الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
وفي كل خير" (1) وإنما نَبَّه بهذا لئلا يُهدرَ جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه؛ فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي: فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذلك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق. وفي الحديث: "سبق درهم مائة ألف" (2) ولا شك عند أهل الإيمان أن الصديق أبا بكر، رضي الله عنه، له الحظ الأوفر من هذه الآية، فإنه سيّد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله، عز وجل، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها.
وقد قال أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي عند تفسير هذه الآية أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي (3) أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد، أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن يونس، حدثنا العلاء بن عمرو الشيباني، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، حدثنا سفيان بن سعيد، عن آدم بن علي، عن ابن عمر قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق، وعليه عباءة قد خَلَّها في صدره بخلال، فنزل جبريل فقال: مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خَلَّها في صدره بِخلال؟ فقال: "أنفق ماله عليَّ قبل الفتح" قال: فإن الله يقول: اقرأ عليه السلام، وقل له: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال رسول الله: "يا أبا بكر، إن الله يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أراض أنت عَني في فقرك هذا أم ساخط؟" فقال: أبو بكر، رضي الله عنه: أسخط على ربي عز وجل؟ إني عن ربي راض (4)
هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه.
وقوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } قال عمر بن الخطاب: هو الإنفاق في سبيل الله، وقيل: هو النفقة على العيال والصحيح أنه أعم من ذلك، فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة وعزيمة صادقة، دخل في عموم هذه الآية؛ ولهذا قال: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } كما قال في الآية الأخرى: { أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 245] (5) أي: جزاء جميل ورزق باهر-وهو الجنة-يوم القيامة.
قال بن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض؟ " قال: "نعم، يا أبا الدحداح". قال أرني يدك يا رسول الله قال: فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي-وله حائط (6) فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها-قال: فجاء
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه النسائي في السنن (5/59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) في أ: "الشرعي".
(4) معالم التنزيل للبغوي (8/34) وفيه: "إني عن ربي راض" مرتين، ووجه ضعفه أنه فيه العلاء بن عمرو. قال بن حبان: "يروى أبي إسحاق الفزاري العجائب، لا يجوز الاحتجاج به بحال" وساق الحديث.
(5) في أ، م، هـ: "أضعافًا كثيرة وله أجر كريم" وهوخطأ، والصواب ما أثبتناه.
(6) في أ: "وحائط له".
أبو الدحداح فنادها: يا أم الدحداح. قالت: لبيك. فقال: اخرجي، فقد أقرضته ربي، عز وجل-وفي رواية: أنها قالت له: رَبح بيعك يا أبا الدحداح. ونقلت منه متاعها وصبيانها، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كم من عَذْق رَدَاح في الجنة لأبي الدحداح". وفي لفظ: "رب نخلة مدلاة عروقها درّ وياقوت لأبي الدحداح في الجنة". (1)
__________
(1) ورواه أبو يعلى في مسنده (8/404) عن محرز بن عون، عن خلف بن خليفة به، وضعفه الحافظ بن حجر في المطالب العالية برقم (4080) كما ذكره المحقق الفاضل حسين أسد.
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) }
يقول تعالى مخبرًا عن المؤمنين المتصدقين: أنهم (1) يوم القيامة يسعَى نورهم بين أيديهم في عَرصات القيامة، بحسب أعمالهم، كما قال عبد الله بن مسعود في قوله: { يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم مَن نوره مثل الجبل، ومنهم مَن نوره مثل النخلة، ومنهم مَن نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورًا مَن نوره في إبهامه يتَّقد مرة ويطفأ مرة (2) ورواه بن أبي حاتم وبن جرير.
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "من المؤمنين من يضيء نُوره من المدينة إلى عَدن أبين وصنعاء فدون ذلك، حتى إن من المؤمنين من يضيء نوره موضع قدميه" (3)
وقال سفيان الثوري، عن حُصَين، عن مجاهد عن جُنَادة بن أمية قال: إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم، وسيماكم وحُلاكم، ونجواكم ومجالسكم، فإذا كان يوم القيامة قيل: يا فلان، هذا نورك. يا فلان، لا نور لك. وقرأ: { يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ }
وقال الضحاك: ليس لأحد إلا يعطى نورًا يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأي ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طُفئ نور المنافقين، فقالوا: ربنا، أتمم لنا نورنا.
وقال الحسن [في قوله] (4) { يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يعني: على الصراط.
__________
(1) في م : "أنه".
(2) في م: "ويطفأ أخرى".
(3) تفسير الطبري (27/128).
(4) زيادة من أ.
وقد قال ابن أبي حاتم، رحمه الله: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب، أخبرنا عمي (1) عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعيد (2) بن مسعود: أنه سمع عبد الرحمن بن جُبَيْر يحدث: أنه سَمِع أبا الدرداء وأبا ذر يخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود، وأول من يؤذن له برفع رأسه، فأنظر من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، فأعرف أمتي من بين الأمم". فقال له رجل: يا نبي الله، كيف تعرف أمتك من بين الأمم، ما بين نوح إلى أمتك؟ قال: "أعرفهم، مُحَجَّلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم، وأعرفهم يُؤْتَون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم وذريتهم (3) (4)
وقوله { وَبِأَيْمَانِهِمْ } قال الضحاك: أي وبأيمانهم كتبهم، كما قال: { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [الإسراء: 71].
وقوله: { بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي: يقال لهم: بشراكم اليوم جنات، أي: لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي: ماكثين فيها أبدًا { ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
وقوله: { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الأهوال المزعجة، والزلازل العظيمة، والأمور الفظيعة (5) وإنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله ورسوله، وعمل بما أمر الله، به وترك ما عنه زجر.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، حدثنا ابن المبارك، حدثنا صفوان بن عمرو، حدثني سليم بن عامر قال: خرجنا على جنازة في باب دمشق، ومعنا أبو أمامة الباهلي، فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها، قال أبو أمامة: أيها الناس، إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر، وهو هذا-يشير إلى القبر-بيت الوحدة، وبيت الظلمة، وبيت الدود، وبيت الضيق، إلا ما وسع الله، تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة، فإنكم في بعض تلك المواطن [حتى] (6) يغشى الناس أمر من الله، فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر فتغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور فيعطى المؤمن نورًا ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئًا، وهو المثل الذي ضربه الله في كتابه، قال { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } إلى قوله: { فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النور: 40]، فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى بنور (7) البصير، ويقول المنافقون للذين آمنوا: { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا } وهي خدعة الله التي خدع
__________
(1) في أ: "أخي"
(2) في م: "سعيد".
(3) في م: "وبأيمانهم".
(4) ورواه الحاكم في المستدرك (2/478) من طريق عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب به نحوه، وله طريق آخر سيأتي عند تفسير سورة التحريم.
(5) في أ: "العظيمة".
(6) في هـ: "يوم"، والمثبت من م، أ.
(7) في م: "ببصر".
بها المنافقين (1) حيث قال: { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء:142]. فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور، فلا يجدون شيئًا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب، { بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } الآية. يقول سليم بن عامر: فما يزال المنافق مغترًا حتى يقسم النور، ويميز الله بين والمؤمن المنافق.
ثم قال: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان، حدثنا ابن حيوة، حدثنا أرطأة بن المنذر، حدثنا يوسف بن الحجاج، عن أبي أمامة قال: تُبْعَثُ ظلمة يوم القيامة، فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه، حتى يبعث الله بالنور إلى المؤمنين بقدر أعمالهم، فيتبعهم المنافقون فيقولون: { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } .
وقال العَوْفي ، والضحاك، وغيرهما، عن ابن عباس: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورًا فلما رأي المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور (2) دليلا من الله إلى الجنة، فلما رأي المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم، فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ: { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } فإنا كنا معكم في الدنيا. قال المؤمنون: { ارْجِعُوا } من حيث جئتم من الظلمة، فالتمسوا هنالك النور.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا الحسن بن علوية القطان، حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار، حدثنا إسحاق بن بشر أبو (3) حذيفة، حدثنا ابن جريج، عن ابن أبي مُلَيْكة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم سترًا منه على عباده، وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نورًا، وكل منافق نورًا، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون: { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } وقال المؤمنون: { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [التحريم: 8]. فلا يذكر عند ذلك أحد أحدًا" (4) وقوله: { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } قال الحسن، وقتادة: هو حائط بين الجنة النار.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو الذي قال الله تعالى: { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } [الأعراف: 46]. وهكذا روي عن مجاهد، رحمه الله، وغير واحد، وهو الصحيح.
{ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ } أي: الجنة وما فيها { وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } أي: النار. قاله قتادة، وبن زيد، وغيرهما.
قال بن جرير: وقد قيل: إن ذلك السور سورُ بيت المقدس عند وادي جهنم. ثم قال: حدثنا ابن البرقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عطية بن قيس، عن أبي العوام-
__________
(1) في م: "المنافقون" وهو خطأ.
(2) في م، أ: "النور لهم".
(3) في م، أ، هـ: "ابن"، والصواب ما أثبتناه من المعجم الكبير.
(4) المعجم الكبير (11/122) وقال الهيثمي في المجمع (10/395): "فيه إسحاق بن بشر وهو متروك".
مؤذن بيت المقدس-قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: إن السور الذي ذكر (1) الله في القرآن: { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } هو السور الشرقي باطنه المسجد وما يليه، وظاهره وادي جهنم.
ثم روي عن عبادة بن الصامت، وكعب الأحبار، وعلي بن الحسين زين العابدين، نحو ذلك. وهذا محمول منهم على أنهم أرادوا بهذا تقريب المعنى ومثالا لذلك، لا أن هذا هو الذي أريد من القرآن هذا الجدار المعين ونفس المسجد وما وراءه من الوادي المعروف بوادي جهنم؛ فإن الجنة في السموات في أعلى عليين، والنار في الدركات أسفل سافلين. وقول كعب الأحبار: إن الباب المذكور في القرآن هو باب الرحمة الذي هو أحد أبواب المسجد، فهذا من إسرائيلياته وتُرّهاته. وإنما المراد بذلك: سورٌ يُضْرَب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين، فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه، فإذا استكملوا دُخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب، كما كانوا في الدار الدنيا في كفر وجهل وشك وحيرة { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } أي: ينادي المنافقون المؤمنين: أما (2) كنا معكم في الدار الدنيا، نشهد معكم الجمعات، ونصلي معكم الجماعات، ونقف معكم بعرفات، ونحضر معكم الغزوات، ونؤدي معكم سائر الواجبات؟ { قَالُوا بَلَى } أي: فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين: بلى، قد كنتم معنا، { وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ } قال بعض السلف: أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات { وَتَرَبَّصْتُمْ } أي: أخرتم التوبة من وقت إلى وقت.
وقال قتادة: { وَتَرَبَّصْتُمْ } بالحق وأهله { وَارْتَبْتُمْ } أي: بالبعث بعد الموت { وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ } أي: قلتم: سيغفر لنا. وقيل: غرتكم الدنيا { حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } أي: ما زلتم في هذا حتى جاء الموت { وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } أي: الشيطان.
قال قتادة: كانوا على خدعة من الشيطان، والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار.
ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين: إنكم كنتم معنا [أي] (3) بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها، وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تُراؤون الناس ولا تذكرون الله إلا قليلا.
قال مجاهد: كان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم ويغشونهم ويعاشرونهم، وكانوا معهم أمواتا، ويعطون النور جميعًا يوم القيامة، ويطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور، ويُماز بينهم حينئذ.
وهذا القول من المؤمنين لا ينافي قولهم الذي أخبر الله به عنهم، حيث يقول-وهو أصدق القائلين-: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } [المدثر: 38-47]،
__________
(1) في م: "ذكره".
(2) في م: "إنا".
(3) زيادة من م.
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ. ثم قال تعالى: { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [المدثر: 48]، كما قال تعالى هاهنا: { فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهبًا ومثله معه ليفتدى به من عذاب الله، ما قبل منه.
وقوله: { مَأْوَاكُمُ النَّارُ } أي: هي مصيركم وإليها منقلبكم.
وقوله: { هِيَ مَوْلاكُمْ } أي: هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم، وبئس المصير.
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) }
يقول الله تعالى: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقادُ له وتسمع له وتطيعه.
قال عبد الله بن المبارك: حدثنا صالح المُرِّي، عن قتادة، عن ابن عباس أنه قال: إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن، فقال: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } الآية، رواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن محمد بن الصباح، عن حسين المروزي، عن ابن المبارك، به.
ثم قال هو ومسلم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال-يعني الليث-عن عون بن عبد الله، عن أبيه، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } [الآية] (1) إلا أربع سنين (2)
كذا رواه مسلم في آخر الكتاب. وأخرجه النسائي عند تفسير هذه الآية، عن هارون بن سعيد الأيلي، عن ابن وهب، به (3) وقد رواه ابن ماجة من حديث موسى بن يعقوب الزمعي (4) عن أبي حزم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، مثله (5) فجعله من مسند بن الزبير. لكن رواه البزار في مسنده من طريق موسى بن يعقوب، عن أبي حازم، عن عامر، عن بن الزبير،
__________
(1) زيادة من م.
(2) صحيح مسلم برقم (3027).
(3) سنن النسائي الكبري برقم (11568)
(4) في أ: "الربعي".
(5) سنن ابن ماجة برقم (4192).
عن ابن مسعود، فذكره (1)
وقال سفيان الثوري، عن المسعودي، عن القاسم قال: مَلَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة، فقالوا: حدثنا يا رسول الله. فأنزل الله تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [يوسف:3] قال: ثم ملوا ملة فقالوا: حدثنا يا رسول الله، فأنزل الله تعالى: { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } [الزمر:23]. ثم ملوا ملة فقالوا: حدثنا يا رسول الله. فأنزل الله: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } (2)
وقال قتادة: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } ذُكِرَ لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول ما يرفع (3) من الناس الخشوع" (4)
وقوله: { وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمنًا قليلا ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد.
{ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي: في الأعمال، فقلوبهم فاسدة، وأعمالهم باطلة. كما قال: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } [المائدة:13] ، أي: فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، وتركوا الأعمال التي أمروا بها، وارتكبوا ما نهو عنه؛ ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية.
وقد قال بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا شهاب بن خِراش، حدثنا حجاج بن دينار، عن منصور بن المعتمر، عن الربيع بن أبي عَمِيلة الفزاري قال: حدثنا عبد الله بن مسعود حديثًا ما سمعت أعجب إليَّ منه، إلا شيئًا من كتاب الله-أو: شيئًا قاله النبي صلى الله عليه وسلم-قال: "إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابًا من عند أنفسهم، استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم (5) واستلذته، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم فقالوا: تعالوا ندع
__________
(1) مسند البزار برقم (1443) وقال: "لا نعلم روى ابن الزبير عن ابن مسعود إلا هذا الحديث".
(2) روى ابن جرير في تفسير (15/552) ط-المعارف، من طريق المسعودى عن عون بن عبد الله نحوه مرسلاً دون ذكر الشاهد هنا.
(3) في أ: "يرفع الله.
(4) رواه الطبري في تفسيره (27/131) ووصله الطبراني في المعجم الكبير (7/295) فرواه من طريق عمران القطان، عن قتادة، عن الحسن، عن شداد بن أوس مرفوعًا به، وعمران القطان متكلم فيه.
(5) في أ: "أنفسهم".
بني إسرائيل إلى كتابنا هذا، فمن تابعنا عليه تركناه، ومن كره أن يتابعنا (1) قتلناه. ففعلوا ذلك، وكان فيهم رجل فقيه، فلما رأي ما يصنعون عَمَدَ إلى ما يعرف من كتاب الله فكتبه في شيء لطيف، ثم أدرجه، فجعله في قرن ثم علق ذلك القرن في عنقه، فلما أكثروا القتل قال بعضهم لبعض: يا هؤلاء، إنكم قد أفشيتم القتل في بني إسرائيل، فادعوا فلانا فاعرضوا عليه كتابكم، فإنه إن تابعكم فسيتابعكم بقية الناس، وإن أبى فاقتلوه. فدعوا فلانًا ذلك الفقيه فقالوا: تؤمن بما في كتابنا؟ قال: وما فيه؟ اعرضوه عليَّ. فعرضوه عليه إلى آخره، ثم قالوا: أتؤمن بهذا؟ قال: نعم، آمنت بما في هذا وأشار بيده إلى القرن-فتركوه، فلما مات نبشوه فوجدوه مُتَعَلِّقًا (2) ذلك القرن، فوجدوا فيه ما يعرف من كتاب الله، فقال بعضهم لبعض: يا هؤلاء، ما كنا نسمع هذا أصابه فتنة. فافترقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين ملة، وخير ملَلهم ملة أصحاب ذي القرن".
قال ابن مسعود: [وإنكم] (3) أوشك بكم إن بقيتم-أو: بقي من بقي منكم (4) -أن تروا أمورا تنكرونها، لا تستطيعون لها غِيَرًا، فبحسب المرء منكم أن يعلم الله من قلبه أنه لها كاره.
وقال أبو جعفر الطبري: حدثنا ابن (5) حميد، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال: جاء عتريس بن عُرقوب (6) إلى بن مسعود فقال: يا أبا عبد الله (7) هلك من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. فقال عبد الله: هلك من لم يعرف قلبُه معروفًا ولم ينكر قلبُه منكرًا؛ إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم، اخترعوا كتابًا من بين أيديهم وأرجلهم، استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم، وقالوا: نعرض على بني إسرائيل هذا الكتاب فمن آمن به تركناه، ومن كفر به قتلناه. قال: فجعل رجل منهم كتاب الله في قَرْن، ثم جعل القرن بين ثندوتيه فلما قيل له: أتؤمن بهذا؟ قال آمنت به -ويومئ إلى القرن بين ثَنْدُوتيه-ومالي لا أؤمن بهذا الكتاب؟ فمن خير مِلَلِهم اليوم مِلَّة صاحب القَرن (8)
وقوله: { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فيه إشارة إلى أنه، تعالى، يلين القلوب بعد قسوتها، ويَهدي الحَيَارى بعد ضَلتها، ويفرِّج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتَّان [الوابل] (9) كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد ما كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الإضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعال، وهو الحكم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال.
__________
(1) في أ: "يتابعنا عليه"
(2) في أ: "معلقاً"
(3) زيادة من م.
(4) في م: "معكم".
(5) في أ: "أبو"
(6) في أ: "جابر بن سويد عن قرب"
(7) في أ: "يا أبا عبد الله".
(8) تفسير الطبري (27/132).
(9) زيادة من أ.
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) }
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) }
يخبر تعالى عما يثيب به المُصَّدقين والمُصَّدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة، { وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } أي: دفعوه بنية خالصة ابتغاء وجه الله، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورًا؛ ولهذا قال: { يُضَاعَفُ لَهُمُ } أي: يقابل لهم الحسنة بعشر أمثالها، ويزداد على ذلك إلى سبعمائة ضعف وفوق ذلك { وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي: ثواب جزيل حسن، ومرجع صالح ومآب { كَرِيمٌ }
وقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } هذا تمام لجملة، وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون.
قال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } هذه مفصولة { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } .
وقال أبو الضحى: { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } ثم استأنف الكلام فقال: { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } وهكذا قال مسروق، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم.
وقال الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله في قوله: { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } قال: هم ثلاثه أصناف: يعني المصدقين، والصديقين، والشهداء، كما قال [الله] (1) تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } [النساء: 69] ففرق بين الصديقين والشهداء، فدل على أنهما صنفان. ولا شك أن الصديق أعلى مقامًا من الشهيد، كما رواه الإمام مالك بن أنس، رحمه الله، في كتابه الموطأ، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يَسَار، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم". قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: "بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث مالك، به (2)
وقال آخرون: بل المراد من قوله: { أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } فأخبر عن المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون وشهداء. حكاه ابن جرير عن مجاهد، ثم قال ابن جرير:
__________
(1) زيادة من أ.
(2) صحيح البخاري برقم (3256) وصحيح مسلم برقم (2831)
حدثني صالح ابن حرب أبو مَعْمَر، حدثنا إسماعيل بن يحيى، حدثنا ابن عَجْلان عن زيد بن أسلم، عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مؤمنو أمتي شهداء". قال: ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ [لَهُمْ أَجْرُهُمْ] } (1) هذا حديث غريب (2)
وقال أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } قال: يجيؤون يوم القيامة معًا كالإصبعين.
وقوله: { وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي: في جنات النعيم، كما جاء في الصحيحين: "إن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضْر تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال: ماذا تريدون؟ فقالوا: نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل كما قُتِلنا أول مرة. فقال إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون" (3)
وقوله: { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي: لهم عند ربهم أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يحيى ابن إسحاق، حدثنا بن لَهِيعَة، عن عطاء بن دينار، عن أبي يزيد الخولاني قال: سمعت فضالة بن عُبَيد يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الشهداء أربعة: رجل مؤمن جيد الإيمان، لقي العدو فصدق الله فقتل، فذلك (4) الذي ينظر الناس إليه هكذا-ورفع رأسه حتى سقطت قَلَنْسُوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قلنسوة عمر-والثاني مؤمن (5) لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح، جاءه سهم غَرْب فقتله، فذاك في الدرجة الثانية، والثالث رجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئًا لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذاك في الدرجة الثالثة، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافًا كثيرًا، لقي العدو فصدق الله حتى قتل، فذاك في الدرجة الرابعة". (6)
وهكذا رواه علي بن المديني، عن أبي داود الطيالسي، عن ابن المبارك، عن ابن لَهِيعَة، وقال: هذا إسناد مصري صالح. ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال: حسن غريب (7)
وقوله: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } لما ذكر السعداء ومآلهم، عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم.
__________
(1) زيادة من م.
(2) تفسير الطبري (27/133).
(3) صحيح مسلم برقم (1887) من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، ولم أقع عليه عند البخاري.
(4) في م: "فذاك".
(5) في أ: "رجل".
(6) المسند (1/23).
(7) سنن الترمذي برقم (1644).
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) }
يقول تعالى مُوهنًا أمر الحياة الدنيا ومحقرا لها: { أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ } أي: إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا، كما قال: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل عمران: 14]
ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية ونعمة زائلة فقال: { كَمَثَلِ غَيْثٍ } وهو: المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس، كما قال: { وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ] } [الشورى: 28] (1)
وقوله: { أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } أي: يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث؛ وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها، { ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا } أي: يهيج ذلك الزرع فتراه مصفرًّا بعد ما كان خضرًا (2) نضرا، ثم يكون بعد ذلك كله حطامًا، أي: يصير يَبَسًا متحطمًا، هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة، ثم تكتهل، ثم تكون عجوزًا شوهاء، والإنسان كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضا طريًّا لين الأعطاف، بهي المنظر، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه وَيَنْفَد (3) بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخًا كبيرًا، ضعيف القوى، قليل الحركة، يعجزه الشيء اليسير، كما قال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [الروم: 54]. ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة، وأن الآخرة كائنة لا محالة، حَذّر من أمرها ورغّب فيما فيها من الخير، فقال: { وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } أي: وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان.
وقوله: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } أي: هي متاع فانٍ غارٍّ (4) لمن ركن إليه فإنه يغتر
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "ما أخضر".
(3) في أ: "ويفقد".
(4) في أ: "عار".
بها وتعجبه حتى يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة.
قال ابن جرير: حدثنا علي ابن حرب الموصلي، حدثنا المحاربي، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها. اقرؤوا: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } (1)
وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة (2) والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير ووَكِيع، كلاهما عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَلْجنة أقرب إلى أحدكم من شِرَاك نعله، والنار مثل ذلك".
انفرد بإخراجه البخاري في "الرقاق"، من حديث الثوري، عن الأعمش، به (3)
ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان، وإذا كان الأمر كذلك؛ فلهذا حثه الله (4) على المبادرة إلى الخيرات، من فعل الطاعات، وترك المحرمات، التي تكفر عنه الذنوب والزلات، وتحصل له الثواب والدرجات، فقال تعالى: { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } والمراد جنس السماء والأرض، كما قال في الآية الأخرى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [آل عمران: 133] . وقال هاهنا: { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } أي: هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه إليهم، كما قدَّمنا في الصحيح: أن فقراء المهاجرين قالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم. قال: "وما ذاك؟". قالوا: يُصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتقون ولا نُعْتِق. قال: "أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم: تسبحون وتكبرون وتحمدون دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين". قال: فرجعوا فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا، ففعلوا مثله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" (5)
__________
(1) تفسير الطبري (27/134) وليس في المطبوع هذه الزيادة، فلعل الحافظ رآها في نسخة أخرى.
(2) صحيح البخاري برقم (6415) من حديث سهل بن سعد، رضي الله عنه.
(3) المسند (1/387) وصحيح البخاري برقم (6488).
(4) في م: "فلهذا حث تعالى".
(5) صحيح البخاري برقم (843) وصحيح مسلم برقم (595).
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
{ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) }
يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ } أي: في الآفاق وفي نفوسكم { إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } أي: من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة.
وقال بعضهم: { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } عائد على النفوس. وقيل: عائد على المصيبة. والأحسن عوده على الخليقة والبرية؛ لدلالة الكلام عليها، كما قال ابن جرير:
حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن منصور بن عبد الرحمن قال: كنت جالسًا مع الحسن، فقال رجل: سله عن قوله: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } فسألته عنها، فقال: سبحان الله! ومن يشك في هذا؟ كل مصيبة بين السماء والأرض، ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة (1)
وقال قتادة: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ } قال: هي السنون. يعني: الجَدْب، { وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ } يقول: الأوجاع والأمراض. قال: وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم، ولا خلجان عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.
وهذه الآية الكريمة من أدل دليل على القَدَرية نُفاة العلم السابق-قبحهم الله-وقال الإمام أحمد:
حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حيوة وابن لَهِيعة قالا حدثنا أبو هانئ الخولاني: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يقول: سمعت عبد الله بن عَمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قدَّر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة".
ورواه مسلم في صحيحه، من حديث عبد الله بن وهب وحيوة بن شريح ونافع بن يزيد، وثلاثتهم عن أبي هانئ، به. وزاد بن وَهب: "وكان عرشه على الماء". ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح (2)
وقوله: { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } أي: أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله، عز وجل (3) ؛ لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
__________
(1) تفسير الطبري (27/135).
(2) المسند (2/169) وصحيح مسلم برقم (2653) وسنن الترمذي برقم (2156).
(3) في أ: "تعالى".
وقوله: { لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } أي: أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا (1) للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تأسوا على ما فاتكم، فإنه (2) لو قدر شيء لكان { وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } أي: جاءكم، ويقرأ: "آتاكُم" أي: أعطاكم. وكلاهما متلازمان، أي: لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم، وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم، فلا تتخذوا نعم (3) الله أشرًا وبطرًا، تفخرون بها على الناس؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي: مختال في نفسه متكبر فخور، أي: على غيره.
وقال عكرمة: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفَرَح شكرًا والحزن صبرًا.
ثم قال: { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } أي: يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه، { وَمَنْ يَتَوَلَّ } أي: عن أمر الله وطاعته { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } كما قال موسى عليه السلام: { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [إبراهيم: 8].
__________
(1) في أ: "كتابنا".
(2) في م: "لأنه".
(3) في أ: "نعمة".
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) }
يقول تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } أي: بالمعجزات، والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات، { وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ } وهو: النقل المصدق { وَالْمِيزَانَ } وهو: العدل. قاله مجاهد، وقتادة، وغيرهما. وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة، كما قال: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } [هود: 17] ، وقال: { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم: 30] ، وقال: { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } [الرحمن: 7] ؛ ولهذا قال في هذه الآية: { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } أي: بالحق والعدل وهو: اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به، فإن الذي جاؤوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [الأنعام: 115] أي: صدقًا في الإخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي. ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غرف الجنات، والمنازل العاليات، والسرر المصفوفات: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } [الأعراف: 43] .
وقوله: { وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } أي: وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه؛ ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية، وكلها جدال مع المشركين، وبيان وإيضاح للتوحيد، وتبيان ودلائل، فلما قامت الحجة على من
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
خالف (1) شرع الله الهجرة، وأمرهم بالقتال بالسيوف، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وكذب به وعانده.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود، من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن حسان بن عطية، عن أبي المنيب (2) الجرشي الشامي، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثتُ بالسيف بين يَدَي الساعة حتى يُعبَد الله وحده لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظِلّ رُمْحي، وجعل الذلة والصِّغار على من خالف أمري، ومن تَشبَّه بقوم فهو منهم" (3)
ولهذا قال تعالى: { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } يعني: السلاح كالسيوف، والحراب، والسنان، والنصال، والدروع، ونحوها. { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي: في معايشهم كالسكة والفأس والقدوم، والمنشار، والإزميل، والمجرفة، والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ والخبز وما لا قوام للناس بدونه، وغير ذلك.
قال عِلْباء (4) بن أحمد، عن عِكْرِمة، أن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم: السندان (5) والكلْبَتان والميقعَة (6) -يعني المطرقة. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وقوله: { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } أي: من نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسله، { إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي: هو قوي عزيز، ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) }
يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحًا، عليه السلام، لم يرسل بعده رسولا ولا نبيًّا إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم، عليه السلام، خليل الرحمن، لم ينزل من السماء كتابًا ولا أرسل رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده، إلا وهو من سلالته كما قال في الآية الأخرى: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [يعني] (7) حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم الذي بشر من بعده بمحمد، صلوات الله وسلامه عليهما؛ ولهذا قال تعالى: { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ }
__________
(1) في م: "على من تخلف منهم".
(2) في أ:"المسيب"
(3) المسند (2/50) وسنن أبي داود برقم (4031).
(4) في أ: "قال علياء".
(5) في أ: "السنداب"
(6) في م: "المدقة"، وفي أ: "والمنفعة".
(7) زيادة من أ.
وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } وهم الحواريون { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } أي: رأفة وهي الخشية { وَرَحْمَةً } بالخلق.
وقوله: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا } أي: ابتدعتها أمة النصارى { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي: ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم.
وقوله: { إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } فيه قولان، أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله، قال سعيد بن جبير، وقتادة. والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله.
وقوله: { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي: فما قاموا بما التزموه حق القيام. وهذا ذم لهم من وجهين، أحدهما: في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله. والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله، عز وجل.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا إسحاق بن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي، حدثنا السندي بن عبدويه (1) حدثنا بُكَيْر بن معروف، عن مُقاتِل بن حَيَّان، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن جده بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن مسعود". قلت: لبيك يا رسول الله. قال: "هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم، عليه السلام، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة فقُتلت فصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران، فصبرت ونجت. ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت، وهم الذين ذكرهم الله، عز وجل: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } (2)
وقد رواه ابن جرير بلفظ آخر من طريق أخرى فقال: حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا داود بن المحبر، حدثنا الصَّعِق بن حَزْن، حدثنا عقيل الجعدي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن سُوَيْد بن غفلة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختلف من كان قبلنا على ثلاث وسبعين فرقة، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم..." وذكر نحو ما تقدم، وفيه: " { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } هم الذين آمنوا بي وصدقوني { وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } وهم الذين كذبوني وخالفوني" (3)
ولا يقدح في هذه المتابعة لحال داود بن المحبر، فإنه أحد الوضاعين للحديث، ولكن (4) قد أسنده
__________
(1) في م: "السندي بن عبد ربه"، وفي أ: "السري بن عبد ربه".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/211) من طريق هشام بن عمار، عن الوليد بن مسلم، عن بكير بن معروف به نحوه، وبكير بن معروف متكلم فيه.
(3) تفسير الطبري (27/138).
(4) في م: "ولكن".
أبو يعلى، وسنده (1) عن شيبان بن فَرُّوخ، عن الصَّعِق بن حَزْن، به مثل ذلك (2) فقوي الحديث من هذا الوجه.
وقال ابن جرير، وأبو عبد الرحمن النسائي-واللفظ له-: أخبرنا الحسين بن حُرَيْث، حدثنا الفضل بن موسى، عن سفيان بن سعيد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، رضي الله عنهما (3) قال: كان ملوك بعد عيسى، عليه السلام، بدلت التوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل، فقيل لملوكهم: ما نجد شيئًا أشد من شتم يشتمونا هؤلاء، إنهم يقرؤون: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة: 44] ، هذه (4) الآيات، مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعهم فليقرؤوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنا. فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل، إلا ما بدلوا منها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك؟ دعونا: فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئًا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم. وقالت طائفة: دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا. وقالت طائفة: ابنوا لنا دورًا في الفيافي، ونحتفر الآبار ونحترث (5) البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم. وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم، ففعلوا ذلك فأنزل الله، عز وجل: { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } والآخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دورًا كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم (6) فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل، انحط منهم رجل من صومعته، وجاء سائح من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدقوه، فقال الله، عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } أجرين بإيمانهم بعيسى ابن مريم والتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم قال (7) { وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [الحديد: 28] : القرآن، واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: { لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } الذين يتشبهون بكم { أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (8)
هذا السياق فيه غرابة، وسيأتي تفسير هاتين الآيتين الأخريين على غير هذا، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا عبد الله بن وهب، حدثني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء: أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن
__________
(1) في أ: "في مسنده".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/272) من طريق محمد الحضرمي، عن شيبان به، ورواه الحاكم في المستدرك (2/480) من طريق عبد الرحمن بن المبارك، عن الصعق بن حزن به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي. قلت: "ليس بصحيح، فإن فيه الصعق بن حزن، عن عقيل بن يحيى، والصعق وإن كان موثقًا، فإن شيخه قال فيه البخاري: منكر الحديث".
(3) في م، أ: "عنه".
(4) في م، أ: "هؤلاء".
(5) في م: "ونحرث".
(6) في م: "به".
(7) في م: "كما قال".
(8) تفسير الطبري (27/138) وسنن النسائي (8/231).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير، وهو يصلي صلاة خفيفة (1) كأنها صلاة مسافر أو قريبًا منها، فلما سلم قال: يرحمك الله، أرأيت هذه الصلاة المكتوبة، أم شيء تنفلته؟ قال: إنها المكتوبة، وإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئًا سهوت عنه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم". ثم غدوا من الغد فقالوا: نركب فننظر ونعتبر قال: نعم فركبوا جميعًا، فإذا هم بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا، خاوية على عروشها فقالوا: تعرف هذه الديار؟ قال: ما أعرفني بها وبأهلها. هؤلاء أهل الديار، أهلكهم البغي والحسد، إن الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه (2)
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعمُر، حدثنا عبد الله، أخبرنا سفيان، عن زيد العَمِّي، عن أبي إياس، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عز وجل" (3)
ورواه الحافظ أبو يعلى، عن عبد الله بن محمد بن أسماء، عن عبد الله بن المبارك به ولفظه: "لكل أمة رهبانية، ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله" (4)
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين -هو ابن محمد-حدثنا ابن عياش -يعني إسماعيل-عن الحجاج بن مروان (5) الكلاعي، وعقيل بن مدرك السلمي، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رجلا جاءه فقال: أوصني فقال: سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك، أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض. تفرد به أحمد (6)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) }
قد تقدم في رواية النسائي عن ابن عباس: أنه حمل هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين كما في الآية التي في القصص (7) وكما في حديث الشعبي عن أبي بُرْدَة، عن
__________
(1) في أ، م "خفيفة وقعة".
(2) مسند أبي يعلى (6/365).
(3) المسند (3/266) وفيه زيد العمى ضعيف.
(4) مسند أبي يعلى (7/210).
(5) في م: "هارون".
(6) المسند (3/82) وقال الهيثمي في المجمع (4/215): "رجال أحمد ثقاب".
(7) عند تفسير الآية: 54.
أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مَوَاليه فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران". أخرجاه في الصحيحين (1)
ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك، وعتبة بن أبي حكيم، وغيرهما، وهو اختيار ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير: لما افتخر أهلُ الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله هذه الآية في حق هذه الأمة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } أي: ضعفين، وزادهم: { وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } يعني: هدى يُتَبَصَّر به من العمى والجهالة، ويغفر لكم. فضلهم بالنور والمغفرة. ورواه ابن جرير عنه.
وهذه الآية كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } [الأنفال: 29] .
وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل عمر بن الخطاب حَبْرًا من أحبار يهود: كم أفضل ما ضعفت (2) لكم حسنة؟ قال: كفل ثلاثمائة وخمسون (3) حسنة. قال: فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين. [ثم] (4) ذكر سعيد قول الله، عز وجل: { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ } قال سعيد: والكفلان في الجمعة مثل ذلك. رواه ابن جرير (5)
ومما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال: من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ألا فعملت اليهود. ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ ألا فعملت النصارى. ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذي عملتم. فغضبت النصارى واليهود، وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء. قال: هل ظلمتكم من أجركم شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء" (6)
قال أحمد: وحدثناه مُؤَمَّل، عن سفيان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، نحو حديث نافع، عنه (7)
انفرد بإخراجه البخاري، فرواه عن سليمان (8) بن حرب، عن حماد، [عن أيوب] (9) عن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (97) وصحيح مسلم برقم (154).
(2) في م: "ضعف".
(3) في م: "وخمسين".
(4) زيادة من أ.
(5) تفسير الطبري (27/141).
(6) المسند (2/6).
(7) المسند (2/111).
(8) في أ: "سليم".
(9) زيادة من صحيح البخاري.
نافع، به (1) وعن قتيبة، عن الليث، عن نافع، بمثله (2)
وقال البخاري: حدثنى محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، عن بَريد (3) عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا يعملون له عملا يومًا إلى الليل على أجر معلوم، فعملوا إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل. فقال لهم: لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتَرَكُوا، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا: ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه. فقال أكملوا بقية عملكم؛ فإن ما بقي من النهار شيء يسير. فأبوا، فاستأجر قومًا أن يعملوا له بقية يومهم، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس، فاستكملوا أجر الفريقين كليهما، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور" انفرد به البخاري (4)
ولهذا قال تعالى: { لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } أي: ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رَدّ ما أعطاه الله، ولا [على] (5) إعطاء ما منع الله، { وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
قال ابن جرير: { لِئَلا يَعْلَمَ } أي: ليعلم وقد ذكر عن ابن مسعود أنه قرأها: "لكي يعلم". وكذا حطَّان (6) بن عبد الله، وسعيد بن جبير، قال ابن جرير: لأن العرب تجعل "لا" صلة في كل كلام دخل في أوله وآخره جحد غير مصرح، فالسابق كقوله: { مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ } [الأعراف: 12] ، { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 109] ، { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [الأنبياء: 95] .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2268).
(2) صحيح البخاري برقم (3459).
(3) في أ: "يزيد".
(4) صحيح البخاري برقم (2271).
(5) زيادة من أ.
(6) في م: "حطاب".
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
تفسير سورة المجادلة
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) }
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وَسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلةُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله، عز وجل: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } إلى آخر الآية (1)
وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقًا فقال: وقال الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة، فذكره (2) وأخرجه النسائي، وابن ماجة، وابن أبي حاتم، وابن جرير، من غير وجه، عن الأعمش، به (3)
وفي رواية لابن أبي حاتم عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت: تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تقول: يا رسول الله، أَكَلَ شبابي، ونَثَرت (4) له بطني، حتى إذا كَبُرَت سِنِّي، وانقطع ولدي، ظَاهَر مِنِّي، اللهم إني أشكو إليك. قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } وقال (5) وزوجها أوس بن الصامت.
وقال ابن لَهِيعة، عن أبي الأسود، عن عروة: هو أوس بن الصامت-وكان أوس امرأ به لمم، فكان إذا أخَذه لممه (6) واشتد به يظاهر من امرأته، وإذا ذهب لم يقل شيئًا. فأتت رسول الله تستفتيه في ذلك، وتشتكي إلى الله، فأنزل الله: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } الآية.
وهكذا روى هشام بن عروة، عن أبيه: أن رجلا كان به لممٌ، فذكر مثله.
__________
(1) المسند (6/46).
(2) صحيح البخاري برقم (7385).
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (11570) وسنن ابن ماجة برقم (188) وتفسير الطبري (28/5).
(4) في أ: "وبرت".
(5) في م: "وقالت".
(6) في م: "أخذه لمم".
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة، حدثنا جرير-يعني بن حازم-قال: سمعت أبا يزيد يحدث قال: لقيت امرأة عُمَرَ-يقال لها: خولة بنت ثعلبة-وهو يسير مع الناس، فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه، ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت. فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، حبست رجالات قريش على هذه العجوز؟! قال: ويحك! وتدري من هذه؟ قال: لا. قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها إلى أن تحضر صلاة فأصليها، ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها (1)
هذا منقطع بين أبي يزيد وعمر بن الخطاب. وقد روي من غير هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم أيضًا: حدثنا المنذر بن شاذان (2) حدثنا يعلى، حدثنا زكريا عن عامر قال: المرأة التي جادلت في زوجها خولة بنت الصامت، وأمها معاذة التي أنزل الله فيها: { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [ النور : 33 ]
صوابه: خولة امرأة أوس بن الصامت.
{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) }
قال الإمام أحمد: حدثنا سعد (3) بن إبراهيم ويعقوب قالا حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني مَعْمَر بن عبد الله بن حنظلة، عن ابن عبد الله بن سلام، عن خويلة (4) بنت ثعلبة قالت: فيَّ-والله-وفي أوس بن الصامت أنزل الله صَدْرَ سورة "المجادلة"، قالت: كنت عنده وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه، قالت: فدخل عليَّ يومًا فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت عليَّ كظهر أمي. قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني عن نفسي. قالت: قلت: كلا والذي نفس خويلة (5) بيده، لا تخلص إليَّ وقد قلت ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه. قالت: فواثبني وامتنعت منه، فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، قالت: ثم خرجتُ إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابًا، ثم خرجتُ حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست بين يديه، فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما
__________
(1) ورواه الدرامي في الرد على الجهمية (ص 26) من طريق أبي يزيد، عن عمر بن الخطاب به. قال الذهبي في العلو (ص 113): "هذا إسناد صالح فيه انقطاع، أبو يزيد لم يلحق عمر".
(2) في أ: "حدثنا الوليد بن المنذر به شاذان".
(3) في أ: "سعيد".
(4) في أ: "خولة".
(5) في أ: "خولة".
ألقى من سوء خلقه. قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا خويلة (1) ابنُ عمك شيخ كبير، فاتقي الله فيه". قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيَّ القرآن، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه، ثم سُرِّيَ عنه، فقال لي: "يا خويلة (2) قد أنزل الله فيك وفي صاحبك". ثم قرأ عليَّ: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } إلى قوله: { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قالت: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مُريه فليعتق رقبة". قالت: فقلت يا رسول الله، ما عنده ما يعتق. قال: "فليصم شهرين متتابعين". قالت: فقلت: والله إنه شيخ كبير، ما به من صيام. قال: "فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تَمر". قالت: فقلت: يا رسول الله، ما ذاك عنده. قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإنا سنعينه بعَرَقٍ من تمر" . قالت: فقلت: يا رسول الله، وأنا سأعينه بعَرَقٍ آخر، قال: "فقد أصبت وأحسَنْت، فاذهبي فتصدقي به عنه، ثم استوصي بابن عمك خيرًا". قالت: ففعلت.
ورواه أبو داود في كتاب الطلاق من سننه من طريقين، عن محمد بن إسحاق بن يسار، به (3) وعنده: خولة بنت ثعلبة، ويقال فيها: خولة بنت مالك بن ثعلبة. وقد تصغر فيقال: خُوَيلة. ولا منافاة بين هذه الأقوال، فالأمر فيها قريب. والله أعلم.
هذا هو الصحيح في سبب نزول صدر هذه السورة، فأما حديث سَلَمة بن صَخْر فليس فيه أنه كان سبب النزول، ولكن أمر بما أنزل الله في هذه السورة، من العتق أو الصيام، أو الإطعام، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن سُلَيمان بن يَسَار، عن سلمة بن صخر الأنصاري قال: كنتُ امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان تظهَّرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فَرَقًا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار، وأنا لا أقدر أن أنزع، فبينا هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء، فوثبت عليها، فلما أصبحتُ غدوتُ على (4) قومي فأخبرتهم خبري وقلت: انطلقوا معي إلى النبي (5) صلى الله عليه وسلم-فأخبره بأمري. فقالوا: لا والله لا نفعل؛ نتخوف أن ينزل فينا (6) -أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم-مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك. قال: فخرجتُ حتى أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته خبري. فقال لي: "أنت بذاك". فقلت: أنا بذاك. فقال "أنت بذاك". فقلت: أنا بذاك. قال "أنت بذاك". قلت: نعم، ها أناذا فأمض فيّ حكم الله تعالى (7) فإني صابر له. قال: "أعتق رقبة". قال: فضربت صفحة رقبتي (8) بيدي وقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: "فصم شهرين". قلت: يا رسول الله، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام؟ قال: "فتصدق". فقلت: والذي بعثك بالحق،
__________
(1) في أ: "يا خولة".
(2) في أ: "يا خولة".
(3) المسند (6/410) وسنن أبي داود برقم (2214، 2215).
(4) في م: "إلى"
(5) في م: "رسول الله" .
(6) في أ: "فينا شيء".
(7) في م، أ: "عز وجل".
(8) في م: "عنقي".
لقد بتنا ليلتنا هذه وَحْشَى ما لنا عشاء. قال: "اذهب إلى صاحب صدقة بني زُريق فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقًا من تمر ستين مسكينًا، ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك". قال: فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيقَ وسوءَ الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السَّعَة والبركة، قد أمر لي بصدقتكم، فادفعوها إليَّ. فدفعوها إليَّ.
وهكذا رواه أبو داود، وابن ماجة، واختصره الترمذي وحَسَّنه (1)
وظاهر السياق: أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خُويَلة بنت ثعلبة، كما دلّ عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل.
قال خَصيف،عن مجاهد، عن بن عباس: أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت، أخو عبادة بن الصامت، وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك، فلما ظاهر منها خَشِيت أن يكون ذلك طلاقًا، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أوسًا ظاهر مني، وإنا إن افترقنا هلكنا، وقد نَثَرتُ بطني منه، وقَدمتْ صُحْبَتَهُ. وهي تشكو ذلك وتبكي، ولم يكن جاء في ذلك شيء. فأنزل الله: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } إلى قوله: { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أتقدر على رقبة تعتقها؟ ". قال: لا والله يا رسول الله ما أقدر عليها؟ قال: فجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أعتق عنه، ثم راجع أهله رواه بن جرير (2)
ولهذا ذهب ابنُ عباس والأكثرون إلى ما قلناه، والله أعلم.
فقوله تعالى: { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ } أصل الظهار مشتق من الظهر، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا تظاهر أحد من امرأته قال لها: أنت عليَّ كَظَهْرِ أمي، ثم في الشرع كان الظهار في سائر الأعضاء قياسًا على الظهر، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقًا، فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة، ولم يجعله طلاقًا كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم. هكذا قال غير واحد من السلف.
قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي حمزة، عن عِكْرمة، عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية: أنت عليَّ كظهر أمي، حُرِّمت عليه، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس، وكان تحته ابنة عم له يقال لها: "خويلة بنت ثعلبة (3) . فظاهر منها، فأسقط في يديه، وقال: ما أراك إلا قد حَرُمت علي. وقالت له مثل ذلك، قال: فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتت رسول الله فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه، فقال: "ياخويلة، ما أمرنا في أمرك بشيء (4) فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا خويلة، أبشري" قالت: خيرًا. قال فقرأ عليها: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا } إلى قوله: { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا }
__________
(1) المسند (4/37) وسنن أبي داود برقم (2213) وسنن ابن ماجة برقم (2062) وسنن الترمذي برقم (3299).
(2) تفسير الطبري (28/6).
(3) في أ: "بنت خويلد" وهو خطأ.
(4) قي م: "ما أمرنا فيك بشيء".
قالت: وأي رقبة لنا؟ والله ما يجد رقبة غيري. قال: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } قالت: والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره! قال: { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } قالت: من أين؟ ما هي إلا أكلة إلي مثلها! قال: فدعا بشطر وَسْق-ثلاثين صاعا، والوسق: ستون صاعا-فقال: "ليطعم ستين مسكينا وليراجعك" (1) وهذا إسناد جيد قوي، وسياق غريب، وقد روي عن أبي العالية نحو هذا، فقال ابن أبي حاتم:
حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي، حدثنا على بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية قال: كانت خولة بنت دُلَيج تحت رجل من الأنصار، وكان ضرير البصر فقيرًا سيئ الخلق، وكان طلاق أهل الجاهلية إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته، قال: "أنت عليَّ كظهر أمي". وكان لها منه عيل أو عيلان، فنازعته يوما في شيء فقال: "أنت عليَّ كظهر أمي". فاحتملت عليها ثيابها حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم. وهو في بيت عائشة، وعائشة تغسل شق رأسه، فقدمت عليه ومعها عَيّلها، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي ضرير البصر، فقير لا شيء له سيئ الخُلُق، وإني نازعته في شيء فغضب، فقال: "أنت عليَّ كظهر أمي"، ولم يرد به الطلاق، ولي منه عيل أو عيلان، فقال: "ما أعلمك إلا قد حَرُمت عليه" فقالت: أشكو إلى الله ما نزل بي وأبا صبييّ. قال: ودارت عائشة فغسلت شق رأسه الآخر، فدارت معها، فقالت: يا رسول الله، زوجي ضرير البصر، فقير سيئ الخلق، وإن لي منه عَيِّلا أو عيلين، وإني نازعته في شيء فغضب، وقال: "أنت عليَّ كظهر أمي"، ولم يرد به الطلاق! قالت: فرفع إلي رأسه وقال: "ما أعلمك إلا قد حرمت عليه". فقالت: أشكو إلى الله ما نزل بي وأبا صبيي؟ قال: ورأت عائشة وجه النبي صلى الله عليه وسلم تَغَيَّر، فقالت لها: "وراءك وراءك؟" فتنحت، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في غشيانه ذلك ما شاء الله، فلما انقطع الوحي قال: "يا عائشة، أين المرأة" فدعتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبي فأتني بزوجك". فانطلقت تسعى فجاءت به. فإذا هو-[كما قالت] (2) -ضرير البصر، فقير سيئ الخلق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أستعيذ بالله السميع العليم، بسم الله الرحمن الرحيم { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [ وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ] } (3) إلى قوله: { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا [ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ] } (4) قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتجد رقبة تعتقها من قبل أن تمسها؟". قال: لا. قال: "أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟". قال: والذي بعثك بالحق، إني إذا لم آكل المرتين والثلاث يكاد أن يعشو بصري. قال: "أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟". قال: لا إلا [أن] (5) تعينني. قال: فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أطعم ستين مسكينا". قال:
__________
(1) تفسير الطبري (28/3) ورواه البزار في مسنده برقم (1076) "كشف الأستار" من طريق عبيد الله بن موسى، عن أبي حمزة به وقال: "لا نعلمه بهذا اللفظ في الظهار عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، وأبو حمزة لين الحديث، وقد خالف في روايته ومتن حديثه الثقاب في أمر الظهار؛ لأن الزهري رواه عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، وهذا إسناد لا نعلم بين علماء أهل الحديث اختلافًا في صحته، وأنه صلى الله عليه وسلم دعا بإناء فيه خمسة عشر صاعًا، وحديث أبي حمزة منكر، وفيه لفظ يدل على خلاف الكتاب؛ لأنه قال: "وليراجعك، وقد كانت امرأته، فما معنى مراجعته امرأته ولم يطلقها، وهذا مما لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أتي هذا من رواية أبي حمزة الثمالي".
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من م.
وحَوّل الله الطلاق، فجعله ظهارًا.
ورواه ابن جرير، عن ابن المثنى، عن عبد الأعلى، عن داود، سمعت أبا العالية، فذكر نحوه، بأخصر من هذا السياق (1)
وقال سعيد ابن جبير: كان الإيلاء والظهار من طلاق الجاهلية، فوقت الله الإيلاء أربعة أشهر، وجعل في الظهار الكفارة. رواه بن أبي حاتم، بنحوه.
وقد استدل الإمام مالك على أن الكافر لا يدخل في هذه الآية بقوله: { مِنْكُمْ } فالخطاب للمؤمنين، وأجاب الجمهور بأن هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، واستدل الجمهور عليه بقوله: { مِنْ نِسَائِهِمْ } على أن الأمة لا ظهار منها، ولا تدخل في هذا الخطاب.
وقوله: { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ } أي: لا تصير المرأة بقول الرجل: "أنت عليَّ كأمي" أو "مثل أمي" أو "كظهر أمي" (2) وما أشبه ذلك، لا تصير أمه بذلك، إنما أمه التي ولدته؛ ولهذا قال: { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } أي: كلامًا فاحشًا باطلا { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي: عما كان منكم في حال الجاهلية. وهكذا أيضًا عما خرج من سبق اللسان، ولم يقصد إليه المتكلم، كما رواه أبو داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لامرأته: يا أختي. فقال: أختك هي؟"، فهذا إنكار (3) ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك؛ لأنه لم يقصده، ولو قصده لحرمت عليه؛ لأنه لا فرق على الصحيح بين الأم وبين غيرها من سائر المحارم من أخت وعمة وخالة وما أشبه ذلك.
وقوله: { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } فقال بعض الناس: العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره، وهذا القول باطل، وهو اختيار بن حزم (4) وقول داود، وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن بُكَيْر ابن الأشج والفراء، وفرقة من أهل الكلام.
وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد الظهار زمانًا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق.
وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة. وقد حكي عن مالك: أنه العزم على الجماع أو الإمساك (5) وعنه أنه الجماع.
وقال أبو حنيفة: هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه، ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية، فمتى تظاهر (6) الرجل من امرأته فقد حرمها تحريمًا لا يرفعه إلا الكفارة. وإليه ذهب أصحابه، والليث بن سعد.
__________
(1) تفسير الطبري (28/3).
(2) في م: "كظهر أمي أو كأمي أو مثل أمي".
(3) سنن أبي داود برقم (2210) من حديث أبي تميمة الهجيمي، رضي الله عنه.
(4) في هـ، أ: "ابن جرير" والمثبت من م. مستفادًا من هامش ط-الشعب.
(5) في م: "أو الإمساك".
(6) في م: "ظاهر".
وقال ابن لَهِيعة: حدثني عطاء، عن سعيد بن جبير: { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } يعني: يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم.
وقال الحسن البصري: يعني الغشيان في الفرج. وكان لا يرى بأسا أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } والمس: النكاح. وكذا قال عطاء، والزهري، وقتادة، ومقاتل ابن حيان.
وقال الزهري: ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر.
وقد روي أهل السنن من حديث عكرمة، عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر. فقال: "ما حملك على ذلك يرحمك الله؟". قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله، عز وجل" (1)
وقال الترمذي: حسن غريب صحيح (2) ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسلا. قال النسائي: وهو أولى بالصواب (3)
وقوله: { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي: فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا، فها هنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان، وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان، فحمل الشافعي، رحمه الله، ما أطلق ها هنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب، وهو عتق الرقبة، واعتضد (4) في ذلك بما رواه عن مالك بسنده، عن معاوية بن الحكم السلمي، في قصة الجارية السوداء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". وقد رواه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه (5)
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف (6) بن موسى، حدثنا عبد الله بن نمير، عن إسماعيل بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني تظاهرت (7) من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم يقل الله { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } قال: أعجبتني؟ قال: "أمسك حتى تكفر" (8)
ثم قال البزار: لا يروي عن ابن عباس بأحسن من هذا، وإسماعيل بن مسلم تكلم فيه، وروي عنه جماعة كثيرة من أهل العلم، وفيه من الفقه أنه لم يأمره إلا بكفارة واحدة.
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (2223) والترمذي في السنن برقم (1990) والنسائي في السنن (6/167) وابن ماجة في السنن برقم (2065).
(2) في م: :حسن صحيح غريب".
(3) سنن أبي داود برقم (2221، 2222) وسنن النسائي (6/168).
(4) في م: "واعتمد".
(5) الموطأ (2/777) والمسند (5/447) وصحيح مسلم برقم (537).
(6) في أ: "حدثنا يونس".
(7) في م: "إني ظاهرت".
(8) ورواه الحاكم في المستدرك (2/204) والبيهقي في السنن الكبرى (7/386) من طريق إسماعيل بن مسلم، عن عمرو بن دينار به نحوه، وقال الذهبي: "فيه إسماعيل بن مسلم وهو واه".
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
وقوله: { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } أي: تزجرون به { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي: خبير بما يصلحكم، عليم بأحوالكم.
وقوله: { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } وقد تقدمت الأحاديث الواردة (1) بهذا على الترتيب، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان.
{ ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي: شرعنا هذا لهذا.
وقوله: { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي: محارمه فلا تنتهكوها.
وقوله: { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: الذين لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة، لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء، كلا ليس الأمر كما زعموا، بل لهم عذاب أليم، أي: في الدنيا والآخرة.
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) }
__________
(1) في م: "الآمرة".
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) }
يخبر تعالى عمن شاقوا الله ورسوله وعاندوا شرعه { كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي: أهينوا ولعنوا وأخزوا، كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم { وَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي: واضحات لا يخالفها ولا يعاندها إلا كافر فاجر مكابر، { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي: في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع الله، والانقياد له، والخضوع لديه.
ثم قال: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا } وذلك يوم القيامة، يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا } أي: يخبرهم (1) بالذي صنعوا من خير وشر { أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ } أي: ضبطه الله وحفظه عليهم، وهم قد نسوا ما كانوا عليه، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي: لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى ولا ينسى شيئًا.
ثم قال تعالى مخبرًا عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم، وسماعه كلامهم، ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأين كانوا، فقال: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ }
__________
(1) في أ: "فيجزيهم".
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
أي: من سر ثلاثة { إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } أي: يطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسله أيضًا مع ذلك تكتب ما يتناجون به، مع علم الله وسمعه لهم، كما قال: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ } [ التوبة : 78 ] وقال { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ؛ ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علم الله تعالى (1) ولا شك في إرادة ذلك ولكن سمعه أيضا مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو، سبحانه، مطلع على خلقه، لا يغيب عنه من أمورهم شيء.
ثم قال: { ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم، واختتمها بالعلم.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) }
قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد [في قوله] (2) { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى } قال: اليهود وكذا قال مقاتل بن حيان، وزاد: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مر بهم رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله-أو: بما يكره المؤمن-فإذا رأى المؤمن ذلك خَشيهم، فترك طريقه عليهم. فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ } .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثني سفيان بن حمزة، عن كثير عن زيد، عن رُبَيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده قال: كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، نبيت عنده؛ يطرُقه من الليل أمر (3) وتبدو له حاجة. فلما كانت ذات ليلة كَثُر أهل النّوب والمحتسبون حتى كنا أندية نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا النجوى؟ ألم تُنْهَوا عن النجوى؟". قلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله، إنا كنا في ذكر المسيح،
__________
(1) في م: "علمه تعالى".
(2) زيادة من أ.
(3) في م: "أمرًا" وهو خطأ.
فَرقا منه. فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟ ". قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل". هذا إسناد غريب، وفيه بعض الضعفاء (1)
وقوله: { وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } أي: يتحدثون فيما بينهم بالإثم، وهو ما يختص بهم، والعدوان، وهو ما يتعلق بغيرهم، ومنه معصية الرسول ومخالفته، يُصِرون عليها ويتواصون بها.
وقوله: { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا بن نمير، عن الأعمش، [عن مسلم] (2) عن مسروق، عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. فقالت عائشة: وعليكم السام و[اللعنة] (3) قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش". قلت: ألا تسمعهم يقولون: السام عليك؟ فقال رسول الله: "أو ما سمعت أقول (4) وعليكم؟". فأنزل الله: { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } (5)
وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم: عليكم السام والذام واللعنة. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا" (6)
وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه، إذ أتى عليهم يهودي فسلَّم عليهم، فردوا عليه، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون ما قال؟". قالوا: سلم يا رسول الله. قال: "بل قال: سام عليكم، أي: تسامون دينكم". قال رسول الله: "ردوه". فردوه عليه. فقال نبي الله: "أقلت: سام عليكم؟". قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك" أي: عليك ما قلت (7)
وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح، وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة، بنحوه (8)
وقوله: { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } أي: يفعلون هذا، ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام، وإنما هو شتم في الباطن، ومع هذا يقولون في أنفسهم: لو كان هذا نبيًا لعذبنا الله بما نقول له في الباطن؛ لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان هذا نبيًا حقًّا لأوشك أن
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند (3/30) وابن ماجة في السنن برقم (4204) من طريق كثير بن زيد به نحوه، وقال البوصيري في الزوائد (3/296): "هذا إسناد حسن، كثير بن زيد وربيع بن عبد الرحمن مختلف فيهما".
(2) زيادة من المسند (6/229).
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "ما أقول".
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2165) من طريق يعلى بن عبيد، عن الأعمش به نحوه.
(6) انظر: صحيح البخاري برقم (6030) وصحيح مسلم برقم (2166) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(7) تفسير الطبري (27/11).
(8) صحيح مسلم برقم (2163).
يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا، فقال الله تعالى: { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } أي: جهنم كفايتهم في الدار الآخرة { يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو؛ أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سام عليك، ثم يقولون في أنفسهم: { لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } ؟، فنزلت هذه الآية: { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } إسناد حسن ولم يخرجوه (1)
وقال العوفي، عن بن عباس: { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ } قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله إذا حيوه: "سام عليك"، قال الله: { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
ثم قال الله مُؤدّبًا عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } أي: كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مَالأهم على ضلالهم من المنافقين، { وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي: فيخبركم (2) بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها.
قال الإمام أحمد: حدثنا بَهْزُ وعفان قالا أخبرنا همام، حدثنا قتادة، عن صفوان بن مُحْرِز قال: كنت آخذًا بيد ابن عمر، إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كَنَفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قَرّره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يُعْطَى كتابَ حسناته، وأما الكفار (3) والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين".
أخرجاه في الصحيحين، من حديث قتادة (4)
ثم قال تعالى: { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي: إنما النجوى-وهي المُسَارّة-حيث يتوهم مؤمن بها سوءًا { مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا } يعني: إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه، { لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا } أي: ليسوءهم، وليس ذلك بضارهم شيئًا إلا بإذن الله، ومن أحس من ذلك شيئًا فليستعذ بالله وليتوكل على الله، فإنه لا يضره شيء بإذن الله.
وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذٍ على مؤمن، كما قال الإمام أحمد:
__________
(1) المسند (2/170).
(2) في أ: "فيجزيكم".
(3) في م: "الكافرون".
(4) المسند (2/74) وصحيح البخاري برقم (4685) وصحيح مسلم برقم (1768).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
حدثنا وكيع وأبو معاوية قالا حدثنا الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَينَّ اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه". وأخرجاه من حديث الأعمش (1)
وقال عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه". انفرد بإخراجه مسلم عن أبي الربيع وأبي كامل، كلاهما عن حماد بن زيد، عن أيوب، به (2)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) }
يقول تعالى مؤدبًا عباده المؤمنين، وآمرًا لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ } وقرئ { في المجلس } { فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ } وذلك أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في الحديث الصحيح: "من بَنَى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة" (3) وفي الحديث الآخر: "ومن يَسَّر على مُعْسِر يَسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، [ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة] (4) والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (5) ولهذا أشباه كثيرة؛ ولهذا قال: { فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ } .
قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس (6) الذكر، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضَنّوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال مقاتل ابن حيان: أنزلت هذه الآية يوم جُمُعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فرد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام، فلم يُفْسَح لهم، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار، من غير أهل بدر: "قم يا فلان، وأنت يا فلان". فلم يزل
__________
(1) المسند (1/431) وصحيح مسلم برقم (2184) ولم أقع عليه عند البخاري عن الأعمش، وإنما هو عنده عن منصور، عن أبي وائل برقم (6290).
(2) صحيح مسلم برقم (2183).
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (450) ومسلم في صحيحه برقم (533) من حديث عثمان، رضي الله عنه.
(4) زيادة من صحيح مسلم (2699).
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2699) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(6) في م: "في مجلس".
يقيمهم بعدة (1) النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم، فقال المنافقون: ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قبلُ عدل على هؤلاء، إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب لنبيهم، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه. فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله رجلا فَسَح (2) لأخيه". فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعًا، فَتَفَسَّحَ القومُ لإخوانهم، ونزلت هذه الآية يوم الجمعة. رواه بن أبي حاتم.
وقد قال الإمام أحمد، والشافعي: حدثنا سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تَفَسَّحُوا وتَوسَّعوا".
وأخرجاه في الصحيحين من حديث نافع، به (3)
وقال الشافعي: أخبرنا عبد المجيد، عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى، عن جابر بن عبد الله. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقيمن أحدُكم أخاه يوم الجمعة، ولكن ليقل: افسحوا". على شرط السنن ولم يخرجوه (4)
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا فُلَيْح، عن أيوب عن عبد الرحمن بن [أبي] (5) صَعْصَعة، عن يعقوب بن أبي يعقوب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم" (6)
ورواه أيضًا عن سُرَيج (7) بن يونس، ويونس بن محمد المؤدب، عن فُلَيْح، به. ولفظه: "لا يقوم الرجلُ للرجل من مجلسه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم" تفرد به أحمد (8)
وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص في ذلك محتجًّا بحديث: "قوموا إلى سيدكم" (9) ومنهم من منع من ذلك محتجًّا بحديث: "من أحَبَّ أن يَتَمثَّلَ له الرجال قيامًا فَلْيَتبوَّأ مَقْعَدَه من النار" (10) ومنهم من فصل فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ، فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكمًا
__________
(1) في أ: "بعدد".
(2) في م، أ: "يفسح".
(3) لم يقع هذا الحديث لي في مسند أحمد هكذا، وإنما هو فيه (2/22): عن ابن نمير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، (2/45) عن غندر، عن شعبة، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر. وهو في صحيح البخاري برقم (6269) وصحيح مسلم برقم (2177).
(4) مسند الشافعي برقم (454) "بدائع المنن".
(5) زيادة من المسند (2/523).
(6) المسند (2/523).
(7) في م، أ: "شريح".
(8) المسند (2/338).
(9) رواه البخاري في صحيحه برقم (3043) ومسلم في صحيحه برقم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه.
(10) رواه أبو داود في السنن برقم (5229) والترمذي في السنن برقم (2755) من حديث معاوية رضي الله عنه، وقال الترمذي: "إسناد حسن".
في بني قريظه فرآه مقبلا قال للمسلمين: "قوموا إلى سيدكم". وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه، والله أعلم. فأما اتخاذه ديدنًا فإنه من شعار العجم. وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له، لما يعلمون من كراهته (1) لذلك (2) (3)
وفي الحديث المروي في السنن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس، وكان الصحابة، رضي الله عنهم، يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق يجلسه عن يمينه، وعمر عن يساره، وبين يديه غالبًا عثمان وعلي؛ لأنهما كانا ممن يكتب (4) الوحي، وكان يأمرهما بذلك، كما رواه مسلم من حديث الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن أبي مَعْمَر، عن أبي مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لِيَليني منكم أولوا الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (5) وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر، إما لتقصير أولئك في حق البدريين، أو ليأخذ البدريون من العلم بنصيبهم، كما أخذ أولئك قبلهم، أو تعليما بتقديم الأفاضل إلى الأمام.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن الأعمش، عن عُمَارة بن عمير (6) التيمي (7) عن أبي معمر، عن أبي مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قال أبو مسعود (8) فأنتم اليوم أشد اختلافًا.
وكذا رواه مسلم وأهل السنن، إلا الترمذي، من طرق عن الأعمش، به (9)
وإذا كان هذا أمره لهم في الصلاة أن يليه العقلاء (10) ثم العلماء، فبطريق الأولى أن يكون ذلك في غير الصلاة.
وروى أبو داود من حديث معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرة، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الصفوف، وحَاذُوا بين المناكب، وسُدّوا الخلل، ولِينُوا بأيدي إخوانكم، ولا تَذَروا فرجات للشيطان، ومن وَصَل صفًّا وصله الله، ومن قطع صفّا قطعه الله" (11)
__________
(1) في م: "من كراهيته".
(2) رواه الترمذي في السنن برقم (2754) من حديث أنس، رضي الله عنه.
(3) وللإمام النووي-رحمه الله-رسالة سماها: "الترخيص بالقيام لذوى الفضل والمزية من أهل الإسلام" أطنب في الكلام على هذه المسألة، وهى مطبوعة بدار الفكر بدمشق.
(4) في م: "يكتبان".
(5) صحيح مسلم برقم (432).
(6) في أ: "بكير".
(7) في م، أ: "الليثي".
(8) في أ: "سعيد".
(9) المسند (4/122) وصحيح مسلم برقم (432) وسنن أبي داود برقم (674) وسنن النسائي (2/87) وسنن ابن ماجة برقم (976).
(10) في أ: "الفضلاء".
(11) سنن أبي داود برقم (666).
ولهذا كان أبي بن كعب -سيد القراء-إذا انتهى إلى الصف الأول انتزع منه رجلا يكون من أفناء (1) الناس، ويدخل هو في الصف المقدم، ويحتج بهذا الحديث: "ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى". وأما عبد الله بن عمر فكان لا يجلس في المكان الذي يقوم له صاحبه عنه، عملا بمقتضى ما تقدم من روايته الحديث الذي أوردناه. ولنقتصر على هذا المقدار (2) من الأنموذج المتعلق بهذه الآية، وإلا فبسطه يحتاج (3) إلى غير هذا الموضع، وفي الحديث الصحيح: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها، وأما الآخر فجلس وراء الناس، وأدبر الثالث ذاهبًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخبر الثلاثة، أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه" (4)
وقال الإمام أحمد: حدثنا عَتَّاب بن زياد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما".
ورواه أبو داود والترمذي، من حديث أسامة بن زيد الليثي، به (5) وحسنه الترمذي.
وقد رُوي عن بن عباس، والحسن البصري وغيرهما أنهم قالوا (6) في قوله تعالى: { إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس فافسحوا } (7) يعني: في مجالس الحرب، قالوا: ومعنى قوله: { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } أي: انهضوا للقتال.
وقال قتادة: { وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا } أي: إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا.
وقال مقاتل [بن حيان] (8) إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجا من عنده، فربما يشق (9) ذلك عليه-عليه السلام-وقد تكون له (10) الحاجة، فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا، كقوله: { وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } [ النور : 28 ] (11)
وقوله: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي: لا تعتقدوا أنه إذا فَسَح أحد منكم لأخيه إذا أقبل، أو إذا أمر بالخروج فخرج، أن يكون ذلك نقصا في حقه، بل هو رفعة ومزية (12) عند الله، والله تعالى لا يضيع ذلك له، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رَفَع الله قدره، ونَشَر ذكره؛ ولهذا قال: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }
__________
(1) في م، أ: "أفناد".
(2) في م: "القدر".
(3) في م: "محتاج".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (66) ومسلم في صحيحه برقم (2176).
(5) المسند (2/213) وسنن أبي داود برقم (4845) وسنن الترمذي برقم (2752).
(6) في م،أ: "أنهما قالا".
(7) في أ: "المجالس".
(8) زيادة من م.
(9) في م: "شق".
(10) في م: "لهم".
(11) في م: "وإذا قيل ارجعوا" وهو خطأ.
(12) في م: "ورتبة"، وفي أ: "ومنزلة"
أي: خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو كامل، حدثنا إبراهيم، حدثنا ابن شهاب، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزي. قال: وما ابن أبزي؟ فقال: رجل من موالينا. فقال عمر [بن الخطاب] (1) استخلفت عليهم مولى؟. فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاض. فقال عمر، رضي الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب قومًا ويضع به آخرين" (2)
وهكذا رواه مسلم من غير وجه، عن الزهري، به (3) وقد ذكرت (4) فضل العلم وأهله وما ورد في ذلك من الأحاديث مستقصاة في شرح "كتاب العلم" من صحيح البخاري، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) زيادة من م.
(2) المسند (1/35).
(3) جاء من طريق حماد بن سلمة عن حميد، عن الحسن بن مسلم: أن عمر استعمل ابن عبد الحارث على مكة، فذكر نحوه، أخرجه أبو يعلى في مسنده (1/185) وفيه انقطاع. وأيضا من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت: أن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: خرجت مع عمر، فاستقبلنا أمير مكة-نافع بن علقمة-فذكر نحو الحديث المتقدم، أخرجه أبو يعلى في مسنده (1/186).
(4) في م: "ذكرنا".
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) }
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: يساره فيما بينه وبينه، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام؛ ولهذا قال: { ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ } (1)
ثم قال: { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا } أي: إلا من عجز عن ذلك لفقده { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فما أمر بها إلا من قدر عليها.
ثم قال: { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } أي: أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول، { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
__________
(1) في أ: "ذلكم" وهو خطأ
فنسخ وجوب ذلك عنهم.
وقد قيل: إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.
قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال: نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا، فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب، قدم دينارا صدقة تصدق به، ثم ناجى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن عشر خصال، ثم أنزلت الرخصة.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال علي، رضي الله عنه: آية في كتاب الله، عز وجل لم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم، فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، ثم تلا هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } الآية.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، عن سفيان، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن علي بن علقمة الأنماري، عن علي [بن أبي طالب] (2) -رضي الله عنه-قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ترى، دينار؟". قال: لا يطيقون. قال: "نصف دينار؟". قال: لا يطيقون. قال: "ما ترى؟" قال: شَعِيرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك زهيد (3) قال: قال علي: فبى خَفَّف الله عن هذه الأمة، وقوله: { [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] (4) إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } فنزلت: { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } (5)
ورواه الترمذي عن سفيان بن وَكِيع، عن يحيى بن آدم، عن عبيد الله الأشجعي، عن سفيان الثوري، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن سالم بن أبي الجعد، عن علي بن علقمة الأنماري، عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } [إلى آخرها] (6) قال (7) لي النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ترى، دينار؟" قلت (8) لا يطيقونه. وذكره بتمامه، مثله، ثم قال: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه". ثم قال: ومعنى قوله: "شعيرة": يعني وزن شعيرة من ذهب (9)
ورواه أبو يعلى، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن آدم، به (10)
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } إلى { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } كان المسلمون يقدمون بين يدي النجوى صدقة، فلما
__________
(1) في أ: "جئت".
(2) زيادة من أ.
(3) في م، أ: "إنك لزهيد.
(4) زيادة من م.
(5) تفسير الطبري (28/15) وعلي بن علقمة فيه ضعف. قال البخاري: في حديثه نظر.
(6) زيادة من م.
(7) في م: "فقال".
(8) في م: "قال".
(9) سنن الترمذي برقم (3300).
(10) مسند أبي يعلى (1/322).
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
نزلت الزكاة نسخ هذا.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، عليه السلام. فلما قال ذلك صبر كثير من الناس وكفوا عن المسألة، فأنزل الله بعد هذا: { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً (1) فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } فوسع الله عليهم ولم يضيق.
وقال عكرمة والحسن البصري في قوله: { فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } نسختها الآية التي بعدها { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } (2) إلى آخرها.
وقال سعيد [بن أبي عروبة] (3) عن قتاده ومقاتل ابن حيان: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أحفوه بالمسألة، فقطعهم الله بهذه الآية، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك: { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقال مَعْمَر، عن قتادة: { إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } إنها منسوخة: ما كانت إلا ساعة من نهار. وهكذا روى عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن مجاهد قال علي: ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت وأحسبه قال: وما كانت إلا ساعة.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) }
يقول تعالى منكرا على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين، كما قال تعالى: { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } [النساء : 143] وقال ها هنا: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } يعني:
__________
(1) (1،2) في أ: "صدقات".
(2) (1،2) في أ: "صدقات".
(3) زيادة من م، أ.
اليهود، الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن. ثم قال: { مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ } أي: هؤلاء المنافقون، ليسوا في الحقيقة لا منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين تولوهم وهم اليهود.
ثم قال: { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يعني: المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا، وهي اليمين الغموس، ولا سيما في مثل حالهم اللعين، عياذًا بالله منه (1) فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا بالله [له] (2) أنهم مؤمنون، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه، وإن كان في نفس الأمر مطابقًا؛ ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك.
ثم قال: { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي: أرصد الله لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة، وهي موالاة الكافرين ونصحهم، ومعاداة المؤمنين وغشهم؛ ولهذا قال تعالى { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي: أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، واتقوا بالأيمان الكاذبة، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم، فحصل بهذا صد عن سبيل الله لبعض الناس { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي: في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الحانثة.
ثم قال: { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } أي: لن يدفع ذلك عنهم بأسا (3) إذا جاءهم، { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
ثم قال: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا } أي: يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحدًا، { فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } أي: يحلفون بالله (4) عز وجل، أنهم كانوا على الهدى والاستقامة، كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا؛ لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه، ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس، فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة؛ ولهذا قال: { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } أي: حلفهم ذلك لربهم، عز وجل.
ثم قال منكرًا عليهم حسبانهم (5) { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } فأكد الخبر عنهم بالكذب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل، حدثنا زهير، عن (6) سمَاك بن حرب، حدثني سعيد بن جُبَير؛ أن ابن عباس حدثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة من حُجَره، وعنده نفر من المسلمين قد كان يَقلصُ عنهم الظل، قال: "إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان، فإذا أتاكم فلا تكلموه". فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فقال؛ "علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟"-نفر دعاهم بأسمائهم-قال: فانطلق الرجل فدعاهم، فحلفوا له واعتذروا إليه، قال فأنزل الله، عز وجل: { فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ }
__________
(1) في م: "عياذًا بالله من ذلك".
(2) زيادة من م.
(3) في م: "بأس الله".
(4) في م: "الله".
(5) في م، أ: "حسابهم".
(6) في م: "حدثنا".
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
وهكذا رواه الإمام أحمد من طريقين، عن سماك، به (1) ورواه ابن جرير، عن محمد بن المثني، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن سماك، به نحوه (2) وأخرجه أيضًا من حديث سفيان الثوري، عن سماك، بنحوه. إسناد جيد ولم يخرجوه.
وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول: { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [الأنعام : 23 ، 24]
ثم قال: { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } أي: استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله، عز وجل، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه؛ ولهذا قال أبو داود:
حدثنا أحمد ابن يونس، حدثنا زائدة، حدثنا السائب بن حُبَيش، عن مَعْدان بن أبي طلحة اليَعْمُري، عن أبي الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة في قرية ولا بَدْو، لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية". قال زائدة: قال السائب: يعني الصلاة في الجماعة (3) .
ثم قال تعالى: { أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ } يعني: الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. ثم قال تعالى: { أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) }
__________
(1) المسند (1/240).
(2) تفسير الطبري (28/17).
(3) سنن أبي داود برقم (547).
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
{ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) }
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار المعاندين المحادين (1) لله ورسوله، يعني: الذين هم في حَدٍّ والشرع في حَدٍّ، أي: مجانبون للحق مشاقون له، هم في ناحية والهدى في ناحية، { أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ } أي: في الأشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب، الأذلين في الدنيا والآخرة.
{ كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } أي: قد حكم وكتب في كتابه الأول وقَدَره الذي لا يُخالَف ولا يُمانع، ولا يبدل، بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، وأن العاقبة
__________
(1) في أ: "المحاربين".
للمتقين، كما قال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر : 51 ، 52] وقال ها هنا { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي: كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه. وهذا قدر محكم وأمر مبرم، أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } أي: لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين، كما قال تعالى: { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران : 28] الآية، وقال تعالى: { قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة : 24]
وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره: أنزلت هذه الآية { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، حين قتل أباه يوم بدر؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة، رضي الله عنهم: "ولو كان أبو عبيدة حيًّا لاستخلفته".
وقيل في قوله: { وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ } نزلت في أبي عبيده قتل أباه يوم بدر { أَوْ أَبْنَاءَهُمْ } في (1) الصديق، هَمَّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن، { أَوْ إِخْوَانَهُمْ } في مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ { أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } في عمر، قتل قريبا له يومئذ أيضًا، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ، والله أعلم.
قلت: ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله أن يهديهم. وقال عمر: لا أرى ما رأى يا رسول الله، هل (2) تمكني من فلان-قريب لعمر-فأقتله، وتمكن عليًا من عقيل، وتمكن فلانًا من فلان، ليعلم الله أنه ليست (3) في قلوبنا هوادة للمشركين... القصة بكاملها.
وقوله: { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } أي: من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه أو أخاه، فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان، أي: كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الإيمان في بصيرته.
__________
(1) في م: "وفي".
(2) في م: "بل".
(3) في م: "ليس".
وقال السدي: { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ } جعل في قلوبهم الإيمان.
وقال ابن عباس: { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } أي: قواهم.
وقوله: { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } كل هذا تقدم تفسيره غير مرة.
وفي قوله: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم.
وقوله: { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي: هؤلاء حزبُ الله، أي: عباد الله (1) وأهل كرامته.
وقوله: { أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرهم (2) في الدنيا والآخرة، في مقابلة ما أخبر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان. ثم قال: { أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
وقد قال بن أبي حاتم: حدثنا هارون بن حميد الواسطي، حدثنا الفضل بن عَنْبَسة، عن رجل قد سماه-يقال (3) هو عبد الحميد بن سليمان، انقطع من كتابي-عن الذَيَّال بن عباد قال: كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري: أعلم أن الجاه جاهان، جاه يجريه الله على أيدي أوليائه لأوليائه، وأنهم الخامل ذكرهم، الخفية شخوصهم، ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. "إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يُفتَقَدوا، وإذا حضروا لم يُدْعَوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة" (4) فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله: { أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
وقال نُعَيم بن حَمّاد: حدثنا محمد بن ثور، عن يونس، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم، لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدًا ولا نعمة، فإني وجدت فيما أوحيته إلي: { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } قال سفيان: يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان. ورواه أبو أحمد العسكري.
__________
(1) في م: :عباده".
(2) في م: "ونصرتهم".
(3) في م: "فقال".
(4) الحديث أخرجه ابن ماجة في السنن برقم (3989) من طريق ابن لهيعة، عن عيسى بن عبد الرحمن، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر مرفوعًا، وفيه ابن لهيعة وقد توبع، تابعه عياش بن عباس، عن عيسى بن عبد الرحمن به، رواه الحاكم في المستدرك (4/328) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
تفسير سورة الحشر
[وكان ابن عباس يقول: سورة بني النضير] (1) . وهي مدنية.
قال سعيد بن منصور: حدثنا هُشَيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: أنزلت في بني النضير. ورواه البخاري ومسلم من وجه آخر، عن هُشَيْم، به (2) . ورواه البخاري من حديث أبي عَوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: قُل: سورة النَّضير (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4882) وصحيح مسلم برقم (331).
(3) صحيح البخاري برقم (4883).
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) }
يخبر تعالى أن جميع ما في السموات وما في الأرض من شيء يسبح له ويمجده ويقدسه، ويصلي له ويوحده (1) كقوله: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ]وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ] } (2) [الإسراء : 44] . وقوله: { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي: منيع الجناب { الْحَكِيمُ } في قدره وشرعه.
وقوله: { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني: يهود بني النضير. قاله ابن عباس، ومجاهد، والزهري، وغير واحد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم
__________
(1) في م: "وحده".
(2) زيادة من م.
عهدًا وذمة، على ألا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فأحل الله بهم بأسه الذي لا مَرَدَّ (1) له، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يُصَدّ، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون، وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله، فما أغنى عنهم من الله شيئًا، وجاءهم ما لم يكن ببالهم، وسيّرهم رسول الله وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام، وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر. وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم؛ ولهذا قال: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } أي: تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله، وكذب كتابه، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن داود وسفيان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي، ومن كان معه يعبد [معه] (2) الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل وقعة بدر: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه، أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مُقَاتلتكم ونستبيح نساءكم، فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الأوثان، اجتمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم، فقال: "لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟"، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا، فبلغ ذلك كفار قريش، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء -وهي الخلاخيل -فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت بنو النضير بالغدر، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك ليخرج منا ثلاثون حبرًا، حتى نلتقي بمكان المنصف فيسمعوا منك، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [بالكتائب] (3) فحصرهم، قال لهم: "إنكم والله لا تأمنوا عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه". فأبوا أن يعطوه عهدًا، فقاتلهم يومهم ذلك، ثم غدا الغَد على بني قريظة بالكتائب، وترك بني النضير، ودعاهم إلى أن يعاهدوه، فعاهدوه، فانصرف عنهم. وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم، حتى نزلوا على الجلاء. فجلت بنو النضير، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها، وكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، أعطاه الله أياها وخصه بها، فقال: { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ } يقول: بغير قتال، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين، قسمها بينهم، وقسم منها لرجلين من الأنصار وكانا ذوي حاجة، ولم يقسم من الأنصار غيرهما، وبقي
__________
(1) في م: "لا يرد".
(2) زيادة من سنن أبي داود.
(3) زيادة من سنن أبي داود.
منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة (1) .
ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الاختصار، وبالله المستعان.
وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسَير: أنه لما قُتِل أصحابُ بئر معونة، من أصحاب رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم، وكانوا سبعين، وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري، فلما كان في أثناء الطريق راجعًا إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر، وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمان لم يعلم به عمرو، فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قتلت رجلين، لأدينَّهما" وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك الرجلين، وكان منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها.
قال محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه السيرة: ثم خرج رسول الله إلى بني النضير، يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر، اللذين قتل (3) عمرو بن أمية الضمري؛ للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما، فيما حدثني يزيد بن رُومان، وكان بين بني النضير وبني عامر عَقد وحلف. فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا: نعم، يا أبا القاسم، نعينك على ما أحببت، مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن (4) تجدوا الرجل على مثل حاله هذه -ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم-فَمَن (5) رجل يعلو على هذا البيت، فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدُهم، فقال: أنا لذلك، فصعَدَ ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي، رضي الله عنهم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة، فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة، فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلا المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا إليه، فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم. ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتَّحريق فيها. فنادوه: أن يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟
وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج، منهم عبد الله ابن أبي [بن] (6) سلول، ووديعة، ومالك بن أبي قوقل (7) وسُوَيد وداعس، قد بعثوا إلى بني النضير: أن اثبتوا وتَمَنَّعوا فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خَرَجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة، ففعل، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وَخَلّوا الأموال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت لرسول الله خاصة
__________
(1) سنن أبي داود برقم (3004).
(2) في م: "أصحاب النبي".
(3) في م: "قتلهما".
(4) في م: "لم".
(5) في أ: "فمر".
(6) زيادة من م، أ.
(7) في أ: "نوفل".
يضعها حيث شاء، فقسمها على المهاجرين الأولين دون الأنصار. إلا أن سهل بن حُنَيف وأبا دُجانة سماك بن خَرشَة ذكرا فَقْرًا، فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان: يامين بن عُمَير (1) بن كعب بن عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها.
قال: ابن إسحاق: قد حدثني بعض آل يامين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين: "ألم تر ما لقيتُ من ابن عمك، وما هم به من شأني". فجعل يامين بن عُمَير (2) لرجل جُعِل علي أن يقتل عمرو بن جحاش، فقتله فيما يزعمون.
قال ابن إسحاق: ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها (3) .
وهكذا روي يونس بن بُكَيْر، عن ابن إسحاق، بنحو ما تقدم (4) .
فقوله: { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني: بني النضير { مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ } .
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، عن أبي سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من شك في أن أرض المحشر هاهنا -يعني الشام فَلْيَتْل (5) هذه الآية: { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ } قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخرجوا". قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى أرض المحشر".
وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن الحسن قال: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، قال: "هذا أول الحشر، وأنا على الأثر".
ورواه ابن جرير، عن بُنْدَار، عن ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، به (6) .
وقوله: { مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا } أي: في مدة حصاركم لهم وقصَرها، وكانت ستة أيام، مع شدة حصونهم ومنعتها؛ ولهذا قال: { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } أي: جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال، كما قال في الآية الأخرى: { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ } [النحل : 26] .
وقوله: { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } أي: الخوف والهَلَع والجَزَع، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نُصر بالرعب مسيرةَ شهر، صلوات الله وسلامه عليه.
__________
(1) في م: "ابن عمرو".
(2) في م: "بن عمرو".
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/190 -192) وتفسير الطبري (28/21).
(4) في م: "مما تقدم".
(5) في م، أ: "فليقرأ".
(6) تفسير الطبري (28/20) ورواه ابن سعد في الطبقات (2/42) عن هوذة ابن خليفة، عن عوف، عن الحسن به وهو مرسل.
وقوله: { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ } قد تقدم تفسير ابن إسحاق لذلك، وهو نقض (1) ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم، وتَحملها على الإبل، وكذا قال عروة بن الزبير، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغير واحد.
وقال مقاتل ابن حيان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلهم، فإذا ظهر على دَرْب أو دار، هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال. وكان (2) اليهود إذا علوا مكانًا أو غلبوا على درب أو دار، نقبوا من أدبارها ثم حصنوها ودربوها، يقول الله تعالى: { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } .
وقوله: { وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا } أي: لولا أن كتب الله عليهم هذا الجلاء، وهو النفي من ديارهم وأموالهم، لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي، ونحو ذلك، قاله الزهري، عن عُرْوَة، والسُّدِّي وابن زيد؛ لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الآخرة من العذاب في نار جهنم.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح -كاتب الليث-حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير قال: ثم كانت وقعة بني النضير، وهم طائفة من اليهود، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر. وكان منزلهم بناحية من المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا من الجلاء، وأن لهم ما أقَلَّت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة، وهي السلاح، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الشام. قال: والجلاء أنه كُتب عليهم في آي من التوراة، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله فيهم: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } إلى قوله { وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } .
وقال عكرمة: الجلاء: القتل. وفي رواية عنه: الفناء.
وقال قتادة: الجلاء: خروج الناس من البلد إلى البلد.
وقال الضحاك: أجلاهم إلى الشام، وأعطى كل ثلاثة بعيرًا وسقاء، فهذا الجلاء.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أحمد بن كامل القاضي، حدثنا محمد بن سعيد (3) العوفي، حدثني أبي، عن عمي، حدثني أبي عن جدي، عن ابن عباس قال: كان النبي (4) صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مَبْلَغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دمائهم، وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم، وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرًا وسقاء، والجلاء إخراجهم من أرضهم (5) إلى أرض أخرى (6)
وروي أيضًا من حديث يعقوب بن محمد الزهري، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد
__________
(1) في أ: "بعض".
(2) في م: "وكانت".
(3) في أ: "سعد".
(4) في م: "كان رسول الله".
(5) في م: "أرض".
(6) دلائل النبوة للبيهقي (3/359) وإسناده مسلسل بالضعفاء.
بن مسلمة، عن أبيه، عن جده، عن محمد بن مسلمة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال (1) (2) .
وقوله: { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ } أي: حتم لازم لا بد لهم منه.
وقوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي :إنما فَعلَ الله بهم ذلك وسَلَّط عليهم رسوله وعباده المؤمنين؛ لأنهم خالفوا الله ورسوله، وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين في (3) البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم، ثم قال: { وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
وقوله تعالى: { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } اللين: نوع من التمر، وهو جيد.
قال: أبو عبيدة: وهو ما خالف العجوة والبَرْنِيّ من التمر.
وقال كثيرون (4) من المفسرين: اللينة: ألوان التمر سوى العجوة.
قال: ابن جرير: هو جميع النخل. ونقله عن مجاهد: وهو البُوَيرة أيضًا؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم (5) إهانة لهم، وإرهابًا وإرعابًا لقلوبهم. فروى محمد ابن إسحاق عن يزيد بن رومان، وقتادة، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: [فبعث بنو النضير] (6) يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك تنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة، أي: ما قطعتم وما تركتم من الأشجار، فالجميع بإذن الله ومشيئته وقدرته (7) ورضاه، وفيه نكاية بالعدو (8) وخزي لهم، وإرغام لأنوفهم.
وقال مجاهد: نهى بعض المهاجرين بعضًا عن قطع النخل، وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين. فنزل (9) القرآن بتصديق من نهى عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم، وإنما قطعه وتركه بإذنه. وقد روي نحو هذا مرفوعًا، فقال النسائي: أخبرنا الحسن بن محمد، عن (10) عفان، حدثنا حفص بن غياث، حدثنا حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } قال: يستنزلونهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل، فحاك في صدورهم، فقال المسلمون: قطعنا بعضًا وتركنا بعضًا، فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر؟ فأنزل الله: { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ } (11)
__________
(1) في م: "أيام".
(2) دلائل النبوة (3/360).
(3) في م: "من".
(4) في م: "كثير".
(5) في م: "نخلهم".
(6) في هـ بياض، وفي م: "بنو قريظة" وهو خطأ، والمثبت من تفسير الطبري. ومستفادا من هامش ط. الشعب.
(7) في م: "وقدره".
(8) في م: "للعدو".
(9) في م: "فأنزل".
(10) في م: "بن".
(11) سنن النسائي الكبرى برقم (11574).
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا حفص، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن جابر -وعن أبي الزبير، عن جابر-قال: رخص لهم في قطع النخل، ثم شدد عليهم فأتوا (1) النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، علينا إثم فيما قطعنا؟ أو علينا وزر فيما تركنا؟ فأنزل الله، عز وجل: { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحَرّق.
وأخرجه صاحبا الصحيح من رواية موسى بن عقبة، بنحوه (3) ولفظ البخاري من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: حاربت (4) النضيرُ وقريظة، فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومَنّ عليهم حتى حاربت قريظة فقتل من رجالهم وقسم (5) نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأمَّنهم وأسلموا، وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع، وهم رهط عبد الله بن سلام، ويهود بني حارثة، وكلّ يهود بالمدينة.
ولهما أيضًا عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرّق نخل بني النضير وقطع -وهي البُوَيرةُ-فأنزل الله، عز وجل فيه: { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } (6) .
وللبخاري، رحمه الله، من رواية جُوَيْرية بن أسماء عن نافع، عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَرّق نخل بني النضير (7) . ولها يقول حسان بن ثابت، رضي الله عنه:
وَهَان عَلى سَراة بني لُؤيّ ... حَريق بالبُوَيَرة مُسْتَطيرُّ ...
فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول:
أدَام اللهُ ذلكَ من صَنيع ... وَحَرّق في نَوَاحيها السَّعير ...
سَتَعلم أيُّنا منْها بِنزهٍ ... وَتَعْلُمُ أيّ أرْضينَا نَضِيرُ ...
__________
(1) في م: "فسألوا".
(2) مسند أبي يعلى (4/135) وفيه سفيان بن وكيع، وهو ضعيف. تنبيه: رواية سليمان بن موسى عن جابر لم أجدها في مسند أبي يعلى المطبوع فلعلها سقطت.
(3) المسند (2/7) وصحيح البخاري برقم (2021) وصحيح مسلم برقم (1746).
(4) في م: "حارب".
(5) في م: "فقتل من رجالهم وسبى وقسم".
(6) صحيح البخاري برقم (4884) وصحيح مسلم برقم (1746).
(7) في هـ، أ: "نخل بنى النضير، وقطع البويرة"، وقوله: "قطع البويرة" غير ثابت في البخاري، ويبدو أنه سهو من الناسخ.
كذا رواه البخاري (1) ولم يذكره ابن إسحاق.
وقال محمد ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير وقتل ابن الأشرف:
لَقَد خَزيت (2) بغَدْرَتِها الحُبُور ... كَذَاكَ الدهرُ ذو صَرْف يَدُورُ ...
وَذَلك أنَّهم كفَرُوا بِرَبّ ... عَظيم أمرُهُ أمرٌ كَبِيرُ ...
وقَد أوتوا معًا فَهمًا وعلما ... وَجَاءهُمُ من الله النَّذيرُ ...
نَذير صَادق أدّى (3) كتابا ... وآيات مُبَيَّنَةً تُنيرُ ...
فقال (4) ما أتيت بأمر صدق ... وأنت بمنكر منا جَديرُ ...
فقال: بَلى لقد أديتُ حقًا ... يُصَدّقني به الفَهم الخَبيرُ ...
فَمن يَتْبعه يُهدَ لِكُل رُشُد ... وَمَن يَكفُر به يُجزَ الكَفُورُ ...
فَلَمَّا أْشربُوا غَدْرًا وكُفْرًا ... وَجَدّ بهم عن الحَقّ النَفورُ ...
أرَى الله النبيّ بِرَأي صدْق ... وكانَ الله يَحكُم لا يَجُورُ ...
فَأيَّدَهُ وَسَلَّطَه عَلَيهم ... وكانَ نَصيرهُ نعْم النَّصيرُ ...
فَغُودرَ منْهمُو كَعب صريعًا ... فَذَلَّتْ بعدَ مَصْرَعة النَّضيرُ ...
عَلى الكَفَّين ثمَّ وقَدْ عَلَتْهُ ... بأيدينا مُشَهَّرة ذكُورُ ...
بأمْر مُحَمَّد إذ دَس لَيلا ... إلى كَعب أخَا كَعب يَسيرُ ...
فَمَا كَرَه فَأنزلَه بِمَكْر ... وَمحمودُ أخُو ثقَة جَسُورُ ...
فَتلْك بَنُو النَّضير بدار سَوء ... أبَارَهُمُ بما اجترموا المُبيرُ ...
غَداة أتاهُمُ في الزّحْف رَهوًا ... رَسُولُ الله وَهّوَ بهم بَصيرُ ...
وَغَسَّانُ الحماةُ مُوازرُوه ... عَلَى الأعداء وهو لهم وَزيرُ ...
فَقَالَ: السْلم ويحكمُ فَصَدّوا ... وَحَالفَ أمْرَهَم كَذبٌ وَزُورُ ...
فَذَاقُوا غبّ أمْرهُمُ دَبَالا ... لكُلّ ثَلاثَة منهُم بَعيرُ ...
وَأجلوا عَامدين لقَينُقَاع ... وَغُودرَ مِنْهُم نَخْل ودُورُ (5)
قال: وكان مما (6) قيل من الأشعار في بني النضير قولُ ابن لُقَيم العَبْسيّ -ويقال: قالها قيس
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4032).
(2) في أ: "خربت".
(3) في م: "أوتي".
(4) في م: "فقالوا".
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/199).
(6) في م: "ومما كان".
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
بن بحر بن طريف، قال ابن هشام الأشجعي:
أهلي فدَاءٌ لامرئ غَير هَالك ... أحَلّ (1) اليهودَ بالحَسِى (2) المُزَنَّم ...
يَقيلُونَ في جَمْر الغَضاة وبُدّلُوا ... أهَيضبَ عودا بالوَدي المُكَمَّم ...
فإن يَكُ ظَني صَادقًا بمُحَمد ... يَرَوا خَيلَه بينَ الصّلا وَيَرمْرَم (3)
يَؤمّ بها عَمرو بنُ بُهثَةَ إنَّهُمْ ... عَدُو ما حَيّ صَديق كمُجْرم ...
عَلَيهنّ أبطالُ مَساعيرُ في الوَغَى ... يَهُزّونَ أطرافَ الوَشيج المُقَوّم ...
وكُلّ رَقيق الشَّفرتَين مُهَنَّدٍ ... تُورثْنَ من أزْمان عاد وَجُرْهُمِ ...
فَمَن مُبلغٌ عَني قُرَيشًا رسَالة ... فَهَلْ بَعدَهُم في المجْد من مُتَكرّم ...
بأنّ أخاكمُ فاعلَمنّ مُحَمَّدًا ... تَليدُ النَّدى بينَ الحَجُون وزَمْزَم ...
فَدينُوا له بالحقّ تَجْسُمْ أمُورُكم ... وتَسْمُوا منَ الدنْيا إلى كُل مُعْظَم ...
نبي تلافَته منَ الله رَحَمةٌ ... ولا تَسْألُوهُ أمْرَ غَيب مُرَجَّم ...
فَقَدْ كانَ في بَدْر لَعَمْري عِبرَةٌ ... لَكُم يا قُرَيش والقَليب المُلَمَّم ...
غَدَاة أتَى في الخَزْرَجيَّةِ عامِدًا ... إليكُم مُطيعًا للعَظيمِ المُكَرّم ...
مُعَانًا برُوح القُدْس يَنْكي عَدوه ... رَسُولا مِنَ الرّحمن حَقّا بِمَعْلم ...
رَسُولا مِنَ الرّحمن يَتْلُو كِتابَهُ ... فَلَمّا أنارَ الحَقّ لم يَتَلعْثَم ...
أرَى أمْرَهُ يَزْدَادُ في كُلّ مَوْطن ... عُلُوّا لأمرْ حَمَّه اللهُ مُحْكَم (4)
وقد أورد ابن إسحاق، رحمه الله، هاهنا أشعارًا كثيرة، فيها آداب ومواعظ وحكم، وتفاصيل للقصة، تركنا باقيها اختصارًا واكتفاء بما ذكرناه، ولله الحمد والمنة.
قال ابن إسحاق: كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أحد وبعد بئر معونة. وحكى البخاري، عن الزهري، عن عروة أنه قال: كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر (5) .
{ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ
__________
(1) في أ: "أجلي".
(2) في م، أ: "بالحس".
(3) في أ: "بين الصفا وبزمزم".
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/195).
(5) صحيح البخاري (7/329) "فتح".
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) }
يقول تعالى مبينًا لما الفيء وما صفته؟ وما حكمه؟ فالفيء: فكلّ مال أخذ من الكفار بغير (1) قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كأموال بني النضير هذه، فإنها مما لم يُوجف المسلمون عليه (2) بخيل ولا ركاب، أي: لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة، بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفاءه الله على رسوله؛ ولهذا تصرف فيه كما شاء، فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله، عز وجل، في هذه الآيات، فقال: { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أي: من بني النضير { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ } يعني: الإبل، { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: هو قدير لا يغالب ولا يمانع، بل هو القاهر لكل شيء.
ثم قال: { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } أي: جميع البلدان التي تُفتَح هكذا، فحكمها حكم أموال بني النضير؛ ولهذا قال: { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } إلى آخرها والتي بعدها. فهذه مصارفُ أموال الفيء ووجوهه.
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن عمرو ومَعْمَر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحَدَثان، عن عمر، رضي الله عنه، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله إلى رسوله مما لم يُوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة (3) فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته (4) -وقال مَرّة: قوت (5) سنته-وما بقي جعله في الكُرَاع والسلاح في سبيل الله، عز وجل.
هكذا أخرجه أحمد هاهنا مختصرًا، وقد أخرجه الجماعة في كتبهم -إلا ابن ماجة-من حديث سفيان، عن عمرو بن دينار، عن الزهري، به (6) وقد رويناه مطولا فقال أبو داود، رحمه الله:
حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس -المعنى واحد-قالا حدثنا بشرِ بن عُمَر الزهراني، حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس قال: أرسل إلىَّ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين تعالى النهار، فجئته فوجدته جالسًا على سرير مُفضيًا إلى رُماله، فقال حين دخلت عليه: يا مال، إنه قد دَفّ أهل أبيات (7) من قومك، وقد أمرت فيهم بشيء، فاقسم فيهم. قلت: لو أمرتَ غيري بذلك؟ فقال: خذه. فجاءه (8) يرفا، فقال: يا أمير
__________
(1) في م: "من غير".
(2) في م: "عليه المسلمون".
(3) في م: "خاصة".
(4) في م: "سنة".
(5) في أ: "مسيرة".
(6) المسند (1/25) وصحيح البخاري برقم (4885) وصحيح مسلم برقم (1757) وسنن أبي داود برقم (2965) وسنن الترمذي برقم (1719) وسنن النسائي الكبرى برقم (11575).
(7) في أ: "أهل بنات".
(8) في م: "فجاء".
المؤمنين، هل لك في عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص؟ فقال: نعم. فأذن لهم فدخلوا، ثم جاءه يرفا فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في العباس وعلي؟ قال: نعم. فأذن لهم فدخلوا، فقال العباس: يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا -يعني: عليًا-فقال بعضهم: أجل يا أمير المؤمنين، اقض بينهما وأرحهما. قال مالك بن أوس: خُيّل إليَّ أنهما قَدّما أولئك النفر لذلك. فقال عمر، رضي الله عنه: اتئدا. ثم أقبل على أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نُورَث، ما تركنا صدقة". قالوا: نعم. ثم أقبل على عليّ والعباس فقال: أنشدُكُما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث، ما تركنا صدقة". فقالا نعم. فقال: فإن الله خص رسوله بخاصة لم يخص بها أحدًا من الناس، فقال: { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فكان الله أفاء إلى رسوله أموال بني النضير، فوالله ما استأثر بها عليكم ولا أحرزها دونكم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منها نفقة سنة -أو: نفقته ونفقة أهله سنة-ويجعل ما بقي أسوة المال. ثم أقبل عليَّ أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض: هل تعلمون ذلك؟ قالوا: نعم. ثم أقبل على عليٍّ والعباس فقال: أنشدُكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض: هل تعلمان ذلك؟ قالا نعم. فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: "أنا وليّ رسول الله"، فجئت أنتَ وهذا إلى أبي بكر، تطلب أنت ميراثك عن ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر، رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث، ما تركنا صدقة". والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق. فوليها أبو بكر، فلما توفي قلتُ: أنا وَلِيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليّ أبي بكر، فَوليتها ما شاء الله أن أليها، فجئت أنت وهذا، وأنتما جَميع وأمركما واحد، فسألتمانيها، فقلت: إن شئتما فأنا أدفعها إليكما على أنّ عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يليها، فأخذتماها مني على ذلك، ثم جئتماني لأقضي بينكما بغير ذلك. والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عَجَزتُما عنها فَرُدّاها إلي.
أخرجوه من حديث الزهري، به (1) . وقال الإمام أحمد:
حدثنا عارم وعفان قالا حدثنا معتمر، سمعت أبي يقول: حدثنا أنس بن مالك، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل كان يجعل له من ماله النخلات، أو كما شاء الله، حتى فُتحَت عليه قريظة والنضير. قال: فجعل يَرُدّ بعد ذلك، قال: وإن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله الذي كان أهله أعطوه أو بعضه، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أمّ أيمن، أو كما شاء الله، قال: فسألتُ النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن، فجاءت أم أيمن فجعلت الثوبَ في عنقي وجعلت تقول: كلا والله الذي لا إله إلا هو لا يُعطيكَهُنّ وقد أعطانيهن، أو كما قالت، فقال نبي الله: "لك كذا وكذا". قال: وتقول:
__________
(1) سنن أبي داود برقم (2963) وصحيح البخاري برقم (3094) وصحيح مسلم برقم (1757) وسنن النسائي (7/136) وسنن الترمذي برقم (1610).
كلا والله. قال ويقول: "لك كذا وكذا". قال: وتقول: كلا والله. قال: "ويقول: لك كذا وكذا". قال: حتى أعطاها، حسبت أنه قال: عشرة أمثال أو قال قريبًا من عشرة أمثاله، أو كما قال.
رواه البخاري ومسلم من طُرُق عن معتمر، به (1) .
وهذه المصارف المذكورة في هذه الآية هي المصارف المذكورة في خُمس الغَنيمة. وقد قدمنا الكلام عليها في سورة "الأنفال" بما أغنى عن إعادته هاهنا، ولله الحمد (2) .
وقوله: { كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } أي: جعلنا هذه المصارف لمال الفيء لئلا يبقى مأكلة يتغلب عليها الأغنياء ويتصرفون فيها، بمحض الشهوات والآراء، ولا يصرفون منه شيئًا إلى الفقراء.
وقوله: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } أي: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يحيى بن أبي طالب، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن العوفي، عن يحيى بن الجزار، عن مسروق قال: جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت: بلغني أنك تنهى عن الواشمة والواصلة، أشيء وجدته في كتاب الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، شيء وجدته في كتاب الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف فما وجدت فيه الذي تقول!. قال: فما وجدت فيه: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ؟ قالت: بلى. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة. قالت: فلعله في بعض أهلك. قال: فادخلي فانظري. فدخلت فَنَظرت ثم خرجَت، قالت: ما رأيتُ بأسا. فقال لها: أما حفظت وصية العبد الصالح: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ }
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن منصور، [عن إبراهيم] (3) عن علقمة، عن عبد الله -هو ابن مسعود-قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمُتفَلجات للحُسْن، المغيرات خلق الله، عز وجل. قال: فبلغ امرأة في البيت يقال لها: "أم يعقوب"، فجاءت إليه فقالت: بلغني أنك قلت كيتَ وكيتَ. قال: ما لي لا ألعن من لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وفي كتاب الله. فقالت: إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته. فقال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه. أما قرأت: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ؟ قالت: بلى. قال: فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه. قالت: [إني] (4) لأظن أهلك يفعلونه. قال: اذهبي فانظري.
__________
(1) المسند (3/219) وصحيح البخاري برقم (3128، 4030، 4120) وصحيح مسلم برقم (1771).
(2) في أ: "ولله الحمد والمنة".
(3) زيادة من مسند الإمام أحمد والبخاري ومسلم.
(4) زيادة من م، أ، والمسند.
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
فذهَبت فلم تر من حاجتها شيئا، فجاءت فقالت: ما رأيتُ شيئًا. قال: لو كانت كذلك لم تُجَامعنا.
أخرجاه في الصحيحين، من حديث سفيان الثوري (1) .
وقد ثبت في الصحيحين أيضًا عن أبي هُرَيرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه". (2) .
وقال النسائي: أخبرنا أحمد بن سعيد، حدثنا يزيد، حدثنا منصور بن حيان، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عُمَر وابن عباس: أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن الدُّباء والحَنْتَم والنَّقير والمزَفَّت، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (3) .
وقوله: { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي: اتقوه في امتثال أوامره وترك زواجره؛ فإنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وأباه، وارتكب ما عنه زجره ونهاه.
{ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) }
__________
(1) المسند (1/433) وصحيح البخاري برقم (4887) وصحيح مسلم برقم (2125).
(2) صحيح البخاري برقم (7288) وصحيح مسلم برقم (1337).
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (11578).
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
{ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) }
يقول تعالى مبينًا حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } أي: خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه { وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } أي: هؤلاء الذين صَدَقوا قولهم بفعلهم، وهؤلاء هم سادات المهاجرين.
ثم قال تعالى مادحًا للأنصار، ومبينًا فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حَسَدهم، وإيثارهم مع الحاجة، فقال: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي: سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم.
قال عمر: وأوصي الخليفة [من] (1) بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تَبوّءوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم،
__________
(1) زيادة من أ.
وأن يعفو (1) عن مسيئهم. رواه البخاري هاهنا أيضًا (2) .
وقوله: { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } أي: مِنْ كَرَمهم وشرف أنفسهم، يُحبّون المهاجرين (3) ويواسونهم بأموالهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حميد، عن أنس قال: قال المهاجرون: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساةً في قليل ولا أحسن بذلا في كثير، لقد كَفَونا المَؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله! قال: "لا ما أثنيتم عليهم ودَعَوتُمُ الله لهم" (4) .
لم أره في الكتب من هذا الوجه.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار أن يُقطع لهم البحرين، قالوا: لا إلا أن تُقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها. قال: "إما لا فاصبروا حتى تلقوني، فإنه سيصيبكم [بعدي] (5) أثرة".
تفرد به البخاري من هذا الوجه (6)
قال البخاري: حدثنا الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. قال: لا. فقالوا: تكفونا المؤنَةَ ونَشرككُم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا. تفرد به دون مسلم (7) .
{ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } أي: ولا يجدون في أنفسهم حسدًا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف، والتقديم في الذكر والرتبة.
قال: الحسن البصري: { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } يعني: الحسد.
{ مِمَّا أُوتُوا } قال قتادة: يعني فيما أعطى إخوانهم. وكذا قال ابن زيد. ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن أنس قال: كنا جُلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة". فطلع رجل من الأنصار تَنظُف (8) لحيته من وضوئه، قد تَعَلَّق (9) نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى. فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته (10) أيضًا، فطلع
__________
(1) في م: "وأن يعفى".
(2) صحيح البخاري برقم (4888).
(3) في أ: "يحبون من هاجر إليهم".
(4) المسند (3/200).
(5) زيادة من صحيح البخاري.
(6) صحيح البخاري برقم (3794).
(7) صحيح البخاري برقم (2325).
(8) في م: "ينفض".
(9) في م: "قد علق".
(10) في م: :مثل حاله".
ذلك الرجل على مثل حالته الأولى (1) فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني (2) إليك حتى تمضي فعلتُ. قال: نعم. قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي (3) فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تَعارّ تقلب على فراشه، ذكر الله وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر. قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غَضَب ولا هَجْر (4) ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرَار (5) يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة". فطلعت أنت الثلاث المرار (6) فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملكَ فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير (7) عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما هو إلا ما رأيت. فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجدُ في نفسي لأحد من المسلمين غِشّا، ولا أحسدُ أحدًا على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا تطاق (8) .
ورواه النسائي في اليوم والليلة، عن سُوَيد بن نصر، عن ابن المبارك، عن معمر به (9) وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري، عن رجل، عن أنس (10) . فالله أعلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا } يعني { مِمَّا أُوتُوا } المهاجرون. قال: وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم من الأنصار، فعاتبهم الله في ذلك، فقال: { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال: وقال رسول الله: "إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم". فقالوا: أموالنا بيننا قطائع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك؟". قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "هم قوم لا يعرفون العمل، فتكفونهم وتقاسمونهم (11) الثمر". فقالوا: نعم يا رسول الله (12)
وقوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (13) يعني: حاجة، أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أفضلُ الصدقة جَهدُ المقلّ". وهذا المقام
__________
(1) في م: "الأول".
(2) في أ: "أن توريني".
(3) في م: "الليالي الثلاث".
(4) في م، أ: "ولا هجرة".
(5) في م: "مرات".
(6) في م: "المرات".
(7) في م: "كبير".
(8) في م: "لا نطيق"، وفي أ: "لا تطيق".
(9) المسند (3/166) وسنن النسائي الكبرى برقم (10699).
(10) انظر: تحفة الأشراف للمزى (1/395) وكلام الحافظ بن حجر في النكت الظراف بهامشه.
(11) في م: "ويقاسمونكم".
(12) رواه الطبري في تفسيره (28/28).
(13) ذكر في "م" بقية الآية.
أعلى من حال الذين وَصَف اللهُ بقوله: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } (1) [الإنسان : 8]. وقوله: { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [البقرة : 177] .
فإن هؤلاء يتصدقون وهم يحبون ما تصدقوا به، وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه. ومن هذا المقام تصدق الصديق، رضي الله عنه، بجميع ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقيت لأهلك؟". فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. وهذا (2) الماء الذي عُرض (3) على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه، وهو جريح مثقل أحوجَ ما يكون إلى الماء، فرده الآخر إلى الثلث، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير، حدثنا أبو أسامة، حدثنا فُضيل بن غَزوان، حدثنا أبو حازم الأشجعي، عن أبي هُرَيرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهدُ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يُضَيّفُ هذا الليلة، رحمه الله؟". فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا. فقالت: والله ما عندي إلا قوتُ الصبية. قال: فإذا أراد الصبيةُ العَشَاء فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج ونَطوي بطوننا الليلة. ففعلَت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لقد عجب الله، عز وجل -أو: ضحك-من فلان وفلانة". وأنزل الله عز وجل: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (4) .
وكذا رواه البخاري في موضع آخر، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق، عن فضيل بن غزوان، به نحوه (5) . وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة، رضي الله عنه.
وقوله: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح.
قال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا داود بن قيس الفراء، عن عُبَيد الله بن مِقْسَم، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظلّم، فإن الظُّلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشُحَّ، فإن الشّحَّ أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سَفَكُوا دماءهم واستَحلُّوا محارمهم".
انفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن القَعْنَبِيّ، عن داود بن قيس، به (6) .
وقال الأعمش وشعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن الحارث، عن زهير بن الأقمر، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الظُّلْم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الفُحْش، فإن الله لا يحب الفحش ولا التَّفَحُّشَ، وإياكم والشُّحَّ؛ فإنه أهلكَ من كان قبلكم، أمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالفجور ففجروا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا".
__________
(1) في أ: "حبه مسكينًا".
(2) في م: "وهكذا".
(3) في م: "اعرضوه".
(4) صحيح البخاري برقم (4889).
(5) صحيح البخاري برقم (3798) وصحيح مسلم برقم (2054) وسنن الترمذي برقم (3304) وسنن النسائي الكبرى برقم (11582).
(6) المسند (3/323) وصحيح مسلم برقم (2578).
ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة، والنسائي من طريق الأعمش، كلاهما عن عمرو بن مُرّة، به (1) .
وقال الليث، عن يزيد [بن الهاد] (2) عن سُهَيل بن أبي صالح، عن صفوان بن أبي يزيد، عن القعقاع بن اللجلاج (3) عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا" (4) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أخبرنا ابن المبارك، حدثنا المسعودي، عن جامع بن شداد، عن الأسود بن هلال قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد الله: وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وأنا رجل شحيح، لا أكاد أن أخرج من يدي شيئًا! فقال عبد الله: ليس ذلك (5) بالشح الذي ذكر الله في القرآن، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلمًا، ولكن ذلك (6) البخل، وبئس الشيء البخل" (7)
وقال سفيان الثوري، عن طارق بن عبد الرحمن، عن سعيد بن جبير، عن أبي الهياج الأسدي قال: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلا يقول: اللهم قني شح نفسي". لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل"، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، رواه ابن جرير (8)
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن إسحاق، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا إسماعيل ابن عَيّاش، حدثنا مُجَمع بن جارية الأنصاري، عن عمه يزيد بن جارية، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بَريء من الشح مَن أدى الزكاة، وقَرَى الضيف، وأعطى في النائبة" (9) .
وقوله: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء، وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون بإحسان، كما قال في آية براءة: { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } [التوبة : 100] فالتابعون لهم بإحسان
__________
(1) المسند (2/159) وسنن أبي داود برقم (1698) وسنن النسائي الكبرى برقم (11583).
(2) زيادة من م، أ.
(3) في م: "الجلاح".
(4) رواه النسائي في السنن (6/13).
(5) في م: "ليس ذاك".
(6) في م: "ذاك".
(7) رواه الطبري في تفسيره (28/29) من طريق جامع به.
(8) تفسير الطبري (28/29).
(9) تفسير الطبري (28/29) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (10842) من طريق محمد بن إسحاق به، وروي مرسلاً، رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/188) من طريق عمرو بن يحيى وإبراهيم بن إسماعيل، وابن حبان في الثقات (4/202) من طريق ابن المبارك، كلهم عن مجمع ابن يحيى، عن عمه مرسلاً.
هم: المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريم: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ } أي: قائلين: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا } أي: بغضًا وحسدًا { لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } وما أحسن ما استنبط الإمام مالك من هذه الآية الكريمة: أن الرافضي الذي يسبّ الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم: { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: أمروا أن يستغفروا لهم، فسبوهم! ثم قرأت هذه الآية: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ } الآية.
وقال إسماعيل بن عُلَية، عن عبد الملك بن عمير، عن مسروق، عن عائشة قالت: أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فسببتموهم. سمعتُ نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها". رواه البغوي (1) ..
وقال أبو داود: حدثنا مُسَدَّد، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، عن الزهري قال: قال عمر، رضي الله عنه: { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ } قال الزهري: قال عمر: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، قُرى [عربية: فَدَك وكذا] (2) وكذا، فما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل وللفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق -قال أيوب: أو قال: حظ-إلا بعض من تملكون من أرقائكم. كذا رواه أبو داود، وفيه انقطاع (3) .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن أيوب، عن عكرمة ابن خالد، عن مالك بن أوس بن الحَدَثان قال: قرأ عمر بن الخطاب: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } حتى بلغ { عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 60] ، ثم قال هذه لهؤلاء، ثم قرأ: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ] } (4) [الأنفال : 41]، ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } حتى بلغ للفقراء { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ } { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } ثم قال: استوعبت هذه الآية المسلمين عامة،
__________
(1) معالم التنزيل للبغوي (8/08) وله شاهد في صحيح مسلم برقم (3022) عن عروة قال: قالت لي عائشة: "يا ابن أختي، أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم".
(2) زيادة من م، أ، وسنن أبي داود.
(3) سنن أبي داود برقم (2966)
(4) زيادة من م.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
وليس أحد إلا له فيها حق (1) ، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي -وهو بَسرو حِمير-نصيبه فيها، لم يعرق فيها جبينه.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) }
__________
(1) في أ: "فيها جزء".
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
{ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) }
يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه، حين بعثوا إلى يهود بني النضير يَعدُونهم النصر من أنفسهم، فقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ } قال الله تعالى: { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي: لكاذبون فيما وعدوهم به إما أنهم (1) قالوا لهم قولا من نيتهم ألا يفوا لهم به، وإما أنهم (2) لا يقع منهم الذي قالوه؛ ولهذا قال: { وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ } أي: لا يقاتلون معهم، { وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ } أي: قاتلوا معهم { لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } وهذه بشارة مستقلة بنفسها.
ثم قال تعالى: { لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ } أي: يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله، كقوله: { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [النساء : 77] ؛ ولهذا قال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ }
ثم قال { لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ } (3) يعني: أنهم من جُبنهم وهَلَعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقابلة (4) بل إما في حصون أو من وراء جدر (5) محاصرين، فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة.
__________
(1) في م: "إما لأنهم".
(2) في م: "إما لأنهم".
(3) في م، أ: "أو من وراء جدار".
(4) في م: "والمقاتلة".
(5) في م، أ: "أو من وراء جدار".
ثم قال { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي: عداوتهم [فيما] (1) بينهم شديدة، كما قال: { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } [الانعام : 65] ؛ ولهذا قال: { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } أي: تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين، وهم مختلفون غاية الاختلاف.
قال: إبراهيم النخعي: يعني: أهل الكتاب والمنافقين { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ }
ثم قال: { كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قال مجاهد، والسدى، ومقاتل بن حيان: [يعني] (2) كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر.
وقال ابن عباس: { كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يعني: يهود بني قينقاع. وكذا قال قتادة، ومحمد ابن إسحاق.
وهذا القول أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا.
وقوله: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ } يعني: مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين، وقول المنافقين لهم: { وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ } ثم لما حقت الحقائق وجَدَّ بهم الحصار والقتال، تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة، مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ (3) سول للإنسان -والعياذ بالله-الكفر، فإذا دخل فيما سوله (4) تبرأ منه وتنصل، وقال: { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }
وقد ذكر بعضهم هاهنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل، لا أنها المرادة وحدها بالمثل، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكله لها، فقال ابن جرير:
حدثنا خلاد بن أسلم، أخبرنا النضر بن شُمَيْل، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت عبد الله بن نَهِيك قال: سمعت عليًا، رضي الله عنه، يقول: إن راهبًا تعبد ستين سنة، وإن الشيطان أراده فأعياه، فعمد إلى امرأة فأجنَّها ولها إخوة، فقال لإخوتها: عليكم بهذا القس فيداويها. قال: فجاءوا بها إليه فداواها، وكانت عنده، فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته، فأتاها فحملت، فعمد إليها فقتلها، فجاء إخوتها، فقال الشيطان للراهب: أنا صاحبك، إنك أعييتني، أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك، فاسجد لي سجدة. فسجد له، فلما سجد له قال: إني بريء منك، إني أخاف الله رب العالمين، فذلك قوله: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } (5) .
وقال ابن جرير: حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية: { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } قال: كانت
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في م: "إذا".
(4) في م، أ: "سوله له".
(5) تفسير الطبري (28/33).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
امرأة ترعى الغنم، وكان لها أربعة أخوة، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب. قال: فنزل الراهب ففجَر بها، فحملت، فأتاه الشيطان فقال له: اقتلها ثم ادفنها، فإنك رجل مُصدَّق يسمع قولك. فقتلها ثم دفتها. قال: فأتى الشيطانُ إخوتها في المنام فقال لهم: إن الراهب صاحب الصومعة فجَر بأختكم، فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا. فلما أصبحوا قال رجل منهم: والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟ قالوا: لا بل قصها علينا. قال: فقصها، فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك، فقال الآخر: وأنا والله لقد رأيت ذلك. فقالوا: فوالله ما هذا إلا لشيء. قال: فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب، فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان فقال: إني أنا الذي أوقعتك في هذا، ولن ينجيك منه غيري، فاسجد لي سجدة واحدةً وأنجيك مما أوقعتك فيه. قال: فسجد له، فلما أتوا به مَلكهم تَبَرأ منه، وأُخِذَ فقتل (1) .
وكذا روي عن ابن عباس، وطاوس، ومقاتل بن حيان، نحو ذلك. واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برصيصا، والله أعلم. وهذه القصة مخالفة لقصة جُرَيج العابد، فإن جريجًا اتهمته امرأة بَغي بنفسها، وادعت أن حَملها منه، ورفعت أمره إلى ولي الأمر، فأمر به فأنزل من صومعته وخُربت صومعته وهو يقول: ما لكم؟ ما لكم؟ فقالوا: يا عدو الله، فعلت بهذه المرأة كذا وكذا. فقال: جريج: اصبروا. ثم أخذ ابنها وهو صغير جدًا ثم قال: يا غلام، من أبوك؟ قال (2) أبي الراعي -وكانت قد أمكنته من نفسها فحملت منه-فلما رأى بنو إسرائيل ذلك عظموه كلهم تعظيمًا بليغًا وقالوا: نعيد صومعتك من ذهب. قال: لا بل أعيدوها من طين، كما كانت.
وقوله: { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا } أي: فكانت عاقبة الآمر بالكفر والفاعل له، وتصيرهما (3) إلى نار جهنم خالدين فيها، { وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } أي: جزاء كل ظالم.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) }
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عون بن أبي جُحَيْفة، عن المنذر ابن جرير، عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حُفَاة عُراة مُجْتَابي النمار -أو: العَبَاء-مُتَقَلِّدي السيوف عامتهم من مُضَر، بل كلهم من مضر، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، قال: فدخل ثم خرج، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة، فصلى ثم خطب، فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى آخر الآية: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء : 1]. وقرأ الآية التي في الحشر: { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ }
__________
(1) تفسير الطبري (28/33).
(2) في م: "فقال".
(3) في م: "ومصيرهما".
تَصَدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره -حتى قال-: ولو بشق تمرة". قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرة كادت كفه تَعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مُذْهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن سَنَّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن يَنقُص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وِزْرُها ووزر من عمل بها، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبه، بإسناد مثله (1) .
فقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } أمر بتقواه، وهي تشمل فعل ما به أمر، وترك ما عنه زجر.
وقوله: { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } أي: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم، { وَاتَّقُوا اللَّهَ } تأكيد ثان، { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي: اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم (2) لا تخفى عليه منكم خافية، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير.
وقال (3) { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } أي: لا تنسوا ذكر الله فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في معادكم، فإن الجزاء من جنس العمل؛ ولهذا قال: { أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي: الخارجون عن طاعة الله، الهالكون يوم القيامة، الخاسرون يوم معادهم، كما قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المنافقون : 9] .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، حدثنا [أبو] (4) المغيرة، حدثنا حَريز بن عثمان، عن نعيم بن نَمحة قال: كان في خطبة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم؟ فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله، عز وجل، فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بالله، عز وجل. إن قومًا جعلوا آجالهم لغيرهم، فنهاكم الله تكونوا أمثالهم: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم، وخلوا بالشقوة والسعادة، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، [وائتضحوا بسنائه وبيانه] (5) إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }
__________
(1) المسند (4/358) وصحيح مسلم برقم (1017).
(2) في م: " وخفيها".
(3) في م: "وقوله".
(4) زيادة من المعجم الكبير للطبري.
(5) زيادة من م، والمعجم الكبير.
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
[الانبياء : 90] ، لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم (1) .
هذا إسناد جيد، ورجاله كلهم ثقات، وشيخ حَريز بن عثمان، وهو نعيم بن نمحة، لا أعرفه بنفي ولا إثبات، غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ حَريز كلهم ثقات. وقد روي لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر، والله أعلم.
وقوله: { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ } أي (2) لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله يوم القيامة، كما قال: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [الجاثية : 21] ، وقال { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ } الآية[غافر : 58] . قال: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } [ص : 28] ؟ في آيات أخر دالات على أن الله، سبحانه، يكرم الأبرار، ويهين الفجار؛ ولهذا قال هاهنا: { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } أي: الناجون المسلمون من عذاب الله، عز وجل.
{ لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) }
يقول تعالى معظمًا لأمر القرآن، ومبينا علو قدره، وأنه ينبغي وأن تخشع له القلوب، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد والوعيد الأكيد: { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } أي: فإن كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه، لخشع وتصدع من خوف الله، عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع، وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟ ولهذا قال تعالى: { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
قال العوفي: عن ابن عباس في قوله: { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ [لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا] } (3) إلى آخرها، يقول: لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حَمّلته إياه، لتصدع (4) وخشع من ثقله، ومن خشية الله. فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآنُ أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع. ثم
__________
(1) المعجم الكبير (1/60).
(2) بياض في م.
(3) زيادة من م.
(4) في م: "لصدع".
قال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون. وكذا قال قتادة، وابن جرير.
وقد ثبت في الحديث المتواتر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل له المنبر، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع المنبر أول ما وضع، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر، فعند ذلك حَنّ الجذع وجعل (1) يئن كما يئن الصبي الذي يُسَكَّن (2) ، لما كان يُسمَع من الذكر والوحي عنده. ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده: "فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجذع" (3) . وهكذا هذه الآية الكريمة، إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته، لخشعت وتصدعت من خشيته (4) فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } الآية [الرعد : 31] . وقد تقدم أن معنى ذلك: أي لكان هذا القرآن. وقال تعالى: { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } [البقرة : 74] .
ثم قال تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره، ولا إله للوجود سواه، وكل ما يعبد من دونه فباطل، وأنه عالم الغيب (5) والشهادة، أي: يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا فلا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير، حتى الذر في الظلمات.
وقوله: { هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } قد تقدم الكلام على ذلك في أول التفسير، بما أغنى عن إعادته هاهنا. والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، وقد قال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف : 156] ، وقال { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام : 54] ، وقال { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس : 58] .
وقوله (6) { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ } أي: المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة.
وقوله: { الْقُدُّوسُ } قال وهب بن منبه: أي الطاهر. وقال مجاهد، وقتادة: أي المبارك: وقال ابن جريج: تقدسه الملائكة الكرام.
__________
(1) حديث حنين الجذع رواه البخاري في صحيحه برقم (3583) من حديث ابن عمر، وبرقم (3584، 3585) من حديث جابر، رضي الله عنه.
(2) في م: "يسكت".
(3) رواه أبو القاسم البغوي كما في البداية والنهاية للمؤلف (6/132) من طريق شيبان بن فروخ، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس في قصة الجذع، ثم زاد: فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكي ثم قال: "يا عباد الله الخشبة تحن إلي رسول الله شوقًا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلي لقائه".
(4) في م: "من خشية الله".
(5) في م: "بالغيب".
(6) في م: "ثم قال".
{ السَّلامُ } أي: من جميع العيوب والنقائص؛ بكماله (1) في ذاته وصفاته وأفعاله.
وقوله: { الْمُؤْمِنُ } قال الضحاك، عن ابن عباس: [أي] (2) أمن خلقه من أن يظلمهم. وقال قتادة: أمَّن بقوله: إنه حق. وقال ابن زيد: صَدّق عبادَه المؤمنين في أيمانهم به.
وقوله: { الْمُهَيْمِنُ } قال ابن عباس وغير واحد: أي (3) الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى: هو رقيب عليهم، كقوله: { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [البروج : 9] ، وقوله { ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } [يونس : 46] .
وقوله: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } الآية [الرعد : 33].
وقوله: { الْعَزِيزُ } أي: الذي قد عزّ كل شيء فقهره، وغلب الأشياء فلا ينال جنابه؛ لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه؛ ولهذا قال: { الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } أي: الذي لا تليق الجَبْرّية إلا له، ولا التكبر إلا لعظمته، كما تقدم في الصحيح: "العَظَمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عَذَّبته".
وقال قتادة: الجبار: الذي جَبَر خلقه على ما يشاء.
وقال ابن جرير: الجبار: المصلحُ أمورَ خلقه، المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم.
وقال قتادة: المتكبر: يعني عن كل سوء.
ثم قال: { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (4) .
وقوله: { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } الخلق: التقدير، والبَراء: هو الفري، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله، عز وجل. قال الشاعر يمدح آخر (5)
ولأنت تَفري ما خَلَقت ... وبعضُ القوم يَخلُق ثم لا يَفْري ...
أي: أنت تنفذ ما خلقت، أي: قدرت، بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع ما يريد. فالخلق: التقدير. والفري: التنفيذ. ومنه يقال: قدر الجلاد ثم فَرَى، أي: قطع على ما قدره بحسب ما يريده.
وقوله تعالى: { الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } أي: الذي إذا أراد شيئًا قال له: كن، فيكون على الصفة التي يريد، والصورة التي يختار. كقوله: { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } [الإنفطار : 8] ولهذا قال: { الْمُصَوِّرُ } أي: الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.
__________
(1) في م: "لكماله".
(2) زيادة من م.
(3) في م: "إنه".
(4) في م: "يصفون" وهو خطأ.
(5) هو زهير بن أبي سلمي يمدح به هرم بن سنان، والبيت في ديوانه (ص 94) أ. هـ مستفادًا من حاشية ط الشعب.
وقوله: { لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } قد تقدم الكلام على ذلك في "سورة الأعراف"، وذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر". وتقدم سياق الترمذي وابن ماجة له، عن أبي هريرة أيضا، وزاد بعد قوله: "وهو وتر يحب الوتر" -واللفظ للترمذي-: "هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور".
وسياق ابن ماجة بزيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وقد قدمنا ذلك مبسوطًا مطولا بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هنا (1) (2) .
وقوله: { يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } كقوله { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء : 44] .
وقوله: { وَهُوَ الْعَزِيزُ } أي: فلا يرام جَنَابه { الحَكِيمُ } في شرعه وقدره. وقد قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا خالد -يعني: ابن طَهْمَان، أبو العلاء الخَفَّاف-حدثنا نافع ابن أبي نافع، عن مَعقِل بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وَكَّل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة".
ورواه الترمذي عن محمود بن غَيْلان، عن أبي أحمد الزبيري، به (3) ، وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
__________
(1) في م: "هاهنا".
(2) تقدم تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: 180 من سورة الأعراف.
(3) المسند (5/26) وسنن الترمذي برقم (2922).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
تفسير سورة الممتحنة
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) }
كان سبب نزول صدر هذه السورة (1) الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أن حاطبًا هذا كان رجلا من المهاجرين، وكان من أهل بدر أيضًا، وكان له بمكة أولاد ومال (2) ، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفًا (3) لعثمان. فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم، وقال: "اللهم، عَمِّ عليهم خبرنا". فعمد حاطب هذا فكتب كتابًا، وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة، يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم [من غزوهم] (4) ، ليتخذ بذلك عندهم يدًا، فأطلع الله رسوله على ذلك (5) استجابة لدعائه. فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها، وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته. قال الإمام أحمد:
حدثنا سفيان، عن عَمْرو، أخبرني حَسَن بن محمد بن علي، أخبرني عُبَيد الله (6) بن أبي رافع -وقال مرة: إن عبيد الله بن أبي رافع أخبره: أنه سمع عليًا، رضي الله عنه، يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظَعِينة معها كتاب، فخذوه منها". فانطلقنا تَعَادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجي الكتاب. قالت: ما معي كتاب. قلنا: لتخرجن الكتاب أو لنُلقين الثياب. قال: فأخرجت الكتاب من عِقَاصها، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة
__________
(1) في هـ: "الآية"، والمثبت من م، أ.
(2) في م: "وأموال".
(3) في أ: "ضيفًا".
(4) زيادة من م.
(5) في م: "فأصلح الله على ذلك رسوله".
(6) في م: "عبد الله"
إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا حاطب، ما هذا؟". قال: لا تعجل علي، إني كنت امرأ مُلصَقًا في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا ولا ارتدادًا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه صَدَقكم". فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: "إنه قد شهد بدرًا، ما يدريك لَعَلّ الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".
وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجة، من غير وجه، عن سفيان بن عُيَينة، به (1) . وزاد البخاري في كتاب "المغازي": فأنزل الله السورة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } (2) . وقال في كتاب التفسير: قال عمرو: ونزلت فيه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } قال (3) : " لا أدري الآية في الحديث أو قال عمرو". قال البخاري: قال علي -يعني: ابن المديني-: قيل لسفيان في هذا: نزلت { لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } ؟ فقال سفيان: هذا في حديث الناس، حفظته من عمرو، ما تركت منه حرفًا، وما أرى (4) أحدًا حفظه غيري (5) .
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث حُصَين بن عبد الرحمن، عن سعد (6) بن عُبَيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مَرْثَد، والزبير بن العوام، وكلنا فارس، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب إلى المشركين: فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: الكتابُ؟ فقالت: ما معي كتاب. فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابًا، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم! لتخرجن الكتاب أو لنُجردنك. فلما رأت الجد أهوت إلى حُجْزتها وهي مُحتَجِزة بكساء فأخرجته. فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فَدعني فلأضْرِب عنقه. فقال: "ما حملك على ما صنعت؟". قال: والله ما بي إلا أن أكون مؤمنًا بالله ورسوله، أردت أن تكون لي عند القوم يَدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هنالك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله. فقال: "صدق، لا تقولوا له إلا خيرًا". فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال: "أليس من أهل بدر؟" فقال: "لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة -أو:
__________
(1) المسند (1/79، 80) وصحيح البخاري برقم (3007، 4890) وصحيح مسلم برقم (2494) وسنن أبي داود برقم (2650) وسنن الترمذي برقم (3305) وسنن النسائي الكبرى برقم (11585).
(2) صحيح البخاري برقم (4274).
(3) في م: "وقال".
(4) في م: "ولا أرى".
(5) صحيح البخاري برقم (4890).
(6) في م: "عن سعيد".
قد غفرت لكم". فدَمِعت عينا عُمر، وقال: الله ورسوله أعلم (1) .
هذا لفظ البخاري في "المغازي" في غزوة بدر، وقد روي من وجه آخر عن علي قال ابن أبي حاتم:
حدثنا علي بن الحسن الهِسْنجَاني، حدثنا عبيد بن يعيش، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي سِنان -هو سعيد بن سنان-عن عمرو بن مُرة الجَمَلي، عن أبي البختري الطائي (2) ، عن الحارث، عن علي قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة، أسرّ إلى أناس من أصحابه أنه يريد مكة، فيهم حاطب بن أبي بلتعة وأفشى في الناس أنه يريد خيبر. قال: فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم. فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مَرْثد، وليس منا رجل إلا وعند (3) فرس، فقال: "ائِتوا روضة خاخ، فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب، فخذوه منها". فانطلقنا حتى رأيناها بالمكان الذي ذَكَر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلنا لها: هات الكتاب. فقالت: ما معي كتاب. فوضعنا متاعها وفتشناها (4) فلم نجده في متاعها، فقال أبو مرثد: لعله ألا يكون معها. فقلت: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا (5) . فقلنا لها: لتخرجِنَّه أو لنُعرينَّك. فقالت: أما تتقون الله؟! ألستم مسلمين؟ فقلنا: لتخرجنه أو لنعرينَّك. قال عمرو بن مرة: فأخرجته من حُجُزَتها. وقال حبيب بن أبي ثابت: أخرجته (6) من قُبُلها. فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة. فقام عمر فقال: يا رسول الله، خان الله ورسوله، فائذن لي فلأضرب عنقه. فقال رسول الله: "أليس قد شهد بدرًا؟". قالوا: بلى. وقال عمر: بلى، ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلعل الله اطلع إلى على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، إني بما تعملون بصير". ففاضت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب فقال: "يا حاطب، ما حملك على ما صنعت؟". فقال: يا رسول الله، إني كنت امرأ مُلصَقًا في قريش، وكان لي بها مال وأهل، ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله، فكتبت إليهم بذلك ووالله-يا رسول الله-إني لمؤمن بالله ورسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق حاطب، فلا تقولوا لحاطب إلا خيرًا". قال (7) حبيب بن أبي ثابت: فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } الآية.
وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن مِهْران، عن أبي سنان -سعيد بن سنان-بإسناده مثله (8) . وقد ذكر ذلك أصحاب المغازي والسير، فقال محمد بن إسحَاق بن يَسَار في السيرة.
حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عُرْوَة بن الزبير وغيره من علمائنا قال: لما أجمع رسول
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3983) وصحيح مسلم برقم (2494).
(2) في هـ" "عن أبي إسحاق البختري الطائي ولالمثبت من الطبري.
(3) في م، أ: "وعنده".
(4) في م: "وفتشناه".
(5) في م: "ولا كاذب".
(6) في م: "فأخرجته".
(7) في م: "فقال".
(8) تفسير الطبري (23/38).
الله صلى الله عليه وسلم المسير (1) إلى مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم، ثم أعطاه امرأة -زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة، وزعم غيره أنها: سارة، مولاة لبني عبد المطلب-وجعل لها جُعلا على أن تبلغه قُريشًا فجعلته في رأسها، ثم فتلت عليه قرونها، ثم خرجت به. وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال: "أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا (2) له من أمرهم".
فخرجا حتى أدركاها بالخُلَيفْة -خليفة (3) بني أبي أحمد-فاستنزلاها بالخليفة، فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئًا، فقال لها علي بن أبي طالب: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله وما كذبنا (4) ولتُخرجِنَّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنَّك. فلما رأت الجِدّ منه قالت: أعرض. فأعرض، فحلت قُرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه. فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله حاطبًا فقال: "يا حاطب ما حملك على هذا؟". فقال: يا رسول الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله (5) ما غَيَّرت ولا بَدّلت، ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم وَلَد وأهل فصانعتهم عليهم فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، دعني فَلأضربْ عنقه، فإن الرجل قد نافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك يا عمر! لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم". فأنزل الله، عز وجل، في حاطب: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى قوله: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [الممتحنة : 4] إلى آخر القصة (6) .
وروى مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة نحو ذلك. وهكذا ذكر مقاتل بن حيان: أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة: أنه بعث سارة مولاة بني هاشم، وأنه أعطاها عشرة دراهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في أثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، فأدركاها بالجحفة... وذكر تمام القصة كنحو ما تقدم. وعن السدي قريبا منه. وهكذا قال العوفي، عن ابن عباس، ومجاهد وقتادة، وغير واحد: أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة.
فقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ } يعني: المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين، الذين شرع الله (7) عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء، كما قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة : 51] .
__________
(1) في م: "السير".
(2) في م، أ: "اجتمعنا".
(3) في أ: "بالحليفة حليفة".
(4) في م: "ولا كذبنا".
(5) في م: "وبرسوله".
(6) ورواه الطبري في تفسيره (23/39) من طريق أبي إسحاق.
(7) في م: "شرع لهم".
وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة : 57] وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } [النساء : 144] . وقال تعالى: { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران : 28] ؛ ولهذا قَبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عُذْرَ حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.
ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا مصعب بن سلام، حدثنا الأجلح، عن قيس بن أبي مسلم، عن ربعي بن حرّاش، سمعت حُذيفة يقول: ضَرَب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا واحدًا وثلاثة وخمسة وسبعة، وتسعة، وأحد عشر -قال: فضرب لنا منها مثلا وترك سائرها، قال: "إن قومًا كانوا أهل ضعف ومسكنة، قاتلهم أهل تجبر وعداء، فأظهر الله أهل الضعف عليهم، فَعَمَدوا إلى عَدُوهم فاستعملوهم وسلّطوهم، فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه" (1) .
وقوله: { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم؛ لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم، كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده؛ ولهذا قال: { أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } أي: لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين، كقوله: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ.الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [البروج : 8] ، وكقوله { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } [الحج : 40] .
وقوله: { إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي } أي: إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء، إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم فلا توالوا أعدائي وأعداءكم، وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقًا عليكم وسخطًا لدينكم.
وقوله: { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ } أي: تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ } أي: لو قدروا عليكم لما اتقوا (2) فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعال. { وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ } أي: ويحرصون على ألا تنالوا خيرًا، فهم عداوتهم لكم كامنة وظاهرة، فكيف توالون مثل هؤلاء؟ وهذا تهييج على عداوتهم أيضًا.
وقوله: { لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: قراباتكم لا تنفعكم عند الله (3) إذا أراد الله بكم سوءًا، ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما
__________
(1) المسند (5/407) وقال الهيثمي في المجمع (5/232): "وفيه الأجلح الكندي وهو ثقة وقد ضعف، وبقية رجاله ثقات".
(2) في أ: "لما أبقوا".
(3) في م: "عند الله ولا أولادكم".
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
يسخط الله، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخَسِر وضَلّ عمله، ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد، ولو كان قريبًا إلى نبي من الأنبياء. قال الإمام أحمد:
حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس، أن رجلا قال: يا رسول الله: أين أبي؟ قال: "في النار" فلما (1) قَفَّى دعاه فقال: "إن أبي وأباك في النار".
ورواه مسلم وأبو داود، من حديث حماد بن سلمة، به (2) .
{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) }
__________
(1) في م: "قال: فلما".
(2) المسند (3/268) وصحيح مسلم برقم (203) وسنن أبي داود برقم (8174).
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) }
يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } أي: وأتباعه الذين آمنوا معه { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ } أي: تبرأنا منكم { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ } أي: بدينكم وطريقكم، { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا } يعني: وقد شُرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم، ما دمتم على كفركم فنحن أبدًا نتبرأ منكم ونبغضكم { حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } أي: إلى أن تُوحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأنداد والأوثان.
وقوله: { إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } أي: لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها، إلا في استغفار إبراهيم لأبيه، فإنه إنما كان عن مَوعِدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يَدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم، ويقولون: إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه، فأنزل الله، عز وجل: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة : 113 ، 114] . وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } إلى قوله: { إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي:
ليس لكم في ذلك أسوة، أي: في الاستغفار للمشركين، هكذا قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل، والضحاك وغير واحد.
ثم قال تعالى مخبرًا عن قول إبراهيم والذين معه، حين فارقوا قومهم وتبرءوا منهم، فلجئوا إلى الله وتضرّعوا (1) إليه فقالوا: { رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي: توكلنا عليك في جميع الأمور، وسَلَّمنا أمورَنا إليك، وفوضناها إليك { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي: المعاد في الدار الآخرة.
{ رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } قال مجاهد: معناه: لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا. وكذا قال الضحاك.
وقال قتادة لا تُظْهِرهم علينا فيفتتنوا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه. واختاره ابن جرير (2) .
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
وقوله: { وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي: واستر ذنوبنا عن غيرك، واعف عنها فيما بيننا وبينك، { إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أي: الذي لا يُضَام من لاذ بجناحك (3) { الْحَكِيم } في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك.
ثم قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } وهذا تأكيد لما تقدم ومستثنى منه ما تقدم أيضًا لأن هذه الأسوة المثبتة (4) هاهنا هي الأولى بعينها.
وقوله: { لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } تهييج إلى ذلك كل مقر (5) بالله والمعاد.
وقوله: { وَمَنْ يَتَوَلَّ } أي: عما أمر الله به، { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } كقوله { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [إبراهيم : 8] .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: { الْغَنِيُّ } الذي [قد] (6) كمل في غناه، وهو الله، هذه صفته لا تنبغي إلا له، ليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار. { الْحَمِيدُ } المستحمد إلى خلقه، أي: هو المحمود في جميع أفعاله وأقواله، لا إله غيره، ولا رب سواه.
__________
(1) في م: "وضرعوا".
(2) تفسير الطبري (28/42).
(3) في أ: "بجنابك".
(4) في أ: "المبيتة".
(5) في م: "لكل موقن".
(6) زيادة من م.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
{ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) }
يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً } أي: محبة بعد البِغْضَة، ومودة بعد النَّفرة، وألفة بعد الفرقة. { وَاللَّهُ قَدِيرٌ } أي: على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة، فتصبح مجتمعة متفقة، كما قال تعالى ممتنًا على الأنصار: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } الآية [آل عمران : 103]. وكذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "ألم أجِدْكُم ضُلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألَّفَكُم الله بي؟" (1) . وقال الله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال : 62 ، 63]. وفي الحديث "أحبِبْ حَبيبَكَ هونًا مّا، فعسى أن يكونَ بَغيضَكَ يومًا ما. وأبغِض بغيضَك هونًا ما، فعسى أن يكون حبيبك يومًا ما" (2) . وقال الشاعر (3)
وَقَد يجمعُ اللهُ الشتيتين بعد ما ... يَظُنان كُل الظنّ ألا تَلاقَيا ...
وقوله تعالى: { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له، وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه، من أيّ ذنب كان.
وقد قال مقاتل بن حيان: إن هذه الآية نزلت في أبي سفيان، صخر بن حرب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ابنته فكانت هذه مودة ما بينه وبينه.
وفي هذا الذي قاله مقاتل نظر؛ فإن رسول تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان قبل الفتح، وأبو سفيان إنما أسلم (4) ليلة الفتح بلا خلاف. وأحسن من هذا ما رواه بن أبي حاتم حيث قال:
قُرئ على محمد بن عَزيز: حدثني سلامة، حدثني عقيل، حدثني ابن شهاب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان بن حرب على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل فلقي ذا الخمار مرتدًا، فقاتله، فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين. قال ابن شهاب: وهو ممن أنزل
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (4330) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم، رضي الله عنه.
(2) رواه الترمذي في السنن برقم (1997) من طريق سويد بن عمرو، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعًا به، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث عن أيوب بإسناد غير هذا رواه الحسن بن أبي جعفر، وهو حديث ضعيف أيضًا بإسناد له عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح عن على موقوف قوله".
(3) هو قيس بن الملوح كما في ديوانه (ص 315) واللسان، مادة "شتت" أ. هـ. مستفادًا من حاشية ط - الشعب.
(4) في م: "وإنما أسلم أبو سفيان".
الله فيه: { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (1) .
وفي صحيح مسلم، عن ابن عباس: أن أبا سفيان قال: يا رسول الله، ثلاث أعطنيهنّ. قال: "نعم". قال: وتؤمّرني أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين. قال: "نعم". قال: ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك. قال: "نعم". قال: وعندي أحسن العرب وأجمله، أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها... الحديث. وقد تقدم الكلام عليه (2) .
وقوله تعالى: { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين، كالنساء والضعفة منهم، { أَنْ تَبَرُّوهُمْ } أي: تحسنوا إليهم { وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ } أي: تعدلوا { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء -هي بنت أبي بكر، رضي الله عنهما-قالت: قَدَمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيتُ النبي (3) صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: "نعم، صلي أمك" أخرجاه (4) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قدمت قُتَيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا: صِنَاب وأقط (5) وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها تدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله، عز وجل: { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها.
وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، من حديث مصعب بن ثابت، به (6) . وفي رواية لأحمد وابن (7) جرير: "قُتَيلة بنت عبد العزي بن [عبد] (8) أسعد، من بني مالك بن حسل (9) . وزاد ابن أبي حاتم: "في المدة التي كانت بين قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم".
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر المنثور (8/130) وعزاه لابن أبي حاتم، وهو مرسل.
(2) صحيح مسلم برقم (2501) من حديث ابن عباس، رضي الله عنه، وقول الحافظ: "تقدم الكلام عليه" لا أدري ما مقصوده، فإنه ذكر الحديث عند تفسير الآية: 227 من سورة الشعراء، ولم يتكلم عليه بشيء، وقد يكون تكلم عليه في مكان آخر لم أقع عليه، والله أعلم. والحديث استشكل، فقول أبي سفيان في الحديث: وعندى أم حبيبة أزوجكها، منقوض بأن أبا سفيان إنما أسلم يوم فتح مكة، والنبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة قبل ذلك بزمان طوبل. انظر كلام الإمام النووي في: المنهاج (16/63) وإجابته على ذلك.
(3) في م: "رسول الله".
(4) الحديث وقع لي من غير هذا الطريق، انظر: المسند (6/344، 347) وصحيح البخاري برقم (2620، 3183، 5978) وصحيح مسلم برقم (1003).
(5) في م: " وصناب وقرظ"، وفي أ: "وضباب وقرط"، والمثبت من اللطبري.
(6) المسند (4/4) وتفسير الطبري (28/43).
(7) في م: "ولابن".
(8) زيادة من مسند الإمام أحمد.
(9) في أ: "قبيلة بنت العزي بن سعد من بني مالك بن حنبل".
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار: حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو قتادة العدوي، عن ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة وأسماء أنهما قالتا: قدمت علينا أمنا المدينة، وهي مشركة، في الهدنة التي كانت بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله، إن أمنا قدمت علينا المدينة راغبةً، أفنصلها؟ قال: "نعم، فَصِلاها" (1) .
ثم قال: وهذا الحديث لا نعلمه يروي عن الزهري، عن عروة، عن عائشة إلا من هذا الوجه.
قلت: وهو منكر بهذا السياق؛ لأن أم عائشة هي أم رومان، وكانت مسلمة مهاجرة وأم أسماء غيرها، كما هو مصرح باسمها في هذه الأحاديث المتقدمة والله أعلم.
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } تقدم تفسير ذلك في سورة "الحجرات"، وأورد الحديث الصحيح: "المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم، وأهاليهم، وما وَلُوا" (2) .
وقوله: { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ } أي: إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم العداوة، فقاتلوكم وأخرجوكم، وعاونوا على إخراجكم، ينهاكم الله عن موالاتهم ويأمركم بمعاداتهم. ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال: { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } كقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [المائدة : 51] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) }
__________
(1) مسند البزار برقم (1873) "كشف الأستار" وقال الهيثمي: "حديث أسماء في الصحيح، وأم عائشة غير أم أسماء"؛ ولهذا أنكره الحافظ هنا، وفيه عبد الله بن شبيب شيخ البزار ضعيف.
(2) صحيح مسلم برقم (1827) من حديث عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما.
تقدم في سورة "الفتح" ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فكان فيه: "على ألا يأتيك منا رجل -وإن كان على دينك-إلا رددته إلينا". وفي رواية: "على أنه لا يأتيك منا أحد -وإن كان على دينك-إلا رددته إلينا". وهذا قول عروة، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد، والزهري، ومقاتل، والسدي. فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة، وهذا من أحسن أمثلة ذلك، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة، فإن الله، عز وجل، أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن، فإن عَلِموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن.
وقد ذكرنا في ترجمة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش، من المسند الكبير، من طريق أبي بكر بن أبي عاصم، عن محمد بن يحيى الذهلي، عن يعقوب بن محمد، عن عبد العزيز بن عمران، عن مُجَمِّع بن يعقوب، عن حسين بن أبي لُبانة، عن عبد الله بن أبي أحمد قال: هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط في الهجرة، فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلماه فيها أن يردها إليهما، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة، ومنعهن أن يُرْدَدْنَ إلى المشركين، وأنزل الله آية الامتحان (1) .
قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا يونس بن بُكَيْر، عن قيس بن الربيع، عن الأغر بن الصباح، عن خليفة عن حُصَين، عن أبي نصر الأسدي قال: سُئِل ابنُ عباس: كيف كان امتحانُ رسول الله صلى الله عليه وسلم النساءَ؟ قال: كان يمتحنهن: بالله ما خَرجت من بُغض زوج؟ وبالله ما خَرجت رَغبةً عن أرض إلى أرض؟ وبالله ما خرجت التماس دنيا؟ وبالله ما خرجت إلا حبًا لله ولرسوله؟ (2) .
ثم رواه من وجه آخر، عن الأغر بن الصباح، به. وكذا رواه البزار من طريقه، وذكر فيه أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له عمر بن الخطاب (3) .
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } كان امتحانهن أن يَشهدْن أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبد الله (4) ورسوله.
وقال مجاهد: { فَامْتَحِنُوهُنّ } فاسألوهن: عما جاء بهن؟ فإن كان بهن غضبٌ على أزواجهن أو سَخْطة أو غيره، ولم يؤمنّ فارجعوهن إلى أزواجهن.
وقال عكرمة: يقال لها: ما جاء بك إلا حب الله ورسوله؟ وما جاء بك عشق رجل منا، ولا
__________
(1) جامع المسانيد والسنن لابن كثير (7/243) ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (3/67) من طريق أبي بكر بن أبي عاصم، وعبد العزيز ابن عمران ضعيف.
(2) تفسير الطبري (28/44).
(3) مسند البزار برقم (2272) "كشف الأستار" وقال: "لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد، ولا روي عن أبي نصر إلا خليفة". قال الهيثمي في المجمع (7/123): "وفيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري، وضعفه غيرهما، وبقية رجاله ثقاب". وتعقبه ابن حجر في مختصر الزوائد (1/112). قلت: "أعله الشيخ بقيس، وقد ذكر البخاري أن أبا نصر لم يسمع من ابن عباس فهي العلة".
(4) في م: "وإن محمدًا عبده".
فرار من زوجك؟ فذلك قوله: { فَامْتَحِنُوهُنّ }
وقال قتادة: كانت محنتهن أن يستحلفن بالله: ما أخرجكن النشوز؟ وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله وحِرص عليه؟ فإذا قلن ذلك قُبِل ذلك منهن.
وقوله: { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ } فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينًا.
وقوله: { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } هذه الآية هي التي حَرّمَت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزًا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة؛ ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب، رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقّ لها رقَّةً شَديدَةً، وقال للمسلمين: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا". ففعلوا، فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة، رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقًا، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، حدثنا بن إسحاق، حدثنا داود بن الحصين، عن عكرمة عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص [ابن الربيع] (1) وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صَدَاقًا.
ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة (2) . ومنهم من يقول: "بعد سنتين"، وهو صحيح؛ لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين. وقال الترمذي: "ليس بإسناده بأس، ولا نعرف (3) وجه هذا الحديث، ولعله جاء من حفظ داود بن الحصين. وسمعت عبد بن حميد يقول: سمعت يزيد بن هارون يذكر عن بن إسحاق هذا الحديث، وحديث ابن الحجاج -يعني ابن أرطاة-عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد. فقال يزيد: حديث ابن عباس أجودُ إسنادًا والعمل على حديث عمرو بن شعيب".
قلت: وقد رَوَي حديث الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب الإمامُ أحمد والترمذي وابن ماجة (4) ، وضعفه الإمام أحمد وغير واحد، والله أعلم.
__________
(1) زيادة من مسند الإمام أحمد.
(2) المسند (1/261) وسنن أبي داود برقم (2240) وسنن الترمذي برقم (1143) وسنن ابن ماجة برقم (2009).
(3) في م: "ولا يعرف".
(4) المسند (2/207) وسنن الترمذي برقم (1142) وسنن ابن ماجة برقم (2010).
وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عِدّتها منه؛ لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم (1) انفسخَ نِكاحُها منه.
وقال آخرون: بل إذا انقضت العدة هي بالخيار، إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت، وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت، وحملوا عليه حديث ابن عباس، والله أعلم.
وقوله: { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا } يعني: أزواج المهاجرات من المشركين، ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصدقة. قاله ابن عباس، ومجاهد وقتادة، والزهري، وغير واحد.
وقوله: { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يعني: إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن، أي: تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة والولي وغير ذلك.
وقوله: { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } تحريم من الله، عز وجل، على عباده المؤمنين نكاح المشركات، والاستمرار معهن.
وفي الصحيح، عن الزهري، عن عروة، عن المسور ومَرْوان بن الحكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاء نساءٌ من المؤمنات، فأنزل الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ [فَامْتَحِنُوهُنَّ] } (2) إلى قوله: { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية (3) .
وقال ابن ثور، عن مَعْمَر، عن الزهري: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بأسفل الحديبية، حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى زوجها، وقال: { وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال: وإنما حكم الله بينهم بذلك، لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد.
وقال محمد بن إسحاق، عن الزهري: طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة، فتزوجها معاوية، وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية، وهي أم عُبَيد الله، فتزوجها أبو جهم ابن حذيفة بن غانم، رجل من قومه، وهما على شركهما، وطلق طلحةُ بن عبيد الله أروي بنتَ ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فتزوجها بعده خالد بن سعيد بن العاص (4) .
وقوله: { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا } أي: وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي
__________
(1) في م: "ولم تسلم".
(2) زيادة من م.
(3) صحيح البخاري برقم (2731، 2732).
(4) تفسير الطبري (28/47) مع اختلاف يسير.
يذهبن إلى الكفار، إن ذهبن، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين.
وقوله: { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي: في الصلح واستثناء النساء منه، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك.
ثم قال: { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } قال مجاهد، وقتادة: هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد، إذا فرت إليهم امرأة ولم يدفعوا إلى زوجها شيئًا، فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شيء، حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل نفقته عليها.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن الزهري قال: أقر المؤمنون بحكم الله، فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين، فقال الله للمؤمنين به: { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأةٌ من أزواج المؤمنين إلى المشركين، رَدّ المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العَقب الذي بأيديهم، الذي أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرنَ، ثم ردوا إلى المشركين فضلا إن كان بقي لهم. والعقب: ما كان [بأيدي المؤمنين] (1) من صداق نساء الكفار حين آمنّ وهاجرن (2) .
وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية: يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار، أمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطى من الغنيمة مثل ما أنفق.
وهكذا قال مجاهد: { فَعَاقَبْتُم } أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم { فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } يعني: مهر مثلها. وهكذا قال مسروق، وإبراهيم، وقتادة، ومقاتل، والضحاك، وسفيان بن حسين، والزهري أيضًا.
وهذا لا ينافي الأول؛ لأنه إن أمكن الأول (3) فهو أولى، وإلا فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار. وهذا أوسع، وهو اختيار ابن جرير، ولله الحمد والمنة (4)
__________
(1) زيادة من تفسير الطبري.
(2) تفسير الطبري (28/48).
(3) في م: "أمكن بالأول".
(4) في م: "والله أعلم".
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) }
قال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي ابن شهاب، عن عمه قال: أخبرني عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ } إلى قوله: { غَفُورٌ رَحِيمٌ } قال عروة: قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد بايعتك"، كلامًا، ولا والله ما مست يده يد امرأة قَطّ في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: "قد بايعتك على ذلك" هذا لفظ البخاري (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن أميمة بنت رُقَيقة قالت: أتيت رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: { أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا } الآية، وقال: "فيما استطعتن وأطقتن"، قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة (3) كقولي لمائة امرأة".
هذا إسناد صحيح، وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، من حديث سفيان بن عيينة -والنسائي أيضًا من حديث الثوري-ومالك بن أنس كلهم، عن محمد بن المنكدر، به (4) . وقال الترمذي: حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن المنكدر.
وقد رواه أحمد أيضا من حديث محمد ابن إسحاق، عن محمد بن المنكدر، عن أميمة، به. وزاد: "ولم يصافح منا امرأة" (5) . وكذا رواه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، به (6) . ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر الرازي، عن محمد بن المنكدر: حدثتني أميمة بنت رقيقة -وكانت أخت خديجة خالة فاطمة، من فيها إلى في، فذكره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني سليط بن أيوب بن الحكم بن سُلَيم، عن أمه سلمى بنت قيس -وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلت معه القبلتين، وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار-قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه في نسوة من الأنصار، فلما شرط علينا: ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف -قال: "ولا تغشُشْن أزواجكن". قالت: فبايعناه، ثم انصرفنا، فقلت لامرأة منهن: ارجعي فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما غش أزواجنا؟ قال: فسألته فقال: "تأخذ ماله، فتحابي به غيره" (7) .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4891) ووقع في رواية أبي ذر: "حدثنا إسحاق، حدثنا يعقوب بن إبراهيم".
(2) في م: "أتيت النبي".
(3) في م: "واحدة منكن".
(4) المسند (6/357) وسنن الترمذي برقم (1597) وسنن النسائي (7/149) وسنن ابن ماجة برقم (2874).
(5) المسند (6/357).
(6) تفسير الطبري (28/53).
(7) المسند (6/379).
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، حدثني أبي، عن أمه عائشة بنت قُدَامة -يعني: ابن مظعون-قالت: أنا مع أمي رائطة بنت سفيان الخزاعية، والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع النسوة ويقول: "أبايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئًا، ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصينني في معروف". [قالت: فأطرقن. فقال لهن النبي صلى الله عليه وسلم] (1) قُلن: نعم فيما استطعتن". فَكُنّ يقلن وأقول معهن، وأمي تُلقّني: قولي (2) أي بنية، نعم [فيما استطعتُ] (3) . فكنت أقول كما يقلن (4)
وقال البخاري: حدثنا أبو مَعْمَر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن حفصة بنت سيرين، عن أم عطية قالت: بَايَعْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ (5) علينا: { أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا } ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها، قالت: أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها. فما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلقت ورجعت فبايعها.
ورواه مسلم (6) . وفي رواية: "فما وفى منهن امرأة غيرها، وغير أم سليم ابنة ملحان".
وللبخاري عن أم عطية قالت: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة ألا ننوح، فما وَفّت منا امرأة غير خمس نسوة: أم سليم، وأم العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ، وامرأتان -أو: ابنة أبي سَبرة، وامرأة معاذ، وامرأة أخرى (7) .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهدُ النساءَ بهذه البيعة يوم العيد، كما قال البخاري:
حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا هارون بن (8) معروف، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني ابن جُرَيج: أن الحسن بن مسلم أخبره، عن طاوس، عن ابن عباس قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بَعدُ، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم، فكأني أنظر إليه حين (9) يُجَلَّس الرجالَ بيده، ثم أقبل يَشقّهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } حتى فرغ من الآية كلها. ثم قال حين فرغ: "أنتن على ذلك؟". فقالت امرأة واحدة، ولم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله -لا يدري الحسن (10) من هي-قال: "فتصدقن"، قال: وبسط بلال ثوبه فجعلن (11) يلقين الفَتَخَ
__________
(1) زيادة من مسند الإمام أحمد.
(2) زيادة من مسند الإمام أحمد، وفي هـ، م، أ: "تقول لي".
(3) زيادة من مسند الإمام أحمد.
(4) المسند (6/365).
(5) في م: "فشرط".
(6) صحيح البخاري برقم (4892) وصحيح مسلم برقم (936).
(7) صحيح البخاري برقم (1306).
(8) في م: "حدثنا".
(9) في م: "إليه حتى".
(10) في م، أ: "لا يدري حسن".
(11) في م: "فجعل".
والخواتيم في ثوب بلال (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد، حدثنا ابن عياش، عن سليمان بن سُليم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام، فقال: "أبايعك على ألا تشركي بالله شيئًا، ولا تسرقي، ولا تزني، ولا تقتلي ولدك، ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يَديك ورجليك، ولا تنوحي، ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى" (2)
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: "تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم -قرأ الآية التي أخذت على النساء { إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ } فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله عليه، فهو إلى الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه". أخرجاه في الصحيحين (3) .
وقال محمد ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرثد (4) بن عبد الله اليَزني (5) عن أبي عبد الله عبد الرحمن بن عُسَيلة الصُّنَابجي (6) ، عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وقال: "فإن وَفَيتم فلكم الجنة" رواه ابن أبي حاتم.
وقد روي ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال: " قل لهن: إن رسول الله يبايعكن على ألا تشركن بالله شيئًا" -وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة التي شقت بطن حمزة مُنَكرة في النساء-فقالت: "إني إن أتكلم يعرفني، وإن عرفني قتلني". وإنما تنكرت فرقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكت النسوة اللاتي مع هند، وأبين أن يتكلمن. فقالت هند وهي مُنَكَّرة: كيف تقبل من النساء شيئًا لم تقبله من الرجال؟ ففطن (7) إليها رسول الله وقال لعمر: "قل لهن: ولا تسرقن". قالت هند: والله إني لأصيب من أبي سفيان الهَنَات، ما أدري أيحلهن لي أم لا؟ قال أبو سفيان: ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي، فهو لك حلال. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فدعاها فأخذت بيده، فعاذت (8) به، فقال: "أنت هند؟". قالت: عفا الله عما سلف. فصرف عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ولا يزنين"، فقالت: يا رسول الله، وهل تزني الحرة؟ قال: "لا والله ما تزني الحرة". فقال: "ولا
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4895).
(2) المسند (2/196).
(3) المسند (5/314) وصحيح البخاري برقم (4894) وصحيح مسلم برقم (1709).
(4) في م: "يزيد".
(5) في أ: "المزني".
(6) في أ: "الصالحي".
(7) في أ: "فنظر".
(8) في أ: "فعادتنا".
يقتلن أولادهن" . قالت هند: أنت قتلتهم يوم بدر، فأنت وهم أبصر. قال: { وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } قال { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قال: منعهن أن ينحن، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب ويخدشن الوجوه، ويقطعن الشعور، ويدعون بالثبور. والثبور: الويل (1) .
وهذا أثر غريب، وفي بعضه نكارة، والله أعلم؛ فإن أبا سفيان وامرأته لما أسلما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيفهما، بل أظهر الصفاء والود له، وكذلك كان الأمر من جانبه، عليه السلام، لهما.
وقال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية يوم الفتح، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفا، وعمر يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر بقيته كما تقدم وزاد: فلما قال: { وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ } قالت هند: ربيناهم صغارًا فقتلتموهم كبارا. فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. رواه بن أبي حاتم.
وقال بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، حدثتني عطية بنت سليمان، حدثني عمتي، عن جدتها (2) عن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه، فنظر إلى يدها فقال: "اذهبي فغيري يدك". فذهبت فغيرتها بحناء، ثم جاءت فقال: "أبايعك على ألا تشركي بالله شيئا"، فبايعها وفي يدها سواران من ذهب، فقالت: ما تقول في هذين السوارين؟ فقال: "جمرتان من جمر جهنم" (3) .
فقوله: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ } أي: من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها، { عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ } أي: أموال الناس الأجانب، فأما إذا كان الزوج مقصرًا في نفقتها، فلها أن تأكل من ماله بالمعروف، ما جرت به عادة أمثالها، وإن كان بغير علمه، عملا بحديث هند بنت عتبة أنها قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شَحِيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، فهل عليَّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك". أخرجاه في الصحيحين (4) .
وقوله: { وَلا يَزْنِينَ } كقوله { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } [الإسراء : 32]. وفي حديث سَمُرة ذكرُ عقوبة الزناة بالعذاب الأليم في نار الجحيم (5) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوة، عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها: { أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ } الآية، قالت: فوضعت يدها على رأسها حياء، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة:
__________
(1) تفسير الطبري (28/52).
(2) في أ: "حدثني عمي عن جدي".
(3) ورواه أبو يعلى في المسند (8/195) عن نصر بن على به نحو، وقال الهيثمي في المجمع (6/37): "فيه من لم أعرفهن".
(4) صحيح البخاري برقم (7180) وصحيح مسلم برقم (1714).
(5) رواه الإمام أحمد في المسند (5/15).
أقري أيتها المرأة، فوالله ما بايعنا إلا على هذا. قالت: فنعم إذًا. فبايعها بالآية (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فضيل، عن حصين، عن عامر -هو الشعبي-قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء، وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه، ثم قال: "ولا تقتلن أولادكن". فقالت امرأة: تقتل آباءهم وتوصينا بأولادهم؟ قال: وكان بعد ذلك إذا جاءت النساء يبايعنه، جمعهن فعرض عليهن، فإذا أقررن رجعن.
وقوله { وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ } وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعم قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.
وقوله: { وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } قال ابن عباس: يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم. وكذا قال مقاتل. ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود:
حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا بن وهب، حدثنا عمرو -يعني: ابن الحارث-عن ابن الهاد، عن عبد الله بن يونس، عن سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول حين نزلت آية الملاعنة: "أيما امرأة أدخَلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جَنّته، وأيما رجل جَحَد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين" (2) .
وقوله: { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } يعني: فيما أمرتهن به من معروف، ونهيتهن عنه من منكر.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي قال: سمعت الزبير، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قال: إنما هو شرط شَرَطه الله للنساء (3) .
وقال ميمون بن مِهْرَان: لم يجعل الله لنبيه طاعة إلا لمعروف (4) والمعروف: طاعة.
وقال ابن زيد: أمر الله بطاعة رسوله، وهو خِيَرة الله من خلقه في المعروف. وقد قال غيره ابن عباس، وأنس بن مالك، وسالم بن أبي الجَعْد، وأبي صالح، وغير واحد: نهاهن يومئذ عن النوح. وقد تقدم حديث أم عطية في ذلك أيضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة في هذه الآية: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن النياحة، ولا تحدثن الرجال إلا رجلا منكن محرمًا. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا نبي الله، إن لنا أضيافًا، وإنا نغيب عن نسائنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس أولئك
__________
(1) المسند (6/151).
(2) سنن أبي داود برقم (2263).
(3) صحيح البخاري برقم (4893).
(4) في م: "في معروف".
عَنَيتُ، ليس أولئك عَنَيتُ" (1) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء، أخبرنا ابن أبي زائدة، حدثني مبارك، عن الحسن قال: كان فيما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تحدثن الرجال إلا أن تكون ذات محرم، فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يَمذي بين فخذيه".
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون، عن عمرو، عن عاصم (2) عن ابن سيرين، عن أم عطية الأنصارية قالت: كان فيما اشتُرط علينا (3) من المعروف حين بايعنا (4) ألا ننوح، فقالت امرأة من بني فلان: إن بني فلان أسعدوني، فلا حتى أجزيهم (5) فانطلقت فأسعَدتَهم ثم جاءت فبايعت، قالت: فما وفى منهن غيرها، وغير أم سليم ابنة مِلْحان أم أنس بن مالك (6) .
وقد روى البخاري هذا الحديث من طريق حفصة بنت سيرين، عن أم عطية نسيبة الأنصارية رضي الله عنها (7) وقد روي نحوه من وجه آخر أيضًا.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو نُعَيم، حدثنا عُمَر بن فروخ القَتَّات، حدثني مصعب بن نوح الأنصاري قال: أدركت عجوزًا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: فأتيته لأبايعه، فأخذ علينا فيما أخذ ألا تنحن. فقالت عجوز: يا رسول الله (8) إن ناسًا قد كانوا (9) أسعدوني على مصائب أصابتني، وأنهم قد أصابتهم مصيبة، فأنا أريد أسعدهم. قال: "فانطلقي فكافئيهم". فانطلقت فكافأتهم، ثم إنها أتته فبايعته، وقال: هو (10) المعروف الذي قال الله عز وجل: { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } (11) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا القَعْنَبِي (12) ، حدثنا الحجاج بن صفوان، عن أسيد (13) بن أبي أسيد البراد، عن امرأة من المبايعات قالت: كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا نعصيه في معروف: أن لا نخمش وجوهًا (14) ولا ننشر شعرًا، ولا نشق جيبا، ولا ندعو ويلا.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن يزيد مولي الصهباء، عن شهر بن حَوشب، عن أم سلمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قال: "النوح".
__________
(1) تفسير الطبري (28/51).
(2) في م: "عن عمرو بن عاصم".
(3) في م: "علينا رسول الله".
(4) في م، أ: "حين بايعناه".
(5) في أ: "حتى أحدثهم".
(6) تفسير الطبري (28/52).
(7) صحيح البخاري برقم (4892).
(8) في م: "يانبي الله".
(9) في م: "كانوا قد".
(10) في م: "هذا".
(11) تفسير الطبري (28/52).
(12) في م: "الضبي".
(13) في أ: "عن أسد".
(14) في م، أ: "وجهًا".
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
ورواه الترمذي في التفسير، عن عبد بن حُمَيد، عن أبي نُعَيم -وابن ماجة، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع-كلاهما عن يزيد بن عبد الله الشيباني مولي (1) الصهباء، به (2) وقال الترمذي: حسن غريب.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد (3) بن سنان القزاز، حدثنا إسحاق بن إدريس، حدثنا إسحاق بن عثمان أبو يعقوب، حدثني إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية، عن جدته أم عطية قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقام على الباب وسلم علينا، فرددن -أو: فرددنا-عليه السلام، ثم قال: "أنا رُسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن". قالت: فقلنا: مرحبًا برسول الله وبرسول رسول الله. فقال: "تبايعن على ألا تشركن بالله شيئا، ولا تسرقن ولا تزنين؟" قالت: فقلنا: نعم. قالت: فمد يده من خارج الباب -أو: البيت-ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: "اللهم اشهد". قالت: وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحُيَّض والعواتق، ولا جمعة علينا، ونهانا عن اتباع الجنائز. قال إسماعيل: فسألت جدتي عن قوله: { وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قالت: النياحة (4) .
وفي الصحيحين من طريق الأعمش، عن عبد الله بن مُرة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من ضَرَب الخدود، وشَقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" (5) .
وفي الصحيحين أيضًا عن أبي موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة (6) .
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا هُدْبَة بن خالد، حدثنا أبان بن يزيد، حدثنا يحيى بن أبي كثير: أن زيدًا حدثه: أن أبا سلام حدثه: أن أبا مالك الأشعري حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة. وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قَطران ودرع من جَرَب".
ورواه مسلم في صحيحه منفردًا به، من حديث أبان بن يزيد العطار، به (7) .
وعن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة. رواه أبو داود (8)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) }
__________
(1) في أ: "عن أبي".
(2) سنن الترمذي برقم (3307) وسنن ابن ماجة برقم (1579).
(3) في م: "حدثنا أحمد".
(4) تفسير الطبري (28/53).
(5) صحيح البخاري برقم (1297) وصحيح مسلم برقم (103).
(6) صحيح البخاري برقم (1296) وصحيح مسلم برقم (104).
(7) مسند أبي يعلى (3/148) وصحيح مسلم برقم (934).
(8) سنن أبي داود برقم (3128).
ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر "هذه السورة" كما نهى عنها في أولها فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } يعني: اليهود والنصارى وسائر الكفار، ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والإبعاد، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء وقد يئسوا من الآخرة، أي: من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل. وقوله: { كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } فيه قولان، أحدهما: كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك؛ لأنهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا، فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه.
قال العوفي، عن ابن عباس: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } إلى آخر السورة، يعني من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله عز وجل.
وقال الحسن البصري: { كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } قال: الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات.
وقال قتادة: كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا. وكذا قال الضحاك. رواهن ابن جرير.
والقول الثاني: معناه: كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير.
قال الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، عن ابن مسعود: { كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } قال: كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه. وهذا قول مجاهد، وعكرمة، ومقاتل، وابن زيد، والكلبي، ومنصور. وهو اختيار ابن جرير.
تفسير سورة الصف
وهي مدنية.
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة -وعن عطاء بن يسار، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا: أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة، يعني سورة الصف كلها. هكذا رواه الإمام أحمد (1)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن الوليد بن مَزْيد البيروتي (2) قراءة قال: أخبرني أبي، سمعت الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني عبد الله بن سلام. أن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؟ فلم يذهب إليه أحد منا، وهبنا أن نسأله عن ذلك، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم، ونزلت فيهم هذه السورة:(سبح) الصف قال عبد الله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها. قال أبو سلمة: وقرأها علينا عبد الله بن سلام كلها، قال يحيى بن أبي كثير وقرأها علينا أبو سلمة كلها. قال الأوزاعي: وقرأها علينا يحيى بن أبي كثير كلها. قال أبي: وقرأها علينا الأوزاعي كلها.
وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: حدثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا، فقلنا: لو نعلم: أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه. فأنزل الله: " سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا] " (3) قال عبد الله بن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سلمة: فقرأها علينا ابن سلام. قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة. قال ابن كثير: فقرأها علينا الأوزاعي. قال عبد الله: فقرأها علينا ابن كثير.
ثم قال الترمذي: وقد خولف محمد بن كثير في إسناد هذا الحديث عن الأوزاعي، فروى ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن سلام -أو: عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام (4)
قلت: وهكذا رواه الإمام أحمد، عن يعمر، عن ابن المبارك، به (5)
__________
(1) المسند (5/452).
(2) في أ: "السروري".
(3) زيادة من أ.
(4) سنن الترمذي برقم (3309).
(5) المسند (5/452).
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
قال الترمذي: وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الأوزاعي، نحو رواية محمد بن كثير.
قلت: وكذا رواه الوليد بن يزيد، عن الأوزاعي، كما رواه ابن كثير.
قلت: وقد أخبرني بهذا الحديث الشيخ المسند أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار قراءة عليه وأنا أسمع، أخبرنا أبو المُنَجَّا عبد الله بن عُمَر بن اللَّتي (1) أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شُعَيب السَّجْزيّ قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الرحمن بن المظفر بن محمد بن داود الداودي، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حَمَّوَية السرَخسِيّ، أخبرنا عيسى بن عُمَر بن عمران السمرقندي، أخبرنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بجميع مسنده (2) أخبرنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي... فذكر بإسناده مثله، وتسلسل لنا قراءتها إلى شيخنا أبي العباس الحجار، ولم يقرأها، لأنه كان أميا، وضاق الوقت عن تلقينها إياه. ولكن أخبرني الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، رحمه الله: أخبرنا القاضي تقي الدين سليمان بن الشيخ أبي عمر، أخبرنا أبو المنجا بن اللَّتي (3) فذكره بإسناده، وتَسلل (4) لي من طريقة، وقرأها علي بكمالها، ولله الحمد والمنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) }
تقدم الكلام على قوله: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } غير مرة، بما أغنى عن إعادته.
وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } ؟ إنكار على من يَعد عدَةً، أو يقول قولا لا يفي به، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا، سواء ترتب عليه غُرم للموعود أم لا. واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّث كذب، إذا وَعَد أخلف، وإذا اؤتمن خان" (5) وفي الحديث الآخر في الصحيح: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصًا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خَصْلَة من نفاق حتى يَدَعها" (6) -فذكر منهن إخلاف الوعد. وقد استقصينا الكلام على هذين الحديثين في أول "شرح البخاري"، ولله الحمد والمنة. ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله: { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ }
__________
(1) في أ: "الليثي".
(2) في أ: "سنده".
(3) في أ: "الليثي".
(4) في أ: "وتسلسل".
(5) صحيح البخاري برقم (33) وصحيح مسلم برقم (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) صحيح البخاري برقم (34) وصحيح مسلم برقم (58) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وقد روى الإمام أحمدُ وأبو داود، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم [في بيتنا] (1) وأنا صبي قال: فذهبت لأخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله: تعال أعطك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما أردت أن تُعطِيه؟". قالت: تمرا. فقال: "أما إنك لو لم تفعلي كُتِبت عليك كِذْبة" (2)
وذهب الإمام مالك، رحمه الله، إلى أنه إذا تعلق بالوعد غُرم على الموعود وجب الوفاء به، كما لو قال لغيره: "تزوج ولك علي كل يوم كذا". فتزوجَ، وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك، لأنه تعلق به حق آدمي، وهو مبني على المضايقة. وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقا، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فَرضِيَّة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم، كقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء : 77، 78]. وقال تعالى: { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } الآية [محمد : 20] وهكذا هذه الآية معناها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لَوَدِدْنَا أن الله -عز وجل-دلنا على أحب الأعمال إليه، فنعملَ به. فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمانٌ به (3) لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به. فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين، وشق عليهم أمره، فقال الله سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } ؟. وهذا اختيار ابن جرير (4) .
وقال مقاتل بن حَيّان: قال المؤمنون: لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا به. فدلهم الله على أحب الأعمال إليه، فقال: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا } فبين لهم، فابتلوا يوم أحد بذلك، فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين، فأنزل الله في ذلك: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } ؟ وقال: أحبكم إلي من قاتل في سبيلي.
ومنهم من يقول: أنزلت في شأن القتال، يقول الرجل: "قاتلت"، ولم يقاتل (5) وطعنت" ولم يطعن و "ضربت"، ولم يضرب و "صبرت"، ولم يصبر.
وقال قتادة، والضحاك: نزلت (6) توبيخًا لقوم كانوا يقولون: "قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا". ولم يكونوا فعلوا ذلك.
__________
(1) زيادة من المسند.
(2) المسند (3/447) وسنن أبي داود برقم (4991).
(3) في م: "إيمان بالله".
(4) تفسير الطبري (28/56).
(5) في م: "ولم أقاتل".
(6) في م: "أنزلت".
وقال ابن يزيد: نزلت في قوم من المنافقين، كانوا يَعدون المسلمين النصرَ، ولا يَفُون لهم بذلك.
وقال مالك، عن زيد بن أسلم: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } ؟، قال: في الجهاد.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } إلى قوله: { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } فما بين ذلك: في نفر من الأنصار، فيهم عبد الله بن رواحة، قالوا في مجلس: لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله، لعملنا بها حتى نموت. فأنزل الله هذا فيهم. فقال عبد الله بن رواحة: لا أبرح (1) حبيسا في سبيل الله حتى أموت. فقتل شهيدًا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مُسْهِر (2) عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي (3) عن أبيه قال: بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة، فدخل عليه منهم ثلاثمائة رجل، كلهم قد قرأ القرآن، فقال. أنتم قراء أهل البصرة وخيارهم. وقال: كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات، فأنسيناها، غير أني قد حفظت منها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ } فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة.
ولهذا قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } فهذا إخبار منه تعالى بمحبة عباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى، يقاتلون في سبيل الله مَن كفر بالله، لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا هُشَيْم، قال مُجالد أخبرنا عن أبي الودَّاك، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال".
ورواه ابن ماجة من حديث مجالد، عن أبي الوَدَّاك جبر بن نوف، به (4) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن، حدثنا الأسود -يعني ابن شيبان-حدثني يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال: قال مُطرَف: كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت: يا أبا ذر، كان يبلغني عنك حديث، فكنت أشتهي لقاءك، فقال : لله أبوك ! فقد لقيت، فهات. فقلت: كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة؟ قال: أجل، فلا إخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم. قلت: فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله؟ قال: رجل غزا في سبيل الله، خرج محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل، ثم قرأ { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } وذكر الحديث.
__________
(1) في أ: "فما أبرح".
(2) في أ: "شهر".
(3) في أ: "الديلمي".
(4) المسند (3/80) وسنن ابن ماجة برقم (200) وقال البوصيري في الزوائد (1/87) : "هذا إسناد فيه مقال، مجالد بن سعيد وإن أخرج له مسلم في صحيحه فإنما روى له مقرونًا بغيره قال ابن عدى: عامة ما يرويه غير محفوظ".
هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا السياق، وبهذا اللفظ، واختصره. وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن رِبْعَي بن حِرَاش، عن زيد بن ظَبْيان، عن أبي ذَرّ بأبسط من هذا السياق وأتم (1) وقد أوردناه في موضع آخر، ولله الحمد.
وعن كعب الأحبار أنه قال: يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: "عبدي المتوكل المختار ليس بفَظّ ولا غَليظ ولا صَخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة، وهجرته بطابة، وملكه بالشام، وأمته الحمادون يحمَدُون الله على كلّ حال، وفي كل منزلة، لهم دَوِيٌّ كدوي النحل في جو السماء بالسحَر، يُوَضّون أطرافهم، ويأتزرون على أنصافهم، صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة". ثم قرأ: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } رعاة الشمس، يصلون الصلاة حيث أدركتهم، ولو على ظهر دابة" رواه بن أبي حاتم.
وقال سعيد بن جبير في قوله { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا } قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم، وهذا تعليم من الله للمؤمنين. قال: وقوله: { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } ملتصق بعضه في بعض، من الصف في القتال.
وقال مقاتل بن حيان: ملتصق بعضه إلى بعض.
وقال ابن عباس: { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } مُثَبّت، لا يزول، ملصق بعضه ببعض.
وقال قتادة: { كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } ألم تر إلى صاحب البنيان، كيف لا يحب أن يختلف بنيانه؟ فكذلك الله عز وجل [يحب أن] (2) لا يختلف أمره، وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عصمة لمن أخذ به. أورد ذلك كله ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عَمرو السكوني، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن يحيى بن جابر الطائي، عن أبي بحرية (3) قال: كانوا يكرهون القتال على الخيل، ويستحبون القتال على الأرض، لقول الله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } قال: وكان أبو بحرية (4) يقول: إذا رأيتموني التفتُّ في الصف فَجَثُوا في لَحيي (5)
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2568) وسنن النسائي (5/84، 3/207) وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح".
(2) زيادة من م، أ.
(3) في أ: "عن أبي يحيى به".
(4) في أ: "أبو بحيرة".
(5) تفسير الطبري (28/57).