الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
قال أبو جعفر بن جرير، رحمه الله، بعد حكايته الإجماع على إباحة تزويج الكتابيات: وإنما كره عمر ذلك، لئلا يزهد الناس في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، كما حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا ابن إدريس، حدثنا الصلت بن بهرام، عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر: خَل سبيلها، فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخَلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن (1) .
وهذا إسناد صحيح، وروى الخلال عن محمد بن إسماعيل، عن وَكِيع، عن الصلت (2) نحوه.
وقال ابن جرير: حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا سفيان (3) بن سعيد، عن يزيد بن أبي زياد، عن زيد بن وهب قال: قال [لي] (4) عمر بن الخطاب: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة.
قال: وهذا أصح إسنادًا من الأول (5) (6) .
ثم قال: وقد حدثنا تميم بن المنتصر، أخبرنا إسحاق الأزرق (7) عن شريك، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا".
ثم قال: وهذا الخبر -وإن كان في إسناده ما فيه -فالقول به لإجماع الجميع من الأمة على صحة القول (8) به (9) .
كذا قال ابن جرير، رحمه الله.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا وَكِيع، عن جعفر بن بُرْقان، عن ميمون بن مِهْران، عن ابن عمر: أنه كره نكاح أهل الكتاب، وتأول (10) { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ }
وقال البخاري: وقال ابن عمر: لا أعلم شركًا أعظم من أن تقول: ربها (11) عيسى (12) .
وقال أبو بكر الخلال الحنبلي: حدثنا محمد بن هارون (13) حدثنا إسحاق بن إبراهيم وأخبرني محمد بن علي، حدثنا صالح بن أحمد: أنهما سألا أبا عبد الله أحمد بن حنبل، عن قول
__________
(1) تفسير الطبري (4/366).
(2) في جـ: "عن الفضل".
(3) في أ: "شقيق".
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ: "وهذا إسناد أصح من الأول".
(6) تفسير الطبري (4/367).
(7) في أ: "وقد حدثنا تميم بن المنتصر، أخبرنا عثمان بن المنتصر، أخبرنا إسحاق الأزرق".
(8) في جـ، أ، و: "الجميع من الأمة عليه".
(9) تفسير الطبري (4/367).
(10) في جـ: "ولا يتأول".
(11) في أ: "ربنا".
(12) صحيح البخاري برقم (5285) وهو هنا موصولا عن ابن عمر.
(13) في أ، و: "محمد بن أبي هارون".
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
الله: { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } قال: مشركات العرب الذين يعبدون الأوثان (1) .
وقوله: { وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } قال السدي: نزلت في عبد الله بن رواحة، كانت له أمة سوداء، فغضب عليها فلطمها، ثم فزع، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره خبرها. فقال له: "ما هي؟" قال: تصوم، وتصلي، وتحسن الوضوءَ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: "يا أبا عبد الله، هذه مؤمنة". فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقَنَّها ولأتزوجَنها (2) . ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين، وقالوا: نكح أمَة. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين، ويُنكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل الله: { وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ }
وقال عبد بن حميد: حدثنا جعفر بن عون، حدثنا عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكحوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن (3) وانكحوهن على الدين، فلأمة سوداء خَرْماء ذات دين أفضل" (4) . والإفريقي ضعيف.
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك" (5) . ولمسلم عن جابر مثله (6) . وله، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" (7) .
وقوله: { وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } أي: لا تُزَوّجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات، كما قال تعالى: { لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [الممتحنة: 10].
ثم قال تعالى: { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } أي: ولرجل مؤمن -ولو كان عبدًا حبشيًا -خير من مشرك، وإن كان رئيسًا سَرِيًا (8) { أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } أي: معاشَرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة، وعاقبة ذلك وخيمة { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ } أي: بشرعه وما أمر به وما نهى عنه { وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) }
__________
(1) في جـ، أ، و: "الأصنام".
(2) في أ: "لأعتقها ولأتزوجنها".
(3) في جـ: "أن يطغيهن".
(4) المنتخب لعبد بن حميد برقم (328).
(5) صحيح البخاري برقم (5090) وصحيح مسلم برقم (1466).
(6) صحيح مسلم برقم (715).
(7) صحيح مسلم برقم (1457).
(8) في جـ: "شريفا".
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يُؤَاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحابُ النبي [النبيَّ] (1) صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } حتى فرغ من الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح". فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يَدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه! فجاء أسيد بن حُضَير وعبَّاد بن بشر فقالا يا رسول الله، إن اليهود قالت كذا وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن (2) قد وَجَدَ عليهما، فخرجا، فاستقبلتهما (3) هدية من لبن إلى رسول (4) الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفا أن لم يَجدْ عليهما.
رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة (5) .
فقوله: { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } يعني [في] (6) الفَرْج، لقوله: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" (7) ؛ ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه تجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، عن أيوب، عن عكرمة، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئًا، ألقى على فرجها ثوبًا (8) .
وقال أبو داود أيضًا: حدثنا القَعْنَبِيّ، حدثنا عبد الله -يعني ابن عمر بن غانم -عن عبد الرحمن -يعني ابن زياد -عن عمارة بن غُرَاب: أن عمَّة له حدثته: أنها سألت عائشة قالت: إحدانا تحيض، وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد؟ قالت: أخبرك بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخل فمضى إلى مسجده -قال أبو داود: تعني مسجد بيتها -فما انصرف حتى غلبتني عيني، وأوجعه البرد، فقال: "ادني مني". فقلت: إني حائض. فقال: "اكشفي عن فخذيك". فكشفت فخذي، فوضع خدّه وصدره على فخذي، وحنَيت (9) عليه حتى دفئ ونام صلى الله عليه وسلم (10) .
وقال: أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب عن كتاب أبي قلابة: أن مسروقًا ركب إلى عائشة، فقال: السلام على النبي وعلى أهله (11) . فقالت عائشة: أبو (12)
__________
(1) زيادة من أ، و.
(2) في جـ: "أنه".
(3) في أ، و: "فاستقبلهما".
(4) في جـ: "من لبن لرسول".
(5) المسند (3/132) وصحيح مسلم برقم (302).
(6) زيادة من أ.
(7) في جـ، أ، و: "إلا الجماع".
(8) سنن أبي داود برقم (272)
(9) في أ: "وحننت".
(10) سنن أبي داود برقم (270).
(11) في جـ: "الصلاة على النبي وعلى آله".
(12) في أ: "ابن".
عائشة! مرحبًا مرحبًا. فأذنوا له فدخل، فقال: إني أريد أن أسألك (1) عن شيء، وأنا أستحي. فقالت: إنما أنا أمّك، وأنت ابني. فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالت: له كل شيء إلا فرجها (2) .
ورواه أيضًا عن حميد بن مسعدة، عن يزيد بن زريع، عن عيينة بن عبد الرحمن بن جَوْشن، عن مروان الأصفر، عن مسروق قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع .
وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وعكرمة.
وروى ابن جرير أيضًا، عن أبي كُرَيْب، عن ابن أبي زائدة، عن حجاج، عن ميمون بن مِهْران، عن عائشة قالت: له ما فوق الإزار.
قلت: وتحل مضاجعتها ومؤاكلتها بلا خلاف. قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض، وكان يتكئ في حجري وأنا حائض، فيقرأ القرآن (3) . وفي الصحيح عنها قالت: كنت أتعرّق العَرْق وأنا حائض، فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وأشرب الشراب فأناوله، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب (4) .
وقال أبو داود: حدثنا مُسَدَّد، حدثنا يحيى، عن جابر بن صُبْح (5) سمعت خلاسًا الهَجَري قال: سمعت عائشة تقول: كنت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت في الشعار الواحد، وإني حائض طامث، فإن أصابه مني شيء، غسل مكانه لم يَعْدُه، وإن أصاب -يعني ثوبه -شيء غسل مكانه لم يَعْدُه، وصلى فيه (6) .
فأما ما رواه أبو داود: حدثنا سعيد بن عبد الجبار، حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد -عن أبي اليمان، عن أم ذرة، عن عائشة: أنها قالت: كنتُ إذا حضْتُ نزلت عن المثَال على الحصير، فلم نقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ندن منه حتى نطهر (7) -فهو محمول (8) على التنزه والاحتياط.
وقال آخرون: إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار، كما ثبت في الصحيحين، عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت: كان النبي (9) صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض (10) . وهذا لفظ البخاري. ولهما عن عائشة نحوه (11) .
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة من حديث العلاء بن الحارث، عن حزام
__________
(1) في أ: "إني سائلك".
(2) تفسير الطبري (4/378).
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (297).
(4) صحيح مسلم برقم (300).
(5) في جـ، أ، و: "صبيح".
(6) سنن أبي داود برقم (269).
(7) سنن أبي داود برقم (271).
(8) في جـ: "فمحمول".
(9) في جـ: "كان رسول الله".
(10) صحيح البخاري برقم (303) وصحيح مسلم برقم (294).
(11) صحيح البخاري برقم (300) وصحيح مسلم برقم (293).
بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري: أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: ما يَحِل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: "ما (1) فوق الإزار" (2) .
ولأبي داود أيضًا، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل لي من امرأتي وهي حائض (3) . قال: "ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل". وهو رواية عن عائشة -كما تقدم -وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وشريح.
فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه الله، الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم. ومأخذهم (4) أنه حريم الفرج، فهو حرام، لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عز وجل، الذي أجمع العلماء على تحريمه، وهو المباشرة في الفرج. ثم من فعل ذلك فقد أثم، فيستغفر الله ويتوب إليه. وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: نعم، لما رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض: "يتصدق بدينار، أو نصف دينار" (5) . وفي لفظ للترمذي: "إذا كان دمًا أحمر فدينار، وإن كان دمًا أصفر فنصف دينار". وللإمام أحمد أيضًا، عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض تصاب، دينارًا فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل، فنصف دينار.
والقول الثاني: وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي، وقول الجمهور: أنه لا شيء في ذلك، بل يستغفر الله عز وجل، لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث، فإنه [قد] (6) روي مرفوعًا كما تقدم وموقوفًا، وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث، فقوله تعالى: { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } تفسير لقوله: { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } ونهي عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودًا، ومفهومه حله إذا انقطع، [وقد قال به طائفة من السلف. قال القرطبي: وقال مجاهد وعكرمة وطاوس: انقطاع الدم يحلها لزوجها ولكن بأن تتوضأ] (7) .
وقوله: { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال. وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة، لقوله: { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } وليس له في ذلك مستند، لأن هذا أمر بعد الحظر. وفيه أقوال لعلماء الأصول، منهم من يقول: إنه للوجوب كالمطلق. وهؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم، ومنهم من يقول: إنه للإباحة، ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب، وفيه نظر. والذي ينهض عليه الدليل أنه يُرَدّ الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي، فإن كان واجبًا فواجب، كقوله تعالى:
__________
(1) في جـ: "لك ما".
(2) المسند (4/342) وسنن أبي داود برقم (212) وسنن الترمذي برقم (133) وسنن ابن ماجة برقم (651).
(3) سنن أبي داود برقم (213).
(4) في أ، و: "ومأخذه".
(5) المسند (1/230) وسنن أبي داود برقم (266) وسنن الترمذي برقم (136) وسنن النسائي الكبرى برقم (282).
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ، أ.
{ فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 5] ، أو مباحًا فمباح، كقوله تعالى: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [المائدة: 2]، { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ } [الجمعة: 10] وعلى هذا القول تجتمع الأدلة، وقد حكاه الغزالي وغيره، واختاره بعض أئمة المتأخرين، وهو الصحيح.
وقد اتفق العلماء (1) على أن المرأة إذا انقطع حيضُها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم، إن (2) تعذر ذلك عليها بشرطه، [إلا يحيى بن بكير من المالكية وهو أحد شيوخ البخاري، فإنه ذهب إلى إباحة وطء المرأة بمجرد انقطاع دم الحيض، ومنهم من ينقله عن ابن عبد الحكم أيضا، وقد حكاه القرطبي عن مجاهد وعكرمة عن طاوس كما تقدم] (3) . إلا أن أبا حنيفة، رحمه الله، يقول (4) فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض، وهو عشرة أيام عنده: إنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل [ولا يصح لأقل من ذلك المزيد في حلها من الغسل ويدخل عليها وقت صلاة إلا أن تكون دمثة، فيدخل بمجرد انقطاعه] (5) والله أعلم.
وقال ابن عباس: { حَتَّى يَطْهُرْنَ } أي: من الدم { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أي: بالماء. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، ومقاتل بن حيان، والليث بن سعد، وغيرهم.
وقوله: { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: يعني الفَرْج؛ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } يقول في الفرج ولا تَعْدوه (6) إلى غيره، فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى.
وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة: { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } أي: أن تعتزلوهن. وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر، كما سيأتي تقريره قريبًا.
وقال أبو رَزين، وعكرمة، والضحاك وغير واحد: { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } يعني: طاهرات غير حُيَّض، ولهذا قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } أي: من الذنب وإن تكرر (7) غشْيانه، { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } أي: المتنزهين عن (8) الأقذار والأذى، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض، أو في غير المأتى.
وقوله: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } قال ابن عباس: الحرث موضع الولد { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أي: كيف شئْتم مقبلة ومدبرة في صِمام واحد، كما ثبتت بذلك الأحاديث.
قال البخاري: حدثنا أبو نُعيم، حدثنا سفيان عن ابن المنْكَدر قال: سَمعت جابرًا قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ورواه داود (9) من حديث سفيان الثوري به (10) .
__________
(1) في جـ: "جمهور العلماء".
(2) في جـ: "أو".
(3) زيادة من جـ، أ.
(4) في جـ: "إلا أبا حنيفة وصاحبيه فإنهم رحمهم الله يقولون".
(5) زيادة من جـ.
(6) في جـ: "ولا تعداه".
(7) في جـ: "وإن تكون".
(8) في جـ، أ: "من".
(9) في جـ، أ، و: "ورواه مسلم وأبو داود".
(10) صحيح البخاري برقم (4528).
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن سعيد الثوري: أن محمد بن المنكدر حدثهم: أن (1) جابر بن عبد الله أخبره: أن اليهود قالوا للمسلمين: من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول، فأنزل الله عز وجل: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }
قال ابن جريج في الحديث: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مقبلة ومدبرة، إذا كان ذلك في الفرج".
وفي حديث بَهْز بن حكيم بن معاوية بن حَيْدة القشيري، عن أبيه، عن جده أنه قال: يا رسول الله، نساؤنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "حرثك، ائت حرثك أنى شئت، غير ألا تضربَ الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في المبيت (2) . الحديث، رواه أحمد، وأهل السنن (3) .
حديث آخر: قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن لَهِيعة عن يزيد ابن أبي حبيب، عن عامر بن يحيى، عن حنش بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس قال: أتى ناس من حمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه عن أشياء، فقال له رجل: إني أجبي النساء، فكيف ترى في ذلك، فأنزل الله: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } (4) .
حديث آخر: قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه "مشكل الحديث": حدثنا أحمد بن داود بن موسى، حدثنا يعقوب بن كاسب، حدثنا عبد الله بن نافع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا أصاب امرأة في دبرها، فأنكر الناس عليه ذلك، فأنزل الله: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ورواه ابن جرير عن يونس وعن يعقوب، به (5) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم (6) عن عبد الرحمن بن سابط قال: دخلت على حفصة ابنة (7) عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت: إني سائلك عن أمر، وإنى (8) أستحيي أن أسألك. قالت: فلا تستحي يا ابن أخي. قال: عن إتيان النساء في أدبارهن؟ قالت: حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا لا يَجُبّون النساء، وكانت اليهود تقول: إنه من جَبَّى امرأته كان الولد أحول، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار، فجبَّوهُنّ، فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت: لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك، فقالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استحيت الأنصارية أن تسأله، فخرجت، فحدثت أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ادعي الأنصارية": فدُعيَتْ، فتلا عليها هذه الآية: " { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } صمامًا واحدًا".
__________
(1) في جـ: "عن".
(2) في جـ، أ، و: "في البيت".
(3) المسند (5/3) وسنن أبي داود برقم (2143) وسنن النسائي الكبرى برقم (9160).
(4) ورواه الطبري في تفسيره (4/413) والطبراني في المعجم الكبير (12/237) من طريق ابن لهيعة به.
(5) مشكل الآثار برقم (6118).
(6) في جـ: "بن خيثم".
(7) في أ: "بنت".
(8) في جـ: "وأنا".
ورواه الترمذي، عن بُنْدَار، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن ابن خُثَيْم (1) به (2) . وقال: حسن.
قلت: وقد روي من طريق حماد بن أبي حنيفة، عن أبيه، عن ابن خُثَيْم (3) عن يوسف بن ماهَك، عن حفصة أم المؤمنين: أن امرأة أتتها فقالت: إن زوجي يأتيني مُحيّيَة ومستقبلة فكرهته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا بأس إذا كان في صمام واحد" (4) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا يعقوب -يعني القَمي (5) -عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت! قال: "ما الذي أهلكك؟ " قال: حولت رحلي البارحة! قال: فلم يرد عليه شيئًا. قال: فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أقبل وأدبر، واتق الدبر والحيضة".
رواه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن حسن بن موسى الأشيب، به (6) . وقال: حسن غريب.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غَيْلان، حدثنا رِشْدين، حدثني الحسن بن ثوبان، عن عامر بن يحيى المعافري، عن حَنَش، عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } في أناس من الأنصار، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "آتها على كل حال، إذا كان في الفرج" (7) .
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحارث بن سريج (8) حدثنا عبد الله بن نافع، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد قال: أثفر رجل امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أثفر فلان امرأته، فأنزل الله عز وجل: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (9) .
وقال أبو داود: حدثنا عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ، قال: حدثني محمد -يعني ابن سلمة -عن محمد ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: إن ابن عمر -والله يغفر له -أوهم، إنما كان أهل هذا الحي من الأنصار -وهم أهل وثن -مع أهل هذا الحي من يهود -وهم أهل كتاب -وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف، وذلك أستر ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يَشْرَحون النساء شرحًا منكرًا، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات. فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من
__________
(1) في جـ: "خيثم".
(2) المسند (6/304) وسنن الترمذي برقم (2979).
(3) في جـ: "خيثم".
(4) مسند أبي حنيفة برقم (102).
(5) في جـ: "العمى".
(6) المسند (1/297) وسنن الترمذي برقم (2980).
(7) المسند (1/268).
(8) في هـ: "شريح".
(9) مسند أبي يعلى (2/354) وقال الهيثمي في المجمع (6/319): "شيخه الحارث بن سريج، ضعيف كذاب" ولكنه توبع، تابعه يعقوب بن حميد، فرواه عن عبد الله بن نافع عن هشام، عن زيد بن أسلم به، أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار برقم (6118) وقد سبق.
الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك، فأنكرته عليه، وقالت: إنما كنا نُؤتى على حرف. فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، فسرى أمرهما، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أي: مقبلات، ومدبرات، ومستلقيات -يعني بذلك موضع الولد (1) .
تفرد به أبو داود، ويشهد (2) له بالصحة ما تقدم من الأحاديث، ولا سيما رواية أم سلمة، فإنها مشابهة لهذا السياق.
وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو القاسم الطبراني من طريق محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه (3) عند كل آية منه (4) وأسأله عنها، حتى انتهيت إلى هذه الآية: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فقال ابن عباس: إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون (5) النساء بمكة، ويتلذذون بهن.. فذكر القصة بتمام سياقها (6) .
وقول ابن عباس: "إن ابن عمر -والله يغفر له -أوهم". كأنه يشير إلى ما رواه البخاري:
حدثنا إسحاق، حدثنا النضر بن شميل، أخبرنا ابن عون عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغُ منه، فأخذت عليه يومًا فقرأ سورة البقرة، حتى انتهى إلى مكان قال (7) :أتدري فيم أنزلت؟ قلت: لا. قال: أنزلت في كذا وكذا. ثم مضى. وعن عبد الصمد قال: حدثني أبي، حدثني أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } قال: يأتيها في.. (8) .
هكذا رواه البخاري، وقد تفرد به من هذه الوجوه (9) .
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا ابن عون، عن نافع قال: قرأت ذات يوم: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فقال ابن عمر: أتدري فيم نزلت؟ قلت: لا. قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن (10) .
وحدثني أبو قلابة، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني أبي، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } قال: في الدبر (11) .
وروي من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر، ولا يصح.
وروى النسائي، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر: أن رجلا أتى امرأته في دبرها، فوجد في نفسه من ذلك
__________
(1) سنن أبي داود برقم (2164).
(2) في جـ: "وشهد".
(3) في حـ، أ، و: "أوقفه عليه".
(4) في جـ: "فيه".
(5) في جـ: "يشرخون".
(6) المعجم الكبير (11/77).
(7) في جـ: "فقال".
(8) بياض في جميع النسخ، وفي فتح الباري 8/130: "كذا وقع في جميع النسخ، لم يذكر ما بعد الظرف وهو المجرور، ووقع في الجمع بين الصحيحين للحميدي: يأتيها في الفرج. وهو من عنده بحسب ما فهمه" ومستفادا من هامش ط. الشعب.
(9) صحيح البخاري برقم (4526).
(10) تفسير الطبري (4/404).
(11) تفسير الطبري (4/406).
وجدًا شديدًا، فأنزل الله: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (1) .
قال أبو حاتم الرازي: لو كان هذا عند زيد بن أسلم، عن ابن عمر لما أولع (2) الناس بنافع. وهذا تعليل منه لهذا الحديث.
وقد رواه عبد الله بن نافع، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عمر -فذكره.
وهذا محمول على ما تقدم، وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها، لما رواه النسائي أيضًا عن علي بن عثمان النفيلي، عن سعيد بن عيسى، عن المفضل (3) بن فضالة عن عبد الله بن سليمان الطويل، عن كعب بن علقمة، عن أبي النضر: أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر: إنه قد أكثر عليك القول: إنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال: كذبوا علي، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر: إن ابن عمر عرض المصحف يومًا وأنا عنده، حتى بلغ: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فقال: يا نافعُ، هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت (4) :لا. قال: إنا كنا معشر قريش نُجبِّي (5) النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار، أردنا منهن مثل ما كنا نريد فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود، إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (6) .
وهذا إسناد صحيح، وقد رواه ابن مردويه، عن الطبراني، عن الحسين بن إسحاق، عن زكريا (7) بن يحيى الكاتب العمري، عن مفضل بن فضالة، عن عبد الله بن عياش (8) عن كعب بن علقمة، فذكره. وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحا، وأنه لا يباح ولا يحل كما سيأتي، وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم، وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر (9) وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك، رحمه الله. وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه؛ فقال الحسن بن عرفة:
حدثنا إسماعيل بن عياش (10) عن سهيل (11) بن أبي صالح، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استحيوا، إن الله لا يستحيي من الحق، لا يحل مأتى النساء في حشوشهن" (12) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن عبد (13) بن شداد عن رجل عن خزيمة بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها (14) .
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (8981).
(2) في جـ: "لما ولع".
(3) في جميع المخطوطات: "الفضل"، والصواب ما أثبتناه.
(4) في جـ، أ: "قال".
(5) في أ: "نجب".
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (8978).
(7) في أ: "عن أبي زكريا".
(8) في أ: "عباس".
(9) في أ: "السير".
(10) في أ: "عباس".
(11) في جـ، أ: "عن سهل".
(12) ورواه الدارقطني في السنن (3/288) من طريق الحسن بن عرفة به.
(13) في جـ، أ: "عن عبد الله".
(14) المسند (5/215) وسنن النسائي الكبرى برقم (8985 ، 8986) وسنن ابن ماجة برقم (1924) وانظر الاختلاف فيه في: سنن النسائي (5/316 - 319).
طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا يعقوب، سمعت أبي يحدث، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة ابن الهاد: أن عبيد الله بن الحصين الوالبي حَدَّثه أن هرمي بن عبد الله الواقفي حدثه: أن خزيمة بن ثابت الخطمي حدثه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يستحيي الله من الحق، لا يستحي الله من الحق -ثلاثا -لا تأتوا النساء في أعجازهن".
ورواه النسائي، وابن ماجة من طرق، عن خزيمة بن ثابت. وفي إسناده اختلاف كثير.
حديث آخر: قال أبو عيسى الترمذي، والنسائي: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن الضحاك بن عثمان، عن مَخْرمة بن سليمان، عن كُرَيْب، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر". ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (1) . وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه (2) . وصححه ابن حزم أيضًا. ولكن رواه النسائي، عن هناد، عن وكيع، عن الضحاك، به (3) موقوفًا.
وقال عبد: أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه: أن رجلا سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها، قال (4) : تسألني عن الكفر! [إسناد صحيح] (5) .
وكذا رواه النسائي، من طريق ابن المبارك، عن معمر (6) -به نحوه.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن عَمْرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى" (7) .
وقال عبد الله بن أحمد: حدثني هدبة، حدثنا همام، قال: سُئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها. فقال قتادة: حدثنا عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هي اللوطية الصغرى".
قال قتادة: وحدثني عقبة بن وسَّاج، عن أبي الدرداء قال: وهل يفعل ذلك إلا كافر؟ (8) .
وقد روى هذا الحديث يحيى بن سعيد القطان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو (9) بن العاص، قوله. وهذا أصح، والله أعلم.
وكذلك رواه عبد بن حميد، عن يزيد بن هارون، عن حميد الأعرج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، موقوفًا من قوله.
طريق أخرى: قال جعفر الفريابي: حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لهيعة، عن عبد الرحمن بن زياد بن العم، عن أبي عبد الرحمن الحُبلي، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبعة لا ينظر
__________
(1) سنن الترمذي برقم (1165) وسنن النسائي الكبرى برقم (9001).
(2) صحيح ابن حبان برقم (1302) "موارد".
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (9002).
(4) في جـ: "فقال".
(5) زيادة من جـ، أ، و.
(6) في هـ: "عن عكرمة" وهو خطأ.
(7) المسند (2/210).
(8) زوائد المسند (2/210).
(9) في جـ: "عمر".
الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم، ويقول: ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل والمفعول به، والناكح يده، وناكح البهيمة، وناكح المرأة في دبرها، وجامع بين المرأة وابنتها، والزاني بحليلة جاره، والمؤذي جاره حتى يلعنه" (1) .
ابن لَهيعة وشيخه ضعيفان.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن عاصم، عن عيسى بن حطان، عن مُسْلم بن سَلام، عن علي بن طلق، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تؤتى النساء في أدبارهن؛ فإن الله لا يستحيي من الحق (2) .
وأخرجه أحمد أيضًا، عن أبي معاوية، وأبو عيسى الترمذي من طريق أبي معاوية أيضًا، عن عاصم الأحول [به] (3) وفيه زيادة، وقال: هو حديث حسن (4) .
ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب، كما وقع في مسند الإمام أحمد بن حنبل (5) والصحيح أنه علي بن طلق.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن سُهَيل بن أبي صالح، عن الحارث بن مُخلَّد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه".
وحدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا سهيل، عن الحارث بن مخلد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (6) صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها".
وكذا رواه ابن ماجة من طريق سهيل (7) .
وحدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح، عن الحارث بن مخلد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملعون من أتى امرأة في دبرها".
وهكذا رواه أبو داود، والنسائي من طريق وَكِيع، به (8) .
طريق أخرى: قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: أخبرنا أحمد بن القاسم بن الريان، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي، حدثنا هناد، ومحمد بن إسماعيل -واللفظ له -قالا حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ملعون من أتى امرأة في دبرها" (9) .
__________
(1) ورواه أبو الشيخ في مجلس من حديثه (62/1 ، 2)، وابن بشران في الأمالي (86/1 ، 2) من طرق عن عبد الرحمن بن زياد الأفريقي به. أ. هـ مستفادا من إرواء الغليل للألباني (8/59).
(2) ذكره ابن حجر في أطراف المسند (4/384) ولم أجده في المطبوع.
(3) زيادة من جـ، أ.
(4) ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (4/384) وسنن الترمذي برقم (1164).
(5) المسند (1/86).
(6) في أ، و: "عن أبي هريرة عن النبي".
(7) المسند (2/344) وسنن ابن ماجة برقم (1923).
(8) المسند (2/444) وسنن أبي داود برقم (2162) وسنن النسائي الكبرى برقم (9015).
(9) رواه أبو نعيم في جزء له عال عن أحمد بن القاسم بن الريان، قال الذهبي: "فيه ما ينكر".
ليس هذا الحديث هكذا في سنن النسائي، وإنما الذي فيه عن سهيل، عن الحارث بن مخلد، كما تقدم.
قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: ورواية أحمد بن القاسم بن الريان هذا الحديث بهذا السند، وَهْمٌ منه، وقد ضعفوه.
طريق أخرى: رواها (1) مسلم بن خالد الزِّنْجي، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى عليه وسلم قال: "ملعون من أتى النساء في أدبارهن".
ومسلم بن خالد فيه كلام، والله أعلم.
طريق أخرى: رواها الإمام أحمد، وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة، عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهُجيْمي، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها، أو كاهنًا فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد" (2) .
وقال الترمذي: ضعف البخاري هذا الحديث. والذي قاله البخاري في حديث حكيم [الأثرم] (3) عن أبي تميمة: لا يتابع في حديثه (4) .
طريق أخرى: قال النسائي: حدثنا عثمان بن عبد الله، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن من كتابه، عن عبد الملك بن محمد الصنعاني، عن سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استحيوا من الله حق الحياء، لا تأتوا النساء في أدبارهن" (5) .
تفرد به النسائي من هذا الوجه.
قال حمزة بن محمد الكنَاني الحافظ: هذا حديث منكر باطل من حديث الزهري، ومن حديث أبي سلمة ومن حديث سعيد؛ فإن كان عبد الملك سمعه من سعيد، فإنما سمعه بعد الاختلاط، وقد رواه الزهري عن أبي سلمة أنه كان ينهى عن ذلك، فأما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا. انتهى كلامه.
وقد أجاد وأحسن الانتقاد؛ إلا أن عبد الملك [بن محمد] (6) الصنعاني لا يعرف أنه اختلط، ولم يذكر ذلك أحد غير حمزة الكناني، وهو ثقة، ولكن تكلم فيه دُحَيْم، وأبو حاتم، وابن حبان، وقال: لا يجوز الاحتجاج به، فالله أعلم. وقد تابعه زيد بن يحيى بن (7) عبيد، عن سعيد بن عبد العزيز. وروي من طريقين آخرين، عن أبي سلمة. ولا يصح منها شيء.
طريق أخرى: قال النسائي: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن أبي هريرة قال: إتيان الرجال النساء (8) في
__________
(1) في جـ: "رواية"، وفي أ، و: "ورواه".
(2) المسند (2/408) وسنن أبي داود برقم (3904) وسنن الترمذي برقم (135) وسنن النسائي الكبرى برقم (9016) وسنن ابن ماجة برقم (639).
(3) زيادة من جـ، أ، وفي و: "حكيم الترمذي".
(4) التاريخ الكبير (3/17).
(5) سنن النمسائي الكبرى برقم (9010).
(6) زيادة من جـ، أ، و.
(7) في جـ: "عن".
(8) في جـ، أ: "والنساء".
أدبارهن كفر (1) .
ثم رواه، عن بُنْدَار، عن عبد الرحمن، به. قال: من أتى امرأة (2) في دبرها ملك (3) كفره (4) . هكذا رواه النسائي، من طريق الثوري، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة موقوفًا. وكذا رواه من طريق علي بن بذيمة، عن مجاهد، عن أبي هريرة -موقوفًا (5) . ورواه بكر بن خنيس، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى شيئًا من الرجال والنساء في الأدبار فقد كفر" والموقوف أصح، وبكر بن خنيس ضعفه غير واحد من الأئمة، وتركه آخرون (6) .
حديث آخر: قال محمد بن أبان البلخي: حدثنا وكيع، حدثنا زمعة بن صالح، عن ابن طاوس، عن أبيه -وعن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن يزيد بن الهاد قالا قال عمر بن الخطاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن" (7) .
وقد رواه النسائي: حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني، عن عثمان بن اليمان، عن زمعة بن صالح، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن الهاد، عن عمر قال: "لا تأتوا النساء في أدبارهن" (8) .
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي حكيم، عن زمعة بن صالح، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن عبد الله بن الهاد الليثي قال: قال عمر رضي الله عنه: استحيوا من الله، فإن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن (9) . الموقوف أصح.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا غُنْدَر ومعاذ بن معاذ قالا حدثنا شعبة عن عاصم الأحول، عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلام، عن طلق بن يزيد -أو يزيد بن طلق -عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أستاههن" (10) .
وكذا رواه غير واحد، عن شعبة. ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عن عاصم الأحول، عن عيسى بن حطان، عن مسلم بن سلام، عن طلق بن علي، والأشبه أنه علي بن طلق، كما تقدم، والله أعلم.
حديث آخر: قال أبو بكر الأثرم في سننه: حدثنا أبو مسلم الحَرَميّ، حدثنا أخي أنيس بن إبراهيم (11) أن أباه إبراهيم بن عبد الرحمن بن القعقاع أخبره، عن أبيه أبي القعقاع، عن ابن مسعود،
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (9018).
(2) في جـ، أ، و: "امرأته".
(3) في جـ: "تلك"، وفي أ: "وذلك".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (9019).
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (9021).
(6) رواه العقيلي في الضعفاء الكبير (1/149).
(7) ذكره الدارقطني في العلل (2/167) قال: "ولم يذكر طاوسا في حديث عمرو بن دينار، وقول عثمان بن اليمان أصحها".
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (9008).
(9) سنن النسائي الكبرى برقم (9009).
(10) ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (4/384) من طريق غندر في مسند علي بن طلق، ولا أدري كيف وقع هنا يزيد بن طلق، وقد بين الحافظ الصواب في ذلك، والله أعلم.
(11) في أ: "أخي أنيس بن أبي تميم".
رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "محاش النساء حرام" (1) .
وقد رواه إسماعيل بن علية، وسفيان الثوري، وشعبة، وغيرهم، عن أبي عبد الله الشقري -واسمه سلمة بن تمام: ثقة -عن أبي القعقاع، عن ابن مسعود -موقوفًا. وهو أصح.
طريق أخرى: قال ابن عدي: حدثنا أبو عبد الله المحاملي، حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا محمد بن حمزة، عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تأتوا النساء في أعجازهن" (2) محمد بن حمزة هو الجزري وشيخه، فيهما مقال.
وقد روي من حديث أبي بن كعب (3) والبراء بن عازب، وعقبة بن عامر (4) وأبي ذر، وغيرهم. وفي كل منها (5) مقال لا يصح معه الحديث، والله أعلم.
وقال الثوري، عن الصَّلت بن بَهْرام، عن أبي المعتمر، عن أبي جويرية (6) قال: سأل رجل عليا عن إتيان امرأة في دبرها، فقال: سفلت، سَفَّلَ الله بك! ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 80].
وقد تقدم قول ابن مسعود، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو في تحريم ذلك، وهو الثابت بلا شك عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أنه يحرمه.
قال أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الدارمي في مسنده: حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا الليث، عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري، أنحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكر الدُّبر. فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟
وكذا رواه ابن وهب وقتيبة، عن الليث، به. وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك، فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم (7) .
وقال ابن جرير: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر (8) حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك بن أنس أنه قيل له: يا أبا عبد الله، إن الناس يروون عن سالم بن عبد الله أنه قال: كذب العبد، أو العلج، على أبي [عبد الله] (9) فقال مالك: أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقيل له: فإن الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار: أنه سأل ابن عمر فقال له: يا أبا عبد الرحمن، إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن؟ فقال: وما التحميض؟ فذكر له الدبر. فقال ابن عمر: أف! أف! أيفعل ذلك مؤمن -أو قال: مسلم -فقال مالك: أشهد على ربيعة
__________
(1) ورواه الدولابي في الكنى (2/85).
(2) الكامل لابن عدي (3/206).
(3) حديث أبي بن كعب رواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (5457) من طريق أبي قلابة، عن زر بن حبيش، عن أبي بن كعب به
(4) حديث عقبة بن عامر رواه ابن عدي في الكامل (4/148) من طريق ابن لهيعة، عن مشرح بن هاعان، عن عقبة به.
(5) في أ: "منهما".
(6) في جـ: "عن أبي جرير به"، وفي أ: "عن أبي جويرة".
(7) في جـ، أ: "هذا الحكم".
(8) في جـ، أ، و: "أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر".
(9) زيادة من جـ.
لأخبرني عن أبي الحباب، عن ابن عمر، مثل ما قال نافع (1) .
وروى النسائي، عن الربيع بن سليمان، عن أصبغ بن الفرج الفقيه، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال: قلت لمالك: إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد (2) بن يسار، قال: قلت لابن عمر: إنا نشتري الجواري، فنحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ قلت: نأتيهن في أدبارهن. فقال: أف! أف! أو يعمل هذا مسلم؟ فقال لي مالك: فأشهد على ربيعة لحدثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر، فقال: لا بأس به (3) .
وروى النسائي أيضًا من طريق يزيد بن رومان، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن ابن عمر (4) كان لا يرى بأسًا أن يأتي الرجل المرأة في دبرها (5) .
وروى معن (6) بن عيسى، عن مالك: أنّ ذلك حرام.
وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: حدثني إسماعيل بن حصين، حدثني إسماعيل (7) بن روح: سألت مالك بن أنس: ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن: قال: ما أنتم قوم عرب. هل يكون الحرث إلا موضع الزرع، لا تعدو الفرج.
قلت: يا أبا عبد الله، إنهم يقولون: إنك تقول ذلك؟! قال: يكذبون علي، يكذبون علي.
فهذا هو الثابت عنه، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة. وهو قول سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، وعكرمة، وطاوس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، ومجاهد بن جبر (8) والحسن وغيرهم من السلف: أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار، ومنهم من يطلق على فاعله (9) الكفر، وهو مذهب جمهور العلماء.
وقد حكي في هذا شيء عن بعض فقهاء المدينة، حتى حكوه عن الإمام مالك، وفي صحته عنه نظر.
[وقد روى ابن جرير في كتاب النكاح له وجمعه عن يونس بن عبد الأحوص بن وهب إباحته] (10) .
قال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج، عن عبد الرحمن بن القاسم قال: ما أدركت أحدًا أقتدي به في ديني يشك أنه حلال. يعني وطء المرأة في دبرها، ثم قرأ: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } ثم قال: فأي شيء أبين من هذا؟ هذه حكاية الطحاوي.
وقد روى (11) الحاكم، والدارقطني، والخطيب البغدادي، عن الإمام مالك من طرق ما يقتضي
__________
(1) تفسير الطبري (4/405).
(2) في أ: "عن سفيان".
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (8979).
(4) في أ، و: "أن عبد الله بن عمر".
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (8980).
(6) في هـ: "معمر" والصواب ما أثبتناه من جـ، أ، و.
(7) في جـ، أ، و: "حدثني إسرائيل".
(8) في جـ: "بن جبير".
(9) في أ، و: "على فعله".
(10) زيادة من جـ، أ، و.
(11) في جـ: "وقد أورد".
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
إباحة ذلك. ولكن في الأسانيد ضعف شديد، وقد استقصاها شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في جزء جمعه في ذلك، فالله أعلم.
وقال الطحاوي: حكى لنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء. والقياس أنه حلال. وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب، عن أبي سعيد الصيرفي، عن أبي العباس الأصم، سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، سمعت الشافعي يقول ... فذكر. قال أبو نصر الصباغ: كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: لقد كذب -يعني ابن عبد الحكم -على الشافعي في ذلك فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة (1) كتب من كتبه، والله أعلم.
وقال القرطبي في تفسيره: وممن ينسب إليه هذا القول -وهو إباحة وطء المرأة في دبرها -سعيد ابن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون. وهذا القول في العتبية. وحكى ذلك عن مالك في كتاب له أسماه كتاب السر، وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له كتاب السر ووقع هذا القول في العتبية، وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند هذا القول إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين وإلى مالك من رواية كثيرة من كتاب جماع النسوان وأحكام القرآن هذا لفظه قال: وحكى الكيا الهراسي الطبري عن محمد بن كعب القرظي أنه استدل على جواز ذلك بقوله: { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ* وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } الشعراء: [165، 166] .
يعني مثله من المباح ثم رده بأن المراد بذلك من خلق الله لهم من فروج النساء لا أدبارهن قلت: وهذا هو الصواب وما قاله القرظي إن كان صحيحًا إليه فخطأ. وقد صنف الناس في هذه المسألة مصنفات منهم أبو العباس القرطبي وسمى كتابه إطهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار.
وقوله تعالى: { وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ } أي: من فعل الطاعات، مع امتثال ما نهاكم عنه من ترك المحرمات؛ ولهذا قال: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ } أي: فيحاسبكم على أعمالكم جميعًا.
{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } أي: المطيعين لله فيما أمرهم، التاركين ما عنه (2) زجرهم.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا حسين، حدثني محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد، عن عطاء -قال: أراه عن ابن عباس -: { وَقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ } قال: يقول: " باسم الله"، التسمية عند الجماع.
وقد ثبت في صحيح البخاري، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جَنِّبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا" (3) .
{ وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) }
__________
(1) في جـ: "في ست".
(2) في أ: "ما عنهم".
(3) صحيح البخاري برقم (141).
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
{ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) }
يقول تعالى: لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها، كقوله تعالى: { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور: 22]، فالاستمرار على اليمين آثَمُ لصاحبها من الخروج منها بالتكفير. كما قال البخاري:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لأن يلجَّ أحدكم بيمينه في أهله آثمُ له عند الله من أن يُعطي كفارته التي افترض الله عليه".
وهكذا رواه مسلم، عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق، به. ورواه أحمد، عنه، به .
ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا معاوية، هو ابن سلام، عن يحيى، وهو ابن أبي كثير، عن عكرمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استلج في أهله بيمين، فهو أعظم إثمًا، ليس تغني الكفارة" .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ } قال: لا تجعلن عرضة ليمينك ألا تصنع الخير، ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير.
وهكذا قال مسروق، والشعبي، وإبراهيم النخعي، ومجاهد، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعطاء، وعكرمة، ومكحول، والزهري، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، والضحاك، وعطاء الخراساني، والسدي. ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت في الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني والله -إن شاء الله -لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها" وثبت فيهما أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: "يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" .
وروى مسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا
منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير" .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا خليفة بن خياط، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فتركها كفارتها" .
ورواه أبو داود من طريق عبيد الله بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية الله، ولا في قطيعة رحم، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليدعها، وليأت الذي هو خير، فإن تركها كفارتها" .
ثم قال أبو داود: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها: " فليكفر عن يمينه" وهي الصحاح.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سعيد الكندي، حدثنا علي بن مُسْهِر، عن حارثة بن محمد، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على قطيعة رحم أو معصية، فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه" .
وهذا حديث ضعيف؛ لأن حارثة [هذا] هو ابن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن، متروك الحديث، ضعيف عند الجميع.
ثم روى ابن جرير عن ابن جبير وسعيد بن المسيب، ومسروق، والشعبي: أنهم قالوا: لا يمين في معصية، ولا كفارة عليها .
وقوله: { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } أي: لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية، وهي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد، كما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله" فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية، قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد، فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الإخلاص، كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد، لتكون هذه بهذه؛ ولهذا قال تعالى: { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } كما قال في الآية الأخرى في المائدة: { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ } [المائدة:89].
قال أبو داود: باب لغو اليمين: حدثنا حميد بن مسعدة الشامي حدثنا حسان -يعني ابن
إبراهيم -حدثنا إبراهيم -يعني الصائغ -عن عطاء: في اللغو في اليمين، قال: قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو كلام الرجل في بيته: كلا والله وبلى والله" .
ثم قال أبو داود: رواه داود بن أبي الفرات، عن إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن عائشة موقوفًا. ورواه الزهري، وعبد الملك، ومالك بن مِعْول، كلهم عن عطاء، عن عائشة، موقوفًا أيضًا.
قلت: وكذا رواه ابن جريج، وابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عائشة، موقوفًا.
ورواه ابن جرير، عن هناد، عن وَكِيع، وعبدة، وأبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قوله: { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } [المائدة:89] قالت: لا والله، بلى والله.
ثم رواه عن محمد بن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن هشام، عن أبيه، عنها. وبه، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم، عنها. وبه، عن سلمة عن ابن أبي نَجِيح، عن عطاء، عنها.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة عن عائشة في قوله: { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } قالت: هم القوم يتدارؤون في الأمر، فيقول هذا: لا والله، وبلى والله، وكلا والله يتدارؤون في الأمر: لا تعقد عليه قلوبهم .
وقد قال ابن أبي حاتم: أخبرنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عبدة -يعني ابن سليمان -عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قول الله: { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } قالت: هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله.
وحدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: كانت عائشة تقول: إنما اللغو في المزاحة والهزل، وهو قول الرجل: لا والله، وبلى والله. فذاك لا كفارة فيه، إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله، ثم لا يفعله.
ثم قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عمر، وابن عباس في أحد أقواله، والشعبي، وعكرمة في أحد قوليه، وعطاء، والقاسم بن محمد، ومجاهد في أحد قوليه، وعروة بن الزبير، وأبي صالح، والضحاك في أحد قوليه، وأبي قلابة، والزهري، نحو ذلك.
الوجه الثاني: قرئ على يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني الثقة، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة: أنها كانت تتأول هذه الآية -يعني قوله: { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } وتقول: هو الشيء يحلف عليه أحدكم، لا يريد منه إلا الصدق، فيكون على غير ما حلف عليه.
ثم قال: وروي عن أبي هريرة، وابن عباس -في أحد قوليه - وسليمان بن يسار، وسعيد بن جبير، ومجاهد -في أحد قوليه -وإبراهيم النخعي -في أحد قوليه -والحسن، وزرارة بن أوفى،
وأبي مالك، وعطاء الخراساني، وبكر بن عبد الله، وأحد قولي عكرمة، وحبيب بن أبي ثابت، والسدي، ومكحول، ومقاتل، وطاوس، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى بن سعيد، وربيعة، نحو ذلك.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن موسى الحرشي حدثنا عبد الله بن ميمون المرالي، حدثنا عوف الأعرابي عن الحسن بن أبي الحسن، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون -يعني: يرمون -ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم فقال: أصبت والله وأخطأت والله. فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله. قال: "كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة" هذا مرسل حسن عن الحسن .
وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عائشة القولان جميعًا.
حدثنا عصام بن رواد، أخبرنا آدم، أخبرنا شيبان، عن جابر، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة قالت: هو قوله: لا والله، وبلى والله، وهو يرى أنه صادق، ولا يكون كذلك.
أقوال أخر: قال عبد الرزاق، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه.
وقال زيد بن أسلم: هو قول الرجل: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا، أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا، فهو هذا.
قال ابن أبي حاتم: وحدثنا علي بن الحسين، حدثنا مسدد، حدثنا خالد، أخبرنا عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.
وأخبرني أبي، أخبرنا أبو الجماهر، حدثنا سعيد بن بشير، حدثني أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك، فذلك ما ليس عليك فيه كفارة، وكذا روي عن سعيد بن جبير.
وقال أبو داود "باب اليمين في الغضب": حدثنا محمد بن المنهال، أنبأنا يزيد بن زريع، حدثنا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني عن القسمة، فكل مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يمين عليك، ولا نذر في معصية الرب عز وجل، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك" .
وقوله: { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب. قال مجاهد وغيره: وهي كقوله: { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ } الآية [المائدة:89]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
{ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي: غفور لعباده، حليم عليهم .
{ لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}
الإيلاء: الحلف، فإذا حلف الرجل ألا يجامع زوجته مدة، فلا يخلو: إما أن يكون أقل من أربعة أشهر، أو أكثر منها، فإن كانت أقل، فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته، وعليها أن تصبر، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة: أن رسول الله آلى من نسائه شهرًا، فنزل لتسع وعشرين، وقال: "الشهر تسع وعشرون" ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه . فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر، فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر: إما أن يفيء -أي: يجامع -وإما أن يطلق، فيجبره الحاكم على هذا أو هذا لئلا يضر بها. ولهذا قال تعالى: { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ } أي: يحلفون على ترك الجماع من نسائهم، فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور. { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } أي: ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق. ولهذا قال: { فَإِنْ فَاءُوا } أي: رجعوا إلى ما كانوا عليه، وهو كناية عن الجماع، قاله ابن عباس، ومسروق والشعبي، وسعيد بن جبير، وغير واحد، ومنهم ابن جرير رحمه الله { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين.
وقوله: { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فيه دلالة لأحد قولي العلماء -وهو القديم عن الشافعي: أن المولي إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه. ويعتضد بما تقدم في الآية التي قبلها، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فتركها كفارتها" كما رواه أحمد وأبو داود والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه الكفارة لعموم وجوب التكفير على كل حالف، كما تقدم أيضا في الأحاديث الصحاح. والله أعلم.
وقد ذكر الفقهاء وغيرهم -في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر -الأثر الذي رواه الإمام مالك بن أنس، رحمه الله، في الموطأ، عن عمرو بن دينار قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول:
تطاوَلَ هذا الليلُ واسودّ جانِبُهْ ... وأرقني ألا خليلَ ألاعِبُهْ ...
فوالله لولا الله أني أراقبهْ ... لحرِّكَ من هذا السرير جوانبه ...
فسأل عمر ابنته حفصة، رضي الله عنها: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر. فقال عمر: لا أحبس أحدًا من الجيوش أكثر من ذلك .
وقال: محمد بن إسحاق، عن السائب بن جبير، مولى ابن عباس - وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -قال: ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيرا؛ إذ مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها [وهي] تقول. تطاول هذا الليل وازورّ جانبه ... وأرقني ألا ضجيعَ ألاعِبُهْ ...
ألاعبه طورًا وطورًا كأنما ... بدا قمرًا في ظلمة الليل حاجبه ...
يسرّ به من كان يلهو بقربه ... لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه ...
فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لنقض من هذا السرير جوانبه ...
ولكنني أخشى رقيبًا موكلا ... بأنفسنا لا يَفْتُر الدهرَ كاتبه ...
ثم ذكر بقية ذلك كما تقدم، أو نحوه . وقد روى هذا من طرق، وهو من المشهورات .
وقوله: { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ } فيه دلالة على أنه لا يقع الطلاق بمجرد مضي الأربعة أشهر كقول الجمهور ،وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي الأربعة أشهر تطليقة، وهو مروي بأسانيد صحيحة عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وبه يقول ابن سيرين، [ومسروق] والقاسم، وسالم، والحسن، وأبو سلمة، وقتادة، وشريح القاضي، وقبيصة بن ذؤيب، وعطاء، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن طرخان التيمي، وإبراهيم النخعي، والربيع بن أنس، والسدي.
ثم قيل: إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر طلقة رجعية؛ قاله سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ومكحول، وربيعة، والزهري، ومروان بن الحكم. وقيل إنها تطلق طلقة بائنة، روي عن علي، وابن مسعود، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وبه يقول: عطاء وجابر بن زيد، ومسروق وعكرمة، والحسن، وابن سيرين، ومحمد بن الحنفية، وإبراهيم، وقبيصة بن ذؤيب، وأبو حنيفة، والثوري، والحسن بن صالح، وكل من قال: إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر أوجب عليها العدة، إلا ما روي عن ابن عباس وأبي الشعثاء: أنها إن كانت حاضت ثلاث حيض فلا عدة عليها، وهو قول الشافعي، والذي عليه الجمهور أنه يوقف فيطالب إما بهذا أو هذا ولا يقع عليها بمجرد مضيها طلاق.
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
وروى مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر، حتى يوقف، فإما أن يطلق، وإما أن يفيء. وأخرجه البخاري .
وقال الشافعي، رحمه الله: أخبرنا سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يوقف المولي قال الشافعي: وأقل ذلك ثلاثة عشر. ورواه الشافعي عن علي رضي الله عنه: أنه وقف المولي. ثم قال: وهكذا نقول، وهو موافق لما رويناه عن عمر، وابن عمر، وعائشة، وعن عثمان، وزيد بن ثابت، وبضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا قال الشافعي، رحمه الله.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من الصحابة عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي أربعة أشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق.
ورواه الدارقطني من طريق سهيل.
قلت: وهو مروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعائشة أم المؤمنين، وابن عمر، وابن عباس. وبه يقول سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وطاوس، ومحمد بن كعب، والقاسم. وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأصحابهم، رحمهم الله، وهو اختيار ابن جرير أيضًا، وهو قول الليث [بن سعد] وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأبي ثور، وداود، وكل هؤلاء قالوا: إن لم يفئ ألزم بالطلاق، فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم، والطلقة تكون رجعية له رجعتها في العدة.
وانفرد مالك بأن قال: لا يجوز له رجعتها حتى يجامعها في العدة وهذا غريب جدا.
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}
هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أي: بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء؛ ثم تتزوج إن شاءت، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمَة إذا طُلِّقت، فإنها تعتدّ عندهم بقرءين، لأنها على النصف من الحرة، والقُرْء لا يتبعض فكُمّل لها قرءان. ولما رواه ابن جريح عن مُظاهر بن أسلم المخزومي المدني، عن القاسم، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان".
رواه أبو داود، والترمذي وابن ماجة . ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية. وقال الحافظ الدارقطني وغيره: الصحيحُ أنه من قول القاسم بن محمد نفسه.
ورواه ابن ماجة من طريق عطية العَوْفِي عن ابن عمر مرفوعًا . قال الدارقطني: والصحيح ما رواه سالم ونافع، عن ابن عمر قوله. وهكذا رُوي عن عمر بن الخطاب. قالوا: ولم يعرف بين الصحابة خلاف. وقال بعض السلف: بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية؛ ولأن هذا أمر جِبِلي فكان الإماء والحرائر في هذا سواء، والله أعلم، حكى هذا القول الشيخُ أبو عمر بن عبد البر، عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر، وضعفه.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل -يعني ابن عَيّاش -عن عمرو بن مهاجر، عن أبيه: أن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت: طُلّقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن للمطلقة عدة، فأنزل الله، عز وجل، حين طلقت أسماء العدة للطلاق، فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق، يعني: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ } .
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقْرَاء ما هو ؟ على قولين:
أحدهما: أن المراد بها: الأطهار، وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: انتقلت حفصة بنتُ عبد الرحمن بن أبي بكر، حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، قال الزهري: فذكرتُ ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت: صدق عروة. وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا: إن الله تعالى يقول في كتابه: " ثلاثة قروء " فقالت عائشة: صدقتم، وتدرون ما الأقراءُ؟ إنما الأقراء: الأطهارُ .
وقال مالك: عن ابن شهاب، سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك، يريد قول عائشة. وقال مالك: عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أنه كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بَرئت منه وبرئ منها. وقال مالك: وهو الأمر عندنا. ورُوي مثله عن ابن عباس وزيد بن ثابت، وسالم، والقاسم، وعروة، وسليمان بن يسار، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وأبان بن عثمان، وعطاء ابن أبي رباح، وقتادة، والزهري، وبقية الفقهاء السبعة، وهو مذهب مالك، والشافعي [وغير واحد، وداود وأبي ثور، وهو رواية عن أحمد، واستدلوا عليه بقوله تعالى: { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [الطلاق: 1] أي: في الأطهار. ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبًا، دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها؛ ولهذا قال هؤلاء: إن المعتدة
تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة، وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يومًا ولحظتان].
واستشهد أبو عُبَيْد وغيره على ذلك بقول الشاعر -وهو الأعشى -:
ففي كل عام أنت جَاشِمُ غَزْوة ... تَشُدّ لأقصاها عَزِيمَ عَزَائِكا ...
مُوَرَّثة عدَّا، وفي الحيّ رفعة ... لما ضاع فيها من قُروء نسائكا ...
يمدح أميرًا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام، حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها.
والقول الثاني: أن المراد بالأقراء: الحيض، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة، زاد آخرون: وتغتسل منها. وأقل وقت تصدق فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يومًا ولحظة. قال الثوري: عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فجاءته امرأة فقالت: إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني [وقد وضعت مائي] وقد نزعت ثيابي وأغلقت بابي. فقال عمر لعبد الله -يعني ابن مسعود -[ما ترى؟ قال] : أراها امرأته، ما دون أن تحل لها الصلاة. قال [عمر:] وأنا أرى ذلك .
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وابن مسعود، ومعاذ، وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم، ومجاهد، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومحمد بن سيرين، والحسن، وقتادة، والشعبي، والربيع، ومقاتل بن حيان، والسدي، ومكحول، والضحاك، وعطاء الخراساني، أنهم قالوا: الأقراء: الحيض.
وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل، وحكى عنه الأثرم أنه قال: الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: الأقراء الحيض. وهو مذهب الثوري، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والحسن بن صالح بن حي، وأبي عبيد، وإسحاق بن راهويه.
ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي، من طريق المنذر بن المغيرة، عن عروة بن الزبير، عن فاطمة بنت أبي حُبَيش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "دعي الصلاة أيام
أقرائك" . فهذا لو صح لكان صريحًا في أن القرء هو الحيض، ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم: مجهول ليس بمشهور. وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال ابن جرير: أصلُ القرء في كلام العرب: "الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم". وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين هذا وهذا، وقد ذهب إليه بعض [العلماء] الأصوليين فالله أعلم. وهذا قول الأصمعي: أن القرء هو الوقت. وقال أبو عمرو بن العلاء: العرب تسمي الحيض: قُرْءًا، وتسمي الطهر: قرءا، وتسمي الحيض مع الطهر جميعًا: قرءا. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض ويراد به الطهر، وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين.
وقوله: { وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } أي: من حَبَل أو حيض. قاله ابن عباس، وابن عُمَر، ومجاهد، والشعبي، والحكم بن عيينة والربيع بن أنس، والضحاك، وغير واحد.
وقوله: { إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } تهديد لهن على قول خلاف الحق. ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن؛ لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتين، وتتعذر إقامة البينة غالبًا على ذلك، فردّ الأمر إليهن، وتُوُعِّدْنَ فيه، لئلا تخبر بغير الحق إما استعجالا منها لانقضاء العدة، أو رغبة منها في تطويلها، لما لها في ذلك من المقاصد . فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان.
وقوله: { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا } أي: وزوجها الذي طلقها أحق بردتها ما دامت في عدتها، إذا كان مراده بردتها الإصلاح والخير. وهذا في الرجعيات. فأما المطلقات البوائن فلم يكنْ حالَ نزول هذه الآية مطلقة بائن، وإنما صار ذلك لما حُصروا في الطلقات الثلاث، فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحقّ برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن. وإذا تأملت هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين، من استشهادهم على مسألة عود الضمير -هل يكون مخصصا لما تقدمه من لفظ العموم أم لا؟ - بهذه الآية الكريمة، فإن التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه، والله أعلم.
وقوله: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي: ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فلْيؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت في صحيح مسلم، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته، في حجة الوداع: "فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهُنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مُبَرِّح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" . وفي حديث بهز بن حكيم، عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري، عن أبيه، عن جده، أنه قال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا؟
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
قال: "أن تطعمها إذا طعمْتَ، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تُقَبِّح، ولا تهجر إلا في البيت" . وقال وَكِيع عن بشير بن سليمان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إني لأحب أن أتزيَّن للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله يقول: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
وقوله: { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي: في الفضيلة في الخُلُق، والمنزلة، وطاعة الأمر، والإنفاق، والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [النساء:34] .
وقوله: { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، حكيم في أمره وشرعه وقدره.
{ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}
هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته، وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله عز وجل إلى ثلاث طلقات، وأباح الرجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال: { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ }
قال أبو داود، رحمه الله، في سننه: "باب في نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث": حدثنا أحمد ابن محمد المروزي، حدثني علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } الآية: وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك فقال : { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } الآية.
ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى، عن إسحاق بن إبراهيم، عن علي بن الحسين، به .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا عبدة - يعني ابن سليمان -عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رجلا قال لامرأته: لا أطلقك أبدًا ولا آويك أبدًا. قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فأنزل الله عز وجل: { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ }
وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من طريق جَرير بن عبد الحميد، وابن إدريس. ورواه عبد بن حُمَيد في تفسيره، عن جعفر بن عون، كلهم عن هشام، عن أبيه. قال: كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء، ما دامت في العدة، وإن رجلا من الأنصار غضب على امرأته فقال: والله لا آويك ولا أفارقك. قالت: وكيف ذلك. قال: أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } قال: فاستقبل الناس الطلاق، من كان طلق ومن لم يكن طلق.
وقد رواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه، من طريق محمد بن سليمان، عن يعلى بن شبيب -مولى الزبير -عن هشام، عن أبيه، عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم. ورواه الترمذي، عن قتيبة، عن يعلى بن شبيب به. ثم رواه عن أبي كريب، عن ابن إدريس، عن هشام، عن أبيه مرسلا. قال: هذا أصح . ورواه الحاكم في مستدركه، من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب، عن يعلى بن شبيب به، وقال صحيح الإسناد .
ثم قال ابن مَردُويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لم يكن للطلاق وقت، يطلقُ الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة، وكان بين رَجل من الأنصار وبين أهله بعضُ ما يكون بين الناس فقال: والله لأتركنك لا أيِّمًا ولا ذات زوج، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مرارًا، فأنزل الله عز وجل فيه: { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فوقَّتَ الطلاق ثلاثًا لا رجعة فيه بعد الثالثة، حتى تنكح زوجًا غيره. وهكذا رُوي عن قتادة مرسلا. وذكره السدي، وابن زيد، وابن جرير كذلك، واختار أن هذا تفسير هذه الآية.
وقوله: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أي: إذا طلقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردها إليك ناويًا الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسنًا إليها، لا تظلمها من حقها شيئًا، ولا
تُضارّ بها.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها أو يسرحها [بإحسان] فلا يظلمها من حقها شيئا.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني سفيان الثوري، حدثني إسماعيل بن سميع، قال: سمعت أبا رَزِين يقول: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت قول الله عز وجل: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أين الثالثة؟ قال: "التسريح بإحسان".
ورواه عبد بن حميد في تفسيره، ولفظه: أخبرنا يزيد بن أبي حكيم، عن سفيان، عن إسماعيل بن سميع، أن أبا رزين الأسدي يقول: قال رجل: يا رسول الله، أرأيت قول الله: " الطلاق مرتان " ، فأين الثالثة؟ قال: "التسريح بإحسان الثالثة" .
ورواه الإمام أحمد أيضًا. وهكذا رواه سعيد بن منصور، عن خالد بن عبد الله، عن إسماعيل بن زكريا وأبي معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين، به . وكذا رواه قيس بن الربيع، عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به مرسلا. ورواه ابن مردويه [أيضا] من طريق عبد الواحد بن زياد، عن إسماعيل بن سميع، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره . ثم قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم، حدثنا أحمد بن يحيى، حدثنا عبيد الله بن جرير بن جبلة حدثنا ابن عائشة حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ذكر الله الطلاق مرتين، فأين الثالثة؟ قال: "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" .
وقوله: { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [ إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ] } أي: لا
يحل لكم أن تُضَاجِروهن وتضيّقوا عليهن، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه، كما قال تعالى: { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } [النساء:19] فأما إن وهبته المرأة شيئًا عن طيب نفس منها. فقد قال تعالى: { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } [النساء:4] وأما إذا تشاقق الزوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها، ولا عليه في قبول ذلك منها؛ ولهذا قال تعالى: { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } الآية.
فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه، فقد قال ابن جرير:
حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب -وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية -قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن أبي قِلابة، عمن حدثه، عن ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة" .
وهكذا رواه الترمذي، عن بندار، عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي به . وقال حسن: قال: ويروى، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان. ورواه بعضهم، عن أيوب بهذا الإسناد. ولم يرفعه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة -قال: وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة".
وهكذا رواه أبو داود، وابن ماجة، وابن جرير، من حديث حماد بن زيد، به .
طريق أخرى: قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس، حَرّم الله عليها رائحة الجنة". وقال: "المختلعات هن المنافقات" .
ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعًا، عن أبي كريب، عن مزاحم بن ذَوّاد بن عُلْبَة، عن أبيه، عن ليث، هو ابن أبي سليم عن أبي الخطاب، عن أبي زُرْعَة، عن أبي إدريس، عن ثوبان قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المختلعات هن المنافقات". ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوي .
حديث آخر: قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب حدثنا حفص بن بشر، حدثنا قيس بن الربيع، عن أشعث بن سوار، عن الحسن عن ثابت بن يزيد، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات" غريب من هذا الوجه ضعيف.
حديث آخر: قال ابن ماجة: حدثنا بكر بن خلف أبو بشر، حدثنا أبو عاصم، عن جعفر بن يحيى بن ثَوْبان، عن عمه عمارةَ بن ثوبان، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسألُ امرأة زوجها الطلاق في غير كُنْهِه فَتَجِدَ ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا" .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب، عن الحسن عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المختلعات والمنتزعات هن المنافقات" .
ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف: إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية، واحتجوا بقوله: { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا [إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ] } . قالوا: فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل، والأصل عَدَمُه، وممن ذهب إلى هذا ابن عباس، وطاوس، وإبراهيم، وعطاء، [والحسن] والجمهور، حتى قال مالك والأوزاعي: لو أخذ منها شيئًا وهو مضارّ لها وجب ردّه إليها، وكان الطلاق رجعيًا. قال مالك: وهو الأمر الذي أدركتُ الناسَ عليه . وذهب الشافعي، رحمه الله، إلى أنه يجوز الخلع في حالة الشقاق، وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى، وهذا قول جميع أصحابه قاطبة. وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب "الاستذكار" له، عن بكر بن عبد الله المزني، أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ بقوله: { وآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } [النساء: 20] . ورواه ابن جرير عنه وهذا قول ضعيف ومأخذ مردود على قائله. وقد ذكر ابن جرير، رحمه الله، أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شَمَّاس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول. ولنذكر طرق حديثها، واختلاف ألفاظه:
قال الإمام مالك في موطئه: عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصّبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغَلَس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذه؟ " قالت: أنا حبيبة بنت سهل. فقال: "ما شأنك؟ " فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس -لزوجها -فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر". فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ منها". فأخذ منها وجلست في أهلها.
وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك بإسناده -مثله . ورواه أبو داود، عن القعنبي، عن مالك. والنسائي، عن محمد بن مسلمة، عن ابن القاسم، عن مالك به .
حديث آخر: عن عائشة: قال أبو داود وابن جرير: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا أبو عامر، حدثنا أبو عمرو السدوسي، عن عبد الله -بن أبي بكر -عن عمرة، عن عائشة، أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، فضربها فكسر نُغضها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح فاشتكته إليه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتا فقال: "خذ بعض مالها وفارقها". قال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: "نعم". قال: فإني أصدقتها حديقتين، فهما بيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذهما وفارقها". ففعل .
وهذا لفظ ابن جرير. وأبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام.
حديث آخر فيه: عن ابن عباس رضي الله عنه:
قال البخاري: حدثنا أزهر بن جميل، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" .
وكذا رواه النسائي، عن أزهر بن جميل بإسناده، مثله . ورواه البخاري أيضًا، عن إسحاق الواسطي، عن خالد هو ابن عبد الله الطحان، عن خالد، هو ابن مهران الحذاء، عن عكرمة به،
نحوه .
وهكذا رواه البخاري أيضًا من طرق، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، به . وفي بعضها أنها قالت: لا أطيقه، تعني: بغضًا. وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه.
ثم قال: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، أن جميلة رضي الله عنها . كذا قال، والمشهور أن اسمها حبيبة [كما تقدم].
قال الحافظ أبو بكر بن مَردويه في تفسيره: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا أزهر بن مروان الرقاشي، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: والله ما أعتب على ثابت بن قيس بن شماس في دين ولا خلق، ولكنني أكره الكفر بعد الإسلام، لا أطيقه بغضًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد.
وهكذا رواه ابن ماجة عن أزهر بن مروان، بإسناده مثله سواء، وهو إسناد جيد مستقيم ورواه أيضا أبو القاسم البغوي، عن عبيد الله القواريري، عن عبد الأعلى، مثله، لكن قال ابن جرير:
حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا الحسين بن واقد، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح عن جميلة بنت أبي ابن سلول: أنها كانت تحت ثابت بن قيس، فنشزت عليه، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا جميلة، ما كرهت من ثابت؟ " قالت: والله ما كرهت منه دينًا ولا خلقًا، إلا أني كرهت دمامته! فقال لها: "أتردين الحديقة؟ " قالت: نعم. فردت الحديقة، وفرق بينهما .
قال ابن جرير أيضا: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان قال: قرأت على فضيل، عن أبي جرير أنه سأل عكرمة: هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدًا، إني رفعتُ جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادًا، وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهًا. قال زوجها: يا رسول الله، إني قد أعطيتها أفضل مالي، حديقة لي، فإن ردت عليَّ حديقتي؟ قال: "ما تقولين؟ " قالت: نعم، وإن شاء زدته. قال: ففرق بينهما .
حديث آخر: قال ابن ماجة: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس، وكان رجلا دميمًا، فقالت: يا رسول الله، والله لولا مخافة الله إذا دخل عليَّ بصقت في وجهه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم. فردت عليه حديقته. قال ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد اختلف الأئمة، رحمهم الله، في أنه: هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها؟ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك، لعموم قوله تعالى: { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، أخبرنا أيوب، عن كثير مولى سمرة: أن عمر أتي بامرأة ناشز، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل، ثم دعا بها فقال: كيف وجدت؟ فقالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي حبستني. فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها ورواه عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن أيوب، عن كثير مولى سمرة، فذكر مثله، وزاد: فحبسها فيه ثلاثة أيام.
قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن حميد بن عبد الرحمن: أن امرأة أتت عمر بن الخطاب، فشكت زوجها، فأباتها في بيت الزبل. فلما أصبحت قال لها: كيف وجدت مكانك؟ قالت: ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة. فقال: خذ ولو عقاصها .
وقال البخاري: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته قالت: كان لي زوج يُقِلّ عليَّ الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب عني. قالت: فكانت مني زلة يومًا، فقلت له: أختلع منك بكل شيء أملكه؟ قال: نعم. قالت: ففعلت. قالت فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان، فأجاز الخلع، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه، أو قالت: ما دون عقاص الرأس .
ومعنى هذا: أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير، ولا يترك لها سوى عقاص شعرها. وبه يقول ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وإبراهيم النخعي، وقبيصة بن ذؤيب، والحسن بن صالح، وعثمان البتي. وهذا مذهب مالك، والليث، والشافعي، وأبي ثور، واختاره ابن جرير.
وقال أصحاب أبي حنيفة، رحمهم الله: إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها، ولا تجوز الزيادة عليه، فإن ازداد جاز في القضاء: وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا، فإن أخذ جاز في القضاء.
وقال الإمام أحمد، وأبو عبيد، وإسحاق بن راهويه: لا يجوز أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. وهذا قول سعيد بن المسيب، وعطاء، وعمرو بن شعيب، والزهري، وطاوس، والحسن، والشعبي، وحماد بن أبي سليمان، والربيع بن أنس.
وقال معمر، والحكم: كان علي يقول: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها. وقال الأوزاعي: القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها.
قلت: ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قصة ثابت بن قيس: فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد، وبما روى عبد بن حميد حيث قال: أخبرنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني المختلعة وحملوا معنى الآية على معنى { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } أي: من الذي أعطاها؛ لتقدم قوله: { وَلا [يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ ] تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } أي: من ذلك. وهكذا كان يقرؤها الربيع بن أنس: "فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه مِنْهُ" رواه ابن جرير؛ ولهذا قال بعده: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
فصل
قال الشافعي: اختلف أصحابنا في الخلع، فأخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد ،يتزوجها إن شاء؛ لأن الله تعالى يقول: { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } قرأ إلى: { أَنْ يَتَرَاجَعَا } قال الشافعي: وأخبرنا سفيان، عن عمرو [بن دينار] عن عكرمة قال: كل شيء أجازه المال فليس بطلاق.
وروى غير الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس: أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال: رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه، أيتزوجها؟ قال: نعم، ليس الخلع بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء، ثم قرأ: { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وقرأ: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ }
وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما -من أن الخلع ليس بطلاق، وإنما هو فسخ - هو رواية عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وابن عمر. وهو قول طاوس، وعكرمة. وبه يقول أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وداود بن علي الظاهري. وهو مذهب الشافعي في القديم، وهو ظاهر الآية الكريمة.
والقول الثاني في الخلع: إنه طلاق بائن إلا أن ينوي أكثر من ذلك. قال مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن جُمْهان مولى الأسلميين عن أم بكر الأسلمية: أنها اختلعت من زوجها عبد الله بن خالد بن أسيد، فأتيا عثمان بن عفان في ذلك، فقال: تطليقة؛ إلا أن تكون سميت شيئًا فهو ما سميت. قال الشافعي: ولا أعرف جُمْهان. وكذا ضعف أحمد بن حنبل هذا الأثر، والله أعلم.
وقد روي نحوه عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر. وبه يقول سعيد بن المسيب، والحسن، وعطاء، وشريح، والشعبي، وإبراهيم، وجابر بن زيد. وإليه ذهب مالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، وعثمان التبي، والشافعي في الجديد. غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو أطلق فهو واحدة بائنة. وإن نوى ثلاثًا فثلاث. وللشافعي قول آخر في الخلع، وهو: أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق، وعري عن النية فليس هو بشيء بالكلية.
مسألة:
وذهب مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد وإسحاق في رواية عنهما، وهي المشهورة؛ إلى أن المختلعة عدتها عدة المطلقة بثلاثة قروء، إن كانت ممن تحيض. وروي ذلك عن عمر، وعلي، وابن عمر. وبه يقول سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وعروة، وسالم، وأبو سلمة، وعمر بن عبد العزيز، وابن شهاب، والحسن، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وأبو عياض، وجُلاس بن عمرو، وقتادة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبو عبيد. قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم. ومأخذهم في هذا أن الخلع طلاق، فتعتد كسائر المطلقات.
والقول الثاني: أنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها رحمها. قال ابن أبي شيبة: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع أن الربيع اختلعت من زوجها، فأتى عمها عثمان، رضي الله عنه، فقال: تعتد حيضة. قال: وكان ابن عمر يقول: تعتد ثلاث حيض، حتى قال هذا عثمان، فكان ابن عمر يفتي به ويقول: عثمان خيرنا وأعلمنا .
وحدثنا عبدة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: عدة المختلعة حيضة.
وحدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عباس قال: عدتها حيضة. وبه يقول عكرمة، وأبان بن عثمان، وكل من تقدم ذكره ممن يقول: إن الخلع فسخ - يلزمه
القول بهذا، واحتجوا لذلك بما رواه أبو داود، والترمذي، حيث قال كل واحد منهما: حدثنا محمد بن عبد الرحيم البغدادي، حدثنا علي بن بحر، حدثنا هشام بن يوسف، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة . ثم قال الترمذي: حسن غريب. وقد رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة مرسلا.
حديث آخر: قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا الفضل بن موسى، عن سفيان، حدثنا محمد بن عبد الرحمن وهو مولى آل طلحة، عن سليمان بن يسار، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء: أنها اختلعت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها النبي - أو أمرت -أن تعتد بحيضة. قال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة .
طريق أخرى: قال ابن ماجة: حدثنا علي بن سلمة النيسابوري، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثنا أبي عن ابن إسحاق، أخبرني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن الربيع بنت معوذ بن عفراء قال: قلت لها: حدثيني حديثك. قالت: اختلعت من زوجي، ثم جئت عثمان، فسألت: ماذا علي من العدة؟ قال : لا عدة عليك، إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة. قالت: وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية، وكانت تحت ثابت بن قيس، فاختلعت منه .
وقد روى ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن الربيع بنت معوذ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر امرأة ثابت بن قيس حين اختلعت منه أن تعتد بحيضة.
مسألة:
وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء؛ لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء. وروي عن عبد الله بن أبي أوفى، وماهان الحنفي، وسعيد بن المسيب، والزهري أنهم قالوا: إن رد إليها الذي أعطاها جاز له رجعتها في العدة بغير رضاها، وهو اختيار أبي ثور، رحمه الله. وقال سفيان الثوري: إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها. وإن كان سمى طلاقا فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة. وبه يقول داود بن علي الظاهري: واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة. وحكى الشيخ أبو عمر
بن عبد البر، عن فرقة أنه لا يجوز له ذلك، كما لا يجوز لغيره، وهو قول شاذ مردود.
مسألة:
وهل له أن يوقع عليها طلاقا آخر في العدة؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدهما : ليس له ذلك؛ لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه. وبه يقول ابن عباس، وابن الزبير، وعكرمة، وجابر بن زيد، والحسن البصري، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور.
والثاني: قال مالك: إن أتبع الخلع طلاقا من غير سكوت بينهما وقع، وإن سكت بينهما لم يقع. قال ابن عبد البر: وهذا يشبه ما روي عن عثمان، رضي الله عنه.
والثالث: أنه يقع عليها الطلاق بكل حال ما دامت في العدة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، والثوري، والأوزاعي. وبه يقول سعيد بن المسيب، وشريح، وطاوس، وإبراهيم، والزهري، والحكم وحماد بن أبي سليمان. وروي ذلك عن ابن مسعود، وأبي الدرداء قال ابن عبد البر: وليس ذلك بثابت عنهما.
وقوله: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي: هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده، فلا تتجاوزوها. كما ثبت في الحديث الصحيح: "إن الله حد حدودًا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان، فلا تسألوا عنها" .
وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام، كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم، وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة واحدة، لقوله: { الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } ثم قال: { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ويُقَوُّون ذلك بحديث محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال: حدثنا سليمان بن داود، أخبرنا ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه، عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا فقام غضبان، ثم قال: "أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟! " حتى قام رجل فقال يا رسول الله، ألا أقتله؟ فيه انقطاع.
وقوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } أي: أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره، أي: حتى يطأها
زوج آخر في نكاح صحيح، فلو وطئها واطئ في غير نكاح، ولو في ملك اليمين لم تحل للأول؛ لأنه ليس بزوج، وهكذا لو تزوجت، ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول، واشتهر بين كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب، رحمه الله، أنه يقول: يحصل المقصود من تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني. وفي صحته عنه نظر، على أن الشيخ أبا عمر بن عبد البر قد حكاه عنه في الاستذكار، فالله أعلم.
وقد قال أبو جعفر بن جرير، رحمه الله: حدثنا ابن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سالم بن رزين، عن سالم بن عبد الله عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة، فيتزوجها زوج آخر فيطلقها، قبل أن يدخل بها: أترجع إلى الأول؟ قال: "لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها" .
هكذا وقع في رواية ابن جرير، وقد رواه الإمام أحمد فقال:
حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبد الله، يعني: ابن عمر، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: في الرجل تكون له المرأة فيطلقها، ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها، فترجع إلى زوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حتى يذوق العسيلة" .
وهكذا رواه النسائي، عن عمرو بن علي الفلاس، وابن ماجة عن محمد بن بشار بندار كلاهما عن محمد بن جعفر غندر، عن شعبة، به كذلك . فهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعًا، على خلاف ما يحكى عنه، فبعيد أن يخالف ما رواه بغير مستند، والله أعلم.
وقد روى أحمد أيضا، والنسائي، وابن جرير هذا الحديث من طريق سفيان الثوري، عن علقمة بن مرثد، عن رزين بن سليمان الأحمري، عن ابن عمر قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر، فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها، قبل أن يدخل بها: هل تحل للأول؟ قال: "لا حتى يذوق العسيلة" .
وهذا لفظ أحمد، وفي رواية لأحمد: سليمان بن رزين.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا محمد بن دينار، حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثا فتزوجت بعده رجلا فطلقها قبل أن يدخل بها: أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته".
ورواه ابن جرير، عن محمد بن إبراهيم الأنماطي، عن هشام بن عبد الملك، حدثنا محمد بن دينار، فذكره .
قلت: ومحمد بن دينار بن صندل أبو بكر الأزدي ثم الطاحي البصري، ويقال له: ابن أبي الفرات: اختلفوا فيه، فمنهم من ضعفه، ومنهم من قواه وقبله وحسن له . وقال أبو داود: أنه تغير قبل موته، فالله أعلم.
حديث آخر: قال ابن جرير: حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، حدثنا أبي، حدثنا شيبان، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي الحارث الغفاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا فتتزوج زوجا غيره، فيطلقها قبل أن يدخل بها، فيريد الأول أن يراجعها، قال: "لا حتى يذوق الآخر عسيلتها".
ثم رواه من وجه آخر عن شيبان، وهو ابن عبد الرحمن، به . وأبو الحارث غير معروف.
حديث آخر: قال ابن جرير:
حدثنا ابن مثنى، حدثنا يحيى، عن عبيد الله، حدثنا القاسم، عن عائشة: أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت زوجا فطلقها قبل أن يمسها، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟ فقال: "لا حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأول".
أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي، من طرق، عن عبيد الله بن عمر العمري، عن القاسم بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن عمته عائشة، به .
طريق أخرى: قال ابن جرير:
حدثنا عبيد الله بن إسماعيل الهباري، وسفيان بن وكيع، وأبو هشام الرفاعي قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته، فتزوجت رجلا غيره، فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها: أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحل لزوجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته".
وكذا رواه أبو داود عن مسدد، والنسائي عن أبي كريب، كلاهما عن أبي معاوية، وهو محمد بن حازم الضرير، به .
طريق أخرى: قال مسلم في صحيحه:
حدثنا محمد بن العلاء الهمداني، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها، فتتزوج رجلا فيطلقها قبل أن يدخل بها: أتحل لزوجها الأول؟ قال: "لا حتى يذوق عسيلتها".
قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا ابن فضيل: وحدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية جميعا، عن هشام بهذا الإسناد .
وقد رواه البخاري من طريق أبي معاوية محمد بن حازم، عن هشام به . وتفرد به مسلم من الوجهين الآخرين. وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الله بن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله . وهذا إسناد جيد. وكذا رواه ابن جرير أيضا، من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن امرأة أبيه أمينة أم محمد عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه البخاري: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، عن هشام، حدثني أبي، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها، فتزوجت آخر فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب فقال: "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " .
تفرد به من هذين الوجهين.
طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: دخلت امرأة رفاعة القرظي -وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم -فقالت: إن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني، وإنما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له، فقال: يا أبا بكر، ألا تنهي هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" .
وهكذا رواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك، ومسلم من حديث عبد الرزاق، والنسائي من حديث يزيد بن زريع، ثلاثتهم عن معمر به . وفي حديث عبد الرزاق عند مسلم: أن
رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات. وقد رواه الجماعة إلا أبا داود من طريق سفيان بن عيينة، والبخاري من طريق عقيل، ومسلم من طريق يونس بن يزيد [وعنده ثلاث تطليقات، والنسائي من طريق أيوب بن موسى، ورواه صالح بن أبي الأخضر] كلهم عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، به .
وقال مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير: أن رفاعة بن سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، فنكحت عبد الرحمن بن الزبير، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها، ففارقها، فأراد رفاعة أن ينكحها، وهو زوجها الأول الذي كان طلقها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاه عن تزويجها، وقال: "لا تحل لك حتى تذوق العسيلة" كذا رواه أصحاب الموطأ عن مالك وفيه انقطاع . وقد رواه إبراهيم بن طَهْمَان، وعبد الله بن وهب، عن مالك، عن رفاعة، عن الزبير بن عبد الرحمن، عن أبيه، فوصله .
فصل
والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة، قاصدا لدوام عشرتها، كما هو المشروع من التزويج، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطئا مباحًا، فلو وطئها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء أو والزوج صائم أو محرم أو معتكف، لم تحل للأول بهذا الوطء. وكذا لو كان الزوج الثاني ذميًا لم تحل للمسلم بنكاحه؛ لأن أنكحة الكفار باطلة عنده. واشترط الحسن البصري فيما حكاه عنه الشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ينزل الزوج الثاني، وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه السلام: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"، ويلزم على هذا أن تنزل المرأة أيضا. وليس المراد بالعسيلة المني لما رواه الإمام أحمد والنسائي، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن العسيلة الجماع" فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول، فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة .
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
الحديث الأول: عن ابن مسعود. قال الإمام أحمد:
حدثنا الفضل بن دُكَيْن، حدثنا سفيان، عن أبي قيس، عن الهذيل، عن عبد الله قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة، والمحلل والمحلل له، وآكل الربا وموكله .
ثم رواه أحمد، والترمذي، والنسائي من غير وجه، عن سفيان، وهو الثوري، عن أبي قيس واسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي، عن هزيل بن شرحبيل الأودي، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم به. ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة، منهم: عمر، وعثمان، وابن عمر. وهو قول الفقهاء من التابعين، ويروى ذلك عن علي، وابن مسعود، وابن عباس.
طريق أخرى: عن ابن مسعود. قال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي، حدثنا عبيد الله، عن عبد الكريم، عن أبي الواصل، عن ابن مسعود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله المحلل والمحلل له" .
طريق أخرى: روى الإمام أحمد، والنسائي، من حديث الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن الحارث الأعور، عن عبد الله بن مسعود قال: آكل الربا وموكله، وشاهداه وكاتبه إذا علموا به، والواصلة، والمستوصلة، ولاوي الصدقة، والمتعدي فيها، والمرتد على عقبيه إعراضا بعد هجرته، والمحلل والمحلل له، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة .
الحديث الثاني: عن علي رضي الله عنه. قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن جابر [وهو ابن يزيد الجعفي] عن الشعبي، عن الحارث، عن علي قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله، وشاهديه وكاتبه، والواشمة والمستوشمة للحُسْن، ومانع الصدقة، والمحلل، والمحلل له، وكان ينهى عن النوح .
وكذا رواه عن غندر، عن شعبة، عن جابر، وهو ابن يزيد الجعفي، عن الشعبي عن الحارث، عن علي، به.
وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالد، وحصين بن عبد الرحمن، ومجالد بن سعيد، وابن عون، عن عامر الشعبي، به.
وقد رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة من حديث الشعبي، به . ثم قال أحمد:
حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الربا، وآكله، وكاتبه، وشاهده، والمحلل، والمحلل له .
الحديث الثالث: عن جابر: قال الترمذي:
حدثنا أبو سعيد الأشج، أخبرنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد اليامي، حدثنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله وعن الحارث، عن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له ثم قال: وليس إسناده بالقائم، ومجالد ضعفه غير واحد من أهل العلم، منهم أحمد بن حنبل. قال: ورواه ابن نمير، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، عن علي. قال: وهذا وهم من ابن نمير، والحديث الأول أصح.
الحديث الرابع: عن عقبة بن عامر: قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة:
حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري، حدثنا أبي، سمعت الليث بن سعد يقول: قال أبو مصعب مشرح هو: ابن عاهان، قال عقبة بن عامر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ " قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "هو المحلِّل، لعن الله المحلل والمحلل له" .
تفرد به ابن ماجة. وكذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، عن عثمان بن صالح، عن الليث، به، ثم قال: كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارًا شديدًا.
قلت: عثمان هذا أحد الثقات، روى عنه البخاري في صحيحه. ثم قد تابعه غيره، فرواه جعفر الفريابي عن العباس المعروف بابن فريق عن أبي صالح عبد الله بن صالح، عن الليث به، فبرئ من عهدته والله أعلم.
الحديث الخامس: عن ابن عباس. قال ابن ماجة:
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو عامر، عن زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له .
طريق أخرى: قال الإمام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي: حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحلل قال: "لا إلا نكاح
رغبة، لا نكاح دُلْسَة ولا استهزاء بكتاب الله، ثم يذوق عسيلتها" .
ويتقوى هذان الإسنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، عن حميد بن عبد الرحمن، عن موسى بن أبي الفرات، عن عمرو بن دينار، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا فيتقوى كل من هذا المرسل والذي قبله بالآخر، والله أعلم.
الحديث السادس: عن أبي هريرة. قال الإمام أحمد:
حدثنا أبو عامر، حدثنا عبد الله، هو ابن جعفر، عن عثمان بن محمد، المقبري، عن أبي هريرة قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له .
وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة، والجوزجاني، والبيهقي، من طريق عبد الله بن جعفر القرشي . وقد وثقه أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين وغيرهم. وأخرج له مسلم في صحيحه، عن عثمان بن محمد الأخنسي -وثقه ابن معين -عن سعيد المقبري، وهو متفق عليه.
الحديث السابع: عن ابن عمر. قال الحاكم في مستدركه:
حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف المدني، عن عمر بن نافع، عن أبيه أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه، ليحلها لأخيه: هل تحل للأول؟ فقال: لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه .
وقد رواه الثوري، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، به. وهذه الصيغة مشعرة بالرفع. وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة، والجوزجاني، وحرب الكرماني، وأبو بكر الأثرم، من حديث الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن قبيصة بن جابر، عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما .
وروى البيهقي من حديث ابن لهيعة، عن بكير بن الأشج، عن سليمان بن يسار: أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها، ففرق بينهما. وكذا روي عن علي، وابن عباس،
وغير واحد من الصحابة، رضي الله عنهم.
وقوله: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أي: الزوج الثاني بعد الدخول بها { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } أي: المرأة والزوج الأول { إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } أي: يتعاشرا بالمعروف [وقال مجاهد: إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة] { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي: شرائعه وأحكامه { يُبَيِّنُهَا } أي: يوضحها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
وقد اختلف الأئمة، رحمهم الله، فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين، وتركها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجت بآخر فدخل بها، ثم طلقها فانقضت عدتها، ثم تزوجها الأول: هل تعود إليه بما بقي من الثلاث، كما هو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهو قول طائفة من الصحابة، رضي الله عنهم؟ أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق، فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث، كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله؟ وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى، والله أعلم.
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) }
هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا له عليها فيه رجعة، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها، أي: يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف، وهو أن يشهد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها، أي: يتركها حتى تنقضي عدتها، ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن، من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح، قال الله تعالى: { وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } قال ابن عباس، ومجاهد، ومسروق، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، ومقاتل بن حيان وغير واحد: كان الرجل يطلق المرأة، فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارًا، لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها فتعتد، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة، فنهاهم الله عن ذلك، وتوعدهم عليه فقال: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي: بمخالفته أمر الله تعالى.
وقوله: { وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } قال ابن جرير: عند هذه الآية:
أخبرنا أبو كُرَيْب، أخبرنا إسحاق بن منصور، عن عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن أبي العلاء الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي موسى: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم غضب على الأشعريين، فأتاه أبو موسى فقال: يا رسول الله، أغضبت على الأشعريين؟! فقال: يقول أحدكم: قد طلقت، قد راجعت، ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قُبُل عدتها" (1) .
ثم رواه من وجه آخر (2) عن أبي خالد الدالاني، وهو يزيد بن عبد الرحمن، وفيه كلام.
وقال مسروق: هو (3) الذي يطلق في غير كنهه، ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها، لتطول عليها العدة.
وقال الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والربيع، ومقاتل بن حيان: هو الرجل يطلق ويقول: كنت لاعبًا أو يعتق أو ينكح ويقول: كنت لاعبًا. فأنزل الله: { وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } فألزم الله بذلك.
وقال ابن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا أبو أحمد الصيرفي، حدثني جعفر بن محمد السمسار، عن إسماعيل بن يحيى، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: طلق رجل امرأته وهو يلعب، لا يريد الطلاق؛ فأنزل الله: { وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } فألزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن زوَّاد، حدثنا آدم، حدثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن، هو البصري، قال: كان الرجل يطلق ويقول: كنت لاعبًا أو يعتق (4) ويقول: كنت لاعبًا وينكح ويقول: كنت لاعبًا فأنزل الله: { وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلق أو أعتق أو نكح أو أنكح، جادًا أو لاعبًا، فقد جاز عليه".
وكذا رواه ابن جرير من طريق الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن، مثله. وهذا مرسل (5) . وقد رواه ابن مردويه من طريق عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن أبي الدرداء، موقوفًا عليه. وقال أيضًا:
حدثنا أحمد بن الحسن (6) بن أيوب، حدثنا يعقوب بن أبي يعقوب، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سلمة، عن الحسن، عن عبادة بن الصامت، في قول الله تعالى: { وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } قال: كان الرجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقول للرجل زوجتك ابنتي ثم يقول: كنت لاعبًا. ويقول: قد أعتقت، ويقول: كنت لاعبًا فأنزل الله: { وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من قالهن لاعبًا أو غير لاعب، فهن جائزات عليه: الطلاق، والعتاق، والنكاح" (7) .
__________
(1) تفسير الطبري (5/14).
(2) في جـ: "ثم رواه ابن ماجة من وجه آخر".
(3) في جـ: "وهو".
(4) في جـ: "ويعتق".
(5) تفسير الطبري (5/13) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (5/106) من طريق آخر، فرواه عن عيسى بن يونس، عن عمرو، عن الحسن به.
(6) في جـ: "بن الحسين".
(7) ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده برقم (501) "زوائده" من طريق آخر، فرواه من طريق ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عبادة بن الصامت به مرفوعا.
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
والمشهور في هذا الحديث الذي رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أردك، عن عطاء، عن ابن ماهك، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة" (1) . وقال الترمذي: حسن غريب.
وقوله: { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } أي: في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم { وَمَا أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } أي: السنة { يَعِظُكُمْ بِهِ } أي: يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: فيما تأتون وفيما تذرون { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي: فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية، وسيجازيكم على ذلك.
{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها (2) وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها. وكذا (3) روى العوفي، عنه، وكذا قال مسروق، وإبراهيم النخعي، والزهري والضحاك إنها أنزلت في ذلك. وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها، وأنه لا بد في تزويجها (4) من ولي، كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية، كما جاء في الحديث: لا تزوج المرأةُ المرأةَ، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها (5) . وفي الأثر الآخر: لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل. وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع، وقد قررنا ذلك في كتاب "الأحكام"، ولله الحمد والمنة.
وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته، فقال البخاري، رحمه الله، في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية:
حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا عباد بن راشد، حدثنا الحسن قال: حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تخطب إلي -قال البخاري: وقال إبراهيم، عن يونس، عن الحسن: حدثني معقل بن يسار. وحدثنا أبو مَعْمَر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا يونس، عن الحسن: أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها، فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها، فأبى معقل،
__________
(1) سنن أبي داود برقم (2194) وسنن الترمذي برقم (1184) وسنن ابن ماجة برقم (2039).
(2) في جـ: "ثم يبدو له تزويجها".
(3) في جـ: "وكذلك".
(4) في جـ، أ: "في النكاح".
(5) رواه ابن ماجة في السنن برقم (1882) من طريق محمد بن مروان عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعا به، وقال البوصيري في الزوائد (2/84): "هذا إسناد مختلف فيه".
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
فنزلت: { فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } (1) .
وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه من طرق متعددة، عن الحسن، عن معقل بن يسار، به (2) . وصححه الترمذي أيضًا، ولفظه عن معقل ابن يسار: أنه زوج أخته رجلا من المسلمين، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لكع (3) أكرمتك بها وزوجتكها، فطلقتها! والله لا ترجع إليك أبدًا، آخر ما عليك قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله: { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } إلى قوله: { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } فلما سمعها معقل قال: سَمْعٌ لربي وطاعة ثم دعاه، فقال: أزوجك وأكرمك، زاد ابن مردويه: وكفرت عن يميني.
وروى ابن جرير (4) عن ابن جريج قال: هي جمل بنت يسار كانت تحت أبي البداح، وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي قال: هي فاطمة بنت يسار. وهكذا ذكر غير واحد من السلف: أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته. وقال السدي: نزلت في جابر بن عبد الله، وابنة عم له، والصحيح الأول، والله أعلم.
وقوله: { ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، يأتمر به ويتعظ به وينفعل له { مَنْ كَانَ مِنْكُمْ } أيها الناس { يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي: يؤمن بشرع الله، ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة (5) وما فيها من الجزاء { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } أي: اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن، وترك الحمية في ذلك، أزكى لكم وأطهر لقلوبكم { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } أي: من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه { وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي: الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون.
{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4529).
(2) سنن أبي داود برقم (2087) وسنن الترمذي برقم (2981) وتفسير الطبري (5/17 ، 18) ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف لسنن ابن ماجة.
(3) في أ: "فقال له وكيع".
(4) في جـ: "ابن جريج".
(5) في جـ: "في الدنيا والآخرة".
هذا إرشاد من الله تعالى (1) للوالدات: أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة، وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك؛ ولهذا (2) قال: { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم.
قال (3) الترمذي: "باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر (4) دون الحولين": حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام". وقال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم: أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئًا. وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام، وهي امرأة هشام بن عروة (5) .
قلت: تفرد الترمذي برواية هذا الحديث، ورجاله على شرط الصحيحين، ومعنى قوله: إلا ما كان في الثدي، أي: في محل (6) الرضاعة قبل الحولين، كما جاء في الحديث، الذي رواه أحمد، عن وَكِيع وغندر، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن له مرضعًا (7) في الجنة". وهكذا أخرجه البخاري من حديث شعبة (8) وإنما قال، عليه السلام، ذلك؛ لأن ابنه إبراهيم، عليه السلام، مات وله سنة وعشرة أشهر، فقال: "إن له مرضعًا في الجنة" يعني: تكمل رضاعه، ويؤيده ما رواه الدارقطني، من طريق الهيثم بن جميل، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين"، ثم قال: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ (9) .
قلت: وقد رواه الإمام مالك في الموطأ، عن ثور بن زيد، عن ابن عباس موقوفًا (10) (11) . ورواه الدراوردي عن ثور، عن عكرمة، عن ابن عباس وزاد: "وما كان بعد الحولين فليس بشيء"، وهذا أصح.
وقال أبو داود الطيالسي، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع بعد فصال، ولا يُتْم بعد احتلام"، وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله: { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [لقمان: 14]. وقال: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } [الأحقاف: 15] . والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين مروي عن
__________
(1) في جـ: "من الله تبارك وتعالى".
(2) في جـ: "فلهذا".
(3) في جـ: "وقال".
(4) في أ: "في الصغير".
(5) سنن الترمذي برقم (1152).
(6) في جـ، أ: "في حال".
(7) في أ، و: "إن ابني مات وإن له مرضعا".
(8) المسند (4/300) وصحيح البخاري برقم (1382).
(9) سنن الدارقطني (4/174).
(10) في هـ: "مرفوعا" والصواب ما أثبتناه من جـ، أ، و، وهو ما نبه عليه الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله.
(11) الموطأ (2/602).
علي، وابن عباس، وابن مسعود، وجابر، وأبي هريرة، وابن عمر، وأم سلمة، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والجمهور. وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، والثوري، وأبي يوسف، ومحمد، ومالك في رواية، وعنه: أن مدته سنتان وشهران، وفي رواية: وثلاثة أشهر. وقال أبو حنيفة: سنتان وستة أشهر، وقال زفر بن الهذيل: ما دام يرضع فإلى ثلاث سنين، وهذا رواية عن الأوزاعي. قال مالك: ولو فطم الصبي دون الحولين فأرضعته امرأة بعد فصاله لم يحرم؛ لأنه قد صار بمنزلة الطعام، وهو رواية عن الأوزاعي، وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا لا رضاع بعد فصال، فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور، سواء فطم أو لم يفطم، ويحتمل أنهما أرادا الفعل، كقول مالك، والله أعلم.
وقد روي في الصحيح (1) عن عائشة، رضي الله عنها: أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم، وهو قول عطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه، وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه، وكان كبيرًا، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، وأبى ذلك سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ورأين (2) ذلك من الخصائص، وهو قول الجمهور. وحجة الجمهور -منهم الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، والأكابر من الصحابة، وسائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى عائشة -ما ثبت في الصحيحين، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انظرْنَ من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة" (3) . وسيأتي الكلام على مسائل الرضاع، وفيما يتعلق برضاع الكبير، عند قوله تعالى: { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } [النساء:23]
وقوله: { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهنّ من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره، كما قال تعالى: { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [الطلاق:7] . قال الضحاك: إذا طلَّقَ [الرجل] (4) زوجته وله منها ولد، فأرضعت له ولده، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف.
وقوله: { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } أي: لا تدفعه (5) عنها لتضر أباه بتربيته، ولكن ليس لها دفعُه إذا ولدته حتى تسقيه اللّبأ (6) الذي لا يعيش بدون تناوله غالبًا، ثم بعد هذا لها رفعه عنها إذا شاءت، ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضّرار لها. ولهذا قال: { وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } أي: بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارًا بها، قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك، والزهري، والسدي، والثوري، وابن زيد، وغيرهم.
__________
(1) في أ: "في الصحيحين".
(2) في جـ: "ويروى".
(3) صحيح البخاري برقم (2647) وصحيح مسلم برقم (1455).
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ، و: "بأن تدفعه".
(6) في جـ: "اللبأة".
وقوله: { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } قيل: في عدم الضرار لقريبه (1) قاله مجاهد، والشعبي، والضحاك. وقيل: عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها، وهو قول الجمهور. وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره. وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وجمهور السلف، ويرشح ذلك بحديث الحسن، عن سَمرة مرفوعًا: من ملك ذا رحم محرم عُتِق عليه (2) .
وقد ذُكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت (3) الولد إما في بدنه أو عقله، وقد قال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة: أنه رأى امرأة تُرضع بعد الحولين. فقال: لا ترضعيه.
وقوله: { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي: فإن اتفقا والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا (4) عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤْخَذُ منه: أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله (5) بعباده، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحه ويصلحهما كما قال في سورة الطلاق: { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } [الطلاق:6].
وقوله: { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } أي: إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد (6) إما لعذر منها، أو عذر له، فلا جناح عليهما في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف. قاله غير واحد.
وقوله: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: في جميع أحوالكم { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم.
__________
(1) في أ: "بقرينه"، وفي و: "بقريبه".
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (3949) والترمذي في السنن برقم (1365) من طريق عاصم الأحول عن الحسن به، وقال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه مسندا إلا من حديث حماد بن سلمة، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن قتادة عن الحسن، عن عمر شيئا من هذا"، ولفظه عندهما: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر".
(3) في أ: "جزت".
(4) في جـ، أ: "واجتمعا".
(5) في جـ: "من رحمه الله تعالى".
(6) في أ، و: "الولد ويسترضع له غيرها".
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) }
هذا أمر من الله (1) للنساء اللاتي يُتَوّفى عنهن أزواجهن: أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال (2) وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع، ومستنده في غير
__________
(1) في جـ: "من الله تعالى".
(2) في جـ: "ليالي".
المدخول بها عُمُوم الآية الكريمة، وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي: أن ابن مسعود سُئِل عن رجل تزوّج امرأة فمات ولم يدخل بها، ولم يفرض لها؟ فترددوا إليه مرارًا (1) في ذلك فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكُن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه: [أرى] (2) لها الصداق كاملا. وفي لفظ: لها صداق مثلها، لا وكس، ولا شَطَط، وعليها العدّة، ولها الميراث. فقام معقل بن سنان (3) الأشجعي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضى به في بَرْوَع بنت واشق. ففرح عبد الله بذلك فرحًا شديدًا. وفي رواية: فقام رجال من أشجع، فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بَرْوَع بنت وَاشِق (4) .
ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها، وهي حامل، فإن عدّتها بوضع الحمل، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة؛ لعموم قوله: { وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [الطلاق: 4] . وكان ابن عباس يرى: أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع، أو أربعة أشهر وعشر، للجمع بين الآيتين، وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي، لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية، المخرج في الصحيحين من غير وجه: أنه توفي عنها زوجها سعد بن خولة، وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، وفي رواية: فوضعت حملها بعده بليال، فلما تَعَلَّتْ من نفاسها تجملت للخُطَّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَك، فقال لها: ما لي أراك مُتَجَمِّلة؟ لعلك ترجين النكاح. والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعَشْر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حلَلَتُ حين وضعتُ، وأمرني بالتزويج إن بدا لي (5) .
قال أبو عمر بن عبد البر: وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سُبَيعة، يعني لما احتج عليه به. قال: ويصحح ذلك عنه: أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة، كما هو (6) قول أهل العلم قاطبة.
وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة، فإن عدتها على النصف من عدة الحرة، شهران وخمس ليال، على قول الجمهور؛ لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحَدّ، فكذلك (7) فلتكن على النصف منها في العدة. ومن العلماء -كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية -من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام؛ لعموم الآية، ولأن العدة من باب الأمور الجبلية (8) التي تستوي فيها الخليقة. وقد ذكر سعيدُ بن المسيب، وأبو العالية وغيرهما: أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا؛ لاحتمال اشتمال الرحم على حمل، فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجودًا، كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما: "إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك
__________
(1) في جـ، أ، و: "إليه شهرا".
(2) زيادة من أ، و.
(3) في هـ، جـ، ط، أ: "معقل بن يسار" والمثبت هو الصواب.
(4) المسند (4/280) وسنن أبي داود برقم (2214، 2215) وسنن الترمذي برقم (1145) وسنن النسائي (6/121) وسنن ابن ماجة برقم (1891).
(5) صحيح البخاري برقم (5319) وصحيح مسلم برقم (1484).
(6) في جـ: "وهو".
(7) في جـ: "وكذلك".
(8) في أ: "الجلية".
فينفخ فيه الروح" (1) . فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه، والله أعلم.
قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشرة؟ قال: فيه ينفخ الروح. وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: لِمَ صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأنه ينفخ فيها الروح. رواهما ابن جرير. ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد، في رواية عنه، إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة هاهنا؛ لأنها صارت فراشا كالحرائر، وللحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن يزيد بن هارون، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص أنه قال: لا تُلْبِسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر (2) ورواه أبو داود، عن قتيبة، عن غُنْدَر -وعن ابن المثنى، عن عبد الأعلى. وابن ماجة، عن علي بن محمد، عن وَكِيع -ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن مَطَر الوراق، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة، عن عمرو بن العاص، فذكره (3) .
وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث، وقيل: إن قبيصة لم يسمع عَمْرًا، وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف، منهم: سعيد بن المسيب، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وأبو عياض (4) ،والزهري، وعمر بن عبد العزيز. وبه كان يأمر يزيد بن عبد الملك بن مروان، وهو أمير المؤمنين. وبه يقول الأوزاعي، وإسحاق بن رَاهْوَيه، وأحمد بن حنبل، في رواية عنه. وقال طاوس وقتادة: عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها نصفُ عدة الحرة: شهران وخمس ليال. وقال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والحسن بن صالح بن حَيّ: تعتد بثلاث حيض. وهو قول علي، وابن مسعود، وعطاء، وإبراهيم النخَعي. وقال مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه: عدتها حيضة. وبه يقول ابن عمر، والشعبي، ومكحول، والليث، وأبو عبيد، وأبو ثَور، والجمهور.
قال الليث: ولو مات وهي حائض أجزأتها. وقال مالك: فلو كانت ممن لا تحيض فثلاثة أشهر. وقال الشافعي والجمهور: شهر، وثلاثة أحب إلي. والله أعلم.
وقوله: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها، لما ثبت في الصحيحين، من غير وجه، عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمي المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3208) وصحيح مسلم برقم (2643).
(2) المسند (4/203).
(3) سنن أبي داود برقم (2308) وسنن ابن ماجة برقم (2083).
(4) في جـ: "وأبو عاص".
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
بالله واليوم الآخر أن تُحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" (1) . وفي الصحيحين أيضا، عن أم سلمة: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابنتي تُوفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينُها، أفنكْحُلُها؟ فقال: "لا ". كل ذلك يقول: "لا" مرتين أو ثلاثًا. ثم قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشر (2) وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة". قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفْشًا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبًا ولا شيئًا، حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بَعْرة فترمي بها، ثم تؤتى بدابة -حمار أو شاة أو طير -فَتَفْتَضَّ به فقلما تفتض بشيء إلا مات (3) .
ومن هاهنا ذهب كثير من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها، وهي قوله: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [البقرة: 240]، كما قاله ابن عباس وغيره، وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره.
والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحُلِيٍّ وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدًا، ولا يجب في عدة الرجعية قولا واحدًا، وهل يجب في عدة البائن؟ فيه قولان.
ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن، سواء في ذلك الصغيرة والآيسة (4) والحرة والأمة، والمسلمة والكافرة، لعموم الآية. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا إحداد على الكافرة. وبه يقول أشهبُ، وابنُ نافع من أصحاب مالك. وحجة قائل هذه المقالة قولهُ صلى الله عليه وسلم (5) :"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا": قالوا: فجعله تعبدًا (6) . وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري الصغيرة بها، لعدم التكليف. وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها (7) . ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع، والله الموفق للصواب.
وقوله: { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي: انقضت عدتهن (8) . قاله الضحاك والربيع بن أنس، { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } قال الزهري: أي: على أوليائها { فِيمَا فَعَلْنَ } يعني: النساء اللاتي انقضت عدتهن. قال العوفي (9) عن ابن عباس: إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنَّع وتتعرض للتزويج، فذلك المعروف. روي عن مقاتل بن حيان نحوه، وقال ابن جريج عن مجاهد: { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } قال: هو النكاح الحلال الطيب. وروي عن الحسن، والزهري، والسدي نحو ذلك.
{ وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5337) وصحيح مسلم برقم (1486) من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها، وصحيح البخاري برقم (5334) وصحيح مسلم برقم (1486) من حديث أم حبيبة رضي الله عنها.
(2) في جـ: "وعشرا".
(3) صحيح البخاري برقم (5336) وصحيح مسلم برقم (1488).
(4) في جـ: "الصغير والكبير".
(5) في جـ: "عليه السلام".
(6) في جـ: "مقيدا".
(7) في جـ: "لبعضها".
(8) في جـ، أ، و: "عدتها".
(9) في جـ: "قال الوالبي".
يقول تعالى: { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أن تُعَرّضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح. قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } قال: التعريض أن تَقُول: إني أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها -يعرض لها بالقول بالمعروف -وفي رواية: وددت أن الله رزقني امرأة ونحو هذا. ولا يَنْصِبُ للخِطْبة. وفي رواية: إني لا أريد أن أتزوج غيرَك إن شاء الله، ولوددت أني وجدت امرأة صالحة، ولا ينصب لها ما دامت في عدتها. ورواه البخاري تعليقًا، فقال: قال لي طلق بن غَنَّام، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس: { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } هو أن يقول: إني أريد التزويج، وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أنه تَيَسَّر لي امرأة صالحة (1) .
وهكذا قال مجاهد، وطاوس، وعكرمة، وسعيد بن جُبير، وإبراهيم النخَعي، والشعبي، والحسنُ، وقتادة، والزهري، ويزيد بن قُسَيط، ومقاتل بن حيَّان، والقاسم بن محمد، وغير واحد من السلف والأئمة في التعريض: أنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها بالخطبة. وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس، حين طلقها زوجها أبو عَمْرو بن حَفْص: آخر ثلاث تطليقات. فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وقال لها: "فإذا حَلَلْت فآذنيني". فلما حلَّتْ خطب عليها أسامة بن زيد مولاه، فزَوّجها إياه (2) .
فأما المطلقة الرجعية: فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها، والله أعلم.
وقوله: { أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ } أي: أضمرتم في أنفسكم خطْبَتَهُنّ (3) وهذا كقوله تعالى: { وَرَبُّكَ (4) يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [القصص:69] وكقوله: { وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ } [المتحنة:1] ولهذا قال: { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } أي: في أنفسكم، فرفع الحرج عنكم في ذلك، ثم قال: { وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } قال أبو مِجْلَز، وأبو الشعثاء -جابر بن زيد -والحسن البصري، وإبراهيم النخعي وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، وسليمان التيمي، ومقاتل بن حيان، والسدي: يعني الزنا. وهو معنى رواية العَوفي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5124).
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (1480).
(3) في جـ، أ، و: "من خطبتهن".
(4) في جـ: "والله" وهو خطأ.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } لا تقل لها: إني عاشق، وعاهديني ألا تتزوجي غيري، ونحو هذا. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبير، والشعبي، وعكرمة، وأبي الضحى، والضحاك، والزهري، ومجاهد، والثوري: هو أن يأخذ ميثاقها ألا تتزوج غيره، وعن مجاهد: هو قول الرجل للمرأة: لا تفوتيني بنفسك، فإني ناكحك.
وقال قتادة: هو أن يأخذ عهد المرأة، وهي في عدتها ألا تنكح غيره، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه، وأحل الخطبة والقول بالمعروف.
وقال ابن زيد: { وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } هو أن يتزوجها في العدة سرًا، فإذا حلت أظهر ذلك.
وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك؛ ولهذا قال: { إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا } قال (1) ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير، والسدي، والثوري، وابن زيد: يعني به: ما تقدم من إباحة التعريض. كقوله: إني فيك لراغب. ونحو ذلك.
وقال محمد بن سيرين: قلت لعَبِيدة: ما معنى قوله: { إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا } ؟ قال: يقول لوليها: لا تسبِقْني بها، يعني: لا تزوجها حتى تُعلمني. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: { وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } يعني: ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة. قال ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والربيع بن أنس، وأبو مالك، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان، والزهري، وعطاء الخراساني، والسدي، والثوري، والضحاك: { حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } يعني: حتى تنقضي العدة.
وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة. واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها، فإنه يفرق بينهما، وهل تحرم عليه أبدا؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها. وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد. واحتج في ذلك بما رواه عن ابن شهاب، وسليمان بن يسار: أن عمر، رضي الله عنه، قال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن زوجها الذي تزوجها (2) لم يدخل بها، فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول (3) ثم اعتدت من الآخر، ثم لم ينكحها أبدًا (4) .
قالوا: ومأخذ هذا: أن الزوج لما استعجل ما أجل الله، عوقب بنقيض قصده، فحرمت عليه على التأبيد، كالقاتل يحرم (5) الميراثَ. وقد روى الشافعي هذا الأثر عن مالك. قال البيهقي: وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد، لقول علي: إنها تحل له.
قلت: ثم هو (6) منقطع عن عمر. وقد روى الثوري، عن أشعث، عن الشعبي، عن مسروق:
__________
(1) في جـ: "وقال".
(2) في جـ، أ، و: "زوجها التي تزوج بها".
(3) في جـ: "من زوجها الأول".
(4) الموطأ (2/535).
(5) في جـ: "يحرم عليه".
(6) في جـ: "قلت وهو".
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
أن عمر رجع عن ذلك وجعل لها مهرها، وجعلهما يجتمعان.
وقوله: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يُؤْيِسْهُم من رحمته، ولم يُقْنطهم من عائدته، فقال: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } (1) .
{ لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) }
أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها. قال ابن عباس، وطاوس، وإبراهيم، والحسن البصري: المس: النكاح. بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها، والفرض لها إن كانت مفوضة، وإن كان في هذا انكسار لقلبها؛ ولهذا أمر تعالى بإمتاعها، وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره.
وقال سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: متعة الطلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إن (2) كان موسرا متعها بخادم، أو شبه ذلك، وإن كان معسرا أمتعها بثلاثة أثواب.
وقال الشعبي: أوسط ذلك: درع وخمار وملحفة وجلباب. قال: وكان شريح يمتع بخمسمائة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: كان يُمتع بالخادم، أو بالنفقة، أو بالكسوة، قال: ومتع الحسن بن علي بعشرة آلاف (3) ويروى أن المرأة قالت:
متاعٌ قليلٌ من حَبِيبٍ مُفَارق ...
وذهب أبو حنيفة، رحمه الله، إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها. وقال الشافعي في الجديد: لا يجبر الزوج على قدر معلوم، إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة، وأحب ذلك إليَّ أن يكون أقله ما تجزئ فيه الصلاة. وقال في القديم: لا أعرف في المتعة قدرًا (4) إلا أني أستحسن ثلاثين درهمًا؛ لما روي عن ابن عمر، رضي الله عنهما (5) .
وقد اختلف العلماء أيضًا: هل تجب المتعة لكل مطلقة، أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي لم يفرض لها؟ على أقوال:
أحدها: أنه تجب المتعة لكل مطلقة، لعموم قوله تعالى: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } [البقرة:241] ولقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } [الأحزاب:28] وقد كن مفروضا لهن ومدخولا بهن، (6) وهذا
__________
(1) في جـ، أ، و: "غفور حليم" وهو الصواب.
(2) في أ: "إذا".
(3) ورواه الطبري في تفسيره (5/123) من طريق عبد الرزاق به.
(4) في جـ، أ، و: "وقتا".
(5) في جـ: "عنه".
(6) في جـ: "وقد كن مدخولا بهن ومفروضا لهن".
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
قول سعيد بن جُبير، وأبي العالية، والحسن البصري. وهو أحد قولي الشافعي، ومنهم من جعله الجديد الصحيح، فالله أعلم.
والقول الثاني: أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس، وإن كانت مفروضًا لها لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا } [الأحزاب:49] قال شعبة وغيره، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: نسخت هذه الآية التي في الأحزاب الآية التي في البقرة.
وقد روى البخاري في صحيحه، عن سهل بن سعد، وأبي أسَيد أنهما قالا تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنما (1) كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازِقِيَّين (2) (3) .
والقول الثالث: أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها، ولم يفرض (4) لها، فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة، وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول، وجب لها عليه شطره، فإن دخل بها استقر الجميع، وكان ذلك عوضًا لها عن المتعة، وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها. وهذا قول ابن عمر، ومجاهد. ومن العلماء: من استحبها لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول: وهذا ليس بمنكور (5) وعليه تحمل آية التخيير في الأحزاب؛ ولهذا قال تعالى: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } [البقرة:241] .
ومن العلماء من يقول: إنها مستحبة مطلقًا. قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب القزويني، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، حدثنا عمرو -يعني ابن أبي قيس -عن أبي إسحاق، عن الشعبي قال: ذكروا له المتعة، أيحبس فيها؟ فقرأ: { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } قال الشعبي: والله ما رأيت أحدا حبس (6) فيها، والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة.
{ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) }
وهذه الآية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى (7) حيث إنما أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض، وإذا طلق الزوج قبل الدخول، فإنه لو كان ثم واجب آخر من
__________
(1) في أ، و: "فكأنها".
(2) في جـ: "درافتين".
(3) صحيح البخاري برقم (5226).
(4) في جـ: "ولم يعرض"
(5) في جـ: "بمعلوم".
(6) في جـ: "أحسن".
(7) في أ: "الكريمة".
متعة لبينها (1) لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الحالة (2) والله أعلم.
وتشطير الصداق -والحالة هذه -أمر مجمع عليه بين العلماء، لا خلاف بينهم في ذلك، فإنه متى كان قد سمى لها صداقًا ثم فارقها قبل دخوله بها، فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق، إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج، وإن لم يدخل بها، وهو مذهب الشافعي في القديم، وبه حكم الخلفاء الراشدون، لكن (3) قال الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، أخبرنا ابن جريج، عن ليث بن أبي سليم، عن طاوس، عن ابن عباس أنه قال: -في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها -ليس لها إلا نصف الصداق؛ لأن الله يقول: { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } قال الشافعي: هذا أقوى (4) وهو ظاهر الكتاب.
قال البيهقي: وليث بن أبي سليم وإن كان غير محتج (5) به، فقد رويناه من حديث ابن أبي طلحة، عن ابن عباس فهو يقوله (6) .
وقوله: { إِلا أَنْ يَعْفُونَ } أي: النساء عما وجب لها على زوجها من النصف، فلا يجب لها عليه شيء.
قال السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: { إِلا أَنْ يَعْفُونَ } قال: إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها. قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم، رحمه الله: وروي عن شريح، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، ومجاهد، والشعبي، والحسن، ونافع، وقتادة، وجابر بن زيد، وعطاء الخراساني، والضحاك، والزهري، ومقاتل بن حيان، وابن سيرين، والربيع بن أنس، والسدي، نحو ذلك. قال: وخالفهم محمد بن كعب القرظي فقال: { إِلا أَنْ يَعْفُونَ } يعني: الرجال، وهو قول شاذ لم يتابع عليه. انتهى كلامه.
وقوله: { أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } قال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن لهيعة، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم [قال] (7) : "ولي عقدة النكاح الزوج".
وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة، به (8) . وقد أسنده ابن جرير، عن ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره (9) ولم يقل: عن أبيه، عن جده فالله أعلم.
ثم قال ابن أبي حاتم، رحمه الله: وحدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا جرير، يعني ابن حازم، (10) عن عيسى -يعني ابن عاصم -قال: سمعت شريحًا يقول: سألني علي بن طالب (11)
__________
(1) في أ: "لمسها".
(2) في جـ: "المتعة مهما دلت عليه الآية الأولى بتلك الحالة".
(3) في جـ: "ولكن".
(4) في جـ، و: "بهذا أقول"، وفي أ: "بهذا القول".
(5) في جـ: "غير صحيح".
(6) في أ، و: "فهو مقوله".
(7) زيادة من جـ، أ، و.
(8) ورواه الدارقطني في السنن (3/279) من طريق قتيبة عن ابن لهيعة به، وذكر البيهقي في السنن الكبرى (7/251) وقال: "هذا غير محفوظ، وابن لهيعة غير محتج به، والله أعلم".
(9) تفسير الطبري (5/157).
(10) في جـ: "يعني ابن أبي حازم".
(11) في أ: "علي بن أبي طلحة"، وفي و: "علي بن أبي طالب".
عن الذي بيده عقدة النكاح. فقلت له: هو ولي المرأة. فقال علي: لا بل هو الزوج.
ثم قال: وفي إحدى الروايات عن ابن عباس، وجبير بن مطعم، وسعيد بن المسيب، وشريح -في أحد قوليه -وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، وعكرمة، ونافع، ومحمد بن سيرين، والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، وجابر بن زيد، وأبي مِجْلز، والربيع بن أنس، وإياس بن معاوية، ومكحول، ومقاتل بن حيان: أنه الزوج.
قلت: وهذا هو الجديد من قولي (1) الشافعي، ومذهب أبي حنيفة. وأصحابه، والثوري، وابن شبرمة، والأوزاعي، واختاره ابن جرير. ومأخذ هذا القول: أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوج، فإن بيده (2) عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها، وكما أنه لا يجوز للولي أن يهب شيئًا من مال المولية للغير، فكذلك في الصداق.
قال (3) والوجه الثاني: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا محمد بن مسلم، حدثنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس -في الذي ذكر الله بيده عقدة النكاح -قال: ذلك أبوها أو أخوها، أو من لا تنكح إلا بإذنه، وروي عن علقمة، والحسن، وعطاء، وطاوس، والزهري، وربيعة، وزيد بن أسلم، وإبراهيم النخعي، وعكرمة في أحد قوليه، ومحمد بن سيرين -في أحد قوليه: أنه الولي. وهذا مذهب مالك، وقول (4) الشافعي في القديم؛ ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه، فله التصرف فيه بخلاف سائر مالها.
وقال ابن جرير: حدثنا سعيد بن الربيع الرازي، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: أذن الله في العفو وأمر به، فأي امرأة عفت جاز عفوها، فإن شحت وضنت عفا وليها وجاز عفوه.
وهذا يقتضي صحة عفو الولي، وإن كانت رشيدة، وهو مروي عن شريح. لكن أنكر عليه الشعبي، فرجع عن ذلك، وصار إلى أنه الزوج وكان يباهل عليه.
وقوله: { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } قال ابن جرير: قال بعضهم: خُوطب به الرجال، والنساء. حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس: { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } قال: أقربهما للتقوى الذي يعفو.
وكذا روي عن الشعبي وغيره، وقال مجاهد، والضحاك، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، والثوري: الفضل (5) هاهنا أن تعفو المرأة عن شطرها، أو إتمام الرجل الصداق لها. ولهذا قال: { وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ [بَيْنَكُمْ ] (6) } أي: الإحسان، قاله سعيد. وقال الضحاك، وقتادة، والسدي، وأبو وائل: المعروف ، يعني: لا تهملوه بل استعملوه بينكم.
وقد قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا موسى بن إسحاق،
__________
(1) في جـ: "من مذهب".
(2) في جـ: "فإن بيدها".
(3) في جـ: "وقال".
(4) في جـ: "وهو قول".
(5) في جـ: والفضل".
(6) زيادة من جـ.
حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا عبيد الله (1) بن الوليد الوصافي، عن عبد الله بن عبيد، عن علي بن أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليأتينَّ على الناس زمان عَضُوض، يَعَضّ المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل، وقد قال الله تعالى: { وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } شرار يبايعون كل مضطر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وعن بيع الغَرَر، فإن كان عندك خير فعُدْ به على أخيك، ولا تزده هلاكًا إلى هلاكه، فإن المسلم أخو المسلم لا يَحْزُنه (2) ولا يحرمه" (3) .
وقال سفيان، عن أبي هارون قال: رأيت عون بن عبد الله في مجلس القرظي، فكان عون يحدثنا ولحيته تُرَش من البكاء ويقول: صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم هَمًّا، حين رأيتهم أحسن ثيابًا، وأطيب ريحًا، وأحسن مركبًا [منى] (4) . وجالست الفقراء فاسترحت بهم، وقال: { وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } إذا أتاه السائل وليس عنده شيء فَلْيَدْعُ له: رواه ابن أبي حاتم.
{ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: لا يخفى عليه شيء من أموركم (5) وأحوالكم، وسيجزي كل عامل بعمله.
__________
(1) في أ، و: "عبد الله".
(2) في أ: "لا يخزيه".
(3) وقد جاء من وجه آخر، رواه أحمد في المسند (1/116) وأبو داود في السنن برقم (3382) من طريق أبي عامر المزني عن شيخ من بني تميم عن علي موقوفا عليه بنحوه.
(4) زيادة من جـ، أ، و.
(5) في جـ: "من أعمالكم".
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
{ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) }
يأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها، وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على وقتها". قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله". قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين". قال: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدتُه لزادني (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا ليث، عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم، عن القاسم بن غنام، عن جدته أم أبيه الدنيا، عن جدته أم فَرْوَة -وكانت ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الأعمال، فقال: "إن أحب الأعمال (2) إلى الله تعجيلُ الصلاة لأول وقتها".
وهكذا رواه أبو داود، والترمذي (3) وقال: لا نعرفه إلا من طريق العمري، وليس بالقوي عند أهل الحديث:
وخص تعالى من بينها بمزيد التأكيد الصلاة الوسطى. وقد اختلف السلف والخلف فيها: أي
__________
(1) صحيح البخاري برقم (527 ، 5970) وصحيح مسلم برقم (85).
(2) في جـ: "العمل".
(3) المسند (6/274) وسنن أبي داود برقم (426) وسنن الترمذي برقم (170).
صلاة هي؟ فقيل: إنها الصبح. حكاه مالك في الموطأ بلاغًا عن علي، وابن عباس [قال: مالك: وذلك رأيى] (1) . وقال هشيم، وابن عُليَّة، وغُنْدَر، وابن أبي عدي، وعبد الوهاب، وشَريك وغيرهم، عن عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس الفجر، فقنتَ فيها، ورفع يديه، ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين. رواه ابن جرير (2) . ورواه أيضًا من حديث عوف، عن خِلاس بن عمرو، عن ابن عباس، مثله سواء (3) .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عوف، عن أبي المنهال، عن أبي العالية، عن ابن عباس: أنه صلى الغداة في مسجد (4) البصرة، فقنت قبل الركوع وقال: هذه الصلاة الوسطى التي ذكرها الله في كتابه فقال: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }
وقال أيضًا: حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة (5) صلاة الغداة، فقلت لرجل من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى جانبي: ما الصلاة الوسطى؟ قال: هذه الصلاة (6) .
وروي من طريق أخرى عن الربيع، عن أبي العالية: أنه صلى مع أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صلاة الغداة، فلما فرغوا قال، قلت لهم: أيَّتهُنَّ الصلاة الوسطى؟ قالوا: التي قد صليتها قبل.
وقال أيضًا: حدثنا ابن بشار، حدثنا ابن عَتمَةَ، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن جابر بن عبد الله قال: الصلاة الوسطى: صلاة الصبح.
وحكاه ابن أبي حاتم، عن ابن عمر، وأبي أمامة، وأنس، وأبي العالية، وعُبَيد بن عمير، وعطاء، ومجاهد، وجابر بن زيد، وعكرمة، والربيع بن أنس. ورواه ابن جرير، عن عبد الله بن شداد بن الهاد أيضا وهو الذي نص عليه الشافعي، رحمه الله، محتجا بقوله: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } والقنوت عنده في صلاة الصبح. [ونقله الدمياطي عن عمر، ومعاذ، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة على خلاف منهم، وأبي موسى، وجابر، وأنس، وأبي الشعثاء، وطاوس، وعطاء، وعكرمة، ومجاهد] (7) .
ومنهم من قال: هي الوسطى باعتبار أنها لا تقصر، وهي بين صلاتين رباعيتين مقصورتين. وترد المغرب. وقيل: لأنها بين صلاتَيْ ليل (8) جهريتين، وصلاتي نهار (9) سريتين.
وقيل: إنها صلاة الظهر. قال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزبرقان -
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) تفسير الطبري (5/215 ، 216).
(3) تفسير الطبري (5/218).
(4) في جـ: "في جامع".
(5) في أ، و: "بالبصرة وفرغت".
(6) في أ: "هذه الصلاة الوسطى".
(7) زيادة من جـ ، أ.
(8) في أ، و: "بين صلاتين ليليتين".
(9) في أ، و: "وصلاتين نهاريتين".
يعني ابن عمرو -عن (1) زهرة -يعني ابن معبد -قال: كنا جلوسا عند زيد بن ثابت، فأرسلوا إلى أسامة، فسألوه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي الظهر، كان النبي (2) صلى الله عليه وسلم، يصليها بالهجير (3) .
وقال [الإمام] (4) أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، حدثني عمْرو بن أبي حكيم، سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يُصَلِّي صلاة أشد على أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، منها، فنزلت: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } وقال: "إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين"، ورواه أبو داود في سننه، من حديث شعبة، به (5) .
وقال أحمد أيضا: حدثنا يزيد، حدثنا ابن أبي ذئب (6) عن الزبرقان (7) أن رهطًا من قريش مر بهم زيد بن ثابت، وهم مجتمعون، فأرسلوا إليه غلامين لهم؛ يسألانه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي العصر. فقام إليه رجلان منهم فسألاه، فقال: هي الظهر. ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه، فقال: هي الظهر؛ إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وفي تجارتهم، فأنزل الله: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليَنْتَهيَنَّ رجال أو لأحرقن بيوتهم" (8) .
الزبرقان هو ابن عمرو بن أمية الضمري، لم يدرك أحدا من الصحابة. والصحيح ما تقدم من روايته، عن زهرة بن معبد، وعروة بن الزبير.
وقال شعبة وهمام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى: صلاة الظهر.
وقال أبو داود الطيالسي وغيره، عن شعبة، أخبرني عمر بن سليمان، من ولد عمر بن الخطاب قال: سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، يحدث عن أبيه، عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى هي الظهر.
ورواه ابن جرير، عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، عن عبد الصمد، عن شعبة، عن عمر بن سليمان، به، عن زيد بن ثابت، في حديث رفعه قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر.
وممن روي عنه أنها الظهر: ابن عمر، وأبو سعيد، وعائشة على اختلاف عنهم. وهو قول عروة بن الزبير، وعبد الله بن شداد بن الهاد. ورواية عن أبي حنيفة، رحمهم الله.
وقيل: إنها صلاة العصر. قال الترمذي والبغوي، رحمهما الله: وهو قول أكثر علماء الصحابة وغيرهم، وقال القاضي الماوردي: وهو قول جمهور التابعين. وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: هو قول أكثر أهل الأثر. وقال أبو محمد بن عطية في تفسيره: هو قول جمهور الناس. وقال الحافظ
__________
(1) في جـ: "وعن".
(2) في جـ: "رسول الله".
(3) مسند الطيالسي برقم (628).
(4) زيادة من جـ.
(5) المسند (5/183) وسنن أبي داود برقم (411).
(6) في أ: "حدثنا ابن أبي وهب"، وفي و: "أنبأنا أبي وهب".
(7) في أ: "ابن الزبرقان".
(8) المسند (5/206).
أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي في كتابه المسمى: "كشف المغطى، في تبيين الصلاة الوسطى": وقد نصر فيه أنها العصر، وحكاه عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي أيوب، وعبد الله ابن عمرو، وسَمُرة بن جُنْدُب، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وحفصة، وأم حبيبة، وأم سلمة. وعن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة على (1) الصحيح عنهم. وبه قال عبيدة، وإبراهيم النخعي، وزر بن حبيش، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، والحسن، وقتادة، والضحاك، والكلبي، ومقاتل، وعبيد بن أبي مريم، وغيرهم وهو مذهب أحمد بن حنبل. قال القاضي الماوردي: والشافعي. قال ابن المنذر: وهو الصحيح عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، واختاره ابن حبيب المالكي، رحمهم الله.
ذكر الدليل على ذلك:
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن مسلم، عن شتير بن شكل (2) عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارًا". ثم صلاها بين العشاءين: المغرب والعشاء (3) .
وكذا رواه مسلم، من حديث أبي معاوية محمد بن حازم الضرير، والنسائي من طريق عيسى بن يونس، كلاهما عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل (4) بن حميد، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله (5) .
وقد رواه مسلم أيضا، من طريق شعبة، عن الحكم بن عتيبة (6) عن يحيى بن الجزار، عن علي، به (7) .
وأخرجه الشيخان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وغير واحد من أصحاب المساند (8) والسنن، والصحاح من طرق يطول ذكرها، عن عبيدة السلماني، عن علي، به (9) .
ورواه الترمذي، والنسائي من طريق الحسن البصري، عن علي، به (10) . قال الترمذي: ولا يعرف سماعه منه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عاصم، عن زر: قال قلت لعبيدة: سل عليًا عن صلاة الوسطى، فسأله، فقال: كنا نراها الفجر -أو الصبح -حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وأجوافهم -أو بيوتهم -نارًا" ورواه ابن جرير، عن بندار، عن ابن مهدي،
__________
(1) في جـ: "في".
(2) في جـ: "بشير بن نكل".
(3) المسند (1/81).
(4) في جـ: "بشير بن نكل".
(5) صحيح مسلم برقم (627) وسنن النسائي الكبرى برقم (11045).
(6) في أ: "بن عيينة".
(7) صحيح مسلم برقم (627).
(8) في أ: "المسانيد".
(9) صحيح البخاري برقم (2931 ، 4111) وصحيح مسلم برقم (627) وسنن أبي داود برقم (409) وسنن الترمذي برقم (2984) وسنن النسائي (1/236).
(10) لم أقع على هذا الطريق ولم يذكره المزي في تحفة الأشراف.
به (1) .
وحديث يوم الأحزاب، وشَغْل المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه عن أداء صلاة العصر يومئذ، مروي عن جماعة من الصحابة يطول ذكرهم، وإنما المقصود رواية من نص منهم في روايته أن الصلاة الوسطى: هي صلاة العصر. وقد رواه مسلم أيضا، من حديث ابن مسعود، والبراء بن عازب -رضي الله عنهما (2) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الوسطى: صلاة العصر" (3) .
وحدثنا بهز، وعفان قالا حدثنا أبان، حدثنا قتادة، عن الحسن، عن سَمُرة: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } وسماها لنا أنها هي: صلاة العصر (4) .
وحدثنا محمد بن جعفر، وروح، قالا حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سَمُرة بن جندب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هي العصر". قال ابن جعفر: سئل عن صلاة الوسطى (5) .
ورواه الترمذي، من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. (6) وقال: حسن صحيح: وقد سُمِعَ منه.
[حديث آخر] (7) : وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة الوسطى صلاة العصر" (8) .
طريق أخرى، بل حديث آخر: وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا سليمان بن أحمد الجرشي الواسطي، حدثنا الوليد بن مسلم. قال: أخبرني صدقة بن خالد، حدثني خالد بن دهقان، عن خالد بن سبلان، عن كهيل بن حرملة. قال: سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى، فقال: اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها، ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفينا الرجل الصالح: أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فقال: أنا أعلم لكم ذلك: فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه، ثم خرج إلينا فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر (9) غريب من هذا الوجه جدًا.
حديث آخر: قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا عبد السلام، عن سالم مولى أبي بصير (10) حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي قال: كنت جالسًا عند عبد العزيز بن
__________
(1) تفسير الطبري (5/184).
(2) صحيح مسلم برقم (628) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وبرقم (630) من حديث البراء رضي الله عنه.
(3) المسند (5/22).
(4) المسند (5/8).
(5) المسند (5/7 ، 12 ، 13).
(6) سنن الترمذي برقم (182 ، 2983).
(7) زيادة من جـ، أ.
(8) تفسير الطبري (5/189).
(9) تفسير الطبري (5/191).
(10) في أ: "أبي نصير".
مروان فقال: يا فلان، اذهب إلى فلان فقل له: أي شيء سمعت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم. في الصلاة الوسطى؟ فقال رجل جالس: أرسلني أبو بكر وعمر -وأنا غلام صغير -أسأله عن الصلاة الوسطى، فأخذ إصبعي الصغيرة فقال: هذه الفجر، وقبض التي تليها، فقال: هذه الظهر. ثم قبض الإبهام، فقال: هذه المغرب. ثم قبض التي تليها، فقال: هذه العشاء. ثم قال: أي أصابعك بقيت؟ فقلت: الوسطى. فقال: أي الصلاة بقيت؟ فقلت: العصر. فقال: هي العصر (1) . غريب أيضًا.
حديث آخر: قال ابن جرير: حدثني محمد بن عوف الطائي، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش (2) حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة الوسطى صلاة العصر" (3) . إسناده لا بأس به.
حديث آخر: قال أبو حاتم بن حبان في صحيحه: حدثنا أحمد بن يحيى بن زهير، حدثنا الجراح بن مخلد، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام عن قتادة عن مُوَرِّق (4) العِجْلي، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الوسطى صلاة العصر" (5) .
وقد روى الترمذي، من حديث محمد بن طلحة بن مصرف، عن زبيد اليامي، عن مُرَّة الهَمداني، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صلاة الوسطى صلاة العصر " (6) ثم قال: حسن صحيح.
وأخرجه مسلم في صحيحه، من طريق (7) محمد بن طلحة، به (8) ولفظه: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" الحديث.
فهذه نصوص في المسألة لا تحتمل شيئا، ويؤكد ذلك الأمر بالمحافظة عليها، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، من رواية الزهري، عن سالم، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله (9) " (10) . وفي الصحيح أيضًا، من حديث الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قِلابة، عن أبي المهاجر (11) عن بُرَيدة بن الحُصَيْب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بكروا بالصلاة في يوم الغيم، فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" (12) (13) .
__________
(1) تفسير الطبري (5/196).
(2) في أ: "بن عباس".
(3) تفسير الطبري (5/198) وقول الحافظ: إسناده لا بأس به، متعقب؛ فإن في إسناده ضعف وانقطاع، وهذه نسخة مشهورة خرجها الطبراني في المعجم الكبير.
(4) وقع في هـ: "همام بن مورق" والتصحيح من الإحسان.
(5) صحيح ابن حبان (3/121) "الإحسان".
(6) سنن الترمذي برقم (181).
(7) في جـ: "من حديث".
(8) صحيح مسلم برقم (628).
(9) في جـ: "ماله وأهله".
(10) صحيح مسلم برقم (626).
(11) في جـ: "عن أبي المهاجر عن أبي المليح".
(12) الذي في الصحيح إنما هو عن هشام عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، عن بريدة رضي الله عنه، وهو في صحيح البخاري برقم (553)، وهذا الثاني إنما هو في سنن ابن ماجة برقم (694)، والأول هو المحفوظ، وقد وقع في نسخة "جـ" إثباته على الصواب، كما بينته، لكن وقع تخليط في ذلك؛ لأنه أثبت كلمة: "وفي الصحيح" ثم تدارك ذلك.
(13) جاء في جـ: "كذا رواه ابن ماجة من حديث الأوزاعي، ورواه البخاري والنسائي من حديث هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المليح بن أسامة، عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، عن أبي تميم، عن أبي بصرة (1) الغفاري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد من أوديتهم، يقال له: المخَمَّص صلاة العصر، فقال: "إن هذه الصلاة صلاة العصر عُرِضَت على الذين من قبلكم فضيعوها، ألا ومن صلاها ضُعِّف له أجره مرتين، ألا ولا صلاة بعدها حتى تروا (2) الشاهد".
ثم قال: رواه عن يحيى بن إسحاق، عن الليث، عن خير (3) بن نُعيِم، عن عبد الله بن هبيرة، به (4) .
وهكذا رواه مسلم والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن الليث (5) . ورواه مسلم أيضاً من حديث محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن أبي حبيب كلاهما عن خير بن نعيم الحضرمي، عن عبد الله ابن هبيرة السبائي (6) (7) .
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد أيضا: حدثنا إسحاق، أخبرني مالك، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، قالت: إذا بلغت هذه الآية: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } فآذني. فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" قالت: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا رواه مسلم، عن يحيى بن يحيى، عن مالك، به (8) .
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر". (9) وهكذا رواه من طريق الحسن البصري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها كذلك. وقد روى الإمام مالك أيضا، عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع قال: كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } فلما بلغتها آذنتها. فأملت علي: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" (10) .
وهكذا رواه محمد بن إسحاق بن يسار (11) فقال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي، ونافع مولى بن عمر: أن عمر بن نافع قال... فذكر مثله، وزاد: كما حفظتها من النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) جـ: "عن أبي نضرة".
(2) في أ: "حتى يزول".
(3) في جـ: "عن حسن".
(4) المسند (6/397).
(5) صحيح مسلم برقم (830) وسنن النسائي (1/259).
(6) في أ: "الشيباني".
(7) صحيح مسلم برقم (830).
(8) المسند (6/73) وصحيح مسلم برقم (629).
(9) تفسير الطبري (5/175).
(10) الموطأ (1/139).
(11) في جـ: "بن بشار".
طريق أخرى عن حفصة: قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن عبد الله بن يزيد الأزدي، عن سالم بن عبد الله: أن حفصة أمرت إنساناً أن يكتب لها مصحفا، فقالت: إذا بلغت هذه الآية: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } فآذني. فلما بلغ آذنها فقالت: اكتب: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" (1) .
طريق أخرى: قال ابن جرير: حدثني ابن المثنى عبد الوهاب، حدثنا عبيد الله، عن نافع، أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا فقالت: إذا بلغت هذه الآية: " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها. فلما بلغها أمرته فكتبها: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين". قال نافع: فقرأت ذلك المصحف فرأيت فيه "الواو" (2) .
وكذا روى ابن جرير، عن ابن عباس وعبيد بن عمير أنهما قرآ كذلك.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبدة، حدثنا محمد بن عمرو، حدثني أبو سلمة، عن عمرو بن رافع مولى عمر قال: كان في مصحف حفصة: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين" (3) . وتقرير المعارضة أنه عطف صلاة العصر على الصلاة الوسطى بواو العطف التي تقتضي المغايرة، فدل ذلك على أنها غيرها وأجيب عن ذلك بوجوه: أحدها أن هذا إن روي على أنه خبر، فحديث علي أصح وأصرح منه، وهذا يحتمل أن تكون الواو زائدة، كما في قوله: { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام:55] ، { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [الأنعام:75] ، أو تكون لعطف الصفات لا لعطف الذوات، كقوله: { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } [الأحزاب:40] ، وكقوله: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } [الأعلى 1-4] وأشباه ذلك كثيرة، وقال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم ...
وقال أبو دؤاد الإيادي:
سلط الموت والمنون عليهم ... فلهم في صدى المقابر هام (4)
والموت هو المنون؛ قال عدي بن زيد العبادي:
فقدمت الأديم لراهشيه ... فألفى قولها كذبا ومينا (5)
والكذب: هو المين، وقد نص سيبويه شيخ النحاة على جواز قول القائل: مررت بأخيك وصاحبك، ويكون الصاحب هو الأخ نفسه، والله أعلم.
__________
(1) تفسير الطبري (5/208 ، 209).
(2) تفسير الطبري (5/209).
(3) تفسير الطبري (5/211).
(4) البيت في لسان العرب لابن منظور، مادة "منن".
(5) البيت في لسان العرب لابن منظور، مادة "مين".
وأما إن روي على أنه قرآن فإنه لم يتواتر، فلا يثبت بمثل خبر الواحد قرآن؛ ولهذا لم يثبته أمير المؤمنين عثمان بن عفان في المصحف الإمام، ولا قرأ بذلك أحد من القراء الذين تثبت الحجة بقراءتهم، لا من السبعة ولا غيرهم. ثم قد روي ما يدل على نسخ هذه التلاوة المذكورة في هذا الحديث. قال مسلم: حدثنا إسحاق بن راهويه، أخبرنا يحيى بن آدم، عن فضيل بن مرزوق، عن شقيق بن عقبة، عن البراء بن عازب، قال: نزلت: "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر (1) " فقرأناها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله، ثم نسخها الله، عز وجل، فأنزل: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى } فقال له زاهر -رجل كان مع شقيق -: أفهي العصر؟ قال: قد حدثتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله، عز وجل.
قال مسلم: ورواه الأشجعي، عن الثوري، عن الأسود، عن شقيق (2) .
قلت: وشقيق هذا لم يرو له مسلم سوى هذا الحديث الواحد، والله أعلم. فعلى هذا تكون هذه التلاوة، وهي تلاوة الجادة، ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة، ولمعناها، إن كانت الواو دالة على المغايرة، وإلا فللفظها فقط، والله أعلم.
وقيل: إن الصلاة الوسطى هي صلاة المغرب. رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس. وفي إسناده نظر؛ فإنه رواه عن أبيه، عن أبي الجُمَاهر (3) عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عمه، عن ابن عباس قال: صلاة الوسطى: المغرب. وحكى هذا القول ابن جرير عن قبيصة بن ذؤيب وحكي أيضاً عن قتادة على اختلاف عنه. ووجه هذا القول بعضهم بأنها: وسطى في العدد بين الرباعية والثنائية، وبأنها وتر المفروضات، وبما جاء فيها من الفضيلة، والله أعلم.
وقيل: إنها العشاء الآخرة، اختاره علي بن أحمد الواحدي في تفسيره المشهور: وقيل: هي واحدة من الخمس، لا بعينها، وأبهمت فيهن، كما أبهمت ليلة القدر في الحول أو الشهر أو العشر. ويحكى هذا القول عن سعيد بن المسيب، وشريح القاضي، ونافع مولى ابن عمر، والربيع بن خيثم، ونقل أيضاً عن زيد بن ثابت، واختاره إمام الحرمين الجويني في نهايته.
وقيل: بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس، رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر، وفي صحته أيضاً نظر والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النَّمري، إمام ما وراء البحر، وإنها لإحدى الكبر، إذ اختاره -مع اطلاعه وحفظه -ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر. وقيل: إنها صلاة العشاء وصلاة الفجر، وقيل: بل هي صلاة الجماعة. وقيل: صلاة الجمعة. وقيل: صلاة الخوف. وقيل: بل صلاة عيد الفطر. وقيل: بل صلاة عيد الأضحى. وقيل: الوتر. وقيل: الضحى. وتوقف فيها آخرون لما تعارضت عندهم الأدلة، ولم يظهر لهم وجه الترجيح. ولم يقع الإجماع على قول واحد، بل لم يزل التنازع (4) فيها موجودا من زمن الصحابة وإلى الآن.
__________
(1) في جـ، أ: "والصلاة الوسطى صلاة العصر".
(2) صحيح مسلم برقم (63).
(3) في أ: "عن أبي الجماهير".
(4) في أ، و: "النزاع".
قال ابن جرير: حدثني محمد بن بشار وابن مثنى، قالا حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا، وشَبَّك بين أصابعه (1) .
[وقد حكى فخر الدين الرازي في تفسيره قولا عن جمع من العلماء منهم زيد بن ثابت، وربيع ابن خيثم: أنها لم يرد بيانها، وإنما أريد إبهامها، كما أبهمت ليلة القدر في شهر رمضان، وساعة الإجابة في يوم الجمعة، والاسم الأعظم في أسماء الله تعالى، ووقت الموت على المكلف؛ ليكون في كل وقت مستعداً، وكذا أبهمت الليلة التي ينزل فيها من السماء وباء ليحذرها الناس، ويعطوا الأهبة دائماً، وكذا وقت الساعة استأثر الله بعلمه؛ فلا تأتي إلا بغته] (2) .
وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها، وإنما المدار ومعترك النزاع في الصبح والعصر. وقد ثبتت السنة بأنها العصر، فتعين المصير إليها.
وقد روى الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتاب "فضائل الشافعي" رحمه الله: حدثنا أبي، سمعت حرملة بن يحيى التجيبي يقول: قال الشافعي: كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى، ولا تقلدوني. وكذا روى الربيع والزعفراني وأحمد بن حنبل، عن الشافعي. وقال موسى أبو الوليد بن أبي الجارود، عن الشافعي: إذا صح الحديث وقلت قولا فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك. فهذا من سيادته وأمانته، وهذا نفس إخوانه من الأئمة، رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين آمين. ومن هاهنا قطع القاضي الماوردي بأن مذهب الشافعي، رحمه الله، أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر، وإن كان قد نص في الجديد وغيره أنها الصبح، لصحة الأحاديث أنها العصر، وقد وافقه على هذه الطريقة جماعة من محدثي المذهب، ولله الحمد والمنة. ومن الفقهاء في المذهب من ينكر أن تكون هي العصر مذهباً للشافعي، وصمموا على أنها الصبح قولا واحداً. قال الماوردي: ومنهم من حكى في المسألة قولين، ولتقرير المعارضات والجوابات موضع آخر غير هذا، وقد أفردناه على حدة، ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } أي: خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه، وهذا الأمر مستلزم (3) ترك الكلام في الصلاة، لمنافاته إياها؛ ولهذا لما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الرد على ابن مسعود حين سلم عليه، وهو في الصلاة، اعتذر إليه بذلك، وقال. "إن في الصلاة لشغلا"، وفي صحيح مسلم أنه عليه السلام قال لمعاوية بن الحكم [السلمي] (4) حين تكلم في الصلاة: "إن هذه الصلاة لا يصلح (5) فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله" (6) .
__________
(1) تفسير الطبري (5/221).
(2) زيادة من جـ.
(3) في جـ: "يستلزم".
(4) زيادة من جـ، أ، و.
(5) في أ: "لا يصح".
(6) صحيح مسلم برقم (537).
وقال الإمام أحمد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن إسماعيل، حدثني الحارث بن شبيل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم قال: كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، في الحاجة في الصلاة، حتى نزلت هذه الآية: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت. رواه الجماعة -سوى ابن ماجة، به، من طرق عن إسماعيل، به (1) .
وقد أشكل هذا الحديث على جماعة من العلماء، حيث ثبت عندهم أن تحريم الكلام في الصلاة كان بمكة، قبل الهجرة إلى المدينة وبعد الهجرة إلى أرض الحبشة، كما دل على ذلك حديث ابن مسعود الذي في الصحيح، قال: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة، فيرد علينا، قال: فلما قدمنا سلمت عليه، فلم يرد علي، فأخذني ما قرب وما بعد، فلما سلم قال: "إني لم أرد عليك إلا أني كنت في الصلاة، وإن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة" (2) .
وقد كان ابن مسعود ممن أسلم قديماً، وهاجر إلى الحبشة، ثم قدم منها إلى مكة مع من قدم، فهاجر إلى المدينة، وهذه الآية: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } مدنية (3) بلا خلاف، فقال قائلون: إنما أراد زيد بن أرقم بقوله: "كان الرجل يكلم أخاه في حاجته في الصلاة" الإخبار عن جنس الناس، واستدل على تحريم ذلك بهذه الآية بحسب ما فهمه منها، والله أعلم.
وقال آخرون: إنما أراد أن ذلك قد وقع بالمدينة بعد الهجرة إليها، ويكون ذلك فقد أبيح مرتين، وحرم مرتين، كما اختار ذلك قوم من أصحابنا وغيرهم، والأول أظهر. والله أيضاً أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا بشر بن الوليد، حدثنا إسحاق بن يحيى، عن المسيب، عن ابن مسعود قال: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فلم يرد علي، فوقع في نفسي أنه نزل فيَّ شيء، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: "وعليك السلام، أيها المسلم، ورحمة الله، إن الله، عز وجل، يحدث من أمره ما يشاء فإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تكلموا" (4) .
وقوله: { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } لما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات، والقيام بحدودها، وشدد الأمر بتأكيدها ذكر الحال التي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل، وهي حال القتال والتحام الحرب فقال: { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا } (5) أي: فصلوا على أي حال كان، رجالا أو ركبانا : يعني : مستقبلي القبلة
__________
(1) المسند (4/368) وصحيح البخاري برقم (1200 ، 4534) وصحيح مسلم برقم (539) وسنن أبي داود برقم (949) وسنن الترمذي برقم (2986) وسنن النسائي الكبرى برقم (11047).
(2) صحيح البخاري برقم (1199 ، 3875) وصحيح مسلم برقم (538).
(3) في و: "نزلت بالمدينة".
(4) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/137) من طريق عاصم عن المسيب عن ابن مسعود به نحوه.
(5) في جـ: "وإن" وهو خطأ.
وغير مستقبليها كما قال مالك، عن نافع: أن (1) ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها. ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم، أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها. قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه البخاري -وهذا لفظه (2) -ومسلم ورواه البخاري أيضاً من وجه آخر عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي، صلى الله عليه وسلم: نحوه أو قريباً منه (3) ولمسلم أيضاً عن ابن عمر قال: فإن كان خوف أشد من ذلك فصل راكباً أو قائماً تومئ إيماء (4) .
وفي حديث عبد الله بن أنيس الجهني لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله وكان نحو عرفة -أو عرفات-فلما واجهه حانت صلاة العصر قال: فخشيت أن تفوتني فجعلت أصلي وأنا أومئ إيماء. الحديث بطوله رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد (5) وهذا من رخص الله التي رخص لعباده ووَضْعِه الآصار والأغلال عنهم.
وقد روى ابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس قال في هذه الآية: يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه. قال: وروي عن الحسن ومجاهد ومكحول والسدي والحكم ومالك والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح نحو ذلك وزادوا: يومئ برأسه أينما توجه (6) .
ثم قال: حدثنا أبي حدثنا أبو غسان حدثنا داود -يعني ابن علية-عن مطرف عن عطية عن جابر بن عبد الله قال: إذا كانت المسايفة فليومئ برأسه [إيماء] (7) حيث كان وجهه فذلك قوله: { فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا }
وروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعطية والحكم وحماد وقتادة نحو ذلك. وقد ذهب الإمام أحمد فيما نص عليه، إلى أن صلاة الخوف تفعل في بعض الأحيان ركعة واحدة إذا تلاحم الجيشان، وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن جرير من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري -زاد مسلم والنسائي: وأيوب بن عائذ-كلاهما عن بكير بن الأخنس الكوفي، عن مجاهد عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة (8) وبه قال الحسن البصري وقتادة والضحاك وغيرهم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا ابن مهدي عن شعبة قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة عن صلاة المسايفة، فقالوا: ركعة وهكذا روى الثوري عنهم سواء.
__________
(1) في جـ: "عن".
(2) صحيح البخاري برقم (4535).
(3) صحيح البخاري برقم (943).
(4) صحيح مسلم برقم (839).
(5) المسند (3/496) وسنن أبي داود برقم (1249).
(6) في أ: "إيماء بوجه".
(7) زيادة من و.
(8) صحيح مسلم برقم (687) وسنن أبي داود برقم (1247) وسنن النسائي (1/226، 3/118، 119، 169) وسنن ابن ماجة برقم (1068) وتفسير الطبري (5/247).
وقال ابن جرير أيضا: حدثني سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثنا المسعودي حدثنا يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله قال: صلاة الخوف. ركعة واختار هذا القول ابن جرير.
وقال البخاري: "باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو" وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح، ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا. وبه قال مكحول -وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تسْتَر عند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا. قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها.
هذا لفظ البخاري (1) ثم استشهد على ذلك بحديث تأخيره، عليه السلام، صلاة العصر يوم الخندق بعذر المحاربة إلى (2) غيبوبة الشمس وبقوله عليه السلام، بعد ذلك لأصحابه لما جهزهم إلى بني قريظة: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة"، فمنهم من أدركته الصلاة في الطريق فصلوا وقالوا: لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا تعجيل السير ومنهم من أدركته فلم يصل إلى أن غربت الشمس في بني قريظة فلم يعنف واحداً (3) من الفريقين. وهذا يدل على اختيار البخاري لهذا القول والجمهور على خلافه ويعولون على أن صلاة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة النساء ووردت (4) بها الأحاديث لم تكن مشروعة في غزوة الخندق، وإنما شرعت بعد ذلك. وقد جاء مصرحاً بهذا في حديث أبي سعيد وغيره وأما مكحول والأوزاعي والبخاري فيجيبون بأن مشروعية صلاة الخوف بعد ذلك لا تنافي جواز ذلك؛ لأن هذا حال نادر خاص فيجوز فيه مثل ما قلنا بدليل صنيع الصحابة زمن عمر في فتح تستر وقد اشتهر ولم ينكر ، والله أعلم.
وقوله: { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ } أي: أقيموا صلاتكم كما أمرتم فأتموا (5) ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها { كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } أي: مثل ما أنعم عليكم وهداكم للإيمان وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فقابلوه بالشكر والذكر، كقوله بعد ذكر صلاة الخوف: { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } [النساء:103] وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى: { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } الآية [النساء:102].
__________
(1) صحيح البخاري (2/434).
(2) في جـ، و: "إلى بعد".
(3) في جـ: "أحدا".
(4) في جـ: "وورد".
(5) في جـ: "وأتموا".
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
{ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) }
قال الأكثرون: هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهي قوله: { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
قال البخاري: حدثنا أمية حدثنا يزيد بن زُرَيع عن حبيب عن ابن أبي مُلَيْكة، قال ابن الزبير: قلت لعثمان بن عفان: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها -أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئاً منه من مكانه (1) .
ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان: إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها؟ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي، وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها حيث وجدتها.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة، فنسختها آية المواريث فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج. ثم قال: وروي عن أبي موسى الأشعري، وابن الزبير ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل بن حيان، وعطاء الخراساني والربيع بن أنس: أنها منسوخة.
وروي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل الله بعد: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
فهذه عدة المتوفي عنها زوجها إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها وقال: { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ [مِمَّا تَرَكْتُمْ ] (2) } [النساء:12] فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة.
قال: وروي عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان، قالوا: نسختها { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }
قال: وروي عن سعيد بن المسيب قال: نسختها التي في الأحزاب: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ] (3) } [الأحزاب:49] .
قلت: وروي عن [مقاتل و] (4) قتادة: أنها منسوخة بآية الميراث.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4530).
(2) زيادة من و.
(3) زيادة من جـ.
(4) زيادة من أ، و.
وقال البخاري: حدثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا روح حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } قال: كانت هذه العدة، تعتد عند أهل زوجها واجب فأنزل الله: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ } قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت وهو قول الله: { غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } فالعدة كما هي واجب عليها زعم ذلك عن مجاهد: رحمه الله. وقال عطاء: وقال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى: { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت لقول الله: { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ [فِي أَنْفُسِهِنَّ] (1) } قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى، فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه (2) .
فهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما زعمه الجمهور حتى يكون ذلك منسوخاً بالأربعة الأشهر (3) وعشرا، وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن يمكنَّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا إن اخترن ذلك ولهذا قال: { وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ } أي: يوصيكم الله بهن وصية كقوله: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } الآية [النساء:11] وقال: { وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ } [النساء:12] وقيل: إنما انتصب على معنى: فلتوصوا بهن وصية. وقرأ آخرون بالرفع "وَصِيَّةٌ" على معنى: كتب عليكم وصية واختارها ابن جرير ولا يمنعن من ذلك لقوله: { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة الأشهر والعشر أو بوضع الحمل، واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ } وهذا القول له اتجاه، وفي اللفظ مساعدة له، وقد اختاره جماعة منهم: الإمام أبو العباس بن تيمية (4) ورده آخرون منهم: الشيخ أبو عمر بن عبد البر.
وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلم، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة الأشهر وعشر (5) لا تجب في تركة الميت فهذا محل خلاف بين الأئمة، وهما قولان للشافعي رحمه الله، وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عُجْرَة، عن عمته زينب بنت كعب بن عُجْرَة: أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أخبرتها: أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خُدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه. قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4531).
(3) في جـ: "أشهر".
(4) في جـ: "بن تيمية رحمه الله".
(5) في أ: "والعشر".
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
أن أرجع إلى أهلي في بني خُدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" قالت: فانصرفت، حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو أمر بي فنوديت له-فقال: "كيف قلت؟" فرددت عليه القصة التي ذكرت (1) له من شأن زوجي. فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته، فاتبعه وقضى به (2) .
وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به (3) ،ورواه النسائي أيضاً وابن ماجه من طرق عن سعد بن إسحاق به (4) ،وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقوله: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما نزل قوله: { مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [البقرة:236] قال رجل: إن شئتُ أحسنت ففعلت وإن شئتُ لم أفعل. فأنزل الله هذه الآية: { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة، سواء كانت مفوضة أو مفروضًا لها أو مطلقًا (5) قبل المسيس أو مدخولا بها، وهو قول عن الشافعي، رحمه الله. وإليه ذهب سعيد بن جبير. وغيره من السلف واختاره ابن جرير. ومن لم يوجبها مطلقا يخصص من هذا العموم بمفهوم قوله: { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } وأجاب الأولون: بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم فلا تخصيص على المشهور المنصور، والله أعلم.
وقوله: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } أي: في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه بيَّنه (6) ووضحه وفسره ولم يتركه مجملا في وقت احتياجكم إليه { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي: تفهمون وتتدبرون.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) }
روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه: كانوا ثمانية آلاف. وقال أبو صالح: تسعة آلاف وعن ابن عباس: أربعون ألفًا وقال وهب بن منبه وأبو مالك: كانوا بضعة وثلاثين ألفًا
__________
(1) في جـ: "ما ذكرت".
(2) الموطأ (2/591).
(3) سنن أبي داود برقم (2300) وسنن الترمذي برقم (1204) وسنن النسائي الكبرى برقم (11044).
(4) سنن النسائي (6/199، 200) وسنن ابن ماجة برقم (203).
(5) في أ، و: "أو مطلقة".
(6) في جـ: "وبينه".
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانوا أهل قرية يقال لها: داوردان. وكذا قال السدي وأبو صالح وزاد: من قبل واسط. وقال سعيد بن عبد العزيز: كانوا من أهل أذرعات، وقال ابن جريج عن عطاء قال: هذا مثل. وقال علي بن عاصم: كانوا: من أهل داوردان: قرية على فرسخ من واسط.
وقال وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي، عن المنهال بن عمرو الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ } قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارًا من الطاعون قالوا: نأتي أرضًا ليس بها (1) موت حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم (2) موتوا فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم، فذلك قوله عز وجل: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ } الآية.
وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا (3) أرضهم وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فرارًا من الموت إلى البرية، فنزلوا واديًا أفيح، فملأوا ما بين عدوتيه فأرسل الله إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه فصاحا بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران وقبور [وفنوا] (4) وتمزقوا وتفرقوا فلما كان بعد دهر مَرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل فسأل الله أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: أيتها العظام إن الله يأمرك بأن تكتسي لحمًا وعصبًا وجلدًا. فكان ذلك، وهو يشاهده ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره. فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، وهم يقولون: سبحانك [اللهم ربنا وبحمدك] (5) لا إله إلا أنت.
وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ولهذا قال: { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } أي: فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } أي: لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم.
وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر وأنه، لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء فروا (6) من الوباء طلبًا (7) لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعًا في آن واحد.
ومن هذا القبيل الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى أخبرنا مالك وعبد الرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد [ابن أسلم] (8) بن الخطاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس: أن عمر بن
__________
(1) في جـ: "ليس فيها".
(2) في جـ: "قال لهم الله".
(3) في جـ: "فاستوخموا".
(4) زيادة من أ، و
(5) زيادة من أ.
(6) في أ، و: "خرجوا فرارا".
(7) في أ، و: "وطلبا".
(8) زيادة من جـ.
الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام فذكر الحديث فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا لبعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كان بأرض وأنتم فيها (1) فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه" فحمد الله عمر ثم انصرف.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به (2) .
طريق أخرى لبعضه: قال أحمد: حدثنا حجاج ويزيد العمِّي قالا أخبرنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة: أن عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر، وهو في الشام عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها (3) فلا تخرجوا فرارًا منه" قال: فرجع عمر من الشام.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك عن الزهري بنحوه (4) .
وقوله: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي: كما أن الحذر لا يغني من القدر كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلا ولا يباعده، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى: { الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران:168] وقال تعالى: { وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء:77، 78] وروينا عن أمير الجيوش ومقدم العساكر وحامي حوزة الإسلام وسيف الله المسلول على أعدائه أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه، أنه قال:-وهو في سياق الموت: لقد شهدت كذا وكذا موقفًا وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير!! فلا نامت أعين الجبناء (5) يعني: أنه يتألم لكونه ما مات قتيلا في الحرب ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه.
وقوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيله، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع. وفي حديث النزول [أنه يقول تعالى] (6) "من يقرض غير عديم ولا ظلوم" وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال:
__________
(1) في أ، و: "وأنتم بها".
(2) المسند (1/194) وصحيح البخاري برقم (5729) وصحيح مسلم برقم (2219).
(3) في جـ، و: "وأنتم بها".
(4) المسند (1/193) وصحيح البخاري برقم (5730) وصحيح مسلم برقم (2219).
(5) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (8/26).
(6) زيادة من و.
لما نزلت: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح" قال: أرني يدك يا رسول الله. قال: فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي. قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها. قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح. قالت: لبيك قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل. وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر مرفوعًا بنحوه (1) .
وقوله: { قَرْضًا حَسَنًا } روي عن عمر وغيره من السلف: هو النفقة في سبيل الله. وقيل: هو النفقة على العيال.
وقيل: هو التسبيح والتقديس وقوله: { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } كما قال: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ } الآية [البقرة:261]. وسيأتي الكلام عليها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد (2) أخبرنا مبارك بن فضالة عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي، قال: أتيت أبا هريرة فقلت له: إنه بلغني أنك تقول: إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة. فقال: وما أعجبك من ذلك؟ لقد سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" (3) .
هذا حديث غريب، وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير، لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال:
حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد المؤدب، حدثنا يونس بن محمد المؤدب، حدثنا محمد بن عقبة الرباعي (4) عن زياد الجصاص عن أبي عثمان النهدي، قال: لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني فقدم قبلي حاجا قال: وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة" فقلت: ويحكم، والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني، فما سمعت هذا الحديث. قال: فتحملت أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث، فلقيته لهذا فقلت: يا أبا هريرة ما حديث سمعت أهل البصرة يأثرون عنك؟ قال: ما هو؟ قلت: زعموا أنك تقول: إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف
__________
(1) جزء الحسن بن عرفة برقم (87) ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (417) تحقيق الدكتور الحميد، ومن طريقه رواه الطبراني في المعجم الكبير (22/301) عن خلف به نحوه، وحميد الأعرج ضعيف، لكن للحديث شواهد من حديث أنس وعمر رضي الله عنهما.
(2) في جـ: "يزيد بن هارون".
(3) المسند (2/296).
(4) كذا في أ، و، هـ. وفي الجرح لابن أبي حاتم (4/1/36): "محمد بن عقبة، روى عن زياد الجصاص، وروى عنه يونس بن محمد المؤدب. حدثنا عبد الرحمن قال: سألت أبي عنه فقال: شيخ. قلت: فإن يونس بن محمد يقول: الرفاعي. قال: ليس هو الرفاعي، هو من قبيلة أخرى"، مستفادا من هامش ط. الشعب.
حسنة. قال: يا أبا عثمان وما تعجب (1) من ذا والله يقول: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } ويقول: { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ } [التوبة:38] والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة" (2) .
وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار عن سالم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دخل سوقًا من الأسواق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة" الحديث (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعة حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام حدثنا أبو إسماعيل المؤدب، عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر قال: لما نزلت { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } [البقرة:261] إلى آخرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب زد أمتي" فنزلت: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } قال: رب زد أمتي. فنزل: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [الزمر:10]. (4) .
وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن كعب الأحبار: أنه جاءه رجل فقال: إني سمعت رجلا يقول: من قرأ: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص:1] مرة واحدة بنى الله له عشرة (5) آلاف ألف غرفة من در وياقوت في الجنة أفأصدق بذلك؟ قال: نعم، أو عجبت من ذلك؟ قال: نعم وعشرين ألف ألف وثلاثين ألف ألف وما يحصي ذلك إلا الله ثم قرأ { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } فالكثير من الله لا يحصى.
وقوله: { وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } أي: أنفقوا ولا تبالوا فالله هو الرزاق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين، له الحكمة البالغة في ذلك { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي: يوم القيامة.
__________
(1) في جـ: "وما يعجبك".
(2) ورواه أحمد في المسند (5/521) من طريق علي بن زيد، عن أبي عثمان به.
(3) سنن الترمذي برقم (3429) وقال: "عمرو بن دينار هذا هو شيخ بصري، وقد تكلم فيه بعض أصحاب الحديث من غير هذا الوجه".
(4) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1648) "موارد" من طريق حفص المقرئ، عن أبي إسماعيل المؤدب به.
(5) في جـ: "عشر".
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) }
قال عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة: هذا النبي هو يوشع بن نون. قال ابن جرير: يعني ابن أفراثيم (1) بن يوسف بن يعقوب. وهذا القول بعيد؛ لأن هذا كان بعد موسى بدهر طويل، وكان
__________
(1) في جـ: "إفراثيم"، وفي أ: "إبراهيم".
ذلك في زمان داود عليه السلام، كما هو مصرح به في القصة وقد كان بين داود وموسى ما ينيف عن ألف سنة والله أعلم.
وقال السدي: هو شمعون (1) وقال مجاهد: هو شمويل عليه السلام. وكذا قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه وهو: شمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام (2) بن إليهو بن تهو بن صوف (3) بن علقمة بن ماحث (4) بن عمرصا بن عزريا بن صفنيه (5) بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام.
وقال وهب بن منبه وغيره: كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق (6) الاستقامة مدة الزمان، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا خلقًا كثيرا وأخذوا منهم بلادًا كثيرة، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم (7) الزمان وكان ذلك موروثًا لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام (8) فلم يزل بهم تماديهم (9) على الضلال حتى استلبه (10) منهم بعض الملوك في بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط (11) لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلامًا يكون نبيًّا لهم ولم تزل [تلك] (12) المرأة تدعو الله عز وجل أن يرزقها غلامًا فسمع الله لها ووهبها غلامًا، فسمته شمويل: أي: سمع الله. ومنهم من يقول: شمعون وهو بمعناه فشب ذلك الغلام ونشأ فيهم وأنبته (13) الله نباتًا حسنًا فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده، فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكًا يقاتلون معه أعداءهم وكان الملك أيضًا قد باد فيهم (14) فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكًا ألا تفوا بما التزمتم من القتال معه { قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا } أي: وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد؟ قال الله تعالى: { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } أي: ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم والله عليم بهم.
__________
(1) في و: "شمويل".
(2) في جـ: "حام" وفي و: "نزخام".
(3) في جـ: "قهوص"، وفي أ: "قهرص"، وفي و: "بهرص".
(4) في أ: "بن ماحب".
(5) في جـ، و: "بن صفيه".
(6) في جـ: "على طريقة".
(7) في و: "في قيد".
(8) في جـ، أ، و: "عليه أفضل الصلاة والسلام".
(9) في جـ: "يردهم"، وفي و: "عادتهم".
(10) في جـ: "حتى أسلبه".
(11) في جـ: "من وسط".
(12) زيادة من جـ، أ.
(13) في جـ، "فأنبته".
(14) في جـ: "منهم".
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) }
أي: لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكًا منهم فعين لهم طالوت وكان رجلا من أجنادهم ولم يكن من بيت الملك فيهم؛ لأن الملك فيهم كان في سبط يهوذا، ولم يكن هذا من ذلك السبط فلهذا قالوا: { أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا } أي: كيف يكون ملكًا علينا { وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ } أي: ثم هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك، وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء وقيل: دباغًا. وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف ثم قد أجابهم النبي قائلا { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ } أي: اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم. يقول: لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي بل الله أمرني به لما طلبتم مني ذلك { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } أي: وهو مع هذا أعلم منكم، وأنبل وأشكل منكم وأشد قوة وصبرًا (1) في الحرب ومعرفة بها أي: أتم علمًا وقامة منكم. ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه ثم قال: { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ } أي: هو الحاكم الذي ما شاء فعل ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون لعلمه [وحكمته] (2) ورأفته بخلقه؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي: هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه.
{ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) }
يقول نبيهم لهم: إن علامة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد الله عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم.
{ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } قيل: معناه فيه وقار، وجلالة.
قال عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة { فِيهِ سَكِينَةٌ } أي: وقار. وقال الربيع: رحمة (3) . وكذا روي عن العوفي عن ابن عباس وقال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله: { فِيهِ سَكِينَةٌ [مِنْ رَبِّكُمْ] (4) } قال: ما يعرفون من آيات الله فيسكنون (5) إليه.
وقيل: السكينة طست من ذهب كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء، أعطاها الله موسى عليه السلام فوضع فيها الألواح. ورواه السدي عن أبي مالك عن ابن عباس.
وقال سفيان الثوري: عن سلمة بن كُهَيْل عن أبي الأحوص عن علي قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان ثم هي روح هفافة.
وقال ابن جرير: حدثني [ابن] (6) المثنى حدثنا أبو داود حدثنا شعبة وحماد بن سلمة، وأبو الأحوص كلهم عن سِماك عن (7) خالد بن عرعرة عن علي قال: السكينة ريح خجوج ولها
__________
(1) في أ: "وخبرا".
(2) زيادة من جـ، و، وفي أ: "وحلمه".
(3) في جـ: "رحمة الله".
(4) زيادة من جـ، و.
(5) في أ: "تسكنون".
(6) زيادة من تفسير الطبري (5/327).
(7) في جـ: "عن سماك بن".
رأسان.
وقال مجاهد: لها جناحان وذنب. وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه: السكينة رأس هرة ميتة إذا صرخت في التابوت بصراخ هر، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا بكار بن عبد الله أنه سمع وهب بن منبه (1) يقول: السكينة روح من الله تتكلم إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون.
وقوله: { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } قال ابن جرير: أخبرنا ابن المثنى حدثنا أبو الوليد حدثنا حماد عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية: { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } قال: عصاه ورضاض الألواح. وكذا قال قتادة والسدي والربيع بن أنس وعكرمة وزاد: والتوراة.
وقال أبو صالح { وَبَقِيَّةٌ } يعني: عصا موسى وعصا هارون ولوحين (2) من التوراة والمن.
وقال عطية بن سعد: عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ورضاض الألواح.
وقال عبد الرزاق: سألت الثوري عن قوله: { وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ } فقال: منهم من يقول قفيز من مَنٍّ، ورضاض الألواح. ومنهم من يقول: العصا والنعلان.
وقوله: { تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ } قال ابن جريج: قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت (3) بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت، والناس ينظرون.
وقال السدي: أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت.
وقال عبد الرزاق عن الثوري عن بعض أشياخه: جاءت به الملائكة تسوقه على عجلة على بقرة وقيل: على بقرتين.
وذكر غيره أن التابوت كان بأريحا (4) وكان المشركون لما أخذوه وضعوه في بيت آلهتهم تحت صنمهم الكبير، فأصبح التابوت على رأس الصنم فأنزلوه فوضعوه تحته فأصبح كذلك فسمروه تحته فأصبح الصنم مكسور القوائم ملقى بعيدا، فعلموا أن هذا أمر من الله لا قبل لهم به فأخرجوا التابوت من بلدهم، فوضعوه في بعض القرى (5) فأصاب أهلها داء في رقابهم (6) فأمرتهم جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى بني إسرائيل حتى يخلصوا من هذا الداء، فحملوه على بقرتين فسارتا به لا يقربه أحد إلا مات، حتى اقتربتا من بلد بني إسرائيل فكسرتا النيرين (7) ورجعتا وجاء بنو إسرائيل فأخذوه فقيل: إنه تسلمه داود عليه السلام وأنه لما قام إليهما (8) حجل من فرحه بذلك. وقيل: شابان منهم فالله أعلم. وقيل: كان التابوت بقرية من قرى فلسطين يقال لها: أزدرد.
وقوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ } أي: على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أمرتكم به من
__________
(1) في أ: "بن منصور".
(2) في جـ: "ولوحان".
(3) في جـ: "وتحمل التوابيت".
(4) في جـ: "كان تاريخا".
(5) في و: "بعض القرايا".
(6) في جـ: "في قلوبهم".
(7) في جـ: "النيرير".
(8) في جـ: "قام إليه" وفي و: "قام إليهما".
طاعة طالوت: { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي: بالله واليوم الآخر.
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) }
يقول تعالى مخبرًا عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل وكان جيشه يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفًا فالله أعلم، أنه قال: { إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم [بِنَهَر] (1) } قال ابن عباس وغيره: وهو نهر بين الأردن وفلسطين يعني: نهر الشريعة المشهور { فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } أي: فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه { وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } أي: فلا بأس عليه قال الله تعالى { فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ } قال ابن جريج: قال ابن عباس: من اغترف منه بيده روي، ومن شرب منه لم يرو. وكذا رواه السدي عن أبي مالك، عن ابن عباس. وكذا قال قتادة وابن شوذب.
وقال السدي: كان الجيش ثمانين ألفًا فشرب ستة وسبعون ألفًا وتبقى معه أربعة آلاف كذا قال.
وقد روى ابن جرير من طريق إسرائيل وسفيان الثوري ومِسْعَر (2) بن كدام عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، وما جازه معه إلا مؤمن. ورواه البخاري عن عبد الله بن رجاء عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن البراء (3) قال: "كنا -أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم-نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت، الذين جازوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة" (4) .
ثم رواه من حديث سفيان الثوري وزهير، عن أبي إسحاق عن البراء بنحوه (5) ولهذا قال تعالى: { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } أي: استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم فشجعهم علماؤهم [وهم] (6) العالمون بأن وعد الله حق فإن النصر من عند الله ليس عن (7) كثرة عدد ولا عدد. ولهذا قالوا: { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }
__________
(1) زيادة من أ، و.
(2) في جـ: "ومسعود".
(3) في هـ، أ، و: "عن أبي إسحاق عن جده عن البراء" والمثبت من البخاري.
(4) صحيح البخاري برقم (3958).
(5) صحيح البخاري برقم (3957) من حديث زهير وبرقم (3959) من حديث سفيان.
(6) زيادة من جـ.
(7) في أ: "لا من".
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
{ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) }
أي: لما واجه حزب الإيمان -وهم قليل-من أصحاب طالوت لعدوهم أصحاب جالوت -وهم عدد كثير-{ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي: أنزل علينا صبرًا من عندك { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } أي: في لقاء الأعداء وجنبنا الفرار والعجز { وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
قال الله تعالى: { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ } أي: غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } ذكروا في الإسرائيليات: أنه قتله بمقلاع كان في يده رماه به فأصابه فقتله، وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه (1) في أمره فوفى له ثم آل (2) الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة؛ ولهذا قال تعالى: { وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } الذي كان بيد طالوت { والحكمة } أي: النبوة بعد شمويل { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } أي: مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به صلى الله عليه وسلم ثم قال تعالى: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ } أي: لولاه يدفع عن قوم بآخرين، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } الآية [الحج:40].
وقال ابن جرير، رحمه الله: حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء". ثم قرأ ابن عمر: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ } (3) وهذا إسناد ضعيف فإن يحيى بن سعيد [هذا] (4) هو أبو زكريا العطار الحمصي وهو ضعيف جدًّا.
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو حميد الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله، ولا يزالون في حفظ الله عز وجل ما دام فيهم" (5) .
وهذا أيضًا غريب ضعيف لما تقدم أيضا. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم أخبرنا علي بن إسماعيل بن حماد أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد أخبرنا زيد بن الحباب، حدثني حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء (6) عن ثوبان -رفع
__________
(1) في جـ: "ويشاركه".
(2) في جـ: "بما آل".
(3) تفسير الطبري (5/374).
(4) زيادة من أ، و.
(5) تفسير الطبري (5/375).
(6) في جـ: "بن أبي أسامة".
الحديث-قال: "لا يزال فيكم سبعة بهم تنصرون وبهم تمطرون وبهم ترزقون حتى يأتي أمر الله" (1) .
وقال ابن مردويه أيضًا: وحدثنا محمد بن أحمد (2) حدثنا محمد بن جرير بن يزيد، حدثنا أبو معاذ نهار بن عثمان الليثي أخبرنا زيد بن الحباب أخبرني عمر البزار، عن عنبسة الخواص، عن قتادة عن أبي قِلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأبدال في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض، وبهم تمطرون وبهم تنصرون" قال قتادة: إني لأرجو أن يكون الحسن منهم (3) .
وقوله: { وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي: مَنٌّ عليهم ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضا وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله.
ثم قال تعالى: { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } أي: هذه آيات الله التي قصصناها عليك من (4) أمر الذين ذكرناهم بالحق أي: بالواقع الذي كان عليه الأمر، المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق الذي يعلمه علماء بني إسرائيل { وَإِنَّكَ } يا محمد { لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } وهذا توكيد وتوطئة للقسم.
__________
(1) ورواه عبد الرزاق في المصنف برقم (20457) عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة مرسلا.
(2) في جـ: "وحدثنا أحمد بن محمد".
(3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير من طريق محمد بن الفرج عن زيد بن الحباب به، وقال الهيثمي في المجمع (10/63): "رواه الطبراني من طريق عمرو البزار عن عنبسة الخواص وكلاهما لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح".
فائدة: قال الإمام ابن القيم في المنار المنيف (ص136): "أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والاوتاد كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرب ما فيها: "لا تسبوا أهل الشام فإن فيهم البدلا، كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر" ذكره أحمد ولا يصح أيضا، فإنه منقطع".
(4) في جـ: "في".
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) }
يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال: { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } [الإسراء:55] وقال هاهنا: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } يعني: موسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم وكذلك آدم، كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السموات (1) بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل.
فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى
__________
(1) في جـ: "في السماء".
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
على العالمين. فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي فقال: أي خبيث وعلى محمد صلى الله عليه وسلم! فجاء اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكى على المسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ فلا تفضلوني على الأنبياء" (1) وفي رواية: "لا تفضلوا بين الأنبياء".
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر.
الثاني: أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع.
الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر.
الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية.
الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به.
وقوله: { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ } أي: الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به، من أنه عبد الله ورسوله إليهم { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } يعني: أن الله أيده بجبريل عليه السلام ثم قال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا } أي: بل كل ذلك عن قضاء الله وقدره؛ ولهذا قال: { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) }
يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ } يعني: يوم القيامة { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ } أي: لا يباع أحد من نفسه ولا يفادى بمال لو بذله، ولو جاء بملء الأرض ذهبًا ولا تنفعه خلة أحد، يعني: صداقته بل ولا نسابته كما قال: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [المؤمنون:101]{ وَلا شَفَاعَةٌ } أي: ولا تنفعهم شفاعة الشافعين.
وقوله: { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } مبتدأ محصور في خبره أي: ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا. وقد روى ابن أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه (2) قال: الحمد لله الذي قال: { وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ولم يقل: والظالمون هم الكافرون.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3408) وصحيح مسلم برقم (2373).
(2) في جـ: "به".
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) }
هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل آية في كتاب الله. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان عن سعيد الجريري عن أبي السليل عن عبد الله بن رباح، عن أبي -هو ابن كعب-أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: "أي آية في كتاب الله أعظم"؟ قال: الله ورسوله أعلم. فرددها مرارًا ثم قال أبى: آية الكرسي. قال: "لِيَهْنك العلم أبا المنذر، والذي نفسي بيده إن لها لسانًا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش" وقد رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن الجريري-به (1) وليس عنده زيادة: "والذي نفسي بيده..." إلخ.
حديث آخر: عن أبي أيضاً في فضل آية الكرسي، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا مبشر عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبدة بن أبي لبابة (2) عن عبد الله بن أبي بن كعب: أن أباه أخبره: أنه كان له جرن فيه تمر قال: فكان أبي يتعاهده فوجده ينقص قال: فحرسه (3) ذات ليلة فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم قال: فسلمت عليه فرد السلام. قال: فقلت: ما أنت، جني أم إنسي؟ قال: جني. قلت: ناولني يدك. قال: فناولني، فإذا يد (4) كلب وشعر كلب. فقلت: هكذا خَلْقُ الجن؟ قال: لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني، قلت: فما حملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك. قال: فقال له (5) فما الذي يجيرنا (6) منكم؟ قال: هذه الآية: آية الكرسي. ثم غدا إلى النبي (7) صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق الخبيث".
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي داود الطيالسي عن حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن الحضرمي بن لاحق، عن محمد بن عمرو بن أبي بن كعب عن جده به (8) . وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عثمان بن غياث (9) قال: سمعت أبا السليل قال: كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الناس حتى يكثروا عليه فيصعد على سطح بيت فيحدث الناس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي آية في القرآن أعظم؟" فقال رجل:
__________
(1) المسند (5/141) وصحيح مسلم برقم (810).
(2) في جـ: "بن أبي كنانة".
(3) في جـ: ""فحرسته".
(4) في جـ، و: "فإذا يده يد".
(5) في أ، و: "فقال له أبي".
(6) في أ: "يحرسنا".
(7) في جـ: "إلى رسول الله".
(8) المستدرك (1/562) وفيه انقطاع، وقد جاء من طريق آخر، فرواه ابن حبان في صحيحه برقم (1724) "موارد" من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن لأبي بن كعب، عن أبيه كعب أنه أخبره فذكر نحوه.
(9) في أ: "بن عتاب".
{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } قال: فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، أو قال: فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي وقال: "ليهنك العلم يا أبا المنذر" (1) .
حديث آخر: عن الأسفع (2) البكري. قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو يزيد القراطيسي حدثنا يعقوب بن أبي عباد المكي حدثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج أخبرني عمر بن عطاء أن مولى ابن الأسفع (3) -رجل صدق-أخبره عن الأسفع (4) البكري: أنه سمعه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان: أي آية في القرآن أعظم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } حتى انقضت الآية. (5) .
حديث آخر: عن أنس قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن الحارث حدثني سلمة بن وردان أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلا من صحابته فقال: "أي فلان هل تزوجت"؟ قال: لا وليس عندي ما أتزوج به. قال: "أوليس معك: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } " ؟ قال: بلى. قال: "ربع القرآن. أليس معك: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } " ؟ قال: بلى. قال: "ربع القرآن. أليس معك { إِذَا زُلْزِلَتِ } " ؟ قال: بلى. قال: "ربع القرآن أليس معك: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ[وَالْفَتْحُ] (6) } " ؟ قال: بلى. قال: "ربع القرآن. أليس معك آية الكرسي: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ (7) } " ؟ قال: بلى. قال: "ربع القرآن" (8) .
حديث آخر: عن أبي ذر جُنْدَب بن جنادة قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا المسعودي أنبأني أبو عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست. فقال: "يا أبا ذر هل صليت؟" قلت: لا. قال: "قم فصل" قال: فقمت فصليت ثم جلست فقال: "يا أبا ذر تَعَوَّذ بالله من شر شياطين الإنس والجن" قال: قلت: يا رسول الله أوللإنس شياطين؟ قال: "نعم" قال: قلت: يا رسول الله الصلاة؟ قال: "خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر". قال: قلت: يا رسول الله فالصوم؟ قال: "فرض مُجْزِئ وعند الله مزيد" قلت: يا رسول الله فالصدقة؟ قال: "أضعاف مضاعفة". قلت: يا رسول الله فأيها أفضل؟ قال: "جهد من مقل أو سر إلى فقير" قلت: يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال: "آدم" قلت: يا رسول الله ونبي (9) كان؟ قال: "نعم نبي مكلم" قال: قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: "ثلثمائة وبضعة عشر جمًّا غفيرًا" وقال مرة: "وخمسة عشر" قال: قلت: يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: "آية الكرسي: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } " ورواه النسائي (10) .
__________
(1) المسند (5/58).
(2) في جـ، أ: "عن الأسقع".
(3) في جـ: "ابن الأسقع".
(4) في جـ: "عن الأسقع".
(5) المعجم الكبير (1/334) وقال الهيثمي في المجمع (6/321): "فيه راو لم يسم وقد وثق، وبقية رجاله ثقات".
(6) زيادة من و.
(7) في أ: "هو الحي القيوم".
(8) المسند (3/221).
(9) في جـ: "ونبي الله".
(10) المسند (5/178) وسنن الترمذي (8/275).
حديث آخر: عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، رضي الله عنه وأرضاه قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان (1) عن ابن أبي ليلى عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب: أنه كان (2) في سهوة له، وكانت الغول تجيء فتأخذ فشكاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فقال: "فإذا رأيتها فقل: باسم الله أجيبي رسول الله". قال: فجاءت فقال لها: فأخذها فقالت: إني لا أعود. فأرسلها فجاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك؟" قال: أخذتها فقالت لي: إني لا أعود، إني لا أعود. فأرسلتها، فقال (3) : "إنها عائدة" فأخذتها مرتين أو ثلاثا كل ذلك تقول: لا أعود. وأجيء (4) إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: "ما فعل أسيرك؟" فأقول: أخذتها فتقول: لا أعود. فيقول: "إنها عائدة" فأخذتها فقالت: أرسلني وأعلمك شيئًا تقوله فلا يقربك شيء: آية الكرسي، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: "صدقت وهي كذوب".
ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن بُنْدار عن أبي أحمد الزبيري به (5) ، وقال: حسن غريب.
وقد ذكر البخاري هذه القصة عن أبي هريرة فقال في كتاب "فضائل القرآن" وفي كتاب "الوكالة" وفي "صفة إبليس" من صحيحه: قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه. فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟" قال: قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فَرحِمْتُه وخليت سبيله. قال: "أما إنه قد كَذَبك وسيعود" فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيعود" فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود. فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟" قلت (6) : يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله. قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود" فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم أنك لا تعود ثم تعود. فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها. قلت: ما هن (7) . قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك البارحة؟" قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله. قال: "ما هي؟" قال: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال النبي
__________
(1) في جـ، أ، و: "قال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان".
(2) في جـ: "أنه بات".
(3) في جـ: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم".
(4) في جـ: ."وتجيء"
(5) المسند (5/423) وسنن الترمذي برقم (2880).
(6) في جـ: "فقلت".
(7) في أ، و: "ما هي".
صلى الله عليه وسلم: "أما إنه صدقك (1) وهو كذوب تعلم من تخاطب مُذْ (2) ثلاث ليال يا أبا هريرة؟" قلت (3) : لا قال: "ذاك شيطان".
كذا رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم (4) وقد رواه النسائي في "اليوم والليلة" عن إبراهيم بن يعقوب عن عثمان بن الهيثم فذكره (5) وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة بسياق آخر قريب من هذا فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره:
حدثنا محمد بن عبد الله بن عمرويه الصفار، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب أخبرنا مسلم بن إبراهيم أخبرنا إسماعيل بن مسلم العبدي أخبرنا أبو المتوكل الناجي: أن أبا هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة وكان فيه تمر فذهب يوما ففتح الباب فوجد التمر قد أخذ منه ملء كف ودخل يوما آخر فإذا قد أخذ منه ملء كف ثم دخل يومًا آخر ثالثًا فإذا قد أخذ منه مثل ذلك. فشكا ذلك أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "تحب أن تأخذ صاحبك هذا؟" قال: نعم. قال: "فإذا فتحت الباب فقل: سبحان من سخرك محمد" (6) فذهب ففتح الباب فقال (7) : سبحان من سخرك محمد (8) . فإذا هو قائم بين يديه قال: يا عدو الله أنت صاحب هذا؟ قال: نعم دعني فإني لا أعود ما كنت آخذا إلا لأهل بيت من الجن فقراء، فخلى عنه ثم عاد الثانية ثم عاد الثالثة. فقلت: أليس قد عاهدتني ألا تعود؟ لا أدعك اليوم حتى أذهب بك إلى النبي (9) صلى الله عليه وسلم قال: لا تفعل فإنك إن تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها لم يقربك أحد من الجن صغير ولا كبير ذكر ولا أنثى قال له: لتفعلن؟ قال: نعم. قال: ما هن؟ قال: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } قرأ آية الكرسي حتى ختمها فتركه فذهب فأبعد فذكر ذلك أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما علمت أن ذلك كذلك؟".
وقد رواه النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد الله عن شعيب بن حرب عن إسماعيل بن مسلم عن أبي المتوكل عن أبي هريرة به (10) وقد تقدم لأبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضًا فهذه ثلاث وقائع.
قصة أخرى: قال أبو عبيد في كتاب "الغريب": حدثنا أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من الجن فقال: هل لك أن تصارعني ؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخل شيطان؟ فصارعه فصرعه (11) فقال: إني أراك ضئيلا شخيتا (12) كأن ذراعيك ذراعا كلب أفهكذا أنتم أيها الجن. كلكم أم أنت من بينهم؟ فقال: إني بينهم (13) لضليع فعاودني فصارعه (14) فصرعه الإنسي. فقال: تقرأ آية الكرسي فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خَبَخٌ كخبج (15) الحمار.
__________
(1) في جـ: "صدق".
(2) في و: "من"، وفي أ: "منذ".
(3) في جـ: "قال".
(4) صحيح البخاري برقم (2311 ، 3275).
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (10795).
(6) في جـ: "لمحمد".
(7) في جـ: "وقال".
(8) في جـ: "لمحمد".
(9) في جـ: "إلى رسول الله".
(10) سنن النسائي الكبرى برقم (10794).
(11) في جـ، أ، و: "فصرعه عمر".
(12) في جـ: "صحيتا".
(13) في أ، و: "إني منهم".
(14) في جـ: "فصارعن".
(15) في جـ: "وله خنيج كخنيج الحمار".
فقيل لابن مسعود: أهو عمر؟ فقال: من عسى أن يكون إلا عمر.
قال أبو عبيد: الضئيل: النحيف الجسم والخَبَج (1) بالخاء المعجمة ويقال: بالحاء المهملة: الضراط (2) .
حديث آخر عن أبي هريرة: قال الحاكم أبو عبد الله في مستدركه: حدثنا علي بن حمشاذ (3) حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثني حكيم بن جُبَير الأسدي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه! آية الكرسي".
وكذا رواه من طريق أخرى عن زائدة عن حكيم بن جبير ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (4) كذا قال، وقد رواه الترمذي من حديث زائدة [به] (5) ولفظه: "لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي". ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير، وقد تكلم فيه شعبة وضعفه (6) .
قلت: وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد من الأئمة وتركه ابن مهدي وكذبه السعدي.
حديث آخر: قال ابن مَرْدُويه: حدثنا عبد الباقي بن نافع أخبرنا عيسى بن محمد المروزي أخبرنا عمر بن محمد البخاري، أخبرنا أبي أخبرنا عيسى بن موسى غُنْجَار عن عبد الله بن كَيْسان، أخبرنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر (7) عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب: أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال: أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن؟ فقال ابن مسعود: على الخبير سَقَطْتَ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أعظم آية في القرآن: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (8) .
حديث آخر في اشتماله على اسم الله الأعظم: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر (9) أخبرنا عبيد الله (10) بن أبي زياد حدثنا شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت (11) : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } و { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [آل عمران:1، 2] "إن فيهما اسم الله الأعظم" (12) .
وكذا رواه أبو داود عن مُسدَّد والترمذي عن علي بن خَشْرم (13) وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ثلاثتهم عن عيسى بن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد به (14) وقال الترمذي: حسن صحيح.
__________
(1) في جـ: "والخنيج".
(2) غريب الحديث لأبي عبيد (3/316).
(3) في أ: "حماد" وفي و: "جمشاذ".
(4) المستدرك (2/259).
(5) زيادة من جـ، أ، و.
(6) المستدرك (2/259).
(7) في أ: "ابن معمر".
(8) ورواه الجورقاني في الأباطيل برقم (712) من طريق عيسى بن موسى غنجار به.
(9) في أ: "بن بكير".
(10) في جـ، أ: "عبد الله".
(11) في جـ: "قال".
(12) المسند (6/461).
(13) في أ، و: "ابن حزم".
(14) سنن أبي داود برقم (1496) وسنن الترمذي برقم (3478) وسنن ابن ماجة برقم (3855).
حديث آخر في معنى هذا عن أبي أمامة رضي الله عنه: قال ابن مَرْدُويه: أخبرنا عبد الرحمن بن نمير أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل أخبرنا هشام بن عمار أخبرنا الوليد بن مسلم، أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زيد: أنه سمع القاسم بن عبد الرحمن يحدث عن أبي أمامة يرفعه قال: "اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورة البقرة وآل عمران وطه" وقال هشام -وهو ابن عمار خطيب دمشق-: أما البقرة فـ { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وفي آل عمران: { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وفي طه: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [طه:111] (1) .
حديث آخر عن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلاة المكتوبة: قال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن محرز بن مساور الأدمي أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن أخبرنا الحُسَين بن بشر (2) بطَرسُوس أخبرنا محمد بن حمير أخبرنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ دُبُر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت".
وهكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة" عن الحسين بن بشر به (3) وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث محمد بن حِمْير وهو الحمصي من رجال البخاري أيضًا فهو إسناد على شرط البخاري، وقد زعم أبو الفرج بن الجوزي أنه حديث موضوع (4) فالله أعلم. وقد روى ابن مردويه من حديث علي (5) والمغيرة بن شعبة (6) وجابر بن عبد الله نحو هذا الحديث. ولكن في إسناد كل منها ضعف.
وقال ابن مردويه أيضا: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري أخبرنا يحيى بن دُرُسْتُوَيه المروزي (7) أخبرنا زياد بن إبراهيم أخبرنا أبو حمزة السكري عن المثنى عن قتادة عن الحسن عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعلْ له (8) قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين (9) وأعمال الصديقين ولا يواظب على ذلك إلا نبي أو صديق أو عبد امتحنتُ (10) قلبه للإيمان أو أريد قتله في سبيل الله" (11) وهذا حديث منكر جدًّا.
حديث آخر في أنها تحفظ من قرأها أول النهار وأول الليل: قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا يحيى بن المغيرة أبو سلمة المخزومي المديني أخبرنا ابن أبي فديك عن عبد الرحمن المليكي عن
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/282) والطحاوي في مشكل الآثار برقم (176) من طرق عن هشام بن عمار به نحوه.
(2) في أ: "بشير".
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (9928).
(4) الموضوعات (1/244).
(5) حديث علي رواه أيضا البيهقي في شعب الإيمان برقم (2395) من طريق نهشل عن أبي إسحاق الهمداني عن حبة العرني عن علي رضي الله عنه.
(6) حديث المغيرة رواه أبو نعيم في الحلية (3/221) من طريق عمر بن إبراهيم عن محمد بن كعب، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(7) في جـ: "بن ساسويه المروبي".
(8) في جـ: "جعل الله".
(9) في جـ: "وثواب النبيين".
(10) في أ: "متحبب".
(11) وفيه محمد بن الحسن النقاش، قال البرقاني كل حديثه منكر. وقال الخطيب: حديثه مناكير. وروى نحوه من حديث جابر رضي الله عنه لكنه ضعيف.
زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ: { حم } المؤمن إلى: { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح" ثم قال: هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مُلَيْكة المليكي من قبل حفظه (1) .
وقد ورد في فضيلتها (2) أحاديث أخر تركناها اختصارًا لعدم صحتها وضعف أسانيدها كحديث على قراءتها عند الحجامة: أنها تقوم مقام حجامتين وحديث أبي هريرة في كتابتها في اليد اليسرى بالزعفران سبع مرات وتلحس للحفظ وعدم النسيان أوردهما ابن مردويه وغير ذلك. وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة.
فقوله: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق { الْحَيُّ الْقَيُّومُ } أي: الحي في نفسه الذي لا يموت أبدًا القيم لغيره وكان عمر يقرأ: "القَيَّام" فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ولا قوام لها بدون أمره كقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ } [الروم:25] وقوله: { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } أي: لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية (3) ، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم، فقوله: { لا تَأْخُذُهُ } أي: لا تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس ولهذا قال: { وَلا نَوْمٌ } لأنه أقوى من السنة. وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار حجابه النور -أو النار-لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (4) .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله: { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } أن موسى عليه السلام سأل الملائكة هل ينام الله عز وجل؟ فأوحى الله إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا (5) فلا يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما. قال: فجعل ينعس وهما في يده (6) في كل يد واحدة قال: فجعل ينعس وينبه (7) وينعس وينبه (8) حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله عز وجل يقول: فكذلك السموات والأرض في يديه.
وهكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق فذكره (9) وهو من أخبار بني إسرائيل وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز وجل وأنه منزه عنه.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2879).
(2) في أ: "في فضلها".
(3) في أ: "عليه شيء".
(4) صحيح مسلم برقم (179).
(5) في أ: "قليلا".
(6) في أ: "يديه".
(7) في أ: "وينتبه".
(8) في أ: "وينتبه".
(9) تفسير الطبري (5/393).
وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير:
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر، قال: "وقع في نفس موسى: هل ينام الله؟ فأرسل الله إليه ملكًا فأرقه ثلاثًا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما". قال: "فجعل ينام تكاد يداه تلتقيان فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى، حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان" قال: "ضرب الله له مثلا عز وجل: أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض" (1) .
وهذا حديث غريب جدا والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدَّشْتكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال: اتقوا الله. فناداه ربه عز وجل: يا موسى سألوك: هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليلة ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه، ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا. فقال: يا موسى، لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك. وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الكرسي.
وقوله: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله:
{ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم: 93-95] .
وقوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } كقوله: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [النجم:26] وكقوله: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء:28] وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا بإذنه له (2) في الشفاعة كما في حديث الشفاعة: "آتي تحت العرش فأخر (3) ساجدًا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع" قال: "فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة" (4) .
وقوله: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات: ماضيها وحاضرها ومستقبلها كقوله إخبارًا عن الملائكة: { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [مريم:64] .
وقوله: { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } أي: لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا
__________
(1) تفسير الطبري (5/394) وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة أمية بن شبل: "له حديث منكر رواه عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة مرفوعا قال: "وقع في نفس موسى عليه السلام: هل ينام الله؟" الحديث رواه هشام بن يوسف وخالفه معمر، عن الحكم عن عكرمة فوقفه، وهذا أقرب ولا يسوغ أن يكون هذا وقع في نفس موسى عليه السلام وإنما روى أن بني إسرائيل سألوا موسى عن ذلك".
(2) في أ، و: "إلا أن يأذن له".
(3) في أ، و: "فأخر لله".
(4) حديث الشفاعة مخرج في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، وسيأتي سياقه وذكر طرقه عند تفسير الآية: 79 من سورة الإسراء.
بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه. ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله: { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [طه:110] .
وقوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن إدريس عن مطرف بن طريف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } قال: علمه، وكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن إدريس وهشيم كلاهما عن مطرف بن طريف به.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير مثله. ثم قال ابن جرير: وقال آخرون: الكرسي موضع القدمين ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين.
وقال شجاع بن مخلد في تفسيره: أخبرنا أبو عاصم عن سفيان عن عمار الدُّهْني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } قال: "كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل".
كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاس، فذكره (1) وهو غلط وقد رواه وَكِيع في تفسيره: حدثنا سفيان عن عمار الدُّهْنِي (2) عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره. وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي عن محمد بن معاذ عن أبي عاصم عن سفيان -وهو الثوري-بإسناده عن ابن عباس موقوفًا مثله وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (3) وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ظُهَيْر الفزاري الكوفي -وهو متروك-عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا ولا يصح أيضًا.
وقال السدي عن أبي مالك: الكرسي تحت العرش. وقال السدي: السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش. وقال الضحاك عن ابن عباس: لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة.
ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرني ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرْس". قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض" (4) .
وقال أبو بكر بن مردويه: أخبرنا سليمان بن أحمد أخبرنا عبد الله بن وهيب (5) الغزي
__________
(1) ورواه الخطيب في تاريخ دمشق (9/251) من طريق شجاع بن مخلد به.
(2) في أ: "عن علي الذهبي".
(3) المستدرك (2/282) ورواه ابن أبي شيبة في صفة العرش برقم (61) من طريق أبي عاصم عن سفيان به موقوفا.
(4) تفسير الطبري (5/399) وهو منقطع وقد جاء موصولا فرواه ابن أبي شيبة في صفة العرش برقم (58) من طريق المختار بن غسان، عن إسماعيل بن مسلم عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، مرفوعا بنحوه. وسيأتي أيضا موصولا من طريق آخر وهو الذي يليه من رواية ابن مردويه.
(5) في هـ: "بن وهب" والتصويب من الإكمال.
أخبرنا محمد بن أبي السَّرِيّ العسقلاني أخبرنا محمد بن عبد الله (1) التميمي عن القاسم بن محمد الثقفي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر الغفاري، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة" (2) .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا زهير حدثنا ابن أبي بُكَيْر (3) حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة عن عمر، رضي الله عنه قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة. قال: فعظم الرب تبارك وتعالى وقال: "إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطًا كأطيط الرَّحل الجديد من ثقله" (4) .
وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما والطبراني وابن أبي عاصم في كتابي السنة لهما والحافظ الضياء في كتاب "المختار" من حديث أبي إسحاق (5) السبيعي عن عبد الله بن خليفة وليس بذاك المشهور وفي سماعه من عمر نظر (6) ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفًا ومنهم من يرويه عنه مرسلا (7) ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة ومنهم من يحذفها.
وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو داود في كتابه السنة من سننه (8) ، والله أعلم.
وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء، والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الآية.
وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين: أن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع وهو الفلك الأثير ويقال له: الأطلس. وقد رد ذلك عليهم آخرون.
وروى ابن جرير من طريق جُويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول: الكرسي هو العرش. والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار، وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة، عن عمر في ذلك وعندي في صحته نظر والله أعلم.
وقوله: { وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي: لا يثقله ولا يُكْرثُهُ حفظ السموات والأرض ومن فيهما ومن
__________
(1) في أ: "بن عبيد الله".
(2) وفي إسناده محمد بن أبي السري العسقلاني، ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن معين، وقال ابن عدي: كثير الغلط.
(3) في أ: "ابن أبي بكر".
(4) ورواه من طريقه الضياء في المختارة برقم (151).
(5) في أ: "عن أبي القاسم".
(6) مسند البزار برقم (39) "كشف الأستار" وتفسير الطبري (5/400) والسنة لابن أبي عاصم برقم (574) والمختارة للضياء المقدسي برقم (151- 154).
(7) الرواية المرسلة في تفسير الطبري (5/400).
(8) سنن أبي داود برقم (4726).
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء، فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة وهو الغني الحميد الفعال لما يريد، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم لا إله غيره ولا رب سواه فقوله: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } كقوله: { وَهُو [الْعَلِيُّ الْكَبِير } وكقوله] (1) : { الْكَبِيرُ الْمُتَعَال } [الرعد:9] .
وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه.
{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) }
يقول تعالى: { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين } أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا. وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار، وإن كان حكمها عامًّا.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مِقْلاتًا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل: { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ }
وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بُنْدَار به (2) ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه. وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به (3) ، وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم: أنها نزلت في ذلك.
وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد الجرشي عن (4) زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد [بن جبير] (5) عن ابن عباس قوله: { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصيني كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلمًا فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك.
رواه ابن جرير وروى السدي نحو ذلك وزاد: وكانا قد تنصرا على يدي تجار قدموا من الشام يحملون زيتًا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبوهما أن يستكرههما، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث في آثارهما، فنزلت هذه الآية.
__________
(1) زيادة من أ، و.
(2) تفسير الطبري (5/407، 408) وسنن أبي داود برقم (2682) وسنن النسائي الكبرى برقم (11048).
(3) صحيح ابن حبان برقم (1725) "موارد".
(4) في و: "مولى".
(5) زيادة من جـ، أ.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا شريك عن أبي هلال عن أُسَق قال: كنت في دينهم مملوكًا نصرانيًا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي الإسلام فآبى فيقول: { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ويقول: يا أُسَق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين.
وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية. وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له أو يبذل الجزية، قوتل حتى يقتل. وهذا معنى الإكراه قال الله تعالى: { سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون } [الفتح:16] وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [التحريم:9] وقال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [التوبة:123] وفي الصحيح: "عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل" (1) يعني: الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن حميد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أسلم" قال: إني أجدني كارها. قال: "وإن كنت كارها" (2) فإنه ثلاثي صحيح، ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام بل دعاه إليه فأخبر أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له: "أسلم وإن كنت كارهًا فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص".
وقوله: { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي: من خلع الأنداد والأوثان (3) وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله، ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي: فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم.
قال أبو القاسم البغوي: حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم، عن أبي إسحاق عن حسان -هو ابن فائد العبسي-قال: قال عمر رضي الله عنه: إن الجِبت: السحر والطاغوت: الشيطان، وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من (4) أمه، وإن كرم الرجل دينه، وحسبه خلقه، وإن كان فارسيًّا أو نبطيا. وهكذا رواه ابن جرير (5) وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن حسان بن فائد العبسي عن عمر فذكره.
ومعنى قوله في الطاغوت: إنه الشيطان قوي جدًّا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها.
وقوله: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } أي: فقد استمسك من الدين بأقوى سبب،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3010) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) المسند (3/181).
(3) في أ: "والأديان".
(4) في جـ، أ، و: "عن".
(5) تفسير الطبري (5/417).
وشبه ذلك بالعروة الوثقى التي لا تنفصم فهي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد ولهذا قال: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
قال مجاهد: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } يعني: الإيمان. وقال السدي: هو الإسلام وقال سعيد بن جبير والضحاك: يعني لا إله إلا الله. وعن أنس (1) بن مالك: { بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } : القرآن. وعن سالم بن أبي الجعد قال: هو الحب في الله والبغض في الله.
وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها.
وقال معاذ بن جبل في قوله: { لا انْفِصَامَ لَهَا } أي: لا انقطاع لها دون دخول الجنة.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا } ثم قرأ: { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد:11].
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف حدثنا ابن عون عن محمد عن قيس بن عباد قال: كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع، فدخل فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنة. فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما استأنس (2) قلت له: إن القوم لما دخلت قبل المسجد قالوا كذا وكذا. قال: سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم وسأحدثك لم: إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه: رأيت كأني في روضة خضراء -قال ابن عون: فذكر من خضرتها وسعتها-وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة، فقيل لي: اصعد عليه فقلت: لا أستطيع. فجاءني مِنْصَف -قال ابن عون: هو الوصيف (3) -فرفع ثيابي من خلفي، فقال: اصعد. فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال: استمسك بالعروة. فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه. فقال: "أما الروضة فروضة الإسلام وأما العمود فعمود الإسلام وأما العروة فهي العروة الوثقى، أنت على الإسلام حتى تموت" (4) .
قال: وهو عبد الله بن سلام أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عون (5) وأخرجه البخاري من وجه آخر، عن محمد بن سيرين به (6) .
طريق أخرى وسياق آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة عن المسيب بن رافع عن خرشة بن الحُرِّ قال: قدمت المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. فجاء شيخ يتوكأ على عصًا له فقال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا. فقام خلف سارية فصلى ركعتين فقمت إليه، فقلت له: قال بعض القوم: كذا وكذا. فقال: الجنة لله يُدخلها (7) من يشاء وإني رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا، رأيت كأن رجلا أتاني فقال: انطلق. فذهبت معه فسلك بي منهجًا عظيمًا فعرضت لي طريق عن يساري، فأردت أن أسلكها. فقال: إنك لست من أهلها. ثم عرضت لي طريق عن
__________
(1) في أ: "وعن يونس".
(2) في جـ: "فلما أنس".
(3) في أ: "هو الوصف".
(4) المسند (5/452).
(5) صحيح البخاري برقم (3813) وصحيح مسلم برقم (2484).
(6) صحيح البخاري برقم (7010).
(7) في جـ: "سيدخلها".
يميني فسلكتها حتى انتهت إلى جبل زلق فأخذ بيدي فزجل (1) فإذا أنا على ذروته، فلم أتقار ولم أتماسك فإذا عمود حديد في ذروته حلقة من ذهب فأخذ بيدي فزجل (2) حتى أخذت بالعروة فقال: استمسك. فقلت: نعم. فضرب العمود برجله فاستمسكت بالعروة، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "رأيت خيرًا أما المنهج العظيم فالمحشر (3) ، وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل النار، ولست من أهلها، وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة، وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء، وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الإسلام فاستمسك بها حتى تموت". قال: فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة. قال: وإذا هو عبد الله بن سلام (4) .
وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان، وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن الحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه (5) . وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن سليمان بن مُسْهِر عن خرشة بن الحُرّ الفزاري به (6) .
__________
(1) في جـ، أ، و: "فدحا بي".
(2) في جـ، أ، و: "فدحا بي".
(3) في جـ: "فالمحن".
(4) المسند (5/452، 453).
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (7633) وسنن ابن ماجة برقم (3920).
(6) صحيح مسلم برقم (2484).