كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ
الْعِرَاقِيُّ
الْمُتَقَدِّمِ بِأَجْوِبَةٍ ( أَحَدُهَا ) قَالَ ابْنُ حَزْمٍ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ ، وَلَا هُوَ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْهُ فَإِنَّهُ أُعْلِمَ لَهُ عَلَى مَا سَمِعَهُ مِنْهُ ، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا أُعْلِمَ لَهُ عَلَيْهِ فَبَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ .
( ثَانِيهَا ) قَالَ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ إيجَابُ الْأَكْلِ زَائِدًا عَلَى هَذَا ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ لَا يَحِلُّ تَرْكُهَا ( قُلْت ) لَيْسَ هَذَا صَرِيحًا فِي إيجَابِ الْأَكْلِ فَإِنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تَرِدُ لِلِاسْتِحْبَابِ .
وَأَمَّا التَّخْيِيرُ الَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ فَالْأَخْذُ بِهِ ، وَتَأْوِيلُ الْأَمْرِ مُتَعَيَّنٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( ثَالِثُهَا ) قَالَ النَّوَوِيُّ مَنْ أَوْجَبَ تَأْوِيلَ تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَلَى مَنْ كَانَ صَائِمًا ( قُلْت ) وَأَشَارَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الرِّوَايَةِ الْكُبْرَى مِنْ الْأَحْكَامِ إلَى تَأْيِيدِ هَذَا التَّأْوِيلِ بِأَنَّ ابْنَ مَاجَهْ رَوَى حَدِيثَ جَابِرٍ هَذَا فِي الصَّوْمِ مِنْ نُسْخَتِهِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْهُ بِلَفْظِ { مَنْ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ ، وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُجِبْ فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ } .
وَالرِّوَايَاتُ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ رِوَايَةَ ابْنِ جُرَيْجٍ هَذِهِ ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهَا بَلْ قَالَ إنَّهَا مِثْلُ الْأُولَى ، وَقَدْ عَرَفْت زِيَادَةَ هَذِهِ الْفَائِدَةِ فِيهَا ، وَهَذَا الْجَوَابُ أَقْوَى هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْأَكْلِ فَيَحْصُلُ ذَلِكَ ، وَلَوْ بِلُقْمَةٍ ، وَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ لِأَنَّهُ يُسَمَّى أَكْلًا ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَنِثَ بِلُقْمَةٍ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَخَيَّلُ صَاحِبُ الطَّعَامِ أَنَّ امْتِنَاعَهُ بِشُبْهَةٍ يَعْتَقِدُهَا فِي الطَّعَامِ فَإِذَا أَكَلَ لُقْمَةً زَالَ ذَلِكَ التَّخَيُّلُ ، وَحَكَى الْمَازِرِيُّ ، وَجْهًا أَنَّ الْأَكْلَ فَرْضُ كِفَايَةٍ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى وُجُوبِ الْوَلِيمَةِ ، وَقَالَ لَوْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً لَمَا كَانَتْ الْإِجَابَةُ إلَيْهَا وَاجِبَةً وَرَدَّ بِأَنَّ ابْتِدَاءَ السَّلَامِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَرَدُّهُ وَاجِبٌ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ
كِتَابُ الطَّلَاقِ وَالتَّخْيِيرِ ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ { ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، وَهِيَ حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلِّقَ لَهَا النَّاسُ } زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ { تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَرَاجَعْتهَا ، وَحَسِبْت لَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي طَلَّقْتهَا } وَقَالَ الْبُخَارِيُّ { حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ } .
( بَابُ الطَّلَاقِ وَالتَّخْيِيرِ ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، وَهِيَ حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِلَفْظِ { أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، وَهِيَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً } فَعَزْوُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى هَذِهِ الرِّوَايَةَ لِمُسْلِمٍ وَحْدَهُ فَقَطْ فِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّهَا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ .
وَقَالَ مُسْلِمٌ جَوَّدَ اللَّيْثُ فِي قَوْلِهِ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ { وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إذَا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ لِأَحَدِهِمْ أَمَّا أَنْتَ طَلَّقْت امْرَأَتَك مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي بِهَذَا ، وَإِنْ كُنْت طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْك حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَك ، وَعَصَيْت اللَّهَ فِيمَا أَمَرَك مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِك } .
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ أَخَصْرُ مِنْهُ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَفِيهِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قُلْت لِنَافِعٍ مَا صَنَعَتْ التَّطْلِيقَةُ ؟ قَالَ وَاحِدَةً اُعْتُدَّ بِهَا ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، وَفِيهِ
كَلَامُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ { ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا } .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَفِيهِ { فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، وَفِيهِ { ، وَالطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ } .
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا ، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي لَفْظٍ { فَيُرَاجِعْهَا وَحَسِبْتُ لَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي طَلَّقْتُهَا } .
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ حُسِبَتْ عَلَيَّ بِتَطْلِيقَةٍ ، وَذَكَرَ الْمِزِّيُّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي الْبُخَارِيِّ مُعَلَّقَةٌ ، وَكَلَامُ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا مُسْنَدَةٌ ، وَهُوَ الْحَقُّ فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ فِيهَا .
وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ ثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ ثَنَا أَيُّوبُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَبُو مَعْمَرَ هَذَا مِنْ شُيُوخِهِ فَرِوَايَتُهُ عَنْهُ بِصِيغَةٍ قَالَ مُتَّصِلَةٌ لِثُبُوتِ لُقِيِّهِ لَهُ ، وَانْتِفَاءِ التَّدْلِيسِ فِي حَقِّهِ لَا سِيَّمَا فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ ثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ فَثَبَتَ بِذَلِكَ اتِّصَالُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ { سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ طَلَّقَ ابْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ ، وَهِيَ حَائِضٌ فَسَأَلَ عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَ مِنْ قُبُلِ عِدَّتِهَا قُلْت تَحْتَسِبُ ، قَالَ أَرَأَيْت إنْ
عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ } .
وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَفِيهِ { فَقَالَ لِيُرَاجِعْهَا قُلْت فَتُحْتَسَبُ قَالَ فَمُهُ } .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ ( قُلْت ) { فَاعْتَدَدْت بِتِلْكَ الَّتِي طَلَّقْت ، وَهِيَ حَائِضٌ قَالَ مَالِي لَا أَعْتَدُّ بِهَا ، وَإِنْ كُنْت عَجَزْت وَاسْتَحْمَقْت } ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَفِيهِ { فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرَاجِعْهَا فَرَدَّهَا ، وَقَالَ إذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } } .
لَفْظُ مُسْلِمٍ وَلَفْظُ النَّسَائِيّ فَرَدَّهَا عَلَيَّ ، لَفْظُ أَبِي دَاوُد فَرَدَّهَا عَلَيَّ ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا ، وَقَالَ إذَا طَهُرَتْ فَلْتُطَلِّقْ أَوْ لِتُمْسِكْ ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ ، وَمَنْصُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ ، وَمَعْنَاهُمْ كُلُّهُمْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ طَلَّقَ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ } .
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ ، وَنَافِعٍ عَنْ { ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ، ثُمَّ إنْ شَاءَ طَلَّقَ أَوْ أَمْسَكَ } .
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ رِوَايَةِ نَافِعٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَالْأَحَادِيثُ كُلُّهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ انْتَهَى .
وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى لَمْ أَذْكُرْهَا اخْتِصَارًا ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا حَدِيثٌ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ جِهَةِ
النَّقْلِ ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَيْضًا فِي أَلْفَاظِهِ عَنْ نَافِعٍ .
وَرَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ سَوَاءٌ ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ أَبِي الزُّبَيْرِ ، وَقَالَ قَوْلُهُ ، وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا مُنْكَرٌ ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ غَيْرُ أَبِي الزُّبَيْرِ ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ مِثْلُهُ فَكَيْفَ بِخِلَافِ مَنْ هُوَ أَثْبَتُ مِنْهُ ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ عِنْدِي ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَلَمْ يَرَهَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ أَيْ وَلَمْ يَرَهَا شَيْئًا مُسْتَقِيمًا لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنُ طَلَاقُهُ لَهَا عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ ، وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ قَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ لَمْ يَرْوِ أَبُو الزُّبَيْرِ حَدِيثًا أَنْكَرَ مِنْ هَذَا ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا تَامًّا تَحْرُمُ مَعَهُ الْمُرَاجَعَةُ ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ أَوْ لَمْ يَرَهُ شَيْئًا جَائِزًا فِي السُّنَّةِ مَاضِيًا فِي حُكْمِ الِاخْتِيَارِ ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْكَرَاهَةِ .
( الثَّانِيَةُ ) هَذِهِ الْمَرْأَةُ قِيلَ اسْمُهَا أُمَيَّةُ بِنْتُ عَقَّارٍ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي الْمُبْهَمَاتِ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ { فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ } أَيْ لِيَعْرِفَ الْحُكْمَ فِيمَا وَقَعَ ، وَفِيمَا يَسْتَقْبِلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَعْلَمَهُ حُكْمَ مَا وَقَعَ ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ بِتَغَيُّظِهِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا تَغَيَّظَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ سُؤَالُ عُمَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ( مِنْهَا ) أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا قَبْلَ هَذِهِ النَّازِلَةِ مِثْلَهَا فَأَرَادُوا السُّؤَالَ لِيَعْلَمُوا الْجَوَابَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَهُ بِالْقُرْآنِ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ
لِعِدَّتِهِنَّ } .
وَقَوْلُهُ { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقُرْءٍ فَافْتَقَرَ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِيهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّهْيَ ، وَالْأَوْسَطُ أَقْوَاهَا انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ : وَتَغَيُّظُهُ إمَّا لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَقْتَضِي الْمَنْعَ كَانَ ظَاهِرًا ، وَكَانَ مُقْتَضَى الْحَالِ التَّثَبُّتَ فِي الْأَمْرِ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْتَضِي الْأَمْرُ الْمُشَاوَرَةَ لِلرَّسُولِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إذَا عَزَمَ عَلَيْهِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَالنَّوَوِيُّ ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ تَعَبُّدٌ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى .
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ بَلْ مَعْنَاهُ تَضَرُّرُ الْمَرْأَةِ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَرَى الْعِدَّةَ بِالْأَطْهَارِ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَطْوِيلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ ثَلَاثَ حِيَضٍ كَامِلَةٍ فَالْمَعْنَى عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّلَاقِ الْحَظْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّكَاحِ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ ، وَالْمُعْتَبَرُ دَلِيلُهَا ، وَهُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الرَّغْبَةِ ، وَهُوَ الطُّهْرُ بِخِلَافِ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ زَمَنُ النَّفْرَةِ فَلَا يُبَاحُ فِيهِ الطَّلَاقُ ، وَاسْتَثْنَى أَصْحَابُنَا مِنْ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ صُوَرًا ( إحْدَاهَا ) أَنْ يُطَلِّقَهَا بِعِوَضٍ مِنْهَا فَلَوْ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ ، وَرَضِيَتْ بِهِ بِلَا عِوَضٍ أَوْ اخْتَلَعَهَا أَجْنَبِيٌّ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا خِلَافٌ ، وَالْأَصَحُّ تَحْرِيمُهُ فِيهِمَا ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إبَاحَةُ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ بِسُؤَالِ الْمَرْأَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِعِوَضٍ قَالَ الرَّافِعِيُّ فَلَوْ عُلِّقَ طَلَاقُهَا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهَا فَفَعَلَتْهُ مُخْتَارَةً يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ هُوَ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا
بِسُؤَالِهَا .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَحْرِيمُ الْخُلْعِ كَالطَّلَاقِ ( ثَانِيهَا ) إذَا طُولِبَ الْمُولِي بِالطَّلَاقِ فَطَلَّقَ فِي الْحَيْضِ قَالَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا لَيْسَ بِحَرَامٍ لِأَنَّهَا طَالَبَتْهُ رَاضِيَةً قَالَ الرَّافِعِيُّ ، وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِتَحْرِيمِهِ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا بِالْإِيذَاءِ إلَى الطَّلَبِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُلْتَجِئٍ لِلطَّلَاقِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْفَيْئَةِ ، وَلَوْ طَلَّقَ الْقَاضِي عَلَيْهِ إذَا قُلْنَا بِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ فِي الْحَيْضِ ، وَاخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَشْهَبُ لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ لِتَعَذُّرِ الْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ ، وَيُطَلِّقُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِإِمْكَانِ الْكَفَّارَةِ لَهُ فَيَسْقُطُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ .
( ثَالِثُهَا ) لَوْ رَأَى الْحَكَمَانِ فِي صُورَةِ الشِّقَاقِ الطَّلَاقَ فَطَلَّقَا فِي الْحَيْضِ فَفِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ لِلْحَاجَةِ إلَى قَطْعِ الشَّرِّ .
( رَابِعُهَا ) لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ آخِرِ حَيْضِك أَوْ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ آخِرِ حَيْضِك فَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ سُنِّيٌّ لِاسْتِعْقَابِهِ الشُّرُوعَ فِي الْعِدَّةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الطُّهْرِ فَإِنَّهُ بِدْعِيٌّ ، وَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ .
وَكَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ فَلَوْ نَجَّزَ الطَّلَاقَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ فَصَادَفَ حُدُوثَ الْحَيْضِ عَقِبَ طَلَاقِهِ أَوْ نَجَّزَهُ فِي الْحَيْضِ فَصَادَفَ حُدُوثَ الطُّهْرِ عَقِبَ طَلَاقِهِ لَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي الْأُولَى سُنِّيٌّ ، وَمَعَ ذَلِكَ تُسْتَحَبُّ الرَّجْعَةُ لِطُولِ الْعِدَّةِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِدْعِيٌّ لَكِنْ لَا تُسْتَحَبُّ الرَّجْعَةُ لِعَدَمِ التَّطْوِيلِ ، وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ لِلْبِدْعَةِ حُكْمَيْنِ الْإِثْمَ وَاسْتِحْبَابَ الرَّجْعَةِ فَثَبَتَ هُنَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ كَمَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ فِي الْحَيْضِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِيهِ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ ،
وَهُوَ اسْتِحْبَابُ الرَّجْعَةِ دُونَ الْإِثْمِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( خَامِسُهَا ) لَوْ كَانَتْ الْحَامِلُ تَرَى الدَّمَ ، وَقُلْنَا هُوَ حَيْضٌ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَطَلَّقَهَا فِيهِ لَمْ يُجْزَمْ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَكَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ إنَّهُ لَا بِدْعَةَ فِي طَلَاقِ الْحَامِلِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ طَاوُسٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَرَبِيعَةُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَآخَرُونَ .
( سَادِسُهَا ) غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا يَحْرُمُ طَلَاقُهَا فِي الْحَيْضِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إذْ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَنَفِيَّةُ لَا يُعَلِّلُونَ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ، وَقَالُوا فِي تَوْجِيهِهِ إنَّ الرَّغْبَةَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا صَادِقَةٌ لَا تَقِلُّ بِالْحَيْضِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ مِنْهَا وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا تَتَجَدَّدُ بِالطُّهْرِ ، وَقَالَ زُفَرُ يَحْرُمُ طَلَاقُ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي الْحَيْضِ كَالْمَدْخُولِ بِهَا ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يَحْفَظْ قَوْلَ زُفَرَ ثُمَّ حَكَى عَنْ أَشْهَبَ مِثْلَهُ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا حَائِضًا .
( سَابِعُهَا ) إذَا طَلَّقَهَا فِي حَيْضٍ طَلْقَةً ثَانِيَةً مَسْبُوقَةً بِأُولَى فِي طُهْرٍ أَوْ حَيْضٍ فَهَذِهِ الثَّانِيَةُ حَرَامٌ إنْ قُلْنَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ ، وَهُوَ الْجَدِيدُ الْأَظْهَرُ ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ لِعَدَمِ التَّطْوِيلِ فَاسْتِثْنَاءُ هَذِهِ عَلَى ضَعْفٍ ، وَاعْلَمْ أَنَّ النِّفَاسَ كَالْحَيْضِ فِي تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ فِيهِ إلَّا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ كَذَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ الْقِيَاسِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ ، وَقَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ أَيْضًا لِاعْتِقَادِهِ دُخُولَ النِّفَاسِ فِي مُسَمَّى الْحَيْضِ ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الرَّافِعِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْحَيْضِ مَا يَقْتَضِي عَدَمَ تَحْرِيمِ الطَّلَاقِ فِي النِّفَاسِ ، وَهُوَ ذُهُولٌ فَقَدْ قُرِّرَ
فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ خِلَافُهُ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَخَابِيلِ مِمَّنْ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِقَوْلِهِ إنَّ النُّفَسَاءَ لَا تَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ ( مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ ، وَهِيَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ أَمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ أَمْ لَا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَالَ لِعُمَرَ مُرْهُ } فَأَمَرَهُ بِأَمْرِهِ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي اقْتِضَاءِ ذَلِكَ الطَّلَبِ ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي أَنَّ لَوَازِمَ صِيغَةِ الْأَمْرِ هَلْ هِيَ لَوَازِمٌ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ بِالْأَمْرِ أَمْ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُمَا هَلْ يَسْتَوِيَانِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الطَّلَبِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَمْ لَا قُلْت الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِذَلِكَ ، وَلَا يُتَّجَهُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ آمِرًا لِابْنِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ لَهُ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي بِهَذَا ، وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا ، وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ، وَمِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْهُ لِيُرَاجِعْهَا ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْهُ { لِيُرَاجِعْهَا } ، وَفِي رِوَايَةِ طَاوُسٍ عَنْهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ { فَأَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا } فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَمْرُهُ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ أَمْرِ عُمَرَ ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا قُلْنَاهُ ، وَلَا يُتَّجَهُ هُنَا مَا قَالُوهُ فِي تَمَسُّكِ الْآمِرِ بِالْأَمْرِ بِأَنْ يَقُولَ لِزَيْدٍ مُرْ عُمْرًا أَنْ يَبِيعَ هَذِهِ السِّلْعَةَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ الثَّالِثُ قَبْلَ إذْنِ الثَّانِي لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
أَمْرًا فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ لَوْ حَضَرَ ، وَسَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَلَغَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَبِيهِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ ، وَلَمْ يَتَوَقَّفْ وُجُوبُ الْأَمْرِ بِهِ عَلَى أَمْرِ عُمَرَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا خَرَجَ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ } لِأَنَّ الصِّبْيَانَ لَيْسُوا مَحَلًّا لِلتَّكْلِيفِ فَلَا يَأْمُرُهُمْ الشَّارِعُ بِشَيْءٍ ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُهُمْ الْأَوْلِيَاءُ بِذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّمْرِينِ كَسَائِرِ مَا يُرَبُّونَهُمْ عَلَيْهِ " وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ الْأَمْرُ بِمُرَاجَعَةِ الْمُطَلَّقَةِ فِي الْحَيْضِ ، وَهُوَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ سَائِرِ الْكُوفِيِّينَ وَفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ ، وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَصْحَابُهُ هِيَ وَاجِبَةٌ يُجْبَرُ عَلَيْهَا مَا بَقِيَ مِنْ الْعِدَّةِ شَيْءٌ ، وَقَالَ أَشْهَبُ مَا لَمْ تَطْهُرْ مِنْ الثَّانِيَةِ فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ بِالْأَدَبِ فَإِنْ أَبَى ارْتَجَعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ ، وَطِئَهَا بِذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَمَا حَكَيْته أَوَّلًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ لَكِنْ حَكَاهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ثُمَّ قَالَ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ ، وَرَفْعًا لِلْمَعْصِيَةِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ بِرَفْعِ أَثَرِهِ ، وَهُوَ الْعِدَّةُ ، وَدَفْعًا لِضَرَرِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ انْتَهَى .
وَقَالَ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ يُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ إذَا طَلَّقَهَا حَائِضًا ، وَلَا يُجْبَرُ إذَا طَلَّقَهَا نُفَسَاءَ ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً فَلَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ فِيهِ إلَى أَنْ يَقُولَ تَرْكُ الْمُرَاجَعَةِ مَكْرُوهٌ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِالْكَرَاهَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْوَارِدِ فِيهَا ، وَلِدَفْعِ الْإِيذَاءِ ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ خِلَافًا فِي سَبَبِ الْأَمْرِ بِالرَّجْعَةِ قِيلَ عُقُوبَةً لَهُ ، وَقِيلَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهَا بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَلَوْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ ، وَقَالَ الزَّوْجُ فِي طُهْرٍ فَقَالَ سَحْنُونٌ الْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَيُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ .
( السَّادِسَةُ ) الْأَمْرُ بِالْمُرَاجَعَةِ صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ ، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَحَسِبْت لَهَا التَّطْلِيقَةَ الَّتِي
طَلَّقَهَا ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً ، وَقَالَ شَذَّ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ فَقَالَ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ طَلَاقَ الْأَجْنَبِيَّةِ انْتَهَى .
وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا مُخَالِفَ فِي ذَلِكَ إلَّا أَهْلَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالْجَهْلِ ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ بَعْضِ الرَّافِضِيِّينَ ، وَهُوَ شُذُوذٌ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ انْتَهَى .
وَحَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الشُّذُوذِ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ ، وَأَجَابَ عَنْ الْأَمْرِ بِالْمُرَاجَعَةِ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ اجْتَنَبَهَا فَأَمَرَهُ بِرَفْضِ فِرَاقِهَا ، وَأَنْ يُرَاجِعَهَا كَمَا كَانَتْ قَبْلُ ، وَحَاصِلُ كَلَامِهِ حَمْلُ الْمُرَاجَعَةِ عَلَى مَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ ، وَهُوَ الرَّدُّ إلَى حَالِهَا الْأَوَّلِ ، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَأَجَابَ عَنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ حُسِبَتْ عَلَيَّ تَطْلِيقَةً بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الَّذِي حَسِبَهَا تَطْلِيقَةً ، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ ، وَهُوَ مَرْدُودٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ حَسِبْتهَا فَنَسَبَ الْفِعْلَ إلَى نَفْسِهِ .
وَإِنَّمَا قَالَ حُسِبَتْ فَأَقَامَ الْمَفْعُولَ مَقَامَ الْفَاعِلِ ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فَهُوَ مُنْصَرِفٌ إلَى الْمُتَصَرِّفِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَهُوَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْلِهِ أُمِرْنَا بِكَذَا ، وَنُهِينَا عَنْ كَذَا ثُمَّ تَمَسَّكَ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ بِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، وَقَالَ هَذَا إسْنَادٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْجِيهَاتِ ، وَهُوَ عَجِيبٌ فَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ
أَبِي دَاوُد أَنَّهُ قَالَ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ .
وَعَنْ الْخَطَّابِيِّ أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَمْ يَرْوِ أَبُو الزُّبَيْرِ حَدِيثًا أَنْكَرَ مِنْ هَذَا فَكَيْفَ يَتَمَسَّكُ بِرِوَايَةٍ شَاذَّةٍ ، وَيَتْرُكُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي هِيَ مِثْلُ الشَّمْسِ فِي الْوُضُوحِ ، وَقَوْلُهُ إنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّوْجِيهَاتِ مَرْدُودٌ فَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ ، وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ تَأْوِيلُهَا بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهَا ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى ضَعْفِهَا ، وَتَأْوِيلِهَا فَقَالَ ، وَنَافِعٌ أَثْبَتُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ .
وَالْأَثْبَتُ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ أَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِهِ إذَا خَالَفَهُ ، وَقَدْ وَافَقَ نَافِعًا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الثَّبْتِ فِي الْحَدِيثِ حَكَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ ثُمَّ قَالَ وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } لَمْ يُخَصِّصْ طَلَاقًا دُونَ طَلَاقٍ قَالَ : وَلَمْ تَكُنْ الْمَعْصِيَةُ إنْ كَانَ عَالِمًا يُطْرَحُ عَنْهُ التَّحْرِيمُ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَزِيدُ الزَّوْجَ خَيْرًا إنْ لَمْ يُرِدْ شَرًّا ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ ، وَحَمَلَ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْسِبْهُ شَيْئًا صَوَابًا غَيْرَ خَطَأٍ يُؤْمَرُ صَاحِبُهُ أَلَّا يُقِيمَ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْمُرَاجَعَةِ ، وَلَا يُؤْمَرُ بِهَا الَّذِي طَلَّقَهَا طَاهِرَةً كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ أَخْطَأَ فِي فِعْلِهِ ، وَأَخْطَأَ فِي جَوَابٍ أَجَابَهُ ، لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا يَعْنِي لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا صَوَابًا انْتَهَى ثُمَّ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَرَدَّهُ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ مَوْجُودٌ ثُمَّ أَخَذَ يَسْتَدِلُّ عَلَى وُجُودِ الْخِلَافِ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ إنَّهُ يَحْرُمُ طَلَاقُهَا حَائِضًا ، وَقَالَ مُحَالٌ أَنْ يُجِيزَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا يُخْبِرُ
بِأَنَّهُ حَرَامٌ ، وَهَذَا عَجِيبٌ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَافَّةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ هُوَ حَرَامٌ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ نَافِذٌ .
وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ يُحَرِّمُهُ وَيُوقِعُهُ ثُمَّ حَكَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ مَنْ طَلَّقَ كَمَا أَمَرَهُ تَعَالَى فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ ، وَمَنْ خَالَفَ فَإِنَّا لَا نُطِيقُ خِلَافَهُ ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لَا يُفْهَمُ مِنْهَا شَيْءٌ مِمَّا قَالَهُ ثُمَّ حَكَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ، وَهِيَ حَائِضٌ لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ ثُمَّ حَكَى عَنْ طَاوُوسٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى طَلَاقًا مَا خَالَفَ وَجْهَ الطَّلَاقِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ ، وَإِذَا اسْتَبَانَ حَمْلُهَا ، وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّأْوِيلِ بِأَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَرَاهُ طَلَاقًا مُبَاحًا ثُمَّ حَكَى عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ، وَهِيَ حَائِضٌ فَقَالَ لَا يُعْتَبَرُ بِهَا ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ ، وَالْعَجَبُ مِنْ جَرَاءَةِ مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ هَذَا ، وَهُوَ لَا يَجِدُ فِيمَا يُوَافِقُ قَوْلَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ غَيْرَ رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَدْ أَعَاضَهَا مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهَا عَنْهُ وَرِوَايَتَيْنِ سَاقِطَتَيْنِ عَنْ عُثْمَانَ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ .
قَالَ بَلْ نَحْنُ أَسْعَدُ بِدَعْوَى الْإِجْمَاعِ هُنَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ بِمَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ إذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ، وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ لَمْ يُعْتَدَّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ فِي الْعِدَّةِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مَنْصُوصًا أَنَّهُ قَالَ يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ ، وَلَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ } يَقْتَضِي مَنْعَ تَطْلِيقِهَا فِي الطُّهْرِ التَّالِي لِتِلْكَ الْحَيْضَةِ ، وَفِي ذَلِكَ لِلشَّافِعِيَّةِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَهُمْ الْمَنْعُ ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُتَوَلِّي قَالَ الرَّافِعِيُّ ، وَكَأَنَّ الْوَجْهَيْنِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَتَأَدَّى بِهِ الِاسْتِحْبَابُ بِتَمَامِهِ فَأَمَّا أَصْلُ الْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْصُلَ بِلَا خِلَافٍ لِانْدِفَاعِ ضَرَرِ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ، وَمَا بَحَثَهُ الرَّافِعِيُّ قَدْ صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ قَالَ الْإِمَامُ قَالَ الْجُمْهُورُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا فِيهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَ فِي هَذَا الطُّهْرِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فَجَعَلَ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ ، وَمَالَ النَّوَوِيُّ إلَى الْأَوَّلِ ، وَقَالَ إنَّ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ شَاذٌّ أَوْ مُؤَوَّلٌ فَلَا يُغْتَرُّ بِظَاهِرِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الطَّلَاقِ عَنْ ذَلِكَ الطُّهْرِ التَّالِي لِتِلْكَ الْحَيْضَةِ اسْتِحْبَابٌ ، وَكَلَامُ الْحَنَابِلَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ فِي الْجَوَازِ ، وَعِبَارَةُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ ، وَلَا يُطَلِّقُهَا فِي الطُّهْرِ الْمُتَعَقِّبِ لَهُ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ ، وَعَنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَةَ ، وَحَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يُطَلِّقُهَا فِيهِ بَلْ يُؤَخِّرُ إلَى الطُّهْرِ الَّذِي يَلِيه ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ { مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ } ، وَهَكَذَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَأَبُو وَائِلٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ
طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا رَوَى هَذِهِ الزِّيَادَةَ نَافِعٌ ، وَقَدْ رُوِيَتْ أَيْضًا عَنْ سَالِمٍ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ .
( الثَّامِنَةُ ) الَّذِي فِي الْحَدِيثِ الْأَمْرُ بِإِمْسَاكِهَا فِي الطُّهْرِ التَّالِي لِتِلْكَ الْحَيْضَةِ ، وَلَيْسَ فِيهِ الْأَمْرُ بِوَطْئِهَا ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُسْتَحَبُّ لَهُ جِمَاعُهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ لِيَظْهَرَ مَقْصُودُ الرَّجْعَةِ ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ نَافِعٍ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ { ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، وَهِيَ فِي دَمِهَا حَائِضٌ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِذَا طَهُرَتْ مَسَّهَا حَتَّى إذَا طَهُرَتْ أُخْرَى فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا } ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ اسْتِحْبَابِهِ اكْتِفَاءً بِإِمْكَانِ الِاسْتِمْتَاعِ .
( التَّاسِعَةُ ) ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحِكْمَةِ فِي تَأْخِيرِ الطَّلَاقِ إلَى طُهْرٍ بَعْدَ طُهْرٍ أَيْ الَّذِي يَلِي ذَلِكَ الْحَيْضِ أُمُورًا : ( أَحَدُهَا ) لِئَلَّا تَصِيرَ الرَّجْعَةُ لِغَرَضِ الطَّلَاقِ فَوَجَبَ أَنْ يُمْسِكَهَا زَمَانًا كَانَ يَحِلُّ لَهُ فِيهِ طَلَاقُهَا ، وَإِنَّمَا أَمْسَكَهَا لِتَظْهَرَ فَائِدَةُ الرَّجْعَةِ ، وَهَذَا جَوَابُ أَصْحَابِنَا ، وَ ( الثَّانِي ) أَنَّهُ عُقُوبَةٌ لَهُ وَتَوْبَةٌ مِنْ مَعْصِيَتِهِ بِاسْتِدْرَاكِ جِنَايَتِهِ ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ مُعَامَلَةٌ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ فَإِنَّهُ عَجَّلَ مَا حَقُّهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ قَبْلَ وَقْتِهِ فَمُنِعَ مِنْهُ فِي وَقْتِهِ ، وَصَارَ كَمُسْتَعْجِلِ الْإِرْثِ يَقْتُلُ مُورِثَهُ ( وَالثَّالِثُ ) أَنَّ الطُّهْرَ الْأَوَّلَ مَعَ الْحَيْضِ الَّذِي يَلِيهِ ، وَهُوَ الَّذِي طَلَّقَ فِيهِ كَقُرْءٍ وَاحِدٍ فَلَوْ طَلَّقَهَا فِي أَوَّلِ طُهْرٍ لَكَانَ كَمَنْ طَلَّقَ فِي الْحَيْضِ ، وَ ( الرَّابِعُ ) أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ طَلَاقِهَا فِي الطُّهْرِ لِيَطُولَ مَقَامُهُ مَعَهَا فَلَعَلَّهُ يُجَامِعُهَا فَيَذْهَبُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ سَبَبِ طَلَاقِهَا
فَيُمْسِكَهَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَهَذَا أَشْبَهُهَا ، وَأَحْسَنُهَا .
( الْعَاشِرَةُ ) قَوْلُهُ { وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ } أَيْ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا فِيهِ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ ، وَفِيهِ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ لَكِنْ لَمْ تَقُلْ الْمَالِكِيَّةُ هُنَا بِإِجْبَارِهِ عَلَى الرَّجْعَةِ كَمَا قَالُوهُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ ، وَشَذَّ بَعْضُهُمْ فَقَالَ يُجْبَرُ كَالْمَحِيضِ ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجْهًا أَنَّهُ لَا تُسْتَحَبُّ الرَّجْعَةُ هُنَا أَوْ لَا يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُهَا تَأَكُّدَهُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ ، وَعَلَّلَ أَصْحَابُنَا تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ بِأَنَّهُ قَدْ يَتَبَيَّنُ حَمْلُهَا فَيَنْدَمُ ، وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ إذَا جَامَعَهَا فَتَرَتْ رَغْبَتُهُ عَنْهَا فَلَا يَتَحَقَّقُ حَاجَتُهُ إلَى الطَّلَاقِ ، وَرَأَى الظَّاهِرِيَّةُ ، وَمِنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ طَلَاقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ نَافِذٌ كَمَا قَالُوهُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا فِي الْحَيْضِ فَطَهُرَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ حَرُمَ لِاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) مَحَلُّ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ حَمْلُهَا فَإِنْ ظَهَرَ حَمْلُهَا لَمْ يَحْرُمْ طَلَاقُهَا ، وَيَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا { ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا } ، وَبِهَذَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ ، وَعَلَّلَهُ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ ظُهُورِ الْحَمْلِ فَقَدْ أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَا يَنْدَمُ ، وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ زَمَنَ الْحَمْلِ زَمَنُ الرَّغْبَةِ فِي الْوَطْءِ ، وَفِيهَا لِمَكَانِ وَلَدِهِ مِنْهَا فَإِقْدَامُهُ عَلَى الطَّلَاقِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى
احْتِيَاجِهِ لِذَلِكَ ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ كَوْنِهِ لَا يُحَرِّمُ طَلَاقَ الْحَامِلِ بِمَا إذَا كَانَ مِنْهُ لِيُحْتَرَزَ بِهِ عَمَّا إذَا كَانَ الْحَمْلُ مِنْ غَيْرِهِ بِأَنْ نَكَحَ حَامِلًا مِنْ الزِّنَا وَوَطِئَهَا وَطَلَّقَهَا أَوْ وُطِئَتْ مَنْكُوحَةٌ بِشُبْهَةٍ ، وَحَمَلَتْ مِنْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ، وَهِيَ طَاهِرٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِدْعِيًّا لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَقَعُ بَعْدَ قَطْعِ الْحَمْلِ ، وَالنَّقَاءِ مِنْ النِّفَاسِ فَلَا تَشْرَعُ عَقِبَ الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) فِي قَوْلِهِ { ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا إثْمَ فِي الطَّلَاقِ بِغَيْرِ سَبَبٍ ، وَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ } ، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يَحْرُمُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْكَرَاهَةُ ثُمَّ قَدْ يَجِبُ أَوْ يَحْرُمُ لِعَارِضٍ ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا ، وَحَمَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الطَّلَاقِ بِلَا سَبَبٍ مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ ، وَأَمَّا التَّحْرِيمُ فَقَدْ عَرَفْت لَهُ صُورَتَيْنِ ، وَلَهُ صُورَةٌ ثَالِثَةٌ ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ زَوْجَتَانِ فَأَكْثَرُ فَيَقْسِمُ ، وَيُطَلِّقُ وَاحِدَةً قَبْلَ الْمَبِيتِ عِنْدَهَا .
وَأَمَّا الْوُجُوبُ فَفِي صُورَتَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) فِي الْحَكَمَيْنِ إذَا بَعَثَهُمَا الْقَاضِي عِنْدَ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَرَأَيَا الْمَصْلَحَةَ فِي الطَّلَاقِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الطَّلَاقُ ، وَ ( الثَّانِيَةُ ) الْمُولِي إذَا مَضَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، وَطَالَبَتْ الْمَرْأَةُ بِحَقِّهَا فَامْتَنَعَ مِنْ الْفَيْئَةِ أَوْ الطَّلَاقِ فَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ قَالُوا ، وَيَكُونُ الطَّلَاقُ مَنْدُوبًا ، وَهُوَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ عَفِيفَةٍ أَوْ خَافَا أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ، وَظَهَرَ بِذَلِكَ انْقِسَامُ الطَّلَاقِ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ حَرَامٍ ، وَمَكْرُوهٍ ، وَوَاجِبٍ ، وَمَنْدُوبٍ ، وَكَذَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَقَالَ ، وَلَا يَكُونُ مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ ، وَحَكَى ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْكِفَايَةِ عَنْ الْجِيلِيِّ أَنَّهُ يَكُونُ مُبَاحًا قَالَ وَلَمْ يُصَوِّرْهُ ، وَلَعَلَّهُ فِيمَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ لَا يَهْوَاهَا ، وَلَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِالْتِزَامِ مُؤَنِهَا مِنْ غَيْرِ حُصُولِ غَرَضِ الِاسْتِمْتَاعِ فَإِنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي الطَّلَاقِ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ صَرَّحَ بِذَلِكَ
الْإِمَامُ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ يُبَاحُ الطَّلَاقُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا بِدْعَةَ فِي جَمْعِ الطَّلْقَاتِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُقَيِّدْ الطَّلَاقَ الَّذِي جَعَلَهُ إلَى خِيرَتِهِ بِعَدَدٍ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ حَزْمٍ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لَوْ كَانَ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ مُبَاحٌ وَمَحْظُورٌ عَلَّمَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ إيَّاهُ لِأَنَّ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ طَاهِرًا كَانَ مَا يَكْرَهُ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ ، وَيُحِبُّ لَوْ كَانَ فِيهِ مَكْرُوهٌ أَشْبَهَ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ا هـ .
وَعَكَسَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ قَالَ لِأَنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ أَنْ لَا يُطَلِّقَ فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَلِي الْحَيْضَ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ الْأُولَى حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ فَتَخْرُجَ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إيقَاعُ طَلْقَتَيْنِ فِي فَرْدٍ وَاحِدٍ قَالَ ، وَتَأَوَّلَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ الْخَبَرَ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ طَلَاقِهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ لِئَلَّا تَطُولَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِأَنَّ الْمُرَاجَعَةَ لَمْ تَكُنْ يَنْفَعُهَا حِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجَامِعَهَا فِي الطُّهْرِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْمُرَاجَعَةِ ، وَإِذَا جَامَعَهَا لَمْ يَكُنْ أَنْ يُطَلِّقَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ السُّنِّيَّ هُوَ الَّذِي يَقَعُ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ انْتَهَى .
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ جَمْعَ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ بِدْعَةٌ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ ، وَبِهِ قَالَ دَاوُد ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الظَّاهِرِ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ } أَيْ فِيهَا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِطَلَاقِهِنَّ فِي الْحَيْضِ بَلْ حَرَّمَهُ ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ هِيَ الْحَيْضُ ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ تَعُودُ إلَى الْحَيْضَةِ ، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ بَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ ، وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ إلَى الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَهِيَ حَالَةُ الطُّهْرِ أَوْ إلَى الْعِدَّةِ .
وَقَالَ الذَّاهِبُونَ إلَى أَنَّهَا الْحَيْضُ مَنْ قَالَ بِالْأَطْهَارِ ، وَجَعَلَهَا قُرْأَيْنِ ، وَبَعْضَ الثَّالِثِ ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ ، وَنَحْنُ نَشْتَرِطُ ثَلَاثَ حِيَضٍ كَوَامِلَ فَهِيَ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْقُرْآنِ ، وَلِهَذَا صَارَ الزُّهْرِيُّ مَعَ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ إلَى أَنَّهُ لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ إلَّا بِثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَامِلَةٍ ، وَلَا تَنْقَضِي بِطُهْرَيْنِ ، وَبَعْضِ الثَّالِثِ ، وَهَذَا مَذْهَبٌ انْفَرَدَ بِهِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ لَوْ طَلَّقَهَا ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الطُّهْرِ لَحْظَةٌ يَسِيرَةٌ حَسِبَتْ قُرْءًا ، وَيَكْفِيهَا طُهْرَانِ ، وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ الشَّيْئَيْنِ وَبَعْضَ الثَّالِثِ يُطْلَقُ عَلَيْهَا اسْمُ الْجَمْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } ، وَمُدَّتُهُ شَهْرَانِ وَبَعْضُ الثَّالِثِ ، وَقَالَ تَعَالَى { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } ، وَالْمُرَادُ يَوْمٌ وَبَعْضُ الثَّانِي .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي قَوْلِهِ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى رِضَى الْمَرْأَةِ ، وَلَا وَلِيِّهَا ، وَلَا تَجْدِيدِ عَقْدٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ ، وَهِيَ حَائِضٌ إذَا طَهُرْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُطَلِّقٍ لِلسُّنَّةِ ، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَالَ فَالْمُطَلِّقُ لِلسُّنَّةِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُخَيَّرًا وَقْتَ طَلَاقِهِ بَيْنَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ ، وَتَرْكِهِ
وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَبَتَّ طَلَاقُهَا فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَجَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَإِنَّهُ وَاَللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لَعَلَّك تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ ، لَا ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك ، قَالَتْ ، وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ جَالِسٌ بِبَابِ الْحُجْرَةِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَطَفِقَ خَالِدٌ يُنَادِي أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَزْجُرُ هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ } .
( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَبَتَّ طَلَاقَهَا فَتَزَوَّجَهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَجَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَإِنَّهُ وَاَللَّهِ مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك ، قَالَتْ ، وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ جَالِسٌ بِبَابِ الْحُجْرَةِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَطَفِقَ خَالِدٌ يُنَادِي أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَزْجُرُ هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَعْمَرٍ ، وَأَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا أَبَا دَاوُد مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى خَمْسَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) رِفَاعَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْقُرَظِيّ بِضَمِّ الْقَافِ ، وَبِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَهُوَ ابْنُ سَمَوْأَلٍ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ ، وَقِيلَ ابْنُ رِفَاعَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْله تَعَالَى { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ } الْآيَةَ كَمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ
، وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ رِفَاعَةَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، وَامْرَأَتُهُ هَذِهِ اسْمُهَا تَمِيمَةُ بِنْتُ وَهْبٍ كَمَا .
رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَوَّجَهَا فَنَكَحَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَاعْتَرَضَ عَنْهَا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّهَا فَطَلَّقَهَا ، وَلَمْ يَمَسَّهَا فَأَرَادَ رِفَاعَةُ أَنْ يَنْكِحَهَا ، وَهُوَ زَوْجُهَا الَّذِي كَانَ طَلَّقَهَا قَبْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَاهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا ، وَقَالَ لَا تَحِلُّ لَك حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ } .
هَكَذَا أَسْنَدَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي رِوَايَتِهِ ، وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ ، وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، وَأَكْثَرُ رُوَاةِ الْمُوَطَّإِ عَنْ مَالِكٍ مُرْسَلًا لَمْ يَقُولُوا عَنْ أَبِيهِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَابْنُ وَهْبٍ مِنْ أَجَلِّ مَنْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ هَذَا الشَّأْنَ ، وَأَثْبَتِهِمْ فِيهِ قَالَ فَالْحَدِيثُ مُسْنَدٌ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ ، وَتَابَعَ ابْنُ وَهْبٍ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ مُتَّصِلًا إبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي مُسْنَدِ مَالِكٍ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْحَنَفِيُّ قَالَ ، وَذَكَرَهُ أَيْضًا سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ ، وَابْنِ الْقَاسِمِ ، وَعَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ كُلِّهِمْ عَنْ مَالِكٍ ، وَفِيهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ ، وَكَذَا رَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ مُتَّصِلًا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الْقَعْنَبِيِّ انْتَهَى .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ أَنَّهَا تَمِيمَةُ بِنْتُ وَهْبٍ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ بَشْكُوَالَ فِي مُبْهَمَاتِهِ ، وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ فِي
مُبْهَمَاتِهِ هِيَ أُمَيْمَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقِيلَ تَمِيمَةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ الْقُرَظِيَّةُ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ تَمِيمَةُ بِنْتُ وَهْبٍ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِفَتْحِ الزَّايِ ، وَكَسْرِ الْبَاءِ بِلَا خِلَافٍ صَحَابِيٌّ مَعْرُوفٌ ، وَالزُّبَيْرُ هُوَ ابْنُ بَاطَا ، وَقِيلَ بَاطَيَا قُرَظِيٌّ قُتِلَ عَلَى يَهُودِيَّتَه فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ .
وَذَكَرَ ابْنُ مَنْدَهْ ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابَيْهِمَا ( مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ ) أَنَّهُ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ الْأَوْسِ ، وَأَنَّهُ الزُّبَيْرُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ ، وَلَيْسَ يُجِيدُ .
وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْأَوَّلَ عَنْ الْمُحَقِّقِينَ ، وَقَالَ إنَّهُ الصَّوَابُ ، وَأَمَّا ابْنُهُ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقِيلَ هُوَ كَجَدِّهِ بِالْفَتْحِ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَحَكَاهُ عَنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى ، وَابْنِ وَهْبٍ ، وَابْنِ الْقَاسِمِ ، وَالْقَعْنَبِيِّ وَغَيْرِهِمْ ، وَحُكِيَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْر ، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُ الْبُخَارِيِّ ، وَالدَّارَقُطْنِيّ ، وَابْنِ مَا كُولَا أَنَّهُ بِالضَّمِّ كَالْجَدِّ ، وَصَحَّحَهُ الذَّهَبِيُّ ( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ فَبَتَّ طَلَاقَهَا هُوَ بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ أَيْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، وَأَصْلُ الْبَتِّ الْقَطْعُ ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْجُمْهُورُ ، وَفِي رِوَايَةِ لِلنَّسَائِيِّ ( فَأَبَتَّ ) رُبَاعِيٌّ ، وَهِيَ لُغَةٌ ضَعِيفَةٌ حَكَاهَا الْجَوْهَرِيُّ عَنْ الْفَرَّاءِ ، وَحَكَى عَنْ الْأَصْمَعِيِّ إنْكَارَهَا يُقَالُ بَتَّ يَبُتُّ بِالضَّمِّ فِي الْمُضَارِعِ ، وَحَكَى فِيهِ الْكَسْرَ أَيْضًا قَالَ فِي الصِّحَاحِ ، وَهُوَ شَاذٌّ لِأَنَّ بَابَ الْمُضَاعَفِ إذَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْهُ مَكْسُورًا لَا يَجِيءُ مُتَعَدِّيًا إلَّا أَحْرُفٌ مَعْدُودَةٌ ، وَهِيَ بَتَّهُ يَبُتُّهُ وَيَبِتُّهُ ، وَعَلَّهُ فِي الشُّرْبِ
يَعُلُّهُ وَيَعِلُّهُ ، وَتَمَّ الْحَدِيثُ يَتُمُّهُ وَيُتِمُّهُ ، وَشَدَّهُ يَشُدُّهُ وَيَشِدُّهُ ، وَحَبَّهُ يُحِبُّهُ قَالَ وَهَذِهِ وَحْدَهَا عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْ ، وَهِيَ الْكَسْرُ قَالَ : وَإِنَّمَا سَهَّلَ تَعَدِّيَ هَذِهِ الْأَحْرُفِ إلَى الْمَفْعُولِ اشْتِرَاكُ الضَّمِّ وَالْكَسْرِ فِيهِنَّ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ تَطْلِيقُهُ إيَّاهَا بِالْبَتَاتِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ بِأَنْ يَكُونَ بِإِرْسَالِ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِإِيقَاعِ آخِرِ طَلْقَةٍ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِإِحْدَى الْكِنَايَاتِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَى الْبَيْنُونَةِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ عُمُومٌ ، وَلَا إشْعَارٌ بِأَحَدِ هَذِهِ الْمَعَانِي ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ ، وَمَنْ احْتَجَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ بِالْحَدِيثِ فَلَمْ يُصِبْ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى مُطْلَقِ الْبَتِّ ، وَالدَّالُّ عَلَى الْمُطْلَقِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ قَيْدَيْهِ بِعَيْنِهِ قُلْت اعْتَبَرَ الشَّيْخُ لَفْظَ الرِّوَايَةِ الَّتِي شَرَحَهَا ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي هُنَا صَرِيحَةٌ فِي الِاحْتِمَالِ الثَّانِي فَإِنَّ لَفْظَهَا فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْهَا لَهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَاعْتَبَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَفْظَ الرِّوَايَةِ الَّتِي سُقْنَاهَا مِنْ الْمُوَطَّإِ فَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ جَمْعِ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ ثُمَّ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ طَلَاقُهُ ذَلِكَ آخِرَ ثَلَاثِ طَلْقَاتٍ ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِبَيَانٍ انْتَهَى .
وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ هُوَ صَرِيحُ لَفْظِ الرِّوَايَةِ الَّتِي نَحْنُ فِي شَرْحِهَا ، وَاعْتَبَرَ الْقُرْطُبِيُّ لَفْظَةَ فَبَتَّ طَلَاقَهَا ، وَقَالَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ فَيَكُونُ حُجَّةً لِمَالِكٍ عَلَى أَنَّ أَلْبَتَّةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الثَّلَاثِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا ثُمَّ قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ آخِرَ
الثَّلَاثِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ، وَجَازَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِالْبَتَاتِ لِأَنَّ الثَّلَاثَ قَطَعَتْ جَمِيعَ الْعَلَقِ انْتَهَى .
وَكُلُّ ذَلِكَ ذُهُولٌ عَنْ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ : فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { فَقَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رِفَاعَةَ } إلَى آخِرِهِ لَيْسَ فِيهِ حِكَايَةُ لَفْظِهَا ، وَلَوْ حَكَاهُ كَمَا هُوَ لَقَالَ إنِّي كُنْت إلَى آخِرِهِ ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ سَائِغٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تَقُولُ قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ مَا أَكْرَمَهُ ، وَقُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ مَا أَكْرَمَك .
( السَّادِسَةُ ) ( الْهُدْبَةُ ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ بَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ هِيَ طَرَفُ الثَّوْبِ الَّذِي لَمْ يُنْسَجْ ، وَهُوَ مَا يَبْقَى بَعْدَ قَطْعِ الثَّوْبِ مِنْ السَّدَاءِ شُبِّهَ بِهُدْبِ الْعَيْنِ ، وَهُوَ شَعْرُ جَفْنِهَا ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَشْبِيهُ الذَّكَرِ بِالْهُدْبَةِ لِصِغَرِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِاسْتِرْخَائِهِ ، وَعَدَمِ انْتِشَارِهِ .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ التَّبَسُّمَ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ جَهْرِهَا وَتَصْرِيحِهَا بِهَذَا الَّذِي تَسْتَحِي النِّسَاءُ مِنْهُ فِي الْعَادَةِ أَوْ لِرَغْبَتِهَا فِي زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ، وَكَرَاهَةِ الثَّانِي قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَفِيهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا إذَا صَدَرَ مِنْ مُدَّعِيَتِهِ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهَا ، وَلَا تُوَبَّخُ بِسَبَبِهِ فَإِنَّهُ فِي مَعْرِضِ الْمُطَالَبَةِ بِالْحُقُوقِ ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يُنْكِرْ ، وَإِنْ كَانَ خَالِدٌ قَدْ حَرَّكَهُ الْإِنْكَارُ وَحَضَّهُ عَلَيْهِ انْتَهَى .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ { لَعَلَّكِ تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ } هَكَذَا رُوِّينَاهُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ فَهِمَ عَنْهَا إرَادَةَ فِرَاقِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَإِرَادَةَ أَنْ يَكُونَ فِرَاقُهُ سَبَبًا لِلرُّجُوعِ إلَى رِفَاعَةَ ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهَا إنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَتْ .
( التَّاسِعَةُ ) قَوْلُهُ { لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك } هُوَ بِضَمِّ الْعَيْنِ ، وَفَتْحِ السِّينِ تَصْغِيرُ عَسَلَةٍ ، وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ شَبَّهَ لَذَّتَهُ بِلَذَّةِ الْعَسَلِ وَحَلَاوَتِهِ قَالُوا وَأَنَّثَ الْعُسَيْلَةُ لِأَنَّ فِي الْعَسَلِ لُغَتَيْنِ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ ، وَقِيلَ أَنَّثَهَا عَلَى إرَادَةِ اللَّذَّةِ ، وَقِيلَ أَنَّثَهَا عَلَى إرَادَةِ النُّطْفَةِ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ لَا يُشْتَرَطُ ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ صُغِّرَتْ الْعَسَلَةُ بِالْهَاءِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْعَسَلِ التَّأْنِيثُ قَالَ ، وَيُقَالُ إنَّمَا أَنَّثَ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْعَسَلَةُ ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ لِلْقِطْعَةِ مِنْ الذَّهَبِ ذَهَبَةٌ ا هـ .
وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَنَّ الْعُسَيْلَةَ الْجِمَاعُ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ لِعُمَرَ أَيْ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدَيْهِمَا ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْإِنْزَالُ .
( الْعَاشِرَةُ ) فِيهِ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لِمُطَلِّقِهَا حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَيَطَأَهَا ثُمَّ يُفَارِقَهَا وَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الثَّانِي عَلَيْهَا ، وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ إذَا عَقَدَ الثَّانِي عَلَيْهَا ثُمَّ فَارَقَهَا حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ وَطْءُ الثَّانِي لِقَوْلِهِ ( حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) وَالنِّكَاحُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَمُبَيِّنٌ لِلْمُرَادِ بِهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ ، وَلَعَلَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا
الْحَدِيثُ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِقَوْلِ سَعِيدٍ فِي هَذَا إلَّا طَائِفَةٌ مِنْ الْخَوَارِجِ ، وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ تَغْيِيبَ الْحَشَفَةِ فِي قُبُلِهَا كَافٍ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إنْزَالِ الْمَنِيِّ ، وَشَذَّ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَشَرَطَ فِي التَّحْلِيلِ إنْزَالَ الْمَنِيِّ ، وَجَعَلَهُ حَقِيقَةَ الْعُسَيْلَةِ .
وَقَالَ الْجُمْهُورُ الْإِيلَاجُ مَظِنَّةُ اللَّذَّةِ وَالْعُسَيْلَةِ فَنِيطَ الْحُكْمُ بِهِ وَلَوْ وَطِئَهَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ عَلَى الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ ، وَرُوِيَ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّهُ يَحِلُّهَا .
وَحُكِيَ قَوْلًا عَنْ الشَّافِعِيِّ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَهُ فِي وَطْءِ الشُّبْهَةِ قَالَ أَصْحَابُنَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَوِيَّ الِانْتِشَارِ أَوْ ضَعِيفَهُ فَاسْتَعَانَ بِأُصْبُعِهِ أَوْ أُصْبُعِهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ انْتِشَارٌ أَصْلًا لِتَعْنِينٍ أَوْ شَلَلٍ أَوْ غَيْرِهِمَا لَمْ يَحْصُلْ التَّحْلِيلُ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا فِي كُتُبِهِمْ لِعَدَمِ ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ ، وَحَصَّلَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَالْغَزَالِيُّ لِحُصُولِ الْوَطْءِ وَأَحْكَامِهِ ، وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَيْضًا الِانْتِشَارَ ، وَاكْتَفَى الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِالْوَطْءِ ، وَلَوْ مَعَ الْجُنُونِ أَوْ الْإِغْمَاءِ أَوْ النَّوْمِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِيهِ أَوْ فِيهَا ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ ، .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ اشْتِرَاطُ عِلْمِ الزَّوْجَةِ خَاصَّةً بِالْوَطْءِ ، وَقَالَ أَشْهَبُ الْمُعْتَبَرُ عِلْمُ الزَّوْجِ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ كَانَ ابْنُ الْمُنْذِرِ يَقُولُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ وَاقَعَهَا ، وَهِيَ نَائِمَةٌ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهَا لَا تَحُسُّ بِاللَّذَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا لَمْ تَذُقْ الْعُسَيْلَةَ ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ لَا يَحْصُلُ التَّحْلِيلُ فِيمَا إذَا كَانَتْ فِي غَيْرِ عَقْلِهَا بِإِغْمَاءٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ جُنُونٍ ، وَلَا ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنْ بَقِيَ
مِنْ حِسِّهِ وَمِنْ حِسِّهَا فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ أَوْ فِي النَّوْمِ مَا تُدْرِكُ بِهِ اللَّذَّةَ أَحَلَّهَا ذَلِكَ ، وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ بُلُوغَ الزَّوْجِ .
وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَاكْتَفَى الشَّافِعِيَّةُ بِتَأَتِّي الْجِمَاعِ مِنْهُ ، وَاعْتَبَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنْ يَكُونَ مُرَاهِقًا ، وَلَعَلَّ التَّعْبِيرَيْنِ مُسْتَوِيَانِ فِي الْمَعْنَى ، وَاكْتَفَى الشَّافِعِيَّةُ بِوَطْءِ الزَّوْجِ ، وَلَوْ كَانَ مُحَرَّمًا كَالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِذَلِكَ ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ حَلَالًا ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ ، وَمَسَائِلُ التَّحْلِيلِ كَثِيرَةٌ فَلْنَقْتَصِرْ مِنْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْمُخْتَبِئِ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ رَتَّبَ عَلَى سَمَاعِ كَلَامِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ ، وَهِيَ وَرَاءَ حِجَابٍ قَوْلَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَا تَزْجُرُ هَذِهِ عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَأَجَازَهُ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ قَالَ ، وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِالْكَاذِبِ الْفَاجِرِ ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ السَّمْعُ شَهَادَةٌ ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ لِمَ تُشْهِدُونِي عَلَى شَيْءٍ ، وَإِنِّي سَمِعْت كَذَا وَكَذَا ، وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ جَوَازُ شَهَادَةِ الْمُخْتَفِي لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ حَالَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ، وَمَنَعَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ شَهَادَةَ الْمُخْتَفِي إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مَخْدُوعًا أَوْ خَائِفًا .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ ( عَمَّا تَجْهَرُ بِهِ ) أَيْ تَرْفَعُ صَوْتَهَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَفِي غَيْرِ كِتَابِ مُسْلِمٍ ( تَهْجُرُ ) مِنْ الْهُجْرِ ، وَهُوَ الْفُحْشُ مِنْ الْقَوْلِ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْعِنِّينَ لَا نَضْرِبُ لَهُ أَجَلًا ، وَلَا نَفْسَخُ عَلَيْهِ نِكَاحَ زَوْجَتِهِ إذَا تَبَيَّنَتْ عُنَّتُهُ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَضْرِبْ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ أَجَلًا عَلَى زَوْجِهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَكَمُ وَابْنُ عُلَيَّةَ وَدَاوُد ، وَخَالَفَهُمْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ ، وَالْخَلَفِ ، وَتَوَهُّمُهُمْ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ لَا أَصْلَ لَهُ لِأَنَّهَا لِمَ تَأْتِ شَاكِيَةً زَوْجَهَا ، وَطَالَبَتْهُ فَسْخَ نِكَاحِهِ بِالْعُنَّةِ فَإِنَّهُ طَلَّقَهَا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي سُقْنَاهَا مِنْ الْمُوَطَّإِ ، وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَأَرَادَ الْأَوَّلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ } قَالَ ، وَهُوَ حَدِيثٌ لَا مَطْعَنَ لِأَحَدٍ فِي نَاقِلِيهِ ( قُلْت ) وَالتَّصْرِيحُ بِذَلِكَ أَيْضًا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي الطَّلَاقِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ وَكَانَتْ مَعَهُ مِثْلُ الْهُدْبَةِ فَلَمْ تَصِلْ مِنْهُ إلَى شَيْءٍ تُرِيدُهُ فَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ طَلَّقَهَا فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ لَا حُجَّةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُصْدِقْهَا عَلَى ذَلِكَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ كَذَبَتْ وَاَللَّهِ إنِّي لَأَنْفُضُهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى رِفَاعَةَ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي قَوْلِهِ { تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إرَادَةَ الْمَرْأَةِ الرُّجُوعَ إلَى زَوْجِهَا لَا يَضُرُّ الْعَاقِدَ عَلَيْهَا ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِذَلِكَ فِي مَعْنَى التَّحْلِيلِ الْمُسْتَحِقِّ صَاحِبُهُ اللَّعْنَةَ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ تَقْرِيرِهِ اشْتِرَاطَ الْوَطْءِ فِي التَّحْلِيلِ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ الْعَقْدُ إلَّا فِي قَوْله تَعَالَى { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ مَعًا ، وَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ فِي أَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّحْلِيلُ فِي الْأَيْمَانِ إلَّا بِأَكْمَلِ الْأَشْيَاءِ ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ يَقَعُ بِأَقَلِّ شَيْءٍ أَلَا تَرَى أَنَّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ زَوْجَةِ الْأَبِ وَالِابْنِ يَحْصُلُ لِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، وَلَوْ طَلَّقَ بَعْضَ امْرَأَتِهِ أَوْ ظَاهَرَ مِنْ بَعْضِهَا لَزِمَهُ حُكْمُ الطَّلَاقِ ، وَلَوْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ بَعْضَ نِكَاحٍ أَوْ عَلَى بَعْضِ امْرَأَةٍ نِكَاحًا لَمْ يَصِحَّ قَالَ ، وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَحْصُلُ فِي الرَّبِيبَةِ بِالْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ الدُّخُولُ ( قُلْت ) وَأَلْزَمَ ابْنُ حَزْمٍ الْمَالِكِيَّةَ أَنْ يَقُولُوا بِقَوْلِ الْحَسَنِ فِي اعْتِبَارِ الْإِنْزَالِ لِاعْتِبَارِهِمْ فِي التَّحْلِيلِ بِأَكْمَلِ الْأَشْيَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْهَا فَقَالَتْ { لَمَّا نَزَلَتْ { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِي فَقَالَ يَا عَائِشَةُ إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك قَالَتْ قَدْ عَلِمَ أَبَوَيَّ ، وَاَللَّهِ إنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ فَقَرَأَ عَلَيَّ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } فَقُلْت إلَى هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا ، وَرَوَاهُ هَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَقَالَ هَذَا خَطَأٌ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الثِّقَةِ تَابَعَ مَعْمَرًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُرِيدُ أَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَلَهُمَا مِنْ رِوَايَةِ مَرْزُوقٍ عَنْهَا { خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَكَانَ طَلَاقًا ، وَلِلْبُخَارِيِّ فَاخْتَرْنَا اللَّهَ ، وَرَسُولَهُ فَلَمْ يَعُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا شَيْئًا ، وَلِمُسْلِمٍ نَحْوُهُ ، وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ فَلَمْ يُعَدَّ طَلَاقًا } .
( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْهَا قَالَتْ { لَمَّا نَزَلَتْ { إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِي فَقَالَ يَا عَائِشَةُ إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَنْ لَا تَعْجَلِي فِيهِ حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك قَالَتْ قَدْ عَلِمَ وَاَللَّهِ إنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا لِيَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ فَقَرَأَ عَلَيَّ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } قُلْت أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَوَصَلَهُ هَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَقَالَ هَذَا خَطَأٌ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الثِّقَاتِ تَابَعَ مَعْمَرًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُرِيدُ أَنَّ الصَّوَابَ رِوَايَةُ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ كَمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ تَعْلِيقًا فَقَالَ عَقِبَ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، وَأَبُو سُفْيَانَ الْمَعْمَرِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَأَسْنَدَهَا ابْنُ مَاجَهْ فَرَوَاهَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَلَفْظُهُ { قَدْ اخْتَرْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ، وَكَذَا رَوَاهَا النَّسَائِيّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ ، وَقَالَ هَذَا خَطَأٌ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الثِّقَاتِ تَابَعَ مَعْمَرًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَقَدْ رَوَاهُ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ ثِقَةٌ انْتَهَى .
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، وَمُسْلِمٍ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ تَعْلِيقًا وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَعْيَنَ
عَنْ مَعْمَرٍ ، وَكَذَا عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ أَرْبَعَتِهِمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَقَالَ النَّسَائِيّ ، وَحَدِيثُ يُونُسَ ، وَمُوسَى بْنِ عَلِيٍّ أَوْلَى بِالصَّوَابِ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ .
وَقَالَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى الصَّدَفِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ انْتَهَى .
وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ { ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا فَعَلَتْ } ، وَجَمَعَ الْبُخَارِيُّ فِي الطَّلَاقِ بَيْنَ رِوَايَةِ شُعَيْبٍ ، وَيُونُسَ ، وَذَكَرَ فِيهِ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ ، وَمُوسَى بْنِ عَلِيٍّ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِينَ قَالَهُ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاخْتَرْنَهُ طَلَاقًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُنَّ اخْتَرْنَهُ .
( الثَّانِيَةُ ) سَبَبُ نُزُولِ آيَةِ التَّخْيِيرِ فِيمَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا طَلَبَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبًا فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ نِسَاءَهُ إمَّا عِنْدَ اللَّهِ يُرِدْنَ أَوْ الدُّنْيَا ، وَهَذَا مُرْسَلٌ لَكِنْ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ ، وَفِيهِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : وَهُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا ، وَقَامَ عُمَرُ إلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا كِلَاهُمَا يَقُولُ تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ قُلْنَ وَاَللَّهِ مَا نَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا أَبَدًا لَيْسَ عِنْدَهُ ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ
شَهْرًا أَوْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك } } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
( الثَّالِثَةُ ) اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَنَّ التَّخْيِيرَ فِي الْآيَةِ هَلْ كَانَ بَيْنَ إقَامَتِهِنَّ فِي عِصْمَتِهِ وَفِرَاقِهِنَّ أَوْ بَيْنَ أَنْ يَبْسُطَ لَهُنَّ فِي الدُّنْيَا أَوْ لَا يَبْسُطَ لَهُنَّ فِيهَا فَذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ عَائِشَةُ وَجَابِرٌ ، وَذَهَبَ إلَى الثَّانِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ حَكَى ذَلِكَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ ، وَقَالَ : الْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَعَائِشَةُ صَاحِبَةُ الْقَصْدِ ، وَهِيَ أَعْرَفُ بِذَلِكَ مَعَ مُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } ، وَهُوَ الطَّلَاقُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ إنَّمَا بَدَأَ بِهَا لِفَضِيلَتِهَا ( قُلْت ) وَإِنْ صَحَّ أَنَّهَا السَّبَبُ فِي نُزُولِ الْآيَةِ فَلَعَلَّ الْبُدَاءَةَ بِهَا لِذَلِكَ
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ ( فَلَا عَلَيْكِ أَنْ لَا تَعْجَلِي ) مَعْنَاهُ مَا يَضُرُّك أَنْ لَا تَعْجَلِي قَالَ النَّوَوِيُّ وَإِنَّمَا قَالَ لَهَا هَذَا شَفَقَةً عَلَيْهَا ، وَعَلَى أَبَوَيْهَا ، وَنَصِيحَةً لَهُنَّ فِي بَقَائِهَا عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يَخَافُ أَنْ يَحْمِلَهَا صِغَرُ سِنِّهَا ، وَقِلَّةُ تَجَارِبِهَا عَلَى اخْتِيَارِ الْفِرَاقِ فَيَجِبَ فِرَاقُهَا فَتَنْضَرَّ هِيَ وَأَبَوَاهَا وَبَاقِي النِّسْوَةِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهَا ( قُلْت ) وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ { أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَسْأَلُك أَنْ لَا تُخْبِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِك الَّذِي قُلْت فَقَالَ لَا تَسْأَلُنِي امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ إلَّا أَخْبَرْتهَا إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعْنِتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا ، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا } ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْحَامِلَ لَهُ عَلَى قَوْلِهِ لَهَا ذَلِكَ الْكَلَامَ مَحَبَّتُهُ لَهَا ، وَكَرَاهَةُ فِرَاقِهَا ، وَهُوَ مَنْقَبَةٌ لَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ مَنْقَبَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعَائِشَةَ ثُمَّ لِسَائِرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ بِاخْتِيَارِهِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ ، وَفِيهِ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْخَيْرِ وَإِيثَارُ أُمُورِ الْآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا .
( السَّادِسَةُ ) عَدَّ أَصْحَابُنَا مِنْ خَصَائِصِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَخْيِيرُ نِسَائِهِ بَيْنَ مُفَارَقَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ ، وَحَكَى الْحَنَّاطِيُّ ، وَجْهًا أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ كَانَ مُسْتَحَبًّا ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ .
( السَّابِعَةُ ) فِيهِ أَنَّ مَنْ خَيَّرَ زَوْجَتَهُ فَاخْتَارَتْهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا ، وَلَمْ تَقَعْ بِهِ فُرْقَةٌ ، وَقَدْ صَرَّحَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِقَوْلِهَا خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَعُدَّهُ طَلَاقًا ، وَفِي لَفْظٍ فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا ، وَفِي لَفْظٍ فَلَمْ يَعُدَّهُ عَلَيْنَا شَيْئًا ، وَفِي لَفْظٍ أَفَكَانَ طَلَاقًا ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مَسْرُوقٍ عَنْهَا ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ قَوْلَانِ شَاذَّانِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ يَقَعُ بِذَلِكَ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ زَاذَانَ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ فَسُئِلَ عَنْ الْخِيَارِ فَقَالَ سَأَلَنِي عَنْهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ فَقُلْت إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنٌ ، وَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ، فَقَالَ لَيْسَ كَمَا قُلْت إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ ، وَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ ، وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ مُتَابَعَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا وُلِّيتُ وَأَتَيْت فِي الْفُرُوجِ رَجَعْت إلَى مَا كُنْت أَعْرِفُ فَقِيلَ لَهُ رَأْيُك فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِك فِي الْفُرْقَةِ فَضَحِكَ ، وَقَالَ أَمَّا إنَّهُ أَرْسَلَ إلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَسَأَلَهُ فَقَالَ إنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ ، وَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ كِلَاهُمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ
وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْحَسَنِ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ نَفْسَ التَّخْيِيرِ يَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ سَوَاءٌ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا أَمْ لَا ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَالنَّقَّاشُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ لَا يَصِحُّ عَنْ مَالِكٍ قَالَ ثُمَّ هُوَ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ ، وَلَعَلَّ الْقَائِلِينَ بِهِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ انْتَهَى .
وَفِي حِكَايَتِهِمَا عَنْ عَلِيٍّ وُقُوعَ طَلْقَةٍ بَائِنَةٍ نَظَرٌ فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْهُ أَنَّهَا رَجْعِيَّةٌ ، وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَاَلَّذِي حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَالِكٍ أَنَّهَا رَجْعِيَّةٌ يَكُونُ زَوْجُهَا أَحَقَّ بِهَا ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ حَكَاهَا وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ .
( الثَّامِنَةُ ) الَّذِي صَدَرَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ اخْتِيَارُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا لَوْ فُرِضَ أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ اخْتَارَتْ الدُّنْيَا هَلْ كَانَ يَحْصُلُ الْفِرَاقُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ طَلَاقِهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ، وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا الثَّانِي ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ كَانَ جَوَابُهُنَّ مَشْرُوطًا بِالْفَوْرِ أَمْ لَا ، وَالْأَصَحُّ لَا ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْفَوْرِ فَهَلْ كَانَ يَمْتَدُّ امْتِدَادَ الْمَجْلِسِ أَمْ الْمُعْتَبَرُ مَا يُعَدُّ جَوَابًا فِي الْعُرْفِ ؟ ، وَجْهَانِ ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ كَانَ قَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي صَرِيحًا فِي الْفِرَاقِ أَمْ لَا ؟ وَجْهَانِ ، وَهَلْ كَانَ يَحِلُّ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّزَوُّجُ بِهَا بَعْدَ الْفِرَاقِ ؟ وَجْهَانِ .
وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ طَلَاقُهُنَّ بَعْدَ مَا اخْتَرْنَهُ ، وَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا لَا ، وَالثَّانِي نَعَمْ ، وَالثَّالِثُ يَحْرُمُ عَقِيبَ اخْتِيَارِهِنَّ ، وَلَا يَحْرُمُ إذَا انْفَصَلَ ، وَدَلَالَةُ هَذَا
الْحَدِيثِ قَاصِرَةٌ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، وَالْخَوْضُ فِيهَا قَلِيلُ الْجَدْوَى مَعَ الِاحْتِيَاجِ فِيهَا إلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ ، وَلَا نَعْلَمُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( التَّاسِعَةُ ) الَّذِي دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَلَا عَلَيْهِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ ، وَلَا نَدْرِي هَلْ تَكَلَّمَ مَعَهَا بِشَيْءٍ أَمْ لَا ، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا لَوْ قَالَ الشَّخْصُ لِزَوْجَتِهِ اخْتَارِي فَعَدَّهُ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ كِنَايَةً فِي تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ إلَيْهَا وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَنَّ التَّفْوِيضَ تَمْلِيكٌ لِلطَّلَاقِ أَمْ تَوْكِيلٌ فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا تَمْلِيكٌ ، وَهُوَ الْجَدِيدُ فَعَلَى هَذَا تَطْلِيقُهَا يَتَضَمَّنُ الْقَبُولَ ، وَيُشْتَرَطُ مُبَادَرَتُهَا لَهُ فَلَوْ أَخَّرَتْ بِقَدْرِ مَا يَنْقَطِعُ الْقَبُولُ عَنْ الْإِيجَابِ ثُمَّ طَلُقَتْ لَمْ يَقَعْ ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ وَغَيْرُهُ لَا يَضُرُّ التَّأْخِيرُ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَهَا أَنْ تَطْلُقَ مَتَى شَاءَتْ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ، وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ قَالُوا فَإِذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك ، وَيَرَى تَفْوِيضَ الطَّلَاقِ إلَيْهَا فَقَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي أَوْ اخْتَرْت ، وَنَوَتْ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ ، وَهِيَ رَجْعِيَّةٌ إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا ، وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي ، وَلَمْ يَقُلْ نَفْسَك ، وَنَوَى تَفْوِيضَ الطَّلَاقِ فَقَالَتْ اخْتَرْت فَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي التَّهْذِيبِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى تَقُولَ اخْتَرْت نَفْسِي ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ ، وَإِنْ نَوَتْ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ وَلَا كَلَامِهَا مَا يُشْعِرُ بِالْفِرَاقِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ اخْتَارِي نَفْسَك فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِهِ فَانْصَرَفَ كَلَامُهَا إلَيْهِ ، وَقَالَ إسْمَاعِيلُ الْبُوشَنْجِيُّ إذَا قَالَتْ اخْتَرْتُ ثُمَّ قَالَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَرَدْتُ اخْتَرْتُ نَفْسِي ، وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَلَوْ قَالَتْ اخْتَرْتُ نَفْسِي وَنَوَتْ وَقَعَتْ طَلْقَةٌ ، وَتَكُونُ
رَجْعِيَّةً إنْ كَانَتْ مَحَلًّا لِلرَّجْعَةِ فَلَوْ قَالَتْ اخْتَرْتُ زَوْجِي أَوْ النِّكَاحَ لَمْ تَطْلُقْ ، وَلَوْ قَالَتْ اخْتَرْت الْأَزْوَاجَ أَوْ اخْتَرْت أَبَوَيَّ أَوْ أَخِي أَوْ عَمِّي طَلُقَتْ عَلَى الْأَصَحِّ سَوَاءٌ قَالَ اخْتَارِي نَفْسَك أَوْ اخْتَارِي فَقَطْ ، هَذَا كَلَامُ أَصْحَابِنَا ، وَقَسَّمَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ لَفْظَ التَّخْيِيرِ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ فَالْكِنَايَةُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالصَّرِيحُ كَقَوْلِهِ خَيَّرْتُك بَيْنَ أَنْ تَبْقَيْ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ أَوْ تَطْلُقِي أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، وَتَقُولُ هِيَ اخْتَرْت الطَّلَاقَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ فَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهُ أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ الطَّلَاقَ يُطَلِّقُهَا لَا أَنَّهُ فَوَّضَ ذَلِكَ إلَيْهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَصَحَّ فِيمَا لَوْ اخْتَارَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الدُّنْيَا لَا يَحْصُلُ الْفِرَاقُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ طَلَاقِهَا ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي التَّخْيِيرِ فَقَرِيبٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَسَّمَ الْمَالِكِيَّةُ التَّفْوِيضَ إلَى تَوْكِيلٍ وَتَمْلِيكٍ وَتَخْيِيرٍ فَقَالُوا فِي التَّخْيِيرِ ، وَهَذَا عِبَارَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَالتَّخْيِيرُ مِثْلُ اخْتَارِينِي أَوْ اخْتَارِي نَفْسَك ، وَهُوَ كَالتَّمْلِيكِ إلَّا أَنَّهُ لِلثَّلَاثِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ نَوَيَا أَوْ لَمْ يَنْوِيَا مَا لَمْ يُقَيِّدْ فَيَتَعَيَّنْ مَا قُيِّدَ ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ يَنْتَزِعُهُ الْحَاكِمُ لَهُ مِنْ يَدِهَا مَا لَمْ تُوقِعْهُ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ مَمْنُوعَةٌ ، وَقِيلَ يَجُوزُ بِآيَةِ التَّخْيِيرِ ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ السَّرَاحَ فِيهَا لَا يَقْتَضِي الثَّلَاثَ ، وَإِنَّمَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَنْدَمُ ، وَلَا يَرْتَجِعُ ، وَقِيلَ طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ ، وَقِيلَ رَجْعِيَّةٌ كَالتَّمْلِيكِ ، وَلَهُ مُنَاكَرَتُهَا فِيمَا زَادَ ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ لَوْ أَوْقَعَتْ وَاحِدَةً لَمْ تَقَعْ ، وَفِي بُطْلَانِ اخْتِيَارِهَا قَوْلَانِ أَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا
فَتُوقِعُ الثَّلَاثَ ، وَلَهُ نِيَّتُهُ ، وَيَحْلِفُ ، وَإِلَّا وَقَعَتْ أَيْ الثَّلَاثُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَقَعَتْ الثَّلَاثُ ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ فُرُوعِ ذَلِكَ ، وَتَرَكْتُهَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ مَعْرِفَةِ أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ فِي ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْته .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ وَهَذِهِ عِبَارَةُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ ، وَإِذَا قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ مَلَكَتْهُ عَلَى التَّرَاخِي ، وَلَوْ قَالَ مَكَانَهُ اخْتَارِي اخْتَصَّ بِالْمَجْلِسِ مَا دَامَا فِيهِ ، وَلَمْ يَشْتَغِلَا بِمَا يَقْطَعُهُ نَصَّ عَلَيْهِ أَيْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك فَبِأَيِّهِمَا يَلْحَقُ عَلَى وَجْهَيْنِ ثُمَّ قَالَ : وَلَفْظُ الْخِيَارِ تَوْكِيلٌ بِكِنَايَةٍ تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ ، وَيَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ ، وَبِرَدِّ مَنْ وَكَّلَهُ ثُمَّ قَالَ وَلَا تَمْلِكُ الْمَرْأَةُ بِقَوْلِهِ اخْتَارِي فَوْقَ طَلْقَةٍ إلَّا بِنِيَّةِ الزَّوْجِ ثُمَّ قَالَ وَإِذَا نَوَى بِقَوْلِهِ اخْتَارِي طَلَاقَهَا فِي الْحَالِ لَزِمَهُ .
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ ، وَهَذِهِ عِبَارَةُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ : إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي يَنْوِي بِذَلِكَ الطَّلَاقَ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي قَوْلِهِ اخْتَارِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي نَفْسِهَا ، وَيَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي تَصَرُّفٍ آخَرَ غَيْرِهِ فَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ، وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا ، وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ ذَلِكَ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَتَنَوَّعُ بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ تَتَنَوَّعُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي كَلَامِهِ أَوْ كَلَامِهَا حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْت فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتْ أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي فَهِيَ طَالِقٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَطْلُقَ لِأَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ وَعْدٍ أَوْ يَحْتَمِلُهُ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ
حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّهَا قَالَتْ لَا بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَاعْتَبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا مِنْهَا ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ ، وَتَجُوزُ فِي الِاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَأَدَاءِ الشَّاهِدِ بِخِلَافِ قَوْلِهَا أُطَلِّقُ نَفْسِي لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ حِكَايَةً عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ ، وَلَا كَذَلِكَ قَوْلُهَا أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا ، وَلَوْ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُوجِبُ الِانْطِلَاقَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَأَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ ، وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي بِتَطْلِيقَةٍ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ تَمْلِكُ الرَّجْعَةَ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهَا الِاخْتِيَارَ لَكِنْ بِتَطْلِيقَةٍ ، وَهِيَ مُعْقِبَةٌ لِلرَّجْعَةِ انْتَهَى .
وَإِنَّمَا حَكَيْتُ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ فِي التَّخْيِيرِ فِيمَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ تَعَرُّضٌ لَهُ لِئَلَّا يَخْلُوَ الْبَابُ عَنْ فِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّبْوِيبِ ، وَإِنَّمَا حَكَيْتُ عِبَارَةَ هَؤُلَاءِ الْمُصَنِّفِينَ لِتَبَايُنِ مَذَاهِبِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي تَفَارِيعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا عَرَفْتَهُ ، وَاقْتَصَرْتُ عَلَى الْمُهِمِّ مِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ ، وَلَمْ أَذْكُرْ الْخِلَافَ الْعَالِيَ اخْتِصَارًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنَّ الْخَطَّابِيَّ قَالَ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ نَعُدَّ ذَلِكَ شَيْئًا ، فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُنَّ لَوْ كُنَّ اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ كَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا فَلِذَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِيهِ أَنَّ الْمُخَيَّرَةَ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَنَّ نَفْسَ ذَلِكَ الْخِيَارِ يَكُونُ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى النُّطْقِ بِلَفْظٍ
يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ سِوَى الْخِيَارِ يُقْتَبَسُ ذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ لَفْظِهَا انْتَهَى قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَا جَرَى فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ حِينَ أُعْتِقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا ، وَذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ ، وَمِنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ إلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ الطَّلَاقَ
بَابُ اللِّعَانِ ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا أَنَّهُ مِنْ الْأَنْصَارِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا فَرَّقَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي عَجْلَانَ ، وَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ زَادَ الْبُخَارِيُّ فَأَبَيَا فَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ فَذَكَرَهَا ثَلَاثًا ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا قَالَ مَالِي قَالَ لَا مَالَ لَكَ إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْت مِنْ فَرْجِهَا ، وَإِنْ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ تَسْمِيَتُهُ بِعُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ } .
( بَابُ اللِّعَانِ ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ( وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ ) وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ ، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأُمِّ ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّ مَالِكًا انْفَرَدَ بِقَوْلِهِ فِيهِ أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ أَوْ بِالْأُمِّ ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَالَ حَسْبُك بِمَالِكٍ حِفْظًا وَإِتْقَانًا ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ إنَّ مَالِكًا أَثْبَتُ فِي نَافِعٍ ، وَابْنِ شِهَابٍ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا مَحْفُوظَةٌ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَإِنَّ فِيهِ { فَكَانَ الْوَلَدُ يُدْعَى لِأُمِّهِ } وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ انْفِرَادَ مَالِكٍ بِذَلِكَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ ، وَأَوْرَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْحَدِيثَ مِنْ الْمُوَطَّإِ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيِّ بِلَفْظِ وَانْتَقَلَ مِنْ وَلَدِهَا قَالَ : وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ قَالَ : وَرُبَّمَا لَمْ يَذْكُرْ بَعْضُهُمْ فِيهِ ( انْتَفَى ، وَلَا انْتَقَلَ ) ثُمَّ رَوَاهُ كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ مَالِكٍ ثُمَّ قَالَ : وَقَالَ قَوْمٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ مَالِكٍ أَنَّ الرَّجُلَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ ، وَلَيْسَ هَذَا فِي الْمُوَطَّإِ ، وَلَا نَعْرِفُهُ مِنْ مَذْهَبِهِ ثُمَّ رَوَاهُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنْ طَرِيقِ عَاصِمِ بْنِ مُهَجِّعٍ خَالِ مُسَدِّدٍ ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ ، وَالْحَسَنِ بْنِ سَوَّارٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ { لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَامْرَأَتِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا } ، وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ { فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ قَذَفَهَا ، وَأَحْلَفَهُمَا } ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْرَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَأَحْلَفَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا } ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ { فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي عَجْلَانَ ، وَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ زَادَ الْبُخَارِيُّ فَأَبَيَا فَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ فَأَبَيَا فَقَالَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ فَأَبَيَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا } ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد { يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } ، وَلَفْظُ النَّسَائِيّ { قَالَهَا ثَلَاثًا } ، وَفِي لَفْظٍ لَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ { لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا قَالَ مَالِي قَالَ لَا مَالَ لَكَ إنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْت مِنْ فَرْجِهَا ، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَك } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ ( إنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ ) قَدْ عَرَفْت أَنَّ .
فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا أَنَّهُ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ ، وَبَنُو الْعَجْلَانِ مِنْ بَلِيٍّ .
وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْأَنْصَارِ بِالْحِلْفِ ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ عُوَيْمِرٌ الْعَجْلَانِيُّ فَقَالَ : وَلَهُمَا أَيْ لِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ تَسْمِيَتُهُ بِعُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إنَّهُ عُوَيْمِرٌ .
وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ هُوَ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ عُوَيْمِرٌ الْعَجْلَانِيُّ فَإِنْ قُلْت كَيْفَ جَزَمَ الشَّيْخُ ، وَقَبْلَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَالْقُرْطُبِيُّ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ( قُلْت ) كَلَامُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْمُبْهَمِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ .
وَلَمَّا قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الرِّوَايَاتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَرَّقَ بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي عَجْلَانَ تَعَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيُّ لَا هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ قَدْ لَاعَنَ عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ أَنْكَرَ مُلَاعَنَةَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ النَّاسُ هُوَ وَهْمٌ مِنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ ، وَعَلَيْهِ دَارَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِذَلِكَ ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ قَالَ : وَقَدْ رَوَاهُ الْقَاسِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ النَّاسُ فَبَيَّنَ فِيهِ الصَّوَابَ .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَخُو الْمُهَلَّبِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ ، وَقَالَ هُوَ خَطَأٌ ، وَالصَّحِيحُ عُوَيْمِرٌ ، وَنَحْوًا مِنْهُ قَالَ الطَّبَرِيُّ .
وَقَالَ إنَّمَا هُوَ عُوَيْمِرٌ ، وَهُوَ الَّذِي قَذَفَهَا بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكَذَلِكَ حُكِيَ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ فِي الْمُلَاعِنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ عُوَيْمِرٌ ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ .
وَحُكِيَ عَنْ الْوَاحِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ أَظْهَرُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ عُوَيْمِرٌ لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ ، وَكُنْت أَنْكَرْت عَلَى النَّوَوِيِّ حِكَايَةَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ لِلْجَزْمِ بِأَنَّ هِلَالًا لَاعَنَ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ ، وَكَتَبْت ذَلِكَ فِي الْمُبْهَمَاتِ قَبْلَ أَنْ أَرَى هَذَا الْإِنْكَارَ لَكِنْ فِي حِكَايَةِ قَوْلٍ بِأَنَّهُ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ نَظَرٌ فَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ عَاصِمًا لَاعَنَ زَوْجَتَهُ بَلْ لَمْ نَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ .
وَقَدْ أَنْكَرَ وَالِدِي
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَوْلَهُ إنَّ هِشَامَ بْنَ حَسَّانَ دَارَ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ قَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ فَرَوَاهُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَجَاءَ مِنْ أَرْضِهِ عِشَاءً فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا فَرَأَى بِعَيْنِهِ ، وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ فَلَمْ يَهْجُهُ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ عَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نُزُولَ الْآيَةِ وَقِصَّةَ اللِّعَانِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ أَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ أَطْوَلَ مِنْهُ قَالَ ثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ ، وَتَابَعَهُمَا أَيْضًا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ قَالَ : وَقَوْلُهُ ، وَقَدْ رَوَاهُ الْقَاسِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ النَّاسُ يُوهِمُ أَنَّ الْقَاسِمَ سَمَّى الْمُلَاعِنَ عُوَيْمِرًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ أَبْهَمَهُ لَمْ يُسَمِّ عُوَيْمِرًا ، وَلَا هِلَالًا ، وَإِنَّمَا قَالَ فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ أَيْ مِنْ قَوْمِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ .
وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ لِعُوَيْمِرٍ قَالَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيُّ ، وَامْرَأَتِهِ وَالْعَجْلَانِيُّ هُوَ عُوَيْمِرٌ كَمَا ثَبَتَ مُسَمًّى مَنْسُوبًا مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ قَالَ : وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ { كُنَّا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ إذْ قَالَ رَجُلٌ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ قَتَلَهُ قَتَلْتُمُوهُ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ ، وَلَأَذْكُرَنَّ ذَلِكَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ اللِّعَانِ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَقَذَفَ امْرَأَتَهُ فَلَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا } الْحَدِيثَ قَالَ وَالِدِي ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ فَقَدْ بُيِّنَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الَّذِي سَأَلَ أَوَّلًا غَيْرُ الَّذِي قَذَفَ ثَانِيًا ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ قَبْلَ أَنْ يُلَاعِنَ الثَّانِي ، وَهَذَا وَاضِحٌ جَلِيٌّ ( قُلْت ) لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وُقُوعُ اللِّعَانِ مَرَّتَيْنِ ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْكَلَامُ ، وَإِنْ كَانَ كَلَامُ الْأَكْثَرِينَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ مُقْتَضَى صِحَّةِ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ فِي مُبْهَمَاتِهِ أَنَّ الْمُلَاعِنَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ هُوَ عُوَيْمِرُ بْنُ سَهْلٍ الْحَارِثُ الْعَجْلَانِيُّ ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَلَمْ يُبَيَّنْ الْمُبْهَمُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَهُوَ عُوَيْمِرٌ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ مِنْ أَنَّ عُوَيْمِرًا هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ يَنْبَغِي النَّظَرُ فِيهِ فَإِنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ تَسْمِيَتَهُ عُوَيْمِرَ بْنَ أَشْقَرَ الْعَجْلَانِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ عُوَيْمِرُ بْنُ أَبْيَضَ الْعَجْلَانِيُّ الْأَنْصَارِيُّ صَاحِبُ اللِّعَانِ ، وَذَكَرَ قَبْلَ ذَلِكَ عُوَيْمِرَ بْنَ الْأَشْقَرِ بْنَ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيَّ قِيلَ إنَّهُ مِنْ بَنِي مَازِنَ شَهِدَ بَدْرًا يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ الْمُلَاعِنُ فَحَصَلَ فِي اسْمِ وَالِدِ عُوَيْمِرٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْحَارِثُ أَشْقَرُ أَبْيَضُ ، وَالْأَوْسَطُ هُوَ الْأَوْلَى لِوُرُودِ الرِّوَايَةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد كَمَا ذَكَرْته ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ ابْنُ طَاهِرٍ فِي مُبْهَمَاتِهِ اسْمُ امْرَأَةِ هِلَالٍ الْمَقْذُوفَةِ خَوْلَةُ بِنْتُ عَاصِمٍ لَهَا ذِكْرٌ ، وَلَيْسَتْ لَهَا رِوَايَةٌ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ
النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نُزُولِ آيَةِ اللِّعَانِ هَلْ هُوَ بِسَبَبِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ أَمْ بِسَبَبِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِسَبَبِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُوَيْمِرٍ قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ ، وَفِي صَاحِبَتِكَ ، وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ سَبَبُ نُزُولِهَا قِصَّةُ هِلَالٍ ، وَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي قَالَ الْأَكْثَرُونَ قَضِيَّةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَسْبَقُ مِنْ قَضِيَّةِ الْعَجْلَانِيُّ قَالَ : وَالنَّقْلُ فِيهِمَا مُشْتَبِهٌ مُخْتَلِفٌ ، وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الشَّامِلِ قِصَّةُ هِلَالٍ تُبَيِّنُ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ أَوَّلًا قَالَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُوَيْمِرٍ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ فِيك ، وَفِي صَاحِبَتِكَ فَمَعْنَاهُ مَا نَزَلَ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمَا جَمِيعًا فَلَعَلَّهُمَا سَأَلَا فِي وَقْتَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِمَا ، وَسَبَقَ هِلَالٌ بِاللِّعَانِ فَيَصْدُقُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَا وَذَاكَ ، وَأَنَّ هِلَالًا أَوَّلُ مَنْ لَاعَنَ انْتَهَى .
وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فَقَالَ لَعَلَّهُمَا اتَّفَقَا كَوْنَهُمَا مَعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي مِيقَاتَيْنِ ، وَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، وَرَوَيْنَا عَنْ جَابِرٍ قَالَ مَا نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ إلَّا لِكَثْرَةِ السُّؤَالِ ، وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْقَضِيَّتَانِ مُتَقَارِبَتَيْ الزَّمَانِ فَنَزَلَتْ بِسَبَبِهِمَا مَعًا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ أَيْ كُرِّرَ نُزُولُهَا عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ إنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ، وَتَكَرَّرَ نُزُولُهَا بِالْمَدِينَةِ قَالَ : وَهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ ، وَإِنْ بَعُدَتْ فَهِيَ
أَوْلَى مِنْ أَنْ يَطْرُقَ الْوَهْمُ لِلرُّوَاةِ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ انْتَهَى .
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّ نُزُولَهَا بِسَبَبِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ
( الْخَامِسَةُ ) اللِّعَانُ هُوَ الْكَلِمَاتُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي يُلَقَّنُهَا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ عِنْدَ قَذْفِهِ إيَّاهَا ، وَهِيَ قَوْلُ الزَّوْجِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ .
وَقَوْلُ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّنْزِيلُ ، وَسُمِّيَ لِعَانًا لِقَوْلِ الزَّوْجِ ، وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إنْ كُنْتُ مِنْ الْكَاذِبِينَ قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ ، وَاخْتِيرَ لَفْظُ اللَّعْنِ عَلَى لَفْظِ الْغَضَبِ ، وَإِنْ كَانَا مَوْجُودَيْنِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَفِي صُورَةِ اللِّعَانِ لِأَنَّ لَفْظَ اللَّعْنَةِ مُتَقَدِّمٌ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَلِأَنَّ جَانِبَ الرَّجُلِ فِيهِ أَقْوَى مِنْ جَانِبِهَا لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِاللِّعَانِ دُونَهَا ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَكُّ لِعَانُهُ عَنْ لِعَانِهَا ، وَلَا يَنْعَكِسُ ، وَقِيلَ سُمِّيَ لِعَانًا مِنْ اللَّعْنِ ، وَهُوَ الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَبْعُدُ عَنْ صَاحِبِهِ ، وَيَحْرُمُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِخِلَافِ الْمُطَلِّقِ وَغَيْرِهِ ، وَاللِّعَانُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا يَمِينٌ ، وَقِيلَ شَهَادَةٌ ، وَقِيلَ يَمِينٌ فِيهَا شَوْبُ شَهَادَةٍ ، وَقِيلَ عَكْسُهُ قَالَ الْعُلَمَاءُ ، وَلَيْسَ مِنْ الْأَيْمَانِ شَيْءٌ مُتَعَدِّدٌ إلَّا اللِّعَانَ ، وَالْقَسَامَةَ ، وَلَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي إلَّا فِيهِمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ ، وَجُوِّزَ اللِّعَانُ لِحِفْظِ الْأَنْسَابِ وَدَفْعِ الْمَعَرَّةِ عَنْ الْأَزْوَاجِ ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ اللِّعَانِ فِي الْجُمْلَةِ قَالُوا وَكَانَتْ قِصَّةُ اللِّعَانِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ .
( السَّادِسَةُ ) تَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ ، وَكَانَتْ حَامِلًا أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا ( وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا ) أَرَادَ بِهِ الْحَمْلَ الَّذِي لَمْ تَضَعْهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ ، وَيُوَافِقُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرَ { قَالَ حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ لَاعَنَ بَيْنَ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ وَامْرَأَتِهِ ، وَأَنْكَرَ حَمْلَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا ، وَقَالَ هُوَ لِابْنِ سَحْمَاءَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاتِ امْرَأَتَك فَقَدْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ فِيكُمَا فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ عَلَى الْمِنْبَرِ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ لِعَانِ الْحَامِلِ لِنَفْيِ الْحَمْلِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِعَانُ الْحَامِلِ لِنَفْيِ الْحَمْلِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِدَفْعِ الْعُقُوبَةِ عِنْدَ الْقَذْفِ فَإِنْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ حَامِلًا لَمْ يَنْتَفِ الْحَمْلُ قَالَ الْحَنَابِلَةُ إلَّا أَنْ يَصِفَ زِنًا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُهُ كَمَنْ ادَّعَى زِنَاهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُصِبْهَا فِيهِ ، وَاعْتَزَلَهَا حَتَّى ظَهَرَ حَمْلُهَا ثُمَّ لَاعَنَهَا لِذَلِكَ ثُمَّ وَضَعَتْهُ لِمُدَّةِ الْإِمْكَانِ مِنْ دَعْوَاهُ فَإِنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ ، وَاعْتَلَّ هَؤُلَاءِ فِي إنْكَارِ نَفْيِ الْحَمْلِ بِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَرَفَ وُجُودَ الْحَمْلِ بِالْوَحْيِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا يُرَتِّبُ الْأَحْكَامَ عَلَى الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهَا الْحُكَّامُ بَعْدَهُ ، وَقَدْ رُتِّبَ عَلَى الْحَمْلِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ كَإِبِلِ الدِّيَةِ إذْ قَالَ فِيهَا { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا } ، وَطَلَاقِ الْحَامِلِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا } ، وَتَأْخِيرِ رَجْمِ الْحَامِلِ فِي نَظَائِرَ عَدِيدَةٍ كَإِيجَابِ النَّفَقَةِ ، وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ وَطْئِهَا فِي السَّبْيِ .
( السَّابِعَةُ ) فِيهِ أَنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ سَبَبٌ لِلِّعَانِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ أَنْ لِلِّعَانِ سَبَبَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) قَذْفُ الزَّوْجَةِ بِالزِّنَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَلَدٌ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } الْآيَةَ ، وَ ( الثَّانِي ) نَفْيُ الْوَلَدِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ قَذْفٌ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ ذِكْرُ قَذْفٍ لَكِنْ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرَّوِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ بَلْ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، وَقَالَ بِهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّفْرِيقِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ هُوَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ فَلَوْ كَذَّبَ نَفْسَهُ بَعْدَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ نِكَاحُهَا ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ حُصُولُ الْفُرْقَةِ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى تَفْرِيقٍ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَزُفَرُ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِتَمَامِ لِعَانِهِ هُوَ وَإِنْ لَمْ تَلْتَعِنْ هِيَ ، وَقَالَ أَحْمَدُ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِتَمَامِ لِعَانِهِمَا مَعًا ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ قَالُوا : وَهِيَ فُرْقَةُ فَسْخٍ وَحُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ ، وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَاهُ إنْشَاءَ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بَلْ إظْهَارَ ذَلِكَ ، وَبَيَانَ حُكْمِ الشَّرْعِ فِيهِ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا } ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ( لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا ) رَاجِعًا إلَى الْمَالِ ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ذَلِكُمْ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ } قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ ذَلِكُمْ عَنْ قَوْلِهِ لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا ، وَقَالَ كَذَا حُكْمُ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ فَإِنْ كَانَ
الْفِرَاقُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحُكْمٍ فَقَدْ نُفِّذَ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ الْحَاكِمِ الْأَعْظَمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ ذَلِكُمْ التَّفْرِيقُ بَيْنَ كُلِّ مُتَلَاعِنَيْنِ ، وَلَوْ أَشَارَ إلَى الطَّلَاقِ لَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ ، وَقَضَى أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا بَيْتَ لَهَا عَلَيْهِ ، وَلَا قُوتَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا مُتَفَرِّقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ ، وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي حَدِيثِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ قَالَ فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالَا مَضَتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ لَا يَجْتَمِعَا أَبَدًا ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورِ قَرِيبُ الْمُدْرَكِ مِنْ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَاتِلِ السَّلْبَ ، وَفِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ هُوَ يَقِفُ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى إذْنِ الْإِمَامِ ، وَيُجْعَلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ } تَنْفِيلًا ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ } إذْنًا حُكْمِيًّا يُحْتَاجُ مَعَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَى إذْنِ خَلِيفَةِ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا أَذِنَ هُوَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَمَا جُعِلَ تَفْرِيقُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُنَا بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ حَتَّى يُحْتَاجَ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ إلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي ، وَالْجُمْهُورُ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ بَيَانًا لِلشَّرْعِ الْعَامِّ الْمُطَّرِدِ سَوَاءٌ قَالَهُ الْإِمَامُ أَمْ لَمْ يَقُلْهُ ، وَلَقَدْ أَبْعَدَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فِي
قَوْلِهِ لَا أَثَرَ لِلِّعَانِ فِي الْفُرْقَةِ ، وَلَا يَحْصُلُ بِهِ فِرَاقٌ أَصْلًا ، وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ ، وَحَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَيُقَابِلُهُ فِي الْبُعْدِ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ بِغَيْرِ لِعَانٍ .
( التَّاسِعَةُ ) نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ قَالَ سُئِلَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ أَيْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ أَخْطَأَ لَيْسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ لَمْ يُتَابِعْ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَحَدٌ عَلَى أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَإِنْ صَحَّ هَذَا ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ وَهْمٌ فَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ ابْنِ مَعِينٍ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلٍ فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ مَعِينٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا أَيْ مُطْلَقًا ، وَهُوَ خَطَأٌ ثُمَّ قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَيْسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ اللِّعَانَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ أَرَادَ هَذَا فَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَوْلُهُ ( وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ ) اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ فَقِيلَ مَعْنَاهُ نَفَى عَنْهُ نَسَبَ الْأَبِ ، وَأَبْقَى عَلَيْهِ الْأُمَّ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا لِأَنَّهُ قَدْ يُتَخَيَّلُ مِنْ انْتِفَاءِ نَسَبِ الْأَبِ انْتِفَاءُ نَسَبِ الْأُمِّ أَيْضًا ، وَقِيلَ جَعَلَهَا لَهُ أَبًا وَأُمًّا ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ فَلَمْ يُورِثُوا الْأُمَّ مِنْهُ إلَّا مَا كَانَتْ تَرِثُهُ مِنْهُ لَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ ، وَهُوَ السُّدُسُ فِي حَالَةٍ ، وَالثُّلُثُ فِي أُخْرَى ، وَوَرَّثُوا إخْوَتَهُ لِأُمِّهِ مِنْهُ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ السُّدُسُ ، وَلِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ ثُمَّ جَرَتْ السُّنَّةُ أَنْ يَرِثَهَا ، وَتَرِثَ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهَا ، وَالذَّاهِبُونَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ أُمَّهُ تَحُوزُ جَمِيعَ مِيرَاثِهِ فَإِنَّهَا عَصَبَةٌ ، وَبِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ ، وَطَائِفَةٍ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ .
( الثَّانِي ) أَنَّ عَصَبَتَهُ عَصَبَةُ أُمِّهِ قَالَ جَمَاعَةٌ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَاخْتَارَهُ الْخِرَقِيِّ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّ مِيرَاثَهُ لِأُمِّهِ ، وَلِإِخْوَتِهِ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا قَالَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذُو فَرْضٍ بِحَالٍ فَعَصَبَتُهُ عَصَبَةُ أُمِّهِ ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ صَادِرَةٌ عَنْ مَنْ يُوَرِّثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَالْجُمْهُورِ .
( الْحَادِيَةَ عَشَرَ ) قَوْلُهُ { وَقَالَ : وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْكَلَامُ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ اللِّعَانِ ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْكَاذِبَ التَّوْبَةُ قَالَ : وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ إنَّمَا قَالَهُ قَبْلَ اللِّعَانِ تَحْذِيرًا لَهُمَا مِنْهُ قَالَ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَوْلَى بِسِيَاقِ الْكَلَامِ ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ النُّحَاةِ إنَّ لَفْظَةَ أَحَدٍ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي النَّفْيِ ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْوَصْفِ ، وَلَا تَقَعُ مَوْقِعَ وَاحِدٍ ، وَقَدْ وَقَعَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ وَصْفٍ وَلَا نَفْيٍ ، وَوَقَعَتْ مَوْقِعَ وَاحِدٍ ، وَقَدْ أَجَازَهُ الْمُبَرِّدُ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَفِيهِ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ الْمُتَكَاذِبَيْنِ لَا يُعَاقَبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَإِنْ عَلِمْنَا كَذِبَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْإِبْهَامِ
وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ لِمَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ كَفَّارَةً ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهَا لِأَنَّهُ وَقْتُ الْبَيَانِ ( قُلْت ) وَجَوَابُ الْجُمْهُورِ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ الْحَانِثَ حَتَّى يَأْمُرَهُ بِالْكَفَّارَةِ ، وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَقَدْ حَصَلَ الْبَيَانُ بِأَنَّهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) ( فَأَبَيَا ) أَيْ أَبَى كُلٌّ مِنْهُمَا أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْكَذِبِ ، وَظَاهِرُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ هَذِهِ يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الدَّاوُدِيِّ فَإِنَّ فِيهَا بَعْدَ حِكَايَةِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمَا هَذَا الْكَلَامَ ثَلَاثًا ، وَإِبَائِهِمَا ( فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ) .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ ( مَالِي ) أَيْ طَلَبَ الْمَهْرَ الَّذِي أَصْدَقَهَا إيَّاهُ فَأَجَابَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ بِالْمَهْرِ سَوَاءٌ صَدَقَ أَمْ كَذَبَ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ بِالدُّخُولِ ، وَاسْتَوْفَى مَا قُوبِلَ بِهِ ، وَهُوَ الْوَطْءُ ، وَلَوْ مَرَّةً ، وَإِنْ كَانَ كَذَبَ عَلَيْهَا فَهُوَ أَبْعَدُ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ ظَلَمَهَا فِي عِرْضِهَا فَكَيْفَ يَجْمَعُ إلَى ذَلِكَ ظُلْمَهَا فِي مَالِهَا ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقْرَارِ ( الْمَهْرِ ) بِالدُّخُولِ ، وَعَلَى ثُبُوتِ مَهْرِ الْمُلَاعَنَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَالْمَسْأَلَتَانِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِمَا ، وَفِيهِ أَنَّهَا لَوْ صَدَّقَتْهُ ، وَأَقَرَّتْ بِالزِّنَا لَمْ يَسْقُطْ بِذَلِكَ مَهْرُهَا ، أَمَّا لَوْ تَلَاعَنَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا كَغَيْرِهَا لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهِ ، وَحَكَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ لَيْسَ هَذَا شَيْءٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ فَسْخٌ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَحَكَاهُ الْبَغْدَادِيُّونَ عَنْ الْمَذْهَبِ ( قُلْت ) وَهُوَ مُقْتَضَى إطْلَاقِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ سُقُوطَ جَمِيعِ الْمَهْرِ بِالْفَسْخِ قَبْلَ الْمَسِيسِ قَالَ ابْنُ يُونُسَ : وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّ الْمُلَاعَنَةَ قَبْلَ الْبِنَاءِ لَا صَدَاقَ لَهَا ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ عَلَيْهَا النِّصْفَ انْتَهَى .
وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَتَانِ فِي التَّنْصِيفِ وَالسُّقُوطِ ، وَقَالَ
الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَأَبُو الزِّنَادِ لَهَا الصَّدَاقُ كُلُّهُ إذْ لَيْسَ بِطَلَاقٍ .
وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ .
قَالَ هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ ؟ قَالَ نَعَمْ .
قَالَ فَمَا أَلْوَانُهَا ؟ قَالَ حُمْرٌ ، قَالَ فِيهَا أَوْرَقُ ؟ قَالَ إنَّ فِيهَا لَوُرْقًا ، قَالَ أَنَّى أَتَاهُ ذَلِكَ ؟ قَالَ عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ ، قَالَ : وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ حِينَئِذٍ يُعَرِّضُ بِأَنْ يَنْفِيَهُ قَالَ : وَزَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ قَالَ : وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ }
الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ قَالَ هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَا أَلْوَانُهَا ؟ قَالَ حُمْرٌ قَالَ هَلْ فِيهَا أَوْرَقُ ؟ قَالَ إنَّ فِيهَا لَوُرْقًا .
قَالَ : أَنَّى أَتَاهُ ذَلِكَ ؟ قَالَ عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ قَالَ : وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ ، وَفِيهِ وَهُوَ حِينَئِذٍ تَعَرَّضَ بِأَنْ يَنْفِيَهُ ، وَفِيهِ وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، وَفِي آخِرِهِ { فَمِنْ أَجْلِ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا لَا يَجُوزُ لِرَجُلٍ أَنْ يَنْتَفِيَ مِنْ وَلَدٍ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ إلَّا أَنْ يَزْعُمَ أَنَّهُ رَأَى فَاحِشَةً } خَمْسَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ ، وَهُوَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ ، وَإِنِّي أَنْكَرْته ، وَفِيهِ وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الِانْتِفَاءِ مِنْهُ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مُسْلِمٌ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ، وَلَمْ يَسُقْ أَبُو دَاوُد بَقِيَّةَ لَفْظِهِ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي
الْعِلَلِ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ رَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ مُرْسَلًا قَالَ : وَقِيلَ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ ، وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَكَذَلِكَ قِيلَ عَنْ التابلتي عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا ، وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ غَيْرَ مَنْ قَدَّمْنَا ذِكْرُهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ يُونُسَ ، وَقَالَ لَمْ يُتَابِعْ عَلَيْهِ ، وَالْمَحْفُوظُ حَدِيثُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ } هُوَ بِفَتْحِ الْفَاءِ ، وَبِالزَّايِ ، وَبَعْدَ الْأَلْفِ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ ، وَاسْمُ هَذَا الرَّجُلِ ضَمْضَمُ بْنُ قَتَادَةَ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ بَشْكُوَالَ ، وَابْنُ طَاهِرٍ قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ : وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنْيِ عِجْلٍ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ { إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ } تَعْرِيضٌ بِنَفْيِهِ لِمُخَالَفَةِ لَوْنِهِ لِلَوْنِهِ [ إذْ ] هُوَ كَانَ أَبْيَضَ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ يُعَرِّضُ بِأَنْ يَنْفِيَهُ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَإِنِّي أَنْكَرْته فَمَعْنَاهُ اسْتَنْكَرْت بِقَلْبِي أَنْ يَكُونَ مِنِّي ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ نَفْيَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ ، وَفِيهِ أَنَّ التَّعْرِيضَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لَيْسَ نَفْيًا .
( الرَّابِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لَيْسَ قَذْفًا ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ ، وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إلَى وُجُوبِ الْحَدِّ بِالتَّعْرِيضِ إذَا كَانَ مَفْهُومًا ، وَأَجَابَ عَنْهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجِبْ بِهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ لَطِيفٌ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْعَيْبَ ، وَكَانَ عَلَى جِهَةِ الشَّكْوَى أَوْ الِاسْتِفْتَاءِ ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بَعْدَ ذِكْرِهِ إنَّ فِيهِ
مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ التَّعْرِيضَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لَا يُوجِبُ حَدًّا كَذَا قِيلَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِانْتِفَاءِ الْحَدِّ أَوْ التَّعْزِيرِ عَنْ الْمُسْتَفْتِينَ .
( الْخَامِسَةُ ) الْأَوْرَقُ هُوَ الَّذِي فِيهِ سَوَادٌ لَيْسَ بِحَالِكٍ بَلْ يَمِيلُ إلَى الْغَبَرَةِ ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّمَادِ أَوْرَقُ ، وَلِلْحَمَامَةِ وَرْقَاءُ ، وَالْجَمْعُ وُرْقٌ بِضَمِّ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ كَأَحْمَرَ وَحُمْرٌ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ ( أَنَّى ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ أَيْ مِمَّنْ أَتَاهُ هَذَا اللَّوْنُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلَوْنِ أَبَوَيْهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْعِرْقِ هُنَا الْأَصْلُ مِنْ النَّسَبِ تَشْبِيهًا بِعِرْقِ الشَّجَرَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فُلَانٌ مُعَرَّقٌ فِي النَّسَبِ وَالْحَسَبِ ، وَفِي اللُّؤْمِ وَالْكَرَمِ ، وَمَعْنَى نَزَعَهُ أَشْبَهَهُ وَاجْتَذَبَهُ إلَيْهِ وَأَظْهَرَ لَوْنَهُ عَلَيْهِ ، وَأَصْلُ النَّزْعِ الْجَذْبُ فَكَأَنَّهُ جَذَبَهُ إلَيْهِ لِشَبَهِهِ يُقَالُ مِنْهُ نَزَعَ الْوَلَدُ لِأَبِيهِ ، وَإِلَى أَبِيهِ ، وَنَزَعَهُ أَبُوهُ إلَيْهِ .
( السَّابِعَةُ ) وَفِيهِ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ ، وَتَشْبِيهُ الْمَجْهُولِ بِالْمَعْلُومِ لِأَنَّ هَذَا السَّائِلَ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا فِي الْآدَمِيِّينَ فَشَبَّهَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَعْرِفُهُ هُوَ ، وَيَأْلَفُهُ ، وَلَا يُنْكِرُهُ ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ الْأُصُولِ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسٍ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَبَّهَ هَذَا الرَّجُلَ الْمُخَالِفَ لِلَوْنِهِ بِوَلَدِ الْإِبِلِ الْمُخَالِفِ لِأَلْوَانِهَا ، وَذَكَرَ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ ، وَهِيَ نُزُوعُ الْعِرْقِ ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إلَّا أَنَّهُ تَشْبِيهٌ فِي أَمْرٍ وُجُودِيٍّ ، وَاَلَّذِي حَصَلَتْ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ هُوَ التَّشْبِيهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ انْتَهَى قَالَ الْخَطَّابِيُّ ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ .
( الثَّامِنَةُ ) وَفِيهِ أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ الزَّوْجَ ، وَإِنْ خَالَفَ لَوْنُهُ لَوْنَهُ حَتَّى لَوْ كَانَ الْأَبُ أَبْيَضَ ، وَالْوَلَدُ أَسْوَدَ ، وَعَكْسُهُ لَحِقَهُ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ نَفْيُهُ بِمُجَرَّدِ الْمُخَالَفَةِ فِي اللَّوْنِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجَانِ أَبْيَضَيْنِ فَجَاءَ الْوَلَدُ أَسْوَدَ أَوْ عَكْسُهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ مِنْ أَحَدِ أَسْلَافِهِ ، وَقَدْ جَزَمَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ بِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْأُدْمَةِ وَالسُّمْرَةِ وَالشُّقْرَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْبَيَاضِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ بِالْبَيَاضِ ، وَالسَّوَادِ فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ بِذَلِكَ ، وَأَطْلَقَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ نَفْيَ الْخِلَافِ فِيهِ ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ فِي مَذْهَبِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ إنْ لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ قَرِينَةُ الزِّنَا حَرُمَ النَّفْيُ ، وَإِنْ انْضَمَّتْ أَوْ كَانَ مُتَّهِمَهَا بِرَجُلٍ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ عَلَى لَوْنِ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَفِيهِ ، وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ ، وَصَاحِبَيْ الْحَاوِي ، وَالْعُدَّةِ وَالنَّوَوِيِّ تَحْرِيمُ النَّفْيِ أَيْضًا ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَنْدَنِيجِيِّ وَالرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا جَوَازُهُ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ، وَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَيْ وَهِيَ مَا إذَا كَانَ الزَّوْجَانِ أَبْيَضَيْنِ فَجَاءَ الْوَلَدُ أَسْوَدَ أَوْ عَكْسُهُ وَجْهٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ ( قُلْت ) إنْ كَانَ هَذَا الْوَجْهُ فِيمَا إذَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ قَرِينَةُ الزِّنَا فَلَمْ يَحْكِهِ هُوَ فِي الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِلرَّافِعِيِّ نَعَمْ حَكَاهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْكِفَايَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ انْضِمَامِهَا فَلَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ غَلَطٌ فَقَدْ صَحَّحَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ يَجُوزُ النَّفْيُ مَعَ الْقَرِينَةِ ، وَالْخِلَافُ عِنْدَ عَدَمِهَا ، وَهُوَ عَكْسُ التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرَهُ
أَصْحَابُنَا .
( التَّاسِعَةُ ) فِيهِ الِاحْتِيَاطُ لِلْأَنْسَابِ ، وَإِثْبَاتُهَا بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ ، وَالْإِمْكَانِ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ الزَّجْرُ عَنْ تَحْقِيقِ ظَنِّ السُّوءِ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّسَلْسُلِ الْعَقْلِيِّ ، وَأَنَّ الْحَوَادِثَ لَا بُدَّ لَهَا أَنْ تَسْتَنِدَ إلَى أَوَّلٍ لَيْسَ بِحَادِثٍ كَمَا يُعْرَفُ فِي الْأُصُولِ الْكَلَامِيَّةِ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِيهِ إنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ مِنِّي لَيْسَ قَذْفًا لِأُمِّهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِغَيْرِهِ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ مِنْ زَوْجٍ مُتَقَدِّمٍ ( قُلْت ) لَمْ يَصْدُرْ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ مِنِّي ، وَإِنَّمَا عَرَّضَ بِذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ .
بَابُ لِحَاقِ النَّسَبِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ لِأَخِيهِ سَعْدٍ تَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ جَارِيَةِ زَمْعَةَ ابْنِي ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ رَأَى سَعْدٌ الْغُلَامَ فَعَرَفَهُ بِالشَّبَهِ فَاحْتَضَنَهُ إلَيْهِ ، وَقَالَ ابْنُ أَخِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ فَجَاءَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ بَلْ هُوَ أَخِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ جَارِيَتِهِ فَانْطَلَقَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ابْنُ أَخِي اُنْظُرْ إلَى شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَهًا لَمْ يَرَ النَّاسُ شَبَهًا أَبْيَنَ مِنْهُ بِعُتْبَةَ ، فَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ أَخِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ جَارِيَتِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَوَاَللَّهِ مَا رَآهَا حَتَّى مَاتَتْ } زَادَ الشَّيْخَانِ فِي رِوَايَةٍ { وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } وَزَادَ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بَعْدَ قَوْلِهِ ، { وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ فَلَيْسَ لَك بِأَخٍ } ، وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَاهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ } .
بَابُ لِحَاقِ النَّسَبِ .
الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ لِأَخِيهِ سَعْدٍ تَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ جَارِيَةِ زَمْعَةَ ابْنِي قَالَتْ عَائِشَةُ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ رَأْي سَعْدٌ الْغُلَامَ فَعَرَفَهُ بِالشَّبَهِ فَاحْتَضَنَهُ إلَيْهِ ، وَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ فَجَاءَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ بَلْ هُوَ أَخِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ جَارِيَتِهِ فَانْطَلَقَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا ابْنُ أَخِي اُنْظُرْ إلَى شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَهًا لَمْ يَرَ النَّاسُ شَبَهًا أَبْيَنَ مِنْهُ بِعَيْنِهِ فَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلْ هُوَ أَخِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي مِنْ جَارِيَتِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ فَوَاَللَّهِ مَا رَآهَا حَتَّى مَاتَتْ } .
الْحَدِيثُ الثَّانِي ، وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَاهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ ، وَابْنِ مَاجَهْ هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد هُوَ أَخُوك يَا عَبْدُ ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، وَفِيهِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، وَفِيهِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، وَعَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ ، وَعَمْرٍو النَّاقِدِ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ زُهَيْرٌ كَمَا هُنَا عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَقَالَ عَمْرٌو ثَنَا سُفْيَانُ مَرَّةً عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ ، وَأَبِي سَلَمَةَ ، وَمَرَّةً عَنْ سَعِيدٍ أَوْ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، وَمَرَّةً عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ بِهِ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَقَدْ رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدٍ ، وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ ، وَأَبِي سَلَمَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَبَيَّنَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ الِاخْتِلَافَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي ذَلِكَ ، وَأَنَّ مِنْ أَوْجُهِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيَّ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَحْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ثُمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ ، وَهُوَ مَحْفُوظٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْهُمَا يَعْنِي عَنْ سَعِيدٍ ، وَأَبِي سَلَمَةَ ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ ( تَعَلَّمْ ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ اعْلَمْ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ تَعَلَّمْ شِفَاءَ النَّفْسِ قَهْرَ عَدُوِّهَا فَبَالِغِ بِلَفْظٍ فِي التَّحَيُّلِ وَالْمَكْرِ وَهَذَا الِابْنُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَمْعَةَ بِفَتْحِ الزَّايِ
وَإِسْكَانِ الْمِيمِ ، وَرُوِيَ بِفَتْحِهَا أَيْضًا .
( الثَّالِثَةُ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْتِنُونَ الْوَلَائِدَ ، وَيَضْرِبُونَ عَلَيْهِنَّ الضَّرَائِبَ فَيَكْتَسِبْنَ بِالْفُجُورِ ، وَكَانَ مِنْ سِيرَتِهِمْ إلْحَاقُ النَّسَبِ بِالزُّنَاةِ إذَا ادَّعَوْا الْوَلَدَ كَهُوَ فِي النِّكَاحِ ، وَكَانَتْ لِزَمْعَةَ أَمَةٌ كَانَ يُلِمُّ بِهَا ، وَكَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا ضَرِيبَةٌ فَظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَهَلَكَ عُتْبَةُ كَافِرًا لَمْ يُسْلِمْ فَعَهِدَ إلَى سَعْدٍ أَخِيهِ أَنْ يَسْتَلْحِقَ الْحَمْلَ الَّذِي بِأَمَةِ زَمْعَةَ ، وَكَانَ لِزَمْعَةَ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدٌ فَخَاصَمَ سَعْدٌ عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ فِي الْغُلَامِ الَّذِي وَلَدَتْهُ الْأَمَةُ فَقَالَ سَعْدٌ هُوَ ابْنُ أَخِي عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ .
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ بَلْ هُوَ أَخِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي عَلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي الْإِسْلَامِ ، قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ ، وَبَطَلَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ، وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ نَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فَمَنْ اعْتَرَفَتْ الْأُمُّ أَنَّهُ لَهُ أَلْحَقُوهُ بِهِ ، وَقَالَ : وَلَمْ يَكُنْ حَصَلَ إلْحَاقُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إمَّا لِعَدَمِ الدَّعْوَى ، وَإِمَّا لِكَوْنِ الْأُمِّ لَمْ تَعْتَرِفْ بِهِ لِعُتْبَةَ ، وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ فَمَنْ أَلْحَقَتْهُ الْمَزْنِيُّ بِهَا الْتَحَقَ بِهِ ، وَمَنْ أَلْحَقَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ الزُّنَاةِ بِهَا الْتَحَقَ بِهِ إذَا لَمْ يُنَازِعْهُ غَيْرُهُ ، وَقَالَ : وَكَأَنَّ عَبْدًا قَدْ سَمِعَ أَنَّ الشَّرْعَ يُلْحِقُ بِالْفِرَاشِ ، وَإِلَّا فَلَمْ تَكُنْ عَادَتُهُمْ الْإِلْحَاقَ بِهِ .
( الرَّابِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِلْحَاقَ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَبِ بَلْ يَجُوزُ مِنْ الْأَخِ لِأَنَّ الْمُسْتَلْحِقَ هُنَا أَخُو الْمُسْتَلْحِقِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَجَمَاعَةٌ لَكِنْ بِشُرُوطٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنْ يَكُونَ حَائِزًا لِلْإِرْثِ أَوْ يَسْتَلْحِقُهُ كُلُّ الْوَرَثَةِ ( ثَانِيهَا ) أَنْ يُمْكِنَ كَوْنُ الْمُسْتَلْحَقِ وَلَدًا لِلْمَيِّتِ ( ثَالِثُهَا ) أَنْ لَا يَكُونَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ ( رَابِعُهَا ) أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُسْتَلْحَقُ إنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا قَالَ الْخَطَّابِيُّ فَإِنْ قِيلَ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ لَمْ يُقِرُّوا بِهِ بَلْ عَبْدٌ فَقَطْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِزَمْعَةَ يَوْمَ مَاتَ ، وَارِثٌ غَيْرُ عَبْدٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ ، وَقَدْ لَا يُنْكَرُ أَيْضًا إنْ ثَبَتَ أَنَّ سَوْدَةَ وَارِثَةٌ أَنْ تَكُونَ وَكَّلَتْ أَخَاهَا فِي الدَّعْوَى أَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ تَأَوَّلَهُ أَصْحَابُنَا تَأْوِيلَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ سَوْدَةَ اسْتَلْحَقَتْهُ أَيْضًا ، وَ ( الثَّانِي ) أَنَّ زَمْعَةَ مَاتَ كَافِرًا فَلَمْ تَرِثْهُ سَوْدَةُ لِكَوْنِهَا مُسْلِمَةً وَوَرِثَهُ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ انْتَهَى .
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ إلَى اخْتِصَاصِ الِاسْتِلْحَاقِ بِالْأَبِ ، وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِجَوَابَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِهِ بِمُجَرَّدِ نِسْبَةِ الْأُخُوَّةِ فَلَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ وَطْءَ زَمْعَةَ تِلْكَ الْأَمَةِ بِطَرِيقٍ اعْتَمَدَهَا مِنْ اعْتِرَافٍ أَوْ غَيْرِهِ فَحَكَمَ بِذَلِكَ لَا بِاسْتِلْحَاقِ الْأَخِ ، وَ ( الثَّانِي ) إنَّ حُكْمَهُ بِهِ لَهُ لَمْ يَكُنْ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِلْحَاقِ بَلْ بِالْفِرَاشِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَهَذَا تَقْعِيدُ قَاعِدَةٍ فَإِنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ إلْحَاقُ هَذَا الْوَلَدِ بِالزَّانِي لَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يُلْحَقَ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ إذْ قَدْ دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا
ذَكَرَهُمَا أَبُو الْعَبَّاسِ ، وَقَالَ إنَّ الثَّانِيَ أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ ( قُلْت ) هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إلَّا بِالْوَطْءِ فَجَوَابُ الْمَالِكِيَّةِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ إلْحَاقَ هَذَا الْوَلَدِ بِزَمْعَةَ لِلْفِرَاشِ الَّذِي قَدْ عُلِمَ بِثُبُوتِ الْوَطْءِ لَا بِاسْتِلْحَاقِ الْأَخِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ أَنَّ الْأَمَةَ تَكُونُ فِرَاشًا ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ مِلْكِهَا فَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ فَإِذَا اعْتَرَفَ سَيِّدُهَا بِوَطْئِهَا أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَأَنْ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ فَإِذَا أَتَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ بِوَلَدٍ أَوْ أَوْلَادٍ لِمُدَّةِ الْإِمْكَانِ لَحِقُوهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِلْحَاقٍ كَالزَّوْجَةِ إلَّا أَنَّ تِلْكَ فِرَاشٌ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا ، وَالْأَمَةُ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إلَّا بِالْوَطْءِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الزَّوْجَةَ تُرَادُ لِلْوَطْءِ خَاصَّةً فَجُعِلَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا كَالْوَطْءِ .
وَأَمَّا الْأَمَةُ فَتُرَادُ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ ، وَأَنْوَاعٍ مِنْ الْمَنَافِعِ غَيْرَ الْوَطْءِ ، وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ أُخْتَيْنِ ، وَأُمًّا ، وَبِنْتَهَا ، وَلَا يَجُوزُ جَمْعُهُمَا بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَلَمْ تَصِرْ بِنَفْسِ الْمِلْكِ فِرَاشًا حَتَّى يَطَأَهَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إلَّا إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا ، وَاسْتَلْحَقَهُ فَمَا تَأَتَّى بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْحَقُهُ إلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ ، وَاعْتَبَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ اعْتِرَافَهُ بِوَطْئِهَا فِي كُلِّ وَلَدٍ تَأْتِي بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْحَمْلِ فَهَلْ يَلْحَقُهُ عَلَى وَجْهَيْنِ قَالَ : وَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ أَوَّلًا فَاسْتَلْحَقَهُ لَمْ يَلْحَقْهُ مَا بَعْدَهُ إلَّا بِإِقْرَارٍ مُسْتَأْنَفٍ ، وَقِيلَ يَلْحَقُهُ ا هـ .
وَهَذَا غَيْرُ الْمَذْهَبَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فَإِنَّهُ اكْتَفَى بِالِاعْتِرَافِ بِالْوَطْءِ أَوَّلًا عَنْ الِاسْتِلْحَاقِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِاسْتِلْحَاقِ وَلَدٍ فِي لِحَاقِ مَا بَعْدَهُ إلَّا بِإِقْرَارٍ مُسْتَأْنَفٍ ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِلْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِزَمْعَةَ وَلَدٌ آخَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ قَبْلَ هَذَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَإِنْ قِيلَ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ زَمْعَةَ كَانَ قَدْ وَطِئَهَا قُلْنَا لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهَا
لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إلَّا بِالْوَطْءِ قَالَ النَّوَوِيُّ : وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ مَصِيرُ أَمَةِ أَبِيهِ فِرَاشًا لِزَمْعَةَ فَلِهَذَا أَلْحَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ انْتَهَى .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأُمِّ أَنَّ بَعْضَ الْمَشْرِقِيِّينَ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ انْتَفَى مِنْ وَلَدِ جَارِيَةٍ لَهُ ثُمَّ قَالَ أَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ حَمْلَ جَارِيَةٍ لَهُ أَقَرَّتْ بِالْمَكْرُوهِ .
وَأَمَّا زَيْدٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَعَرَفَا أَنْ لَيْسَ مِنْهُمَا فَحَلَالٌ لَهُمَا ، وَكَذَلِكَ لِزَوْجِ الْحُرَّةِ إذَا عَلَّمَ أَنَّهَا حَبِلَتْ مِنْ زِنًا أَنْ يَدْفَعَ وَلَدَهَا ، وَلَا يُلْحِقُ بِنَسَبِهِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ بَعْدَ نَقْلِهِ قَوْلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ أَحَدَكُمْ لَا يُقِرُّ بِإِصَابَتِهِ جَارِيَتَهُ إلَّا أَلْحَقَتْ بِهِ الْوَلَدَ مَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا لِصَاحِبٍ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ زَيْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ ( قُلْت ) الِانْتِفَاءُ مِنْ الْوَلَدِ يَدُلُّ عَلَى لِحَاقِ نَسَبِهِ بِهِ ، وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَى النَّفْيِ فَفِعْلُ زَيْدٌ وَابْنِ عَبَّاسٍ مُوَافِقٌ لَنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيّ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مَنَعَ مِنْ صَيْرُورَةِ الْأَمَةِ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ ، وَقَالَ لَا يَلْحَقُهُ إلَّا بِاعْتِرَافِهِ ، وَحَمَلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى الزَّوْجَةِ ، وَأَخْرَجَ الْأَمَةَ عَنْ عُمُومِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنَّ هَذَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ ، وَهِيَ الْأَمَةُ الْمَوْطُوءَةُ .
قَالَ الْإِمَامُ فَتَوَهَّمَ الْوَاقِفُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ إنَّ الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ ، وَمُرَادُهُ أَنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ عِنْدَ الْعُمُومِ قَطْعًا ، وَالْأَمَةُ هِيَ السَّبَبُ فِي وُرُودِ الْعُمُومِ فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا ا هـ .
وَمِمَّنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، وَالْغَزَالِيُّ ، وَالْآمِدِيُّ ، وَابْنُ الْحَاجِبِ فَنَقَلُوا عَنْ الشَّافِعِيِّ ( الْعِبْرَةَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ ) وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ ، وَقَالَ مَا تَقَدَّمَ .
( السَّادِسَةُ ) فِيهِ أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ فِي الزَّوْجَةِ أَيْضًا أَخْذًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ فَلَوْ نَكَحَ مَشْرِقِيٌّ مَغْرِبِيَّةً ، وَلَمْ يُفَارِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَطَنَهُ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَلْحَقْهُ لِعَدَمِ إمْكَانِ كَوْنِهِ مِنْهُ ، وَكَذَا لَوْ اجْتَمَعَا لَكِنْ أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ إمْكَانِ اجْتِمَاعِهِمَا لَمْ يَلْحَقْهُ أَيْضًا .
هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا أَبَا حَنِيفَةَ فَلَمْ يَشْتَرِطْ الْإِمْكَانَ بَلْ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَ عَقِبَ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ إمْكَانِ وَطْءٍ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْعَقْدِ لَحِقَهُ الْوَلَدُ قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي إطْلَاقِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ ، وَهُوَ حُصُولُ الْإِمْكَانِ عِنْدَ الْعَقْدِ .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ الْفِرَاشُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ الْمَوْطُوءَةِ لِأَنَّ الْوَاطِئَ يَسْتَفْرِشُهَا أَيْ يُصَيِّرُهَا كَالْفِرَاشِ ، وَيَعْنِي بِهِ أَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِالْوَاطِئِ قَالَ الْإِمَامُ ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْمِلُونَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَاحِبُ الْفِرَاشِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطُوا إمْكَانَ الْوَطْءِ فِي الْحُرَّةِ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ جَرِيرٍ بَاتَتْ تُعَانِقُهُ وَبَاتَ فِرَاشُهَا خَلِقَ الْعَبَاءَةِ فِي الدِّمَاءِ قَتِيلًا يَعْنِي زَوْجَهَا ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاشْتِقَاقِ ، وَلِأَنَّ مَا قَدَّرَهُ مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَلَا مَا يُحْوِجُ إلَيْهِ ، انْتَهَى .
وَفِيهِ تَنَاقُضٌ لِأَنَّهُ نَقَلَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ التَّقْدِيرَ صَاحِبُ الْفِرَاشِ قَالَ ، وَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ ، وَنُقِلَ عَنْهُمْ الِاحْتِجَاجُ بِإِطْلَاقِ جَرِيرٍ الْفِرَاشَ عَلَى الزَّوْجِ وَرَدَّهُ لِمُخَالَفَتِهِ الِاشْتِقَاقَ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ
التَّقْدِيرِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّهُ مَعَ التَّقْدِيرِ لَا مُخَالَفَةَ فِي الِاشْتِقَاقِ ، وَالْحَقُّ مَا حُكِيَ عَنْهُمْ مِنْ تَقْدِيرِ صَاحِبِ الْفِرَاشِ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بُرُوزُ هَذَا الْمُضَافِ فِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ مَقْصُودُهُمْ مِنْ اللِّحَاقِ بِلَا إمْكَانٍ لِخُرُوجِهِ عَلَى الْغَالِبِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْإِمْكَانِ لَحَصَلَ مَقْصُودُهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ الْمُضَافُ الْمَذْكُورُ فَفِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ نَظَرٌ مِنْ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) مَا ذَكَرْته مِنْ التَّنَاقُضِ .
( ثَانِيهَا ) كَوْنُهُ رُدَّ تَقْدِيرًا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ ، وَقَدْ قَدَّرَهُ كَذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ .
( ثَالِثُهَا ) مَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ مِنْ حُصُولِ مَقْصُودِهِمْ مَعَ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ لَا مَعَ تَقْدِيرِهِ .
( رَابِعُهَا ) كَيْفَ يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْجُمْهُورِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْفِرَاشِ هُوَ الْمَوْطُوءُ لِأَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْوَلَدَ لِلْمَوْطُوءَةِ ، وَلَيْسَ هَذَا الْمُرَادَ قَطْعًا فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرٍ .
( خَامِسُهَا ) الْعَجَبُ أَنَّهُ قَالَ إنَّ الْفِرَاشَ هُوَ الْمَوْطُوءَةُ ثُمَّ قَالَ ، وَيَعْنِي أَنَّ الْوَلَدَ لَاحِقٌ بِالْوَاطِئِ فَكَيْفَ حُمِلَ لَفْظٌ لِلْفِرَاشِ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ ثُمَّ جُعِلَ الْحُكْمُ اللِّحَاقَ بِالْوَاطِئِ ، وَهَلْ يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ إلَّا مَعَ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ الْمَذْكُورِ ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ قَوْلُهُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ أَيْ تَابِعٌ لِلْفِرَاشِ أَوْ مَحْكُومٌ بِهِ لِلْفِرَاشِ أَوْ مَا يُقَارِبُ هَذَا .
( السَّابِعَةُ ) فِيهِ أَنَّ حُكْمَ الشُّبْهَةِ ، وَحُكْمَ الْقَافَةِ إنَّمَا يُعْتَمَدُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَقْوَى مِنْهُ كَالْفِرَاشِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَلْحَقَ بِالْفِرَاشِ مَعَ الشَّبَهِ الْبَيِّنِ بِغَيْرِهِ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى الشَّبَهِ مَعَ اعْتِمَادِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَذَلِكَ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ ، وَهُوَ الْفِرَاشُ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَمْ يَحْكُمْ بِالشَّبَهِ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مَعَ أَنَّهُ جَاءَ عَلَى الشَّبَهِ الْمَكْرُوهِ .
( الثَّامِنَةُ ) حُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَنْتَفِي عَمَّنْ لَهُ الْفِرَاشُ لَا بِلِعَانٍ ، وَلَا غَيْرِهِ ، وَهُوَ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ، وَلِكَافَّةِ الْعُلَمَاءِ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ لِوَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى سَبَبِ وَلَدِ الْأَمَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى سَبَبِهِ ( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ قَعَّدَ قَاعِدَةَ اللِّعَانِ فِي حَقِّ الْأَزْوَاجِ ، وَأَنَّ الْوَلَدَ يَنْتَفِي بِالْتِعَانِهِمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ الْعُمُومُ الْمَظْنُونُ مُخَصَّصًا بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمَقْطُوعِ بِهَا ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَصْلِ انْتَهَى .
وَالْجَوَابُ الثَّانِي هُوَ الْمُعْتَمَدُ ، وَلَا يَتَوَقَّفُ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْتِعَانِهِمَا بَلْ يَحْصُلُ ذَلِكَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ تُلَاعِنْ هِيَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ الْأَوَّلُ فَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ ثُمَّ إنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَأْتِي فِي الْأَمَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْأَمَةَ إذَا كَانَتْ فِرَاشًا فَأَتَتْ بِوَلَدٍ فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ نَفْيُهُ إذَا ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ ، وَحَلَفَ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ ، وَخَالَفَ فِيهِ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ قَوْلُهُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ لَهُ مَعْنَيَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) وَهُوَ أَعَمُّهُمَا ، وَأَوْلَاهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ مَا لَمْ يَنْفِهِ رَبُّ الْفِرَاشِ بِاللِّعَانِ الَّذِي نَفَاهُ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا نَفَاهُ بِاللِّعَانِ فَهُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ وَغَيْرُ لَاحِقٍ بِمَنْ ادَّعَاهُ بِزِنًا ، وَإِنْ أَشْبَهَهُ ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي إذَا تَنَازَعَ الْوَلَدَ رَبُّ الْفِرَاشِ ، وَالْعَاهِرُ فَالْوَلَدُ لِرَبِّ الْفِرَاشِ .
( التَّاسِعَةُ ) قَوْلُهُ ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ ، وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَالْحَنَابِلَةِ أَمَرَهَا بِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ ، وَالتَّنَزُّهِ عَنْ الشُّبْهَةِ لِأَنَّهُ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ أَخُوهَا لِأَنَّهُ أُلْحِقَ بِأَبِيهَا لَكِنْ لَمَّا رَأَى الشَّبَهَ الْبَيِّنَ بِعُتْبَةَ خَشِيَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَائِهِ فَيَكُونَ أَجْنَبِيًّا مِنْهَا فَأَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ احْتِيَاطًا قَالَ الْخَطَّابِيُّ .
وَقَدْ كَانَ جَائِزًا أَلَّا يَرَاهَا لَوْ كَانَ أَخَاهَا ثَابِتَ النَّسَبِ ، وَلِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِنَّ مِنْ النِّسَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ } ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِالشَّبَهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِنَوْعٍ مِنْ الِاعْتِبَارِ ثُمَّ لَا يُقْطَعُ الْحُكْمُ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي قِصَّةِ الْمُلَاعَنَةِ إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَمَا أَرَاهُ إلَّا كَذَبَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَمَا أَرَاهُ إلَّا صَدَقَ عَلَيْهَا فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ ثُمَّ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِالشَّبَهِ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ شَيْءٌ أَقْوَى مِنْهُ كَالْحُكْمِ بِالْقَافَةِ .
وَهَذَا كَمَا يُحْكَمُ فِي الْحَادِثَةِ بِالْقِيَاسِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ فَإِنْ وُجِدَ تُرِكَ لَهُ الْقِيَاسُ ، وَفِي قَوْلِهِ هُوَ أَخُوك يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ مَا قَطَعَ الشَّبَهَ ، وَرَفَعَ الْإِشْكَالَ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ احْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَك بِأَخٍ ، وَلَيْسَ بِالثَّابِتِ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَوْلُهُ ( لَيْسَ لَك بِأَخٍ ) لَا يُعْرَفُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَلْ هِيَ زِيَادَةٌ بَاطِلَةٌ مَرْدُودَةٌ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ إنَّهُ لَا يُعْرَفُ مَرْدُودٌ فَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ الزُّبَيْرِ مَوْلًى لَهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَيُوسُفَ
هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ إنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ ، وَتَوَقِّي الشُّبُهَاتِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَغْلِيظِ أَمْرِ الْحِجَابِ فِي حَقِّ سَوْدَةَ لِأَنَّهَا مِنْ زَوْجَاتِهِ ، وَقَدْ غَلَّظَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِنَّ ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِحَفْصَةَ ، وَعَائِشَةَ فِي حَقِّ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ } .
{ وَقَالَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ انْتَقِلِي إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ تَضَعِينَ ثِيَابَك عِنْدَهُ } فَأَبَاحَ لَهَا مَا مَنَعَهُ لِأَزْوَاجِهِ ( قُلْت ) ، وَلِآحَادِ النَّاسِ مَنْعُ زَوْجَتِهِ [ عَنْ ] مَحَارِمِهَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ لَيْسَ فَرْضًا عَلَى الْمَرْأَةِ رُؤْيَةُ أَخِيهَا لَهَا إنَّمَا الْفَرْضُ عَلَيْهَا صِلَةُ رَحِمِهِ فَقَطْ ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ لَا تَصِلَهُ ثُمَّ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " هُوَ لَك أَيْ هُوَ عَبْدُك " ثُمَّ قَالَ الثَّابِتُ أَنَّهُ قَالَ هُوَ أَخُوك ، وَلَوْ قَضَى بِهِ عَبْدًا لَمْ يَلْزَمْهَا أَنْ تَحْتَجِبَ عَنْهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِهِمْ ، وَهُوَ الْحُكْمُ بَيْنَ حُكْمَيْنِ ، وَذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ الْفَرْعُ شَبَهًا مِنْ أُصُولٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَيُعْطِيَ أَحْكَامًا مُتَعَدِّدَةً ، وَلَا تُمْحَضُ لِأَحَدِ الْأُصُولِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِرَاشَ مُقْتَضٍ لِإِلْحَاقِهِ بِزَمْعَةَ ، وَالشَّبَهُ الْبَيِّنُ مُقْتَضٍ لِإِلْحَاقِهِ بِعُتْبَةَ فَرُوعِيَ الْفِرَاشُ فِي النَّسَبِ ، وَأُلْحِقَ بِزَمْعَةَ ، وَرُوعِيَ الشَّبَهُ بِأَمْرِ سَوْدَةَ بِالِاحْتِجَابِ مِنْهُ فَأُعْطِيَ الْفَرْعُ حُكْمًا بَيْنَ حُكْمَيْنِ ، وَلَمْ يُمْحَضْ أَمْرُ الْفِرَاشِ فَتَثْبُتْ الْمَحْرَمِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَوْدَةَ ، وَلَا [ رُوعِيَ ] الشَّبَهُ مُطْلَقًا فَيُلْحَقُ بِعُتْبَةَ ، وَإِلْحَاقُهُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ أَحَدِهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَالَ ، وَيُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِأَنَّ صُورَةَ النِّزَاعِ مَا إذَا دَار الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ يَقْتَضِي الشَّرْعُ إلْحَاقَهُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ إلَيْهِ ، وَهُنَا لَا يَقْتَضِي الشَّرْعُ إلَّا الْإِلْحَاقَ بِالْفِرَاشِ ، وَالشَّبَهُ هُنَا غَيْرُ مُقْتَضٍ لِلْإِلْحَاقِ شَرْعًا فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ بِالِاحْتِجَابِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ لَا عَلَى بَيَانِ وُجُوبِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا تَرْكُ مُبَاحٍ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) اُحْتُجَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ بِالزِّنَا لَهُ حُكْمُ الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّ سَوْدَةَ أُمِرَتْ بِالِاحْتِجَابِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وَطْءَ عُتْبَةَ بِالزِّنَا لَهُ حُكْمُ الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ لَا أَثَرَ لِوَطْءِ الزِّنَا لِعَدَمِ احْتِرَامِهِ بَلْ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَبِنْتَهَا بَلْ زَادَ الشَّافِعِيُّ فَجَوَّزَ الْبِنْتَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ بَاطِلٌ ، وَعَجِيبٌ مِمَّنْ ذَكَرَهُ لِأَنَّ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنْ الزِّنَا فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنْ سَوْدَةَ لَا يَحِلُّ الظُّهُورُ لَهُ سَوَاءٌ أُلْحِقَ بِالزَّانِي أَمْ لَا فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ النَّوَوِيُّ : وَفِيهِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الْأَمْرَ فِي الْبَاطِنِ فَإِذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ زُورٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُحِلْ الْمَحْكُومَ بِهِ لِلْمَحْكُومِ لَهُ قَالَ وَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ ، وَأَنَّهُ أَخٌ لَهُ ، وَلِسَوْدَةِ ، وَاحْتُمِلَ بِسَبَبِ الشَّبَهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ عُتْبَةَ فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ يُحِيلُ الْبَاطِنَ لَمَا أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ ( وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْعَاهِرُ الزَّانِي ، وَعَهَرَ زَنَى ، وَعَهَرَتْ زَنَتْ ، وَالْعَهْرُ الزِّنَا ، وَمَعْنَى لَهُ الْحَجَرُ أَيْ لَهُ الْخَيْبَةُ ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَلَدِ ، وَعَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ تَقُولَ لَهُ الْحَجَرُ ، وَبِفِيهِ الْأَثْلَبُ أَيْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ، وَكَسْرِهَا ، وَإِسْكَانِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ، وَفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ ، وَهُوَ التُّرَابُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَيُرِيدُونَ لَيْسَ لَهُ إلَّا الْخَيْبَةُ ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْحَجَرِ هُنَا أَنَّهُ يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ زَانٍ يُرْجَمُ ، وَإِنَّمَا يُرْجَمُ الْمُحْصَنُ خَاصَّةً ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَجْمِهِ نَفْيُ الْوَلَدِ عَنْهُ ، وَالْحَدِيثُ إنَّمَا وَرَدَ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ عَنْهُ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ ( عَنْ أَحَدِهِمَا أَوْ كِلَاهُمَا ) كَذَا فِي أَصْلِنَا بِالْأَلِفِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَجْعَلُ الْمُثَنَّى بِالْأَلِفِ فِي حَالٍ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ أَحَدُهُمَا بَلْ هُوَ مُسْتَأْنَفٌ أَيْ كِلَاهُمَا يَرْوِيهِ فَحُذِفَ الْخَبَرُ لِلْعِلْمِ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الرَّضَاعِ .
عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إنَّ سَالِمًا كَانَ يُدْعَى لِأَبِي حُذَيْفَةَ ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ ، وَأَنَا فُضُلٌ ، وَنَحْنُ فِي مَنْزِلٍ ضَيِّقٍ فَقَالَ : أَرْضِعِي سَالِمًا تَحْرُمِي عَلَيْهِ } ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { قَالَتْ وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ ، وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا } ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { فَقَالَتْ إنَّهُ ذُو لِحَيَّةٍ فَقَالَ أَرْضِعِيهِ يَذْهَبْ مَا فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ } ، وَلَهُ ( أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَقُولُ أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ أَحَدًا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ ، وَاَللَّهِ مَا نَرَى هَذِهِ إلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ خَاصَّةً ) ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ ، وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ { لَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ مِنْ الثُّدِيِّ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ } ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { لَا رَضَاعَ إلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ } .
بَابُ الرَّضَاعِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْت سُهَيْلٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إنَّ سَالِمًا كَانَ يُدْعَى لِأَبِي حُذَيْفَةَ ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ أَدُعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ ، وَأَنَا فُضُلٌ ، وَنَحْنُ فِي مَنْزِلٍ ضَيِّقٍ فَقَالَ أَرْضِعِي سَالِمًا تَحْرُمِي عَلَيْهِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَأُمِّ سَلَمَةَ { أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ كَانَ تَبَنَّى سَالِمًا ، وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ } .
كَمَا { تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا } ، وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إلَيْهِ ، وَوَرِثَ مِيرَاثَهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } إلَى قَوْلِهِ { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } فَرُدُّوا إلَى آبَائِهِمْ فَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ أَبٌ كَانَ مَوْلًى وَأَخَا فِي الدِّينِ فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيُّ ثُمَّ الْعَامِرِيِّ ، وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا فَكَانَ يَأْوِي مَعِي ، وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ ، وَيَرَانِي فُضُلًا .
وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْت فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضِعِيهِ فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ بَنَاتِ أَخَوَاتِهَا ، وَبَنَاتِ إخْوَتِهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ عَائِشَةُ أَنْ يَرَاهَا ، وَيَدْخُلَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا ، وَأَبَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ، وَسَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَرْضِعَ فِي الْمَهْدِ ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ ، وَاَللَّهِ مَا نَدْرِي لَعَلَّهَا كَانَتْ رُخْصَةً مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ دُونَ النَّاسِ ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدَ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهَا فَاطِمَةُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إنَّهُ الصَّوَابُ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّى سَالِمًا فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ إلَى قَوْلِهِ فَجَاءَتْ سَهْلَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَذَكَرَ } الْحَدِيثَ : وَلَمْ يَسُقْ الْبُخَارِيُّ بَقِيَّتَهُ ، وَسَاقَهَا الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَسَاقَ مِنْهُ إلَى قَوْلِهِ ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ مَا قَدْ عَلِمْت ، وَقَالَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، وَعَزْوُ الْبَيْهَقِيّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَاَلَّتِي قَبْلَهَا لِلْبُخَارِيِّ يُوهِمُ أَنَّهُ أَخْرَجَ مِنْهُ رَضَاعَ الْكَبِيرِ الَّذِي بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَلِهَذَا اقْتَصَرَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى مِنْ الْأَحْكَام عَلَى عَزْوِ الْحَدِيثِ لِمُسْلِمٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ لَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ لَكِنَّهُ سَكَتَ عَلَيْهِ فِي الصُّغْرَى ، وَمُقْتَضَاهُ اتِّفَاقُ الشَّيْخَيْنِ عَلَيْهِ ، وَالْمُرَادُ حِينَئِذٍ أَصْلُ الْحَدِيثِ ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ هَذِهِ إلَى قَوْلِهِ ، وَأَخًا فِي الدِّينِ ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ كِتَابَةً عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَفِيهِ فَأَرْضَعْته خَمْسَ رَضَعَاتٍ ، وَرَوَاهُ
الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ مُرْسَلًا ، وَفِيهِ ، وَقُلْنَ مَا نَرَى الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ إلَّا رُخْصَةً فِي سَالِمٍ وَحْدَهُ ، وَكَذَا هُوَ فِي الْمُوَطَّإِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا يَدْخُلُ فِي الْمُسْنَدِ لِلِقَاءِ عُرْوَةَ عَائِشَةَ ، وَسَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِلِقَاءِ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ وَقَدْ رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مَالِكٍ مُتَّصِلَ الْإِسْنَادِ بِذِكْرِ عَائِشَةَ ثُمَّ رَوَاهُ كَذَلِكَ ثُمَّ حُكِيَ عَنْ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ رَوْحٍ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى ، وَقِيلَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ ، وَذَكَرُوا فِي إسْنَادِهِ عَائِشَةَ أَيْضًا .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ ، وَهُوَ حَلِيفُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضِعِيهِ قَالَتْ وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ ، وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ } .
وَفِي رِوَايَةٍ { ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا } لَفْظُ مُسْلِمٍ ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ ، وَاللَّفْظُ لَهُ ، وَابْنُ مَاجَهْ { ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدُ فَقَالَتْ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا رَأَيْت فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بَعْدَ شَيْئًا أَكْرَهُهُ } ثُمَّ قَالَ النَّسَائِيُّ خَالَفَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فَأَرْسَلَ الْحَدِيثَ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ ، وَفِيهِ قَالَتْ ، وَهُوَ
شَيْخٌ كَبِيرٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَ لَسْت أَعْلَمُ أَنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ ، وَفِيهِ أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ ، وَيَذْهَبُ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ فَرَجَعَتْ إلَيْهِ فَقَالَتْ إنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، وَرَبِيعَةَ الرَّأْيِ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَتَّى تَذْهَبَ غِيرَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ فَأَرْضَعَتْهُ ، وَهُوَ رَجُلٌ } .
قَالَ رَبِيعَةُ ، وَكَانَتْ رُخْصَةَ سَالِمٍ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ { سَمِعْت أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ لِعَائِشَةَ ، وَاَللَّهِ مَا تَطِيبُ نَفْسِي أَنْ يَرَانِي الْغُلَامُ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَتْ لِمَ ، قَدْ جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَأَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضِعِيهِ فَقَالَتْ إنَّهُ ذُو لِحْيَةٍ فَقَالَ أَرْضِعِيهِ يَذْهَبْ مَا فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ فَقَالَتْ ، وَاَللَّهِ مَا عَرَفْته فِي وَجْه أَبِي حُذَيْفَةَ } .
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيق ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { لَقَدْ نَزَلَتْ آيَةُ الرَّجْمِ ، وَرَضَاعَةِ الْكَبِيرِ عَشْرًا ، وَلَقَدْ كَانَتْ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ سَرِيرِي فَلَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَشَاغَلْنَا بِمَوْتِهِ دَخَلَ دَاجِنٌ فَأَكَلَهَا } .
( الثَّانِيَةُ ) سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ تَزَوَّجَهَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بَعْدَ اسْتِشْهَادِ زَوْجِهَا بِالْيَمَامَةِ ، وَسَالِمٌ هُوَ ابْنُ مَعْقِلٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ ، وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ، وَكَسْرِ الْقَافِ يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ كَانَ مِنْ الْفُرْسِ يُكَنَّى عَبْدًا لِثُبَيْتَةَ بِضَمِّ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ، وَبِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ، وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتِ بَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقُ .
وَقِيلَ : بُثَيْنَةُ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ، وَفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ ، وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ بَعْدَهَا نُونٌ ، وَقِيلَ عَمْرَةُ ، وَقِيلَ سَلْمَى بِنْتُ يَعَارٍ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ ، وَقِيلَ الْمُثَنَّاةُ مِنْ فَوْقُ الْأَنْصَارِيَّةُ فَأَعْتَقَتْ سَائِبَةً فَانْقَطَعَ إلَى أَبِي حُذَيْفَةَ ، وَهُوَ ابْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَاسْمُهُ قَيْسٌ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ ، وَحَكَاهُ عَنْ ابْنِ الْيَرَقِيِّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي الِاسْتِيعَابِ بَلْ قَالَ يُقَالُ اسْمُهُ مِهْشَمٌ ، وَيُقَالُ هُشَيْمِ وَقِيلَ هَاشِمٌ فَتَبَنَّاهُ حَتَّى جَاءَ الشَّرْعُ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ ، وَكَانَا مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ ، وَاسْتُشْهِدَا بِالْيَمَامَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فَوُجِدَ رَأْسُ أَحَدِهِمَا عِنْدَ رِجْلَيْ الْآخَرِ ، وَقَوْلُهَا كَانَ يُدْعَى لِأَبِي حُذَيْفَةَ أَيْ يُنْسَبَ إلَيْهِ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهَا ( وَأَنَا فُضُلٌ ) بِضَمِّ الْفَاءِ ، وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ أَيْ ، وَأَنَا مُتَبَذِّلَةٌ فِي ثِيَابِ مَهْنَتِي يُقَالُ تَفَضَّلَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تَبَدَّلَتْ فِي ثِيَابِ مَهْنَتِهَا ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، وَزَادَ أَوْ كَانَتْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ الْخَلِيلُ : رَجُلٌ مُتَفَضِّلٌ ، وَفُضُلٌ إذَا تَوَشَّحَ بِثَوْبٍ فَخَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ قَالَ ، وَيُقَالُ امْرَأَةٌ فُضُلٌ ، وَثَوْبٌ فُضُلٌ فَمَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدِي أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا ، وَهِيَ مُنْكَشِفٌ بَعْضُهَا مِثْلَ الشَّعْرِ ،
وَالْيَدِ ، وَالْوَجْهِ يَدْخُلُ عَلَيْهَا ، وَهِيَ كَيْفَ أَمْكَنَهَا .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ فُضُلٌ مَكْشُوفَةُ الرَّأْسِ ، وَالصَّدْرِ ، وَقِيلَ الْفُضُلُ الَّذِي عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ ، وَلَا إزَارَ تَحْتَهُ ، وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّ انْكِشَافَ الصَّدْرِ مِنْ الْحُرَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَى أَهْلِ الدِّينِ عِنْدَ ذِي مَحْرَمٍ فَضْلًا عَنْ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ لِأَنَّ الْحُرَّةَ عَوْرَةٌ مُجْتَمَعٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا إلَّا وَجْهَهَا ، وَكَفَّيْهَا انْتَهَى .
وَيُوَافِقُ مَا صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلُ الصَّحَاحِ تَفَضَّلَتْ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا إذَا كَانَتْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ كَالْخَيْعَلِ ، وَنَحْوِهِ أَيْ ، وَهُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ، وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ قَمِيصٌ لَيْسَ لَهُ كُمَّانِ ، وَذَلِكَ الثَّوْبُ مِفْضَلٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ ، وَالْمَرْأَةُ فُضُلٌ بِالضَّمِّ مِثَالَ جُنُبٍ ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ ، وَإِنَّهُ لَحَسَنُ الْفَضْلَةِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ مِثَالَ الْجِلْسَةِ وَالرِّكْبَةِ ، وَيُوَافِقُ الْمَحْكِيَّ عَنْ الْخَلِيلِ كَلَامُ صَاحِبِ الْمُحْكَمِ فَقَالَ التَّفَضُّلُ التَّوَشُّحُ ، وَأَنْ يُخَالِفَ اللَّابِسَ بَيْنَ أَطْرَافِ ثَوْبِهِ عَلَى عَاتِقِهِ يُقَالُ ثَوْبٌ فُضُلٌ ، وَرَجُلٌ مُتَفَضِّلٌ ، وَفُضُلٌ ، وَكَذَلِكَ الْأُنْثَى ، وَالْمُفْضَلُ ، وَالْمُفْضَلَةُ الثَّوْبُ الَّذِي تَتَفَضَّلُ فِيهِ الْمَرْأَةُ انْتَهَى .
( الرَّابِعَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الرَّضَاعِ بِإِرْضَاعِ الْبَالِغِ كَمَا يَثْبُتُ بِإِرْضَاعِ الطِّفْلِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ ، وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ ، وَحَكَاهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ إنِّي أَرَدْت أَنْ أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً قَدْ سَقَتْنِي مِنْ لَبَنِهَا ، وَأَنَا كَبِيرٌ تَدَاوَيْت بِهِ فَقَالَ عَلِيٌّ لَا تَنْكِحْهَا ، وَنَهَاهُ عَنْهَا ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ مِثْلُهُ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ فَقُلْت لَهُ ، وَذَلِكَ رَأْيُك قَالَ نَعَمْ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ بِذَلِكَ بَنَاتَ أَخِيهَا قَالَ ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ ، وَعَنْ ابْنِ عُلَيَّةَ قَالَ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّضَاعِ إلَّا بِالْإِرْضَاعِ فِي الصِّغَرِ ، وَتَقَدَّمَ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُد { وَأَبَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ، وَسَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَرْضِعَ فِي الْمَهْدِ ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ ، وَاَللَّهِ مَا نَدْرِي لَعَلَّهَا كَانَتْ رُخْصَةً مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ دُونَ النَّاسِ } ، وَرَوَى مُسْلِمٌ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ { أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدَخِّلْنَ عَلَيْهِنَّ أَحَدًا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ ، وَاَللَّهِ مَا نَدْرِي ، هَذِهِ رُخْصَةٌ أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ خَاصَّةً فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ ، وَلَا رَائِينَا } ، وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ قَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ التَّحْرِيمِ بِرَضَاعَةِ الْكَبِيرِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ لِأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا كَانَ
أَوَّلًا ثُمَّ انْقَطَعَ انْتَهَى .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي السِّنِّ الَّذِي يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ بِالْإِرْضَاعِ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ حَوْلَانِ عَلَى طَرِيقِ التَّحْدِيدِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فَمَتَى وَقَعَ الرَّضَاعُ بَعْدَهُمَا ، وَلَوْ بِلَحْظَةٍ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ ، وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَدَاوُد ، وَأَصْحَابِهِمْ ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ دَاوُد أَيْضًا ، وَهَذَا يُخَالِفُ نَقْلَ النَّوَوِيُّ عَنْ دَاوُد قَالَ ابْنُ حَزْمٍ ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ ، قَالَ أَصْحَابُنَا ، وَيُعْتَبَرُ الْحَوْلَانِ بِالْأَهِلَّةِ فَإِنْ انْكَسَرَ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ اُعْتُبِرَ ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا بَعْدَهُ بِالْأَهِلَّةِ ، وَيَكْمُلُ الْمُنْكَسِرُ ثَلَاثِينَ مِنْ الشَّهْرِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ قَالَ ، وَيُحْسَبُ ابْتِدَاؤُهُمَا مِنْ وَقْتِ انْفِصَالِ الْوَلَدِ بِتَمَامِهِ ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ لَوْ خَرَجَ نِصْفُ الْوَلَدِ ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ خَرَجَ بَاقِيه فَابْتِدَاءُ الْحَوْلَيْنِ فِي الرَّضَاعِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ خُرُوجِهِ ، وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ فِيهِ وَجْهَيْنِ ، وَحَكَى وَجْهَيْنِ أَيْضًا فِيمَا لَوْ ارْتَضَعَ قَبْلَ انْفِصَالِ جَمِيعِهِ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمٌ ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلِينَ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } ، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ } ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَهُوَ خِلَافُ رِوَايَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ عَائِشَةَ ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِالْأَمْصَارِ عَلَى هَذَا انْتَهَى .
وَمَعْنَاهُ أَنَّ الرَّضَاعَةَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْحُرْمَةُ مَا كَانَ فِي الصِّغَرِ وَالرَّضِيعُ طِفْلٌ يَقُوتُهُ
اللَّبَنُ ، وَيَسُدُّ جُوعَهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْحَالِ الَّتِي لَا يُشْبِعُهُ فِيهَا إلَّا الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ مِنْ الثُّدِيِّ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَقَوْلُهُ فَتَقَ الْأَمْعَاءَ بِالْفَاءِ وَالتَّاءِ أَيْ وَسِعَهَا لِاغْتِذَاءِ الصَّبِيِّ بِهِ وَقْتَ احْتِيَاجِهِ إلَيْهِ ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا رَضَاعَ إلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ } قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَمْ يُسْنِدْهُ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ غَيْرُ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ انْتَهَى ، وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصَّ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ .
( الْقَوْلُ الثَّانِي ) أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حُكْمُهُ ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ ، وَهُوَ مُسْتَمِرُّ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَ يَوْمَيْنِ مِنْ فِصَالِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَفِي الْقَرِيبَةِ عِنْدَهُمْ أَقْوَالٌ قَبْلَ أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ ، وَقِيلَ شَهْرٌ ، وَقِيلَ شَهْرَانِ ، وَقِيلَ ثَلَاثَةٌ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَكَأَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ لَا يُفْطَمُ الصَّبِيُّ دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بَلْ فِي أَيَّامٍ ، وَعَلَى تَدْرِيجٍ فَتِلْكَ الْأَيَّامُ الَّتِي يُحَاوَلُ فِيهَا فِطَامُهُ حُكْمُهَا حُكْمُ الْحَوْلَيْنِ لِقَضَاءِ الْعَادَةِ بِمُعَاوَدَتِهِ الرَّضَاعَ فِيهَا .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) تَقْدِيرُ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَجَعَلَ قَوْله تَعَالَى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } دَالًّا عَلَى تَقْدِيرِ كُلٍّ مِنْ الْحَمْلِ ، وَالْفِصَالِ بِذَلِكَ كَالْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِلْمَدِينَيْنِ ، وَقَالَ صَاحِبُهُ
وَالشَّافِعِيُّ هَذِهِ الْمُدَّةُ لِلْمَجْمُوعَةِ ، وَقَدْ دَلَّ قَوْله تَعَالَى { يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } عَلَى حِصَّةِ الْفِصَالِ مِنْ ذَلِكَ فَصَارَتْ بَقِيَّةُ الْمُدَّةِ ، وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِلْحَمْلِ ، وَهِيَ أَقَلُّهُ مَعَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَقُولُ أَكْثَرُ الْحَمْلِ سَنَتَانِ وَنِصْفٌ ، وَإِنَّمَا يَقُولُ إنَّهُ سَنَتَانِ .
( الْقَوْلُ الرَّابِعِ ) تَقْدِيرُهُ بِثَلَاثِ سِنِينَ ، وَهَذَا قَوْلُ زُفَرَ كَذَا أَطْلَقَ النَّقْلَ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ ، وَقَيَّدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ بِأَنْ يَجْتَزِئَ بِاللَّبَنِ ، وَلَا يُطْعَمُ .
( الْقَوْلُ الْخَامِسُ ) أَنَّهُ إنْ فُطِمَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ فَمَا رَضَعَ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ رَضَاعًا ، وَلَوْ أُرْضِعَ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يُفْطَمْ كَانَ رَضَاعًا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَحَكَى أَيْضًا عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَوْ فَطَمَتْهُ أُمُّهُ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ ، وَاسْتَغْنَى عَنْ الرَّضَاعِ فَأَرْضَعَتْهُ أَجْنَبِيَّةٌ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ لِمَنْ لَمْ يُعَدْ رَضَاعًا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَالْحُجَّةُ لَهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْحَوْلَيْنِ { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِطَامٍ } ( قُلْت ) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ ، وَجَابِرٍ ، وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِرْضَاعَ بَعْدَ الْفِطَامِ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ إذَا اسْتَغْنَى عَنْ اللَّبَنِ لَا حُكْمَ لَهُ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ حَكَاهَا صَاحِبُ الْهِدَايَةِ .
( الْخَامِسَةُ ) الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ بِرَضَاعِ الْكَبِيرِ ، وَمُقْتَضَى سِيَاقِهِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْمَحْرَمِيَّةِ أَيْضًا [ إذْ ] لَوْلَا ثُبُوتُ الْمَحْرَمِيَّةِ لَمَا حَصَلَ مَقْصُودُهَا مِنْ دُخُولِهِ عَلَيْهَا حَالَةَ مَهْنَتِهَا وَانْكِشَافِ بَعْضِ جَسَدِهَا ، وَبِهَذَا قَالَ مَنْ أَثْبَتَ حُكْمَ
الرَّضَاعِ لِلْكَبِيرِ إلَّا أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيَّ نَقَلَ عَنْ دَاوُد أَنَّ رَضَاعَةَ الْكَبِيرِ تَرْفَعُ تَحْرِيمَ الْحِجَابِ لَا غَيْرُ ثُمَّ حَكَى عَنْ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّهُ قَالَ لَوْ أُخِذَ بِهَذَا فِي الْحِجَابَةِ لَمْ أَعِبْهُ ، وَتَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ ، وَمَا عَلِمْت مَنْ أَخَذَ بِهِ عَامًّا إلَّا عَائِشَةَ ثُمَّ قَالَ ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا تَرَى رَضَاعَةَ الْكَبِيرِ تَحْرِيمًا عَامًا نَظَرٌ فَإِنَّ نَصَّ حَدِيثِ الْمُوَطَّإِ عَنْهَا إنَّمَا كَانَتْ تَأْخُذُ بِذَلِكَ فِي الْحِجَابِ خَاصَّةً ( قُلْت ) لَا يَسْتَقِيمُ لِعَالِمٍ أَنْ يَقُولَ بِجَوَازِ الْخِلْوَةِ مَعَ إبَاحَةِ النِّكَاحِ ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا بِرَضَاعَةِ الْكَبِيرِ كُلَّ مَا ثَبَتَ بِرَضَاعَةِ الصَّغِيرِ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَلِبَسْطِ ذَلِكَ مَوْضِعٌ آخَرُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِسَالِمٍ ، وَامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ سِوَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ ، وَرَوَى الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ فِي الْحَدِيثِ كَانَ رُخْصَةً لِسَالِمٍ خَاصَّةً قَالَ الشَّافِعِيُّ فَأَخَذْنَا بِهِ يَقِينًا لَا ظَنًّا حَكَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ ، وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ إنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ الَّذِي فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ قُلْنَ ذَلِكَ بِالظَّنِّ ، وَرَوَاهُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِالْقَطْعِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَيْسَتْ تَخْلُو قِصَّةُ سَالِمٍ [ مِنْ ] أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً أَوْ خَاصَّةً لِسَالِمٍ ، وَكَذَا حَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ حَمَلُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا عَلَى الْخُصُوصِ ، وَإِمَّا عَلَى النَّسْخِ ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ أَطْلَقَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ عَلَى حَدِيثِ سَالِمٍ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ ، وَأَظُنّهُ سَمَّى التَّخْصِيصَ
نَسْخًا ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ النُّسَخِ لَمْ تَحْصُلْ هُنَا عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي الْأُصُولِ ( قُلْت ) كَيْفَ يُرِيدُ بِالنُّسَخِ التَّخْصِيصَ مَنْ يُرَدِّدُ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يُرِدْ قَائِلُ هَذَا الْكَلَامِ بِالنَّسْخِ مَا فَهِمَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ حَتَّى يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَهُ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ هَذَا الَّذِي أُمِرَتْ بِهِ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ كَانَ هُوَ الشَّرْعُ الْعَامُ لِكُلِّ أَحَد ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ لَكِنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ ، وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى اعْتِبَارِ الصِّغَرِ فِي وَقْتِ الْإِرْضَاعِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ ذَلِكَ ، وَرَدَّهُ ابْنُ حَزْمٍ أَيْضًا بِأَنَّ قَوْلهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ أُرْضِعُهُ ، وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ دَالٌّ عَلَى تَأَخُّرِهِ عَمَّا دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ الصِّغَرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ ) اسْتَشْكَلَ أَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إيَّاهَا بِإِرْضَاعِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ ، وَهُوَ مَحْرَمٌ قَبْلَ أَنْ يَسْتَكْمِلَ الرَّضَاعَ الْمُعْتَبَرَ ، وَتَصِيرُ مَحْرَمًا لَهُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَلَعَلَّهَا حَلَبَتْهُ ثُمَّ شَرِبَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ ثَدْيَهَا ، وَلَا الْتَقَتْ بَشَرَتَاهُمَا قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ عُفِيَ عَنْ مَسِّهِ لِلْحَاجَةِ كَمَا خَصَّ بِالرَّضَاعَةِ مَعَ الْكِبَرِ انْتَهَى .
وَجَعَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِهِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ تَحْرِيمُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَةِ ، وَلَا يُخْتَلَفُ فِي أَنَّ ثَدْيَ الْحُرَّةِ عَوْرَةٌ لَا يَجُوزُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ قَالَ ، وَلَا يُقَالُ يُمْكِنُ أَنْ يَرْضِعَ ، وَلَا يَطَّلِعُ لِأَنَّا نَقُولُ نَفْسُ الْتِقَامِ حَلَمَةِ الثَّدْيِ بِالْفَمِ اطِّلَاعٌ فَلَا يَجُوزُ انْتَهَى .
وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى ذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْقَاضِي مِنْ شُرْبِهِ بَعْدَ حَلْبِهِ ، وَلَمْ يَسْتَصْوِبْ ابْنُ حَزْمٍ ذَلِكَ ، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ جَوَازَهُ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ حَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ
أَنَّهُ قَالَ كَيْفَ يَحِلُّ لِلْكَبِيرِ أَنْ يَرْضَعَ ثَدْيَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ نَقَضَهُ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ لِلْأَمَةِ الصَّلَاةَ عُرْيَانَةً يَرَى النَّاسُ ثَدْيَهَا ، وَخَاصِرَتَهَا ، وَأَنَّ لِلْحُرَّةِ أَنْ تَتَعَمَّدَ أَنْ يَنْكَشِفَ مِنْ شَفَتَيْ فَرْجِهَا قَدْرَ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ تُصَلِّي كَذَلِكَ ، وَإِنْ تَكَشَّفَ أَقَلُّ مِنْ رُبْعِ بَطْنِهَا كَذَلِكَ انْتَهَى ، وَالْحَقُّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ شُرْبِهِ مَحْلُوبًا ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بَعْدَ حِكَايَتِهِ قَوْلَ رَجُلٍ لِعَطَاءٍ سَقَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ لَبَنِهَا ، وَأَنَا رَجُلٌ هَكَذَا رَضَاعَ الْكَبِيرِ كَمَا ذَكَرَ عَطَاءٌ يُحْلَبُ لَهُ اللَّبَنُ ، وَيُسْقَاهُ ، وَأَمَّا أَنْ تُلْقِمَهُ الْمَرْأَةُ ثَدْيَهَا كَمَا يُصْنَعُ بِالطِّفْلِ فَلَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَدْ أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى التَّحْرِيمِ بِمَا يَشْرَبُهُ الْغُلَامُ الرَّضِيعُ مِنْ لَبَنِ الْمَرْأَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَمُصَّهُ مِنْ ثَدْيِهَا انْتَهَى .
وَاعْتَبَرَ ابْنُ حَزْمٍ فِي التَّحْرِيمِ الِامْتِصَاصَ مِنْ الثَّدْي ، وَحَكَاهُ عَنْ طَائِفَةٍ .
( الثَّامِنَةُ ) أَطْلَقَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَوْلَهُ أَرْضِعِي سَالِمًا ، وَقَيَّدَهُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِقَوْلِهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ أَنَّهَا الْمَذْهَبُ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ ، وَقِيلَ لَا مِنْ سَبْعِ رَضَعَاتٍ ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ عَشْرٍ ، وَهُمَا مَرْوِيَّانِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهَا ، وَأَنَّهَا كَانَتْ تُفْتِي بِخَمْسٍ ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْعَشْرَ عَنْ حَفْصَةَ ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّهُ شَاذٌّ ، وَقِيلَ يُكْتَفَى بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَدَاوُد ، وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ ، وَبِهَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَاسْتَرْوَحَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْت إلَّا دَاوُد ، وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إلَى عَدَمِ التَّقْيِيدِ فِي ذَلِكَ ، وَالِاكْتِفَاءِ بِقَلِيلِ الرَّضَاعِ ، وَكَثِيرِهِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَحُكِيَ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ صَدَّرَ بِهِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ كَلَامَهُ .
كِتَابُ الْأَيْمَانِ .
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ { سَمِعَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَا أَحْلِفُ بِأَبِي فَقَالَ إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ قَالَ عُمَرُ فَوَاَللَّهِ مَا حَلَفْت بَعْدُ ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا } وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ عُمَرَ ، وَهُوَ يَقُولُ : وَأَبِي وَأَبِي فَقَالَ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ } فَذَكَرَهُ ، وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ ، وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفْ إلَّا بِاَللَّهِ } .
كِتَابُ الْأَيْمَانِ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ { سَمِعَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَا أَحْلِفُ بِأَبِي فَقَالَ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ قَالَ عُمَرُ فَوَاَللَّهِ مَا حَلَفْت بِهَا بَعْدُ ذَاكِرًا ، وَلَا آثِرًا } ، وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ عُمَرَ ، وَهُوَ يَقُولُ ، وَأَبِي وَأَبِي فَقَالَ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ } فَذَكَرَهُ ، وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَسِيرُ فِي رَكْبٍ وَهُوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ بْن الْعَبْدِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الزُّبَيْرِيِّ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ ، وَفِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ { مَا حَلَفْت بِهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْهَا وَلَا تَكَلَّمْت بِهَا وَلَمْ يَقُلْ ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا } وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ مُسْلِمٌ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الطَّرِيقِ الْأُولَى تَابَعَهُ عُقَيْلٌ وَالزُّبَيْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ ،
وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرُ انْتَهَى وَقَدْ ظَهَرَ بِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ عَلَى سَالِمٍ أَوْ الزُّهْرِيِّ فِي أَنَّ الْحَدِيثَ فِي مُسْنَدِ عُمَرَ أَوْ ابْنِ عُمَرَ وَالِاخْتِلَافُ عَلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ أَيْضًا فَالْجُمْهُورُ جَعَلُوهُ مِنْ طَرِيقِهِ مِنْ مُسْنَدِ ابْن عُمَرَ حَكَاهُ عَنْهُمْ وَالِدِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْمُقْرِي ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ عَنْهُ بِإِثْبَاتِ عُمَرَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّالِثَةِ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَالشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، وَمُسْلِمٍ ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْكُبْرَى مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، وَالْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ ، وَالضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، وَعَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ تِسْعَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ ، وَجَعَلَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ رِوَايَةَ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِإِثْبَاتِ عُمَرَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى نَافِعٍ كَسَالِمٍ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ ، وَلَا يَخْتَصُّ النَّهْيُ بِذَلِكَ بَلْ يَتَعَدَّى إلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ ، وَلِهَذَا قَالَ { عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفْ إلَّا بِاَللَّهِ } .
{ ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا فَقَالَ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ } ،
وَرَوَى النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ ، وَلَا بِالْأَنْدَادِ ، وَلَا تَحْلِفُوا بِاَللَّهِ إلَّا ، وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ } ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد أَيْضًا فِي رِوَايَةِ ابْنِ دَاسَّةَ ، وَابْنِ الْعَبْدِ ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ اللُّؤْلُؤِيِّ ، وَإِنَّمَا خَصَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْآبَاءَ بِالذِّكْرِ لِأَمْرَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) وُرُودُهُ عَلَى سَبَبٍ ، وَهُوَ سَمَاعُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ ( ثَانِيهمَا ) خُرُوجُهُ مَخْرَجَهُ الْغَالِبَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقَعُ مِنْهُمْ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ إلَّا بِالْآبَاءِ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ قَرِيبًا ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا فَقَالَ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ، وَقَدْ بَيَّنَ حُكْمَ غَيْرِهِ فَقَالَ مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلَا يَحْلِفْ إلَّا بِاَللَّهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْحَلِفَ بِمَخْلُوقٍ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ ، وَالْخِلَافُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لَكِنْ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْكَرَاهَةُ ، وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ التَّحْرِيمُ ، وَبِهِ قَالَ أَهْلِ الظَّاهِرِ ، وَيُوَافِقُهُ مَا جَاءَ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ { لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِائَةَ مَرَّةٍ فَآثَمَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ فَأَبَرَّ } ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ ، وَهَذَا أَمْرٌ مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ مَكْرُوهَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا لَا يَجُوزُ الْحَلِفُ لِأَحَدٍ بِهَا ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ إذَا أَحْنَثَ فَأَوْجَبَهَا بَعْضُهُمْ ، وَأَبَاهَا بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ الصَّوَابُ انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْصِيَةً قَالَ أَصْحَابُهُ أَيْ حَرَامًا ، وَإِثْمًا قَالُوا فَأَشَارَ إلَى تَرَدُّدٍ فِيهِ ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَلْ مَكْرُوهٌ ، وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هُوَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مَكْرُوهٌ ، وَلَيْسَ بِحَرَامٍ ، وَيُوَافِقُهُ تَبْوِيبُ التِّرْمِذِيِّ عَلَيْهِ كَرَاهِيَةِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بِالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمِلَّةٍ غَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ فَأَمَّا الْحَلِفُ بِنَحْوِ هَذَا فَهُوَ حَرَامٌ ، وَكَأَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّهَا قَدْ عُظِّمَتْ بِالْعِبَادَةِ ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّهُ لَوْ اعْتَقَدَ الْحَالِفُ بِالْمَخْلُوقِ فِي الْمَحْلُوفِ بِهِ مِنْ التَّعْظِيمِ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى كَفَرَ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ } انْتَهَى فَمُعَظِّمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى كَافِرٌ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا لَا يَكُونُ إلَّا لِلْعِبَادَةِ بِخِلَافِ مُعَظِّمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالْكَعْبَةِ وَالْآبَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِمَعْنًى غَيْرِ الْعِبَادَةِ لَا تَحْرِيمَ فِيهِ لَكِنَّ الْحَلِفَ بِهِ مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ ، وَحِكْمَتُهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَظَمَةِ مُخْتَصَّةٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعَالَى { الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إزَارِي } فَلَا يَنْبَغِي مُضَاهَاةُ غَيْرِهِ بِهِ فِي الْأَلْفَاظِ ، وَإِنْ لَمْ تَرِدْ تِلْكَ الْعَظَمَةُ الْمَخْصُوصَةُ بِالْإِلَهِ الْمَعْبُودِ .
وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَنَحْوِهَا فَلَا أَشُكُّ فِي أَنَّهُ كُفْرٌ ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَهَا بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ يَقْتَضِي حَقِيقَتَهَا ، وَذَلِكَ كُفْرٌ إلَّا أَنْ يَتَأَوَّلَ الْحَالِفُ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْظِيمَهَا حِينَ كَانَتْ حَقًّا قَبْلَ نَسْخِهَا فَلَا أُكَفِّرُهُ حِينَئِذٍ ، وَلَكِنْ أَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْعِصْيَانِ لِبَشَاعَةِ هَذَا اللَّفْظِ وَالتَّشَبُّهِ فِيهِ بِأَهْلِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى .
وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ { سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَا ، وَالْكَعْبَةِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لَا تَحْلِفْ بِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ } .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ ، وَقَالَ إنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَهُوَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْعَبْدِ دُونَ رِوَايَةِ اللُّؤْلُؤِيِّ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ تَفْسِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ كُفْرٌ أَوْ شِرْكٌ عَلَى التَّغْلِيظِ ، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ { إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ } ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ { مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهِ } ، وَهَذَا مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الرِّيَاءُ شِرْكٌ } فَقَدْ فَسَّرَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَذِهِ الْآيَةَ { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا } الْآيَةَ قَالَ لَا يُرَائِي انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ يُرِيدُ بِهِ شِرْكُ الْأَعْمَالِ ، وَكُفْرِهَا لَيْسَ شِرْكَ الِاعْتِقَادِ ، وَلَا كُفْرِهِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَبِقَ مِنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ } ، وَنِسْبَةُ الْكُفْرِ إلَى النِّسَاءِ ، وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ مَرَّ عُمَرُ بِالزُّبَيْرِ ، وَهُوَ
يَقُولُ لَا ، وَالْكَعْبَةِ فَرَفَعَ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ ، وَقَالَ الْكَعْبَةُ ، ، لَا أُمَّ لَك تُطْعِمُك وَتَسْقِيك ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ { قَالَ عُمَرُ حَدَّثْت قَوْمًا حَدِيثًا فَقُلْت لَا وَأَبِي فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ قَالَ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنْ أَحَدُكُمْ حَلَفَ بِالْمَسِيحِ لَهَلَكَ ، وَالْمَسِيحُ خَيْرٌ مِنْ آبَائِكُمْ } ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا ، وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ إنَّكُمْ تُشْرِكُونَ قَالُوا وَكَيْفَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ يَحْلِفُ الرَّجُلُ لَا وَأَبِي لَا وَأَبِيك ، لَا لَعَمْرِي لَا لَحَيَاتِي لَا وَحُرْمَةِ الْمَسْجِدِ ، لَا وَالْإِسْلَامِ ، وَأَشْبَاهَهُ مِنْ الْقَوْلِ ، وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ قَالَ ( مَا أُبَالِي حَلَفْت بِحَيَاةِ رَجُلٍ أَوْ بِالصَّلِيبِ ) رَوَاهَا كُلَّهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ .
( الثَّالِثَةُ ) إنْ قُلْت كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا النَّهْيِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ { أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ } ( قُلْت ) أُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ : ( أَحَدُهَا ) تَضْعِيفُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّحِيحِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذِهِ لَفْظٌ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ حَدِيثِ مَنْ يُحْتَجُّ بِهِ ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مَالِكٌ ، وَغَيْرُهُ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ هَذَا الْحَدِيثُ ، وَفِيهِ : أَفْلَحَ وَاَللَّهِ إنْ صَدَقَ ، وَدَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَاَللَّهِ إنْ صَدَقَ ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى ( وَأَبِيهِ ) لِأَنَّهَا لَفْظَةٌ مُنْكَرَةٌ تَرُدُّهَا الْآثَارُ الصِّحَاحُ انْتَهَى .
وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَأَبِيهِ تَصْحِيفٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ وَاَللَّهِ ( ثَانِيهَا ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ جَوَابُهُ أَنَّ هَذَا كَلِمَةٌ تَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْيَمِينُ ( ثَالِثُهَا ) أَنَّهُ مَنْسُوخٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْعَرَبِيِّ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَانَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ حَتَّى نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ } ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَيْضًا هَذِهِ لَفْظَةٌ إنْ صَحَّتْ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ { لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْحَلِفِ بِالْآبَاءِ ، وَبِغَيْرِ اللَّهِ } ، وَقَالَ الشَّيْخُ زَكِيُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَظِيمِ الْمُنْذِرِيُّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ التَّارِيخِ ، وَلِإِمْكَانِ الْجَمْعِ ( قُلْت ) لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لَكَانَ دَلِيلًا عَلَى النَّسْخِ ( رَابِعُهَا ) أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَضْمَرَ فِيهِ اسْمَ اللَّهِ كَأَنَّهُ قَالَ : لَا وَرَبِّ أَبِيهِ ، وَالنَّهْيُ إنَّمَا وَرَدَ فِيمَنْ لَمْ يُضْمِرْ ذَلِكَ بَلْ قَصَدَ تَعْظِيمَ أَبِيهِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ ( خَامِسُهَا ) أَنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ لَهَا اسْتِعْمَالَانِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَارَةً يُقْصَدُ بِهَا التَّعْظِيمُ ، وَتَارَةً يُرِيدُونَ بِهَا تَأْكِيدَ الْكَلَامِ وَتَقْوِيَتَهُ دُونَ الْقَسَمِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : أَطِيبُ سَفَاهًا مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهَا لِأَهْجُوَهَا لَمَّا هَجَتْنِي مُحَارِبُ فَلَا وَأَبِيهَا إنَّنِي بِعَشِيرَتِي وَنَفْسِي عَنْ ذَاكَ الْمُقَامِ لَرَاغِبُ وَمُحَالٌ أَنْ يُقْسِمَ بِأَبِي مَنْ يَهْجُوهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْظَامِ لَحِقَهُ فِي أَمْثِلَةٍ عَدِيدَةٍ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ مَا عَدَا الْأَوَّلَ الْخَطَّابِيُّ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ إنْ قِيلَ فَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَخْلُوقَاتِهِ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } .
{ وَالذَّارِيَاتِ } .
{ وَالطُّورِ } فَالْجَوَابُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُقْسِمَ بِمَا يَشَاءُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهِ انْتَهَى .
وَتَعْبِيرُهُ بِقَوْلِهِ ( لِلَّهِ ) مُنْكَرٌ ، وَلَوْ قَالَ إنَّ اللَّهَ يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ لَكَانَ أَحْسَنَ وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقْسِمُ بِمَا شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْسِمَ إلَّا بِاَللَّهِ } .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ مَا حَلَفْت بِهَا بَعْدُ ذَاكِرًا ، وَلَا آثِرًا هُوَ بِالْمَدِّ ، وَبِكَسْرِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ حَاكِيًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ أَيْ مَا حَلَفْت بِهَا ، وَلَا حَكَيْت عَنْ غَيْرِي أَنَّهُ حَلَفَ بِهَا يُقَالُ آثَرْت الْحَدِيثَ إذَا ذَكَرْته عَنْ غَيْرِك ، وَمِنْهُ كَمَا قِيلَ قَوْله تَعَالَى { أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ } ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ تَقَدَّمَتْ ، وَلَا تَكَلَّمْت بِهَا ( فَإِنْ قُلْت ) الْحَاكِي لِذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِ لَيْسَ حَالِفًا بِهِ ( قُلْت ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفًا أَيْ مَا حَلَفَتْ بِهَا ذَاكِرًا ، وَلَا ذَكَرْته آثِرًا ، وَإِنْ تَضَمَّنَ حَلَفْت مَعْنَى نَطَقْت أَوْ قُلْت أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَصْلُحُ لِلْعَمَلِ فِيهِمَا كَمَا قَدْ ذَكَرَ الْوَجْهَانِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ : عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ، إمَّا أَنْ يُقَدِّرَ سَقَيْتهَا ، وَإِمَّا أَنْ يُضَمِّنَ عَلَفْتهَا مَعْنَى أَنَلْتهَا ، وَمَا أَشْبَهَ ، وَقَدْ ذَكَرَ كَهَذَا السُّؤَالِ ، وَجَوَابِهِ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ ( فَإِنْ قُلْت ) إذَا تَوَرَّعَ عَنْ النُّطْقِ بِذَلِكَ حَاكِيًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ فَكَيْفَ نَطَقَ بِهِ حَاكِيًا لَهُ عَنْ نَفْسِهِ ( قُلْت ) حِكَايَتُهُ لَهُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ ضَرُورَةِ تَبْلِيغِ هَذِهِ الْقِصَّةِ ، وَرِوَايَتِهَا ، وَأَيْضًا فَقَدْ يُرِيدُ نَفْيَ حِكَايَةِ كَلَامِ الْحَالِفِ بِهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ .
وَأَمَّا هُوَ فَإِنَّمَا حَلَفَ بِهِ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْهُ ، وَجَوَّزَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ( آثِرًا ) وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُخْتَارًا يُقَالُ آثَرَ الشَّيْءَ اخْتَارَهُ ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ ذَاكِرًا مِنْ الذُّكْرِ بِالضَّمِّ خِلَافَ النِّسْيَانِ أَيْ مَا حَلَفْت بِهَا ذَاكِرًا الْيَمِين غَيْرَ مُجْبَرٍ ، وَلَا مُخْتَارٍ مَرِيدًا لِذَلِكَ ( ثَانِيهِمَا ) أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ آثِرًا أَيْ عَلَى طَرِيقِ التَّفَاخُرِ بِالْآبَاءِ وَالْإِكْرَامِ لَهُمْ يُقَالُ آثَرَهُ أَيْ أَكْرَمَهُ لَكِنْ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي النُّطْقِ بِذَلِكَ لَا عَلَى سَبِيلِ
التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ فِيهِ إبَاحَةُ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ بِخُصُوصِهِ بَلْ كُلُّ مَا يُطَلَّقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِالْحَلِفِ بِهِ ، وَهَذَا مَجْمَعٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ وَقَعَ الْكَلَامُ ، وَالتَّفْصِيلُ فِي أَلْفَاظٍ اُسْتُعْمِلَتْ فِي حَقِّ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
( السَّابِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ لَا يَنْعَقِدُ فِي الْحَلِفِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا تَجِبُ بِهَا كَفَّارَةٌ لِأَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالصَّمْتِ عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَعَنْهَا رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ دُونَ بَقِيَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالِانْعِقَادِ ، وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْهُ ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ [ إلَّا بِهِ ] فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ ثُمَّ رَدَّهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ أَحْمَدَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ ، وَمَنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا كَفَرَ فَيَلْزَمُهُ إذَا حَلَفَ بِهَا أَنْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ .
( الثَّامِنَةُ ) فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ إذَا قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ فَهِيَ يَمِينٌ تَجِبُ بِهَا الْكَفَّارَةُ إذَا فَعَلَ مَا مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ ، وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ فِي ذَلِكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ فِيهِ مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ يَمِينٌ ، وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ يَمِينًا ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ ، وَسَيَأْتِي لِذَلِكَ مَزِيدُ إيضَاحٍ فِي
الْحَدِيثِ الثَّامِنِ .
( التَّاسِعَةُ ) فِيهِ أَنَّهُ [ إذَا ] قَالَ أَقْسَمْت لِأَفْعَلَن كَذَا وَكَذَا لَا تَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إنْ نَوَى بِاَللَّهِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَانَ يَمِينًا ، وَإِلَّا فَلَا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ يَمِينٌ مُطْلَقًا .
( الْعَاشِرَةُ ) وَفِيهِ أَنَّ الْحَلِفَ بِالْأَمَانَةِ لَيْسَ يَمِينًا لِانْتِفَاءِ الِاسْمِ ، وَالصِّفَةِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ حَكَاهُ عَنْهُ الْخَطَّابِيُّ ، وَاَلَّذِي فِي كُتِبَ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إذَا قَالَ عَلَيَّ أَمَانَةُ اللَّهِ لِأَفْعَلَن كَذَا ، وَأَرَادَ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَ الْيَمِينِ كَالْعِبَادَاتِ فَلَيْسَ يَمِينًا ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِتَرَدُّدِ اللَّفْظِ ، وَقَدْ فُسِّرَتْ الْأَمَانَةُ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ } بِالْعِبَادَاتِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ يُكْرَهُ الْحَلِفُ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ إنْ قَصْدَ الصِّفَةَ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ إنْ قَالَ : وَأَمَانَةِ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ ، وَإِنْ قَالَ وَالْأَمَانَةِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا إلَّا أَنْ يَنْوِي صِفَةَ اللَّهِ ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَمِينٌ مُطْلَقًا ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ أَنَّهُ إذَا قَالَ : وَأَمَانَةِ اللَّهِ كَانَ يَمِينًا ، وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِيهَا ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ فَلَيْسَ يَمِينًا } .
وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، إنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ } .
الْحَدِيثُ الثَّانِي ، وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنْ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، إنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، وَلَيْسَ فِيهِ { أَنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ } ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَالْبُخَارِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ الْأَعْرَجِ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ { لَا يَحْفَظْهَا أَحَدٌ إلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ } ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِهِ { وَمَنْ حَفِظَهَا } ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ { أَحْصَاهَا } ، وَسَاقَهَا التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ فَقَالَ { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ الْوَهَّابُ الرَّزَّاق الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْحَكَمُ الْعَدْلُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ الْغَفُورُ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ الْحَفِيظُ الْمُقِيتُ الْحَسِيبُ الْجَلِيلُ الْكَرِيمُ الرَّقِيبُ الْمُجِيبُ الْوَاسِعُ الْحَكِيمُ الْوَدُودُ الْمُجِيبُ الْبَاعِثُ الشَّهِيدُ الْحَقُّ الْوَكِيلُ الْقَوِيُّ الْمَتِينُ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ الْمُحْصِي الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْوَاجِدُ الْمَاجِدُ
الْوَاحِدُ الصَّمَدُ الْقَادِرُ الْمُقْتَدِرُ الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ الْأَوَّلُ الْآخِرُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ الْوَالِي الْمُتَعَالِي الْبَرُّ التَّوَّابُ الْمُنْتَقِمُ الْعَفُوُّ الرَّءُوفُ مَالِكُ الْمُلْكِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ الْمُقْسِطُ الْجَامِعُ الْغَنِيُّ الْمُغْنِي الْمَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ النُّورُ الْهَادِي الْبَدِيعُ الْبَاقِي الْوَارِثُ الرَّشِيدُ الصَّبُورُ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ حَدَّثَنَا بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ أَيْ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ ثَنَا شُعَيْبٌ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ وَلَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أَبِي صَالِحٍ وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا نَعْرِفُ فِيهِ كَثِيرَ شَيْءٍ مِنْ الرِّوَايَاتِ ذَكَرَ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى إلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَقَدْ رَوَى آدَم بْنُ أَبِي إيَاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادٍ غَيْرِ هَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذَكَرَ فِيهِ الْأَسْمَاءَ ، وَلَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ صَحِيحٌ ثُمَّ قَالَ ، وَرَوَاهُ أَبُو الْيَمَانِ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْأَسْمَاءَ ( قُلْت ) وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ الْأَسْمَاءَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ شُعَيْبٍ ، وَسَاقَهَا ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ الْأَعْرَجِ ، وَلَفْظُهُ { مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ } فَذَكَرَهَا مَعَ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ ، وَذَكَرَ الْبَارَّ بَدَلَ الْبَرِّ ، وَالرَّاشِدَ بَدَلَ الرَّشِيدِ ، وَزَادَ ذِكْرَ الْجَمِيلِ ، وَالرَّبِّ ، وَالْمُبِينِ ، وَالْبُرْهَانِ ، وَالشَّدِيدِ ، وَالْوَاقِي ، وَذِي الْقُوَّةِ ، وَالْقَائِمِ ، وَالدَّائِمِ ، وَالْحَافِظِ ، وَالنَّاظِرِ ، وَالسَّامِعِ ، وَالْأَبَدِ ، وَالْعَالِمِ ، وَالصَّادِقِ ، وَالْمُنِيرِ ، وَالتَّامِّ ، وَالْقَدِيمِ ،
وَالْوِتْرِ ، وَالْأَحَدِ ، وَزَادَ عَلَى الْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ أَسْمَاءٍ فَإِنَّهَا عِنْدَهُ مِائَةٌ وَثَلَاثَةٌ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ قَوْلَهُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينِ اسْمًا وَاحِدًا ، وَيَجْعَلْ قَوْلَهُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٍ تَابِعًا لِقَوْلِهِ الصَّمَدُ فَيَكُونُ مِائَةً وَأَحَدًا ، وَأَسْقَطَ بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ وَكَرَّرَ ذِكْرَ الصَّمَدِ ذَكَرَهُ أَوَّلًا وَآخِرًا فَهِيَ حِينَئِذٍ عِنْدَهُ مِائَةٌ وَقَالَ فِي آخِرِهِ قَالَ زُهَيْرٌ أَيْ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فَبَلَغَنَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ أَوَّلَهَا يُفْتَحُ بِقَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ رِوَايَةَ التِّرْمِذِيِّ وَحَكَمَ عَلَيْهَا بِالْحُسْنِ وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ الْمُقِيتُ بِالْقَافِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ آخِرَ وَالْمُغِيثُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ آخِرَهُ وَرُوِيَ الْقَرِيبُ بَدَلَ الرَّقِيبِ وَرُوِيَ الْمُبِينُ بِالْمُوَحَّدَةِ بَدَلَ الْمَتِينِ بِالْمُثَنَّاةِ [ مِنْ ] فَوْقُ قَالَ وَالْمَشْهُورُ الْمُثَنَّاةُ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ جَاءَتْ أَحَادِيثُ فِي إحْصَائِهَا مُضْطَرِبَةٌ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ أَصْلًا ( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا } قَالَ النَّوَوِيُّ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ فِيهِ حَصْرٌ لِأَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَسْمَاءٌ غَيْرَ هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ وَإِنَّمَا مَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ التِّسْعَةُ وَالتِّسْعِينَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ فَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِإِحْصَائِهَا لَا الْإِخْبَارُ بِحَصْرِ الْأَسْمَاءِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا
مِنْ خَلْقِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ } قَالَ وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ { قَالَ : لِلَّهِ تَعَالَى أَلْفُ اسْمٍ } قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهَذَا قَلِيلٌ فِيهَا ( قُلْتُ ) تَتِمَّةُ كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَلَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ أَسْمَاءُ رَبِّي ، وَلَوْ جِئْنَا بِسَبْعَةِ أَبْحُرٍ مِثْلِهِ مَدَدًا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ ، وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِزَيْدٍ مِائَةُ دِينَارٍ أَعَدَّهَا لِلصَّدَقَةِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُ الْمِائَةِ دِينَارٍ ، وَإِنَّمَا يُفْهَمُ أَنَّ هَذِهِ الْمِائَةَ هِيَ الَّتِي أَعَدَّهَا لِلصَّدَقَةِ لَا غَيْرَهَا انْتَهَى .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ فَقَالَ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَزِيدُ عَلَى تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ شَيْئًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِائَةٌ إلَّا وَاحِدًا فَنَفَى الزِّيَادَةَ وَأَبْطَلَهَا لَكِنْ يُخْبَرُ عَنْهُ بِمَا يَفْعَلُ تَعَالَى ( قُلْت ) قَوْلُهُ مِائَةٌ إلَّا وَاحِدًا مُجَرَّدُ تَأْكِيدٍ لِقَوْلِهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ لِجَوَازِ اشْتِبَاهِهَا فِي الْخَطِّ بِسَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ ، وَلَمْ يُفِدْ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ حَتَّى يَقُولَ إنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِيهِ نَفْيُ الزِّيَادَةِ وَإِبْطَالُهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَا قَبْلَهُ مُوَطِّئٌ لَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ تَعْيِينُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَمْ يُخَرَّجْ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَغَيْرُهُ ، وَفِيهَا اخْتِلَافٌ ، ثَبَتَتْ أَسْمَاءٌ فِي رِوَايَةٍ ، وَفِي أُخْرَى أَسْمَاءٌ أُخَرُ تُخَالِفُهَا ، وَقَدْ اعْتَنَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِتَخْرِيجِ مَا مِنْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ مُفْرَدًا غَيْرَ مُضَافٍ ، وَلَا مُشْتَقٍّ مِنْ غَيْرِهِ كَقَادِرٍ ، وَقَدِيرٍ ، وَمُقْتَدِرٍ ، وَمَلِكِ النَّاسِ ، وَمَالِكٍ ، وَعَلِيمٍ ، وَعَالِمِ الْغَيْبِ فَلَمْ تَبْلُغْ هَذَا الْعَدَدَ ،
وَاعْتَنَى آخَرُونَ بِذَلِكَ فَحَذَفُوا التَّكْرَارَ ، وَلَمْ يَحْذِفُوا الْإِضَافَاتِ فَوَجَدُوهَا عَلَى مَا قَالُوا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ فِي الْقُرْآنِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ لَكِنَّهُ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى تَفْسِيرِهَا فِي الْحَدِيثِ ، وَاعْتَنَى آخَرُونَ بِجَمْعِهَا مُضَافَةً ، وَغَيْرَ مُضَافَةٍ ، وَمُشْتَقَّةً ، وَغَيْرَ مُشْتَقَّةٍ ، وَمَا وَقَعَ مِنْهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اخْتِلَافِهَا ، وَفِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ ، وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إطْلَاقِهِ فَبَلَّغَهَا أَضْعَافَ هَذَا الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ ، وَقِيلَ إنَّ هَذِهِ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ مَخْفِيَّةٌ فِي جُمْلَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالِاسْمِ الْأَعْظَمِ فِيهَا ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي السَّنَةِ انْتَهَى .
وَلَمَّا ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ الْأَحَادِيثَ بِإِحْصَائِهَا مُضْطَرِبَةٌ لَمْ تَصِحْ قَالَ : وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ نَصِّ الْقُرْآنِ ، وَمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَقَدْ بَلَغَ إحْصَاؤُهَا إلَى مَا يَذْكُرُهُ ، وَهِيَ اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الْكَرِيمُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ الْقَيُّومُ [ ذُو ] الْإِكْرَامِ السَّلَامُ التَّوَّابُ الرَّبُّ الْوَهَّابُ الْإِلَهُ الْقَرِيبُ السَّمِيعُ الْمُجِيبُ الْوَاسِعُ الْعَزِيزُ الشَّاكِرُ الْقَاهِرُ الْآخَرُ الظَّاهِرُ الْكَبِيرُ الْخَبِيرُ الْقَدِيرُ الْبَصِيرُ الْغَفُورُ الشَّكُورُ الْغَفَّارُ الْقَهَّارُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الْمُصَوِّرُ الْبَرُّ الْمُقْتَدِرُ الْبَارِئُ الْعَلِيُّ الْغَنِيُّ الْوَلِيُّ الْقَوِيُّ الْحَيُّ الْحَمِيدُ الْمَجِيدُ الْوَدُودُ الصَّمَدُ الْأَحَدُ الْوَاحِدُ الْأَوَّلُ الْأَعْلَى الْمُتَعَالِي الْخَالِقُ الْخَلَّاقُ الرَّزَّاقُ الْحَقُّ اللَّطِيفُ رَءُوفٌ عَفُوٌّ الْفَتَّاحُ الْمَتِينُ الْمُبِينُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْبَاطِنُ الْقُدُّوسُ الْمَالِكُ مَلِيكٌ الْأَكْبَرُ الْأَعَزُّ السَّيِّدُ سُبُّوحٌ وِتْرٌ حَنَّانٌ جَمِيلٌ رَفِيقٌ الْمُيَسِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الشَّافِي الْمُعْطِي الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ الدَّهْرُ هَذَا آخَرُ مَا ذَكَرَهُ ، وَجُمْلَتُهُ
أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ .
( الرَّابِعَةُ ) أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ مِنْ الِاشْتِرَاطِ ، وَالثُّنْيَا فِي الْإِقْرَارِ ، وَالشُّرُوطِ الَّتِي يَتَعَارَفُهَا النَّاسُ بَيْنَهُمْ ، وَإِذَا قَالَ مِائَةً إلَّا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ ، قَالَ : وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ رَجُلٌ لِكَرِيِّهِ أَدْخِلْ رِكَابَك فَإِنْ لَمْ أَرْحَلْ مَعَك يَوْمَ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَخْرُجْ فَقَالَ شُرَيْحٌ مَنْ شَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ فَهُوَ عَلَيْهِ .
، وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ إنَّ رَجُلًا بَاعَ طَعَامًا ، وَقَالَ إنْ لَمْ آتِك الْأَرْبِعَاءَ فَلَيْسَ بَيْنِي ، وَبَيْنَك بَيْعٌ فَلَمْ يَجِئْ فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلْمُشْتَرِي أَنْتَ أَخْلَفْت فَقَضَى عَلَيْهِ ( قُلْت ) وَكَأَنَّ الْبُخَارِيَّ قَصَدَ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يَتِمُّ بِآخِرِهِ فَإِذَا كَانَ فِيهِ اسْتِثْنَاءٌ أَوْ شَرْطٌ عَمِلَ بِهِ ، وَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ مِائَةً إلَّا وَاحِدًا ، وَهُوَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مُسْلِمٌ فَلَوْ قَالَ فِي الْبَيْعِ بِعْت مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ مِائَةَ صَاعٍ إلَّا صَاعًا صَحَّ ، وَعُمِلَ بِهِ ، وَكَانَ بَائِعًا بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ ، وَلَا يُؤْخَذُ بِأَوَّلِ كَلَامِهِ ، وَيُلْغِي آخِرَهُ لَكِنْ فِي اسْتِنْبَاطِ ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِائَةً إلَّا وَاحِدًا إنَّمَا ذُكِرَ تَأْكِيدًا لِمَا تَقَدَّمَ فَلَمْ يُسْتَفَدْ بِهِ فَائِدَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ حَتَّى يَسْتَنْبِطَ مِنْهُ هَذَا الْحُكْمَ لِحُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ بِقَوْلِهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا ، نَعَمْ كَانَ يَصِحُّ إيرَادُ هَذَا الْكَلَامِ الثَّانِي مُنْقَطِعًا عَنْ الْأَوَّلِ ، وَحِينَئِذٍ فَيَحْصُلُ بِهِ هَذَا الْغَرَضُ .
وَأَمَّا الشُّرُوطُ فَلَيْسَتْ صُورَةَ الْحَدِيثِ ، وَلِلنَّاسِ خِلَافٌ كَثِيرٌ فِي تَصْحِيحِ الشُّرُوطِ ، وَإِبْطَالِهَا وَالتَّفْصِيلِ فِيهَا ، وَذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسُ الْقُشَيْرِيُّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى إذْ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ كَانَتْ الْأَسْمَاءُ لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } ، وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ .
الِاسْمُ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ هُوَ الْكَلِمَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَمْرٍ مُفْرَدٍ .
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحَدُّ فَلَا فِعْلَ وَلَا حَرْفَ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ اصْطِلَاحُ النَّحْوِيِّينَ وَالْمَنْطِقِيِّينَ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْآنَ مِنْ غَرَضِنَا وَإِذَا فَهِمْت هَذَا فَهِمْت غَلَطَ مَنْ قَالَ إنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى حَقِيقَةً كَمَا قَالَتْهُ طَائِفَةٌ مِنْ جُهَّالِ الْحَشَوِيَّةِ فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ ، وَاعْتَقَدُوهُ حَتَّى أَلْزَمُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ ( سُمٌّ ) مَاتَ .
وَمَنْ قَالَ ( نَارٌ ) احْتَرَقَ ، وَهَؤُلَاءِ أَخَسُّ مِنْ أَنْ يُشْتَغَلَ بِمُخَاطَبَتِهِمْ ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْ النَّحْوِيِّينَ ، وَمِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى فَلَمْ يُرِيدُوا ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهُ هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَيْهِ ، وَلَا يُقَيِّدُ إلَّا هُوَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الِاسْمُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِ الْمُسَمَّى دَلَّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ مَزِيدِ أَمْرٍ آخَرَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ دَلَّ عَلَى تِلْكَ الذَّاتِ مَنْسُوبَةً إلَى ذَلِكَ الزَّائِدِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّك إذَا قُلْت زَيْدٌ مَثَلًا فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى ذَاتٍ مُتَشَخِّصَةٍ فِي الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، وَلَا نُقْصَانٍ فَلَوْ قُلْت مَثَلًا ( الْعَالِمُ ) دَلَّ هَذَا عَلَى تِلْكَ الذَّاتِ مَنْسُوبَةً إلَى الْعِلْمِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْت الْغَنِيُّ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى تِلْكَ الذَّاتِ مَعَ إضَافَةِ مَالٍ إلَيْهَا ، وَمِنْ هُنَا صَحَّ عَقْلًا أَنْ تَكْثُرَ الْأَسْمَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ لَا يُوجِبُ تَعَدُّدًا فِيهَا وَلَا
تَكْثِيرًا ، وَقَدْ غَمُضَ فَهْمُ هَذَا مَعَ وُضُوحِهِ عَلَى بَعْضِ أَئِمَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ ، وَفَرَّ مِنْهُ هَرَبَا مِنْ لُزُومِ تَعَدُّدٍ فِي ذَلِكَ الْإِلَهِ حَتَّى تَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنْ قَالَ إنَّ الِاسْمَ فِيهِ يُرَادُ بِهِ التَّسْمِيَةُ ، وَرَأَى أَنَّ هَذَا يُخَلِّصُهُ مِنْ التَّكْثِيرِ .
وَهَذَا فِرَارٌ مِنْ غَيْرِ مَفَرٍّ إلَى غَيْرِ مَفَرٍّ ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ إنَّمَا هِيَ وَضْعُ الِاسْمِ أَوْ ذِكْرُ الِاسْمِ فَهِيَ نِسْبَةُ الِاسْمِ إلَى مُسَمَّاهُ فَإِذَا قُلْنَا إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ تَسْمِيَةً اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا يَنْسُبُهَا كُلَّهَا إلَيْهِ فَبَقِيَ الْإِلْزَامُ بَعْدَ ذَلِكَ التَّكَلُّفِ وَالتَّعَسُّفِ ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ يُقَالُ الِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى ، وَيَعْنِي بِهِ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ الِاسْمُ قَدْ تَطْلُقُ ، وَيُرَادُ بِهَا الْمُسَمَّى كَمَا قِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } أَيْ سَبِّحْ رَبَّك فَأُرِيدَ بِالِاسْمِ الْمُسَمَّى انْتَهَى .
وَوَجَدْت لِشَيْخِنَا الْإِمَامِ بَهَاءِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيّ فِي شَرْحِهِ عَلَى مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَحْقِيقًا حَسَنًا فَقَالَ وَجْهُ التَّحْقِيقِ فِيهَا عَلَى مَا تَلَقَّيْنَاهُ مِنْ أَفْوَاهِ مَشَايِخِنَا أَنْ يُقَالَ إذَا سَمَّيْت شَيْئًا بِاسْمٍ فَالنَّظَرُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ذَلِكَ الِاسْمُ .
وَهُوَ اللَّفْظُ وَمَعْنَاهُ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ ، وَمَعْنَاهُ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ ، وَهُوَ الذَّاتُ الَّتِي أُطْلِقَ اللَّفْظُ عَلَيْهَا ، وَالذَّاتُ وَاللَّفْظُ مُتَغَايِرَانِ قَطْعًا ، وَالنُّحَاةُ إنَّمَا يُطْلِقُونَ عَلَى اللَّفْظِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْأَلْفَاظِ ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُسَمَّى قَطْعًا عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَالذَّاتُ هِيَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَلَيْسَ هُوَ الِاسْمُ قَطْعًا ، وَالْخِلَافُ فِي الْأَمْرِ الثَّالِثُ ، وَهُوَ مَعْنَى اللَّفْظِ قَبْلَ التَّلْقِيبِ فَعَلَى قَوَاعِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ يُطْلِقُونَ الِاسْمَ عَلَيْهِ ،
وَيَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُ الثَّالِثُ أَوَّلًا ، وَالْخِلَافُ عِنْدَهُمْ حِينَئِذٍ فِي الِاسْمِ الْمَعْنَوِيِّ هَلْ هُوَ الْمُسَمَّى أَوَّلًا ، لَا فِي الِاسْمِ اللَّفْظِيِّ .
وَأَمَّا النُّحَاةُ فَلَا يُطْلِقُونَ الِاسْمَ عَلَى غَيْرِ اللَّفْظِ لِأَنَّ صِنَاعَتَهُمْ إنَّمَا تَنْظُرُ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمُتَكَلِّمُ لَا يُنَازِعُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَمْنَعُ هَذَا الْإِطْلَاقَ لِأَنَّهُ إطْلَاقُ اسْمِ الْمَدْلُولِ عَلَى الدَّالِّ ، وَيَزِيدُ شَيْئًا آخَرَ دَعَاهُ عِلْمُ الْكَلَامِ إلَى حَقِيقَتِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ، وَإِطْلَاقِهَا عَلَى الْبَارِي تَعَالَى عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ ، وَمِثَالُ ذَلِكَ إذَا قُلْت عَبْدُ اللَّهِ أَنْفُ النَّاقَةِ فَالنُّحَاةُ يُرِيدُونَ بِاللَّقَبِ لَفْظَ أَنْفِ النَّاقَةِ ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ يُرِيدُونَ مَعْنَاهُ ، وَهُوَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ مِنْ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ .
وَقَوْلُ النُّحَاةِ إنَّ اللَّقَبَ ، وَيَعْنُونَ بِهِ اللَّفْظَ مُشْعِرٌ بِضِعَةٍ أَوْ رِفْعَةٍ لَا يُنَافِيه لِأَنَّ اللَّفْظَ يُشْعِرُ بِدَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى ، وَالْمَعْنَى فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُقْتَضِي لِلضِّعَةِ أَوْ الرِّفْعَةِ ، وَذَاتُ عَبْدِ اللَّهِ هِيَ الْمُلَقَّبُ عِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ فَهَذَا تَنْقِيحُ مَحَلِّ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ فَإِنَّهُ تَنْقِيحٌ حَسَنٌ ، وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الِاسْمَ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرِهِ خَاصٌّ بِأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ الْمُشْتَقَّةِ لَا فِي كُلِّ اسْمٍ ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ إنَّمَا هُوَ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأُصُولِ الدِّينِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ انْتَهَى .
( السَّادِسَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَافْهَمْ أَنَّ أَسْمَاءَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنْ تَعَدَّدَتْ فَلَا تَعَدُّدَ فِي ذَاتِهِ ، وَلَا تَرْكِيبَ لَا عَقْلِيًّا كَتَرْكِيبِ الْمَحْدُودَاتِ ، وَلَا مَحْسُوسًا كَتَرْكِيبِ الْجُسْمَانِيَّاتِ ، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَتْ أَسْمَاؤُهُ تَعَالَى بِحَسَبِ الِاعْتِبَارَاتِ الزَّائِدَةِ عَلَى الذَّاتِ ثُمَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ مِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ ( فَمِنْهَا ) مَا يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ مُجَرَّدَةً كَاسْمِهِ ( اللَّهُ ) تَعَالَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ أَنَّهُ عَلَمٌ غَيْرُ مُشْتَقٍّ ، وَهُوَ الْخَلِيلُ ، وَغَيْرُهُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمَوْجُودِ الْحَقِّ الْمَوْصُوفِ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ دَلَالَةً مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ بِقَيْدٍ ، وَلِأَنَّهُ أَشْهَرُ أَسْمَائِهِ حَتَّى يُعْرَفَ كُلُّ أَسْمَائِهِ بِهِ فَيُقَالَ الرَّحْمَنُ اسْمُ اللَّهِ ، وَلَا يُقَالُ اللَّهُ اسْمُ الرَّحْمَنِ لِأَنَّ الْعَرَبَ عَامَلَتْهُ مُعَامَلَةَ الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ فِي النِّدَاءِ فَجَمَعُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَاءِ النِّدَاءِ ، وَلَوْ كَانَ مُشْتَقًّا لَكَانَتْ لَامُهُ زَائِدَةً ، وَحِينَئِذٍ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي النِّدَاءِ كَمَا لَا يُقَالُ يَا الْحَارِثُ ، وَلَا يَا الْعَبَّاسُ ( وَمِنْهَا ) مَا يَدُلُّ عَلَى صِفَاتِ الْبَارِئِ تَعَالَى الثَّابِتَةِ لَهُ كَالْعَالِمِ ، وَالْقَادِرِ ، وَالسَّمِيعِ ، وَالْبَصِيرِ ( وَمِنْهَا ) مَا يَدُلُّ عَلَى إضَافَةِ أَمْرٍ مَا لَهُ كَالْخَالِقِ ، وَالرَّازِقِ ( وَمِنْهَا ) مَا يَدُلُّ عَلَى سَلْبِ شَيْءٍ عَنْهُ كَالْقُدُّوسِ وَالسَّلَامِ ، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ لَازِمَةٌ مُنْحَصِرَةٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَاخْتَبِرْهَا تَجِدْهَا كَذَلِكَ انْتَهَى .
( السَّابِعَةُ ) وَفِيهِ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى إلَّا بِمَا سَمَّى بِهِ نَفْسَهُ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ ، وَقِيلَ يَجُوزُ تَسْمِيَتُهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ ، وَقِيلَ إنْ وَرَدَ الْفِعْلُ بِذَلِكَ ، وَلَمْ يُوهِمْ نَقْصًا ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ .
( الثَّامِنَةُ ) فِيهِ جَوَازُ الْحَلِفِ بِجَمِيعِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَقَدِّمِ ذَكَرُهَا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهَا أَسْمَاؤُهُ ، وَانْدِرَاجِهَا فِي قَوْلِهِ فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا اللَّفْظَ بِخُصُوصِهِ بَلْ كُلُّ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ تَعَالَى مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَوْرَدَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ ، وَكَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ أَنَّ الْحَلِفَ بِأَيِّ اسْمٍ كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ صَرِيحٌ ، وَمُقَابِلُهُ وَجْهٌ غَرِيبٌ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ صَرِيحٌ فِي الْحَلِفِ إلَّا ( اللَّهَ ) ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ انْقِسَامُ الْأَسْمَاءِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ، وَكَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ : ( أَحَدُهَا ) مَا يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى ، وَلَا يُطْلَق فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَرَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَنَحْوِهَا فَتَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ ، وَلَوْ أَطْلَقَ أَوْ نَوَى غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى ( ثَانِيهَا ) مَا يُطْلَق عَلَيْهِ ، وَعَلَى غَيْرِهِ لَكِنَّ الْغَالِبَ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ بِقَيْدٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِضَرْبٍ مِنْ التَّقْيِيدِ كَالْجَبَّارِ ، وَالْحَقِّ ، وَالرَّبِّ ، وَنَحْوِهَا فَالْحَلِفُ بِهِ يَمِينٌ ، وَلَوْ أُطْلِقَ فَإِنْ نَوَى بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ بِيَمِينٍ ( ثَالِثُهَا ) مَا يُطْلَقُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَلَا يَغْلِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ كَالْحَيِّ ، وَالْمَوْجُودِ ، وَالْمُؤْمِنِ ، وَنَحْوِهَا فَإِنْ نَوَى بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أُطْلِقَ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ ، وَإِنْ نَوَى اللَّهَ تَعَالَى فَوَجْهَانِ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يَمِينٌ ، وَكَذَا فِي الْمُحَرَّرِ لِلرَّافِعِيِّ لَكِنْ صَحَّحَ فِي شَرْحَيْهِ عَلَى الْوَجِيز الْكَبِيرِ ، وَالصَّغِيرِ
أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَصَحَّحَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ الْأَوَّلَ ، وَقَالَ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ بِالثَّانِي .
( التَّاسِعَةُ ) قَوْلُهُ { مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ } قَالَ الْخَطَّابِيُّ الْإِحْصَاءُ فِي هَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا ( أَظْهَرُهَا ) الْعَدُّ لَهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَهَا يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى بَعْضُهَا لَكِنْ يَدْعُو اللَّهَ بِهَا كُلِّهَا ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِجَمِيعِهَا فَيَسْتَوْجِبُ الْمَوْعُودَ عَلَيْهَا مِنْ الثَّوَابِ ( وَالْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ مَعْنَى الْإِحْصَاءِ فِيهَا الْإِطَاقَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ } ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا } أَيْ لَنْ تُطِيقُوا أَنْ تَبْلُغُوا كُنْهَ الِاسْتِقَامَةِ ، وَلَكِنْ اجْتَهَدُوا فِي ذَلِكَ مَبْلَغَ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَطْلَقَ الْقِيَامَ نَحْوَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَبِرَ مَعَانِيَهَا فَيُلْزِمَ نَفْسَهُ بِوَاجِبِهَا فَإِذَا قَالَ الرَّزَّاقُ وَثِقَ بِالرِّزْقِ ، وَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ ( وَالثَّالِثُ ) أَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ عَقَلَهَا ، وَأَحَاطَ عِلْمًا بِمَعَانِيهَا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ فُلَانٌ ذُو حَصَاةٍ أَيْ ذُو عَقْلٍ وَمَعْرِفَةٍ .
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ ، وَالْمَرْجُوُّ مِنْ كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى .
أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ إحْصَاءُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عَلَى إحْدَى هَذِهِ الْمَرَاتِبِ مَعَ صِحَّةِ النِّيَّةِ أَنْ يُدْخِلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ لَكِنَّ الْمَرْتَبَةَ الْأُولَى رُتْبَةُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ، وَالثَّانِيَةَ وَهِيَ الَّتِي فِي كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ ثَالِثًا لِلسَّابِقِينَ ، وَالثَّالِثَةَ وَهِيَ الَّتِي فِي كَلَامِ الْخَطَّابِيِّ ( ثَانِيًا ) لِلصِّدِّيقِينَ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْبُخَارِيُّ ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مَعْنَاهُ حِفْظُهَا ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَنْ حَفِظَهَا ثُمَّ قَالَ : وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ حِفْظُ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ كُلِّهِ لِأَنَّهُ مُسْتَوْفٍ لَهَا قَالَ : وَهَذَا ضَعِيفٌ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ، وَحَكَاهُ فِي الْأَذْكَارِ عَنْ
الْأَكْثَرِينَ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَوْلُهُ إنَّهُ وِتْرٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ قُرِئَ بِهِمَا فِي الْمَشْهُورِ ، وَالْوِتْرُ الْفَرْدُ ، وَمَعْنَاهُ فِي حَقِّ اللَّهِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَلَا نَظِيرَ فَهُوَ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ فَلَا انْقِسَامَ لَهُ ، وَوَاحِدٌ فِي إلَهِيَّتِهِ فَلَا نَظِيرَ لَهُ ، وَوَاحِدٌ فِي مُلْكِهِ وَمِلْكِهِ فَلَا شَرِيكَ لَهُ ، وَقَوْلُهُ { يُحِبُّ الْوِتْرَ } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قِيلَ مَعْنَاهُ فَضْلُ الْوِتْرِ فِي الْعَدَدِ عَلَى الشَّفْعِ فِي أَسْمَائِهِ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالتَّفَرُّدِ [ وَقِيلَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى صِفَةِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ ] عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ لَا يُشْرِكُ فِي عِبَادَتِهِ أَحَدًا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَأْمُرُ ، وَيُفَضِّلُ الْوِتْرَ فِي الْأَعْمَالِ ، وَكَثِيرٍ مِنْ الطَّاعَاتِ كَمَا جَعَلَ الصَّلَوَاتِ خَمْسًا وِتْرًا ، وَشُرِعَتْ أَعْدَادُ الطَّهَارَاتِ ، وَالِاسْتِطَابَةُ ، وَأَكْفَانُ الْمَيِّتِ ، وَنُصُبُ الزَّكَاةِ مِنْ الْخَمْسِ أَوَاقٍ ، وَالْخَمْسَةِ أَوْسُقٍ ، وَنِصَابُ الْإِبِلِ ، وَأَكْثَرُ نِصَابِ الْغَنَمِ ، وَأَوَّلُ نِصَابِ الْبَقَرِ وِتْرًا فِي الْعُقُودِ ، وَخَلْقًا كَثِيرًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى عَدَدِ الْوِتْرِ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْبُحُورِ ، وَعَدَدِ الْأَيَّامِ فِي الْجُمُعَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ انْتَهَى .
وَصَدَّرَ النَّوَوِيُّ كَلَامَهُ بِهَذَا الْأَخِيرِ ، وَاقْتَضَى كَلَامُهُ تَرْجِيحَهُ ، وَكَذَا رَجَّحَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ فَقَالَ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْوِتْرَ هُنَا لِلْجِنْسِ إذْ لَا مَعْهُودَ جَرَى ذِكْرُهُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يُحِبُّ كُلَّ وِتْرٍ شَرَعَهُ وَأَمَرَ بِهِ ، وَمَعْنَى مَحَبَّتَهُ لَهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ ، وَأَثَابَ عَلَيْهِ ، وَيَصْلُحُ ذَلِكَ لِلْعُمُومِ لِمَا خَلَقَهُ وِتْرًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ ، وَمَعْنَى مَحَبَّتِهِ لَهُ أَنَّهُ خَصَّصَهُ بِذَلِكَ لِحِكْمَةٍ عَلِمَهَا ، وَأُمُورٍ قَدَّرَهَا قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ فَقِيلَ هُوَ صَلَاةُ الْوِتْرِ ، وَقِيلَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ ، وَقِيلَ يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَقِيلَ آدَم ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ قَالَ : وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَكَافِئَةٌ ، وَأَشْبَهَ مَا تَقَدَّمَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ ، وَقَدْ ظَهَرَ لِي وَجْهٌ ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِالْمَقْصُودِ ، وَهُوَ أَنَّ الْوِتْرَ يُرَادُ بِهِ التَّوْحِيدُ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَكَمَالِهِ وَاحِدٌ ، وَيُحِبُّ التَّوْحِيدَ أَيْ أَنْ يُوَحَّدَ ، وَيُعْتَقَدُ انْفِرَادُهُ بِهِ دُونَ خَلْقِهِ فَيَلْتَئِمُ أَوَّلُ الْحَدِيثِ وَآخِرُهُ وَظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ انْتَهَى .
وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ، وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ مِنْ صَحِيحِهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى عَنْ هِشَامِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ هُنَا تَبَعًا لِلْبُخَارِيِّ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الْحَلِفِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا تَحْتَمِلُ غَيْرَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى كَقَوْلِهِ : وَاَلَّذِي أَعْبُدُهُ أَوْ أَسْجُدُ لَهُ أَوْ أُصَلِّي لَهُ أَوْ وَاَلَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ أَوْ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ خِلَافٌ فِيمَا إذَا نَوَى اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطْلَقَ فَإِنْ قَالَ قَصَدْت غَيْرَهُ فَقَالَ أَصْحَابُنَا لَا يُقْبَلُ ظَاهِرًا قَطْعًا ، وَلَا بَاطِنًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الصَّحِيحِ الْمَعْرُوفِ فِي الْمَذْهَبِ ، وَحُكِيَ فِيهِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْخَوْفِ ، وَشِدَّةِ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَعِظَمِهِ ، وَفِيهِ تَمَيُّزُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَعَارِفَ قَلْبِيَّةٍ وَبَشَرِيَّةٍ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ ، وَحَظُّ الْأُمَّةِ مِنْهَا مَعْرِفَتُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ فَإِنَّ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَى تَفَاصِيلِهَا ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْت لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا قَالُوا وَمَا رَأَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَأَيْت الْجَنَّةَ وَالنَّارَ } فَجَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ مَعَ الْخِشْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ ، وَاسْتِحْضَارِ الْعَظَمَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يُجْمَعْ لِغَيْرِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ { إنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمكُمْ بِاَللَّهِ أَنَا } ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ .
( الرَّابِعَةُ ) وَفِيهِ الْحَلِفُ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَافٍ لِتَقْوِيَةِ الْخَبَرِ بِهِ وَتَأْكِيدِهِ .
وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ لَأَنْ يَرَانِي ثُمَّ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ : وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ لَأَنْ يَرَانِي ثُمَّ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُمْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظٍ { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ فِي يَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ وَلَا يَرَانِي ثُمَّ لَأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُمْ } ، وَهَذَا اللَّفْظُ مُخَالِفٌ لِلَّفْظِ الَّذِي نَقَلْته وَرَوَيْته عَنْ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ حَاصِلَ رِوَايَتِنَا إخْبَارُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ يَأْتِي عَلَى الْإِنْسَانِ زَمَانٌ يَكُونُ رُؤْيَتُهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ، وَهُوَ غَرِيبٌ فَقِيرٌ لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا مَالَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ فَقْدِ رُؤْيَتِهِ مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِ وَالْمَالِ ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِتَكْرِيرِ اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ لَأَنْ يَرَانِي ثُمَّ لَأَنْ يَرَانِي مَعَهُمْ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ ، وَهُوَ عِنْدِي مُقَدَّمٌ وَمُؤَخَّرٌ ، وَتَبِعَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَزَادَ أَيْضًا التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ فِي قَوْلِهِ لَا يَرَانِي أَيْ رُؤْيَتُهُ إيَّايَ أَحْظَى عِنْدَهُ وَأَحَبُّ إلَيْهِ ، وَهُوَ أَفْرَحُ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ انْتَهَى .
قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي تَقْدِيمِ لَأَنْ يَرَانِي ، وَتَأْخِيرِ ثُمَّ لَا يَرَانِي كَمَا قَالَ : وَأَمَّا لَفْظُ مَعَهُمْ فَهِيَ عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَفِي مَوْضِعهَا ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ يَأْتِي عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ لَأَنْ يَرَانِي فِيهِ لَحْظَةً ثُمَّ لَا يَرَانِي بَعْدَهَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ جَمِيعًا انْتَهَى .
وَتَوْجِيهُ مَا قَالَهُ ابْنُ سُفْيَانَ ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي مِنْ تَقْدِيرِ تَقْدِيمِ مَعَهُمْ أَنَّ مَعْنَاهُ لَأَنْ يَرَانِي مَوْجُودًا
كَائِنًا مَعَهُمْ ، وَجَمَعَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الرَّأْيِ وَأَصْحَابِهِ ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَعَهُ بِالْإِفْرَادِ نَقَلَهَا الْقَاضِي ، وَتَوْجِيهُ بَقَائِهِ عَلَى حَالِهِ مُؤَخَّرًا عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ مَعَهُمْ عَلَى الْأَهْلِ أَيْ إنَّ رُؤْيَتَهُ إيَّايَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمِنْ مَالِهِ مَعَ أَهْلِهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ يَسْمَحُ الْإِنْسَانُ بِفِرَاقِ أَهْلِهِ ، وَلَا يَسْمَحُ بِفِرَاقِ مَالِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُقَدِّرَ قَوْلَهُ ، وَلَا يَرَانِي مُؤَخَّرًا بَلْ يَبْقَى بِحَالِهِ مِنْ التَّقْدِيمِ ، وَالْمَعْنَى إنْذَارُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِفِرَاقِهِ ، وَأَنَّهُ يَأْتِي عَلَى أَصْحَابِهِ وَقْتٌ لَا يَرَوْنَهُ فِيهِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ لِوَفَاتِهِ ، وَرُؤْيَتُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَيُوَافِقُ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْطُبِيَّ لَمَّا ذَكَرَ لَفْظَ مُسْلِمٍ قَالَ كَذَا صَحِيحُ الرِّوَايَةِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَالنَّوَوِيُّ .
( الثَّانِيَةُ ) إنْ قُلْت مَا مَعْنَى الْإِخْبَارِ بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبِلِ مَعَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ أَيْضًا ، وَيَجِبُ فِدَاؤُهُ لَوْ اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ ( قُلْت ) لَيْسَ الْكَلَامُ فِي ذَاتِهِ الْكَرِيمَةِ بَلْ وَفِي رُؤْيَتِهِ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَلَوْ خُيِّرَ صَحَابِيٌّ فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ رُؤْيَتِهِ فِي لَحْظَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَفَقْدِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ ، وَبَيْنَ انْتِفَاءِ رُؤْيَتِهِ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ مَعَ بَقَاءِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ فَاخْتَارَ بَقَاءَ أَهْلِهِ وَمَالِهِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الرُّؤْيَةِ تِلْكَ اللَّحْظَةِ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ ، وَفَقْدُ الْأَهْلِ وَالْمَالِ الَّذِي بِهِمَا قِيَامُ النَّاسِ يَحْصُلُ بِهِ الضَّرَرُ الْبَلِيغُ فَأَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِغَلَبَةِ الْمَيْلِ عِنْدَ فَقْدِهِمْ رُؤْيَتِهِ بِحَيْثُ يُؤْثِرُونَ رُؤْيَتَهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً ، وَلَوْ حَصَلَ فِرَاقُهُمْ لَهُ عَقِبَهَا عَلَى الْأَهْلِ [ وَالْمَالِ ] ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ حَثُّهُمْ عَلَى مُلَازَمَةِ مَجْلِسِهِ الْكَرِيمِ ، وَمُشَاهَدَتِهِ حَضَرًا وَسَفَرًا لِلتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ وَتَعَلُّمِ الشَّرَائِعِ وَحِفْظِهَا لِيُبَلِّغُوهَا ، وَإِعْلَامِهِمْ أَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَى مَا فَرَّطُوا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ وَمُلَازَمَتِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ ( قُلْت ) وَقَدْ وَجَدْنَا ذَلِكَ فِي حَقِّ أَنْفُسِنَا وَمُعَلِّمِينَا [ فَقَدْ ] نَدِمْنَا غَايَةَ النَّدَمِ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي مُلَازَمَتِهِمْ إلَى وَفَاتِهِمْ ، وَتَبَيَّنَ لَنَا سُوءُ الرَّأْيِ فِي ظَنِّنَا أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي حَصَلْنَاهُ عَنْهُمْ كَافٍ ، وَفَاتَنَا بِذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ مَا لَا نُحْصِيه فَكَيْفَ بِسَيِّدِ السَّادَاتِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ مَعْنَى الْحَدِيثِ إخْبَارُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّهُ إذَا فُقِدَ تَغَيَّرَتْ الْحَالُ عَلَى أَصْحَابِهِ مِنْ عَدَمِ مُشَاهَدَتِهِ وَفَقْدِ عَظِيمِ فَوَائِدِهَا ، وَلِمَا طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْمِحَنِ وَالْكُرَبِ وَالْفِتَنِ ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَسَاعَةُ مَوْتِهِ اخْتَلَفَتْ الْآرَاءُ وَنَجَمَتْ الْأَهْوَاءُ ، وَكَادَ النِّظَامُ يَنْحَلُّ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَدَارَكَهُ بِثَانِي اثْنَيْنِ ، وَأَهْلِ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ ، وَقَدْ عَبَّرَ الصَّحَابَةُ عَنْ مَبْدَأِ ذَلِكَ التَّغَيُّرِ لَنَا بِقَوْلِهِمْ مَا سَوَّيْنَا التُّرَابَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا فَكُلَّمَا حَصَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِي كُرْبَةٍ مِنْ تِلْكَ الْكُرَبِ وَدَّ أَنَّهُ يَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكُلِّ مَا مَعَهُ مِنْ أَهْلٍ وَمَالٍ ، وَذَلِكَ لِتَذَكُّرِهِ مَا فَاتَ مِنْ بَرَكَاتِ مُشَاهَدَتِهِ ، وَلِمَا حَصَلَ بَعْدَهُ مِنْ فَسَادِ الْأَمْرِ وَتَغَيُّرِ حَالَتِهِ انْتَهَى .
( الْخَامِسَةُ ) هَذَا الْحَدِيثُ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَاَلَّذِي بَعْدَهُ فِي أَنَّ إيرَادَهُ فِي هَذَا الْبَابِ