الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
تقول ذلك، فيقال (1) للأرض: التئمي عليه. فتلتئم عليه، فتختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك" (2) .
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وقال حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } قال: "ذاك إذا قيل له في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، جاءنا بالبينات من عند الله، فآمنت به وصدّقت. فيقال له: صَدَقْتَ، على هذا عشت، وعليه مت، وعليه تبعث" (3) .
وقال ابن جرير: حدثنا مجاهد بن موسى والحسن بن محمد قالا حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة (4) إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه مدبرين، فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عن يمينه، والصيام عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من عند رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، فيؤتى من عن يمينه فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل. فيؤتى عن يساره فيقول الصيام: ما قِبَلي مَدخَلٌ. فيؤتى من عند رجليه فيقول (5) فعل الخيرات: ما قِبَلي مدخل. فيقال له اجلس.
فيجلس، قد تَمثّلت (6) له الشمس، قد دنت للغروب، فيقال له أخبرنا عما (7) نسألك. فيقول: دعوني (8) حتى أصلي. فيقال: إنك ستفعل، فأخبرنا عما نسألك. فيقول: وعَمَّ تسألوني؟ فيقال: أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم، ماذا تقول فيه، وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: أمحمد؟ فيقال له: نعم. فيقول: أشهد أنه رسول الله، وأنه جاءنا (9) بالبينات من عند الله، فصدقناه. فيقال له: على ذلك حَييتَ، وعلى ذلك متّ، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويُنَوَّر له فيه، ويفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: انظر إلى ما أعد الله لك فيها. فيزداد غبطة [وسرورا] (10) ثم يجعل نسمه في النسم الطيب، وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة، ويعاد الجسد إلى ما بدئ منه من التراب"، وذلك قول الله: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } (11) .
ورواه ابن حبّان، من طريق المعتمر بن سليمان، عن محمد بن عمرو، وذكر جواب الكافر
__________
(1) في ت: "ويقال".
(2) سنن الترمذي برقم (1071).
(3) رواه الطبري في تفسيره (16/596).
(4) في ت، أ: "عن أبي هريرة قال".
(5) في ت: "فتقول".
(6) في ت، أ: "مثلت".
(7) في ت: "كما".
(8) في ت، أ: "دعني".
(9) في ت، أ: "جاء".
(10) زيادة من ت، أ، والطبري.
(11) تفسير الطبري (16/596 ، 597).
وعذابه (1) .
وقال البزار: حدثنا سعيد بن بحر القراطيسي، حدثنا الوليد بن القاسم، حدثنا يزيد بن كَيْسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة -أحسَبه رفعه-قال: "إن المؤمن ينزل به الموت، ويعاين ما يعاين، فيودّ (2) لو خرجت -يعني نفسُه -والله يحب لقاءه، وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء، فتأتيه أرواح المؤمنين، فتستخبره (3) عن معارفهم من أهل الأرض، فإذا قال: تركت فلانا في الأرض (4) أعجبهم ذلك. وإذا قال: إن فلانا قد مات، قالوا: ما جيء به إلينا. وإن المؤمن يجلس في قبره، فيسأل: من ربك؟ فيقول: ربي الله (5) ويسأل: من نبيك؟ فيقول: محمد نبيي (6) فيقال: ماذا دينك؟ قال: ديني الإسلام. فيفتح له باب في قبره، فيقول -أو: يقال -انظر إلى مجلسك. ثم يرى القبر فكأنما كانت رَقْدَة. وإذا كان عَدُو الله نزل به الموت وعاين ما عاين، فإنه لا يحب أن تخرج روحه أبدا، والله يبغض لقاءه، فإذا جلس في قبره -أو: أجلس -يقال له: من ربك؟ فيقول: لا أدري. فيقال: لا دريت. فيفتح له باب من جهنم، ثم يضرب (7) ضربة يسمعها (8) كل دابة إلا الثقلين، ثم يقال له: نم كما ينام المنهوش". قلت لأبي هريرة: ما المنهوش؟ قال: الذي تنهشه الدواب والحيات، ثم يضيق عليه قبره.
ثم قال: لا نعلم رواه إلا الوليد بن القاسم (9) .
وقال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا حُجَين بن المثنى، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، عن محمد بن المُنكَدِر قال: كانت أسماء -يعني بنت الصديق -رضي الله عنها، تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال: "إذا دخل الإنسان قبره، فإن كان مؤمنا أحَفّ به عملُه: الصلاةُ والصيام"، قال: "فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده، ومن نحو الصيام فيرده"، قال: "فيناديه: اجلس. فيجلس. فيقول له: ماذا تقول في هذا الرجل؟ يعني النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من؟ قال: محمد. قال أشهد أنه رسول الله، قال: يقول: وما يدريك؟ أدركته؟ قال: أشهد أنه رسول الله. قال: يقول: على ذلك عشتَ، وعليه متّ، وعليه تبعثُ. وإن (10) كان فاجرًا أو كافرًا، جاءه الملك ليس بينه وبينه شيء يَرُدّه، فأجلسه يقول: اجلس، ماذا تقول في هذا الرجل؟ قال: أي رجل؟ قال: محمد؟ قال: يقول: والله ما أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. قال له الملك: على ذلك عشتَ، وعليه متَ، وعليه
__________
(1) صحيح ابن حبان برقم (781) "موارد".
(2) في ت: "فود".
(3) في ت: "فيستخبرونه".
(4) في أ: "في الدنيا".
(5) في ت: "الله ربي".
(6) في ت، أ: "نبيي محمد".
(7) في ت، أ: "يضربه".
(8) في ت، أ: "يسمع".
(9) مسند البزار برقم (874) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (3/52): "في الصحيح طرف منه رواه البزار ورجاله ثقات خلا سعيد بن بحر القراطيسى +فإني لم أعرفه".
(10) في ت: "قال: وإن".
تبعثُ. قال: وتسلَّط عليه دابة في قبره، معها سوط تَمْرَته (1) جَمرةٌ مثل غَرْب (2) البعير، تضربه ما شاء الله، صماء لا تسمع صوتَه فترحَمه" (3) .
وقال العوفي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، في هذه الآية قال: إن المؤمن إذا حَضرَه الموت شهدته الملائكة، فسلموا عليه وبشروه بالجنة، فإذا مات مَشَوا مع جنازته، ثم صَلَّوا عليه مع الناس، فإذا دفن أجلس في قبره فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقال له: من رسولك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم. فيقال له: ما شهادتك؟ فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فيوسَّع له في قبره مد بَصَره. وأما الكافر فتنزل عليه الملائكة، فيبسطون أيديهم -"والبسط": هو الضرب -يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت. فإذا أدخل قبره أقعد، فقيل له: من ربك؟ فلم يَرْجع إليهم شيئا، وأنساه الله ذكر ذلك. وإذا قيل: من الرسول الذي بُعثَ إليك؟ لم يهتد له، ولم يرجع إليه شيئًا، كذلك يضل الله الظالمين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، حدثنا شريح بن مسلمة حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد البجلي، عن أبي قتادة الأنصاري في قوله تعالى: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } الآية، قال: إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره، فيقال (4) له: من ربك؟ فيقول: الله. فيقال له: من نبيك؟ فيقول: محمد بن عبد الله. فيقال له في ذلك مرات. ثم يفتح له باب إلى النار، فيقال له: انظر إلى منزلك في النار لو زُغْت (5) ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: انظر إلى منزلك [من الجنة إذ ثبت. وإذا مات الكافر أجلس في قبره، فيقال له: من ربك؟ من نبيك؟ فيقول: لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون. فيقال له: لا دريت. ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: انظر إلى منزلك] (6) لو ثبت، ثم يفتح له باب إلى النار، فيقال له: انظر إلى منزلك إذ زغت (7) فذلك قوله تعالى: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ }
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قال: لا إله إلا الله، { وَفِي الآخِرَةِ } المسألة في القبر (8) .
وقال قتادة: أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، { وَفِي الآخِرَةِ } في القبر. وكذا روي عن غير واحد من السلف.
وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في كتابه "نوادر الأصول": حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن
__________
(1) في ت، أ: "تمر به".
(2) في ت، أ: "عرف".
(3) المسند (6/352).
(4) في ت: "يقال".
(5) في ت: "لو رغبت".
(6) زيادة من ت، أ.
(7) في ت، أ: "إذ رغبت".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/296).
نافع، عن ابن أبي فُدَيْك، عن عبد الرحمن بن عبد الله (1) عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ونحن في مسجد المدينة، فقال: "إني رأيت البارحة عجبًا، رأيت رجلا من أمتي [جاءه ملك الموت ليقبض روحه، فجاءه برُّه بوالديه (2) فرد عنه. ورأيت رجلا من أمتي] (3) قد بسط عليه عذاب القبر، فجاءه وُضوءه فاستنقذه من ذلك. ورأيت رجلا من أمتي [قد] (4) احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم. ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم. ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا، كلما ورد حوضا مُنع منه، فجاءه صيامه فسقاه وأرواه. ورأيت رجلا من أمتي والنبيون قعود حلَقا حلقا، وكلما دنا لحقة طردوه، فجاءه اغتساله من الجنابة، فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي. ورأيت رجلا من أمتي [من] (5) بين يديه ظلمة، ومن خلفه ظلمة، وعن يمينه ظلمة، وعن شماله ظلمة، ومن فوقه ظلمة، ومن تحته ظلمة، وهو متحير فيها، فجاءته حجته وعمرته، فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه النور، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه، فجاءته صلَة الرحم، فقالت: يا معشر المؤمنين، كلموه، فكلموه. ورأيت رجلا من أمتي يتقي وَهَج النَّار أو شَررهَا بيده عن وجهه، فجاءته صدقته فصارت سترا على وجهه وظلا على رأسه. ورأيت رجلا من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فاستنقذاه من أيديهم، وأدخلاه مع ملائكة الرحمة. ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه، بينه وبين الله حجاب، فجاءه حسن خُلُقه، فأخذ بيده فأدخله على الله، عز وجل. ورأيت رجلا من أمتي قد هَوت صحيفته من قبل شماله، فجاءه خوفه من الله فأخذ صحيفته، فجعلها في يمينه. [ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه، فجاءته أفراطه فثقلوا ميزانه] (6) ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم، فجاءه وجَله من الله، فاستنقذه من ذلك ومضى. ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار، فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار، [ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يُرعَد كما ترعد السَّعَفة، فجاء حسن ظنه بالله، فسكَّن رِعْدَته، ومضى] (7) ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا، فجاءته صلاته عليَّ، فأخذت بيده فأقامته ومضى على الصراط. ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة، فغلقت الأبواب دونه، فجاءته شهادة: أن لا إله إلا الله، ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة" (8) .
قال القرطبي بعد إيراده هذا الحديث من هذا الوجه: هذا حديث عظيم، ذكرَ فيه أعمالا خاصة تنجي من أهوال خاصة. أورده هكذا في كتابه "التذكرة" (9) .
__________
(1) في التذكرة: "عبد الرحمن بن أبي عبد الله".
(2) في ت: "بوالدته".
(3) زيادة من ت، أ، والتذكرة.
(4) زيادة من ت، أ، والتذكرة.
(5) زيادة من ت، أ، والتذكرة.
(6) زيادة من ت، أ، والتذكرة.
(7) زيادة من ت، أ، والتذكرة.
(8) ذكره الزبيدي في الإتحاف وعزاه للحكيم في النوادر وضعفه، ورواه الخرائطي في مكارم الأخلاق برقم (49) من طريق سعيد بن عبد الله، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة مرفوعا بأخصر منه، وذكر أن ابن تيمية كان يعظم شأن هذا الحديث ويقول: "شواهد الصحة عليه".
(9) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 240 - 242).
وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في هذا حديثا غريبا مطولا فقال: حدثنا أبو عبد الله (1) أحمد بن إبراهيم النُّكْرِي، حدثنا محمد بن بكر البرساني أبو عثمان، حدثنا أبو عاصم الحبطي -وكان من خيار أهل البصرة، وكان من أصحاب حزم، وسلام بن أبي مطيع -حدثنا بكر بن خنيس، عن ضرار بن عمرو، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن تميم الداري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله، عز وجل، لملك الموت: انطلق إلى وليي فأتني به، فإني قد ضَربته بالسراء والضراء، فوجدته حيث أحب. ائتني به فَلأريحنَّه (2) .
فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة، معهم أكفان وحَنُوط من الجنة، ومعهم ضبائر الريحان، أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لونا، لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك الأذفر. فيجلس (3) ملك الموت عند رأسه، وتحف به الملائكة. ويضع كل ملك منهم يده على عضو من أعضائه ويَبْسط ذلك الحرير الأبيض والمسك الأذفَر تحت ذقنه، ويفتَح له بابٌ إلى الجنة، فإن نفسه لَتَعلَّلُ عند ذلك بطرف الجنة تارة، وبأزواجها (4) [مرة] (5) ومرَّةً بكسواتها ومرة بثمارها، كما يُعَلّل الصبي أهله إذا بكى". قال: "وإن أزواجه ليبتهشن عند ذلك ابتهاشًا".
قال: "وتنزو الروح". قال البُرْسَاني: يريد أن تخرج من العَجَل إلى ما تحب. قال: "ويقول مَلَك الموت: اخرجي يا أيتها الروح الطيبة، إلى سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب". قال: "ولَمَلَك الموت أشدّ به لطفا من الوالدة بولدها، يعرف أن ذلك الروح حبيب لربه، فهو يلتمس بلطفه تحببا لديه رضاء للرب عنه، فتُسَلُّ روحه كما تسل الشعرة من العجين". قال: "وقال الله، عز وجل: { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ } [النحل: 32]، وقال { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } [الواقعة: 88، 89]، قال: "روح من جهة الموت، وريحان يتلقى به، وجنة نعيم تقابله". قال: "فإذا قَبض ملك الموت روحه، قالت الروح للجسد: جزاك الله عني خيرا، فقد كنت سريعا بي إلى طاعة الله، بطيئا بي عن معصية الله، فقد نجيت وأنجيت". قال: "ويقول الجسد للروح مثل ذلك".
قال: "وتبكي (6) عليه بقاع الأرض التي كان يطيع الله فيها، وكل باب من السماء يصعد منه عمله. وينزل منه رزقه أربعين ليلة".
قال: "فإذا قَبَض ملك الموت روحه، أقامت الخمسمائة من الملائكة عند جسده، فلا يقلبه (7) بنو آدم لشق إلا قلبته الملائكة قبلهم، وغسلته وكفنته بأكفان قبل أكفان بني آدم، وحنوط قبل حنوط
__________
(1) في أ: "أبو عبد الرحمن".
(2) في ت، أ: "فلأريحه".
(3) في أ: "قال:. فيجلس".
(4) في ت، أ: "مرة بأزواجها".
(5) زيادة من ت، أ.
(6) في ت: "ويبكي".
(7) في ت، أ: "فلا تقلبه".
بني آدم، ويقوم من بين باب بيته إلى باب قبره صفّان من الملائكة، يستقبلونه بالاستغفار، فيصيح عند ذلك إبليس صيحة تتصدع (1) منها عظام (2) جسده". قال: "ويقول لجنوده: الويل لكم. كيف خَلَص هذا العبد منكم، فيقولون إن هذا كان عبدا معصوما".
قال: "فإذا صعد ملك الموت بروحه، يستقبله جبريل في سبعين ألفا من الملائكة، كل يأتيه ببشارة من ربه سوى بشارة صاحبه". قال: "فإذا انتهى ملك الموت بروحه إلى العرش، خَرّ الروح ساجدا". قال: "يقول الله، عز وجل، لملك الموت: انطلق بروح عبدي فضعه في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، وماء مسكوب".
قال: "فإذا وضع في قبره، جاءته الصلاة فكانت عن يمينه، وجاءه الصيام فكان عن يساره، وجاءه القرآن فكان عند رأسه، وجاءه مشيه إلى الصلاة فكان عند رجليه، وجاءه الصبر فكان ناحية القبر". قال: "فيبعث الله، عز وجل، عُنُقًا من العذاب". قال: "فيأتيه عن يمينه" قال: "فتقول الصلاة: وراءك والله ما زال دائبا عمره كله وإنما استراح الآن حين وضع في قبره". قال: "فيأتيه عن يساره، فيقول الصيام مثل ذلك". قال: "ثم يأتيه من عند رأسه، فيقول القرآن والذكر مثل ذلك". قال: "ثم يأتيه من عند رجليه، فيقول مشيه إلى الصلاة مثل ذلك. فلا يأتيه العذاب من ناحية يلتمس هل يجد مساغًا إلا وجَد ولي الله قد أخذ جنته". قال: "فينقمع العذاب عند ذلك فيخرج". قال: "ويقول الصبر لسائر الأعمال: أما إنه لم يمنعني أن أباشر أنا بنفسي إلا أني نظرت ما عندكم، فإن عجزتم كنت أنا صاحبه، فأما إذ أجزأتم عنه فأنا له ذخر عند الصراط والميزان".
قال: "ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف، وأصواتهما كالرعد القاصف، وأنيابهما كالصياصي، وأنفاسهما كاللهب، يطآن في أشعارهما، بين مَنْكِب كل واحد مسيرة كذا وكذا، وقد نزعت منهما الرأفة والرحمة، يقال لهما: منكر ونكير، في يد كل واحد منهما مطرقة، لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يُقلّوها". قال: "فيقولان له: اجلس". قال: "فيجلس فيستوي جالسا". قال: "وتقع أكفانه في حقويه". قال: "فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟".
قال: قالوا: يا رسول الله، ومن يطيق الكلام عند ذلك، وأنت تصف من المَلَكَين ما تصف؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ }
قال: "فيقول: ربي الله وحده لا شريك له، وديني الإسلام الذي دانت به الملائكة، ونبيي محمد خاتم النبيين". قال: "فيقولان: صدقت". قال: فيدفعان القبر، فيوسعان من بين يديه أربعين ذراعا، وعن يمينه أربعين ذراعا، وعن شماله (3) أربعين ذراعا، ومن خلفه أربعين ذراعا، ومن عند رأسه
__________
(1) في ت، أ: "يتصدع".
(2) في أ: "بعض عظام".
(3) في أ: "وعن يساره".
أربعين ذراعا، ومن عند رجليه أربعين ذراعا". قال: "فيوسعان له مائتي ذراع".
قال البرساني: فأحسبه: وأربعين ذراعا تحاط به (1) .
قال: "ثم يقولان له: انظر فوقك، فإذا باب مفتوح إلى الجنة". قال: "فيقولان له: وليَّ الله، هذا منزلك إذ أطعت الله". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده (2) إنه يصل إلى قلبه عند ذلك فرحة، ولا ترتد أبدًا، ثم يقال له: انظر تحتك". قال: "فينظر تحته فإذا باب مفتوح إلى النار قال: "فيقولان: ولي الله نجوت آخر ما عليك". قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبدا". قال: فقالت عائشة: يفتح له سبعة وسبعون بابا إلى الجنة، يأتيه ريحها وبردها، حتى يبعثه الله، عز وجل.
وبالإسناد المتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويقول الله تعالى لملك (3) الموت: انطلق إلى عدوي فأتني به، فإني قد بسطت له رزقي، ويَسّرت له نعمتي، فأبى إلا معصيتي، فأتني به لأنتقم منه".
قال: "فينطلق إليه ملك الموت في أكره صورة ما رآها أحد من الناس قَطّ، له اثنتا عشرة (4) عينا، ومعه سَفُود من النار كثير الشوك، ومعه خمسمائة من الملائكة، معهم نحاس وجمر من جمر جهنم، ومعهم سياط من نار، لينها لين السياط وهي نار تأجج". قال: "فيضربه ملك الموت بذلك السفود ضربة يغيبُ كل أصل شوكة من ذلك السفّود في أصل كل شعرة وعرق وظفر". قال: "ثم يلويه ليا شديدا". قال: "فينزع روحه من أظفار قدميه". قال: "فيلقيها" في عقبيه (5) ثم يسكر (6) عند ذلك عدو الله (7) سكرة، فيرفه ملك الموت عنه". قال: "وتضرب (8) الملائكة وجهه ودُبُره بتلك السياط". [قال: "فيشده ملك الموت شدة، فينزع روحه من عقبيه، فيلقيها في ركبتيه، ثم يسكر عدو الله عند ذلك سكرة، فيرفه ملك الموت عنه". قال: "فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط"] (9) قال: "ثم ينتره (10) ملك الموت نَتَرة، فينزع روحه من ركبتيه فيلقيها في حقويه". قال: "فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة، فيرفّه ملك الموت عنه". قال: "وتضرب الملائكة (11) وجهه ودُبُره بتلك السياط". قال: "كذلك إلى صدره، ثم كذلك إلى حلقه". قال: ثم تبسط الملائكة ذلك النحاس وجمر جهنم تحت ذقنه". قال: "ويقول ملك الموت: اخرجي أيتها الروح اللعينة الملعونة إلى سَمُوم وحميم، وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم".
قال: "فإذا قبض ملك الموت روحه قال الروح للجسد: جزاك الله عني شرا، فقد كنت سريعا بي
__________
(1) في أ: "محاط".
(2) في أ: "والذي نفسي بيده".
(3) في أ: "إلى ملك".
(4) في أ: "اثني عشر".
(5) في هـ: "ركبتيه" والمثبت من ت، أ.
(6) في أ: "قال: فيسكر".
(7) في ت: "قال فيسكر عدو الله عند ذلك".
(8) في ت: "ويضرب".
(9) زيادة من ت، أ.
(10) في ت، أ: "فينتره".
(11) في ت: "فيضرب"، وفي أ: "فتضرب".
إلى معصية الله، بطيئا بي عن طاعة الله، فقد هلكت وأهلكت" قال: "ويقول الجسد للروح مثل ذلك، وتلعنه بقاع الأرض التي كان يعصي الله عليها، وتنطلق جنود إبليس إليه فيبشرونه بأنهم قد أوردوا عبدا من ولد آدم النار".
قال: فإذا وضع في قبره ضُيق عليه قبره حتى تختلف (1) أضلاعه، حتى تدخل اليمنى في اليسرى، واليسرى في اليمنى" قال: "ويبعث الله إليه أفاعي دُهمًا كأعناق الإبل يأخذن (2) بأرنبته وإبهامي قدميه فيقرضنه حتى يلتقين في وسطه".
قال: "ويبعث الله ملكين أبصارهما (3) كالبرق الخاطف، وأصواتهما كالرعد القاصف، وأنيابهما كالصياصي، وأنفاسهما كاللهب (4) يطآن في أشعارهما، بين منكبي كل واحد منهما مسيرة كذا وكذا، قد نزعت منهما الرأفة والرحمة يقال لهما: منكر ونكير، في يد كل واحد منهما مطرقة، لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها" قال: "فيقولان له: اجلس". قال: "فيستوي جالسا" قال: "وتقع أكفانه في حقويه" قال: "فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري. فيقولان: لا دريت ولا تَليّت". [قال] (5) فيضربانه ضربة يتطاير شررها في قبره، ثم يعودان". قال: "فيقولان: انظر فوقك. فينظر، فإذا باب مفتوح من الجنة، فيقولان: هذا -عدو الله (6) -منزلك لو أطعت الله".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترتد أبدًا".
قال: "ويقولان له: انظر تحتك فينظر تحته، فإذا باب مفتوح إلى النار، فيقولان: عدو الله، هذا منزلك إذ عصيت الله".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترتد أبدا".
قال: وقالت عائشة: ويفتح له سبعة وسبعون بابًا إلى النار، يأتيه [من] (7) حرها وسمومها حتى يبعثه الله إليها (8) .
هذا حديث غريب جدًا، وسياق عجيب، ويزيد الرقاشي -راويه عن أنس -له غرائب ومنكرات، وهو ضعيف الرواية عند الأئمة، والله أعلم.
ولهذا قال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، حدثنا هشام -هو ابن يوسف -عن عبد الله بن بَحير، عن هانئ مولى عثمان، عن عثمان، رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه فقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له بالتثبيت، فإنه الآن يسأل"، انفرد به أبو
__________
(1) في ت: "يختلف".
(2) في أ: "يأخذونه".
(3) في أ: "أيضا وهما".
(4) في ت: "كاللهيب".
(5) زيادة من ت، أ.
(6) في ت، أ: "عدو الله هذا".
(7) زيادة من أ.
(8) أورده ابن حجر في المطالب العالية (4/382) وعزاه لأبي يعلى قال: "هذا حديث عجيب السياق، وهو شاهد لكثير مما ثبت في حديث البراء الطويل المشهور، ولكن إسناده غريب وفيه ضعف".
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
داود (1) .
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَردُويه عند قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } الآية [الأنعام: 93] حديثا مطولا جدا، من طريق غريب، عن الضحاك، عن ابن عباس مرفوعا، وفيه غرائب أيضا (2) .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) }
(3) قال البخاري: قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } ألم تعلم؟ كقوله: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ } [إبراهيم: 24] { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا } [البقرة: 243] البوار: الهلاك، بار يبور بَورًا، و { قَوْمًا بُورًا } [الفرقان:18 ، الفتح: 12] هالكين.
حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء سمع ابن عباس: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } قال: هم كفار أهل مكة (4) .
وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية: هو جبلة بن الأيهم، والذين اتبعوه من العرب، فلحقوا بالروم. والمشهور الصحيح عن ابن عباس هو القول الأول، وإن كان المعنى يعم جميع الكفار؛ فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ونعمة للناس، فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة، ومن ردها وكفرها دخل النار.
وقد روي عن علي نحو قول ابن عباس الأول، قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل: أن ابن الكواء سأل عليا عن { الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } قال: كفار قريش يوم بدر.
حدثنا المنذر بن شاذان، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا بسام -هو الصيرفي (5) -عن أبي الطفيل قال: جاء رجل إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، من الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار
__________
(1) سنن أبي داود برقم (3221).
(2) ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/318) وقال: "أخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس فذكره".
(3) تنبيه: من هذه الآية يبتدئ الاعتماد في تخريج الأحاديث والآثار في تفسير الطبري على الطبعة المصورة عن الطبعة الأميرية بعد أن كان الاعتماد على الطبعة التي حققها الفاضلان الشيخ أحمد شاكر والأستاذ محمود شاكر في ستة عشر مجلدا وطبعت في دار المعارف، والله أسأل أن يقيض لهذا الكتاب من يكمل تحقيقه فهو من أعظم كتب التفسير وأجلها، والله المستعان.
(4) صحيح البخاري برقم (4700).
(5) في ت: "الصرفي".
البوار؟ قال: منافقو قريش.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل قال: قرأت على مَعْقِل، عن ابن أبي حسين (1) قال: قام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقال: ألا أحد يسألني عن القرآن، فوالله لو أعلم اليوم أحدا أعلم مني به (2) وإن كان من وراء البحار لأتيته. فقام عبد الله بن الكواء (3) فقال: من الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار؟ فقال: مشركو قريش، أتتهم نعمة (4) الله: الإيمان، فبدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار .
وقال العدوي في قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } الآية، ذكر مسلم المستوفي (5) عن علي أنه قال: هم الأفجران من قريش: بنو أمية، وبنو المغيرة، فأما بنو المغيرة فأحلوا قومهم دار البوار يوم بدر، وأما بنو أمية فأحلوا قومهم دار البوار يوم أحد. وكان أبو جهل يوم بدر، وأبو سفيان يوم أحد. وأما دار البوار فهي جهنم.
وقال ابن أبي حاتم، رحمه الله: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا الحارث بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن مرة قال: سمعت عليا قرأ هذه الآية: { وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } قال: هم الأفجران من قريش: بنو أمية وبنو المغيرة، فأما بنو المغيرة فأهلكوا يوم بدر، وأما بنو أمية فمتِّعوا إلى حين.
ورواه أبو إسحاق، عن عمرو بن مرة، عن علي، نحوه، وروي من غير وجه عنه.
وقال سفيان الثوري، عن علي بن زيد، عن يوسف بن سعد، عن عمر بن الخطاب، في قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } قال: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكُفيتمُوهُم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
وكذا رواه حمزة الزيات، عن عمرو بن مرة قال: قال ابن عباس لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، هذه الآية: { الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } قال: هم الأفجران من قريش: أخوالي وأعمامك فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر، وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة بن زيد (6) هم كفار قريش الذين قتلوا يوم بدر وكذا رواه مالك في تفسيرة عن نافع، عن ابن عمر.
وقوله: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ } أي: جعلوا له (7) شركاء عبدوهم معه، ودَعَوُا الناس إلى ذلك.
ثم قال تعالى مهدِّدًا لهم (8) ومتوعدا لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: { قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ }
__________
(1) ت، أ: :حنين".
(2) في ت، أ: "به مني".
(3) في ت: "الكراء".
(4) في ت، أ: "نعم".
(5) في أ: "المسوف".
(6) في ت: "وقتادة وابن زيد".
(7) في ت: "جعلوا لله".
(8) في ت: "له".
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
أي: مهما قدرتم عليه في الدنيا فافعلوا، فمهما يكن من شيء { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ } أي: مرجعكم وموئلكم إليها، كما قال تعالى: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان: 24]، وقال تعالى: { مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس: 70].
{ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) }
يقول تعالى آمرًا العباد (1) بطاعته والقيام بحقه، والإحسان إلى خلقه، بأن يقيموا الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأن ينفقوا مما رزقهم الله بأداء الزكوات، والنفقة على القرابات والإحسان إلى الأجانب.
والمراد بإقامتها هو: المحافظة على وقتها وحدودها، وركوعها وخشوعها وسجودها.
وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر، أي: في الخفية، والعلانية وهي: الجهر، وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ } وهو يوم القيامة، وهو يوم { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ } أي: لا يقبل من أحد فدية بأن تباع (2) نفسه، كما قال تعالى: { فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [الحديد: 15].
وقوله: { وَلا خِلالٌ } قال ابن جرير: يقول: ليس هناك مُخَالَّة (3) خليل، فيصفح (4) عمن استوجب العقوبة، عن العقاب لمُخَالَّته، بل هنالك العدل والقسط، فالخلال مصدر، من قول القائل: "خاللت فلانا، فأنا أخاله مخالة وخلال"، ومنه قول امرئ القيس:
صَرَفتُ الهَوَى عَنْهُنَّ من خَشْيَة الرَّدَى ... وَلَسْتُ بمقْلى الخلال ولا قَال (5)
وقال قتادة: إن الله قد علم أن في الدنيا بيوعا وخلالا يتخالون بها في الدنيا، فينظر رجل من يخالل وعلام صاحب، فإن كان لله فليداوم، وإن كان لغير الله فسيقطع عنه.
قلت: والمراد من هذا أنه يخبر تعالى أنه لا ينفع أحدا بيع ولا فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا لو وجده، ولا ينفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد إذا لقي الله كافرا، قال الله تعالى: { وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } [البقرة: 123]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [البقرة: 254].
__________
(1) في ت، أ: "لعباده".
(2) في ت: "يباع".
(3) في ت: "مخالطة".
(4) في ت: "فصفح".
(5) البيت في تفسير الطبري (13/149).
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) }
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
{ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) }
يعدد تعالى نعمه على خلقه، بأن خلق لهم السماوات سقفا محفوظًا (1) والأرض فراشًا، وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواجا من نبات شتى، ما بين ثمار وزروع، مختلفة الألوان والأشكال، والطعوم والروائح والمنافع، وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر، تجري عليه بأمر الله تعالى، وسخر البحر يحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم آخر، لجلب ما هنا إلى هناك، وما هناك إلى هاهنا، وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر، رزقا للعباد من شرب وسقي وغير ذلك من أنواع المنافع.
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ } أي: يسيران لا يقران (2) ليلا ولا نهارا، { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس: 40]، { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54]، فالشمس والقمر يتعاقبان، والليل والنهار عارضان (3) فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر، { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (4) } [لقمان: 29]، وقال تعالى: { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى } [الزمر: 5].
وقوله: { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } يقول: هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم (5) وقالكم.
وقال بعض السلف: من كل ما سألتموه وما لم تسألوه.
وقرأ بعضهم: "وأتاكم من كل ما سألتموه".
وقوله: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا } يخبر عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلا عن القيام بشكرها، كما قال طلق بن حبيب، رحمه الله: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر (6) من أن يحصيها (7) العباد، ولكن أصبحوا توابين وامسُوا توابين.
__________
(1) في أ: "مرفوعا".
(2) في أ: "لا يفتران".
(3) في ت، أ: "يتعارضان".
(4) في هـ، ت، أ: "ألا وهو العزيز الغفار" والصواب ما أثبتناه.
(5) في ت، أ: "لحالكم".
(6) في أ: "أكبر".
(7) في ت، أ: "تحصيها".
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
وفي صحيح البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم، لك الحمد غير مَكْفِيّ ولا مودَع، ولا مستغنى عنه ربَّنا" (1) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا داود بن المُحبّر، حدثنا صالح المرْيّ عن جعفر بن زيد العَبْدِي، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة (2) دواوين، ديوان، فيه العمل الصالح، وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه، فيقول الله لأصغر (3) نعمه -أحسبَه. قال: في ديوان النعم: خذي ثمنك من عمله الصالح، فتستوعب عمله الصالح كله، ثم تَنَحّى وتقول: وعزتك ما استوفيت. وتبقى الذنوب والنعم (4) فإذا أراد الله أن يرحم قال: يا عبدي، قد ضاعفتُ لك حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك -أحسبه قال: ووهبت لك نعمي" (5) غريب، وسنده ضعيف.
وقد روي في الأثر: أن داود، عليه السلام، قال: يارب، كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي؟ فقال الله تعالى: الآن شكرتني يا داود، أي: حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر النعم.
وقال الشافعي، رحمه الله: الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه، إلا بنعمة (6) تُوجِب على مُؤدى ماضي نعَمه بأدائها، نعمة حادثةَ توجب عليه شكره بها (7) .
وقال القائل في ذلك:
لو كل جَارِحَة مني لهَا لُغَةٌ ... تُثْنيِ عَلَيكَ بما أولَيتَ مِنْ حَسنِ ...
لَكَانَ ما زَادَ شُكري إذ شَكَرت به ... إليكَ أبلغَ في الإحسَان والمننِ ...
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) }
يذكر تعالى في هذا المقام محتجا على مشركي العرب، بأن البلد الحرام مكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه، آهلة تبرأ ممن عبد غير الله، وأنه دعا لمكة بالأمن فقال: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } وقد استجاب الله له، فقال تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [العنكبوت: 67]، وقال تعالى:
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5458) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
(2) في أ: "ثلاث" وهو خطأ.
(3) في ت، أ: "لأصغرهم".
(4) في ت، أ: "والنعم والعمل الصالح فيستوعب عمله الصالح كله".
(5) مسند البزار برقم (3444) "كشف الأستار" وفيه داود بن المحبر وصالح المرى وهما ضعفيان.
(6) في هـ، ت، أ: "بنعمة حادثة" والمثبت من الرسالة.
(7) الرسالة للشافعي (ص 7، 8).
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي (1) بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [آل عمران: 96، 97]، وقال في هذه القصة: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } فعرفه كأنه دعا به بعد بنائها؛ ولهذا قال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [إبراهيم: 39]، ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة، فأما حين ذهب بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة، فإنه دعا أيضا فقال: { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا } [البقرة: 126]، كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطولا.
وقال: { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ } ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته.
ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس وأنه برئ ممن عبدها، ورد أمرهم (2) إلى الله، إن شاء عذبهم (3) وإن شاء غفر لهم (4) كما قال عيسى، عليه السلام: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة: 118]، وليس في هذا أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى، لا تجويز (5) وقوع ذلك.
قال عبد الله بن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث، أن بكر بن سَوَادة حدثه، عن عبد الرحمن بن جُبَير (6) عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم: { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وقول (7) عيسى عليه السلام: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ورفع يديه، [ثم] (8) قال: "اللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي"، وبكى فقال الله :[يا جبريل] (9) اذهب إلى محمد -وربك أعلم وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل، عليه السلام، فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، [قال] (10) فقال الله: اذهب إلى محمد، فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك (11) .
{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) }
وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها، وذلك قبل بناء البيت، وهذا كان بعد بنائه، تأكيدًا ورغبة إلى الله، عز وجل؛ ولهذا قال: { عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ }
وقوله: { رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ } قال ابن جرير: هو متعلق بقوله: "المحرم" أي: إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده.
__________
(1) في أ: "للتي" وهو خطأ.
(2) في أ: "أمره".
(3) في أ: "عذبه".
(4) في أ: "له".
(5) في ت: "لا تحرير".
(6) في أ: "ابن جرير".
(7) في ت، أ: "وقال".
(8) زيادة من ت، أ.
(9) زيادة من ت، أ.
(10) زيادة من ت.
(11) رواه الطبري في تفسيره (13/151).
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: لو قال: "أفئدة الناس" لازدحم عليه فارس والروم واليهود (1) والنصارى والناس كلهم، ولكن قال: { مِنَ النَّاسِ } فاختص به المسلمون.
وقوله: { وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ } أي: ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك وكما أنه { وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } فاجعل لهم ثمارا يأكلونها. وقد استجاب الله ذلك، كما قال: { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا } [القصص: 57] وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته: أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة، وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها، استجابة لخليله إبراهيم، عليه الصلاة والسلام.
{ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) }
قال ابن جرير: يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم خليله أنه قال: { رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } أي: أنت تعلم قصدي في دعائي وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك، فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها، ولا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم حمد ربه، عز وجل، على ما رزقه من الولد بعد الكبر، فقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } أي: إنه ليستجيب لمن دعاه، وقد استجاب لي فيما سألته (2) من الولد.
ثم قال: { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ } أي: محافظا عليها مقيما لحدودها { وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } أي: واجعلهم كذلك مقيمين (3) الصلاة { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } أي: فيما سألتك فيه كله.
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } وقرأ بعضهم: "ولوالدي"، على الإفراد وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه (4) لما تبين له عداوته (5) لله، عز وجل، { وَلِلْمُؤْمِنِينَ } أي: كلهم { يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } أي: يوم تحاسب عبادك فتجزيهم (6) بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، [والله أعلم] (7) .
__________
(1) في ت: "واليهود والروم".
(2) في ت: "فيما سألت".
(3) في ت، أ: "مقيمي".
(4) في ت: "ابنه".
(5) في أ: "أنه عدو".
(6) في ت: "فيجزيهم".
(7) زيادة من أ.
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
{ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ (42) }
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
{ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ }
يقول [تعالى شأنه] (1) { وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ } يا محمد { غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } أي: لا تحسبه إذ (2) أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل لهم، لا يعاقبهم على صنعهم (3) بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عدا، أي: { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } أي: من شدة الأهوال يوم القيامة.
ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم ومجيئهم إلى قيام المحشر فقال: { مُهْطِعِينَ } أي: مسرعين، كما قال تعالى: { مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ] (4) } [القمر: 8]، وقال تعالى: { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } إلى قوله: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } [طه: 198 -111]، وقال تعالى: { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [المعارج: 43].
وقوله: { مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } قال ابن عباس، ومجاهد وغير واحد: رافعي رءوسهم.
{ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أي: [بل] (5) أبصارهم طائرة شاخصة، يديمون النظر لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة (6) لما يحل بهم، عياذًا بالله العظيم من ذلك؛ ولهذا قال: { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } أي: وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة [الفزع و] (7) الوجل والخوف. ولهذا قال قتادة وجماعة: إن أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها من شدة الخوف. وقال بعضهم: { هَوَاءٌ } خراب لا تعي (8) شيئا.
ولشدة ما أخبر الله تعالى [به] (9) عنهم، قال لرسوله: { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ } .
{ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت: "إذا".
(3) في ت، أ: "صنيعهم".
(4) زيادة من ت، أ، وفي هـ: "الآية".
(5) زيادة من أ.
(6) في ت: "والمخافة والفكرة".
(7) زيادة من ت، أ.
(8) في أ: "لا يعي".
(9) زيادة من ت.
يقول تعالى مخبرًا عن قيل الذين ظلموا أنفسهم، عند معاينة العذاب: { رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ } كما قال تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 99، 100]، وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ (1) مِنَ الصَّالِحِينَ } [المنافقون: 9، 10]، وقال تعالى مخبرا عنهم في حال محشرهم: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة: 12]، وقال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام: 27، 28]، وقال تعالى: { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [فاطر: 37].
وقال تعالى رادا عليهم في قولهم هذا: { أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } أي: أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحال: أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه، وأنه لا معاد ولا جزاء، فذوقوا هذا بذاك.
قال مجاهد وغيره: { مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } أي: ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة، كما أخبر عنهم تعالى: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا } [النحل: 38].
{ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ } أي: قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم، ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر، ولم يكن فيما أوقعنا بهم مزدجر لكم (2) { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } [القمر: 5].
وقد روى شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن [بن دابيل] (3) أن عليا، رضي الله عنه، قال في هذه الآية: { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } قال: أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين، فرباهما حتى استغلظا واستعلجا وشبا (4) .
قال: فأوثق رِجْل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت، وجوعهما، وقعد هو ورجل آخر في التابوت قال:-ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم -قال: فطارا [قال] (5) وجعل يقول لصاحبه: انظر، ما (6) ترى؟ قال: أرى كذا وكذا، حتى قال: أرى الدنيا كلها كأنها ذباب. قال: فقال: صوب العصا،
__________
(1) في أ: "وأكون".
(2) في ت: "لكم مزدجر".
(3) زيادة من ت، وفي أ: "بن دنيال".
(4) في ت: "فشبا".
(5) زيادة من ت، أ.
(6) في ت: "ماذا".
فصوبها، فهبطا. قال: فهو قول الله، عز وجل: "وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال". قال أبو إسحاق: وكذلك هي في قراءة عبد الله: "وإن كاد مكرهم" (1) .
قلت: وكذا رُوي عن أبي بن كعب، وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، أنهما قرآ: "وإن كاد"، كما قرأ علي. وكذا رواه سفيان الثوري، وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن أذنان (2) عن علي، فذكر نحوه.
وكذا رُوي عن عكرمة أن سياق هذه القصة لنمرود ملك كنعان: أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة والمكر، كما رام ذلك بعده فرعون ملك القبط في بناء الصرح، فعجزا وضعفا. وهما أقل وأحقر، وأصغر وأدحر.
وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر، وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها، نودي أيها الطاغية: أين تريد؟ فَفَرق، ثم سمع الصوت فوقه فصوب الرماح، فصَوبت النسور، ففزعت الجبال من هدتها، وكادت الجبال أن تزول من حس (3) ذلك، فذلك قوله: { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ }
ونقل ابن جُريج (4) عن مجاهد أنه قرأها: "لَتَزُولُ منه الجبال"، بفتح اللام الأولى، وضم (5) الثانية.
وروى العوفي عن ابن عباس في قوله: { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } يقول: ما كان مكرهم لتزول منه الجبال. وكذا قال الحسن البصري، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من كفرهم بالله وشركهم به، ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها، وإنما عاد وبال ذلك على أنفسهم.
قلت: ويشبه هذا إذا قوله تعالى: { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } [الإسراء: 37].
والقول الثاني في تفسيرها: ما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } يقول شركهم، كقوله: { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } [مريم: 90 -91]، وهكذا قال الضحاك وقتادة.
__________
(1) تفسير الطبري (13/160)، وصوب العصا: خفضها وأنزلها أ. هـ. مستفادا من حاشية الشعب.
(2) في ت: "أرباب"، وفي أ: "أريان".
(3) في ت: "من حين".
(4) في أ: "ابن جرير".
(5) في ت، أ: "ورفع".
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
{ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) }
يقول تعالى مقررًا لوعده ومؤكدًا: { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } أي: من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
ثم أخبر أنه ذو عزة لا يمتنع (1) عليه شيء أراده، ولا يغالب، وذو انتقام ممن (2) كفر به وجحده { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [الطور: 11] ؛ ولهذا قال: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } أي: وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة، كما جاء في الصحيحين، من حديث أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس فيها معلم لأحد" (3) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة أنها قالت: أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } قالت: قلت: أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: "على الصراط".
رواه مسلم منفردًا به دون البخاري، والترمذي، وابن ماجه، من حديث داود بن أبي هند، به (4) وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه أحمد أيضا، عن عفان، عن وهيب (5) عن داود، عن الشعبي، عنها (6) ولم يذكر مسروقًا (7) .
وقال قتادة، عن حسان بن بلال المزني، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } قال: قالت (8) يا رسول الله، فأين الناس يومئذ؟ قال: "لقد سألتني (9) عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي، ذاك أن الناس على جسر جهنم (10) (11) .
وروى الإمام أحمد، من حديث حبيب بن أبي عمرة، عن مجاهد، عن ابن عباس، حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قوله تعالى: { وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67]،
__________
(1) في ت: "تمتنع".
(2) في ت: "بمن".
(3) صحيح البخاري برقم (6521) وصحيح مسلم برقم (2790).
(4) المسند (6/35) وصحيح مسلم برقم (2791) وسنن الترمذي برقم (3121) وابن ماجة برقم (4279).
(5) في ت: "وهب".
(6) في ت: "عنهما".
(7) المسند (6/134).
(8) في ت، أ: "قلت".
(9) في ت: "سألتني".
(10) في ت: "على حشرهم".
(11) رواه الطبري في تفسيره (13/166).
فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: "هم على متن جهنم" (1) .
وقال ابن جرير: حدثنا الحسن، حدثنا علي بن الجعد، أخبرني القاسم، سمعت الحسن قال: قالت عائشة: يا رسول الله، { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ } فأين الناس يومئذ؟ قال: "إن هذا شيء ما سألني عنه أحد"، قال: "على الصراط يا عائشة".
ورواه أحمد، عن عفان (2) عن القاسم بن الفضل، عن الحسن، به (3) .
وقال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثني الحسن بن علي الحلواني، حدثنا أبو تَوْبة الربيع بن نافع، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد -يعني: أخاه -أنه سمع أبا سلام، حدثني أبو أسماء الرَّحَبِي؛ أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه قال: كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه (4) حَبر من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعته دفعة كاد يُصرَع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول: يا رسول الله؟! فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سَمّاه به أهله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي". فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أينفعك شيء إن حدثتك ؟" فقال: أسمع بأذني. فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه، فقال: "سل". فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم في الظلمة دون الجسر" (5) قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقال: "[فقراء] (6) المهاجرين". قال اليهودي: فما تُحْفَتهُم حين يدخلون الجنة؟ قال: "زيادة كبد النون" قال: فما غذاؤهم في أثرها؟ قال: "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها". قال: فما شرابهم عليه؟ قال: "من عين فيها تسمى سلسبيلا". قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان؟ قال: "أينفعك إن حدثتك؟" قال: أسمع بأذني. قال: جئت أسألك عن الولد. قال: "ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فَعَلا منيُّ الرجل منيَّ المرأة أذكرا (7) بإذن الله -تعالى -وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنَّثا بإذن الله" قال اليهودي: لقد صدقت، وإنك لنبي. ثم انصرف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه، حتى أتاني الله به" (8) .
[و] (9) قال أبو جعفر بن جرير الطبري: حدثني ابن عوف، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا ابن أبي
__________
(1) المسند (6/117).
(2) في ت، أ: "عثمان".
(3) تفسير الطبري (13/166) والمسند (6/101).
(4) في ت: "فجاء".
(5) في ت: "الحشر".
(6) زيادة من ت، أ، ومسلم.
(7) في أ: "ذكرا".
(8) صحيح مسلم برقم: (315).
(9) زيادة من ت.
مريم، حدثنا سعيد بن ثوبان الكَلاعي، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَبْر من اليهود فقال: أرأيت إذ يقول الله في كتابه: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } فأين الخَلْق عند ذلك؟ فقال: "أضياف الله، فلن يعجزهم ما لديه" (1) .
ورواه ابن أبي حاتم، من حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، به.
وقال شعبة: أخبرنا أبو إسحاق، سمعت عمرو بن ميمون -وربما قال: قال عبد الله، وربما لم يقل -فقلت له: عن عبد الله؟ فقال: سمعت عمرو بن ميمون يقول: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ } قال: أرض كالفضة البيضاء نقية، لم يسفك فيها دم، ولم يعمل عليها (2) خطيئة، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، حفاةً عراة كما خلقوا. قال: أراه قال: قياما حتى يُلجِمَهم العرق (3) .
وروي من وجه آخر عن شعبة عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود، بنحوه. وكذا رواه عاصم، عن زرّ، عن ابن مسعود، به.
وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، لم يخبر به. أورد ذلك كله ابن جرير (4) .
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الله بن عُبَيد بن عَقِيل، حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب، حدثنا جرير بن أيوب، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله، عز وجل: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ } قال: "أرض بيضاء لم يسقط عليها دم (5) ولم يعمل عليها خطيئة". ثم قال: لا نعلم رفعه إلا جرير بن أيوب، وليس بالقوي (6) .
ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثا معاوية بن هشام، عن سنان (7) عن جابر الجُعْفي، عن أبي جُبَيرة (8) عن زيد قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فقال: "هل تدرون لم أرسلت إليهم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ } إنها تكون يومئذ بيضاء مثل الفضة". فلما جاءوا سألهم فقالوا: تكون بيضاء مثل النَّقِي (9) .
وهكذا رَوى عن علي، وابن عباس، وأنس بن مالك، ومجاهد بن جبير: أنها تبدل يوم القيامة بأرض من فضة.
وعن علي، رضي الله عنه، أنه قال: تصير الأرض فضة، والسموات ذهبا.
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (13/164).
(2) في ت، أ: "فيها".
(3) تفسير الطبري (13/164).
(4) تفسير الطبري (13/164).
(5) في ت: "دما".
(6) مسند البزار برقم (3431) "كشف الأستار" وجرير بن أيوب ضعفه الأئمة.
(7) في ت، أ: "شيبان".
(8) في أ: "عن ابن حبرة".
(9) تفسير الطبري (13/164).
وقال الربيع: عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: تصير السموات جنانا.
وقال أبو مِعْشر، عن محمد بن كعب القرظي، أو عن محمد بن قيس في قوله: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ } قال: [تبدل] (1) خبزة يأكل منها المؤمنون (2) من تحت أقدامهم (3) .
وكذا رَوَى وَكِيع، عن عمر بن بشير الهمداني، عن سعيد بن جبير في قوله: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ } قال: تبدل خبزة بيضاء، يأكل المؤمن من تحت قدميه.
وقال الأعمش، عن خَيْثَمة قال: قال عبد الله -هو ابن مسعود-: الأرض كلها يوم القيامة (4) نار، والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها، ويُلجِمُ الناس العرقُ، أو يبلغ منهم العرق، ولم يبلغوا الحساب.
وقال الأعمش أيضًا، عن المِنْهَال بن عمرو، عن قيس بن السكن (5) قال: قال عبد الله: الأرض كلها نار يوم القيامة، [و] (6) الجنة من ورائها، ترى أكوابها وكواعبها، والذي نفس عبد الله بيده، إن الرجل ليفيض عرقا حتى ترسخ (7) في الأرض قدمه، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه، وما مسه الحساب. قالوا (8) مم ذاك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: مما يرى الناس يلقون (9) .
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن كعب في قوله: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } قال: تصير السموات جنانا، ويصير مكان البحر نارًا، وتبدل الأرض غيرها.
وفي الحديث الذي رواه أبو داود: "لا يركب البحر إلا غاز أو حاج أو معتمر، فإن تحت البحر نارا -أو: تحت النار بحرا" . (10)
وفي حديث الصور المشهور المروي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تبدل الأرض غير الأرض والسموات، فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، ثم يزجر الله الخلق زجرة، فإذا هم في هذه المبدلة" (11) .
وقوله: { وَبَرَزُوا لِلَّهِ } أي: خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله { الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي: الذي
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت، أ: "المؤمن"
(3) في أ: "قدميه".
(4) في ت: "يوم القيامة كلها".
(5) في ت: "ابن سكن".
(6) زيادة من ت، أ.
(7) في ت: "يرسخ"، وفي أ: "يرشح".
(8) في ت: "فقالوا".
(9) تفسير الطبري (13/164 ، 165).
(10) سنن أبي داود برقم (2489) ولفظه: "فإن تحت البحر نارا، وتحت النار بحرا" رواه من طريق بشر أبي عبد الله، عن بشير بن مسلم ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا، وقد ضعف هذا الحديث جماعة من الأئمة. انظر أقوالهم في: السلسلة الضعيفة برقم (478).
(11) سبق تخريج الحديث عند تفسير سورة الأنعام.
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
قهر كل شيء وغلبه، ودانت له الرقاب، وخضعت له الألباب.
{ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) }
يقول تعالى: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } وتبرز الخلائق لديَّانها، ترى يا محمد يومئذ المجرمين، وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم، { مقرنين } أي: بعضهم إلى بعض، قد جمع بين النظراء أو الأشكال (1) منهم، كل صنف إلى صنف، كما قال تعالى: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22]، وقال: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [التكوير: 7]، وقال: { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } [الفرقان: 13]، وقال: { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ } [ص: 37، 38].
والأصفاد: هي القيود، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، والأعمش، وعبد الرحمن بن زيد. وهو مشهور في اللغة، قال عمرو بن كلثوم.
فَآبُوا (2) بالثياب وبالسّبايا وأُبْنَا بالمُلُوك (3) مُصَفّدينا (4)
وقوله: { سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ } أي: ثيابهم التي يلبسونها عليهم من قطران، وهو الذي تُهنأ به الإبل، أي: تطلى، قاله قتادة. وهو ألصق شيء بالنار.
ويقال فيه: "قَطِران"، بفتح القاف وكسر الطاء، وبفتح القاف وتسكين الطاء، وبكسر القاف وتسكين الطاء، ومنه قول أبي النجم.
كأنّ قِطْرانًا إذَا تَلاهَا ... تَرْمي (5) به الرّيح إلى مَجْراها (6)
وكان ابن عباس يقول: القَطران هو: النحاس المذاب، وربما قرأها: "سَرَابيلهم من قَطِران" أي: من نحاس حار قد انتهى حره. وكذا روي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، والحسن، وقتادة.
وقوله: { وَتَغْشَى (7) وُجُوهَهُمُ النَّارُ } كقوله: { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [المؤمنون: 104].
وقال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا يحيى بن إسحاق، أنبأنا أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي
__________
(1) في ت: "النظر والأشكال".
(2) في ت: "فأتوا".
(3) في ت: "وابنا الملوك"، وفي أ: "وأبناء الملوك".
(4) البيت في تفسير الطبري (13/167).
(5) في ت: "يرمى".
(6) البيت في تفسير الطبري (13/167).
(7) في ت: "ويغشى".
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
كثير، عن زيد، عن أبي سلام، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من أمر الجاهلية لا يُتْرَكن (1) الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، والنائحة (2) إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرْع من جَرَب". انفرد بإخراجه مسلم (3) .
وفي حديث القاسم، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النائحة إذا لم تتب، توقف في طريق (4) بين الجنة والنار، وسرابيلها من قطران، وتغشى وجهها النار" (5) .
وقوله: { لِيَجْزِيَ اللَّهُ } أي: يوم (6) القيامة، كما قال: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم: 31].
{ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } يحتمل أن يكون كقوله (7) تعالى: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } ويحتمل أنه في حال محاسبته (8) لعبده سريع النَّجاز؛ لأنه يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه خافية، وإن جميع الخلق (9) بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم، كقوله تعالى: { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان: 28]، وهذا معنى قول مجاهد: { سَرِيعُ الْحِسَابِ } [إحصاء] (10) .
ويحتمل أن يكون المعنيان مرادين، والله أعلم.
{ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ (52) }
يقول تعالى: هذا القرآن بلاغ للناس، كقوله: { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام: 19]، أي: هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجان، كما قال في أول السورة: { الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ }
{ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ } أي: ليتعظوا (11) به، { وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي: يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو (12) { وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ } أي: ذوو العقول.
__________
(1) في ت: "لا بد لهن"، وفي أ: "لا يزكهن".
(2) في أ: "والنابحة".
(3) المسند (5/342) وصحيح مسلم برقم (934).
(4) في ت: "الطريق".
(5) رواه الطبراني في المعجم الكبير (8/238) من طريق عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، وكلهم ضعفاء - عن أبي أمامة به. وقد قال ابن حبان: "إذا جاء الحديث من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد، عن القاسم، فهو مما صنعته أيديهم".
(6) في ت، أ: "أي يقسم يوم".
(7) في ت: "قوله".
(8) في ت: "محسباته".
(9) في ت: "الخلائق".
(10) زيادة من ت، أ.
(11) في ت، أ: "يتعظوا".
(12) في ت، أ: "إلا الله".
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
تفسير سورة الحجر
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) }
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور.
وقوله: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنون لو كانوا مع المسلمين في الدار الدنيا. (1)
ونقل (2) السُّدِّيّ في تفسيره بسنده المشهور عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما من الصحابة: أن الكفار (3) لما عُرضوا على النار، تمنوا أن لو كانوا مسلمين.
وقيل: المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمنا.
وقيل: هذا إخبار عن يوم القيامة، كما في قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنعام: 27]
وقال سفيان الثوري: عن سلمة بن كُهَيْل، عن أبي الزعراء، عن عبد الله في قوله: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } قال: هذا في الجُهنَمين إذ رأوهم يخرجون من النار.
وقال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا مسلم، حدثنا القاسم، حدثنا ابن أبي فَرْوة العَبْدي؛ أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الآية: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } يتأولانها: يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار. قال: فيقول لهم المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا. قال: فيغضب الله لهم بفضل رحمته، فيخرجهم، فذلك حين يقول: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ }
وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري، عن حماد، عن إبراهيم، عن خصيف، عن مجاهد قالا يقول أهل النار للموحدين: ما أغنى عنكم إيمانكم؟ فإذا (4) قالوا ذلك. قال: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة. قال: فعند ذلك قوله: { [رُبَمَا] يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } (5) (6)
وهكذا روي عن الضحاك، وقتادة، وأبي العالية، وغيرهم. وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة، فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني.
__________
(1) في ت: "في الدار الدنيا مع المسلمين"
(2) في أ: "وقال".
(3) في ت، أ: "أن كفار بدر".
(4) في ت، أ: "قال: فإذا".
(5) زيادة من ت، أ.
(6) تفسير عبد الرزاق (1/299).
حدثنا محمد بن العباس، هو الأخرم، حدثنا محمد بن منصور الطوسي، حدثنا صالح بن إسحاق الجهبذ (1) دلني عليه يحيى بن معين (2) حدثنا مُعَرّف (3) بن واصل، عن يعقوب بن أبي نباتة (4) عن عبد الرحمن الأغر، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ناسا من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم، فيقول لهم أهل اللات والعزى: ما أغنى عنكم قولكم: لا إله إلا الله وأنتم معنا في النار؟. فيغضب الله لهم، فيخرجهم، فيلقيهم في نهر الحياة، فيبرءون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه، فيدخلون الجنة، ويسمَّون فيها الجهنميين" (5) فقال رجل: يا أنس، أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أنس: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار". نعم، أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا.
ثم قال الطبراني: تفرد به الجهبذ (6) (7)
الحديث الثاني: وقال الطبراني أيضا: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبو الشعثاء (8) علي بن حسن الواسطي، حدثنا خالد بن نافع الأشعري، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين: ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا: بلى. قالوا: فما أغنى عنكم الإسلام! فقد صرتم (9) معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها. فسمع (10) الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا، فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا". قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِين رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } (11)
ورواه ابن أبي حاتم، من حديث خالد بن نافع، به، وزاد فيه:(بسم الله الرحمن الرحيم)، عوض الاستعاذة.
الحديث الثالث: وقال الطبراني (12) أيضا: حدثنا موسى بن هارون، حدثنا إسحاق بن راهويه قال: قلت لأبي أسامة: أحدثكم أبو روق (13) -واسمه عطية بن الحارث-: حدثني صالح بن أبي طريف قال: سألت أبا سعيد الخدري فقلت له: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } ؟ قال: نعم، سمعته يقول: "يُخرج الله ناسا من المؤمنين من
__________
(1) في ت: "الجهذ".
(2) في هـ: "رأى علية بن موسى" والمثبت من المعجم.
(3) في ت، لأ: "معروف".
(4) في ت، أ، هـ: "يعقوب بن نباتة" والصواب ما أثبتناه من المعجم والتهذيب.
(5) في ت، أ: "الجهنميون".
(6) في ت: "الجهبذ".
(7) المعجم الأوسط برقم (4821) "مجمع البحرين" وقال الهيثمي في المجمع (10/380): "فيه من لم أعرفهم".
(8) في ت: "أبو السقا".
(9) في ت، أ: "حشرتم".
(10) في أ: "فيسمع".
(11) قال الهيثمي في المجمع (7/45): "رواه الطبراني، وفيه خالد بن نافع الأشعري، قال أبو داود: متروك. وقال الذهبي: هذا تجاوز في الحد فلا يستحق الترك، فقد حدث عنه أحمد بن حنبل وغيره، وبقية رجاله ثقات" ورواه ابن أبي عاصم في السنة برقم (843) والحاكم في المستدرك (2/242) عن أبي الشعثاء به، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(12) في ت: "وقال الطبراني الحديث الثالث".
(13) في ت: "أبو أروق".
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
النار بعد ما يأخذ نقمته منهم"، وقال: "لما أدخلهم الله النار مع المشركين قال لهم المشركون: تزعمون أنكم أولياء الله في الدنيا، فما بالكم معنا في النار؟ فإذا سمع الله ذلك منهم، أذن في الشفاعة لهم فتشفع (1) الملائكة والنبيون، ويشفع (2) المؤمنون، حتى يخرجوا بإذن الله، فإذا رأى المشركون ذلك، قالوا: يا ليتنا كنا مثلهم، فتدركنا الشفاعة، فنخرج معهم". قال: "فذلك قول الله: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } فيسمون في الجنة الجُهَنَّمِيِّين (3) من أجل سَواد في وجوههم، فيقولون: يا رب، أذهب عنا هذا الاسم، فيأمرهم فيغتسلون في نهر الجنة، فيذهب ذلك الاسم عنهم"، فأقر به أبو أسامة، وقال: نعم. (4)
الحديث الرابع (5) وقال (6) ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا العباس بن الوليد النرسي (7) حدثنا مسكين أبو فاطمة، حدثني اليمان بن يزيد، عن محمد بن حِمْير (8) عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى عنُقه، على قدر ذنوبهم وأعمالهم، ومنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها، وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى، فإذا أراد الله أن يخرجوا منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل (9) الأديان والأوثان، لمن في النار من أهل التوحيد: آمنتم بالله وكتبه ورسله، فنحن وأنتم اليوم في النار سواء، فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشيء فيما مضى، فيخرجهم إلى عين في الجنة، وهو قوله: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } (10) .
وقوله: { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا } تهديد لهم شديد، ووعيد أكيد، كقوله تعالى: { قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ } [إبراهيم: 30] وقوله: { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } [المرسلات: 46] ولهذا قال: { وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ } أي: عن التوبة والإنابة، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي: عاقبة أمرهم.
{ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) }
يقول تعالى: إنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها، وإنه لا يؤخر أمة حان هلاكها (11) عن ميقاتها ولا يتقدمون عن مدتهم. وهذا تنبيه لأهل مكة، وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما
__________
(1) في ت، أ: "فيشفع".
(2) في ت: "وشفع".
(3) في ت، أ: "الجهنمية"
(4) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2599) "موارد" من طريق عمر بن محمد بن أبان، عن أبي أسامة به نحوه.
(5) في ت: "وقال الحديث الرابع".
(6) في ت: "وحدثنا".
(7) في ت: "الزيني"، وفي أ: "الزينبي".
(8) في ت، أ: "جبير"، وفي هـ: "جبر".
(9) في ت، أ: "وأهل".
(10) ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/457) من طريق البغوي عن عباس بن الوليد النرسي به، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (6/156) وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/456) من طريق إبراهيم بن محمد السامري، عن عباد بن الوليد الغبري، عن أبي فاطمة، عن اليمان بن يزيد به نحوه، وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح وفيه جماعة مجاهيل".
(11) في ت: "هلاكهم".
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
هم فيه من الشرك والعناد والإلحاد، الذي يستحقون به الهلاك.
{ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) }
يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم وعنادهم في قولهم: { يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ } أي: الذي يدعي ذلك { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } أي: في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا. { لَوْ مَا } أي: هلا { تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ } أي: يشهدون لك بصحة ما جئت به { إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } كما قال فرعون: { فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [الزخرف: 53] { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } [الفلاقان: 21 ، 22]
وكذا (1) قال في هذه الآية: { مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ }
وقال مجاهد في قوله: { مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ } بالرسالة والعذاب.
ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل الذكر، وهو القرآن، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل.
ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى: { لَهُ لَحَافِظُونَ } على النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة: 67] والمعنى الأول أولى، وهو ظاهر السياق، [والله أعلم] (2)
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ (13) }
يقول تعالى مسليًا لرسوله في تكذيب من كذَّبه من كفار قريش: إنه أرسل من قَبْله في الأمم الماضية، وإنه ما أتى أمة رسول إلا كذبوه واستهزؤوا به.
ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا عن اتباع الهدى.
قال أنس، والحسن البصري: { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ } يعني: الشرك.
وقوله: { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } أي: قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار، وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) في ت، أ: "وهكذا".
(2) زيادة من أ.
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
{ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) }
يخبر تعالى عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق: أنه لو فتح لهم بابًا من السماء، فجعلوا يصعدون فيه، لما صدّقوا بذلك، بل قالوا: { سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا }
قال مجاهد وابن كثير، والضحاك: سدت أبصارنا.
وقال قتادة، عن ابن عباس: أخذت أبصارنا.
وقال العوفي عن ابن عباس: شُبه علينا، وإنما سحرنا.
وقال الكلبي: عَميت أبصارنا.
وقال ابن زيد: { سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } السكران (1) الذي لا يعقل.
__________
(1) في أ: "السكر".
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
{ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) }
يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها وما زَيَّنَها به من الكواكب الثواقب، لمن تأملها، وكرر النظر (1) فيها، يرى فيها من العجائب والآيات الباهرات، ما يحار نظره فيه. ولهذا قال مجاهد وقتادة: البروج هاهنا هي: الكواكب.
قلت: وهذا كقوله تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا } [الفرقان: 61] ومنهم من قال: البروج هي: منازل الشمس والقمر.
وقال عطية العوفي: البروج هاهنا: هي قصور الحرس (2)
وجعل الشُهب حرسًا لها من مَرَدة الشياطين، لئلا يسمعوا (3) إلى الملأ الأعلى، فمن تمرد منهم [وتقدم] (4) لاستراق السمع، جاءه { شِهَابٌ مُبِينٌ } فأتلفه، فربما يكون قد ألقى الكلمة التي سمعها قبل أن يدركه الشهاب إلى الذي هو دونه، فيأخذها الآخر، ويأتي بها إلى وليه، كما جاء مصرحا به في الصحيح، كما قال البخاري في تفسير هذه الآية:
حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان (5) عن عمرو، عن عكرمة، عن أبي هريرة، يبلُغُ به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صَفوان". قال علي، وقال غيره: صفوان يَنفُذهم ذلك، فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الذي قال: الحق، وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترقو السمع، ومسترقو السمع،
__________
(1) في ت: "نظره".
(2) في ت: "الحرس فيها".
(3) في أ: "لئلا يسمعوا".
(4) زيادة من ت، أ.
(5) في ت: "حدثنا ابن سفيان".
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
هكذا واحد فوق آخر -ووصف سفيان بيده فَفَرَّج بين أصابع يده اليمنى، نَصبَها بعضها (1) فوق بعض -فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يَرْمي بها إلى صاحبه فيحرقَه، وربما لم يدركه [حتى] (2) يَرْمي بها إلى الذي يليه، [إلى الذي] (3) هو أسفل منه، حتى يلقوها إلى الأرض -وربما قال سفيان: حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى (4) على فم الساحر -أو: الكاهن -فيكذب معها مائة كذبة (5) فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا، فوجدناه حقًّا؟ للكلمة التي سمعت من السماء" (6)
ثم ذكر، تعالى، خلقه الأرض، ومده إياها وتوسيعها وبسطها، وما جعل فيها من الجبال الرواسي، والأودية والأراضي والرمال، وما أنبت فيها من الزروع والثمار المتناسبة.
وقال ابن عباس: { مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ } أي: معلوم. وكذا قال سعيد بن جبير، وعكرمة، وأبو مالك، ومجاهد، والحكم بن عُتَيبة (7) والحسن بن محمد، وأبو صالح، وقتادة.
ومنهم من يقول: مقدر بقدر.
وقال ابن زيد: من كل شيء يُوزَن (8) ويقدر بقدر. وقال ابن زيد: ما تزنه [أهل] (9) الأسواق.
وقوله: { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } يذكر، تعالى، أنه صرفهم في الأرض في صنوف [من] (10) الأسباب والمعايش، وهي جمع معيشة.
وقوله: { وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } قال مجاهد: وهي الدواب والأنعام.
وقال ابن جرير: هم العبيد والإماء والدواب والأنعام.
والقصد أنه، تعالى، يمتن (11) عليهم بما يسر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب وصنوف المعايش، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها والأنعام التي يأكلونها، والعبيد والإماء التي يستخدمونها، ورزْقهم على خالقهم لا عليهم فلهم هم المنفعة، والرزق على الله تعالى.
[وقوله] (12) { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) }
يخبر، تعالى، أنه مالك كل شيء، وأن كل شيء سهل عليه، يسير لديه، وأن (13) عنده خزائن
__________
(1) في أ: "بعضا".
(2) زيادة من ت، أ، والبخاري.
(3) زيادة من ت، أ، والبخاري.
(4) في ت، أ: "فيلقى".
(5) في ت، أ: "كذبة فيصدق".
(6) صحيح البخاري برقم (4701).
(7) في أ: "موزون".
(8) في أ: "موزون".
(9) زيادة من ت، أ.
(10) زيادة من أ.
(11) في ت: "يمتن تعالى".
(12) زيادة من أ.
(13) في ت، أ: "وأنه".
الأشياء من جميع الصنوف، { وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } كما يشاء وكما يريد، ولما لَهُ في ذلك من الحكمة البالغة، والرحمة بعباده، لا على [وجه] (1) الوجوب، بل هو كتب على نفسه الرحمة.
قال يزيد بن أبي زياد، عن أبي جحيفة، عن عبد الله: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه حيث شاء (2) عامًا هاهنا، وعامًا هاهنا. ثم قرأ: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } رواه ابن جرير (3)
وقال أيضا: حدثنا القاسم، حدثنا الحسن (4) حدثنا هُشَيْم، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الحكم بن عُتَيْبَة (5) في قوله: { وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } قال: ما (6) عام بأكثر مطرًا من عام ولا أقل، ولكنه يُمطر قوم ويحرم آخرون وربما (7) كان في البحر. قال: وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم، يُحصُون كل قطرة حيث تقع وما تنبت (8) (9)
وقال البزار: حدثنا داود -وهو ابن بكر (10) التُّسْتُري -حدثنا حبَّان (11) بن أغلب بن تميم، حدثني أبي، عن هشام، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خزائن الله الكلام، فإذا أراد شيئا قال له: كن، فكان" (12)
ثم قال: لا يرويه إلا أغلب، ولم يكن بالقوي، وقد حدث عنه غير واحد من المتقدمين، ولم يروه عنه إلا ابنه.
وقوله: { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } أي: تلقح السحاب فتدر ماء، وتلقح الشجر فتتفتح عن أوراقها وأكمامها.
هذه "الرياح" ذكرها بصيغة الجمع، ليكون منها الإنتاج، بخلاف الريح العقيم فإنه أفردها، ووصفها بالعقيم، وهو عدم الإنتاج؛ لأنه لا يكون إلا من (13) شيئين فصاعدا.
وقال الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود في قوله: { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } قال: ترسل الرياح، فتحمل الماء من السماء، ثم تَمْرى السحاب، حتى تدر كما تَدر اللَّقحَة.
وكذا قال ابن عباس، وإبراهيم النخعي، وقتادة.
وقال الضحاك: يبعثها الله على السحاب، فتُلقحه، فيمتلئ (14) ماء.
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) في أ: "يشاء".
(3) تفسير الطبري (14/14).
(4) في ت: "الحسين".
(5) في أ: "عيينة".
(6) في أ: "من".
(7) في هـ، ت، أ: "بما" والمثبت من الطبري.
(8) في ت: "ينبت".
(9) تفسير الطبري (14/14).
(10) وفي مخطوطة مسند البزار: "داود، وهو ابن بكير".
(11) في هـ، وفي مخطوطة مسند البزار: "حيان"، والمثبت من ت، أ.
(12) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (155) من طريق محمد بن عبد العزيز، عن حبان عن أبيه به.
(13) في ت، أ: "بين".
(14) في ت: "فتمتلئ".
وقال عُبَيْد بن عُمَير الليثي: يبعث الله المُبشرّة فتَقمُّ الأرض قَمًّا ثم بعث الله المثيرة (1) فتثير السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر، ثم تلا { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ }
وقد روى ابن جرير، من حديث عُبَيْس (2) بن ميمون، عن أبي المُهَزَّم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الريح الجنوب من الجنة، وهي [الريح اللواقح، وهي التي] (3) ذكر الله في كتابه، وفيها منافع للناس" (4) وهذا إسناد ضعيف.
وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي في مسنده: حدثنا سفيان، حدثنا عمرو بن دينار، أخبرني يزيد بن جُعْدبة الليثي: أنه سمع عبد الله بن مِخْراق، يحدث عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله خلق في الجنة ريحا بعد الريح بسبع سنين، وإن من دونها بابا مغلقا، وإنما يأتيكم الريح من ذلك الباب، ولو فتح لأذرت ما بين السماء والأرض من شيء، وهي عند الله الأزَيبُ، وهي فيكم الجنوب" (5)
وقوله: { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } أي: أنزلناه لكم عَذْبًا يُمكنكم أن تشربوا منه، ولو نشاء لجعلناه أجاجًا. كما ينبه الله (6) على ذلك في الآية الأخرى في سورة "الواقعة"، وهو (7) قوله: { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ } [الواقعة: 68-70] وفي قوله: { هُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } [النمل: 10]
وقوله: { وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } قال سفيان الثوري: بمانعين.
ويحتمل أن المراد: وما أنتم له بحافظين، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم، ونجعله معينا وينابيع (8) في الأرض، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذبا، وحفظه في العيون والآبار والأنهار وغير ذلك. ليبقى لهم في طول السنة، يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم.
وقوله: { وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته، وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم، ثم يميتهم ثم يبعثهم (9) كلهم ليوم الجمع.
وأخبر أنه، تعالى، يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون.
ثم قال مخبرًا عن تمام علمه بهم، أولهم وآخرهم: { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ }
__________
(1) في ت: "الميثرة".
(2) في ت: "عنبس".
(3) زيادة من ت، أ، والطبري.
(4) تفسير الطبري (14/15).
(5) مسند الحميدي (1/71) وفي إسناده يزيد بن جعدبة كذبه مالك وغيره.
(6) في ت، أ: "تعالى".
(7) في ت: "وهي".
(8) في ت: "وينابع".
(9) في ت: "يبعث".
قال ابن عباس، رضي الله عنهما (1) المستقدمون: كل من هلك من لدن آدم، عليه السلام، والمستأخرون: من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة.
وروي نحوه عن عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، ومحمد بن كعب، والشعبي، وغيرهم. وهو اختيار ابن جرير، رحمه الله (2)
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن رجل (3) عن مَرْوان بن الحكم أنه قال: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء فأنزل الله: { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ } (4)
وقد ورد في هذا حديث غريب جدا، فقال ابن جرير:
حدثني (5) محمد بن موسى الحَرَشِي، حدثنا نوح بن قيس، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة -قال ابن عباس: لا والله ما إنْ رأيت مثلها قط، وكان بعض المسلمين إذا صلوا استقدموا يعني: لئلا يراها -وبعض يستأخرون، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم!! فأنزل الله: { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ }
وكذا رواه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره، والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما (6) وابن ماجة من طرق عن نوح بن قيس الحُداني (7) وقد وثقه أحمد وأبو داود وغيرهما، وحكي عن ابن معين تضعيفه، وأخرج له مسلم وأهل السنن.
وهذا الحديث فيه نكارة شديدة، وقد رواه عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن عمرو بن مالك وهو النكري (8) أنه سمع أبا الجوزاء يقول في قوله: { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ } في الصفوف في الصلاة { وَالْمُسْتَأْخِرِينَ } فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط، ليس فيه لابن عباس ذكر (9) وقد قال الترمذي: هذا أشبه من رواية نوح بن قيس (10) والله أعلم.
وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن أبي معشر، عن أبيه: أنه سمع عون بن عبد الله يُذاكر محمد بن كعب في قوله: { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ } وأنها في صفوف
__________
(1) في ت: "عنه".
(2) انظر: تفسير الطبري (14/16 ، 17).
(3) في هـ، ت، أ: "عن أبيه أخبرنا" والمثبت من الطبري.
(4) تفسير الطبري (14/18).
(5) في أ: "حدثنا".
(6) في أ: "سننهما"
(7) تفسير الطبري (14/18) والمسند (1/305) وسنن الترمذي برقم (3122) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11273) وسنن ابن ماجة برقم (1046).
(8) في ت، أ: "البكري".
(9) تفسير عبد الرزاق (1/301).
(10) سنن الترمذي برقم (3122) وعبارته: "وروى جعفر بن سليمان هذا الحديث، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء نحوه، ولم يذكر فيه عن ابن عباس، وهذا أشبه أن يكون أصح من حديث نوح".
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
الصلاة، فقال محمد بن كعب: ليس هكذا، { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ } الميت والمقتول و { الْمُسْتَأْخِرِينَ } من يُخلقُ بَعْدُ، { وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } فقال عون بن عبد الله: وفقك الله وجزاك خيرًا (1)
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) }
قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: المراد بالصلصال هاهنا: التراب اليابس.
والظاهر أنه كقوله تعالى: { خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مَن مَّارِجٍ مِّنْ نَّارٍ } [الرحمن: 14-15]
وعن مجاهد أيضا: الصلصال: المنتن.
وتفسير الآية بالآية أولى (2)
وقوله: { مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ } أي: الصلصال من حمأ، وهو: الطين. والمسنون: الأملس، كما قال الشاعر (3) ثم خاصرتها إلى القبة الخضراءتمشي في مرمر مسنون
أي: أملس صقيل.
ولهذا روي عن ابن عباس: أنه قال: هو التراب الرطب. وعن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك أيضا: أن الحمأ المسنون هو المنتن. وقيل: المراد بالمسنون هاهنا: المصبوب.
وقوله: { وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ } أي: من قبل الإنسان { مِنْ نَارِ السَّمُومِ } قال ابن عباس: هي السموم التي تقتل.
وقال بعضهم: السموم بالليل والنهار. ومنهم من يقول: السموم بالليل، والحرور بالنهار.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: دخلت على عَمْرو الأصم أعوده، فقال: ألا أحدّثك حديثا سمعته من عبد الله بن مسعود، يقول: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق (4) منها الجان، ثم قرأ: { وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ } (5)
وعن ابن عباس: أن الجان خُلق من لهب النار، وفي رواية: من أحسن النار.
وعن عمرو بن دينار: من نار الشمس، وقد ورد في الصحيح: "خُلقت الملائكة من نور،
__________
(1) تفسير الطبري (14/16).
(2) في أ: "الأولى".
(3) هو عبد الرحمن بن حسان، والبيت في اللسان، مادة (سنن).
(4) في ت، أ: "خلق الله منها".
(5) ورواه الطبري في تفسيره (16/21) من طريق شعبة به نحوه.
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
وخُلقت الجان من مارج من نار، وخُلق بنو آدم مما وصِف لكم" (1) ومقصود الآية: التنبيه على شرف آدم، عليه السلام، وطيب عنصره، وطهارة مَحْتده (2)
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) }
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2996) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(2) في ت: "محقده".
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
{ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) }
يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته قبل خلقه له، وتشريفه إياه بأمره الملائكة بالسجود له. ويذكر تخلف إبليس عدوّه عن السجود له من بين سائر الملائكة، حَسَدًا وكفرًا، وعنادًا واستكبارًا، وافتخارًا بالباطل، ولهذا قال: { لَمْ أَكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ } كما قال في الآية الأخرى: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [الأعراف: 12] وقوله: (1) { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا } [الإسراء: 62]
وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا، من حديث شبيب بن بشر، عن عِكْرمة، عن ابن عباس قال: لما خلق الله الملائكة قال: إني خالق بشرًا من طين، فإذا سويته (2) فاسجدوا له. قالوا: لا نفعل. فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة فقال لهم مثل ذلك، [فقالوا: لا نفعل. فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم. ثم خلق ملائكة أخرى فقال: إني خالق بشرًا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبوا، فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم. ثم خلق ملائكة فقال: إني خالق بشرا من طين، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له] (3) قالوا (4) سمعنا وأطعنا، إلا إبليس كان من الكافرين الأولين (5)
وفي ثبوت هذا عنه بعد، والظاهر أنه إسرائيلي، والله أعلم.
{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) }
يقول آمرًا لإبليس أمرًا كونيًّا لا يخالف ولا يمانع، بالخروج من المنزلة التي كان فيها من الملأ الأعلى، وإنه { رَجِيمٌ } أي: مرجوم. وإنه قد أتبعه لعنةً لا تزال متصلة به، لاحقةً له، متواترة عليه إلى يوم القيامة.
وعن سعيد بن جبير أنه قال: لما لعن الله إبليس، تغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورن رنةً،
__________
(1) في ت، أ: "وقال في الآية الأخرى".
(2) في ت، أ: "خلقته".
(3) زيادة من ت، أ، والطبري.
(4) في ت: "فقالوا".
(5) تفسير الطبري (14/22).
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
فكل رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها. رواه ابن أبي حاتم.
وإنه لما تحقق الغضب الذي لا مَرَدَّ له، سأل من تمام حسده لآدم وذريته النظرة إلى يوم القيامة، وهو يوم البعث وأنه أجيب إلى ذلك استدراجًا له وإمهالا فلما تحقق النظرة قبحه الله:
{ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) }
يقول تعالى مخبرًا عن إبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب: { بِمَا أَغْوَيْتَنِي } قال بعضهم: أقسم بإغواء الله له.
قلت: ويحتمل أنه بسبب ما أغويتني وأضللتني { لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ } أي: لذرية آدم، عليه السلام { فِي الأرْضِ } أي: أحبب إليهم المعاصي وأرغّبهم فيها، وأؤزّهم إليها، وأزعجهم إزعاجًا، { وَلأغْوِيَنَّهُمْ } أي: كما أغويتني ونَدَّرت على ذلك، { أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } كَمَا قَالَ { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا } [الإسراء: 62]
قال الله تعالى له متهددًا ومتوعدًا (1) { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } أي: مرجعكم كلكم إلي، فأجازيكم بأعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، كما قال تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [الفجر: 14]
وقيل: طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى، وإليه تنتهي. قاله مجاهد، والحسن، وقتادة كما قال: { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } [النحل: 9]
وقرأ قيس بن عُبَاد، ومحمد بن سيرين، وقتادة: "هذا صراط علي مستقيم"، كقوله: { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الزخرف: 4] أي: رفيع. والمشهور القراءة الأولى.
وقوله: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } أي: الذين قدرت لهم (2) الهداية، فلا سبيل لك عليهم، ولا وصول لك إليهم، { إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } استثناء منقطع.
وقد أورد ابن جَرير هاهنا من حديث عبد الله بن المبارك، عن عبد الله بن موهب (3) حدثنا يزيد بن قُسَيْط قال: كانت الأنبياء يكون لهم مساجد خارجةً من قراهم، فإذا أراد النبي أن يستنبئ ربه عن شيء، خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله له، ثم سأل ما بدا له، فبينا نبي في مسجده إذ جاء عدو الله -يعني: إبليس -حتى جلس بينه وبين القبلة، فقال النبي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. [فقال
__________
(1) في ت، أ: "متوعدا ومهددا".
(2) في أ: "عليهم".
(3) في أ: "وهب".
عدو الله: أرأيت الذي تَعَوّذ منه؟ فهو هو. فقال النبي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم] (1) قال: فَردّد (2) ذلك ثلاث مرات، فقال عدو الله: أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ فقال النبي: بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم؟ مرتين، فأخذ كل [واحد] (3) منهما على صاحبه، فقال النبي: إن الله تعالى يقول: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } قال عدو الله: قد سمعت هذا قبل أن تولد. قال النبي: ويقول الله: { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف: 200] وإني (4) والله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك. قال عدو الله: صدقت، بهذا تنجو مني. فقال النبي: "أخبرني بأي شيء تغلبُ ابن آدم"؟ قال: آخذه عند الغضب والهوى (5)
وقوله: { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } أي: جهنم موعد جميع من اتبع إبليس، كما قال عن القرآن: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [هود: 17]
ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب: { لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } أي: قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه، لا محيد لهم عنه -أجارنا الله منها-وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في دَرَك بقدر فعله.
قال إسماعيل بن عُلَيَّة وشعبة كلاهما، عن أبي هارون الغَنَويّ، عن حطان بن عبد الله أنه قال: سمعت علي بن أبي طالب وهو يخطب قال: إن أبواب جهنم هكذا -قال أبو هارون: أطباقًا بعضها فوق بعض (6)
وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن هُبَيْرة بن يريم (7) عن علي، رضي الله عنه، قال: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض، فيمتلئ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، حتى تُمْلأ كلها (8)
وقال عِكْرمة: { سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } سبعة أطباق.
وقال ابن جريج: { سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } أولها جهنم، ثم لظَى، ثم الحُطَمَة، ثم سعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية.
وروى (9) الضحاك عن ابن عباس، نحوه. وكذا [روي] عن الأعمش بنحوه أيضًا.
وقال قتادة: { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } وهي والله منازل بأعمالهم. رواهن ابن جرير.
وقال جويبر، عن الضحاك: { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } قال: باب لليهود،
__________
(1) زيادة من ت، أ، والطبري.
(2) في أ: "فرد".
(3) زيادة من ت، والطبري.
(4) في أ: "وأنا".
(5) تفسير الطبري (14/24).
(6) رواه الطبري في تفسيره (14/24).
(7) في ت: "مريم".
(8) رواه الطبري في تفسيره (14/24).
(9) في أ: "ورواه".
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
وباب للنصارى، وباب للصابئين، وباب للمجوس، وباب للذين أشركوا -وهم كفار العرب -وباب للمنافقين، وباب لأهل التوحيد، فأهل التوحيد يُرجى لهم ولا يُرجى لأولئك أبدًا.
وقال الترمذي: حدثنا عبد بن حُمَيْد، حدثنا عثمان بن عمر، عن مالك بن مِغْوَل، عن جُنَيْد (1) عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لجهنم سبعة أبواب: باب منها لمن سلَّ السيف على أمتي -أو قال: على أمة محمد.
ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مِغْوَل (2)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا، عباس بن الوليد الخلال، حدثنا زيد -يعني: ابن يحيى -حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن سَمُرَة بن جُنْدَب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: { لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } قال: "إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه، وإن منهم من تأخذه النار إلى حُجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه، منازل بأعمالهم، فذلك قوله: { لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } (3)
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ (50) }
لما ذكر تعالى حال أهل النار، عطف على ذكر أهل الجنة، وأنهم في جنات وعيون.
وقوله: { ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ } أي: سالمين من الآفات، مسلمًا عليكم، { آمِنِينَ } من كل خوف وفزع، ولا تخشوا من إخراج، ولا انقطاع، ولا فناء.
وقوله: { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } روى القاسم، عن أبي أمامة قال: يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في الدنيا من غل، ثم قرأ: { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } (4)
هكذا في هذه الرواية، والقاسم بن عبد الرحمن -في روايته (5) عن أبي أمامة -ضعيف.
وقد روى سُنَيْد في تفسيره: حدثنا ابن فضالة، عن لقمان، عن أبي أمامة قال: لا يدخل مؤمن الجنة حتى ينزع الله ما في صدرهم من غل، حتى ينزع منه مثل السبع الضاري (6)
وهذا موافق لما في الصحيح، من رواية قتادة، حدثنا أبو المتوكل الناجي: أن أبا سعيد الخدري
__________
(1) في هـ، ت، أ: "حميد" والمثبت من الترمذي.
(2) سنن الترمذي برقم (3123) وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مغول".
(3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (5/82) مطولا، وأصل الحديث في صحيح مسلم برقم (2845) دون ذكر الآية إلى قوله: "تأخذه النار إلى حجزته".
(4) رواه الطبري في تفسيره (14/25) من طريق إسرائيل، عن بشر البصري، عن القاسم به.
(5) في ت: "رواية".
(6) رواه الطبري في تفسيره (14/25).
حدثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَخْلُص المؤمنون من النار، فيُحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتص لبعضهم من بعضهم، مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا، أذن لهم في دخول الجنة" (1)
وقال ابن جرير: حدثنا الحسن، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا هشام، عن محمد -هو ابن سيرين -قال: استأذن الأشتر على عليٍّ، رضي الله عنه، وعنده ابن لطلحة، فحبسه ثم أذن له. فلما دخل قال: إني لأراك إنما احتبستني لهذا؟ قال: أجل. قال: إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني؟ قال: أجل إني (2) لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى: { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [إِخْوَانًا]عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } (3) (4)
وحدثنا الحسن: حدثنا أبو معاوية الضرير، حدثنا أبو مالك الأشجعي، عن أبي حبيبة -مولى لطلحة -قال: دخل عمران بن طلحة على عليٍّ، رضي الله عنه، بعدما فرغ من أصحاب الجمل، فرحب به وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله: { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } -قال: ورجلان جالسان على ناحية البساط، فقالا الله أعدل من ذلك، تقتلهم بالأمس، وتكونون إخوانا! فقال علي، رضي الله عنه: قُوما أبعد أرض وأسحقها! فمن هو إذا إن لم أكن أنا وطلحة، وذكر أبو معاوية الحديث بطوله (5)
وروى وَكِيع، عن أبان بن عبد الله البجلي، عن نُعَيْم بن أبي هند، عن رِبْعِي بن خِرَاش، عن علي، نحوه، وقال فيه: فقام رجل من هَمْدان فقال: الله أعدل من ذاك يا أمير المؤمنين. قال: فصاح به علي صيحة، فظننت أن القصر تَدهدَه لها، ثم قال: إذا لم نكن نحن فمن هو؟ (6)
وقال سعيد بن مسروق، عن أبي طلحة -وذكره-فيه: فقال الحارث الأعور ذلك، فقام إليه علي، رضي الله عنه، فضربه بشيء كان في يده في رأسه، وقال: فمن هم (7) يا أعور إذا لم نكن نحن؟
وقال سفيان الثوري: عن منصور، عن إبراهيم قال: جاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على عليٍّ، رضي الله عنه فحجبه طويلا ثم أذن له، فقال له: أما أهل البلاء فتجفوهم. فقال علي: بفيك التراب، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير، ممن قال الله: { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6535).
(2) في أ: "أجل، قال: إني".
(3) زيادة من ت.
(4) تفسير الطبري (14/26).
(5) تفسير الطبري (14/25).
(6) رواه الطبري في تفسيره (14/25) من طريق وكيع.
(7) في أ: "فمن هو".
وكذا روى الثوري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي، بنحوه.
وقال سفيان بن عُيَيْنة، عن إسرائيل، عن أبي موسى، سمع الحسن البصري يقول: قال علي: فينا والله -أهل بدر -نزلت هذه الآية: { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ }
وقال كثير النَّواء: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي فقلت: وليي وليكم، وسلمي سلمكم، وعدوي عدوكم، وحربي حربكم. إني أسألك بالله: أتبرأ من أبي بكر وعمر؟ فقال: { قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [الأنعام: 56] تولهما (1) يا كثير، فما أدركك فهو في رقبتي هذه، ثم تلا هذه الآية: { إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } قال: أبو بكر، وعمر، وعلي، رضي الله عنهم أجمعين.
وقال الثوري، عن رجل، عن أبي صالح في قوله: { إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } قال: هم عشرة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله: { مُتَقَابِلِينَ } قال مجاهد: لا ينظر بعضهم في قفا بعض.
وفيه حديث مرفوع، قال ابن أبي حاتم.
حدثنا يحيى بن عبدك القزويني، حدثنا حسان بن حسان، حدثنا إبراهيم بن بشر (2) حدثنا يحيى بن معين، عن إبراهيم القرشي، عن سعيد بن شرحبيل، عن زيد بن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا هذه الآية: { إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } في الله، ينظر بعضهم إلى بعض (3)
وقوله: { لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } يعني: المشقة والأذى، كما جاء في الصحيحين: "إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصَب، لا صخب فيه ولا نصب" (4)
وقوله: { وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ } كما جاء في الحديث: "يقال (5) يا أهل الجنة، إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدًا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا"، وقال الله تعالى: { خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } [الكهف: 108]
وقوله: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } أي: أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمة وذو عقاب أليم.
وقد تقدم ذكر نظير هذه الآية الكريمة، وهي دالة على مقامي الرجاء والخوف، وذكر في سبب
__________
(1) في ت: "برهما" وفي أ": "برها".
(2) في هـ، ت، أ: "بشر" والمثبت عن الجرح والتعديل 1/1/60 مستفادا من حاشية الشعب.
(3) ورواه البخاري في التاريخ الكبير (3/386) في ترجمة زيد بن أبي أوفى ومن طريق حسان بن حسان به، وقال: "لا يتابع عليه".
(4) صحيح البخاري برقم (3820) وصحيح مسلم برقم (2432) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(5) في أ: "فقال".
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)
نزولها ما رواه موسى بن عبيدة عن مصعب بن ثابت قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناس من أصحابه يضحكون، فقال: "اذكروا الجنة، واذكروا النار". فنزلت: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } رواه ابن أبي حاتم. وهو مرسل (1)
وقال ابن جرير، حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، أخبرنا ابن المكي، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا مصعب بن ثابت، حدثنا عاصم بن عبيد الله، عن ابن أبي رباح، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، فقال: "ألا أراكم تضحكون؟" ثم أدبر، حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى، فقال: "إني لما خرجت جاء جبريل، عليه السلام، فقال: يا محمد، إن الله يقول (2) لم تقنط (3) عبادي؟ { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } (4)
وقال سعيد، عن قتادة في قوله تعالى: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام، ولو يعلم قدر عقابه لبخع نفسه" (5)
{ وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) }
__________
(1) أورده السيوطي في الدر المنثور (5/86) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم. وموسى بن عبيدة الربذي ضعيف.
(2) في أ: "يقول الله".
(3) في ت: "يقنط".
(4) تفسير الطبري (14/27).
(5) رواه الطبري في تفسيره (14/27) وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله برقم (64) من طريق سعيد به مرسلا، وروى موصولا نحوه عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري، أما حديث ابن عمر، فرواه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله برقم (63) من طريق موسى عن عطية، عن ابن عمر مرفوعا: "لو تعلمون قدر رحمة الله عز وجل لا تكلتم وما عملتم من عمل، ولو علمتم قدر غضبه ما نفعكم شيء"، وحديث أبي سعيد، رواه البزار في مسنده ولفظه: "لو تعلمون قدر رحمة الله لا تكلتم - أحسبه قال: عليها". وقال الهيثمي في المجمع (10/384): "إسناده حسن".
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
{ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ (56) }
يقول (1) تعالى: وخبرهم يا محمد عن قصة { ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } والضيف: يطلق على الواحد والجمع، كالزور والسُّفْر -وكيف { دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي: خائفون.
وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه لهم (2) ضيافة، وهو العجل السمين الحنيذ.
{ قَالُوا لا تَوْجَلْ } أي: لا تخف، { وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [الذاريات: 28] وهو إسحاق، عليه السلام، كما تقدم في سورة هود.
__________
(1) في أ: "يخبر".
(2) في ت، أ: "إليهم".
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
ثم قال (1) متعجبًا من كبره وكبر زوجته ومتحققًا للوعد: { أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون } فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقًا وبشارة بعد بشارة، { قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ } وقرأ بعضهم: "القنطين" (2) -فأجابهم بأنه ليس يقنط، ولكن يرجو من الله الولد، وإن كان قد كبر وأسنَّت امرأته، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك.
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) }
يقول تعالى إخبارًا عن إبراهيم، عليه السلام، لما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى: إنه شرع يسألهم عما جاؤوا له، فقالوا: { إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ } يعنون: قوم لوط. وأخبروه أنهم سينجون آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من المهلكين؛ ولهذا قالوا: { إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ } أي: الباقين المهلكين.
{ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) }
يخبر تعالى عن لوط لما جاءته الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه، فدخلوا عليه داره، قال: { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنْكَرُونَ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ } يعنون: بعذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم، وحلوله بساحتهم، { وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ } كما قال تعالى: { مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ } [الحجر: 8]
وقوله: { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } تأكيد لخبرهم (3) إياه بما أخبروه به، من نجاته وإهلاك قومه، [والله أعلم] (4)
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) }
يذكر تعالى عن الملائكة أنهم أمروه أن يَسري بأهله بعد مضي جانب من الليل، وأن يكون لوط، عليه السلام، يمشي وراءهم، ليكون أحفظ لهم.
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في الغَزاة بما كان يكون (5) ساقة، يُزجي الضعيف، ويحمل المنقطع (6)
وقوله: { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ } أي: إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم، وذروهم فيما
__________
(1) في ت، أ: "فقال".
(2) في ت، أ: "المقنطين".
(3) في ت: "بخبرهم".
(4) زيادة من أ.
(5) في ت: "في الغزو إنما كان"، وفي أ: "في الغزو وإنما يكون".
(6) رواه أبو داود في السنن برقم (2639) من حديث جابر ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير، فيزجي الضعيف، ويردف، ويدعو لهم".
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
حل بهم من العذاب والنكال، { وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } كأنه كان معهم من يهديهم السبيل.
{ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ } أي: تقدمنا إليه في هذا { أَنَّ دَابِرَهَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ } أي: وقت: الصباح كما قال في الآية الأخرى: { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } [هود: 81]
{ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) }
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
{ قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) }
يخبر تعالى عن مجيء قوم لوط لما علموا بأضيافه (1) وصباحة وجوههم، وأنهم جاءوا مستبشرين بهم فرحين، { قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ }
وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم بأنهم رسل الله كما قال في سياق (2) سورة هود، وأما هاهنا فتقدم ذِكرُ أنهم رسل الله، وعطف بذكر مجيء قومه ومحاجته لهم. ولكن الواو لا تقتضي الترتيب، ولا سيما إذا دل دليل (3) على خلافه، فقالوا له مجيبين: { أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ } أي: أو ما نهيناك أن تضيف أحدًا؟ فأرشدهم إلى نسائهم، وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة. وقد تقدم أيضا القول في ذلك، بما أغنى عن إعادته.
هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم، وما قد أحاط بهم من البلاء، وماذا يُصبحهم من العذاب المستقر؛ ولهذا قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } أقسم تعالى بحياة نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا تشريف عظيم، ومقام رفيع وجاه عريض.
قال عمرو بن مالك النُّكْري (4) عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، أنه قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى: (5) { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [يقول: وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا " إنهم لفي سكرتهم يعمهون] (6) رواه ابن جرير.
وقال قتادة: { فِي سَكْرَتِهِمْ } أي: في ضلالتهم، { يَعْمَهُونَ } أي: يلعبون.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { لَعَمْرُكَ } لعيشك، { إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال: يتحيرون (7)
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) }
__________
(1) في ت: "بضيفانه".
(2) في ت: "سياقة".
(3) في ت: "دليله".
(4) في ت: "البكري".
(5) في أ: "عز وجل".
(6) زيادة من ت، أ.
(7) في ت، أ: "يتمادون".
يقول: تعالى: { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ } وهي ما جاءهم من الصوت القاصف عند شروق الشمس، وهو طلوعها، وذلك مع رفع (1) بلادهم إلى عَنان السماء ثم قلْبها، وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم. وقد تقدم الكلام على السجيل في [سورة] (2) هود بما فيه كفاية.
وقوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } أي: إن آثار هذه النقم ظاهرة (3) على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسَّمه بعين بصره وبصيرته، كما قال مجاهد في قوله: { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } قال: المتفرسين.
وعن ابن عباس، والضحاك: للناظرين. وقال قتادة: للمعتبرين. وقال مالك عن بعض أهل المدينة: { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } للمتأملين.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا محمد بن كثير العَبْدي، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اتقوا فِرَاسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله". ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ }
رواه الترمذي، وابن جرير، من حديث عمرو بن قيس الملائي (4) وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال ابن جرير أيضًا: حدثني أحمد بن محمد الطوسي، حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا الفرات بن السائب، حدثنا ميمون بن مِهْران، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فِرَاسَة المؤمن؛ فإن المؤمن ينظر (5) بنور الله" (6)
وقال ابن جرير: حدثني أبو شرحبيل الحِمْصِيّ، حدثنا سليمان بن سلمة، حدثنا المُؤَمَّل بن سعيد بن يوسف الرحبي، حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي، حدثنا وهب بن مُنَبِّه، عن طاوس بن كَيْسَان، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احذروا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله" (7)
وقال أيضًا: حدثنا عبد الأعلى بن واصل، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا عبد الواحد بن واصل، حدثنا أبو بشر المزلق، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: قال النبي (8) صلى الله عليه وسلم: "إن لله عبادًا
__________
(1) في ت: "رفيع".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "الظاهرة".
(4) سنن الترمذي برقم (3127) وتفسير الطبري (14/31).
(5) في ت، أ: "يبصر".
(6) تفسير الطبري (14/32) ورواه أبو نعيم في الحلية (4/94) من طريق فرات بن السائب به، وقال: "غريب من حديث ميمون لم نكتبه إلا من هذا الوجه". والفرات متروك".
(7) تفسير الطبري (14/32) ورواه أبو نعيم في الحلية (4/81) من طريق سليمان بن سلمة به، وقال: "غريب من حديث وهيب، تفرد به مؤمل عن أسد". وسليمان بن سلمة وشيخه المؤمل ضعيفان.
(8) في أ: "رسول الله".
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
يعرفون الناس بالتوسم" (1)
ورواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا سهل بن بحر، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، حدثنا أبو بشر -يقال له: ابن المزلق، قال: وكان ثقة -عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله عبادًا يعرفون الناس بالتوسم" (2)
وقوله: { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } أي: وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي، والقذف بالحجارة، حتى صارت بحيرة (3) منتنة خبيثة لبطريق مَهْيَع مسالكه (4) مستمرة إلى اليوم، كما قال تعالى: { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِالَّليْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [الصافات: 137، 138]
وقال مجاهد، والضحاك: { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } قال: مُعَلَّم. وقال قتادة: بطريق واضح. وقال قتادة أيضًا: بصقع من الأرض واحد.
وقال السدي: بكتاب مبين، يعني كقوله: { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [يس: 12] ولكن ليس المعنى على ما قال هاهنا، والله أعلم.
وقوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } أي: إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله، لدلالة واضحة جلية (5) للمؤمنين بالله ورسله.
{ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) }
أصحاب الأيكة: هم قوم شعيب.
قال الضحاك، وقتادة، وغيرهما: الأيكة: الشجر الملتف.
وكان ظلمهم بشركهم بالله وقطعهم الطريق، ونقصهم المكيال والميزان. فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة، وقد كانوا قريبًا من قوم لوط، بَعْدَهم في الزمان، ومسامتين لهم في المكان؛ ولهذا قال تعالى: { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ } أي: طريق مبين.
قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: طريق ظاهر؛ ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في نذارته إياهم: { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ }
{ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) }
__________
(1) تفسير الطبري (14/32) ورواه القضاعي في مسند الشهاب برقم (1005) والطبراني في المعجم الأوسط برقم (5004) "مجمع البحرين" من طريق أبي بشر المزلق به، وقال الهيثمي في المجمع (10/268): "إسناده حسن". وقال الذهبي في ترجمة أبي بشر المزلق: "روى خبرا منكرا فذكره" وهذا أقرب.
(2) مسند البزار برقم (3632) "كشف الأستار" وقال: "لا نعلم رواه عن ثابت، عن أنس إلا أبو بشر".
(3) في ت: "بخرة"، وفي أ: "بخرة".
(4) في ت، أ: "سالكة".
(5) في أ: "جليلة".
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
أصحاب الحجر هم: ثمود الذين كذبوا صالحا نبيهم، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين؛ ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين.
وذكر تعالى أنه آتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح، كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء فكانت (1) تسرح في بلادهم، لها شرب ولهم شرب يوم معلوم. فلما عَتَوا وعقروها قال لهم: { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [هود: 65] وقال تعالى: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [فصلت: 17]
وذكر تعالى: أنهم { كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ } أي: من غير خوف ولا احتياج إليها، بل أشرا وبطرا وعبثا، كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر، الذي مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك فَقَنَّع رأسه وأسرع دابته، وقال لأصحابه: "لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم" (2)
وقوله: { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ } أي: وقت الصباح من (3) اليوم الرابع، { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي: ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضَنُّوا بمائها عن الناقة، حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه، فما دفعت عنهم تلك الأموال، ولا نفعتهم لما جاء أمر ربك.
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (86) }
يقول تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ } أي: بالعدل؛ { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم: 31] وقال تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ص: 27] وقال { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [المؤمنون: 115-116]
ثم أخبر نبيه بقيام الساعة، وأنها كائنة لا محالة، ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين، في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم (4) به، كما قال تعالى: { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } (5) [الزخرف: 89]
وقال مجاهد وقتادة وغيرهما: كان هذا قبل القتال. وهو كما قالا فإن هذه مكية، والقتال إنما
__________
(1) في ت: "وكانت".
(2) جاء من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، رواه البخاري في صحيحه برقم (3380) ومسلم في صحيحه برقم (298) ولفظه: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم. ." الحديث. ورواه البخاري في صحيحه برقم (4702) بلفظ: "لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم".
(3) في أ: "في".
(4) في ت، أ: "ما جاء".
(5) في ت: "تعلمون".
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
شرع بعد الهجرة.
وقوله: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ } تقرير للمعاد، وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة، فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق ما يشاء، وهو العليم بما تمزق (1) من الأجساد، وتفرق (2) في سائر أقطار الأرض، كما قال تعالى: { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس: 81-83] .
{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) }
يقول تعالى لنبيه: كما آتيناك القرآن العظيم، فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه، فلا تغبطهم بما هم فيه، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات حزنا عليهم في تكذيبهم لك، ومخالفتهم دينك. { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 215] أي: ألِن لهم جانبك (3) كما قال تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة: 128]
وقد اختلف في السبع المثاني: ما هي؟
فقال ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك وغير واحد: هي السبع الطُّوَل. يعنون: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، نص عليه ابن عباس، وسعيد بن جبير.
وقال سعيد: بيَّن (4) فيهن الفرائض، والحدود، والقصص، والأحكام.
وقال ابن عباس: بين (5) الأمثال والخَبَر والعِبَر (6)
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر قال: قال سفيان: { الْمَثَانِي } الْمُثَنَّى : (7) البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال وبراءة (8) سورة واحدة.
قال ابن عباس: ولم يُعْطهن أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطي موسى منهن
ثنتين. رواه هُشَيْم، عن الحجاج، عن الوليد بن العيزار (9) عن سعيد بن جبير عنه.
[و] (10) قال الأعمش، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أوتي النبي صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني الطُّوَل، وأوتي موسى، عليه السلام، ستًّا، فلما ألقى الألواح ارتفع (11) اثنتان وبقيت أربع.
__________
(1) في ت، أ: "يمزق".
(2) في ت، أ: "ويفرق"
(3) في ت: "جنابك".
(4) في ت، أ: "ثنى".
(5) في ت، أ: "ثنى".
(6) في ت: "الخير والشر".
(7) في ت: "المبين".
(8) في ت: "وبراءة والأنفال".
(9) في ت: "العيزان".
(10) زيادة من ت، أ:
(11) في ت، أ: "رفعت".
وقال مجاهد: هي السبع الطُوَل. ويقال: هي القرآن العظيم.
وقال خَصِيف، عن زياد بن أبي مريم في قوله تعالى: { سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي } قال: أعطيتك سبعة أجزاء: آمر، وأنهى، وأبشر (1) وأنذر، وأضرب الأمثال، وأعدد النعم، وأنبئك بنبأ (2) القرآن. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم.
والقول الثاني: أنها الفاتحة، وهي سبع آيات. رُوي ذلك عن عمر وعلي، وابن مسعود، وابن عباس. قال ابن عباس: والبسملة هي (3) الآية السابعة، وقد خصكم الله بها. وبه قال إبراهيم النخعي، وعبد الله بن عبيد بن عُمَيْر، وابن أبي مليكة، وشَهْر بن حَوْشَب، والحسن البصري، ومجاهد.
وقال قتادة: ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب، وأنهن يثنين (4) في كل قراءة. وفي رواية: في كل ركعة مكتوبة أو تطوع.
واختاره ابن جرير، واحتج بالأحاديث الواردة في ذلك، وقد قدمناها في فضائل سورة "الفاتحة" في أول التفسير، ولله الحمد.
وقد أورد البخاري، رحمه الله، هاهنا حديثين:
أحدهما: قال: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غُنْدر، حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى قال: مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي، فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: "ما (5) منعك أن تأتيني (6) ؟". فقلت: كنت أصلي. فقال: "ألم يقل الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } [الأنفال: 24] ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد ؟" فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرته (7) فقال: " { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة: 2] هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" (8)
[و] (9) الثاني: قال: حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، حدثنا المقبري، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أم القرآن هي: السبع المثاني والقرآن العظيم" (10)
فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم، ولكن لا ينافي (11) وصف غيرها من السبع الطُّوَل بذلك، لما فيها من هذه الصفة، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضًا، كما قال تعالى: { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } [الزمر: 23] فهو مثاني من وجه، ومتشابه من وجه، وهو القرآن العظيم
أيضًا، كما أنه، عليه السلام (12) لما سُئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فأشار إلى مسجده، والآية نزلت في مسجد قُباء، فلا تنافي، فإن (13) ذكر الشيء لا ينفي (14)
__________
(1) في أ: "وبشر".
(2) في أ: "نبأ".
(3) في أ: "على".
(4) في ت: "يتبين" وفي أ: "تثنى".
(5) في أ: "ماذا".
(6) في ت، أ: "تأتي".
(7) في ت، أ: "فذكرت".
(8) صحيح البخاري برقم (4703).
(9) زيادة من أ.
(10) صحيح البخاري برقم (4704).
(11) في ت: "لا تنافي".
(12) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(13) في ت: "لأن".
(14) في ت: "ينافي".
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة، والله أعلم.
وقوله: { لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } أي: استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية.
ومن هاهنا ذهب ابن عُيَيْنَة إلى تفسير الحديث الصحيح: "ليس منا من لم يتغَنَّ بالقرآن" (1) إلى أنه يُستغنى به عما عداه، وهو تفسير صحيح، ولكن ليس هو المقصود من الحديث، كما تقدم في أول التفسير.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن وَكِيع بن الجراح، حدثنا موسى بن عبيدة، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي رافع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيف (2) ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء (3) يصلحه، فأرسل إلى رجل من اليهود: يقول لك محمد رسول الله: أسلفني دقيقا إلى هلال رجب. قال: لا إلا بِرَهْن. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم [فأخبرته] (4) فقال: "أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض ولئن أسلفني أو باعني لأؤدين إليه". فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية: { لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهَرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } إلى آخر الآية. [طه: 131] كأنه (5) يعزيه عن الدنيا (6)
وقال العوفي، عن ابن عباس: { لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } قال: نهي الرجل أن يتمنى مال صاحبه.
وقال مجاهد: { إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } هم الأغنياء.
{ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) }
__________
(1) وانظر فيما تقدم في فضائل القرآن، باب: من لم يتغن بالقرآن.
(2) في ت: "ضيفا" وهو الصواب".
(3) في ت، أ: "أمرا".
(4) زيادة من ت، أ.
(5) في ت: "كما".
(6) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/331) من طريق عبد الله بن نمير، عن موسى بن عبيدة به نحوه، وقال العراقي: "إسناده ضعيف" وذلك لأجل موسى بن عبيدة الربذي.
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
{ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) }
يأمر تعالى نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، أن (1) يقول للناس: إنه { النَّذِيرُ الْمُبِينُ } البين النذارة، نذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تكذيبه كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها، وما أنزل الله عليهم من العذاب والانتقام.
وقوله: { الْمُقْتَسِمِينَ } أي: المتحالفين، أي: تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم، كما قال تعالى إخبارًا عن قوم صالح أنهم: { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [النمل: 46] أي: نقتلهم ليلا قال مجاهد: تقاسموا: تحالفوا.
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } [النحل: 38]{ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [إبراهيم: 44]{ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } [الأعراف: 49] فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه، فسموا مقتسمين.
__________
(1) في ت، أ: "بأن".
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقتسمون أصحاب صالح، الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله.
وفي الصحيحين، عن أبي موسى [الأشعري] (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء! فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكَذب ما جئت به من الحق" (2)
وقوله: { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } أي: جَزَّؤوا كتبهم المنزلة عليهم، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.
قال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا هشيم، أنبأنا أبو بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: { جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } قال: هم أهل الكتاب، جَزَّؤوه أجزاء، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه (3) (4)
حدثنا عبيد الله بن موسى، عن الأعمش، عن أبي (5) ظَبْيان، عن ابن عباس: { كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ } قال: آمنوا ببعض، وكفروا ببعض: اليهُود والنصارى (6)
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد، وعِكْرِمة، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، مثل ذلك.
وقال الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس: { جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } قال: السحر (7) وقال عكرمة: العَضْه: السحر بلسان قريش، تقول (8) للساحرة: إنها العاضهة (9)
وقال مجاهد: عَضوه أعضاء، قالوا: سحر، وقالوا: كهانة، وقالوا: أساطير الأولين.
وقال عطاء: قال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: مجنون. وقال بعضهم كاهن. فذلك
العضين (10) وكذا روي عن الضحاك وغيره.
وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا شرف (11) فيهم، وقد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر
__________
(1) زيادة من ت، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (6482 ، 7283) وصحيح مسلم برقم (2283).
(3) صحيح البخاري برقم (4705).
(4) في هـ بعد قوله "وكفروا ببعضه" ما يلي: "حدثنا عبيد الله بن موسى، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس: (جعلوا القرآن عضين) قال: هم أهل الكتاب، +جزءوه أجزاء، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه" وليس في صحيح البخاري ولا في باقي النسخ، وهو خطأ.
(5) في ت: "ابن".
(6) صحيح البخاري برقم (4706).
(7) في ت، أ: "سحر".
(8) في ت: "يقول".
(9) في ت: "الكاهنة".
(10) في ت: "الحضين".
(11) في ت، أ: "ذا سن".
صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضًا. فقالوا: وأنت يا أبا عبد شمس، فقل (1) وأقم لنا رأيا نقول به. قال: بل أنتم قولوا (2) لأسمع. قالوا: نقول (3) كاهن". قال: ما هو بكاهن. قالوا: فنقول: "مجنون". قال: ما هو بمجنون! قالوا (4) فنقول: "شاعر". قال: ما هو بشاعر! قالوا: فنقول: "ساحر". قال: ما هو بساحر! قالوا: فماذا نقول؟ قال: والله إن لقوله حلاوة، فما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا: هو ساحر. فتفرقوا عنه بذلك، وأنزل الله فيهم: { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } أصنافا (5) { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } دُوينك (6) النفر الذين قالوا: ذلك لرسول الله.
وقال عطية العوفي، عن ابن عمر (7) في قوله: { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قال: عن لا إله إلا الله.
وقال عبد الرزاق. أنبأنا الثوري، عن ليث -هو ابن أبي سليم -عن مجاهد، في قوله: { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قال: عن (8) لا إله إلا الله (9)
وقد روى الترمذي، وأبو يعلى الموصلي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، من حديث شريك القاضي، عن ليث بن أبي سليم، عن بَشِير (10) بن نَهِيك، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [قال] (11) عن لا إله إلا الله (12)
ورواه ابن إدريس، عن ليث، عن بشير (13) عن أنس موقوفا (14)
وقال ابن جرير: حدثنا أحمد، حدثنا أبو أحمد، حدثنا شريك، عن هلال، عن عبد الله بن عُكَيم قال: قال عبد الله -هو ابن مسعود -: والذي لا إله غيره، ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، فيقول: ابن آدم، ماذا (15) غرك مني بي؟ ابن آدم، ماذا عملتَ فيما علمت؟ ابن آدم، ماذا أجبت المرسلين (16) ؟
وقال أبو جعفر: عن الربيع، عن أبي العالية: قال: يسأل العباد كلهم عن خُلَّتين يوم القيامة، عما كانوا يعبدون، وماذا أجابوا المرسلين.
__________
(1) في ت: "فقيل".
(2) في ت، أ: "تقولوا".
(3) في ت: "فنقول".
(4) في أ: "قال".
(5) في ت: "أضيافا".
(6) في ت، أ: "أولئك".
(7) في أ: "عن ابن عباس".
(8) في أ: "عن قول".
(9) تفسير عبد الرزاق (1/303).
(10) في ت، أ: "بشر".
(11) زيادة من ت، أ.
(12) سنن الترمذي برقم (3126) ومسند أبي يعلى (7/111) وهو عندهما من طريق ليث بن أبي سليم، عن بشر، عن أنس، وفي تفسير الطبري (14/46) رواه من طريق شريك عن بشر عن أنس، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث ليث ابن أبي سليم، وقد روى عبد الله بن أدريس، عن ليث بن أبي سليم، عن بشر، عن أنس نحوه ولم يرفعه".
(13) في أ: "بشر".
(14) أشار إليه الترمذي كما تقدم، ورواه الطبري في تفسيره (14/46) من طريق أبي كريب وأبي السائب، عن ابن إدريس به موقوفا.
(15) في ت: "ما".
(16) تفسير الطبري (14/46).
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
وقال ابن عيينة عن عملك، وعن مالك.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن أبي الحُوَّاري، حدثنا يونس الحذاء، عن أبي حمزة الشيباني، عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ، إن المؤمن ليسأل (1) يوم القيامة عن جميع سعيه، حتى كحل عينيه، وعن (2) فتات الطينة بأصبعيه، فلا ألفينك يوم القيامة (3) وأحد أسعد بما آتى (4) الله منك" (5)
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ثُمَّ قَالَ { فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ } [الرحمن: 39] قال: لا يسألهم: هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا؟
{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) }
يقول تعالى آمرًا رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه (6) والصَّدع به، وهو مواجهة المشركين به، كما قال ابن عباس: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } أي: أمضه. وفي رواية: افعل ما تؤمر.
وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة.
وقال أبو عبيدة، عن (7) عبد الله بن مسعود: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا، حتى نزلت: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } فخرج هو وأصحابه (8)
وقوله: { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } أي: بلغ ما أنزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله. { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [القلم: 9] ولا تخفْهم؛ فإن الله كافيك إياهم، وحافظك منهم، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة: 67]
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن، حدثنا إسحاق بن إدريس، حدثنا عون بن كَهْمَس، عن يزيد بن درهم، قال: سمعت أنسًا (9) يقول في هذه الآية: { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ }
__________
(1) في أ: "يسأل".
(2) في أ: "وحتى".
(3) في أ: "فلا ألفينك تأتي يوم القيامة".
(4) في ت، أ: "أتاك".
(5) ورواه أبو نعيم في الحلية (10/31) من طريق إسحاق بن أبي حسان، عن أحمد بن أبي الحوارى به نحوه، وسيأتي مطولا عند تفسير الآية: 14 من سورة الفجر، وقد علق الحافظ ابن كثير: "حديث غريب جدا في إسناده نظر وفي صحته".
(6) في أ: "وإنفاذه".
(7) في ت، أ: "ابن".
(8) رواه الطبري في تفسيره (14/47).
(9) في ت، أ، هـ: "عن أنس قال: "سمعت أنسا" وهو تحريف وقد وقع مثله في كشف الأستار للهيثمي.
قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغمزه بعضهم، فجاء جبريل -أحسبه قال: فغمزهم فوقع في أجسادهم -كهيئة الطعنة حتى ماتوا (1)
وقال محمد بن إسحاق: كان عظماء المستهزئين -كما حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير -خمسة نفر، كانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم، من بني أسد بن عبد العزى بن قُصي: الأسود بن المطلب أبو (2) زمعة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما بلغني -قد دعا عليه، لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه [به] (3) فقال: اللهم، أعم بصره، وأثكله ولده. ومن بني زهرة: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زُهرة. ومن بني مخزوم: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم. ومن بني سهم بن عمرو بن هُصيص بن كعب بن لؤي: العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعد. ومن خزاعة: الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد عمرو بن ملكان -فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء، أنزل الله تعالى: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } إلى قوله: { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }
وقال ابن إسحاق: فحدث يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، أو غيره (4) من العلماء، أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه، فمر به الأسود [ابن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء، فعمى، ومر به الأسود] (5) بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه، فاستسقى (6) بطنه، فمات منه حَبَنَا، ومر به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جُرح بأسفل كعب رجله -كان أصابه قبل ذلك بسنتين وهو يجر إزاره، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له، فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش رجله ذلك الخدش، وليس بشيء، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص قدمه، فخرج على حمار له يريد الطائف، فربض (7) على شِبْرِقَةٍ فدخلت في أخمص رجله منها شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه، فامتخط قيحا، فقتله (8)
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن رجل، عن ابن عباس قال: كان رأسُهم الوليد بن المغيرة، وهو الذي جمعهم.
وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعكرمة، نحو سياق محمد بن إسحاق، عن يزيد، عن عروة، بطوله، إلا أن سعيدًا يقول: الحارث بن غيطلة. وعكرمة يقول: الحارث بن قيس.
قال الزهري: وصدقا، هو الحارث بن قيس، وأمه غيطلة.
وكذا روي عن مجاهد، ومقسم، وقتادة، وغير واحد، أنهم كانوا خمسة.
__________
(1) مسند البزار برقم (2222) "كشف الأستار" ونقل عنه الهيثمي قوله: "تفرد به يزيد بن درهم، عن أنس ولا أعلم له عن أنس غيره"، وقال الهيثمي في المجمع (7/46): "فيه يزيد بن درهم، ضعفه ابن معين، ووثقه الفلاس".
(2) في ت: "ابن".
(3) زيادة من ت، أ.
(4) في ت: "وغيره".
(5) زيادة من ت، أ، وابن هشام والطبري.
(6) في أ: "فاستقى".
(7) في ت، أ: "فربض به".
(8) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/409 ، 410 ) وتفسير الطبري (14/48).
وقال الشعبي: كانوا سبعة.
والمشهور الأول.
وقوله: { الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } تهديد شديد، ووعيد أكيد، لمن جعل مع الله معبودا آخر.
وقوله: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } أي: وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك انقباض وضيق صدر. فلا يهيدنك ذلك، ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة الله، وتوكل على الله فإنه كافيك وناصرك عليهم، فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة؛ ولهذا قال: { وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مُرَّة، عن نعيم بن هَمَّار (1) أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله: يا ابن آدم، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره..
ورواه أبو داود (2) من حديث مكحول، عن كثير بن مرة، بنحوه (3)
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزبه أمر صلَّى.
وقوله: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } قال البخاري: قال سالم: الموت (4)
وسالم هذا هو: سالم بن عبد الله بن عمر، كما قال ابن جرير:
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، حدثني طارق بن عبد الرحمن، عن سالم بن عبد الله: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } قال: الموت (5)
وهكذا قال مجاهد، والحسن، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيره (6)
والدليل على ذلك قوله تعالى إخبارًا عن أهل النار أنهم قالوا: { لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } [المدثر: 43-47]
وفي الصحيح (7) من حديث الزهري، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أم العلاء -امرأة من الأنصار -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون -وقد مات -قلت: رحمة الله عليك (8) أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله أكرمه؟"
__________
(1) في ت، أ: "عمار".
(2) في ت، أ: "أبو داود والنسائي".
(3) المسند (5/286) وسنن أبي داود برقم (1289).
(4) صحيح البخاري (8/383) "فتح".
(5) تفسير الطبري (14/51).
(6) في ت: "وغيرهم".
(7) في أ: "الصحيحين".
(8) في ت، أ: "رحم الله قلبك".
فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، فمن؟ فقال: "أما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأرجو له الخير" (1)
ويستدل من هذه الآية الكريمة وهي قوله: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } -على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا فيصلي بحسب حاله، كما ثبت في صحيح البخاري، عن عمران بن حصين، رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْب" (2)
ويستدل بها (3) على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء، عليهم السلام، كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته، وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد الناس وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. وإنما المراد باليقين هاهنا الموت، كما قدمناه. ولله الحمد والمنة، والحمد لله على الهداية، وعليه الاستعانة والتوكل، وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها [فإنه جواد كريم] (4)
[وحسبنا الله ونعم الوكيل] (5)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1243).
(2) صحيح البخاري برقم (1117).
(3) في أ: "بهذا".
(4) زيادة من ت، أ.
(5) زيادة من أ.
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
تفسير سورة النحل
وهي مكية .
{ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) }
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبرًا بصيغة الماضي الدال على التحقق (1) والوقوع لا محالة [كما قال تعالى] (2) : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [الأنبياء : 1] ، وقال: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [القمر : 1] .
وقوله: { فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } أي: قرب ما تباعد فلا تستعجلوه.
يحتمل أن يعود الضمير على الله، ويحتمل أن يعود على العذاب، وكلاهما متلازم، كما قال تعالى: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [العنكبوت : 53 ، 54].
وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الآية إلى قول عجيب، فقال في قوله: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } أي: فرائضه وحدوده.
وقد رده ابن جرير فقال: لا نعلم أحدًا استعجل الفرائض (3) والشرائع قبل وجودها (4) بخلاف العذاب فإنهم استعجلوه قبل كونه، استبعادًا وتكذيبًا.
قلت: كما قال تعالى: { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } [الشورى : 18].
وقال ابن أبي حاتم: ذُكر عن يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش، عن محمد بن عبد الله -مولى المغيرة بن شعبة -عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن حُجيرة، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس، فما تزال ترتفع في السماء، ثم ينادي مناد فيها: يا أيها الناس. فيقبل الناس بعضهم على بعض: هل سمعتم؟ فمنهم من يقول: نعم. ومنهم من يشك. ثم ينادي (5) الثانية: يا أيها الناس. فيقول الناس بعضهم لبعض: هل سمعتم؟ فيقولون: نعم. ثم ينادي الثالثة: يا أيها الناس، أتى أمر الله فلا تستعجلوه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فوالذي نفسي بيده، إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا، وإن الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه (6) شيئًا أبدًا، وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدًا -قال -ويشتغل (7) الناس" (8) .
__________
(1) في أ: "التحقيق".
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) في ف، أ: "بالفرائض".
(4) في أ: "وجودهما".
(5) في ت، أ: "ينادي مناد".
(6) في ف: "منه".
(7) في ت: "ويستعمل".
(8) ورواه الحاكم في المستدرك (4/539): حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن علي بن عفان، حدثنا يحيى بن آدم به، وقال: "صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه". ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/325): حدثنا الحسين التستري، حدثنا أبو كريب، حدثنا يحيى بن آدم به، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (4/382): "رواه الطبراني بإسناد جيد رواته ثقات مشهورون".
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره، وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد، تعالى وتقدس علوًا كبيرًا، وهؤلاء هم المكذبون بالساعة، فقال: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
{ يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) }
يقول تعالى: { يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ } أي: الوحي كما قال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى : 52].
وقوله: { عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وهم الأنبياء، كما قال: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام : 124] ، وقال: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ } [الحج : 75] ، وقال: { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر : 15 ، 16 ] .
وقوله: { أَنْ أَنْذِرُوا } أي: لينذروا { أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا } [كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا } ] (1) { فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25] ، وقال في هذه [الآية] (2) : { فَاتَّقُونِ } أي: فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري.
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) }
يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي وهو السماوات، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت، وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث (3) ، بل { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم : 31] .
ثم نزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره [من الأصنام التي لا تخلق شيئا وهم يخلقون فكيف ناسب أن يعبد معه غيره] (4) ، وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له، فلهذا يستحق (5) أن يعبد وحده لا شريك له.
ثم نبه على خلق جنس الإنسان { مِنْ نُطْفَةٍ } أي: ضعيفة مهينة، فلما استقل ودَرَج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه، ويحارب رسله، وهو إنما خلق ليكون عبدًا لا ضدًا، كما قال تعالى:
__________
(1) زيادة من ت، ف، أ.
(2) زيادة من ت، أ.
(3) في أ: "لا للعب".
(4) زيادة من ت، ف.
(5) في أ: "استحق".
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } [الفرقان : 54 ، 55] ، وقال: { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس : 77 ، 79] .
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن بُسْر بن جَحَّاش قال: بصق رسول الله في كفه، ثم قال: "يقول الله: ابن آدم، أنَّى تُعجِزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: أتصدقُ. وأنى أوان الصدقة؟" (1) .
{ وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) }
__________
(1) المسند (4/210) وسنن ابن ماجه برقم (2707) وقال البوصيري في الزوائد (2/365): "إسناد صحيح رجاله ثقات، ورواه أحمد في مسنده من حديث بسر، وأصله في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة".
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) }
يمتن تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج، وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع، من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون، ومن ألبانها يشربون، ويأكلون من أولادها، وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة؛ ولهذا قال: { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ } وهو وقت رجوعها عشيًا من المرعى (1) فإنها تكون أمَدّه (2) خواصر، وأعظمه ضروعًا، وأعلاه أسنمة، { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } أي: غُدوة حين تبعثونها إلى المرعى.
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } وهي الأحمال المثقلة (3) التي تَعجزُون عن نقلها وحملها، { إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ } وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة، وما جرى مجرى ذلك، تستعملونها في أنواع الاستعمال، من ركوب وتحميل، كما قال تعالى: { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } [المؤمنون : 21 ، 22] ، وقال تعالى: { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُون } [غافر : 79 ، 81] ؛ ؛ ولهذا قال هاهنا بعد تعداد هذه النعم: { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي: ربكم الذي قيَّض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم، كما قال: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [يس : 71 ، 72] ، وقال: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } [الزخرف : 12 -14] .
__________
(1) في ت: "الرعى".
(2) في ت، ف: "أعده".
(3) في ت، ف، أ: "الثقيلة".
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
قال ابن عباس: { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } أي: ثياب، والمنافع: ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا إسرائيل، عن سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس: { دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } نسل كل دابة.
وقال مجاهد: { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } قال: لباس ينسج، ومنافع تُركَبُ، ولحم ولبن.
وقال قتادة: { دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } يقول: لكم فيها لباس، ومنفعة، وبُلْغة.
وكذا قال غير واحد من المفسرين، بألفاظ متقاربة.
{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ (8) }
هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده، يمتن به عليهم، وهو: الخيل والبغال والحمير، التي جعلها للركوب والزينة بها، وذلك أكبر المقاصد منها، ولما فَصَلها من الأنعام وأفردها بالذكر استدل من استدل من العلماء -ممن ذهب إلى تحريم لحوم الخيل -بذلك على ما ذهب إليه فيها، كالإمام أبي حنيفة، رحمه الله (1) ومن وافقه من الفقهاء (2) ؛ لأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير، وهي حرام، كما ثبتت به السنة النبوية، وذهب إليه أكثر العلماء.
وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، أنبأنا هشام الدَّسْتُوَائي، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن مولى نافع بن علقمة، أن ابن عباس كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير، وكان يقول: قال الله: { وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } فهذه للأكل، { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا } فهذه للركوب (3) .
وكذا روي من طريق سعيد بن جُبَير وغيره، عن ابن عباس، بمثله. وقال مثل ذلك الحكم بن عتيبة (4) رضي الله عنه (5) أيضا، واستأنسوا بحديث رواه الإمام أحمد في مسنده:
حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد، حدثنا ثور بن يزيد، عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب، عن أبيه، عن جده، عن خالد بن الوليد، رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل، والبغال، والحمير.
وأخرجه أبو داود والنسائي، وابن ماجه، من حديث صالح بن يحيى بن المقدام --وفيه كلام -به (6) .
ورواه أحمد أيضا من وجه آخر بأبسط من هذا وأدل منه فقال:
__________
(1) في ف، أ: "رحمة الله عليه".
(2) في ت: "العلماء".
(3) تفسير الطبري (14/57).
(4) في ت، ف، أ: "عيينة".
(5) في ت: "رحمه الله".
(6) المسند (4/89) وسنن أبي داود برقم (3790) وسنن النسائي (7/202) وسنن ابن ماجة برقم (3198).
حدثنا أحمد بن عبد الملك، حدثنا محمد بن حرب، حدثنا سليمان بن سليم، عن صالح بن يحيى بن المقدام، عن جده المقدام بن معد يكرب قال: غزونا مع خالد بن الوليد الصائفة، فقَرِم (1) أصحابنا إلى اللحم، فسألوني رَمَكة، فدفعتها إليهم فَحبَلوها وقلت (2) : مكانكم حتى آتي خالدًا فأسأله. فأتيته فسألته، فقال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر، فأسرع الناس في حظائر يهود، فأمرني أن أنادي: "الصلاة جامعة، ولا يدخل الجنة إلا مسلم" ثم قال: "أيها الناس، إنكم قد أسرعتم في حظائر يهود، ألا لا تحل (3) أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام عليكم لحوم الأتن (4) الأهلية وخيلها وبغالها، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير" (5) .
والرمكة: هي الحِجْرَة. وقوله: حَبَلوها، أي: أوثقوها في الحبل ليذبحوها. والحظائر: البساتين القريبة من العمران.
وكأن هذا الصنيع وقع بعد إعطائهم العهد ومعاملتهم على الشطر، والله أعلم.
فلو صحّ هذا الحديث لكان نصًا في تحريم لحوم الخيل، ولكن لا يقاوِمُ ما ثبت في الصحيحين، عن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل (6) .
ورواه الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين، كل منهما على شرط مسلم، عن جابر قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير، ولم ينهنا عن الخيل (7) .
وفي صحيح مسلم، عن أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنهما، قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه ونحن بالمدينة (8) .
فهذه أدل وأقوى وأثبت، وإلى ذلك صار جمهورُ العلماء: مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم، وأكثر السلف والخلف، والله أعلم.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن جُرَيْج، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس قال: كانت الخيل وحشية، فذللها الله لإسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام.
وذكر وهب بن منبه في إسرائيلياته: أن الله خلق الخيل من ريح الجنوب، والله (9) أعلم.
فقد دل النص على جواز ركوب هذه الدواب، ومنها البغال. وقد أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة، فكان يركبها، مع أنه قد نَهَى عن إنزاء الحمر على الخيل لئلا ينقطع النسل.
قال الإمام أحمد: حدثني محمد بن عبيد، حدثنا عمر من آل حذيفة، عن الشعبي، عن دَحْية الكلبي قال: قلت: يا رسول الله، ألا أحمل لك حمارًا على فرس، فتنتج لك بغلا فتركبها؟ قال: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون" (10) .
__________
(1) في ت: "فغرم".
(2) في أ: "فقلت".
(3) في ف: "لا يحل".
(4) في ت، ف: "الحمر".
(5) المسند (4/89).
(6) صحيح البخاري برقم (4219 ، 5524) . وصحيح مسلم برقم (1941).
(7) المسند (3/356) وسنن أبي داود برقم (3789).
(8) صحيح مسلم برقم (1942).
(9) في ت: "فالله".
(10) المسند (4/311).
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
{ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) }
لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يُسَار عليه في السبل الحسية، نبه على الطرق المعنوية الدينية، وكثيرًا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية، كما قال تعالى: { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة : 197] ، وقال: { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } [الأعراف : 26] .
ولما ذكر في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها، التي يركبونها (1) ويبلغون عليها حاجة في صدورهم، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة -شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه، فبين أن الحق منها ما هي موصلة إليه، فقال: { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } كما قال: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام : 153] ، وقال: { هَذَا (2) صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } [الحجر : 41] .
قال مجاهد: في [قوله] (3) : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } قال: طريق الحق على الله.
وقال السدي: { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } قال: الإسلام.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } يقول: وعلى الله البيان، أي: تبين (4) الهدى والضلال (5) .
وكذا روى علي بن أبي طلحة، عنه، وكذا قال قتادة، والضحاك. وقولُ مجاهد هاهنا أقوى من حيث السياق؛ لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقًا تسلك إليه، فليس يصل إليه منها إلا طريقُ الحق، وهي الطريق (6) التي شَرَعها ورضيها وما عداها مسدودة (7) ، والأعمال فيها مردودة؛ ولهذا قال تعالى: { وَمِنْهَا جَائِرٌ } أي: حائد (8) مائل زائغ عن الحق.
قال ابن عباس وغيره: هي الطرق المختلفة، والآراء والأهواء المتفرقة، كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وقرأ ابن مسعود: "ومنكم جائر".
ثم أخبر أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته، فقال: { وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } كما قال: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } [يونس : 99] ، وقال: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود : 118 ، 119] .
{ هُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) }
__________
(1) في ت: "تركبونها".
(2) في ف: "وقال: قال هذا".
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) في ت، ف: "يبين".
(5) في ت، ف: "الضلالة".
(6) في ت: "الطرق".
(7) في أ: "مسدود".
(8) في ت: "جائر".
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
لما (1) ذكر سبحانه ما أنعم به عليهم من الأنعام والدواب، شرع في ذكر نعمته عليهم، في إنزال (2) المطر من السماء -وهو العلو -مما لهم فيه بُلْغَة ومتاع لهم ولأنعامهم، فقال: { لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ } أي: جعله عذبًا زلالا يسوغ لكم شرابه، ولم يجعله ملحا أجاجا.
{ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } أي: وأخرج لكم به شجرًا ترعون فيه أنعامكم. كما قال ابن عباس، وعكرمة والضحاك، وقتادة وابن زيد، في قوله: { فِيهِ تُسِيمُونَ } أي: ترعون.
ومنه الإبل السائمة، والسوم: الرعي.
وروى ابن ماجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السوم قبل طلوع الشمس (3) .
وقوله: { يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } أي: يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد، على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها؛ ولهذا قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي: دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [النمل: 60]
ثم قال (4) تعالى:
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) } ينبه تعالى عباده على آياته العظام، ومننه الجسام، في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان، والشمس والقمر يدوران، والنجوم الثوابت والسيارات، في أرجاء السموات نورا وضياء لمهتدين بها في الظلمات، وكل منها يسير في فلكه الذي جعله الله تعالى فيه، يسير بحركة مُقدرة، لا يزيد عليها ولا ينقص منها، والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره وتسييره، كما قال: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54] ؛ ولهذا قال: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي: لدلالات على قدرته الباهرة وسلطانه العظيم، لقوم يعقلون عن الله ويفهمون حججه.
وقوله: { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } لما نبه سبحان على معالم السماوات (5) ، نبه على
__________
(1) في ف: "كما".
(2) في ت: "إنزاله".
(3) سنن ابن ماجة برقم (2206) ورواه الحاكم في المستدرك (4/234) كلاهما من طريق الربيع بن حبيب، عن نوفل بن عبد الملك، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السوم. . . فذكر الحديث. وقال البوصيري في الزوائد (2/177) "هذا إسناد ضعيف لضعف ابن نوفل بن عبد الملك والربيع بن حبيب".
(4) في أ: "وقال".
(5) في ت، ف، أ: "السماء".
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة والأشياء المختلفة، من الحيوانات والمعادن والنباتات (1) [والجمادات] (2) على اختلاف ألوانها وأشكالها، وما فيها من المنافع والخواص { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } أي: آلاء الله ونعمه فيشكرونها.
{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) }
__________
(1) في أ: "والنبات".
(2) زيادة من ف، أ.
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
{ وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) }
يخبر تعالى عن تسخيره (1) البحر المتلاطم الأمواج، ويمتن على عباده بتذليله لهم، وتيسيره للركوب فيه، وجعله السمك والحيتان فيه، وإحلاله (2) لعباده لحمها حيها وميتها، في الحل والإحرام (3) وما يخلقه فيه من اللآلئ والجواهر النفيسة، وتسهيله للعباد استخراجها من قرارها حلية يلبسونها، وتسخيره البحر لحمل (4) السفن التي تمخره، أي: تشقه.
وقيل: تمخر الرياح، وكلاهما صحيح بجؤجئها وهو صدرها المسنَّم -الذي أرشد العباد إلى صنعتها، وهداهم إلى ذلك، إرثا عن أبيهم نوح، عليه السلام؛ فإنه أول من ركب السفن، وله كان تعليم صنعتها، ثم أخذها الناس عنه قرنًا بعد قرن، وجيلا بعد جيل، يسيرون من قطر إلى قطر، وبلد إلى بلد، وإقليم إلى إقليم، تجلب ما هنا إلى هنالك، وما هنالك إلى هنا (5) ؛ ولهذا قال تعالى: { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي: نعمه وإحسانه.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: وجدت في كتابي عن محمد بن معاوية (6) البغدادي: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن [عمر، عن] (7) سُهَيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة [رفعه] (8) قال: كلم الله هذا البحر الغربي، وكلم البحر الشرقي، فقال للبحر الغربي: إني حامل فيك عبادًا من عبادي، فكيف أنت صانع فيهم (9) ؟ قال: أغرقهم. فقال: بأسك في نواحيك. وأحملهم على يدي. وحَرّمه الحلية والصيد. وكلم هذا البحر الشرقي فقال: إني حامل فيك عبادًا من عبادي، فما أنت صانع بهم؟ فقال: أحملهم على يدي، وأكون لهم (10) كالوالدة لولدها. فأثابه الحلية والصيد (11) .
__________
(1) في أ: :تسخير".
(2) في ت: "وإجلاله".
(3) في أ: "والحرم".
(4) في ت: "كحمل".
(5) في ف، أ: "تجلب ما هاهنا إلى هناك وما هناك إلى هاهنا".
(6) في ت: "معاوية بن محمد".
(7) زيادة من ف، أ، ومسند البزار.
(8) زيادة من مسند البزار.
(9) في ت، ف، أ: "بهم".
(10) في ف: "بهم".
(11) مسند البزار برقم (1669) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (5/281): "رواه البزار وجادة، وفيه عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر العمري وهو متروك". ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه (10/233 ، 234) من هذا الطريق قال: "وتابعه أبو عبيد الله أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، فرواه عن عمه عبد الله بن وهب، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن سهيل عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن كعب الأحبار، وخالفهما خالد بن عبد الله الواسطي، فرواه عن سهيل عن النعمان بن أبي عياش الزرقي عن عبد الله بن عمرو موقوفا لم يجاوزه، ورفعه غير ثابت".
ثم قال البزار: لا نعلم من رواه عن سهيل غير عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر (1) وهو منكر الحديث. وقد رواه سهيل عن النعمان بن أبي عياش (2) عن عبد الله بن عمرو (3) موقوفا (4) .
ثم ذكر تعالى الأرض، وما جعل فيها من الرواسي الشامخات والجبال الراسيات، لتقر الأرض ولا تميد، أي: تضطرب بما عليها من الحيوان فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك؛ ولهذا قال: { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [النازعات: 32] .
وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن قتادة، سمعت الحسن يقول: لما خُلقت الأرض كانت تميد، فقالوا ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدًا فأصبحوا وقد خُلقت الجبال، لم (5) تدر الملائكة مِمّ خلقت الجبال (6) .
وقال سعيد عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عُبَادة: أن الله تعالى لما خلق الأرض، جعلت تمور، فقالت الملائكة: ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدًا، فأصبحت صبحا وفيها رواسيها.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا حجاج بن مِنْهَال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حَبِيب، عن علي بن أبي طالب (7) ، رضي الله عنه، قال: لما خلق الله الأرض قمصت وقالت: أي رَب، تجعل عليَّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث؟ قال: فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون، فكان إقرارها كاللحم يترجرج. (8) (9) .
وقوله: { وَأَنْهَارًا وَسُبُلا } أي: وجعل فيها أنهارًا تجري من مكان إلى مكان آخر، رزقًا للعباد، ينبع في موضع وهو رزق لأهل موضع آخر، فيقطع البقاع والبراري والقفار، ويخترق (10) الجبال والآكام، فيصل إلى البلد الذي سُخِّر لأهله. وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة، وجنوبًا وشمالا وشرقًا وغربًا، ما بين صغار وكبار، وأودية تجري حينًا وتنقطع (11) في وقت، وما بين نبع وجمع،
__________
(1) في ف: "عمرو".
(2) في أ: "عباس".
(3) في ت، أ، هـ: "عمر" وهو خطأ.
(4) رواه الخطيب البغدادي في تاريخه (10/234) من طريق سعيد بن منصور، عن خالد بن عبد الله، عن سهيل بن أبي صالح به. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (1/20): "قلت: الموقوف على عبد الله بن عمرو بن العاص أشبه، فإنه قد كان وجد يوم اليرموك زاملتين مملوءتين كتبا من علوم أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بأشياء كثيرة من الإسرائيليات منها المعروف والمشهور والمنكور والمردود، فأما المعروف فتفرد به عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو القاسم المدني قاضيها. قال فيه الإمام أحمد: ليس بشيء وقد سمعته منه، ثم مزقت حديثه كان كذابا وأحاديثه مناكير. وكذا ضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والجوزجاني والبخاري وأبو داود والنسائي. وقال ابن عدي: عامة أحاديثه مناكير وأفظعها حديث البحر".
(5) في ت، ف: "فلم".
(6) تفسير عبد الرزاق (1/306).
(7) في أ: "طلحة".
(8) في أ: "ترجرج".
(9) تفسير الطبري (14/62).
(10) في ت، ف: "ويخرق".
(11) في ت: "وتقطع".
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
وقوي السير وبطيئه، بحسب ما أراد وقدر، وسخر ويسر فلا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وكذلك جعل فيها سبلا أي: طرقًا يسلك فيها من بلاد إلى بلاد، حتى إنه تعالى ليقطع الجبل حتى يكون (1) ما بينهما ممرًا ومسلكًا، كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا } [الأنبياء: 31] .
وقوله: { وَعَلامَاتٍ } أي: دلائل من جبال كبار وآكام صغار، ونحو ذلك، يستدل بها المسافرون برًا وبحرًا إذا ضلوا الطريق [بالنهار] (2) .
وقوله: { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } أي: في ظلام الليل، قاله ابن عباس.
وعن مالك في قوله: { وَعَلامَاتٍ } يقولون: النجوم، وهي الجبال.
ثم قال تعالى منبها على عظمته، وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان، التي لا تخلق شيئًا بل هم يخلقون؛ ولهذا قال: { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ }
ثم نبههم على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم، فقال: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: يتجاوز عنكم، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم، يغفر الكثير، ويجازي على (3) اليسير.
وقال ابن جرير: يقول: { إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك، إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته، { رَحِيمٌ } بكم أن يعذبكم، [أي] (4) : بعد الإنابة والتوبة (5) .
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) }
يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها (6) من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون، كما قال الخليل: { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات: 95 ، 96] .
وقوله: { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } أي: هي جمادات لا أرواح فيها (7) فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل.
{ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي: لا يدرون متى تكون الساعة، فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء؟ إنما يرتجى (8) ذلك من الذي يعلم كل شيء، وهو خالق كل شيء.
__________
(1) في أ: "ليكون".
(2) زيادة من ت، ف.
(3) في ت: "ويتجاوز عن".
(4) زيادة من ت، ف.
(5) تفسير الطبري (14/64).
(6) في ت: "تدعونها".
(7) في ت، ف، أ: "لها".
(8) في ت، ف، أ: "يرجى".
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
{ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) }
يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد، وأخبر أن الكافرين تُنكر (1) قلوبهم ذلك، كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص:5] ، وقال تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الزمر:45] .
وقوله: { وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } أي: عن عبادة الله مع إنكار قلوبهم لتوحيده، كما قال: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60] ؛ ولهذا قال هاهنا: { لا جَرَمَ } أي: حقًا { أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي: وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء، { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ }
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) }
يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء المكذبين: { مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا } معرضين عن الجواب: { أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } أي: لم ينزل شيئًا، إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين، أي: مأخوذ من كتب المتقدمين، كما قال تعالى: { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا } [الفرقان: 5] أي: يفترون على الرسول، ويقولون [فيه] (2) أقوالا مختلفة متضادة (3) ، كلها باطلة (4) كما قال تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } [الفرقان: 9]، وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ، وكانوا يقولون: ساحر، وشاعر، وكاهن، ومجنون. ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم الوحيد المسمى بالوليد بن المغيرة المخزومي، لما { فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } [المدثر: 18 -24] أي: ينقل ويحكى، فتفرقوا عن قوله ورأيه، قبحهم الله.
قال الله تعالى: { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي: إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك فيتحملوا (5) أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم، أي: يصير (6) عليهم خطيئة ضلالهم (7) في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم، كما جاء في الحديث: "من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثلُ آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا".
__________
(1) في ت: "ينكر".
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) في ت، ف،: "متضادة مختلفة".
(4) في ت، ف، أ: "باطل".
(5) في ت، ف، أ: "ليتحملوا".
(6) في ف: "تصير".
(7) في ف: "عنادهم".
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
وقال [الله] (1) تعالى: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [العنكبوت: 13] .
وهكذا (2) روى العوفي عن ابن عباس في قوله: { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } إنها كقوله: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت: 13] .
وقال مجاهد: يحملون أثقالهم: ذنوبهم وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئًا.
{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) }
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت، أ: "لهذا".
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
{ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) }
قال العوفي، عن ابن عباس في قوله: { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } قال: هو نمرود الذي (1) بنى الصرح.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد نحوه.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن زيد بن أسلم: أولُ جبار كان في الأرض نمرود، فبعث الله عليه بَعُوضة، فدخلت في منخرة، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه، وكان جبارا أربعمائة سنة، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، ثم أماته الله. وهو الذي كان بنى صرحًا إلى السماء، وهو الذي قال الله: { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ }
وقال آخرون: بل هو بختنصر. وذكروا من المكر الذي حكى الله هاهنا، كما قال في سورة إبراهيم: { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } [إبراهيم : 46] .
وقال آخرون: هذا من باب المثل، لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره، كما قال نوح، عليه السلام: { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا } [نوح : 22] أي: احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة، كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة: { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } [الآية] (2) [سبأ : 33] .
وقوله: { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } أي: اجتثه من أصله، وأبطل عملهم، وأصلها (3) كما قال تعالى: { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [المائدة : 64] .
وقوله: { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } [الحشر : 2] .
وقال هاهنا: { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ }
__________
(1) في ت، ف: أ: "حين".
(2) زيادة من ف.
(3) في ت، ف، أ: "وأصله".
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
أي: يظهر فضائحهم، وما كانت تُجنّه ضمائرهم، فيجعله علانية، كما قال تعالى: { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [الطارق : 9] أي: تظهر وتشتهر (1) ، كما في الصحيحين (2) عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غَدْرَته، فيقال: هذه غَدْرَة فلان بن فلان" (3) .
وهكذا هؤلاء، يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر، ويخزيهم الله على رءوس الخلائق، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا: { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } تحاربون وتعادون في سبيلهم، [أي] (4) : أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا؟ { هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [الشعراء : 93] ، { فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [الطارق : 10] . فإذا توجهت عليهم الحجة، وقامت عليهم الدلالة، وحقت عليهم الكلمة، وأسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار (5) { قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } -وهم السادة في الدنيا والآخرة، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة، فيقولون حينئذ: { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي: الفضيحة والعذاب اليوم [محيط] (6) بمن كفر بالله، وأشرك به ما لا يضره ولا ينفعه.
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) }
يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمي أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم: { فَأَلْقَوُا السَّلَمَ } أي: أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين: { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ } كما يقولون يوم المعاد: { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام: 23]{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [المجادلة: 18].
قال الله مكذبا لهم في قيلهم ذلك: { بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } (7) أي: بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان، لمن كان متكبرًا عن آيات الله واتباع رسله.
وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، ويأتي (8) أجسادهم في قبورها من حرِّها وسمومها، فإذا كان يوم القيامة سلكت (9) أرواحهم في أجسادهم، وخلدت في نار جهنم، { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا } [فاطر: 36]، كما قال الله تعالى: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر: 46].
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) }
__________
(1) في ت: "يظهر ويستتر".
(2) في ت: "الصحيح".
(3) صحيح البخاري برقم (3188) وصحيح مسلم برقم (1735).
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) في ت، ف، أ: "لا قرار".
(6) زيادة من ف.
(7) في ت: "فبئس".
(8) في ت، أ: "وينال".
(9) في ت: "سالت".
هذا خبر عن السعداء، بخلاف ما أخبر به عن الأشقياء، فإن أولئك قيل لهم: { مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ } فقالوا معرضين عن الجواب: لم (1) ينزل شيئًا، إنما هذا (2) أساطير الأولين. وهؤلاء { قَالُوا خَيْرًا } أي: أنزل خيرا، أي: رحمة وبركة وحسنًا لمن اتبعه وآمن به.
ثم أخبروا عما وعد الله [به] (3) عباده فيما أنزله على رسله فقالوا: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ } كما قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97] ، أي: من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه في الدنيا والآخرة.
ثم أخبر بأن دار الآخرة خير، أي: من الحياة الدنيا، والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا، كما قال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ } [القصص: 80] (4) وقال تعالى: { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ } [آل عمران: 198] وقال تعالى { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [الأعلى: 17] ، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم (5) : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأولَى } [الضحى: 4] .
ثم وصفوا الدار الآخرة فقالوا (6) : { وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ }
وقوله: { جَنَّاتُ عَدْنٍ } بدل من [قوله] (7) : { دَارُ الْمُتَّقِينَ } أي: لهم في [الدار] (8) الآخرة { جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي: إقامة (9) يدخلونها { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي: بين أشجارها وقصورها، { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } كما قال تعالى: { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ (10) الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [الزخرف: 71] ، وفي الحديث: "إن السحابة لتمر بالملأ من أهل الجنة وهم جلوس على شرابهم (11) ، فلا يشتهي أحد منهم شيئًا إلا أمطرته عليهم، حتى إن منهم لمن يقول: أمطرينا كواعب أترابًا، فيكون ذلك (12) " (13) .
{ َ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ } أي: كذلك (14) يجزي الله كل من آمن به واتقاه وأحسن عمله.
ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار، أنهم (15) طيبون، أي: مخلصون من الشرك والدنس
__________
(1) في أ: "أي: لم".
(2) في أ: "هو".
(3) زيادة من ت، أ.
(4) في ت، ف، أ: "وقال الذين أوتوا العلم والإيمان" وهو خطأ.
(5) في ت، أ: "صلوات الله عليه وسلامه"، وفي ف: "صلوات الله عليه".
(6) في ت، ف، أ: "ثم وصف الدار الآخرة فقال".
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في أ: "مقامة".
(10) في ت، أ: "تشتهي" وهو خطأ.
(11) في أ: "سرائرهم".
(12) في ف: "كذلك".
(13) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وسيأتي بإسناده عند تفسير الآية: 33 من سورة النبأ.
(14) في ف، أ: "هكذا".
(15) في ت، ف، أ: "وهم".
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
وكل سوء، وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم (1) بالجنة، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت: 30 -32] .
وقد قدمنا الأحاديث الواردة في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [إبراهيم: 27] .
{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) }
يقول تعالى متهددًا للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا: هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم بقبض أرواحهم، قاله قتادة.
{ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } (2) أي: يوم القيامة وما يعاينونه (3) من الأهوال.
وقوله: { كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي: هكذا تمادى في شركهم أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين حتى (4) ذاقوا بأس الله، وحلوا فيما هم فيه من العذاب والنكال. { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ } ؛ لأنه تعالى أعذر إليهم، وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي: بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به، فلهذا أصابتهم (5) عقوبة الله على ذلك، { وَحَاقَ بِهِمْ } أي: أحاط بهم من العذاب الأليم { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي: يَسْخَرون من الرسل إذا توعدوهم بعقاب الله؛ فلهذا يقال يوم القيامة: { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [الطور: 14] .
__________
(1) في أ: "ويبشرونهم".
(2) في أ: "أو يأتيهم" وهو خطأ.
(3) في أ: "وما يعاينون".
(4) في ت: "حين".
(5) في ت، ف: "أصابهم".
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
{ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) }
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الشرك واعتذارهم محتجين بالقدر، في قولهم: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } أي: من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك، مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء (1) أنفسهم، ما لم ينزل الله به سلطانا.
ومضمون كلامهم: أنه لو كان تعالى كارهًا لما فعلنا، لأنكره علينا بالعقوبة ولما مكنا (2) منه. قال الله رادًا عليهم شبهتهم: { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي: ليس الأمر كما تزعمون أنه لم يعيره عليكم (3) ولم (4) ينكره، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار، ونهاكم عنه آكد النهي، وبعث في كل أمة رسولا أي: في كل قرن من الناس وطائفة رسولا وكلهم يدعو (5) إلى عبادة الله، وينهى (6) عن عبادة ما سواه: { أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك، منذ حدث الشرك في بني آدم، في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25] ، وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف: 45] ، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } فمشيئته تعالى الشرعية منتفية (7) ؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأما مشيئته الكونية، وهي (8) تمكينهم من ذلك قدرا، فلا حجة لهم فيها (9) لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة.
ثم إنه تعالى قد أخبر أنه عير (10) عليهم، وأنكر (11) عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل؛ فلهذا قال: { فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } أي: اسألوا (12) عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق كيف { دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [محمد: 10] ، { وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [الملك: 18] .
ثم أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم، إذا كان الله قد أراد إضلالهم، كما قال تعالى: { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } [المائدة: 41] ، وقال نوح لقومه: { وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } [هود: 34] ، وقال في هذه الآية
__________
(1) في ف: "من قبل".
(2) في ت: "ولما مكننا"، وفي ف: "ولا مكننا".
(3) في ت، أ: "لم يعير".
(4) في أ: "ولا".
(5) في ف" "يدعون".
(6) في ف: "وينهون".
(7) في ف: "منفية".
(8) في ف: "فهي".
(9) في ت، ف، أ: "فيه".
(10) في أ: "عيره".
(11) في أ: "وأنكره".
(12) في أ: "فاسألوا".
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
الكريمة: { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ } كما قال تعالى: { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ (1) فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأعراف: 186] ، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس: 96 ، 97] .
فقوله: { فَإِنَّ اللَّهَ } أي: شأنه وأمره أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ فلهذا قال: { لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ } أي: من أضله فمن الذي يهديه من بعد الله؟ أي: لا أحد { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } أي: ينقذونهم (2) من عذابه ووثاقه، { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54] .
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) }
يقول تعالى مخبرا عن المشركين: أنهم حلفوا فأقسموا { بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي: اجتهدوا في الحلف وغلظوا الأيمان على أنه { لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } أي: استبعدوا ذلك، فكذبوا (3) الرسل في إخبارهم لهم بذلك، وحلفوا على نقيضه. فقال تعالى مكذبا لهم وردا عليهم: { بَلَى } أي: بلى سيكون ذلك، { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا } (4) أي: لا بد منه، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } أي: فَلِجَهْلهم (5) يخالفون الرسل ويقعون في الكفر.
ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد، فقال: { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ } أي: للناس { الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أي: من كل شيء، و { لِيَجْزِيَ (6) الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم : 31] ، { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ } أي: في أيمانهم وأقسامهم: لا يبعث الله من يموت؛ ولهذا يدعون يوم القيامة إلى نار جهنم دعا، وتقول (7) لهم الزبانية: { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور : 14 -16] .
ثم أخبر تعالى عن قدرته (8) على ما يشاء، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وإنما أمره إذا (9) أراد شيئًا أن يقول له: "كن"، فيكون، والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة، فيكون كما يشاء، كما قال (10) { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر : 50] وقال: { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان : 28] ، وقال في هذه الآية الكريمة: { إِنَّمَا قَوْلُنَا (11) لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل : 40] ، أي: أن يأمر به دفعة (12) واحدة فإذا هو كائن،
__________
(1) في ت: "ويمدهم" وهو خطأ.
(2) في ت، ف، أ: "ينقذهم".
(3) في ت، ف، أ: "وكذبوا".
(4) في أ: "عليهم" وهو خطأ.
(5) في أ: "فبجهلهم".
(6) في ت، ف، أ: "ويجزى" وهو خطأ".
(7) في ف، أ: "فيقول".
(8) في ت: "عن قدرة".
(9) في ف: "وأنه إذا".
(10) في ف، أ: "وقال".
(11) في ت: "أمرنا" وهو خطأ.
(12) في أ: "مرة".
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
كما قال الشاعر (1) :
إذا ما أراد الله أمرًا فإنما ... يقول له: "كن"، قولة فيكون ...
أي: أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به، فإنه تعالى لا يمانع ولا يخالف، لأنه [هو] (2) الواحد القهار العظيم، الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء، فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
وقال ابن أبي حاتم: ذكر (3) الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، أخبرني عطاء: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال الله تعالى: سَبَّني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يسبني، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني، فأما تكذيبه إياي فقال: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } قال: وقلت: { بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } وأما سبه إياي فقال: { إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } [المائدة : 73] ، وقلت: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [سورة الإخلاص] (4) .
هكذا (5) ذكره موقوفا، وهو في الصحيحين مرفوعا، بلفظ آخر (6) .
{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) }
يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان، رجاء ثواب الله وجزائه.
ويحتمل أن يكون سبب نزول هذه الآية الكريمة في مُهاجرة الحبشة الذي اشتد أذى قومهم لهم بمكة، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة، ليتمكنوا من عبادة ربهم، ومن أشرافهم: عثمان بن عفان، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعفر بن أبي طالب، ابن عم الرسول (7) وأبو سلمة بن عبد الأسد (8) في جماعة قريب من ثمانين، ما بين رجل وامرأة، صديق وصديقة، رضي الله عنهم وأرضاهم. وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال: { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } قال ابن عباس والشعبي، وقتادة: المدينة. وقيل: الرزق الطيب، قاله مجاهد.
ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيرًا منها (9) في الدنيا، فإن من ترك شيئًا لله عوضه الله بما هو خير له منه (10) وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد
__________
(1) مضى البيت عند تفسير الآية: 117 من سورة البقرة.
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) في ت: "ذكره".
(4) ورواه الطبري في تفسيره (14/73) من طريق حجاج به موقوفا.
(5) في ت: "هذا".
(6) صحيح البخاري برقم (4974) ولفظه: "قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد".
(7) في ف، أ: "ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(8) في ف، أ: "عبد الأسود".
(9) في ت، ف، أ: "منه".
(10) في ت، ف، أ: "منه في الدنيا".
وحكمهم على رقاب العباد، فصاروا أمراء حكاما، وكل منهم للمتقين إماما، وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا، فقال: { وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ } أي: مما أعطيناهم في الدنيا { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي: لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله؛ ولهذا قال هُشَيْم، عن العوام، عمن حدثه؛ أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه (1) يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر (2) لك في الآخرة أفضل، ثم قرأ (3) هذه الآية: { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } (4) .
ثم وصفهم تعالى فقال: { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي: صبروا على أقل (5) من آذاهم من قومهم، متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.
__________
(1) في أ: "عطاء".
(2) في ف: "وما دخره".
(3) في أ: "يقرأ".
(4) رواه الطبري في تفسيره (14/74).
(5) في ت، ف، أ: "أذى".
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) }
قال الضحاك، عن ابن عباس: لما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. فأنزل الله: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ } [يونس : 2] ، وقال { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } يعني: أهل الكتب الماضية: أبشر كانت الرسل التي أتتكم (1) أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم، وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا؟ [و] (2) قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } (3) ليسوا من أهل السماء كما قلتم.
وهكذا روي عن مجاهد، عن ابن عباس، أن المراد بأهل الذكر: أهل الكتاب. وقاله مجاهد، والأعمش.
وقول عبد الرحمن بن زيد -الذكر: القرآن واستشهد بقوله: { إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر : 9] -صحيح، [و] (4) لكن ليس هو المراد هاهنا؛ لأن المخالف لا يرجع في إثباته بعد إنكاره إليه.
وكذا قول أبي جعفر الباقر: "نحن أهل الذكر" -ومراده أن هذه الأمة أهل الذكر-صحيح، فإن هذه الأمة أعلم من جميع الأمم السالفة، وعلماء أهل بيت الرسول، عليهم (5) السلام والرحمة، من
__________
(1) في هـ، ت، أ: "إليهم" والمثبت من الطبري. مستفاد من حاشية الشعب.
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) في ف، أ: "نوحي".
(4) زيادة من ف، أ.
(5) في ت: "عليه".
خير العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة، كعلي، وابن عباس، وبني علي: الحسن والحسين، ومحمد بن الحنفية، وعلي بن الحسين زين العابدين، وعلي بن عبد الله بن عباس، وأبي جعفر الباقر -وهو محمد بن علي بن الحسين-وجعفر ابنه، وأمثالهم وأضرابهم وأشكالهم، ممن هو متمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، وعرف لكل ذي حق حقه، ونزل كل المنزل الذي أعطاه الله ورسوله واجتمع إليه قلوب عباده المؤمنين.
والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت أن (1) الرسل الماضين (2) قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بشرًا كما هو بشر، كما قال تعالى: { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا } [الإسراء : 93 ، 94] وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } [الفرقان : 20] وقال { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ] } [الأنبياء : 8 ، 9] ، (3) وقال: { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } [الأحقاف : 9] ، وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [الكهف : 110].
ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشرًا، إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء (4) الذين سلفوا: هل كان أنبياؤهم بشرًا أو ملائكة؟
ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم { بِالْبَيِّنَاتِ } أي: بالدلالات والحجج، { وَالزُّبُرِ } وهي الكتب. قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم.
والزبر: جمع زبور، تقول العرب: زبرت الكتاب إذا كتبته، وقال تعالى: { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } [القمر : 52] وقال: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [الأنبياء : 105] .
ثم قال تعالى: { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ } يعني: القرآن، { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ } من ربهم، أي: لعلمك (5) بمعنى ما أنزل عليك، وحرصك عليه، واتباعك له، ولعلمنا بأنك (6) أفضل الخلائق وسيد ولد آدم، فتفصل (7) لهم ما أجمل، وتبين لهم ما أشكل: { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي: ينظرون لأنفسهم فيهتدون، فيفوزون (8) بالنجاة في الدارين .
__________
(1) في ت، ف: "بأن".
(2) في أ: "الماضية".
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف، أ: "بشر أن يسألوا أهل الذكر عن الأنبياء".
(5) في ت: "يعلمك".
(6) ف أ: "بأنه".
(7) في أ: "تفصل".
(8) في ت، ف: "فيفوزوا".
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
{ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) }
يخبر تعالى عن حلمه [وإمهاله] (1) وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها، ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها، مع قدرته على { أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ } أي: من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم، كما قال تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [الملك: 16 ، 17]، وقوله { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ } أي: في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها، من أسفار (2) ونحوها من الأشغال الملهية.
قال قتادة والسدي: { تَقَلُّبِهِمْ } أي: أسفارهم.
وقال مجاهد، والضحاك: { فِي تَقَلُّبِهِمْ } في الليل والنهار، كما قال تعالى: { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأعراف: 97 ، 98]. وقوله { فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي: لا يُعجزون الله على أي حال كانوا عليه.
وقوله: { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ } أي: أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم، فإنه يكون أبلغ وأشد حالة الأخذ؛ فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد؛ ولهذا قال العوفي، عن ابن عباس: { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ } يقول: إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك. وكذا روي عن مجاهد، والضحاك، وقتادة وغيرهم.
ثم قال تعالى: { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي: حيث لم يعاجلكم بالعقوبة، كما ثبت في الصحيحين "[لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم " (3) ، وفي الصحيحين] (4) إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود: 102] (5) وقال تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [الحج: 48] .
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) }
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها: جمادها وحيواناتها، ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة، فأخبر (6) أن كل ما له ظل يتفيأ
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "بما في أسفارهم".
(3) صحيح البخاري برقم (6099) وصحيح مسلم برقم (2804).
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه.
(6) في ت: "والمخبر".
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
ذات اليمين وذات الشمال، أي: بكرة وعشيا، فإنه ساجد بظله لله تعالى.
قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كلُّ شيء لله عز وجل. وكذا قال قتادة، والضحاك، وغيرهم.
وقوله: { وَهُمْ دَاخِرُونَ } أي: صاغرون.
وقال مجاهد أيضًا: سجود كل شيء فيه. وذكر الجبال قال: سجودها فيها.
وقال أبو غالب الشيباني: أمواج البحر صلاته.
ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم.
ثم قال: { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ } كما قال: { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [الرعد : 15] ، وقوله: { وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } أي: تسجد لله أي غير مستكبرين عن عبادته ، { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } أي: يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله، { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أي: مثابرين على طاعته (1) تعالى، وامتثال أوامره، وترك زواجره .
{ وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) }
__________
(1) في ف: "طاعة الله".
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
{ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) }
يُقرر تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه.
{ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا } قال ابن عباس، ومجاهد وعِكْرِمة (1) وميمون بن مِهْران، والسدي، وقتادة، وغير واحد: أي دائما.
وعن ابن عباس أيضًا: واجبًا. وقال مجاهد: خالصا. أي: له العبادة وحده ممن في السماوات والأرض، كقوله: { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } [آل عمران : 83] . هذا على قول ابن عباس وعكرمة، فيكون من باب الخبر، وأما على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب، أي: ارهبوا أن تشركوا به (2) شيئا، وأخلصوا له الطلب (3) ، كما في قوله تعالى: { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [الزمر : 3] .
ثم أخبر أنه مالك النفع والضر، وأن ما بالعبد من رزق ونعمة (4) وعافية ونصر فمن فضله
__________
(1) في ت، ف: "وعكرمة ومجاهد".
(2) في أ: "بي".
(3) في أ: "الطاعة".
(4) في ت، ف: "بالعباد من نعمة ورزق".
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
عليه (1) وإحسانه إليه.
{ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } أي: لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو، فإنكم عند الضرورات تلجئون إليه، وتسألونه وتلحون في الرغبة مستغيثين به (2) كما قال تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا } [الإسراء : 67] ، وقال هاهنا: { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ }
قيل: "اللام" هاهنا لام العاقبة. وقيل: لام التعليل، بمعنى: قيضنا لهم ذلك (3) ليكفروا، أي: يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم، وأنه المسدي إليهم النعم، الكاشف عنهم النقم.
ثم توعدهم قائلا { فَتَمَتَّعُوا } أي: اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي: عاقبة ذلك.
{ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) }
يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد، وجعلوا لها نصيبا مما رزقهم الله فقالوا: { هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ [بغير علم] (4) وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ } [الأنعام : 136] أي: جعلوا لآلهتهم نصيبًا مع الله وفضلوهم (5) أيضًا على جانبه، فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه، وائتفكوه، وليقابلنهم (6) عليه وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم، فقال: { تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ }
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، وجعلوها بنات الله، وعبدوها معه، فأخطؤوا خطأ كبيرًا في كل مقام من هذه المقامات الثلاث، فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا، ولا ولد له! ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات، وهم لا يرضونها لأنفسهم، كما قال: { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } [النجم : 21، 22] وقال هاهنا: { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ } أي: عن قولهم وإفكهم { أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [الصافات : 151 -154] .
__________
(1) في أ: "عليهم".
(2) في ت: "وتلجئون في الرغبة إليه".
(3) في أ: "قيضناهم لذلك".
(4) زيادة من "ف".
(5) في ف: "وفضلوها".
(6) في أ: "وليقابلهم".
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
وقوله: { وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } أي: يختارون لأنفسهم الذكور ويأنَفُون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، فإنه { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا } أي: كئيبا من الهم، { وَهُوَ كَظِيمٌ } ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن، { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ } أي: يكره أن يراه الناس { مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } أي: إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها، ولا يعتني بها، ويفضل أولاده الذكور عليها، { أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } أي: يئدها: وهو: أن يدفنها فيه حية، كما كانوا يصنعون في الجاهلية، أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله ؟ { أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي: بئس ما قالوا، وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوا إليه، كما قال تعالى: { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } [الزخرف : 17]، وقال هاهنا: { لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ } أي: النقص إنما ينسب إليهم، { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى } أي: الكمال المطلق من كل وجه، وهو منسوب إليه، { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُون (62) }
يخبر تعالى عن حلمه (1) بخلقه مع ظلمهم، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة، أي: لأهلك جميع دواب الأرض تبعًا لإهلاك بني آدم، ولكن الرب، جل جلاله، يحلم ويستر، وينظر { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي: لا يعاجلهم بالعقوبة؛ إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدًا.
قال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص أنه قال: كاد الجُعَل أن يعذب بذنب بني آدم، وقرأ: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا (2) مِنْ دَابَّةٍ } (3) .
وكذا رَوَى الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي عُبَيدة قال: قال عبد الله: كاد الجُعَل أن يهلك في جحره بخطيئة بني آدم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى، حدثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي، حدثنا محمد بن جابر الحنفي (4) ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة قال: سمع أبو هريرة رجلا وهو يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه (5) . قال: فالتفت إليه فقال: بلى والله، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها [هُزالا] (6) بظلم الظالم (7) .
__________
(1) في ت: "علمه".
(2) في ف، أ: "على ظهرها" وهو خطأ.
(3) رواه الطبري في تفسيره (14/85).
(4) في ت: "الجعفي".
(5) في ف: "بنفسه".
(6) زيادة من ت، ف، أ، والطبري.
(7) تفسير الطبري (14/85) وقال ابن حجر: "في إسناده محمد بن جابر اليمامي، وهو متروك".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، أنبأنا الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله (1) بن مسرح، حدثنا سليمان (2) بن عطاء، عن مسْلَمة (3) بن عبد الله، عن عمه أبي مَشْجَعة بن رِبْعي، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة، يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده، فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر" (4) .
وقوله: { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } أي: من البنات ومن الشركاء الذين هم [من] (5) عبيده، وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله.
وقوله: { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا، وإن كان ثمَّ معاد ففيه أيضا لهم الحسنى، وإخبار عن قيل من قال منهم، كقوله: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [هود : 9، 10] ، وكقوله (6) : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [فصلت : 50] ، وقوله: { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ (7) بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا [أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ] } [مريم : 77، 78] (8) وقال إخبارا عن أحد الرجلين: أنه { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ (9) مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } [الكهف : 35، 36] -فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل، بأن يجازوا على ذلك حسنا وهذا مستحيل، كما ذكر ابن إسحاق: أنه وُجد حجر في أساس الكعبة حين نقضوها ليجددوها مكتوب عليه حِكَم ومواعظ، فمن (10) ذلك: تعملون السيئات (11) ويجزون الحسنات؟ أجل كما يجتنى (12) من الشوك العنب (13) .
وقال مجاهد، وقتادة: { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } أي (14) الغلمان.
وقال ابن جرير: { أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } أي: يوم القيامة، كما قدمنا بيانه، وهو الصواب، ولله الحمد.
ولهذا قال الله تعالى رادا عليهم في تمنيهم [ذلك] (15) { لا جَرَمَ } أي: حقا لا بد منه { أَنَّ لَهُمُ النَّارَ } أي: يوم القيامة، { وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ }
__________
(1) في ت: "الوليد بن عبد الله بن عبد الله".
(2) في ت: "سفيان".
(3) في ت، ف، أ: "سلمة".
(4) ورواه ابن عدي في الكامل (3/285) من طريق الوليد بن عبد الملك به نحوه، وفيه سليمان بن عطاء مجمع على ضعفه.
(5) زيادة من "ت".
(6) في أ: "وقال".
(7) في ت: "الذين كفروا" وهو خطأ.
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في ت، ف، أ: "فقال".
(10) في ت: "في".
(11) في ف: "السوء"
(12) في ف، أ: "يجني".
(13) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/196).
(14) في أ: "إلي".
(15) زيادة من ت، ف، أ.
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير، وقتادة وغيرهم: منسيون فيها مضيعون.
وهذا كقوله تعالى: { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } [الأعراف : 51] . (1)
وعن قتادة أيضا: { مُفْرَطُونَ } أي: معجلون إلى النار، من الفَرَط وهو السابق إلى الوِرْد ولا منافاة لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار، وينسون فيها، أي: يخلدون.
{ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) }
__________
(1) في ت، ف، أ: "ننساكم كما نسيتم" وهو خطأ.
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
{ وَاللَّهُ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) }
يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رُسُلا فكُذِّبت الرسل، فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة، فلا يهيدنَّك تكذيب قومك لك، وأما المشركون الذين كذبوا الرسل، فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه، { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ } أي: هم تحت العقوبة والنكال، والشيطان وليهم، ولا يملك لهم خلاصا؛ ولا صريخ لهم ولهم عذاب أليم.
ثم قال (1) تعالى لرسوله: أنه إنما أنزل (2) عليه الكتاب ليبين للناس الذي يختلفون فيه، فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه { وَهُدًى } أي: للقلوب، { وَرَحْمَةً } أي: لمن تمسك به، { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
وكما جعل تعالى القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها، كذلك يحيي [الله] (3) الأرض بعد موتها بما ينزله (4) عليها من السماء من ماء، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي: يفهمون الكلام ومعناه.
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) }
يقول تعالى: { وَإِنَّ لَكُمْ } أيها الناس { فِي الأنْعَامِ } وهي: الإبل والبقر والغنم، { لَعِبْرَةً } أي: لآية ودلالة على قدرة خالقها وحكمته ولطفه ورحمته، { نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ } وأفرد هاهنا [الضمير] (5) عودًا على معنى النعم، أو الضمير (6) عائد على الحيوان؛ فإن الأنعام حيوانات، أي نسقيكم مما في بطن (7) هذا الحيوان.
__________
(1) في أ: "وقال".
(2) في أ: "نزل".
(3) زيادة من ت.
(4) في أ: "نزله".
(5) زيادة من ت، ف، أ.
(6) في ف، أ: "والضمير".
(7) في ف، أ: "بطون".
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
وفي الآية الأخرى: { مِمَّا فِي بُطُونِهَا } [المؤمنون : 21] ، ويجوز هذا وهذا، كما في قوله تعالى: { كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } [المدثر : 54، 55] ، وفي قوله تعالى: { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ } [النمل : 35 ، 36] أي: المال.
وقوله: { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا } أي: يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته من بين فرث ودم في باطن الحيوان، فيسري كلٌ إلى موطنه، إذا نضج الغذاء في معدته تصرف (1) منه دم إلى العروق، ولبن إلى الضرع (2) وبول إلى المثانة، وروث إلى المخرج، وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه، ولا يتغير به.
وقوله: { لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } أي: لا يغص به أحد (3) .
ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شرابا للناس سائغا (4) ، ثَنَّى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة، من ثمرات النخيل والأعناب، وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه؛ ولهذا امتن به عليهم فقال: { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } دل على إباحته شرعا قبل تحريمه، ودل على التسوية بين السَّكَر المتخذ من العنب، والمتخذ من النخل كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء، وكذا حُكْم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير والذرة والعسل، كما جاءت السنة بتفصيل ذلك، وليس هذا موضع بسط ذلك، كما قال (5) ابن عباس في قوله: { سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } قال: السَّكَر: ما حرم من ثمرتيهما، والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما. وفي رواية: السَّكر حرامه، والرزق الحسن حلاله. يعني: ما يبس منهما من تمر وزبيب، وما عمل منهما من طلاء -وهو الدِّبس (6) -وخل ونبيذ، حلال يشرب قبل أن يشتد، كما وردت السنة بذلك.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ناسب ذكر العقل هاهنا، فإنه أشرف ما في الإنسان؛ ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها؛ قال الله تعالى: { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ } [يس : 34 -36] .
{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) }
المراد بالوحي هاهنا: الإلهام والهداية والإرشاد إلى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها، ومن الشجر، ومما يعرشون. ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها، بحيث لا يكون بينها خلَل.
__________
(1) في ت، ف: "يصرف".
(2) في أ: "الضروع".
(3) في ت، ف، أ: "أحد به".
(4) في ف: "وسائغا".
(5) في ف: "قاله".
(6) الطلاء: الشراب المطبوخ من عصير العنب، وأما الدبس: فهو عسل التمر وعصارته.
ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثمرات، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى لها مذللة، أي: سهلة عليها حيث شاءت في هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة، والأودية والجبال الشاهقة، ثم تعود كل واحدة منها إلى موضعها وبيتها، لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة، بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل، فتبني الشمع من أجنحتها، وتقيء العسل من فيها (1) وتبيض الفراخ من دبرها، ثم تصبح إلى مراعيها.
وقال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا } أي: مطيعة. فجعلاه حالا من السالكة. قال ابن زيد: وهو كقول الله تعالى: { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [يس : 72] قال: ألا ترى أنهم ينقلون النحل (2) من بيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم.
والقول الأول أظهر، وهو أنه حال من الطريق، أي: فاسلكيها مذلَّلةً لك، نص عليه مجاهد. وقال ابن جرير: كلا القولين صحيح (3) .
وقد قال أبو يعلى الموصلي: حدثنا شيبان بن فَرُّوخ، حدثنا سُكَيْن (4) بن عبد العزيز، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عُمْرُ الذباب أربعون يوما، والذباب كله في النار إلا النحل" (5) .
وقوله تعالى { يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أي: ما بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة، على اختلاف مراعيها ومأكلها منها (6) .
وقوله: { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } أي: في العسل شفاء للناس من أدواء تعرض لهم. قال بعض من تكلم على الطب النبوي: لو قال فيه: "الشفاء للناس" لكان دواء لكل داء، ولكن قال { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } أي: يصلح لكل أحد من أدواء باردة، فإنه حار، والشيء يداوى بضده.
وقال مجاهد بن جَبْر (7) في قوله: { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } يعني: القرآن.
وهذا قول صحيح في نفسه، ولكن ليس هو الظاهر هاهنا من سياق الآية؛ فإن الآية إنما ذكر فيها العسل، ولم يتابع مجاهد على قوله هاهنا، وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى: { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } الآية [الإسراء : 82] . وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [يونس : 57] .
والدليل على أن المراد بقوله تعالى: { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } هو العسل -الحديثُ الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما (8) من رواية قتادة، عن أبي المتوكل علي بن داود الناجي، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استَطْلَق بطنُه. فقال: "اسقه عسلا". فسقاه عسلا ثم جاء فقال: يا رسول الله، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا! قال: "اذهب فاسقه عسلا". فذهب فسقاه، ثم جاء فقال: يا رسول الله، ما زاده إلا استطلاقا! فقال رسول
__________
(1) في ت: "فمها".
(2) في ت، ف، أ: "ينتقلون بالنحل".
(3) في ت، ف: "متجه".
(4) في ت، ف: "مسكين".
(5) مسند أبي يعلى (7/231) وحسنه البوصيري كما في حاشية المطالب العالية (2/ 296).
(6) في أ: "منه".
(7) في أ: "جبير".
(8) في ف: "صحيحيهما".
الله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله، وكذب بطن أخيك! اذهب فاسقه عسلا". فذهب فسقاه فبرئ (1) .
قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات، فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت، فأسرعت في الاندفاع، فزاد إسهاله، فاعتقد (2) الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع، ثم سقاه فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن استمسك بطنه، وصلح مزاجه، واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام (3) .
وفي الصحيحين، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل. هذا (4) لفظ البخاري (5) .
وفي صحيح البخاري: من حديث سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشفاء في ثلاثة: في شَرْطةِ مِحْجَم، أو شربة عسل، أو كيَّةٍ بنار، وأنهى أمتي عن الكي" (6) .
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد الرحمن بن الغَسِيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، سمعت جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن كان في شيء من أدويتكم، أو يكونُ في شيء من أدويتكم خير: ففي شرطة مِحْجَم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي".
ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة، عن جابر، به (7) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا عبد الله، أنبأنا سعيد بن أبي أيوب، حدثنا عبد الله بن الوليد، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر الجُهَني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث إن كان في شيء شفاء: فشَرْطة مِحْجَم، أو شربة عسل، أو كيَّة تصيب ألما، وأنا أكره الكي ولا أحبه" (8) .
ورواه الطبراني عن هارون بن مَلّول (9) المصري، عن أبي عبد الرحمن المقرئ، [عن حيوة بن شريح] (10) عن عبد الله بن الوليد، به. ولفظه: "إن كان في شيء شفاء: فشرطة محجم"... وذكره (11) وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد (12) بن ماجه القزويني في سننه: حدثنا علي بن سلمة
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5716) وصحيح مسلم برقم (2217).
(2) في ف: "واعتقد".
(3) انظر: زاد المعاد لابن القيم (4/33-36) وفتح الباري لابن حجر (10/169، 170).
(4) في ف: "وهذا".
(5) صحيح البخاري برقم (5682) وصحيح مسلم برقم (1474).
(6) صحيح البخاري برقم (5680، 5681).
(7) صحيح البخاري برقم (5683) وصحيح مسلم برقم (2205).
(8) المسند (4/146).
(9) في هـ، ف: "مملول" وفي أ: "سلول" والمثبت من المعجم للطبراني.
(10) زيادة من المعجم الكبير للطبراني.
(11) المعجم الكبير (17/188) والمعجم الأوسط برقم (9335) ومجمع البحرين برقم (4165).
تنبيه: وقع في المعجم الأوسط عن أبي عبد الرحمن المقري، عن سعيد بن أبي أيوب، عن عبد الله بن الوليد به، وقال: "لم يروه عن عبد الله بن الوليد إلا سعيد" وقد رايته في المعجم الكبير رواه عنه شريح، فلا أدري هل هو خطأ أم لا؟ والله أعلم.
(12) في ت، ف: "يزيد".
-هو اللبقي-حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله -هو ابن مسعود-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن" (1) .
وهذا إسناد جيد، تفرد بإخراجه ابن ماجه مرفوعًا، وقد رواه ابن جرير، عن سفيان بن وَكِيع، عن أبيه، عن سفيان -هو الثوري-به موقوفا (2) : وَلَهو (3) أشبه.
وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صَحْفَة، وليغسلها بماء السماء، وليأخذ من امرأته درهما عن طيب نفس منها، فليشتر به عسلا فليشربه بذلك، فإنه شفاء (4) . أي: من وجوه، قال الله: { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ } [الإسراء : 82] وقال: { وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا } [ق : 9] وقال: { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } [النساء : 4] ، وقال في العسل: { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ }
وقال ابن ماجه أيضًا: حدثنا محمود بن خِدَاش، حدثنا سعيد بن زكريا القرشي، حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي، عن عبد الحميد بن سالم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لَعِق العسل ثلاث غَدَوَاتٍ في كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء" (5) .
الزبير بن سعيد متروك.
وقال ابن ماجه أيضًا: حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سَرْح الفريابي، حدثنا عمرو بن بكر (6) السَّكْسَكي، حدثنا إبراهيم بن أبي عبَلة. سمعت أبا أبي ابن أم حَرَام -وكان قد صلى القبلتين-يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بالسَّنَى والسَّنُّوت، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام". قيل: يا رسول الله، وما السام؟ قال: "الموت".
قال عمرو: قال ابن أبي عبلة: "السَّنُّوت": الشِّبْتُ. وقال آخرون: بل هو العسل الذي [يكون] (7) في زِقَاق السمن، وهو قول الشاعر:
هُمُ السَّمْنُ بالسَّنُّوت لا ألْسَ فيهم ... وَهُمْ يَمنَعُونَ الجارَ أنْ يُقَرَّدا ...
كذا رواه ابن ماجه (8) . وقوله: "لا ألْسَ فيهم" أي: لا خلط. وقوله: "يمنعون الجار أن يقَرَّدا"، [أي يضطهد ويظلم] (9) .
وقوله: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي: إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامه والاجتناء من سائر الثمار، ثم جمعها للشمع والعسل، وهو من أطيب
__________
(1) سنن ابن ماجه رقم (3452).
(2) تفسير الطبري (14/ 94) وقال الدارقطني في العلل: "الموقوف أصح".
(3) في ت، ف: "وهو".
(4) قال ابن حجر في الفتح (10/ 170): "أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير بسند حسن".
(5) سنن ابن ماجة برقم (3450) وهو منقطع أيضًا، عبد الحميد بن سالم لم يسمعه من أبي هريرة.
(6) في ف: "بكير".
(7) زيادة من ت، ف، أ، وسنن ابن ماجة.
(8) سنن ابن ماجه برقم (3457) وقال البوصيري في الزوائد (3/123): "إسناده ضعيف" ثم أعله بعمرو السكسكي.
(9) زيادة من ت، ف، أ.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
الأشياء، { لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها، فيستدلون بذلك على أنه [الفاعل] (1) القادر، الحكيم العليم، الكريم الرحيم.
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) }
يخبر تعالى عن تصرفه في عباده، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم، ثم بعد ذلك يتوفاهم، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهَرَم -وهو الضعف في الخلقة-كما قال الله تعالى: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [الروم : 54] .
وقد روي عن علي، رضي الله عنه، في أرذل العمر [قال] (2) خمس وسبعون سنة. وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف وسوء الحفظ وقلة العلم؛ ولهذا قال: { لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا } (3) أي: بعد ما كان عالمًا أصبح لا يدري شيئًا من الفَنَد والخرف؛ ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية:
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور، عن شُعَيب، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: "أعوذ بك من البخل والكسل، والهرم وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات".
ورواه مسلم، من حديث هارون الأعور، به (4) .
وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته (5) المشهورة:
سَئمتُ تَكَاليفَ الحيَاة ومَنْ يعشْ ... ثمانينَ عاما -لا أبَالك-يَسْأم ...
رَأيتُ المَنَايا خَبط عَشْواء من تصِبْ ... تمتْه ومَنْ تُخْطئ يُعَمَّرْ فَيهْرَمِ (6)
{ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) }
يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه (7) لله من الشركاء، وهم يعترفون (8) أنها عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبياتهم في حجهم: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك". فقال تعالى منكرا عليهم: إنكم (9) لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم، فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيده له في الإلهية والتعظيم، كما قال في الآية الأخرى: { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } (10) الآية [الروم : 28].
__________
(1) زيادة من ف، أ.
(2) زيادة من ت، ف، أ.
(3) في ت: "من بعد" وهو خطأ.
(4) صحيح البخاري برقم (4707) وصحيح مسلم برقم (2706) وليس في الصحيح: "والهرم".
(5) في ف: "قصيدته".
(6) ديوان زهير بن أبي سلمي (ص 29).
(7) في ت، ف: "يزعمون".
(8) في ت، ف، أ: "يعرفون".
(9) في ت، ف، أ: "أنتم".
(10) في ت: "فيما".
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
قال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية: يقول: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني، فذلك قوله: { أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }
وقال في الرواية الأخرى، عنه: فكيف ترضون لي مالا ترضون (1) لأنفسكم.
وقال مجاهد في هذه الآية: هذا مثل الآلهة الباطلة (2) .
وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله، فهل منكم من أحد شارك (3) مملوكه في زوجته وفي فراشه، فتعدلون بالله خلقه وعباده؟ فإن لم ترض لنفسك هذا، فالله (4) أحق أن ينزه منك.
وقوله: { أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي: أنهم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فجحدوا نعمته (5) وأشركوا معه غيره.
وعن الحسن البصري قال: كتب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري: واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فَضَّل بعض عباده على بعض في الرزق، بل (6) يبتلي به كلا فيبتلي من بَسَط له، كيف شُكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله؟ رواه ابن أبي حاتم.
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) }
يذكر تعالى نعمه (7) على عبيده، بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجًا من جنسهم وشكلهم [وزيهم] (8) ، ولو جعل الأزواج من نوع آخر لما حصل ائتلاف ومودة ورحمة، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورًا وإناثا، وجعل الإناث أزواجا للذكور.
ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة، وهم أولاد البنين. قاله ابن عباس، وعكرمة، والحسن، والضحاك، وابن زيد.
قال شعبة، عن أبى بشر، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: { بَنِينَ وَحَفَدَةً } هم الولد وولد الولد.
وقال سُنَيْد: حدثنا حجاج عن أبي بكر، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس، قال: بنوك حين يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك. قال جميل:
حفَد الولائد حَوْلهُن وأسلمت ... بِأكُفِّهن أزِمَّةَ الأجْمَال (9)
__________
(1) في ت: "ترضوه".
(2) في ت، ف، أ: "الباطل".
(3) في ف: "يشارك".
(4) في ف: "فإن الله".
(5) في ف، أ: "بنعمة الله".
(6) في ت، ف، أ: "بلاء".
(7) في ف، أ: "نعمته".
(8) زيادة من ت، ف، أ.
(9) البيت في تفسير الطبري (14/ 98) ونسبه لحميد.
وقال مجاهد: { بَنِينَ وَحَفَدَةً } ابنه وخادمه. وقال في رواية: الحفدة: الأنصار والأعوان والخدام.
وقال طاوس: الحفدة: الخدم (1) وكذا قال قتادة، وأبو مالك، والحسن البصري.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعْمَر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة أنه قال: الحفدة: مَنْ خَدَمَك من ولدك وولد ولدك (2) .
قال الضحاك: إنما كانت العرب يخدمها بنوها.
وقال العوفي، عن ابن عباس قوله: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً } يقول: بنو امرأة الرجل، ليسوا منه. ويقال: الحفدة: الرجل يعمل بين يدي الرجل، يقال: فلان يحفد لنا قال: ويزعم (3) رجال أن الحفدة أخْتَان الرجل.
وهذا [القول] (4) الأخير الذي ذكره ابن عباس قاله ابن مسعود، ومسروق، وأبو الضُّحى، وإبراهيم النَّخَعيّ، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد، والقُرَظي. ورواه عكرمة، عن ابن عباس.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هم الأصهار.
قال ابن جرير: وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى: "الحَفْد" وهو الخدمة، الذي منه قوله في القنوت: "وإليك نسعى ونحفد"، ولما كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والأصهار والخدم (5) فالنعمة حاصلة بهذا كله؛ ولهذا (6) قال: { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً }
قلت: فمن جعل { وَحَفَدَةً } متعلقا بأزواجكم فلا بد أن يكون المراد الأولاد، وأولاد الأولاد، والأصها ر؛ لأنهم أزواج البنات، وأولاد الزوجة، وكما قال (7) الشعبي والضحاك، فإنهم غالبا يكونون تحت كنف الرجل وفي حجْره وفي خدمته. وقد يكون هذا هو المراد من قوله [عليه الصلاة ] (8) والسلام في حديث بَصرة بن أكثم: "والولد عبد لك" رواه أبو داود (9) .
وأما من جعل الحَفَدة هم الخدم فعنده أنه معطوف على قوله: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي: وجعل لكم الأزواج والأولاد (10) .
{ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } من المطاعم والمشارب.
ثم قال تعالى منكرا على من أشرك في عبادة المنعم غيره: { أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } وهم (11) : الأصنام والأنداد، { وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } أي: يسترون نعم الله عليهم ويضيفونها إلى غيره.
وفي الحديث الصحيح: "إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ممتنا عليه" ألم أزوجك؟ ألم
__________
(1) في ت: "الخدام".
(2) تفسير عبد الرزاق (1/ 309).
(3) في ف: "وزعم".
(4) زيادة من أ.
(5) في ت، ف: "والخدم".
(6) في ف: "لهذا".
(7) في ت، ف: "قاله".
(8) زيادة من ف، أ.
(9) سنن أبي داود برقم (2131).
(10) في أ: "وجعل لكم خدامًا".
(11) في ت: "وهو".
أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتَرْبع (1) ؟" (2) .
__________
(1) في ت، ف: "وترتع".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (2968) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) }
يقول تعالى إخبارا عن المشركين الذين عبدوا معه غيره، مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك له، ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان { مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئًا } أي: لا يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر، ولا يملكون ذلك، أي: ليس لهم (1) ذلك ولا يقدرون عليه لو أرادوه، ولهذا قال تعالى { فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ } أي: لا تجعلوا (2) له أندادًا وأشباها (3) وأمثالا { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي: أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا الله (4) وأنتم بجهلكم تشركون به غيره.
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) }
قال العوفي، عن ابن عباس: هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن: وكذا قال قتادة، واختاره ابن جرير.
والعبد (5) المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر والمرزوق الرزق الحسن، فهو ينفق منه سرا وجهرا، هو (6) المؤمن.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى، فهل يستوي هذا وهذا؟
ولما كان الفرق ما بينهما بينا واضحا ظاهرًا لا يجهله إلا كل غبي، قال [الله] (7) تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ثم قال الله تعالى] (8)
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) }
قال مجاهد: وهذا أيضًا المراد به الوثن والحق تعالى، يعني: أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق
__________
(1) في ت، ف: "إليهم".
(2) في ت: "أي تجعلون"،
(3) في ف: "أشباحًا وأندادًا".
(4) في ف: "إلا هو".
(5) في ت، ف: "فالعبد".
(6) في ت: "فهو".
(7) زيادة من ت، ف، أ.
(8) زيادة من "أ".
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
بخير ولا بشيء (1) ، ولا يقدر على شيء بالكلية، فلا مقال، ولا فعال، وهو مع هذا { كَلٌّ } أي: عيال وكلفة على مولاه، { أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ } أي: يبعثه { لا يَأْتِ بِخَيْرٍ } ولا ينجح مسعاه { هَلْ يَسْتَوِي } من هذه صفاته، { وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } أي: بالقسط، فقاله حق وفعاله مستقيمة (2) { وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وبهذا قال السدي، وقتادة وعطاء الخراساني. واختار هذا القول ابن جرير.
وقال العوفي، عن ابن عباس: هو مثل للكافر والمؤمن أيضًا، كما تقدم.
وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن الصباح البزار، حدثنا يحيى بن إسحاق، السَّيْلحيني (3) ، حدثنا حماد، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم (4) عن إبراهيم، عن (5) عِكْرِمة، عن يَعْلَى بن أمية، عن ابن عباس في قوله: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } نزلت في رجل من قريش وعبده. وفي قوله: { [وَضَرَبَ اللَّهُ] مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ [لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ] } (6) (7) إلى قوله: { وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } قال: هو عثمان بن عفان. قال: والأبكم الذي أينما يوجهه لا يأت بخير قال هو: مولى لعثمان بن عفان، كان عثمان ينفق عليه ويكفله (8) ويكفيه المئونة، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف، فنزلت فيهما (9) .
{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) }
يخبر تعالى عن كماله وقدرته على الأشياء، في علمه غيب السماوات والأرض، واختصاصه بذلك، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه [الله] (10) تعالى على ما يشاء -وفي قدرته التامة (11) التي لا تخالف ولا تمانع، وأنه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن، فيكون، كما قال: { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر : 50] أي: فيكون ما يريد كطرف العين. وهكذا قال هاهنا: { وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كما قال: { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان : 28] .
ثم ذكر تعالى منَّتَه على عباده، في إخراجه (12) إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، ثم بعد
__________
(1) في ت، أ: "
ولا بشر".
(2) في ت: "مستقيم".
(3) في أ: "السلحييني".
(4) في ت: "خيثم".
(5) في ف: "ابن".
(6) زيادة من ت، ف، أ.
(7) زيادة من ت، ف، أ.
(8) في ت، ف:
"ويكلفه".
(9) تفسير الطبري (14/ 101).
(10) زيادة من ت.
(11) في ف: "العامة".
(12) في ت: "إخراجهم".
هذا يرزقهم (1) تعالى السمع الذي به يدركون الأصوات، والأبصار اللاتي بها يحسون المرئيات، والأفئدة -وهي العقول-التي مركزها القلب على الصحيح، وقيل: الدماغ والعقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعها. وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلا قليلا كلما كبر زِيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده.
وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان، ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه، كما جاء في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بمثل (2) أداء ما افترضت عليه. ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي (3) يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطيته، ولئن دعاني لأجيبنه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه" (4) .
فمعنى الحديث: أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عز وجل، فلا يسمع إلا الله، ولا يبصر إلا الله، أي: ما شرعه الله له، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عز وجل، مستعينا بالله في ذلك كله؛ ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح، بعد قوله: "ورجله التي يمشي بها": "فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي"؛ ولهذا قال تعالى: { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } كما قال في الآية الأخرى: { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الملك : 23 ، 24] .
ثم نبه تعالى عباده إلى (5) النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض، كيف جعله يطير بجناحيه بين السماء والأرض، في جو السماء ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته تعالى، الذي جعل فيها قوًى تفعل ذلك، وسخر الهواء يحملها ويسر الطير لذلك، كما قال تعالى في سورة الملك: { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } [الملك : 19 ] . وقال هاهنا: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
__________
(1) في ت: "يرزقهم الله".
(2) في ت، ف، أ: "بأفضل".
(3) في ت: "الذي".
(4) صحيح البخاري برقم (6502).
(5) في ف: "على".
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) }
يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده، بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم، يأوون إليها، ويستترون بها، وينتفعون بها سائر (1) وجوه الانتفاع، وجعل لهم أيضًا { مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا } أي: من الأدم، يستخفون حملها في أسفارهم، ليضربوها (2) لهم في إقامتهم في السفر والحضر ولهذا قال: { تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا } أي: الغنم، { وَأَوْبَارِهَا } أي: الإبل، { وَأَشْعَارِهَا } أي: المعز -والضمير عائد على الأنعام-{ أَثَاثًا } أي: تتخذون منه أثاثا، وهو المال. وقيل: المتاع. وقيل: الثياب والصحيح أعم من هذا كله، فإنه يتخذ من (3) الأثاث البسط والثياب وغير ذلك، ويتخذ مالا وتجارة.
وقال ابن عباس: الأثاث: المتاع. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وعطية العوفي، وعطاء الخراساني، والضحاك، وقتادة.
وقوله: { إِلَى حِينٍ } أي: إلى أجل مسمى ووقت (4) معلوم.
وقوله: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا } قال قتادة: يعني: الشجر.
{ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } أي: حصونا ومعاقل، كما { جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } وهي الثياب من القطن والكتان والصوف، { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } كالدروع من الحديد المصفَّح والزَّرد وغير ذلك، { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي: هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم، وما تحتاجون إليه، ليكون -عونًا لكم على طاعته وعبادته، { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ }
هكذا فسره الجمهور، وقرؤوه بكسر اللام من " تسلمون " أي: من الإسلام.
وقال قتادة في قوله: { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ] } (5) هذه السورة تسمى سورة النِّعَم.
وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام، عن حَنْظَلة السدوسي، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها "تَسلَمون" بفتح اللام، يعني من الجراح (6) . رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، عن عباد، وأخرجه ابن جرير من الوجهين، وردَّ هذه القراءة (7) .
وقال عطاء الخراساني: إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب، ألا ترى إلى قوله تعالى: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } وما جعل [لكم] (8) من السهل أعظم وأكثر (9) ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال (10) ؟ ألا ترى إلى قوله: { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ }
__________
(1) في ف: "سرائر".
(2) في ت: "لتضربونها".
(3) في ت، ف: "منه".
(4) في ت، ف، أ: "أي إلى وقت".
(5) زيادة من ت، ف، أ.
(6) في ت، ف: "يعني من الجراح بفتح اللام".
(7) تفسير الطبري (14/ 104).
(8) زيادة من ف، أ.
(9) في ت، ف: "واكبر".
(10) في ف: "جبل".