الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي
وروى الإمام أحمد في مسنده، من طريق عَمْرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوَارِيّ، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قَالَ إبْلِيسُ: يَا رَبِّ، وَعِزَّتكَ لا أزَالُ أغْوي [عِبَاَدكَ] (1) ما دامت أرْوَاحُهُمْ فِي أجْسَادِهِمْ. فَقَالَ اللهُ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي ولا أزَالُ أغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي" (2) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثني، حدثنا عُمر بن أبي خليفة، سمعت أبا بَدْر يحدث عن ثابت، عن أنس قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله (3) ، أَذْنَبْتُ ذَنْبًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَذْنَبْتَ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ". [قال: فإني أستغفر، ثم أعود فأُذْنِب. قال (4) فَإذا (5) أَذْنَبْتَ فَعُدْ فَاسْتَغْفِرْ رَبَّكَ] (6) " فقالها في الرابعة فقال: "اسْتَغْفِرْ رَبَّكَ حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ المحسُورُ" (7) .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه (8) .
وقوله: { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ } أي: لا يغفرها أحد سواه، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا محمد بن مُصْعَب، حدثنا سلام بن مسكين، والمبارك، عن الحسن، عن الأسود بن سَرِيع؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بأسير فقال: اللهمُ إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَرَفَ الْحقَّ لأهْلِهِ" (9) .
وقوله: { وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي: تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقْلِعِين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه، كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي، رحمه اللهُ، في مسنده:
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره قالوا: حدثنا أبو يحيى عبد الحميد الحِمَّانيّ، عن عثمان بن واقد عن أبي نُصَيْرَةَ، عن مولى لأبي بكر، عن أبي بكر، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً".
ورواه أبو داود، والترمذي، والْبَزَّار في مسنده، من حديث عثمان بن واقد -وقد وثقه يحيى بن معين-به وشيخه أبو نصيرة (10) الواسطي واسمه مسلم بن عبيد، وثقه الإمام أحمد وابن حبان وقول علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك، فالظاهر إنما [هو] (11) لأجل جهالة مولى أبي بكر، ولكن جهالة مثله لا تضر؛ لأنه تابعي كبير، ويكفيه نسبته إلى [أبي بكر] (12) الصديق، فهو حديث حسن (13) والله أعلم.
__________
(1) عن المسند، وفي جـ، ر، أ: "أغويهم".
(2) المسند (3/76).
(3) في جـ، ر: "يا رسول الله إني".
(4) في جـ، ر: "فقال".
(5) في أ، و: "إذا".
(6) زيادة من جـ، ر، ومسند البزار.
(7) مسند البزار برقم (3249) "كشف الأستار".
(8) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (7090) من طريق عمر بن أبي خليفة به. وقال الهيثمي في المجمع (10/201): "رواه البزار وفيه بشارة بن الحكم الضبي ضعفه غير واحد. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به وبقية رجاله وثقوا".
(9) المسند (3/345).
(10) في جـ: "أبو بصيرة"، وفي ر: "أبو نصر".
(11) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(12) زيادة من جـ، أ.
(13) مسند أبي يعلى (1/124) وسنن أبي داود برقم (1514) وسنن الترمذي برقم (3559) ومسند البزار برقم (93).
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
وقوله: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عُمَير: { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن من تاب تاب الله عليه.
وهذا كقوله تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [التوبة:104] وكقوله (1) { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء:110] ونظائر هذا كثيرة جدا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أخبرنا جرير، حدثنا حبان -هو ابن زيد الشَّرْعَبيّ-عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال-وهو على المنبر-: "ارْحَمُوا تُرْحَمُوا، واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ، وَيْلٌ لأقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ للْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصرونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ".
تفرد به أحمد، رحمه الله (2) .
ثم قال تعالى -بعد وصفهم بما وصفهم به-: { أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ } أي: جزاؤهم على هذه الصفات مغفرة من الله (3) وجنات { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي: من أنواع المشروبات { خَالِدِينَ فِيهَا } أي: ماكثين فيها { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } يمدح تعالى الجنة.
{ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) }
__________
(1) في أ: "قوله".
(2) المسند (2/165).
(3) في و: "من ربهم".
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
{ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) }
يقول تعالى مخاطبا عباده (1) المؤمنين الذين أُصِيبوا يومَ أُحُد، وقُتِل منهم سبعون: { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } أي: قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين؛ ولهذا قال: { فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } .
ثم قال: { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ } يعني: القرآن فيه بيان للأمور على جليتها، وكيف كان الأممُ الأقدمون مع أعدائهم { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } يعني: القرآن فيه خَبَرُ ما قبلكم و { هُدًى } لقلوبكم و { مَوْعِظَةٌ } أي: زاجر [عن المحارم والمآثم] (2) .
ثم قال مسليا للمؤمنين: { وَلا تَهِنُوا } أي: لا تَضعفوا بسبب ما جرى { وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
__________
(1) في أ: "لعباده".
(2) زيادة من جـ، ر.
أي: العاقبة والنّصرة لكم أيها المؤمنون.
{ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } أي: إن كنتم قد أصابتكم جراحٌ وقُتل منكم طائفةٌ، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } أي: نُديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت العاقبة لكم لما لنا في ذلك من الحكم (1) ؛ ولهذا قال تعالى: { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } قال ابن عباس: في مثل هذا لنَرَى، أي: من يَصبر على مناجزة الأعداء { وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } يعني: يُقْتَلُون في سبيله، ويَبْذُلون مُهَجهم في مرضاته. { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } أي: يكفر عنهم من ذنوبهم، إن كان لهم ذنوب وإلا رُفعَ لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به، وقوله: { وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } أي: فإنهم إذا ظفروا بَغَوا وبَطروا فيكون ذلك سَبَبَ دمارهم وهلاكهم ومَحْقهم وفنائهم.
ثم قال: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } أي: أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تُبْتَلوا بالقتال والشدائد، كما قال تعالى في سورة البقرة: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا [حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (2) } [البقرة:214] وقال تعالى: { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ] (3) } [العنكبوت:1-3] ؛ ولهذا قال هاهنا: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } أي: لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تُبْتَلَوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقارنة الأعداء.
وقوله: { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } أي: قد كنتم -أيها المؤمنون-قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو وتتحرقون عليهم، وتودون مناجزتهم ومصابرتهم، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه، فدونَكم فقاتلوا وصابروا.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَمَنَّوْا (4) لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا الله الْعَافِيَةَ، فَإذَا لقيتموهم فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ" (5) .
ولهذا قال: { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } يعني: الموت شاهدتموه (6) في لَمَعان السيوف وحدّ الأسِنّة واشتباك الرِّماح، وصفوف الرجال للقتال.
والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخْييل، وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس (7) كما تَتَخَيل الشاة صداقة الكبش وعداوة الذئب.
__________
(1) في أ: "الحكمة".
(2) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(3) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(4) في هـ: "تتمنوا"، والمثبت من جـ، ر، ومسلم.
(5) صحيح البخاري معلقا برقم (3021) وصحيح مسلم برقم (1741).
(6) في و: "يعني شاهدوه".
(7) في جـ: "في المحسوس"، وفي ر، أ، و: "من المحسوس".
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) }
لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أُحُد، وقُتِل من قتل منهم، نادى الشيطان: ألا إن محمدًا قد قُتل. ورجع ابن قَمِيئَةَ إلى المشركين فقال لهم: قتلتُ محمدًا. وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَشَجَّه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله قد قُتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قَصَّ الله عن كثير من الأنبياء، عليهم السلام، فحصل وهَن وضعف وتَأخر عن القتال ففي ذلك أنزل الله [عز وجل] (1) على رسوله صلى الله عليه وسلم: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } أي: له أسْوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه.
قال ابن أبي نَجيح، عن أبيه، أنّ رجلا من المهاجرين مَر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان أشعرتَ أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قُتِل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد [صلى الله عليه وسلم] (2) قد قُتِل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } رواه [الحافظ أبو بكر] (3) البيهقي في دلائل النبوة (4) .
ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف: { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } أي: رجعتم القَهْقرى { وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } أي: الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه، واتبعوا رسوله حيا وميتا.
وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن (5) وغيرها من كتب الإسلام من طُرق متعددة تفيد القطْع، وقد ذكرت ذلك في مُسْندي الشيخين أبي بكر وعُمَرَ، رضي الله عنهما؛ أن الصدّيق -رضي الله عنه-تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم (6) .
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بُكَير، حدثنا الليث، عن عُقيل عن ابن شهاب، أخبرني أبو سَلَمة؛ أن عائشة، رضي الله عنها، أخبرته أن أبا بكر، رضي الله عنه، أقبل على فَرَس من مَسْكنه بالسَّنْح (7) حتى نزل فدخل المسجد، فلم يُكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمَّم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) زيادة من و.
(2) زيادة من ر.
(3) زيادة من و.
(4) (2/248) من طريق آدم بن أبي إياس عن ورقاء عن ابن أبي نجيح به.
(5) في جـ، ر، أ، و: "السنن والمسانيد".
(6) انظر: البداية والنهاية (5/213) ودلائل النبوة للبيهقي (7/215-217).
(7) في ر: "بالسيح" وهو خطأ، والمثبت من البخاري (4452، 4453) وهو الصواب.
وهو مُغَشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه [صلى الله عليه وسلم] (1) ثم أكب عليه وقَبَّله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي. والله لا يجمع الله عليك موْتَتَين؛ أما الموتة التي كُتبت عليك فقد مُتَّها.
وقال الزهري: وحدثني أبو سَلمة عن ابن عباس، أن أبا بكر خرج وعمر يُحَدِّث (2) الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمرُ أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عُمَرَ، فقال أبو بكر: أما بعد، مَنْ كانَ يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حَيّ لا يموت، قال الله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } إلى قوله: { وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } قال: فوالله لكَأنّ الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس منه (3) كلهم، فما سمعها (4) بشر من الناس إلا تلاها (5) .
وأخبرني سعيد بن المُسَيَّب أن عُمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فَعقرتُ حتى ما تقلني رجلاي (6) وحتى هَوَيتُ إلى الأرض (7) .
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القنَّاد، حدثنا أسباط بن نصر، عن سماك بن حَرْب، عن عكْرمة، عن ابن عباس أن عليا كان يقول في حياة رسول الله: { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، والله إني لأخوه، ووليُّه، وابن عمه، ووارثه فمن أحق به مني؟ (8) .
وقوله: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا } أي: لا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدةَ التي ضربها الله له؛ ولهذا قال: { كِتَابًا مُؤَجَّلا } كقوله (9) { وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ } [فاطر:11] وكقوله { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } [الأنعام:2].
وهذه الآية فيها تشجيع للجُبَناء وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام والإحجام لا يَنْقُص من العمر ولا يزيد فيه كما قال ابن أبي حاتم:
حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال: سمعت أبا معاوية، عن الأعمش، عن حبيب بن صُهبان، قال: قال رجل من المسلمين (10) -وهو حُجْرُ بن عَدِيّ-: ما يمنعكم أن تعبُروا إلى هؤلاء العدو، هذه (11) النطفة؟ -يعني دِجْلَة-{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا } ثم أقحم فرسه دجلة فلما أقحم أقحم الناس فلما رآهم العدوّ قالوا: ديوان، فهربوا (12) (13) .
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في جـ، ر، أ، و: "يكلم".
(3) في جـ، أ، و: "فتلاها منه الناس" في ر: "فتلاها الناس منه".
(4) في جـ، ر، أ، و: "أسمع".
(5) في جـ، ر، أ، و: "يتلوها".
(6) في و: "رجلان".
(7) صحيح البخاري برقم (4452، 4453، 4454).
(8) ورواه أبي حاتم في تفسيره (2/581) والحاكم في المستدرك (3/126) من طريق عمرو بن حماد بن طلحة به. قال الهيثمي في المجمع (9/134): "رجاله رجال الصحيح".
(9) في جـ: "وكقوله".
(10) في جـ: "للمسلمين".
(11) في أ، و: "وهذه".
(12) في جـ: "وهربوا".
(13) تفسير ابن أبي حاتم (2/584).
وقوله: { وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي: من كان عمله للدنيا فقد نال منها ما قدّرَه الله له، ولم يكن له في الآخرة [من] (1) نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا كما قال: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [الشورى:20] وقال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [الإسراء: 18 ، 19] وهكذا قال هاهنا: { وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } أي: سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شُكْرهم وعملهم.
ثم قال تعالى -مسليًا للمسلمين (2) عما كان وقع في نفوسهم يوم أُحُد-: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } قيل: معناه: كم من نبي قُتِل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير. وهذا القول هو اختيار ابن جرير، فإنه قال: وأما الذين قرؤوا: { قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم، وإنما نفي الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل.
قال: ومن قرأ { قَاتَلَ } فإنه اختار ذلك لأنه قال: لو قتلوا (3) لم يكن لقوله: { فَمَا وَهَنُوا } وجه معروف؛ لأنهم يستحيل أن يُوصَفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا.
ثم اختار قراءة من قرأ { قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } ؛ لأن الله [تعالى] (4) عاتب بهذه الآيات والتي (5) قبلها من انهزم يوم أحد، وتركوا القتال أو سمعوا الصائح يصيح: "إن (6) محمدا قد قتل". فعذلهم الله على فرارهم وترْكِهم القتال فقال لهم: { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ } أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم وانقلبتم على أعقابكم؟.
وقيل: وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير (7) .
وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولا آخر، [فإنه] (8) قال: أي وكأين من نبي أصابه القتل، ومعه ربيون، أي: جماعات فما وهنوا بعد نبيهم، وما ضعفوا عن عدوهم، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم، وذلك الصبر، { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } .
فجعل قوله: { مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } حالا وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه، وله اتجاه لقوله: { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ } الآية، وكذلك حكاه الأموي في مغازيه، عن كتاب محمد بن إبراهيم، ولم يقل (9) غيره.
وقرأ بعضهم: { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } قال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زرّ، عن ابن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ، ر، أ، و: "للمؤمنين".
(3) في جـ: "لأنه لو قتلوا"، وفي ر: "فإنه قال لو قتلوا".
(4) زيادة من و.
(5) في و: "الذي".
(6) في ر: "بأن".
(7) في و: "وقيل: وكم من نبي قتل معه ربيون كثير".
(8) زيادة من جـ.
(9) في جـ، أ، و: "ولم يحك".
مسعود { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } أي: ألوف.
وقال ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جُبَير، وعِكْرِمة، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، والرَّبِيع، وعطاء الخراساني: الربيون: الجموع الكثيرة.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن الحسن: { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } أي: علماء كثير، وعنه أيضًا: علماء صبر أبرار أتقياء.
وحكى ابن جرير، عن بعض نحاة البصرة: أن الربيين هم الذين يعبدون الرب، عز وجل، قال: ورد بعضهم عليه قال: لو كان كذلك لقيل رَبيون، بفتح الراء.
وقال ابن زيد: "الربيون: الأتباع، والرعية، والربابيون: (1) الولاة.
{ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا } قال قتادة والربيع بن أنس: { وَمَا ضَعُفُوا } بقتل نبيهم { وَمَا اسْتَكَانُوا } يقول: فما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم، أنْ قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله.
وقال ابن عباس { وَمَا اسْتَكَانُوا } تَخَشَّعوا. وقال السُّدِّي وابن زيد: وما ذلوا لعدوهم.
وقال محمد بن إسحاق، وقتادة والسدي: أي ما أصابهم ذلك حين قُتِل نبيهم.
{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ . وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } أي: لم يكن لهم هِجيرى إلا ذلك.
{ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا } أي: النصر والظفر والعاقبة (2) { وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ } أي: جمَع لهم ذلك مع هذا، { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
__________
(1) في جـ، ر: "الربانيون".
(2) في ر: "العافية".
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) }
يحذر (1) تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة (2) ؛ ولهذا قال: { إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } .
__________
(1) في أ: "يخبر".
(2) في ر: "الأخرى".
ثم أمرهم بطاعته وموالاته، والاستعانة به، والتوكل عليه، فقال: { بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } .
ثم بشرهم بأنه سَيُلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم، بسبب كفرهم وشركهم، مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنَّكال، فقال: { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } .
وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي : نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ ، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَة وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً (1) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ عن سليمان -يعني التيمي-عن سَيّار، عن أبي أمامة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فَضَّلَني [رَبِّي] (2) عَلَى الأنْبِيَاء -أو قال: عَلَى الأمَمِ-بأَرْبَعٍ" قال "أُرْسِلْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ كُلُّهَا وَلأمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأيْنَمَا أدْرَكَتْ (3) رَجُلا مِنْ أُمَّتِي الصَّلاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ و (4) طَهُوُرهُ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَة شَهْرٍ يَقْذِفُهُ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِي وأحَل لِيَ (5) الغنائِم".
ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي، عن سَيَّار القُرَشي الأموي مولاهم الدمشقي -سكن البصرة-عن أبي أمامة صُدَيّ بن عَجْلان، رضي الله عنه، به. وقال: حسن صحيح (6) .
وقال سعيد بن منصور: أخبرنا ابن وَهْب، أخبرني عمرو بن الحارث: أن أبا يونس حدثه، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ عَلَى الْعَدُوِّ".
ورواه (7) مسلم من حديث ابن وهب (8) .
وروى الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن أبي بُرْدَة، عن أبيه (9) أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ خَمْسًا: بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ وَالأسْوَدِ، وَجعلَتْ لِيَ الأرْض طَهُورًا ومَسْجِدًا، وأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِم وَلَمْ تَحِل لِمَنْ كَانَ قَبْلِي، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ (10) شَهْرًا، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَلَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إلا وَقَدْ سَأَل شَفَاعَتَهُ، وإنِّي اخْتَبَأتُ شَفَاعَتِي، ثُمَّ جَعَلْتُهَا لِمَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا".
تفرد به أحمد (11) .
__________
(1) صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).
(2) زيادة من جـ، ر، أ، و، والمسند.
(3) في و: "أدركه".
(4) في جـ ر: "مسجده وعنده طهوره".
(5) في جـ: "لنا".
(6) المسند (5/248) وسنن الترمذي برقم (1553).
(7) في جـ، ر: "رواه".
(8) صحيح مسلم برقم (523).
(9) في أ: "عن أبيه عن أبي موسى".
(10) في و: "بالرعب مسيرة شهر".
(11) المسند (4/416) وقال الهيثمي في المجمع (8/258): "رجاله رجال الصحيح".
وروى العَوْفيّ، عن ابن عباس في قوله: { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } قال: قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب، فرجع إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفا، وَقَدْ رَجَعَ، وقَذَفَ الله فِي قَلْبِهِ الرُّعْبِ". رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } قال ابن عباس: وعدهم الله النصر.
وقد يستدل بهذه الآية على أحد القولين المتقدمين في قوله: { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنزلِينَ . بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } أن ذلك كان يوم أحد لأن عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل، فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار للإسلام، فلما حصل ما حصل من عصيان الرُّماة وفشل بعض المقاتلة، تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة؛ ولهذا قال: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي: أول النهار { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } أي: تقتلونهم (1) { بِإِذْنِهِ } أي: بتسليطه إياكم عليهم { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } وقال (2) ابن جريج: قال ابن عباس: الفشل الجبن، { وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ } كما وقع للرماة { مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } وهو الظفر منهم (3) { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا } وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أي: غفر لكم ذلك الصَّنِيع، وذلك -والله أعلم-لكثرة عَدد العدو وعُدَدهم، وقلة عَدد المسلمين وعُدَدهم.
قال ابن جريج: قوله: { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } قال: لم يستأصلكم. وكذا قال محمد بن إسحاق، رواهما ابن جرير { وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } .
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود أخبرنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عُبَيد الله (4) عن ابن عباس أنه قال: ما نَصَرَ الله في مَوْطِن كما نصره يوم أحد. قال: فأنكرنا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتابُ الله، إن الله يقول في يوم أحد: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } يقول ابن عباس: والحَسُّ: القتل (5) { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ } الآية (6) وإنما عنى بهذا الرماة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع، ثم قال: "احْمُوا ظُهُورَنَا، فَإنْ رَأيْتُمُونَا نقتل فَلا تَنْصُرُونَا وَإنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلا تُشْرِكُونَا. فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأباحُوا عسكر المشركين أكبّت الرُّماة جميعا [ودخلوا] (7) في العسكر ينهبون، ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَهُم هكذا -وشبك بين يديه-وانتشبوا، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب (8) بعضهم بعضا والتبسوا، وقُتل من المسلمين ناس
__________
(1) في ر: "يقتلونكم".
(2) في أ، و: "قال".
(3) في و: "بهم".
(4) في هـ ر: "أبي عبيد الله"، والصواب ما أثبتناه من المسند.
(5) في ر: "والحس الفشل".
(6) في جـ، ر، أ، و: (حتى إذا فشلتم -إلى قوله- ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين).
(7) زيادة من جـ، ر، أ، والمسند.
(8) في و: "يضرب".
كثير، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار، حتى قُتِل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعةٌ، وجال المسلمون جَوْلَةً نحو الجبل ولم يبلغوا -حيث يقول الناس-الغار، إنما كان (1) تحت المِهْراس، وصاح الشيطان: قُتل محمد، فلم يُشَك فيه أنه حق، فما زلنا كذلك ما نَشُك أنه حق، حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين، نعرفه بتلفته (2) إذا مشى -قال: ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا-قال: فَرَقِيَ نحونا وهو يقول: "اشتد (3) غَضَبَ اللهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ". ويقول مرة أخرى: "اللَّهم إنه ليس لَهم أنْ يَعْلُونَا". حتى انتهى إلينا، فمكث ساعة، فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل: اعْلُ هبل، مرتين -يعني آلهته-أين ابن أبي كَبْشة؟ أين ابن أبي قحَافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: يا رسول الله، ألا أجيبه؟ قال: "بلى" قال: فلما قال: اعل هبل. قال عمر: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: قد أنعمت عينها فعَادِ عنها (4) أو: فَعَالِ! فقال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قُحَافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا رسول الله، وهذا أبو بكر، وها أنا ذا عمر. قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، الأيام دُوَل، وإن الحرب سِجَال. قال: فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. قال (5) إنكم تزعمون (6) ذلك، لقد خِبْنا إذا وخَسِرْنا ثم قال أبو سفيان: إنكم ستجدون في قتلاكم مثلة (7) ولم يكن ذلك على رأي سراتنا. قال: ثم أدركَتْه حَمِيَّة الجاهلية فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نَكْرهْه.
هذا حديث غريب، وسياق عجيب، وهو من مرسلات ابن عباس، فإنه لم يشهد أحُدًا ولا أبوه.
وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي النَّضْر الفقيه، عن عثمان بن سعيد، عن سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس، به. وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة، من حديث سليمان بن داود الهاشمي، به (8) ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها، فقال (9) الإمام أحمد:
حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا عطاء بن السائب عن الشعبي، عن ابن مسعود قال: إن النساء كن يوم أحد، خلْف المسلمين، يُجْهزْن (10) على جَرْحى المشركين، فلو حَلَفت يومئذ رجوت أن أبَر: أنه ليس أحد منا يريد الدنيا، حتى أنزل الله عز وجل: { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } فلما خالف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعَصَوا ما أمروا به، أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة: سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش، وهو عاشرهم، فلما رهقُوه [قال: "رَحِمَ اللهُ رجلا رَدَّهُمْ عَنَّا". قال: فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل، فلما رَهقُوه] (11) أيضا قال: "رَحِمَ اللهُ رَجُلا رَدَّهُمْ عَنَّا". فلم يزل يقول ذا حتى قُتِل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه: "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا".
__________
(1) في أ، و: "كانوا".
(2) في جـ: "بتكفيه"، وفي ر: "بتلسعه"، وفي أ، و: "بتكفئه".
(3) في ر: "شد".
(4) في جـ: "فعاذ عنها"، وفي ر : "فعال عنها".
(5) في أ: "وقال".
(6) في جـ، ر: "لتزعمون".
(7) في جـ، ر، أ، و: "مثلا".
(8) المسند (1/287، 288) والمستدرك (2/296) ودلائل النبوة للبيهقي (3/269، 270).
(9) في أ: "وقال".
(10) في ر: "يجهزون".
(11) زيادة من جـ، ر، والمسند.
فجاء أبو سفيان فقال: اعْلُ هُبَلُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قُولُوا: اللهُ أعْلَى وأجَلُّ". فقالوا: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قُولُوا: "اللهُ مَوْلانَا، وَالْكَافِرُونَ لا مَوْلَى لَهُم". ثم قال أبو سفيان: يومٌ بيوْم بَدْر، يومٌ علينا ويوم لنا (1) ويوم نُسَاءُ ويوم نُسَر. حَنْظَلَةَ بِحَنْظَلَةَ، وفلان بفلان، وفلان بفلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا سَوَاء. أمَّا قَتْلانَا فَأْحَيْاءٌ يُرْزَقُونَ، وَقْتَلاكُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ". قال أبو سفيان: قد كان (2) في القوم مَثُلَةٌ، وإنْ كانَتْ لَعَنْ (3) غير مَلأ منَّا، ما أمرتُ ولا نَهَيْتُ، ولا أحْبَبْتُ ولا كَرِهتُ، ولا ساءني ولا سرَّني. قال: فنظروا فإذا حمزةُ قد بُقِرَ بَطْنُه، وأخذتْ هنْد كَبده فلاكَتْها فلم تستطع أن تأكلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكَلَتْ شَيْئًا؟" قالوا: لا. قال: "مَا كَانَ اللهُ ليُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ".
قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فَصَلَّى عليه، وَجِيء برجل من الأنصار فَوُضِع إلى جنبه فصلَّى عليه، فَرُفِعَ الأنصاري وتُرِكَ حمزة، ثم جيء بآخر فوضعَه إلى جنب حمزة فصلى [عليه] (4) ثم رُفِعَ وتُرِكَ حمزة، حتى صلَّى عليه يومئذ سبعين صلاة.
تفرد به أحمد أيضًا (5) .
وقال البخاري: حدثنا عُبَيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق: عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجْلَس النبي صلى الله عليه وسلم جَيْشا من الرُّماة، وأمَّر عليهم عبد الله -يعني ابن جُبَيْر-وقال: "لا تَبْرَحُوا إنْ (6) رأيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلا تَبْرَحُوا، وإنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلا تُعِينُونَا". فلما لقيناهم هربُوا، حتى رأينا النساء يَشْتَددْنَ (7) في الجبل، رَفَعْنَ عن سُوقهن، وقد بدت خَلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمةَ الغَنيمة. فقال عبد الله: عَهدَ إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ألا تَبْرَحُوا. فأبَوْا، فلما أبَوْا صَرَفَ وجوههم، فأُصِيب سبعون قتيلا فأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: "لا تجيبوه". فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: "لا تُجِيبُوهُ". فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قد قُتِلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عُمَرُ نفسه فقال: كَذَبْتَ يَا عَدَوَّ اللهِ، قد أبقى الله لك ما يُحزِنكَ (8) فقال أبو سفيان: اعْل هُبَل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجِيبُوهُ". قالوا: ما نقول؟ قال: "قُولُوا: الله أعْلَى وأجَلُّ". فقال أبو سفيان: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجِيبُوهُ". قالوا: ما نقول؟ قال: "قُولُوا: اللهُ مَوْلانَا، وَلا مَوْلَى لَكُمْ". قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال، وتجدون مَثُلَةً لم آمر بها ولم تسؤني.
تفرد به البخاري من هذا الوجه، ثم رواه عن عَمْرو بن خالد، عن زُهَير بن معاوية عن أبي إسحاق، عن البراء، بنحوه (9) وسيأتي بأبْسط من هذا.
وقال البخاري أيضا: حدثنا عُبَيد الله بن سعيد، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عُرْوة، عن أبيه،
__________
(1) في جـ، ر، أ، و: "يوم لنا ويوم علينا".
(2) في جـ، ر: "كانت".
(3) في جـ: "على".
(4) زيادة من جـ، ر، والمسند.
(5) المسند (1/462).
(6) في جـ، ر، أ، و: "وإن".
(7) في ر: "يشتدن". وهو خطأ، والصحيح ما أثبتناه من البخاري (4043).
(8) في جـ، ر: "ما يخزيك".
(9) صحيح البخاري برقم (4043) وبرقم (3986).
عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: لَمَّا كان يوم أُحد هُزِم المشركون، فصَرخَ إبليس: أيْ عباد الله، أخْرَاكم. فَرَجعت أولادهم (1) فاجْتَلَدَتْ هي وأخراهم، فَبَصُرَ حُذَيفة فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أيْ عباد الله، أبي أبي. قال: قالت: فوالله ما احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم. قال عروة: فوالله ما زَالَتْ في حذيفة بقية خير حتى لقي الله عز وجل (2) .
وقال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جَده أن الزبير بن العوام قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خَدَم [هند] (3) وصواحباتها مُشَمِّرات هوارب ما دون أخْذهن كثير ولا قليل (4) ومالت الرُّماة إلى العسكر حين كَشَفْنا القوم عنه، يريدون النهب وَخَلَّوا ظهورنَا للخيل فأتتنا من أدبارنا، وصرخ (5) صارخ: ألا إنَّ محمدًا قد قُتل. فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصَبْنا أصحاب اللواء، حتى ما يدنو منه أحد من القوم.
قال محمد بن إسحاق: فلم يزل لواء المشركين صريعا، حتى أخذته عَمْرَة بنت علقمة الحارثية، فدفعته لقريش فلاثوا (6) به (7) (8) وقال السُّدِّي عن عبد خير قال: قال (9) عبد الله بن مسعود (10) قال: ما كنتُ أرى أن أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزلت (11) فينا ما نزل يوم أحد { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ } .
وقد رُوي من غير وَجْه عن ابن مسعود، وكذا رُوي عن عبد الرحمن بن عَوْف وأبي طلحة، رواهن ابن مَرْدُويَه في تفسيره.
وقوله: { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } قال ابن إسحاق: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، أحدُ بني عديّ بن النجار قال: انتهى أنسُ بنُ النَّضر، عَمّ أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عُبَيد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار، قد ألْقَوْا بأيديهم فقال: ما يخليكم (12) ؟ فقالوا: قُتِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه. ثم استقبل القومَ فقاتل حتى قُتِل.
وقال البخاري: حدثنا حسان بن حسان، حدثنا محمد بن طلحة، حدثنا حُمَيد، عن أنس بن مالك: أن عمه -يعني أنس بن النضر-غاب عن بدر فقال: غِبْتُ عن أول قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لَئِنْ أشْهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيَرَيَنّ الله ما أُجدّ فلقي يومَ أحد، فهُزم الناسُ، فقال: اللهُمّ إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المسلمين-وأبرَأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه فَلقي سعدَ بن مُعَاذ فقال: أينَ يا سعد؟ إني أجدُ ريح الجنة دون أحد. فمضى فَقُتِل، فما عُرف حتى عَرَفته أخته ببنانه (13) بشامة (14) وبه بضع وثمانون من طَعْنة وضَرْبة ورَمْية بسَهْم.
__________
(1) في و: "أولاهم".
(2) صحيح البخاري (4065).
(3) زيادة من جـ، وسيرة ابن هشام.
(4) في جـ، ر، و: "قليل ولا كثير".
(5) في جـ: "فصرخ".
(6) في جـ، ر: "فلاذوا".
(7) في و: "بها".
(8) سيرة ابن إسحاق (ظاهرية ق 170).
(9) في و: "عن".
(10) في جـ: "عن عبد خير عنه عبد الله بن مسعود"، وفي ر: "عند جواب عبد الله بن مسعود".
(11) في و: "نزل".
(12) في جـ، و: "ما يجلسكم"، وفي ر: "ما نحلتكم".
(13) في ر: "بثيابه".
(14) في جـ، ر، و: "أو بشامة".
هذا لفظ البخاري وأخرجه مسلم من حديث ثابت عن أنس، بنحوه (1) .
وقال البخاري [أيضا] (2) حدثنا عبدان، أخبرنا أبو حَمْزَةَ عن عثمان بن مَوْهَب قال: جاء رجل حج البيت، فرأى قوما جلوسا، فقال: من هؤلاء القُعُودُ؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عُمَر. فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء فحدثني. قال: أنْشُدُك بحرمة هذا البيت أتعلم أنَّ عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم. قال: فَتَعْلَمُه تَغَيَّب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعْلم أنه تخلف عن بيعة الرّضْوان فلم يشهَدْها؟ قال: نعم. قال: فكبر، فقال (3) ابن عمر: تَعَالَ لأخبرَك ولأبيَّن لك عما سألتني عنه. أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه، وأما تَغَيُّبه عن بدر فإنه كان تحتَه بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت مريضة، فقال له رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَه". وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعزّ ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث عثمانَ، فكانت (5) بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: "هِذِهِ يَدُ عُثْمَان". فضرب بها على يده، فقال: "هِذِهِ يَدُ عُثْمَان اذْهَبْ بِهَا الآنَ مَعَكَ".
ثم رواه البخاري من وجه آخر عن أبي عَوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب (6) .
وقوله: { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ } أي: صرفكم عنهم { إِذْ تُصْعِدُونَ } أي: في الجبل هاربين من أعدائكم.
وقرأ الحسن وقتادة: { إِذْ تُصْعِدُونَ } أي: في الجبل { وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ } أي: وأنتم لا تلوون على أحد من الدَّهَش والخوف والرعب { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } أي: وهو قد خلفتموه وراء ظُهوركم يدعوكم إلى تَرْك الفرار من الأعداء، وإلى الرجعة والعودة والكرة.
قال السُّدِّي: لما شَدّ المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: "إليَّ عِبَادَ اللهِ، إليَّ عباد الله". فذكر (7) الله صعودهم على (8) الجبل، ثم ذكر دُعَاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فقال: { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ } .
وكذا قال ابنُ عباس، وقتادة والربيع، وابن زيد.
وقد قال عبد الله بن الزّبَعْري يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته -وهو مشرك بعد لم يسلم-التي يقول في أولها:
يا غُرابَ البَيْنِ أسْمَعْتَ فَقُل ... إنما تَنْطقُ شيئًا قَدْ فُعلْ ...
إنّ للخير وللشر مَدى ... وكلا ذلك وجْه وقَبلْ ...
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4048) وصحيح مسلم برقم (1903).
(2) زيادة من و.
(3) في جـ، ر، و: "قال".
(4) في جـ: "النبي".
(5) في جـ: "وكانت".
(6) صحيح البخاري برقم (4066) وبرقم (3698).
(7) في جـ: "فذكرهم".
(8) في و: "إلى".
إلى أن قال:
لَيْتَ أشياخي ببدر شهدوا جَزَعَ الخزرج من وقع الأسَلْ
حين حَكَّت (1) بقُباء بَرْكها (2) واستحر القتل في عبد الأشل
ثم خَفّوا (3) عنْدَ ذَاكُم رُقَّصا رقص الحَفَّان يعلو (4) في الجَبَل
فقتلنا الضعف من أشرافهم وعَدَلنا مَيْل (5) بدر فاعتدَل (6)
الحفان: صغار النعم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد في اثنى عشر رجلا من أصحابه، كما قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا زُهَير، حدثنا أبو إسحاق أن البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد -وكانوا خمسين رجلا-عبد الله بن جُبير قال: ووضعهم موضعًا وقال: "إنْ رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفَنَا الطَّيْرُ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إلَيْكُمْ وَإنْ رَأيْتُمُونَا ظَهَرنَا عَلَى الْعَدُوّ وأوَطأناهُمْ فَلا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرسِلَ إلَيْكُمْ قال: فهزموهم. قال: فأنا والله رأيت النساء يَشْتددن (7) على الجبل، وقد بدت أسْؤُقُهنّ وخَلاخلُهُن رافعات ثيابهُن، فقال أصحاب عبد الله: الغَنِيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون (8) ؟ قال عبد الله بن جبير: أنسيتم (9) ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: إنا والله لَنَأتيَن الناس فَلنُصِبيَنَّ من الغنيمة. فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثنى عشر رجلا فأصابوا منا سبعين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه أصابوا من المشركين يوم بَدْر أربعين ومائة: سبعين أسيرًا وسبعين قتيلا. قال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ -ثلاثا -قال: فنهاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قُحَافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، قد كُفيتُمُوه. فما ملك عُمَر نفسَه أن قال: كذبتَ والله يا عدو الله، إن الذين عَدَدْتَ لأحياء كلهم، وقد بَقى لك ما يسوؤك. فقال (10) يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال، إنكم ستجدون في القوم مَثُلَةً لم آمر بها ولم تسؤني (11) ثم أخذ يرتجز، يقول: اعلُ هُبَلْ. اعل هُبَلْ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تُجِيبُوه (12) ؟" قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: "قُولُوا: الله أعلى وأجل". قال: لنا العُزَّى ولا عزَّى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تُجِيبُوهُ؟". قالوا: يا رسول الله، وما نقول؟ قال: "قُولُوا: اللهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ" (13) .
وقد رواه البخاري من حديث زُهَير بن معاوية مختصرا، ورواه من حديث إسرائيل، عن أبي
__________
(1) في أ، و: "حلت".
(2) في جـ، أ: "تركها".
(3) في جـ، ر: "حفوا".
(4) في أ، و: "تعلو".
(5) في جـ: "قتل".
(6) السيرة النبوية لابن هشام (3/136).
(7) في أ: "يشتدون".
(8) في جـ، ر: "تنظرون".
(9) في جـ، ر، أ، و: "أفنسيتم".
(10) في أ، و: "قال".
(11) في جـ: "لم يسوؤني".
(12) في جـ، ر: "ألا تجيبونه".
(13) المسند (4/293).
إسحاق بأبسط من هذا، كما تقدم. والله أعلم.
وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة (1) بن غَزِيَّة، عن أبي الزُّبَير، عن جابر قال: انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار، وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد (2) الجبل، فلقيهم المشركون، فقال: "ألا أحَدٌ لِهَؤُلاءِ؟" فقال طلحة: أنا يا رسول الله، فقال: "كمَا أنْتَ يَا طَلْحَةُ". فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله، فقاتل عنه، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه، ثم قُتل الأنصاري فلحقوه فقال: "ألا رجُلٌ لِهؤُلاءِ؟" فقال طلحة مثل قوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله، فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله، فقاتل عنه وأصحابه يصعدن، ثم قتل فلحقوه، فلم يزل يقول مثل قوله الأول فيقول (3) طلحة: فأنا (4) يا رسول الله، فيحبسه، فيستأذنه رجل من الأنصار للقتال فيأذَنُ له، فيقاتل (5) مثل من كان قبله، حتى لم يبق معه إلا طلحة فَغشَوْهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لِهَؤلاءِ؟" فقال طلحة: أنا. فقاتل مثْل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله، فقال: حس، فقال رسول الله: "لوْ قُلْتَ: بِاسْمِ اللهِ، وذَكرت اسْمَ الله، لَرَفَعَتْكَ الملائِكَة والنَّاسُ يَنْظُرونَ إلَيْكَ، حَتَّى تلجَ بِكَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ"، ثم صعد (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون (7) .
وقد روى البخاري، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وَكِيع، عن إسماعيل، عن قَيْس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم -يعني يوم أحد (8) .
وفي الصحيحين من حديث مُعْتَمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي عُثمان النَّهْدِي قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام، التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غَيْرُ طلحةَ بن عبيد الله وسعد، عن حَديثهما (9) وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رَهِقُوه قال: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ -أو: وهو رفيقي في الجنة؟" فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا، فقال: "من يردهم عنا وله الجنة؟" فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل. فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه: ما أنْصَفْنَا أصْحَابنا".
رواه مسلم عن هُدبة بن خالد، عن حماد بن مسلمة (10) به نحوه (11) .
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا ابن مروان بن معاوية، عن هاشم بن هاشم الزهري، قال سمعت سعيد بن المسيَّب يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص [رضي الله عنه] (12) يقول: نَثُل لي
__________
(1) في جـ: "عمار".
(2) في أ، و: "يصعد في".
(3) في جـ، ر، أ، و: "ويقول".
(4) في أ، و: "أنا".
(5) في أ، و: "فقاتل".
(6) في ر، و: "أصعد".
(7) دلائل النبوة (3/236).
(8) صحيح البخاري برقم (4063).
(9) صحيح البخاري برقم (4060) وصحيح مسلم برقم (2414).
(10) في جـ، ر: "سلمة".
(11) صحيح مسلم برقم (1789).
(12) زيادة من ر، أ، و.
رسول (1) الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد قال: "ارْمِ فِدَاكَ أبِي وأُمِّي".
وأخرجه البخاري، عن عبد الله بن محمد، عن مروان بن معاوية (2) .
وقال محمد بن إسحاق (3) حدثني صالح بن كيسان، عن بعض آل سعد، عن سعد بن أبي وقاص؛ أنه رمى يوم أحد دونَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النَّبْلَ ويقول: "ارْمِ فِدَاكَ أبِي وأُمِّي" حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل، فأرمي به.
وثبت في الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص (4) قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين، عليهما ثياب بيض، يقاتلان عنه أشد القتال، ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده، يعني: جبريل وميكائيل عليهما السلام (5) .
وقال أبو الأسود، عن عروة بن الزبير قال: كان أبَيُّ بن خَلَف، أخو بني جُمَح، قد حلف وهو بمكة لَيَقْتُلَن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حَلْفَتُه قال: "بَلْ أنَا أقْتُلُهُ، إنْ شَاءَ الله". فلما كان يوم أحد أقبل أبَي في الحديد مُقَنَّعا، وهو يقول: لا نَجَوْتُ إن نجا محمد. فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتْله، فاستقبله مُصْعَب بن عُمَير، أخو بني عبد الدار، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تَرْقُوَة أبي بن خلف من فَرْجةَ بين سابغة الدرع والبيضة، وطعنه فيها بحربته، فوقع إلى الأرض عن فرسه، لم يخرج من طعنته دم، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خُوار الثور، فقالوا له: ما أجزعك إنما هو خدش؟ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أقْتُلُ أُبيا". ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المَجَاز لماتوا أجمعون. فمات إلى النار، فسحقا لأصحاب السعير.
وقد رواه موسى بن عُقْبة في مغازيه، عن الزُّهْري، عن سعيد بن المسيّب بنحوه.
وذكر محمد بن إسحاق قال: لما أسْنِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، أدركه أبي بن خَلَفَ وهو يقول: لا نجوتُ إن نجوتَ فقال القوم: يا رسول الله، يَعْطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعُوُه" فلما دنا تناول رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (6) الحربة من الحارث بن الصِّمَّة، فقال بعض القوم ما ذكر (7) لي: فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة، تطايرنا عنه تطاير الشّعْر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدَأ منها عن فرسه مرارًا.
وذكر الواقدي، عن يونس بن بُكَير، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمرو بن قتادة، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه نحو ذلك (8) .
قال الواقدي: كان ابن عمر يقول: مات أبَيّ بن خلف ببطن رَابِغٍ، فإني لأسير ببطن رابغ بعد
__________
(1) في ر: "نثل- قال الحسن بن عرفة: نثل: أي نفض لي رسول الله".
(2) صحيح البخاري برقم (4055).
(3) في : "سعيد".
(4) في جـ، ر، أ، و: "إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه".
(5) صحيح البخاري برقم (4054) وصحيح مسلم برقم (2306).
(6) زيادة من جـ، ر،أ، و.
(7) في أ، و: "كما ذكر".
(8) سيرة ابن إسحاق (ظاهرية ق 171) برواية محمد بن سلمة.
هوى من الليل إذا أنا بنار تتأجّح (1) فهبتها، فإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش، وإذا رجل يقول: لا تسقه، فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبيّ بن خلف.
وثبت في الصحيحين، من رواية عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن هَمَّام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِرَسُولِ اللهِ -وهو حينئذ يشير إلى رباعيته-اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللهِ" (2) .
ورواه البخاري أيضًا (3) من حديث ابن جُرَيج، عن عَمْرو بن دينار، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بيده في سبيل الله، اشتد غضب الله على قوم دَمَّوا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله: أصيبت رَبَاعِية رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج في وَجْنَته، وكُلِمَت شَفَتُه (4) وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص.
فحدثني صالح بن كَيْسان، عمن حدثه، عن سعد بن أبي وقاص قال: ما حَرَصْتُ على قتل أحد قَط ما حرصت على قتل عُتْبة بن أبي وقاص وإن كان ما علمته لسيئ الخلُق، مُبْغَضًا في قومه، ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم" (5) .
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معْمَر، عن الزهري، عن عثمان الجزَري، عن مقْسَم؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على عُتْبةَ بن أبي وقاص يوم أحُد حين كَسر رَبَاعيتَه ودَمى وجهه فقال: "اللَّهُمَّ لا تحل (6) عَلَيْهِ الْحَوْل حَتَّى يموتَ كَافِرًا". فما حال عليه الحولُ حتى مات كافرًا إلى النار (7) .
ذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوة، عن أبي الحُويرث، عن نافع بن جبير قال: سمعتُ رجُلا من المهاجرين يقول: شهدت أحُدًا فنظرت إلى النَّبْل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم (8) وسطها، كُلُّ ذلك يُصْرَف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دُلّوني على محمد، لا نَجَوتُ إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه (9) أحد، ثم جاوره (10) فعاتبه في ذلك صَفْوان، فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع. خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك.
قال الواقدي: الثَّبْتُ عندنا أن الذي رمى في وَجْنَتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قَميئة (11) والذي دَمى شفته (12) وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص (13) .
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا ابن المبارك، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله،
__________
(1) في أ، و: "تأجج لي".
(2) صحيح البخاري برقم (4073) وصحيح مسلم برقم (1793).
(3) صحيح البخاري برقم (4074، 4076).
(4) في و: "شفتاه".
(5) سيرة ابن إسحاق (ظاهرية ق 172).
(6) في جـ، ر: "لا يحل".
(7) تفسير عبد الرزاق (1/136).
(8) في و: "ورسول الله صلى الله عليه وسلم في وسطها".
(9) في و: "ما معه".
(10) في جـ، ر، أ، و: "جاوزه".
(11) في جـ، ر: "قمأة".
(12) في و: "شفتيه".
(13) المغازي للواقدي (1/244).
أخبرني عيسى بن طلحة، عن أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان أبو بكر، رضي الله عنه، إذا ذكر يوم أحد قال (1) ذاك (2) يوم كُله لطلحة، ثم أنشأ يحدث قال: كنت أول من فَاء يوم أحد، فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه -وأراه قال: حَميَّة فقال (3) فقلت: كن طَلْحَةَ، حيث فاتني ما فاتني، فقلت: يكون رجلا من قومي أحب إلي، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه، وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وهو يخطف المشي خطفا لا أحفظه (4) فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح، فانتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقد كسرت رَبَاعِيتُه وشُجّ في وجهه، وقد دخل في وَجْنَته حلقتان من حِلَق المِغْفَر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَليكُما صَاحِبَكُما". يريد طلحة، وقد نزف، فلم نلتفت إلى قوله، قال: وذهبت لأن أنزع (5) ذلك (6) من وجهه، فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك بحقي لما تركتني. فتركته، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي النبي (7) صلى الله عليه وسلم، فَأزَمَّ عليها (8) بِفِيهِ فاستخرج إحدى الحلقتين، ووقعت ثَنيَّته مع الحلقة، ذهبت لأصنع ما صنع، فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني، قال: ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى، فوقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة، فكان أبو عبيدة، رضي الله عنه، أحسن (9) الناس هَتْما، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار، فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورَمْيَة وضربة، وإذا قد قُطعَتْ إصبعه، فأصلحنا من شأنه.
ورواه الهيثم بن كُلَيب، والطبراني، من حديث إسحاق بن يحيى به. وعند الهيثم: فقال أبو عبيدة: أنشدك (10) يا أبا بكر إلا تركتني؟ فأخذ أبو عبيدة السّهم بفيه، فجعل يُنَضْنِضَه كراهيةَ (11) أن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اسْتل السهم بفيه فبدرت (12) ثنية أبي عبيدة.
وذكر تمامه، واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه (13) وقد ضَعّف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحاق بن يحيى هذا، فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان، وأحمد، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبو زُرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن سعد، والنسائي وغيرهم.
وقال ابن وَهْب: أخبرني عَمْرو بن الحارث: أن عُمَر بن السائب حدثه: أنه بلغه أن مالكا أبا [أبي] (14) سعيد الخُدْري لمَّا جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مَصّ الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض، فقيل له: مُجَّه. فقال: لا والله لا أمجه أبدا. ثم أدبر يقاتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظُرْ إلى هذا " فاستشهد (15) .
وقد ثبت في الصحيحين من طريق عبد العزيز بن أبي حازم (16) عن أبيه، عن سَهْل بن سَعْد أنه
__________
(1) في جـ، ر، أ، و: "قال: كان".
(2) في أ: "ذلك".
(3) في جـ، ر: "قال".
(4) في جـ، ر: "لا أخطفه".
(5) في جـ، ر: "لأنزع".
(6) في جـ، ر، أ، و: "ذاك".
(7) في و: "رسول الله".
(8) في و: "عليه".
(9) في أ، و: "من أحسن".
(10) في جـ، أ، و: "أنشدك بالله".
(11) في ر: "كراهة".
(12) في جـ: "فبذرت" وفي ر، أ، و: "فنذرت".
(13) مسند الطيالسي (ص3) والمختارة للضياء المقدسي برقم (49) من طريق الهيثم بن كليب، ورواه البزار في مسنده برقم (63) وابن حبان في صحيحه برقم (4941) "الإحسان" من طريق إسحاق بن يحيى به. قال الهيثمي في المجمع (6/112): "فيه إسحاق بن يحيى وهو متروك".
(14) زيادة من جـ.
(15) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (3/266) من طريق ابن وهب به.
(16) في ر: "حاتم".
سئل عن جُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جُرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكسِرت رَبَاعِيتُه، وهُشِمَت البَيْضة على رأسه، فكانت (1) فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وكان عَلِي يسكب عليها (2) بالمِجَنّ (3) فلما رأت فاطمة [رضي الله عنها] (4) أن الماء لا يزيدُ الدم إلا كثرة، أخذت قطعةَ حَصِير فأحرقته، حتى إذا صار (5) رمادا ألصقته بالجُرْح، فاستمسك الدم (6) .
وقوله: { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } أي: فجازاكم غَما على غَم كما تقول العرب: نزلت ببني فلان، ونزلت على بني فلان.
قال ابن جرير: وكذا قوله: { وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [طه:71] [أي: على جذوع النخل] (7) .
قال ابن عباس: الغم الأول: بسبب الهزيمة، وحين قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني: حين علاهم المشركون فوق الجبل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ لَيْسَ لَهُمْ أنْ يَعْلُونا".
وعن عبد الرحمن بن عوف: الغم الأول: بسبب الهزيمة، والثاني: حين قيل: قُتِلَ محمد صلى الله عليه وسلم، كان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة.
رواهما ابن مَرْدُويَه، وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك. وذكر ابن أبي حاتم عن قتادة نَحْوَ ذلك أيضا.
وقال السُّدِّي: الغم الأول: بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح، والثاني: بإشراف العدو عليهم.
وقال محمد بن إسحاق { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } أي: كَرْبا بعد كرب، قَتْل مَنْ قُتل من إخوانكم، وعُلُو عدوكم عليكم، وما وقع في أنفسكم من قول من قال: "قُتل نبيكم" (8) فكان (9) ذلك متتابعا (10) عليكم غما بغم.
وقال مجاهد وقتادة: الغم الأول: سماعهم قتل محمد، والثاني: ما أصابهم من القتل والجراح. وعن قتادة والربيع بن أنس عكسُه.
وعن السُّدِّي: الأول: ما فاتهم من الظَّفَر والغنيمة، والثاني: إشراف العدو عليهم، وقد تقدم هذا عن السدي.
قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصواب قولُ من قال: { فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ } فأثابكم بغَمكُم أيها المؤمنون بحرمان الله إياكم غنيمةَ المشركين والظَّفر بهم والنصرَ عليهم، وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ -بعد الذي أراكم (11) في كل ذلك ما تحبون -بمعصيتكم ربكم، وخلافكم أمر النبي (12) صلى الله عليه وسلم، غَم ظنكم أن نبيكم قد قتل، وميل العدو عليكم بعد فُلولكم منهم.
__________
(1) في جـ، ر: "وكانت".
(2) في جـ، ر، أ، و: "عليه".
(3) في جـ، ر، أ، و: "عليه الماء بالمجن".
(4) زيادة من جـ، أ، و.
(5) في أ: "صارت".
(6) صحيح البخاري برقم (2911) وصحيح مسلم برقم (1790).
(7) زيادة من جـ.
(8) في أ، و: "من قبل قتل نبيكم".
(9) في جـ: "وكان".
(10) في أ، و: "مما تتابع".
(11) في جـ، ر، أ، و: "الذي كان قد أراكم".
(12) في أ، و: "نبيكم".
وقوله: { لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ } أي: على ما فاتكم من الغنيمة بعدوكم { وَلا مَا أَصَابَكُمْ } من القتل والجراح، قاله ابن عباس، وعبد الرحمن بن عوف، والحسن، وقتادة، والسدي { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
{ ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) }
يقول تعالى مُمْتَنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمَنَة، وهو النعاس الذي غشيهم وهم مسْتَلْئمو السلاح في حال هَمِّهم وغَمِّهم، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان (1) كما قال تعالى في سورة الأنفال، في قصة بدر: { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ[ وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ ] (2) } [الأنفال:11].
وقال [الإمام] (3) أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو نعيم وكيع (4) عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله بن مسعود قال: النعاس في القتال من الله، وفي الصلاة من الشيطان.
قال البخاري: قال (5) لي خليفة: حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة، رضي الله عنه، قال: كنت فيمن تَغَشاه (6) النعاس يوم أحُد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه.
هكذا رواه في المغازي معلقا. ورواه في كتاب التفسير مُسْنَدًا عن شيبان، عن قتادة، عن أنس، عن أبي طلحة قال: غَشينا النعاس ونحن في مَصَافنا يوم أحد. قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه.
وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم، من حديث حَمَّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، عن
__________
(1) في جـ، ر، أ، و: "الإيمان".
(2) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(3) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(4) في جـ، ر، أ، و: "ووكيع".
(5) في أ، و: "وقال".
(6) في جـ، ر: "يغشاه".
أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحُد، وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميد (1) تحت جَحَفَتِه من النعاس. لفظ الترمذي، وقال: حسن صحيح.
ورواه النسائي أيضا، عن محمد بن المثنى، عن خالد بن الحارث، عن أبي قتيبة، عن ابن أبي عدي، كلاهما عن حميد، عن أنس قال: قال أبو طلحة: كنت فيمن ألقي عليه النعاس -الحديث (2) .
وهكذا رُوي عن الزبير وعبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه (3) .
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب، أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي، حدثنا يونس بن محمد، حدثنا شيبان، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك؛ أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحُد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، قال: والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هَمٌّ إلا أنفسهُم، أجبن قوم وأرعنه، وأخْذَله للحق { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } كَذَبَةَ، أهل (4) شك وريب في الله، عز وجل (5) .
هكذا رواه بهذه الزيادة، وكأنها من كلام قتادة، رحمه الله، وهو كما قال؛ فإن الله عز وجل يقول: { ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ } يعني: أهل الإيمان واليقين والثبات (6) والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله سينصر رسوله ويُنْجِز له مأموله، ولهذا قال: { وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } يعني: لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } كما قال في الآية الأخرى: { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا [وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا] (7) } [الفتح:12] وهكذا هؤلاء، اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنَّها الفيصلة (8) وأن الإسلام قد باد وأهلُه، هذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة.
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم { يَقُولُونَ } في تلك الحال: { هَلْ لَنَا مِنَ الأمْرِ مِنْ شَيْءٍ } قال الله تعالى: { قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ } ثم فَسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله: { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } أي: يسرون (9) هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال [محمد] (10) بن إسحاق بن يسار: فحدثني يحيى بن عباد (11) بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا، أرسل الله علينا النوم، فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فوالله إني لأسمع قول مُعْتَب بن
__________
(1) في جـ، ر: "يمتد".
(2) صحيح البخاري (4562، 4068) وسنن الترمذي برقم (3007، 3008) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11080).
(3) في ر: "عنهما".
(4) في جـ، ر، أ، و: "كذبة، إنما هم أهل".
(5) دلائل النبوة للبيهقي (3/273).
(6) في ر: "والبيان".
(7) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "إلى آخر الآية.
(8) في ر: "الفضيلة".
(9) في أ: "أي لا يسرون".
(10) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(11) في أ: "عباد الله".
قُشَير، ما أسمعه إلا كالحلم، [يقول] (1) { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله [تعالى] (2) { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } لقول مُعتَب. رواه ابن أبي حاتم.
قال الله تعالى: { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } أي: هذا قدر مقدر من الله عز وجل، وحكم حَتْم لا يحاد (3) عنه، ولا مناص منه.
وقوله: { وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي: يختبركم بما جرى عليكم، وليميز الخبيثَ من الطيب، ويظهر أمْرَ المؤمن والمنافق للناس في الأقوال والأفعال، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي: بما يختلج (4) في الصدور من السرائر والضمائر.
ثم قال (5) { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } أي: ببعض ذنوبهم السالفة، كما قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن من جَزَاء السيئةَ السيئة بعدها (6) .
ثم قال تعالى: { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } أي: عَمّا كان منهم من الفرار { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي: يغفر الذنب ويحلُم عن خلقه، ويتجاوز عنهم، وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان، رضي الله عنه، وتوليه يوم أحد، وأن الله [قد] (7) عفا عنهم، عند قوله: { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } ومناسب ذكره هاهنا.
قال (8) الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عَمْرو، حدثنا زائدة، عن عاصم، عن شقيق، قال: لقي عبدُ الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة (9) فقال له الوليد: ما لي أراك جفوتَ أمير المؤمنين عثمانَ؟ فقال له عبد الرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم عَيْنَيْن (10) -قال عاصم: يقول يوم أحد-ولم أتخلف عن بدر، ولم أترك سُنة عمر. قال: فانطلق فَخَبر ذلك عثمان، قال: فقال: أما قوله: إني لم أفر يوم عَيْنَيْن (11) فكيف يعَيرني بذَنْب قد (12) عفا الله عنه، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } وأما قولُهُ: إني تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقَيَّة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت، وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم، ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهِد. وأما قوله: "إني لم أترك سنَّة عمر" فإني لا أطيقها ولا هو، فأته فحدثه بذلك (13) .
__________
(1) زيادة من ر.
(2) زيادة من ر، وفي جـ، أ: "عز وجل".
(3) في ر، أ، و: "مجيد".
(4) في جـ، ر، أ: "يتخالج".
(5) في أ: "وقال".
(6) في جـ، ر، أ، و: "إن من جزاء السيئة السيئة بعدها وإن من جزاء الحسنة الحسنة بعدها".
(7) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(8) في ر، أ، و: "وقال".
(9) في و: "عتبة".
(10) في جـ، ر، أ: "حنين".
(11) في ر، أ: "حنين".
(12) في جـ، ر، أ، و: "بذلك وقد".
(13) المسند (1/68).
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) }
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
{ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) }
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد، الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار وفي (1) الحروب: لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم. فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإخْوَانِهِمْ } أي: عن إخوانهم { إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ } أي: سافروا للتجارة ونحوها (2) { أَوْ كَانُوا غُزًّى } أي: في الغزو { لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا } أي: في البلد { مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا } (3) أي: ما ماتوا في السفر ولا قتلوا في الغزو.
وقوله: { لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي: خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتْلهم (4) ثم قال تعالى ردا عليهم: { وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي: بيده الخلق وإليه يرجع الأمر، ولا يحيا أحد ولا يموت إلا بمشيئته وقدره، ولا يُزَاد في عُمُر أحد ولا يُنْقَص منه إلا بقضائه وقدره { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: وعلمه وبصره نافذ في جميع خلقه، لا يخفى عليه من أمورهم شيء.
وقوله: { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } تضمن هذا أن القتل في سبيل الله، والموت أيضا، وسيلة إلى نيل رحمة الله وعَفوه ورضوانه، وذلك خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني.
ثم أخبر بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله، عز وجل، فيجزيه بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر فقال: { وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ }
__________
(1) في جـ، ر، و: "أو في".
(2) في جـ: "وغيرها".
(3) في ر: "ولا".
(4) في جـ، ر، أ، و: "موتاهم وقتلاهم".
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) }
يقول تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم، ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته، المتبعين لأمره، التاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } أي: أي شيء جعلك لهم لينا لولا رحمة الله بك وبهم.
قال قتادة: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } يقول: فبرحمة من الله لنت لهم. و"ما" صلة، والعربُ تصلها بالمعرفة كقوله: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } [النساء:155 ، المائدة:13] وبالنكرة كقوله: { عَمَّا قَلِيلٍ } [المؤمنون:40] وهكذا (1) هاهنا قال: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } أي: برحمة من الله (2) .
وقال الحسن البصري: هذا خُلُقُ محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به.
وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة:128].
وقال الإمام أحمد: حدثنا حَيْوة، حدثنا بَقِيَّة، حدثنا محمد بن زياد، حدثني أبو راشد الحُبْراني قال: أخد بيدي أبو أمَامة الباهلي وقال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يَا أبَا أُمامَةَ، إنَّ مِنَ الْمُؤْمِنينَ مَنْ يَلِينُ لِي قَلْبُه". (3) انفرد (4) به أحمد (5) .
ثم قال تعالى: { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } الفظ: الغليظ، [و] (6) المراد به هاهنا غليظ الكلام؛ لقوله بعد ذلك: { غَلِيظَ الْقَلْبِ } أي: لو كنت سيِّئَ الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك، وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم، كما قال عبد الله بن عمرو: إنه رأى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة: أنه ليس بفَظٍّ، ولا غليظ، ولا سَخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح (7) .
وروى أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي، أنبأنا بشْر بن عُبَيد الدارمي، حدثنا عَمّار بن عبد الرحمن، عن المسعودي، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله أمَرَنِي بِمُدَارَاةِ النَّاس كَمَا أمَرني بِإقَامَة الْفَرَائِضِ" (8) حديث غريب (9) .
__________
(1) في جـ، أ، و: "كذا".
(2) في أ: "فبما رحمة من الله -أي برحمة من الله- لنت لهم".
(3) في جـ، ر، أ، و"له قلبي".
(4) في جـ، ر، أ، و: "تفرد".
(5) المسند (5/267).
(6) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (4838).
(8) في أ: "الصلاة".
(9) ورواه ابن مرديه في ثلاثة مجالس من الأمالى برقم (42) وابن عدي في الكامل (2/15) والديلمي في مسند الفردوس برقم (659) من طريق بشر بن عبيد به. وبشر بن عبيد قال ابن عدي: منكر الحديث عن الأئمة. وساق له الذهبي أحاديث، منها هذا الحديث، ثم قال: "وهذه الأحاديث غير صحيحة فالله المستعان".
ولهذا قال تعالى: { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } ولذلك (1) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حَدَث، تطييبًا لقلوبهم؛ ليكونوا فيما يفعلونه (2) أنشط (3) لهم [كما] (4) شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير (5) فقالوا: يا رسول الله، لو استعرضت بنا عُرْض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى بَرْك الغَمَاد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب، فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن [شمالك] (6) مقاتلون.
وشاورهم -أيضا-أين يكون المنزل؟ حتى أشار المنذر بن عمرو المعتق ليموتَ، بالتقدم إلى أمام القوم، وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهُورُهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم.
وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى عليه ذلك السَعْدَان: سعدُ بن معاذ وسعدُ بن عُبَادة، فترك ذلك.
وشاورهم يومَ الحُدَيبية في أن يميل على ذَرَاري المشركين، فقال له الصديق: إنا لم نجيء (7) لقتال أحد، وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال.
وقال عليه السلام (8) في قصة (9) الإفك: "أشِيروا عَلَيَّ مَعْشَرَ الْمُسْلِمينَ فِي قَوْمٍ أبَنُوا (10) أهلِي ورَمَوهُم، وايْمُ اللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أهْلِي مِنْ سُوءٍ، وأبَنُوهم بمَنْ -واللهِ-مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلا خَيْرًا". واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة، رضي الله عنها.
فكان (11) [صلى الله عليه وسلم] (12) يشاورهم في الحروب ونحوها. وقد اختلف الفقهاء: هل كان ذلك واجبا عليه أو من باب الندب تطييبا لقلوبهم؟ على قولين.
وقد قال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي، حدثنا يحيى بن أيوب العلاف (13) بمصر، حدثنا سعيد بن [أبي] (14) مريم، أنبأنا سفيان بن عيينة، عن عَمْرو بن دينار، عن ابن عباس في قوله: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ } قال: أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (15) .
وهكذا رواه الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر وعمر، وكانا حَوَاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وأبَوَي المسلمين.
وقد روى الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا عبد الحميد، عن شَهْرَ بن حَوْشَب، عن عبد الرحمن
__________
(1) في جـ، ر، أ، و: "وكذلك".
(2) في و: "ليكون ما يفعلونه".
(3) في ر: "أبسط".
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ، و: "النفير".
(6) زيادة من جـ، أ، و.
(7) في أ: "لم نأت".
(8) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(9) في جـ، أ: "قضية".
(10) في جـ، ر: "آنبوا".
(11) في أ: "وكان".
(12) زيادة من و.
(13) في أ: "العلائي".
(14) زيادة من جـ، ر.
(15) المستدرك (3/70).
بن غَنْم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: "لوِ اجْتَمَعْنا (1) فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا" (2) .
وروى ابن مَرْدُويه، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العَزْم؟ قال (3) "مُشَاوَرَةُ أهْلِ الرَّأْي ثُمَّ اتِّبَاعُهُمْ" (4) .
وقد قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن أبي بكير (5) عن شيبان (6) عن عبد الملك بن عُمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ".
ورواه أبو داود والترمذي، وحسّنه [و] (7) النسائي، من حديث عبد الملك بن عُمير بأبسط منه (8) .
ثم قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا أسود بن عامر، عن شريك، عن الأعمش، عن أبي عَمْرو الشيباني، عن أبي (9) مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ". تفرد به (10) .
[وقال أيضا] (11) وحدثنا أبو بكر، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذَا اسْتَشَارَ أحَدُكُمْ أخَاهُ فَليشِر (12) عليْهِ. تفرد به أيضا (13) .
وقوله: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي: إذا شاورتهم في الأمر وعزَمْت عليه فتوكل على الله فيه { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ }
وقوله: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وهذا كما تقدم من قوله: { وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [آل عمران:126] ثم أمرهم بالتوكل عليه فقال: { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }
وقوله: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وغير واحد: ما ينبغي لنبي أن يخون.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا المسيَّب بن واضح، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن
__________
(1) في جـ، ر، أ، و: "اجتمعتما".
(2) المسند (4/227).
(3) في أ، و: "فقال".
(4) ذكره السيوطي في الدر (2/360) وعزاه إلى ابن مردويه.
(5) في جـ، أ: "بكر".
(6) في جـ، ر، أ: "سفيان".
(7) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(8) سنن ابن ماجة برقم (3745) وسنن أبي داود برقم (5128) وسنن الترمذي برقم (2822، 2369، 2370).
(9) في جـ، ر: "ابن".
(10) سنن ابن ماجة برقم (3746) وقال البوصيري في الزوائد (3/181): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(11) زيادة من و.
(12) في أ: "فليشير".
(13) سنن ابن ماجة برقم (3747).
سفيان (1) [عن] (2) خصيف، عن عكرمة عن ابن عباس قال: فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها. فأنزل الله: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي: يخون.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا خصِيف، حدثنا مِقْسَم حدثني ابن عباس أن هذه الآية: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } نزلت في قطيفة (3) حمراء فُقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: أخذها (4) قال فأكثروا في ذلك، فأنزل الله: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
وكذا رواه أبو داود، رحمه الله، والترمذي جميعا، عن قتيبة، عن عبد الواحد بن زياد، به. وقال الترمذي: حسن غريب. ورواه بعضهم عن خَصِيف، عن مِقْسَم -يعني مرسلا (5) .
وروى ابن مَرْدُويه من طريق أبي عمرو بن العلاء، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: اتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فُقِد، فأنزل الله، عز وجل: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ }
وقد وروي من غير وجه عن ابن عباس نحو ما تقدم. وهذا تبرئة له، صلوات الله وسلامه عليه، عن جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك.
وقال العوفي عن ابن عباس: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي: بأن يَقْسم لبعض السرايا ويترك بعضا (6) وكذا قال الضحاك.
وقال محمد بن إسحاق: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } بأن يترك بعض ما أنزل إليه فلا يبلغه أمته.
وقرأ الحسن البصري وطاوس، ومجاهد، والضحاك: { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } بضم الياء أي: يخان.
وقال قتادة والربيع بن أنس: نزلت هذه الآية يوم بدر، وقد غَلّ بعض أصحابه. رواه ابن جرير عنهما، ثم حكى عن بعضهم أنه قرأ (7) هذه القراءة بمعنى يُتَّهم بالخيانة.
ثم قال تعالى: { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد. وقد وردت السنة بالنهي عن ذلك أيضا في أحاديث متعددة.
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك، حدثنا زهير -يعني ابن محمد-عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن عطاء بن يسار، عن أبي مالك الأشجعي [رضي الله عنه] (8) عن النبي صلى الله عليه وسلم (9) أعْظَمُ الْغُلُولِ عِنْدَ اللهِ ذِراعٌ مِنَ الأرْضِ: تَجِدُونَ الرَّجُلَيْن جَارَيْن في الأرْضِ -أو فِي الدَّار-فَيَقْطَعُ أحَدُهُمَا
__________
(1) في ر: "شقيق".
(2) زيادة من جـ، ر.
(3) في جـ، ر، أ، و: "أن هذه الآية نزلت: "وما كان لنبي أن يغل" في قطيفة".
(4) في جـ: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها"، وفي أ: "لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها".
(5) تفسير الطبري (7/348) وسنن أبي داود برقم (3977) وسنن الترمذي برقم (3009).
(6) في أ: "بعضها".
(7) في جـ، ر، أ، و: "فسر".
(8) زيادة من جـ، ر، أ.
(9) في جـ، ر: "النبي صلى الله عليه وسلم قال"
مِنْ حَظِ صِاحِبِه ذِراعًا، فَإذَا اقْتَطَعَهُ طُوِّقَهُ مِنْ سَبعِ (1) أرضِينَ إلى يَوْمِ الْقِيَامة" (2) .
["وفي الصحيحين عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ظلم قَيْد شبر من الأرض طُوِّقَه يوم القيامة من سبع أرضين"] (3) (4) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لَهِيعة، عن ابن (5) هُبَيْرة والحارث بن يزيد (6) عن عبد الرحمن بن جبير. قال: سمعت المُسْتَوْرد بن شدّاد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ وَلِيَ لَنَا عَمَلا وَلَيْسَ لَهُ مَنزلٌ فَلْيَتَّخِذْ مَنزلا أَوْ لَيْسَتْ لَهُ زَوْجَةٌ فَلْيَتَزَوَّجْ، أَوْ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَتَّخِذْ خَادِمًا، أَوْ لَيْسَت (7) لَهُ دَابَّةٌ فَلْيَتَّخِذْ دَابَّةً ، وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ" (8) .
هكذا رواه الإمام أحمد، وقد رواه أبو داود بسند آخر وسياق آخر فقال:
حدثنا موسى بن مروان الرَّقِّي، حدثنا المعافي، حدثنا الأوزاعي، عن الحارث بن يزيد (9) عن جبير بن نُفَير، عن المستورد بن شداد. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلا فَلْيَكْتَسِبْ زَوْجَةً ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَكْتَسِبْ خَادِمًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَلْيَكْتَسِبْ مَسْكَنًا". قال: قال أبو بكر: أُخْبِرْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ اتَّخَذَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ ، أَوْ سَارِقٌ" (10) .
قال شيخنا الحافظ المزّي [رحمه الله] (11) رواه جعفر بن محمد الفرْيَابي، عن موسى بن مروان فقال: عن عبد الرحمن بن جُبَير بدل جبير بن نفير، وهو أشبه بالصواب.
حديث آخر: قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا حَفْص (12) بن بشْر، حدثنا (13) يعقوب القُمّي (14) حدثنا حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى لله عليه وسلم "لا أعْرِفَنَّ أحَدَكُمْ يَأْتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْملُ شَاةً لَهَا ثُغَاءٌ، فَيُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فَأقُولُ: لا أمْلِكُ [لَكَ] (15) مِنَ اللهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُكَ. ولا أعْرِفَنَّ أحَدَكُمْ [يأْتِي] (16) يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ جَمَلا لَهُ رُغَاءٌ، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لا أمْلِكُ لَكَ مِن اللهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُكَ. ولا أعْرِفَنَّ أَحَدكمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ فَرَسًا لَهُ حَمْحَمَةٌ، يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ. فَأَقُولُ: لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، قَدْ
__________
(1) في أ، و: "في سبع".
(2) المسند (4/140).
(3) زيادة من أ، و.
(4) صحيح البخاري برقم (2452) وصحيح مسلم برقم (1610).
(5) في جـ، ر، أ، و: "أبي".
(6) في أ: ":سويد".
(7) في أ: "أو ليس".
(8) المسند (4/229).
(9) في جـ، أ: "شريك".
(10) سنن أبي داود برقم (2945).
(11) زيادة من و.
(12) في جـ: "جعفر".
(13) في جـ، ر: "عن".
(14) في جـ: "العمي".
(15) زيادة من جـ، والطبري.
(16) زيادة من جـ، والطبري.
بَلَّغْتُكَ. وَلا أعْرِفَنَّ أحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُ [قَشْعًا] (1) من أدْمٍ، يُنَادِي: يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ. فأقُولُ: لا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُكَ".
لم يروه أحدٌ من أهل (2) الكتب الستة (3) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، سمع عُرْوَة يقول: أخبرنا أبو حميد الساعدي قال: استعمل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلا من الأزْد يقال له: ابن اللُّتْبِيَّة على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: "مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَجِيءُ فَيَقُولُ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي. أَفَلا جَلَسَ (4) فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لا ؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَأْتِي أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا بِشَيْءٍ إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ" ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَةَ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ : "اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ" ثَلاثًا .
وزاد هشَام بن عُرْوَة: فقال (5) أبو حميد: بَصَرُ عيني، وسمع أذني، وسلوا (6) زيد بن ثابت.
أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة (7) وعند البخاري: وسلوا زيد بن ثابت. ومن غير وجه عن الزهري، ومن طريق (8) عن هشام بن عروة، كلاهما عن عروة، به.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا إسماعيل بن عَيَّاش، عن يحيى بن سعيد، عن عروة بن الزبير، عن أبي حُمَيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هَدَايا الْعُمَّالِ غُلُولٌ".
وهذا الحديث من أفراد أحمد (9) وهو ضعيف الإسناد، وكأنه مختصر من الذي قبله، والله أعلم.
حديث آخر: قال أبو عيسى الترمذي في كتاب الأحكام، حَدّثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو أسامة، عن داود بن يزيد الأوْدَي، عن المغيرة بن شِبْل، عن قيس بن أبي حازم، عن معاذ بن جَبَل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فلما سرت أرسل في أثَري فَرُددتُ، فقال: "أَتَدْرِي لِمَ بَعَثْتُ إلَيْكَ؟ لا تُصِيبَنَّ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِي فَإنَّهُ غُلُولٌ، { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } لهذا دَعَوْتُكَ، فَامْضِ لِعَمَلِكَ".
هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي الباب عن عَدِيّ بن عَميرة، وبُرَيدة، والمستورد بن شداد، وأبي حُمَيد، وابن عمر (10) .
__________
(1) زيادة من جـ، ر، والطبري وفي أ، و: "قسمان".
(2) في جـ، ر: "أصحاب".
(3) تفسير الطبري (7/358).
(4) في أ: "أجلس".
(5) في أ، و: "قال".
(6) في أ: "وسألوا".
(7) المسند (5/423) وصحيح البخاري برقم (2597، 7174) وصحيح مسلم برقم (1832).
(8) في أ: "طرق".
(9) المسند (5/424).
(10) سنن الترمذي برقم (1335).
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة، حدثنا أبو حيان يحيى بن سعيد التّيْميّ، عن أبي زُرْعَة بن عُمَر بن جرير، عن أبي هريرة، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فذكر الغُلُول فعَظَّمه وعَظَّم أمره، ثم قال: "لا أُلْفِيَنَّ أَحَدُكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا ، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ. لا أُلْفِيَنَّ أَحَدُكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أُلْفِيَنَّ أَحَدُكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي. فَأَقُولُ: لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، قَدْ بَلَّغْتُكَ".
أخرجاه من حديث أبي حَيَّان، به (1) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، حدثني قيس، عن عدِيّ بن عُميرَة الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَأَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَمِلَ لَنَا [مِنْكُمْ] (2) عملا (3) فكَتَمَنَا مِنْهُ (4) مِخْيَطا فَمَا فَوْقَهُ فَهُوَ غُلُّ يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قال: فقال (5) رجل من الأنصار أسود -قال مُجَالد: هو سعيد (6) بن عبادة -كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك. قال: "وَمَا (7) ذَاك؟" قال: سمعتك تقول كذا وكذا. قال: "وَأَنا أقُولُ ذَاكَ (8) الآن: مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئ بِقَليلِهِ وَكَثِيرِه، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَهُ. وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى". وكذا رواه مسلم، وأبو داود، من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد، به (9) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا أبو إسحاق الفَزَاري، عن ابن جُرَيج، حدثني منبوذ، رجل من آل أبي رافع، عن الفضل بن عبيد الله (10) بن أبي رافع، عن أبي رافع قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى العصر رُبَّما ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث معهم حتى ينحدر المغرب (11) قال أبو رافع: فبينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مسرعًا إلى المغرب إذ مر بالبقيع فقال: "أُفٍّ لَكَ.. أُفٍّ لَكَ" مرتين، فكبر (12) في [ذرعي] (13) وتأخرت وظننت أنه يريدني، فقال: "مَا لَكَ؟ امش" قال: قلتُ: أحدثت حدثا يا رسول الله؟ قال: "وَمَا ذَاكَ؟" قلت: أفَّفْتَ بي (14) قال: "لا وَلَكِنْ هَذَا قَبْرُ فُلانٍ، بَعَثْتُهُ (15) سَاعِيًا عَلَى آلِ فُلانٍ، فَغَلَّ نَمِرَة فَدُرِعَ الآنَ مِثْلَهُ مِنْ نَارٍ" (16) .
حديث آخر: قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن سالم الكوفي المفلوج -وكان بمكة-
__________
(1) المسند (2/426) وصحيح البخاري برقم (3073) وصحيح مسلم برقم (1831).
(2) زيادة من جـ، والمسند.
(3) في أ، و: "في عمل".
(4) في جـ: "من عمل منكم لنا في عمل كتمنا به".
(5) في جـ، ر: "فقام".
(6) في أ، و: "سعد".
(7) في جـ، أ: "فما".
(8) في أ: "ذلك".
(9) المسند (4/192) وصحيح مسلم برقم (1833).
(10) في جـ، ر، أ: "عبد الله".
(11) في جـ، ر، أ، و: "للمغرب".
(12) في جـ، ر: "فليس".
(13) زيادة من جـ، ر، أ، و، والمسند.
(14) في جـ، ر، أ، و: "لي".
(15) في و: "نبعثه".
(16) المسند (6/392).
حدثنا عُبَيْدة بن الأسود، عن القاسم بن الوليد، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجد، عن عبادة بن الصامت، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم، ثم يقول: "مَا لِيَ فِيهِ إلا مِثْلَ مَا لأحَدِكُمْ، إيَّاكُمْ والْغُلُولَ، فَإنَّ الْغُلُولَ خزْي عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أدُّوا الخَيْطَ والمِخْيَطَ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَجَاهِدُوا فِي سبيل الله الْقَرِيب (1) والْبَعِيدَ، في الْحَضَرِ والسَّفَرِ، فإنَّ الجِهَادَ بَابٌ مِنْ أبْوَابِ الْجَنَّةِ، إنَّهُ لَيُنْجِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهَمِّ والْغَمِّ؛ وأقِيمُوا حُدُودَ اللهِ فِي الْقَرِيبِ والْبَعِيدِ، وَلا تَأْخُذُكُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائمٍ". وقد روى ابنُ ماجة بَعْضَه عن المفلوج، به (2) .
حديث آخر: عن عَمْرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُدُّوا الْخِيَاط (3) وَالْمِخْيَطَ، فَإنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَنارٌ وَشَنَارٌ عَلَى أهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (4) .
حديث آخر: قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن مُطَرِّف، عن أبي الجَهْم، عن أبي مسعود الأنصاري قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيًا ثم قال: "انْطَلِقْ -أَبَا مَسْعُودٍ-لا أُلْفِيَنَّكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَجِيءُ عَلَى ظَهْرِكَ بَعِيرٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ لَهُ رُغَاءٌ قَدْ غَلَلْتَهُ". قال: إِذًا لا أَنْطَلِقُ. قال: إِذًا لا أُكْرِهُكَ". تفرد به أبو داود (5) .
حديث آخر: قال أبو بكر بن مَرْدُويَه: أنبأنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، أنبأنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، أنبأنا عبد الحميد بن صالح أنبأنا أحمد بن أبان، عن علقمة بن مَرْثَد، عن ابن (6) بُرَيدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ الْحَجَرَ لَيُرْمَى بِهِ [فِي] (7) جَهَنَّمَ فَيَهْوِي سَبْعِينَ خَرَيِفًا مَا يَبْلُغُ قَعْرَهَا، وَيُؤْتَى بِالْغُلُولِ فَيُقْذَفُ مَعَهُ"، ثم يُقَالُ لَمَنْ غَلَّ ائْتِ بِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (8) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم (9) بن القاسم، حدثنا عِكْرِمة بن عمار، حدثني سماك الحَنفي أبو زُميل، حدثني عبد الله بن عباس، حدثني عُمَر بن الخطاب قال: لما كان يومُ خَيْبَر أقبل نَفَر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد. حتى أَتوْا على رجل فقالوا: فلان شهيد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَلا إنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا -أو عَبَاءَةٍ". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ: إنَّه لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلا الْمُؤْمِنُونَ". قال: فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
__________
(1) في و: "بالقريب".
(2) المسند (5/330) وهذا الحديث من زيادات عبد الله بن أحمد على مسند أبيه، وسنن ابن ماجة برقم (2540).
(3) في ر: "المخياط".
(4) المسند (2/184).
(5) سنن أبي داود برقم (2947).
(6) في جـ، ر، أ: "أبي".
(7) زيادة من جـ، ر، والمعجم الكبير.
(8) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/21) والبيهقي في شعب الإيمان برقم (4334) من طريق محمد بن أبان عن علقمة بن مرثد به، وفي إسناده محمد بن أبان الجعفي ضعيف.
(9) في جـ: "هشام".
وكذا رواه مسلم، والترمذي من حديث عكرمة بن عمار به. وقال الترمذي: حسن صحيح (1) .
حديث آخر: قال ابن جرير: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي، حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عُبَادة مُصَدقًا، فقالَ: "إيَّاكَ يَا سَعْدُ أنْ تَجِيء يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِبَعِيرٍ تَحْمِلُهُ لَهُ رُغَاءٌ" قَالَ: لا آخذه ولا أجيء به. فأعفاه. ثم رواه من طريق عُبَيد الله (2) عن نافع، به، نحوه (3) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا عبد العزيز بن محمد، حدثنا صالح بن محمد بن زائدة، عن سالم بن عبد الله، أنه كان مع مَسْلَمة بن عبد الملك في أرض الروم، فوُجِد في متاع رجل غُلُول. قال: فسأل سالمَ بْنَ عبد الله فقال: حدثني أبي عبدُ الله، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ وَجَدْتُمْ فِي مَتَاعِهِ غُلُولا فأحْرِقُوهُ": قال: وأحسبه قال: واضربوه قال: فأخرج متاعَه في السوق، فَوَجَد فيه مصحفا، فسأل سالم: بعهُ وَتَصَدَّقْ بثمنه.
وهكذا رواه علي بن المديني، وأبو داود، والترمذي من حديث عبد العزيز بن محمد الأتَدْرَاوَرْدي (4) -زاد أبو داود: وأبو إسحاق الفزاري-كلاهما عن أبي واقد الليثي الصغير صالح بن محمد بن زائدة، به (5) .
وقد قال علي بن المديني، رحمه الله، والبخاري وغيرهما: هذا حديث منكر من رواية أبي واقد هذا. وقال الدارقطني: الصحيح أنه من فتوى سالم فقط، وقد ذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الإمام [أحمد] (6) بن حنبل، رحمه الله، ومن تابعه من أصحابه، وخالفه أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، والجمهور، فقالوا: لا يحرق متاع الغالّ، بل يعزر تعزير مثله. وقال البخاري: وقد امتنع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال، ولم يحرق متاعه، والله أعلم.
طريق أخرى عن عمر: قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث: أن موسى بن جُبَير حدثه: أن عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري حدثه: أن عبد الله بن أنيس حدثه: أنه تذاكر هو وعمر بن الخطاب يوما الصدقة فقال: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة: "مَنْ غَلَّ مِنْهَا بَعِيرًا أوْ شَاةً، فإنَّهُ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"؟ قال عبد الله بن أنيس: بلى.
ورواه ابن ماجة، عن عمرو بن سَوّاد، عن عبد الله بن وهب، به (7) .
ورواه الأموي عن معاوية، عن أبي إسحاق، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال: عقوبة الغال
__________
(1) المسند (1/30) وصحيح مسلم برقم (114) وسنن الترمذي برقم (1574).
(2) في جـ، ر، أ: "عبد الله".
(3) تفسير الطبري (7/361).
(4) في جـ، ر، أ: "الدراوردي".
(5) المسند (1/22) وسنن أبي داود برقم (2713، 2714) وسنن الترمذي برقم (1461) وقال: "حديث غريب".
(6) زيادة من جـ، ر، أ.
(7) تفسير الطبري (7/360) وسنن ابن ماجة برقم (1810) وقال البوصيري في الزوائد (2/56): "هذا إسناد فيه مقال موسى بن جبير قال فيه ابن حبان في الثقات: يخطئ ويخالف، وقال الذهبي في الكاشف: ثقة، ولم أر لغيرهما فيه كلاما، وعبد الله بن عبد الرحمن ذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد ثقات".
أن يخرج رحله ويحرق على ما فيه.
ثم روي عن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن علي [رضي الله عنه] (1) قال: الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد [المملوك، ويحرم نصيبه، وخالفه أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا: لا يحرق متاع الغال، بل يعزر تعزير مثله، وقد قال البخاري: وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال ولم يحرق متاعه، والله أعلم] (2) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، أنبأنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن خُمَيْر (3) بن مالك قال: أُمر بالمصاحف أن تُغَيَّرَ قال: فقال ابن مسعود: من استطاع منكم أن يَغُلَّ مصحفا (4) فلْيغُلُّه، فإنه من غَلَّ شيئا جاء به يوم القيامة، ثم قال (5) قرأت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، أفأترك ما أخذتُ من في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (6) .
وروى وَكِيع في تفسيره عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم، قال: لما أمر بتحريق (7) المصاحف قال عبد الله: يا أيها الناس، غُلُّوا المصاحف، فإنه من غَلّ يأت بما غَلّ يوم القيامة، ونعم الغُل المصحف. يأتي به أحدكم يوم القيامة (8) .
وقال [أبو] (9) داود عن سَمُرَة بن جُنْدُب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس، فَيَجيئُون بغنائمهم يخمسه ويُقسمه، فجاء رجل يوما بعد النداء بزمام من شعر فقال: يا رسول الله، هذا كان مما (10) أصبنا (11) من الغنيمة. فقال: "أسَمِعْتَ بِلالا يُنَادِي ثلاثا؟"، قال: نعم. قال: "فَمَا مَنَعَكَ أنْ تَجِيء بِه؟" فاعتذر إليه، فقال: "كَلا أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَنْ أقْبَلَهُ مِنْكَ" (12) .
وقوله: { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي: لا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه، فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه وأُجِير من وَبِيل عقابه، ومن استحق غضب الله وألزم به، فلا محيد له عنه، ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير.
وهذه لها نظائر في القرآن كثيرة كقوله تعالى: { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } [الرعد:19] وكقوله { أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ] (13) } [القصص:61].
__________
(1) زيادة من ر.
(2) زيادة من و.
(3) في هـ، جـ، ر: "جبير" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه من المسند (1/414). وانظر تعليق أحمد شاكر على الحديث رقم (3929).
(4) في جـ، ر، أ، و: "مصحفه".
(5) في جـ، ر: "قال: ثم قال".
(6) المسند (1/414) ورواه ابن أبي داود في المصاحف (ص 21) من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق به.
(7) في أ، و: "بتمزيق".
(8) ورواه بن أبي داود في المصاحف (ص 22) من طريق وكيع به.
(9) زيادة من جـ، ر.
(10) في جـ، ر، أ: "فيما".
(11) في ر:، أ: "أصبناه".
(12) رواه أبو داود في سننه برقم (2712) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بأنه عن سمرة بن جندب وهم. وقد ذكر هذا الحديث الحافظ المزي من مسند عبد الله بن عمرو في كتابه القيم "تحفة الأشراف".
(13) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
ثم قال: { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ } قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق: يعني: أهل الخير وأهل الشر درجات، وقال أبو عبيدةَ والكسائي: منازل، يعني: متفاوتون في منازلهم ودرجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار، كما قال تعالى: { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } الآية [الأنعام:132] ؛ ولهذا قال: { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي: وسَيُوفيهم إياها، لا يظلمهم خيرا ولا يزيدهم شرا، بل يجازي كلا بعمله.
وقوله: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أي: من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به، كما قال تَعالَى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ (1) لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا } [الروم:21] أي: من جنسكم. وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [الكهف:110] وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } [الفرقان:20] وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [يوسف:109] وقال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [الأنعام:130] فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسل إليهم منهم، بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فَهْم الكلام عنه، ولهذا قال: { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } يعني: القرآن { وَيُزَكِّيهِمْ } أي: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكُوَ نفوسهم وتطهر من الدَّنَسِ والخَبَث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم (2) { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } يعني: القرآن والسنة { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ } أي: من قبل هذا الرسول { لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي: لفي غَي وجهل ظاهر جليّ بين لكُل أحد.
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) }
__________
(1) في جـ، ر، أ: "جعل".
(2) في أ: "مشركهم وجاهلهم".
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) }
يقول تعالى: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } وهي ما أصيب منهم يوم أُحد من قتل السبعين منهم { قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا } يعني: يوم بَدْر، فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلا وأسروا سبعين أسيرا { قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا } أي: من أين جرى علينا هذا؟ { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ }
قال ابن أبي حاتم: ذكره أبي، أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا قُرَاد أبو (1) نوح، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا سِمَاك الحنفي أبو زُميل، حدثني ابن عباس، حدثني عُمَر بن الخطاب قال: لما كان يومُ أحد من العام المقبل، عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفِدَاء، فقتل منهم سبعون وفَرَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، وكُسرت رَبَاعِيتُه وهُشمَت البَيْضَة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فأنزل الله عز وجل: { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } بأخذكم الفداء.
وهكذا رواه الإمام أحمد (2) عن عبد الرحمن بن غَزْوان، وهو قُرَاد أبو نوح، بإسناده ولكن بأطول منه، وكذا قال الحسن البصري.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة عن ابن عوْن، عن محمد عن عَبيدة قال سُنَيد -وهو حسين-: وحدثني حجاج عن جَرير، عن محمد، عن عَبيدة، عن علي، رضي الله عنه، قال: جاء جبريل، عليه السلام، إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن الله قد كَرِه ما صنع قومُك في أخذهم الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين، إما أن يُقدموا فتضرب (3) أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء، على أن يُقْتَل منهم عدّتهم. قال: فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ فذكر ذلك لهم، فقالوا: يا رسول الله، عشائرنا وإخواننا، ألا نأخذ فداءهم فَنتَقوّى (4) به على قتال عدونا، ويستشهد منا عدّتهم، فليس في ذلك ما نكره؟ قال: فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث أبي داود الحَفْري، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن سفيان بن سعيد، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، به. ثم قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة. وروى أبو أسامة عن هشَام نحوه. وروى عن ابن سِيرِين عن عبيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا (5) .
وقال محمد بن إسحاق، وابن جريج، والربيع بن أنس، والسديِّ: { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } أي: بسبب عصيانكم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم، يعني بذلك الرماة { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا مُعَقبَ لحكمه (6) .
ثم قال تعالى:
{ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ } أي: فراركم بين يدي عدوكم وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين، كان بقضاء الله وقدره، وله الحكمة في ذلك. [وقوله] (7) { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } أي: الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا.
__________
(1) في أ، و: "بن".
(2) المسند (1/30، 31).
(3) في جـ، أ، و: "فيضرب".
(4) في ر: "فنقوى".
(5) تفسير الطبري (7/376) وسنن الترمذي برقم (1567) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8662).
(6) انظر: تفسير الطبري (7/374).
(7) زيادة من جـ، ر.
{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ } يعني [بذلك] (1) أصحاب عبد الله بن أبي ابن سلول الذين رجعوا معه في (2) أثناء الطريق، فاتبعهم من اتبعهم من المؤمنين يحرضونهم على الإياب والقتال والمساعدة؛ ولهذا قال: { أَوِ ادْفَعُوا } قال ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جُبَير، والضحاك، وأبو صالح، والحسن، والسُّدِّي: يعني (3) كَثروا سواد المسلمين. وقال الحسن بن صالح: ادفعوا بالدعاء. وقال غيره: رابطوا. فتعلَّلوا قائلين: { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ } قال مجاهد: يعنون لو نعلم أنكم تلقون حربا لجئناكم، ولكن لا تلقون قتالا.
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد (4) بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا، كُلهم قد حدث قال: خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني حين خرج إلى أحد-في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كان بالشَّوط -بين أحد والمدينة-انحاز (5) عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس، وقال (6) أطاعهم فخرج وعصاني، ووالله ما ندري علام نقتُل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن (7) اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عَمرو بن حرام أخو بني سَلمة، يقول: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبَوْا إلا الانصراف عنهم، قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيُغْنى (8) الله عنكم. ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم (9) .
قال الله تعالى: { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ } استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال، فيكون في حال أقرب إلى الكفر، وفي حال أقرب [إلى] (10) الإيمان؛ لقوله: { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ }
ثم قال: { يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } يعني: أنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته، ومنه قولهم هذا: { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ } فإنهم يتحققون أن جندا من المشركين قد جاءوا من بلاد بعيدة، يتحرقون على المسلمين بسبب ما أصيب من سراتهم يوم بدر، وهم أضعاف المسلمين، أنه كائن بينهم قتال (11) لا محالة؛ ولهذا قال تعالى: { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } .
وقوله: { الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } أي: لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل. قال الله تعالى: { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي: إن كان القُعود يَسْلَم (12) به الشخص من القتل والموت، فينبغي، أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في
__________
(1) زيادة من جـ، ر.
(2) في أ، و: "من".
(3) في أ: "بعد".
(4) في ر: "وعن محمد".
(5) في جـ، ر، أ، و: "انحذل".
(6) في أ، و: "فقال".
(7) في ر: "من".
(8) في أ: "يستغنى".
(9) سيرة ابن إسحاق (ظاهرية ق 166-168) ورواه الطبري في تفسيره (7/378) من طريق ابن إسحاق به.
(10) زيادة من جـ، ر.
(11) في ر: "قتالا".
(12) في ر: "القول يدفع".
فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
بروج مُشَيّدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد، عن جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول.
{ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) }
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
{ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) }
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحَهم حية مرزوقة في دار القرار.
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن مرزوق، حدثنا عُمَر بن يونس، عن عِكْرِمة، حدثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة، حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين (1) أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة قال: لا أدري أربعين أو سبعين. وعلى ذلك الماء عامر بن الطُّفَيل الجعفري، فخرج أولئك النَّفَر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتَوْا (2) غارا مُشْرِفا على الماء فقعدوا (3) فيه، ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يُبَلِّغ رسَالَة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهْلَ هذا الماء؟ فقال -أرَاه ابن ملْحان الأنصاري-: أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخَرَج حتى أتى حيا (4) [منهم] (5) فاختبأ أمام البيوت، ثم قال: يا أهل بئر مَعُونة، إني رسولُ رسول الله إليكم، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله. فخرج إليه رَجُل من كسر البيت برُمْح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر. فقال: الله أكبر، فُزْتُ ورب الكعبة. فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامرُ بن الطفيل. وقال إسحاق: حدثني أنس بن مالك: أن الله [تعالى] (6) أنزل فيهم قرآنا: بَلِّغُوا عنا قَوْمَنا أنَّا قد لقينا رَبَّنا فَرَضي عَنَّا ورَضينا عَنْه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناه زَمَنًا (7) وأنزل الله: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } (8) .
وقد قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه: حدثنا محمد بن عبد الله بن نُمَير، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمَشُ، عن عبد الله بن مُرَّةَ، عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } فقال: أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال: "أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ (9)
__________
(1) في أ: "الذي".
(2) في ر: "حتى إذا أتوا".
(3) في جـ، ر: "قعدوا".
(4) في هـ، جـ، ر، أ، و: "حول"، والمثبت من الطبري.
(5) زيادة من جـ، ر.
(6) زيادة من أ.
(7) في أ، و: "زمانا".
(8) تفسير الطبري (7/392، 393) ورواه البخاري في صحيحه برقم (2801) من طريق همام عن إسحاق بن أبي طلحة به.
(9) في أ: "أهل الجنة".
حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ فَقَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ (1) يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ، نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا" (2) . وقد روي نحوه عن أنس وأبي سعيد.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حَمَّاد، حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ، لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا إِلا الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ".
انفرد (3) به مسلم من طريق حماد (4) (5) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله المديني، حدثنا سفيان، عَن (6) محمد بن علي بن رَبيعة السلمي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أما عَلِمْتَ (7) أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ لَهُ: تَمَنَّ عَلَيَّ ، فَقَالَ لَهُ: أُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقْتَلُ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: إِنِّي قَضَيْتُ الْحُكْمَ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ".
انفرد (8) به أحمد من هذا الوجه (9) وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر -وهو عبد الله بن عَمْرو بن حَرام الأنصاري رضي الله عنه-قتل يوم أحد شهيدا. قال البخاري: وقال أبو الوليد، عن شعبة عن ابن المُنْكَدِر قال: سمعت جابرا قال: لما قُتِل أبي جعلتُ أبكي وأكشفُ الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينْهَوني (10) والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَبْكِهِ (11) -أو: مَا تَبْكِيهِ (12) -ما زَالَتِ الْملائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِها حَتَّى رُفِعَ". وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طريق آخر (13) عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: لما قتلَ أبي يوم أحد، جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي... وذكر تمامة بنحوه (14) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا إسماعيل بن أمية بن عَمْرو بن سعيد، عن أبي الزبير المكي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا أُصِيبَ (15) إخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ ،
__________
(1) في أ: "لم".
(2) صحيح مسلم برقم (1887).
(3) في و: "تفرد".
(4) في أ: "حماد به".
(5) المسند (3/126) وصحيح مسلم برقم (1877) لكن من طريق حميد وقتادة عن أنس به.
(6) في جـ، ر، أ، و: "حدثنا".
(7) في جـ، ر، أ، و: "أعلمت".
(8) في أ، و: "تفرد".
(9) المسند (3/361).
(10) في و: "ينهونني".
(11) في أ، و: "تبكه" وهو الصحيح.
(12) في أ، و: "ما يبكيه".
(13) في أ، و: "من طرق أخر".
(14) صحيح البخاري برقم (4080) وصحيح مسلم برقم (2471) وسنن النسائي (4/13).
(15) في أ: "أصيبت".
وَمَأْكَلِهِمْ، وَحُسْنَ مُنْقَلَبِهِم (1) قَالُوا: يَا لَيْتَ إِخْوَانَنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللَّهُ لَنَا، لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ، وَلا يَنْكُلُوا عَنْ الْحَرْبِ" فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ. فَأَنزلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ الآيَاتِ: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } وما بعدها".
هكذا رواه [الإمام] (2) أحمد، وكذا رواه ابن جرير عن يونس، عن ابن وَهْب، عن إسماعيل بن عَيَّاش (3) عن محمد بن إسحاق به (4) ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس فذكره، وهذا أثبت (5) . وكذا رواه سفيان الثوري، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس.
وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري، عن سفيان (6) عن إسماعيل (7) بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (8) .
وكذا قال قتادة، والربيع، والضحاك: إنها نزلت في قتلى أحد.
حديث آخر: قال أبو بكر بن مَرْدُويَه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا هارون بن سليمان (9) أنبأنا علي بن عبد الله المديني، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري، سمعت طلحة بن خِرَاش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري، قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "يا جابر، مَا لِي أراك مُهْتَما؟" قال: قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك (10) دَينا وعيالا. قال: فقال: "ألا أُخْبِرُكَ؟ مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا -قال علي: الكفَاح: المواجهة -فَقَالَ: سَلْني أعْطكَ. قَالَ: أَسْأَلُكَ أنْ أُرَدَّ إلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيْكَ ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إنَّهُ سَبَقَ مِنِّي القول أنَّهُمْ إلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ. قَالَ: أيْ رَبِّ: فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي. فَأَنزلَ اللهُ [عَزَّ وجَلَّ] (11) { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا } الآية (12) .
ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سبيط الأنصاري، عن أبيه، عن جابر، به نحوه. وكذا رواه البيهقي في "دلائل النبوة" من طريق علي بن المديني، به (13) .
__________
(1) في أ: "مقيلهم".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ: "عباس".
(4) المسند (1/265) وتفسير الطبري (7/385).
(5) سنن أبي داود برقم (2520) والمستدرك (2/297) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.
(6) في ر: أبي سفيان" وهو خطأ. انظر: المستدرك (2/387).
(7) في و: "أبي إسماعيل" وهو خطأ.
(8) المستدرك (2/387).
(9) في و: "سليم".
(10) في أ: "وترك عليه".
(11) زيادة من جـ، أ.
(12) في أ، و: "حتى أنفذ الآية".
(13) دلائل النبوة للبيهقي (3/299).
وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري، وهو عيسى بن عبد الرحمن، إن شاء الله، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة [رضي الله عنها] (1) قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر: "يَا جَابِرُ، ألا أُبَشِّرُكَ؟ قال: بلى. بشّرك الله بالخير. قال (2) شَعَرْتُ أنَّ اللهَ أحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ: تَمَنَّ عَلَيَّ عَبْدِي مَا شِئْتَ أُعْطِكَه. قَالَ: يَا رَبِّ، مَا عَبَدْتُكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ. أتَمَنَّى عَلَيْكَ أنْ تَرُدَّنِي إلَى الدُّنْيَا فَأُقَاتِلَ (3) مَعَ نَبِيَّكَ، وأُقْتَلَ فِيْكَ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ: إنَّهُ سَلَفَ مِنِّي أنَّهُ إلَيْهَا [لا] (4) يَرْجعُ" (5) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثنا الحارث بن فُضَيْل الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ، فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا".
تفرد (6) به أحمد، وقد رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، وعَبَدة (7) عن محمد بن إسحاق، به. وهو إسناد جيد (8) .
وكان الشهداء أقسام: منهم من تسرح (9) أرواحهم في الجنة، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، والله أعلم.
وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النضرة والسرور، وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة؛ فإن الإمام أحمد، رحمه الله، رواه عن [الإمام] (10) محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله، عن مالك بن أنس الأصبحي، رحمه الله، عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَسَمةُ الْمؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلق (11) في شَجِر الجَنَّةِ، حتى يُرْجِعَهُ اللهُ إلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ" (12) .
قوله: "يعلق" (13) أي: يأكل (14) .
وفي هذا الحديث: "إنَّ روحَ الْمؤْمنِ تَكُونُ عَلَى شَكْلِ طَائِرٍ فِي الْجَنَّةِ".
وأما أرواح الشهداء، فكما تقدم في حواصل طير خضر، فهي كالكواكب (15) بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها، فنسأل الله الكريم المنان أن يثبتنا (16) على الإيمان.
__________
(1) زيادة من ر.
(2) في جـ، أ: "قال: قال".
(3) في جـ، ر، أ، و: "فأقتل".
(4) زيادة من جـ، ر، ودلائل النبوة".
(5) دلائل النبوة للبيهقي (3/298).
(6) في أ: "انفرد".
(7) في جـ، ر: "عبيدة".
(8) المسند (1/266) وتفسير الطبري (7/387).
(9) في جـ: "يسرح".
(10) زيادة من أ.
(11) في جـ، ر: "تعلق".
(12) المسند (3/455).
(13) في جـ، ر: "تعلق"، وفي أ: "يتعلق".
(14) في جـ: "تأكل".
(15) في جـ، ر: "كالراكب".
(16) في و: "يمتنا".
وقوله: { فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ [مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ] (1) } أي: الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند الله، وهم فَرحون (2) مما هم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون (3) بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدَمون عليهم، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم.
قال محمد بن إسحاق { وَيَسْتَبْشِرُونَ } أي: ويُسَرون بلحوق من خَلْفهم (4) من إخوانهم على ما مَضَوْا عليه من جهادهم؛ ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم.
[و] (5) قال السدي: يُؤتى الشهيد بكتاب فيه: "يَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا، ويَقْدَمُ عَلَيْكَ فُلانٌ يَوْمَ كَذَا وكَذَا، فَيُسَرُّ بِذَلِكَ كَمَا يُسَرُّ أَهْلُ الدُّنْيَا بِقُدُومِ غُيَّابِهِمْ" (6) .
وقال سعيد بن جبير: لَمّا دخلوا الجنة ورَأوْا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة، فإذا شهدوا للقتال (7) باشروها بأنفسهم، حتى ويُستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير، فأُخبِر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم -أي ربهم-[أني] (8) قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم، وما أنتم فيه، فاستَبْشروا بذلك، فذلك قوله: { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } الآية.
وقد ثبت في الصحيحين عن أنس، رضي الله عنه، في قصة أصحاب بئر مَعُونة السبعين من الأنصار، الذين قتلوا في غداة واحدة، وقَنَت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوهم، يدعو عليهم ويَلْعَنهم، قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع: "أنْ بَلغُوا عَنّا قَوْمَنا أنّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنّا وأرْضَانا" (9) .
ثم قال: { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } قال محمد بن إسحاق: استبشروا وسُرّوا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثواب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم، سواء الشهداء وغيرهم، وقَلَّما ذكر الله فضلا ذكر (10) به الأنبياء وثوابا أعطاهم إلا ذكر ما أعطى الله المؤمنين من بعدهم.
وقوله: { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } هذا كان يوم "حمراء الأسد"، وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كرُّوا راجعين إلى بلادهم، فلما استمروا (11) في سيرهم تَنَدّمُوا لم لا تَمَّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليُرْعِبَهم ويريهم أن بهم قُوّةً وجلدا، ولم يأذنْ لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد، سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه -لما سنذكره-فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله [عز وجل] (12) ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) زيادة في جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "إلى آخر الآية".
(2) في أ: "فرحين" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
(3) في جـ، ر، أ: "ويستبشرون".
(4) في جـ، ر، أ، و: "لحقهم".
(5) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(6) في جـ، ر، أ، و: "غايبهم".
(7) في أ، و: "القتال".
(8) زيادة من جـ، ر.
(9) صحيح البخاري برقم (2801، 4095) وصحيح مسلم برقم (677).
(10) في جـ، ر: "ذكرته".
(11) في أ: "استقروا".
(12) زيادة من و.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما (1) صنعتم، ارجعوا. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حَمْراء الأسد -أو: بئر أبي عيينة (2) -الشك من سفيان-فقال المشركون: نرجع من قابل. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تعد (3) غزوة، فأنزل (4) الله عز وجل: { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ }
ورواه ابن مَرْدويه من حديث محمد بن منصور، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس فذكره (5) .
وقال محمد بن إسحاق: كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لستّ عشرةَ ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه ألا يخرج (6) معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عَمْرو بن حرام فقال: يا رسول الله، إن أبي كان خَلَّفني على أخوات لي سَبْع وقال: يا بَنَيّ، إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النّسوةَ لا رجلَ فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي، فتخلّف على أخواتك، فتخلفت عليهن، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه. وإنما خرج رسول الله مُرْهبا للعدو، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوةً، وأن الذي أصابهم لم يُوهنْهم عن عدوهم.
قال ابن إسحاق: حدثني (7) عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان؛ أن رجلا من أصحاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل، كان شَهد أحدا قال: شهدتُ أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي (8) فرجعنا جريحين، فلما أذّن مُؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدوّ، قلتُ لأخي -أو قال (9) لي-: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابَّة نركبها، وما منّا إلا جريح ثَقيل، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أيسر جراحا (10) منه، فكان إذا غُلب حملته عُقْبة ومشى عُقْبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون (11) .
وقال البخاري: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا أبو معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ] (12) } قالت (13) لعروة: يا ابن أختي، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر، رضي الله عنهما، لمّا أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا فقال: "مَنْ يَرْجِعُ فِي إثْرِهِمْ؟" فانتدبَ منهم سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير، رضي الله عنهما.
__________
(1) في جـ: "وبئس".
(2) في جـ، أ، و: "عتبة".
(3) في و: "بعد".
(4) في جـ، ر، أ، و: "وأنزل".
(5) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11083) من طريق سفيان عن عمرو به.
(6) في جـ، ر، أ، و: "يخرجن".
(7) في ر، أ، و: "فحدثني".
(8) في جـ، ر، أ، و: "أخ لي".
(9) في ر: "وقال".
(10) في جـ، ر، أ، "جرحا".
(11) السيرة النبوية لابن هشام (2/101) وتفسير الطبري (7/399، 400) كلاهما من طريق ابن إسحاق به.
(12) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(13) في أ: "قال".
هكذا رواه البخاري منفردا به، بهذا السياق. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصَم، عن العباس الدوري، عن أبي النضر، عن أبى سعيد المؤدب، عن هشام بن عروة، به، ثم قال: صحيح ولم يخرجاه. كذا قال (1) .
ورواه أيضا من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن البَهِيّ، عن عروة قال: قالت لي عائشة: يا بُني، إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (2) .
وروى ابن ماجة، عن هشام بن عمّار، وهُدْبَة بن عبد الوهاب عن سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة به وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان، به (3) .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه. حدثنا عبد الله بن جعفر من أصل كتابه، أنبأنا سَمويه، أنبأنا عبد الله بن الزبير، أنبأنا سفيان، أنبأنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنْ كَانَ أبَواك لَمن (4) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ: أبو بكر والزبير، رضي الله عنهما" (5) .
ورفْعُ هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده، لمخالفته رواية (6) الثقات من وقْفه على عائشة كما قدمناه، ومن جهة معناه، فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة، وإنما قالت عائشة لعروة بن الزبير ذلك لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي، [حدثني] (7) عَمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن الله قَذَفَ في قَلْب أبي سفيان الرُّعْب يوم أحد بعد ما (8) كان منه ما كان، فرجع إلى مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ أَصَابَ مِنْكُمْ طَرَفًا، وَقَدْ رَجَعَ، وَقَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ الرُّعْبَ". وكانت وقعةُ أحد في شوال، وكان التجار يَقْدَمون المدينة في ذي القعدة، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مَرة، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد (9) وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واشتد عليهم الذي أصابهم. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَدَب الناس لينطلقوا معه، ويتبعوا ما كانوا مُتَّبعين، وقال: "إنَّمَا يَرْتَحِلُونَ الآنَ فَيَأْتُونَ الْحَجَّ ولا يَقْدرُونَ عَلَى مِثْلِهَا حَتَّى عَامٍ مُقْبِلٍ". فجاء الشيطان فخوف أولياءه فقال: إن الناس قد جمعوا لكم فأبى عليه الناس أن يتبعوه، فقال: "إنَّي ذَاهِبٌ وإنْ لمْ يَتْبَعْنِي أحَدٌ". لأحضض الناس، فانتدب معه أبو بكر الصديق، وعمر،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4077) والمستدرك (2/298) وفيه أن المخاطب بقول عائشة عبد الله بن الزبير وليس عروة، كما في رواية البخاري.
(2) المستدرك (3/363).
(3) سنن ابن ماجة برقم (124).
(4) في جـ، أ: "من".
(5) هذا الحديث لا يصح مرفوعا فهو مضطرب. وقد بين الحافظ ابن كثير وجه اضطرابه، وقد روى ابن جرير في تفسيره (7/402) أن عائشة قالت ذلك لعبد الله بن الزبير بنفس هذا اللفظ، فقد يكون الوهم من أحد الرواة أو من كتابه.
(6) في ر: "رواته".
(7) زيادة من جـ، والطبري.
(8) في أ، و: "الذي".
(9) في أ: "أحد في شوال".
وعثمان، وعلي، والزبير، وسعد، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا فساروا في طلب أبي سفيان، فطلبوا حتى بلغوا الصفراء، فأنزل الله [عز وجل] (1) { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ [الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ] } (2) (3) .
ثم قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مَكْتوم فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة. وقد مَر به -كما حدثني عبد الله بن أبي بكر-معبد بن أبي مَعْبد الخزاعي، وكانت خُزاعة -مسلمهم ومشركهم-عيبة نُصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتِهامة، صَفْقَتُهم معه، لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد، أما والله لقد عَزّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوَددْنا أن الله عافاك فيهم. ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالرَّوحاء، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا: أصبنا حَد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم.. لنُكرّنَّ على بقيتهم فَلَنَفْرُغَنَّ منهم. فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جَمْع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحَنَق عليكم شيء لم أر مثله قط. قال: ويلك. ما تقول؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل (4) حتى ترى نواصي الخيل -قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك. ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر، قال: وما قلت؟ قال: قلت:
كادَتْ تُهدُّ منَ الأصوات رَاحلتي ... إذْ سَالَت الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيل ...
تَرْدى بأسْدٍ كرام لا تَنَابلة ... عنْد اللّقاء ولا ميل مَعَازيل (5)
فَظَلْتُ عَدْوا أظُنُّ الأرض مائلةً ... لَمَّا سَمَوا برئيس غير مَخْذول ...
فقلتُ: ويل ابن حَرْب من لقائكُمُ ... إذا تَغَطْمَطَت البطحاء بالجيل (6)
إني نذير لأهل البَسْل ضَاحيَةً ... لكل ذي إرْبَة منهم ومعقول ...
من جَيْش أحمدَ لا وَخْشٍ تَنَابِلة ... وليس يُوصف ما أنذرت بالقيل ...
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه.
ومر به ركب من بني عبد القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريدُ المدينة. قال: ولم؟ قالوا:
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(3) تفسير الطبري (7/402).
(4) في أ: "ترحل".
(5) في ر: "مغازيل".
(6) في و: "بالخيل".
بعكاظ إذ وَافَيْتُمونا (1) قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا (2) المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب (3) برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل (4) .
وذكر ابن هشام عن أبي عُبيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه رجوعهم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سُوِّمَتْ لَهُمْ حِجَارَةٌ لَوْ صُبِّحُوا بَها لَكَانُوا كَأَمْسِ الذَّاهِبِ" (5) .
وقال الحسن البصري [في قوله] (6) { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ } إن أبا سفيِان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أبَا سُفْيَانَ قَدْ رَجَعَ وَقَدْ قَذَفَ اللهُ فِي قَلْبِهِ [الرُّعْبَ] (7) فمن يَنْتَدبُ فِي طَلَبِهِ؟" فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعُمَر، وعثمان، وعلي، وناس من أصحاب النبي (8) صلى الله عليه وسلم، فاتبعوهم، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم، يطلبه فلقي عيرا من التجار فقال: ردُّوا محمدا ولكم من الجُعْل كذا وكذا، وأخْبروهم أني قد جمعت لهم جموعا، وأنني راجع إليهم. فجاء التجار فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فأنزل الله هذه الآية.
وهكذا قال عِكْرِمة، وقتادة وغير واحد: إن هذا السياق نزل في شأن [غزوة] (9) حَمْراء الأسد"، وقيل: نزلت في بَدْر الموعد، والصحيح الأول.
وقوله: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] (10) } أي: الذين توعدهم الناس [بالجموع] (11) وخوفوهم بكثرة الأعداء، فما اكترثوا لذلك، بل توكلوا على الله واستعانوا به { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
قال البخاري: حدثنا أحمد بن يونس، أراه قال: حدثنا أبو بكر، عن أبي حَصين، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلْقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }
وقد رواه النسائي، عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبد الله، كلاهما عن يحيى بن أبي بُكَير، عن أبي بكر -وهو ابن عياش-به. والعجب أن الحاكم [أبا عبد الله] (12) رواه من حديث أحمد بن يونس، به، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (13) .
ثم (14) رواه البخاري عن أبي غَسَّان مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن
__________
(1) في أ ، و:"إذا وافيتموها".
(2) في أ، و: "جمعنا".
(3) في و: "الراكب".
(4) السيرة النبوية لابن هشام (2/102).
(5) السيرة النبوية لابن هشام (2/104).
(6) زيادة من جـ.
(7) زيادة من جـ، أ، و.
(8) في جـ، أ، و: "رسول الله".
(9) زيادة من جـ، أ، و.
(10) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(11) زيادة من جـ، ر.
(12) زيادة من و.
(13) صحيح البخاري برقم (4563، 4564) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11081) والمستدرك (2/298) وأقره الذهبي مع أن البخاري قد روى هذا الحديث من هذا الوجه.
(14) في جـ: "و".
أبي الضُّحَى، عن ابن عباس قال: كان آخر قول إبراهيم، عليه السلام، حين ألقي في النار: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } (1) .
وقال عبد الرزاق: قال ابن عيينة: وأخبرني زكريا، عن الشَّعْبِي، عن عبد الله بن عمرو قال: هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في البنيان. رواه ابن جرير.
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري (2) أخبرنا عبد الرحيم بن محمد بن زياد السكري، أنبأنا أبو بكر بن عياش، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم أحد: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم. فأنزل الله هذه الآية (3) .
وروى أيضا بسنده عن محمد بن عُبَيد الله الرافعي، عن أبيه، عن جده أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم وَجَّه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال: إن القوم قد جمعوا لكم قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. فنزلت فيهم هذه الآية.
ثم قال ابن مَرْدُويه: حدثنا دَعْلَجَ بن أحمد، أخبرنا الحسن بن سفيان، أنبأنا أبو خَيْثَمَة مُصْعَب بن سعيد، أنبأنا موسى بن أعين، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا وَقَعْتُمْ فِي الأمْرِ العظيمِ فَقُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" (4) .
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح وإبراهيم بن أبي العباس قالا حدثنا بَقِيَّة، حدثنا بَحِير (5) بن سَعْد، عن خالد بن مَعْدان، عن سيف، عن عوف بن مالك أنه حدثهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَضَى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال رسول الله (6) صلى الله عليه وسلم: "رُدُّوا عَلَيَّ الرَّجُلَ". فقال: "ما قلتَ؟". قال: قلتُ: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال رسول الله (7) صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".
وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث بقية عن بَحِير، عن خالد، عن سَيْف -وهو الشامي، ولم ينسب -عن عوف بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه (8) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسباط، حدثنا مُطَرِّف، عن عَطية، عن ابن عباس [في قوله: { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } [المدثر: 8 ] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنَى جَبْهَتَهُ، يَسْمَعُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ". فقال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: فما نقول (9) ؟ قَالَ: "قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4564).
(2) في أ: و: "التوزي".
(3) ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (11/86) من طريق إبراهيم بن موسى الجوزي وهو الثوري عن عبد الرحيم بن محمد السكري به.
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/390) وفي الجامع الصغير وعزاه إلى ابن مردويه، ورمز له المناوي بالضعف، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (829).
(5) في أ: "يحيى".
(6) في أ: "النبي".
(7) في أ: "النبي".
(8) المسند (6/24) وسنن أبي داود برقم (3627) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10462).
(9) في و: "فما تأمرنا".
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا".
وقد روي هذا من غير وجه، وهو حديث جيد (1) وروينا عن أم المؤمنين عائشة وزينب [بنت جحش] (2) رضي الله عنهما، أنهما تفاخرتا فقالت زينب: زَوجني الله وزوجَكُن أهاليكن (3) وقالت عائشة: نزلت براءتي من السماء في القرآن. فَسَلَّمَت لها زينب، ثم قالت: كيف قلتِ حين ركبت راحلة صَفْوان بن المعطل؟ فقالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت زينب: قلت كلمة المؤمنين (4) .
ولهذا قال تعالى: { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } أي: لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمَّهُمْ وَرد عنهم بأس من أراد كيدهم، فرجعوا إلى بلدهم { بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } مما أضمر لهم عدوهم { وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ }
قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد، حدثنا محمد بن نُعَيم، حدثنا بِشْر بن الحكم، حدثنا مُبشِّر بن عبد الله بن رَزِين، حدثنا سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى (5) { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } قال: النعمة أنهم سلمُوا، والفضل أن عيرا مرت، وكان في أيام الموسم، فاشتراها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ } قال: [هذا] (6) أبو سفيان، قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: موعدكم بدر، حيثُ قتلتم أصحابنا. فقال محمد صلى الله عليه وسلم: "عَسَى". فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعِده (7) حتى نزل بدرًا، فوافقوا السوق فيها وابتاعوا (8) فذلك قول الله عز وجل: { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ] (9) } قال: وهي غزوة بدر الصغرى.
رواه ابن جرير. وروى [أيضا] (10) عن القاسم، عن الحُسَين، عن حجاج، عن ابن جُرَيج قال: لما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش، فيقولون (11) قد جمعوا لكم يكيدونهم بذلك، يريدون أن يرْعَبُوهم (12) فيقول المؤمنون: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } حتى قدموا بدرا، فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد، قال: رَجُل (13) من المشركين فأخبر أهل مَكَّة بخيل محمد، وقال في ذلك :
__________
(1) المسند (1/326).
(2) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(3) في جـ، ر، أ، و: "أهلوكن".
(4) رواه الطبري في تفسيره (10/88، 89) ط "الفكر" من طريق محمد بن عبد الله بن جحش، وسيأتي إن شاء الله في تفسير سورة النور.
(5) في ر: "عز وجل".
(6) زيادة من جـ، ر.
(7) في جـ: "بموعده".
(8) في و: "فابتاعوا".
(9) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(10) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(11) في جـ : "فيقولون لهم".
(12) في و: "يرهبوهم".
(13) في جـ، ر، أ: "قال: وقدم رجل".
نَفَرَتْ قَلُوصِي من خُيول محمد ... وَعَجْوَةٍ منْثُورةٍ كالعُنْجُدِ ...
واتَّخَذَتْ ماء قُدَيْدٍ مَوْعدي
ثم قال ابن جرير: هكذا أنشدنا القاسم، وهو خطأ، وإنما هو: قَد نَفَرَتْ من رفْقَتي محمد ... وَعَجْوَة مِنْ يَثْربٍ كَالعُنْجُد ...
تَهْوى (1) عَلَى دين أبِيها الأتْلَد ... قَدْ جَعَلَتْ ماء قُدَيْدٍ مَوْعدي ...
وَمَاء ضَجْنَان لَهَا ضُحَى الغَد (2)
ثم قال تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } أي: يخوفكم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة، قال الله تعالى: { فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [أي: ف] (3) إذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا علي والجؤوا إلي، فأنا كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } إلى قوله: { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } [الزمر:36-38] وقال تعالى: { فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } [النساء:76] وقال تعالى: { أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المجادلة:19] وقال تعالى: { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة:21] وقال [تعالى] (4) { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } [الحج:40] وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ] (5) } [محمد:7] وقال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ . يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر:51 ، 52].
__________
(1) في جـ، ر، أ، و: "فهو".
(2) تفسير الطبري (7/411، 412).
(3) زيادة من ر، أ، و.
(4) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(5) زيادة من جـ، أ، و، وفي هـ: "الآية".
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
{ وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } وذلك من شدة حرصه على الناس كان يحزنه مُبَادَرَة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق، فقال تعالى: ولا يحزنك ذلك { إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ } أي: حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته ألا يجعل لهم نصيبا في الآخرة { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
ثم قال تعالى مخبرا عن ذلك إخبارا مقررًا: { إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإيمَانِ } أي: استبدلوا هذا بهذا { لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا } أي: ولكن يضرون أنفسهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
ثم قال تعالى: { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } كقوله تعالى: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون:55 ، 56]، وكقوله { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } [القلم:44]، وكقوله { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة:55].
ثم قال تعالى: { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } أي: لا بُد أن يعقد سببا من المحنة، يظهر فيه وليه، ويفتضح فيه عدوه. يُعرف به المؤمن الصابر، والمنافق الفاجر. يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم [وثباتهم] (1) وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهتك به ستر المنافقين، فظهر مخالفتهم ونُكُولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله [صلى الله عليه وسلم] (2) ولهذا قال: { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } .
قال مجاهد: ميّز بينهم يوم أحد. وقال قتادة: مَيَّزَ بينهم بالجهاد والهجرة. وقال السُّدِّي: قالوا: إنْ كان محمد صادقا فَلْيُخْبِرنا عَمّن يؤمن به منا ومن يَكْفُر. فأنزل الله: { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى[ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } أي: حتى] (3) يُخْرج المؤمن من الكافر. روى ذلك كلَّه ابنُ جرير:
ثم قال: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } أي: أنتم لا تعلمون غيبَ الله في خلقه حتى يُميز (4) لكم المؤمن من المنافق، لولا ما يعقده (5) من الأسباب الكاشفة عن ذلك.
ثم قال: { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } كقوله { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } [الجن:26، 27] .
ثم قال: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي: أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع (6) لكم { وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
__________
(1) زيادة من ر، أ، و.
(2) زيادة من و.
(3) زيادة من جـ.
(4) في ر، و: "يتميز".
(5) في ر: "يعتقدوه".
(6) في ر، أ، و: "شرعه".
وقوله: { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ } أي: لا يحسبن (1) البخيل أن جمعه المال ينفعه، بل هو مَضّرة عليه في دينه -وربما كان-في دنياه.
ثم أخبر بمآل أمر ماله (2) يوم القيامة فقال: " سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قال البخاري:
حدثنا عبد الله بن منير، سمع أبا النضر، حدثنا عبد الرحمن -هو ابن عبد الله بن دينار-عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ له شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان، يُطَوّقُه يوم القيامة، يأخذ (3) بلِهْزِمَتَيْه -يعني بشدقَيْه-يقول: أنا مَالُكَ، أنا كَنزكَ" ثم تلا هذه الآية: { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ } إلى آخر الآية.
تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه، وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن سعد، عن محمد بن عَجْلان، عن القَعْقاع بن حكيم، عن أبي صالح، به (4) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا حُجَين بن المثنى، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمَر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الَّذِي لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُمَثِّلُ اللهُ لَهُ مَالَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبتَان، ثم يُلْزِمهُ يطَوّقه، يَقُول: أنَا كَنزكَ، أنَا كَنزكَ".
وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، به (5) ثم قال النسائي: وروايةُ عبد العزيز، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أثبتُ من رواية عبد الرحمن، عن أبيه عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبى هريرة.
قلت: ولا منافاة بينهما (6) فقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين، والله أعلم. وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويَه من غير وجه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة. ومن حديث محمد بن أبي حميد، عن زياد الخطمي، عن أبي هريرة، به.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن جامع، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: " مَا مِنْ عَبْدٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إلا جُعِلَ لَهُ شُجَاعٌ أقْرَعُ يَتْبَعُهُ، يَفِرّ منه وهو يَتْبَعُه فَيقُولُ: أنَا كَنْ ". ثُمَّ قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله: { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، من حديث سفيان بن عيينة، عن جامع بن أبي راشد، زاد الترمذي: وعبد الملك بن أعين، كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود، به. ثم قال الترمذي: حسن صحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه، من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري، كلاهما عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، به (7) ورواه ابن جرير من غير وجه، عن ابن مسعود، موقوفا.
__________
(1) في : "تحسبن".
(2) في أ: "أمره إليه".
(3) في أ، و: "فيأخذ".
(4) صحيح البخاري برقم (1403، 4565).
(5) المسند (2/98) وسنن النسائي (5/38).
(6) في و: "بين الروايتين".
(7) المسند (1/377) وسنن الترمذي برقم (3012) وسنن النسائي (5/11) وسنن ابن ماجة برقم (1784) والمستدرك (2/298).
حديث آخر: قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أمية بن بِسْطام، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: " مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ كَنزا مُثِّلَ لَهُ شُجُاعًا أَقْرَعَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ زَبِيبَتَان، يَتْبَعُه ويَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ وَيْلَكَ. فيقُولُ: أنَا كَنزكَ الَّذِي خَلَّفتَ بَعْدَكَ فَلا يَزَالُ يَتْبَعُه حَتَّى يُلْقِمَه يَدَه فَيقْضِمَها، ثم يَتْبَعه سَائِر جَسَ" . إسناده جيد قوي ولم يخرجوه (1) .
وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البَجَلي (2) ورواه ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَأْتِي الرَّجُلُ مَولاهُ فيَسْأله من فَضْلِ مَالِهِ (3) عِنْدَهُ، فَيَمْنَعهُ إيَّاهُ، إلا دُعِي لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجاعٌ يَتَلَمَّظُ فَضْلَهُ الَّذِي مَنَعَ". لفظ ابن جرير (4) .
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود، عن أبي قَزَعة، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمه، فيَسْأله من فَضْلٍ جَعَلَهُ اللهُ عِنْدَهُ، فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْه، إلا أخُرِج له من جَهَنَّم شُجَاعٌ يَتَلَمَّظ، حتى يُطوّقه".
ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزَعَة -واسمه حُجَيْر (5) بن بَيان-عن أبي مالك العبدي موقوفا. ورواه من وجه آخر عن أبي قَزَعَة مرسلا (6) .
وقال العَوْفي عن ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب الذين بَخِلُوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها.
رواه ابن جرير. والصحيح الأول، وإن دخل هذا في معناه. وقد يقال: [إن] (7) هذا أولى (8) بالدخول، والله أعلم.
وقوله: { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فإن الأمور كُلَّها مرجعها إلى الله عز وجل. فقدموا لكم من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي: بِنياتِكم وضمائركم.
__________
(1) عزاه إلى أبي يعلى في المطالب العالية الحافظ ابن حجر (1/254) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2255) وابن حبان في صحيحه برقم (803) "موارد"والبزار في مسنده (1/418) "كشف الأستار" والطبراني في المعجم الكبير (2/91) والحاكم في المستدرك (1/338) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي، كلهم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به. وقال البزار: "إسناده حسن".
(2) المعجم الكبير (2/322) ولفظه: "ما من ذي رحم يأتي رحمه فيسأله فضلا أعطاه الله إياه فيبخل عليه إلا أخرج له يوم القيامة من جهنم حية يقال لها: شجاع يتلمظ فيطوف به". قال الهيثمي في المجمع (8/154): "رواه الطبراني في الأوسط والكبير وإسناده جيد".
(3) في ر، أ، و: "مال".
(4) تفسير الطبري (7/435) ورواه أحمد في مسنده (5/3) والنسائي في السنن (1/358).
(5) في أ، و: "حجر" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
(6) تفسير الطبري (7/434).
(7) زيادة من أ، و.
(8) في أ: "روى".
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
{ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) }
قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزل قوله: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة:245] قالت اليهود: يا محمد، افتَقَرَ ربّك. يَسأل (1) عباده القرض؟ فأنزل الله: { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } الآية. رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم.
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عِكْرمة أنه حدثه عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: دخل أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، بيت المدراس، فوجد من يهود أناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فِنْحَاص (2) وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حَبْرٌ يقال له: أشيع. فقال أبو بكر: ويحك يا فِنْحَاص (3) اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدًا رسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص: والله -يا أبا بكر-ما بنا إلى الله من حاجة من فقر، وإنه إلينا لفقير. ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان عنا غنيًا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويُعْطناه (4) ولو كان غنيا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر، رضي الله عنه، فضرب وجه فِنْحَاص ضربًا شديدًا، وقال: والذي نفسي بيده، لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله، فَاكْذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبصر (5) ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "ما حَمَلَكَ على ما صَنَعْت؟" فقال: يا رسول الله، إن عَدُوَّ الله قد قال قولا عظيما، زعَم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غَضبْتُ لله مما قال، فضربت وجهه فجَحَد ذلك فنحاص (6) وقال: ما قلتُ ذلك فأنزل الله فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقًا لأبي بكر: { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } الآية. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: { سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } تهديد ووعيد؛ ولهذا قرنه بقوله: { وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } أي: هذا قولهم في الله، وهذه معاملتهم لرسل الله، وسيجزيهم الله على ذلك شَرّ الجزاء؛ ولهذا قال: { وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } أي: يقال (7) لهم ذلك تقريعًا وتحقيرًا وتصغيرًا.
__________
(1) في ر، و: "فسأل".
(2) في ر: "فيحاص".
(3) في ر: "فيحاص".
(4) في أ، و: "يعطينا".
(5) في جـ، ر، أ، و: "فقال: يا محمد، أبصر".
(6) في ر: "فيحاص".
(7) في جـ، أ، و: "فقال".
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
وقوله: { الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ } يقول تعالى تكذيبًا أيضًا لهؤلاء الذين زعموا (1) أن الله عَهِدَ إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا برسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فقبلَتْ منه أن تنزل نار من السماء تأكلها. قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. قال الله تعالى: { قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ } أي: بالحجج والبراهين { وَبِالَّذِي قُلْتُمْ } أي: وبنار تأكل القرابين المتقبلة { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } أي: فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أنكم تَتّبعُونَ الحق وتنقادون للرسل.
ثم قال تعالى مسليًا لنبيه (2) صلى الله عليه وسلم: { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } (3) أي: لا يوهنك تكذيب (4) هؤلاء لك، فلك أسوة من قبلك من الرسل الذين كُذبوا مع ما جاؤوا به من البينات وهي الحجج والبراهين القاطعة { وَالزُّبُرِ } وهي الكتب المتلقاة من السماء، كالصحف المنزلة على المرسلين { وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } أي: البَين الواضح الجلي.
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ (186) }
يخبر تعالى إخبارًا عامًا يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت، كقوله: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون، وكذلك (5) الملائكة وحملة العرش، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء، فيكون آخرًا كما كان أولا.
وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت، فإذا انقضت المدة وفَرَغَت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية -أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها، كثيرها وقليلها، كبيرها وصغيرها، فلا يظلم أحدا مثقال ذرة؛ ولهذا قال: { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد العزيز الأويسي، حدثنا علي بن أبي علي اللِّهْبِيّ (6) عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن (7) علي بن أبى طالب، رضي الله عنه، قال: لما تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية، جاءهم آت يسمعون حسّه ولا يرون شخصه فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } إن
__________
(1) في جـ، أ: "يزعمون".
(2) في جـ: "لرسوله".
(3) في ر: "المبين".
(4) في جـ: "بتكذيب".
(5) في أ: "وكذا".
(6) في جـ: "الهاشمي".
(7) في أ، و: "أن".
في (1) الله عَزَاءً من كل مُصِيبة، وخَلَفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال جعفر بن محمد: فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال: أتدرون (2) من هذا؟ هذا الخضر، عليه السلام (3) .
وقوله: { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } أي: من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة، فقد فاز كل الفوز.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا محمد بن عَمْرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (4) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَوْضع سوط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، اقرؤوا إن شئم: { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } (5) .
هذا حديث (6) ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه (7) بدون هذه الزيادة، وقد رواه بدون هذه (8) الزيادة أبو حاتم، وابن حبان (9) في صحيحه، والحاكم في مستدركه، من حديث محمد بن عمرو هذا. ورواه ابن مردويه [أيضا] (10) من وجه آخر فقال:
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن يحيى، أنبأنا حُمَيْد بن مسعدة، أنبأنا عمرو بن علي، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لموضع سَوط أحَدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها". قال: ثم تلا هذه الآية: { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ }
وتقدّم عند قوله تعالى: { وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ما رواه الإمام أحمد، عن وَكيع (11) عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله بن عَمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحَبَّ أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة، فلتدركه مَنِيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ولْيَأْتِ إلى الناس ما يُحِبُّ أن يؤتى إليه" (12) .
وقوله: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } تصغيرًا (13) لشأن الدنيا، وتحقيرًا (14) لأمرها، وأنها
__________
(1) في جـ، أ: "من".
(2) في جـ، ر: "تدرون".
(3) ذكره السيوطي في الدر (2/399) وإسناده ضعيف ومتنه منكر.
(4) زيادة من ر.
(5) ورواه أحمد في مسنده (2/438) والترمذي في السنن برقم (3292)، والحاكم في المستدرك (2/299) وقال: "على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، كلهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة به. وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة وله شواهد من حديث سهل بن سعد في الصحيحين كما سيأتي، ومن حديث أنس بن مالك عند أحمد في المسند (3/141) انظر الكلام عليه موسعا في: السلسلة الصحيحة للألباني برقم (1978).
(6) في جـ، ر، أ، و: "الحديث".
(7) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6415)، ومسلم في صحيحه برقم (1881).
(8) في جـ، ر: "بهذه".
(9) في جـ، ر: "أبو حاتم بن حبان".
(10) زيادة من أ، و.
(11) في و: "ما رواه ابن الجراح في تفسيره".
(12) المسند (2/191).
(13) في ر: "تصغير".
(14) في جـ: "وتحقيرها"، وفي ر: "تحقير".
دنيئة فانية قليلة زائلة، كما قال تعالى: { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [الأعلى:16، 17] [وقال تعالى: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ } [الرعد:26] وقال تعالى: { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ] (1) } [النحل:96]. وقال تعالى: { وَمَا (2) أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [القصص:60] وفي الحديث: "واللهِ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يَغْمِسُ أحدُكُم إصبعه في اليَمِّ، فلينظر بِمَ تَرْجِع (3) إليه؟" (4) .
وقال قتادة في قوله: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } هي متاع، هي متاع، متروكة، أوشكت -والله الذي لا إله إلا هو-أن تَضْمَحِلَّ عن أهلها، فخذوا من هذا (5) المتاع طاعة الله إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله.
وقوله: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } كقوله { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] (6) } [البقرة:155، 156] أي: لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، ويبتلى المؤمن (7) على قدر دينه، إن (8) كان في دينه صلابة زيد في البلاء { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } يقول تعالى للمؤمنين عند مَقْدمهم المدينَة قبل وقعة بدر، مسليا لهم عما نالهم (9) من الأذى من أهل الكتاب والمشركين، وآمرًا لهم بالصبر والصفح والعفو حتى يفرج الله، فقال: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ }
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، أخبرني عُرْوة بن الزبير: أن أسامة بن زيد أخبره قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله: { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } قال: وكان رسول الله (10) صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به، حتى أذن (11) الله فيهم.
هكذا رواه مختصرا، وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولا فقال: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير؛ أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمَار، عليه قطيفة فَدكيَّة وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سَعْدَ بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، قَبْل وقعة بَدْر، قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سَلُول، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين، عَبَدَة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس عبدُ الله بن رَوَاحة، فلما غَشَيت المجلسَ عَجَاجةُ الدابة خَمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: "لا تُغَبروا علينا. فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم (12) ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله عز وجل،
__________
(1) زيادة من جـ، ر.
(2) في ر: "فما".
(3) في أ، و: "يرجع".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (2858) والترمذي برقم (2323) وابن ماجة في السنن برقم (4108) من حديث المستورد ابن شداد رضي الله عنه.
(5) في جـ، ر: "هذه".
(6) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "إلى آخر الآيتين".
(7) في جـ، ر، أ، و: "المرء".
(8) في أ، و: "فإن".
(9) في جـ، ر: "ينالهم".
(10) في أ: "النبي".
(11) في أ: "أذنه".
(12) في أ: "فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم".
وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبَي: أيها المَرْء، إنه لا أحْسَنَ مما تقول، إن كان حقا فلا تؤْذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: بلى (1) يا رسول الله، فَاغْشنَا به في مجالسنا فإنا نُحب ذلك. فاستَب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يَتَثَاورون (2) فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُخفضهم حتى سكتوا، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دَابته، فسار حتى دخل على سعد بن عُبَادة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا سعد، ألم تَسْمَع إلى ما قال أبو حُبَاب (3) -يريد عبد الله بن أبي-قال كذا وكذا". فقال سعد: يا رسول الله، اعف عنه واصفح (4) فوَالله الذي (5) أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله (6) بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة (7) على أن يُتَوِّجوه وَيُعَصِّبُوه (8) بالعصابة، فلما أبى (9) الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك الذي فَعَل (10) به ما رأيتَ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ] (11) } وقال تعالى: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الآية [البقرة:109]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَأوّل في العفو ما أمره الله به، حتى أذنَ الله فيهم، فلما غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدرًا، فقتل الله به صناديد كفار قريش، قال عبد الله بن أبَيّ ابن سَلُول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد تَوَجّه، فبايعُوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام (12) وأسلموا (13) (14) .
فكان من قام بحق، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، فلا بد أن يؤذَى، فما له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله، والرجوع إلى الله، عز وجل.
__________
(1) في أ: "بل".
(2) في و: "يتبارزون".
(3) في أ: "حبان".
(4) في جـ، ر، أ، و: "واصفح عنه".
(5) في جـ، ر، أ، و: "فوالذي".
(6) في و: "لقد خالفتهم".
(7) البحيرة المقصود بها: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(8) في أ: "فيعصبوه"، وفي و: "فيعصبونه".
(9) في ر، أ، : "أتى".
(10) في أ: "ثقل".
(11) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(12) في جـ، أ، و: "على الإسلام فبايعوا".
(13) في ر: "فأسلموا".
(14) صحيح البخاري برقم (4566)، ورواه مسلم في صحيحه برقم (1798).
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) }
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب، الذين أخَذ عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينوهوا بذكره في الناس ليكونوا (1) على أهْبَة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه،
__________
(1) في و: "فيكونوا".
فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم.
وفي هذا تَحْذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويُسْلكَ بهم مَسْلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا (1) منه شيئا، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سُئِل عن عِلْم فكَتَمه ألْجِم يوم القيامة بِلجَامٍ من نار".
وقوله تعالى: { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ ] (2) } الآية، يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يُعْطَوا، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ادَّعَى دَعْوى كاذبة لِيتَكَثَّر بها لم يَزِدْه الله إلا قِلَّة" (3) وفي الصحيح: "المتشبع (4) بما لم يُعْطَ كلابس ثَوْبَي زُور" (5) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا حَجَّاج، عن ابن جُرَيْج، أخبرني ابن أبي مُلَيكة أن حُمَيد بن عبد الرحمن بن عَوْف أخبره: أن مروان قال: اذهب يا رافع -لبَوَّابه-إلى ابن عباس، رضي الله عنه، فقل (6) لئن كان كل امرئ منَّا فَرح بما أتَى (7) وأحب أن يحمد بما لم يفعل -معَذَّبًا، لنُعَذبن أجمعون؟ (8) فقال ابن عباس: وما لكم (9) وهذه؟ إنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس: { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } (10) وتلا ابن عباس: { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } الآية. وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكتموه (11) وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أرَوْه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا (12) من كتمانهم ما سألهم عنه.
وهكذا رواه البخاري في التفسير، ومسلم، والترمذي والنسائي في تفسيريهما، وابن أبي حاتم وابن جرير (13) وابن مَرْدُويه، والحاكم في مستدركه، كلهم من حديث عبد الملك بن جُرَيج، بنحوه (14) ورواه البخاري أيضا من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عَلقمة بن وقاص: أن
__________
(1) في ر: "يكتمون".
(2) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(3) صحيح البخاري برقم (6105، 6652) وصحيح مسلم برقم (110) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
(4) في أ: "المشبع".
(5) رواه مسلم برقم (2129) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6) في جـ، ر، أ: "فقل له".
(7) في جـ: "أوتى".
(8) في جـ، ر، أ، و: "أجمعين".
(9) في جـ: "ما لكم".
(10) في جـ، ر، أ، و: "لتبيننه للناس.. الآية".
(11) في ر، أ، و: "فكتموه إياه".
(12) في جـ: "أوتوا".
(13) في و: "وابن خزيمة".
(14) المسند (1/298) وصحيح البخاري برقم (4568) وصحيح مسلم برقم (2778) وسنن الترمذي برقم (3014) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11086).
مَرْوان قال لبوابه: اذهبْ يا رافع إلى ابن عباس، فذكره (1) .
وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، أنبأنا محمد بن جعفر، حدثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه؛ أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تَخَلَّفوا عنه، وفَرِحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قَدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا (2) إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت: { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } الآية.
وكذا رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم، بنحوه (3) وقد رواه ابن مَرْدُويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد، عن هشَام بن سعد، عن زيد بن أسلم قال: كان (4) أبو سعيد ورافع بن خَديج وزيد بن ثابت عند مَرْوان فقال: يا أبا سعيد، رَأيت (5) قول الله تعالى: { لا تَحْسَبَنَّ (6) الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } ونحن نفرح بما أتَيْنا ونُحِب أن نُحْمَد بما لم نفعل؟ فقال أبو سعيد: إن هذا ليس من ذاك، إنما ذاك (7) أن ناسا من المنافقين كانوا يَتخلَّفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْثًا، فإن كان فيه نَكْبة فرحوا بتخلفهم، وإن كان لهم نَصْر من الله وفتح حلفوا (8) لهم ليرضوهم ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح. فقال مروان: أين هذا من هذا؟ فقال أبو سعيد: وهذا يَعْلَمُ هذا، فقال مروان: أكذلك يا زيد؟ قال: نعم، صدق أبو سعيد. ثم قال أبو سعيد: وهذا يعلم ذاك (9) -يعني رافع بن خديج-ولكنه يخشى إن أخبرك أن تنزع قَلائصه في الصدقة. فلما خرجوا قال زيد لأبي سعيد الخدري: ألا تحمدني على شهادة لك (10) ؟ فقال أبو سعيد: شهدتَ الحق. فقال زيد: أو لا تحمدني على ما شهدت الحق؟
ثم رواه من حديث مالك، عن زيد بن أسلم، عن رافع بن خديج: أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مَروان بن الحكم، وهو أمير المدينة، فقال مروان: يا رافع، في أي شيء نزلت (11) هذه؟ فذكره (12) كما تقدم عن أبي سعيد، رضي الله عنهم، وكان مَرْوان يبعث (13) بعد ذلك يسأل ابن عباس كما تقدم، فقال له ما ذكرناه، ولا منَافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء؛ لأن الآية عامة في جميع ما ذكر، والله أعلم.
وقد روى ابن مَرْدُويه أيضا من حديث محمد بن أبي عَتِيق وموسى بن عُقْبة، عن الزهْري، عن محمد بن ثابت الأنصاري؛ أن ثابت بن قيس الأنصاري قال: يا رسول الله، والله لقد خشيت أن أكون
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4568).
(2) في ر: "أعذروا".
(3) صحيح البخاري برقم (4567) وصحيح مسلم برقم (2777).
(4) في و: "قال".
(5) في جـ: "أرأيت".
(6) في أ: "لا يحسبن".
(7) في أ: "من ذلك إنما ذلك".
(8) في ر: "يحلفوا".
(9) في أ: "ذلك".
(10) في ر: "أني شهدت لك"، وفي أ، و: "على ما شهدت لك".
(11) في جـ، ر، أ، و: "أنزلت".
(12) ورواه عبد بن حميد في تفسيره كما في الدر(2/404) وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (8/234).
(13) في ر: "بعث".
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
هلكت. قال: "لم؟" قال: نهى الله المرء أن يُحِب أن يُحْمَدَ بما لم يفعل، وأجدني أُحِبُّ الحمدَ. ونهى الله عن الخُيلاء، وأجدني (1) أحب الجمال، ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا (2) امرؤ جهوري الصوت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تَرْضى أن تَعِيش حَمِيدا، وتُقْتَل شَهِيدا، وتدخل الجنة؟" قال: بلى يا رسول الله. فعاش (3) حميدا، وقُتل شهيدا يوم مُسَيْلَمة الكذاب (4) .
وقوله: { فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ } يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد، وبالياء على الإخبار عنهم، أي: لا تحسبون (5) أنهم ناجون من العذاب، بل لا بد لهم منه؛ ولهذا قال: { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
ثم قال: { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي: هو مالك كُل شيء، والقادر على كل شيء فلا يعجزه شيء، فهابوه ولا تخالفوه، واحذروا نقمته وغضبه، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه، القدير الذي لا أقدر منه.
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) }
قال الطبراني: حدثنا الحسن بن إسحاق التُسْتَرِي، حدثنا يحيى الحِمَّاني، حدثنا يعقوب القُمِّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: بم جاءكم موسى؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى؟ قالوا: كان يُبْرِئُ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصَّفا ذَهَبًا. فدعا ربه، فنزلت هذه الآية: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } فليتفكروا فيها (6)
__________
(1) في أ: "وإني".
(2) في ر، أ، و: "وإني".
(3) في ر، أ، و: "قال: فعاش".
(4) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (42) من طريق الزهري عن محمد بن ثابت به. ورواه الحاكم في المستدرك (1/234) من طريق إسماعيل بن محمد عن أبيه محمد بن ثابت به. ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2270) "موارد"، والطبراني في المعجم الكبير (2/67) كلاهما من طريق إسماعيل بن ثابت أن ثابت فذكره. ورواه عبد الرزاق في مصنفه برقم (20425) من طريق الزهري أن ثابت بن قيس فذكره مرسلا. ورواه مالك ومن طريق ابن عبد البر في الاستيعاب (2/75) من طريق الزهري عن إسماعيل بن محمد بن ثابت عن ثابت به. والأصح: الزهري عن محمد بن ثابت عن ثابت به، وهي رواية ابن مردويه والطبراني في المعجم الأوسط برقم (42) وقد صرح محمد بن ثابت بالتحديث عند الطبراني فقال: حدثني ثابت بن قيس فذكره، والحديث حسن إن شاء الله.
(5) في جـ، ر، أ، و: "ولا تحسبوا".
(6) في المعجم الكبير للطبراني (12322) وقال الهيثمي في المجمع (6/332): "وفيه يحيى الحماني وهو ضعيف".
. وهذا مُشْكل، فإن هذه الآية مدنية. وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة. والله أعلم.
ومعنى الآية أنه يقول تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها (1) وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابتَ وبحار، وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار، وحيوان ومعادن ومنافع، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص { وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي: تعاقبهما وتَقَارضهما الطول والقصر، فتارة يطُول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا، ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم (2) ؛ ولهذا قال: { لأولِي الألْبَابِ } أي: العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البُكْم الذين لا يعقلون الذين قال الله [تعالى] (3) فيهم: { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ . وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف:105، 106].
ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } كما ثبت في صحيح البخاري عن عِمْران بن حُصَين، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صَلِّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لَم تستطع فَعَلَى جَنْبِكَ (4) (5) أي: لا يقطعون ذِكْره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي: يفهمون ما فيهما من الحكَم الدالة على عظمة الخالق وقدرته، وعلمه وحكمته، واختياره ورحمته.
وقال الشيخ أبو سليمان الداراني: إني لأخرجُ من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عَلَي فيه نِعْمَة، أوْ لِي فيه عِبْرَة. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "التفكر (6) والاعتبار".
وعن الحسن البصري أنه قال: تَفَكُّر سَاعَة خير من قيام ليلة. وقال الفُضَيل: قال الحسن: الفكرة مِرْآة تريك حَسنَاتك وسيئاتك. وقال سفيان بن عيينة: الفكرة نور يدخل قلبك. وربما تمثل بهذا البيت:
إذا المرء كانت له فكْرَةٌ ... ففي كل شيء له عبرَة ...
وعن عيسى، عليه السلام، أنه قال: طُوبَى لمن كان قِيلُه تذكّرًا، وصَمْته تَفكُّرًا، ونَظَره عبرًا.
وقال لقمان الحكيم: إن طول الوحدة ألْهَمُ للفكرة، وطولَ الفكْرة دليل على طَرْق باب الجنة.
وقال وهب بن مُنَبِّه: ما طالت فكرة امرِئ قط إلا فهم، وما (7) فهم امرؤ قط إلا علم، وما علم امرؤ قط إلا عمل.
__________
(1) في أ: "وكشافتها وإيضاعها".
(2) في جـ، أ، و: "العليم".
(3) زيادة من و.
(4) في جـ، أ: "جنب".
(5) صحيح البخاري برقم (1115).
(6) في النسخ: "التوكل"، والصحيح ما أثبتناه كما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (13/402) ومعجم مصنفات ابن أبي الدنيا الموجود بالظاهرية، وسيأتي في نهاية المقطع مضبوطا. انظر ص 189.
(7) في ر: "ولا".
وقال عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر الله، عز وجل، حَسَن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة.
وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها، وكان يبكي عند ذلك حتى يُرْفع صَريعا من بين أصحابه، قد ذهب عقله.
وقال عبد الله بن المبارك: مَرَّ رجل برَاهبٍ عند مَقْبَرة ومَزْبَلَة، فناداه فقال: يا راهب، إن عندك كَنزين من كنوز الدنيا لك فيهما مُعْتَبَر، كنز الرجال وكنز الأموال.
وعن ابن عمر: أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه، يأتي الخَرِبة فيقف على بابها، فينادي بصوت حزين فيقول: أين أهْلُك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [القصص:88].
وعن ابن عباس أنه قال: ركعتان مقتصدتان في تَفكُّر، خير من قيام ليلة والقلب ساه (1) .
وقال الحسن: يا ابن آدم، كُلْ في ثلث بطنك، واشرب في ثلثه، ودع ثلثه الآخر تتنفَّس للفكرة.
وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطَمَسَ مِنْ بَصَرِ قلبه بقدر تلك الغَفْلَة.
وقال بِشْر بن الحارث الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه.
وقال الحسن، عن عامر بن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان، أو نور الإيمان، التفكر.
وعن عيسى، عليه السلام، أنه قال: يا ابن آدم الضعيف، اتق الله حيثما كنت، وكُنْ في الدنيا ضَيْفًا، واتَّخِذِ المساجدَ بيتا، وعَلِّم عينيك البكاء، وجَسَدك الصَّبْر، وقلبك الفِكْر، ولا تهتم برزق غد.
وعن أمير المؤمنين عُمَرَ بن عبد العزيز، رضي الله عنه، أنه بكى يوما بين أصحابه، فسُئل عن ذلك، فقال: فَكَّرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها، فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تَنْقَضي حتى تكدرها مرارتُها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادّكر.
وقال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحُسَين بن عبد الرحمن: نزهَة المؤمن الفكَرْ ... لذّة المؤمن العِبرْ ...
نحمدُ اللهَ وَحْدَه ... نحْنُ كل عَلَى خَطَرْ ...
رُبّ لاهٍ وعُمْرُه ... قد تَقَضّى وما شَعَرْ ...
رُبّ عيش قَدْ كَانَ فو ... ق المُنَى مُونقَ الزَهَرْ ...
في خَرير (2) من العيُو ... ن وَظل من الشَّجَرْ ...
وسُرُور من النَّبا ... ت وَطيب منَ الثَمَرْ ...
غَيَّرَتْه وَأهْلَهُ (3) سرعةُ الدّهْر بالغَيرْ
__________
(1) في ر: "ساهي".
(2) في ر: "جرير".
(3) في ر: "وغيرت أهله".
...
نَحْمَد الله وحده ... إنّ في ذا لمعتبر ...
إن في ذَا لَعبرةً ... للبيب إن اعْتَبَرْ ...
وقد ذمّ الله تعالى مَنْ لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته، فقال: { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ . وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف:105، 106] ومدح عباده المؤمنين: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قائلين { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا } أي: ما خلقت هذا الخلق عَبَثًا، بل بالحق لتجزي (1) الذين أساؤوا بما عملوا، وتجزي (2) الذين أحسنوا بالحسنى. ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا: { سُبْحَانَكَ } أي: عَنْ أن تخلق شيئا باطلا { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي: يا من خَلَق الخلق بالحق والعدل يا من هو مُنزه عن النقائص والعيب والعبث، قنا من (3) عذاب النار بحولك وقوتك وَقيضْنَا لأعمال ترضى بها عنا، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم.
ثم قالوا: { رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أي: أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي: يوم القيامة لا مُجِير لهم منك، ولا مُحِيد لهم عما أردت بهم.
{ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ } أي: داعيا يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم { أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } أي يقول: { آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } أي: فاستجبنا له واتبعناه { رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } أي: بإيماننا واتباعنا نبيك فاغفر لنا ذنوبنا، أي: استرها { وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } أي: فيما بيننا وبينك { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ } أي: ألحقنا بالصالحين { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } قيل: معناه: على الإيمان برسلك. وقيل: معناه: على ألسنة رسلك. وهذا أظهر.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عمرو بن محمد، عن أبي عِقَال، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عَسْقَلان أحد العروسين، يبعث الله منها يوم القيامة سبعين (4) ألفًا لا حساب عليهم، ويبعث منها خمسين (5) ألفا شهداء وُفُودًا إلى الله، وبها صُفُوف الشهداء، رؤوسهم مُقَّطعة في أيديهم، تَثِجّ أوداجهم دما، يقولون: { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } فيقول: صَدَق عبدي، اغسلوهم بنهر البيضة. فيخرجون منه نقاء بيضًا، فيسرحون في الجنة حيث شاؤوا".
وهذا الحديث يُعد من غرائب المسند، ومنهم من يجعله موضوعا، والله أعلم (6) .
__________
(1) في جـ، ر، أ، و: "ليجزي".
(2) في ر، أ، و: "يجزي".
(3) في أ: "فقنا".
(4) في ر: "سبعون".
(5) في جـ، ر، أ: "خمسون".
(6) المسند (3/225) وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (2/54) وقال: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجميع طرقه تدور على أبي عقال واسمه: هلال بن زيد بن يسار. قال ابن حبان: يروي عن أنس أشياء موضوعة ما حدث أنس بها قط، لا يجوز الاحتجاج به بحال"، وذكره الذهبي في الميزان (4/313) وقال: "باطل". وانظر كلام الحافظ ابن حجر في: القول المسدد برقم (8) فقد ذكر أن الحديث في فضائل الأعمال والتحريض على الرباط في سبيل الله وأن التسامح في رواية مثله طريقة الإمام أحمد -رحمه الله- ثم ساق له شواهد، فراجعها إن شئت.
{ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي: على رؤوس الخلائق { إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } أي: لا بد من الميعاد الذي أخبرتَ عنه رسُلَك، وهو القيام يوم القيامة بين يديك.
وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحارث بن سُرَيْج (1) حدثنا المعتمر، حدثنا الفضل بن عيسى، حدثنا محمد بن المنكدر؛ أن جابر بن عبد الله حدثه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العار والتخزية تبلغ (2) من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله، عز وجل، ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار" حديث غريب (3) .
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده، فقال البخاري، رحمه الله:
حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نَمْر، عن كُرَيب عن ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثُلث الليل الآخر قَعد فنظر إلى السماء فقال: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } ثم قام فتوضأ واستن. فصلى إحدى عَشْرَة (4) ركعة. ثم أذّن بلالٌ فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح.
وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن إسحاق الصنعاني، عن ابن أبي مريم، به (5) ثم رواه البخاري من طُرقٍ عن مالك، عن مَخْرَمَة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس (6) أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي خالته، قال: فاضطجعت في عَرْض الوسادة، واضطجع (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طُولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل -أو قبله بقليل، أو بعده بقليل -استيقظَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من منامه، فجعل يمسحُ النومَ عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيمَ من سُورة آل عمران، ثُم قام إلى شَنّ معلقة فتوضأ منها فأحسن وُضُوءه (8) ثم قام يصلّي -قال ابن عباس: فقمت فصنعت مثل ما صنع، ثم ذَهَبتُ فقمت إلى جَنْبه -فوضع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَه اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يَفْتلُها (9) فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خَرَجَ فصلّى الصبح.
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طُرُق عن مالك، به (10) ورواه مسلم أيضًا وأبو داود من وجوه أخرَ، عن مخرمة بن سليمان، به (11) .
__________
(1) في جـ، ر: "شريح".
(2) في جـ، ر: "يبلغ".
(3) مسند أبي يعلى (3/311) وقال الهيثمي في المجمع (10/350): "وفيه الفضل بن عيسى الرقاشي، وهو مجمع على ضعفه".
(4) في ر: "عشر" والصحيح ما أثبتناه.
(5) صحيح البخاري برقم ( 4569) وصحيح مسلم برقم (763).
(6) في جـ، رأ، و: "ابن عباس أخبره".
(7) في جـ: "فاضطجع".
(8) في أ: "الوضوء".
(9) في جـ، ر، أ، و: "ففتلها".
(10) صحيح البخاري برقم (4570، 4571) وصحيح مسلم برقم (763) وسنن أبي داود برقم (1367) وسنن النسائي (3/210) وسنن ابن ماجة برقم (1363) وأما الترمذي فرواه في الشمائل برقم (252).
(11) صحيح مسلم برقم (763) وسنن أبي داود برقم (1364).
" طريق أخرى " لهذا الحديث عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (1) .
قال أبو بكر بن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن علي، أخبرنا أبو يحيى بن أبي مسرَّة (2) أنبأنا خَلاد بن يحيى، أنبأنا يونس بن أبي إسحاق، عن المنهال بن عَمْرو، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن عبد الله بن عباس (3) قال: أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ صلاته. قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الآخرة، حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيره قام (4) فمرّ بي، فقال: "من هذا؟ عبد الله؟" فقلت (5) نعم. قال: "فَمَه؟" قلت: أمرني العباسُ أن أبيت بكم الليلة. قال: "فالحق الحق" فلما (6) أن دخل قال: "افرشَنْ عبد الله؟" فأتى بوسادة من مسوح، قال فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سَمعتُ غَطِيطه، ثم استوى على فراشه قاعدا، قال: فَرَفَع رأسَه إلى السماء فقال: "سُبحان الملك القدوس" ثلاث مرات، ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها.
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي، من حديث علي بن عبد الله بن عباس (7) حديثا (8) في ذلك أيضا (9) .
طريق أخرى رواها ابن مَرْدُويَه، من حديث عاصم بن بَهْدَلَة، عن بعض أصحابه، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعد ما مَضى ليل، فنظر إلى السماء، وتلا هذه الآية: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } إلى آخر السورة. ثم قال: "اللهم اجعل في قلبي نُورا، وفي سَمْعي نورا، وفي بَصَري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، ومن بين يَدَيّ نورا، ومن خَلْفي نورا، ومن فَوْقي نورا، ومن تحتي نورا، وأعْظِم لي نورا يوم القيامة " وهذا الدعاء (10) ثابت في بعض طرق الصحيح، من رواية كُريب، عن ابن عباس، رضي الله عنه. (11) .
ثم روى ابن مَرْدُويَه وابن أبي حاتم من حديث جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: بما جاءكم موسى من الآيات؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء (12) للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا: كان يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع لنا ربك (13) يجعل لنا الصَّفَا ذَهَبًا. فدعا ربه، عز وجل، فنزلت: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } قال: "فليتفكروا فيها" (14) لفظ ابن مَرْدُويَه.
__________
(1) زيادة من و.
(2) في أ: "ميسرة".
(3) في أ: "عن أبيه" وفي و: "عن ابن عباس".
(4) في و: "قال".
(5) في جـ، ر: "قلت".
(6) في ر، أ، و: "قال: فلما".
(7) في جـ، ر، أ، و: عباس عن أبيه".
(8) في ر: "حدثنا".
(9) صحيح مسلم برقم (763) وسنن أبي داود برقم (1353) وسنن النسائي (3/236).
(10) في إسناده عاصم وقد تكلم فيه وشيخه مجهول. ورواه البخاري في صحيحه برقم (4569) ومسلم في صحيحه برقم (763) من طريق كريب عن ابن عباس بنحوه.
(11) في و: "عنهما".
(12) في جـ، ر، أ، و: "بيضاء".
(13) في أ، ر: "ربك أن".
(14) ورواه ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن المنذر كما في الدر (2/407). قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/235): "رجاله ثقات إلا الحماني فإنه متكلم فيه، وقد خالفه الحسن بن موسى، فرواه عن يعقوب عن جعفر عن سعيد مرسلا وهو أشبه، وعلى تقدير كونه محفوظا وصله، ففيه إشكال من جهة أن هذه السورة مدنية وقريش من أهل مكة، ويحتمل أن يكون سؤالهم لذلك بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولا سيما زمن الهدنة".
وقد تقدم سياق الطبراني لهذا الحديث في أول الآية، وهذا يقتضي أن تكون (1) هذه الآيات مكية، والمشهور أنها مدنية، ودليله الحديث الآخر، قال ابن مَرْدويه :
حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل، أخبرنا أحمد بن على الحراني، حدثنا شجاع بن أشرس، حدثنا حَشْرج بن نباتة الواسطي أبو مكرم، عن الكلبي -هو أبو جَنَاب (2) [الكلبي] (3) -عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعُبَيد بن عُمَير إلى عائشة، رضي الله عنها، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب، فقالت: يا عبيد، ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول الشاعر :
زُر غبّا تزدد حُبّا ...
فقال ابن عمر: ذرينا (4) أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فَبَكَتْ وقالت : كُلُّ أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي، ثم قال: ذريني أتعبد لربي [عز وجل] (5) قالت: فقلت: والله إني لأحب قربك، وإني أحب (6) أن تَعبد لربك. فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بَل الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يُؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول الله، ما يُبكيك؟ وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر، فقال: "ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل (7) عليّ في هذه الليلة: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } " ثم قال: "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها".
وقد رواه عَبْد بن حُمَيد، عن (8) جعفر بن عَوْن، عن أبي (9) جَنَاب (10) الكلبي عن (11) عطاء، بأطول من هذا وأتم سياقا (12) .
وهكذا رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه، عن عمران بن موسى، عن عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى بن زكريا، عن إبراهيم بن سُوَيد النَّخعي، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: دخلت أنا [وعبد الله بن عمر] (13) وعُبَيد بن عُمَير على عائشة (14) فذكر (15) نحوه.
وهكذا رواه عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب "التفكر والاعتبار" عن شجاع بن أشرص، به. ثم قال: حدثني الحسن بن عبد العزيز: سمعت سُنَيْدًا يذكر عن سفيان -هو الثوري-رفعه قال: من قرأ آخر آل عمران فلم يتفكر فيه ويْلَه. يعد بأصابعه عشرا. قال الحسن بن عبد العزيز: فأخبرني
__________
(1) في ر: "يكون".
(2) في أ: "حبان".
(3) زيادة من ر.
(4) في جـ، ر: "ذرنا"
(5) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(6) في جـ، ر، أ: "لأحب".
(7) في أ: :أنزل الله".
(8) في و: "طريق أخرى: قال عبد بن حميد في تفسيره: أنبأنا".
(9) في و: "حدثنا أبو".
(10) في جـ، ر: "حباب".
(11) في و: "حدثنا".
(12) ومن طريق ابن مردويه رواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب برقم (666) فقال: أخبرنا أحمد الذكواني، أنبأنا أحمد بن موسى ابن مردويه، فذكره. وفي إسناده أبو جناب الكلبي تفرد به وهو ضعيف.
(13) زيادة من و.
(14) في و: "على أم المؤمنين".
(15) في جـ: "فذكره".
عُبَيد بن السائب قال: قيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرأهن وهو يعقلهن.
قال ابن أبي الدنيا: وحدثني قاسم بن هاشم، حدثنا علي بن عَيَّاش، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان قال: سألت الأوزاعي عن أدنى ما يَتَعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل؟ فأطرق هُنَيّة (1) ثم قال: يقرؤهن وهو يَعْقلُهُن.
[حديث آخر فيه غرابة: قال أبو بكر بن مردويه: أنبأنا عبد الرحمن بن بشير بن نمير، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم البستي ح وقال: أنبأنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا أحمد بن عمرو قالا أنبأنا هشام بن عمار، أنبأنا سليمان بن موسى الزهري، أنبأنا مظاهر بن أسلم المخزومي، أنبأنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة. مظاهر بن أسلم ضعيف] (2) .
__________
(1) في جـ: "هنيهة".
(2) زيادة من أ، و.
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) }
يقول تعالى: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } أي: فأجابهم ربهم، كما قال الشاعر : وداعٍ دعا: يَا مَن يجيب إلى النّدى ... فَلم يَسْتجبْه عنْد ذاك مجيب (1) ...
قال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سلمة، رجل من آل أم سلمة، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا نَسْمَع اللهَ ذَكَر النساء في الهجرة بشيء؟ فأنزل الله [عز وجل] (2) { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } إلى آخر الآية. وقالت الأنصار: هي أول ظعينة قَدمت علينا.
وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عُيَيْنة، ثم قال: صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه (3) .
وقد روى ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، عن أم سَلَمة قالت: آخر آية أنزلت هذه الآية: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } إلى آخرها. رواه ابن مَرْدُويَه.
ومعنى الآية: أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا -مما تقدم ذكره-فاستجاب لهم ربهم -عقب ذلك بفاء التعقيب، كما قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة:186] .
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (7/488) وهو لكعب بن سعد الغنوي.
(2) زيادة من أ.
(3) سنن سعيد بن منصور برقم (552) والمستدرك (2/300) ورواه عبد الرزاق في تفسيره (1/144) ومن طريقه ابن جرير في تفسيره (7/488) ولم يذكر قوله: "وقالت الأنصار إلى آخره" من طريق سفيان بنحوه.
وقوله: { أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } هذا تفسير للإجابة، أي قال لهم مُجِيبًا (1) لهم: أنه لا يضيع عمل عامل لديه، بل يُوَفّي كل عامل بقسط عمله، من ذكر أو أنثى.
وقوله: { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } أي: جميعكم في ثوابي سَواء { فَالَّذِينَ هَاجَرُوا } أي: تركوا دار الشِّرك وأتَوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران، { وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } أي: ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم؛ ولهذا قال: { وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي } أي: إنما كان ذنْبُهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده، كما قال تعالى: { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } [الممتحنة:1] . وقال تعالى: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [البروج:8] .
وقوله: { وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا } وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله، فيُعْقَر جَواده، ويعفَّر وجهه بدمه وترابه، وقد ثبت في الصحيح أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتلت في سبيل الله صابرا مُحْتَسبا مُقْبلا غير مُدبِر، أيُكَفِّر الله عني خطاياي؟ قال: "نعم" ثم قال: "كيف قلت؟": فأعاد عليه (2) ما قال، فقال: "نعم، إلا الدَّين، قاله لي جبريل آنفًا".
ولهذا قال تعالى: { لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي: تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب، من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك، مما لا عَيْنَ رَأتْ، ولا أذن سَمِعت، ولا خَطَر على قلب بَشَر.
وقوله: { ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أضافه إليه ونسبه إليه لِيدل على أنه عظيم؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جَزيلا كثيرًا، كما قال الشاعر : إن يُعَذب يَكُن غَرامًا وإن يُعْ ... طِ جَزيلا فإنَّه لا يُبَالي ...
وقوله: { وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } أي: عنده حُسْن الجزاء لمن عمل صالحا.
قال ابن أبي حاتم: ذكر عن دُحَيم بن إبراهيم: حدثنا الوليد بن مسلم، أخبرني حَرِيز (3) بن عثمان: أن شداد بن أوس كان يقول: يا أيها الناس، لا تَتهِموا الله في قضائه، فإنه (4) لا يبغي على مؤمن، فإذا نزل بأحدكم شيء مما يُحِب فليحْمَد الله، وإذا أنزل (5) به شيء مما يكره فَليَصْبر وليحتسب، فإن الله عنده حسن الثواب .
__________
(1) في جـ، ر، أ، و: "مخبرا".
(2) في أ، و: "قال: فأعاد عليه".
(3) في جـ، ر: "جرير".
(4) في أ: "فإن الله"، وفي و: "فالله".
(5) في جـ، ر، أ: "نزل".
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
{ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نزلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ (198) }
يقول تعالى: لا تنظروا (1) إلى ما هؤلاء الكفار مُتْرفون فيه، من النِّعْمَة والغِبْطَة والسرور، فعَمّا قليل يزول هذا كله عنهم، ويصبحون مُرتَهنين بأعمالهم السيئة، فإنما نَمُدّ لهم فيما هم فيه استدراجا، وجميع ما هم فيه { مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }
وهذه الآية كقوله تعالى: { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ } [غافر:4] ، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس:69، 70] ، وقال تعالى: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان:24] ، وقال تعالى: { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } [الطارق:17] ، أي: قليلا وقال تعالى: { أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } [القصص:61] .
وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر مآلهم إلى النار قال بعده: " { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نزلا } أي: ضيافة من عند الله { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ }
وقال (2) ابن مَرْدُويه: حدثنا أحمد بن نصر (3) أخبرنا أبو طاهر سهل بن عبد الله، أنبأنا (4) هشام بن عَمَّار، أنبأنا سعيد بن يحيى، أنبأنا عُبَيد الله بن الوليد الوصافي (5) عن مُحَارب بن دِثَار، عن عَبْد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سُمّوا الأبرار لأنهم بَرّوا الآباء والأبناء، كما أن لوالديك عليك حقا، كذلك لولدك عليك حق".
كذا رواه ابن مَرْدُويه عن عَبْد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا (6) وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن جَنَاب، حدثنا عيسى بن يونس، عن عُبَيد الله بن الوليد الوصافي (7) عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال: إنما سماهم الله أبرارا لأنهم بَرّوا الآباء والأبناء، كما أن لوالديك (8) عليك حقا، كذلك لولدك عليك حق، وهذا أشبه والله أعلم (9) .
ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام الدَّسْتَوائي، عن رجل، عن الحسن قال: الأبرار الذين لا يؤذون الذَّرّ.
وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن خيْثَمَة، عن الأسود قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود-: ما من نَفْس بَرّة ولا فاجرة إلا الموت خيرٌ لها، لئن كان برا لقد قال الله: { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ }
__________
(1) في ر: "تنظر".
(2) في جـ، أ، و: "قال".
(3) في جـ، أ: "نصير".
(4) في جـ: "ابن".
(5) في جـ: "عبد الله بن الوليد الرصافي".
(6) وهو غير محفوظ، وإنما المحفوظ عن ابن عمر، وقد تفرد به أبو طاهر سهل بن عبد الله.
(7) في جـ: "عبد الله بن الوليد الرصافي".
(8) في أ، و: "لوالدك".
(9) ورواه ابن عدي في الكامل (4/323) من طريق محمد بن خريم عن هشام بن عمار عن سعيد بن يحيى عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمر بن الخطاب مرفوعا. ورواه البخاري في الأدب المفرد برقم (94) من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمر بن الخطاب موقوفا. قال السيوطي في الدر (2/416): "ووقفه أصح". وفي إسناده عبيد الله بن الوليد الوصافي متفق على ضعفه. وقال ابن عدي: "ضعيف جدا يتبين ضعفه على حديثه".
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
وكذا رواه عبد الرزاق، عن الأعمش، عن الثوري، به، وقرأ: { وَلا يَحْسَبَنَّ (1) الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [آل عمران:178].
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر، عن فرج بن فضالة، عن لقمان، عن أبي الدرداء أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن الله يقول: { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ } ويقول: { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) }
يخبرُ تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان، وبما أنزل على محمد، مع ما هم يؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم خاشعون لله، أي: مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه، { لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا } أي: لا يكتمون بأيديهم من البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم، سواء كانوا هودًا أو نصارى. وقد قال تعالى في سورة القصص: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى (2) عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } الآية [القصص:52-54]، وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } الآية [البقرة:121]، وقال: { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف:159] ، وقال تعالى: { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [آل عمران:113] ، وقال تعالى: { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا. وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا . وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [الإسراء:107-109] ، وهذه الصفات توجد في اليهود، ولكن قليلا كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عَشْرَةَ أنفُس، وأما النصارى فكثير منهم مهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ . وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ . (3) ] فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } الآية [المائدة:82-85]، وهكذا قال هاهنا: { أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] (4) } الآية.
__________
(1) في أ: "ولا تحسبن".
(2) في جـ أ: "تتلى".
(3) زيادة من جـ، ر، و. وفي هـ: "إلى قوله تعالى".
(4) زيادة من جـ، ر، أ.
وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، لَمّا قرأ سورة { كهيعص } بحضرة النجاشي ملك الحبشة، وعنده البطاركة والقساوسة (1) بَكَى وبَكَوْا معه، حتى أخْضَبُوا (2) لِحَاهُم.
وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نَعَاه النبي (3) صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وقال: "إن أخًا (4) لكم بالحبشة قد مات فصَلُّوا عليه". فخرج [بهم] (5) إلى الصحراء، فَصفَّهم، وصلّى عليه (6) .
وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: لما تُوُفي النجاشي قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: استغفروا لأخيكم . فقال بعض الناس: يأمرنا أن نستغفر لِعِلْج مات بأرض الحبشة. فنزلت: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } الآية.
ورواه عبد بن حميد وابن (7) أبي حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن (8) عن النبي صلى الله عليه وسلم (9) . ثم رواه ابن مَرْدويه [أيضا] (10) من طرق عن حُمَيْد، عن أنس بن مالك نحو ما تقدم (11) .
ورواه أيضًا ابن (12) جرير من حديث أبي بكر الهُذَلي، عن قَتَادة، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن جابر قال: قال [لنا] (13) رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي: "إن أخاكم أصْحَمة قد مات". فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى كما يُصَلِّي على الجنائز فكبر عليه أربعا، فقال المنافقون: يصلي على علج مات بأرض الحبشة: فأنزل الله [عز وجل] (14) { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] (15) } (16) .
وقد روى الحافظُ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه أنبأنا أبو العباس السياري بمرو، حدثنا عبد الله بن علي الغزال، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا ابن المبارك، أنبأنا مصعب بن ثابت، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: نزل بالنجاشي عَدُوّ من أرضهم، فجاءه المهاجرون فقالوا: نحب (17) أن نَخْرُجَ إليهم حتى نقاتل معك، وترى جرأتنا، ونجزيك بما صنعت بنا. فقال: لا دواء
__________
(1) في جـ، ر: "القساقسة".
(2) في جـ، ر: "أخضلوا".
(3) في جـ، ر، أ، و: "رسول الله".
(4) في جـ: "أخاكم".
(5) زيادة من جـ، أ، و.
(6) صحيح البخاري برقم (1320) وصحيح مسلم برقم (952) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(7) في ر: "عن".
(8) في جـ، ر: "أنس".
(9) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (2688) من طريق مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة به. ثم قال: "لم يروه عن حماد إلا مؤمل".
(10) زيادة من أ، و.
(11) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (3928) "مجمع البحرين" من طريق أبي بكر بن عياش عن حميد عن أنس به. قال الهيثمي في المجمع (3/38): "رجاله ثقات". ورواه الواحدي في الوسيط (1/536) من طريق معتمر بن سليمان عن حميد عن أنس به.
(12) في ر: "وابن".
(13) زيادة من جـ، ر.
(14) زيادة من جـ، أ.
(15) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(16) تفسير الطبري (7/496).
(17) في جـ، ر: "إنا نحب".
بنصرة الله عز وجل خَيْر من دواء بنصرة الناس. قال: وفيه نزلت: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } الآية، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (1) .
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن عَمْرو الرازي، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: لما مات النجاشي كنا نُحَدِّث أنه لا يزال يرى على (2) قبره نور (3) .
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني: مسلمة أهل الكتاب.
وقال عَباد بن منصور: سألت الحسن البصري عن قوله تعالى: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ ] } (4) الآية. قال: هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فاتبعوه وعرفوا الإسلام، فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين (5) للذي (6) كانوا عليه من الإيمان (7) قبل محمد صلى الله عليه وسلم وبالذي اتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم. رواهما ابن أبي حاتم.
وقد ثبت في الصحيحين، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يُؤتَوْنَ أجرَهم مرتين" فذكر منهم: "ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي" (8) .
وقوله: { لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا } أي: لا يكتمون ما بأيديهم من العلم، كما فعله الطائفة المرذولة منهم (9) بل يبذلون ذلك مجانا؛ ولهذا قال: { أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
قال مجاهد: { سَرِيعُ الْحِسَابِ } يعني: سريع الإحصاء. رواه ابن أبي حاتم وغيره.
وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } قال الحسن البصري، رحمه الله: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وهو الإسلام، فلا يدعوه لسرّاء ولا لضرّاءَ ولا لشِدَّة ولا لرِخَاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون (10) دينهم. وكذلك قال غير واحد من علماء السلف.
وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات. وقيل: انتظار الصلاة بعد الصلاة، قاله [مجاهد و] (11) ابن عباس وسهل بن حُنَيف، ومحمد بن كعب القُرَظي، وغيرهم.
وروى ابن أبي حاتم هاهنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي، من حديث مالك بن أنس، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحُرَقَة، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا
__________
(1) المستدرك (2/300) وأقره الذهبي.
(2) في جـ، أ: "في".
(3) سنن أبي داود بررقم (2523).
(4) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(5) في جـ، ر: "إحدى اثنتين".
(6) في أ: "للذين".
(7) في جـ، ر، أ، و: "الإسلام".
(8) صحيح البخاري برقم (97) وصحيح مسلم برقم (154).
(9) في أ: "بينهم".
(10) في ر، أ، و، "يملون".
(11) زيادة من و.
أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ إسباغُ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّبَاط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" (1) .
وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا موسى بن إسحاق حدثنا أبو جُحَيْفة (2) علي ابن يزيد الكوفي، أنبأنا ابن أبي كريمة، عن محمد بن يزيد (3) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل عليَّ أبو هريرة يوما فقال: أتدري يا ابن أخي فيم نزلت (4) هذه الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } ؟ قلت: لا. قال: أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد، يصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون الله فيها، فعليهم أنزلت: { اصْبِرُوا } أي: على الصلوات الخمس { وَصَابِرُوا } [على] (5) أنفسكم وهواكم { وَرَابِطُوا } في مساجدكم { وَاتَّقُوا اللَّهَ } فيما عليكم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (6) .
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور بن المبارك عن مصعب بن ثابت، عن داود بن صالح، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة -بنحوه (7) .
وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حدثني ابن فضيل (8) عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن جده، عن شرحبيل، عن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلكم على ما يُكَفِّر الذنوب والخطايا؟ إسْباغُ الوُضُوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط" (9) .
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا موسى بن سَهْل الرملي، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا محمد بن مُهاجر، حدثني يحيى بن يزيد، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة، عن شُرَحْبيل، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أدُلُّكم على ما يَمْحُو الله به الخطايا ويُكفّر به الذنوب؟" قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "إسباغ الوُضوء في أماكنها، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط" (10) .
وقال ابن مَرْدُويه: حدثني محمد بن علي، أنبأنا محمد بن عبد الله بن (11) السلام البيروتي، أنبأنا محمد بن غالب الأنطاكي، أنبأنا عثمان بن عبد الرحمن، أنبأنا الوازع بن نافع، عن أبي سلمة
__________
(1) رواه مالك في الموطأ في قصر الصلاة برقم (55) ومن طريقه مسلم في صحيحه برقم (251) والنسائي في السنن الكبرى برقم (139).
(2) في جـ: "حجية"، وفي أ: "جحيفة".
(3) في أ: "سويد".
(4) في جـ، ر، أ، و: "أنزلت".
(5) زيادة من أ.
(6) ذكره السيوطي في الدر (2/417) وعزاه لابن مردويه.
(7) المستدرك (2/301) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وأقره الذهبي. ورواه الطبري في تفسيره (7/504) من طريق ابن المبارك عن مصعب بن ثابت عن داود من كلام أبي سلمة كما سيأتي.
(8) في ر: "فضل".
(9) تفسير الطبري (7/505) وفي إسناده المقبري: عبد الله بن سعيد، ضعيف ورمى بالكذب.
(10) تفسير الطبري (7/505، 506) ورواه البزار (1/223) "كشف الأستار" وقال: "لا نعلم يروى هذا عن جابر بغير هذا الإسناد" ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (161) "موارد" كلاهما من طريق محمد بن سلمة عن خالد بن يزيد عن محمد بن سلمة به.
(11) في جـ، ر، أ، و: "عبد الله بن عبد السلام".
بن عبد الرحمن، عن أبي أيوب، رضي الله عنه، قال: وقف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل لكم (1) إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر؟" قلنا: نعم، يا رسول الله، وما هو؟ قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة".
قال: "وهو قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فذلك هو الرباط في المساجد" وهذا حديث غريب من هذا الوجه جدًا (2) .
وقال عبد الله بن المبارك، عن مُصْعَب بن ثابت بن عبد الله بن الزُّبَيْر، حدثني داود بن صالح قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } ؟ قال: قلت: لا. قال: إنه -يا ابن أخي-لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غَزْو يُرَابَطُ فيه، ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة. رواه ابن جرير، وقد تقدم سياقُ ابن مَرْدُويه، وأنه من كلام أبي هريرة، فالله أعلم.
وقيل: المراد بالمرابطة هاهنا مرابطة الغزو في نُحور العدو، وحفظ ثُغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حَوْزَة بلاد المسلمين، وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك، وذِكْر كثرة الثواب فيه، فرَوَى البخاري في صحيحه عن سَهْل بن سَعْد الساعدي، رضي الله عنه (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رباطُ يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها" (4) .
حديث آخر: روى مسلم، عن سَلمان الفارسي، عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رباطُ يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وَإنْ مات جَرَى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجْرِيَ عليه رزْقُه، وأمِنَ الفَتَّان " (5) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا ابن المبارك، عن حَيْوة بن شُرَيح، أخبرني أبو هانئ الخولاني، أن عمرو بن مالك الجَنْبي (6) أخبره: أنه سمع فُضالة بن عُبيد يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ميّت يُخْتَمُ على عمله، إلا الذي مات مُرَابطًا في سبيل الله، فإنه يَنْمى (7) له عملُه إلى يوم القيامة، ويأمن فتنة القبر".
وهكذا رواه أبو داود، والترمذي من حديث أبي هانئ الخولاني. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضًا (8) .
حديث آخر: وروى الإمام أحمد أيضًا عن يحيى بن إسحاق وحسن بن موسى وأبي (9) سعيد
__________
(1) في جـ، أ: "هل أدلكم".
(2) وفي إسناده الوازع بن نافع، قال ابن معين: ليس بثقة. وقال البخاري: منكر الحديث وتركه النسائي. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه الوازع غير محفوظ. ميزان الاعتدال (4/327).
(3) في أ، و: "عنهما".
(4) صحيح البخاري برقم (2892).
(5) صحيح مسلم برقم (1913).
(6) في أ: "الختني".
(7) في جـ، ر: "ينمو".
(8) المسند (6/20) وسنن أبي داود برقم (2500) وسنن الترمذي برقم (1621) وصحيح ابن حبان (7/69) "الإحسان".
(9) في جـ، أ: "أبو".
[وعبد الله بن يزيد] (1) قالوا: حدثنا (2) ابن لَهِيعة حدثنا مَشْرَح بن هاعان، سمعت عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ميّت يُخْتَم له على عمله، إلا المرابط في سبيل الله، فإنه يجري عليه (3) عمله حتى يُبْعَثَ ويأمن من الفَتَّان" (4) .
وروى الحارث بن محمد بن أبي أسامة في مسنده، عن المقبري وهو عبد الله بن يزيد، به إلى قوله: "حتى يبعث" دون ذكر "الفتان" (5) . وابن لَهِيعة إذا صرح بالتحديث فهو حَسَن، ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد.
حديث آخر: قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في سننه: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا عبد الله بن وَهْب، أخبرني اللَّيْث، عن زُهرة بن مَعْبَد (6) عن أبيه، عن أبي هُرَيرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات مُرَابطًا في سبيل الله، أجرى (7) عليه عمله الصالح الذي كان يعمل وأجْري عليه رزقه، وأمن من الفتان، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفَزَع" (8) .
طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا موسى، أنبأنا ابن لَهِيعة، عن موسى بن وَرْدان، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات مُرَابطا وقي فِتنة القبر، وأمن (9) من الفَزَع الأكبر، وغَدَا عليه وريح برزقه من الجنة، وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة" (10) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش، عن محمد بن عمرو بن حَلْحَلَة الدؤلي، عن إسحاق بن عبد الله، عن أم الدَّرْداء ترفع الحديث قالت (11) من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام، أجزأت عنه رباط سنة" (12) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا كَهْمَس، حدثنا مُصْعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال: قال عثمان، رضي الله عنه -وهو يخطب على منبره-: إني مُحدِّثكم حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الضّن بكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حَرْسُ ليلة في سبيل الله أفضل (13) من ألف ليلة يقام ليلها ويُصَام نهارها" (14) .
وهكذا رواه أحمد أيضا عن رَوْح عن كهمس عن مصعب بن ثابت، عن عثمان (15) . وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمَّار، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن مُصْعب بن ثابت،
__________
(1) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(2) في جـ، ر، أ، و: "كلهم عن عبد الله بن لهيعة".
(3) في أ: "له".
(4) المسند (3/157) وقال الهيثمي في المجمع (5/289): "فيه ابن لهيعة وحديثه حسن".
(5) مسند الحارث برقم (627) "بغية الباحث" ورواية عبد الله بن يزيد عن ابن لهيعة صحيحة، فهو ممن روى عنه قبل الاختلاط.
(6) في ر: "وابن سعيد".
(7) في أ، و: "أجر".
(8) سنن ابن ماجة برقم (2767) وقال البوصيري في الزوائد (2/391): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(9) في ر: "وأومن".
(10) المسند (2/404).
(11) في ر، أ، و: "قال".
(12) المسند (6/362) وقال الهيثمي في المجمع (5/289): "رواه أحمد والطبراني من رواية إسماعيل بن عياش عن طريق المدنيين وبقية رجاله ثقات".
(13) في أ: "خير".
(14) المسند (1/64).
(15) المسند (1/61).
عن عبد الله بن الزبير قال: خطب عثمان بن عفان الناس فقال: يأيها الناس، إني سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الضّنّ بكم وبصحابتكم، فَليخْتَرْ مُخْتَار لنفسه أو ليَدَعْ. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رَابطَ لَيْلة في سَبِيل الله كانت كألْفِ ليلة صِيامها وقِيامها" (1) .
طريق أخرى عن عثمان [رضي الله عنه] (2) قال الترمذي: حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا هشام بن عبد الملك، حدثنا الليث بن سعد، حدثنا أبو (3) عَقِيل زهْرَة بن مَعْبد، عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال: سمعت عثمان -وهو على المنبر-يقول: إني كَتَمْتُكُمْ حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كَرَاهية تفرقكم عني، ثم بدا لي أن أحدثكُمُوه، ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رباطُ يوم في سَبِيل الله خَير من ألف يوم فيما سِوَاه من المنازل".
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، قال محمد -يعني البخاري-: أبو صالح مولى عثمان اسمه بُرْكان (4) وذكر غير الترمذي أن اسمه الحارث، فالله أعلم (5) وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن لَهِيعة وعنده زيادة في آخره فقال -يعني عثمان-: فليرابط امرؤ كيف شاء، هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد (6) .
حديث آخر: قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، حدثنا محمد بن المُنْكَدر قال: مر سَلْمان الفارسي بشُرَحْبِيل بن السِّمْط، وهو في مُرَابَط له، وقد شَق عليه وعلى أصحابه فقال : أفلا (7) أحدثك -يا ابن السمط-بحديث سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى. قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رِبَاط يوم في سبيل الله أفضل -أو قال: خير-من صيام شهر وقيامه، ومن مات فيه وُقي فِتْنَة القبر، ونَمَا له عمله إلى يوم القيامة".
تفرد به الترمذي من هذا الوجه، وقال: هذا حديث حسن (8) . وفي بعض النسخ زيادة: وليس إسناده بمتصل، وابن المنكدر لم يدرك سلمان.
قلت: الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن السِّمط وقد رواه مسلم والنسائي من حديث مكحول وأبي عُبيدة بنُ عقبة، كلاهما عن شرحبيل بن السمط -وله صحبة-عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رِباطُ يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجرِي عليه رزقُه، وأمن الفَتَّان" وقد تقدم (9) سياق مسلم بمفرده (10) .
حديث آخر: قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سَمُرة، حدثنا (11) محمد بن يَعْلى
__________
(1) سنن ابن ماجة برقم (2766) وقال البوصيري في الزوائد (2/390): "إسناده ضعيف".
(2) زيادة من و.
(3) في جـ: "أبي".
(4) في جـ، أ: "تركان".
(5) سنن الترمذي برقم (1667) ورواه النسائي في السنن (6/39).
(6) المسند (1/62).
(7) في جـ: "ألا".
(8) سنن الترمذي برقم (1665).
(9) في جـ: "قدم".
(10) صحيح مسلم برقم (1913) وسنن النسائي (3916).
(11) في جـ: "قال: حدثنا".
السُّلَمي، حدثنا عُمَر بن صُبَيْح، عن عبد الرحمن بن عَمْرو، عن مكحول، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لربَاط يوم في سبيل الله، من وراء عَوْرَة المسلمين مُحْتَسبًا، من غير شهر رمضان، أعظمُ أجرًا من عبادة مائة سنة، صيامها وقيامها. ورباطُ يوم في سبيل الله، من وراء عورة المسلمين محتسبا، من شهر رمضان، أفضل عند الله وأعظم أجرا -أراه قال-: من عبادة ألف سنة صيامها، وقيامها فإن رده الله تعالى إلى أهله سالما، لم تكتب (1) عليه سيئة ألف سنة، وتكتب له الحسنات، ويُجْرَى له أجر الرباط إلى يوم القيامة".
هذا حديث غريب، بل منكر من هذا الوجه، وعُمَر بن صُبَيْح مُتَّهم (2) .
حديث آخر: قال ابن ماجة: حَدثنا عيسى بن يونس الرمْلي، حدثنا محمد بن شُعيب بن شابور، عن سعيد بن خالد بن أبي طويل، سمعتُ أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حَرْسُ ليلة في سبيل الله أفضل من صيام رَجُل وقيامه في أهله ألف سنة: السنة ثلاثمائة وستون (3) يوما، واليوم (4) كألف سنة".
وهذا حديث غريب أيضا (5) وسعيد بن خالد هذا ضَعَّفَه أبو زُرْعَة وغير واحد من الأئمة، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وقال الحاكم: روى عن أنس أحاديث موضوعة.
حديث آخر: قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن الصَّبَّاح، أنبأنا عبد العزيز بن محمد، عن صالح بن مُحَمَّد بن زائدَةَ، عن عُمَرَ بن عبد العزيز، عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رحم الله حارس الحرس" (6) .
فيه انقطاع بين عمر بن عبد العزيز وعقبة بن عامر، فإنه لم يدركه، والله أعلم.
حديث آخر: قال أبو داود: حدثنا أبو تَوْبَةَ، حدثنا معاوية -يعني ابن سلام عن زيد-يعني ابن سلام-أنه سمع أبا سلام قال: حدثني السلولي: أنه حدثه سهل ابن الحنظلية (7) أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، فأطنبوا السير حتى كانت عَشِيّة، فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهُوازن على بَكْرَة أبيهم بظُعنهم ونَعَمِهم وشَائِهم (8) اجتمعوا إلى حنين، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "تلك غَنِيمَة المسلمين غدًا إن شاء الله [تعالى (9) ] " . ثم قال: "من يحرسنا الليلة؟" قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله. فقال (10) فاركب" فركب فرسًا له، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له
__________
(1) في جـ: "يكتب".
(2) سنن ابن ماجة برقم (2768).
(3) في جـ، ر، أ: "وستين".
(4) في جـ، ر: "يوم اليوم".
(5) سنن ابن ماجة برقم (2770).
(6) سنن ابن ماجة برقم (2769) وقال البوصيري في الزوائد (2/394): "هذا إسناد ضعيف. صالح بن محمد ضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والبخاري وأبو داود والنسائي وابن عدي وغيرهم".
(7) في ر: "الحنطلية".
(8) في ر، أ: "وشياههم".
(9) زيادة من جـ، أ.
(10) في جـ، أ، و: "قال".
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسْتَقْبِل هذا الشِّعْب حتى تكون في أعلاه ولا يَغَرَّن (1) من قِبَلِك الليلة" فلما أصبحنا خرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مُصَلاه فركع ركعتين ثم قال: "هل أحسستم فارسكم؟" قال رجل: يا رسول الله، ما أحسسناه، فثُوِّب بالصلاة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته قال: "أبْشِرُوا فقد جاءكم فارسكم" فجعلنا ننظر إلى خِلال الشجر في الشعب، فإذا هو قد جاء، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحدًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل نزلت الليلة؟" قال: لا إلا مصليًا أو قاضيًا حاجة، فقال له: "أوْجَبْتَ، فلا عليك ألا تعمل بعدها".
ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني، عن أبي توبة وهو الربيع بن نافع به (3) .
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحُبَاب: حدثنا عبد الرحمن بن شُرَيح، سمعت محمد بن شُمَير (4) الرُّعَيْني يقول: سمعت أبا عامر التَّجِيبي. قال الإمام أحمد: وقال غير زيد: أبا علي الجَنْبِي (5) يقول: سمعت أبا ريحانة يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فأتينا ذات ليلة إلى شَرَف فَبتْنَا عليه، فأصابنا برد شديد، حتى رأيتُ مَنْ يحفر في الأرض حفرة، يدخل فيها ويلقى عليه الجَحْفَة -يَعني التِّرس-فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الناس نادى: "من يَحْرُسُنا في هذه الليلة فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل؟" فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله. فقال: "ادْنُ" فدنا، فقال: "من أنت؟" فتسمى له الأنصاري، ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء، فأكثر منه. فقال (6) أبو ريحانة: فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت (7) أنا رجل آخر. فقال: "ادن". فدنوت. فقال: من أنت؟ قال: فقلت: أنا أبو ريحانة. فدعا بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري، ثم قال: "حُرِّمَت النار على عَيْنٍ دَمِعَت -أو بَكَتْ-من خَشْيَةِ الله، وحرمت النار على عين سَهِرَتْ في سَبِيل الله".
وروى النسائي منه: "حرمت النار..." إلى آخره عن عِصْمَة بن الفضل، عن زيد بن الحباب به، وعن الحارث بن مسكين، عن ابن وَهْب، عن عبد الرحمن بن شُرَيح، به، وأتم، وقال في الروايتين: عن أبي علي الجنبي (8) (9) .
حديث آخر: قال الترمذي: حدثنا نصر بن علي الجَهْضَمِيّ، حدثنا بِشْر بن عُمَر، حدثنا شعيب بن رزَيق أبو شَيْبة، حدثنا عطَاء الخراساني، عن عطاء بن أبي رَبَاح، عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عَيْنان لا تَمَسُّهما النار: عَيْنٌ بَكَتْ من خَشْيَةِ الله، وعين باتت تَحْرُسُ في سبيل الله".
__________
(1) في جـ، أ، و: "تغرن".
(2) في جـ، ر، أ: "حيث أمرني رسول الله".
(3) سنن أبي داود برقم (2501) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8870).
(4) في جـ، ر: "سمير".
(5) في جـ، ر، و: "الحنفي".
(6) في جـ، ر، أ، و: "قال".
(7) في جـ، ر: "فقلت".
(8) في أ، و: "التجيبي".
(9) المسند (4/134) وسنن النسائي (5/15).
ثم قال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شُعَيب بن رُزَيق (1) قال : وفي الباب عن عثمان وأبي ريحانة (2) قلت: وقد تقدما، ولله الحمد.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان، حدثنا رِشْدين، عن زَبّان (3) عن سهل بن معاذ عن أبيه معاذ بن أنس، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حَرَس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا بأجرة سلطان، لم ير النار بعينيه إلا تَحِلَّة القَسَم، فإن الله يقول : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } [مريم:71].
تفرد به أحمد (4) رحمه الله [تعالى] (5) .
حديث آخر: روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تَعِسَ عبد الدينار وعبد الدِّرْهَم وعبد الخَميصة، إن أُعْطِيَ رضي، وإن لم يُعْطَ سَخِط، تَعس وانتكَسَ، وإذا شيك فلا انْتَقَش (6) طُوبَى لعَبدٍ آخذٍ بعنان فَرَسه في سبيل الله، أشعثَ رأسُهُ، مُغَبَّرةٍ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في السَّاقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شَفَع لم يُشفَّعْ" (7) .
فهذا ما تَيَسَّر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام، ولله الحمدُ على جزيل الإنعام، على تعاقب الأعوام والأيام.
وقال ابن جرير : حدثني المُثَنَّى، حدثنا مُطَرِّف بن عبد الله المدني (8) حدثنا مالك، عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة، رضي الله عنه، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد فإنه مهما يَنزلْ بعبد مؤمن من مَنزلة شدة يجعل الله بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عُسْر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (9) .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك (10) من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال : أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس، وودعته للخروج، وأنشدها
__________
(1) في أ: "زريق".
(2) سنن الترمذي برقم (1639).
(3) في ر: "رثان".
(4) المسند (3/437).
(5) زيادة من ر.
(6) في ر: "انتفش".
(7) صحيح البخاري برقم (2886).
(8) في ر: "المديني".
(9) تفسير الطبري (7/503) ورواه الحاكم في المستدرك (2/300) من طريق زيد بن أسلم به وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(10) انظر: مخنصر تاريخ دمشق لابن منظور (14/22).
معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة، وفي رواية: سنة سبع وسبعين ومائة: يا عابدَ الحرمين لَوْ أبْصَرْتَنا ... لَعَلمْتَ أنكَ في العبادِة تلعبُ ...
من كان يخضب خدَّه بدموعِه ... فَنُحورنا بدمائنا تَتَخضَّب ...
أو كان يُتْعِبُ خَيْلَه في باطلٍ ... فخُيولنا يومَ الصبِيحة تَتْعبُ ...
ريحُ العبيرِ لكم ونحنُ عبيرُنا ... وَهجُ السنابِك والغبارُ الأطيبُ ...
ولَقَد أتانا من مَقَالِ نبينا ... قول صَحيح صادق لا يَكْذبُ ...
لا يستوي وَغُبَارَ خيل الله في ... أنف امرئ ودخانَ نار تَلْهَبُ ...
هذا كتاب الله يَنْطق بيننا ... ليس الشهيدُ بمَيِّت لا يَكْذبُ ...
قال: فلقيت الفُضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذَرِفَتْ عَيْنَاهُ وقال : صَدَق أبو عبد الرحمن، ونصحني، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال: قلت : نعم قال : فاكتب هذا الحديث كرَاءَ حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا. وأملى عَلَيّ الفُضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أن رجلا قال : يا رسول الله عَلمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال: " هل تستطيع أن تُصَلِّي فلا تَفْتُر وتصومَ فلا تُفْطِر ؟ " فقال: يا رسول الله، أنا أضْعَفُ من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فَوالَّذي نَفْسِي بِيَدِه لو طُوقْتَ ذلك ما بلغتَ المجاهدين في سبيل الله أوما عَلمتَ أن الفرس المجاهد ليَسْتَنُّ في طِوَله فيكتب له بذلك الحسنات" (1) .
وقوله: { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: في جميع أموركم وأحوالكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ [بن جبل] (2) [رضي الله عنه] (3) حين بعثه إلى اليمن: " اتَّق الله حَيْثُما كُنْتَ وأتْبع السيئَة الحسنة تَمْحُها وخالق الناس بخُلق حَسَنٍ ".
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي: في الدنيا والآخرة.
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو (4) صخر، عن محمد بن كعب القُرَظي: أنه كان يقول في قول الله عز وجل: { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } واتقوا الله فيما بيني وبينكم، لعلكم تفلحون غدا إذا لقيتموني.
آخر تفسير سورة آل عمران، ولله الحمد والمنة، نسأله الموت على الكتاب والسنة .
__________
(1) رواه أحمد في المسند (5/236).
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من و.
(4) في أ: "ابن".
تفسير سورة النسَاء
[وهي مدنية] (1) قال العَوْفِي عن ابن عباس: نزلت سورةُ النساء بالمدينة. وكذا رَوَى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير، وزيد بن ثابت، ورَوَى من طريق عبد الله بن لَهِيعة، عن أخيه عيسى، عن عِكْرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حَبْس " (2) .
وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أبو البَخْتَرِي (3) عبد الله بن محمد شاكر، حدثنا محمد بن بِشْر العَبْدي، حدثنا مِسْعَر بن كِدَام، عن مَعْن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: إن في سورة النساء لخمسُ آيات ما يَسُرّني أن لي بها الدنيا وما فيها: { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } الآية، و { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } الآية، و { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } و { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ } الآية، و { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } ثم قال: هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه، فقد اختلف في ذلك (4) .
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن رجل، عن ابن مسعود قال في خمس آيات من (5) النساء: لهن (6) أحب إلَيّ من الدنيا جَميعًا: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وقوله: { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } وقوله: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وقوله: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } وقوله: { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ (7) أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } رواه ابن جرير: ثم روى من طريق صالح المري، عن قتادة، عن ابن عباس قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير (8) لهذه الأمة مما طَلَعت عليه الشمس وغربت، أولاهن: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } والثانية: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا } والثالثة: { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا } .
ثم ذكر قول (9) ابن مسعود سواء، يعني في الخمسة. (10) الباقية.
وروى الحاكم من طريق أبي نُعَيم، عن سفيان بن عُيَيْنَة، عن عبيد الله (11) بن أبي يزيد، عن ابن أبي مُلَيْكَة؛ سمعت ابن عباس يقول: سلوني عن سورة النساء، فإني قرأت القرآن وأنا صغير. ثم قال: هذا حديث (12) صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى (6/162) والطبراني في المعجم الكبير (11/365) والدارقطني في السنن (4/68)، وقال: "لم يسنده غير ابن لهيعة عن أخيه وهما ضعيفان".
(3) في جـ، أ: "البحتري".
(4) المستدرك (2/305).
(5) في جـ، أ: "في".
(6) في جـ، أ: "هن".
(7) في هـ: "من رسله".
(8) في جـ، أ: "لهن".
(9) في جـ، ر، أ: "ذكر مثل قول".
(10) في ر، أ: "الخمس".
(11) في أ: "عبد الله".
(12) المستدرك (2/301).
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) }
يقول تعالى آمرًا خلقه بتقواه، وهي عبادته وحده لا شريك له، ومُنَبّهًا لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة، وهي آدم، عليه السلام { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وهي حواء، عليها السلام، خلقت من ضِلعه الأيسر (1) من خلفه وهو نائم، فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا وكيع، عن أبي هلال، عن قتادة، عن ابن عباس قال: خُلقَت المرأة من الرجل، فجعل نَهْمَتَها في الرجل، وخلق الرجل من الأرض، فجعل نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم.
وفي الحديث الصحيح: "إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عِوَج" (2) .
وقوله: { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً } أي: وذَرَأ منهما، أي: من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء، ونَشَرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر.
ثم قال تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ } أي: واتقوا الله بطاعتكم إياه، قال إبراهيم ومجاهد والحسن: { الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ } أي: كما يقال: أسألك بالله وبالرَّحِم. وقال الضحاك: واتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، ولكن بروها وصِلُوها، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، والضحاك، والربيع وغير واحد.
وقرأ (3) بعضهم: { والأرحام } بالخفض على العطف على الضمير في به، أي: تساءلون بالله وبالأرحام، كما قال مجاهد وغيره.
وقوله: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } أي: هو مراقب لجميع أعمالكم وأحوالكم كما قال: { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [البروج: 9] .
وفي الحديث الصحيح: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (4) وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب؛ ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب [واحد] (5) وأم واحدة؛ ليعطفَ بعضهم على
__________
(1) في جـ، ر، أ: "الأقصر".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) في أ: "وقال".
(4) رواه بهذا اللفظ الطبراني في المعجم الكبير والحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في التهذيب (3/106) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، ولعل الحافظ ابن كثير يقصد بهذا الحديث حديث جبريل الطويل الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في صحيحه برقم (28)، وفيه "أخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
(5) زيادة من جـ، ر، أ.
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
بعض، ويحننهم (1) على ضعفائهم، وقد ثبت في صحيح مسلم، من حديث جَرِير بن عبد الله البَجَلي؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مُضَر -وهم مُجْتابو النِّمار -أي من عُريِّهم وفَقْرهم -قام فَخَطَب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } حتى ختم الآية (2) وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [وَاتَّقُوا اللَّهَ] (3) } [الحشر:18 ] ثم حَضَّهم (4) على الصدقة فقال: "تَصَدَّقَ رجُلٌ من دِينَاره، من دِرْهَمِه، من صَاعِ بُرِّه، صَاعِ تَمْره ..." وذكر تمام الحديث (5) .
وهكذا رواه (6) الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خُطْبَة الحاجة (7) وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ] (8) } الآية.
{ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) }
يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحُلُم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضَمِّها إلى أموالهم؛ ولهذا قال: { وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } قال سفيان الثوري، عن أبي صالح: لا تعْجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك.
وقال سعيد بن جبير: لا تبَدَّلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم، يقول: لا تبذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام.
وقال سعيد بن المسيّب والزهري: لا تُعْط مهزولا وتأخذ سمينا.
وقال إبراهيم النَّخَعِي والضحاك: لا تعط زائفًا وتأخذ جيدًا.
وقال السُّدِّي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غَنم اليتيم، ويجعل فيها مكانها الشاة المهزولة، ويقول (9) شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجَيِّد ويطرح مكانه الزّيْف، ويقول: درهم بدرهم.
وقوله: { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } قال مجاهد، وسعيد بن جبَيْر، ومقاتل بن حَيَّان، والسّدي، وسفيان بن حُسَين: أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعا.
__________
(1) في ر: "وتحننهم".
(2) في جـ، ر، أ: جاءت الآية كاملة.
(3) زيادة من جـ، أ.
(4) في جـ، أ: "حثهم".
(5) صحيح مسلم برقم (1017).
(6) في جـ، ر، أ: "روى".
(7) المسند (4/358).
(8) زيادة من جـ، ر، أ.
(9) في أ: "فيقول".
وقوله: { إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } قال ابن عباس: أي إثمًا كبيرًا عظيما.
وقد رواه ابن مَرْدُويه، عن أبي هريرة قال: سئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: { حُوبًا كَبِيرًا } قال: "إثما كبيرًا". ولكن في إسناده محمد بن يونس الكُدَيْمي وهو ضعيف (1) وهكذا رُوي عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وأبي مالك، وزيد بن أسلم، وأبي سِنَان مثل قول ابن عباس.
وفي الحديث المروي في سنن أبي داود: "اغفر لنا حوبنا وخطايانا".
وروى ابن مَرْدويه بإسناده إلى واصل، مولى أبي عيينة، عن محمد بن سِيرِين، عن ابن عباس: أن أبا أيوب طَلَّق امرأته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا أيوب، إن طلاق أم أيوب كان حوبا" قال (2) ابن سيرين: الحوب الإثم (3) .
ثم قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي، حدثنا بشر بن موسى، أخبرنا هَوْذَة بن خليفة، أخبرنا عَوْف، عن أنس: أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن طلاق أم أيوب لحوب فأمسكها" (4) ثم رواه (5) ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم، عن حُمَيد الطويل، سمعت أنس بن مالك يقول: أراد أبو طلحة أن يطلق أم سُليم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن طلاق أم سليم لحوب" فكف (6) .
والمعنى: إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه.
وقوله: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى } أي: إذا كان (7) تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير، ولم يضيق الله عليه.
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام، عن ابن جُرَيج، أخبرني هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة؛ أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها، وكان لها عَذْق. وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا [فِي الْيَتَامَى] (8) } أحسبه قال: كانت
__________
(1) وقال ابن عدي: قد اتهم بالوضع، وقال ابن حبان: لعله وضع أكثر من ألف حديث وقال أبو عبيد الآجري: رأيت أبا داود يطلق في الكديمي الكذب.
(2) في أ: "وقال".
(3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/196) من طريق يحيى الحماني عن حماد بن زيد عن واصل مولى أبي عيينة عن محمد بن سيرين عن ابن عباس أن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن طلاق أم أيوب لحوب" قال ابن سيرين: الحوب الإثم، قال الهيثمي في المجمع (9/262): "فيه يحيى الحماني وهو ضعيف".
(4) هذا مرسل، وأخرجه أبو داود في المراسيل برقم (233) عن وهب بن بقية عن خالد عن عوف عن أنس بن سيرين به. وأخرجه إبراهيم الحربي في غريب الحديث كما في تخريج الكشاف للزيلعي (1/279) من طريق جرير عن واصل عن أنس بن سيرين به.
(5) في أ: "ورواه"
(6) المستدرك (2/302) ومن طريق البيهقي في السنن الكبرى (7/323) وقال الحاكم: صحيح وتعقبه الذهبي: "لا والله فيه على بن عاصم وهو واه".
(7) في جـ، ر، أ: "كانت".
(8) زيادة من جـ.
شريكَتَه في ذلك العَذْق وفي ماله.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى (1) { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى } قالت: يا ابن أختي (2) هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تَشْرَكه (3) في ماله ويعجبُه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يَقْسِط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن (4) ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغُوا بهنَّ أعلى سُنتهنَّ في الصداق، وأمِروا أن ينكحُوا ما طاب لهم من النساء سواهُنَّ. قال عروة: قالت عائشة : وإن الناس استفْتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية، فأنزل الله [تعالى] (5) { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ } قالت عائشة: وقولُ الله في الآية الأخرى: { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } [النساء: 127]رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال. فنهوا (6) أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى (7) النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهن إذا كُن قليلات المال والجمال (8) .
وقوله: { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } [فاطر:1]أي: انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن (9) شاء أحدكم ثنتين، [وإن شاء ثلاثا] (10) وإن شاء أربعا، كما قال تعالى: { جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر: 1 ] أي: منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ولا ينفي (11) ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه، بخلاف قصر الرجال على أربع، فمن (12) هذه الآية كما قاله ابن عباس وجمهور العلماء؛ لأن المقام مقام امتنان وإباحة، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره.
قال الشافعي: وقد دَلَّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة.
وهذا الذي قاله الشافعي، رحمه الله، مجمع عليه بين العلماء، إلا ما حُكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع. وقال بعضهم: بلا حصر. وقد يتمسك بعضهم بفعل النبي (13) صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيحين، وإما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري. وقد علقه (14) البخاري، وقد روينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة، ودخل منهن بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة ومات عن تسع . وهذا عند العلماء من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأمة، لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع.
__________
(1) في جـ، أ: "عز وجل".
(2) في ر: "أخي".
(3) في أ: "تشتركه".
(4) في جـ، أ: "فنهوا عن أن".
(5) زيادة من ر.
(6) في جـ، ر، أ: "قلت: فنهوا".
(7) في ر: "باقي".
(8) صحيح البخاري برقم (4573 ، 4574).
(9) في جـ، أ: "إذا".
(10) زيادة من أ.
(11) في أ: "ولا ينبغي".
(12) في جـ، ر، أ: "من".
(13) في جـ، ر، أ: "رسول الله".
(14) في جـ، ر، أ: "علله".
ذكر الأحاديث في ذلك:
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا حدثنا معمر، عن الزهري. قال ابن جعفر في حديثه: أنبأنا ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه: أن غيلان بن سَلَمة الثقفي أسلم وتحته عشرة نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهن أربعا. فلما كان في عهد عمر طلق نساءه، وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك (1) ولعلك لا تمكث إلا قليلا. وايم الله لتراجعنَّ نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثُهن منك، ولآمرن بقبرك فيرجم، كما رجم قبرُ أبي رِغَال (2) .
وهكذا رواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وغيرهم عن إسماعيل بن عُلَيَّة وغُنْدَر ويزيد بن زُرَيع وسعيد بن أبي عَرُوبة، وسفيان الثوري، وعيسى بن يونس، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي، والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ، عن مَعْمَر -بإسناده -مثله إلى قوله: اختر (3) منهن أربعا. وباقي (4) الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد (5) وهي زيادة حسنة وهي مضعفة لما علل به البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي، حيث قال بعد روايته له: سمعتُ البخاري يقول: هذا حديث غير محفوظ، والصحيح ما روى شُعَيْب وغيره، عن الزهري، حُدّثتُ عن محمد بن سُوَيد الثقفي أنّ غيلان بن سلمة، فذكره. قال البخاري: وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه: أن رجلا من ثقيف طلق نساءه، فقال له عمر: لتراجعَنَّ نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغَال.
وهذا التعليل فيه نظر، والله أعلم. وقد رواه عبد الرزاق، عن مَعمر، عن الزهري مرسلا (6) وهكذا (7) رواه مالك، عن الزهري مرسلا. قال أبو زرعة: وهو أصح (8) .
قال البيهقي: ورواه عقيل، عن الزهري: بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد.
قال أبو حاتم: وهذا وَهْم، إنما هو الزهري عن عثمان بن أبي سويد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) في ر: "نيتك".
(2) قبر أبي رغال في الطائف، وقد روى ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف مر بقبر أبي رغال فقال: إن هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه، وقيل: إن أبا رغال كان دليل أبرهة في طريقه لهدم الكعبة.
قال الحافظ ابن كثير: والجمع بينهما أن أبا رغال المتأخر وافق اسمه اسم جده الأعلى ورجمه الناس كما رجموا قبر الأول أيضا. وقد قال جرير: إذا مات الفرزدق فارجموه ... كرجمكم بقبر أبي رغال
ثم قال: والظاهر أنه الثاني. البداية والنهاية (2/159).
(3) في جـ: "واختر".
(4) في أ: "ويأتي".
(5) المسند (2/14) والشافعي في الأم (5/49) وسنن الترمذي برقم (1128) وسنن ابن ماجة برقم (1953) وسنن الدارقطني (3/271) وسنن البيهقي الكبرى (7/182)، وقد توسع الحافظ ابن حجر في التلخيص (3/168) والشيخ ناصر الألباني (6/292) وحكم عليه بالصحة.
(6) المصنف لعبد الرزاق (12621).
(7) في أ: "وقد".
(8) رواه ابن أبي حاتم في العلل (1/400) حدثني أبو زرعة عن عبد العزيز الأويسي عن مالك عن الزهري به مرسلا.
فذكره (1) .
قال البيهقي: ورواه يونس وابن عُيَيْنَةَ، عن الزهري، عن محمد بن أبي سويد.
وهذا كما علله البخاري. وهذا الإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد رجاله ثقاتٌ على شرط الصحيحين (2) ثم قد رُوي من غير طريق مَعْمَر، بل والزهري قال (3) الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو علي (4) الحافظ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي، حدثنا أبو بُرَيد عَمْرو بن يزيد الجرمي (5) أخبرنا سيف بن عُبَيد (6) حدثنا سَرَّار بن مُجَشَّر، عن أيوب، عن نافع وسالم، عن ابن عمر: أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلَمْنَ معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا. هكذا أخرجه النسائي في سننه. قال أبو علي بن السكن: تفرد به سرار بنُ مُجَشر وهو ثقة، وكذا وثقه ابن معين. قال أبو علي: وكذلك رواه السَّمَيْدع بن واهب (7) عن سرار.
قال البيهقي: وروينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس، وعروة بن مسعود الثقفي، وصفوان بن أمية -يعني حديث غيلان بن سلمة (8) .
فوجهُ الدلالة أنَّه لو كان يجوز الجمعُ بين أكثر من أربع لسوغَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة (9) وقد أسلمن معه، فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمعُ بين أكثر من أربع بحال، وإذا كان هذا في الدوام، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
حديث آخر في ذلك: روى أبو داود وابن ماجة في سننهما (10) من طريق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن حُمَيضة (11) بن الشَّمَرْدَل -وعند ابن ماجة: بنت الشمردل، وحكى أبو داود أن منهم من يقول: الشمرذل بالذال المعجمة -عن قيس بن الحارث. وعند أبي داود في رواية: الحارث بن قيس بن (12) عميرة الأسدي قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اختر منهن أربعا".
وهذا الإسناد حسن، ومجرد هذا الاختلاف لا يضر مثلُه، لما للحديث من الشواهد (13) .
حديث آخر في ذلك: قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله، في
__________
(1) العلل لابن أبي حاتم (1/401).
(2) في جـ، ر، أ: "على شرط الشيخين".
(3) في جـ، ر، أ: "فقال".
(4) في أ: "أبو يعلى".
(5) في جـ، أ: "أبو يزيد عمرو بن يزيد الحربي"، وفي ر: "أبو يزيد عمر بن يزيد الجرمي".
(6) في جـ: "عبد الله".
(7) في جـ، ر، أ: "وهب".
(8) السنن الكبرى (7/183) وهذه الرواية دليل على أن معمر لم ينفرد بوصله، وهي شاهد جيد على وصل الحديث.
(9) في جـ: "العشر".
(10) في ر: "سننيهما".
(11) في أ: "حميصة".
(12) في جـ، ر، أ: "أن".
(13) سنن أبي داود برقم (2242 ، 2241) وسنن ابن ماجة برقم (1952) ورجح المزي أن اسمه "قيس بن الحارث".
مسنده: أخبرني من سمع ابن أبي الزِّناد يقول: أخبرني عبد المجيد بن سُهَيل بن (1) عبد الرحمن عن عوف بن الحارث، عن نوفل بن معاوية الديلي، رضي الله عنه، قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اختر (2) أربعا أيتهن شئت، وفارق الأخرى"، فَعَمَدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي منذ ستين سنة، فطلقتها (3) .
فهذه كلها شواهد بصحة ما تقدم من حديث غَيْلان كما قاله الحافظ أبو بكر البيهقي، رحمه الله (4) .
وقوله: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي: فإن خشيتم (5) من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن، كما قال تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [النساء: 129]فمن خاف من ذلك فيقتصر على واحدة، أو على الجواري السراري، فإنه لا يجب قسم (6) بينهن، ولكن يستحب، فمن فعل فحسن، ومن لا فلا حرج.
وقوله: { ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا } قال بعضهم: [أي] (7) أدنى ألا تكثر عائلتكم. قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي، رحمهم الله، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي (8) فقرًا { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [التوبة: 28] وقال الشاعر (9)
فما يَدري الفقير متى غناه ... ومَا يَدرِي الغَنيُّ متى يعيل ...
وتقول العرب: عال الرجل يعيل عَيْلة، إذا افتقر ولكن في هذا التفسير هاهنا نظر؛ فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر، كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا. والصحيح قول الجمهور: { ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا } أي: لا تجوروا. يقال: عال في الحكم: إذا قَسَط وظلم وجار، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
بميزان قسطٍ لا يَخيس (10) شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل (11)
وقال هُشَيم: عن أبي إسحاق قال: كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه: إني لست بميزان لا أعول. رواه ابن جرير.
وقد روى ابن أبي حاتم، وابن مَرْدويه، وأبو حاتم ابن حِبَّان في صحيحه، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيْم، حدثنا محمد بن شعيب، عن عمر بن محمد بن زيد، عن (12) عبد الله بن عمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم { ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا } قال: "لا تجوروا".
__________
(1) في أ: "عن".
(2) في جـ، ر، أ: "أمسك".
(3) مسند الشافعي برقم (1606) ومن طريق البيهقي في السنن الكبرى (7/184).
(4) في أ: "رحمة الله عليه".
(5) في أ: "خفتم".
(6) في ر: "القسم".
(7) زيادة من جـ.
(8) في جـ، ر: "أو".
(9) هو أحيحة بن الجلاح الأوسي، والبيت في تفسير الطبري (7/549) وفي اللسان مادة (عيل).
(10) في أ: "تخس".
(11) البيت في تفسير الطبري (7/550).
(12) في أ: "بن".