الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
قال: فالحقب [ألف] (1) شهر، الشهر ثلاثون يوما، والسنة اثنا عشر شهرا، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم منها ألف سنة مما تعدون، فالحقب ثلاثون ألف ألف سنة (2) . وهذا حديثٌ منكر جدًا، والقاسم هو والراوي عنه وهو جعفر بن الزبير كلاهما متروك.
وقال البزار: حدثنا محمد بن مِرْدَاس، حدثنا سليمان بن مسلم أبو المُعَلَّى قال: سألت سليمان التيمي: هل يخرج من النار أحد؟ فقال حدثني نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لا يخرج من النار أحد حتى يمكث فيها أحقابا". قال: والحُقْب: بضع وثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما مما تعدون (3) .
ثم قال: سليمان بن مسلم بصري مشهور.
وقال السّدي: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } سبعمائة حُقب، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يومًا، كل يوم كألف سنة مما تعدون.
وقد قال مقاتل بن حَيّان: إن هذه الآية منسوخة بقوله: { فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا }
وقال خالد بن مَعْدان: هذه الآية وقوله: { إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ } [هود :107] في أهل التوحيد. رواهما ابن جرير.
ثم قال: ويحتمل أن يكون قوله: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } متعلقًا بقوله: { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } ثم يحدث الله لهم بعد ذلك عذابا من شكل آخر ونوع آخر. ثم قال: والصحيح أنها لا انقضاء لها، كما قال قتادة والربيع بن أنس. وقد قال قبل ذلك.
حدثني محمد بن عبد الرحيم البَرْقِي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن زهير، عن سالم: سمعت الحسن يسأل عن قوله: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } قال: أما الأحقاب فليس لها عِدّة إلا الخلود في النار، ولكن ذكروا أن الحُقبَ سبعون سنة، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون.
وقال سعيد، عن قتادة: قال الله تعالى: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } وهو: ما لا انقطاع له، كلما مضى حُقب جاء حقب بعده، وذكر لنا أن الحُقْب ثمانون سنة.
وقال الربيع بن أنس: { لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } لا يعلم عدة هذه الأحقاب إلا الله، ولكن الحُقْب الواحد ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم كألف سنة مما تعدون. رواهما أيضا ابن جرير (4) .
__________
(1) زيادة من إتحاف للبوصيري.
(2) ورواه ابن أبي عم العدني في مسنده كما في إتحاف المهرة للبوصيري (ق 218 سليمانية) عن مروان، عن جعفر بن الزبير بنحوه، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/292) من طريق يعقوب بن كعب، عن مروان، عن جعفر، عن القاسم، عن أبي أمامة مرفوعا: "الحقب الواحد: ثلاثون ألف سنة".
(3) مسند البزار برقم (2249) "كشف الأستار" ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (7029) من طريق زياد بن أبي زيد، عن سليمان بن مسلم به نحوه، وقال الهيثمي في المجمع (10/395): "فيه سليمان بن مسلم الخشاب، وهو ضعيف جدًا".
(4) تفسير الطبري (30/9).
وقوله: { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا } أي: لا يجدون في جَهنَّم بردًا لقلوبهم، ولا شرابا طيبا يتغذون به. ولهذا قال: { إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا } قال أبو العالية: استثنى من البرد الحميم ومن الشراب الغساق. وكذا قال الربيع بن أنس. فأما الحميم: فهو الحار الذي قد انتهى حره وحُموه. والغَسَّاق: هو ما اجتمع من صديد أهل النار وعرقهم ودموعهم وجروحهم، فهو بارد لا يستطاع من برده، ولا يواجه من نتنه. وقد قدمنا الكلام على الغساق في سورة "ص" (1) بما أغنى عن إعادته، أجارنا الله من ذلك، بمنه وكرمه.
قال ابن جرير: وقيل: المراد بقوله: { لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا } يعني: النوم، كما قال الكندي:
بَرَدت مَرَاشفها عَلَيّ فصدّني ... عنها وَعَنْ قُبُلاتها، البَرْدُ ...
يعني بالبرد: النعاس والنوم (2) هكذا ذكره ولم يَعزُه إلى أحد. وقد رواه ابن أبي حاتم، من طريق السدي، عن مرة الطيب. ونقله عن مجاهد أيضا. وحكاه البغوي عن أبي عُبَيدة، والكسائي أيضا.
وقوله: { جَزَاءً وِفَاقًا } أي: هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة وَفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا. قاله مجاهد، وقتادة، وغير واحد.
ثم قال: { إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا } أي: لم يكونوا يعتقدون أن ثم دارًا يجازون فيها ويحاسبون، { وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا } أي: وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنزلها على رسله، فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة.
وقوله: { كِذَّابًا } أي: تكذيبا، وهو مصدر من غير الفعل. قالوا: وقد سُمع أعرابي يستفتي الفَرّاءَ على المروة: الحلقُ أحبّ إليك أو القِصار؟ وأنشد بعضهم (3) :
لَقَد طالَ ما ثَبَّطتنِي عَن صَحَابَتِي ... وعن حوج قضاؤها مِن شفَائيا ...
وقوله: { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا } أي: وقد عَلِمنا أعمالَ العباد كلهم، وكتبناهم عليهم، وسنجزيهم على ذلك، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
وقوله: { فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } أي: يقال لأهل النار: ذوقوا ما أنتم فيه، فلن نزيدكم إلا عذابًا من جنسهِ، { وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ص :58] .
قال قتادة: عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو قال: لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه: { فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } قال: فهم في مزيد من العذاب أبدا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري، حدثنا خالد بن عبد
__________
(1) انظر تفسير الآية: 57 من سورة "ص".
(2) تفسير الطبري (30/9).
(3) البيت في تفسير الطبري (30/11).
الرحمن، حدثنا جَسر (1) بن فَرقد، عن الحسن قال: سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار. قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: { فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } فقال: "هلك القوم بمعاصيهم الله عَزّ وجل" (2) .
جسرُ (3) بن فَرقد: ضعيف الحديث بالكلية.
__________
(1) في أ: "حدثنا".
(2) ورواه البيهقي في البعث برقم (635) من طريق محمد بن غالب، عن مسلم بن إبراهيم، عن جسر بن فرقد به، فذكره موقوفا، ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (4/145) من طريق جعفر بن جسر بن فرقد، عن أبيه، عن الحسن به، ورواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج الكشاف للزيلعي (4/145) من طريق مهدى بن ميمون، عن الحسن بن دينار، عن الحسن، عن أبي برزة مرفوعًا بنحوه.
(3) في أ: "حسن".
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) }
يقول تعالى مخبرًا عن السعداء وما أعد لهم تعالى من الكرامة والنعيم المقيم، فقال: { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا } قال ابن عباس والضحاك: متنزها. وقال مجاهد، وقتادة: فازوا، فنجوا من النار. الأظهر هاهنا قولُ بن عباس؛ لأنه قال بعده: { حَدَائِقَ } وهي البساتين من النخيل وغيرها { وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا } أي: وحورًا كواعب. قال ابن عباس ومجاهد، وغير واحد: { كواعب } أي: نواهد، يعنون أن ثُدُيَّهن نواهد لم يتدلين لأنهن أبكار عُرُب أتراب، أي: في سن واحدة، كما تقدم بيانه في سورة "الواقعة".
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن الدّشتكيّ، حدثني أبي، عن أبي سفيان عبد الرحمن بن عبد رب بن تيم اليشكرى، حدثنا عطية بن سليمان أبو الغيث، عن أبي عبد الرحمن القاسم بن أبي القاسم الدمشقي، عن أبي أمامة: أنه سمعه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن قُمُص أهل الجنة لتبدو من رضوان الله، وإن السحابة لتمر بهم فتناديهم: يا أهل الجنة، ماذا تريدون أن أمطركم؟ حتى إنها لتمطرهم الكواعب الأتراب" (1)
وقوله: { وَكَأْسًا دِهَاقًا } قال ابن عباس: مملوءة متتابعة. وقال عكرمة: صافية. وقال مجاهد، والحسن وقتادة، وابن زيد: { دهاقا } الملأى المترعة. وقال مجاهد (2) وسعيد بن جبير: هي المتتابعة.
وقوله: { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا } كقوله: { لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ } [الطور : 23] أي: ليس فيها كلام لاغٍ عَارٍ عن الفائدة، ولا إثم كذب، بل هي دار السلام، وكل ما فيها سالم من النقص.
__________
(1) ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (1/195) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد، عن أبي سفيان - عبد الرحمن بن عبد رب بن تيم اليشكرى به.
(2) في م: "وقال قتادة".
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
وقوله: { جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا } أي: هذا الذي ذكرناه جازاهم الله به وأعطاهموه، بفضله ومَنِّه وإحسانه ورحمته؛ { عَطَاءً حِسَابًا } أي: كافيًا وافرًا شاملا كثيرًا؛ تقول العرب: "أعطاني فأحسبني" أي: كفاني. ومنه "حسبي الله" ، أي: الله كافيّ.
{ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40) }
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله، وأنه رب السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، وأنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء.
وقوله: { لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا } أي: لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه، كقوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [البقرة : 255] ، وكقوله: { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ } [هود : 105]
وقوله: { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ } اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا، ما هو؟ على أقوال:
أحدها: رواه العوفي، عن ابن عباس: أنهم أرواح بني آدم.
الثاني: هم بنو آدم. قاله الحسن، وقتادة، وقال قتادة: هذا (1) مما كان ابن عباس يكتمه.
الثالث: أنهم خَلق من خلق الله، على صُور بني آدم، وليسوا بملائكة ولا ببشر، وهم يأكلون ويشربون. قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو صالح والأعمش.
الرابع: هو جبريل. قاله الشعبي، وسعيد بن جبير، والضحاك. ويستشهد لهذا القول بقوله: { نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [الشعراء : 193 ، 194] وقال مقاتل بن حيان: الروح: أشرف الملائكة، وأقرب إلى الرب عز وجل، وصاحب الوحي.
والخامس: أنه القرآن. قاله ابن زيد، كقوله: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } الآية [الشورى : 52].
والسادس: أنه ملك من الملائكة بقدر جميع المخلوقات؛ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: قوله: { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ } قال: هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقًا.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن خلف العسقلاني، حدثنا رَواد (2) بن الجراح، عن أبي
__________
(1) في م: "وهذا".
(2) في أ: "حدثنا داود".
حمزة، عن الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود قال: الروح: في السماء الرابعة هو أعظم من السموات ومن الجبال ومن الملائكة، يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يخلق الله من كل تسبيحة مَلَكًا من الملائكة يجيء يوم القيامة صفًا وحده (1) ، وهذا قول غريب جدًا.
وقد قال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله بن عرْس المصري، حدثنا وهب [الله بن رزق أبو هريرة، حدثنا بشر بن بكر] (2) ، حدثنا الأوزاعي، حدثني عطاء، عن عبد الله بن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لله ملكا لو قيل له: التقم السماوات السبع والأرضين بلقمة واحدة، لفعل، تسبيحه: سبحانك حيث كنت" (3) .
وهذا حديث غريب جدًا، وفي رفعه نظر، وقد يكون موقوفًا على ابن عباس، ويكون مما تلقاه من الإسرائيليات، والله أعلم.
وتَوَقَّفَ ابنُ جرير فلم يقطَع بواحد من هذه الأقوال كلها، والأشبه -والله أعلم-أنهم بنو آدم.
وقوله: { إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } كقوله: { لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ } [هود : 105]. وكما ثبت في الصحيح: "ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل".
وقوله { وَقَالَ صَوَابًا } أي: حقا، ومن الحق: "لا إله إلا الله" ، كما قاله أبو صالح، وعكرمة.
وقوله: { ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ } أي: الكائن لا محالة، { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا } (4) أي: مرجعا وطريقا يهتدي إليه ومنهجا يمر به عليه.
وقوله: { إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا } يعني: يوم القيامة لتأكد وقوعه صار قريبا، لأن كل ما هو آت آت.
{ يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي: يعرض عليه جميع أعماله، خيرها وشرها، قديمها وحديثها، كقوله: { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } [الكهف : 49] ، وكقوله: { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة : 13] .
{ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } أي: يود الكافر يومئذ أنه كان في الدار الدنيا ترابا، ولم يكن خُلِقَ، ولا خرج إلى الوجود. وذلك حين عاين عذاب الله، ونظر إلى أعماله الفاسدة قد سُطَّرت عليه بأيدي الملائكة السَّفَرة الكرام البَرَرة، وقيل: إنما يود ذلك حين يحكم الله بين
__________
(1) تفسير الطبري (30/15).
(2) زيادة من م، أ.
(3) المعجم الكبير (11/95) ، والمعجم الأوسط برقم (66) "مجمع البحرين"، وقال في الأوسط: "لم يروه عن الأوزاعى إلا بشر، تفرد به وهب"، ووهب لم أر من ترجم له.
(4) في م: "سبيلا" وهو خطأ.
الحيوانات التي كانت في الدنيا، فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجور، حتى إنه ليقتص للشاة الجمَّاء من القرناء. فإذا فرغ من الحكم بينها قال لها: كوني ترابا، فتصير ترابا. فعند ذلك يقول الكافر: { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } أي: كنت حيوانا فأرجع إلى التراب. وقد ورد معنى هذا في حديث الصّور المشهور (1) وورد فيه آثار عن أبي هُرَيرة، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما.
[آخر تفسير سورة "عم" (2) ] (3)
__________
(1) حديث الصور تقدم بطوله عند تفسير الآية: 73 من سورة "الأنعام".
(2) في م: "النبأ".
(3) زيادة من م، أ.
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
تفسير سورة النازعات
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) }
قال ابن مسعود وابن عباس، ومسروق، وسعيد بن جبير، وأبو صالح، وأبو الضحى، والسُّدي: { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } الملائكة، يعنون حين تنزع أرواح بني آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعُنف فَتُغرق في نزعها، و[منهم] (1) من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حَلَّته من نشاط، وهو قوله: { وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا } قاله ابن عباس.
وعن ابن عباس: { والنازعات } هي أنفس الكفار، تُنزع ثم تُنشَط، ثم تغرق في النار. رواه ابن أبي حاتم.
وقال مجاهد: { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا } الموت .وقال الحسن، وقتادة: { وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا } هي النجوم.
وقال عَطَاءُ بنُ أبي رَباح في قوله: { والنازعات } و { الناشطات } هي القسيّ في القتال. والصحيح الأول، وعليه الأكثرون.
وأما قوله: { وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا } فقال ابن مسعود: هي الملائكة. ورُوي عن علي، ومجاهد، وسعيد بن جُبَير، وأبي صالح مثلُ ذلك.
وعن مجاهد: { وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا } الموت .وقال قتادة: هي النجوم. وقال عطاء بن أبي رباح: هي السفن.
وقوله: { فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا } رُوي عن علي، ومسروق، ومجاهد، وأبي صالح، والحسن البصري: يعني الملائكة؛ قال الحسن: سبقت إلى الإيمان والتصديق به. وعن مجاهد: الموت. وقال قتادة: هي النجوم وقال عطاء: هي الخيل في سبيل الله .
__________
(1) زيادة من م.
وقوله: { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } قال علي، ومجاهد، وعطاء، وأبو صالح، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي: هي الملائكة-زاد الحسن: تدبر الأمر من السماء إلى الأرض. يعني: بأمر ربها عز وجل. ولم يختلفوا في هذا، ولم يقطع ابن جرير بالمراد في شيء من ذلك، إلا أنه حكى في { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } أنها الملائكة، ولا أثبت ولا نفى .
وقوله: { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ } قال ابن عباس هما النفختان الأولى والثانية. وهكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك، وغير واحد.
وعن مجاهد: أما الأولى-وهي قوله: { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ } -فكقوله جلت عظمته: { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ } [المزمل : 14] ، والثانية-وهي الرادفة-فهي كقوله: { وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } [الحاقة : 14] .
وقد قال الإمام أحمد حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه". فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: "إذًا يكفيك الله ما أهَمَّك من دنياك وآخرتك".
وقد رواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، من حديث سفيان الثوري، بإسناده مثله (1) ولفظ الترمذي وابن أبي حاتم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: " يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه".
وقوله: { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } قال ابن عباس: يعني خائفة. وكذا قال مجاهد، وقتادة.
{ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } أي: أبصار أصحابها. وإنما أضيف إليها؛ للملابسة، أي: ذليلة حقيرة؛ مما عاينت من الأهوال.
وقوله: { يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ } ؟ يعني: مشركي قريش ومن قال بقولهم في إنكار المعاد، يستبعدون وقوعَ البعث بعد المصير إلى الحافرة، وهي القبور، قاله مجاهد. وبعد تمزق أجسادهم وتفتت عظامهم ونخورها؛ ولهذا قالوا: { أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً } ؟ وقرئ: "ناخرة".
وقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: أي بالية. قال ابن عباس: وهو العظم إذا بلي ودَخَلت
الريح فيه. { قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ }
وعن ابن عباس، ومحمد بن كعب، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي مالك، والسدي، وقتادة: الحافرة: الحياة بعد الموت. وقال ابن زيد: الحافرة: النار. وما أكثر أسمائها! هي النار، والجحيم، وسقر، وجهنم، والهاوية، والحافرة، ولظى، والحُطَمة.
وأما قولهم: { تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } فقال محمد بن كعب: قالت قريش: لئن أحيانا الله بعد أن نموت لنخسرن.
__________
(1) المسند (5/136)، وسنن الترمذي برقم (2457)، وتفسير الطبري (30/21).
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15)
قال الله تعالى: { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } أي: فإنما هو أمر من الله لا مثنوية فيه ولا تأكيد، فإذا الناس قيام ينظرون، وهو أن يأمر تعالى إسرافيلَ فينفخ في الصور نفخَة البعث، فإذا الأولون والآخرون قيامٌ بين يَدَي الربّ عز وجل ينظرون، كما قال: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } [الإسراء : 52] وقال تعالى: { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر : 50] وقال تعالى: { وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل : 77] .
قال مجاهد: { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } صيحة واحدة.
وقال إبراهيم التيمي: أشد ما يكون الرب غَضَبًا على خلقه يوم يبعثهم.
وقال الحسن البصري: زجرة من الغضب. وقال أبو مالك، والربيع بن أنس: زجرة واحدة: هي النفخة الآخرة .
وقوله: { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } قال ابن عباس: { بِالسَّاهِرَة } الأرض كلها. وكذا قال سعيد بن جُبَير، وقتادة، وأبو صالح.
وقال عكرمة، والحسن، والضحاك، وابن زيد: { بِالسَّاهِرَة } وجه الأرض.
وقال مجاهد: كانوا بأسفلها فأخرجوا إلى أعلاها. قال: و { بِالسَّاهِرَة } المكان المستوي.
وقال الثوري: { بِالسَّاهِرَة } أرض الشام، وقال عثمان بن أبي العاتكة: { بِالسَّاهِرَة } أرض بيت المقدس. وقال وهب بن مُنَبه: { الساهرة } جبل إلى جانب بيت المقدس. وقال قتادة أيضا: { بِالسَّاهِرَة } جهنم.
وهذه أقوال كلها غريبة، والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا خَزَر بن المبارك الشيخ الصالح، حدثنا بشر بن السري، حدثنا مصعب بن ثابت، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي: { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } قال: أرض بيضاء عفراء خالية كالخُبزَة النَّقِيّ.
وقال الربيع بن أنس: { فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } ويقول الله عز وجل: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم : 48] ، ويقول: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } [طه : 105 ، 106] . وقال: { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } [الكهف : 47] : وبرزت الأرض التي عليها الجبال، وهي لا تعد من هذه الأرض، وهي أرض لم يعمل عليها خطيئة، ولم يَهرَاق عليها دم.
{ هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) }
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
{ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) }
يخبر تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم عن عبده ورسوله موسى، عليه السلام، أنه ابتعثه إلى فرعون، وأيده بالمعجزات، ومع هذا استمر على كفره وطغيانه، حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر. وكذلك عاقبة من خالفك وكذب بما جئت به؛ ولهذا قال في آخر القصة: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى }
فقوله: { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } ؟ أي: هل سمعت بخبره؟ { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ } أي: كلمه نداء، { بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ } أي: المطهر، { طُوًى } وهو اسم الوادي على الصحيح، كما تقدم في سورة طه. فقال له: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } أي: تجبر وتمرد وعتا، { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى } ؟ أي: قل له هل لك أن تجيب إلى طريقة ومسلك تَزكَّى به، أي: تسلم وتطيع . { وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ } أي: أدلك إلى عبادة ربك، { فَتَخْشَى } أي: فيصير قلبك خاضعا له مطيعا خاشيا بعدما كان قاسيا خبيثا بعيدا من الخير. { فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى } يعني: فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قويةً، ودليلا واضحا على صدق ما جاءه به من عند الله، { فَكَذَّبَ وَعَصَى } أي: فكذب بالحق وخالف ما أمره به من الطاعة. وحاصلُه أنه كَفَر قلبُه فلم ينفعل (1) لموسى بباطنه ولا بظاهره، وعلمُهُ بأن ما جاء به أنه حق لا يلزم منه أنه مؤمن به؛ لأن المعرفة علمُ القلب، والإيمان عمله، وهو الانقياد للحق والخضوع له.
وقوله: { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى } أي: في مقابلة الحق بالباطل، وهو جَمعُهُ السحرة ليقابلوا ما جاء به موسى، عليه السلام، من المعجزة الباهرة، { فَحَشَرَ فَنَادَى } أي: في قومه، { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى }
قال ابن عباس ومجاهد: وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله: { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص : 38] بأربعين سنة.
قال الله تعالى: { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى } أي: انتقم الله منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في الدنيا، { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } [هود : 99] ، كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ } [القصص : 41] . هذا هو الصحيح في معنى الآية، أن المراد بقوله: { نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى } أي: الدنيا والآخرة، وقيل: المراد بذلك كلمتاه الأولى والثانية. وقيل: كفره وعصيانه. والصحيح الذي لا شك فيه الأول.
وقوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } أي: لمن يتعظ وينزجر.
__________
(1) في أ: "فلم يفعل".
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
{ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ (33) }
يقول تعالى محتجًا على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه: { أَأَنْتُمْ } أيها الناس { أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ } ؟ يعني: بل السماءُ أشدّ خلقًا منكم، كما قال تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [غافر : 57] ، وقال: { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (1) } [يس : 81] ، فقوله: { بَنَاهَا } فسره بقوله: { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } أي: جعلها عالية البناء، بعيدة الفناء، مستوية الأرجاء، مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء.
وقوله: { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أي: جعل ليلها مظلمًا أسود حالكا، ونهارها مضيئا مشرقا نيرا واضحا.
قال ابن عباس: أغطش ليلها: أظلمه. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وجماعة كثيرون.
{ وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أي: أنار نهارها.
وقوله: { وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } فسره بقوله: { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } وقد تقدم في سورة "حم السجدة" (2) أن الأرض خلقت قبل السماء، ولكن إنما دُحيت بعد خلق السماء، بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل. وهذا معنى قول ابن عباس، وغير واحد، واختاره ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي، حدثنا عبيد الله-يعني ابن عمرو-عن زيد بن أبي أنيسة، عن المِنْهال بن عَمْرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { دَحَاهَا } وَدَحْيها أن أخرج منها الماء والمرعى، وشقق [فيها] (3) الأنهار، وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام، فذلك قوله: { وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } وقد تقدم تقرير ذلك هنالك.
وقوله: { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } أي: قررها وأثبتها وأكَّدها في أماكنها، وهو الحكيم العليم، الرءوف بخلقه الرحيم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام بن حَوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله الأرض جعلت تَمِيد، فخلق الجبال فألقاها عليها، فاستقرت فتعجبت الملائكةُ من خلق الجبال فقالت: يا رب، فهل من
__________
(1) في م، أ: "بلى إنه على كل شيء قدير" وهو خطأ.
(2) عند تفسير الآية: 9.
(3) زيادة من أ.
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال نعم، الحديد. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم ، الماء. قالت: يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح. قالت: يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم، يتصدق بيمينه يخفيها من (1) شماله" (2) .
وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابنُ حميد، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن السّلميّ، عن علي قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: تخلق عَلَيّ آدم وذريته، يلقون علي نتنهم ويعملون عَلَيّ بالخطايا، فأرساها الله بالجبال، فمنها ما ترون، ومنها ما لا ترون، وكان أول قَرَار الأرض كلحم الجزور إذا نحِر، يختلج لحمه. غريب (3) .
وقوله { مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ } أي: دحا الأرض فأنبع عيونها، وأظهر مكنونها، وأجرى أنهارها، وأنبت زروعها وأشجارها وثمارها، وثبت جبالها، لتستقر بأهلها ويقر قرارها، كل ذلك متاعا لخلقه ولما يحتاجون إليه من الأنعام التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذه الدار إلى أن ينتهي الأمد، وينقضي الأجل.
{ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) }
يقول تعالى: { فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى } وهو يوم القيامة. قاله ابن عباس، سميت بذلك لأنها تَطُم على كل أمر هائل مفظع، كما قال تعالى: { وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } [القمر : 46] .
{ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى } أي: حينئذ يتذكرُ ابنُ آدم جميع عمله خيره وشره، كما قال: { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [الفجر : 23] .
{ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى } أي: أظهرت للناظرين فرآها الناس عيانا، { فَأَمَّا مَنْ طَغَى } أي: تَمَرّد وعتا، { وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي: قدمها على أمر دينه وأخراه، { فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى } أي: فإن مصيرَه إلى الجحيم وإن مطعمه من الزقوم، ومشربه من الحميم . { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى }
__________
(1) في أ: "عن".
(2) المسند (3/124)، ورواه الترمذي في السنن برقم (3369) عن محمد بن بشار، عن يزيد بن هارون به، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه".
(3) تفسير الطبري (30/30).
أي: خاف القيام بين يدي الله عز وجل، وخاف حُكْمَ الله فيه، ونهى نفسه عن هواها، ورَدها إلى طاعة مولاها { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } أي: منقلبه ومصيره ومرجعه إلى الجنة الفيحاء.
ثم قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } أي: ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق، بل مَردها ومَرجعها إلى الله عز وجل، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين، { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ } [الأعراف : 187] ، وقال هاهنا: { إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } ولهذا (1) لما سأل جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" . (2) .
وقوله { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } أي: إنما بعثتك لتنذر الناس وتحذرهم من بأس الله وعذابه (3) ، فمن خشي الله وخاف مقامه (4) ووعيده، اتبعك فأفلح وأنجح، والخيبة والخسار على من كذبك وخالفك.
وقوله: { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } أي: إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مُدّة الحياة الدنيا، حتى كأنها عندهم كانت عشية من يوم أو ضُحى من يوم.
قال جُويْبر، عن الضحاك، عن ابن عباس: { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } أما عَشِيَّة: فما بين الظهر إلى غروب الشمس، { أَوْ ضُحَاهَا } ما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار.
وقال قتادة: وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة .
[آخر تفسير سورة "النازعات"] (5) [ولله الحمد والمنة] (6)
__________
(1) في م:"وهذا".
(2) هذا جزء من حديث جبريل الطويل وهو في صحيح مسلم برقم (8).
(3) في م: "وعقابه".
(4) في م: "وخاف عقابه"
(5) زيادة من م، أ.
(6) زيادة من م.
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
تفسير سورة عبس
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) }
ذكر غيرُ واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطبُ بعض عظماء قريش، وقد طَمع في إسلامه، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابنُ أم مكتوم-وكان ممن أسلم قديما-فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ويلح عليه، وودَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل؛ طمعا ورغبة في هدايته. وعَبَس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه، وأقبل على الآخر، فأنزل الله عز وجل: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) ؟ أي: يحصل له زكاة وطهارة في نفسه. (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) أي: يحصل له اتعاظ وانزجار عن المحارم ، (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) أي: أما الغني فأنت تتعرض له لعله يهتدي، (وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى ) ؟ أي: ما أنت بمطالب به إذا لم يحصل له زكاة. (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى ) أي: يقصدك ويؤمك ليهتدى بما تقول له، (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) أي: تتشاغل. ومن هاهنا أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يخص بالإنذار أحدًا، بل يساوى فيه بين الشريف والضعيف، والفقير والغني، والسادة والعبيد، والرجال والنساء، والصغار والكبار. ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
قال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا محمد-هو ابن مهدي-حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة [عن أنس] (1) في قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلم أبي بن خلف، فأعرض عنه، فأنزل الله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى ) فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه.
قال قتادة: وأخبرني أنس بن مالك قال: رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء-
__________
(1) تنبيه: ما بين المعقوفين ليس في أصل مسند أبي يعلى وتفسير عبد الرزاق. وهل من النسخ، وأظنه مقحما. والله أعلم.
يعني ابن أم مكتوم (1) .
وقال أبو يعلى وابن جرير: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثني أبي، عن هشام بن عروة مما عرضه عليه عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: أنزلت: (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: أرشدني. قالت: وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين. قالت: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُعرض عنه ويقبل على الآخر، ويقول: "أترى بما أقول بأسا؟". فيقول: لا. ففي هذا أنزلت: (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) (2) .
وقد روى الترمذي هذا الحديث، عن سعيد بن يحيى الأموي، بإسناده، مثله، ثم قال: وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أنزلَت (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) في ابن أم مكتوم، ولم يذكر فيه عن عائشة (3) .
قلت: كذلك هو في الموطأ (4) .
ثم روى ابن جرير وابن أبي حاتم أيضا من طريق العوفي، عن ابن عباس قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى ) قال: بينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبةَ بن ربيعة، وأبا جهل بنَ هشام، والعباس بن عبد المطلب-وكان يتصدى لهم كثيرا، ويحرص (5) عليهم أن يؤمنوا-فأقبل إليه رجل أعمى-يقال له عبد الله بن أم مكتوم-يمشي وهو يناجيهم، فجعل عبد الله يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن، وقال: يا رسول الله، علمنى مما علمك الله. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبس في وجهه، وتولى وكَرهَ كَلامَه، وأقبل على الآخرين، فلما قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نجواه، وأخذ ينقلب إلى أهله، أمسك الله بعض بصره، ثم خَفَق برأسه، ثم أنزل الله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ) فلما نزل فيه ما نزل، أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حاجتك؟ هل تريد من شيء؟ " وإذا ذهب من عنده قال: "هل لك حاجة في شيء؟ ". وذلك لما أنزل الله تعالى: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى ) (6) .
فيه غرابة ونكارة، وقد تُكُلّم في إسناده.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرّمادي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، حدثنا يونس، عن ابن شهاب قال: قال سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر:
__________
(1) مسند أبي يعلى (5/431)، وتفسير عبد الرزاق (2/282).
(2) مسند أبي يعلى (8/261)، وتفسير الطبري (30/32).
(3) سنن الترمذي برقم (3328).
(4) الموطأ (1/203)
(5) في أ: "ويجعل".
(6) تفسير الطبري (30/32)، ووجه غرابته ما نقله السهيلي في الروض الأنف عن شيخه ابن العربي قال: "قول المفسرين في الذي شغل النبي صلى الله عليه وسلم أنه الوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعباس كله باطل، فإن أمية والوليد كانا بمكة، وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما، ولا حضرا معه وماتا كافرين، أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر، ولم يقصد أمية المدينة قط، ولا حضر عنده مفردا ولا مع آخر" انتهى.
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم". وهو الأعمى الذي أنزل الله فيه: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى ) وكان يؤذن مع بلال. قال سالم: وكان رَجُلا ضريرَ البصر، فلم يك يؤذن حتى يقول له الناس-حين ينظرون إلى بزوغ الفجر-: أذَّن (1) .
وهكذا ذكر عروة بن الزبير، ومجاهد، وأبو مالك، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، وغير واحد من السلف والخلف: أنها نزلت (2) في ابن أم مكتوم. والمشهور أن اسمه عبد الله، ويقال: عمرو. والله أعلم.
وقوله: (كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ) أي: هذه السورة، أو الوصية بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم من (3) شريفهم ووضيعهم.
وقال قتادة والسدي: (كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ) يعني: القرآن، (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ) أي: فمن شاء ذكر الله في جميع أموره. ويحتمل عود الضمير على الوحي؛ لدلالة الكلام عليه.
وقوله: (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) أي: هذه السورة أو العظة، وكلاهما متلازم، بل جميع القرآن (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ) أي: معظمة موقرة (مَرْفُوعَةٍ ) أي: عالية القدر، (مُطَهَّرَةٍ ) أي: من الدنس والزيادة والنقص .
وقوله: (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد: هي الملائكة. وقال وهب بن منبه: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: هم القراء. وقال ابن جريج، عن ابن عباس: السفرة بالنبطية: القراء.
وقال ابن جرير: الصحيح أن السفرة الملائكة، والسفرة يعني بين الله وبين خلقه، ومنه يقال: السفير: الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير، كما قال الشاعر:
ومَا أدَعُ السّفَارَة بَين قَومي ... وَما أمْشي بغش إن مَشَيتُ (4)
وقال البخاري: سَفَرةٌ: الملائكة. سَفرت: أصلحت بينهم. وجعلت الملائكةُ إذا نزلت بوَحْي الله وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم (5) .
وقوله: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) أي: خُلقهم كريم حَسَنٌ شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة. ومن هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد.
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا هشام، عن قتادة، عن زُرَارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران". أخرجه الجماعة من طريق قتادة، به (6) .
{ قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ (32) }
__________
(1) أصل الحديث في صحيح مسلم برقم (1092).
(2) في م: "أنها أنزلت".
(3) في أ: "بين".
(4) تفسير الطبري (30/35).
(5) صحيح البخاري (8/691) "فتح".
(6) المسند (6/48) وصحيح البخاري برقم (4937) وصحيح مسلم برقم (798) وسنن أبي داود برقم (1454) وسنن الترمذي برقم (2904) وسنن النسائي الكبرى برقم (8047) وسنن ابن ماجة برقم (3779).
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
يقول تعالى ذاما لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ) قال الضحاك، عن ابن عباس: (قُتِلَ الإنْسَانُ ) لعن الإنسان. وكذا قال أبو مالك. وهذا لجنس الإنسان المكذب؛ لكثرة تكذيبه بلا مستند، بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلم.
قال ابن جرير (1) (مَا أَكْفَرَهُ ) ما أشد كفره! وقال ابن جرير: ويحتمل أن يكون المراد: أي شيء جعله كافرا؟ أي: ما حمله على التكذيب بالمعاد (2) .
وقال قتادة-وقد حكاه البغوي عن مقاتل والكلبي-: (مَا أَكْفَرَهُ ) ما ألعنه.
ثم بين تعالى له كيف خلقه من الشيء الحقير، وأنه قادر على إعادته كما بدأه، فقال: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) أي: قدر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد. (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) قال العوفي، عن ابن عباس: ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه. وكذا قال عكرمة، والضحاك، وأبو صالح، وقتادة، والسدي، واختاره ابن جرير (3) .
وقال مجاهد: هذه كقوله: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } [الإنسان: 3] أي: بينا (4) له ووضحناه وسهلنا عليه عمله (5) وهكذا قال الحسن، وابن زيد. وهذا هو الأرجح والله أعلم .
وقوله: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) أي: إنه بعد خلقه له (أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) أي: جعله ذا قبر. والعرب تقول: "قبرت الرجل": إذا ولى ذلك منه، وأقبره الله. وعضبت قرن الثور،
وأعضبه الله، وبترت ذنب البعير وأبتره الله. وطردت عني فلانا، وأطرده الله، أي: جعله طريدا قال الأعشى:
لَو أسْنَدَتْ مَيتًا إلى نَحْرها (6) عَاش، وَلم يُنقَل إلى قَابِر (7)
__________
(1) في أ: "ابن جريح"
(2) تفسير الطبري (30/35)، وقد تصرف الحافظ هنا في كلامه
(3) تفسير الطبري (30/36).
(4) في أ: "أي بيناه"
(5) في أ: "عمله".
(6) في م، أ: "إلى صدرها".
(7) البيت في تفسير الطبري (30/36).
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
وقوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) أي: بعثه بعد موته، ومنه يقال: البعث والنشور ، { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } [الروم: 20] ، { وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا } [البقرة: 259].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أصبغُ بنُ الفَرج، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث: أن دراجا أبا السمح أخبره، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأكل الترابُ كلَّ شيء من الإنسان إلا عَجْبُ ذَنَبه (1) قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: "مثل حبة خردل منه ينشئون" (2) .
وهذا الحديث ثابت في الصحيح من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، بدون هذه الزيادة، ولفظه: "كل ابن آدم يَبْلى إلا عَجْبُ الذَّنَب، منه خلق وفيه يُركَّب" (3) .
وقوله: (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) قال ابن جرير: يقول: كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر؛ من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله، (لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) يقول: لم يُؤد ما فُرض عليه من الفرائض لربه عز وجل.
ثم روى-هو وابن أبي حاتم-من طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قوله: (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) قال: لا يقضي أحد أبدا كل ما افتُرض عليه. وحكاه البغوي، عن الحسن البصري، بنحو من هذا. ولم أجد للمتقدمين فيه كَلامًا سوى هذا. والذي يقع لي في معنى ذلك-والله أعلم-أن المعنى: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) أي: بعثه، (كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) [أي] (4) لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة، ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب تعالى (5) له أن سيُوجَدُ منهم، ويخرج إلى الدنيا، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا، فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم.
وقد روى ابنُ أبي حاتم، عن وهب بن مُنَبّه قال : قال عُزَير، عليه السلام: قال الملك الذي جاءني: فإن القبور هي بطنُ الأرض، وإن الأرض هي أم الخلق، فإذا خلق الله ما أراد أن يخلق وتمت هذه القبورُ التي مَدّ الله لها، انقطعت الدنيا ومات من عليها، ولفظت الأرض ما في جوفها، وأخرجت القبورُ ما فيها، وهذا شبيه بما قلنا من معنى الآية، والله -سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقال: (6) (فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ) فيه امتنان، وفيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعدما كانت عَظَاما بالية وترابا متمزقا، (أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ) أي: أنزلناه من السماء على الأرض، (ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا ) أي: أسكناه فيها فدخل في تُخُومها وتَخَلَّل في
__________
(1) في أ: "إلا عجز الذنب".
(2) ورواه الحاكم في المستدرك (4/609) من طريق بحر بن نصر، عن ابن وهب به، وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" قلت: دراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(3) صحيح البخاري برقم (4814)، وصحيح مسلم برقم (2955)
(4) زيادة من م، أ.
(5) في م: "ممن كتب الله".
(6) في أ: "وقوله".
أجزاء الحب المودعَ فيها فنبت وارتفع وظهر على وجه الأرض، (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا ) فالحب: كل ما يذكر من الحبوب، والعنب معروف والقضب هو: الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة. ويقال لها: القَتّ أيضا قال ذلك ابن عباس، وقتادة، والضحاك. والسدي.
وقال الحسن البصري: القضب العلف .
(وَزَيْتُونًا ) وهو معروف، وهو أدْمٌ وعصيره أدم، ويستصبح به، ويدهن به. (وَنَخْلا ) يؤكل بلحا بسرا، ورطبا، وتمرا، ونيئا، ومطبوخا، ويعتصر منه رُبٌّ وخل. (وَحَدَائِقَ غُلْبًا ) أي: بساتين. قال الحسن، وقتادة: (َ غُلْبًا ) نخل غلاظ كرام. وقال ابن عباس، ومجاهد: "الحدائق": كل ما التف واجتمع. وقال ابن عباس أيضا: (غُلْبًا ) (1) الشجر الذي يستظل به. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وَحَدَائِقَ غُلْبًا ) أي: طوال. وقال عكرمة: (غُلْبًا ) أي: غلاظ الأوساط. وفي رواية: غلاظ الرقاب (2) ، ألم تر إلى الرجل إذا كان غليظ الرقبة قيل: والله إنه لأغلب. رواه ابن أبي حاتم، وأنشد ابن جرير للفرزدق :
عَوَى فَأثارَ أغلبَ ضَيْغَمِيًا ... فَويلَ ابن المَراغَة ما استَثَارا (3)
وقوله: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) أما الفاكهة فهو ما يتفكه به من الثمار. قال ابن عباس: الفاكهة: كل ما أكل رطبا. والأبّ ما أنبتت الأرض، مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس-وفي رواية عنه: هو الحشيش للبهائم. وقال مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو مالك: الأب: الكلأ . وعن مجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد: الأب للبهائم كالفاكهة لبني آدم. وعن عطاء: كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أبٌّ. وقال الضحاك: كل شيء أنبتته الأرض سوى الفاكهة فهو أبٌّ .
وقال ابن إدريس، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عباس: الأب: نبت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس. ورواه ابن جرير من ثلاث طرق، عن ابن إدريس، ثم قال: حدثنا أبو كُرَيْب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، حدثنا عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: عدّ ابن عباس وقال: الأب: ما أنبتت الأرض للأنعام. هذا لفظ أبي كريب، وقال أبو السائب: ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس وتأكل الأنعام.
وقال العوفي، عن ابن عباس: الأب: الكلأ والمرعى. وكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد، وغير واحد.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا العوام بن حَوشَب، عن إبراهيم التَّيمي قال: سُئِلَ أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، عن قوله تعالى: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إن قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم (4) .
__________
(1) في م: "الغلب".
(2) في م: "الأرقاب".
(3) تفسير الطبري (30/37)
(4) فضائل القرآن لأبي عبيد (ص 227)، وسبق الكلام عليه في مقدمة التفسير.
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
وهذا منقطع بين إبراهيم التيمي والصديق. فأما ما رواه ابن جرير حيث قال: حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا حُمَيد، عن أنس قال: قرأ عمر بن الخطاب (عَبَسَ وَتَوَلَّى ) فلما أتي على هذه الآية: (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) قال: عرفنا ما الفاكهة، فما الأب؟ فقال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف (1) .
فهو إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن أنس، به. وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه، وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض، لقوله: (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا )
وقوله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ ) أي: عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة.
{ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) }
قال ابن عباس : (الصَّاخَّةُ ) اسم من أسماء يوم القيامة، عظمه الله، وحَذّره عباده. قال ابن جرير: لعله اسم للنفخة في الصور. وقال البَغَويّ: (الصَّاخَّةُ ) يعني صيحة القيامة؛ سميت بذلك لأنها تَصُخّ الأسماع، أي: تبالغ في إسماعها حتى تكاد تُصمّها (2) .
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) أي: يراهم، ويفر منهم، ويبتعد عنهم؛ لأن الهول عظيم، والخطب جليل.
قال عكرمة: يلقى الرجل زوجته فيقول لها: يا هذه، أيّ بعل كنتُ لك؟ فتقول: نعم البعل كنتَ! وتثنى بخير ما استطاعت، فيقول لها: فإني أطلبُ إليك اليومَ حسنًة واحدًة تهبينها (3) لي لعلي أنجو مما ترين. فتقول له : ما أيسر ما طلبتَ، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مثل الذي تخاف. قال: وإن الرجل ليلقي ابنه فيتعلق به فيقول: يا بني، أيّ والد كنتُ لك؟ فيثني بخير. فيقولُ له: يا بني، إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى. فيقول ولده: يا أبت، ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا. يقول الله تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ )
وفي الحديث الصحيح-في أمر الشفاعة-: أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق، يقول: نفسي نفسي، لا أسأله اليومَ إلا نفسي، حتى إن عيسى ابن مريم يقول:
__________
(1) تفسير الطبري (30/38)، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (7/180) من طريق يزيد به، وتقدم الكلام عليه في مقدمة التفسير.
(2) في أ: "تصخها".
(3) في أ: "تهبيها".
لا أسأله اليوم إلا نفسي، لا أسأله مريم التي ولدتني. ولهذا قال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ) (1) .
قال قتادة: الأحب فالأحبَ، والأقرب فالأقربَ، من هول ذلك اليوم.
وقوله: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) أي: هو في شُغُل شاغل عن غيره.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحارث، حدثنا الوليد بن صالح، حدثنا ثابت أبو زيد العباداني، عن هلال بن خَبَّاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تحشرون حفاة عراة مشاة غُرلا " قال: فقالت زوجته: يا رسول الله، أوَ يرى (2) بعضنا عورة بعض؟ قال: " (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) أو قال: "ما أشغله عن النظر".
وقد رواه النسائي منفردا به، عن أبي داود، عن عارم، عن ثابت بن يزيد-وهو أبو زيد الأحول البصري، أحد الثقات-عن هلال بن خَبَّاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، به (3) وقد رواه الترمذي عن عبد بن حُمَيد، عن محمد بن الفضل، عن ثابت بن يزيد، عن هلال ابن خَبَّاب، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تُحشَرون حُفاة عُرَاة غُرْلا". فقالت امرأة: أيبصر-أو: يرى-بعضنا عورة بعض؟ قال: "يا فلانة، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (4) . ثم قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح، وقد روى من غير وجه عن ابن عباس، رضي الله عنه (5) .
وقال النسائي: أخبرني عمرو بن عثمان، حدثنا بَقِيَّة، حدثنا الزبيدي، أخبرني الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرلا". فقالت عائشة: يا رسول الله، فكيف بالعورات؟ فقال: " (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (6) .
انفرد به النسائي من هذا الوجه.
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أزهر بن حاتم، حدثنا الفضل بن موسى، عن عائد ابن شُرَيح، عن أنس بن مالك قال: سألت عائشة، رضي الله عنها، رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إني سائلتك عن حديث فتخبرني أنتَ به. فقال: "إن كان عندي منه علم". قالت: يا نبي الله، كيف يُحشر الرجال؟ قال: "حفاة عراة". ثم انتظَرتْ ساعة فقالت: يا نبي الله، كيف يحشر النساء؟ قال: "كذلك حفاة عراة". قالت: واسوأتاه من يوم القيامة! قال: "وعن أي ذلك تسألين؟ إنه قد نزل علي آية لا يضرك كان عليك ثياب أو لا يكون".
__________
(1) أحاديث الشفاعة سبقت عند تفسير أول سورة الإسراء.
(2) في م: "يا رسول الله، ننظر أو يرى".
(3) سنن النسائي الكبري برقم (11647).
(4) سنن الترمذي برقم (3332).
(5) في أ: "رضي الله تعالى عنهما".
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (11648).
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
.
قالت: أيةُ آية هي يا نبي الله؟ قال: " (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (1) .
وقال البغوي في تفسيره: أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشّريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرني الحسين بن عبد الله، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن، حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا ابن أبي أويس، حدثنا أبي، عن محمد بن أبي عياش، عن عطاء بن يسار، عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يبعث الناس حفاة عراة غُرلا قد ألجمهم العرق، وبلغ شحوم الآذان". فقلت: يا رسول الله، واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال: "قد شُغل الناس، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (2) .
هذا حديث غريب من هذا الوجه جدا، وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عمار الحسين بن حريث المروزي، عن الفضل بن موسى، به (3) . ولكن قال أبو حاتم الرازي: عائذ بن شريح ضعيف، في حديثه ضعف (4) .
وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) أي: يكون الناس هنالك فريقين: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ) أي: مستنيرة، (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) أي: مسرورة فرحة من سرور قلوبهم، قد ظهر البشر على وجوههم، وهؤلاء أهل الجنة.
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) أي: يعلوها ويغشاها (5) قترة، أي: سواد.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سهل بن عثمان العسكري، حدثنا أبو علي محمد مولى جعفر بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يلجم الكافرَ العرقُ ثم تقع الغُبْرة على وجوههم". قال: فهو قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ) (6) .
وقال ابن عباس: (تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ) أي: يغشاها سواد الوجوه.
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) أي: الكفرة قلوبهم، الفجرة في أعمالهم، كما قال تعالى: { وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا } [نوح: 27].
آخر تفسير سورة "عبس" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) ورواه الطبري في تفسيره (30/39)، عن الحسين بن حريث عن الفضل بن موسى به.
(2) معالم التنزيل للبغوي (8/340)، ورواه الحاكم في المستدرك (2/514) من طريق إسماعيل بن إسحاق، عن إسماعيل بن أبي أويس به نحوه. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ".
(3) تفسير الطبري (30/39)
(4) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/16).
(5) في م: "تعلوها وتغشاها".
(6) ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/424)، وله شاهد من حديث ابن مسعود: رواه ابن حبان في صحيحه برقم (2582) "موارد" من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود مرفوعا: "إن الكافر ليلجمه العرق يوم القيامة فيقول: أرحنى ولو إلى النار".
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
تفسير سورة التكوير
وهي مكية.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا عبد الله بن بحير القاص: أن عبد الرحمن بن يزيد الصنعاني أخبره: أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سَرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأيُ عين فليقرأ: " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ " ، و " وإذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ " ، و " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " .
وهكذا رواه الترمذي، عن العباس بن عبد العظيم العنبري، عن عبد الرزاق، به (1) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } يعني: أظلمت. وقال العوفي، عنه: ذهبت، وقال مجاهد: اضمحَلّت وذَهَبت. وكذا قال الضحاك.
وقال قتادة: ذهب ضوءها. وقال سعيد بن جبير: { كُوِّرَتْ } غُوّرت.
وقال الربيع بن خُثَيم: { كُوِّرَتْ } يعني: رمى بها.
وقال أبو صالح: { كُوِّرَتْ } ألقيت. وعنه أيضا: نكست. وقال زيد بن أسلم: تقع في الأرض.
قال ابن جرير: والصواب من القول عندنا في ذلك أن التكوير جَمعُ الشيء بعضه إلى (2) بعض، ومنه تكوير العمامة [وهو لفها على الرأس، وكتكوير الكاره، وهي] (3) جمع الثياب بعضها إلى (4) بعض، فمعنى قوله: { كُوَّرَتْ } جمع بعضها إلى بعض، ثم لفت فرمى بها، وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوءها (5) .
__________
(1) المسند (2/27)، وسنن الترمذي برقم (3333)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب".
(2) في م: "على".
(3) زيادة من تفسير الطبري.
(4) في م: "على".
(5) تفسير الطبري (30/41).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن شيخ من بَجِيلة، عن ابن عباس: { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } قال: يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر، ويبعث الله ريحا دبورًا فتضرمها نارا. وكذا قال عامر الشعبي. ثم قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن ابن يزيد بن أبي مريم، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قول الله: { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } قال: "كورت في جهنم" (1) .
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا موسى بن محمد بن حَيَّان، حدثنا دُرُسْتُ بن زياد، حدثنا يزيد الرقاشي، حدثنا أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشمس والقمر ثوران (2) عقيران في النار" (3) .
هذا حديث ضعيف؛ لأن يزيد الرقاشي ضعيف، والذي رواه البخاري في الصحيح بدون هذه الزيادة، ثم قال البخاري:
حدثنا مُسَدَّد، حدثنا عبد العزيز بن المختار، حدثنا عبد الله الداناجُ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الشمس والقمر يكوران يوم القيامة" (4) .
انفرد به البخاري وهذا لفظه، وإنما أخرجه في كتاب "بدء الخلق"، وكان جديرًا أن يذكره هاهنا أو يكرره، كما هي عادته في أمثاله! وقد رواه البزار فَجَوّد إيراده فقال:
حدثنا إبراهيم بن زياد البغدادي، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد الله الداناج قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن خالد بن عبد الله القسري في هذا المسجد-مسجد الكوفة، وجاء الحسن فجلس إليه فَحدّث قال: حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس والقمر نوران في النار يوم القيامة". فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أحسبه قال: وما ذنبهما.
ثم قال: لا يروى عن أبي هُرَيرة إلا من هذا الوجه، ولم يرو عبد الله الداناج عن أبي سلمة سوى هذا الحديث.
وقوله: { وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ } أي: انتثرت، كما قال تعالى: { وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ } [الانفطار: 2]، وأصل الانكدار: الانصباب.
قال الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: ست آيات قبل يوم القيامة، بينا الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ
__________
(1) ورواه الديلمي في مسنده، كما في الدر المنثور للسيوطي (8/426).
(2) في م، أ، هـ: "نوران"، والصواب بالثاء.
(3) مسند أبي يعلى (7/148)، ورواه ابن حبان في المجروحين (1/293) من طريق درست بن زياد به، وقال في درست بن زياد: "كان منكر الحديث جدا، لا يحل الاحتجاج بخبره. وروى عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك، فذكر هذا الحديث".
(4) صحيح البخاري برقم (3200).
وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واختلطت، ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن، واختلطت الدواب والطير والوحوش، فماجوا بعضهم في بعض: { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } قال: اختلطت، { وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ } قال: أهملها أهلها، { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } قال: قالت الجن: نحن نأتيكم بالخبر. قال: فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج، قال: فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى وإلى السماء السابعة العليا، قال فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم.
رواه ابن جرير (1) -وهذا لفظه-وابن أبي حاتم، ببعضه، وهكذا قال مجاهد والربيع بن خُثَيم (2) ، والحسن البصري، وأبو صالح، وحماد بن أبي سليمان، والضحاك في قوله: { وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ } ي: تناثرت.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ } أي: تغيرت. وقال يزيد بن أبي مريم عن النبي صلى الله عليه وسلم: { وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ } قال: "انكدرت في جهنم، وكل من عبد من دون الله فهو في جهنم، إلا ما كان من عيسى وأمه، ولو رضيا أن يُعبَدا لدخلاها". رواه ابن أبي حاتم بالإسناد المتقدم.
وقوله: { وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ } أي: زالت عن أماكنها ونُسِفت، فتركت الأرض قاعا صفصفا.
وقوله: { وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ } قال عكرمة، ومجاهد: عشار الإبل. قال مجاهد: { عُطِّلَت } تركت وسُيّبت.
وقال أبي بن كعب، والضحاك: أهملها أهلها: وقال الربيع بن خُثَيم (3) لم تحلب ولم تُصَرّ، تخلى منها أربابها.
وقال الضحاك: تركت لا راعي لها.
والمعنى في هذا كله متقارب. والمقصود أن العشار من الإبل-وهي: خيارها والحوامل منها التي قد وَصَلت في حملها إلى الشهر العاشر-واحدها (4) عُشَراء، ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع-قد اشتغل الناس عنها وعن كفالتها والانتفاع بها، بعد ما كانوا أرغب شيء فيها، بما دَهَمهم من الأمر العظيم المُفظع الهائل، وهو أمر القيامة وانعقاد أسبابها، ووقوع مقدماتها.
وقيل: بل يكون ذلك يوم القيامة، يراها أصحابها كذلك ولا سبيل لهم إليها. وقد قيل في العشار: إنها السحاب يُعطَّل عن المسير بين السماء والأرض، لخراب الدنيا. و[قد] (5) قيل: إنها الأرض التي تُعشَّر. وقيل: إنها الديار التي كانت تسكن تُعَطَّل لذهاب أهلها. حكى هذه الأقوال كلها الإمام أبو عبد الله القرطبي في كتابه "التذكرة"، ورجح أنها الإبل، وعزاه إلى أكثر الناس (6) .
__________
(1) تفسير الطبري (30/41).
(2) في أ: "خيثم".
(3) في أ: "خيثم".
(4) في م: "واحدتها".
(5) زيادة من م.
(6) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 212،213).
قلت: بل لا يعرف عن السلف والأئمة سواه، والله أعلم.
وقوله: { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } أي: جمعت. كما قال تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام: 38]. قال ابن عباس: يحشر كل شيء حتى الذباب. رواه ابن أبي حاتم. وكذا قال الربيع بن خُثَيم (1) والسّديّ، وغير واحد. وكذا قال قتادة في تفسير هذه الآية: إن هذه الخلائق [موافية] (2) فيقضي الله فيها ما يشاء.
وقال عكرمة: حشرها: موتها.
وقال ابن جرير: حدثني علي بن مسلم الطوسي، حدثنا عباد بن العوام، أخبرنا حُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } قال: حَشرُ البهائم: موتها، وحشر كل شيء الموت غيره (3) الجن والإنس، فإنهما يوقفان يوم القيامة.
حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خُثَيم (4) : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } قال: أتى عليها أمر الله. قال سفيان: قال أبي: فذكرته لعكرمة، فقال: قال ابن عباس: حشرها: موتها.
وقد تقدم عن أبيّّ بن كعب أنه قال: { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } اختلطت.
قال ابن جرير: والأولى قَولُ من قال: { حُشِرَت } جُمعت، قال الله تعالى: { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً } [ص: 19]، أي: مجموعة.
وقوله: { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } قال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا ابن عُلَية، عن داود، عن سعيد بن المسيب قال: قال علي، رضي الله عنه، لرجل من اليهود: أين جهنم؟ قال: البحر. فقال: ما أراه إلا صادقا. { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } [الطور: 6]، { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } [مخففة] (5) (6) .
وقال ابن عباس وغير واحد: يرسل الله عليها الدّبور فتسعرها، وتصير نارًا تأجج، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله: { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ }
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا أبو طاهر، حدثني عبد الجبار بن سليمان أبو سليمان النفاط-شيخٌ صَالِح يُشبهُ مالكَ بن أنس-عن معاوية بن سعيد قال: إن هذا البحر بركة-يعني بحر الرُّوم-وسط الأرض، والأنهار كلها تصب فيه، والبحر الكبير يصب فيه، وأسفله آبار مطبقة بالنحاس، فإذا كان يوم القيامة أسجر.
__________
(1) في أ: "خيثم".
(2) زيادة من م، أ.
(3) في م: "غير".
(4) في أ: "خيثم".
(5) زيادة من تفسير الطبري.
(6) تفسير الطبري (30/43).
وهذا أثر غريب عجيب. وفي سنن أبي داود: "لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز، فإن تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا" الحديث، وقد تقدم الكلام عليه في سورة "فاطر" (1) .
وقال مجاهد، والحسن بن مسلم: { سُجِّرَت } أوقدت. وقال الحسن: يبست. وقال الضحاك، وقتادة: غاض ماؤها فذهب ولم يبق فيها قطرة. وقال الضحاك أيضا: { سُجِّرَتْ } فجرت. وقال السدي: فتحت وسيرت. وقال الربيع بن خُثَيم (2) { سُجِّرَتْ } فاضت.
وقوله: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } أي: جمع كل شكل إلى نظيره، كقوله: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الصباح البزار، حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن سمَاك، عن النعمان بن بشير أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال: الضرباء، كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله"، وذلك بأن الله عز وجل يقول: { وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } [الواقعة: 7 -10]، قال: هم الضرباء (3) .
ثم رواه ابن أبي حاتم من طرق أخر، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير أن عُمَر خطب الناس فقرأ: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } فقال: تَزَوّجها: أن تؤلف (4) كل شيعة إلى شيعتهم. وفي رواية: هما الرجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنة أو النار (5) .
وفي رواية عن النعمان قال: سئل عمر عن قوله تعالى: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } فقال: يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار، فذلك تزويج الأنفس.
وفي رواية عن النعمان أن عمر قال للناس: ما تقولون في تفسير هذه الآية: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } ؟ فسكتوا. قال: ولكن هو الرجل يزوج نظيره من أهل الجنة، والرجل يزوج نظيره من أهل النار، ثم قرأ: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ }
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال: ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة.
وقال ابن أبي نَجيح، عن مجاهد: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال: الأمثال من الناس جمع
__________
(1) لم يتقدم الكلام على الحديث في سورة "فاطر"، وهو في سنن أبي داود برقم (2489) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(2) في أ: "خيثم".
(3) ورواه ابن مردويه في تفسيره، كما في الدر المنثور (8/429).
(4) في أ: "أن يؤلف الله".
(5) ورواه أبو بكر بن حمدان كما في مسند عمر (2/620) للمؤلف من طريق خلف بن الوليد، عن إسرائيل عن سماك بنحوه، ورواه عبد الرزاق في تفسيره (2/284،285)، عن الثوري، عن سماك، عن النعمان، وعن إسرائيل، عن سماك، عن النعمان، ورواه الحاكم في المستدرك (2/515) من طريق سفيان عن سماك، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه
بينهم. وكذا قال الربيع بن خُثَيم (1) والحسن، وقتادة. واختاره ابن جرير، وهو الصحيح.
قول آخر في قوله: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } قال ابن أبي حاتم:
حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثني أبي، عن أبيه، عن أشعث [بن سوار] (2) ، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يسيل واد من أصل العرش من ماء فيما بين الصيحتين، ومقدار ما بينهما أربعون عاما، فينبت منه كل خلق بلي، من الإنسان أو طير أو دابة، ولو مر عليهم مار قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم على الأرض. قد نبتوا، ثم تُرسَل الأرواح فتزوج الأجساد، فذلك قول الله تعالى (3) : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ }
وكذا قال أبو العالية، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن البصري أيضا في قوله: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } أي: زوجت بالأبدان. وقيل: زوج المؤمنون بالحور العين، وزوج الكافرون بالشياطين. حكاه القرطبي في "التذكرة" (4) .
وقوله: { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } هكذا قراءة الجمهور: { سُئلَت } والموءودة هي التي كان أهل الجاهلية يدسونها في التراب كراهية البنات، فيوم القيامة تسأل الموءودة على أي ذنب قتلت، ليكون ذلك تهديدا لقاتلها، فإذا (5) سئل المظلوم فما ظن الظالم إذا؟!
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } أي: سألت. وكذا قال أبو الضحى: "سألت" أي: طالبت بدمها. وعن السدي، وقتادة، مثله (6) .
وقد وردت أحاديث تتعلق بالموءودة، فقال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، حدثني أبو الأسود-وهو: محمد بن عبد الرحمن بن نوفل-عن عروة، عن عائشة، عن جُدَامة بنت وهب-أخت عكاشة-قالت حضرتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في ناس وهو يقول: " لقد هممت أن أنهى عن الغيلَة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يُغيلُونَ أولادهم، ولا يضر أولادهم ذلك شيئا". ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذلك الوأد الخفي، وهو الموءودة سئلت".
ورواه مسلم من حديث أبي عبد الرحمن المقرئ-وهو عبد الله بن يزيد-عن سعيد بن أبي أيوب (7) ورواه أيضا ابن ماجة، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن إسحاق السيلحيني، عن يحيى بن أيوب (8) ورواه مسلم أيضا وأبو داود والترمذي، والنسائي، من حديث مالك بن
__________
(1) في أ: "خيثم".
(2) زيادة من م.
(3) في م، أ: "قول الله عز وجل".
(4) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 213).
(5) في م: "فإنه إذا".
(6) انظر: تفسير الطبري (30/45)، والبحر المحيط لأبي حيان (8/433).
(7) المسند (6/434)، وصحيح مسلم برقم (1442).
(8) سنن ابن ماجة برقم (2011)
أنس، ثلاثتهم عن أبي الأسود، به (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عَدي، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن سلمة بن يزيد الجُعْفي قال: انطلقتُ أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، إن أمنا مليكة كانت تَصل الرحم وتقري الضيف، وتفعل [وتفعل] (2) هلكت في الجاهلية، فهل ذلك نافعها شيئا؟ قال: "لا". قلنا: فإنها كانت وأدت أختا لنا في الجاهلية، فهل ذلك نافعُها شيئا؟ قال: "الوائدةُ والموءودةُ في النار، إلا أن يدركَ الوائدةَ الإسلامُ، فيعفو الله عنها".
ورواه النسائي، من حديث داود بن أبي هند، به (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا أبو أحمد الزبيري (4) ، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن علقمة وأبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوائدة والموءودة في النار" (5) .
وقال أحمد أيضا: حدثنا إسحاق الأزرق، أخبرنا عوف، حدثتني حسناء (6) ابنة معاوية الصُّرَيمية، عن عمها قال: قلت: يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: "النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والموءودة في الجنة" (7) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا قرة قال: سمعت الحسن يقول: قيل: يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: "الموءودة في الجنة".
هذا حديث مرسل من مراسيل الحسن، ومنهم من قبله.
وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبو عبد الله الظهراني، حدثنا حفص بن عمر العدني، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: أطفال المشركين في الجنة، فمن زعم أنهم في النار فقد كذب، يقول الله عز وجل (8) { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } قال ابن عباس: هي المدفونة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا إسرائيل، عن سمَاك بن حرب، عن النعمان بن بشير، عن عمر بن الخطاب في قوله: { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [بأَيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] } (9) ، قال: جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني وأدت بنات لي في الجاهلية، فقال: "أعتق عن كل واحدة منهن رقبة". قال: يا رسول الله، إني صاحب إبل؟ قال: "فانحر عن كل واحدة منهن بدنة".
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1442)، وسنن أبي داود برقم (3882) وسنن الترمذي برقم (2077) وسنن النسائي (6/106)
(2) زيادة من م، أ والمسند.
(3) المسند (3/478) وسنن النسائي الكبرى برقم (11649).
(4) في أ: "التبريذي".
(5) ورواه أبو داود في السنن برقم (4717) من طريق أبي إسحاق، عن عامر، عن علقمة، عن ابن مسعود به، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/114) من طريق أبي إسحاق، عن الشعبي عن علقمة، عن ابن مسعود، به.
(6) في م، أ: "خنساء".
(7) المسند (5/58).
(8) في م: "الله تعالى".
(9) زيادة من أ.
قال الحافظ أبو بكر البزار: خولف فيه عبد الرزاق، ولم نكتبه إلا عن الحسين بن مهدي، عنه (1) .
وقد رواه ابن أبي حاتم فقال: أخبرنا أبو عبد الله الظهراني (2) -فيما كتب إلي-قال: حدثنا عبد الرزاق فذكره بإسناده مثله، إلا أنه قال: "وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية". وقال في آخره: "فأهد إن شئت عن كل واحدة (3) بدنة". ثم قال:
حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا قيس بن الربيع، عن الأغر بن الصباح، عن خليفة بن حُصَين قال: قدم قيس بن عاصم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني وأدتُ اثنتي عشرة ابنًة لي في الجاهلية-أو: ثلاث عشرة-قال (4) :" أعتق عددهن نَسِما". قال: فأعتق عددهن نسما، فلما كان في العام المقبل جاء بمائة ناقة، فقال: يا رسول الله، هذه صدقة قومي على أثر ما صنعت بالمسلمين. قال علي بن أبي طالب: فكنا نريحها، ونسميها القيسية (5) .
وقوله: { وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ } قال الضحاك: أعطى كل إنسان صحيفته بيمينه أو بشماله. وقال قتادة: [صحيفتك] (6) يا ابن آدم، تُملى فيها، ثم تطوى، ثم تنشر عليك يوم القيامة، فلينظر (7) رجل ماذا يملي في صحيفته.
وقوله: { وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ } قال مجاهد: اجتذبت. وقال السدي: كشفت. وقال الضحاك: تنكشط فتذهب.
وقوله: { وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } قال السدي: أحميت. وقال قتادة: أوقدت. قال: وإنما يسعرها غضب الله وخطايا بني آدم.
وقوله: { وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ } قال الضحاك، وأبو مالك، وقتادة، والربيع بن خُثَيم (8) أي: قربت إلى أهلها.
وقوله: { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ } هذا هو الجواب، أي: إذا وقعت هذه الأمور حينئذ تعلم كل نفس ما عملت وأحضر ذلك لها، كما قال تعالى: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } [آل عمران: 30]. وقال تعالى: { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة: 13].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبدة، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا محمد بن مُطَرّف، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: لما نزلت: { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } قال عمر: لما بلغ { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ } قال: لهذا أجرىَ الحديثُ.
__________
(1) مسند البزار برقم (2280) "كشف الأستار".
(2) في م، أ: "الطبراني".
(3) في م: "واحدة منهن".
(4) في م: "فقال".
(5) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (18/338) من طريق يحيى الحماني، عن قيس بن الربيع به نحوه، والحماني ضعيف لكنه توبع هنا.
(6) زيادة من تفسير الطبري (30/46). مستفادا من هامش ط. الشعب.
(7) في م: "فينظر".
(8) في أ: "خيثم".
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
{ فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِي الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) }
روى مسلم في صحيحه، والنسائي في تفسيره عند هذه الآية، من حديث مِسْعر بن كِدَام، عن الوليد بن سَرِيع، عن عمرو بن حُرَيث قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم الصبح، فسمعته يقرأ: { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } (1) .
ورواه النسائي عن بندار، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن الحجاج بن عاصم، عن أبي الأسود، عن عمرو بن حُرَيث، به نحوه (2) .
قال ابن أبي حاتم وابن جرير، من طريق الثوري، عن أبي إسحاق، عن رجل من مراد، عن علي: { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } قال: هي النجوم تخنس بالنهار، وتظهر بالليل.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، سمعت خالد بن عرعرة، سمعت عليا وسئل عن: { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } فقال: هي النجوم، تخنِس بالنهار وتكنس بالليل (3) .
وحدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن إسرائيل، عن سِماك، عن خالد، عن عليّ قال: هي النجوم.
وهذا إسناد جيد صحيح إلى خالد بن عرعرة، وهو السهمي الكوفي، قال أبو حاتم الرازي: روي عن علي، وروى عنه سماك والقاسم بن عوف الشيباني (4) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا والله أعلم.
وروى يونس، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي: أنها النجوم. رواه ابن أبي حاتم وكذا رُوي عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والسّدي، وغيرهم: أنها النجوم.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا هَوذة بن خليفة، حدثنا عوف، عن بكر بن عبد الله في قوله: { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } قال: هي النجوم الدراريّ، التي تجرى تستقبل المشرق.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (456)، وسنن النسائي الكبرى برقم (11651).
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11650).
(3) تفسير الطبري (30/47).
(4) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/343).
وقال بعض الأئمة: إنما قيل للنجوم: "الخنس"، أي: في حال طلوعها، ثم هي جوار في فلكها، وفي حال غيبوبتها يقال لها: "كُنَّس" من قول العرب: أوى الظبي إلى كنَاسة: إذا تغيب فيه.
وقال الأعمش، عن إبراهيم قال: قال عبد الله: { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } قال: بقر الوحش. وكذا قال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عبد الله: { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } ما هي يا عمرو؟ قلت: البقر. قال: وأنا أرى ذلك.
وكذا روى يونس عن أبي إسحاق، عن أبيه.
وقال أبو داود الطيالسي، عن عمرو، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } قال: البقر [الوحش] (1) تكنس إلى الظل. وكذا قال سعيد بن جبير.
وقال العوفي، عن ابن عباس: هي الظباء. وكذا قال سعيد أيضا، ومجاهد، والضحاك.
وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد: هي الظباء والبقر.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا مغيرة (2) عن إبراهيم ومجاهد: أنهما تذاكرا هذه الآية: { فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } فقال إبراهيم لمجاهد: قل فيها بما سمعت. قال: فقال مجاهد: كنا نسمع فيها شيئا، وناس يقولون: إنها النجوم. قال: فقال إبراهيم: قل فيها بما سمعت. قال: فقال مجاهد: كنا نسمع أنها بقر الوحش حين تكنس في حُجْرتها. قال: فقال إبراهيم: إنهم يكذبون على عليّ، هذا كما رووا عن علي أنه ضمن الأسفل الأعلى، والأعلى الأسفل.
وتوقف ابن جرير في قوله: { الْخُنَّسِ الْجَوَارِي الْكُنَّسِ } هل هو النجوم، أو الظباء وبقر الوحش؟ قال: ويحتمل أن يكون الجميع مرادا.
وقوله: { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } فيه قولان:
أحدهما: إقباله بظلامه. قال مجاهد: أظلم. وقال سعيد بن جبير: إذا نشأ. وقال الحسن البصري: إذا غَشى الناس. وكذا قال عطية العوفي.
وقال علي بن أبي طلحة، والعوفي عن ابن عباس: { إِذَا عَسْعَسَ } إذا أدبر. وكذا قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، وكذا قال زيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن: { إِذَا عَسْعَسَ } أي: إذا ذهب فتولى.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البَخْتَري، سمع أبا عبد الرحمن السلمي قال: خرج علينا علي، رضي الله عنه، حين ثَوّب المثوب بصلاة الصبح فقال: أين السائلون عن الوتر: { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } ؟ هذا حين أدبر حسن.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ: "سفيان".
وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: { إِذَا عَسْعَسَ } إذا أدبر. قال لقوله: { وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } أي: أضاء، واستشهد بقول الشاعر (1) أيضا:
حَتّى إذا الصُّبحُ له تَنَفَّسا ... وانجابَ عَنها لَيلُها وعَسعَسَا ...
أي: أدبر. وعندي أن المراد بقوله: { عَسْعَسَ } إذا أقبل، وإن كان يصح استعماله في الإدبار، لكن الإقبال هاهنا أنسب؛ كأنه أقسم تعالى بالليل (2) وظلامه إذا أقبل، وبالفجر وضيائه إذا أشرق، كما قال: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [الليل: 1، 2]، وقال: { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } [الضحى: 1، 2]، وقال { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا } [الأنعام: 96]، وغير ذلك من الآيات.
وقال كثير من علماء الأصول: إن لفظة "عسعس" تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك، فعلى هذا يصح أن يراد كل منهما، والله أعلم.
قال ابن جرير: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب يزعم أن "عسعس": دنا من أوله وأظلم. وقال الفراء: كان أبو البلاد (3) النحوي يُنشد بيتًا:
عَسعَس حَتَّى لو يشاء ادّنا ... كانَ له من ضَوئه مَقبس ...
يريد: لو يشاء إذ دنا، أدغم الذال في الدال. وقال الفراء: وكانوا يَرَون أن هذا البيت مصنوع (4) .
وقوله: { وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } قال الضحاك: إذا طلع. وقال قتادة: إذا أضاء وأقبل. وقال سعيد بن جبير: إذا نشأ. وهو المروي عن علي، رضي الله عنه.
وقال ابن جرير: يعني: وَضَوءُ النهار إذا أقبل وَتَبَيَّن.
وقوله: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعني: أن هذا القرآن لتبليغُ رسول كريم، أي: ملك شريف حَسَن الخلق، بهي المنظر، وهو جبريل، عليه الصلاة والسلام. قاله ابن عباس، والشعبي، وميمون بن مِهْران، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، وغيرهم.
{ ذِي قُوَّةٍ } كقوله { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ [فَاسْتَوَى] (5) } [النجم: 5، 6]، أي: شديد الخَلْق، شديد البطش والفعل، { عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } أي: له مكانة عند الله عز وجل ومنزلة رفيعة.
قال أبو صالح في قوله: { عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } قال: جبريل يدخل في سبعين حجابا من
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (30/50) منسوبا إلى علقمة بن قرط.
(2) في م: "بالفجر".
(3) في أ: "أبو التلاد".
(4) تفسير الطبري (30/50)
(5) زيادة من أ.
نور بغير إذن، { مُطَاعٍ ثَمَّ } أي: له وجاهة، وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى.
قال قتادة: { مُطَاعٍ ثَمَّ } أي: في السموات، يعني: ليس هو من أفناد الملائكة، بل هو من السادة والأشراف، مُعتَنى به، انتخب لهذه الرسالة العظيمة.
وقوله: { أَمِينٍ } صفة لجبريل بالأمانة، وهذا عظيم جدا أن الرب عز وجل يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ }
قال الشعبي، وميمون بن مهران، وأبو صالح، ومن تقدم ذكرهم: المراد بقوله: { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ } يعني: ولقد رأى محمدٌ جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله عز وجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح { بِالأفُقِ الْمُبِينِ } أي: البين، وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء، وهي المذكورة في قوله: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إَلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [النجم: 5 -10]، كما تقدم تفسيرُ ذلك وتقريره. والدليلُ أن المرادَ بذلك جبريل، عليه السلام. والظاهر-والله أعلم-أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء؛ لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى، وأما الثانية وهي المذكورة في قوله: { وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [النجم: 13 -16]، فتلك إنما ذكرت في سورة "النجم"، وقد نزلت بعد[سورة] (1) الإسراء.
وقوله: { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي: وما محمد على ما أنزله الله إليه بظنين، أي: بمتهم. ومنهم من قرأ ذلك بالضاد، أي: ببخيل، بل يبذله لكل أحد.
قال سفيان بن عُيَينة: ظنين وضنين سواء، أي: ما هو بكاذب، وما هو بفاجر. والظنين: المتهم، والضنين: البخيل.
وقال قتادة: كان القرآن غيبا، فأنزله الله على محمد، فما ضَنّ به على الناس، بل بَلَّغه ونشره وبذله لكل من أراده. وكذا قال عكرمة، وابن زيد، وغير واحد. واختار ابنُ جرير قراءة الضاد (2) .
قلت: وكلاهما متواتر، ومعناه صحيح كما تقدم.
وقوله: { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } أي: وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم، أي: لا يقدر على حمله، ولا يريده، ولا ينبغي له. كما قال: { وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء: 210 -212].
__________
(1) زيادة من م.
(2) تفسير الطبري (30/53).
وقوله: { فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ } ؟ أي: فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن، مع ظهوره ووضوحه، وبيان كونه جاء (1) من عند الله عز وجل، كما قال الصديق، رضي الله عنه، لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين، وأمرهم فتلوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة الذي هو في غاية الهذيان والركاكة، فقال: ويحكم، أين يُذهَب بعقولكم (2) ؟ والله إن هذا الكلام لم يخرج من إلٍّ، أي: من إله.
وقال قتادة: { فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ } أي: عن كتاب الله وعن طاعته .
وقوله: { إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } أي: هذا القرآن ذكر لجميع الناس، يتذكرون به ويتعظون، { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } أي: من أراد الهداية فعليه بهذا القرآن، فإنه منجاةٌ له وهداية، ولا هداية فيما سواه، { وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي: ليست المشيئة موكولة إليكم، فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله عز وجل رب العالمين.
قال سفيان الثوري، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى: لما نزلت هذه الآية: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } قال أبو جهل: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم. فأنزل الله: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (3) } .
آخر تفسير سورة "التكوير" ولله الحمد [والمنة] (4) .
__________
(1) في م "حقا".
(2) في م: "أين تذهب عقولكم".
(3) رواه الطبري في تفسيره (30/53).
(4) زيادة من م .
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
تفسير سورة الانفطار
وهي مكية.
قال النسائي: أخبرنا محمد بن قدامة، حدثنا جرير عن الأعمش، عن محارب بن دثَار، عن جابر قال: قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطوّل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفتان يا معاذ؟! [أفتان يا معاذ؟!] (1) أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى، والضحى، وإذا السماء انفطرت؟!" (2) .
وأصل الحديث مخرج في الصحيحين (3) ولكن ذُكَر " إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ " في (4) أفراد النسائي. وتقدم من رواية عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سَرَّه أن يَنْظُرَ إلى القيامة رأي عين فليقرأ: " إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ " و " إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ " و " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " " (5) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) }
يقول تعالى: { إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ } أي: انشقت. كما قال: { السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِه } [الزمر: 18].
{ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ } أي: تساقطت.
{ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: فجر الله بعضها في بعض. وقال الحسن: فجر الله بعضها في بعض، فذهب ماؤها. وقال قتادة: اختلط مالحها بعذبها. وقال الكلبي: ملئت.
{ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَت } قال ابن عباس: بُحِثَت. وقال السدي: تُبَعثر: تُحرّك فيخرج من فيها .
{ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } أي: إذا كان هذا حَصَل هذا.
وقوله: { يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } ؟ : هذا تهديد، لا كما يتوهمه بعض الناس
__________
(1) زيادة من سنن النسائي.
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11652).
(3) صحيح البخاري برقم (700، 711) وصحيح مسلم برقم (465).
(4) في م، أ: "من".
(5) تقدم تخريج الحديث عند تفسير سورة التكوير، وهو في سنن الترمذي برقم (3333).
من أنه إرشاد إلى الجواب؛ حيث قال: { الْكَرِيمِ } حتى يقول قائلهم: غره كرمه. بل المعنى في هذه الآية: ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم-أي: العظيم-حتى أقدمت على معصيته، وقابلته بما لا يليق؟ كما جاء في الحديث: "يقول الله يوم القيامة: ابن (1) آدم، ما غرك بي؟ ابن آدم، ماذا أجبتَ المرسلين؟".
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان: أن عمر سمع رجلا يقرأ: { يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } فقال عمر: الجهل (2) .
وقال أيضا: حدثنا عمر بن شَبَّة، حدثنا أبو خلف، حدثنا يحيى البكاء، سمعت ابن عمر يقول وقرأ هذه الآية: { يَاأَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } قال ابن عمر: غره-والله-جهله.
قال: ورُوي عن ابن عباس، والربيع بن خُثَيم (3) والحسن، مثل ذلك.
وقال قتادة: { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } شيءٌ، ما غَرّ ابن آدم غير هذا العدو الشيطان.
وقال الفضيل بن عياض: لو قال لي :"ما غرك بي (4) لقلت: سُتُورك المُرخاة.
وقال أبو بكر الوراق: لو قال لي: { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } لقلت: غرني كرم الكريم.
قال البغوي: وقال بعض أهل الإشارة: إنما قال: { بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } دون سائر أسمائه وصفاته، كأنه لقنه الإجابة (5) .
وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس بطائل؛ لأنه إنما أتى باسمه { الْكَرِيم } ؛ لينبه (6) على أنه لا ينبغي أن يُقَابَل الكريم بالأفعال القبيحة، وأعمال السوء.
و [قد] (7) حكى البغوي، عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا نزلت هذه الآية في الأسود بن شَريق، ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقب في الحالة الراهنة، فأنزل الله: { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } ؟ (8) .
وقوله: { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } أي: ما غرك بالرب الكريم { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } أي: جعلك سَويا معتدل القامة منتصبها، في أحسن الهيئات والأشكال.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا حَريزُ، حدثني عبد الرحمن بن مَيسرة، عن جُبير ابن نُفَير، عن بُسْر بن جحَاش القرشي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوما في كفه، فوضع عليها إصبعه، ثم قال: "قال اللَه عز وجل: ابن (9) آدم أنَّى تُعجِزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى
__________
(1) في م: "يا ابن".
(2) ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/439) وعزاه لابن المنذر وسعيد بن منصور أيضا.
(3) في أ: "خيثم".
(4) في أ: "بربك".
(5) معالم التنزيل للبغوي (8/356).
(6) في أ: "للتنبيه".
(7) زيادة من م.
(8) معالم التنزيل للبغوي (8/356).
(9) في م: "يا ابن".
إذا سَوّيتك وعدلتك، مشيت بين بردين وللأرض منك وَئِيدٌ، فجَمَعت ومَنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلتَ: أتصدقُ، وأنَّى أوانُ الصدقة".
وكذا رواه ابن ماجة، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، عن حَريز بن عثمان، به (1) .
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزِّي: وتابعه يحيى بن حمزة، عن ثور بن يزيد، عن عبد الرحمن بن ميسرة (2) .
وقوله: { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } قال مجاهد: في أي شَبَه أب أو أم أو خال أو عم؟
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سنان القزاز، حدثنا مُطَهَّر بن الهيثم، حدثنا موسى بنُ عُلَيِّ بن رَبَاح، حدثني أبي، عن جدي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "ما ولد لك؟" قال: يا رسول الله، ما عسى أن يُولَد لي؟ إما غلام وإما جارية. قال: "فمن يشبه؟". قال: يا رسول الله، من عسى أن يشبه؟ إما أباه وإما أمه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم عندها: "مه. لا تقولَنَّ هكذا، إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله كل نسب بينها وبين آدم؟ أما قرأت هذه الآية في كتاب الله: { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } " قال: سَلَكك (3) .
وهكذا رواه ابن أبي حاتم والطبراني، من حديث مُطهر بن الهيثم، به (4) وهذا الحديث لو صح لكان فيصلا في هذه الآية، ولكن إسناده ليس بالثابت؛ لأن "مُطَهَّر بن الهيثم" قال فيه أبو سعيد بن يونس: كان متروك الحديث. وقال ابن حبان: يُرْوى عن موسى بن علي وغيره ما لا يُشبهُ حَديثَ الأثبات. ولكن في الصحيحين عن أبي هُرَيرة أن رَجُلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي وَلَدت غُلامًا أسودَ؟. قال: "هل لك من إبل؟". قال: نعم. قال: "فما ألوانها؟" قال: حُمر. قال: "فهل فيها من أورَق؟" قال: نعم. قال: "فأنى أتاها ذلك؟" قال: عسى أن يكون نزعة عِرْق. قال: "وهذا عسى أن يكون نزعة عرق" (5) .
وقد قال عكرمة في قوله: { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } إن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة خنزير. وكذا قال أبو صالح: إن شاء في صورة كلب، وإن شاء في صورة حمار، وإن شاء في صورة خنزير.
وقال قتادة: { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } قال: قادر-والله -ربنا على ذلك. ومعنى هذا القول عند هؤلاء: أن الله، عز وجل، قادر على خلق النطفة على شكل قبيح من الحيوانات
__________
(1) المسند (4/210) وسنن ابن ماجة برقم (2707) وقال البوصيري في الزوائد (2/365): "إسناد صحيح رجاله ثقات".
(2) تحفة الأشراف للمزي (2/97).
(3) في م: "شكلك".
(4) المعجم الكبير (5/74).
(5) صحيح البخاري برقم (5305) وصحيح مسلم برقم (1500).
المنكرة الخلق، ولكن بقدرته ولطفه وحلمه يخلقه على شكل حسن مستقيم معتدل تام، حَسَن المنظر والهيئة .
وقوله: { كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ } أي: بل إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي، تكذيب في قلوبكم بالمعاد والجزاء والحساب .
وقوله تعالى: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } يعني: وإن عليكم لملائكةً حَفَظَة كراما فلا تقابلوهم بالقبائح، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطُّنَافِسِيّ، حدثنا وَكيع، حدثنا سفيان ومِسْعَر، عن علقمة بن مَرْثَد، عن مجاهد قال: : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين: الجنابة والغائط. فإذا اغتسل أحدكم فليستتر بحرم حائط أو ببعيره، أو ليستره أخوه".
وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار، فوصله بلفظ آخر، فقال: حدثنا محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن حفص بن سليمان، عن علقمة بن مرثد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم عن التعرِّي، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم، الكرام الكاتبين، الذين لا يُفَارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حالات: الغائط، والجنابة، والغسل. فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه، أو بحرم حائط، أو ببعيره".
ثم قال: حفص بن سليمان لين الحديث، وقد روي عنه، واحتمل حديثه (1) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا زياد بن أيوب، حدثنا مُبَشّر بن إسماعيل الحلبي، حدثنا تمام ابن نَجِيح، عن الحسن-يعني البصري-عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من حافظين يرفعان إلى الله، عز وجل، ما حفظا في يوم، فيرى في أول الصحيفة وفي آخرها استغفار إلا قال الله تعالى: قد غفرت لعبدي ما بين طرفى الصحيفة".
ثم قال :تفرد به تمام بن نجيح، وهو صالح الحديث (2) .
قلت: وثقه ابن معين وضعفه البخاري، وأبو زُرْعة، وابن أبي حاتم والنسائي، وابن عدي. ورماه ابن حبان بالوضع. وقال الإمام أحمد: لا أعرف حقيقة أمره .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إسحاق بن سليمان البغدادي المعروف بالقُلُوسِي (3) حدثنا بيان بن حمران (4) حدثنا سلام، عن منصور بن زاذان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هُرَيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة (5) يعرفون بني آدم-وأحسبه قال: ويعرفون أعمالهم-فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسَمَّوه، وقالوا: أفلح الليلة فلان، نجا الليلة فلان. وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله وذكروه بينهم وسموه، وقالوا :هلك الليلة فلان".
__________
(1) مسند البزار برقم (317) "كشف الأستار".
(2) مسند البزار برقم (3252) "كشف الأستار".
(3) في مسند البزار: "الفلوسي" نسبة إلى الفلوس.
(4) في أ: "عمران".
(5) في م: "إن ملائكة الله".
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
ثم قال البزار: سلام هذا، أحسبه سلام المدائني، وهو لين الحديث (1) .
{ إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) }
يخبر تعالى عما يصير الأبرار إليه من النعيم، وهم الذين أطاعوا الله عز وجل، ولم يقابلوه بالمعاصي.
وقد روى ابن عساكر في ترجمة "موسى بن محمد"، عن هشام بن عمار، عن عيسى بن يونس بن أبي إسحاق، عن عبيد الله، عن محارب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سماهم الله الأبرار لأنهم بَروا الآباء والأبناء" (2) .
ثم ذكر ما يصير إليه الفجار من الجحيم والعذاب المقيم؛ ولهذا قال: { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ } أي: يوم الحساب والجزاء والقيامة، { وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ } أي: لا يغيبون عن العذاب ساعةً واحدة، ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة، ولو يوما واحدا .
وقوله: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ } تعظيم لشأن يوم القيامة، ثم أكده بقوله: { ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ } ثم فسره بقوله: { يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } أي :لا يقدر واحد (3) على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه، إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
ونذكر هاهنا حديث: "يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، لا أملك لكم من الله شيئا". وقد تقدم في آخر تفسير سورة "الشعراء"؛ ولهذا قال: { وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } كقوله { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر: 16]، وكقوله: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } [الفرقان: 26]، وكقوله { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [الفاتحة: 4].
قال قتادة: } يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ والأمر-والله-اليوم لله، ولكنه يومئذ لا ينازعه أحد.
آخر تفسير سورة "الانفطار" ولله الحمد.
__________
(1) مسند البزار برقم (2195) "كشف الأستار".
(2) تاريخ دمشق (17/400 "المخطوط").
(3) في أ: "أحد".
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
تفسير سورة المطففين
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) }
قال النسائي وابن ماجة: أخبرنا محمد بن عقيل -زاد ابن ماجة: وعبد الرحمن بن بشر-قالا حدثنا علي بن الحسين بن واقد، حدثني أبي، عن يزيد-هو ابن أبي سعيد النحوي، مولى قريش-عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } فحسنَّوا الكيلَ بعد ذلك (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن النضر بن حماد، حدثنا محمد بن عبيد، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن عبد الله بن الحارث، عن هلال بن طلق قال: بينا أنا أسير مع ابن عمر فقلت: من أحسن الناس هيئةً وأوفاه كيلا؟ أهل مكة أو المدينة؟ قال: حق لهم، أما سمعت الله يقول: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ }
وقال ابن جرير: حدثنا أبو السائب، حدثنا ابن فضيل، عن ضرار، عن عبد الله المكتب، عن رجل، عن عبد الله قال: قال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، إن أهل المدينة ليوفون الكيل. قال: وما يمنعهم أن يوفوا الكيل وقد قال الله عز وجل: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ } حتى بلغ: { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } (2) .
فالمراد بالتطفيف هاهنا: البَخْس في المكيال والميزان، إما بالازدياد إن اقتضى من الناس، وإما بالنقصان إن قَضَاهم . ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخَسَار والهَلاك وهو الويل، بقوله: { الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ } أي: من الناس { يَسْتَوْفُونَ } أي: يأخذون حقهم بالوافي والزائد، { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } أي: ينقصون. والأحسن أن يجعل "كالوا" و "وزنوا" متعديا، ويكون هم في محل نصب، ومنهم من يجعلها ضميرا مؤكدا للمستتر في قوله: "كالوا" و "وزنوا"، ويحذف المفعول لدلالة الكلام عليه، وكلاهما متقارب.
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11654) وسنن ابن ماجة برقم (2223).
(2) تفسير الطبري (30/58).
وقد أمر الله-تعالى-بالوفاء في الكيل والميزان، فقال: { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } [الإسراء: 35]، وقال: { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [الأنعام: 152]، وقال: { وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } [الرحمن: 9]. وأهلك الله قوم شعيب ودَمَّرهم على ما كانوا يبخسون الناس في المكيال والميزان .
ثم قال تعالى متوعدا لهم: { أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } ؟ أي: أما يخافُ أولئك من البعث والقيام بين يَدَي من يعلم السرائر والضمائر، في يوم عظيم الهول، كثير الفزع، جليل الخطب، من خسر فيه أدخل نارا حامية؟
وقوله: { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: يقومون حفاة عراة غُرلا في موقف صعب حَرج ضيق ضنَك على المجرم، ويغشاهم من أمر الله-ما تَعْجزُ القوى والحواس عنه.
قال الإمام مالك: عن نافع، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه".
رواه البخاري، من حديث مالك وعبد الله بن عون، كلاهما عن نافع، به (1) . ورواه مسلم من الطريقين أيضا. وكذلك رواه صالح [وثابت بن كيسان] (2) وأيوب بن يحيى، وعبد الله وعبيد الله ابنا عمر، ومحمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، به (3) .
ولفظ الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: :" { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } لعظَمة الرحمن عز وجل يوم القيامة، حتى إن العرقَ ليُلجِمُ الرجالَ إلى أنصاف آذانهم" (4) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني سليم بن عامر، حدثني المقداد-يعني ابن الأسود الكندي-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان يومُ القيامة أدنِيَت الشمس من العباد، حتى تكون قيدَ ميل أو ميلين، قال: فتصهرهم الشمس، فيكونون في العَرق كقَدْر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عَقِبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حَقْوَيه، ومنهم من يلجمه إلجاما".
رواه مسلم، عن الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة-والترمذي، عن سويد، عن ابن المبارك-كلاهما عن ابن جابر، به (5) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن سَوَّار، حدثنا الليث بن سعد، عن معاوية
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2862،6531).
(2) زيادة من أ.
(3) صحيح مسلم برقم (2862).
(4) المسند (2/31).
(5) المسند (6/3) وصحيح مسلم برقم (2864) وسنن الترمذي يرقم (2421).
ابن صالح: أن أبا عبد الرحمن حدثه، عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل، ويزاد في حرها كذا وكذا، تغلي منها الهوام كما تغلي القدور، يُعرَقون فيها على قدر خطاياهم، منهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ساقيه، ومنهم من يبلغ إلى وسطه، ومنهم من يلجمه العرق". انفرد به أحمد (1) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا أبو عُشَّانة حَي بن يُؤمِنُ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعتُ رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "تدنو الشمس من الأرض فيعرق الناس، فمن الناس من يبلغ عرقه عَقِبيه، ومنهم من يبلغ إلى نصف الساق، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ العَجُز، ومنهم من يبلغ الخاصرة، ومنهم من يبلغ منكبيه، ومنهم من يبلغ وسط فيه-وأشار بيده فألجمها فاه، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير هكذا-ومنهم من يغطيه عرقه". وضرب بيده إشارة. انفرد به أحمد (2) .
وفي حديث: أنهم يقومون سبعين سنة لا يتكلمون. وقيل: يقومون ثلاثمائة سنة. وقيل: يقومون أربعين ألف سنة. ويقضى بينهم في مقدار عشرة (3) آلاف سنة، كما في صحيح مسلم عن أبي هُرَيرة مرفوعا: "في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" (4) .
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو عون الزيادي، أخبرنا عبد السلام بن عَجْلان، سمعت أبا يزيد المدني، عن أبي هريرة (5) قال: قال النبي (6) صلى الله عليه وسلم لبشير (7) الغفاري: "كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه ثلاثمائة سنة لرب العالمين، من أيام الدنيا، لا يأتيهم فيه خبر من السماء ولا يؤمر فيه بأمر؟". قال بشير: المستعان الله. قال: "فإذا أويت إلى فراشك فتعوذ بالله من كَرْب يوم القيامة، وسوء الحساب".
ورواه ابن جرير من طريق عبد السلام، به (8) .
وفي سنن أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة (9) .
وعن ابن مسعود: يقومون أربعين سنة رافعي رءوسهم إلى السماء، لا يكلمهم أحد، قد ألجم العرق بَرّهم وفاجرهم.
وعن ابن عمر: يقومون مائة سنة. رواهما ابن جرير (10) .
وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجة، من حديث زيد بن الحباب، عن معاوية بن
صالح،
__________
(1) المسند (5/254).
(2) المسند (4/157).
(3) في أ: "عدة".
(4) صحيح مسلم برقم (987).
(5) في م: "عن أبي هريرة مرفوعا".
(6) في م، أ: "قال رسول الله".
(7) في أ: "لبشر".
(8) تفسير الطبري (30/59).
(9) سنن أبي داود برقم (766) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(10) تفسير الطبري (30/59).
عن أزهر بن سعيد الحواري، عن عاصم بن حميد، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح قيام الليل: يكبر عشرا، ويحمد عشرا، ويسبح عشرا، ويستغفر عشرا، ويقول: "اللهم اغفر لي واهدني، وارزقني وعافني". ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة (1) .
__________
(1) سنن أبي داود برقم (766) وسنن النسائي (3/208) وسنن ابن ماجة برقم (1356).
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
{ كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (13) كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) }
يقول: حقا { إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } أي: إن مصيرهم ومأواهم لفي سجين-فعيل من السَّجن، وهو الضيق-كما يقال: فسّيق وشرّيب وخمّير وسكّير، ونحو ذلك. ولهذا عظم أمره فقال: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } ؟ أي: هو أمر عظيم، وسجن مقيم وعذاب أليم.
ثم قد قال قائلون: هي تحت الأرض السابعة. وقد تقدم في حديث البراء بن عازب، في حديثه الطويل: يقول الله عز وجل في روح الكافر: اكتبوا كتابه في سجين.
وسجين: هي تحت الأرض السابعة. وقيل: صخرة تحت السابعة خضراء. وقيل: بئر في جهنم.
وقد روى ابن جرير في ذلك حديثا غريبا منكرا لا يصح فقال: حدثنا إسحاق بن وهب الواسطي، حدثنا مسعود بن موسى بن مُشكان الواسطي، حدثنا نَصر بن خُزَيمة الواسطي، عن شعيب بن صفوان، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفلق: جب في جهنم (1) مغطى، وأما سجين فمفتوح" (2) .
والصحيح أن "سجينا" مأخوذ من السَّجن، وهو الضيق، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق، وكل ما تعالى منها اتسع، فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه، وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها، حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة. ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين، كما قال تعالى: { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [التين]: 5، 6]. وقال هاهنا: { كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } وهو يجمع الضيق والسفول، كما قال:
__________
(1) في م: "في وادي جهنم".
(2) تفسير الطبري (30/61).
{ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } [الفرقان: 13].
وقوله: { كِتَابٌ مَرْقُومٌ } ليس تفسيرا لقوله: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } وإنما هو تفسير (1) لما كتب لهم من المصير إلى سجين، أي: مرقوم مكتوب مفروغ منه، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد؛ قاله محمد بن كعب القرظي.
ثم قال: { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } أي: إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم الله من السَّجن والعذاب المهين. وقد تقدم الكلام على قوله: { وَيْلٌ } بما أغنى عن إعادته، وأن المراد من ذلك (2) الهلاك والدمار، كما يقال: ويل لفلان. وكما جاء في المسند والسنن من رواية بَهْز بن حكيم بن معاوية بن حَيَدة، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للذي يُحَدِّث فيكذب، ليضحِكَ الناس، ويل له، ويل له" (3) .
ثم قال تعالى مفسرا للمكذبين الفجار الكفرة: { الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ } أي: لا يصدقون بوقوعه، ولا يعتقدون كونه، ويستبعدون أمره. قال الله تعالى: { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أي: معتد في أفعاله؛ من تعاطي الحرام والمجاوزة في تناول المباح والأثيم (4) في أقواله: إن حدث كذب، وإن وعد أخلف، وإن خاصم فجر .
وقوله: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } أي: إذا سمع كلام الله من الرسول، يكذب به، ويظن به ظن السوء، فيعتقد أنه مفتعل مجموع من كتب الأوائل، كما قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } [النحل: 24]، وقال: { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا } [الفرقان: 5]، قال الله تعالى: { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي: ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا، إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرَّيْن الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا؛ ولهذا قال تعالى: { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } والرين يعتري قلوبَ الكافرين، والغيم للأبرار، والغين للمقربين.
وقد روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق، عن محمد بن عَجْلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن زاد زادت، فذلك قول الله: { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } (5) .
وقال الترمذي: حسن صحيح. ولفظ النسائي: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نُكِت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقِل قلبه، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فهو الران الذي قال
__________
(1) في م: "تقرير".
(2) في أ: "ذلك أنه".
(3) المسند (5/5،7) وسنن أبي داود برقم (4990) وسنن الترمذي برقم (2315) وسنن النسائي الكبرى برقم (11655).
(4) في أ: "والإثم".
(5) تفسير الطبري (30/62) وسنن الترمذي برقم (3334) وسنن النسائي الكبرى برقم (11658) وسنن ابن ماجة برقم (4244).
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
الله: { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
وقال أحمد :حدثنا صفوان بن عيسى، أخبرنا ابن عَجْلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صُقِل قلبه، فإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، وذاك الران الذي ذكر الله في القرآن: { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } " (1) .
وقال الحسن البصري :هو الذنب على الذنب، حتى يعمى القلب، فيموت. وكذا قال مجاهد ابن جبر وقتادة، وابن زيد، وغيرهم .
وقوله: { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } أي: لهم يوم القيامة مَنزلٌ ونزل سجين، ثم هم يوم القيامة مع (2) ذلك محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم.
قال الإمام أبو عبد الله الشافعي: [في] (3) هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ (4) .
وهذا الذي قاله الإمام الشافعي، رحمه الله، في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية، كما دل عليه منطوق قوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: 22، 23]. وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح (5) المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار الآخرة، رؤية بالأبصار في عَرَصات القيامة، وفي روضات الجنان الفاخرة.
وقد قال ابن جرير [محمد بن عمار الرازي] (6) : حدثنا أبو معمر المنْقَريّ، حدثنا عبد الوارث ابن سعيد، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن في قوله: { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } قال: يكشف الحجاب، فينظر إليه المؤمنون والكافرون، ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون. كُلّ يوم غدوة وعشية-أو كلاما هذا معناه.
قوله: { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ } أي: ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن من أهل النيران، { ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي: يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ، والتصغير والتحقير .
{ كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) }
__________
(1) المسند (2/297).
(2) في م: "بعد".
(3) زيادة من م، أ.
(4) رواه البيهقي في مناقب الشافعي (1/419).
(5) في م: "الصحيحة".
(6) زيادة من م، أ.
يقول تعالى: حقا { إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ } وهم بخلاف الفجار، { لَفِي عِلِّيِّينَ } أي: مصيرهم إلى عليين، وهو بخلاف سجين.
قال الأعمش، عن شَمر بن عطية، عن هلال بن يَسَاف قال: سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر عن سجين، قال: هي الأرض السابعة، وفيها أرواح الكفار. وسأله عن عِلّيين فقال: هي السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين. وهكذا قال غير واحد: إنها السماء السابعة.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { كَلا إِنَّ كِتَابَ الأبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } يعني: الجنة.
وفي رواية العَوفي، عنه: أعمالهم في السماء عند الله. وكذا قال الضحاك.
وقال قتادة: عليون: ساق العرش اليمنى. وقال غيره: عليون عند سدرة المنتهى.
والظاهر: أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع؛ ولهذا قال معظما أمره ومفخما شأنه: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّون } ثم قال مؤكدا لما كتب لهم: { كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } وهم الملائكة، قاله قتادة.
وقال العوفي، عن ابن عباس: يشهده من كل سماء مقربوها .
ثم قال تعالى: { إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } أي: يوم القيامة هم في نعيم مقيم، وجنات فيها فضل عميم، { عَلَى الأرَائِكِ } وهي: السرر تحت الحِجَال، { يَنْظُرُونَ } قيل: معناه: ينظرون في مُلكهم وما أعطاهم الله من الخير والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد. وقيل: معناه { عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ } إلى الله عز وجل. وهذا مقابله (1) لما وُصف به أولئك الفجار: { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } فذكر عن هؤلاء أنهم يباحون النظر إلى الله عز وجل وهم على سررهم وفرشهم، كما تقدم في حديث ابن عمر: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفى سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، وإن أعلاه لمن ينظر إلى الله في اليوم مرتين" (2) .
وقوله: { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } أي: تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم نضرة النعيم، أي: صفة الترافة والحشمة والسرور والدِّعة والرياسة؛ مما هم فيه من النعيم العظيم .
وقوله: { يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ } أي: يسقون من خمر من الجنة. والرحيق: من أسماء الخمر. قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد.
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا زهير، عن سعد (3) أبي المجاهد الطائي، عن عطية بن سعد العوفي، عن أبي سعيد الخدري-أراه قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم-قال: "أيما مؤمن سقى
__________
(1) في أ: "مقابل".
(2) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآيتين: 22،23 من سورة القيامة.
(3) في أ: "عن سعيد".
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
مؤمنا شربة (1) على ظمأ، سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم. وأيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع، أطعمه الله من ثمار الجنة. وأيما مؤمن كسا مؤمنا ثوبا على عُري، كساه الله من خُضر الجنة" (2) .
وقال ابن مسعود في قوله: { خِتَامُهُ مِسْكٌ } أي: خلطه مسك.
وقال العوفي، عن ابن عباس: طيب الله لهم الخمر، فكان آخر شيء جعل فيها مسك، خُتِم بمسك. وكذا قال قتادة والضحاك.
وقال إبراهيم والحسن: { خِتَامُهُ مِسْكٌ } أي: عاقبته مسك.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا أبو حمزة، عن جابر، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي الدرداء: { خِتَامُهُ مِسْكٌ } قال: شراب أبيض مثل الفضة، يختمون به شرابهم. ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها، لم يبق ذو روح إلا وجد طيبها (3) .
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { خِتَامُهُ مِسْكٌ } قال: طيبه مسك.
وقوله: { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } أي: وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون، وليتباهى ويكاثر (4) ويستبق إلى مثله المستبقون. كقوله: { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [الصافات: 61].
وقوله: { وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ } أي: ومزاج هذا الرحيق الموصوف من تسنيم، أي: من شراب يقال له تسنيم، وهو أشرف شراب أهل الجنة وأعلاه. قاله أبو صالح والضحاك؛ ولهذا قال: { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } أي: يشربها المقربون صِرْفًا، وتُمزَجُ لأصحاب اليمين مَزجًا. قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومسروق، وقتادة، وغيرهم .
{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) }
__________
(1) في م: "شربة ماء".
(2) المسند (3/13) وعطية العوفي ضعيف.
(3) تفسير الطبري (30/68).
(4) في م، أ: "ويتكاثر".
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{ عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) }
يخبر تعالى عن المجرمين أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين، أي: يستهزئون بهم ويحتقرونهم (1) وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم، أي :محتقرين لهم، { وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ } أي: إذا انقلب، أي: رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم، انقلبوا إليها فاكهين،
__________
(1) في أ: "يحقرونهم".
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
أي: مهما طلبوا وجدوا، ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم، بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحتقرونهم ويحسدونهم، { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّون } أي: لكونهم على غير دينهم، قال الله تعالى: { وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِين } أي: وما بُعث هؤلاء المجرمون (1) حافظين على هؤلاء المؤمنين ما يصدر من أعمالهم وأقوالهم، ولا كلفوا بهم؟ فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم، كما قال تعالى: { قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } [المؤمنون: 108 -111].
ولهذا قال هاهنا: { فَالْيَوْمَ } يعني: يوم القيامة { الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } أي: في مقابلة ما ضحك بهم أولئك، { عَلَى الأرَائِكِ يَنْظُرُونَ } أي: إلى الله عز وجل، في مقابلة من زعم فيهم أنهم ضالون، ليسوا بضالين، بل هم من أولياء الله المقربين، ينظرون إلى ربهم في دار كرامته.
وقوله: { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } ؟ أي: هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتنقص أم لا؟ يعني: قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله.
آخر [تفسير سورة] (2) "المطففين".
تفسير سورة الانشقاق
وهي مكية.
قال مالك، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي سلمة: أن أبا هريرة قرأ بهم: " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. رواه مسلم والنسائي، من طريق مالك، به (3) .
وقال البخاري: حدثنا أبو النعمان، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن بكر، عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هُرَيرة العتمة فقرأ: " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " فسجد، فقلت له، قال: سجدتُ خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه (4) .
ورواه أيضا عن مسدد، عن معتمر، به. ثم رواه عن مسدد، عن يزيد بن زُرَيع، عن التيمي، عن بكر، عن أبي رافع، فذكره (5) وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق، عن سليمان بن طِرْخان التيمي، به (6) وقد روى مسلم وأهل السنن من حديث سفيان بن عُيَينة-زاد النَّسائي: وسفيان الثوري-كلاهما عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ " و " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ " (7) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) }
__________
(1) في أ: "المجرمين" وهو خطأ.
(2) زيادة من أ.
(3) صحيح مسلم برقم (578) وسنن النسائي الكبرى برقم (11660).
(4) صحيح البخاري برقم (766).
(5) صحيح البخاري برقم (768).
(6) صحيح مسلم برقم (578) وسنن أبي داود برقم (1408) وسنن النسائي (2/161).
(7) صحيح مسلم برقم (578) وسنن أبي داود برقم (1407) وسنن الترمذي برقم (573) وسنن النسائي (2/162).
يقول تعالى: { إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } وذلك يوم القيامة، { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا } أي: استمعت لربها
وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق { وَحُقَّتْ } أي: وحق لها أن تطيع أمره؛ لأنه العظيم الذي لا يُمانَع ولا يغالب، بل قد قهر كلّ شيء وذل له كل شيء.
ثم قال: { وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ } أي: بُسطت وفرشت وَوُسِّعَت.
قال ابن جرير، رحمه الله: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن (1)
ثور، عن معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يومُ القيامة مَدَّ الله الأرض مَدَّ الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه، فأكون أول من يدعى، وجبريل عن يمين الرحمن، والله ما رآه قبلها، فأقول: يا رب، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي؟ فيقول الله عز وجل: صدق. ثم أشفع فأقول: يا رب، عبادك عبدوك في أطراف الأرض. قال: وهو المقام المحمود" (2) .
وقوله: { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } أي: ألقت ما في بطنها من الأموات، وتخلت منهم. قاله مجاهد، وسعيد، وقتادة، { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } كما تقدم.
وقوله: { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا } أي: ساع إلى ربك سعيا، وعامل عملا { فَمُلاقِيهِ } ثم إنك ستلقى ما عملتَ من خير أو شر. ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي، عن الحسن بن أبي جعفر، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال جبريل: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه" (3) .
ومن الناس من يعيد الضمير على قوله: { رَبِّك } أي: فملاق (4) ربك، ومعناه: فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك. وعلى هذا فكلا القولين متلازم.
قال العوفي، عن ابن عباس: { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا } يقول: تعمل عملا تلقى الله به، خيرا كان أو شرا.
وقال قتادة: { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا } إن كدحك-يا ابن آدم-لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل، ولا قوة إلا بالله.
ثم قال: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } أي: سهلا بلا تعسير، أي: لا يحقق عليه جَميعُ دقائق أعماله؛ فإن من حوسب كذلك يهلك (5) لا محالة.
__________
(1) في أ: "حدثنا أبو".
(2) تفسير الطبري (30/72) ورواه عبد الرزاق في تفسيره (1/328) ومن طريقه الطبري في تفسيره (15/99) عن معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين به مرسلا، ورواه أبو نعيم في الحلية (3/145) من طريق محمد بن جعفر، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن رجل من أهل العلم به، وقال: "صحيح تفرد بهذه الألفاظ علي بن الحسين لم يروه عنه إلا الزهري ولا عنه إلا إبراهيم بن سعد، وعلي بن الحسين هو أفضل وأتقى من أن يروه عن رجل لا يعتمده فينسبه إلى العلم ويطلق القول به". وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/400): "رجاله ثقات، وهو صحيح إن كان الرجل صحابيا". لكن الحديث له علة وهي الاختلاف على الزهري في اسم الصحابي، فرواه الحاكم في المستدرك (5/570) من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن جابر مرفوعا بنحوه، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
(3) مسند الطيالسي برقم (1755).
(4) في م: "أي ملاق".
(5) في م، أ: "كذلك هلك".
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، أخبرنا أيوب، عن عبد الله بن أبي مُلَيْكة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نُوِقش الحساب عُذِّب". قالت: فقلت: أليس قال الله: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } ؟ ، قال: "ليس ذاك بالحساب ولكن ذلك العَرْض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب".
وهكذا رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير، من حديث أيوب السختياني، به (1)
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا أبو عامر الخَرَاز، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا معذبا". فقلت: أليس الله يقول: { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } ؟ ، قال: "ذاك العرض، إنه من نُوِقش الحساب عُذب"، وقال بيده على إصبعه كأنه يَنكُتُ.
وقد رواه أيضا عن عمرو بن علي، عن ابن أبي عدي، عن أبي يونس القُشَيري، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن القاسم، عن عائشة، فذكر الحديث (2) أخرجاه من طريق أبي يونس القُشَيري، واسمه حاتم بن أبي صغيرة (3) به (4) .
قال ابن جرير: حدثنا نصر بن علي الجهضمي، حدثنا مسلم، عن الحريش بن الخَرِّيت أخى الزبير، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: من نُوِقش الحساب-أو: من حُوسِب -عُذِّبَ. قال: ثم قالت: إنما الحسابُ اليسيرُ عَرض على الله عز وجل وهو يراهم (5) .
وقال أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني عبد الواحد بن حمزة بن (6) عبد الله بن الزبير، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: "اللهم حاسبني حسابا يسيرا". فلما انصرف قلت: يا رسول الله، ما الحساب اليسير؟ قال: "أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه، إنه من نُوِقش الحسابَ يا عائشةُ يومئذ هَلَكَ". صحيح على شرط مسلم (7) .
قوله تعالى: { وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا } أي: ويرجع إلى أهله في الجنة. قاله قتادة، والضحاك، { مَسْرُورًا } أي: فرحان مغتبطا بما أعطاه الله عز وجل.
وقد روى الطبراني عن ثوبان-مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم-أنه قال: إنكم تعملون أعمالا لا تعرف، ويوشك العازب (8) أن يثوب إلى أهله، فمسرور ومكظوم (9) .
__________
(1) المسند (6/47) وصحيح البخاري برقم (4939) وصحيح مسلم برقم (2876) وسنن الترمذي برقم (3337) وسنن النسائي الكبرى برقم (11659) وتفسير الطبري (30/74).
(2) تفسير الطبري (30/74).
(3) في أ: "صفرة".
(4) صحيح البخاري برقم (4939) وصحيح مسلم برقم (2876).
(5) تفسير الطبري (30/74).
(6) في م: "عن".
(7) المسند (6/48).
(8) في م، أ، هـ: "العارف" والمثبت من المعجم الكبير.
(9) المعجم الكبير (2/94) من طريق يحيى الحماني، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عبد الله الشامي، عن عائذ الله، عن ثوبان به مرفوعا، ويحيى الحماني ضعيف.
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
وقوله: { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ } أي: بشماله من وراء ظهره، تُثْنى يده إلى ورائه ويعطى كتابه بها كذلك، { فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا } أي: خسارا وهلاكا، { وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا } أي: فرحا لا يفكر في العواقب، ولا يخاف مما أمامه، فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل، { إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ } أي: كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله ولا يعيده بعد موته. قاله ابن عباس، وقتادة، وغيرهما. والحَوْرُ: هو الرجوع. قال الله: { بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا } يعني: بلى سيعيده الله كما بدأه، ويجازيه على أعماله خيرها وشرها، فإنه { كَانَ بِهِ بَصِيرًا } أي: عليما خبيرا.
{ فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) }
رُوي عن علي، وابن عباس، وعُبادة بن الصامت، وأبي هُرَيرة، وشداد بن أوس، وابن عمر، ومحمد بن علي بن الحسين، ومكحول، وبكر بن عبد الله المزني، وبُكَيْر (1) بن الأشج، ومالك، وابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجَشُون أنهم قالوا: الشفق: الحمرة.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن ابن خُثَيم (2) عن ابن لبيبة، عن أبي هُرَيرة قال: الشفق: البياض (3) .
فالشفق هو: حمرة الأفق إما قبل طلوع الشمس-كما قاله مجاهد-وإما بعد غروبها-كما هو معروف (4) عند أهل اللغة.
قال الخليل بن أحمد: الشفق: الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب قيل: غاب الشفق.
وقال الجوهري: الشفق: بقية ضوء الشمس وحمرتُها في أول الليل إلى قريب من العَتمَة. وكذا قال عكرمة: الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء.
وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق" (5) .
ففي هذا كله دليل على أن الشفق هو كما قاله الجوهري والخليل. ولكن صح عن مجاهد أنه
__________
(1) في أ: "وبكر".
(2) في أ: "خيثم".
(3) تفسير عبد الرزاق (2/292).
(4) في م: "كما هو المعروف".
(5) صحيح مسلم برقم (612).
قال في هذه الآية: { فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ } هو النهار كله. وفي رواية عنه أيضا أنه قال: الشفق: الشمس. رواهما ابن أبي حاتم.
وإنما حمله على هذا قَرْنهُ بقوله تعالى: { وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } أي: جمع. كأنه أقسم بالضياء والظلام.
وقال ابن جرير: أقسم الله بالنهار مدبرًا، وبالليل مقبلا . وقال ابن جرير: وقال آخرون: الشفق اسم للحمرة والبياض. وقالوا: هو من الأضداد (1) .
قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة: { وَمَا وَسَقَ } وما جمع. قال قتادة: وما جمع من نجم ودابة. واستشهد ابن عباس بقول الشاعر: (2)
مُستَوسقات لو تَجِدْنَ سَائقا ...
قد قال عكرمة: { وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } يقول: ما ساق من ظلمة، إذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه.
وقوله: { وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ } قال ابن عباس: إذا اجتمع واستوى. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومسروق، وأبو صالح، والضحاك، وابن زيد.
{ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ } إذا استوى. وقال الحسن: إذا اجتمع، إذا امتلأ. وقال قتادة: إذا استدار.
ومعنى كلامهم: أنه إذا تكامل نوره وأبدر، جعله مقابلا لليل وما وسق.
وقوله: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال البخاري: أخبرنا سعيد بن النضر، أخبرنا هُشَيم، أخبرنا أبو بشر، عن مجاهد قال: قال ابن عباس: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } حالا بعد حال-قال هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم.
هكذا رواه البخاري بهذا اللفظ (3) ، وهو محتمل أن يكون ابن عباس أسند هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: سمعت هذا من نبيكم صلى الله عليه وسلم، فيكون قوله: "نبيكم" مرفوعا على الفاعلية من "قال" وهو الأظهر، والله أعلم، كما قال أنس: لا يأتي عام إلا والذي بعده شَرٌّ منه، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر، عن مجاهد؛ أن ابن عباس كان يقول: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال: يعني نبيكم صلى الله عليه وسلم، يقول: حالا بعد حال. وهذا لفظه (4) .
__________
(1) تفسير الطبري (30/76).
(2) البيت في تفسير الطبري (30/76) وقد ذكره المبرد في الكامل: إن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا
وهو منسوب لابن صرمة.
(3) صحيح البخاري برقم (4940).
(4) تفسير الطبري (30/78).
وقال علي ابن أبي طلحة، عن ابن عباس: { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } حالا بعد حال. وكذا قال عكرمة ومُرَة الطّيِّب، ومجاهد، والحسن، والضحاك [ومسروق وأبو صالح] (1) .
ويحتمل أن يكون المراد: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } حالا بعد حال. قال: هذا، يعني المراد بهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم، فيكون مرفوعا على أن "هذا" و "نبيكم" يكونان مبتدأ وخبرا، والله أعلم. ولعل هذا قد يكون هو المتبادر إلى كثير من الرواة، كما قال أبو داود الطيالسي وغُنْدَر: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال: محمد صلى الله عليه وسلم. ويؤيد هذا المعنى قراءةُ عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعامة أهل مكة والكوفة: "لَتَرْكَبَنّ" بفتح التاء والباء.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن الشعبي: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال: لتركَبن يا محمد سماء بعد سماء. وهكذا رُوي عن ابن مسعود، ومسروق، وأبي العالية: { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } سماء بعد سماء.
قلت: يعنون ليلة الإسراء.
وقال أبو إسحاق، والسدي (2) عن رجل، عن ابن عباس: { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } منزلا على منزل. وكذا رواه العوفي، عن ابن عباس مثله-وزاد: "ويقال: أمرا بعد أمر، وحالا بعد حال".
وقال السدي نفسهُ: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } أعمال من قبلكم منزلا بعد منزل.
قلت: كأنه أراد معنى الحديث الصحيح: "لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم، حَذْو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحر ضَبِّ لدخلتموه". قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟" (3) وهذا محتمل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا ابن جابر، أنه سمع مكحولا يقول في قول الله: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال: في كل عشرين سنة، تحدثون أمرا لم تكونوا عليه.
وقال الأعمش: حدثني إبراهيم قال: قال عبد الله: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال: السماء تنشق ثم تحمر، ثم تكون لونا بعد لون.
وقال الثوري، عن قيس بن وهب، عن مرة، عن ابن مسعود: { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال: السماء مَرةً كالدهان، ومرة تنشق.
وروى البزار من طريق جابر الجعفي، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } يا محمد، يعني حالا بعد حال. ثم قال: ورواه جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م: "عن السدي".
(3) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية: 34 من سورة التوبة.
وقال سعيد بن جبير: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال: قوم كانوا في الدنيا خسيس أمرهم، فارتفعوا في الآخرة، وآخرون كانوا أشرافا في الدنيا، فاتضعوا في الآخرة.
وقال عكرمة: { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } حالا بعد حال، فطيما بعد ما كان رضيعًا، وشيخًا بعد ما كان شابا.
وقال الحسن البصري: { طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } يقول: حالا بعد حال، رخاء بعد شدة، وشدة بعد رخاء، وغنى بعد فقر، وفقرا بعد غنى، وصحة بعد سقم، وسَقَما بعد صحة.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن عبد الله بن زاهر: حدثني أبي، عن عمرو بن شَمِر، عن جابر-هو الجعفي-عن محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ابن آدم لفي غفلة مما خُلِقَ له؛ إن الله إذا أراد خلقه قال للملك: اكتب رزقه، اكتب أجله، اكتب أثره، اكتب شقيا أو سعيدًا، ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله إليه مَلَكا آخر فيحفظه حتى يدرك، ثم يرتفع ذلك الملك، ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته، فإذا حَضَره الموتُ ارتفع ذانك الملكان، وجاءه ملك الموت فقبض روحه، فإذا دخل قبره رَدَّ الروح في جسده، ثم ارتفع ملك الموت، وجاءه مَلَكا القبر فامتحناه، ثم يرتفعان، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات، فانتشطا كتابا معقودا في عنقه، ثم حضرا معه: واحدٌ سائقا وآخر شهيدا"، ثم قال الله عز وجل: { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } [ق:22] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ } قال: "حالا بعد حال". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قدامكم لأمرا عظيما لا تَقدرُونه، فاستعينوا بالله العظيم" (1) .
هذا حديث منكر، وإسناده فيه ضعفاء، ولكن معناه صحيح، والله-سبحانه وتعالى-أعلم.
ثم قال ابن جرير بعد ما حكى أقوال الناس في هذه الآية من القراء والمفسرين: والصواب من التأويل قول من قال لَتَرْكَبَنّ أنت-يا محمد-حالا بعد حال وأمرًا بعد أمر من الشَّدَائد. والمراد بذلك-وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُوَجَّها (2) -جَميعَ الناس، وأنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا (3) .
وقوله: { فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ } أي: فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر؟ وما لهم إذا قرأت عليهم آيات الرحمن (4) وكلامه-وهو هذا القرآن-لا يسجدون إعظاما وإكرامًا واحتراما؟.
وقوله: { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ } أي: من سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق.
{ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } قال مجاهد وقتادة: يكتمون في صدورهم.
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور (7/600) لابن أبي الدنيا في ذكر الموت وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية.
(2) في م: "متوجها".
(3) تفسير الطبري (30/80).
(4) في أ: "آيات الله".
{ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي: فأخبرهم-يا محمد-بأن الله عز وجل قد أعد لهم عذابا أليما.
وقوله { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } هذا استثناء منقطع، يعني لكن الذين آمنوا-أي: بقلوبهم-وعملوا الصالحات بجوارحهم { لَهُمْ أَجْرٌ } أي: في الدار الآخرة.
{ غَيْرُ مَمْنُونٍ } قال ابن عباس: غير منقوص. وقال مجاهد، والضحاك: غير محسوب.
وحاصل قولهما أنه غير مقطوع، كما قال تعالى: { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [هود: 108]. وقال السدي: قال بعضهم: { غَيْرُ مَمْنُونٍ } غير منقوص. وقال بعضهم: { غَيْرُ مَمْنُونٍ } عليهم.
وهذا القول الآخر عن بعضهم قد أنكره غير واحد؛ فإن الله عز وجل له المنة على أهل الجنة في كل حال وآن ولحظة، وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم، فله عليهم المنة دائما سرمدًا، والحمد لله وحده أبدا؛ ولهذا يلهمون تسبيحه وتحميده كما يلهمون النَّفَس: { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس: 10].
آخر تفسير سورة "الانشقاق" ولله الحمد.
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
تفسير سورة البروج
وهي مكية.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا رُزَيق بن أبي سلمى، حدثنا أبو المهزّم، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج، والسماء والطارق (1) .
وقال أحمد: حدثنا أبو سعيد-مولى بني (2) هاشم-حدثنا حماد بنُ عباد السدوسي، سمعت أبا المهزم يحدث عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ بالسموات في العشاء (3) تفرد به أحمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) }
__________
(1) المسند (2/326).
(2) في م: "مولى ابن".
(3) المسند (2/327).
يقسم الله بالسماء وبروجها، وهي: النجوم العظام، كما تقدم بيان ذلك في قوله: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا } [الفرقان: 61].
قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي: البروج: النجوم. وعن مجاهد أيضا: البروج التي فيها الحرس.
وقال يحيى بن رافع: البروج: قصور في السماء. وقال المِنْهَال بن عمرو: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ } الخلق الحسن.
واختار ابن جرير أنها: منازل الشمس والقمر، وهي اثنا عشر برجا، تسير الشمس في كل واحد منها شهرًا، ويسير القمر في كل واحد يومين وثلثا، فذلك ثمانية وعشرون منزلة (1) ويستسرّ ليلتين.
__________
(1) في م: "منزلا".
وقوله: { وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } اختلف المفسرون في ذلك، وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي (1) حدثنا عُبَيد الله-يعني ابن موسى-حدثنا موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد بن صفوان بن أوس الأنصاري، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " { وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ } يوم القيامة { وَشَاهِدٍ } يوم الجمعة. وما طلعت شمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه، ولا يستعيذ فيها من شر إلا أعاذه، { وَمَشْهُودٍ } يوم عرفة" (2) .
وهكذا روى هذا الحديث ابن خُزَيمة، من طرق عن موسى بن عُبَيدة الربذي-وهو ضعيف الحديث-وقد روي موقوفا على أبي هريرة، وهو أشبه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد، حدثنا شعبة، سمعت علي بن زيد ويونس بن عبيد يحدثان عن عمار-مولى بني هاشم-عن أبي هريرة-أما عليّ فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأما يونس فلم يَعْدُ أبا هريرة-أنه قال في هذه الآية: { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال: يعني الشاهدَ يومُ الجمعة، ويوم مشهود يوم القيامة (3) .
وقال أحمد أيضا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن يونس، سمعت عمارًا-مولى بني هاشم-يحدث عن أبي هريرة وأنه قال في هذه الآية: { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال: الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، والموعود يوم القيامة (4) .
وقد رُوي عن أبي هريرة أنه قال: اليوم الموعود يوم القيامة. وكذلك قال الحسن، وقتادة، وابن زيد. ولم أرهم يختلفون في ذلك، ولله الحمد.
ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثنا ضَمْضَم بن زُرْعَة، عن شُرَيح بن (5) عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اليوم الموعود يوم القيامة، وإن الشاهد يوم الجمعة، وإن المشهود يوم عرفة، ويوم الجمعة ذخره الله لنا" (6) .
ثم قال ابن جرير: حدثنا سهل بن موسى الرازي، حدثنا ابن أبي فُدَيْك، عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسَيَّب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن سيد الأيام يوم الجمعة، وهو الشاهدُ، والمشهود يوم عرفة" (7) .
__________
(1) في أ: "المقرئ".
(2) ورواه الترمذي في السنن برقم (3339) من طريق روح بن عبادة وعبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة به نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره".
(3) المسند (2/298) ووقع فيه: "يعني الشاهد يوم عرفة، والموعود يوم القيامة".
(4) المسند (2/298،299).
(5) في أ: "عن".
(6) تفسير الطبري (30/82) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (3/298) عن هاشم بن مرثد، عن محمد بن إسماعيل به، وفيه ضعف وانقطاع، وقد تقدم هذا الإسناد مرارا.
(7) تفسير الطبري (30/82).
وهذا مرسل من مراسيل سعيد بن المسيَّب، ثم قال ابن جرير:
حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وكيع، عن شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف المكي، عن ابن عباس قال: الشاهد هو محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود يوم القيامة، ثم قرأ: { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } (1) [هود: 103].
وحدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن شباك قال: سأل رجل الحسن بن علي عن: { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال: سألت أحدًا قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عمر وابن الزبير، فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة. فقال: لا ولكن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قرأ: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [النساء: 41]، والمشهود يوم القيامة، ثم قرأ: { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } (2) .
وهكذا قال الحسن البصري. وقال سفيان الثوري، عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسيب: { وَمَشْهُودٍ } يوم القيامة.
وقال مجاهد، وعكرمة، والضحاك: الشاهد: ابن آدم، والمشهود: يوم القيامة.
وعن عكرمة أيضا: الشاهد: محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: يوم الجمعة.
[وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الشاهد: الله، والمشهود: يوم القيامة] (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دُكَيْن، حدثنا سفيان، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن ابن عباس: { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال: الشاهد: الإنسان. والمشهود: يوم الجمعة. هكذا رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة.
وبه عن سفيان-هو الثوري-عن مغيرة، عن إبراهيم قال: يوم الذبح، ويوم عرفة، يعني الشاهد والمشهود.
قال ابن جرير: وقال آخرون: المشهود يوم الجمعة. ورووا في ذلك ما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثني عمي عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أيمن، عن عبادة بن نُسَيّ، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا عليَّ من الصلاة يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود، تشهده الملائكة" (4) .
وعن سعيد بن جبير: الشاهد: الله، وتلا { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } [النساء: 79]، والمشهود:
__________
(1) تفسير الطبري (30/83).
(2) تفسير الطبري (30/83).
(3) زيادة من م، أ، والطبري.
(4) تفسير الطبري (30/84).
نحن. حكاه البغوي، وقال: الأكثرون على أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة.
وقوله: { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ } أي: لعن أصحاب الأخدود، وجمعه: أخاديد، وهي الحفير في الأرض، وهذا خبر عن قوم من الكفار عَمَدوا إلى من عندهم من المؤمنين بالله، عز وجل، فقهروهم وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدُودًا وأججوا فيه نار، وأعدوا لها وقودًا يسعرونها به، ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم، فقذفوهم فيها؛ ولهذا قال تعالى: { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } أي: مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين.
قال الله تعالى: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } أي: وما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله العزيز الذي لا يضام من لاذ بجنابه، المنيع الحميد في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، وإن كان قد قَدّر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به، فهو العزيز الحميد، وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس.
ثم قال: { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } من تمام الصفة أنه المالك لجميع السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي: لا يغيب عنه شيء في جميع السموات والأرض، ولا تخفى عليه خافية.
وقد اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة، من هم. فعن علي، رضي الله عنه، أنهم أهل فارس حين أراد ملكهم تحليل تزويج (1) المحارم، فامتنع عليه علماؤهم، فعمد إلى حفر أخدود فقذف فيه من أنكر عليه منهم واستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم.
وعنه أنهم كانوا قوما باليمن اقتتل مؤمنوهم ومشركوهم، فغلب مؤمنوهم على كفارهم، ثم اقتتلوا فغلب الكفار المؤمنين، فخدُّوا لهم الأخاديد، وأحرقوهم فيها.
وعنه أنهم كانوا من أهل الحبشة، واحدهم (2) حَبَشِيٌّ.
وقال العوفي، عن ابن عباس: { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ } قال: ناس من بني إسرائيل، خَدّوا أخدودًا في الأرض، ثم أوقدوا فيه نارا، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالا ونساء، فعُرضوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه.
وهكذا قال الضحاك بن مٌزَاحم، وقيل غير ذلك. وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن (3) عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صُهَيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبرت سِنِّي وحضر أجلي، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر. فدفع إليه غلاما فكان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه، فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال: ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه
__________
(1) في أ: "تزوج".
(2) في م، أ: "ونبيهم".
(3) في أ: "بن".
وقالوا: ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي. وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر.
قال: فبينما هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة، قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فقال: اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر. قال: فأخذ حجرًا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبّ إليك وأرضى من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس. ورماها فقتلها، ومضى الناس. فأخبر الراهب بذلك فقال: أيْ بُنَي، أنت أفضل مني، وإنك سَتُبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي. فكان الغلام يبُرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان جليس للملك فعمي، فسمع به، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: اشفني ولك ما هاهنا أجمعُ. فقال: ما أنا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله، عز وجل، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك. فآمن فدعا الله فشفاه. ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال له الملك: يا فلان، من رَدّ عليك بصرك؟ فقال: ربي؟ فقال: أنا؟ قال: لا ربي وربك الله. قال: ولك رب غيري؟ قال: نعم، ربي وربك الله. فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال: أيْ بُنَي، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟ قال: ما أشفي أنا أحدًا، إنما يشفي الله، عز وجل. قال: أنا؟ قال: لا. قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله. فأخذه أيضا بالعذاب، فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى بالراهب فقال: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الأرض. وقال للغلام: ارجع عن دينك، فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا، وقال: إذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فَدَهدهوه [من فوقه] (1) فذهبوا به، فلما علوا به الجبل قال: اللهم، اكفنيهم بما شئت. فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون. وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله. فبعث به مع نفر في قُرقُور فقال: إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فغرِّقوه في البحر. فلججوا به البحر فقال الغلام. اللهم، اكفنيهم بما شئت. فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله. ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي. قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهمًا من كنانتي ثم قل: "بسم الله رب الغلام"، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. ففعل، ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه، وقال: "باسم الله رب الغلام". فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام . فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد -والله-نزل بك، قد آمن الناس كلهم. فأمر بأفواه السكك فَخُدّت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال: من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها. قال: فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه، فإنك على الحق".
__________
(1) زيادة من المسند.
وهكذا رواه مسلم في آخر الصحيح عن هُدْبة بن خالد، عن حماد بن سلمة به نحوه (1) ورواه النسائي عن أحمد بن سليمان، عن عفان، عن حماد بن سلمة (2) ومن طريق حماد بن زيد، كلاهما عن ثابت، به واختصروا أوله. وقد جَوّده الإمام أبو عيسى الترمذي، فرواه في تفسير هذه السورة عن محمود بن غَيلانَ وعَبد بن حُمَيد-المعنى واحد-قالا أخبرنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن ثابت البُناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صُهَيب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر هَمَس-والهَمس في قول بعضهم: تحريك شفتيه كأنه يتكلم-فقيل له: إنك-يا رسول الله-إذا صليت العصر همست؟ قال: "إن نبيا من الأنبياء، كان أُعجِب بأمته فقال: من يقوم لهؤلاء؟. فأوحى الله إليه أن خيرهم بين أن أنتقم منهم، وبين أن أسلط عليهم عدوهم. فاختاروا النقمة، فسلَّط عليهم الموت، فمات منهم في يوم سبعون ألفا". قال: وكان إذا حَدّث بهذا الحديث، حَدّث بهذا الحديث الآخر قال: كان مَلك من الملوك، وكان لذلك الملك كاهن تكهن له، فقال الكاهن: انظروا لي غلامًا فَهِمًا-أو قال: فطنًا لَقنًا-فأعلمه علمي هذا فذكر القصة بتمامها، وقال في آخره (3) يقول الله عز وجل: { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ } حتى بلغ: { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } قال: فأما الغلام فإنه دفن قال: فيذكر أنه أخرج في زمان عمر بن الخطاب، وإصبعه على صُدغه كما وضعها حين قتل. ثم قال الترمذي: حسن غريب (4) .
وهذا السياق ليس فيه صراحة أن سياق هذه القصة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزِّي: فيحتمل أن يكون من كلام صُهَيب الرومي، فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى، والله أعلم.
وقد أورد محمد بن إسحاق بن يَسَار هذه القصة في السيرة بسياق آخر، فيها مخالفة لما تقدم فقال: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرَظي-وحدثني أيضًا بعض أهل نجران، عن أهلها-: أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وكان في قرية من قراها قريبًا من نجران-ونجران هي القرية العظمى التي إليها جمَاعُ أهل تلك البلاد-ساحرٌ يعلم غلمان أهل نجران السحر فلما نزلها فَيمُون (5) -ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه، قالوا: رجل نزلها-ابتنى (6) خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر، وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث الثامر ابنه عبد الله بن الثامر مع غلمان أهل نجران، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته، فجعل يجلس إليه ويسمع منه، حتى أسلم فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم، وكان يعلمه، فكتمه إياه وقال له: يا ابن أخي، إنك لن تحمله؛ أخشى ضعفك عنه. والثامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه، وتخوف ضعفه فيه، عمد إلى أقداح فجمعها، ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدْح،
__________
(1) المسند (6/16) وصحيح مسلم برقم (3005).
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (11661).
(3) في أ: "في أواخره".
(4) سنن الترمذي برقم (3340).
(5) في أ: "ميمون".
(6) في م: "فابتنى".
وكل اسم في قدح، حتى إذا أحصاها أوقد نارًا ثم جعل يقذفها فيها قدْحا قدْحًا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بِقدْحه، فوثب القدْح حتى خرج منها لم يضره شيء، فأخذه ثم أتى به صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي كتمه فقال: وما هو: قال: هو كذا وكذا. قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع. قال: أي ابن أخي، قد أصبته فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل.
فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدًا به ضر إلا قال: يا عبد الله، أتوحدُ الله وتدخلُ في ديني وأدعو الله لك فيعافيكَ مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم. فيوحد الله ويسلم، فيدعو الله له فَيشفَى حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه، فاتبعه على أمره ودعا له فعوفي، حتى رُفع شأنه إلى ملك نجران، فدعاه فقال له: أفسدت عليّ أهل قريتي، وخالفت ديني ودين آبائي، لأمثلنّ بك. قال: لا تقدر على ذلك. قال: فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل، فَيُطرح على رأسه، فيقع إلى الأرض ما به بأس، وجعل يبعث به إلى مياه نجران، بُحور لا يلقى فيها شيء إلا هلك، فيلقى به فيها، فيخرج ليس به بأس. فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر: إنك-والله-لا تقدر على قتلي حتى تُوَحّدَ الله فَتُؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت سُلّطتَ عليّ فقتلتني. قال: فوحّدَ الله ذلك الملك، وشهد شهادة عبد الله بن الثامر، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة، فقتله، وهلك الملك مكانه. واستجمع أهلُ نجران على دين عبد الله بن الثامر-وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم، عليه السلام، من الإنجيل وحُكمه-ثم أصابهم ما أصاب أهلَ دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران.
قال ابن إسحاق: فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر، والله أعلم أيّ ذلك كان.
قال: فسار إليهم ذو نواس بجنده، فدعاهم إلى اليهودية، وخيَّرهم بين ذلك أو القتل، فاختاروا القتل، فخدّ الأخدود، فحرق بالنار وقتل بالسيف ومثل بهم، حتى قتل منهم قريبًا من عشرين ألفا، ففي ذي نواس وجنده أنزل الله، عز وجل، على رسوله صلى الله عليه وسلم: { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد } (1) .
هكذا ذكر محمد بن إسحاق في السيرة أن الذي قتل أصحاب الأخدود هو ذو نواس، واسمه: زرعة، ويسمَّى في زمان مملكته بيوسف، وهو ابن تِبَان أسعد أبي كَرب، وهو تُبَّع الذي غزا المدينة وكسى الكعبة، واستصحب معه حبرين من يهود المدينة، فكان تَهَوّد من تَهَوّد من أهل اليمن على يديهما، كما ذكره ابن إسحاق مَبسوطًا، فقتل ذو نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفا، ولم ينج منهم سوى رجل واحد يقال له: دوس ذو ثَعلبان، ذهب فارسا، وطَرَدُوا وراءه فلم يُقدَر عليه، فذهب إلى قيصر ملك الشام، فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة، فأرسل معه جيشًا من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة، فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود، وذهب ذو نواس هاربًا
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/34).
فَلَجَّج في البحر، فغرق. واستمر مُلْكُ الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنة، ثم استنقذه سيف ابن ذي يزن الحميري من أيدي النصارى، لما استجاش بكسرى ملك الفرس، فأرسل معه من في السجون، وكانوا قريبًا من سبعمائة، ففتح بهم اليمن، ورجع الملك إلى حمير. وسنذكر طرفًا من ذلك-إن شاء الله-في تفسير سورة: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }
وقال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أنه حُدِّث: أن رجلا من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب، حَفَر خَربَة من خَرِب نجران لبعض حاجته، فوجد عبد الله بن الثامر تحت دَفْن فيها قاعدا، واضعا يده على ضربة في رأسه، ممسكا عليها بيده، فإذا أخذت يده عنها ثَعبتْ دما، وإذا أرسلت يده رُدّت عليها، فأمسكت دمها، وفي يده خاتم مكتوب فيه: ربي الله. فكُتِب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره، فكتب عمر إليهم: أن أقرّوه على حاله، وردّوا عليه الدّفَن الذي كان عليه. ففعلوا (1) .
وقد قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، رحمه الله: حدثنا أبو بلال الأشعري، حدثنا إبراهيم بن محمد عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، حدثني بعض أهل العلم: أن أبا موسى لما افتتح أصبهان وجد حائطا من حيطان المدينة قد سقط، فبناه فسقط، ثم بناه فسقط، فقيل له: إن تحته رجلا صالحًا. فحفر الأساس فوجد فيه رجلا قائمًا معه سيف، فيه مكتوب: أنا الحارث بن مضاض، نقمت على أصحاب الأخدود. فاستخرجه أبو موسى، وبنى الحائط، فثبت.
قلت: هو الحارث بن مضاض بن عمرو بن مُضاض بن عمرو الجرهمي، أحد ملوك جرهم الذين ولوا أمر الكعبة بعد ولد نَبْت (2) بن إسماعيل بن إبراهيم، وَوَلدُ الحارث هذا هو: عمرو بن الحارث بن مضاض هو آخر ملوك جرهم بمكة، لما أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن، وهو القائل في شعره الذي قال ابن هشام (3) إنه أول شعر قاله العرب:
كَأن لَم يَكُنْ بَين الحَجُون إلى الصّفا ... أَنِيسٌ، ولم يَسمُر بمكَّةَ سَامِرُ ...
بَلَى، نَحنُ كُنَّا أهلَهَا فأبادَنَا ... صُروفُ اللَّيالي والجُدودُ العَوَاثِرُ ...
وهذا يقتضي أن هذه القصة كانت قديما بعد زمان إسماعيل، عليه السلام، بقرب من خمسمائة سنة أو نحوها، وما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن قصتهم كانت في زمان الفترة التي بين عيسى ومحمد، عليهما من الله السلام، وهو أشبه، والله أعلم.
وقد يحتمل أن ذلك قد وقع في العالم كثيرًا، كما قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، أخبرنا صفوان، عن عبد الرحمن بن جبير قال: كانت الأخدود في اليمن زمان تبع، وفي القسطنطينية زمان قسطنطين حين صرف النصارى قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد، فاتخذوا أتّونا، وألقى فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد. وفي العراق في أرض بابل بختنصر، الذي وضع الصنم وأمر الناس أن يسجدوا له، فامتنع دانيال وصاحباه:
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/36).
(2) في م: "ثابت".
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/115).
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
عزريا وميشائيل، فأوقد لهم أتونا وألقى فيه الحطب والنار، ثم ألقاهما فيه، فجعلها الله عليهما بردًا وسلاما، وأنقذهما منها، وألقى فيها الذين بغوا عليه وهم تسعة رهط، فأكلتهم النار.
وقال أسباط، عن السدي في قوله: { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ } قال: كانت الأخدود ثلاثة: خَدّ بالعراق، وخَدّ بالشام، وخَدّ باليمن. رواه ابن أبي حاتم.
وعن مقاتل قال: كانت الأخدود ثلاثة: واحدة بنجران باليمن، والأخرى بالشام، والأخرى بفارس، أما التي بالشام فهو أنطنانوس الرومي، وأما التي بفارس فهو بختنصر، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس. فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله فيهم قرآنا، وأنزل في التي كانت بنجران.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدَّشْتَكي، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع-هو ابن أنس-في قوله: { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ } قال: سمعنا أنهم كانوا قومًا في زمان الفترة فلما رأوا ما وقع في الناس من الفتنة والشر وصاروا أحزابًا، { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [المؤمنون: 53، الروم: 32]، اعتزلوا إلى قرية سكنوها، وأقاموا على عبادة الله { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } [البينة: 5]، وكان هذا أمرهم حتى سمع بهم جبار من الجبارين، وحُدّث حديثهم، فأرسل إليهم فأمرهم أن يعبدوا الأوثان التي اتخذوا (1) وأنهم أبوا عليه كلّهم وقالوا: لا نعبد إلا الله وحده، لا شريك له. فقال لهم: إن لم تعبدوا هذه الآلهة التي عبدتُ فإني قاتلكم. فأبوا عليه، فخَدَّ أخدودا من نار، وقال لهم الجبار-وَوَقَفهم عليها-: اختاروا هذه أو الذي نحن فيه. فقالوا: هذه أحب إلينا. وفيهم نساء وذرية، ففزعت الذرية، فقالوا لهم: لا نار من بعد اليوم. فوقعوا فيها، فقبضت أرواحهم من قبل أن يمسهم حَرّهُا، وخرجت النار من مكانها فأحاطت بالجبارين، فأحرقهم الله بها، ففي ذلك أنزل الله، عز وجل: { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد }
ورواه ابن جرير: حُدِّثت عن عمار، عن عبد الله بن أبي جعفر، به نحوه (2) .
وقوله: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي: حَرقوا (3) قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن أبْزَى.
{ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا } أي: لم يقلعوا عما فعلوا، ويندموا على ما أسلفوا.
{ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } وذلك أن الجزاء من جنس العمل. قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) }
__________
(1) في أ: "التي لتخذوها".
(2) تفسير الطبري (30/88).
(3) في م: "حرقوا بالنار".
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين أن { لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } (1) بخلاف ما أعد لأعدائه من الحريق والجحيم؛ ولهذا قال: { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ }
ثم قال: { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } أي: إن بطشه وانتقامه من أعدائه الذين كَذَّبوا رسله وخالفوا أمره، لشديد عظيم قوي؛ فإنه تعالى ذو القوة المتين، الذي ما شاء كان كما يشاء في مثل لمح البصر، أو هو أقرب؛ ولهذا قال: { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيد } أي: من قوته وقدرته التامة يبدئ الخلق ثم يعيده كما بدأه، بلا ممانع ولا مدافع. { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود } أي: يغفر ذنب من تاب إليه وخَضَع لديه، ولو كان الذنب من أي شيء كان.
والودود-قال ابن عباس وغيره-: هو الحبيب، { ذُو الْعَرْشِ } [أي: صاحب العرش] (2) المعظم (3) العالي على جميع الخلائق.
و { الْمَجِيدُ } فيه قراءتان: الرفع على أنه صفة للرب، عز وجل. والجر على أنه صفة للعرش، وكلاهما معنى صحيح.
{ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } أي: مهما أراد فعله، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل؛ لعظمته وقهره وحكمته وعدله، كما روينا عن أبي بكر الصديق أنه قيل له-وهو في مرض الموت-: هل نظر إليك الطبيب؟ قال: نعم. قالوا: فما قال لك؟ قال: قال لي: إني فعال لما أريد.
وقوله: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } أي: هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس، وأنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد؟.
وهذا تقرير لقوله: { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } أي: إذا أخذ الظالم أخذه أخذًا أليمًا شديدا، أخذ عزيز مقتدر.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسِيّ، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ } فقام يسمع (4) فقال: "نعم، قد جاءني" (5) .
__________
(1) في أ بعدها: "خالدين فيها".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "العظيم".
(4) في أ: "يستمع".
(5) وهذا مرسل.
وقوله: { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ } أي: هم في شك وريب وكفر وعناد، { وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ } أي: هو قادر عليهم، قاهر لا يفوتونه ولا يعجزونه، { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } أي: عظيم كريم، { فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } أي: هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل.
قال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا قُرَّة بن سليمان، حدثنا حرب بن سُرَيج (1) حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك في قوله: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } قال: إن اللوح المحفوظ الذي ذكر الله: { بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ } في جبهة إسرافيل (2) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح، حدثنا معاوية بن صالح: أن أبا الأعْيَس-هو عبد الرحمن بن سَلْمَان-قال: ما من شيء قضى الله-القرآن فما قبله وما بعده-إلا وهو في اللوح المحفوظ. واللوح المحفوظ بين عيني إسرافيل، لا يؤذن له بالنظر فيه.
وقال الحسن البصري: إن هذا القرآن المجيد عند الله في لوح محفوظ، ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه.
وقد روى البغوي من طريق إسحاق بن بشر (3) أخبرني مقاتل وابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: إنه في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده، دينه الإسلام، ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله، أدخله الجنة. قال: واللوح لوح من درة بيضاء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور، وكلامه معقود بالعرش، وأصله في حجر ملك (4) .
قال مقاتل: اللوح المحفوظ عن يمين العرش.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا منجاب بن الحارث، حدثنا إبراهيم بن يوسف، حدثنا زياد بن عبد الله، عن ليث، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق لوحًا محفوظًا من دُرَّة بيضاء، صفحاتها من ياقوتة حمراء، قَلَمه نور وكتابه نور، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة، يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويفعل ما يشاء" (5) .
آخر تفسير سورة "البروج" ولله الحمد (6) .
__________
(1) في أ: "شريح".
(2) تفسير الطبري (30/90).
(3) في أ: "بشير".
(4) معالم التنزيل للبغوي (8/389).
(5) المعجم الكبير (12/72) وزياد وليث بن أبي سليم ضعيفان، وقد جاء موقوفا على ابن عباس، رواه الطبراني في المعجم الكبير (10/316) من طريق بكير بن شهاب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس بنحوه.
(6) في أ: "والله أعلم".
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
تفسير سورة الطارق
وهي مكية.
قال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن محمد-قال: عبد الله وسمعته أنا منه-حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عبد الرحمن ابن خالد بن أبي جَبل (1) العُدْواني، عن أبيه: أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مُشرّق ثَقيف وهو قائم على قوس-أو: عصا-حين أتاهم يبتغي عندهم النصر، فسمعته يقول: " وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ " حتى ختمها-قال: فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك، ثم قرأتها في الإسلام-قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت (2) من هذا الرجل؟ فقرأتها عليهم، فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه (3) .
وقال النسائي: حدثنا عمرو بن منصور، حدثنا أبو نعيم، عن مسْعَر، عن محارب بن دِثَار، عن جابر قال: صلى معاذ المغرب، فقرأ البقرة والنساء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفتان يا معاذ؟ ما كان يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق، والشمس وضحاها، ونحو هذا؟" (4) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ (10) }
يقسم (5) تعالى بالسماء وما جعل فيها من الكواكب النيرة؛ ولهذا قال: { وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ } ثم قال { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ } ثم فسره بقوله: { النَّجْمُ الثَّاقِبُ }
قال قتادة وغيره: إنما سمي النجم طارقا؛ لأنه إنما يرى بالليل ويختفي بالنهار. ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح: نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا (6) أي: يأتيهم فجأة بالليل. وفي
__________
(1) في أ: "جهل".
(2) في م: "ما سمعت".
(3) المسند (4/335) وقال الهيثمي في المجمع (7/136): "عبد الرحمن ذكره ابن أبي حاتم ولم يخرجه أحد وبقية رجاله ثقات".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11664).
(5) في أ: "أقسم".
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (5243) من حديث جابر، رضي الله عنه.
الحديث الآخر المشتمل على الدعاء: "إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن" (1) .
وقوله: { الثَّاقِبُ } قال ابن عباس: المضيء. وقال السدي: يثقب الشياطين إذا أرسل عليها. وقال عكرمة: هو مضيء ومحرق للشيطان.
وقوله: { إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } أي: كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات، كما قال تعالى: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } الآية [الرعد: 11].
وقوله: { فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ } تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خُلق منه، وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد؛ لأن من قدر على البَدَاءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى، كما قال: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27].
وقوله: { خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } يعني: المني؛ يخرج دَفقًا من الرجل ومن المرأة، فيتولد منهما الولد بإذن الله، عز وجل (2) ؛ ولهذا قال: { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } يعني: صلب الرجل وترائب المرأة، وهو صدرها.
قال شبيب بن بشر، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } صلب الرجل وترائب المرأة، أصفر رقيق، لا يكون الولد إلا منهما. وكذا قال سعيد بن جُبَير، وعكرمة، وقتادة والسُّدِّي، وغيرهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن مِسْعَر: سمعت الحكم ذكر عن ابن عباس: { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } قال: هذه الترائب. ووضع يده على صدره.
وقال الضحاك وعطية، عن ابن عباس: تَريبة المرأة موضُع القلادة. وكذا قال عكرمة، وسعيد بن جُبَير. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الترائب: بين ثدييها.
وعن مجاهد: الترائب ما بين المنكبين إلى الصدر. وعنه أيضا: الترائب أسفل من التراقي. وقال سفيان الثوري: فوق الثديين. وعن سعيد بن جُبَير: الترائب أربعة أضلاع من هذا الجانب الأسفل.
وعن الضحاك: الترائب بين الثديين والرجلين والعينين.
وقال الليث بن سعد عن مَعْمَر بن أبي حبيبة (3) المدني: أنه بلغه في قول الله عز وجل: { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } قال: هو عصارة القلب، من هناك يكون الولد.
وعن قتادة: { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } من بين صلبه ونحره.
وقوله: { إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } فيه قولان:
أحدهما: على رجع هذا الماء الدافق إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك. قاله مجاهد،
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (3/419) من حديث عبد الرحمن بن خنبش، رضي الله عنه.
(2) في أ: "بإذن الله تعالى".
(3) في أ: "حبة".
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
وعكرمة، وغيرهما.
والقول الثاني: إنه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق، أي: إعادته وبعثه إلى الدار الآخرة لقادر؛ لأن من قدر على البدء قدر على الإعادة.
وقد ذكر الله، عز وجل، هذا الدليل في القرآن في غير ما موضع، وهذا القول قال به الضحاك، واختاره ابن جرير، ولهذا قال: { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } أي: يوم القيامة تبلى فيه السرائر، أي: تظهر وتبدو، ويبقى السر علانية والمكنون مشهورا. وقد ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يرفع لكل غادر لواء عند استه (1) يقال: هذه غَدْرَةُ فلان بن فلان" (2) .
وقوله: { فَمَا لَهُ } أي: الإنسان يوم القيامة { مِنْ قُوَّةٍ } أي: في نفسه { وَلا نَاصِرٍ } أي: من خارج منه، أي: لا يقدر على أن ينقذ نفسه من عذاب الله، ولا يستطيع له أحد ذلك.
{ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17) }
قال ابن عباس: الرجع: المطر. وعنه: هو السحاب فيه المطر. وعنه: { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ } تمطر ثم تمطر.
وقال قتادة: ترجع رزق العباد كل عام، ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم.
وقال ابن زيد: ترجع نجومها وشمسها وقمرها، يأتين من هاهنا.
{ وَالأرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } قال ابن عباس: هو انصداعها عن النبات. وكذا قال سعيد بن جُبَير وعكرمة، وأبو مالك، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، وغير واحد.
وقوله: { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } قال ابن عباس: حق. وكذا قال قتادة.
وقال آخر: حكم عدل.
{ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } أي: بل هو حق جد.
ثم أخبر عن الكافرين بأنهم يكذبون به ويصدون عن سبيله، فقال: { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا } أي: يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن.
ثم قال: { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ } أي: أنظرهم ولا تستعجل لهم، { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } أي: قليلا. أي: وترى ماذا أحل بهم من العذاب والنكال والعقوبة والهلاك، كما قال: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان: 24].
آخر تفسير سورة "الطارق" ولله الحمد (3) .
__________
(1) في أ: "عند رأسه".
(2) صحيح البخاري برقم (3188) وصحيح مسلم برقم (1735).
(3) في أ: "والله أعلم".
تفسير سورة سبح
وهي مكية.
والدليل على ذلك ما رواه البخاري: حدثنا عبدان: أخبرني أبي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، فجعلا يقرئاننا القرآن. ثم جاء عمار وبلال وسعد. ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين. ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به، حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله قد جاء، فما جاء حتى قرأت: " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " في سور مثلها (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا إسرائيل، عن ثُوَيْر بن أبي فاختَةَ، عن أبيه، عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة: " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " تفرد به أحمد (2) .
وثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "هلا صَلّيت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى" (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن أبيه، عن النعمان بن بشير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في العيدين ب " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " و " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا (4) .
هكذا وقع في مسند الإمام أحمد إسناد هذا الحديث. وقد رواه مسلم-في صحيحه-وأبو داود والترمذي والنسائي، من حديث أبو عَوَانة وجرير وشعبة، ثلاثتهم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن النعمان بن بشير، به (5) قال الترمذي: "وكذا رواه الثوري ومسعر، عن إبراهيم-قال: ورواه سفيان بن عيينة عن إبراهيم-عن أبيه، عن حبيب بن سالم، عن أبيه، عن النعمان. ولا يعرف لحبيب رواية عن أبيه".
وقد رواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن المنتشر، عن أبيه عن حبيب بن سالم، عن النعمان به (6) كما رواه الجماعة، والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4941).
(2) المسند (1/961) وقال الهيثمي في المجمع (7/136): "فيه ثوير بن أبي فاختة وهو متروك".
(3) صحيح البخاري برقم (507) وصحيح مسلم برقم (465).
(4) المسند (4/271)
(5) صحيح مسلم برقم (878) وسنن أبي داود برقم (1122) وسنن الترمذي برقم (533) وسنن النسائي (3/112).
(6) سنن ابن ماجة برقم (1281).
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
ولفظ مسلم وأهل السنن: كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة ب " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " و " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما.
وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بن كعب، وعبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن أبْزَى، وعائشة أم المؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر ب " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " و " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " و " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " -زادت عائشة: والمعوذتين (1) .
وهكذا رُوي هذا الحديث-من طريق-جابر وأبي أمامة صُدَيّ بن عجلان، وعبد الله بن مسعود، وعمران بن حصين، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم (2) ولولا خشية الإطالة لأوردنا ما تيسر من أسانيد ذلك ومتونه ولكن في الإرشاد بهذا الاختصار كفاية، والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (6) إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (13) }
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى-يعني ابن أيوب الغافقي-حدثنا عمي إياس بن عامر، سمعت عقبة بن عامر الجهني لما نزلت: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة:74، 96]قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم". فلما نزلت: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } قال: "اجعلوها في سجودكم".
ورواه أبو داود وابن ماجة، من حديث ابن المبارك، عن موسى بن أيوب، به (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم البَطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } قال: "سبحان ربي الأعلى".
وهكذا رواه أبو داود عن زُهَير بن حرب، عن وكيع، به (4) وقال: "خولف فيه وكيع،
__________
(1) حديث أبي بن كعب في المسند (5/123) وحديث ابن عباس في المسند (1/299) وحديث ابن أبزى في المسند (3/406) وحديث عائشة في المسند (6/227).
(2) وقد توسع الحافظ ابن حجر في ذكر طرق هذا الحديث والكلام عليها في كتابه تلخيص الحبير (2/19).
(3) المسند (4/155) وسنن أبي داود برقم (869) وسنن ابن ماجة برقم (887).
(4) المسند (1/232) وسنن أبي داود برقم (883).
رواه أبو وكيع وشعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد، عن ابن عباس، موقوفا".
وقال الثوري، عن السدي، عن عبد خير قال: سمعت عليا قرأ (1) { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } فقال: سبحان ربي الأعلى.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا حَكَّام عن عَنْبَسة، عن أبي إسحاق الهَمْداني: أن ابن عباس كان إذا قرأ: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } يقول: سبحان ربي الأعلى، وإذا قرأ: { لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [القيامة:1] فأتى على آخرها: { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } [القيامة:40] يقول: سبحانك وبلى (2) .
وقال قتادة: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } ذُكِرَ لنا أن نَبِيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها، قال: "سبحان ربي الأعلى".
وقوله: { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } أي: خلق الخليقة وسَوّى كل مخلوق في أحسن الهيئات.
وقوله: { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } قال مجاهد: هدى الإنسان للشقاوة والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها.
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون: { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [طه:5] أي: قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه، كما ثبت في صحيح مسلم، عن عبد الله ابن عَمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قَدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء" (3) .
وقوله: { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } أي: من جميع صنوف النباتات والزروع، { فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } قال ابن عباس: هشيما متغيرا. وعن مجاهد، وقتادة، وابن زيد، نحوه.
قال ابن جرير: وكان بعض أهل العلم بكلام العرب (4) يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام: والذي أخرج المرعى أحوى، أي: أخضر إلى السواد، فجعله غثاء بعد ذلك. ثم قال ابن جرير: وهذا وإن كان محتملا إلا أنه غير صواب؛ لمخالفته أقوال أهل التأويل.
وقوله: { سَنُقْرِئُكَ } أي: يا محمد { فَلا تَنْسَى } وهذا إخبار من الله، عز وجل، ووعد منه له، بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها، { إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ } وهذا اختيار ابن جرير.
وقال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئا إلا ما شاء الله.
وقيل: المراد بقوله: { فَلا تَنْسَى } طلب، وجعلوا معنى الاستثناء على هذا ما يقع من
__________
(1) في أ: "يقرأ".
(2) تفسير الطبري (30/96).
(3) صحيح مسلم برقم (2653).
(4) في أ: "بكلام العربية".
النسخ، أي: لا تنسى ما نقرئك إلا ما شاء الله رفعه؛ فلا عليك أن تتركه.
وقوله: { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } أي: يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه من ذلك شيء.
وقوله تعالى: { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى } أي: نسهل عليك أفعال الخير وأقواله، ونشرع لك شرعا سهلا سمحا مستقيما عدلا لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر.
وقوله: { فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } أي: ذكِّر حيث تنفع التذكرة. ومن هاهنا (1) يؤخذ الأدب في نشر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه: ما أنت بمحدِّث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. وقال: حدث الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!
وقوله: { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } أي: سيتعظ بما تبلغه-يا محمد-من قلبه يخشى الله ويعلم أنه ملاقيه، { وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } أي: لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه، بل هي مضرة عليه؛ لأن بسببها يشعر ما يعاقب به من أليم العذاب، وأنواع النكال.
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي، عن سليمان-يعني التيمي-عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أهل النار الذين هم أهلها لا (2) يموتون ولا يحيون، وأما أناس يريد الله بهم الرحمة فيميتهم في النار فيدخل عليهم الشفعاء (3) فيأخذ الرجل أنصارة فينبتهم-أو قال: ينبتون-في نهر الحياء-أو قال: الحياة-أو قال: الحيوان-أو قال: نهر الجنة فينبتون-نبات الحبَّة في حميل السيل". قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما ترون الشجرة تكون خضراء، ثم تكون صفراء أو قال: تكون صفراء ثم تكون خضراء؟". قال: فقال بعضهم: كأن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالبادية (4) .
وقال أحمد أيضا: حدثنا إسماعيل، حدثنا سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أناس-أو كما قال-تصيبهم النار بذنوبهم-أو قال: بخطاياهم-فيميتهم إماتة، حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فنبتوا على أنهار الجنة، فيقال: يا أهل الجنة، اقبضوا عليهم. فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل". قال: فقال رجل من القوم حينئذ: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية.
ورواه مسلم في حديث بشر بن المفضل (5) وشعبة، كلاهما عن أبي مَسْلَمة سعيد بن زيد، به
__________
(1) في م: "ومن هذا".
(2) في أ: "فإنهم لا".
(3) في أ: "الشفاعة".
(4) المسند (3/5).
(5) في أ: "الفضل".
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
مثله (1) ورواه أحمد أيضا عن يزيد، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل النار الذين لا يريد الله إخراجهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأن أهل النار الذين يريد الله إخراجهم يميتهم فيها إماتة، حتى يصيروا فحمًا، ثم يخرجون ضبائر فيلقون على أنهار الجنة، أو: يرش (2) عليهم من أنهار الجنة فينبتون كما تنبت الحبَّة في حميل السيل" (3) .
وقد قال الله إخبارا عن أهل النار: { وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } [الزخرف:77] وقال تعالى: { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } [فاطر:36] إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى.
{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) }
__________
(1) المسند (3/11) وصحيح مسلم برقم (185).
(2) في م: "فيرش".
(3) المسند (3/20).
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) }
يقول تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } أي: طهَّر نفسه من الأخلاق الرذيلة، وتابع ما أنزل الله على رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } أي: أقام الصلاة في أوقاتها؛ ابتغاء رضوان الله وطاعة لأمر الله وامتثالا لشرع الله. وقد قال الحافظ أبو بكر البزار:
حدثنا عباد بن أحمد العرزمي، حدثنا عمي محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } قال: "من شهد أن لا إله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله"، { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } قال: "هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها".
ثم قال (1) لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه (2) .
وكذا قال ابن عباس: إن المراد بذلك الصلوات الخمس. واختاره ابن جرير.
وقال ابن جرير: حدثني عَمرو بن عبد الحميد الآملي (3) حدثنا مروان بن معاوية، عن أبي خلدة قال: دخلت على أبي العالية فقال لي: إذا غدوت غدا إلى العيد فمرّ بي. قال: فمررت به فقال: هل طعمت شيئا؟ قلت: نعم. قال: أفضت على نفسك من الماء؟ قلت: نعم. قال: فأخبرني ما فعلت بزكاتك؟ قلت: وكأنك قُلت: قد وَجّهتهَا؟ قال: إنما أردتك لهذا. ثم قرأ: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } وقال: إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء.
__________
(1) في م: "وقال".
(2) مسند البزار برقم (2284) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/137): "رواه البزار عن شيخه عباد بن أحمد العرزمي وهو متروك".
(3) في أ: "الأيلي".
قلت: وكذلك روينا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر، ويتلو هذه الآية { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى }
وقال أبو الأحوص: إذا أتى أحدكم سائل وهو يريد الصلاة، فليقدم بين يدي صلاته زكاته، فإن الله يقول: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى }
وقال قتادة في هذه الآية { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } زكى ماله وأرضى خالقه.
ثم قال تعالى: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي: تقدمونها على أمر الآخرة، وتبدونها على ما فيه نفعهم وصلاحهم في معاشهم ومعادهم، { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي: ثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى، فإن الدنيا دنيَّة فانية، والآخرة شريفة باقية، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى، ويهتم بما يزول عنه قريبا، ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد؟!
قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا ذُوَيد، عن أبي إسحاق، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا دَارُ من لا دارَ له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له" (1) .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا أبو حمزة، عن عطاء، عن عَرْفَجة الثقفي قال: استقرأت ابن مسعود: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } فلما بلغ: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } ترك القراءة، وأقبل على أصحابه وقال: آثرنا الدنيا على الآخرة. فسكت القوم، فقال: آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها، وزُويت عنا الآخرة فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل (2) .
وهذا منه على وجه التواضع والهضم، أو هو إخبار عن الجنس من حيث (3) هو، والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، حدثنا إسماعيل بن جعفر، أخبرني عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب بن عبد الله، عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب دنياه أضر بآخرته، ومَن أحبّ آخرته أضرّ بدنياه، فآثروا ما يبقَى على ما يفنى". تفرد به أحمد.
وقد رواه أيضا عن أبي سلمة الخزاعي، عن الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، به مثله سواء (4) .
وقوله: { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } قال الحافظ أبو بكر البزار:
__________
(1) المسند (6/71) وقال الهيثمي في المجمع (10/288): "رجاله رجال الصحيح غير ذويد وهو ثقة".
(2) تفسير الطبري (30/100).
(3) في أ: "من جنسه".
(4) المسند (4/412) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2473) "موارد" من طريق يعقوب بن عبد الرحمن، عن عمرو بن أبي عمرو به.
حدثنا نصر بن علي، حدثنا مُعتمر بن سليمان، عن أبيه عن عطاء بن السائب، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت: { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كان كل هذا-أو: كان هذا-في صحف إبراهيم وموسى" (1) .
ثم قال: لا نعلم أسند الثقات عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس غير (2) هذا، وحديثا آخر أورده قبل هذا.
وقال النسائي: أخبرنا زكريا بن يحيى، أخبرنا نصر بن علي، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } قال: كلها في صحف إبراهيم وموسى، فلما نزلت: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [النجم:37] قال: وفَّى { أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [النجم:38] (3) .
يعني أن هذه الآية كقوله في سورة "النجم": { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } [النجم: 36-42] الآيات إلى آخرهن. وهكذا قال عكرمة-فيما رواه ابن جرير، عن ابن حميد، عن مِهْران، عن سفيان الثوري، عن أبيه، عن عكرمة-في قوله: { إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } يقول: الآيات التي في سبح اسم ربك الأعلى.
وقال أبو العالية: قصة هذه السورة في الصحف الأولى.
واختار ابن جرير أن المراد بقوله: { إِنَّ هَذَا } إشارة إلى قوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ثم قال: { إِنَّ هَذَا } أي: مضمون هذا الكلام { لَفِي الصُّحُفِ الأولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } (4) .
وهذا اختيار حسن قوي. وقد رُوي عن قتادة وابن زيد، نحوُه. والله أعلم.
آخر تفسير سورة "سبح" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11668).
(2) في أ: "نحو".
(3) مسند البزار برقم (2285) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/137): "فيه عطاء بن السائب وقد اختلط، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(4) تفسير الطبري (30/101).
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
تفسير سورة الغاشية
وهي مكية.
قد تقدم عن النعمان بن بَشير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ب " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى " والغاشية في صلاة العيد ويوم الجمعة.
وقال الإمام مالك، عن ضَمْرَة بن سعيد، عن عُبَيد الله بن عبد الله: أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير: بم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال: " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " .
رواه أبو داود عن القَعْنَبي، والنسائي عن قتيبة، كلاهما عن مالك، به (1) ورواه مسلم وابن ماجة، من حديث سفيان بن عيينة، عن ضمرة بن سعيد، به (2) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) }
الغاشية: من أسماء يوم القيامة. قاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد؛ لأنها تغشى الناس وتَعُمّهم. وقد قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسِيّ، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } فقام يستمع ويقول: "نعم، قد جاءني" (3) .
وقوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } أي: ذليلة. قاله قتادة. وقال ابن عباس: تخشع ولا ينفعها عملها.
وقوله: { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ } أي: قد عملت عملا كثيرا، ونصبت فيه، وصليت يوم القيامة نارا حامية.
__________
(1) الموطأ (1/111) وسنن أبي داود برقم (1123) وسنن النسائي (3/112).
(2) صحيح مسلم برقم (878) وسنن ابن ماجة برقم (1119).
(3) وهذا مرسل وقد تقدم.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
وقال الحافظ أبو بكر البرقاني: حدثنا إبراهيم بن محمد المُزَكّى، حدثنا محمد بن إسحاق السراج، حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا سيار (1) حدثنا جعفر قال: سمعت أبا عمران الجَوني يقول: مر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بدير راهب، قال: فناداه: يا راهب [يا راهب] (2) فأشرف. قال: فجعل عمر ينظر إليه ويبكي. فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك من هذا؟ قال: ذكرت قول الله، عز وجل في كتابه: { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } فذاك الذي أبكاني (3) .
وقال البخاري: قال ابن عباس: { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ } النصارى.
وعن عكرمة، والسدي: { عَامِلَةٌ } في الدنيا بالمعاصي { نَّاصِبَةٌ } في النار بالعذاب والأغلال (4) .
قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: { تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } أي: حارة شديدة الحر { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } أي: قد انتهى حَرّها وغليانها. قاله ابن عباس، ومجاهد، والحسن، والسّدي.
وقوله: { لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: شجر من نار.
وقال سعيد بن جبير: هو الزقوم. وعنه: أنها الحجارة.
وقال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبو الجوزاء، وقتادة: هو الشِّبرِقُ. قال قتادة: قريش تسميه في الربيع الشِّبرِقُ، وفي الصيف الضريع. قال عكرمة: وهو شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض.
وقال البخاري: قال مجاهد: الضريعُ نبتٌ يقال له: الشِّبرِقُ، يسميه أهل الحجاز: الضريعَ إذا يبس، وهو سم (5) .
وقال مَعْمَر، عن قتادة: { إِلا مِنْ ضَرِيعٍ } هو الشِّبرِقُ، إذا يبس سُمّي الضريع.
وقال سعيد، عن قتادة: { لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ } من شر الطعام وأبشعه وأخبثه.
وقوله: { لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ } يعني: لا يحصل به مقصود، ولا يندفع به محذور.
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) }
__________
(1) في أ: "حدثنا يسار".
(2) زيادة من م، أ.
(3) ورواه عبد الرزاق في تفسيره (2/299) عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران به، ورواه الحاكم في المستدرك (2/522) من طريق الخضر بن أبان، عن سيار، عن جعفر به، وقال الحاكم: "هذه حكاية في وقتها، فإن أبا عمران الجوني لم يدرك زمان عمر".
(4) في م: "والإهلاك".
(5) صحيح البخاري (8/700) "فتح".
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
لما ذكر حال الأشقياء، ثنى بذكر السعداء فقال: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ } أي: يوم القيامة { نَّاعِمَةٌ } أي: يعرف النعيم فيها. وإنما حَصَل لها ذلك بسعيها.
وقال سفيان: { لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } قد رضيت عملها.
وقوله: { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } أي: رفيعة بهية في الغرفات آمنون، { لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً } أي: لا يسمع في الجنة التي هم فيها كلمة لغو. كما قال: { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا } [مريم:62] وقال: { لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ } [الطور:23] وقال: { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا } [الواقعة: 25 ، 26]
{ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } أي: سارحة. وهذه نكرة في سياق الإثبات، وليس المراد بها عينا واحدة، وإنما هذا جنس، يعني: فيها عيون جاريات.
وقال ابن أبي حاتم: قُرئ على الربيع بن سليمان: حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن ثوبان، عن عطاء بن قُرَّة، عن عبد الله بن ضَمْرة، عن أبي هُرَيرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنهار الجنة تفجر من تحت تلال-أو: من تحت جبال-المسك" (1) .
{ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ } أي: عالية ناعمة كثيرة الفرش، مرتفعة السَّمْك، عليها الحور العين. قالوا: فإذا أراد وَليُّ الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له، { وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ } يعني: أواني الشرب معدة مُرصدة (2) لمن أرادها من أربابها، { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ } قال ابن عباس: النمارق: الوسائد. وكذا قال عكرمة، وقتادة، والضحاك، والسدي، والثوري، وغيرهم.
وقوله: { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } قال ابن عباس: الزرابي: البسط. وكذا قال الضحاك، وغير واحد.
ومعنى مبثوثة، أي: هاهنا وهاهنا لمن أراد الجلوس عليها.
ونذكر هاهنا هذا الحديث الذي رواه أبو بكر بن أبي داود: حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا أبي، عن محمد بن مهاجر، عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى: حدثني كُرَيْب أنه سمع أسامة بن زيد يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا هل من مُشَمَّر للجنة، فإن الجنة لا خَطَر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة، وحُلَل كثيرة، ومقام في أبد في دارٍ سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية؟". قالوا: نعم يا رسول الله، نحن المشمرون لها. قال: " قولوا: إن شاء الله". قال القوم: إن شاء الله.
ورواه ابن ماجة عن العباس بن عثمان الدمشقي، عن الوليد بن مسلم (3) عن محمد بن مهاجر به (4) .
{ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22) إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) }
__________
(1) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2622) "موارد" من طريق القراطيسي، عن أسد بن موسى به.
(2) في م: "موضوعة".
(3) في أ: "سلمة".
(4) البعث لابن أبي داود برقم (71) وسنن ابن ماجة برقم (4332) وقال البوصيري في الزوائد (3/325): "هذا إسناد فيه مقال، الضحاك المعافري ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي في طبقات التهذيب: "مجهول". وسليمان بن موسى مختلف فيه وباقي رجال الإسناد ثقات".
يقول تعالى آمرًا عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته: { أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } ؟ فإنها خَلق عجيب، وتركيبها غريب، فإنها في غاية القوة والشدة، وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل، وتنقاد للقائد الضعيف، وتؤكل، وينتفع بوبرها، ويشرب لبنها. ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل، وكان شريح القاضي يقول: اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت؟ أي: كيف رفعها الله، عز وجل، عن الأرض هذا الرفع العظيم، كما قال تعالى: { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } [ق:6]
{ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ } أي: جعلت منصوبة قائمة ثابتة راسية لئلا تميد الأرض بأهلها، وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن.
{ وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } ؟ أي: كيف بسطت ومدت ومهدت، فنبَّه البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه، والسماء التي فوق رأسه، والجبل الذي تجاهه، والأرض التي تحته-على قدرة خالق ذلك وصانعه، وأنه الرب العظيم الخالق المتصرف المالك، وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه. وهكذا أقسم "ضِمَام" في سؤاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما رواه الإمام أحمد حيث قال:
حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد، إنه أتانا رسولُك فزعَم لنا أنك تَزعُم أن الله أرسلك. قال: "صدق". قال: فمن خلق السماء؟ قال: "الله". قال: فمن خلق الأرض؟ قال: "الله". قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: "الله". قال: فبالذي خلق السماء والأرض ونصب هذه الجبال، آللهُ أرسلك؟ قال: "نعم". قال: وزعم رسولُك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال: "صدق". قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟
قال: "نعم". قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا؟ قال: "صدق". قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟. قال: "نعم". قال: وزعم رسولك أن علينا حَجّ البيت من استطاع إليه سبيلا. قال: "صدق". قال: ثم ولى فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن شيئا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن صدق ليدخُلَنّ الجنة".
وقد رواه مسلم، عن عمرو الناقد، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، به (1) وعَلّقه البخاري، ورواه الترمذي والنسائي، من حديث سليمان بن المغيرة به (2) ورواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث الليث بن سعد، عن سعيد المقبري، عن شريك ابن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس، به بطوله (3) وقال في آخره: "وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر".
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسحاق، حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثني عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يحدث عن امرأة في الجاهلية على رأس جبل، معها ابن لها ترعى غنما، فقال لها ابنها: يا أمه، من خلقك؟ قالت: الله. قال: فمن خلق أبي؟ قالت: الله. قال: فمن خلقني؟ قالت: الله. قال: فمن خلق السماء؟ قالت: الله. قال: فمن خلق الأرض؟ قالت: الله. قال: فمن خلق الجبل؟ قالت: الله. قال: فمن خلق هذه الغنم؟ قالت: الله. قال: إني لأسمع لله شأنا. وألقى نفسه من الجبل فتقطع.
قال ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يحدثنا هذا.
قال ابن دينار: كان ابن عمر كثيرًا ما يحدثنا بهذا (4) .
في إسناده ضعف، وعبد الله بن جعفر هذا هو المديني، ضَعّفه ولده الإمام علي بن المديني وغيره.
وقوله: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ . لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } أي: فذكر-يا محمد-الناس بما أرسلت به إليهم، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب؛ ولهذا قال: { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } قال ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما: لست عليهم بجبار.
وقال ابن زيد: لست بالذي تكرههم على الإيمان.
قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل". ثم قرأ: { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ }
__________
(1) المسند (3/143) وصحيح مسلم برقم (12).
(2) صحيح البخاري (1/148) "فتح" وسنن الترمذي برقم (619) وسنن النسائي الكبرى برقم (2401).
(3) المسند (3/168) وصحيح البخاري برقم (63) وسنن أبي داود برقم (486) وسنن النسائي الكبرى برقم (2402) وسنن ابن ماجة برقم (1402).
(4) ورواه ابن عدي في الكامل (4/178) عن أبي يعلى به مثله. وقال: "غير محفوظ، لا يحدث به عن ابن دينار غير عبد الله بن جعفر".
وهكذا رواه مسلم في كتاب "الإيمان"، والترمذي والنسائي في كتابى (1) التفسير" من سننيهما، من حديث سفيان بن سعيد الثوري، به بهذه الزيادة (2) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من رواية أبي هريرة، بدون ذكر هذه الآية (3) .
وقوله: { إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ } أي: تولى عن العمل بأركانه، وكفر بالحق بجنانه ولسانه. وهذه كقوله: { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [القيامة: 31 ، 32] ولهذا قال: { فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ } قال الإمام أحمد:
حدثنا قتيبة، حدثنا ليث، عن سعيد بن أبي هلال، عن علي بن خالد (4) أن أبا أمامة الباهلي مَرَّ على خالد بن يزيد بن معاوية، فسأله عن ألين كلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا كلكم يدخل الجنة، إلا من شَرَد على الله شَراد البعير على أهله".
تفرد (5) بإخراجه الإمام أحمد (6) وعلي بن خالد هذا ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه، ولم يزد على ما هاهنا: "روي عن أبي أمامة، وعنه سعيد بن أبي هلال" (7) .
وقوله: { إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ } أي: مرجعهم ومنقلبهم { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } أي: نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
آخر تفسير سورة "الغاشية" ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في أ: "في كتاب".
(2) المسند (3/300) وصحيح مسلم برقم (21) وسنن الترمذي برقم (3341) وسنن النسائي الكبرى برقم (11670).
(3) صحيح البخاري برقم (2946) وصحيح مسلم برقم (21).
(4) في أ: "علي بن أبي خالد" والمثبت من "م" والمسند.
(5) في م: "انفرد".
(6) المسند (5/258).
(7) الجرح والتعديل (6/184) وقد ذكر الهيثمي في المجمع (10/403) "أنه ثقة".
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
تفسير سورة الفجر
وهي مكية.
قال النسائي: أخبرنا عبد الوهاب بن الحكم، أخبرني يحيى بن سعيد، عن سليمان، عن محارب بن دِثار وأبي صالح، عن جابر قال: صلى معاذ صلاةً، فجاء رجل فصلى معه فطَول، فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف، فبلغ ذلك معاذا فقال: منافق. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل الفتى، فقال: يا رسول الله، جئت أصلي معه فَطَوّل عَلَيّ، فانصرفت وصليتُ في ناحية المسجد، فعلقت ناضحي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفَتَّان يا معاذ؟ أين أنت مِن { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } { وَالْفَجْرِ } { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } (1) .
بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِي (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) }
أما الفجر فمعروف، وهو: الصبح. قاله علي، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي. وعن مسروق، ومجاهد، ومحمد بن كعب: المراد به فجر يوم النحر خاصة، وهو خاتمة الليالي العشر.
وقيل: المراد بذلك الصلاة التي تفعل عنده، كما قاله عكرمة.
وقيل: المراد به جميع النهار. وهو رواية عن ابن عباس.
والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة. كما قاله ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وغير واحد من السلف والخلف. وقد ثبت في صحيح البخاري، عن ابن عباس مرفوعا: "ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام" -يعني عشر ذي الحجة -قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلا خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء" (2) .
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11673).
(2) صحيح البخاري برقم (969).
وقيل: المراد بذلك العشر الأول من المحرم، حكاه أبو جعفر ابن جرير ولم يعزه إلى أحد (1) وقد روى أبو كُدَيْنة، عن قابوس بن أبي ظِبْيان، عن أبيه، عن ابن عباس: { وَلَيَالٍ عَشْرٍ } قال: هو العشر الأول من رمضان.
والصحيح القول الأول؛ قال الإمام أحمد:
حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا عَيَّاش بن عقبة، حدثني خَير بن نُعَيم، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر".
ورواه النسائي عن محمد بن رافع وعبدة بن عبد الله، كل منهما عن زيد بن الحباب، به (2) ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث زيد بن الحباب، به (3) وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم، وعندي أن المتن في رفعه نكارة، والله أعلم.
وقوله: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } قد تقدم في هذا الحديث أن الوتر يوم عرفة، لكونه التاسع، وأن الشفع يوم النحر لكونه العاشر. وقاله ابن عباس، وعكرمة، والضحاك أيضا.
قول ثان: وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثني عقبة بن خالد، عن واصل ابن السائب قال: سألت عطاء عن قوله: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } قلتُ: صلاتنا وترنا هذا؟ قال: لا ولكن الشفع يوم عرفة، والوتر ليلة الأضحى.
قول ثالث: قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني، حدثني أبي، عن النعمان -يعني ابن عبد السلام-عن أبي سعيد بن عوف، حدثني بمكة قال: سمعتُ عبد الله ابن الزبير يخطب الناس، فقام إليه رجلٌ فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن الشفع والوتر. فقال: الشفع قول الله، عز وجل: { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } والوتر قوله: { وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [البقرة: 203] .
وقال ابن جريج: أخبرني محمد بن المرتفع أنه سمع ابن الزبير يقول: الشفع أوسط أيام (4) التشريق، والوتر آخر أيام التشريق.
وفي الصحيحين من رواية أبي هُرَيرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر" (5) .
قول رابع: قال الحسن البصري، وزيد بن أسلم: الخلق كلهم شفع، ووتر، أقسم تعالى بخلقه. وهو رواية عن مجاهد، والمشهور عنه الأول.
__________
(1) في أ: "إلى واحد".
(2) المسند (3/327) وسنن النسائي الكبرى برقم (1671).
(3) تفسير الطبري (30/108).
(4) في أ: "الشفع الأيام من".
(5) صحيح البخاري برقم (6410) وصحيح مسلم برقم (2677).
وقال العَوفي، عن ابن عباس: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } قال: الله وتر واحد، وأنتم شفع. ويقال: الشفع صلاة الغداة، والوتر: صلاة المغرب.
قول خامس: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبيد بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } قال: الشفع الزوج، والوتر: الله عز وجل.
وقال أبو عبد الله، عن مجاهد: الله الوتر، وخلقه الشفع، الذكر والأنثى.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قوله: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } كل شيء خلقه الله شفع، السماء والأرض، والبر والبحر، والجن والإنس، والشمس والقمر، ونحو هذا. ونحا مجاهد في هذا ما ذكروه في قوله تعالى: { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الذاريات:49] أي: لتعلموا أن خالق الأزواج واحد.
قول سادس: قال قتادة، عن الحسن: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } هو العدد، منه شفع ومنه وتر.
قول سابع: في الآية الكريمة رواه ابنُ أبي حاتم وابنُ جَرير من طريق ابن جريج، ثم قال ابن جرير: وَرُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يؤيد القول الذي ذكرنا عن أبي الزبير: حدثني عَبد الله بن أبي زياد القطواني، حدثنا زيد بن الحباب، أخبرني عياش بن عقبة، حدثني خير (1) بن نُعَيم، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشفع اليومان، والوتر اليوم الثالث" (2) .
هكذا ورد هذا الخبر بهذا اللفظ، وهو مخالف لما تقدم من اللفظ في رواية أحمد والنسائي وابن أبي حاتم، وما رواه هو أيضا، والله أعلم.
قال أبو العالية، والربيع بن أنس، وغيرهما: هي الصلاة، منها شفع كالرباعية والثنائية، ومنها وتر كالمغرب، فإنها ثلاث، وهي وتر النهار. وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجد من الليل.
وقد قال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة، عن عمران بن حصين: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } قال: هي الصلاة المكتوبة، منها شفع ومنها وتر. وهذا منقطع وموقوف، ولفظه خاص بالمكتوبة. وقد روي متصلا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه عام، قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو داود -هو الطيالسي-حدثنا همام، عن قتادة، عن عمران بن عصام: أن شيخا (3) حدثه من أهل البصرة، عن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الشفع والوتر، فقال: "هي الصلاة، بعضها شفع، وبعضها وتر" (4) .
هكذا وقع في المسند، وكذا رواه ابن جرير عن بُنْدَار، عن عفان وعن أبي كُرَيْب، عن عبيد الله بن موسى، كلاهما عن همام -وهو ابن يحيى-عن قتادة، عن عمران بن عصام، عن
__________
(1) في أ: "حدثني القطراني".
(2) تفسير الطبري (30/109).
(3) في أ: "أن جبيرا".
(4) المسند (4/437).
شيخ، عن عمران بن حصين (1) وكذا رواه أبو عيسى الترمذي، عن عمرو بن علي، عن ابن مَهْدِيّ وأبي داود، كلاهما عن همام، عن قتادة، عن عمران بن عصام، عن رجل من أهل البصرة، عن عمران بن حصين، به. ثم قال: غريب، لا نعرفه إلا من حديث قتادة، وقد رواه خالد بن قيس أيضا عن قتادة (2) .
وقد روي عن عمران بن عصام، عن عمران نفسه، والله أعلم.
قلت: ورواه ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا همام (3) عن قتادة، عن عمران بن عصام الضبعي -شيخ من أهل البصرة-عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، هكذا رأيته في تفسيره، فجعل الشيخ البصري هو عمران بن عصام [الضبعي] (4) .
وهكذا رواه ابن جرير: حدثنا نصر بن علي، حدثني أبي، حدثني خالد بن قيس، عن قتادة، عن عمران بن عصام، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفع والوتر قال: "هي الصلاة منها شفع، ومنها وتر" (5) .
فأسقط ذكر الشيخ المبهم، وتفرد به عمران بن عصام الضبعي أبو عمارة البصري، إمام مسجد بني ضُبَيعة وهو والد أبي جَمْرَة (6) نصر بن عمران الضبعي. روى عنه قتادة، وابنه أبو جمرة (7) والمثنى بن سعيد، وأبو التياح يزيد بن حميد. وذكره ابن حبَّان في كتاب الثقات (8) وذكره خليفة ابن خَيَاط في التابعين (9) من أهل البصرة، وكان شريفا نبيلا حظيا عند الحجاج بن يوسف، ثم قتله يوم الزاوية سنة ثلاث (10) وثمانين لخروجه مع ابن الأشعث، وليس له عند الترمذي سوى هذا الحديث الواحد. وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه، والله أعلم.
ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر.
وقوله: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } (11) قال العوفي، عن ابن عباس: أي إذا ذهب.
وقال عبد الله بن الزبير: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } حتى يذهب بعضه بعضا.
وقال مجاهد، وأبو العالية، وقتادة، ومالك، عن زيد بن أسلم وابن زيد: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } إذا سار.
وهذا يمكن حمله على ما قاله ابن عباس، أي: ذهب. ويحتمل أن يكون المراد إذا سار،
__________
(1) تفسير الطبري (30/109).
(2) سنن الترمذي برقم (3342).
(3) في أ: "أخبرنا هشام".
(4) زيادة من أ.
(5) تفسير الطبري (30/109).
(6) في أ: "أبي حمزة".
(7) في أ: "أبي حمزة".
(8) الثقات (5/234).
(9) في أ: "المتابعين".
(10) في م: "سنة ثنتين".
(11) في م: "يسرى".
أي: أقبل. وقد يقال: إن هذا أنسب؛ لأنه في مقابلة قوله: { وَالْفَجْرِ } فإن الفجر هو إقبال النهار وإدبار الليل، فإذا حمل قوله: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } (1) على إقباله كان قَسَمًا بإقبال الليل وإدبار النهار، وبالعكس، كقوله: { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } [التكوير:17، 18]. وكذا قال الضحاك: { [وَاللَّيْلِ ] إِذَا يَسْرِ } (2) أي: يجري.
وقال عكرمة: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } يعني: ليلة جَمْع. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام، حدثنا أبو عامر، حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو قال: سمعت محمد بن كعب القرظي، يقول في قوله: { وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } قال: اسر يا سار ولا تبين إلا بجَمْع.
وقوله: { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ } أي: لذي عقل ولب وحجا [ودين] (3) وإنما سمي العقل حجْرًا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال، ومنه حجْرُ البيت لأنه يمنع الطائف من اللصوق بجداره الشامي. ومنه حجر اليمامة، وحَجَرَ الحاكم على فلان: إذا منعه التصرف، { وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } [الفرقان:22]، كل هذا من قبيل واحد، ومعنى متقارب، وهذا القسم هو بأوقات العبادة، وبنفس العبادة من حج وصلاة وغير ذلك من أنواع القرب التي يتقرب بها [إليه عباده] (4) المتقون المطيعون له، الخائفون منه، المتواضعون لديه، الخاشعون لوجهه الكريم.
ولما ذكر هؤلاء وعبادتهم وطاعتهم قال بعده: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين، خارجين عن طاعته مكذبين لرسله، جاحدين لكتبه. فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم، وجعلهم أحاديث وعبَرا، فقال: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } وهؤلاء عاد الأولى، وهم أولاد عاد بن إرم بن عَوص بن سام بن نوح، قاله ابن إسحاق وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هودًا، عليه السلام، فكذبوه وخالفوه، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم، وأهلكهم بريح صرصر عاتية، { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } [الحاقة:7، 8]وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع، ليعتبر بمصرعهم المؤمنون.
فقوله تعالى: { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } (5) عطف بيان؛ زيادة تعريف بهم.
وقوله: { ذَاتِ الْعِمَادِ } لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشِّعر التي ترفع بالأعمدة الشداد، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم (6) خلقة وأقواهم بطشا، ولهذا ذكَّرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم، فقال: { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ] } (7) [الأعراف:69]. وقال تعالى:
__________
(1) في م: "يسرى".
(2) زيادة من م، أ.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من م، أ.
(5) في م: "بعاد إرم".
(6) في م: "زيادتهم".
(7) في م، أ، هـ: "ولا تعثوا في الأرض مفسدين" والصواب ما أثبتناه.
{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [فصلت:15]، وقال هاهنا: { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } أي: القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم، لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم.
قال مجاهد: إرم: أمة قديمة. يعني: عادا الأولى، كما قال قتادة بن دعامة، والسُّدِّيُّ: إن إرم بيت مملكة عاد. وهذا قول حسن جيد قوي.
وقال مجاهد، وقتادة، والكلبي في قوله: { ذَاتِ الْعِمَادِ } كانوا أهل عمود لا يقيمون.
وقال العوفي، عن ابن عباس: إنما قيل لهم: { ذَاتِ الْعِمَادِ } لطولهم.
واختار الأول ابنُ جرير، ورد الثاني فأصاب.
وقوله: { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } أعاد ابن زيد الضميرَ على العماد؛ لارتفاعها، وقال: بنوا عُمُدا بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد. وأما قتادة وابن جرير فأعاد الضمير على القبيلة، أي: لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد، يعني في زمانهم. وهذا القول هو الصواب، وقول ابن زيد ومن ذهب مذهبه ضعيف؛ لأنه لو كان أراد ذلك لقال: التي لم يعمل مثلها في البلاد، وإنما قال: { لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ }
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثنا معاوية بن صالح، عمن حدثه، عن المقدام، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر إرم ذات العماد فقال: "كان الرجل منهم يأتي على صخرة فيحملها على الحي فيهلكهم" (1) .
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو الطاهر، حدثنا أنس بن عياض، عن ثور بن زيد الديلي. قال: قرأت كتابا -قد سمى حيث قرأه-: أنا شداد بن عاد، وأنا الذي رفعت العماد، وأنا الذي شددت بذراعي نظر واحد، وأنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع، لا يخرجه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قلت: فعلى كل قول سواء كانت العماد أبنية بنوها، أو أعمدة بيوتهم للبدو، أو سلاحا يقاتلون به، أو طول الواحد منهم -فهم قبيلة وأمة من الأمم، وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضع، المقرونون بثمود كما هاهنا، والله أعلم. ومن زعم أن المراد بقوله: { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } مدينة إما دمشق، كما روي عن سعيد بن المسيب وعكرمة، أو اسكندرية كما رُوي عن القُرَظي (2) أو غيرهما، ففيه نظر، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } إن جعل ذلك بدلا أو عطف بيان، فإنه لا يتسق الكلام حينئذ. ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يُرَد، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم.
__________
(1) ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في فتح الباري لابن حجر (8/701).
(2) في أ: "القرطبي".
وإنما نبهت على ذلك لئلا يُغْتَرَّ بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية، من ذكر مدينة يقال لها: { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } مبنية بلبن الذهب والفضة، قصورها ودورها وبساتينها، وإن حصباءها (1) لآلئ وجواهر، وترابها بنادق المسك، وأنهارها سارحة، وثمارها ساقطة، ودورها لا أنيس بها، وسورها (2) وأبوابها تصفر، ليس بها داع ولا مجيب. وأنها تنتقل فتارة تكون بأرض الشام، وتارة باليمن، وتارة بالعراق، وتارة بغير ذلك من البلاد -فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين، من وضع بعض زنادقتهم، ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك.
وذكر الثعلبي وغيره أن رجلا من الأعراب -وهو عبد الله بن قِلابة-في زمان معاوية ذهب في طلب أباعر له شردت، فبينما هو يتيه في ابتغائها، إذ طلع على مدينة عظيمة لها سور وأبواب، فدخلها فوجد فيها قريبًا مما ذكرناه من صفات المدينة الذهبية التي تقدم ذكرها، وأنه رجع فأخبر الناس، فذهبوا معه إلى المكان الذي قال فلم يروا شيئا.
وقد ذكر ابن أبي حاتم قصة { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } هاهنا مطولة جدا، فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها، ولو صح إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلق ذلك، أو أنه أصابه نوع من الهَوَس والخبال (3) فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج، وليس كذلك. وهذا مما يقطع بعدم صحته. وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتحيلين، من وجود مطالب تحت الأرض، فيها قناطير الذهب والفضة، وألوان الجواهر واليواقيت (4) واللآلئ والإكسير الكبير، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها، فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير، ونحو ذلك من الهذيانات، ويَطْنزون بهم. والذي يجزم به أن في الأرض دفائن جاهلية وإسلامية وكنوزًا كثيرة، من ظفر بشيء منها أمكنه تحويله (5) فأما على الصفة التي زعموها فكذب وافتراء وبهت، ولم يصح في ذلك شيء مما يقولون إلا عن نقلهم أو نقل من أخذ عنهم، والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب.
وقولُ ابن جرير: يحتمل أن يكون المراد بقوله: { إِرَمَ } قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها فلذلك لم تُصرَف فيه نظر؛ لأن المراد من السياق إنما هو الإخبار عن القبيلة، ولهذا قال بعده: { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ } يعني: يقطعون الصخر بالوادي. قال ابن عباس: ينحتونها ويخرقونها. وكذا قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد. ومنه يقال: "مجتابي النمار". إذا خرقوها، واجتاب الثوب: إذا فتحه. ومنه الجيب أيضا. وقال الله تعالى: { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ } [الشعراء:149]. وأنشد ابن جرير وابن أبي حاتم هاهنا قول الشاعر:
__________
(1) في أ: "وأن حصباؤها" وهو خطأ.
(2) في م: "وسررها".
(3) في م: "والخيال".
(4) في م: "والياقوت".
(5) في م: "تحويلها".
ألا كُلّ شيء -ما خَلا الله-بائدٌ ... كَما بَاد حَيٌّ من شنيف ومارد ...
هُم ضَرَبُوا في كُلِّ صَمَّاء صَعدة ... بأيد شِدَاد أيّدات السَّواعد (1)
وقال ابن إسحاق: كانوا عربا، وكان منزلهم بوادي القرى. وقد ذكرنا قصة "عاد" مستقصاة في سورة "الأعراف" بما أغنى عن إعادته.
وقوله: { وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ } قال العوفي، عن ابن عباس: الأوتاد: الجنود الذين يشدون له أمره. ويقال: كان فرعون يوتد أيديهم وأرجلهم في أوتاد من حَديد يعلقهم بها. وكذا قال مجاهد: كان يوتد الناس بالأوتاد. وهكذا قال سعيد بن جبير، والحسن، والسدي. قال السدي: كان يربط الرجل، كل قائمة من قوائمه في وتد ثم يرسل عليه صخرة عظيمة فتشدخه (2) .
وقال قتادة: بلغنا أنه كانت له مَطَالٌّ وملاعب، يلعب له تحتها، من أوتاد وحبال.
وقال ثابت البناني، عن أبي رافع: قيل لفرعون { ذِي الأوْتَادِ } ؛ لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتاد، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت.
وقوله: { الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ } أي: تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس، { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } أي: أنزل عليهم رجزا من السماء، وأحل بهم عقوبة لا يردها عن القوم المجرمين.
وقوله: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } قال ابن عباس: يسمع ويرى. يعني: يرصد (3) خلقه فيما يعملون، ويجازي كلا بسعيه في الدنيا والآخرى، وسيعرض الخلائق كلهم عليه، فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلا بما يستحقه. وهو المنزه عن الظلم والجور.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا غريبًا جدًا -وفي إسناده نظر وفي صحته-فقال: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحواري، حدثنا يونس الحذاء، عن أبي حمزة البيساني، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ، إن المؤمن لدى الحق أسير. يا معاذ، إن المؤمن لا يسكن روعه ولا يأمن اضطرابه حتى يُخَلَّف جسر جهنم خلف ظهره. يا معاذ، إن المؤمن قيده القرآن عن كثير من شهواته، وعن أن يهلك فيها هو بإذن الله، عز وجل، فالقرآن دليله، والخوف محجته، والشوق مطيته، والصلاة كهفه، والصوم جنته، والصدقة فكاكه، والصدق أميره، والحياء وزيره، وربه، عز وجل، من وراء ذلك كله بالمرصاد" (4) .
قال ابن أبي حاتم: يونس الحذاء وأبو حمزة مجهولان، وأبو حمزة عن معاذ مرسل. ولو كان عن أبي حمزة لكان حسنًا. أي: لو كان من كلامه لكان حسنًا. ثم قال ابن أبي حاتم:
__________
(1) تفسير الطبري (30/113).
(2) في أ: "فشخده".
(3) في أ: "يراصد".
(4) ورواه أبو نعيم في الحلية (10/31) من طريق إسحاق بن أبي حسان، عن أحمد بن أبي الحواري به، ورواه أبو نعيم في الحلية (1/26) من طريق عبد الملك بن أبي كريمة، عن أبي حاجب، عن عبد الرحمن، عن معاذ مرفوعا بنحوه.
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
حدثنا أبي، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، عن صفوان بن عمرو، عن أيفع بن عبد الكلاعي: أنه سمعه وهو يعظ الناس يقول: إن لجهنم سبع قناطر -قال: والصراط عليهن، قال: فيحبس الخلائق عند القنطرة الأولى، فيقول: { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } [الصافات:24]، قال: فيحاسبون على الصلاة ويُسألون عنها، قال: فيهلك فيها من هلك، وينجو من نجا، فإذا بلغوا القنطرة الثانية حُوسبوا على الأمانة كيف أدوها، وكيف خانوها؟ قال: فيهلك من هلك وينجو من نجا. فإذا بلغوا القنطرة الثالثة سُئلوا عن الرحم كيف وَصَلُوها وكيف قطعوها؟ قال: فيهلك من هلك وينجو من نجا. قال: والرحم يومئذ متدلية إلى الهُويّ في جهنم تقول: اللهم من وصلني فَصِلْه، ومن قطعني فاقطعه. قال: وهي التي يقول الله عز وجل: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } .
هكذا أورد هذا الأثر، ولم يذكر تمامه.
{ فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) }
يقول تعالى منكرًا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان. كما قال تعالى: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون:55 ، 56]. وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضَيَّق عليه في الرزق، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له. قال الله: { كَلا } أي: ليس الأمر كما زعم، لا في هذا ولا في هذا، فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر.
وقوله: { بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ } فيه أمر بالإكرام له، كما جاء في الحديث الذي رواه عبد الله ابن المبارك، عن سعيد بن أبي أيوب، عن يحيى بن سليمان، عن زيد بن أبي عتاب (1) عن أبي هُريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه" ثم قال بأصبعه: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" (2) .
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان، أخبرنا عبد العزيز -يعني ابن أبي حازم-حدثني أبي، عن سهل -يعني ابن سعد-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة". وقرن (3) بين إصبعيه: الوسطى والتي تلي الإبهام (4) .
__________
(1) في م: "غياث".
(2) الزهد لابن المبارك برقم (654) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3679) من طريق ابن المبارك، وقال البوصيري في الزوائد (3/165): "هذا إسناد ضعيف، يحيى بن سليمان -أبو صالح- قال فيه البخاري: منكر، وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات".
(3) في أ: "وفرق".
(4) سنن أبي داود برقم (5150) وهو في صحيح البخاري برقم (6005) من طريق ابن أبي حازم به.
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
{ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } يعني: لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، ويحث بعضهم على بعض في ذلك، { وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ } يعني: الميراث { أَكْلا لَمًّا } أي: من أي جهة حصل لهم، من حلال أو حرام، { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } أي: كثيرا -زاد بعضهم: فاحشا.
{ كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) }
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
{ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) }
يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة، فقال: { كَلا } أي: حقا { إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا } أي: وطئت ومهدت وسويت الأرض والجبال، وقام الخلائق من قبورهم لربهم، { وَجَاءَ رَبُّكَ } يعني: لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعد ما يستشفعون (1) إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، بعدما يسألون أولي العزم من الرسل واحدًا بعد واحد، فكلهم يقول: لست بصاحب ذاكم، حتى تنتهي النوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم (2) فيقول: "أنا لها، أنا لها". فيذهب فيشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء فيشفعه الله في ذلك، وهي أول الشفاعات، وهي المقام المحمود كما تقدم بيانه في سورة "سبحان" (3) فيجيء الرب تعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفا صفوفا.
وقوله: { وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا عمر بن حفص بن (4) غياث، حدثنا أبي، عن العلاء بن خالد الكاهلي، عن شقيق، عن عبد الله -هو ابن مسعود-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف مَلَك يجرونها".
وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن عمر بن حفص، به (5) ورواه أيضا عن عبد بن حُمَيد، عن أبي عامر، عن سفيان الثوري، عن العلاء بن خالد، عن شقيق ابن سلمة -وهو أبو وائل-عن عبد الله بن مسعود، قوله ولم يرفعه (6) وكذا رواه ابن جرير، عن الحسن بن عرفة، عن مَروان بن معاوية الفزاري، عن العلاء بن خالد، عن شقيق، عن عبد الله، قوله (7) .
__________
(1) في أ: "يشفعون".
(2) في م: "صلوات الله وسلامه عليه".
(3) عند تفسير الآية: 79.
(4) في أ: "نبأنا".
(5) صحيح مسلم برقم (2842) وسنن الترمذي برقم (2573).
(6) سنن الترمذي برقم (2573).
(7) تفسير الطبري (30/120).
وقوله: { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ } أي: عمله وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه، { وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } أي: وكيف تنفعه الذكرى؟ { يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } يعني: يندم على ما كان سلف منه من المعاصي -إن كان عاصيا-ويود لو كان ازداد من الطاعات -إن كان طائعا-كما قال الإمام أحمد بن حنبل:
حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا عبد الله -يعني ابن المبارك-حدثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن محمد بن أبي عَمِيرة -وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم-قال: لو أن عبدًا خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هَرمًا في طاعة الله، لَحَقِرَه يوم القيامة، ولودَّ أنه يُرَدَّ إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب.
ورواه بَحِيرُ بنُ سَعد، عن خالد بن معدان، عن عتبة بن عبد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
قال الله تعالى: { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } أي: ليس أحد أشد عذابًا من تعذيب الله من عصاه، { وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } أي: وليس أحد أشد قبضا ووثقا من الزبانية لمن كفر بربهم، عز وجل، هذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين (2) فأما النفس الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق فيقال لها: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ } أي: إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته، { رَاضِيَةً } أي: في نفسها { مَرْضِيَّةً } أي: قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها، { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } أي: في جملتهم، { وَادْخُلِي جَنَّتِي } وهذا يقال لها عند الاحتضار، وفي يوم القيامة أيضا، كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره، وكذلك هاهنا.
ثم اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية، فروى الضحاك، عن ابن عباس: نزلت في عثمان بن عفان. وعن بُرَيدة بن الحصيب: نزلت في حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه.
وقال العوفي، عن ابن عباس: يقال للأرواح المطمئنة يوم القيامة: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ } يعني: صاحبك، وهو بدنها الذي كانت تعمره في الدنيا، { رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً }
وروي عنه أنه كان يَقرؤها: "فادخلي في عبدي وادخلي جنتي". وكذا (3) قال عكرمة والكلبي، واختاره ابن جرير، وهو غريب، والظاهر الأول؛ لقوله: { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ } [الأنعام:62]{ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ } (4) [غافر:43] أي: إلى حكمه والوقوف بين يديه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي، حدثنا أبي، عن أبيه، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في
__________
(1) المسند (4/185).
(2) في أ: "والعالمين".
(3) في م: "وكذلك".
(4) في م: "وأن مصيرنا" وهو خطأ.
قوله: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } قال: نزلت وأبو بكر جالس، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذا. فقال: "أما إنه سيقال لك هذا" (1) .
ثم قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن سعيد بن جبير قال: قرأت عند النبي صلى الله عليه وسلم: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } فقال أبو بكر، رضي الله عنه: إن هذا حسن. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إن الملك سيقول لك هذا عند الموت".
وكذا رواه ابن جرير، عن أبي كُرَيْب، عن ابن يمان، به. وهذا مرسل حسن (2) .
ثم قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا مَرْوان بن شجاع الجزري، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال: مات ابن عباس بالطائف، فجاء طير لم ير على خَلْقه (3) فدخل نعشه، ثم لم ير خارجا منه فلما دفن تُليت هذه الآية على شفير القبر، ما يدرى من تلاها: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي } .
رواه الطبراني عن عبد الله بن أحمد عن أبيه، عن مَرْوان بن شجاع، عن سالم بن عجلان الأفطس، به فذكره (4) .
وقد ذكر الحافظ محمد بن المنذر الهروي -المعروف بشكِّر-في كتاب "العجائب" بسنده عن قُبَاث بن رزين أبي هاشم قال: أسرتُ في بلاد الروم، فجمعنا الملك وعَرَض علينا دينه، على أن من امتنع ضربت عنقه. فارتد ثلاثة، وجاء الرابع فامتنع، فضربت عنقه، وألقي رأسه في نهر هناك، فرسب في الماء ثم طفا على وجه الماء، ونظر إلى أولئك الثلاثة فقال: يا فلان، ويا فلان، ويا فلان -يناديهم بأسمائهم-قال الله تعالى في كتابه: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي } ثم غاص في الماء، [قال] (5) فكادت النصارى أن يسلموا، ووقع سرير الملك، ورجع أولئك الثلاثة إلى الإسلام. قال: وجاء الفداء من عند الخليفة أبي جعفر المنصور فخلصنا.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة رواحة بنت أبي عمرو الأوزاعي، عن أبيها: حدثني سليمان بن حبيب المحاربي، حدثني أبو أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "قل اللهم، إني أسألك نفسًا بك مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك" (6)
ثم روى عن أبي سليمان بن زَبْر أنه قال: حديث رواحة هذا واحد أمّه.
آخر تفسير سورة "الفجر" ولله الحمد [والمنة] (7) .
__________
(1) ورواه ابن مردويه والضياء المقدسي في المختارة كما في الدر المنثور (8/513).
(2) تفسير الطبري (30/122) ورواه عبد بن حميد وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية كما في الدر المنثور (8/513).
(3) في م: "على خلقته".
(4) المعجم الكبير (10/290) وقال الهيثمي في المجمع (9/285): "رجاله رجال الصحيح".
(5) زيادة من م.
(6) تاريخ دمشق (ص 100) "تراجم النساء" طـ - المجمع العربي بدمشق، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/118) من طريق عبد الرحمن بن عبد الغفار، عن رواحة بنت عبد الرحمن به.
(7) زيادة من م، أ.
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
تفسير سورة البلد
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) }
هذا قسم من الله عز وجل (1) بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها حالا؛ لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها.
قال خَصيف، عن مجاهد: { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } لا رد عليهم؛ أقسم بهذا البلد.
وقال شَبيب بن بشر، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: { لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } يعني: مكة، { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } قال: أنت -يا محمد-يحل لك أن تقابل به. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير، وأبي صالح، وعطية، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد.
وقال مجاهد: ما أصبت فيه فهو حلال لك.
وقال قتادة: { وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } قال: أنت به من غير حَرَج ولا إثم.
وقال الحسن البصري: أحلها الله له ساعة من نهار.
وهذا المعنى الذي قالوه قد وَرَد به الحديث المتفق على صحته: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حَرَامٌ بحُرمَة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَد شجره ولا يختلى خلاه. وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب". وفي لفظ [آخر] (2) فإن أحد تَرَخَّص بقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم" (3) .
وقوله: { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن عطية، عن شريك، عن خَصِيف، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } الوالد: الذي يلد، وما ولد: العاقر الذي لا يولد له.
__________
(1) في أ: "تعالى".
(2) زيادة من م.
(3) الحديث في صحيح البخاري برقم (104، 105، 1832، 4295) وصحيح مسلم برقم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
ورواه [ابن جرير و] (1) ابن أبي حاتم، من حديث شريك -وهو ابن عبد الله القاضي-به.
وقال عكرمة: الوالد: العاقر، وما ولد: الذي يلد. رواه ابن أبي حاتم.
وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة، والضحاك، وسفيان الثوري، وسعيد بن جبير، والسدي، والحسن البصري، وخُصيف، وشرحبيل بن سعد وغيرهم: يعني بالوالد آدم، وما ولد ولده.
وهذا الذي ذهب إليه مجاهد وأصحابه حَسَنٌ قوي؛ لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى وهي المساكن أقسم بعده بالساكن، وهو آدم أبو البشر وولده.
وقال أبو عمران الجوني: هو إبراهيم وذريته. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
واختار ابن جرير أنه عام في كل والد وولده. وهو محتمل أيضا.
وقوله: { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } رُوي عن ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وخَيْثَمة، والضحاك، وغيرهم: يعني منتصبا -زاد ابن عباس في رواية عنه-في (2) بطن أمه.
والكبد: الاستواء والاستقامة. ومعنى هذا القول: لقد خلقنا الإنسان سويا مستقيما كقوله: { يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } [الانفطار: 6 ، 7] ، وكقوله { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين:4].
وقال ابن [أبي نجيحُ] (3) جريج وعطاء (4) عن ابن عباس: في كبد، قال: في شدّة خُلق، ألم تر إليه... وذكر مولده ونبات أسنانه.
قال مجاهد: { فِي كَبَدٍ } نطفة، ثم علقة، ثم مضغة يتكبد في الخلق -قال مجاهد: وهو كقوله: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } وأرضعته كرها، ومعيشته كره، فهو يكابد ذلك.
وقال سعيد بن جبير: { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } في شدة وطَلَب معيشة. وقال عكرمة: في شدة وطول. وقال قتادة: في مشقة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام، حدثنا أبو عاصم، أخبرنا عبد الحميد بن جعفر، سمعت محمد بن علي أبا جعفر الباقر سأل رجلا من الأنصار عن قول الله: { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } قال: في قيامه واعتداله. فلم يُنكر عليه أبو جعفر.
وروى من طريق أبي مودود: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } قال: يكابد أمرا من أمر الدنيا، وأمرا من أمر الآخرة -وفي رواية: يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م، أ: "منتصبا في".
(3) زيادة من م.
(4) في م، أ: "عن عطاء".
وقال ابن زيد: { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ } قال: آدم خلق في السماء، فَسُمي ذلك الكَبَد.
واختار ابن جرير أن المراد [بذلك] (1) مكابدة الأمور ومشاقها.
وقوله: { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } قال الحسن البصري: يعني أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يأخذ ماله.
وقال قتادة: { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } قال: ابن آدم يظن أن لن يُسأل عن هذا المال: من أين اكتسبه؟ وأين أنفقه؟
وقال السدي: { أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } قال: الله عز وجل.
وقوله: { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا } أي: يقول ابن آدم: أنفقت مالا لبدا، أي: كثيرا. قاله مجاهد [والحسن] (2) وقتادة، والسدي، وغيرهم.
{ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ } قال مجاهد: أي أيحسب أن لم يره الله عز وجل. وكذا قال غيره من السلف.
وقوله: { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ } أي: يبصر بهما، { وَلِسَانًا } أي: ينطق به، فَيُعبر عما في ضميره، { وَشَفَتَيْنِ } (3) يستعين بهما على الكلام وأكل الطعام، وجمالا لوجهه وفمه.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي الربيع الدمشقي، عن مكحول قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: يا ابن آدم، قد أنعمت عليك نعماً عظاما لا تحصى عددها ولا تطيق شكرها، وإن مما أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما، وجعلت لهما غطاءً، فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك، وإن رأيت ما حرمت عليك فأطبق عليهما غطاءهما. وجعلت لك لسانا، وجعلت له غلافا، فانطق بما أمرتك وأحللتُ لك، فإن عَرَض لك ما حرمت عليك فأغلق عليك لسانك. وجعلت لك فرجا، وجعلت لك سترا، فأصب بفرجك ما أحللت لك، فإن عَرَض لك ما حرمت عليك فَأرْخِ عليك سترك. يا ابن آدم، إنك لا تحمل سخطي، ولا تطيق انتقامي" (4) .
{ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله -هو ابن مسعود-: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قال: الخير والشر. وكذا رُوي عن علي، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وأبي وائل، وأبي صالح، ومحمد بن كعب، والضحاك، وعطاء الخراساني في آخرين.
وقال عبد الله بن وهب: أخبرني بن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سِنان بن سعد، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هما نجدان، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير" (5) .
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من م، أ.
(3) في م: (ولسانا وشفتين).
(4) تاريخ دمشق (19/46 "المخطوط" ).
(5) ورواه ابن عدي في الكامل (3/356) من طريق ابن وهب.
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
تفرد به سنان بن سعد -ويقال: سعد بن سنان -وقد وثقه ابن معين. وقال الإمام أحمد والنسائي والجوزجاني: منكر الحديث. وقال أحمد: تركت حديثه لاضطرابه. وروى خمسة عشر حديثا منكرة كلها، ما أعرف منها حديثا واحدا. يشبه حديثه حديثَ الحسن -يعني البصري-لا يشبه حديثَ أنس.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن أبي رجاء قال: سمعت الحسن يقول: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "يا أيها الناس، إنهما النجدان، نجد الخير ونجد الشر، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير" (1) .
وكذا رواه حبيب بن الشهيد، ويونس بن عبيد، وأبو وهب، عن الحسن مرسلا. وهكذا أرسله قتادة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا عيسى ابن عقال (2) عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قال: الثديين.
وروي عن الربيع بن خُثَيم (3) وقتادة وأبي (4) حازم، مثل ذلك. ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن وَكِيع، عن عيسى بن عقَال، به. ثم قال: والصواب القول الأول.
ونظير هذه الآية قوله: { إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } [سورة الإنسان: 2 ، 3 ].
{ فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) }
قال ابن جرير: حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن أبيه، عن عطية، عن ابن عمر في قوله: { فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } قال: جبل في جهنم.
وقال كعب الأحبار: { فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } هو سبعون درجة في جهنم. وقال الحسن البصري: { فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } قال: عقبة في جهنم. وقال قتادة: إنها قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله عز وجل. وقال قتادة (5) { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ } ثم أخبر عن اقتحامها. فقال: { فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ }
__________
(1) تفسير الطبري (30/128).
(2) في أ: "عفان".
(3) في أ: "خيثم".
(4) في م: "وابن".
(5) في جميع النسخ: "وقال قتادة: وقوله (وما أدراك ما العقبة) ". وحذفنا "وقوله" ليستقيم المعنى. مستفادا من هامش طـ. الشعب.
وقال ابن زيد: { اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ } أي: أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير. ثم بينها فقال: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ }
قرئ: { فَكُّ رَقَبَةٍ } بالإضافة، وقُرئ على أنه فعل، وفيه ضمير الفاعل والرقبة مفعوله وكلتا (1) القراءتين معناهما متقارب.
قال الإمام أحمد: حدثنا علي (2) بن إبراهيم، حدثنا عبد الله -يعني ابن سعيد (3) بن أبي هند-عن إسماعيل بن أبي حكيم -مولى آل الزبير-عن سعيد بن مرجانة: أنه سمع أبا هُرَيرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرْب منها إربا منه من النار، حتى إنه ليعتق باليد اليد، وبالرجل الرجل، وبالفرج الفرج". فقال علي بن الحسين: أنتَ سَمعتَ هذا من أبي هُرَيرة؟ فقال سعيد: نعم. فقال علي بن الحسين لغلام له -أفْرَهَ غلمانه-: ادعُ مطْرَفًا. فلما قام بين يديه قال: اذهب فأنت حُر لوجه الله.
وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، من طرق، عن سعيد بن مرجانة، به (4) وعند مسلم أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم.
وقال قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مَعدانَ بن أبي طلحة، عن أبي نَجِيح (5) قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أيما مسلم أعتقَ رَجُلا مسلما، فإن الله جاعلٌ وفاء كل عظم من عظامه عظمًا من عظام محرره من النار، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامها عظما من عظامها من النار".
رواه ابن جرير هكذا (6) وأبو نجيح هذا هو عمرو بن عَبسَةَ السلمي، رضي الله عنه.
قال الإمام أحمد: حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا بقية، حدثني بَحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن كثير بن مرة، عن عمرو بن عَبسَة (7) أنه حدثهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بنى مسجدا ليذكر الله فيه، بنى الله له بيتا في الجنة. ومن أعتق نفسًا مسلمة، كانت فديته من جهنم. ومن شاب شيبة في الإسلام، كانت له نورا يوم القيامة" (8) .
طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا حَريز؛ عن سُليم بن عامر: أن شرحبيل بن السمط قال لعمرو بن عَبسةَ (9) حَدِّثنا حديثًا ليس فيه تَزَيّد ولا نسيان. قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أعتق رقبة مسلمة كانت فكاكه من النار، عُضْوا بعضو. ومن
__________
(1) في م: "وكلا".
(2) في م: "حدثنا مكي".
(3) في م: "سعد".
(4) المسند (2/422) وصحيح البخاري برقم (2517،6715) وصحيح مسلم برقم (1509) وسنن الترمذي برقم (1541) وسنن النسائي الكبرى برقم (4875).
(5) في أ: "عن ابن أبي نجيح".
(6) تفسير الطبري (30/129) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (4879) من طريق قتادة.
(7) في أ: "ابن عنبسة".
(8) المسند (4/386).
(9) في أ: "عنبسة".
شاب شيبة في سبيل الله، كانت له نورا يوم القيامة، ومن رمى بسهم فبلغ فأصاب أو أخطأ، كان كمعتق رقبة من بني إسماعيل" (1) .
وروى أبو داود، والنسائي بعضه (2) .
طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا الفرج، حدثنا لقمان، عن أبي أمامة، عن عمرو بن عَبسَةَ (3) قال السلمي (4) قلت له: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاص ولا وَهم. قال: سمعته يقول: "من وُلد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحِنْثَ، أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة، ومن رَمى بسهم في سبيل الله، بلغ به العدو، أصاب أو أخطأ، كان له عتق رقبة. ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار، ومن أنفق زوجين في سبيل الله، فإن للجنة ثمانية أبواب، يدخله الله من أي باب شاء منها" (5) .
وهذه أسانيد جيدة قوية، ولله الحمد [والمنة] (6) .
حديث آخر: قال أبو داود: حدثنا عيسى بن محمد الرملي، حدثنا ضَمْرة، عن ابن أبي عَبلَة، عن الغريف بن الديلمي قال: أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له: حدثنا حَديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان. فغضب وقال: إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته، فيزيد وينقص. قلنا: إنما أردنا حديثًا سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب -يعني النار-بالقتل، فقال: "أعتقوا عنه يُعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار".
وكذا رواه النسائي من حديث إبراهيم بن أبي عَبلة، عن الغَريف بن عياش الديلمي، عن واثلة، به (7) .
حديث آخر: قال أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا هشام، عن قتادة، عن قيس الجذامي، عن عقبة بن عامر الجهني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق رقبة مسلمة فهو فداؤه من النار" (8) .
وحدثنا عبد الوهاب الخفاف، عن سعيد، عن قتادة قال: ذُكِر أن قيسا الجذامي حَدّث عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار" (9) .
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم وأبو أحمد قالا حدثنا عيسى بن عبد
__________
(1) المسند (4/113).
(2) سنن أبي داود برقم (3966) وسنن النسائي الكبرى برقم (4885،4886).
(3) في أ: "عنبسة".
(4) في م: "السلمي قال".
(5) المسند (4/386).
(6) زيادة من أ.
(7) سنن أبي داود برقم (3964) وسنن النسائي الكبرى برقم (4890،4891).
(8) المسند (4/150)
(9) المسند (4/147).
الرحمن البجلي -من بني بجيلة-من بني سليم -عن طلحة-قال أبو أحمد: حدثنا طلحة بن مصرف -عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، علمني عملا يدخلني الجنة. فقال: "لئن كنت أقصرتَ الخطبة لقد أعرضت المسألة. أعتق النسمة، وفك الرقبة". فقال: يا رسول الله، أوليستا بواحدة؟ قال: "لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها. والمنحة الوكوف، والفيء على ذي الرحم الظالم؛ فإن لم تُطِق ذلك فأطعم الجائعَ، واسْقِ الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير" (1) .
وقوله: { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } قال ابن عباس: ذي مجاعة. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وغير واحد. والسَّغَب: هو الجوع.
وقال إبراهيم النَّخَعِي: في يومٍ الطعامُ فيه عزيزٌ.
وقال قتادة: في يوم يُشتهى فيه الطعام.
وقوله: { يَتِيمًا } أي: أطعم في مثل هذا اليوم يتيما، { ذَا مَقْرَبَةٍ } أي: ذا قرابة منه. قاله ابن عباس، وعكرمة، والحسن، والضحاك، والسدي. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا يزيد، أخبرنا هشام، عن حفصة بنت سيرين، عن سليمان بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الصدقة على المسكين (2) صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان، صدقة وصلة".
وقد رواه الترمذي والنسائي (3) وهذا إسناد صحيح.
وقوله: { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } أي: فقيرا مُدقعًا لاصقا بالتراب، وهو الدقعاء أيضا.
قال ابن عباس: { ذَا مَتْرَبَةٍ } هو المطروح في الطريق (4) الذي لا بيت له، ولا شيء يقيه من التراب -وفي رواية: هو الذي لصق بالدقعاء من الفقر والحاجة، ليس له شيء -وفي رواية عنه: هو البعيد التربة.
قال ابن أبي حاتم: يعني الغريب عن وطنه.
وقال عكرمة: هو الفقير المديون المحتاج.
وقال سعيد بن جبير: هو الذي لا أحد له.
وقال ابن عباس، وسعيد، وقتادة، ومقاتل بن حيان: هو ذو العيال.
وكل هذه قريبة المعنى.
وقوله: { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا } (5) أي: ثم هو مع هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة (6)
__________
(1) المسند (4/299).
(2) في أ: "على المسلمين".
(3) المسند (4/214) وسنن الترمذي برقم (658) وسنن النسائي (5/92) وقال الترمذي: "حديث سلمان بن عامر حديث حسن".
(4) في م: "بالطريق".
(5) في م: "آمنوا وعملوا الصالحات".
(6) في أ: "الظاهرة".
مؤمنٌ بقلبه، محتسب ثواب ذلك عند الله عز وجل. كما قال تعالى: { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [الإسراء: 19] وقال { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } الآية (1) [النحل: 97] .
وقوله: { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } أي: كان من المؤمنين العاملين صالحا، المتواصين بالصبر على أذى الناس، وعلى الرحمة بهم. كما جاء في الحديث: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (2) وفي الحديث الآخر: "لا يَرْحَم اللهُ من لا يَرْحَم الناس" (3) .
وقال أبو داود: حدثنا [أبو بكر] (4) بن أبي شيبة، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن ابن عامر (5) عن عبد الله بن عَمْرو -يرويه-قال: "من لم يَرْحم صغيرنا ويَعْرِف حَقَّ كبيرنا، فليس منا" (6) .
وقوله: { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } أي: المتصفون بهذه الصفات من أصحاب اليمين.
ثم قال: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } أي: أصحاب الشمال، { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ } أي: مطبقة عليهم، فلا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها.
قال أبو هريرة، وابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومحمد بن كعب القرظي، وعطية العوفي، والحسن، وقتادة، والسدي: { مُؤْصَدَةٌ } أي: مطبقة -قال ابن عباس: مغلقة الأبواب. وقال مجاهد: أصد الباب بلغة قريش: أي أغلقه.
وسيأتي في ذلك حديث في سورة: { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ }
وقال الضحاك: { مُؤْصَدَةٌ } حيط لا باب له.
وقال قتادة: { مُؤْصَدَةٌ } مطبقة فلا ضوء فيها ولا فُرَج، ولا خروج منها آخر الأبد.
وقال أبو عمران الجوني: إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار وكل شيطان وكل من كان يَخاف الناس في الدنيا شره، فأوثقوا في الحديد، ثم أمر بهم إلى جهنم، ثم أوصدوها عليهم، أي: أطبقوها -قال: فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبدا، ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبدا، ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدا،. ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبدا. رواه ابن أبي حاتم.
آخر تفسير سورة "البلد" ولله الحمد والمنة
__________
(1) في م: "الآيات".
(2) رواه الإمام أحمد في المسند (2/160) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2319) من حديث جرير رضي الله عنه.
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "جابر".
(6) سنن أبي داود برقم (4943).