كتاب : الكشاف
المؤلف : أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري
وقوله تعالى : { أَن يُمِلَّ هُوَ } فيه أنه غير مستطيع بنفسه ولكن بغيره ، وهو الذي يترجم عنه { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ } واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان على الدّين { مّن رّجَالِكُمْ } من رجال المؤمنين . والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام عند عامة العلماء . وعن علي رضي الله عنه : لا تجوز شهادة العبد في شيء . وعند شريح وابن سيرين وعثمان البتيّ أنها جائزة ، ويجوز عند أبي حنيفة شهادة الكفار بعضهم على بعض على اختلاف الملل . { فَإِن لَّمْ يَكُونَا } فإن لم يكن الشهيدان { رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } فليشهد رجل وامرأتان ، وشهادة النساء مع الرجال مقبولة عند أبي حنيفة فيما عدا الحدود والقصاص { مِمَّن تَرْضَوْنَ } ممن تعرفون عدالتهم { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } أن لا تهتدي إحداهما للشهادة بأن تنساها ، من ضل الطريق إذا لم يهتد له . وانتصابه على أنه مفعول له أي إرادة أن تضل . فإن قلت : كيف يكون ضلالها مراداً لله تعالى؟ قلت : لما كان الضلال سبباً للإذكار ، والإذكار مسبباً عنه ، وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما ، كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار ، فكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت . ونظيره قولهم : أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح أن يجيء عدوٌّ فأدفعه . وقرىء : «فتذكر» بالتخفيف والتشديد ، وهما لغتان . و«فتذاكر» . وقرأ حمزة : «إن تضل إحداهما» على الشرط . فتذكر : بالرفع والتشديد ، كقوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] وقرىء : «أن تُضَّلَ إحداهما» على البناء للمفعول والتأنيث . ومن بدع التفاسير : فتذكر ، فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا ، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر { إِذَا مَا دُعُواْ } ليقيموا الشهادة . وقيل : ليستشهدوا . وقيل لهم شهداء قبل التحمل ، تنزيلاً لما يشارف منزلة الكائن . وعن قتادة : كان الرجل يطوف ( في ) الحواء العظيم فيه القوم فلا يتبعه منهم أحد ، فنزلت . كني بالسأم عن الكسل ، لأنّ الكسل صفة المنافق . ومن الحديث :
( 153 ) " لا يقول المؤمن كسلت " ويجوز أن يراد من كثرت مدايناته؛ فاحتاج أن يكتب لكل دين صغير أو كبير كتاباً ، فربما مل كثرة الكتب . والضمير في { تَكْتُبُوهُ } للدين أو الحق { صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا } على أي حال كان الحق من صغر أو كبر . ويجوز أن يكون الضمير للكتاب؛ وأن يكتبوه مختصراً أو مشبعاً لا يخلوا بكتابته { إِلَى أَجَلِهِ } إلى وقته الذي اتفق الغريمان على تسميته { ذلكم } إشارة إلى أن تكتبوه ، لأنه في معنى المصدر ، أي ذلكم الكتب { أَقْسَطُ } أعدل من القسط { وَأَقْوَمُ للشهادة } وأعون على إقامة الشهادة { وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ } وأقرب من انتفاء الريب .
فإن قلت : مِمَّ بني أفعلا التفضيل ، أعني : أقسط ، وأقوم؟ قلت : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام ، وأن يكون أقسط من قاسط على طريقة النسب بمعنى ذي قسط ، وأقوم من قويم . وقرىء : «ولا يسأموا أن يكتبوه» بالياء فيهما . فإن قلت : ما معنى { تجارة حَاضِرَةً } وسواء أكانت المبايعة بدين أوبعين فالتجارة حاضرة؟ وما معنى إدارتها بينهم؟ قلت أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الأبدال . ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يداً بيد . والمعنى : إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد فلا بأس أن لا تكتبوه ، لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين . وقرىء : ( تجارةُ حاضرةُ ) بالرفع على كان التامّة . وقيل : هي الناقصة على أنّ الاسم ( تجارة حاضرة ) والخبر ( تديرونها ) وبالنصب على : إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب .
بَنِي أسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بلاَءَنَا ... إذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا
أي إذا كان اليوم يوماً { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } أمر بالإشهاد على التبايع مطلقاً ، ناجزاً أو كالئا لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف . ويجوز أن يراد : وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع يعني التجارة الحاضرة ، على أن الإشهاد كاف فيه دون الكتابة . وعن الحسن : إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد . وعن الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل { وَلاَ يُضَآرَّ } يحتمل البناء للفاعل والمفعول . والدليل عليه قراءة عمر رضي الله عنه : «ولا يضارر» ، بالإظهار والكسر . وقراءة ابن عباس رضي الله عنه : «ولا يضارر» ، بالإظهار والفتح . والمعنى نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما . وعن التحريف والزيادة والنقصان ، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم ، ويلزا ، أو لا يعطي الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد وقرأ الحسن : «ولا يضار» ، بالكسر { وَإِن تَفْعَلُواْ } وإن تضارّوا { فَإِنَّهُ } فإنّ الضرار { فُسُوقٌ بِكُمْ } وقيل : وإن تفعلوا شيئاً مما نهيتم عنه { على سَفَرٍ } مسافرين . وقرأ ابن عباس وأبيّ رضي الله عنهما «كتاباً» . وقال ابن عباس : أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة . وقرأ أبو العالية : «كتبا» . وقرأ الحسن : «كتاباً» ، جمع كاتب { فرهان } فالذي يستوثق به رهن . وقرىء «فرهن» بضم الهاء وسكونها ، وهو جمع رهن ، كسقف وسقف . و«فرهان» . فإن قلت : : لم شرط السفر في الارتهان ولا يختص به سفر دون حضر وقد
( 154 ) رهن رسول الله صلى الله عليه وسلم درعه في غير سفر . قلت : ليس الغرض تجويز الارتهان في السفر خاصة ، ولكن السفر لما كان مظنة لإعواز الكتب والإشهاد ، أمر على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال من كان على سفر ، بأن يقيم التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتب والإشهاد . وعن مجاهد والضحاك أنهما لم يجوّزاه إلا في حال السفر أخذاً بظاهر الآية ، وأما القبض فلا بدّ من اعتباره . وعند مالك يصح الارتهان بالإيجاب والقبول بدون القبض { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به . وقرأ أبيّ «فإن أومن» أي آمنه الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن الارتهان من مثله { فَلْيُؤَدِّ
1649;لَّذِى اؤتمن أمانته } حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن به وأمنه منه وائتمانه له ، وأن يؤدّي إليه الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه . وسمي الدين أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان منه . والقراءة أن تنطق بهمزة ساكنة بعد الذال أو ياء ، فتقول : الذي اؤتمن ، أو الذي تمن . وعن عاصم أنه قرأ : «الذي اتمن» ، بإدغام الياء في التاء ، قياساً على اتسر في الافتعال من اليسر ، وليس بصحيح . لأنّ الياء منقلبة عن الهمزة ، فهي في حكم الهمزة و «اتزر» عاميٌّ ، وكذلك ريا في رؤيا { ءَاثِمٌ } خبر إن . و { قَلْبِهِ } رفع بآثم على الفاعلية ، كأنه قيل : فإنه يأثم قلبه . ويجوز أن يرتفع قلبه بالابتداء . وآثم خبر مقدّم ، والجملة خبر إن . فإن قلت : هلا اقتصر على قوله : { فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ } ؟ وما فائدة ذكر القلب والجملة هي الآثمة لا القلب وحده ؟ قلت : كتمان الشهادة : هو أن يضمرها ولا يتكلم بها ، فلما كان إثماً مقترفاً بالقلب أسند إليه ، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ . ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد : هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ، ومما عرفه قلبي ، ولأنّ القلب هو رئيس الأعضاء والمضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله وإن فسدت فسد الجسد كله ، فكأنه قيل : فقد تمكن الإثم في أصل نفسه ، وملك أشرف مكان فيه . ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط ، وليعلم أنّ القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه ، واللسان ترجمان عنه . ولأنّ أفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح وهي لها كالأصول التي تتشعب منها . ألا ترى أنّ أصل الحسنات والسيآت الإيمان والكفر ، وهما من أفعال القلوب ، فإذا جعل كتمان الشهادة من آثام القلوب فقد شهد له بأنه من معاظم الذنوب . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى :
{ فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة } [ المائدة : 72 ] وشهادة الزور ، وكتمان الشهادة . وقرىء : «قلبه» ، بالنصب ، كقوله : { سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] وقرأ ابن أبي عبلة : «أثم قلبه» ، أي جعله إثماً .
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
{ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } يعني من السوء يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه أو أضمره { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ } ممن استوجب العقوبة بالإصرار . ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان : الوساوس وحديث النفس ، لأنّ ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ، ولكن ما اعتقده وعزم عليه . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه تلاها فقال : لئن آخذنا الله بهذا لنهلكنّ ، ثم بكى حتى سمع نشيجه فذكر لابن عباس فقال : يغفر الله لأبي عبد الرحمن . قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد فنزل { لاَ يُكَلّفُ الله } وقرىء : «فيغفر» و«يعذب» ، مجزومين عطفاً على جواب الشرط ، ومرفوعين على : فهو يغفر ويعذب . فإن قلت : كيف يقرأ الجازم؟ قلت : يظهر الراء ويدغم الباء . ومدغم الراء في اللام لاحن مخطىء خطأ فاحشا . وراويه عن أبي عمرو مخطىء مرّتين ، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم . والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة ، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية ، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو . وقرأ الأعمش : «يغفر» بغير فاء مجزوماً على البدل من يحاسبكم ، كقوله :
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا في دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأجَّجَا
ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ، لأنّ التفصيل أوضح من المفصل ، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل أو بدل الاشتمال ، كقولك : ضربت زيداً رأسه ، وأحب زيداً عقله ، وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان .
{ والمؤمنون } إن عطف على الرسول كان الضمير الذي التنوين نائب عنه في كل راجعاً إلى الرسول والمؤمنين ، أي كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله من المذكورين . ووقف عليه . وإن كان مبتدأ كان الضمير للمؤمنين . ووحد ضمير كل في آمن على معنى : كل واحد منهم آمن ، وكان يجوز أن يجمع ، كقوله : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين } [ النمل : 87 ] . وقرأ ابن عباس : «وكتابه» ، يريد القرآن أو الجنس وعنه الكتاب أكثر من الكتب . فإن قلت : كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء . فأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع { لاَنُفَرِّقُ } يقولون لا نفرق . وعن أبي عمرو : «يفرق» بالياء ، على أن الفعل لكل . وقرأ عبد الله : «لا يفرقون» . و { أَحَدٍ } في معنى الجمع ، كقوله تعالى : { فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين } [ الحاقة : 47 ] ولذلك دخل عليه بين . { سَمِعْنَا } أجبنا { غُفْرَانَكَ } منصوب بإضمار فعله . يقال : غفرانك لا كفرانك ، أي نستغفرك ولا نكفرك وقرىء : «وكتبه ورسله» بالسكون .
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
الوسع : ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه ، أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود . وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } [ البقرة : 185 ] لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس ، ويصوم أكثر من الشهر ، ويحج أكثر من حجة . وقرأ ابن أبي عبلة «وسعها» بالفتح { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } ينفعها ما كسبت من خير ويضرها ما اكتسبت من شر ، لا يؤاخذ بذنبها غيرها ولا يثاب غيرها بطاعتها . فإن قلت : لم خص الخير بالكسب ، والشر بالاكتساب؟ قلت : في الاكتساب اعتمال ، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمّارة به ، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه . ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لادلالة فيه على الاعتمال . أي لا تؤاخذنا بالنسيان أو الخطأ إن فرط منا . فإن قلت : النسيان والخطأ متجاوز عنهما ، فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ قلت : ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال . ألا ترى إلى قوله : { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان } [ الكهف : 63 ] والشيطان لا يقدر على فعل النسيان ، وإنما يوسوس فتكون وسوسته سبباً للتفريط الذي منه النسيان ، ولأنهم كانوا متقين الله حق تقاته ، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به ، كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به ، فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان ، ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه . والإصر : العبء الذي يأصر حامله أي يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله ، استعير للتكليف الشاقّ ، من نحو قتل الأنفس ، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك . وقرىء : «آصاراً» على الجمع . وفي قراءة أبيّ : «ولا تحمّل» علينا بالتشديد . فإن قلت : أيّ فرق بين هذه التشديدة والتي في { وَلاَ تُحَمّلْنَا } ؟ قلت : هذه للمبالغة في حمل عليه ، وتلك لنقل حمله من مفعول واحد إلى مفعولين { وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } من العقوبات النازلة بمن قبلنا ، طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم ، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها . وقيل : المراد به الشاقّ الذي لا يكاد يستطاع من التكليف . وهذا تكرير لقوله : { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا } . { مولانا } سيدنا ونحن عبيدك . أو ناصرنا . أو متولي أمورنا { فانصرنا } فمن حق المولى أن ينصر عبيده . أو فإنّ ذلك عادتك . أو فإنّ ذلك من أمورنا التي عليك توليها . وعن ابن عباس .
( 155 ) «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا بهذه الدعوات ، قيل له عند كل كلمة : قد فعلت» وعنه عليه السلام .
( 156 ) " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " وعنه عليه السلام .
( 157 ) " أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهنّ نبيٌّ قبلي " وعنه عليه السلام .
( 158 ) " أنزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل " فإن قلت : هل يجوز أن يقال : قرأت سورة البقرة أو قرأت البقرة . قلت : لا بأس بذلك . وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم «من آخر سورة البقرة» و «خواتيم سورة البقرة» و «خواتيم البقرة» .
وعن عليّ رضي الله عنه «خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش» وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنه رمى الجمرة ثم قال «من ههنا والذي لا إله غيره رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة» ولا فرق بين هذا وبين قولك سورة الزخرف وسورة الممتحنة وسورة المجادلة . وإذا قيل : قرأت البقرة ، لم يشكل أنّ المراد سورة البقرة كقوله : { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] وعن بعضهم أنه كره ذلك وقال : يقال قرأت السورة التي تذكر فيه البقرة .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
( 159 ) " السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإنّ تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة . قيل : وما البطلة؟ قال : السحرة " .
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
{ م } حقها أن يوقف عليها كما وقف على ألف ولام ، وأن يبدأ ما بعدها كما تقول : واحد اثنان : وهي قراءة عاصم . وأما فتحها فهي حركة الهمزة ألقيت عليها حين أسقطت للتخفيف . فإن قلت : كيف جاز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام فلا تثبت حركتها لأنّ ثبات حركتها كثباتها؟ قلت : هذا ليس بدرج ، لأنّ ( م ) في حكم الوقف والسكون والهمزة في حكم الثابت . وإنما حذفت تخفيفاً وألقيت حركتها على الساكن قبلها ليدل عليها . ونظيره قولهم : واحد اثنان ، بإلقاء حركة الهمزة على الدال . فإن قلت : هلا زعمت أنها حركة لالتقاء الساكنين؟ قلت : لأنّ التقاء الساكنين لا يبالى به في باب الوقف ، وذلك قولك : هذا إبراهيم وداود وإسحاق . ولو كان التقاء الساكنين في حال الوقف يوجب التحريك لحرك الميمين في ألف لام ميم ، لالتقاء الساكنين . ولما انتظر ساكن آخر . فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في ميم ، لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين ، فإذا جاء ساكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا . قلت : الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن أنه كان يمكنهم أن يقولوا : واحد اثنان ، بسكون الدال مع طرح الهمزة ، فيجمعوا بين ساكنين ، كما قالوا : أصيم ، ومديق . فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وليست لالتقاء الساكنين . فإن قلت : فما وجه قراءة عمرو بن عبيد بالكسر؟ قلت : هذه القراءة على توهم التحريك لالتقاء الساكنين وما هي بمقولة . و { التوراة والإنجيل } اسمان أعجميان . وتكلف اشتقاقهما من الورى والنجل ووزنهما بتفعلة وأفعيل ، إنما يصح بعد كونهما عربيين . وقرأ الحسن : «الأنجيل» ، بفتح الهمزة ، وهو دليل على العجمة ، لأن أفعيل بفتح الهمزة عديم في أوزان العرب . فإن قلت : لم قيل { نَزَّلَ الكتاب } { وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل } ؟ قلت : لأن القرآن نزل منجماً ، ونزل الكتابان جملة . وقرأ الأعمش : «نزَل عليك الكتابُ» بالتخفيف ورفع الكتاب { هُدًى لّلنَّاسِ } أي لقوم موسى وعيسى . ومن قال نحن متعبدون بشرائع من قبلنا فسره على العموم . فإن قلت : ما المراد بالفرقان؟ قلت : جنس الكتب السماوية ، لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل أو الكتب التي ذكرها ، كأنه قال بعد ذكر الكتب الثلاثة وأنزل ما يفرق به بين الحق والباطل من كتبه ، أو من هذه الكتب ، أو أراد الكتاب الرابع وهو الزبور ، كما قال : { وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً } [ النساء : 163 ] وهو ظاهر . أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس ، تعظيماً لشأنه وإظهاراً لفضله { بآيات الله } من كتبه المنزلة وغيرها { ذُو انتقام } له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
{ لاَ يخفى عَلَيْهِ شَىْءٌ } في العالم فعبر عنه بالسماء والأرض ، فهو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه { كَيْفَ يَشَاءُ } من الصور المختلفة المتفاوتة . وقرأ طاوس : «تصوّركم» ، أي صوّركم لنفسه ولتعبده ، كقولك : أثلت مالاً ، إذا جعلته أثلة ، أي أصلاً . وتأثلته ، إذا أثلته لنفسك . وعن سعيد بن جبير : هذا حجاج على من زعم أنّ عيسى كان رباً ، كأنه نبه بكونه مصوراً في الرحم ، على أنه عبد كغيره ، وكان يخفى عليه ما لا يخفى على الله .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
{ محكمات } أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه { متشابهات } مشتبهات محتملات { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أي أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وتردّ إليها ، ومثال ذلك { لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار } [ الأنعام : 103 ] ، { إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 23 ] ، { لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء } [ الأعراف : 27 ] . { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } [ الإسراء : 16 ] . فإن قلت : فهلا كان القرآن كله محكماً؟ قلت : لو كان كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمّل من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به ، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه وردّه إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله ، ولأنّ المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف ، إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره ، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ، ففكر وراجع نفسه وغيره ففتح الله عليه وتبين مطابقة المتشابه المحكم ، ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوّة في إيقانه { الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } هم أهل البدع { فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ } فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق { ابتغاء الفتنة } طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } وطلب أن يأوّلوه التأويل الذي يشتهونه { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والرسخون فِي العلم } أي لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله وعباده الذين رسخوا في العلم ، أي ثبتوا فيه وتمكنوا وعضوا فيه بضرس قاطع . ومنهم من يقف على قوله ( إلا الله ) ، ويبتدىء ( والراسخون في العلم يقولون ) ويفسرون المتشابه بما استأثر الله بعلمه ، وبمعرفة الحكمة فيه من آياته ، كعدد الزبانية ونحوه : والأوّل هو الوجه . ويقولون : كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هؤلاء العالمون بالتأويل { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } أي بالمتشابه { كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا } أي كل واحد منه ومن المحكم من عنده ، أو بالكتاب كل من متشابهه ومحكمه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالباب } مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمّل ويجوز أن يكون { يَقُولُونَ } حالا من الراسخين . وقرأ عبد الله : «إن تأويله إلا عند الله» . وقرأ أبيّ : «ويقول الراسخون» .
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
{ لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } وأرشدتنا لدينك . أو لا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفت بنا { مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } من عندك نعمة بالتوفيق والمعونة . وقرىء «لا تزغ قلوبنا» ، بالتاء والياء ورفع القلوب { جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ } أي تجمعهم لحساب يوم أو لجزاء يوم ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع } [ التغابن : 9 ] : وقرىء : «جامع الناس» ، على الأصل { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } معناه أنّ الإلهية تنافي خلف الميعاد كقولك :
إن الجواد لا يخيب سائله ... والميعاد : الموعد . قرأ علي رضي الله عنه : «لن تغني» بسكون الياء ، وهذا من الجدّ في استثقال الحركة على حروف اللين .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
{ مِّنَ } في قوله : { مِنَ الله } مثله في قوله : { وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئاً } [ النجم : 28 ] والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعة الله { شَيْئًا } أي بدل رحمته وطاعته وبدل الحق : ومنه :
( 160 ) «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» أي لا ينفعه جدّه وحظه من الدنيا بذلك ، أي بدل طاعتك وعبادتك وما عندك وفي معناه قوله تعالى : { وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } [ سبأ : 37 ] وقرىء : «وقود» ، بالضم بمعنى أهل وقودها . والمراد بالذين كفروا من كفر برسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عباس : هم قريظة والنضير . الدأب : مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله ، والكاف مرفوع المحل تقديره : دأب هؤلاء الكفرة كدأب من قبلهم من آل فرعون وغيرهم . ويجوز أن ينتصب محل الكاف بلن تغني ، أو بالوقود . أي لن تغني عنهم مثل ما لم تغني عن أولئك أو توقد بهم النار كما توقد بهم ، تقول : إنك لتظلم الناس كدأب أبيك تريد كظلم أبيك ومثل ما كان يظلمهم ، وإنّ فلاناً لمحارف كدأب أبيه ، تريد كما حورف أبوه { كَذَّبُواْ بئاياتنا } تفسير لدأبهم مافعلوا وفعل بهم ، على أنه جواب سؤال مقدّر عن حالهم { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } هم مشركو مكة { سَتُغْلَبُونَ } يعني يوم بدر . وقيل : هم اليهود . ولما غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر قالوا : هذا والله النبي الأميّ الذي بشرنا به موسى ، وهموا باتباعه . فقال بعضهم : لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى ، فلما كان يوم أحد شَكُّوا . وقيل :
( 161 ) جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في سوق بني قينقاع ، فقال : " يا معشر اليهود احذروا مثل ما نزل بقريش وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نبي مرسل " ، فقالوا لا يغرّنك أنك لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس ، فنزلت . وقرىء : «سيغلبون ويحشرون» ، بالياء ، كقوله تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ } [ الأنفال : 38 ] على قل لهم قولي لك سيغلبون . فإن قلت : أي فرق بين القراءتين من حيث المعنى؟ قلت : معنى القراءة بالتاء الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر إلى جهنم . فهو إخبار بمعنى سيغلبون ويحشرون وهو الكائن من نفس المتوعد به والذي يدل عليه اللفظ ، ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكي لهم ما أخبره به من وعيدهم بلفظه . كأنه قال : أدّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك سيغلبون ويحشرون .
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
{ قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ } الخطاب لمشركي قريش { فِي فِئَتَيْنِ التقتا } يوم بدر { يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ } يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين قريباً من ألفين . أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفاً وعشرين ، أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم ، وكان ذلك مدداً لهم من الله كما أمدّهم بالملائكة . والدليل عليه قراءة نافع : «ترونهم» ، بالتاء أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة ، أو مثلي أنفسهم . فإن قلت : فهذا مناقض لقوله في سورة الأنفال { وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] . قلت : قللوا أوّلا في أعينهم حتى احترؤا عليهم فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا ، فكان التقليل والتكثير في حالين مختلفين . ونظيره من المحمول على اختلاف الأحوال قوله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ } [ الرحمن : 39 ] وقوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسؤولون } [ الصافات : 24 ] وتقليلهم تارة وتكثيرهم أخرى في أعينهم أبلغ في القدرة وإظهار الآية . وقيل : يرى المسلمون المشركين مثلي المسلمين على ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله تعالى : { فإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } [ الأنفال : 66 ] بعد ما كلفوا أن يقاوم الواحد العشرة في قوله تعالى : { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] ولذلك وصف ضعفهم بالقلة لأنه قليل بالإضافة إلى عشرة الأضعاف وكان الكافرون ثلاثة أمثالهم . وقراءة نافع لا تساعد عليه . وقرأ ابن مصرِّف : «يرونهم» ، على البناء للمفعول بالياء والتاء ، أي يريهم الله ذلك بقدرته . وقرىء : «فئة تقاتل وأخرى كافرة» ، بالجرّ على البدل من فئتين ، وبالنصب على الاختصاص . أو على الحال من الضمير في ( التقتا ) { رَأْىَ العين } يعني رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها ، معاينة كسائر المعاينات { والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ } كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدوّ .
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
{ زُيّنَ لِلنَّاسِ } المزين هو الله سبحانه وتعالى للابتلاء ، كقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ } [ الكهف : 7 ] ويدل عليه قراءة مجاهد : «زَيَّنَ للناس» ، على تسمية الفاعل . وعن الحسن : الشيطان . والله زينها لهم ، لأنا لا نعلم أحداً أذم لها من خالقها { حُبُّ الشهوات } جعل الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصاً على الاستمتاع بها . والوجه أن يقصد تخسيسها فيسميها شهوات ، لأن الشهوة مسترذلة عند الحكماء مذموم من اتبعها شاهد على نفسه بالبهيمية ، وقال : { زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات } ثم جاء التفسير ، ليقرر أوّلا في النفوس أن المزين لهم حبه ما هو إلا شهوات لا غير ، ثم يفسره بهذه الأجناس ، فيكون أقوى لتخسيسها ، وأدلّ على ذم من يستعظمها ويتهالك عليها ويرجح طلبها على طلب ما عند الله . والقنطار : المال الكثير . قيل : ملء مسك ثور . وعن سعيد بن جبير : مائة ألف دينار . ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل قد قنطروا . و { المقنطرة } مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم : ألف مؤلفة ، وبدرة مبدرة . و { المسومة } المعلمة ، من السومة وهي العلامة . أو المطهمة أو المرعية من أسام الدابة وسوّمها { والانعام } الأزواج الثمانية { ذلك } المذكور { مَّتَاعُ الحياة } .
{ لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات } كلام مستأنف فيه دلالة على بيان ما هو خير من ذلكم ، كما تقول : هل أدلك على رجل عالم؟ عندي رجل صفته كيت وكيت . ويجوز أن يتعلق اللام بخير . واختص المتقين ، لأنهم هم المنتفعون به . وترتفع { جنات } على : هو جنات . وتنصره قراءة من قرأ «جنات» بالجرّ على البدل من خير { والله بَصِيرٌ بالعباد } يثيب ويعاقب على الاستحقاق ، أو بصير بالذين اتقوا وبأحوالهم ، فلذلك أعدّ لهم الجنات .
{ الذين يَقُولُونَ } نصب على المدح ، أو رفع . ويجوز الجرّ صفة للمتقين أو للعباد . والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كما لهم في كل واحدة منها . وقد مرّ الكلام في ذلك . وخص الأسحار لأنهم كانوا يقدّمون قيام الليل فيحسن طلب الحاجة بعده { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] وعن الحسن : كانوا يصلون في أوّل الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار ، هذا نهارهم ، وهذا ليلهم .
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره ، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما بشهادة الشاهد في البيان والكشف ، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك واحتجاجهم عليه { قَائِمَاً بالقسط } مقيماً للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآجال ، ويثيب ويعاقب ، وما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم . وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه كقوله : { وَهُوَ الحق مُصَدّقًا } [ البقرة : 91 ] . فإن قلت : لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه؟ ولو قلت جاءني زيد وعمرو راكباً لم يجز؟ قلت : إنما جاز هذا لعدم الإلباس كما جاز في قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] إن انتصب نافلة حالا عن يعقوب . ولو قلت : جاءني زيد وهند راكباً جاز لتميزه بالذكورة ، أو على المدح . فإن قلت : أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة كقولك : الحمد لله الحميد .
( 162 ) " إنا معشر الأنبياء لا نورث " إنا بنى نهشل لا ندعي لأب؟ قلت : قد جاء نكرة كما جاء معرفة . وأنشد سيبويه فيما جاء منه نكرة قول الهذلي :
وَيَأْوِي إلى نِسْوَةٍ عُطْلٍ ... وَشُعْثا مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي
فإن قلت : هل يجوز أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلا هو؟ قلت : لا يبعد ، فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف . فإن قلت : قد جعلته حالا من فاعل شهد ، فهل يصح أن ينتصب حالاً عن «هو» في { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } ؟ قلت : نعم ، لأنها حال مؤكدة والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها ، كقولك : أنا عبد الله شجاعاً . وكذلك لو قلت : لا رجل إلا عبد الله شجاعاً . وهو أوجه من انتصابه عن فاعل شهد ، وكذلك انتصابه على المدح . فإن قلت : هل دخل قيامه بالقسط في حكم شهادة الله والملائكة وأولي العلم كما دخلت الوحدانية؟ قلت : نعم إذا جعلته حالاً من هو ، أو نصباً على المدح منه ، أو صفة للمنفي ، كأنه قيل : شهد الله والملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو ، وأنه قائم بالقسط . وقرأ عبد الله : «القائم بالقسط» ، على أنه بدل من هو ، أو خبر مبتدأ محذوف . وقرأ أبو حنيفة : «قيما بالقسط» { العزيز الحكيم } صفتان مقرّرتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل ، يعني أنه العزيز الذي لا يغالبه إله آخر ، والحكيم الذي لا يعدل عن العدل في أفعاله . فإن قلت : ما المراد بأولي العلم الذي عظمهم هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله؟ قلت : هم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج الساطعة والبراهين القاطعة وهم علماء العدل والتوحيد . وقرىء : «أنه» بالفتح ، و { إِنَّ الدين } بالكسر على أنّ الفعل واقع على أنه بمعنى شهد الله على أنه ، أو بأنه . وقوله : { إِنَّ الدين عِندَ الله الإسلام } جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى . فإن قلت : ما فائدة هذا التوكيد؟ قلت : فائدة أن قوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } توحيد ، وقوله : { قَائِمَاً بالقسط } تعديل ، فإذا أردفه قوله : { إِنَّ الدين عِندَ الله الإسلام } فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند الله ، وما عداه فليس عنده في شيء من الدين . وفيه أن من ذهب إلى تشبيه أو ما يؤدّي إليه كإجازة الرؤية أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور ، لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام ، وهذا بين جلي كما ترى . وقرئا مفتوحين ، على أن الثاني بدل من الأوّل . كأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، والبدل هو المبدل منه في المعنى ، فكان بياناً صريحاً ، لأن دين الله هو التوحيد والعدل . وقرىء الأوّل بالكسر والثاني بالفتح ، على أن الفعل واقع على ( إنّ ) وما بينهما اعتراض مؤكد . وهذا أيضاً شاهد على أن دين الإسلام هو العدل والتوحيد ، فترى القراءات كلها متعاضدة على ذلك . وقرأ عبد الله : «أن لا إله إلا هو» . وقرأ أبيّ : «إن الدين عند الله للإسلام» ، وهي مقوية لقراءة من فتح الأولى وكسر الثانية . وقرىء : «شهداء لله» ، بالنصب على أنه حال من المذكورين قبله ، وبالرفع على هم شهداء الله . فإن قلت : فعلام عطف على هذه القراءة { والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } ؟ قلت : على الضمير في شهداء ، وجاز لوقوع الفاصل بينهما . فإن قلت : لم كرر قوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } قلت : ذكره أوّلاً للدلالة على اختصاصه بالوحدانية ، وأنه لا إله إلا تلك الذات المتميزة ، ثم ذكره ثانياً بعد ما قرن بإثبات الوحدانية إثبات العدل ، للدلالة على اختصاصه بالأمرين ، كأنه قال : لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين ، ولذلك قرن به قوله : { العزيز الحكيم } لتضمنهما معنى الوحدانية والعدل { الذين أُوتُواْ الكتاب } أهل الكتاب من اليهود والنصارى . واختلافهم أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد والعدل { مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم } أنه الحق الذي لا محيد عنه ، فثلثت النصارى ، وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالوا : كنا أحق بأن تكون النبوّة فينا من قريش لأنهم أمّيون ونحن أهل الكتاب ، وهذا تجوير { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي ما كان ذلك الاختلاف وتظاهر هؤلاء بمذهب وهؤلاء بمذهب إلا حسداً بينهم وطلباً منهم للرياسة وحظوظ الدنيا ، واستتباع كل فريق ناساً يطؤن أعقابهم ، لاشبهة في الإسلام . وقيل : هو اختلافهم في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث آمن به بعض وكفر به بعض . وقيل : هو اختلافهم في الإيمان بالأنبياء ، فمنهم من آمن بموسى ، ومنهم من آمن بعيسى . وقيل هم اليهود ، واختلافهم أن موسى عليه السلام حين احتضر استودع التوراة سبعين حبراً من بني إسرائيل ، وجعلهم أمناء عليها ، واستخلف يوشع ، فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين بعد ما جاءهم علم التوراة بغيا بينهم وتحاسداً على حظوظ الدنيا والرياسة . وقيل : هم النصارى واختلافهم في أمر عيسى بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله .
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
{ فَإنْ حَاجُّوكَ } فإن جادلوك في الدين { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ } أي أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيها لغيره شريكاً بأن أعبده وأدعوه إلها معه؛ يعني أن ديني التوحيد وهو الدين القديم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي ، وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه . ونحوه { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } [ آل عمران : 64 ] فهو دفع للمحاجة بأن ما هو عليه ومن معه من المؤمنين هو حق اليقين الذي لا لبس فيه؛ فما معنى المحاجة فيه؟ { وَمَنِ اتبعن } عطف على التاء في أسلمت وحسن للفاصل . ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع فيكون مفعولاً معه { وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب } من اليهود والنصارى { والاميين } والذين لا كتاب لهم من مشركي العرب { ءأَسْلَمْتُمْ } يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضي حصوله لا محالة؛ فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم؟ وهذا كقولك لمن لخصت له المسألة ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقاً إلا سلكته : هل فهمتها لا أم لك ، ومنه قوله عزّ وعلا { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر . وفي هذا الاستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف إذعانه للحق ، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسداداً بينه وبين الإذعان ، وكذلك في : هل فهمتها؟ توبيخ بالبلادة وكلة القريحة . وفي { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا } فقد نفعوا أنفسهم حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى ومن الظلمة إلى النور { وَإِن تَوَلَّوْاْ } لم يضروك فإنك رسول منبه عليك أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الهدى .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
قرأ الحسن : «يقتلون النبيين» وقرأ حمزة : «ويقاتلون الذين يأمرون» وقرأ عبد الله : «وقاتلوا» وقرأ أبيّ . «يقتلون النبيين» ، والذين يأمرون . وهم أهل الكتاب . قتل أولوهم الأنبياء وقتلوا أتباعهم وهم راضون بما فعلوا ، وكانوا حول قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لولا عصمة الله . وعن أبي عبيدة بن الجراح :
( 163 ) قلت يا رسول الله ، أي الناس أشدّ عذاباً يوم القيامة؟ قال : " رجل قتل نبياً؛ أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر» ثم قرأها ثم قال : «يا أبا عبيدة ، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيّا من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً في آخر النهار " { فِى الدنيا والاخرة } لأنّ لهم اللعنة والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة . فإن قلت : لم دخلت الفاء في خبر إن؟ قلت : لتضمن اسمها معنى الجزاء ، كأنه قيل : الذين يكفرون فبشرهم بمعنى من يكفر فبشرهم ، و «إنّ» لا تغير معنى الابتداء فكأنّ دخولها كلا دخول ، ولو كان مكانها «ليت» أو «لعل» لامتنع إدخال الفاء لتغير معنى الابتداء .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
{ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الكتاب } يريد أحبار اليهود ، وأنهم حصلوا نصيباً وافراً من التوراة . و «من» إما للتبعيض وإما للبيان ، أو حصلوا من جنس الكتب المنزلة أو من اللوح التوارة وهي نصيب عظيم { يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله } وهو التوراة { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } وذلك
( 164 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مدراسهم فدعاهم فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد : على أي دين أنت؟ قال : على ملة إبراهيم . قالا : إنّ إبراهيم كان يهودياً . قال لهما : إنّ بيننا وبينكم التوارة ، فهلموا إليها» فأبيا . وقيل نزلت في الرجم ، وقد اختلفوا فيه . وعن الحسن وقتادة : كتاب الله القرآن؛ لأنهم قد علموا أنه كتاب الله لم يشكوا فيه { ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ } استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب { وَهُم مُّعْرِضُونَ } وهم قوم لا يزال الإعراض ديدنهم . وقرىء «لِيُحْكَمَ» على البناء للمفعول . والوجه أن يراد ما وقع من الاختلاف والتعادي بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم : وأنهم دعوا إلى كتاب الله الذي لا اختلاف بينهم في صحته وهو التوراة ليحكم بين المحق والمبطل منهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم الذين لم يسلموا . وذلك أنّ قوله : { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } يقتضي أن يكون اختلافاً واقعاً فيما بينهم ، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم { ذلك } التولي والإعراض بسبب تسهيلهم على أنفسهم أمر العقاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل كما طمعت المجبرة والحشوية { وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من أنّ آباءهم هم الأنبياء يشفعون لهم كما غرت أولئك شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كبائرهم { فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم } فكيف يصنعون فكيف تكون حالهم ، وهو استعظام لما أعدّ لهم وتهويل لهم ، وأنهم يقعون فيما لا حيلة لهم في دفعه والمخلص منه ، وأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل وتطمع بما لا يكون . وروي أنّ أوّل راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود ، فيفضحهم الله على رؤوس الاشهاد ، ثم يأمر بهم إلى النار { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } يرجع إلى كل نفس على المعنى ، لأنه في معنى كل الناس كما تقول : ثلاثة أنفس ، تريد ثلاثة أناسي .
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
الميم في { اللهم } عوض من يا ، ولذلك لا يجتمعان . وهذا بعض خصائص هذا الاسم كما اختص بالتاء في القسم ، وبدخول حرف النداء عليه ، وفيه لام التعريف ، وبقطع همزته في يا أَلله ، وبغير ذلك { مالك الملك } أي تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرّف الملاك فيما يملكون { تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ } تعطي من تشاء النصيب الذي قسمت له واقتضته حكمتك من الملك { وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ } النصيب الذي أعطيته منه ، فالملك الأوّل عام شامل ، والملكان الآخران خاصان بعضان من الكل . روى .
( 165 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم ، فقال المنافقون واليهود : هيهات هيهات ، من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك . وروي
( 166 ) " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون ، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره ، فأخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدّعتها «وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها ، لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم ، وكبر وكبر المسلمون وقال : أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي قصور صنعاء ، وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمّتي ظاهرة على كلها ، فأبشروا . فقال المنافقون : ألا تعجبون ، يمنيكم ويعدكم الباطل ، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم ، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا ، فنزلت " فإن قلت : كيف قال : { بِيَدِكَ الخير } فذكر الخير دون الشر؟ قلت : لأنّ الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة ، فقال بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ، ولأن كل أفعال الله تعالى من نافع وضارّ صادر عن الحكمة والمصلحة ، فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه . ثم ذكر قدرته الباهرة بذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما ، وحال الحيّ والميت في إخراج أحدهما من الآخر ، وعطف عليه رزقه بغير حساب دلالة على أنّ من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ثم قدر أن يرزق بغير حساب دلالة من يشاء من عباده ، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم وفي بعض الكتب : أنا الله ملك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعوني جعلتهم لهم رحمة ، وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة ، فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم ، وهو معنى قوله عليه السلام
( 167 ) " كما تكونوا يولى عليكم " .
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
نهوا أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها ويتعاشر ، وقد كرّر ذلك في القرآن { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] ، { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء } [ المائدة : 50 ] ، { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله } الآيه [ المجادلة : 22 ] . والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم وأصل من أصول الإيمان { مِن دُونِ المؤمنين } يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَىْءٍ } ومن يوالي الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية ، يعني أنه منسلخ من ولاية الله رأساً ، وهذا أمر معقول فإنّ موالاة الوليّ وموالاة عدوّه متنافيان ، قال :
تَوَدُّ عَدُوِّى ثُمَّ تَزْعُمُ أَنَّنِي ... صدِيقُكَ لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ
{ إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } إلا أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه . وقرىء : «تقية» . قيل للمتقي تقاة وتقية ، كقولهم : ضرب الأمير لمضروبه . رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة مخالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعدواة والبغضاء ، وانتظار زوال المانع من قشر العصا ، كقول عيسى صلوات الله عليه «كن وسطاً وامش جانباً» { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه ، وهذا وعيد شديد . ويجوز أن يضمن { تَتَّقُواْ } معنى تحذروا وتخافوا ، فيعدى بمن وينتصب { تقاة } أو تقية على المصدر ، كقوله تعالى : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] .
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
{ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضي الله { يَعْلَمْهُ } ولم يخف عليه وهو الذي { وَيَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الارض } لا يخفى عليه منه شيء قط . فلا يخفى عليه سركم وعلنكم { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } فهو قادر على عقوبتكم . وهذا بيان لقوله : { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] لأنّ نفسه وهي ذاته المميزة من سائر الذوات ، متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون معلوم ، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور ، فهي قادرة على المقدورات كلها ، فكان حقها أن تحذر وتتقى فلا يجسر أحد على قبيح ولا يقصر عن واجب ، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة فلاحق به العقاب ، ولو علم بعض عبيد السلطان أنه أراد الإطلاع على أحواله ، فوكل همه بما يورد ويصدر ، ونصب عليه عيوناً ، وبث من يتجسس عن بواطن أموره ، لأخذ حذره وتيقظ في أمره ، واتقى كل ما يتوقع فيه الاسترابة به ، فما بال من علم أنّ العالم الذات الذي علم السر وأخفى مهيمن عليه وهو آمن . اللهم إنا نعوذ بك من اغترارنا بسترك .
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
{ يَوْمَ تَجِدُ } منصوب بتودّ . والضمير في بينه لليوم ، أي يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين ، تتمنى لو أنّ بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً . ويجوز أن ينتصب { يَوْمَ تَجِدُ } بمضمر نحو : اذكر ، ويقع على ما عملت وحده ، ويرتفع { وَمَا عَمِلَتْ } على الابتداء ، و { تَوَدُّ } خبره ، أي : والذي عملته من سوء تودّ هي لو تباعد ما بينها وبينه . ولا يصح أن تكون ما شرطية لارتفاع تودّ . فإن قلت : فهل يصح أن تكون شرطية على قراءة عبد الله ودّت؟ قلت : لا كلام في صحته ، ولكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم وأثبت لموافقة قراءة العامّة . ويجوز أن يعطف { وَمَا عَمِلَتْ } على { مَّا عَمِلَتْ } ويكون { تَوَدُّ } حالاً ، أي يوم تجد عملها محضراً وادّة تباعد ما بينها وبين اليوم أو عمل السوء محضراً ، كقوله تعالى : { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا } [ الكهف : 49 ] يعني مكتوباً في صحفهم يقرؤنه ونحوه { فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أحصاه الله وَنَسُوهُ } [ المجادلة : 6 ] . والأمد المسافة كقوله تعالى : { ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين } [ الزخرف : 38 ] وكرّر قوله : { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } ليكون على بال منهم لا يغفلون عنه { والله رَءوفٌ بالعباد } يعني أن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروه دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه . وعن الحسن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه . ويجوز أن يريد أنه مع كونه محذوراً لعلمه وقدرته ، مرجوّ لسعة رحمته كقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [ فصلت : 43 ] .
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
محبة العباد لله مجاز عن إرادة نفوسهم اختصاصه بالعبادة دون غيره ورغبتهم فيها . ومحبة الله عباده أن يرضى عنهم ويحمد فعلهم . والمعنى : إن كنتم مريدين لعبادة الله على الحقيقة { فاتبعونى } حتى يصحّ ما تدعونه من إرادة عبادته ، يرض عنكم ويغفر لكم . وعن الحسن : زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فأراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل ، فمن ادعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب وكتاب الله يكذبه . وإذا رأيت من يذكر محبة الله ويصفق بيديه مع ذكرها ويطرب وينعر ويصعق فلا تشك في أنه لا يعرف ما الله ولا يدري ما محبة الله . وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا أنه تصوّر في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسماها الله بجهله ودعارته ، ثم صفق وطرب ونعر وصعق تصوّرها ، وربما رأيت المنيَّ قد ملأ إزار ذلك المحب عند صعقته ، وحمقى العامة على حواليه قد ملؤا أدرانهم بالدموع لما رققهم من حاله . وقرىء : «تحبون» . و«يحببكم» و«يحبكم» ، من حبه يحبه . قال :
أُحِبُّ أبَا ثَرْوَانَ مِنْ حُبِّ تَمْرِه ... وَأَعْلَمُ أنّ الرِّفْقَ بِالجَارِ أَرْفَقُ
وَوَاللَّهِ لَوْلاَ تَمْرُهُ ما حَبَبْتُهُ ... وَلاَ كَانَ أَدْنَى مِنْ عُبَيْدٍ وَمُشْرِقُ
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } يحتمل أن يكون ماضياً ، وأن يكون مضارعاً بمعنى : فإن تتولوا ، ويدخل في جملة ما يقول الرسول لهم .
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
{ آل إبراهيم ا } إسماعيل وإسحاق وأولادهما . { وَءَالَ عِمْرَانَ } موسى وهرون ابنا عمران ابن يصهر . وقيل عيسى ومريم بنت عمران بن ماثان ، وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة . و { ذُرّيَّةَ } بدل من آل إبراهيم وآل عمران { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } يعني أنّ الآلين ذرّية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض : موسى وهرون من عمران ، وعمران من يصهر ، ويصهر من فاهث ، وفاهث من لاوى ، ولاوى من يعقوب ، ويعقوب من إسحاق . وكذلك عيسى ابن مريم بنت عمران بن ماثان بن سليمان بن داود بن إيشا بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق . وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : ( بعضها من بعض ) في الدين ، كقوله تعالى : { المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ } [ التوبة : 67 ] { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يعلم من يصلح للاصطفاء ، أو يعلم أنّ بعضهم من بعض في الدين . أو ( سميع عليم ) لقول امرأة عمران ونيتها . و { إِذْ } منصوب به . وقيل : بإضمار اذكر . وامرأة عمران هي امرأة عمران بن ماثان ، أم مريم البتول . جدّة عيسى عليه السلام ، وهي حنة بنت فاقوذ . وقوله : { إِذْ قَالَتِ امرأت عمران } على أثر قوله : { وَءَالَ عِمْران } مما يرجح أنّ عمران هو عمران بن ماثان جدّ عيسى ، والقول الآخر يرجحه أن موسى يقرن بإبراهيم كثيراً في الذكر . فإن قلت : كانت لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم أكبر من موسى وهرون ، ولعمران بن ماثان مريم البتول ، فما أدراك أن عمران هذا هو أبو مريم البتول دون عمران أبي مريم التي هي أخت موسى وهرون؟ قلت : كفى بكفالة زكريا دليلاً على أنه عمران أبو البتول ، لأن زكريا بن آذن وعمران بن ماثان كانا في عصر واحد ، وقد تزوّج زكريا بنته إيشاع أخت مريم فكان يحيى وعيسى ابني خالة . روي أنها كانت عاقرا لم تلد إلى أن عجزت ، فبينا هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخاً له فتحرّكت نفسها للولد وتمنته ، فقالت : اللهم إن لك عليّ نذراً شكراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه ، فحملت بمريم وهلك عمران وهي حامل { مُحَرَّرًا } معتقاً لخدمة بيت المقدس لا يدَ لي عليه ولا أستخدمه ولا أشغله بشيء ، وكان هذا النوع من النذر مشروعاً عندهم . وروي : أنهم كانوا ينذرون هذا النذر ، فإذا بلغ الغلام خير بين أن يفعل وبين أن لا يفعل . وعن الشعبي { مُحَرَّرًا } : مخلصاً للعبادة ، وما كان التحرير إلا للغلمان ، وإنما بنت الأمر على التقدير ، أو طلبت أن ترزق ذكراً { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } الضمير ل ( ما في بطني ) ، وإنما أنث على المعنى لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله ، أو على تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة .
فإن قلت : كيف جاز انتصاب { أنثى } حالا من الضمير في وضعتها وهو كقولك وضعت الأنثى أنثى؟ قلت : الأصل : وضعته أنثى ، وإنما أنثى لتأنيث الحال؛ لأن الحال وذا الحال لشيء واحد ، كما أنث الاسم في ( ما كانت أمّك ) لتأنيث الخبر . ونظيره قوله تعالى : { فَإِن كَانَتَا اثنتين } [ النساء : 176 ] وأمّا على تأويل الحبلة أو النسمة فهو ظاهر ، كأنه قيل : إني وضعت الحبلة أو النسمة أنثى . فإن قلت : فلم قالت : إني وضعتها أنثى وما أرادت إلى هذا القول؟ قلت : قالته تحسراً على ما رأت من خيبة رجائها وعكس تقديرها . فتحزنت إلى ربها لأنها كانت ترجو وتقدر أن تلد ذكراً ، ولذلك نذرته محرّراً للسدانة . ولتكلمها بذلك على وجه التحسر والتحزن قال الله تعالى : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } تعظيماً لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه . ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق به من عظائم الأمور ، وأن يجعله وولده آية للعالمين وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً . فلذلك تحسرت . وفي قراءة ابن عباس «والله أعلم بما وَضَعْتِ» على خطاب الله تعالى لها أي إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما علم الله من عظم شأنه وعلوّ قدره . وقرىء : «وضعت» . بمعنى : ولعلّ لله تعالى فيه سراً وحكمة ، ولعلّ هذه الأنثى خير من الذكر تسلية لنفسها . فإن قلت : فما معنى قوله : { وَلَيْسَ الذكر كالانثى } ؟ قلت : هو بيان لما في قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } من التعظيم للموضوع والرفع منه ، ومعناه : وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها ، واللام فيهما للعهد . فإن قلت : علام عطف قوله : { وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } ؟ قلت : هو عطف على إني وضعتها أنثى ، وما بينهما جملتان معترضتان ، كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] فإن قلت : فلم ذكرت تسميتها مريم لربها؟ قلت : لأن مريم في لغتهم بمعنى العابدة ، فأرادت بذلك التقريب والطلب إليه أن يعصمها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها ، وأن يصدق فيها ظنها بها . ألا ترى كيف أتبعته طلب الإعاذة لها ولولدها من الشيطان وإغوائه . وما يروى من الحديث .
( 168 ) " ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهلّ صارخاً من مس الشيطان إياه ، إلا مريم وابنها " فالله أعلم بصحته . فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها ، فإنهما كانا معصومين ، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى : { لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ الحجر : 40 41 ] واستهلاله صارخاً من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه ، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول : هذا ممن أغويه ، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي :
لِمَا تُؤْذِنُ الدُّنْيَا بِهِ مِنْ صُرُوفِهَا ... يَكُونُ بُكَاءُ الطَفْلِ سَاعَةَ يُولَدُ
وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ، ولو سلط إبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } فرضي بها في النذر مكان الذكر { بِقَبُولٍ حَسَنٍ } فيه وجهان : أحدهما أن يكون القبول اسم ما تقبل به الشيء كالسعوط واللدود ، لما يسعط به ويلد ، وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر ، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك ، أو بأن تسلمها من أمّها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة . وروي : أن حنة حين ولدت مريم ، لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ، ووضعتها عند الأحبار أبناء هرون ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها فقالوا : لا حتى نقترع عليها ، فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر ، فألقوا فيه أقلامهم ، فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسبت أقلامهم ، فتكفلها . والثاني : أن يكون مصدراً على تقدير حذف المضاف بمعنى : فتقبلها بذي قبول حسن ، أي بأمر ذي قبول حسن وهو الاختصاص . ويجوز أن يكون معنى { فَتَقَبَّلَهَا } فاستقبلها ، كقولك : تعجله بمعنى استعجله ، وتقصاه بمعنى استقصاه ، وهو كثير في كلامهم ، من استقبل الأمر إذا أخذه بأوّله وعنفوانه قال القطامي :
وَخَيْرُ الأَمْرِ مَا استقبلت مِنْهُ ... وَلَيْسَ بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعَا
ومنه المثل «خذ الأمر بقوابله» . أي فأخذها في أوّل أمرها حين ولدت بقبول حسن { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها . وقرىء : «وَكَفِلَها زكريا» ، بوزن وعملها { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } بتشديد الفاء ونصب زكرياء ، والفعل لله تعالى بمعنى : وضمها إليه وجعله كافلاً لها وضامناً لمصالحها . ويؤيدها قراءة أبيّ : وأكفلها ، من قوله تعالى : { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } [ ص : 23 ] وقرأ مجاهد : فتقبلها ربها ، وأنبتها ، وكفلها ، على لفظ الأمر في الأفعال الثلاثة ، ونصب ربها ، تدعو بذلك ، أي فاقبلها يا ربها وربها ، واجعل زكريا كافلاً لها . قيل : بنى لها زكريا محراباً في المسجد ، أي غرفة يصعد إليها بسلم . وقيل : المحراب أشرف المجالس ومقدّمها ، كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس . وقيل : كانت مساجدهم تسمى المحاريب . وروي : أنه كان لا يدخل عليها إلا هو وحده ، وكان إذا خرج غلق عليها سبعة أبواب . { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } كان رزقها ينزل عليها من الجنة ولم ترضع ثديا قط ، فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء { أنى لَكِ هذا } من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو آت في غير حينه والأبواب مغلقة عليك لا سبيل للداخل به إليك؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } فلا تستبعد . قيل تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد . وعن النبي صلى الله عليه وسلم
( 169 ) « أنه جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة رضي الله عنها رغيفين وبضعة لحم آثرته بها ، فرجع بها إليها ، وقال : هلمي يا بنية فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزاً ولحماً ، فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله ، فقال لها صلى الله عليه وسلم : أنيَّ لك هذا؟ فقالت : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب . فقال عليه الصلاة والسلام : الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل ، ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته ، فأكلوا عليه حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو ، فأوسعت فاطمة على جيرانها » { إنَّ الله يَرْزُقُ } من جملة كلام مريم عليها السلام ، أو من كلام رب العزّة عزّ من قائل { بِغَيْرِ حِسَابٍ } بغير تقدير لكثرته ، أو تفضلاً بغير محاسبة ومجازاة على عمل بحسب الاستحقاق .
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
{ هُنَالِكَ } في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك الوقت . فقد يستعار هنا وثم وحيث للزمان . لما رأى حال مريم في كرامتها على الله ومنزلتها ، رغب في أن يكون له من ايشاع ولد مثل ولد أختها حنة في النجابة والكرامة على الله ، وإن كانت عاقراً عجوزاً فقد كانت أختها كذلك . وقيل : لما رأى الفاكهة في غير وقتها انتبه على جواز ولادة العاقر { ذُرِّيَّةَ } ولداً . والذرية يقع على الواحد والجمع { سَمِيعُ الدعاء } مجيبه . قرىء : «فناداه الملائكة» . وقيل : ناداه جبريل عليه السلام ، وإنما قيل الملائكة على قولهم : فلان يركب الخيل { أَنَّ الله يُبَشّركَ } بالفتح على بأن الله ، وبالكسر على إرادة القول . أو لأن النداء نوع من القول . وقرىء : «يبشرك» ، «ويبشرك» ، من بشره وأبشره . «ويَبْشُرك» بفتح الياء من بشره . ويحيى إن كان أعجمياً وهو الظاهر فمنع صرفه للتعريف والعجمة كموسى وعيسى ، وإن كان عربياً فللتعريف ووزن الفعل كيعمر { مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله } مصدّقاً بعيسى مؤمناً به . قيل هو أول من آمن به ، وسمي عيسى «كلمة» لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله وحدها ، وهي قوله : ( كن ) من غير سبب آخر . وقيل : مصدّقاً بكلمة من الله ، مؤمناً بكتاب منه . وسمي الكتاب كلمة ، كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدته . والسيد : الذي يسود قومه ، أي يفوقهم في الشرف . وكان يحيى فائقاً لقومه وفائقاً للناس كلهم في أنه لم يركب سيئة قط ، ويالها من سيادة . والحصور : الذي لا يقرب النساء حصراً لنفسه أي منعاً لها من الشهوات . وقيل هو الذي لا يدخل مع القوم في الميسر . قال الأخطل :
وَشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالكأْسِ نَادَمَني ... لاَ بِالْحَصُورِ وَلاَ فِيهَا بِسَئَّارِ
فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو . وقد روي أنه مرّ وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال : ما للعب خلقت { مّنَ الصالحين } ناشئاً من الصالحين ، لأنه كان من أصلاب الأنبياء ، أو كائناً من جملة الصالحين كقوله : { وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين } [ البقرة : 130 ] . { أنى يَكُونُ لِي غلام } استبعاد من حيث العادة كما قالت مريم . { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } كقولهم : أدركته السنّ العالية . والمعنى أثر فيّ الكبر فأضعفني ، وكانت له تسع وتسعون سنة ، ولامرأته ثمان وتسعون { كذلك } أي يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل ، وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر ، أو كذلك الله مبتدأ وخبر ، أي على نحو هذه الصفة الله ، ويفعل ما يشاء بيان له ، أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادات { ءَايَةً } علامة أعرف بها الحبل لأتلقى النعمة إذا جاءت بالشكر { قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ } تقدر على تكليم الناس { ثلاثة أَيَّامٍ } وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة ، مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله ، ولذلك قال : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بالعشى والإبكار } يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس ، وهي من الآيات الباهرة .
فإن قلت : لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت : ليخلص المدّة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره ، توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة ، وشكرها الذي طلب الآية من أجله ، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر . وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال . ومنتزعاً منه { إِلاَّ رَمْزًا } إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما وأصله التحرّك . يقال ارتمز : إذا تحرّك . ومنه قيل للبحر الراموز . وقرأ يحيى ابن وثاب «إلا رمزاً» بضمتين ، جمع رموز كرسول ورسل . وقرىء : «رمزاً» بفتحتين جمع رامز كخادم وخدم ، وهو حال منه ومن الناس دفعة كقوله :
مَتَى مَا تَلْقَني فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ ... رَوَانِفُ إلْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَ
بمعنى إلا مترامزين ، كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم . والعشيّ : من حين تزول الشمس إلى أن تغيب . و { والإبكار } من طلوع الفجر إلى وقت الضحى . وقرىء «والأبكار» ، بفتح الهمزة جمع بكر كسحر وأسحار . يقال : أتيته بكراً بفتحتين . فإن قلت : الرمز ليس من جنس الكلام؛ فكيف استثنى منه؟ قلت : لما أدّى مؤدّى الكلام وفهم منه ما يفهم منه سمي كلاماً . ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً .
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{ يامريم } روي أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا أو إرهاصا لنبوّة عيسى { اصطفاك } أولاً حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية { وَطَهَّرَكِ } مما يستقذر من الأفعال ومما قرفك به اليهود { واصطفاك } آخراً { على نِسَاء العالمين } بأن وهب لك عيسى من غير أب؛ ولم يكن ذلك لأحد من النساء . أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود؛ لكونهما من هيآت الصلاة وأركانها؛ ثم قيل لها { واركعى مَعَ الركعين } بمعنى : ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة؛ أو انظمي نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم . ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع وفيه من يركع ، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
{ ذلك } إشارة إلى ما سبق من نبإ زكريا ويحيى ومريم وعيسى عليهم السلام ، يعني أن ذلك من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي . فإن قلت : لم نفيت المشاهدة وانتفاؤها معلوم بغير شبهة؟ وترك نفي استماع الأنباء من حفاظها وهو موهوم؟ قلت : كان معلوماً عندهم علماً يقيناً أنه ليس من أهل السماع والقراءة وكانوا منكرين للوحي ، فلم يبق إلا المشاهدة وهي في غاية الاستبعاد والاستحالة ، فنفيت على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم بأنه لا سماع له ولا قراءة . ونحوه { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى } [ القصص : 44 ] ، { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور } [ القصص : 46 ] ، { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ } [ يوسف : 102 ] { أقلامهم } أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر مقترعين . وقيل : هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة ، اختاروها للقرعة تبركا بها { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } في شأنها تنافساً في التكفل بها . فإن قلت : { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ } بم يتعلق؟ قلت : بمحذوف دلّ عليه يلقون أقلامهم ، كأنه قيل : يلقونها ينظرون أيهم يكفل ، أو ليعلموا ، أو يقولون .
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
{ المسيح } لقب من اولقاب المشرفة ، كالصدّيق والفاروق ، وأصله مشيحاً بالعبرانية ، ومعناه المبارك ، كقوله : { وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ } [ مريم : 31 ] وكذلك { عِيسَى } معرب من أيشوع . ومشتقهما من المسح والعيس ، كالراقم في الماء . فإن قلت : { إِذْ قَالَتِ } بم يتعلق؟ قلت : هو بدل من { وَإِذْ قَالَتِ الملئكة } ويجوز أن يبدل من { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } على أن الاختصام والبشارة وقعاً في زمان واسع ، كما تقول : لقيته سنة كذا . فإن قلت : لم قيل : عيسى ابن مريم والخطاب لمريم؟ قلت : لأنّ الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات ، فأعلمت بنسبته إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه ، وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين . فإن قلت : لم ذكر ضمير الكلمة؟ قلت لأن المسمى بها مذكر . فإن قلت : لم قيل اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، وهذه ثلاثة أشياء : الاسم منها عيسى ، و أما المسيح والابن فلقب وصفة؟ قلت : الاسم للمسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره ، فكأنه قيل : الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة { وَجِيهاً } حال من { كلمة } وكذلك قوله : ( ومن المقربين ) ، ( ويكلم ) ( وَمِنَ الصالحين ) . أي يبشرك به موصوفاً بهذه الصفات . وصح انتصاب الحال من النكرة لكونها موصوفة . والوجاهة في الدنيا : النبوّة والتقدم على الناس . وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة . وكونه { مِنَ المقربين } رفعه إلى السماء وصحبته للملائكة . والمهد : ما يمهد للصبي من مضجعه ، سمي بالمصدر . و { فِى المهد } في محل النصب على الحال ، { وَكَهْلاً } عطف عليه بمعنى : ويكلم الناس طفلاً وكهلاً . ومعناه : يكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء ، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء . ومن بدع التفاسير أن قولها : رب نداء لجبريل عليه السلام بمعنى يا سيدي { ونعلمه } عطف على يبشرك ، أو على وجيها أو على يخلق ، أو هو كلام مبتدأ . وقرأ عاصم ونافع : «ويعلمه» ، بالياء . فإن قلت : علام تحمل : ورسولاً ، ومصدّقاً من المنصوبات المتقدّمة ، وقوله : { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ } و { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يأبى حمله عليها؟ قلت : هو من المضائق ، وفيه وجهان : أحدهما أن يضمر له «وأرسلت» على إرادة القول؛ تقديره : ونعلمه الكتاب والحكمة ، ويقول أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم . ومصدقاً لما بين يدي . والثاني أن الرسول والمصدّق فيهما معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ، وناطقاً بأني أصدق ما بين يدي وقرأ اليزيدي : ورسول : عطفاً على كلمة { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ } أصله أرسلت بأني قد جئتكم ، فحذف الجار وانتصب بالفعل ، و { أَنِى أَخْلُقُ } نصب بدل من { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ } أو جرّ بدل من آية ، أو رفع على : هي أني أخلق لكم ، وقرىء : «إني» ، بالكسر على الاستئناف ، أي أقدر لكم شيئاً مثل صورة الطير { فَأَنفُخُ فِيهِ } الضمير للكاف ، أي في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير { فَيَكُونُ طَيْرًا } فيصير طيراً كسائر الطيور حياً طياراً .
وقرأ عبد الله : «فأنفخها» قال :
كالهَبْرَقِيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْمَا ... وقيل : لم يخلق غير الخفاش { الاكمه } الذي ولد أعمى ، وقيل : هو الممسوح العين . ويقال : لم يكن في هذه الأمّة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير . وروي أنه ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى ، من أطاق منهم أتاه ، ومن لم يطق أتاه عيسى ، وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده . وكرر { بِإِذُنِ الله } دفعاً لوهم من توهم فيه اللاهوتية . وروي : أنه أحيا سام بن نوح وهم ينظرون ، فقالوا هذا سحر فأرنا آية ، فقال : يا فلان أكلت كذا ، ويا فلان خبىء لك كذا . وقرىء «تذخرون» ، بالذال والتخفيف { وَلأُحِلَّ } ردّ على قوله : { بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } أي جئتكم بآية من ربكم ، ولأحل لكم ويجوز أن يكون { مُصَدّقاً } مردوداً عليه أيضاً ، أي جئتكم بآية وجئتكم مصدقاً . وما حرم الله عليهم في شريعة موسى : الشحوم والثروب ولحوم الإبل ، والسمك ، وكل ذي ظفر ، فأحل لهم عيسى بعض ذلك . قيل : أحل لهم من السمك والطير ما لا صيصية له . واختلفوا في إحلاله لهم السبت . وقرىء «حرم عليكم» على تسمية الفاعل ، وهو ما بين يديّ من التوراة ، أو الله عزّ وجلّ ، أو موسى عليه السلام؛ لأن ذكر التوراة دل عليه ، ولأنه كان معلوماً عندهم . وقرىء : «حرم» ، بوزن كرم { وجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } شاهدة على صحة رسالتي وهي قوله : { إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ } لأنّ جميع الرسل كانوا على هذا القول لم يختلفوا فيه ، وقرىء بالفتح على البدل من { ءايَةً } . وقوله : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } اعتراض ، فإن قلت : كيف جعل هذا القول آية من ربه؟ قلت لأنّ الله تعالى جعله له علامة يعرف بها أنه رسول كسائر الرسل ، حيث هداه للنظر في أدلة العقل والاستدلال . ويجوز أن يكون تكريراً لقوله : { جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم ، من خلق الطير ، والإبراء ، والإحياء ، والإنباء بالخفايا ، وبغيره من ولادتي بغير أب ، ومن كلامي في المهد ، ومن سائر ذلك . وقرأ عبد الله . «وجئتكم بآيات من ربكم» ، فاتقوا الله لما جئتكم به من الآيات ، وأطيعوني فيما أدعوكم إليه . ثم ابتدأ فقال : { إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ } ومعنى قراءة من فتح : ولأنّ الله ربي وربكم فاعبدوه ، كقوله : { لإيلاف قُرَيْشٍ . . . . فَلْيَعْبُدُواْ } [ قريش : 1 3 ] ويجوز أن يكون المعنى : وجئتكم بآية على أن الله ربي وربكم وما بينهما اعتراض .
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
{ فَلَمَّا أَحَسَّ } فلما علم منهم { الكفر } علماً لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس . و { إِلَى الله } من صلة أنصاري مضمناً معنى الإضافة ، كأنه قيل : من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله ، ينصرونني كما ينصرني ، أو يتعلق بمحذوف حالاً من الياء ، أي من أنصاري ، ذاهباً إلى الله ملتجئاً إليه { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } أي أنصار دينه ورسوله . وحواريّ الرجل : صفوته وخالصته . ومنه قيل : للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهن ونظافتهن قال :
فَقُلْ لِلَحوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا ... وَلاَ تَبْكِنَا إلاّ الْكِلاَبُ النَّوابِحُ
وفي وزنه الحوالي ، وهو الكثير الحيلة . وإنما طلبوا شهادته بإسلامهم تأكيداً لإيمانهم ، لأنّ الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم { مَعَ الشاهدين } مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم أو مع الذين يشهدون بالوحدانية . وقيل : مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم شهداء على الناس { وَمَكَرُواْ } الواو لكفار بني إسرائيل الذين أحس منهم الكفر ، ومكرهم أنهم وكلوا به من يقتله غيلة { وَمَكَرَ الله } أن رفع عيسى إلى السماء وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل { والله خَيْرُ الماكرين } أقواهم مكراً وأنفذهم كيداً وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب .
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
{ إِذْ قَالَ الله } ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله { إِنّي مُتَوَفّيكَ } أي مستوفي أجلك . معناه : إني عاصمك من أن يقتلك الكفار؛ ومؤخرك إلى أجل كتبته لك . ومميتك حتف أنفك لا قتيلاً بأيدهم { وَرَافِعُكَ إِلَىَّ } إلى سمائي ومقرّ ملائكتي { وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } من سوء جوارهم وخبث صحبتهم . وقيل متوفيك : قابضك من الأرض ، من توفيت مالي على فلان إذا استوفيته : وقيل : مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن : وقيل : متوفي نفسك بالنوم من قوله : { والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف ، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب { فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة } يعلونهم بالحجة وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف ، ومتبعوه هم المسلمون لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } تفسير الحكم قوله : { فَأُعَذّبُهُمْ . . . فنوفيهم أُجُورَهُمْ } وقرىء «فيوفيهم» بالياء .
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
{ ذلك } إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى وغيره وهو مبتدأ خبره { نَتْلُوهُ } و { مِنَ الايات } خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف . ويجوز أن يكون ذلك بمعنى الذي ، ونتلوه صلته . ومن الآيات الخبر : ويجوز أن ينتصب ذلك بمضمر يفسره ( نتلوه ) { والذكر الحكيم } القرآن ، وصف بصفة من هو سببه ، أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه .
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
{ إِنَّ مَثَلَ عيسى } إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم . وقوله : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } جملة مفسرة لما له شبه عيسى بآدم أي خلق آدم من تراب ولم يكن ثمة أب ولا أم ، وكذلك حال عيسى . فإن قلت : كيف شبه به وقد وجد هو من غير أب ، ووجد آدم من غير أب وأم؟ قلت : هو مثيله في إحدى الطرفين ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به ، لأنّ المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ، ولأنه شبه به في أنه وجد وجوداً خارجاً عن العادة المستمرة ، وهما في ذلك نظيران ، ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب وأخرق للعادة من الوجود بغير أب ، فشبه الغريب بالأغرب؛ ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه . وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم : لِمَ تعبدون عيسى ، قالوا : لأنه لا أب له . قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له . قالوا : كان يحيي الموتى . قال : فحزقيل أولى ، لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف . قالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص . قال : فجرجيس أولى ، لأنه طبخ وأحرق ثم قام سالماً . { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } قدّره جسداً من طين { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } أي أنشأه بشراً كقوله { ثُمَّ أَنشأناه خلقاً آخر } [ المؤمنون : 14 ] { فَيَكُونُ } حكاية حال ماضية .
{ الحق من ربك } { الحق مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين } خبر مبتدأ محذوف ، أي هو الحق كقول أهل خيبر : محمد والخميس ونهيه عن الامتراء وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ممتريا من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة ، وأن يكون لطفاً لغيره .
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
{ فَمَنْ حَاجَّكَ } من النصارى { فِيهِ } في عيسى { مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم } أي من البينات الموجبة للعلم { تَعَالَوْاْ } هلموا . والمراد المجيء بالرأي والعزم ، كما تقول تعالَ نفكر في هذه المسألة { نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ } أي يدع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } ثم نتباهل بأن نقول بهلة الله على الكاذب منا ومنكم . والبهلة بالفتح ، والضم : اللعنة . وبهله الله لعنه وأبعده من رحمته من قولك «أبهله» إذا أهمله . وناقة باهل : لاصرار عليها وأصل الابتهال هذا ، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا . وروي :
( 170 ) «أنهم لما دعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر ، فلما تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ، ما ترى؟ فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبيٌّ مرسل ، وقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لتهلكنّ فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه ، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غداً محتضنا الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي وعليٌّ خلفها وهو يقول : «إذا أنا دعوت فأمّنوا ، فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى ، إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ونثبت على ديننا قال : «فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» فأبوا . قال : «فإني أناجزكم» فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا ترددنا عن ديننا على أنّ نؤدي إليك كل عام ألفي حلة : ألف في صفر ، وألف في رجب ، وثلاثين درعاً عادية من حديد . فصالحهم على ذلك وقال : «والذي نفسي بيده ، إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا» وعن عائشة رضي الله عنها
( 171 ) " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود . فجاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم فاطمة ، ثم علي " ، ثم قال : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت } [ الأحزاب : 33 ] . فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده وأحب الناس إليه لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل . ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق . وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها . وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام . وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك .
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
{ إِنَّ هَذَا } الذي قص عليك من نبأ عيسى { لَهُوَ القصص الحق } قرىء بتحريك الهاء على الأصل وبالسكون ، لأن اللام تنزل من { هُوَ } منزلة بعضه ، فخفف كما خفف عضد . وهو إما فصل بين اسم إن وخبرها ، وإما مبتدأ والقصص الحق خبره . والجملة خبر إن . فإن قلت : لم جاز دخول اللام على الفصل؟ قلت : إذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز ، لأنه أقرب إلى المبتدأ منه ، وأصلها أن تدخل على المبتدأ . و «من» في قوله : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله } بمنزلة البناء على الفتح في ( اَ إله إِلاَّ الله ) في إفادة معنى الاستغراق ، والمراد الردّ على النصارى في تثليثهم { فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } وعيد لهم بالعذاب المذكور في قوله : { زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
{ يااأهل الكتاب } قيل هم أهل الكتابين . وقيل : وفد نجران . وقيل : يهود المدينة { سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } مستوية بيننا وبينكم ، لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل . وتفسير الكلمة قوله : { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ الله } يعني تعالوا إليها حتى لا نقول : عزير ابن الله ، ولا المسيح ابن الله ، لأن كل واحد منهما بعضنا بشر مثلنا ، ولا نطيع أحبارنا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل من غير رجوع إلى ما شرع الله ، كقوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا } [ التوبة : 31 ] وعن عدي بن حاتم .
( 172 ) " ما كنا نعبدهم يا رسول الله ، قال : أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال : نعم . قال : هو ذاك " ، وعن الفضيل : لا أبالي أطعت مخلوقاً في معصية الخالق ، أو صليت لغير القبلة . وقرىء «كلمة» بسكون اللام . وقرأ الحسن «سواء» بالنصب بمعنى استوت استواء { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن التوحيد { فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي لزمتكم الحجة فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب وسلم لي الغلبة . ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره . زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان منهم ، وجادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فيه فقيل لهم : إن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة ، والنصرانية بعد نزول الإنجيل ، وبين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبينه وبين عيسى ألفان ، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة؟ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال { هاأنتم هؤلاءآء } ها للتنبيه ، وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره . و { حاججتم } جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى ، يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم جادلتم { فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } مما نطق به التوراة والإنجيل { فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم . وعن الأخفش : ها أنتم هو آأنتم على الاستفهام . فقلبت الهمزة هاء . ومعنى الاستفهام التعجب من حماقتهم . وقيل : { هؤلاءآء } بمعنى اللذين و { حاججتم } صلته { والله يَعْلَمُ } علم ما حاججتم فيه { وَأَنتُمْ } جاهلون به ثم أعلمهم بأنه بريء من دينكم وما كان إلا { حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } كما لم يكن منكم . أو أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيراً والمسيح { إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم } إن أخصهم به وأقربهم منه من الولي وهو القرب { لَلَّذِينَ اتبعوه } في زمانه وبعده { وهذا النبى } خصوصاً { والذين ءامَنُواْ } من أمته . وقرىء : «وهذا النبيَّ» بالنصب عطفاً على الهاء في اتبعوه ، أي اتبعوه واتبعوا هذا النبي . وبالجر عطفاً على إبراهيم .
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
{ وَدَّت طَّائِفَةٌ } هم اليهود ، دعوا حذيفة وعماراً ومعاذاً إلى اليهودية { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم ، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم . أو وما يقدرون على إضلال المسلمين . وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم { بأيات الله } بالتوراة والإنجيل . وكفرهم بها : أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها . وشهادتهم : اعترافهم بأنها آيات الله . أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوّة الرسول { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } نعته في الكتابين . أو تكفرون بآيات الله جميعاً وأنتم تعلمون أنها حق . قرىء «تلبسون» بالتشديد وقرأ يحيى بن وثاب «تلبَسُون» بفتح الباء أي تلبسون الحق مع الباطل . كقوله :
( 173 ) " كلابس ثوبَيْ زور " وقوله :
إذَا هُوَ بِالْمَجْدِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا ...
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
{ وَجْهَ النهار } أوّله . قال :
مَنْ كَانَ مَسْرُوراً بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
والمعنى : أظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين في أوّل النهار { واكفروا } به في آخره لعلهم يشكون في دينهم ويقولون : ما رجعوا وهم أهل كتاب وعلم إلا لأمر قد تبين لهم فيرجعون برجوعكم . وقيل : تواطأ اثنا عشر من أحبار يهود خيبر ، وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أوّل النهار من غير اعتقاد ، واكفروا به آخر النهار وقولوا : إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس بذلك المنعوت وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينهم . وقيل : هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة قال كعب بن الأشرف لأصحابه : آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها في أوّل النهار ، ثم اكفروا به في آخره وصلوا إلى الصخرة ، ولعلهم يقولون : هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون { وَلاَ تُؤْمِنُواْ } متعلق بقوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ } وما بينهما اعتراض . أي : ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم . أرادوا : أسرّوا تصديقكم بأنّ المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ } عطف على أن يؤتى والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع ، بمعنى : ولا تؤمنوا لغير أتباعكم ، أنّ المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة . فإن قلت : فما معنى الاعتراض؟ قلت : معناه أنّ الهدى هدى الله ، من شاء أن يلطف به حتى يسلم ، أو يزيد ثباته على الإسلام ، كان ذلك ، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين ، وكذلك قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ } يريد الهداية والتوفيق . أو يتمَّ الكلام عند قوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } على معنى : ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن تبع دينكم : إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم ، ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم . وقوله : { أَن يؤتى } معناه لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتموه ، لا لشيء آخر ، يعني أن ما بكم من الحسد والبغي . أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم ، والدليل عليه قراءة ابن كثير : أأن يؤتى أحد بزيادة همزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ ، بمعنى : إلا أن يؤتى أحد . فإن قلت : فما معنى قوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } على هذا؟ قلت : معناه دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم . ويجوز أن يكون { هُدَى الله } بدلاً من الهدى ، و { أَن يؤتى أَحَدٌ } خبر إن ، على معنى : قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم حتى يحاجوكم عند ربكم فيقرعوا باطلكم بحقهم ويدحضوا حجتكم . وقرىء : «إن يؤتى أحد» . على إن النافية ، وهو متصل بكلام أهل الكتاب . أي ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم : ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم ، يعني ما يؤتون مثله فلا يحاجونكم ، ويجوز أن ينتصب { أَن يؤتى } بفعل مضمر يدل عليه قوله : { وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } كأنه قيل : قل إن الهدى هدى الله ، فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ لأن قولهم { وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا .
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
عن ابن عباس { مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } هو عبد الله بن سلام ، استودعه رجل من قريشٍ ألفاً ومائتي أوقية ذهباً فأدّاه إليه . و { مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ } فنحاص بن عازوراء استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه . وقيل : المأمونون على الكثير النصارى ، لغلبة الأمانة عليهم . والخائنون في القليل اليهود ، لغلبة الخيانة عليهم { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } إلا مدّة دوامك عليه يا صاحب الحق قائماً على رأسه متوكلاً عليه بالمطالبة والتعنيف ، أو بالرفع إلى الحاكم وإقامة البينة عليه . وقرىء : «يؤده» بكسر الهاء والوصل ، وبكسرها بغير وصل ، وبسكونها . وقرأ يحيى بن وثاب : «تئمنه» ، بكسر التاء . ودمت بكسر الدال من دام يدام { ذلك } إشارة إلى ترك الأداء الذي دلّ عليه لم يؤدّه ، أي تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم { لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الاميين سَبِيلٌ } أي لا يتطرّق علينا عتاب وذم في شأن الأمييين ، يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب ، وما فعلنا بهم من حبس أموالهم والإضرار بهم ، لأنهم ليسوا على ديننا ، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم ويقولون : لم يجعل لهم في كتابنا حرمة . وقيل : بايع اليهود رجالاً من قريش ، فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا : ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم ، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولها :
( 174 ) " كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدميَّ ، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البرّ والفاجر " وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة . قال : فتقولون ماذا؟ قال : نقول ليس علينا في ذلك بأس . قال : هذا كما قال أهل الكتاب : ليس علينا في الأميين سبيل . إنهم إذا أدّوا الجزية لم يحلّ لكم أكل أموالهم إلا بطيبة أنفسهم . { وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب } بادعائهم أن ذلك في كتابهم { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم كاذبون { بلى } إثبات لما نفوه من السبيل عليهم في الأميين ، أي بلى عليهم سبيل فيهم . وقوله : { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ } جملة مستأنفة مقرّرة للجملة التي سدّت بلى مسدّها ، والضمير في بعهده راجع إلى من أوفى ، على أنّ كل من أوفى بما عاهد عليه واتقى الله في ترك الخيانة والغدر ، فإنّ الله يحبه . فإن قلت ، فهذا عام يخيل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة لكسبوا محبة الله . قلت : أجل ، لأنهم إذا وفوا بالعهود وفوا أول شيء بالعهد الأعظم ، وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم ، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه . ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى ، على أن كل من وفى بعهد الله واتقاه فإنّ الله يحبه ، ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من الصالحات وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء . فإن قلت : فأين الضمير الراجع من الجزاء إلى من؟ قلت : عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير . وعن ابن عباس : نزلت في عبد الله بن سلام وبحيرا الراهب ونظرائهما من مسلمة أهل الكتاب .
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
{ يَشْتَرُونَ } يستبدلون { بِعَهْدِ الله } بما عاهدوه عليه من الإيمان بالرسول المصدّق لما معهم { وأيمانهم } وبما حلفوا به من قولهم . والله لنؤمنن به ولننصرنه { ثَمَناً قَلِيلاً } متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك . وقيل : نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب ، حرفوا التوراة وبدلوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذوا الرشوة على ذلك . وقيل : جاءت جماعة من اليهود إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين ، فقال لهم : هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله؟ قالوا : نعم ، قال : لقد هممت أن أَمِيرَكم وأكسوكم فحرمكم الله خيراً كثيراً . فقالوا : لعله شبه علينا فرويداً حتى نلقاه . فانطلقوا فكتبوا صفة غير صفته ، ثم رجعوا إليه وقالوا : قد غلطنا وليس هو بالنعت الذي نعت لنا ، ففرح ومارَهُمْ . وعن الأشعث بن قيس :
( 175 ) " نزلت فيّ ، كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر ، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : «شاهداك أو يمينه» فقلت إذن يحلف ولا يبالي فقال «من حلف على يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان " وقيل : نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي بها ما لم يعطه . والوجه أن نزولها في أهل الكتاب . وقوله : { بِعَهْدِ الله } يقوّي رجوع الضمير في بعهده إلى الله { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ } مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم تقول : فلان لا ينظر إلى فلان ، تريد نفي اعتداده به وإحسانه إليه { وَلاَ يُزَكّيهِمْ } ولا يثني عليهم . فإن قلت : أي فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه؟ قلت : أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية ، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر ، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر { لَفَرِيقًا } هم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحييّ بن أخطب وغيرهم { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب } يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف وقرأ أهل المدينة : «يلوون» ، بالتشديد ، كقوله : { لووا رؤوسهم } [ المنافقون : 5 ] . وعن مجاهد وابن كثير : يلون ووجهه أنهما قلبا الواو المضمومة همزة ، ثم خففوها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها . فإن قلت : إلام يرجع الضمير في { لِتَحْسَبُوهُ } ؟ قلت : إلى ما دلّ عليه يلوون ألسنتهم بالكتاب وهو المحرف . ويجوز أن يراد : يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب وقرىء : «ليحسبوه» بالياء ، بمعنى : يفعلون ذلك ليحسبه المسلمون من الكتاب { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } تأكيد لقوله : هو من الكتاب ، وزيادة تشنيع عليهم ، وتسجيل بالكذب ، ودلالة على أنهم لا يعرّضون ولا يورُّون وإنما يصرحون بإنه في التوراة هكذا ، وقد أنزله الله تعالى على موسى كذلك لفرط جراءتهم على الله وقساوة قلوبهم ويأسهم من الأخرة . وعن ابن عباس : هم اليهودالذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة وكتبوا كتاباً بدّلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم .
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ } تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى . وقيل :
( 176 ) " إنّ أبا رافع القرظي والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال معاذ الله أن نعبد غير الله ، أو أن نأمر بعبادة غير الله فما بذلك بعثني ، ولا بذلك أمرني فنزلت " وقيل :
( 177 ) قال رجل : يا رسول الله ، نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال : لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ) { والحكم } والحكمة وهي السنة { ولكن كُونُواْ ربانيين } ولكن يقول كونوا . والربانيّ : منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون؛ كما يقال : رقباني ولحياني ، وهو الشديد التمسك بدين الله وطاعته . وعن محمد ابن الحنفية : أنه قال حين مات ابن عباس : اليوم مات ربانيّ هذه الأمّة . وعن الحسن : ربانيين علماء فقهاء . وقيل : علماء معلمين . وكانوا يقولون : الشارع الرباني : العالم العامل المعلم { بِمَا كُنتُمْ } بسبب كونكم عالمين وبسبب كونكم دارسين للعلم أوجب أن تكون الربانية التي هي قوّة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة ، وكفى به دليلاً على خيبة سعي من جهد نفسه وكدّ روحه في جمع العلم ، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها : وقرىء «تعلمون» ، من التعليم . «وتعلمون» من التعلم { تَدْرُسُونَ } تقرؤن . وقرىء «تدرسون» ، من التدريس . وتدرسون على أن أدرس بمعنى درّس كأكرم وكرّم وأنزل ونزَّل . «وتدرّسون» ، من التدرّس . ويجوز أن يكون معناه ومعنى تدرسون بالتخفيف : تدرسونه على الناس كقوله : { لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس } [ الإسراء : 106 ] فيكون معناهما معنى تدرسون من التدريس . وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء ، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع ، حيث لم يثبت النسبة إليه إلا للمتمسكين بطاعته . وقرىء «ولا يأمرَكم» بالنصب عطفاً على { ثُمَّ يَقُولَ } وفيه وجهان أحدهما أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } والمعنى : ما كان لبشر أن يستنبئه الله وينصبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد ، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً له ويأمركم { أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا } كما تقول : ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي . والثاني أن تجعل «لا» غير مزيدة . والمعنى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهى قريشاً عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح . فلما قالوا له : أنتخذك رباً؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء . والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، وتنصرها قراءة عبد الله «ولن يأمركم» . والضمير في { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ } و { أَيَأْمُرُكُم } لبشر . وقيل الله ، والهمزة في أيأمركم للإنكار { بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين ، وهم الذين أستأذنوه أن يسجدوا له .
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
{ ميثاق النبيين } فيه غير وجه : أحدها أن يكون على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين بذلك . والثاني أن يضيف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا إلى الموثق عليه ، كما تقول ميثاق الله وعهد الله ، كأنه قيل : وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم ، والثالث : أن يراد ميثاق أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف . والرابع : أن يراد أهل الكتاب وأن يرد على زعمهم تهكماً بهم ، لأنهم كانوا يقولون : نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون . وتدل عليه قراءة أبيّ وابن مسعود : «وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب» واللام في { لَمَا ءاتَيْتُكُم } لام التوطئة لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف وفي لتؤمنن لام جواب القسم ، و «ما» يحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط ، ولتؤمنن سادّ مسدّجواب القسم والشرط جميعاً وأن تكون موصولة بمعنى : للذي آتيتكموه لتؤمنن به . وقريء : «لما آتيناكم» وقرأ حمزة : «لما آتيتكم» . بكسر اللام ومعناه : لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة؛ ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به . على أن «ما» مصدرية ، والفعلان معها أعني «آتيتكم» و «جاءكم» في معنى المصدرين ، واللام داخلة للتعليل على معنى : أخذ الله ميثاقهم لتؤمنن بالرسول ولتنصرنه ، لأجل أني آتيتكم الحكمة ، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف . ويجوز أن تكون «ما» موصولة . فإن قلت : كيف يجوز ذلك والعطف على آتيتكم وهو قوله : { ثُمَّ جَاءكُمْ } لا يجوز أن يدخل تحت حكم الصفة ، لأنك لا تقول : للذي جاءكم رسول مصدق لما معكم؟ قلت : بلى لأنّ ما معكم في معنى ما آتيتكم ، فكأنه قيل : للذي آتيكموه وجاءكم رسول مصدق له . وقرأ سعيد بن جبير «لما» بالتشديد ، بمعنى حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة . ثم جاءكم رسول مصدق له وجب عليكم الإيمان به ونصرته . وقيل : أصله لمن ما ، قاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي الميمان والنون المنقلبة ميما بإدغامها في الميم ، فحذفوا إحداها فصارت لما . ومعناه : لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به ، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى { إِصْرِى } عهدي . وقرىء : «أصرى» بالضم . وسمي إصراً ، لأنه مما يؤصر ، أي يشدّ ويعقد . ومنه الإصار ، الذي يعقد به . ويجوز أن يكون المضموم لغة في أصر ، كعبر وعبر ، وأن يكون جمع إصار { فاشهدوا } فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار { وَأَنَاْ على ذلكم } من إقراركم وتشاهدكم { مّنَ الشاهدين } وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرُّجوع إذا علموا بشهادة الله وشهادة بعضهم على بعض . وقيل : الخطاب للملائكة { فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك } الميثاق والتوكيد { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } أي المتمردون من الكفار دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة . والمعنى : فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون ، ثم توسطت الهمزة بينهما . ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره { أ } يتولون { فَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ } وقدم المفعول الذي هو غير دين الله على فعله لأنه أهم من حيث أنّ الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل . وروي :
( 178 ) أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام؛ وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به ، فقال صلى الله عليه وسلم : «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم» فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك . فنزلت : وقرىء : «يبغون» ، بالياء : «وترجعون» بالتاء وهي قراءة أبي عمرو ، لأنّ الباغين هم المتولون ، والراجعون جميع الناس . وقرئا بالياء معاً ، وبالتاء معاً { طَوْعاً } بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه { وَكَرْهًا } بالسَّيف ، أو بمعاينة ما يلجىء إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل ، وإدراك الغرق فرعون ، والإشفاء على الموت { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بالله وَحْدَهُ } [ غافر : 84 ] وانتصب طوعاً وكرها على الحال ، بمعنى طائعين ومكرهين .
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان ، فلذلك وحد الضمير في { قُلْ } وجمع في { ءَامَنَّا } ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من الله لقدر نبيه . فإن قلت : لم عدّى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء ، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء؟ قلت : لوجود المعنيين جميعاً ، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين ، وأخرى بالآخر . ومن قال : إنما قيل { عَلَيْنَا } لقوله : { قُلْ } ؛ و { إِلَيْنَا } لقوله : { قولوا } [ البقرة : 136 ] تفرقة بين الرسل والمؤمنين ، لأن الرسول يأتيه الوحي على طريق الاستعلاء ، ويأتيهم على وجه الانتهاء ، فقد تعسف . ألا ترى إلى قوله : { بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } [ المائدة : 68 ] ، { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب } [ النساء : 105 ] وإلى قوله : { ءامِنُواْ بالذى أُنزِلَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ } . { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكاً في عبادتها؛ ثم قال : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام } يعني التوحيد وإسلام الوجه لله تعالى : { دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين } من الذين وقعوا في الخسران مطلقاً من غير تقييد للشياع . وقرىء : «ومن يبتغ غير الإسلام» بالإدغام .
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
{ كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا } كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف ، لما علم الله من تصميمهم على كفرهم ، ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم وبعد ما شهدوا بأن الرسول حق ، وبعدما جاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي تثبت بمثلها النبوّة وهم اليهود كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به؛ وذلك حين عاينوا ما يوجب قوّة إيمانهم من البينات . وقيل : نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة ، منهم طعمة بن أبيرق ، وَوَحْوَحُ بن الأسلت ، والحرث بن سويد بن الصامت . فإن قلت : علام عطف قوله { وَشَهِدُواْ } ؟ قلت : فيه وجهان : أن يعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل؛ لأن معناه بعد أن آمنوا ، كقوله تعالى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقين : 10 ] وقول الشاعر :
. . . لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلاَ نَاعِبٍ . . . . . . . . . . . .
ويجوز أن تكون الواو للحال بإضمار «قد» بمعنى كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق { والله لاَ يَهْدِى } لا يلطف بالقوم الظالمين المعاندين الذين علم أن اللطف لا ينفعهم . { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك } الكفر العظيم والارتداد { وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا أو ودخلوا في الصلاح . وقيل : نزلت في الحرث بن سويد بعد أن ندم على ردّته وأرسل إلى قومه أن سلوا : هل لي من توبة ، فأرسل إليه أخوه الجلاس بالآية . فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبته .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
{ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد والقرآن . أو كفروا برسول الله بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطنعهم في كل وقت ، وعداوتهم له . ونقضهم ميثاقه ، وفتنتهم للمؤمنين ، وصدهم عن الإيمان به ، وسخريتهم بكل آية تنزل . وقيل : نزلت في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة ، وازديادهم الكفر أن قالوا : نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون ، وإن أردنا الرجعة نافقنا بإظهار التوبة . فإن قلت : قد علم أنّ المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } ؟ قلت : جعلت عبارة عن الموت على الكفر ، لأنّ الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر ، كأنه قيل : إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر ، داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم . فإن قلت : فلم قيل في إحدى الآيتين { لَّن تُقْبَلَ } بغير فاء ، وفي الآخرى { فَلَن يُقْبَلَ } ؟ قلت : قد أوذن بالفاء أنّ الكلام بني على الشرط والجزاء . وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر . وبترك الفاء أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبب كما تقول : الذي جاءني له درهم ، لم تجعل المجيء سبباً في استحقاق الدرهم ، بخلاف قولك : فله درهم . فإن قلت : فحين كان المعنى { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } بمعنى الموت على الكفر ، فهلا جعل الموت على الكفر مسبباً عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك من قساوة القلوب وركوب الرين وجرّه إلى الموت على الكفر؟ قلت : لأنه كم من مرتد مزداد للكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر . فإن قلت : فأي فائدة في هذه الكناية ، أعني أن كنى عن الموت على الكفر بامتناع ، قبول التوبة؟ قلت : الفائدة فيها جليلة ، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار ، وإبراز حالهم في صورة حالة الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدّها ، ألا ترى أنّ الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة { ذَهَبًا } نصب على التمييز . وقرأ الأعمش : «ذهب» ، بالرفع رداً على ملء ، كما يقال : عندي عشرون نفساً رجال . فإن قلت : كيف موقع قوله : { وَلَوِ افتدى بِهِ } ؟ قلت : هو كلام محمول على المعنى . كأنه قيل : فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً . ويجوز أن يراد : ولو افتدى بمثله ، كقوله : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الارض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } [ الزمر : 47 ] والمثل يحذف كثيراً في كلامهم ، كقولك : ضربته ضرب زيد ، تريد مثل ضربه . وأبو يوسف أبو حنيفة تريد مثله «ولا هيثم الليلة للمطيّ» وقضية ولا أبا حسن لها ، تريد : ولا مثل هيثم ، ولا مثل أبي حسن ، كما أنه يراد في نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، تريد أنت . وذلك أنّ المثلين يسدّ أحدهما مسدّ الآخر فكانا في حكم شيء واحد ، وأن يراد : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً كان قد تصدق به ، ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه . وقرىء : «فلن يَقْبَلَ من أحدهم ملء الأرض ذهباً» على البناء للفاعل وهو الله عزّ وعلا ، ونصب ملء . ومل لرض بتخفيف الهمزتين .
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
{ لَن تَنَالُواْ البر } لن تبلغوا حقيقة البرّ ، ولن تكونوا أبراراً . وقيل : لن تنالوا بر الله وهو ثوابه { حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها . وتؤثرونها كقوله : { أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ } [ البقرة : 267 ] وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله . وروي :
( 179 ) أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله . إن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء فضعها يا رسول الله حيث أراك الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بخ بخ ذاك مال رابح أو مال رائح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين " فقال أبو طلحة : افعلِ يا رسول الله فقسمها في أقاربه .
( 180 ) وجاء زيد ابن حارثة بفرس له كان يحبها فقال : هذه في سبيل الله ، فحمل عليها رسول الله أسامة بن زيد ، فكأنّ زيداً وجد في نفسه وقال : إنما أردت أن أتصدق به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما إن الله تعالى قد قبلها منك " . وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى ، فلما جاءت أعجبته فقال : إن الله تعالى يقول : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } فأعتقها . ونزل بأبي ذرّ ضيف فقال للراعي ائتني بخير إبلي فجاء بناقة مهزولة . فقال : خنتني ، قال : وجدت خير الإبل فحلها ، فذكرت يوم حاجتكم إليه فقال : إنّ يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي . وقرأ عبد الله : «حتى تنفقوا بعض ما تحبون» . وهذا دليل على أنّ «من» في { مِمَّا تُحِبُّونَ } للتبعيض . ونحوه : أخذت من المال . ومن في { مِن شَىْءٍ } لتبيين ما تنفقوا ، أي من أي شيء كان طيباً تحبونه أو خبيثاً تكرهونه { فَإِنَّ الله } عليم بكل شيء تنفقونه فمجازيكم بحسبه .
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
{ كُلُّ الطعام } كل المطعومات أو كل أنواع الطعام . والحل مصدر . يقال : حل الشيء حلا كقولك : ذلت الدابة ذلاً ، وعزّ الرجل عزاً ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها .
( 181 ) « كنت أطيبه لحله وحرمه » ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع . قال الله تعالى : { لاهنَّ حلٌّ لهم } [ الممتحنة : 10 ] والذي حرم إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام على نفسه لحوم الإبل وألبانها وقيل العروق . كان به عرق النسا ، فنذر إن شفي أن يحرّم على نفسه أحب الطعام إليه ، وكان ذلك أحبه إليه فحرّمه . وقيل : أشارت عليه الأطباء باجتنابه ، ففعل ذلك بإذن من الله ، فهو كتحريم الله ابتداء والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه فتبعوه على تحريمه ، وهو رد على اليهود وتكذيب لهم ، حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نعى عليهم في قوله تعالى : { فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 16 ] إلى قوله تعالى : { عَذَاباً أَلِيماً } [ النساء : 18 ] وفي قوله : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } [ الأنعام : 146 ] إلى قوله : { ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ } [ الأنعام : 146 ] وجحود ما غاظهم واشمأزوا منه وامتعضوا مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم ، فقالوا : لسنا بأوّل من حرّمت عليه ، وما هو إلا تحريم قديم ، كانت محرّمة على نوح وعلى إبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرا ، إلى أن انتهى التحريم إلينا ، فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا . وغرضهم تكذيب شهادة الله عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل الله وأكل الربا وأخذ أموال الناس بالباطل ، وما عدّد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم { قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها } أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم مما هو ناطق به من أن تحريم ما حرّم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم ، لا تحريم قديم كما يدعونه ، فروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة وبهتوا وانقلبوا صاغرين ، وفي ذلك الحجة البينة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه { فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب } بزعمه أن ذلك كان محرماً على بني إسرائيل قبل إنزال التوراة من بعد ما لزمهم من الحجة القاطعة { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات .
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
{ قُلْ صَدَقَ الله } تعريض بكذبهم كقوله : { ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لصادقون } [ الأنعام : 146 ] أي ثبت أن الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون { فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفاً } وهي ملة الإسلام التي عليها محمد ومن آمن معه ، حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم ، حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم ، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه .
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
{ وُضِعَ لِلنَّاسِ } صفة لبيت ، والواضع هو الله عز وجلّ ، تدل عليه قراءة من قرأ «وضع للناس» بتسمية الفاعل وهو الله . ومعنى وضع الله بيتا للناس ، أنه جعله متعبداً لهم ، فكأنه قال : إن أوّل متعبد للناس الكعبة . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن أوّل مسجد وضع للناس فقال :
( 182 ) " المسجد الحرام . ثم بيت المقدس وسئل كم بينهما؟ قال : «أربعون سنة» " وعن عليّ رضي الله عنه أن رجلاً قال له : أهو أوّل بيت؟ قال : لا ، قد كان قبله بيوت ، ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة . وأوّل من بناه إبراهيم ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش . وعن ابن عباس : هو أوّل بيت حُجَّ بعد الطوفان . وقيل : هو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، خلقه قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته . وقيل : هو أوّل بيت بناه آدم في الأرض . وقيل : لما هبط آدم قالت له الملائكة : طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له : الضراح ، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات { لَلَّذِى بِبَكَّةَ } البيت الذي ببكة ، وهي عَلَمٌ للبلد الحرام ، ومكة وبكة لغتان فيه ، نحو قولهم : النبيط والنميط ، في اسم موضع بالدهناء : ونحوه من الاعتقاب : أمر راتب وراتم . وحمى مغمطة ومغبطة وقيل : مكة ، البلد ، وبكة : موضع المسجد . وقيل اشتقاقها من «بكه» إذا زحمه لازدحام الناس فيها . وعن قتادة : يَبُكُّ الناس بعضهم بعضاً الرجال والنساء ، يصلي بعضهم بين يدي بعض ، لا يصلح ذلك إلا بمكة كأنها سميت ببكة وهي الزحمة . قال :
إذَا الشَّرِيبُ أخذَتْهُ الأَكَّهْ ... فَخَلِّهِ حَتى يَبُكَّ بَكَّهْ
وقيل : تبك أعناق الجبابرة أي تدقها . لم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى . { مُبَارَكاً } كثير الخير لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب ، وانتصابه على الحال من المستكن في الظرف ، لأن التقدير للذي ببكة هو ، والعامل فيه المقدر في الظرف من فعل الاستقرار { وَهُدًى للعالمين } لأنه قبلتهم ومتعبدهم { مَّقَامِ إبراهيم } عطف بيان لقوله : { ءايات بينات فاسأل } . فإن قلت : كيف صح بيان الجماعة بالواحد؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله ونبوة إبراهيم من تأثير قدمه في حجر صلد ، كقوله تعالى : { إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] والثاني : اشتماله على آيات لأنّ أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية .
ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، لأنّ الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة . ويجوز أن تذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما . دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، وكثير سواهما . ونحوه في طيِّ الذكر قول جرير :
كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلْثُهُمو ... مِنَ الْعَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا
ومنه قوله عليه السلام :
( 183 ) " حبب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرة عيني في الصلاة " وقرأ ابن عباس وأبيّ ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة : «آية بينة» ، على التوحيد . وفيها دليل على أنّ مقام إبراهيم واقع وحده عطف بيان . فإن قلت : كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات؟ وقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } جملة مستأنفة إما ابتدائية وإما شرطية؟ قلت : أجزت ذلك من حيث المعنى ، لأن قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } دلّ على أمن داخله ، فكأنه قيل : فيه آيات بينات : مقام إبراهيم ، وأمن داخله . ألا ترى أنك لو قلت : فيه آية بينة ، من دخله كان آمناً صحّ ، لأنه في معنى قولك : فيه آية بينة ، أمن من دخله . فإن قلت : كيف كان سبب هذا الأثر؟ قلت : فيه قولان : أحدهما أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه . وقيل : إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل : انزل حتى يغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر ، فبقي أثر قدميه عليه . ومعنى { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } معنى قوله : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام { رَبّ اجعل هذا البلد امِنًا } [ البقرة : 126 ] وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب . وعن عمر رضي الله عنه «لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه» وعند أبي حنيفة : من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردّة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له ، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج . وقيل : آمنا من النار . وعن النبي صلى الله عليه وسلم
( 184 ) " من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا " وعنه عليه الصلاة والسلام
( 185 ) " الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة " وهما مقبرتا مكة والمدينة وعن ابن مسعود .
( 186 ) وقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة ، فقال «يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر ، يدخلون الجنة بغير حساب ، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر» وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 187 ) " من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار ، تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام " { مَنِ استطاع } بدل من الناس . وروي :
( 188 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة ، وكذا عن ابن عباس وابن عمر وعليه أكثر العلماء . وعن ابن الزبير : هو على قدر القوّة . ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه . وعنه : ذلك على قدر الطاقة ، وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر ، وقد يقدر عليه من لا زاد له ولا راحلة ، وعن الضحاك : إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع . وقيل له في ذلك فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ بل كان ينطلق إليه ولو حبواً فكذلك يجب عليه الحج . والضمير في { إِلَيْهِ } للبيت أو للحج . وكلُّ مأتيّ إلى الشيء فهو سبيل إليه وفي هذا الكلام أنواع من التوكيد والتشديد؛ ومنها قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } يعني أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج من عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه من استطاع إليه سبيلاً ، وفيه ضربان من التأكيد : أحدهما أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له ، والثاني أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين . ومنها قوله : { وَمَن كَفَرَ } مكان ومن لم يحج تغليظاً على تارك الحج؛ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 189 ) " من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً " ونحوه من التغليط
( 190 ) " من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر " ومنها ذكر الاستغناء عنه وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان ، ومنها قوله : { عَنِ العالمين } وإن لم يقل عنه ، وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة ، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدلّ على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه . وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود ، فإنهم قالوا : الحج إلى مكة غير واجب وروى :
( 191 ) أنه لما نزل قوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال : إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه ، فنزل { وَمَن كَفَرَ } وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 192 ) " حجوا قبل أن لا تحجوا ، فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة " وروي .
( 193 ) «حجوا قبل أن لا تحجوا ، حجوا قبل أن يمنع البر جانبه» وعن ابن مسعود : حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت . وعن عمر رضي الله عنه : لو ترك الناس الحج عاماً واحداً ما نوظروا وقرىء «حج البيت» بالكسر .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
{ والله شَهِيدٌ } الواو للحال . والمعنى : لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم والحال أن الله شهيد على أعمالكم فمجازيكم عليها ، وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر بآياته . قرأ الحسن : «تصدّون» ، من أصدّه { عَن سَبِيلِ الله } عن دين حق علم أنه سبيل الله التي أمر بسلوكها وهو الإسلام ، وكانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون لصدّهم عنه ، ويمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم وقيل : أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله { تَبْغُونَهَا عِوَجاً } تطلبون لها اعوجاحاً وميلاً عن القصد والاستقامة . فإن قلت : كيف تبغونها عوجاً وهو محال؟ قلت فيه معنيان : أحدهما أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أنّ فيها عوجاً بقولكم : إن شريعة موسى لا تنسخ ، وبتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك . والثاني : أنكم تتعبون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم { وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ } أنها سبيل الله التي لا يصدّ عنها إلا ضال مضلّ ، أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم ، عدول يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم أمورهم ، وهم الأحبار { وَمَا الله بغافل } وعيد ، ومحل تبغونها نصب على الحال .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
قيل :
( 194 ) ( مرَّ ) ( شاس ) بن قيس اليهودي وكان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون ، فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة ، وقال : ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار ، فأمر شاباً من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشدهم بعض ما قيل فيه من الأشعار ، وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس . ففعل فتنازع القوم عند ذلك وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا : السلاح السلاح ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال : أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم . فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم ، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما كان يوم أقبح أوّلاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم .
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب ، والمعنى : من أين يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز { تتلى عَلَيْكُمْ } على لسان الرسول غضة طرية وبين أظهركم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم { وَمَن يَعْتَصِم بالله } ومن يتمسك بدينه . ويجوز أن يكون حثاً لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم { فَقَدْ هُدِىَ } فقد حصل له الهدى لا محالة كما تقول : إذا جئت فلاناً فقد أفلحت ، كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلاً . ومعنى التوقع في { قَدْ } ظاهر لأنّ المعتصم بالله متوقع للهدى ، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
{ حَقَّ تُقَاتِهِ } واجب تقواه وما يحق منها ، وهو القيام بالمواجب واجتناب المحارم ، ونحوه { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] يريد : بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئاً . وعن عبد الله :
( 195 ) « هو أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى » وروي مرفوعاً . وقيل : هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه . وقيل : لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه ، والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد { وَلاَ تَمُوتُنَّ } معناه : ولا تكوننّ على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت ، كما تقول لمن تستعين به على لقاء العدوّ : لا تأتني إلا وأنت على حصان ، فلا تنهاه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي شرطت عليه في وقت الإتيان . قولهم اعتصمت بحبله : يجوز أن يكون تمثيلاً لاستظهاره به ووثوقه بحمايته ، بامتساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه ، وأن يكون الحبل استعارة لعهده والاعتصام لوثوقه بالعهد ، أو ترشيحاً لاستعارة الحبل بما يناسبه . والمعنى : واجتمعوا على استعانتكم بالله ووثوقكم به ولا تفرقوا عنه . أو واجتمعوا على التمسك بعهده إلى عباده وهو الإيمان والطاعة؛ أو بكتابه لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
( 196 ) « القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق عن كثرة الردّ ، من قال به صدق؛ ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم » { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلفت اليهود والنصارى ، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية متدابرين يعادي بعضكم بعضاً ويحاربه أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم ، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام . كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة ، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام . وقذف فيها المحبة فتحابوا وتوافقوا وصاروا { إِخْوَانًا } متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد قد نظم بينهم وأزال الاختلاف ، وهو الأخوة في الله : وقيل : هم الأوس والخزرج ، كانا أخوين لأب وأم ، فوقعت بينهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام وألف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم { وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار } وكنتم مشفين على أن تقعوا في نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر { فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا } بالإسلام . والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة وهو منها كما قال :
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ ... وشفا الحفرة وشفتها : حرفها ، بالتذكير والتأنيث ، ولامها واو ، إلا أنها في المذكر مقلوبة وفي المؤنث محذوفة ، ونحو الشفا والشفة الجانب والجانبة . فإن قلت : كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟ قلت : لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار ، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها { كذلك } مثل ذلك البيان البليغ { يُبَيّنُ الله لَكُمْ ءاياته لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إرادة أن تزدادوا هدى .
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
{ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ } «من» للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ، ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر ، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشر ، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر ، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر ، وقد يغلظ في موضع اللين ، ويلين في موضع الغلظة ، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تمادياً ، أو على مَن الإنكار عليه عبث ، كالإنكار على أصحاب المآصر والجلادين وأضرابهم . وقيل «من» للتبيين ، بمعنى : وكونوا أمّة تأمرون ، كقوله تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ } [ آل عمران : 110 ] . { وأولئك هُمُ المفلحون } هم الأخصاء بالفلاح دون غيرهم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل وهو على المنبر :
( 197 ) " من خير الناس؟ قال : آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر . وأتقاهم لله وأوصلهم " وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 198 ) " من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه ، وخليفة رسوله ، وخليفة كتابه " وعن علي رضي الله عنه :
( 199 ) أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن . . . . شنىء الفاسقين وغضب لله ، غضب الله له . وعن حذيفة : يأتي على الناس زمان تكون فيهم جيفة الحمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، وعن سفيان الثوري : إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن . والأمر بالمعروف تابع للمأمور به ، إن كان واجباً فواجب ، وإن كان ندباً فندب . وأما النهي عن المنكر فواجب كله ، لأنّ جميع المنكر تركه واجب لاتصافه بالقبح . فإن قلت : ما طريق الوجوب؟ قلت : قد اختلف فيه الشيخان ، فعند أبي علي : السمع والعقل ، وعند أبي هاشم : السمع وحده . فإن قلت : ما شرائط النهي؟ قلت أن يعلم الناهي أن ما ينكره قبيح ، لأنه إذا لم يعلم لم يأمن أن ينكر الحسن ، وأن لا يكون ما ينهي عنه واقعاً ، لأن الواقع ، لا يحسن النهي عنه ، وإنما يحسن الذم عليه والنهي عن أمثاله ، وأن لا يغلب على ظنه أن المنهي يزيد في منكراته ، وأن لا يغلب على ظنه أن نهيه لا يؤثر لأنه عبث . فإن قلت : فما شروط الوجوب؟ قلت : أن يغلب على ظنه وقوع المعصية نحو أن يرى الشارب قد تهيأ لشرب الخمر بإعداد آلاته ، وأن لا يغلب على ظنه أنه إن أنكر لحقته مضرة عظيمة . فإن قلت : كيف يباشر الإنكار؟ قلت يبتدىء بالسهل ، فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب ، لأنّ الغرض كف المنكر . قال الله تعالى : { فأصلحوا بينهما } ثم قال : { فقاتلوا } [ النساء : 76 ] ، فإن قلت : فمن يباشره؟ قلت : كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه ، وقد أجمعوا أن من رأى غيره تاركاً للصلاة وجب عليه الإنكار ، لأنه معلوم قبحه لكل أحد .
وأما الإنكار الذي بالقتال ، فالإمام وخلفاؤه أولى لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم عدتها . فإن قلت : فمن يُؤمر ويُنهى؟ قلت : كل مكلف ، وغير المكلف إذا همَّ بضرر غيره مُنع ، كالصبيان والمجانين ، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعوّدوها ، كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها . فإن قلت : هل يجب على مرتكب المنكر أن ينهى عما يرتكبه قلت : نعم يجب عليه ، لأن ترك ارتكابه وإنكاره واجبان عليه ، فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر . وعن السلف : مروا بالخير وإن لم تفعلوا . وعن الحسن أنه سمع مطرّف بن عبد الله يقول : لا أقول ما لا أفعل ، فقال : وأينّا يفعل ما يقول : ودّ الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر . فإن قلت : كيف قيل : { يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف } ؟ قلت : الدعاء إلى الخير عامّ في التكاليف من الأفعال والتروك والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص ، فجيء بالعام ثم عطف عليه الخاص إيذاناً بفضله ، كقوله : { والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] .
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
{ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا } وهم اليهود والنصارى { مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البينات } الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق . وقيل : هم مبتدعو هذه الأمة ، وهم المشبهة والمجبرة والحشوية وأشباههم { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } نصب بالظرف وهو لهم ، أو بإضمار اذكر ، وقرىء : «تبيض وتسود» ، بكسر حرف المضارعة . «وتبياض وتسوادّ» . والبياض من النور ، والسواد من الظلمة ، فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه ، وابيضت صحيفته وأشرقت . وسعى النور بين يديه وبيمينه . ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكسوفه وكمده ، واسوّدتْ صحيفته وأظلمت ، وأحاطت به الظلمة من كل جانب . نعوذ بالله وبسعة رحمته من ظلمات الباطل وأهله { أَكْفَرْتُمْ } فيقال لهم : أكفرتم ، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم . والظاهر أنهم أهل الكتاب . وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اعترافهم به قبل مجيئه . وعن عطاء : تبيض وجوه المهاجرين والأنصار وتسودّ وجوه بني قريظة والنضير . وقيل : هم المرتدون . وقيل أهل البدع والأهواء ، وعن أبي أمامة :
( 200 ) هم الخوارج ، ولما رآهم على درج دمشق دمعت عيناه ثم قال كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء . وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء ، فقال له أبو غالب : أشيء تقوله برأيك ، أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة . قال : فما شأنك دمعت عيناك ، قال : رحمة لهم ، كانوا من أهل الإسلام فكفروا . ثم قرأ هذه الآية ، ثم أخذ بيده فقال : إن بأرضك منهم كثيراً . فأعاذك الله منهم . وقيل : هم جميع الكفار لإعراضهم عما أوجبه الإقرار حين أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى { فَفِى رَحْمَةِ الله } ففي نعمته وهي الثواب المخلد ، فإن قلت : كيف موقع قوله : { هُمْ فِيهَا خالدون } بعد قوله : { فَفِى رَحْمَةِ الله } ؟ قلت : موقع الاستئناف ، كأنه قيل : كيف يكونون فيها؟ فقيل : هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون .
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
{ تِلْكَ آيات الله } الواردة في الوعد والوعيد { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } ملتبسة { بالحق } والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً } فيأخذ أحداً بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أوينقص من ثواب محسن . ونكر ظلماً وقال : { للعالمين } على معنى ما يريد شيئاً من الظلم لأحد من خلقه ، فسبحان من يحلم عمن يصفه بإرادة القبائح والرضا بها .
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
«كان» عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على سابق عدم ولا على انقطاع طارىء ، ومنه قوله تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] ومنه قوله تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } كأنه قيل : وجدتم خير أمّة ، وقيل : كنتم في علم الله خير أمّة . وقيل : كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمّة ، موصوفين به { أُخْرِجَتْ } أظهرت ، وقوله : { تَأْمُرُونَ } كلام مستأنف بين به كونهم خير أمّة ، كما تقول زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم { وَتُؤْمِنُونَ بالله } جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيماناً بالله ، لأنّ من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه ، فكأنه غير مؤمن بالله { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً } [ النساء : 150 ] والدليل عليه قوله تعالى : { وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الكتاب } مع إيمانهم بالله { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } لكان الإيمان خيراً لهم مما هم عليه ، لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العوام ، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا ما هوخير مما آثروا دين الباطل لأجله ، مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين { مّنْهُمُ المؤمنون } كعبد الله بن سلام وأصحابه { وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } المتمرّدون في الكفر { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } إلا ضرراً مقتصراً على أذى بقول من طعن في الدين أو تهديد أو نحو ذلك { وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الادبار } منهزمين ولا يضروكم بقتل أو أسر { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم . وفيه تثبيت لمن أسلم منهم ، لأنهم كانوا يؤذنونهم بالتلهي بهم وتوبيخهم وتضليلهم وتهديدهم بأنهم لا يقدرون أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرر يبالى به ، مع أنه وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأنّ عاقبة أمرهم الخذلان والذل . فإن قلت : هلا جزم المعطوف في قوله : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } ؟ قلت عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء ، كأنه قيل : ثم أخبركم أنهم لا ينصرون . فإن قلت : فأي فرق بين رفعه وجزمه في المعنى؟ قلت : لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم ، كتولية الأدبار . وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً ، كأنه قال : ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوّة لا ينهضون بعدها بجناح ولا يستقيم لهم أمر وكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر . فإن قلت : فما الذي عطف عليه هذا الخبر؟ قلت : جملة الشرط والجزاء كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا ينصرون . فإن قلت : فما معنى التراخي في ثمَّ؟ قلت : التراخي في المرتبة لأنّ الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار . فإن قلت : ما موقع الجملتين أعني { مِّنْهُمُ المؤمنون } و { لَن يَضُرُّوكُمْ } ؟ قلت : هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب ، كما يقول القائل : وعلى ذكر فلان فإنّ من شأنه كيت وكيت ، ولذلك جاء من غير عاطف .
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
{ بِحَبْلٍ مّنْ الله } في محل النصب على الحال ، بتقدير : إلا معتصمين أو متمسكين أو متلبسين بحبل من الله وهو استثناء من أعم عام الأحوال . والمعنى : ضربت عليهم الذلة في عامّة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس ، يعني ذمّة الله وذمّة المسلمين ، أي لاعز لهم قط إلا بهذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوه من الجزية { وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله } استوجبوه { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة } كما يضرب البيت على أهله ، فهم ساكنون في المسكنة غير ظاعنين عنها ، وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه { ذلك } إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبواء بغضب الله أي ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء ، ثم قال : { ذلك بِمَا عَصَواْ } أي ذلك كائن بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده ليعلم أنّ الكفر وحده ليس بسبب في استحقاق سخط الله ، وأنّ سخط الله يستحق بركوب المعاصي كما يستحق بالكفر . ونحوه { مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ } [ نوح : 25 ] ، { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل } [ النساء : 161 ] .
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
الضمير في { لَّيْسُواْ } لأهل الكتاب ، أي ليس أهل الكتاب مستوين . وقوله : { مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } كلام مستأنف لبيان قوله : { لَيْسُواْ سَوَاءً } كما وقع قوله : { تَأْمُرُونَ بالمعروف } [ آل عمران : 110 ] بياناً لقوله { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } { أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } مستقيمة عادلة ، من قولك : أقمت العود فقام ، بمعنى استقام ، وهم الذين أسلموا منهم . وعبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود ، لأنه أبين لما يفعلون؛ وأدل على حسن صورة أمرهم . وقيل : عنى صلاة العشاء ، لأن أهل الكتاب لا يصلونها . وعن ابن مسعود رضي الله عنه :
( 201 ) أخَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، فقال : " أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله في هذه الساعة غيركم ، وقرأ هذه الآية " وقوله : { يَتْلُونَ } و { يُؤْمِنُونَ } في محل الرفع صفتان لأمّة ، أي أمّة قائمة تالون مؤمنون ، وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل . ساجدين ، ومن الإيمان بالله ، لأن إيمانهم به كلا إيمان لإشراكهم به عُزيراً ، وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض . ومن الإيمان باليوم الآخر ، لأنهم يصفونه بخلاف صفته . ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنهم كانوا مداهنين . ومن المسارعة في الخيرات ، لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها . والمسارعة في الخير : فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع في توليه والقيام به وآثر الفور على التراخي { وَأُوْلئِكَ } الموصوفون بما وصفوا به { مِنَ } جملة { الصالحين } الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم واستحقوا ثناءه عليهم . ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين { فَلَنْ تكفروه } لما جاء وصف الله عز وعلا بالشكر في قوله : { والله شَكُورٌ حَلِيمٌ } [ التغابن : 17 ] في معنى توفيه الثواب نفى عنه نقيض ذلك . فإن قلت : لم عدى إلى مفعولين . وشكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد ، تقول شكر النعمة وكفرها؟ قلت : ضمن معنى الحرمان ، فكأنه قيل : فلن تحرموه؛ بمعنى فلن تحرموا جزاءه . وقرىء «يفعلوا» ، «ويكفروه» بالياء والتاء { والله عَلِيمٌ بالمتقين } بشارة للمتقين بجزيل الثواب ، ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى .
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
الصرُّ : الريح الباردة نحو : الصرصر . قال :
لاَ تَعْدِلَنَّ أَتَاويِّينَ تَضْرِبُهُمْ ... نَكْبَاءَ صِرّ بأصْحَابِ الْمَحَلاَّتِ
كما قالت ليلى الأخيلية :
وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلإِ الْ ... جِفَانَ سَدِيفاً يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرصْرٍ
فإن قلت : فما معنى قوله : { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } ؟ قلت : فيه أوجه : أحدهما أنّ الصرَّ في صفة الريح بمعنى الباردة ، فوصف بها القرّة بمعنى فيها قرة صرّ ، كما تقول : برد بارد على المبالغة . والثاني : أن يكون الصر مصدراً في الأصل بمعنى البرد فجيء به على أصله . والثالث : أن يكون من قوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] ومن قولك : إن ضيعني فلان ففي الله كاف وكافل . قال :
وَفِي الرَّحْمنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي ... شبه ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله ، بالزرع الذي حسه البرد فذهب حطاماً . وقيل : هو ما كانوا يتقربون به إلى الله مع كفرهم . وقيل : ما أنفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضاع عنهم ، لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله . وشبه بحرث { قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } فأهلك عقوبة لهم على معاصيهم ، لأنّ الهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ . فإن قلت : الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه وضياعه بالحرث الذي ضربته الصر ، والكلام غير مطابق للغرض حيث جعل ما ينفقون ممثلاً بالريح . قلت : هو من التشبيه المركب الذي مر في تفسير قوله : { كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً } [ البقرة : 17 ] ويجوز أن يراد : مثل إهلاك ما ينفقون مثل إهلاك ريح ، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث وقرىء : «تنفقون ، بالتاء» { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } الضمير للمنفقين على معنى : وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول ، أو لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم ، أي : وما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة . وقرىء : «ولكنّ» بالتشديد ، بمعنى ولكنّ أنفسهم يظلمونها هم . ولا يجوز أن يراد : ولكن أنفسهم يظلمون ، على إسقاط ضمير الشأن ، لأنه إنما يجوز في الشعر .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
بطانة الرجل وولجيته : خصيصه وصفيه الذي يفضي إليه بشقوره ثقة به شبه ببطانة الثوب كما يقال : فلان شعاري . وعن النبي صلى الله عليه وسلم
( 202 ) " الأنصارى شعار والناس دثار " { مّن دُونِكُمْ } من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون . ويجوز تعلقه بلا تتخذوا ، وببطانة على الوصف ، أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } يقال : ألا في الأمر يألو ، إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدّى إلى مفعولين في قولهم : لا ألوك نصحاً ، ولا ألوك جهداً ، على التضمين . والمعنى : لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه . والخبال : الفساد { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } ودّوا عنتكم ، على أنّ «ما» مصدرية . والعنت : شدّة الضرر والمشقة . وأصله انهياض العظم بعد جبره ، أي تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشدّ الضرر وأبلغه { قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم } لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين . وعن قتادة قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لإطلاع بعضهم بعضاً على ذلك وفي قراءة عبد الله «قد بدأ البغضاء» { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايات } الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه { إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } ما بين لكم فعملتم به . فإن قلت : كيف موقع هذه الجمل؟ قلت يجوز أن يكون { لاَ يَأْلُونَكُمْ } صفة للبطانة وكذلك { قَدْ بَدَتِ البغضاء } كأنه قيل : بطانة غير آليكم خبالاً بادية بغضاؤهم . وأما { قَدْ بَيَّنَّا } فكلام مبتدأ ، وأحسن منه وأبلغ أن تكون مستأنفات كلها على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة { ها } للتنبيه . و { أَنتُمْ } مبتدأ . و { أُوْلاءِ } خبره . أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب . وقوله : { تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء . وقيل { أُوْلاء } موصول { تُحِبُّونَهُمْ } صلته . والواو في { وَتُؤْمِنُونَ } للحال ، وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله ، وهم مع ذلك يبغضونكم . فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم . وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم . ونحوه { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَالاً يَرْجُونَ } [ النساء : 104 ] ويوصف المغتاظ والنادم بعضّ الأنامل والبنان والإبهام قال الحرث بن ظالم المري :
فَأقْتُلُ أقْوَاماً لِئَاماً أَذِلَّةً ... يَعُضُّونَ مِنْ غَيْظٍ رُؤوس الأَبَاهِمِ
{ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوّة الإسلام وعز أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزى والتبار { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } فهو يعلم ما في صدور المنافقين من الحنق والبغضاء ، وما يكون منهم في حال خلوّ بعضهم ببعض ، وهو كلام داخل في جملة المقول أو خارج منها .
فإن قلت : فكيف معناه على الوجهين؟ قلت إذا كان داخلاً في جملة المقول فمعناه : أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا ، وقل لهم إنّ الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أنّ شيئاً من أسراركم يخفى عليه . وإذا كان خارجاً فمعناه : قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من إطلاعي إياك على ما يسرون فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم . ويجوز أن لا يكون ثمَّ قول ، وأن يكون قوله : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } [ آل عمران : 119 ] أمراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله أن يهلكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ، كأنه قيل : حدث نفسك بذلك .
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
الحسنة : الرخاء والخصب والنصرة والغنيمة ونحوها من المنافع . والسيئة ما كان ضدّ ذلك وهذا بيان لفرط معاداتهم حيث يحسدونهم على ما نالهم من الخير ويشمتون بهم فيما أصابهم من الشدّة . فإن قلت : كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة؟ قلت : المس مستعار لمعنى الإصابة فكان المعنى واحداً . ألا ترى إلى قوله : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } [ التوبة : 50 ] ، { مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } ، { إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } [ المعارج : 20 21 ] . { وَإِنْ تَصْبِرُواْ } على عداوتهم { وَتَتَّقُواْ } ما نهيتم عنه من موالاتهم . أو وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقه وتتقوا الله في اجتنابكم محارمه كنتم في كنف الله فلا يضركم كيدهم . وقرىء «لا يضركم» من ضاره يضيره . ويضركم على أن ضمة الراء لإتباع ضمة الضاد ، كقولك مدّ يا هذا . وروى المفضل عن عاصم «لا يضركم» بفتح الراء ، وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى . وقد قال الحكماء : إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ } من الصبر والتقوى وغيرهما { مُحِيطٌ } ففاعل بكم ما أنتم أهله . وقريء بالياء بمعنى أنه عالم بما يعملون في عداوتكم فمعاقبهم عليه .
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
{ و } اذكر { إِذْغَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } بالمدينة وهو غِدوّهُ إلى أحد من حجرة عائشة رضي الله عنها . روي :
( 203 ) أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبيّ ابن سلول ولم يدعه قط قبلها ، فاستشاره . فقال عبد الله وأكثر الأنصار : يا رسول الله ، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا ولادخلها علينا إلا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا ، فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال بعضهم : يا رسول الله ، اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم . فقال صلى الله عليه وسلم : إني قد رأيت في منامي بقراً مذبحة حولي ، فأوّلتها خيراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة ، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم . فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا إلى أعدائنا . فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لأمته . فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا : بئسما صنعنا ، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه ، وقالوا : اصنع يا رسول الله ما رأيت ، فقال : لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال فمشى على رجليه فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوّم بهم القدح . إن رأى صدراً خارجاً قال : تأخر ، وكان نزوله في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد؛ وأمّر عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم : «انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا» { تُبَوِّىءُ المؤمنين } تنزلهم . وقرأ عبد الله «للمؤمنين» ، بمعنى تسوى لهم وتهيء { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } مواطن ومواقف . وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار . واستعمل المقعد والمقام في معنى المكان . ومنه قوله تعالى : { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } [ القمر : 55 ] ، { قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } [ النمل : 39 ] من مجلسك وموضع حكمك { والله سَمِيعٌ } لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم { إِذْ هَمَّتْ } بدل من { وإِذْ غَدَوْتَ } أو عمل فيه معنى { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . والطائفتان حيان من الأنصار : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وهما الجناحان . خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف ، وقيل : في تسعمائة وخمسين ، والمشركون في ثلاثة آلاف ووعدهم الفتح إن صبروا ، فانخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس ، وقال : يا قوم ، علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري فقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم ، فقال عبدالله : لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، فهمّ الحيان باتباع عبد الله فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن ابن عباس رضي الله عنه : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا . والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس ، وكما لا تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع ، ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه ، كما قال عمرو بن الأطنابة :
أَقُولُ لَهَا إذَا جَشَأتْ وَجاشَتْ ... مَكَانَكِ تُحْمَدِي أوْ تَسْتَرِيحي
حتى قال معاوية : عليكم بحفظ الشعر ، فقد كدت أضع رجلي في الركاب يوم صفين ، فما ثبت مني إلا قول عمرو بن الأطنابة ، ولو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية ، والله تعالى يقول : { والله وَلِيُّهُمَا } ويجوز أن يراد : والله ناصرهما ومتولي أمرهما ، فما لهما تفشلان ولا تتوكلان على الله فإن قلت ، فمامعنى ما روي من قول بعضهم عند نزول الآية :
( 204 ) " والله ما يَسُرُّنا أنا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا الله بأنه ولينا " ؟ قلت : معنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأن تلك الهمة غير المأخوذ بها لأنها لم تكن عن عزيمة وتصميم كانت سبباً لنزولهما . والفشل : الجبن والخور . وقرأ عبد الله : «والله وليهم» كقوله { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
أمرهم بألا يتوكلوا إلا عليه ولا يفوّضوا أمورهم إلا إليه ثم ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل مما يسر لهم من الفتح يوم بدر وهم في حالة قلة وذلة . والأذلة : جمع قلة والذلان جمع الكثرة . وجاء بجمع القلة ليدل على أنهم على ذلتهم كانوا قليلاً ، وذلتهم ، ما كان بهم من ضعف الحال وقلة السلاح والمال والمركوب ، وذلك أنهم خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد وما كان معهم إلا فرس واحد . وقلتهم أنهم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر ، وكان عدوّهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل ومعهم مائة فرس والشَّكَّة والشَّوْكة . وبدر : اسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمي به { فاتقوا الله } في الثبات مع رسوله { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصرته . أو لعلكم ينعم الله عليكم نعمة أخرى تشكرونها ، فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له { إِذْ تَقُولُ } ظرف لنصركم ، على أن يقول لهم ذلك يوم بدر ، أو بدل ثان من { وإِذْ غَدَوْتَ } على أن يقوله لهم يوم أحد . فإن قلت : كيف يصح أن يقول لهم يوم أحد ولم تنزل فيه الملائكة؟ قلت : قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى ( عليهم ) ، فلم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا ، حيث خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلذلك لم تنزل الملائكة؛ ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت . وإنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله . ومعنى { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة . وإنما جيء بلن الذي هو لتأكيد النفي ، للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوّهم وشوكته كالآيسين من النصر . و { بلى } إيجاب لما بعد لن ، بمعنى : بل يكفيكم الإمداد بهم ، فأوجب الكفاية ثم قال : { وإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } يمددكم بأكثر من ذلك العدد مسوّمين للقتال { وَيَأْتُوكُمْ } يعني المشركين { مّن فَوْرِهِمْ هذا } من قولك : قفل من غزوته وخرج من فوره إلى غزوة أخرى ، وجاء فلان ورجع من فوره . ومنه قول أبي حنيفة رحمه الله : الأمر على الفور لا على التراخي ، وهو مصدر من : فارت القدر ، إذا غلت ، فاستعير للسرعة ، ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء من صاحبها؛ فقيل : خرج من فوره ، كما تقول : خرج من ساعته ، لم يلبث . والمعنى : أنهم إن يأتوكم من ساعتهم هذه { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ } بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم ، يريد : أنّ الله يعجل نصرتكم وييسر فتحكم إن صبرتم واتقيتم . وقرىء : «منزلين» بالتشديد . «ومنزلين» بكسر الزاي ، بمعنى : منزلين النصر . و { مُسَوّمِينَ } بفتح الواو وكسرها . بمعنى : معلمين . ومعلمين أنفسهم أو خيلهم . قال الكلبي : معلمين بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم . وعن الضحاك : معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الدواب وأذنابها . وعن مجاهد : مجزوزة أذناب خيلهم . وعن قتادة : كانوا على خيل بلق . وعن عروة بن الزبير : كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء ، فنزلت الملائكة كذلك ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه :
( 205 ) « تسوّموا فإنّ الملائكة قد تسوّمت » . { وَمَا جَعَلَهُ الله } الهاء لأن يمدكم . أي : وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لكم بأنكم تنصرْمَئِنَِّ قُلُوبُكُمْ به } كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة قلوبهم { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } لا من عند المقاتلة إذا تكاثروا ، ولا من عند الملائكة والسكينة ، ولكن ذلك مما يقوي به الله رجاء النصرة والطمع في الرحمة ، ويربط به على قلوب المجاهدين { العزيز } الذي لا يغالب في حكمه { الحكيم } الذي يعطي النصر ويمنعه لما يرى من المصلحة { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ } ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر ، وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش وصناديدهم { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة { فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ } غير ظافرين بمبتغاهم . ونحوه { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } [ الأحزاب : 25 ] ويقال : كبته ، بمعنى كبده إذا ضرب كبده بالغيظ والحرقة . وقيل في قول أبي الطيب :
لأَكْبِتَ حَاسِداً وَأرى عَدُوًّا . ... هومن الكبد والرئة ، واللام المتعلقة بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله } أو بقوله : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } { أَوْ يَتُوبَ } عطف على ما قبله .
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
{ أَوْ يَتُوبَ } عطف على ما قبله . و { لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَىْءٌ } اعتراض . والمعنى أنّ الله مالك أمرهم ، فإما يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر ، وليس لك من أمرهم شيء ، إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم ومجاهدتهم . وقيل : إنّ { يَتُوبَ } منصوب بإضمار «أن» و «وأن يتوب» في حكم اسم معطوف بأو على الأمر أو على شيء ، أي ليس لك من أمرهم شيء ، أو من التوبة عليهم ، أو من تعذيبهم . أو ليس لك من أمرهم شيء ، أو التوبة عليهم ، أو تعذيبهم ، وقيل «أو» بمعنى «إلا أن» كقولك : لألزمنك أو تعطيني حقي ، على معنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم ، أو يعذبهم فتتشفى منهم . وقيل :
( 206 ) شجه عتبة ابن أبي وقاص يوم أحد وكسر رباعيته ، فجعل يمسح الدم عن وجهه ، وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم ، وهو يقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ، فنزلت . وقيل : أراد أن يدعو الله عليهم فنهاه الله تعالى ، لعلمه أن فيهم من يؤمن . وعن الحسن { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } بالتوبة ، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ } ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب . وعن عطاء : يغفر لمن يتوب إليه ويعذب من لقيه ظالماً . وأتباعه قوله { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالمون } تفسير بين لمن يشاء ، وأنهم المتوب عليهم ، أو الظالمون ، ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامُّون ويتعامون عن آيات الله فيخبطون خبط عشواء ، ويطيبون أنفسهم بما يفترون على ابن عباس من قولهم : يهب الذنب الكبير لمن يشاء ، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
{ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة } نهي عن الربا مع توبيخ بما كانوا عليه من تضعيفه . كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل فاستغرق بالشيء الطفيف مال المديون { واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين ( 131 ) } كان أبو حنيفة رحمه الله يقول : هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه . وقد أمدّ ذلك بما أتبعه من تعليق رجاء المؤمنين برحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله . ومن تأمّل هذه الآية وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع الفارغة والتمني على الله تعالى ، وفي ذكره تعالى «لعلّ» و «عسى» في نحو هذه المواضع وإن قال الناس ما قالوا ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى ، وصعوبة إصابة رضا الله ، وعزة التوصل إلى رحمته وثوابه .
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
في مصاحف أهل المدينة والشام ( سارعوا ) بغير واو . وقرأ الباقون بالواو . وتنصره قراءة أبيّ وعبد الله : وسابقوا ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة : الإقبال على ما يستحقان به { عَرْضُهَا السماوات والأرض } [ الحديد : 1 ] أي عرضها عرض السموات والأرض ، كقوله : { عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والارض } والمراد وصفها بالسعة والبسطة ، فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه . وخص العرض ، لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة ، كقوله : { بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] . وعن ابن عباس رضي الله عنه : كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض { فِى السَّرَّاء والضراء } في حال الرخاء واليسر وحال الضيقة والعسر ، لا يخلون بأن ينفقوا في كلتا الحالتين ما قدروا عليه من كثير أو قليل ، كما حكي عن بعض السلف : أنه ربما تصدّق ببصلة ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها تصدّقت بحبة عنب أو في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرّة ، لا تمنعهم حال فرح وسرور ، ولا حال محنة وبلاء ، من المعروف ، وسواء عليهم كان الواحد منهم في عرس أو في حبس ، فإنه لا يدع الإحسان . وافتتح بذكر الإنفاق لأنه أشق شيء على النفس وأدله على الإخلاص ، ولأنه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال للحاجة إليه في مجاهدة العدو ومواساة فقراء المسلمين .
كظم القربة : إذا ملأها وشد فاها . وكظم البعير : إذا لم يجتر . ومنه كظم الغيظ ، وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثراً ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 207 ) « من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيماناً » ، وعن عائشة رضي الله عنها : أن خادماً لها غاظها فقالت : لله درّ التقوى ، ما تركت لذي غيظ شفاء . { والعافين عَنِ الناس } إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه وروي :
( 208 ) « ينادي مناد يوم القيامة : أين الذين كانت أجورهم على الله فلا يقوم إلا من عفا » وعن ابن عيينة : أنه رواه للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 209 ) « إن هؤلاء في أمّتي قليل إلا من عصم الله ، وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت » { والله يُحِبُّ المحسنين } يجوز أن تكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل تحته هؤلاء المذكورون . وأن تكون للعهد فتكون إشارة إلى هؤلاء { والذين } عطف على المتقين . أي أعدت للمتقين وللتائبين . وقوله : { أولئك } إشارة إلى الفريقين . ويجوز أن يكون والذين مبتدأ خبره أولئك { فاحشة } فعلة متزايدة القبح { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } أو أذنبوا أي ذنب كان مما يؤاخذون به . وقيل : الفاحشة والزنا . وظلم النفس ما دونه من القبلة واللمسة ونحوهما . وقيل : الفاحشة الكبيرة . وظلم النفس الصغيرة { ذَكَرُواْ الله } تذكروا عقابه أو وعيده أو نهيه ، أو حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء منه { فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } فتابوا عنها لقبحها نادمين عازمين { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } وصف لذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة وإنّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب ، لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة ، وبعث عليها وردع عن اليأس والقنوط وأن الذنوب وإن جلت فإن عفوه أجل وكرمه أعظم . والمعنى : أنه وحده معه مصححات المغفرة وهذه جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه { وَلَمْ يُصِرُّواْ } ولم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 210 ) " ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرّة " وروي :
( 211 ) «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } حال من فعل الإصرار وحرف النفي منصب عليهما معاً . والمعنى : وليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها وبالوعيد عليها ، لأنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح . وفي هذه الآيات بيان قاطع أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات : متقون وتائبون ومصروُّن . وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم ، دون المصرّين . ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه . قال { أَجْرُ العاملين } بعد قوله : { جَزَآؤُهُمْ } [ آل عمران : 87 ] لأنهما في معنى واحد . وإنما خالف بين اللفظين لزيادة التنبيه على أنّ ذلك جزاء واجب على عمل ، وأجر مستحق عليه ، لا كما يقول المبطلون . وروي أنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى موسى : ما أقلّ حياء من يطمع في جنتي بغير عمل ، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي . وعن شهر بن حوشب : طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور ، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة . وعن الحسن رضي الله عنه : يقول الله تعالى يوم القيامة «جوزوا والصراط بعفوي ، وادخلوا الجنة برحمتي ، واقتسموها بأعمالكم» وعن رابعة البصرية رضي الله عنها أنها كانت تنشد :
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا ... إنّ السَّفِينَةَ لاَ تَجْرِي عَلَى اليَبَسِ
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره : ونعم أجر العاملين ذلك . يعني المغفرة والجنات { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } يريد ما سنه الله في الأمم المكذبين من وقائعه ، كقوله : { وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ الله فِى الذين خَلَوْاْ مِن قَبْل } [ الأحزاب : 61 ] { ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } [ الفتح : 22 ] ، { سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ } [ الفتح : 23 ] .
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
{ هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ } إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب ، يعني : حثهم على النظر في سوء عواقب المكذبين قبلهم والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ } يعني أنه مع كونه بياناً وتنبيهاً للمكذبين فهو زيادة تثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين ويجوز أن يكون قوله : { قَدْ خَلَتْ } جملة معترضة للبعث على الإيمان وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين ، ويكون قوله : { هذا بَيَانٌ } إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرّين { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا } تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد وتقوية من قلوبهم ، يعني ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم ، أي لا يورثنكم ذلك وهنا وجبنا ، ولا تبالوا به ، ولا تحزنوا على من قتل منكم وجرح { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ } وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب ، لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد . أو وأنتم الأعلون شأناً ، لأنّ قتالكم لله ولإعلاء كلمته ، وقتالهم للشيطان لإعلاء كلمة الكفر ، ولأنّ قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار . أو هي بشارة لهم بالعلو والغلبة ، أي وأنتم الأعلون في العاقبة { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ] . { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } متعلق بالنهي بمعنى : ولا تهنوا إن صح إيمانكم على أن صحة الإيمان توجب قوة القلب والثقة بصنع الله وقلة المبالاة بأعدائه . أو بالأعلون ، أي إن كنتم مصدّقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة .
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
قرىء «قرح» بفتح القاف وضمها ، وهما لغتان كالضعف والضعف . وقيل : هو بالفتح الجراح ، وبالضم ألمها . وقرأ أبو السَّمَّال «قرح» بفتحتين . وقيل القرح والقرح كالطرد والطرد . والمعنى : إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال . فأنتم أولى أن لا تضعفوا . ونحوه { فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } [ النساء : 104 ] وقيل : كان ذلك يوم أحد ، فقد نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : كيف قيل { قَرْحٌ مّثْلُهُ } وماكان قرحهم يوم أحد مثل قرح المشركين؟ قلت : بلى كان مثله ، ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار . ألا ترى إلى قوله تعالى { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وتنازعتم فِى الأمر وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تحبون } [ آل عمران : 75 ] . { وَتِلْكَ الايام } تلك مبتدأ ، والأيام صفته . و { نُدَاوِلُهَا } خبره ، ويجوز أن يكون { تِلْكَ الايام } مبتدأ وخبراً ، كما تقول : هي الأيام تبلي كل جديد . والمراد بالأيام : أوقات الظفر والغلبة ، نداولها : نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ، كقوله وهو من أبيات الكتاب :
فَيَوْما عَلَيْنَا وَيَوماً لَنَا ... وَيَوْما نُسَاءُ وَيَوما نُسَرّ
ومن أمثال العرب : الحرب سجال . وعن أبي سفيان
( 212 ) أنه صعد الجبل يوم أحد فمكث ساعة ثم قال : أين ابن أبي كبشة ، أين ابن أبي قحافة ، أين ابن الخطاب . فقال عمر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أبو بكر ، وها أنا عمر . فقال أبو سفيان يوم بيوم والأيام دول والحرب سجال . فقال عمر رضي الله عنه : لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار . فقال : إنكم تزعمون ذلك فقد خبنا إذن وخسرنا ، والمداولة مثل المعاورة . وقال :
يَرِدُ المِيَاهَ فَلاَ يَزَالُ مُدَاوِلا ... فِي النَّاسِ بَيْنَ تَمَثلٍ وَسَمَاعِ
يقال : داولت بينهم الشيء فتداولوه { وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءامَنُواْ } فيه وجهان : أحدهما أن يكون المعلل محذوفاً معناه : وليتميز الثابتون على الإيمان منكم من الذين على حرف ، فعلنا ذلك وهو من باب التمثيل ، بمعنى : فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت ، وإلا فالله عز وجل لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها . وقيل : معناه وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء ، وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات ، والثاني أن تكون العلة محذوفة ، وهذا عطف عليه ، معناه : وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم الله . وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ، ليسليهم عما جرى عليهم ، وليبصرهم أن العبد يسوءه ما يجري عليه من المصائب ، ولا يشعر أنّ لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } وليكرم ناساً منكم بالشهادة ، يريد المستشهدين يوم أحد .
أو وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلى به صبركم من الشدائد ، من قوله تعالى : { لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] . { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } اعتراض بين بعض التعليل وبعض . ومعناه : والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين في سبيل الله ، الممحصين من الذنوب . والتمحيص : التطهير والتصفية { وَيَمْحَقَ الكافرين } ويهلكهم . يعني : إن كانت الدولة على المؤمنين فللتمييز والاستشهاد والتمحيص ، وغير ذلك مما هو أصلح لهم . وإن كانت على الكافرين ، فلمحقهم ومحو آثارهم .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)
{ أَمْ } منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله } بمعنى ولما تجاهدوا ، لأنّ العلم متعلق بالمعلوم فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه لأنه منتف بانتفائه . يقول الرجل : ما علم الله في فلان خيراً ، يريد : ما فيه خير حتى يعلمه . ولما بمعنى لم ، إلا أن فيها ضرباً من التوقع فدلّ على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل . وتقول : وعدني أن يفعل كذا ، ولما تريد ، ولم يفعل ، وأنا أتوقع فعله . وقرىء : «ولما يعلمَ اللَّهُ» بفتح الميم . وقيل : أراد النون الخفيفة ولما يعلمَن فحذفها { وَيَعْلَمَ الصابرين } نصب بإضمار أن والواو بمعنى الجمع ، كقولك : لا تأكل السمك وتشربَ اللبن . وقرأ الحسن بالجزم على العطف . وروى عبد الوارث عن أبي عمرو «ويعلم» بالرفع على أنّ الواو للحال ، كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون .
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
{ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } خوطب به الذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنون أن يحضروا مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر . وهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين ، وكان رأيه في الإقامة بالمدينة ، يعني : وكنتم تمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدّته وصعوبة مقاساته { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا . وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت ، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاحهم عليه ، ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده . فإن قلت : كيف يجوز تمني الشهادة وفي تمنيها تمني غلبة الكافر المسلم؟ قلت : قصد متمني الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لا غير ، ولا يذهب وهمه إلى ذلك المتضمن ، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصد إلى حصول المأمول من الشفاء ، ولا يخطر بباله أنّ فيه جرّ منفعة وإحسان إلى عدوّ الله وتنفيقا لصناعته . ولقد قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين نهض إلى مؤتة وقيل له ردكم الله :
لكِنَّني أَسْألُ الرَّحْمنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ تَقْذِفُ الزَّبَدَا
أو طَعْنَةً بِيَدي حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةَ تَنفُذُ الأَحْشَاءَ وَالكَبِدَا
حَتَّى يَقُولُوا إذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثي ... أرشدَكَ اللَّهُ مِنْ غَازٍ وَقَد رَشَدا
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
( 213 ) لما رمى عبد الله بن قمئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه ، أقبل يريد قتله فذب عنه صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد ، حتى قتله ابن قمئة وهو يرى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قد قتلت محمداً . وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل . وقيل : كان الصارخ الشيطان ، ففشا في الناس خبر قتله فانكفؤا ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : «إليّ عباد الله» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه ، فلامهم على هربهم ، فقالوا : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فنزلت وروي :
( 214 ) أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين : ليت عبد الله بن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان . وقال ناس من المنافقين : لو كان نبيا لما قتل ، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم . فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك : يا قوم ، إن كان قتل محمد فإن رب محمد حيٌّ لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه . ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل . وعن بعض المهاجرين : أنه مرّ بأنصاري يتشحط في دمه ، فقال يا فلان ، أشعرت أن محمداً قد قتل ، فقال : إن كان قتل فقد بلغ ، قاتلوا على دينكم . والمعنى { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } فسيخلو كما خلوا ، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم ، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه ، لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة ، لا وجوده بين أظهر قومه { أَفإيْن مَّاتَ } الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى التسبيب ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل ، مع علمهم أنّ خلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به يجب أن يجعل سبباً للتمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم ، لا للانقلاب عنه . فإن قلت : لم ذكر القتل وقد علم أنه لا يقتل؟ قلت : لكونه مجوّزاً عند المخاطبين . فإن قلت : أما علموه من ناحية قوله : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] ؟ قلت : هذا مما يختص بالعلماء منهم وذوي البصيرة . ألا ترى أنهم سمعوا بخبر قتله فهربوا ، على أنه يحتمل العصمة من فتنة الناس وإذلالهم . والانقلاب على الأعقاب : الإدبار عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد وغيره .
وقيل : الارتداد . وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإسلامه { فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً } فما ضر إلا نفسه ، لأن الله تعالى لا يجوز عليه المضارّ والمنافع { وَسَيَجْزِى الله الشاكرين } الذي لم ينقلبوا كأنس بن النضر وأضرابه . وسماهم شاكرين ، لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا . المعنى : أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله ، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله له فيه تمثيلاً ، ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك ، فليس له أن يقبض نفساً إلا بإذن من الله . وهو على معنيين : أحدهما تحريضهم على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدوّ بإعلامهم أن الحذر لا ينفع ، وأن أحداً لا يموت قبل بلوغ أجله ، وإن خوّض المهالك واقتحم المعارك . والثاني ذكر ما صنع الله برسوله عند غلبة العدو والتفافهم عليه وإسلام قومه له ، نهزة للمختلس من الحفظ والكلاءة وتأخير الأجل .
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
{ كتابا } مصدر مؤكد ، لأن المعنى : كتب الموت كتاباً { مُّؤَجَّلاً } موقتاً له أجل معلوم لا يتقدّم ولا يتأخر { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا } تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد { نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي من ثوابها { وَسَنَجْزِى } الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد . وقرىء : «يوته» . و«سيجزي» ، بالياء فيهما .
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
قرىء : «قاتل» . و«قتل» و«قتّل» ، بالتشديد ، والفاعل ربيون ، أو ضمير النبي . و { مَعَهُ رِبّيُّونَ } حال عنه بمعنى : قتل كائناً معه ربيون . والقراءة بالتشديد تنصر الوجه الأوّل . وعن سعيد بن جبيبر رحمه الله : ما سمعنا بنبيّ قتل في القتال . والربيون الربانيون . وقرىء بالحركات الثلاث ، فالفتح على القياس ، والضم والكسر من تغييرات النسب . وقرىء : «فما وهنوا» بكسر الهاء . والمعنى : فما وهنوا عند قتل النبي { وَمَا ضَعُفُواْ } عن الجهاد بعده { وَمَا استكانوا } للعدوّ . وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم . حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبيّ في طلب الأمان من أبي سفيان { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ } هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين ، هضما لها واستقصاراً . والدعاء بالاستغفار منها مقدّما على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة على العدوّ ، ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة وخضوع ، وأقرب إلى الاستجابة { فأاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا } من النصرة والغنيمة والعز وطيب الذكر . وخص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدّمه ، وأنه هو المعتدّ به عنده { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الأخرة } [ الأنفال : 67 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
{ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ } قال عليّ رضي الله عنه : نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم . وعن الحسن رضي الله عنه : إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم ، لأنهم كانوا يستغوونهم ويوقعون لهم الشبه في الدين ، ويقولون : لو كان نبياً حقاً لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم ، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوماً له ويوماً عليه . وعن السدي : إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم { يَرُدُّوكُم } إلى دينهم . وقيل هو عامّ في جميع الكفار ، وإنّ على المؤمنين أن يجانبوهم ولا يطيعوهم في شيء ولا ينزلوا على حكمهم ولا على مشورتهم حتى لا يستجرّوهم إلى موافقتهم { بَلِ الله مولاكم } أي ناصركم ، لا تحتاجون معه إلى نصرة أحد وولايته . وقرىء بالنصب على : بل أطيعوا الله مولاكم { سَنُلْقِى } قرىء بالنون والياء . والرعب بسكون العين وضمها قيل : قذف الله في قلوب المشركين الخوف يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب ولهم القوة والغلبة . وقيل : ذهبوا إلى مكة فلما كانوا ببعض الطريق قالوا : ما صنعنا شيئاً ، قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون ارجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم فأمسكوا . { بِمَا أَشْرَكُواْ } بسبب إشراكهم ، أي كان السبب في إلقاء الله الرّعب في قلوبهم إشراكهم به { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سلطانا } آلهة لم ينزل الله بإشراكها حجة . فإن قلت : كان هناك حجة حتى ينزلها الله فيصح لهم الإشراك؟ قلت : لم يعن أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل عليهم ، لأن الشرك لا يستقيم أن يقوم عليه حجة ، وإنما المراد نفي الحجة ونزولها جيمعاً ، كقوله :
وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِر ...
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } وعدهم الله النصر بشرط الصبر والتقوى في قوله تعالى : { إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ } [ آل عمران : 125 ] ويجوز أن يكون الوعد قوله تعالى : { سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } فلما فشلوا وتنازعوا لم يرعبهم . وقيل : لما رجعوا إلى المدينة قال ناس من المؤمنين من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فنزلت . وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره ، واستقبل المدينة وأقام الرماة عند الجبل ، وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا كانت الدولة للمسلمين أو عليهم فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم ، والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم . يحسونهم أي يقتلونهم قتلا ذريعاً . حتى إذا فشلوا . والفشل : الجبن وضعف الرأي . وتنازعوا ، فقال بعضهم : قد انهزم المشركون فما موقفنا ههنا وقال بعضهم : لا نخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فممن ثبت مكانه عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله : { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخرة } ونفر أعقابهم ينهبون ، وهم الذين أرادوا الدنيا ، فكرّ المشركون على الرماة ، وقتلوا عبد الله بن جبير رضي الله عنه ، وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريح دبوراً وكانت صباً ، حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا ، وهو قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } لماعلم من ندمكم على ما فرط منكم من عصيان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم { والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } يتفضل عليهم بالعفو ، أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال سواء أديل لهم أو أديل عليهم؛ لأنّ الابتلاء رحمة كما أنّ النصرة رحمة . فإن قلت : أين متعلق { حتى إِذَا } قلت : محذوف تقديره : حتى إذا فشلتم منعكم نصره . ويجوز أن يكون المعنى : صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم { إِذْ تُصْعِدُونَ } نصب بصرفكم ، أو بقوله : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أو بإضمار «اذكر» والإصعاد : الذهاب في الأرض والإبعاد فيه . يقال : صعد في الجبل وأصعد في الأرض . يقال : أصعدنا من مكة إلى المدينة وقرأ الحسن رضي الله عنه : «تصعدون» ، يعني في الجبل . وتعضد الأولى قراءة أبي : «إذ تصعدون في الوادي» . وقرأ أبو حيوة : «تصعدون» ، بفتح التاء وتشديد العين ، من تصعد في السلم وقرأ الحسن رضي الله عنه : «تلون» ، بواو واحدة وقد ذكرنا وجهها . وقرىء : «يصعدون» . «ويلوون» بالياء { والرسول يَدْعُوكُمْ } كان يقول : «إليّ عباد الله» إليّ عباد الله ، أنا رسول الله ، من يكرّ فله الجنة» { فِى أُخْرَاكُمْ } في ساقتكم وجماعتكم الأخرى وهي المتأخرة .
يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم ، كما تقول : في أوّلهم وأولاهم ، بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى { فأثابكم } عطف على صرفكم ، أي فجازاكم الله { غَمّاً } حين صرفكم عنهم وابتلاكم { ب } سبب { غَمّ } أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له ، أو غما مضاعفاً ، غما بعد غم ، وغما متصلاً بغم ، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة والنصر { لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } لتتمرنوا على تجرع الغموم ، وتضروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار ، ويجوز أن يكون الضمير في { فأثابكم } للرسول ، أي فآساكم في الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم ، فأثابكم غماً اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره ، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ، ولا على ما أصابكم من غلبة العدو . وأنزل الله الأمن على المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم . وعن أبي طلحة رضي الله عنه : " غشينا النعاس ونحن في مصافنا ، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه ، وما أحد إلا ويميل تحت حجفته " وعن ( الزبير ) رضي الله عنه : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف ، فأرسل الله علينا النوم . والله إني لأسمع قول معتِّب بن قشير والنعاس يغشاني : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا . والأمنة : الأمن . وقرىء : «أمنة» بسكون الميم ، كأنها المرة من الأمن و { نُّعَاساً } بدل من أمنة . ويجوز أن يكون هو المفعول ، وأمنة حالاً منه مقدمة عليه ، كقولك : رأيت راكباً رجلاً ، أو مفعولاً له بمعنى نعستم أمنة . ويجوز أن يكون حالاً من المخاطبين ، بمعنى ذوي أمنة ، أو على أنه جمع آمن ، كبار وبررة { يغشى } قرىء بالياء والتاء ردا على النعاس ، أو على الأمنة { طَائِفَةً مّنكُمْ } هم أهل الصدق واليقين { وَطَائِفَةٌ } هم المنافقون { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } ما بهم إلا هم أنفسهم لا هم الدين ولا هم الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان ، فهم في التشاكي والتباثّ { غَيْرَ الحق } في حكم المصدر . ومعناه : يظنون بالله غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به . و { ظَنَّ الجاهلية } بدل منه . ويجوز أن يكون المعنى : يظنون بالله ظن الجاهلية . وغير الحق : تأكيد ليظنون ، كقولك : هذا القول غير ما تقول ، وهذا القول لا قولك وظن الجاهلية ، كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدق : يريد الظن المختص بالملة الجاهلية .
ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية ، أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون بالله { يَقُولُونَ } لرسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه { هَل لَّنَا مِنَ الامر مِن شَىْءٍ } معناه هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله نصيب قط ، يعنون النصر والإظهار على العدو { قُلْ إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ } ولأوليائه المؤمنين وهو النصر والغلبة { كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] ، { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 173 ] { يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَالا يُبْدُونَ لَكَ } معناه : يقولون لك فيما يظهرون : هل لنا من الأمر من شيء سؤال المؤمنين المسترشدين وهم فيما يبطنون على النفاق ، يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض منكرين لقولك لهم إن الأمر كله لله { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامر شَىْءٌ } أي لو كان الأمر كما قال محمد إن الأمر كله لله ولأوليائه وأنهم الغالبون ، لما غلبنا قط . ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ } يعني من علم الله منه أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب ذلك في اللوح لم يكن بد من وجوده فلو قعدتم في بيوتكم { لَبَرَزَ } من بينكم { الذين } علم الله أنهم يقتلون { إلى مَضَاجِعِهِمْ } وهي مصارعهم ليكون ما علم الله أنه يكون . والمعنى أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين ، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون ، لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله ، وأن ما ينكبون به في بعض الأوقات تمحيص لهم وترغيب في الشهادة ، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة . وقيل : معناه هل لنا من التدبير من شيء ، يعنون لم نملك شيئاً من التدبير حيث خرجنا من المدينة إلى أحد ، وكان علينا أن نقيم ولا نبرح كما كان رأي عبد الله بن أبيّ وغيره ، ولو ملكنا من التدبير شيئاً لما قتلنا في هذه المعركة ، قل إن التدبير كله لله ، يريد أن الله عز وجل قد دبر الأمر كما جرى ، ولو أقمتم بالمدينة ولم تخرجوا من بيوتكم لما نجا من القتل من قتل منكم . وقرىء : «كتب عليهم القتال» . «وكتب عليهم القتل» ، على البناء للفاعل . ولبرِّز ، بالتشديد وضم الباء { وَلِيَبْتَلِىَ الله } وليمتحن ما في صدور المؤمنين من الإخلاص ، ويمحص ما في قلوبهم من وساوس الشيطان . فعل ذلك أو فعل ذلك لمصالح جمة وللابتلاء والتمحيص . فإن قلت : كيف مواقع الجمل التي بعد قوله وطائفة؟ قلت : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ } صفة لطائفة و { يَظُنُّونَ } صفة أخرى أو حال بمعنى : قد أهمتهم أنفسهم ظانين . أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها . و { يَقُولُونَ } بدل من يظنون . فإن قلت : كيف صح أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلاً من الإخبار بالظن؟ قلت : كانت مسألتهم صادرة عن الظنّ ، فلذلك جاز إبداله منه . ويخفون حال من يقولون . و { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } [ آل عمران : 154 ] اعتراض بين الحال وذوي الحال . و { يَقُولُونَ } بدل من { يُخْفُونَ } والأجود أن يكون استئنافاً .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
{ استزلهم } طلب منهم الزلل ودعاهم إليه { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } من ذنوبهم ومعناه : إنّ الذين انهزموا يوم أحد كان السبب في توليهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوباً ، فلذلك منعتهم التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا . وقيل : استزلال الشيطان إياهم هو التولي ، وإنما دعاهم إليه بذنوب قد تقدمت لهم ، لأنّ الذنب يجرّ إلى الذنب ، كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة وتكون لطفاً فيها . وقال الحسن رضي الله عنه : استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة . وقيل : { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبات فيه . فجرّهم ذلك إلى الهزيمة وقيل : ذكرهم تلك الخطايا فكرهوا لقاء الله معها ، فأخروا الجهاد حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية . فإن قلت : لم قيل { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } ؟ قلت : هو كقوله تعالى : { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ المائدة : 15 ] . { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } لتوبتهم واعتذارهم { إن الله غَفُورٌ } للذنوب { حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
{ وَقَالُواْ لإخوانهم } أي لأجل إخوانهم ، كقوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] ومعنى الأخوّة : اتفاق الجنس أو النسب { إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض } إذا سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها { أوكَانُواْ اغزى } جمع غاز ، كعاف وعفى ، كقوله : عفى الحياض أجون . وقرىء بتخفيف الزاي على حذف التاء من غزاة . فإن قلت : كيف قيل : { إِذَا ضَرَبُواْ } مع { قَالُواْ } ؟ قلت : هو على حكاية الحال الماضية ، كقولك : حين يضربون في الأرض فإن قلت : ما متعلق ليجعل؟ قلت : قالوا ، أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون { حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ } على أنّ اللام مثلها في { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] أو لا تكونوا ، بمعنى : لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ، ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم . فإن قلت : ما معنى إسناد الفعل إلى الله تعالى؟ قلت : معناه أنّ الله عز وجل عند اعتقادهم ذلك المعتقد الفاسد يضع الغم والحسرة في قلوبهم ، ويضيق صدورهم عقوبة ، فاعتقاده فعلهم وما يكون عنده من الغم والحسرة وضيق الصدور فعل الله عز وجل كقوله : { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السماء } [ الأنعام : 125 ] ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلّ عليه النهى ، أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ، لأنّ مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون ومضادّتهم ، مما يغمهم ويغيظهم { والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ } ردٌّ لقولهم . أي الأمر بيده ، قد يحيي المسافر والغازي ، ويميت المقيم والقاعد كما يشاء . وعن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال عند موته : مافيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أناذا أموت كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فلا تكونوا مثلهم . وقرى بالياء ، يعني الذين كفروا { لَمَغْفِرَةٌ } جواب القسم ، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط ، وكذلك { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } كذب الكافرين أوَّلاً في زعمهم أن من سافر من إخوانهم أو غزى لو كان في المدينة لما مات ، ونهى المسلمين عن ذلك لأنه سبب التقاعد عن الجهاد ، ثم قال لهم : ولئن تم عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت والقتل في سبيل الله ، فإنّ ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل الله خير مما تجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم تموتوا . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء . وقرىء بالياء ، أي يجمع الكفار { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } لإلى الله الرحيم الواسع الرحمة ، المثيب العظيم الثواب تحشرون ولوقوع اسم الله تعالى هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به ، شأن ليس بالخفي . قرىء : «متم» بضم الميم وكسرها ، من مات يموت ومات يمات .
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
«ما» مزيدة للتوكيد والدلالة على أنّ لينه لهم ما كان إلا برحمة من الله ونحوه { فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم لعناهم } [ المائدة : 13 ] ومعنى الرحمة : ربطه على جأشه وتوفيقه للرفق والتلطف بهم حتى أثابهم غما بغم وآساهم بالمباثة بعد ما خالفوه وعصوا أمره وانهزموا وتركوه { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً } جافياً { غَلِيظَ القلب } قاسيه { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } لتفرّقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد منهم { فاعف عَنْهُمْ } فيما يختص بك { واستغفر لَهُمْ } فيما يختص بحق الله إتماماً للشفقة عليهم { وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر } يعني في أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي لتستظهر برأيهم ، ولما فيه من تطييب نفوسهم والرفع من أقدارهم . وعن الحسن رضي الله عنه : قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ، ولكنه أراد أن يستنّ به من بعده . وعن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
( 215 ) " ما تشاور قوم قط إلا هدو لأرشد أمرهم " وعن أبي هريرة رضي الله عنه : ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم . وقيل : كان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق عليهم فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه لئلا يثقل عليهم استبداده بالرأي دونهم . وقرىء : «وشاورهم في بعض الأمر» { فَإِذَا عَزَمْتَ } فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } في إمضاء أمرك على الأرشد الأصلح ، فإن ما هو أصلح لك لا يعلمه إلا الله لا أنت ولا من تشاور . وقرىء : «فإذا عزمت» بضم التاء ، بمعنى فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه فتوكل عليّ ولا تشاور بعد ذلك أحداً .
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162)
{ إِن يَنصُرْكُمُ الله } كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } كما خذلكم يوم أحد { فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم } فهذا تنبيه على أن الأمر كله لله وعلى وجوب التوكل عليه . ونحوه { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] . { مِن بَعْدِهِ } من بعد خذلانه . أو هو من قولك ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان؛ تريد إذا جاوزته . وقرأ عبيد بن عمير : «وإن يخذلكم» ، من أخذله إذا جعله مخذولاً . وفيه ترغيب في الطاعة وفيما يستحقون به النصر من الله تعالى والتأييد ، وتحذير من المعصية ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان { وَعَلَى الله } وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه لعلمهم أنه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه . يقال غلّ شيئاً من المغنم غلولاً وأغلّ إغلالاً ، إذا أخذه في خفية . يقال أغلّ الجازر ، إذا سرق من اللحم شيئاً مع الجلد . والغل : الحقد الكامن في الصدر . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
( 216 ) " من بعثناه على عمل فغلّ شيئاً جاء يوم القيامة يحمله على عنقه " وقوله صلى الله عليه وسلم :
( 217 ) " هدايا الولاة غلول " وعنه :
( 218 ) " ليس على المستعير غير المغل ضمان " وعنه :
( 219 ) " لا إغلال ولا إسلال " ويقال : أغله إذا وجده غالا ، كقولك : أبخلته وأفحمته ومعنى { وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ } وما صحّ له ذلك ، يعني أن النبوة تنافي الغلول ، وكذلك من قرأ على البناء للمفعول فهو راجع إلى معنى الأوّل ، لأن معناه : وما صح له أن يوجد غالاً ، ولا يوجد غالا إلا إذا كان غالاً . وفيه وجهان : أحدهما أن يبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وينزه وينبه على عصمته بأن النبوّة والغلول متنافيان؟ لئلا يظن به ظانّ شيئاً منه وألا يستريب به أحد ، كما روى :
( 220 ) أنّ قطيفة حمراء فقدت يوم بدر . فقال بعض المنافقين : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها . وروي :
( 221 ) أنها نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة وقالوا : نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أخذ شيئاً فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري ، فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : بل ظنتم أنا نغل ولا نقسم لكم ) : والثاني أن يكون مبالغة في النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي : أنه بعث طلائع فغنمت غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع ، فنزلت .
يعني : وما كان لنبيّ أن يعطي قوماً ويمنع آخرين ، بل عليه أن يقسم بالسوية . وسمى حرمان بعض الغزاة «غلولا» تغليظاً وتقبيحاً لصورة الأمر ، ولو قرىء : «أن يغل» من أغل بمعنى غل ، لجاز { يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } يأت بالشيء الذي غله بعينه يحمله كما جاء في الحديث :
( 222 ) " جاء يوم القيامة يحمله على عنقه " وروي :
( 223 ) " ألا لا أعرفنّ أحدكم يأتي ببعير له رغاء وببقرة لها خوار وبشاة لها ثغاء ، فينادي يا محمد ، يا محمد ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً فقد بلغتك " وعن بعض جفاة العرب أنه سرق نافجة مسك ، فتليت عليه الآية فقال : إذاً أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل . ويجوز أن يراد يأتي بما احتمل من وباله وتبعته وإثمه فإن قلت : هلا قيل : ثم يوفى ما كسب ، ليتصل به؟ قلت : جيء بعامّ دخل تحته كل كاسب من الغال وغيره فاتصل به من حيث المعنى ، وهو أبلغ وأثبت ، لأنه إذا علم الغال أن كل كاسب خيراً أو شراً مجزي فموفى جزاءه ، علم أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي يعدل بينهم في الجزاء ، كلٌّ جزاؤه على قدر كسبه .
هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
{ هُمْ درجات } أي هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات كقوله :
أَنَصْبٌ لِلْمَنِيَّةِ تَعْتَرِيهِمْ ... رِجَالِي أمْ هُمُو دَرَجُ السُّيُولِ
وقيل : ذوو درجات والمعنى تفاوت منازل المثابين منهم ومنازل المعاقبين ، أو التفاوت بين الثواب والعقاب { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } عالم بأعمالهم ودرجاتها فمجازيهم على حسبها { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين } على من آمن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه . وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون بمبعثه { مّنْ أَنفُسِهِمْ } من جنسهم عربياً مثلهم . وقيل من ولد إسماعيل كما أنه من ولده ، فإن قلت : مما وجه المنة عليهم في أن كان من أنفسهم؟ قلت : إذا كان منهم كان اللسان واحداً ، فسهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة ، فكان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به ، وفي كونه من أنفسهم شرف لهم ، كقوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقراءة فاطمة رضي الله عنها : من «أَنْفَسِهِم» ، أي من أشرفهم . لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل ، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان ، وخندف ذروة مضر ، ومدركة ذروة خندف ، وقريش ذروة مدركة ، وذروة قريش محمد صلى الله عليه وسلم . وفيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضي الله عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معدّ وعنصر مضر ، وجعلنا حضنة بيته وسوّاس حرمه ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس . ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله من لا يوزن به فتى من قريش إلا رجح به ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل . وقرىء : «لمن منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم» . وفيه وجهان : أن يراد لمن منّ الله على المؤمنين منه أو بعثه إذ بعث فيهم ، فحذف لقيام الدلالة ، أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً ، بمعنى لمن منّ الله على المؤمنين وقت بعثه { يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته } بعد ما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي { وَيُزَكّيهِمْ } ويطهرهم من دنس القلوب بالكفر ونجاسة سائر الجوارح بملابسة المحرمات وسائر الخبائث . وقيل : ويأخذ منهم الزكاة { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة } القرآن والسنة بعدما كانوا أجهل الناس وأبعدهم من دراسة العلوم { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ } من قبل بعثة الرسول { لَفِى ضلال } إن هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية . وتقديره : وإنّ الشأن والحديث كانوا من قبل في ضلال { مُّبِينٍ } ظاهر لا شبهة فيه .
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
{ أصابتكم مُّصِيبَةٌ } يريد : ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم { قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا } يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين . و { لَّمّا } نصب بقلتم . و { أصابتكم } في محل الجرّ بإضافة { لَّمّا } إليه وتقديره : أقلتم حين أصابتكم . و { أنى هذا } نصب لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع . فإن قلت : علام عطفت الواو هذه الجملة؟ قلت : على ما مضى من قصة أحد من قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف ، كأنه قيل : أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا ، أنى هذا : من أين هذا . كقوله تعالى : { أنى لَكِ هذا } [ آل عمران : 7 ] لقوله : { مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } وقوله : { مِنْ عِندِ الله } والمعنى : أنتم السبب فيما أصابكم ، لاختياركم الخروج من المدينة ، أو لتخليتكم المركز . وعن عليّ رضي الله عنه : لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } فهو قادر على النصر وعلى منعه ، وعلى أن يصيب بكم تارة ويصيب منكم أخرى { وَمَا أصابكم } يوم أحد يوم التقى جمعكم وجمع المشركين { ف } هو كائن { بِإِذُنِ الله } أي بتخليته ، استعار الإذن لتخليته الكفار . وأنه لم يمنعهم منهم ليبتليهم ، لأنّ الآذن مخل بين المأذون له ومراده { وَلِيَعْلَمَ } وهو كائن ليتميز المؤمنون والمنافقون ، وليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء { وَقِيلَ لَهُمْ } من جملة الصلة عطف على نافقوا ، وإنما لم يقل فقالوا لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاء المؤمنين لهم إلى القتال ، كأنه قيل : فماذا قالوا لهم . فقيل : قالوا : لو نعلم . ويجوز أن تقتصر الصلة على { نَافَقُواْ } ، ويكون { وَقِيلَ لَهُمْ } كلاما مبتدأ قسم الأمر عليهم بين أن يقاتلوا للآخرة كما يقاتل المؤمنون ، وبين أن يقاتلوا إن لم يكن بهم غم الآخرة دفعاً عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، فأبوا القتال وجحدوا القدرة عليه رأساً لنفاقهم ودغلهم وذلك ما روى أن عبد الله بن أبيّ انخذل مع حلفائه ، فقيل له ، فقال ذلك . وقيل : { أَوِ ادفعوا } العدوّ بتكثيركم سواد المجاهدين وإن لم تقاتلوا لأنّ كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه . وعن سهل بن سعد الساعدي وقد كف بصره : لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين فكنت بينهم وبين عدوهم . قيل وكيف وقد ذهب بصرك؟ قال لقوله : { أَوِ ادفعوا } أراد : كثروا سوادهم . ووجه آخر وهو أن يكون معنى قولهم : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً } لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً { لاتبعناكم } يعنون أن ما أنتم فيه لخطإ رأيكم وزللكم عن الصواب ليس بشيء ، ولا يقال لمثله قتال ، إنما هو إلقاء بالأنفس إلى التهلكة ، لأنّ رأي عبد الله كان في الإقامة بالمدينة وما كان يستصوب الخروج { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان } يعني أنهم قبل ذلك اليوم كانوا يتظاهرون بالإيمان وما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم ، فلما انخذلوا عن عسكر المؤمنين وقالوا ما قالوا ، تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر .
وقيل : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأنّ تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين { يَقُولُونَ بأفواههم } لا يتجاوز إيمانهم أفواههم ومخارج الحروف منهم ولا تعي قلوبهم منه شيئاً . وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم ، وأنّ إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم ، خلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم لأفواههم { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } من النفاق . وبما يجري بعضهم مع بعض من ذمّ المؤمنين وتجهيلهم وتخطئة رأيهم والشماتة بهم وغير ذلك ، لأنكم تعلمون بعض ذلك علماً مجملاً بأمارات ، وأنا أعلم كله علم إحاطة بتفاصيله وكيفياته { الذين قَالُواْ } في إعرابه أوجه : أن يكون نصباً على الذمّ أو على الردّ على الذين نافقوا ، أو رفعاً على هم الذين قالوا أو على الإبدال من واو يكتمون . ويجوز أن يكون مجروراً بدلاً من الضمير في بأفواههم أو قلوبهم ، كقوله :
عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالماءِ حَاتِمُ ... { لإخوانهم } لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد أو إخوانهم في النسب وفي سكنى الدار { وَقَعَدُواْ } أي قالوا وقد قعدوا على القتال : لو أطاعنا إخواننا فيما أمرناهم به من القعود ووافقونا فيه لما قتلوا كما لم نقتل { قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صادقين } معناه : قل إن كنتم صادقين في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلاً وهو القعود عن القتال ، فجدوا إلى دفع الموت سبيلاً ، يعني أن ذلك الدفع غير مغن عنكم ، لأنكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت ، لم تقدروا على دفع سائر أسبابه المبثوثة ، ولا بد لكم من أن يتعلق بكم بعضها . وروي : أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً . فإن قلت : فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود ، فما معنى قوله : { إِن كُنتُمْ صادقين } ؟ قلت : معناه أن النجاة من القتل يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال وأن يكون غيره ، لأن أسباب النجاة كثيرة ، وقد يكون قتال الرجل سبب نجاته ولو لم يقاتل لقتل ، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وأنكم صادقون في مقالتكم؟ وما أنكرتم أن يكون السبب غيره . ووجه آخر : إن كنتم صادقين في قولكم : لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا ، يعني أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين . وقوله : { فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ } استهزاء بهم ، أي إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت ، فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا .
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد . وقرىء بالياء على : ولا يحسبنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو ولا يحسبنّ حاسب . ويجوز أن يكون { الذين قُتِلُوْا } فاعلاً ، ويكون التقدير : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً ، أي لا يحسبنّ الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً . فإن قلت : كيف جاز حذف المفعول الأوّل؟ قلت : هو في الأصل مبتدأ ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله { أَحْيَاءٌ } والمعنى : هم أحياء لدلالة الكلام عليهما . وقرىء : «ولا تحسبنّ» بفتح السين ، «وقتلوا» بالتشديد . «وأحياء» بالنصب على معنى : بل احسبهم أحياء { عِندَ رَبّهِمْ } مقرّبون عنده ذوو زلفى ، كقوله : { فالذين عِندَ رَبّكَ } [ فصلت : 38 ] . { يُرْزَقُونَ } مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون . وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله { فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } وهو التوفيق في الشهادة وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم ، من كونهم أحياء مقرّبين معجلاً لهم رزق الجنة ونعيمها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 224 ) " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش " { وَيَسْتَبْشِرُونَ ب } إخوانهم المجاهدين { الذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } أي لم يقتلوا فيلحقوا بهم { مّنْ خَلْفِهِمْ } يريد الذين من خلفهم قد بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم . وقيل : لم يلحقوا بهم ، لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } بدل من الذين . والمعنى : ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين ، وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة . بشرهم الله بذلك فهم مستبشرون به . وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة ، والجد في الجهاد ، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم ، وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه في الله ، وبشرى للمؤمنين بالفوز في المآب . وكرّر { يَسْتَبْشِرُونَ } ليعلق به ما هو بيان لقوله : { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } من ذكر النعمة والفضل ، وأن ذلك أجر لهم على إيمانهم يجب في عدل الله وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع وقرىء «وأن الله» بالفتح عطفاً على النعمة والفضل . وبالكسر على الابتداء وعلى أنّ الجملة اعتراض . وهي قراءة الكسائي . وتعضدها قراءة عبد الله . «والله لا يضيع» .
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
{ الذين استجابوا } مبتدأ خبره { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } أو صفة للمؤمنين ، أو نصب على المدح . روى :
( 225 ) أنّ أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة ، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال : لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال ، وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر ، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا ، فنزلت . و «من» في { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ } للتبيين مثلها في قوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [ الفتح : 29 ] لأنّ الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا ، لا بعضهم . وعن عروة بن الزبير : قالت لي عائشة رضي الله عنها «إن أبويك لمن الذين استجابوا لله والرسول» تعني أبا بكر والزبير { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } روى
( 226 ) أنّ أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد . يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن شاء الله؛ فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مر الظهران . فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع ، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال : يا نعيم ، إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر ، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جراءة ، فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشر من الإبل ، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : ما هذا بالرأي . أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريداً ، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم ، فوالله لا يفلت منكم أحد . وقيل :
( 227 ) مرّ بأبي سفيان ركب من عبد القيس يريدون المدينة للميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوهم ، فكره المسلمون الخروج . فقال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد ، فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون : حسبنا الله ونعم الوكيل " وقيل : هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار حتى وافوا بدراً وأقاموا بها ثماني ليال ، وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيراً ، ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين . ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق .
قالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق . فالناس الأوّلون : المثبطون . والآخرون : أبو سفيان وأصحابه . فإن قلت : كيف قيل : { الناس } إن كان نعيم هو المثبط وحده؟ قلت : قيل ذلك لأنه من جنس الناس ، كما يقال : فلان يركب الخيل ويلبس البرود ، وماله إلا فرس واحد وبرد فرد . أو لأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه ، ويصلون جناح كلامه ، ويثبطون مثل تثبيطه . فإن قلت : إلام يرجع المستكن في { فَزَادَهُمْ } ؟ قلت : إلى المقول الذي هو { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } كأنه قيل : قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيماناً ، أو إلى مصدر قالوا ، كقولك : من صدق كان خيراً له . أو إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده . فإن قلت : كيف زادهم نعيم أو مقوله إيماناً؟ قلت : لما لم يسمعوا قوله وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد وأظهروا حمية الإسلام ، كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم ، كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج؛ ولأن خروجهم على أثر تثبيطه إلى وجهة العدو طاعة عظيمة ، والطاعات من جملة الإيمان؛ لأنّ الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل . وعن ابن عمر :
( 228 ) قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال : «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة . وينقص حتى يدخل صاحبه النار» وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول : قم بنا نزدد إيماناً . وعنه :
( 229 ) " لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمّة لرجح به " { حَسْبُنَا الله } محسبنا ، أي كافينا . يقال : أحسبه الشيء إذا كفاه والدليل على أنه بمعنى المحسب أنك تقول : هذا رجل حسبك ، فتصف به النكرة؛ لأنّ إضافته لكونه في معنى اسم الفاعل غير حقيقة { وَنِعْمَ الوكيل } ونعم الموكول إليه هو { فانقلبوا } فرجعوا من بدر { بِنِعْمَةٍ مّنَ الله } وهي السلامة وحذر العدوّ منهم { وفضل } وهو الربح في التجارة ، كقوله { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } [ البقرة : 198 ] . { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدوّ { واتبعوا رضوان الله } بجرأتهم وخروجهم { والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا . وفي ذلك تحسير لمن تخلف عنهم ، وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء . وروي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزوا ، فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم .
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
{ الشيطان } خبر ذلكم ، بمعنى : إنما ذلكم المثبط هو الشيطان . ويخوّف أولياءه : جملة مستأنفة بيان لشيطنته . أو الشيطان صفة لاسم الإشارة . ويخوف الخبر . والمراد بالشيطان نعيم ، أو أبو سفيان . ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف ، بمعنى إنما ذلكم قول الشيطان ، أي قول إبليس لعنه الله { يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ } يخوّفكم أولياءه الذين هم أبو سفيان وأصحابه . وتدل عليه قراءة ابن عباس وابن مسعود : «يخوفكم أولياءه» . وقوله : فلا تخافوهم . وقيل يخوّف أولياءه القاعدين عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : فإلام رجع الضمير في { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } على هذا التفسير؟ قلت : إلى الناس في قوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 183 ] فلا تخافوهم فتقعدوا عن القتال وتجبنوا { وَخَافُونِ } فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } يعني أنّ الإيمان يقتضي أن تؤثرواخوف الله على خوف الناس { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله } [ الأحزاب : 39 ] .
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
{ يسارعون فِى الكفر } يقعون فيه سريعاً ويرغبون فيه أشدّ رغبة ، وهم الذين نافقوا من المتخلفين . وقيل : هم قوم ارتدّوا عن الإسلام . فإن قلت : فما معنى قوله : { وَلاَ يَحْزُنكَ } ؟ ومن حق الرسول أن يحزن لنفاق من نافق وارتداد من ارتدّ؟ قلت : معناه لا يحزنوك لخوف أن يضرّوك ويعينوا عليك . ألا ترى إلى قوله { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } يعني أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم ، وما وبال ذلك عائداً على غيرهم . ثم بين كيف يعود وباله عليهم بقوله : { يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاخرة } أي نصيباً من الثواب { وَلَهُمْ } بدل الثواب { عَذَابٌ عظِيمٌ } وذلك أبلغ ما ضرّ به الإنسان نفسه . فإن قلت : هلا قيل : لا يجعل الله لهم حظاً في الآخرة ، وأيّ فائدة في ذكر الإرادة؟ قلت : فائدته الإشعار بأنّ الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصاً لم يبق معه صارف قط حين سارعوا في الكفر ، تنبيهاً على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه ، حتى أنّ أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم { إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان } إمّا أن يكون تكريراً لذكرهم للتأكيد والتسجيل عليهم بما أضاف إليهم . وإمّا أن يكون عاماً للكفار ، والأوّل خاصاً فيمن نافق من المتخلفين ، أو ارتدّ عن الإسلام أو على العكس . و { شَيْئاً } نصب على المصدر؛ لأن المعنى : شيئاً من الضرر وبعض الضرر { الذين كَفَرُواْ } فيمن قرأ بالتاء نصب و { أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ } بدل منه : أي ولا تحسبنّ أنّ ما نملي للكافرين خير لهم ، و «أن» مع ما في حيزه ينوب عن المفعولين ، كقوله : { أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون } [ الفرقان : 44 ] وما مصدرية ، بمعنى : ولا تحسبنّ أنّ إملاءنا خير ، وكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة . ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا يخالف ، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف . فإن قلت : كيف صحّ مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد؟ قلت : صحّ ذلك من حيث إنّ التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحى ، ألا تراك تقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض ، مع امتناع سكوتك على متاعك . ويجوز أن يقدّر مضاف محذوف على : ولا تحسبنّ الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم . أو ولا تحسبنّ حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم . وهو فيمن قرأ بالياء رفع ، والفعل متعلق بأن وما في حيزه . والإملاء لهم : تخليتهم وشأنهم ، مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء . وقيل : هو إمهالهم وإطالة عمرهم . والمعنى : ولا تحسبنّ أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ } «ما» هذه حقها أن تكتب متصلة ، لأنها كافة دون الأولى ، وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها ، كأنه قيل : ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيراً لهم ، فقيل : إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً .
فإن قلت : كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضاً لله تعالى في إملائه لهم؟ قلت : هو علة للإملاء ، وما كل علة بغرض . ألا تراك تقول : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشر ، وليس شيء منها بغرض لك . وإنما هي علل وأسباب ، فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإمهال وسبباً فيه . فإن قلت : كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ قلت : لما كان في علم الله المحيط بكل شيء أنهم مزدادون إثماً ، فكأن الإملاء وقع من أجله وبسببه على طريق المجاز . وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الأولى وفتح الثانية . ولا يحسبنّ بالياء ، على معنى : ولا يحسبنّ الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم كما يفعلون ، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان . وقوله : { أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ } اعتراض بين الفعل ومعموله . ومعناه : أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام الله عليهم بتفسيح المدّة وترك المعاجلة بالعقوبة . فإن قلت : فما معنى قوله : { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } على هذه القراءة؟ قلت : معناه : ولا تحسبوا إن إملاءنا لزيادة الإثم وللتعذيب ، والواو للحال ، كأنه قيل : ليزداودا إثماً معداً لهم عذاب مهين .
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
اللام لتأكيد النفي { على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين { حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } حتى يعزل المنافق عن المخلص . وقرىء : «يميز» . من ميز . وفي رواية عن ابن كثير : «يميز» ، من أماز بمعنى ميز . فإن قلت : لمن الخطاب في { أَنتُمْ } ؟ قلت : للمصدّقين جميعاً من أهل الإخلاص والنفاق ، كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض ، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعاً حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم ، ثم قال : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } أي وما كان الله ليؤتي أحداً منكم علم الغيوب ، فلا تتوهموا عند إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب اطلاع الله فيخبر عن كفرها وإيمانها { ولكن الله } يرسل الرسول فيوحي إليه ويخبره بأنّ في الغيب كذا ، وأن فلاناً في قلبه النفاق وفلاناً في قلبه الإخلاص ، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله لا من جهة اطلاعه على المغيبات . ويجوز أن يراد : لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب ، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله قلوبهم . كبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل الله ، فيجعل ذلك عياراً على عقائدكم وشاهداً بضمائركم ، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال ، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها ، فإن ذلك مما استأثر الله به . وما كان الله ليطلع أحداً منكم على الغيب ومضمرات القلوب حتى يعرف صحيحها من فاسدها مطلعاً عليها { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ } فيخبره ببعض المغيبات { فآمنوا باللّه ورسوله } بأن تقدروه حق قدره ، وتعلموه وحده مطلعاً على الغيوب ، وأن تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عباداً مجتبين ، لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، ولا يخبرون إلا بما أخبرهم الله به من الغيوب ، وليسوا من علم الغيب في شيء . وعن السدي قال الكافرون : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فنزلت .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ } من قرأ بالتاء قدّر مضافاً محذوفاً ، أي ولا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيراً لهم . وكذلك من قرأ بالياء وجعل فاعل يحسبن ضمير رسول الله ، أو ضمير أحد . ومن جعل فاعله الذين يبخلون كان المفعول الأوّل عنده محذوفاً تقديره : ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم { هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } والذي سوغ حذفه دلالة { يَبْخَلُونَ } عليه ، وهو فصل . وقرأ الأعمش بغير هو { سَيُطَوَّقُونَ } تفسير لقوله : { هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق . وفي أمثالهم : تقلدها طوق الحمامة ، إذا جاء بهنة يسب بها ويذم . وقيل : يجعل ما بخل من الزكاة حية يطوقها في عنقه يوم القيامة ، تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه وتقول : أنا مالك . وعن النبي صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة :
( 230 ) " يطوق بشجاع أقرع " وروي " بشجاع أسود " وعن النخعي سيطوقون بطوق من نار { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والارض } أي وله ما فيها مما يتوارثه أهلها من مال وغيره فمالهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله . ونحوه قوله : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] وقرىء «بما تعملون» بالتاء والياء فالتاء على طريقة الالتفات ، وهي أبلغ في الوعيد والياء على الظاهر .
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
قال ذلك اليهود حين سمعوا قول الله تعالى : { مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا } ، فلا يخلو إمّا أن يقولوه عن اعتقاد لذلك ، أو عن استهزاء بالقرآن ، وأيهما كان فالكلمة عظيمة لا تصدر إلا عن متمردين في كفرهم . ومعنى سماع الله له : أنه لم يخف عليه ، وأنه أعدّ له كفاءه من العقاب { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } في صحائف الحفظة . أو سنحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه كما يثبت المكتوب فإن قلت : كيف قال : { لَّقَدْ سَمِعَ الله } ثم قال { سَنَكْتُبُ } وهلا قيل : ولقد كتبنا؟ قلت : ذكر وجود السماع أوّلاً مؤكداً بالقسم ثم قال : سنكتب على جهة الوعيد بمعنى لن يفوتنا أبداً إثباته وتدوينه كما لن يفوتنا قتلهم الأنبياء . وجعل قتلهم الأنبياء قرينة له إيذاناً بأنهما في العظم أخوان ، وبأن هذا ليس بأوّل ما ركبوه من العظائم . وأنهم أصلاء في الكفر ولهم فيه سوابق ، وأن من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول . وروي :
( 231 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر رضي الله عنه إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن يقرضوا الله قرضاً حسناً ، فقال فنحاص اليهودي : إنّ الله فقير حين سألنا القرض فلطمه أبو بكر في وجهه وقال : لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله ، فنزلت . ونحوه قولهم : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } [ المائدة : 64 ] { وَنَقُولُ } لهم { ذُوقُواْ } وننتقم منهم أن نقول لهم يوم القيامة : ذوقوا { عَذَابَ الحريق } كما أذقتم المسلمين الغصص . يقال للمنتقم منه : أحس ، وذق . وقال أبو سفيان لحمزة رضي الله عنه : ذق عقق وقرأ حمزة : «سيكتب» ، بالياء على البناء للمفعول ، «ويقول» بالياء . وقرأ الحسن والأعرج : «سيكتب» بالياء وتسمية الفاعل . وقرأ ابن مسعود : «ويقال ذوقوا» { ذلك } إشارة إلى ما تقدّم من عقابهم وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال تزاول بهنّ ، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب فإن قلت : فلم عطف قوله { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } { على ما قدّمت أيديكم } ، وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكاً لاجتراحهم السيئات في استحقاق التعذيب؟ قلت : معنى كونه غير ظلام للعبيد أنه عادل عليهم ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويثيب المحسن .
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
{ عَهِدَ إِلَيْنَا } أمرنا في التوراة وأوصانا بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه الآية الخاصة ، وهو أن يرينا قربانا تنزل نار من السماء فتأكله ، كما كان أنبياء بني إسرائيل تلك آيتهم ، كان يقرب بالقربان ، فيقوم النبي فيدعو ، فتنزل نار من السماء فتأكله ، وهذه دعوى باطلة وافتراء على الله ، لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان للرسول الآتي به إلا لكونه آية ومعجزة فهو إذن وسائر الآيات سواء فلا يجوز أن يعينه الله تعالى من بين الآيات . وقد ألزمهم الله أن أنبياءهم جاؤهم بالبينات الكثيرة التي أوجبت عليهم التصديق ، وجاؤهم أيضاً بهذه الآية التي اقترحوها فلم قتلوهم إن كانوا صادقين أن الإيمان يلزمهم بإتيانها وقرىء «بقربان» بضمتين . ونظيره السلطان . فإن قلت : ما معنى قوله : { وبالذى قُلْتُمْ } ؟ قلت : معناه ، وبمعنى الذي قلتموه من قولكم : قربان تأكله النار . ومؤدّاه كقوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } [ المجادلة : 3 ] أي لمعنى ما قالوا . في مصاحف أهل الشام : وبالزبر ، وهي الصحف { والكتاب المنير } التوراة والإنجيل والزبور . وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه وتكذيب اليهود .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
وقرأ اليزيدي «ذائقة الموت» على الأصل . وقرأ الأعمش ( ذَائِقَةُ الموت ) بطرح التنوين مع النصب كقوله :
وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاّ قَلِيلا ... فإن قلت : كيف اتصل به قوله : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ } ؟ قلت : اتصاله به على أن كلكم تموتون ولا بدّ لكم من الموت ولا توفون أجوركم على طاعاتكم ومعاصيكم عقيب موتكم ، وإنما توفونها يوم قيامكم من القبور . فإن قلت فهذا يوهم نفي ما يروي أن
( 232 ) " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار " قلت : كلمة التوفية تزيل هذا الوهم ، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم ، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور . الزحزحزة : التنحية والإبعاد تكرير الزح ، وهو الجذب بعجلة { فَقَدْ فَازَ } فقد حصل له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمد ، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد . اللهم وفقنا لما ندرك به عندك الفوز في المآب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 233 ) " من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه " وهذا شامل للمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد . شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغرّ حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته . والشيطان هو المدلس الغرور . وعن سعيد بن جبير : إنما هذا لمن آثرها على الآخرة ، فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ ، خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على احتمال ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها ، حتى إذا لقوها لقوها وهم مستعدون لايرهقهم ما يرهق من يصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه .
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
والبلاء في الأنفس : القتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب . وفي الأموال : الإنفاق في سبل الخير وما يقع فيها من الآفات . وما يسمعون من أهل الكتاب المطاعن في الدين الحنيف ، وصدّ من أراد الإيمان ، وتخطئة من آمن . وما كان من كعب بن الأشرف من هجائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحريض المشركين ، ومن فنحاص ، ومن بني قريظة والنضير { فَإِنَّ ذلك } فإن الصبر والتقوى { مِنْ عَزْمِ الأمور } من معزومات الأمور ، أي مما يجب العزم عليه من الأمور أو مما عزم الله أن يكون ، يعني أنّ ذلك عزمة من عزمات الله لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا .
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
{ وَإِذْ أَخَذَ الله } واذكر وقت أخذ الله ميثاق أهل الكتاب { لَتُبَيّنُنَّهُ } الضمير للكتاب . أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه كما يؤكد على الرجل إذا عزم عليه وقيل له . آلله لتفعلنّ { فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم ، يعني لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه . والنبذ وراء الظهر مثل في الطرح وترك الاعتداد . ونقيضه جعله نصب عينيه وألقاه بين عينيه ، وكفى به دليلاً على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه وأن لا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة ، وتطييب لنفوسهم . واستجلاب لمسارّهم أو لجرّ منفعة وحطام دنيا ، أو لتقية : مما لا دليل عليه ولا أمارة أو لبخل بالعلم ، وغيرة أن ينسب إليه غيرهم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 234 ) " من كتم علماً عن أهله ألجم بلجام من نار " وعن طاوس أنه قال لوهب : إني أرى الله سوف يعذبك بهذه الكتب . وقال : والله لو كنت نبياً فكتمت العلم كما تكتمه لرأيت أنّ الله سيعذبك ، وعن محمد بن كعب : لا يحل لأحد من العلماء أن يسكت على علمه ولا يحل لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل . وعن علي رضي الله عنه : ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا . وقرىء : «ليبينَّنهُ» . ولا «يكتمونه» . بالياء لأنهم غيب . وبالتاء على حكاية مخاطبتهم ، كقوله : { وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل فِى الكتاب لَتُفْسِدُنَّ } [ الإسراء : 4 ] .
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
{ لاَ تَحْسَبَنَّ } خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وأحد المفعولين { الذين يَفْرَحُونَ } والثاني { بِمَفَازَةٍ } وقوله : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ } تأكيد تقديره : لا تحسبنهم ، فلا تحسبنهم فائزين . وقرىء : «لا تحسبن» . «فلا تحسبنهم» ، بضم الباء على خطاب المؤمنين «ولا يحسبن» . فلا «يحسبنهم» ، بالياء وفتح الباء فيهما ، على أنّ الفعل للرسول . وقرأ أبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأوّل وضمها في الثاني ، على أن الفعل للذين يفرحون ، والمفعول الأوّل محذوف على : لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة ، بمعنى : لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين ، وفلا يحسبنهم ، تأكيد . ومعنى { بِمَا أُوتُواْ } بما فعلوا . وأتى وجاء ، يستعملان بمعنى فعل قال الله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [ مريم : 61 ] ، { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [ مريم : 27 ] . ويدل عليه قراءة أبيّ : «يفرحون بما فعلوا» . وقرىء : «آتوا» ، بمعنى أعطوا . وعن علي رضي الله عنه : «بما أوتوا» . ومعنى { بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب } بمنجاة منه . روي :
( 235 ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروه بخلافه ، وأروه أنهم قد صدقوه ، واستحمدوا إليه ، وفرحوا بما فعلوا فأطلع الله رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيدهم " أي لا تحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من تدليسهم عليك ويحبون أن تحمدهم بما لم يفعلوا من إخبارك بالصدق عما سألتهم عنه ناجين من العذاب . ومعنى { فرحين } بما أوتوه من علم التوراة . وقيل : يفرحون بما فعلوا من كتمان نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم حيث ادعوا أن إبراهيم كان على اليهودية وأنهم على دينه . وقيل : هم قوم تخلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قفل اعتذروا إليه بأنهم رأوا المصلحة في التخلف ، واستحمدوا إليه بترك الخروج . وقيل : هم المنافقون يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين ومنافقتهم وتوصلهم بذلك إلى أغراضهم ، ويستحمدون إليهم بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة لإبطانهم الكفر . ويجوز أن يكون شاملاً لكل من يأتي بحسنة فيفرح بها فرح إعجاب . ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد وبما ليس فيه .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
{ وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والارض } فهو يملك أمرهم . وهو على كل شيء قدير ، فهو يقدر على عقابهم { لآيات } لأدلة واضحة على الصانع وعظيم قدرته وباهر حكمته { لاِوْلِى الالباب } للذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار . ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطر . وفي النصائح الصغار : املأ عينيك من زينة هذه الكواكب ، وأجلهما في جملة هذه العجائب ، متفكراً في قدرة مقدّرها ، متدبراً حكمة مدبرها ، قيل أن يسافر بك القدر ، ويحال بينك وبين النظر . وعن ابن عمر رضي الله عنهما :
( 236 ) قلت لعائشة رضي الله عنها : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكت وأطالت ، ثم قالت : كل أمره عجب ، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ، ثم قال : يا عائشة ، هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت : يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك ، قد أذنت لك . فقام إلى قربة من ماء في البيت . فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ، ثم قام يصلي ، فقرأ من القرآن فجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه ، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ، ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض ، فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له : يا رسول الله ، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً . ثم قال : وما لي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والارض } ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وروي :
( 237 ) «ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمّلها» وعن علي رضي الله عنه :
( 238 ) " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } " وحكي : أنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة ، فعبدها فتى من فتيانهم فلم تظله ، فقالت له أمّه : لعلّ فرطة فرطت منك في مدّتك؟ فقال : ما أذكر . قالت : لعلك نظرت مرّة إلى السماء ولم تعتبر؟ قال : لعلّ . قالت : فما أُتيت إلا من ذاك { الذين يَذْكُرُونَ الله } ذكراً دائباً على أي حال كانوا ، من قيام وقعود واضطجاع لا يخلون بالذكر في أغلب أحوالهم . وعن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة : أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله ، فقال بعضهم : أما قال الله تعالى : { يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً } فقاموا يذكرون الله على أقدامهم .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 239 ) « من أحبّ أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله » وقيل : معناه يصلون في هذه الأحوال على حسب استطاعتهم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمران بن الحصين :
( 240 ) « صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب ، تومىء إيماء » وهذه حجة للشافعي رحمه الله في إضجاع المريض على جنبه كما في اللحد . وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه يستلقي حتى إذا وجد خفة قعد . ومحل { على جُنُوبُهُمْ } نصب على الحال عطفاً على ما قبله ، كأنه قيل قياماً وقعوداً ومضطجعين { وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السماوات والارض } وما يدل عليه اختراع هذه الأجرام العظام وإبداع صنعتها وما دبر فيها بما تكل الأفهام عن إدراك بعض عجائبه على عظم شأن الصانع وكبرياء سلطانه . وعن سفيان الثوري أنه صلى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء ، فلما رأى الكواكب غشي عليه ، وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم :
( 241 ) « بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال : أشهد أنّ لك رباً وخالقاً ، اللهمّ اغفر لي ، فنظر الله إليه فغفر له » وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
( 242 ) « لا عبادة كالتفكر » وقيل : الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشبية كما يحدث الماء للزرع النبات . وما جليت القلوب بمثل الأحزان ولا استنارت بمثل الفكرة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 243 ) « لا تفضلوني عل يونس بن متى فإنه كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض » قالوا : وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب ، لأن أحداً لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض { مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا } على إرادة القول . أي يقولون ذلك وهو في محل الحال ، بمعنى يتفكرون قائلين . والمعنى : ما خلقته خلقاً باطلاً بغير حكمة ، بل خلقته لداعي حكمة عظيمة ، وهو أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ووجوب طاعتك واجتناب معصيتك؛ ولذلك وصل به قوله : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } لأنه جزاء من عصى ولم يطع . فإن قلت : هذا إشارة إلى ماذا؟ قلت : إلى الخلق على أن المراد به المخلوق ، كأنه قيل : ويتفكرون في مخلوق السموات والأرض ، أي فيما خلق منها . ويجوز أن يكون إشارة إلى السموات والأرض؛ لأنها في معنى المخلوق . كأنه قيل : ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلاً . وفي هذا ضرب من التعظيم كقوله : { إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 90 ] ويجوز أن يكون ( باطلاً ) حالاً من هذا . وسبحانك : اعتراض للتنزيه من العبث ، وأن يخلق شيئاً بغير حكمة .
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
{ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } فقد أبلغت في إخزائه . وهو نظير قوله ( فقد فاز ) . ونحوه في كلامهم : من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك ، ومن سبق فلاناً فقد سبق { وَمَا للظالمين } اللام إشارة إلى من يدخل النار وإعلام بأنّ من يدخل النار فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها . تقول : سمعت رجلاً يقول كذا ، وسمعت زيداً يتكلم ، فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع ، لأنك وصفته بما يسمع أو جعلته حالاً عنه فأغناك عن ذكره ، ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد ، وأن يقال سمعت كلام فلان أو قوله . فإن قلت : فأيّ فائدة في الجمع بين المنادي وينادي؟ قلت : ذكر النداء مطلقاً ثم مقيداً بالإيمان تفخيما لشأن المنادي؛ لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان . ونحوه قولك : مررت بهاد يهدي للإسلام . وذلك أنّ المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب ، أو لإطفاء النائرة ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض النوازل ، أو لبعض المنافع ، وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدي للطريق ويهدي لسداد الرأي وغير ذلك؛ فإذا قلت : ينادي للإيمان ويهدي للإسلام فقد رفعت من شأن المنادي والهادي وفخمته . ويقال : دعاه لكذا وإلى كذا ، وندبه له وإليه ، وناداه له وإليه . ونحوه : هداه للطريق وإليه ، وذلك أن معنى انتهاء الغاية ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً ، والمنادي هو الرسول { ادعوا إِلَى الله } [ يوسف : 108 ] ، و { ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ } [ النحل : 125 ] . وعن محمد بن كعب : القرآن . { أَنْ ءَامِنُواْ } أي آمنوا ، أو بأن آمنوا { ذُنُوبَنَا } كبائرنا { سيئاتنا } صغائرنا { مَعَ الابرار } مخصوصين بصحبتهم ، معدودين في جملتهم . والأبرار : جمع برّ أو بارّ ، كرب وأرباب ، وصاحب وأصحاب { على رُسُلِكَ } على هذه صلة للوعد ، كما في قولك : وعد الله الجنة على الطاعة . والمعنى : ما وعدتنا على تصديق رسلك . ألا تراه كيف أتبع ذكر المنادي للإيمان وهو الرسول وقوله آمنا وهو التصديق ويجوزأن يكون متعلقاً بمحذوف ، أي ما وعدتنا منزلاً على رسلك ، أو محمولاً على رسلك ، لأن الرسل محملون ذلك { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ } [ النور : 54 ] وقيل : على ألسنة رسلك . والموعود هو الثواب . وقيل : النصرة على الأعداء . فإن قلت : كيف دعوا الله بإنجاز ما وعد الله لا يخلف الميعاد؟ قلت : معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد أو هو باب من اللجأ إلى الله والخضوع له ، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستغفرون مع علمهم أنهم مغفور لهم ، يقصدون بذلك التذلل لربهم والتضرع إليه ، واللجأ الذي هو سيما العبودية .
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
يقال : استجاب له واستجابه .
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ ... { أَنّى لاَ أُضِيعُ } قرىء بالفتح على حذف الياء ، وبالكسر على إرادة القول . وقرىء : «لا أضيّع» ، بالتشديد { مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } بيان لعامل { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } أي يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد ، فكل واحد منكم من الآخر ، أي من أصله ، أو كأنه منه لفرط اتصالكم واتحادكم . وقيل المراد وصلة الإسلام . وهذه جملة معترضة بينت بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله عباده العاملين وروي :
( 244 ) أنّ أمّ سلمة قالت : يا رسول الله ، إني أسمع الله تعالى يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء . فنزلت { فالذين هاجروا } تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له والتفخيم ، كأنه قال : فالذين عملوا هذه الأعمال السنية الفائقة ، وهي المهاجرة عن أوطانهم فارّين إلى الله بدينهم من دار الفتنة ، واضطرّوا إلى الخروج من ديارهم التي ولدوا فيها ونشؤا بما سامهم المشركون من الخسف { وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى } من أجله وبسببه ، يريد سبيل الدين { وقاتلوا وَقُتِلُواْ } وغزوا المشركين واستشهدوا . وقرىء : «وقتلوا» ، بالتشديد . «وقتلوا وقاتلوا» على التقديم بالتخفيف والتشديد «وقتلوا ، وقتلوا» ، على بناء الأول للفاعل والثاني للمفعول . «وقتلوا» ، «وقاتلوا» ، على بنائهما للفاعل { ثَوَاباً } في موضع المصدر المؤكد بمعنى إثابة أو تثويباً { مِنْ عِندِ الله } لأن قوله : { لاكَفّرَنَّ . . . . . عَنْهُمْ وَلاَدْخِلَنَّهُمْ } في معنى ، لأثيبنهم . { وَعِندَهُ } مثل : أن يختص به وبقدرته وفضله ، لا يثيبه غيره ولا يقدر عليه ، كما يقول الرجل : عندي ما تريد ، يريد اختصاصه به وبملكه وإن لم يكن بحضرته . وهذا تعليم من الله كيف يدعي وكيف يبتهل إليه ويتضرّع . وتكرير { رَبِّنَا } من باب الابتهال ، وإعلام بما يوجب حسن الإجابة وحسن الإثابة ، من احتمال المشاق في دين الله ، والصبر على صعوبة تكاليفه ، وقطع لأطماع الكسالى المتمنين عليه ، وتسجيل على من لا يرى الثواب موصولاً إليه ، بالعمل بالجهل والغباوة . وروي عن جعفر الصادق رضي الله عنه : من حزبه أمر فقال خمس مرات { رَبِّنَا } أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد ، وقرأ هذه الآية . وعن الحسن : حكى الله عنهم أنهم قالوا خمس مرات { رَبِّنَا } ثم أخبر أنه استجاب لهم ، إلا أنه أتبع ذلك رافع الدعاء وما يستجاب به ، فلا بد من تقديمه بين يدي الدعاء .
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
{ لاَ يَغُرَّنَّكَ } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ، أي لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق والمضطرب ودرك العاجل وإصابة حظوظ الدنيا ، ولا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم في الأرض ، وتصرفهم في البلاد يتكسبون ويتجرون ويتدهقنون . وعن ابن عباس : هم أهل مكة . وقيل : هم اليهود . وروي أن أناساً من المؤمنين كانوا يرون ما كانوا فيه من الخصب والرخاء ولين العيش فيقولون : إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد . فإن قلت : كيف جاز أن يغتر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك حتى ينهي عن الاغترار به؟ قلت : فيه وجهان أحدهما أن مدرة القوم ومتقدّمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً ، فكأنه قيل : لا يغرنكم والثاني : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم فأكد عليه ما كان عليه وثبت على التزامه ، كقوله : { وَلاَ تَكُنْ مع الكافرين } [ هود : 42 ] ، { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] ، { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } [ القلم : 8 ] وهذا في النهي نظير قوله في الأمر { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] ، { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ } [ النساء : 36 ] وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب وهو في المعنى للمخاطب ، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب ، لأنّ التقلب لو غرّه لاغتر به ، فمنع السبب ليمتنع المسبب . وقرىء : «لا يغرنك» بالنون الخفيفة { متاع قَلِيلٌ } خبر مبتدأ محذوف ، أي ذلك متاع قليل وهو التقلب في البلاد ، أراد قلته في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة ، أو في جنب ما أعدّ الله للمؤمنين من الثواب ، أو أراد أنه قليل في نفسه لانقضائه وكل زائل قليل . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 245 ) " ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ، فلينظر بم يرجع " { وَبِئْسَ المهاد } وساء ما مهدوا لأنفسهم .
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
النزل والنزل : ما يقام للنازل . ( و ) قال أبو الشعراء الضبي :
وَكُنَّا إذَا الجَبَّارُ بِالجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا وَالْمُرْهِفَاتِ لَهُ نُزْلاَ
وانتصابه إمّا على الحال من جنات لتخصصها بالوصف والعامل اللام ، ويجوز أن يكون بمعنى مصدر مؤكد ، كأنه قيل : زرقاء أو عطاء { مّنْ عِندِ الله وَمَا عِندَ الله } من الكثير الدائم { خَيْرٌ لّلابْرَارِ } مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل ، وقرأ مسلمة بن محارب والأعمش { نُزُلاً } بالسكون . وقرأ يزيد بن القعقاع : ( لكنّ الذين اتقوا ) ، بالتشديد .
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
{ وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب } عن مجاهد : نزلت في عبد الله بن سلام وغيره من مسلمة أهل الكتاب . وقيل في أربعين من أهل نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا . وقيل : في أصحمة النجاشي ملك الحبشة ، ومعنى أصحمة «عطية» بالعربية . وذلك أنه .
( 246 ) لما مات نعاه جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم ، فخرج إلى البقيع ونظر إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه واستغفر له " فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط وليس على دينه ، فنزلت ودخلت لام الابتداء على اسم «إنّ» لفصل الظرف بينهما؛ كقوله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } [ النساء : 72 ] . { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ } من القرآن { وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } من الكتابين { خاشعين للَّهِ } حال من فاعل يؤمن ، لأن من يؤمن في معنى الجمع { لاَ يَشْتَرُونَ بئايات الله ثَمَناً قَلِيلاً } كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم وكبارهم { أولئك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } أي ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعدوه في قوله : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } [ القصص : 54 ] ، { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ القصص : 54 ] . { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } لنفوذ علمه في كل شيء ، فهو عالم بما يستوجبه كل عامل من الأجر . ويجوز أن يراد : إنما توعدون لآت قريب بعد ذكر الموعد .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
اصبروا على الدين وتكاليفه { وَصَابِرُواْ } أعداء الله في الجهاد ، أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً والمصابرة : باب من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه ، تخصيصاً لشدته وصعوبته { وَرَابِطُواْ } وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها ، مترصدين مستعدين للغزو . قال الله عز وجل : { وَمِن رّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } [ الأنفال : 60 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 247 ) « من رابط يوماً وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه ، لا يفطر ، ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة »
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( 248 ) « من قرأ سورة آل عمران أعطى بكل آية منها أماناً على جسر جهنم »
وعنه عليه الصلاة والسلام :
( 249 ) « من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تحجب الشمس » .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
{ ياأيها الناس } يا بني آدم { خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم . فإن قلت : علام عطف قوله : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يعطف على محذوف ، كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها ، وخلق منها زوجها . وإنما حذف لدلالة المعنى عليه . والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها ، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق زوجها حواء من ضلع من أضلاعها { وَبَثَّ مِنْهُمَا } نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث ، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل بكيفية خلقهم منها . والثاني : أن يعطف على خلقكم ، ويكون الخطاب في { ياأيها الناس } للذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . والمعنى : خلقكم من نفس آدم ، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حواء وبث منهما { رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً } غيركم من الأمم الفائتة للحصر . فإن قلت : الذي يقتضيه سداد نظم الكلام وجزالته أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يوجبها أو يدعو إليها ويبحث عليها ، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره موجباً للتقوى وداعياً إليها؟ قلت : لأنّ ذلك مما يدل على القدرة العظيمة . ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء ، ومن المقدورات عقاب العصاة ، فالنظر فيه يؤدي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه ، ولأنَّه يدل على النعمة السابغة عليهم ، فحقهم أن يتقوه في كفرانها والتفريط فيما يلزمهم من القيام بشكرها . أو أراد بالتقوى تقوى خاصة وهي أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله ، فقيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم ، حيث جعلكم صنوانا مفرعة من أرومة واحدة . فيما يجب على بعضكم لبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه . وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة . وقرىء : «وخالق منها زوجها . وباث منهما» ، بلفظ اسم الفاعل ، وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره : وهو خالق { تَسَاءلُونَ بِهِ } تتساءلون به ، فأدغمت التاء في السين . وقرىء «تساءلون» بطرح التاء الثانية ، أي يسأل بعضكم بعضاً بالله وبالرحم . فيقول : بالله وبالرحم أفعل كذا على سبيل الاستعطاف . وأناشدك الله والرحم . أو تسألون غيركم بالله والرحم ، فقيل «تفاعلون» موضع «تفعلون» للجمع ، كقولك : رأيت الهلال وتراءيناه . وتنصره قراءة من قرأ : «تسلون به» . مهموز أو غير مهموز . وقرىء «والأرحام» بالحركات الثلاث ، فالنصب على وجهين : إما على : واتقوا الله والأرحام ، أو أن يعطف على محل الجار والمجرور ، كقولك : مررت بزيد وعمراً . وينصره قراءة ابن مسعود : «تسألون به وبالأرحام» ، والجر على عطف الظاهر على المضمر ، وليس بسديد؛ لأنّ الضمير المتصل متصل كاسمه ، والجار والمجرور كشيء واحد ، فكانا في قولك : ( مررت به وزيد ) و ( هذا غلامه وزيد ) شديدي الاتصال ، فلما اشتد الاتصال لتكرره أشبه العطف على بعض الكلمة ، فلم يجز ووجب تكرير العامل ، كقولك : ( مررت به وبزيد ) و ( هذا غلامه وغلام زيد ) ألا ترى إلى صحة قولك : ( رأيتك وزيداً ) و ( مررت بزيد وعمرو ) لما لم يقو الاتصال ، لأنه لم يتكرر ، وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ونظيرها .
فاذهب فَمَا بِكَ وَالأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ ... والرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف ، كأنه قيل : والأرحام كذلك ، على معنى : والأرحام مما يتقى أو والأرحام مما يُسَاءل به . والمعنى أنهم كانوا يقرون بأن لهم خالقاً ، وكانوا يتساءلون بذكر الله والرحم ، فقيل لهم : اتقوا الله الذي خلقكم ، واتقوا الذي تتناشدون به واتقوا الأرحام فلا تقطعوها . أو واتقوا الله الذي تتعاطفون باذكاره وباذكار الرحم . وقد آذن عز وجل إذ قرن الأرحام باسمه أن صلتها منه بمكان ، كما قال : { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا } [ الإسراء : 23 ] ، وعن الحسن : إذا سألك بالله فأعطه ، وإذا سألك بالرحم فأعطه . وللرحم حجنة عند العرش ، ومعناه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه : الرحم معلقة بالعرش فإذا أتاها الواصل بشت به وكلمته . وإذا أتاها القاطع احتجبت منه . وسئل ابن عيينة عن قوله عليه الصلاة والسلام :
( 250 ) « تخيروا لنطفكم »
فقال : يقول لأولادكم وذلك أن يضع ولده في الحلال . ألم تسمع قوله تعالى : { واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ والارحام } وأول صلته أن يختار له الموضع الحلال ، فلا يقطع رحمه ولا نسبه فإنما للعاهر الحجر ، ثم يختار الصحة ويجتنب الدَّعر ، ولا يضعه موضع سوء يتبع شهوته وهواه بغير هدى من الله .
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
{ اليتامى } الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم . واليتم الانفراد . ومنه : الرملة اليتيمة والدرّة اليتيمة . وقيل : اليتم في الأناسي من قبل الآباء . وفي البهائم من قبل الأمهات . فإن قلت : كيف جمع اليتيم وهو فعيل كمريض على يتامى؟ قلت : فيه وجهان : أن يجمع على يتمى كأسرى ، لأنّ اليتم من وادي الآفات والأوجاع ، ثم يجمع فعلى على فعالى كأسارى . ويجوز أن يجمع على فعائل لجري اليتم مجرى الأسماء ، نحو صاحب وفارس ، فيقال : يتائم ، ثم يتامى على القلب . وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء ، إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال ، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم ، زال عنهم هذا الاسم ، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يتيم أبي طالب ، إمّا على القياس وإما حكاية للحال التي كان عليها صغيراً ناشئاً في حجر عمه توضيعاً له . وأمّا قوله عليه السلام :
( 251 ) " لا يتم بعد الحلم "
فما هو إلا تعليم شريعة لا لغة ، يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار . فإن قلت : فما معنى قوله : { وَءاتُواْ اليتامى أموالهم } ؟ قلت : إما أن يراد باليتامى الصغار ، وبإتيانهم الأموال : أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة ، حتى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة . وإمّا أن يراد الكبار تسمية لهم يتامى على القياس ، أو لقرب عهدهم إذا بلغوا بالصغر ، كما تسمى الناقة عشراء بعد وضعها . على أنّ فيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ ، ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد ، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار .
( 252 ) وقيل : هي في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ، فلما سمعها العمُّ قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير ، فدفع ماله إليه؛ فقال النبي عليه السلام : «ومن يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره يعني جنته فلما قبض ألفوا ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «ثبت الأجر ، ثبت الأجر وبقي الوزر» ، قالوا : يا رسول الله ، قد عرفنا أنه ثبت الأجر كيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال : «ثبت أجر الغلام ، وبقي الوزر على والده» .
{ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه .
أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع منها والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز . منه التعجل بمعنى الاستعجال ، والتأخر بمعنى الاستئخار . قال ذو الرمّة :
فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا ... عَنِ الدَّارِ وَالْمُسْتَخْلَفِ الْمُتَبَدَّلِ
أراد : ويا لؤم ما استخلفته الدال واستبدلته . وقيل : هو أن يعطي رديئاً ويأخذ جيداً . وعن السدي : أن يجعل شاة مهزولة مكان سمينة ، وهذا ليس بتبدل ، وإنما هو تبديل إلا أن يكارم صديقاً له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم } ولا تنفقوها معها . وحقيقتها : ولا تضموها إليها في الإنفاق ، حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم . وتسوية بينه وبين الحلال . فإن قلت : قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم ، فلمَ ورد النهي عن أكله؟ معها قلت : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال وهم على ذلك يطمعون فيها كان القبح أبلغ والذم أحق ولأنهم كانوا يفعلون كذلك قنعى عليهم فعلهم وَسَمّع َبهم ، ليكون أزجر لهم . والحوب : الذنب العظيم . ومنه قوله عليه الصلاة و السلام :
( 253 ) " إن طلاق أم أيوب لحوب " فكأنه قيل : إنه كان ذنباً كبيراً . وقرأ الحسن «حوبا» بفتح الحاء وهو مصدر حاب حوبا . وقرىء : «حابا» . ونظير الحوب والحاب : القول والقال . والطرد والطرد .
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
ولمَّا نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير ، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى ، وأخذوا يتحرّجون من ولايتهم ، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان والست فلا يقوم بحقوقهنّ ولا يعدل بينهن ، فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها ، فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء فقللوا عدد المنكوحات ، لأنّ من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرّج ولا تائب ، لأنه إنما وجب أن يُتحرج من الذنب ويُتاب منه لقبحه ، والقبح قائم في كل ذنب ، وقيل : كانوا لا يتحرّجون من الزنا وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى ، فقيل : إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا . فانكحوا ما حلّ لكم من النساء ، ولا تحوموا حول المحرّمات . وقيل : كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها ، فيتزوجها ضناً بها عن غيره ، فربما اجتعمت عنده عشر منهن ، فيخاف - لضعفهن وفقد من يغضب لهن - أن يظلمهنّ حقوقهن ويفرط فيما يجب لهنَّ ، فقيل لهم : إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم . ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور ، وهو جمع يتيمة على القلب ، كما قيل : أيامى ، والأصل : أيائم ويتائم . وقرأ النخعي «تقسطوا» بفتح التاء على أن لا مزيدة مثلها في { لّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] يريد : وإن خفتم أن تجوروا { مَا طَابَ } ما حلّ { لَكُمْ مّنَ النساء } لأنّ منهن ما حرم كاللاتي في آية التحريم . وقيل : ( ما ) ذهاباً إلى الصفة . ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء : ومنه قوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } معدولة عن أعداد مكررة ، وإنما منعت الصرف لما فيها من العدلين : عدلها عن صيغها ، وعدلها عن تكررها ، وهي نكرات يعرّفن بلام التعريف . تقول : فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع ، ومحلهن النصب على الحال مما طاب ، تقديره : فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ، ثنتين ثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً . فإن قلت : الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع ، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟
( قلت ) : الخطاب للجميع ، فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له ، كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال - وهو ألف درهم - درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة . ولو أفردت لم يكن له معنى . فإن قلت : فلم جاء العطف بالواو دون أو؟ قلت : كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك . ولو ذهبت تقول : اقتسموا هذا المال درهمين درهمين ، أو ثلاثة ثلاثة ، أو أربعة أربعة : أعلمت أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة ، وليس لهم أن يجمعوا بينها فيجعلوا بعض القسم على تثنية ، وبعضه على تثليث ، وبعضه على تربيع .
وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو . وتحريره : أنّ الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع ، إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد ، وإن شاؤوا متفقين فيها ، محظوراً عليهم ما وراء ذلك . وقرأ إبراهيم : وثلث وربع ، على القصر من ثلاث ورباع { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها { فواحدة } فالزموا : أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأساً . فإن الأمر كله يدور مع العدل ، فأينما وجدتم العدل فعليكم به . وقرىء «فواحدةٌ» بالرفع على : فالمقنع واحدة ، أو فكفت واحدة ، أو فحسبكم واحدة { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } سوّى في السُّهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء ، من غير حصر ولا توقيت عدد . ولعمري أنهنّ أقل تبعة وأقصر شغباً وأخف مؤنة من المهائر ، لا عليك أكثرت منهن أم أقللت ، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل ، عزلت عنهن أم لم تعزل . وقرأ ابن أبي عبلة . «من ملكت» { ذلك } إشارة إلى اختيار الواحدة والتسري { أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } أقرب من أن لا تميلوا ، من قولهم : عال الميزان عولاً ، إذا مال . وميزان فلان عائل ، وعال الحاكم في حكمه إذا جار . وروى أن أعرابياً حكم عليه حاكم فقال له : أتعول عليّ . وقد روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم :
( 254 ) " ألا تعولوا : أن لا تجوروا " والذي يحكى عن الشافعي رحمه الله أنه فسر ( أن لا تعولوا ) أن لا تكثر عيالكم . فوجهه أن يجعل من قولك : عال الرجل عياله يعولهم ، كقولهم : مانهم يمونهم ، إذا أنفق عليهم ، لأنّ من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الكسب وحدود الورع وكسب الحلال والرزق الطيب . وكلام مثله من أعلام العلم وأئمة الشرع ورؤوس المجتهدين ، حقيقي بالحمل على الصحة والسداد ، وأن لا يظنّ به تحريف تعيلوا إلى تعولوا ، فقد روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا تظنن بكلمة خرجت من فِي أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً . وكفى بكتابنا المترجم بكتاب «شافي العيِّ ، من كلام الشافعي» شاهداً بأنه كان أعلى كعباً وأطول باعاً في علم كلام العرب ، من أن يخفى عليه مثل هذا ، ولكن للعلماء طرقاً وأساليب . فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات . فإن قلت : كيف يقل عيال من تسرى ، وفي السرائر نحو ما في المهائر؟ قلت : ليس كذلك ، لأن الغرض بالتزوّج التوالد والتناسل بخلاف التسري ، ولذلك جاز العزل عن السراري بغير أذنهن ، فكان التسري مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج ، كتزوّج الواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع . وقرأ طاوس : «أن لا تعيلوا» ، من أعال الرجل إذا كثر عياله . وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي رحمه الله من حيث المعنى الذي قصده .
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
{ صدقاتهن } مهورهن ، وفي حديث شريح : قضى ابن عباس لها بالصدقة . وقرىء : «صدقاتهن» بفتح الصاد وسكون الدال على تخفيف صدقاتهن . و«صدقاتهن» بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة . وقرىء : «صدقتهن» ، بضم الصاد والدال على التوحيد ، وهو تثقيل صدقة ، كقولك في ظلمة : ظُلُمَه . { نِحْلَةً } من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلاً . ومنه
( 255 ) حديث أبي بكر رضي الله عنه : إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقاً بالعالية . وانتصابها على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قيل : وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة ، أي أعطوهنّ مهورهنّ عن طيبة أنفسكم ، أو على الحال من المخاطبين ، أي آتوهنّ صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء ، أو من الصدقات ، أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس . وقيل : نحلة من الله عطية من عنده وتفضلاً منه عليهن ، وقيل : النحلة الملة ، ونحلة الإسلام خير النحل . وفلان ينتحل كذا : أي يدين به . والمعنى : آتوهن مهورهن ديانة ، على أنها مفعول لها . ويجوز أن يكون حالاً من الصدقات ، أي ديناً من الله شرعه وفرضه . والخطاب للأزواج . وقيل : للأولياء ، لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم ، وكانوا يقولون : هنيئاً لك النافجة ، لمن تولد له بنت ، يعنون : تأخذ مهرها فتنفج به مالك أي تعظمه . الضمير في ( منه ) جار مجرى اسم الإشارة كأنه قيل عن شيء من ذلك ، كما قال الله تعالى : { قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم } [ آل عمران : 15 ] بعد ذكر الشهوات ، ومن الحجج المسموعة من أفواه العرب ما روى عن رؤبة أنه قيل له في قوله :
كَأَنَّهُ فِي الْجِلدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ ... فقال : أردت كأن ذاك . أو يرجع إلى ما هو في معنى الصدقات وهو الصداق ، لأنك لو قلت : وآتوا النساء صداقهن ، لم تخل بالمعنى ، فهو نحو قوله : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصالحين } [ المنافقون : 12 ] كأنه قيل : أصدّق . و { نَفْساً } تمييز ، وتوحيدها لأنّ الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه . والمعنى : فإن وهبن لكم شيئاً من الصداق وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم { فَكُلُوهُ } فأنفقوه . قالوا : فإن وهبت له ثم طلبت منه بعد الهبة ، علم أنها لم تطب منه نفساً ، وعن الشعبي : أن رجلاً أتى مع امرأته شريحاً في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع ، فقال شريح : ردّ عليها . فقال الرجل : أليس قد قال الله تعالى : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ } قال : لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه . وعنه : أقيلها فيما وهبت ولا أقيله ، لأنهنّ يُخدعن . وحكي أن رجلاً من آل معيط أعطته امرأته ألف دينار صداقاً كان لها عليه ، فلبث شهراً ثم طلقها ، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان ، فقال الرجل : أعطتني طيبة بها نفسها ، فقال عبد الملك : فأين الآية التي بعدها فلا تأخذوا منه شيئاً؟ اردد عليها .
وعن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى قضاته : إن النساء يعطين رغبة ورهبة . فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها ، وعن ابن عباس :
( 256 ) أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال : «إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضى به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم الله به في الآخرة» . وروي : أن أناساً كانوا يتأثمون أن يرجع أحد منهم في شيء مما ساق إلى امرأته ، فقال الله تعالى إن طابت نفس واحدة من غير إكراه ولا خديعة فكلوه سائغاً هنيئاً . وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط ، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل : فإن طبن ، ولم يقل : فإن وهبن أو سمحن ، إعلاماً بأنَّ المراعى هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة . وقيل : إن طبن لكم عن شيء منه . ولم يقل : فإن طبن لكم عنها ، بعثا لهن على تقليل الموهوب . وعن الليث بن سعد : لا يجوز تبرعها إلا باليسير . وعن الأوزاعي : لا يجوز تبرعها ما لم تلد أو تقم في بيت زوجها سنة . ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد ، فيكون متناولاً بعضه ، ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله ، لأنّ بعض الصدقات واحدة منها فصاعدا . الهنيء ، والمريء : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه . وقيل : الهنيء : ما يلذه الآكل . والمريء ما يحمد عاقبته . وقيل هو ما ينساغ في مجراه . وقيل لمدخل الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة «المريء» لمروء الطعام فيه وهو انسياغه ، وهما وصف للمصدر ، أي أكلاً هنيئاً مريئاً ، أو حال من الضمير ، أي كلوه وهو هنيء مريء ، وقد يوقف على فكلوه ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدُّعاء ، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين ، كأنه قيل : هنأ مرأ . وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة .