَنَاتٍ } وهو قول أهل الكتابين في المسيح وعزير ، وقول قريش في الملائكة يقال : خلق الإفك وخرقه واختلفه واخترقه ، بمعنى : وسئل الحسن عنه فقال : كلمة عربية كانت العرب تقولها : كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله ، ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه ، أي اشتقوا له بنين وبنات ، وقرىء : «وخرّقوا» بالتشديد للتكثير ، لقوله : { بَنِينَ وَبَنَاتٍ } وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما «وحرّفوا» له ، بمعنى : وزوّروا له أولاداً لأنّ المزوّر محرّف مغير للحق إلى الباطل { بِغَيْرِ عِلْمٍ } من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه من خطأ أو صواب ، ولكن رمياً بقول عن عمى وجهالة . من غير فكر وروية .
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
{ بَدِيعُ السماوات } من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ، كقولك : فلان بديع الشعر أي بديع شعره أو هو بديع في السموات والأرض كقولك فلان ثبت الغدر ، أي ثابت فيه ، والمعنى أنه عديم النظير والمثل فيها . وقيل : البديع بمعنى المبدع ، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو هو مبتدأ وخبره { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } أو فاعل تعالى ، وقرىء بالجرّ ردّاً على قوله { وَجَعَلُواْ للَّهِ } أو على { سبحانه } . وبالنصب على المدح ، وفيه إبطال الولد من ثلاثة أوجه ، أحدها : مبدع السموات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة لأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسماً حتى يكون والداً . والثاني : أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد وهو متعال عن مجانس ، فلم يصحّ أن تكون له صاحبة ، فلم تصحّ الولادة . والثالث : أنه ما من شيء إلا وهو خالقه والعالم به ، ومن كان بهذه الصفة كان غنياً عن كل شيء ، والولد إنما يطلبه المحتاج . وقرىء : «ولم يكن له صاحبة» بالياء وإنما جاز للفصل كقوله :
لقد ولد الأخيطل أم سوء . ...
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
{ ذلكم } إشارة إلى الموصوف مما تقدم من الصفات ، وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة وهي { الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلّ شَىْء } أي ذلكم الجامع لهذه الصفات { فاعبدوه } مسبب عن مضمون الجملة على معنى : أن من استجمعت له هذه الصفات كان هو الحقيق بالعبادة فاعبدوه ولا تعبدوا من دونه من بعض خلقه . ثم قال : { وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ } يعني وهو مع تلك الصفات مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال ، رقيب على الأعمال .
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
البصر : هو الجهر اللطيف الذي ركبه الله في حاسة النظر ، به تدرك المبصرات ، فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه؛ لأنه متعال أن يكون مبصراً في ذاته ، لأن الأبصار إنما تتعلق بما كان في جهة أصلاً أو تابعاً ، كالأجسام والهيآت { وَهُوَ يُدْرِكُ الابصار } وهو للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي لا يدركها مدرك { وَهُوَ اللطيف } يلطف عن أن تدركه الأبصار { الخبير } بكل لطيف فهو يدرك الأبصار ، لا تلطف عن إدراكه وهذا من باب اللطف .
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
{ قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } هو وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقوله : { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } والبصيرة نور القلب الذي به يستبصر ، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر أي جاءكم من الوحي ، والتنبيه على ما يجوز على الله وما لا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر { فَمَنْ أَبْصَرَ } الحق وآمن { فَلِنَفْسِهِ } أبصر وإياها نفع { وَمَنْ عَمِىَ } عنه فعل نفسه عمى وإياها ضرَّ بالعمى { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها ، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم .
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
{ وَلِيَقُولُواْ } جوابه محذوف تقديره . وليقولوا درست تصرّفها . ومعنى { دَرَسْتَ } قرأت وتعلمت . وقرىء : «دارست» أي دارست العلماء . ودرست بمعنى قدّمت هذه الآيات وعفت كما قالوا : أساطير الأولين ، ودرست بضم الراء ، مبالغة في درست ، أي اشتد دروسها . ودرست - على البناء للمفعول - بمعنى قرئت أو عفيت . ودارست . وفسروها بدارست اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم ، وجاز الإضمار؛ لأن الشهرة بالدراسة كانت لليهود عندهم . ويجوز أن يكون الفعل للآيات ، وهو لأهلها ، أي دارس أهل الآيات وحملتها محمداً ، وهم أهل الكتاب . ودرس أي درس محمد . ودارسات ، على : هي دارسات ، أي قديمات . أو ذات دروس ، كعيشة راضية ، فإن قلت : أي فرق بين اللامين في { لّيَقُولواْ } ، { وَلِنُبَيّنَهُ } ؟ قلت : الفرق بينهما أنّ [ الأولى ] مجاز والثانية حقيقة ، وذلك أن الآيات صرفت للتبيين ولم تصرف ليقولوا دارست ، ولكن لأنه حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين ، شبه به فسيق مساقه . وقيل : ليقولوا كما قيل لنبينه : فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله : { وَلِنُبَيّنَهُ } ؟ قلت : إلى الآيات لأنها في معنى القرآن ، كأنه قيل : وكذلك نصرف القرآن . أو إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر ، لكونه معلوماً إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل ، كقولهم : ضربته زيداً . ويجوز أن يراد فيمن قرأ درست ودارست : درست الكتاب ودارسته ، فيرجع إلى الكتاب المقدّر .
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
{ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } اعتراض أكد به إيجاب اتباع الوحي لا محلّ له من الإعراب . ويجوز أن يكون حالاً من ربك ، وهي حال مؤكدة كقوله { وَهُوَ الحق مُصَدّقًا } [ البقرة : 91 ] .
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
{ وَلاَ تَسُبُّواْ } الآلهة { الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله } وذلك أنهم قالوا عند نزول قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] لتنتهينّ عن سبّ آلهتنا أو لنهجونّ إلهك . وقيل : كان المسلمون يسبون آلهتهم ، فنهوا لئلا يكون سبهم سبباً لسبّ الله تعالى . فإن قلت : سب الآلهة حق وطاعة ، فكيف صحّ النهي عنه ، وإنما يصحّ النهي عن المعاصي قلت : ربّ طاعة علم أنها تكون مفسدة فتخرج عن أن تكون طاعة ، فيجب النهي عنها لأنها معصية ، لا لأنها طاعة كالنهي عن المنكر هو من أجلّ الطاعات ، فإذا علم أنه يؤدّي إلى زيادة الشرّ انقلب معصية ، ووجب النهي عن ذلك النهي . كما يجب النهي عن المنكر . فإن قلت : فقد روي عن الحسن وابن سيرين : أنهما حضرا جنازة فرأى محمد نساء فرجع ، فقال الحسن : لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا . قلت : ليس هذا ممن نحن بصدده ، لأنّ حضور الرجال الجنازة طاعة وليس بسبب لحضور النساء فإنهنّ يحضرنها حضر الرجال أو لم يحضروا ، بخلاف سبّ الآلهة . وإنما خيل إلى محمد أنه مثله حتى نبه عليه الحسن . { عَدْوَا } ظلماً وعدواناً . وقرىء : «عُدوّاً» بضم العين وتشديد الواو بمعناه . ويقال : [ عدا ] فلان عدواً وعدواً وعدواناً وعداء . وعن ابن كثير : «عدوّاً» ، بفتح العين بمعنى أعداء { بِغَيْرِ عِلْمٍ } على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به { كذلك زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ } مثل ذلك التزيين زينا لكل أمّة من أمم الكفار سوء عملهم . أو خليناهم وشأنهم ، ولم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم ، أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زيناه في زعمهم . وقولهم : إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا { فَيُنَبِّئُهُم } فيوبخهم عليه ويعاتبهم ويعاقبهم .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
{ لَئِن جآءَتْهُمْ ءايَةٌ } من مقترحاتهم { لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الأيات عِندَ الله } وهو قادر عليها ، ولكنه لا ينزلها إلاّ على موجب الحكمة ، أو إنما الآيات عند الله لا عندي . فكيف أجيبكم إليها وآتيكم بها { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } وما يدريكم { أَنَّهَآ } أن الآية التي تقترحونها { إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعني أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك . وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها . فقال عزّ وجلّ وما يدريكم أنهم لا يؤمنون على معنى أنكم لا تدرون ما سبق علمي به من أنهم لا يؤمنون به ألا ترى إلى قوله { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } وقيل : { أَنَّهَآ } بمعنى «لعلها» من قول العرب : ائت السوق أنك تشتري لحماً . وقال امرؤ القيس :
عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأَنَّنَا ... نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ خُذَامِ
وتقويها قراءة أبيّ «لعلها إذا جاءت لا يؤمنون» ، وقرىء بالكسر على أن الكلام قد تمّ قبله بمعنى : وما يشعركم ما يكون منهم ، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال : أنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة . ومنهم من جعل «لا» مزيدة في قراءة الفتح وقرىء : «وما يشعرهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون» أي يحلفون بأنهم يؤمنون عند مجيئها . وما يشعرهم أن تكون قلوبهم حينئذ كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات مطبوعاً عليها فلا يؤمنوا بها .
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ . . . . وَنَذَرُهُمْ } عطف على ( يؤمنون ) ، داخل في حكم وما يشعركم ، بمعنى : وما يشعركم أنهم لا يؤمنون ، وما يشعركم أنّا نقلب أفئدتهم وأبصارهم : أي نطبع على قلوبهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحق كما كانوا عند نزول آياتنا ، أو لا يؤمنون بها لكونهم مطبوعاً على قلوبهم ، وما يشعركم أنا نذرهم في طغيانهم أي نخليهم وشأنهم لا نكفهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه . وقرىء : «ويقلب ويذرهم» بالياء أي الله عزّ وجلّ . وقرأ الأعمش : وتقلب أفئدتهم وأبصارهم» على البناء للمفعول .
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
{ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة } كما قالوا { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة } [ الفرقان : 21 ] ، { وَكَلَّمَهُمُ الموتى } كما قالوا : { فَأْتُواْ بآبائنا } [ الدخان : 36 ] ، { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً } كما قالوا { أَوْ تَأْتِىَ بالله والملائكة قَبِيلاً } [ الإسراء : 92 ] قبلاً كفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا ، أو جماعات . وقيل : { قُبُلاً } مقابلة . وقرىء : «قبلا» أي عياناً { إلآ أَن يَشَاء الله } مشيئة إكراه واضطرار { ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } فيقسمون بالله جهد إيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات . أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطّرهم فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً } وكما خلينا بينك وبين أعدائك ، وكذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم ، لم نمنعهم من العداوة ، لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر ، وكثرة الثواب والأجر . وانتصب { شياطين } على البدل من عدوّاً . أو على أنهما مفعولان كقوله { وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء الجن } [ الأنعام : 100 ] { يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } يوسوس شياطين الجنّ إلى شياطين الإنس . وكذلك بعض الجنّ إلى بعض وبعض الإنس إلى بعض . وعن مالك ابن دينار : إن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجنّ ، لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجنّ عني ، وشيطان الأنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عياناً { زُخْرُفَ القول } ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي ويموّهه { غُرُوراً } خدعاً وأخذاً على غرّة { وَلَوْ شَآء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } ما فعلوا ذلك ، أي ما عادوك ، أو ما أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول بأن يكفهم ولا يخليهم وشأنهم .
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
{ ولتصغى } جوابه محذوف تقديره : وليكون ذلك جعلنا لكل نبيّ عدوّاً ، على أن اللام لام الصيرورة وتحقيقها ما ذكر . والضمير في { إِلَيْهِ } يرجع إلى ما رجع إليه الضمير في فعلوه ، أي ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين { أَفْئِدَةُ } الكفار { وَلِيَرْضَوْهُ } لأنفسهم { وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } من الأثام .
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
{ أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَماً } على إرادة القول ، أي قل يا محمد : أفغير الله أطلب حاكماً يحكم بيني وبينكم ، ويفصل المحق منا من المبطل { وهُوَ الذى أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب } المعجز { مُفَصَّلاً } مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل ، والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء . ثم عضد الدلالة على أنّ القرآن حق بعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه ما عندهم وموافقته له { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } من باب التهييج والإلهاب ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] أو { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } في أنّ أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق ، ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم به . ويجوز أن يكون { فَلاَ تَكُونَنَّ } خطاباً لكل أحد ، على معنى أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه ، فما ينبغي أن يمتري فيه أحد . وقيل : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته .
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } أي تمّ كل ما أخبر به ، وأمر ونهى ، ووعد وأوعد { صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لكلماته } لا أحد يبدّل شيئاً من ذلك مما هو أصدق وأعدل . وصدقاً وعدلاً . نصب على الحال . وقرىء : «كلمة ربك» ، أي ما تكلم به . وقيل : هي القرآن .
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرض } أي من الناس أضلوك ، لأن الأكثر في غالب الأمر يتبعون هواهم ، ثم قال : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } وهو ظنهم أنّ آباءهم كانوا على الحق فهم يقلدونهم { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } يقدّرون أنهم على شيء . أو يكذبون في أنّ الله حرّم كذا وأحلّ كذا .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
وقرىء : «من يضل» بضم الياء أي يضله الله { فَكُلُواْ } مسبب عن إنكار اتباع المضلين ، الذي يحلون الحرام ويحرّمون الحلال . وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين : إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله ، فما قتل الله أحقّ أن تأكلوا مما قتلتم أنتم ، فقيل للمسلمين : إن كنتم متحققين بالإيمان فكلوا { مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ } خاصة دون ما ذكر عليه اسم غيره من آلهتهم أو مات حتف أنفه ، وما ذكر اسم الله عليه هو المذكى ببسم الله { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ } وأي غرض لكم في أن لا تأكلوا { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم } وقد بين لكم ما حرّم عليكم مما لم يحرّم وهو قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] وقرىء : «فصل لكم ما حرّم عليكم» على تسمية الفاعل ، وهو الله عزّ وجلّ { إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ } مما حرّم عليكم فإنه حلال لكم في حال الضرورة { وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ } قرىء بفتح الياء وضمها ، أي يضلون فيحرّمون ويحللون { بِأَهْوَآئِهِم } وشهواتهم من غير تعلق بشريعة .
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
{ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ } ما أعلنتم منه وما أسررتم . وقيل : ما عملتم وما نويتم . وقيل : ظاهره الزنا في الحوانيت ، وباطنه الصديقة في السرّ .
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
{ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } الضمير راجع إلى مصدر الفعل الذي دخل عليه حرف النهي ، يعني وإنّ الأكل منه لفسق . أو إلى الموصول على : وإنّ أكله لفسق ، أو جعل ما لم يذكر اسم الله عليه في نفسه فسقاً . فإن قلت : قد ذهب جماعة من المجتهدين إلى جواز أكل ما لم يذكر اسم الله عليه بنسيان أو عمد . قلت : قد تأوله هؤلاء بالميتة وبما ذكر غير اسم الله عليه : كقوله : { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } [ الأنعام : 145 ] { لَيُوحُونَ } ليسوسون { إلى أَوْلِيَائِهِمْ } من المشركين { ليجادلوكم } بقولهم : ولا تأكلوا مما قتله الله . وبهذا يرجع تأويل من تأوله بالميتة { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } لأنّ من اتبع غير الله تعالى في دينه فقد أشرك به . ومن حق ذي البصيرة في دينه أن لا يأكل مما لم يذكر اسم الله عليه كيفما كان؛ لما يرى في الآية من التشديد العظيم ، وإن كان أبو حنيفة رحمة الله مرخصاً في النسيان دون العمد ، ومالك والشافعي رحمهما الله فيهما .
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
مثل الذي هداه الله بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل والمهتدي والضال ، بمن كان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس مستضيئاً به ، فيميز بعضهم من بعض ، ويفصل بين حلاهم ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا ينفك منها ولا يتخلص ومعنى قوله : { كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا } كمن صفته هذه وهي قوله : { فِى الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا } بمعنى : هو في الظلمات ليس بخارج منها ، كقوله تعالى : { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون فِيهَا أَنْهَارٌ } [ محمد : 15 ] أي صفتها هذه ، وهي قوله : { فِيهَا أَنْهَارٌ } . { زُيّنَ للكافرين } أي زينه الشيطان ، أو الله عزّ وعلا على قوله : { زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم } [ النمل : 4 ] ويدل عليه قوله : { وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا } يعني : وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها ، كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها لذلك . ومعناه : خليناهم ليمكروا وما كففناهم عن المكر ، وخصّ الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال والماكرون بالناس ، كقوله : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } [ الإسراء : 16 ] وقرىء : «أكبر مجرميها» على قولك : هم أكبر قومهم ، وأكابر قومهم { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ } لأنّ مكرهم يحيق بهم . وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديم موعد بالنصرة عليهم . روي أن الوليد بن المغيرة قال : لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك ، لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً . وروي : أن أبا جهل قال : زاحمنا بني عبد مناف في الشرف ، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا : منا نبيّ يوحى إليه ، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبداً إلاّ أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزلت ونحوها قوله تعالى : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُنَشَّرَة } [ المدثر : 52 ] .
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
{ الله أَعْلَمُ } كلام مستأنف للإنكار عليهم ، وأن لا يصطفى للنبوة إلاّ من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم { سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ } من أكابرها { صَغَارٌ } وقماءة بعد كبرهم وعظمتهم { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ } في الدارين من الأسر والقتل وعذاب النار .
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
{ فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ } أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلاّ بمن له لطف { يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام } يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحبّ الدخول فيه { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ } أن يخذله ويخليه وشأنه ، وهو الذي لا لطف له { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً } يمنعه ألطافه ، حتى يقسو قلبه ، وينبو عن قبول الحق وينسدّ فلا يدخله الإيمان . وقرىء : «ضيقاً» بالتخفيف والتشديد : { حَرَجاً } بالكسر ، حرجاً - بالفتح - وصفاً بالمصدر { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السماء } كأنما يزاول أمراً غير ممكن . لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة ، وتضيق عنه المقدرة . وقرىء : «يصعد» ، وأصله يتصعد . وقرأ عبد الله : «يتصعد» . و «يصاعد» . وأصله : يتصاعد ويصعد ، من صعد ، ويصعد من أصعد { يَجْعَلُ الله الرجس } يعني الخذلان ومنع التوفيق ، وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب . أو أراد الفعل المؤدّي إلى الرجس وهو العذاب من الارتجاس وهو الاضطراب { وهذا صراط رَبّكَ } وهذا طريقه الذي اقتضته الحكمة وعادته في التوفيق والخذلان { مُّسْتَقِيماً } عادلاً مطرداً . وانتصابه على أنه حال مؤكدة كقوله : { وَهُوَ الحق مُصَدّقًا } [ البقرة : 91 ] { لَهُمْ } لقوم يذكرون { دَارُ السلام } دار الله ، يعني الجنة أضافها إلى نفسه تعظيماً لها أو دار السلامة من كل آفة وكدر { عِندَ رَبّهِمْ } في ضمانه كما تقول لفلان عندي حق لا ينسى ، أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها ، كقوله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] ، { وَهُوَ وَلِيُّهُم } مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } بسبب أعمالهم ، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون .
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } منصوب بمحذوف ، أي واذكر يوم نحشرهم ، أو يوم نحشرهم قلنا { يامعشر الجن } أو ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجنّ كان ما لا يوصف لفظاعته ، والضمير لمن يحشر من الثقلين وغيرهم . والجنّ هم الشياطين { قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس } أضللتم منهم كثيراً أو جعلتموهم أتباعكم فحشر معكم منهم الجم الغفير ، كما تقول : استكثر الأمير من الجنود ، واستكثر فلان من الأشياع { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس } الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم { رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } أي انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها ، وانتفع الجنّ بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم ، وقيل : استمتاع الإنس بالجنّ ما في قوله : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن } [ الجن : 60 ] وأن الرجل كان إذا نزل وادياً وخاف قال : أعوذ بربّ هذا الوادي ، يعني به كبير الجنّ . واستمتاع الجنّ والإنس : اعتراف الإنس لهم بأنهم يقدرون على الدفع عنهم إجارتهم لهم { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا } يعنون يوم البعث وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام لربهم وتحسر على حالهم { خالدين فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء الله } أي يخلدون في عذاب النار الأبد كله ، إلاّ ما شاء الله إلاّ الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير ، فقد روي أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض ، فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم . أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه . أهلكني الله إن نفست عنك إلاّ إذا شئت ، وقد علم أنه لا يشاء إلاّ التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد ، فيكون قوله : إلاّ إذا شئت ، من أشد الوعيد ، مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } لا يفعل شيئاً إلاّ بموجب الحكمة { عَلِيمٌ } بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد .
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
{ نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً } نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضاً كما فعل الشياطين وغواة الإنس ، أو نجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم كما كانوا في الدنيا { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي .
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ } واختلف في أن الجنّ هل بعث إليهم رسل منهم ، فتعلق بعضهم بظاهر الآية ولم يفرق بين مكلفين ومكلفين أن يبعث إليهم رسول من جنسهم ، لأنهم به آنس وله آلف . وقال آخرون : الرسل من الإنس خاصة ، وإنما قيل : رسل منكم لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صحَّ ذلك وإن كان من أحدهما ، كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] وقيل : أراد رسل الرسل من الجنّ إليهم ، كقوله تعالى : { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [ الأحقاف : 29 ] وعن الكلبي : كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجنّ { قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } حكاية لتصديقهم وإيجابهم قوله : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ } لأن الهمزة الداخلة على نفي إتيان الرسل للإنكار ، فكان تقريراً لهم . وقولهم : { شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم ، وأنهم محجوجون بها . فإن قلت : ما لهم مقرّين في هذه الآية جاحدين في قوله : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ؟ قلت : تتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول ، فيقرّون في بعضها ، ويجحدون في بعضها أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم . فإن قلت : لم كرّر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت : الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون؟ والثانية : ذمّ لهم ، وتخطئة لرأيهم ، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم ، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة ، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم .
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
{ ذلك } إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة ، وهو خبر مبتدأ محذوف : أي الأمر ذلك . و { أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى } تعليل ، أي الأمر ما قصصناه عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم ، على أن «أن» هي التي تنصب الأفعال ، ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة ، على معنى : لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم . ولك أن تجعله بدلاً من ذلك ، كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ } [ الحجر : 66 ] ، { بِظُلْمٍ } بسبب ظلم قدموا عليه . أو ظالماً ، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون ولم ينبهوا برسول وكتاب ، لكان ظلماً ، وهو متعال عن الظلم وعن كل قبيح { وَلِكُلٍّ } من المكلفين { درجات } منازل { مّمَّا عَمِلُواْ } من جزاء أعمالهم { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ } بساه عنه يخفى عليه مقاديره وأحواله وما يستحق عليه من الأجر .
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
{ وَرَبُّكَ الغنى } عن عباده وعن عبادتهم { ذُو الرحمة } يترحم عليهم بالتكليف ليعرّضهم للمنافع الدائمة { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أيها العصاة { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء } من الخلق المطيع { كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ } من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم ، وهم أهل سفينة نوح عليه السلام .
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
«المكانة» تكون مصدراً يقال : مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن . وبمعنى المكان ، يقال : مكان ومكانة ومقام ومقامة . وقوله : { اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } يحتمل : اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم . أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها . يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله؛ على مكانتك يا فلان ، أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه { إِنّى عامل } أي عامل على مكانتي التي أنا عليها . والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي ، فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أينا تكون له العاقبة المحمودة . وطريقة هذا الأمر طريقة قوله { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] وهي التخلية والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلاّ الشرّ ، فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه ، فإن قلت : ما موضع { مَن } ؟ قلت : الرفع إذا كان بمعنى «أي» وعلق عنه فعل العلم . أو النصب إذا كان بمعنى «الذي» و { عاقبة الدار } العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها . وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك ، فيه إنصاف في المقال وأدب حسن ، مع تضمن شدة الوعيد ، والوثوق بأنّ المنذر محقّ والمنذر مبطل .
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
كانوا يعينون أشياء من حرث ونتاج لله ، وأشياء منها لآلهتهم؛ فإذا رأوا ما جعلوه لله زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً رجعوا فجعلوه للآلهة ، وإذا زكا ما جعلوه للأصنام تركوه لها واعتلوا بأنّ الله غنيّ ، وإنما ذاك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها : وقوله : { مِمَّا ذَرَأَ } فيه أن الله كان أولى بأن يجعل له الزاكي ، لأنه هو الذي ذرأه وزكاه ، ولا يرد إلى ما لا يقدر على ذرء ولا تزكيه { بِزَعْمِهِمْ } وقرىء : بالضم ، أي قد زعموا أنه لله والله لم يأمرهم بذلك ولا شرع لهم تلك القسمة التي هي من الشرك ، لأنهم أشركوا بين الله وبين أصنامهم في القربة { فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله } أي لا يصلّ إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين { فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ } من إنفاق عليها بذبح النسائك عندها والإجراء على سدنتها ونحو ذلك { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } في إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم ما لم يشرع لهم .
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
{ وكذلك } ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله تعالى والآلهة ، أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي هو علم من الشياطين . والمعنى : أن شركاءهم من الشياطين ، أو من سدنة الأصنام زينوا لهم قتل أولادهم بالوأد ، أو بنحرهم للآلهة وكان الرجل في الجاهلية يحلف : لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنّ أحدهم ، كما حلف عبد المطلب . وقرىء : «زين» على البناء للفاعل الذي هو شركاؤهم ، ونصب { قَتْلَ أولادهم } وزين ، على البناء للمفعول الذي هو القتل ، ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دلّ عليه زين ، كأنه قيل : لما قيل زين لهم قتل أولادهم من زينه؟ فقيل : زينه لهم شركاؤهم . وأما قراءة ابن عامر : «قتل أولادهم شركائهم» برفع القتل ونصب الأولاد وجرّ الشركاء على إضافة القتل إلى الشركاء ، والفصل بينهما بغير الظرف ، فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر ، لكان سمجاً مردوداً ، كما سمج وردّ .
زَجَّ الْقَلْوصِ أَبِي مَزَادَهْ ... فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته . والذي حمله على ذلك أن رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوباً بالياء . ولو قرأ بجر الأولادوالشركاء-لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم - لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب { لِيُرْدُوهْم } ليهلكوهم بالإغواء { وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } وليخلطوا ، عليهم ويشبهوه . ودينهم : ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك . وقيل : دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه . وقيل معناه وليوقعوهم في دين ملتبس . فإن قلت : ما معنى اللام؟ قلت : إن كان التزيين من الشياطين فهي على حقيقة التعليل ، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة { وَلَوْ شَاء الله } مشيئة قسر { مَّا فَعَلُوهُ } لما فعل المشركون ما زين لهم من القتل . أو لما فعل الشياطين أو السدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ذلك ، إن جعلت الضمير جارياً مجرى اسم الإشارة { وَمَا يَفْتَرُونَ } وما يفترونه من الإفك . أو وافتراؤهم .
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
{ حِجْرٌ } فعل بمعنى مفعول كالذبح والطحن ، ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع؛ لأنّ حكمه حكم الأسماء غير الصفات : وقرأ الحسن وقتادة { حِجرٌ } بضم الحاء . وقرأ ابن عباس : «حرج» ، وهو من التضييق وكانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا : { لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء } يعنون خدم الأوثان ، والرجال دون النساء { وأنعام حُرّمَتْ ظُهُورُهَا } وهي البحائر والسوائب والحوامي { وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا } في الذبح ، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام . وقيل : لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها . والمعنى : أنهم قسموا أنعامهم فقالوا : هذا أنعام حجر ، وأنعام محرّمة الظهور ، وهذه أنعام لا يذكر عليها اسم الله . فجعلوها أجناساً بهواهم ، ونسبوا ذلك التجنيس إلى الله { افتراء عَلَيْهِ } أي فعلوا ذلك كله على جهة الافتراء - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً - وانتصابه على أنه مفعول له : أو حال ، أو مصدر مؤكد ، لأنّ قولهم ذلك في معنى الافتراء .
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
كانوا يقولون في أجنة البحائر والسوائب : ما ولد منها حياً فهو خالص للذكور لا تأكل منه الإناث ، وما ولد منها ميتاً اشترك فيه الذكور الإناث . وأنث { خَالِصَةٌ } للحمل على المعنى ، لأنّ مافي معنى الأجنة وذكر { وَأَنْعَمٌ حُرِّمَتْ } للحمل على اللفظ . ونظيره { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } [ محمد : 16 ] ويجوز أن تكون التاء للمبالغة مثلها في رواية الشعر . وأن تكون مصدراً وقع موقع الخالص ، كالعاقبة أي ذو خالصة . ويدلّ عليه قراءة من قرأ : «خالصة» بالنصب على أنّ قوله { لِّذُكُورِنَا } هو الخبر ، وخالصة مصدر مؤكد ، ولا يجوز أن يكون حالاً متقدمة ، لأن المجرور لا يتقدم عليه حاله . وقرأ ابن عباس : «خالصة» على الإضافة . وفي مصحف عبد الله : «خالص» . { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } وإن يكن ما في بطونها ميتة . وقرىء : «وإن تكن» ، بالتأنيث ، على : وإن تكن الأجنة ميتة . وقرأ أهل مكة : «وإن تكن ميتة» بالتأنيث والرفع على كان التامة وتذكير الضمير في قوله : { فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء } لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى ، فكأنه قيل : وإن يكن ميت فهم فيه شركاء { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } أي : جزاء وصفهم الكذب على الله في التحليل والتحريم من قوله تعالى : { ولا تقولوا لما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حلال وهذا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] .
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
نزلت في ربيعة ومضر والعرب الذين كانوا يئدون بناتهم مخافة السبي والفقر { سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ } لخفة أحلامهم ، وجهلهم بأنّ الله هو رازق أولادهم ، لا هم . وقرىء : «قتلوا» بالتشديد { مَا رَزَقَهُمُ الله } من البحائر والسوائب وغيرها .
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
{ أَنشَأَ جنات } من الكروم { معروشات } مسموكات { وَغَيْرَ معروشات } متروكات على وجه الأرض لم تعرّش . وقيل : «المعروشات» ما في الأرياف والعمران مما غرسه الناس واهتموا به فعرّشوه { وَغَيْرَ معروشات } مما أنبته [ الله ] وحشياً في البراري والجبال ، فهو غير معروش . يقال : عرّشت الكرم ، إذا جعلت له دعائم وسمكاً تعطف عليه القضبان . وسقف البيت : عرّشه { مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ } في اللون والطعم والحجم والرائحة . وقرىء : «أكله» بالضم والسكون وهو ثمره الذي يؤكل . والضمير للنخل والزرع داخل في حكمه ، لكونه معطوفاً عليه . ومختلفاً : حال مقدّرة لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك ، كقوله تعالى : { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] . وقرىء : «ثمرة» بضمتين . فإن قلت : ما فائدة قوله : { إِذَا أَثْمَرَ } وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه؟ قلت : لما أبيح لهم الأكل من ثمره قيل : إذا أثمر ، ليعلم أن أول وقت الإباحة وقت إطلاع الشجر الثمر ، لئلا يتوهم أنه لا يباح إلاّ إذا أدرك وأينع { وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } الآية مكية ، والزكاة إنما فرضت بالمدينة ، فأريد بالحق ما كان يتصدّق به على المساكين يوم الحصاد ، وكان ذلك واجباً حتى نسخه افتراض العشر ، ونصف العشر . وقيل مدنية ، والحق هو الزكاة المفروضة . ومعناه : واعزموا على إيتاء الحق واقصدوه واهتموا به يوم الحصاد ، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء { وَلاَ تُسْرِفُواْ } في الصدقة كما روي عن ثابت بن قيس بن شماس : أنه صرم خمسمائة نخلة ففرّق ثمرها كله ولم يدخل منه شيئاً إلى منزله { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً } [ الإسراء : 29 ] .
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
{ حَمُولَةً وَفَرْشًا } عطف على جنات . أي : وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح ، أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش . وقيل : «الحمولة» الكبار التي تصلح للحمل «والفرش» الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم ، لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها ، مثل الفرش المفروش عليها { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } في التحليل والتحريم من عند أنفسكم فعل كما أهل الجاهلية { ثمانية أزواج } بدل من حمولة وفرشاً { اثنين } زوجين اثنين ، يريد الذكر والأنثى ، كالجمل والناقة ، والثور والبقرة ، والكبش والنعجة ، والتيس والعنز - والواحد إذا كان وحده فهو فرد ، فإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منها زوجاً ، وهما زوجان ، بدليل قوله : { خَلَقَ الزوجين الذكر والانثى } [ النجم : 45 ] والدليل عليه قوله تعالى : { ثمانية أزواج } ثم فسرها بقوله : { مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين } ، { وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين } ونحو تسميتهم الفرد بالزوج ، بشرط أن يكون معه آخر من جنسه : تسميتهم الزجاجة كأساً بشرط أن يكون فيها خمر . والضأن والمعز جمع ضائن وماعز ، كتاجر وتجر . وقرئا بفتح العين . وقرأ أبيّ : «ومن المعزى» وقرىء : «اثنان» على الابتداء .
الهمزة في { آلذكرين } للإنكار والمراد بالذكرين : الذكر من الضأن والذكر من المعز . وبالإثنيين : الأنثى من الضأن والأنثى من المعز ، على طريق الجنسية . والمعنى إنكار أن يحرّم الله تعالى من جنسين الغنم ضأنها ومعزها شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها ، ولا مما تحمل إناث ، الجنسين وكذلك الذكران من جنسي الإبل والبقر والأنثيان منهما وما تحمل إناثهما وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكورة الأنعام تارة ، وإناثها تارة ، وأولادهما كيفما كانت ذكوراً وإناثاً ، أو مختلطة تارة ، وكانوا يقولون قد حرّمها الله ، فأنكر ذلك عليهم { نَبّئُونِي بِعِلْمٍ } أخبروني بأمر معلوم من جهة الله تعالى يدلّ على تحريم ما حرّمتم { إِن كُنتُمْ صادقين } في أنّ الله حرّمه { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } بل أكنتم شهداء . ومعنى الهمزة الإنكار ، يعني أم شاهدتم ربكم حين أمركم بهذا التحريم؟ وذكر المشاهدة على مذهبهم ، لأنهم كانوا لا يؤمنون برسول وهم يقولون : الله حرّم هذا الذي نحرّمه ، فتهكم بهم في قوله : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء } على معنى : أعرفتم التوصية به مشاهدين ، لأنكم لا تؤمنون بالرسل { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } فنسب إليه تحريم ما لم يحرّم { لِيُضِلَّ الناس } وهو عمرو بن لحي بن قمعة الذي بحر البحائر وسيب السوائب .
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
فإن قلت : كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه؟ قلت : قد وقع الفاصل بينهما اعتراضاً غير أجنبي من المعدود . وذلك أنّ الله عزّ وجلّ منّ على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وإباحتها لهم ، فاعترض بالاحتجاج على من حرّمها ، والاحتجاج على من حرّمها تأكيد وتسديد للتحليل ، والاعتراضات في الكلام لا تساق إلاّ للتوكيد { فِي مَا أُوحِىَ إِلَىَّ } تنبيه على أنّ التحريم إنما يثبت بوحي الله تعالى وشرعه ، لا بهوى الأنفس { مُحَرَّمًا } طعاماً محرّماً من المطاعم التي حرّمتموها { إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً } إلاّ أن يكون الشيء المحرّم ميتة { أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا } أي : مصبوباً سائلاً كالدم في العروق ، لا كالكبد والطحال . وقد رخّص في دم العروق بعد الذبح { أَوْ فِسْقًا } عطف على المنصوب قبله . سمى ما أهلّ به لغير الله فسقاً لتوغله في باب الفسق . ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [ الأنعام : 121 ] وأهل : صفة له منصوبة المحل . ويجوز أن يكون مفعولاً له من أهلّ ، أي أهلّ لغير الله به فسقاً . فإن قلت : فعلام تعطف { أُهِلَّ } ؟ وإلام يرجع الضمير في { بِهِ } على هذا القول؟ قلت : يعطف على يكون ، ويرجع الضمير إلى ما يرجع إليه المستكنّ في يكون { فَمَنِ اضطر } فمن دعته الضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرّمات { غَيْرَ بَاغٍ } على مضطر مثله تارك لمواساته { وَلاَ عَادٍ } متجاوز قدر حاجته من تناوله { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لا يؤاخذه .
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
ذو الظفر ما له أصبع من دابة أو طائر ، وكان بعض ذات الظفر حلالاً لهم ، فلما ظلموا حرّم ذلك عليهم فعمّ التحريم كل ذي ظفر بدليل قوله : { فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] وقوله : { وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } كقولك : من زيد أخذت ماله ، تريد الإضافة زيادة الربط . والمعنى أنه حرّم عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه وكل شيء منه ، وترك البقر والغنم على التحليل لم يحرّم منهما إلاّ الشحوم الخالصة ، وهي الثروب وشحوم الكلى . وقوله : { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } يعني إلاّ ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحقة { أَوِ الحوايا } أو اشتمل على الأمعاء { أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ } وهو شحم الإلية . وقيل : { الحوايا } عطف على شحومهما . و «أو» بمنزلتها في قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين { ذلك } الجزاء { جزيناهم } وهو تحريم الطيبات { بِبَغْيِهِمْ } بسبب ظلمهم { وِإِنَّا لصادقون } فيما أوعدنا به العصاة لا نخلفه ، كما لا نخلف ما وعدناه أهل الطاعة . فلما عصوا وبغوا ألحقناهم بهم الوعيد وأحللنا بهم العقاب . { فَإِن كَذَّبُوكَ } في ذلك وزعموا أن الله واسع الرحمة ، وأنه لا يؤاخذ بالبغي ويخلف الوعيد جوداً وكرماً { فَقُلْ } لهم { رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة } لأهل طاعته { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ } مع سعة رحمته { عَنِ القوم المجرمين } فلا تغترّ برجاء رحمته عن خوف نقمته .
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
{ سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ } إخبار بما سوف يقولونه ولما قالوه قال : { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء } [ النحل : 35 ] يعنون بكفرهم وتمردهم أن شركهم وشرك آبائهم ، وتحريمهم ما أحلّ الله ، بمشيئة الله وإرادته . ولولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك ، كمذهب المجبرة بعينه { كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي جاءوا بالتكذيب المطلق؛ لأن الله عزّ وجلّ ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دلّ على غناه وبراءته من مشيئة القبائح وإرادتها ، والرسل أخبروا بذلك . فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله ، وهو تكذيب الله وكتبه ورسله ، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره { حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا } حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم { قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ } من أمر معلوم يصحّ الاحتجاج به فيما قلتم { فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } وهذا من التهكم ، والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } في قولكم هذا { وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ } تقدّرون أن الأمر كما تزعمون أو تكذبون . وقرىء : «كذلك كذب الذين من قبلهم» بالتخفيف { قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة } يعني فإن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فللَّهِ الحجة البالغة عليكم على قود مذهبكم { فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } منكم ومن مخالفيكم في الدين ، فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضي أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضاً بمشيئته ، فتوالوهم ولا تعادوهم ، وتوافقوهم ولا تخالفوهم ، لأنّ المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وبين ما هم عليه .
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
{ هَلُمَّ } يستوي فيه الواحد والجمع ، والمذكر والمؤنث عند الحجازيين . وبنو تميم تؤنث وتجمع . والمعنى : هاتوا شهداءكم وقرّبوهم . فإن قلت : كيف أمره باستحضار شهدائهم الذين يشهدون أنّ الله حرم ما زعموه محرّماً ، ثم أمره بأن لا يشهد معهم؟ قلت : أمره باستحضارهم وهم شهداء بالباطل ، ليلزمهم الحجة ويلقمهم الحجر ، ويظهر للمشهود لهم بانقطاع الشهداء أنهم ليسوا على شيء ، لتساوي أقدام الشاهدين والمشهود لهم في أنهم لا يرجعون إلى ما يصحّ التمسك به . وقوله : { فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } يعني فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم : لأنه إذا سلم لهم فكأنه شهد معهم مثل شهادتهم وكان واحداً منهم { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين كَذَّبُواْ بأياتنا } من وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنّ من كذب بآيات الله وعدل به غيره فهو متبع للهوى لا غير ، لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقاً بالآيات موحداً لله تعالى . فإن قلت : هلاّ قيل : قل هلم شهداء يشهدون أنّ الله حرّم هذا؟ وأي فرق بينه وبين المنزل؟ قلت : المراد أن يحضروا شهداءهم الذين علم أنهم يشهدون لهم وينصرون قولهم ، وكان المشهود لهم يقلدونهم ويثقون بهم ويعتضدون بشهادتهم ، ليهدم ما يقومون به فيحق الحق ويبطل الباطل ، فأضيفت الشهداء لذلك ، وجيء بالذين للدلالة على أنهم شهداء معروفون موسومون بالشهادة لهم وبنصرة مذهبهم ، والدليل عليه قوله تعالى : { فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } ولو قيل : هلم شهداء يشهدون لكان معناه هاتوا أناساً يشهدون بتحريم ذلك فكان الظاهر طلب شهداء بالحق وذلك ليس بالغرض . ويناقضه قوله تعالى : { فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } .
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
«تعال» ، من الخاص الذي صار عاماً ، وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عمّ . و { مَا حَرَّمَ } منصوب بفعل التلاوة ، أي أتل الذي حرمه ربكم . أو يحرم بمعنى : أقل أيّ شيء حرّم ربكم ، لأنّ التلاوة من القول ، و «أن» في { أَلاَّ تُشْرِكُواْ } مفسرة و «لا» النهي . فإن قلت : هلاّ قلت هي التي تنصب الفعل ، وجعلت أن لا تشركوا بدلاً من { مَا حَرَّمَ } ؟ قلت : وجب أن يكون { لا تُشْرِكُواْ } و { لاَ تَقْرَبُواْ } و { لاَ تَقْتُلُواْ } و { اَ تَتَّبِعُواْ السبل } [ الأنعام : 153 ] نواهي لانعطاف الأوامر عليها ، وهي قوله : { وبالوالدين إحسانا } لأنّ التقدير : وأحسنوا بالوالدين إحساناً . و { أَوْفُواْ } ، { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا } [ الأنعام : 152 ] ، { وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ } [ الأنعام : 152 ] . فإن قلت : فما تصنع بقوله : { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه } فيمن قرأ بالفتح ، وإنما يستقيم عطفه على أن لا تشركوا إذا جعلت أن هي الناصبة للفعل ، حتى يكون المعنى : أتل عليكم نفي الإشراك والتوحيد ، وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيماً؟ قلت : أجعل قوله : { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا } [ الأنعام : 153 ] علة للاتباع بتقدير اللام ، كقوله تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } [ الجن : 18 ] بمعنى : ولأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه . والدليل عليه القراءة بالكسر ، كأنه قيل : واتبعوا صراطي لأنّه مستقيم ، أو واتبعوا صراطي إنه مستقيم . فإن قلت : إذا جعلت { أن } مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما حرّم ربكم ، وجب أن يكون ما بعده منهياً عنه محرماً كله ، كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي فما تصنع بالأوامر قلت لما وردت هذه الأوامر مع النواهي وتقدمهن جميعاً فعل التحريم واشتركن في الدخول تحت حكمه ، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها ، وهي الإساءة إلى الوالدين ، وبخس الكيل والميزان . وترك العدل في القول ، ونكث عهد الله { مّنْ إملاق } من أجل فقر ومن خشيته ، كقوله تعالى : { خَشْيَةَ إملاق } [ الإسراء : 31 ] . { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } مثل قوله : { ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ } [ الأنعام : 120 ] . { إِلاَّ بالحق } كالقصاص ، والقتل على الردة ، والرجم .
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
{ إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } إلاّ بالخصلة التي هي أحسن ما يفعل بمال اليتيم ، وهي حفظه وتثميره والمعنى : احفظوه عليه حتى يبلغ أشدّه فادفعوه إليه { بالقسط } بالسوية والعدل؛ { لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } إلاّ ما يسعها ولا تعجز عنه . وإنما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والميزان ذلك؛ لأن مراعاة الحدّ من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج ، فأمر ببلوغ الوسع وأن ما وراءه معفوٌّ عنه { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القاتل ، فما ينبغي أن يزيد في القول أو ينقص ، كقوله : { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين } [ النساء : 135 ] .
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
وقرىء : «وأَنْ هذا صراطي مستقيماً» بتخفيف «أن» وأصله : وأنه هذا صراطي ، على أن الهاء ضمير الشأن والحديث . وقرأ الأعمش : «وهذا صراطي» . وفي مصحف عبد الله : «هذا صراط ربكم» . وفي مصحف أبيّ : «وهذا صراط ربك» { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل } الطرق المختلفة في الدين ، من اليهودية والنصرانية ، والمجوسية ، وسائر البدع والضلالات { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ } فتفرقكم أيادي سبا { عَن سَبِيلِهِ } عن صراط الله المستقيم وهو دين الإسلام . وقرىء : «فَتَّفَرَّقَ» بإدغام التاء . وروى أبو وائل عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :
( 383 ) " أنه خط خطاً ثم قال : هذا سبيل الرشد ، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم قال : هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، ثم تلا هذه الآية " { وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه } وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هذه الآيات محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتب . وقيل : إنهنّ أمّ الكتاب ، من عمل بهنّ دخل الجنة ، ومن تركهنّ دخل النار ، وعن كعب الأحبار : والذي نفس كعب بيده إنّ هذه الآيات لأول شيء في التوراة . فإن قلت : علام عطف قوله : { ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب } قلت : على { وصاكم بِهِ } . فإن قلت : كيف صحّ عطفه عليه بثم - والإيتاء قبل التوصية بدهر طويل-؟ قلت : هذه التوصية قديمة ، لم تزل توصاها كل أمّة على لسان نبيهم ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : محكمات لم ينسخهنّ شيء من جميع الكتاب ، فكأنه قيل : ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديماً وحديثاً .