كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ
الْعِرَاقِيُّ
بِهَا الْبَيْتَ فَتَنَاوَلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّبُعَ الْعَادِيَ الْأَسَدَ وَالنَّمِرَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ السِّبَاعِ بَلْ قَوْلُهُ الْكَلْبُ الْعَقُورُ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَمَا سَنَحْكِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ حُجَّةٌ مَحْكِيٌّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنْ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَجَزَمَ بِهِ الْبَيْضَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
وَكَذَا قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ إنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إلَّا أَنَّهُ قَالَ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ، ثُمَّ إنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالْمَفَاهِيمِ مُطْلَقًا لَا هَذَا الْمَفْهُومُ وَلَا غَيْرُهُ وَبِتَقْدِيرِ قَوْلِهِمْ بِالْمَفْهُومِ فَهُمْ لَمْ يَقِفُوا عِنْدَ هَذَا الْمَفْهُومِ بَلْ ضَمُّوا إلَيْهَا الْحَيَّةَ وَالذِّئْبَ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ وَالنَّصُّ عَلَى الْحَيَّةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ذَكَرَ السَّبُعَ الْعَادِيَ وَهُوَ يُنَافِي الْوُقُوفَ عِنْدَ هَذَا الْمَفْهُومِ فَإِنَّهَا مَعَ الْحَيَّةِ وَالسَّبُعِ الْعَادِي لَيْسَتْ خَمْسًا بَلْ سَبْعًا كَيْفَ .
وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ خَمْسٌ وَفِي بَعْضِهَا أَرْبَعٌ فَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَفْهُومُ حُجَّةً لَتَدَافَعَ هَذَانِ الْمَفْهُومَانِ وَسَقَطَا .
( الثَّالِثَةُ ) إنْ قُلْت فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ حُجَّةٌ مَا جَوَابُكُمْ عَنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ بِالذِّكْرِ ؟ قُلْت ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ قَالَ مَنْ عَلَّلَ بِالْأَذَى إنَّمَا اُخْتُصَّتْ بِالذِّكْرِ لِيُنَبِّهَ بِهَا عَلَى مَا فِي مَعْنَاهَا وَأَنْوَاع الْأَذَى مُخْتَلِفَةٌ فَيَكُونُ ذِكْرُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا مُنَبِّهًا عَلَى جَوَازِ قَتْلِ مَا فِيهِ ذَلِكَ النَّوْعِ فَنَبَّهَ بِالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ عَلَى مَا يُشَارِكُهُمَا فِي الْأَذَى بِاللَّسْعِ كَالْبُرْغُوثِ مَثَلًا عَنْ بَعْضِهِمْ وَنَبَّهَ بِالْفَأْرَةِ عَلَى مَا أَذَاهُ
بِالنَّقْبِ وَالتَّقْرِيضِ كَابْنِ عُرْسٍ وَنَبَّهَ بِالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ عَلَى مَا أَذَاهُ بِالِاخْتِطَافِ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي وَنَبَّهَ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ عَلَى كُلِّ عَادٍ بِالْعُقْرِ وَالِافْتِرَاسِ بِطَبْعِهِ كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالتَّعْدِيَةِ إلَى كُلِّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَقَدْ أَحَالُوا التَّخْصِيصَ فِي الذِّكْرِ بِهَذِهِ الْخَمْسِ عَلَى الْغَالِبِ فَإِنَّهَا الْمُلَابِسَاتُ لِلنَّاسِ الْمُخَالِطَاتُ فِي الدُّورِ بِحَيْثُ يَعُمُّ أَذَاهَا فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّخْصِيصِ وَالتَّخْصِيصُ لِأَجْلِ الْغَلَبَةِ إذَا وَقَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ إلَّا أَنَّ خُصُومَهُمْ جَعَلُوا هَذَا الْمَعْنَى مُعْتَرِضًا عَلَيْهِ فِي تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إلَى بَقِيَّةِ السِّبَاعِ الْمُؤْذِيَةِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللِّحَاقَ الْمَسْكُوتَ بِالْمَنْطُوقِ قِيَاسًا شَرْطُهُ مُسَاوَاةُ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ أَوْ رُجْحَانُهُ أَمَّا إذَا انْفَرَدَ الْأَصْلُ بِزِيَادَةٍ يُمْكِنُ أَنْ تُعْتَبَرَ فَلَا إلْحَاقَ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَامَّةَ الْأَذَى كَمَا ذَكَرَ ثُمَّ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِبَاحَةِ قَتْلِهَا لِعُمُومِ ضَرَرِهَا فَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِيمَا لَا يَعُمُّ ضَرَرُهُ مِمَّا لَا يُخَالِطُ فِي الْمَنَازِلِ وَلَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى إبَاحَةِ قَتْلِهِ كَمَا دَعَتْ إلَى إبَاحَةِ قَتْلِ مَا يُخَالِطُ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ .
وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا بِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ نَادِرٌ وَقَدْ أُبِيحَ قَتْلُهُ .
( وَالثَّانِي ) مُعَارَضَةُ النُّدْرَةِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِزِيَادَةِ قُوَّةِ الضَّرَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَأْثِيرَ الْفَأْرَةِ بِالنَّقْبِ مَثَلًا أَوْ الْحِدَأَةِ تَخْتَطِفُ شَيْئًا لَا يُسَاوِي مَا فِي الْأَسَدِ وَالْفَهْدِ مِنْ إتْلَافِ النَّفْسِ فَكَانَ بِإِبَاحَةِ الْقَتْلِ أَوْلَى انْتَهَى وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى ذِكْرِ الْحَدِيثِ الشَّامِلِ لِسَائِرِ السِّبَاعِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ السَّبُعَ الْعَادِيَ } .
وَقَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فَإِنْ قِيلَ فَمَا وَجْهُ اقْتِصَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسِ ؟ قُلْنَا ظَاهِرُ الْخَبَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَحْضُوضٌ عَلَى قَتْلِهِنَّ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَيَكُونُ غَيْرُهُنَّ مُبَاحًا قَتْلُهُ أَيْضًا وَلَيْسَ هَذَا الْخَبَرُ مِمَّا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ تِلْكَ الْخَمْسِ مَأْمُورًا بِقَتْلِهِ أَيْضًا كَالْوَزَغِ وَالْأَفَاعِي وَالْحَيَّاتِ وَالرُّتَيْلَاءِ وَالثَّعَابِينِ وَقَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي هَذِهِ فَاغْتَنَى عَنْ إعَادَتِهَا عِنْدَ ذِكْرِهِ هَذِهِ الْخَمْسَ .
( الرَّابِعَةُ ) اقْتَصَرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى نَفْيِ الْجُنَاحِ وَهُوَ الْإِثْمُ عَنْ قَتْلِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَرْجِيحُ فِعْلِ قَتْلِهَا عَلَى تَرْكِهِ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْأَمْرُ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ قَتْلِهَا عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ الْمُرَجَّحُ فِي الْأُصُولِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ اسْتِحْبَابُ قَتْلِ الْمُؤْذِيَاتِ وَهِيَ الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا وَتَمَسَّكُوا بِالْأَمْرِ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ .
وَفِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى نَفْيِ الْجُنَاحِ الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ .
( الْخَامِسَةُ ) نَصٌّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِكَوْنِهِ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ عَنْهُ وَيُعْلَمُ حُكْمُ الْحَلَالِ مِنْ طَرِيقِ الْأُولَى فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهِ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا أُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ فَمَعَ فَقْدِهِ أَوْلَى .
( السَّادِسَةُ ) فِيهِ التَّنْصِيصُ عَلَى قَتْلِ الْغُرَابِ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَبَاحَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَتْلَ الْغُرَابِ فِي الْإِحْرَامِ وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي غُرَابًا وَهُوَ مُحْرِمٌ وَكَانَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يُبِيحُونَ قَتْلَهُ لِلْمُحْرِمِ .
وَرَوَيْنَا عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ فِي مُحْرِمٍ كَسَرَ قَرْنَ غُرَابٍ إنْ أَدْمَاهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَإِنْ لَمْ يُدْمِهِ أَطْعَمَ شَيْئًا انْتَهَى وَحَكَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ الْغُرَابَ وَلَكِنْ يَرْمِي وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ قَوْمٍ ثُمَّ قَالَ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ ضَعْفٌ وَلَا يَثْبُتُ وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَنْ عَلِيٍّ انْتَهَى .
وَاسْتَدَلَّ قَائِلُهُ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْغُرَابَ الصَّغِيرَ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَبَّ وَهُوَ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ مَالِكٌ مِنْ جُمْلَةِ الْغِرْبَانِ وَكَانَ عَطَاءٌ يَرَى فِيهِ الْفِدْيَةَ وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَى قَوْلِهِ أَحَدٌ انْتَهَى .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِيهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا فَإِنْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَأَكَّدُ نَدْبًا قَتْلُهُ كَتَأَكُّدِهِ فِي الْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ .
( السَّابِعَةُ ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبْتَدِئَهُ الْغُرَابُ بِالْأَذَى أَمْ لَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ وَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ خِلَافَهُ .
( الثَّامِنَةُ ) وَظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كِبَارِ الْغِرْبَانِ وَصِغَارِهَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ تَقَدَّمَ وَمَا ذَكَرْته فِي هَذِهِ الْفَائِدَةِ وَاَلَّتِي
قَبْلَهَا يَأْتِي فِي الْحِدَأَةِ أَيْضًا .
( التَّاسِعَةُ ) أَطْلَقَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ ذِكْرَ الْغُرَابِ وَقَيَّدَهُ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِالْأَبْقَعِ وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِي فِي ظَهْرِهِ وَبَطْنِهِ بَيَاضٌ ، فَمُقْتَضَى قَاعِدَةِ مَنْ يَحْمِلُ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْأَبْقَعِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي عَنْ قَوْمٍ ثُمَّ رَدَّهُ بِأَنَّ لَفْظَ الرِّوَايَاتِ الْأُخْرَى عَامٌّ فِي الْغُرَابِ وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَبِأَنَّ غُرَابَ الْبَيْنِ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ يَعْدُو عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا وَجْهَ لِإِخْرَاجِهِ مِنْ الْعُمُومِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ قَتْلَ الْغُرَابِ } وَلَمْ يَخُصَّ أَبْقَعَ مِنْ غَيْرِهِ .
فَلَا وَجْهَ لِمَا خَالَفَهُ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ انْتَهَى وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْغُرَابَ الصَّغِيرَ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَبَّ وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي : الْمُرَادُ الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ وَغُرَابُ الْبَيْنِ انْتَهَى فَلَمْ تَأْخُذْ الْحَنَابِلَةُ الْحَدِيثَ عَلَى عُمُومِهِ وَلَا خَصُّوهُ بِالْأَبْقَعِ كَمَا فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ بَلْ ضَمُّوا إلَيْهِ غُرَابَ الْبَيْنِ .
وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ الْغُرَابَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : ( أَحَدُهُمَا ) الْأَبْقَعُ وَهُوَ فَاسِقٌ مُحَرَّمٌ بِلَا خِلَافٍ .
( وَالثَّانِي ) الْأَسْوَدُ الْكَبِيرُ وَيُقَالُ لَهُ الْغُدَافُ الْكَبِيرُ وَيُقَالُ لَهُ الْغُرَابُ الْجَبَلِيُّ لِأَنَّهُ يَسْكُنُ الْجِبَالَ وَ ( الثَّالِثُ ) غُرَابٌ صَغِيرٌ أَسْوَدُ أَوْ رَمَادِيُّ اللَّوْنِ وَقَدْ يُقَالُ لَهُ الْغُدَافُ الصَّغِيرُ وَالْأَصَحُّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا التَّحْرِيمُ .
وَ ( الرَّابِعُ ) غُرَابُ الزَّرْعِ وَهُوَ أَسْوَدُ صَغِيرٌ يُقَالُ لَهُ الزَّاغُ وَقَدْ يَكُونُ مُحْمَرَّ الْمِنْقَارِ وَالرِّجْلَيْنِ وَهُوَ حَلَالٌ عَلَى الْأَصَحِّ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ شُمُولُ
الْحَدِيثِ لِلْكُلِّ إلَّا غُرَابَ الزَّرْعِ لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْحَنَابِلَةِ فِي عَدَمِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَبْقَعِ وَيُوَافِقُ أَيْضًا مَذْهَبَ مَالِكٍ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ الْخَطَّابِيُّ فِي اسْتِثْنَاءِ الْغُرَابِ الصَّغِيرِ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَبَّ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ وَهَذِهِ عِبَارَةُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ مِنْهُمْ .
وَالْمُرَادُ بِالْغُرَابِ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَيَخْلِطُ لِأَنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى أَمَّا الْعَقْعَقُ غَيْرُ مُسْتَثْنًى لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى غُرَابًا وَلَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى وَقَالَ فِيمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا لَا يَحِلُّ وَلَا بَأْسَ بِغُرَابِ الزَّرْعِ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَبَّ وَلَيْسَ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَلَا يُؤْكَلُ الْأَبْقَعُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ وَكَذَا الْغُدَافُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْعَقْعَقِ لِأَنَّهُ يَخْلِطُ فَأَشْبَهَ الدَّجَاجَةَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ غَالِبُ أَكْلِهِ الْجِيَفُ انْتَهَى .
فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ الْأَمْرِ بِقَتْلِ الْغُرَابِ غُرَابُ الزَّرْعِ خَاصَّةً فَأَمَّا أَنْ يَكُونُوا اعْتَمَدُوا التَّقْيِيدَ الَّذِي فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ بِالْأَبْقَعِ وَأَلْحَقُوا بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ فِي الْأَذَى وَأَكْلِ الْجِيَفِ وَهُوَ الْغُدَافُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا بِالرِّوَايَاتِ الْمُطْلَقَةِ وَجَعَلُوا التَّقْيِيدَ بِالْأَبْقَعِ لِغَلَبَتِهِ لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِهِ وَأَخْرَجُوا عَنْ ذَلِكَ غُرَابَ الزَّرْعِ وَهُوَ الزَّاغُ لِحِلِّ أَكْلِهِ فَهُوَ مُسْتَثْنًى بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) الْحِدَأَةُ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْهَمْزِ وَجَمْعُهَا حِدَاءٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ مَقْصُورٌ مَهْمُوزٌ كَعِنَبَةٍ وَعِنَبٍ وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الصَّحِيحِ الْحُدَيَّا وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ مَقْصُورٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ ثَابِتٌ ، الْوَجْهُ فِيهِ الْهَمْزُ عَلَى مَعْنَى التَّذْكِيرِ وَإِلَّا فَحَقِيقَتُهُ حَدِيثُهُ وَكَذَا قَيَّدَهُ الْأَصِيلِيُّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي مَوْضِعٍ الْحِدَيَةِ عَلَى التَّسْهِيلِ وَالْإِدْغَامِ انْتَهَى وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ الَّذِي عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي اخْتِصَاصِ قَتْلِهَا بِمَا إذَا ابْتَدَأَتْ بِالْأَذَى وَفِي اخْتِصَاصِ الْقَتْلِ بِكِبَارِهَا وَالْمَشْهُورُ خِلَافُهُ وَهُوَ الْعُمُومُ كَمَا تَقَدَّمَ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ ذِكْرُ الْعَقْرَبِ وَفِي بَعْضِهَا وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ ذِكْرُ الْحَيَّةِ بَدَلَهَا وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ { الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ فِي غَارِ الْمُرْسَلَاتِ وَذَلِكَ فِي مِنًى وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ وَكَانُوا مُحْرِمِينَ } فَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ مُحْرِمًا بِقَتْلِ حَيَّةٍ بِمِنًى } .
وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْحَيَّةَ } وَهِيَ أَوْلَى بِالْأَمْرِ بِالْقَتْلِ مِنْ الْعَقْرَبِ فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ بِالْعَقْرَبِ عَلَى الْحَيَّةِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا نَعْلَمُهُمْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ انْتَهَى وَتَقَدَّمَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خِلَافٌ فِي قَتْلِ مَا صَغُرَ مِنْ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ بِحَيْثُ إنَّهُ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ الْأَذَى وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرُهُمْ هَذَا الْخِلَافَ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَيُّوبَ قُلْت لِنَافِعٍ الْحَيَّةُ ؟ قَالَ الْحَيَّةُ لَا يُخْتَلَفُ فِيهَا وَأَصْلُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِلَفْظٍ قَالَ الْحَيَّةُ لَا يُخْتَلَفُ فِي قَتْلِهَا ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَيْسَ كَمَا قَالَ نَافِعٌ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ قَتْلِ الْحَيَّةِ لِلْمُحْرِمِ لَكِنَّهُ شُذُوذٌ ثُمَّ حَكَى عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْحَيَّةَ وَلَا الْعَقْرَبَ رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْهُمَا قَالَ وَمِنْ حُجَّتِهِمَا أَنَّ هَذَيْنِ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ فَمَنْ قَالَ بِقَتْلِهِمَا لَزِمَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ هَوَامِّ الْأَرْضِ ، قَالَ وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ وَلَا
مَعْنَى لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَبَاحَ لِلْمُحْرِمِ قَتْلَهُمَا انْتَهَى وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْحَيَّةَ وَلَا الْوَزَغَ وَلَا شَيْئًا غَيْرَ الْخَمْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) الْفَأْرَةُ مَهْمُوزَةٌ وَجَمْعُهَا فَارٌ وَبِالْأَمْرِ بِقَتْلِهَا مَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَّا إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ فَإِنَّهُ مَنَعَ الْمُحْرِمَ مِنْ قَتْلِهَا حَكَاهُ عَنْهُ السَّاجِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا وَزَادَ السَّاجِيُّ وَأَرَاهُ قَالَ فَإِنْ قَتَلَهَا فَفِيهَا فِدْيَةٌ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ وَقَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي قَتْلِ مَا انْتَهَى صِغَرُهُ مِنْهَا إلَى حَدٍّ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ الْأَذَى وَلَيْسَ هَذَا الْخِلَافُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ هُنَا فَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ هُوَ كُلُّ مَا عَقَرَ النَّاسَ وَعَدَا عَلَيْهِمْ وَأَخَافَهُمْ مِثْلُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ قَالَ : فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ السِّبَاعِ لَا يَعْدُو مِثْلَ الضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ السِّبَاعِ فَلَا يَقْتُلُهُ الْمُحْرِمُ وَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ .
وَكَذَا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ هُوَ كُلُّ سَبُعٍ يَعْقِرُ وَلَمْ يَخُصَّ بِهِ الْكَلْبَ قَالَ وَفَسَّرَهُ لَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ ( سَمِعْت زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ يَقُولُ وَأَيُّ كَلْبٍ أَعْقَرُ مِنْ الْحَيَّةِ ؟ ) قَالَ الْحُمَيْدِيُّ كُلُّ شَيْءٍ يَعْقِرُك فَهُوَ الْعَقُورُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ قَدْ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ لِلسَّبُعِ كَلْبٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَرْوُونَ فِي الْمَغَازِي { أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي لَهَبٍ كَانَ شَدِيدَ الْأَذَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِمْ كَلْبًا مِنْ كِلَابِك فَخَرَجَ عُتْبَةُ إلَى الشَّامِ مَعَ أَصْحَابِهِ فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَطَرَقَهُمْ الْأَسَدُ فَتَخَطَّى إلَيْهِ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ فَقَتَلَهُ } .
فَصَارَ الْأَسَدُ هَاهُنَا قَدْ لَزِمَهُ اسْمُ الْكَلْبِ قَالَ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } فَهَذَا اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْكَلْبِ ثُمَّ دَخَلَ فِيهِ صَيْدُ الْفَهْدِ وَالصَّقْرِ وَالْبَازِي فَلِهَذَا قِيلَ لِكُلِّ جَارِحٍ أَوْ عَاقِرٍ مِنْ السِّبَاعِ كَلْبٌ عَقُورٌ ا هـ .
وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ عُتْبَةُ .
وَإِنَّمَا هُوَ عُتَيْبَةُ أَخُوهُ وَأَمَّا عُتْبَةُ فَإِنَّهُ بَقِيَ حَتَّى أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الصَّحَابَةِ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ حَمْلَ الْكَلْبِ الْعَقُورِ هُنَا عَلَى كُلِّ سَبُعٍ مُفْتَرِسٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ
الْكَلْبُ الْعَقُورُ الْأَسَدُ فَإِنْ أَرَادَ التَّخْصِيصَ دُونَ التَّمْثِيلِ فَهُوَ قَوْلٌ ثَانٍ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكَلْبُ الْمَعْرُوفُ خَاصَّةً إلَّا أَنَّهُمْ أَلْحَقُوا بِهِ فِي حُكْمِهِ الذِّئْبَ وَذَهَبَ زُفَرُ إلَى أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ هُوَ الذِّئْبُ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ وَحَكَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَمَّنْ فَسَّرَهُ بِالْكَلْبِ الْمَعْرُوفِ بِأَنَّهُ الْمَعْنَى الْعُرْفِيُّ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى اللُّغَوِيِّ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) سَوَاءٌ حَمَلَ الْكَلْبَ عَلَى مَدْلُولِهِ الْمَعْرُوفِ أَوْ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ مُفْتَرِسٍ فَتَقْيِيدُهُ بِالْعَقُورِ يُخْرِجُ غَيْرَهُ وَيَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَ الْعَقُورِ مِنْ الْكِلَابِ مُحْتَرَمٌ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَبِهِ صَرَّحَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الْأَطْعِمَةِ وَالنَّوَوِيُّ فِي الْبَيْعِ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَزَادَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الْحَجِّ إنَّ قَتْلَهُ مَكْرُوهٌ وَقَالَ النَّوَوِيُّ هُنَاكَ مُرَادُهُ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ .
وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي الْغَصْبِ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ وَكَذَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي التَّيَمُّمِ وَهَذِهِ مَوَاضِعُ مُخْتَلِفَةٌ وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ جَزَمَ بِالتَّحْرِيمِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ قَتْلِهِ صَرَّحَ بِهِ فِي الْأُمِّ فِي بَابِ الْخِلَافِ فِي ثَمَنِ الْكَلْبِ انْتَهَى وَمَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ قَتْلِ غَيْرِ الْعَقُورِ يُجِيبُ عَنْ هَذَا التَّقْيِيدِ بِأَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ وَغَيْرُ الْعَقُورِ يَجُوزُ قَتْلُهُ وَلَا يُسْتَحَبُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) أَخْرَجَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ لَمْ يُقْصِرْ الْحُكْمَ عَلَى الْخَمْسِ مِنْ السِّبَاعِ الضَّبُعَ وَالثَّعْلَبَ وَمُدْرَكُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَوْنُهُمَا مَأْكُولَيْنِ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهِمَا وَعِنْدَ مَالِكٍ كَوْنُهُمَا لَا يَعْدُوَانِ وَالْقَتْلُ خَاصٌّ بِاَلَّذِي يَعْدُو مِنْ السِّبَاعِ
لَا بِجَمِيعِهَا وَقَالَ أَحْمَدُ بِإِبَاحَةِ الضَّبُعِ وَعَنْهُ فِي إبَاحَةِ الثَّعْلَبِ رِوَايَتَانِ وَأَنْكَرَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ إبَاحَةَ الثَّعْلَبِ وَقَالَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) لَمْ يُذْكَرْ فِي ذَلِكَ الْوَزَغُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَ أَيْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلْوَزَغِ فُوَيْسِقٌ وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ { أُمِّ شَرِيكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا بِقَتْلِ الْأَوْزُغِ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا } .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْآثَارُ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرَةٌ وَقَدْ أَلْحَقَهُ أَصْحَابُنَا بِالْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ فِي نَدْبِ قَتْلِهِ وَوَرَدَ التَّرْغِيبُ فِي قَتْلِهِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْوَزَغَ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَأَشْهَبَ عَنْهُ لَا أَرَى أَنْ يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ الْوَزَغَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْخَمْسِ الَّتِي أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِنَّ وَقِيلَ لِمَالِكٍ فَأَنْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ الْوَزَغَ فَقَالَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ وَأَرَى أَنْ يَتَصَدَّقَ إنْ قَتَلَهُ وَهُوَ مِثْلُ شَحْمَةِ الْأَرْضِ .
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَهَا سِتًّا وَلَا سَبْعًا انْتَهَى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ قَالَ لَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ بِشَهَادَةٍ وَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ شَهِدَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ ( قُلْت ) .
وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ وَبِيَدِهَا عُكَّازٌ فَقَالَتْ مَا هَذَا ؟ فَقَالَتْ : لِهَذِهِ الْوَزَغِ لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ لَا يُطْفِئُ عَلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَّا هَذِهِ الدَّابَّةُ فَأَمَرَنَا بِقَتْلِهَا } الْحَدِيثَ .
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ الْوَزَغِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْوَزَغَ .
( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ { خَمْسٌ لَا جُنَاحَ فِي قَتْلِهِنَّ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالْمُحْرِمُ } .
كَذَا فِي رِوَايَتِنَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ فَالْحَرَمُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَهُوَ الْحَرَمُ الْمَشْهُورُ وَالْمُحْرِمُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَحْرَمَ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حَذْفٍ يَصِحُّ بِهِ الْمَعْنَى وَلَعَلَّ تَقْدِيرَهُ وَإِحْرَامُ الْمُحْرِمِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِلَفْظِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامُ وَهُوَ يَدُلُّ لِلْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ ، وَبَيْنَ مُسْلِمٍ أَنَّ لَفْظَ شَيْخَيْهِ الرَّاوِيَيْنِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ .
فَقَالَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْحَرَمِ أَيْ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ كَمَا فِي رِوَايَتِنَا وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ الْحُرُمِ بِضَمِّ الْحَاءِ وَالرَّاءِ أَيْ فِي الْمَوَاضِعِ الْحُرُمِ جَمْعُ حَرَامٍ كَمَا قَالَ { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } .
كَذَا بَيَّنَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ الضَّبْطَيْنِ فَقَالَ وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامُ أَيْ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ فِي الْحُرُمِ وَالْإِحْرَامِ أَيْ فِي الْمَوَاضِعِ الْحُرُمِ جَمْعُ حَرَامٍ كَمَا قَالَ { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } انْتَهَى .
وَلَمْ يَفْهَمْ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ فَقَالَ اخْتَلَفُوا فِي ضَبْطِ الْحَرَمِ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ فَضَبَطَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ أَيْ الْحَرَمِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ حَرَمُ مَكَّةَ وَالثَّانِي بِضَمِّ الْحَاءِ وَالرَّاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ غَيْرَهُ قَالَ وَهُوَ جَمْعُ حَرَامٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى {
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } .
قَالَ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَوَاضِعُ الْمُحَرَّمَةُ وَالْفَتْحُ أَظْهَرُ انْتَهَى وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ اخْتِلَافٌ وَاَلَّذِي ضَبَطَهَا بِهِ الْقَاضِي مُتَعَيَّنٌ وَلَوْ كَانَتْ بِالْفَتْحِ لَاتَّحَدَتْ مَعَ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ وَقَدْ بَيَّنَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُغَايِرَةَ بَيْنَهُمَا وَكَأَنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَتَأَمَّلْ لَفْظَ مُسْلِمٍ وَلَا أَوَّلَ كَلَامَ الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ ضَبَطَ رِوَايَةَ زُهَيْرٍ الْحَرَمِ بِفَتْحِهِمَا فَيَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي عُمَرَ الْحُرُمِ بِضَمِّهِمَا فَإِنَّ مُسْلِمًا رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِالْمُغَايَرَةِ بَيْنَ لَفْظَيْ شَيْخَيْهِ وَأَنَّ أَحَدَهُمَا قَالَ بِفَتْحِهِمَا وَالْآخَرُ بِضَمِّهِمَا فَرِوَايَةُ ضَمِّهِمَا وَاقِعَةٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِلَا شَكٍّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ { فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ } فَهُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالرَّاءِ بِلَا شَكٍّ .
( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { خَمْسُ فَوَاسِقَ } .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هُوَ بِإِضَافَةِ خَمْسٍ لَا بِتَنْوِينِهِ وَذَكَرَ فِيهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ الْوَجْهَيْنِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى التَّنْوِينِ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ { خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلِّهِنَّ فَوَاسِقُ } .
وَقَالَ إنَّ رِوَايَةَ الْإِضَافَةِ رُبَّمَا تُشْعِرُ بِالتَّخْصِيصِ وَمُخَالَفَةَ حُكْمِ غَيْرِهَا لَهَا بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَرِوَايَةُ التَّنْوِينِ تَقْتَضِي وَصْفَ الْخَمْسِ بِالْفِسْقِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَقَدْ تُشْعِرُ بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْقَتْلُ مُعَلَّلٌ بِمَا جُعِلَ وَصْفًا وَهُوَ الْفِسْقُ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ التَّيَمُّمُ لِكُلِّ فَاسِقٍ مِنْ الدَّوَابِّ وَهُوَ ضِدُّ مَا اقْتَضَاهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمَفْهُومِ وَهُوَ التَّخْصِيصُ انْتَهَى .
( التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ النَّوَوِيُّ وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ فَوَاسِقُ فَصَحِيحَةٌ جَارِيَةٌ عَلَى وَفْقِ اللُّغَةِ وَأَصْلُ الْفِسْقِ فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ الْخُرُوجُ وَسُمِّيَ الرَّجُلُ الْفَاسِقُ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ فَسُمِّيَتْ هَذِهِ فَوَاسِقُ لِخُرُوجِهَا بِالْإِيذَاءِ وَالْإِفْسَادِ عَنْ طَرِيقِ مُعْظَمِ الدَّوَابِّ وَقِيلَ لِخُرُوجِهَا عَنْ حُكْمِ الْحَيَوَانِ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِهِ فِي الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ وَقِيلَ فِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ ضَعِيفَةٌ لَا نَرْتَضِيهَا انْتَهَى وَتَقَدَّمَ مِنْ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ أَنَّهُ قِيلَ لِلرَّاوِي لِمَ قِيلَ لَهَا أَيْ الْفَأْرَةِ الْفُوَيْسِقَةُ ؟ فَقَالَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَيْقَظَ لَهَا وَقَدْ أَخَذَتْ الْفَتِيلَةَ لِتُحْرِقَ بِهَا الْبَيْتَ .
( الْعِشْرُونَ ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ فِي الْحَرَمِ كُلُّ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَتْلٌ بِقِصَاصِ أَوْ رَجْمٌ بِالزِّنَا أَوْ قَتْلٌ فِي الْمُحَارَبَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَجُوزُ إقَامَةُ كُلِّ الْحُدُودِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ مُوجِبُ الْقَتْلِ وَالْحَدِّ جَرَى فِي الْحَرَمِ أَوْ خَارِجَهُ ثُمَّ لَجَأَ صَاحِبُهُ إلَى الْحَرَمِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَآخَرِينَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ يُقَامُ عَلَيْهِ فِيهِ وَمَا فَعَلَهُ خَارِجَهُ ثُمَّ لَجَأَ إلَيْهِ إنْ كَانَ إتْلَافَ نَفْسِ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ بَلْ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يُكَلَّمُ وَلَا يُجَالَسُ وَلَا يُبَايَعُ حَتَّى يَضْطَرَّ إلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ فَيُقَامَ عَلَيْهِ خَارِجَهُ وَمَا كَانَ دُونَ النَّفْسِ يُقَامُ فِيهِ قَالَ الْقَاضِي رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَكَمُ نَحْوُهُ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ النَّفْسِ وَدُونِهَا وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } وَحُجَّتُنَا عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لِمُشَارَكَةِ فَاعِلِ الْجِنَايَةِ لِهَذِهِ الدَّوَابِّ فِي اسْمِ الْفِسْقِ بَلْ فِسْقُهُ أَفْحَشُ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَلِأَنَّ التَّضْيِيقَ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يَبْقَى لِصَاحِبِهِ أَمَانٌ فَقَدْ خَالَفُوا ظَاهِرَ مَا فَسَّرُوا بِهِ الْآيَةَ قَالَ الْقَاضِي وَمَعْنَى الْآيَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ إخْبَارٌ عَمَّا كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَعَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ الْآيَاتِ وَقِيلَ : آمَنَ مِنْ النَّارِ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يُخَرَّجُ وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَحَمَّادٌ انْتَهَى وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ بَعْدَ ذِكْرِهِ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ وَهَذَا عِنْدِي لَيْسَ بِالْهَيِّنِ وَفِيهِ غَوْرٌ فَلْيُتَنَبَّهْ لَهُ
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ { كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { حِينَ يُحْرِمُ } .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد { وَلِإِحْلَالِهِ } وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ { طَيَّبْت } .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورٍ وَهُوَ ابْنُ زَاذَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { كُنْت أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ } .
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { طَيَّبْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ لِحَرَمِهِ وَطَيَّبْته بِمِنًى قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ } .
لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ النَّسَائِيّ { كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ لِحَرَمِهِ وَلِحِلِّهِ وَحِينَ يُرِيدُ أَنْ يَزُورَ الْبَيْتَ } .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ لِحَرَمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ حِينَ حَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ } .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ بِذَرِيرَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلِّ وَالْإِحْرَامِ } .
وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { كُنْت أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إحْرَامِهِ بِأَطْيَبِ مَا أَجِدُ } .
لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ { بِأَطْيَبِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ثُمَّ يُحْرِمُ } .
وَفِي لَفْظٍ لَهُ { سَأَلْت عَائِشَةَ بِأَيِّ شَيْءٍ طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ حَرَمِهِ ؟ قَالَتْ بِأَطْيَبِ الطِّيبِ } .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الرِّجَالِ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ { طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَرَمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ بِأَطْيَبِ مَا وَجَدْت } .
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إحْرَامِهِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَعِنْدَ إحْلَالِهِ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّ بِيَدَيَّ } .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَرَمِهِ حِينَ أَحْرَمَ وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ } .
لَفْظُ مُسْلِمٍ وَلَفْظُ النَّسَائِيّ { وَلِحِلِّهِ بَعْدَ مَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ } .
وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { كُنْت أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحَيَّتِهِ } .
لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ يَتَطَيَّبُ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ ثُمَّ أَرَى وَبِيصَ الدُّهْنِ فِي رَأْسِهِ
وَلِحْيَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ } .
وَلَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا طُرُقٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ وَاقْتَصَرْت عَلَى إيرَادِ هَذِهِ تَحَرِّيًا لِمُتَابَعَةِ الْأَصْلِ فِيمَا أَوْرَدَهُ مِنْ الرِّوَايَاتِ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَالْأَسَانِيدُ مُتَوَاتِرَةٌ بِهِ وَهِيَ صِحَاحٌ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِر بَعْدَ ذِكْرِهِ جُمْلَةً مِنْ طُرُقِهِ عَنْ عَائِشَةَ فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ رَوَاهُ عَنْهَا عُرْوَةُ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَمْرَةُ وَمَسْرُوقٌ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَرَوَاهُ عَنْ هَؤُلَاءِ النَّاسِ الْأَعْلَامُ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّطَيُّبُ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِدَامَتِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ لَوْنِهِ وَرَائِحَتِهِ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ فِي الْإِحْرَامِ ابْتِدَاؤُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ .
وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَعَائِشَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَالَ بِهِ النَّوَوِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَدَاوُد وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَعَدَّ مِنْهُمْ غَيْرَ مَنْ قَدَّمْنَا مُعَاوِيَةَ وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِهِ أَقْوَالٌ .
وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى مَنْعِ أَنْ يَتَطَيَّبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِمَا تَبْقَى رَائِحَتُهُ بَعْدَهُ لَكِنَّهُ قَالَ
إنْ فَعَلَ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو الطَّاهِرِ قَوْلًا بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ بَقَاءَ الطِّيبِ كَاسْتِعْمَالِهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ يُكْرَهُ أَنْ يَتَطَيَّبَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِمَا تَبْقَى عَيْنُهُ بَعْدَهُ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي مَذْهَبِهِ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ كَرَاهَةَ الطِّيبِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَحَكَى أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَمِمَّنْ كَرِهَ الطِّيبَ لِلْمُحْرِمِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَعَطَاءٌ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُ وَالزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ عَلَى اخْتِلَافٍ عَنْهُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ إلَّا أَنَّ مَالِكًا كَانَ أَخَفَّهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلًا .
ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْهُ قَالَ : وَتَرْكُ الطِّيبِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ أَحَبُّ إلَيْنَا انْتَهَى قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّصْرِيحُ بِالْمَنْعِ مِنْهُ انْتَهَى وَتَأَوَّلَ هَؤُلَاءِ حَدِيثَ عَائِشَةَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ بَعْدَهُ فَذَهَبَ الطِّيبُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ قَالُوا وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ إحْرَامِهِ ثُمَّ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا } .
فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ إنَّمَا تَطَيَّبَ لِمُبَاشَرَةِ نِسَائِهِ ثُمَّ زَالَ بِالْغُسْلِ بَعْدَهُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُ كَانَ يَتَطَهَّرُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ قَبْلَ الْأُخْرَى فَلَا يَبْقَى مَعَ ذَلِكَ طِيبٌ وَيَكُونُ قَوْلُهَا ثُمَّ
أَصْبَحَ يَنْضَخُ طِيبًا أَيْ قَبْلَ غُسْلِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ ذَلِكَ الطِّيبَ كَانَ ذَرِيرَةً وَهِيَ قَنَاةُ قَصَبِ طِيبٍ يُجَاءُ بِهِ مِنْ الْهِنْدِ وَهِيَ مِمَّا يُذْهِبُهُ الْغُسْلُ ، قَالُوا وَقَوْلُهَا { كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مُفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } .
الْمُرَادُ بِهِ أَثَرُهُ لَا جُرْمُهُ هَذَا كَلَامُ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَلَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ بَلْ الصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ : إنَّ الطِّيبَ مُسْتَحَبٌّ لِلْإِحْرَامِ لِقَوْلِهَا طَيَّبْته لِحَرَمِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الطِّيبَ لِلْإِحْرَامِ لَا لِلنِّسَاءِ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهَا { كَأَنَّى أَنْظُرُ إلَى وَبِيضِ الطِّيبِ } وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي قَالُوهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِمُخَالَفَتِهِ الظَّاهِرَ بِلَا دَلِيلٍ يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى لِسَانِ الذَّاهِبِينَ إلَى اسْتِحْبَابِ الطِّيبِ لِلْإِحْرَامِ لَا مَعْنَى لِحَدِيثِ ابْنِ الْمُنْتَشِرِ يَعْنِي الَّذِي فِيهِ ثُمَّ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يُعَارَضُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ لَوْ كَانَ مَا كَانَ فِي لَفْظِهِ حُجَّةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ لِغَيْرِ جِمَاعٍ لِيُعْلَمَهُنَّ كَيْفَ يُحْرِمْنَ وَكَيْفَ يَعْمَلْنَ فِي حَجِّهِنَّ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَنْصُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { كَانَ يُرَى وَبِيصُ الطِّيبِ فِي مُفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ } .
قَالُوا وَالصَّحِيحُ فِي حَدِيثِ ابْنِ الْمُنْتَشِرِ مَا رَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْهُ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فَقَالَ فِيهِ { فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا } .
قَالُوا وَالنَّضْخُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ اللَّطْخُ وَالظُّهُورُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ فِي رِوَايَتِنَا قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ هُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ
وَغَيْرِهِ وَحِينَ يُحْرِمُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِحْرَامِ هُنَا فِعْلُ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ التَّطَيُّبَ فِي الْإِحْرَامِ مُمْتَنِعٌ بِلَا شَكٍّ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَرَادَ الْإِحْرَامَ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ حِينَ { أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ } .
( الرَّابِعَةُ ) حَقِيقَةُ قَوْلِهَا { كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } تُطَيِّبُ بَدَنَهُ وَلَا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ تَطْيِيبَ ثِيَابِهِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِبَدَنِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا { حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ } .
وَقَدْ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ تَطَيُّبُ الثِّيَابِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ وَشَذَّ الْمُتَوَلِّي فَحَكَى قَوْلًا بِاسْتِحْبَابِهِ وَصَحَّحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَالْمِنْهَاجِ وَفِي جَوَازِهِ عِنْدَهُمْ وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِهِ فَنَزَعَهُ ثُمَّ لَبِسَهُ فَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ وَجْهَانِ صَحَّحَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ الْوُجُوبَ .
( الْخَامِسَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ كَانَ لَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي إحْرَامِهِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمُدَّعَى تَكْرَارُهُ إنَّمَا هِيَ التَّطَيُّبُ لَا الْإِحْرَامُ وَيُمْكِنُ تَكْرِيرُ التَّطَيُّبِ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِحْرَامِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَدْ صَحَّحَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ عُرْفًا وَلَا لُغَةً وَقَالَ النَّوَوِيُّ إنَّهُ الْمُخْتَارُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَصَحَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ قَالَ ، وَلِهَذَا اسْتَفَدْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ كَانَ حَاتِمٌ يُقْرِي الضَّيْفَ وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ عُرْفَا لَا لُغَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إبَاحَةِ التَّطَيُّبِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْحَلْقِ وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالطَّوَافِ هُنَا وَإِنَّمَا قُلْنَا بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْحَلْقِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رَتَّبَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ يَوْمَ النَّحْرِ هَكَذَا فَرَمَى ثُمَّ حَلَقَ ثُمَّ طَافَ } فَلَوْلَا أَنَّ التَّطَيُّبَ كَانَ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ لَمَا اقْتَصَرَتْ عَلَى الطَّوَافِ فِي قَوْلِهَا قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا مَالِكًا فَكَرِهَهُ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى هَذَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، انْتَهَى وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ عَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ عَنْهُمْ وَفِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ كَالْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا الْجَزْمُ بِحِلِّ الطِّيبِ قَبْلَ الطَّوَافِ ثُمَّ إنَّ مَالِكًا مَعَ قَوْلِهِ بِاسْتِمْرَارِ تَحْرِيمِ الطِّيبِ يَقُولُ إنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ لَوْ تَطَيَّبَ بِخِلَافِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ عِنْدَهُ قَبْلَ الطَّوَافِ كَالطِّيبِ عِنْدَهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَيَقُولُ بِلُزُومِ الْفِدْيَةِ لَوْ اصْطَادَ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُوفَةِ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ الطِّيبِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَبِلُزُومِ الْفِدْيَةِ لَوْ تَطَيَّبَ وَهُوَ الْقِيَاسُ أَعْنِي لُزُومَ الْفِدْيَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ وَبِالْفِدْيَةِ يَقُولُ الشَّافِعِيَّةُ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلٍ شَاذٍّ حَكَاهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ الطِّيبَ يَسْتَمِرُّ تَحْرِيمُهُ إلَى أَنْ يَطُوفَ وَأَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ وَقَطَعُوا بِجَوَازِهِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ ) هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَوَقُّفِ حِلِّ الطِّيبِ قَبْلَ الطَّوَافِ عَلَى الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ وَهُوَ أَشْهَرُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَصَحُّهُمَا فَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِهِ لِلْآخَرِ أَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ حَلَّ الطِّيبُ بِمُجَرَّدِ الرَّمْيِ وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكِ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَلَكِنْ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا انْتَهَى وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ مَذْكُورَةٌ فِي مُخْتَصَرَاتِ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ .
( الثَّامِنَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهَا لِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ تَحَلُّلٌ قَبْلَ الطَّوَافِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَيُوَافِقُهُ كَلَامُهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَإِنَّهُ أَوْرَدَ فِيهِ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُد حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا { فَإِذَا أَمْسَيْتُمْ قَبْلَ أَنْ تَطُوفُوا هَذَا الْبَيْتَ صِرْتُمْ حُرُمًا كَهَيْئَتِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطُوفُوا بِهِ } .
وَقَالَ إنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثُمَّ حَكَى عَنْ الْبَيْهَقِيّ أَنَّهُ قَالَ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِهِ ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِهِ فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى نَاسِخٍ ( قُلْت ) وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ يُشْبِهُ إنْ كَانَ قَدْ حَفِظَهُ ابْنُ يَسَارٍ صَارَ مَنْسُوخًا وَيُسْتَدَلُّ بِالْإِجْمَاعِ فِي جَوَازِ لُبْسِ الْمَخِيطِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ عَلَى نَسْخِهِ انْتَهَى لَكِنَّ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ مَوْجُودٌ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْإِشْرَافِ لَمَّا حَكَى الْخِلَافَ فِيمَا أُبِيحَ لِلْحَاجِّ بَعْدَ الرَّمْيِ وَقَبْلَ الطَّوَافِ وَفِيهِ قَوْلٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ يَكُونُ فِي ثَوْبَيْهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ .
كَذَلِكَ قَالَ أَبُو قِلَابَةَ وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مَنْ أَخَّرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى يَوْمِ النَّفْرِ فَإِنَّهُ لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا يَتَطَيَّبُ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَالثَّوْرِيُّ انْتَهَى .
وَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ الْجُمْهُورِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَيْفِيَّةِ ذَلِكَ التَّحَلُّلِ فَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ حَلَّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَيْسَ لِلْحَجِّ إلَّا تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ ، فَيُبَاحُ لَهُ سَائِرُ الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى الْمُحْرِمِ إلَّا الْجِمَاعَ فَإِنَّهُ مُسْتَمِرُّ التَّحْرِيمِ إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ مِنْ إحْرَامِهِ بَلْ انْقَضَى إحْرَامُهُ كُلُّهُ وَلَكِنَّ الْجِمَاعَ مُحَرَّمٌ عَلَى مَنْ هُوَ فِي الْحَجِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا وَمَا دَامَ يَبْقَى مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ شَيْءٌ فَهُوَ يُعَدُّ فِي الْحَجِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ شَيْخُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ لَيْسَ لِلْحَجِّ إلَّا تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ فَإِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ زَالَ إحْرَامُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ حَتَّى يَحْلِقَ وَيَطُوفَ كَمَا أَنَّ الْحَائِضَ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا زَالَ الْحَيْضُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَهُوَ تَحْرِيمُ وَطِئَهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ .
حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَقَالَ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الطَّوَافَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَكَيْفَ يَزُولُ الْإِحْرَامُ وَبَعْضُ الْأَرْكَانِ بَاقٍ وَهَذَانِ الْقَائِلَانِ وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى تَحَلُّلٍ وَاحِدٍ فَقَدْ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ التَّحَلُّلِ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ هُوَ بِمَا سَنَحْكِيهِ بَعْدَ هَذَا عَنْ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ هُوَ دُخُولُ وَقْتِ الرَّمْي بِطُلُوعِ الشَّمْسِ يَوْمَ النَّحْرِ فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الرَّمْيِ حَلَّ الْمُحْرِمُ سَوَاءٌ رَمَى أَوْ لَمْ يَرْمِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَحَّ عَنْهُ جَوَازُ تَقْدِيمِ الطَّوَافِ وَالذَّبْحِ وَالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُهَا بَطَلَ الْإِحْرَامُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْهَا وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ .
فَقَالَ إذَا دَخَلَ وَقْتُ الرَّمْيِ حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ لَمْ يَرْمِ وَحَكَى صَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَجْهًا شَاذًّا أَنَّا إذَا لَمْ نَجْعَلْ الْحَلْقَ نُسُكًا حَصَلَ لَهُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِمُجَرَّدِ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ وَقَائِلَا هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا يُوَافِقَانِ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى أَنَّ لِلْحَجِّ تَحَلُّلًا وَاحِدًا فَمَقَالَتُهُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَمْرَيْنِ قَالَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَلَا نَعْلَمُ لَهُ سَلَفًا فِي مَجْمُوعِ مَقَالَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ لِلْحَجِّ تَحَلُّلَانِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ إنْ قُلْنَا إنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِفِعْلِ أَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ وَهِيَ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْحَلْقُ وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ مَعَ سَعْيِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَإِذَا فَعَلَ اثْنَيْنِ مِنْهَا أَيُّ اثْنَيْنِ كَانَا حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ نُسُكًا حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِوَاحِدٍ مِنْ الرَّمْيِ وَالطَّوَافِ فَأَيُّهُمَا فَعَلَهُ أَوَّلًا حَلَّ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ بَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى بَعْضٍ وَتَرْتِيبُهَا بِتَقْدِيمِ الرَّمْيِ ثُمَّ الْحَلْقِ ثُمَّ الطَّوَافِ مُسْتَحَبٌّ فَقَطْ .
قَالُوا وَلَوْ لَمْ يَرْمِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَاتَ الرَّمْيُ وَلَزِمَهُ دَمٌ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ رَمَى بِالنِّسْبَةِ لِحُصُولِ التَّحَلُّلِ بِهِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ وَالنَّوَوِيِّ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ تَحَلُّلُهُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِبَدَلِهِ لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى خِلَافِهِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا شَاذًّا أَنَّهُ يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِالرَّمْيِ وَحْدَهُ أَوْ الطَّوَافِ وَحْدَهُ وَلَوْ قُلْنَا الْحَلْقُ نُسُكٌ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لِلْحَجِّ تَحَلُّلَانِ يَحْصُلُ أَحَدُهُمَا بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْآخَرُ بِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَلَوْ قَدَّمَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ : يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ كَمَنْ لَمْ يُفِضْ وَقَالَ أَصْبَغُ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِيدَ الْإِفَاضَةَ وَهُوَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ آكَدُ .
وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ إنَّ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ بِالْحَلْقِ خَاصَّةً دُونَ الرَّمْيِ
وَالطَّوَافِ فَلَيْسَا مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ وَفَرَّقُوا بِأَنَّ التَّحَلُّلَ هُوَ الْجِنَايَةُ فِي غَيْرِ أَوَانِهَا وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْحَلْقِ وَأَمَّا ذَبْحُ الْهَدْيِ فَلَيْسَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التَّحَلُّلُ إلَّا أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ قَالُوا إنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ لَا يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَقَدْ قَدَّمْت بَيَانَ ذَلِكَ وَمُخَالَفَةَ الْجُمْهُورِ لَهُمْ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَذَبَحَ وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حُرِّمَ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : فِيهِ نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَذْكُورِينَ لَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَهُمْ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ عَلَى الذَّبْحِ ثُمَّ حَكَى مَقَالَةَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فِي الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ ا هـ .
وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِمَام جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُهِمَّاتِ : اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلذَّبْحِ فِي التَّحَلُّلِ ( قُلْت ) يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ مَا أَجَابَ بِهِ أَصْحَابُنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ { مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ } فَقَالُوا تَقْدِيرُهُ وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلِيُهْلِلْ بِالْحَجِّ وَلَا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ وَقَدْ قَدَّمْته فِي الْبَابِ قَبْلَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ حَفْصَةَ وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ انْتَهَى وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْحَاجَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ وَفِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ وَذَبَحْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ } .
لَكِنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ مَدَارُهُ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَاضْطَرَبَ فِي إسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظِ { إذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ } وَمُقْتَضَى كَلَامِ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ذِكْرَ الْحَلْقِ أَيْضًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
( الْأَمْرُ الثَّانِيَ ) فِيمَا يَحِلُّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَقَدْ اتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ بِهِ مَا عَدَا الْجِمَاعَ وَمُقَدِّمَاتِهِ وَعَقْدَ النِّكَاحِ وَالصَّيْدَ وَالطِّيبَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْجِمَاعُ وَاخْتَلَفُوا فِي بَقِيَّةِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ يَحِلُّ الصَّيْدُ وَالطِّيبُ وَاخْتَلَفُوا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهُمَا التَّحْرِيمُ كَذَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَنَقَلَهُ عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهِ أَكْثَرُ عَدَدًا وَقَوْلُهُمْ أَوْفَقُ لِظَاهِرِ النَّصِّ فِي الْمُخْتَصَرِ لَكِنَّهُ صَحَّحَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ الْحِلَّ وَاقْتَضَى كَلَامُهُ فِي الْمُحَرَّرِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَصَرَّحَ بِإِبَاحَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ بِالْأَوَّلِ وَجَعَلَ الْمُبَاشَرَةَ دَاخِلَةً فِيمَا يَحِلُّ بِالثَّانِي وَكَلَامُ الْحَنَابِلَةِ مُوَافِقٌ لِلْمُرَجَّحِ عِنْدَنَا وَعِبَارَةُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ ثُمَّ قَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ وَعَنْهُ يَحِلُّ إلَّا مِنْ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ وَكَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ ثُمَّ قَالَ وَلَا يَحِلُّ الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَنَصَبَ الْخِلَافَ مَعَهُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَأَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ فِي الْإِحْرَامِ وَقَالَ
الْمَالِكِيَّةُ يَسْتَمِرُّ تَحْرِيمُ النِّسَاءِ وَالصَّيْدِ وَالطِّيبِ إلَّا أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا فِي الصَّيْدِ الْجَزَاءَ وَلَمْ يُوجِبُوا فِي الطِّيبِ الْفِدْيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَهَذَا عَجَبٌ فَإِنْ احْتَجُّوا بِالْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي تَطْيِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ( قُلْنَا ) لَا يَخْلُو هَذَا الْآثَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فَفَرَضَ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُخَالِفُوهُ وَقَدْ خَالَفْتُمُوهُ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ فَلَا تُرَاعُوهُ وَأَوْجِبُوا الْفِدْيَةَ عَلَى مَنْ تَطَيَّبَ كَمَا أَوْجَبْتُمُوهَا عَلَى مَنْ تَصَيَّدَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَاعَى مَالِكٌ الِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَمْ يَرَ الْفِدْيَةَ عَلَى مَنْ تَطَيَّبَ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَقَبْلَ الْإِفَاضَةِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ اعْتَذَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِادِّعَاءِ خُصُوصِيَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ( قُلْنَا ) الْأَصْلُ التَّشْرِيعُ وَعَدَمُ التَّخْصِيصِ وَالْقَوْلُ بِالتَّخْصِيصِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَلَيْسَ ثَمَّ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ قَالُوا الطِّيبُ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ وَالدَّوَاعِي إلَيْهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إرْبَهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ { وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ إرْبَهُ } وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَا أُبِيحَ لِلْحَاجِّ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةُ وَعَلْقَمَةُ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَطَاوُسٌ وَالنَّخَعِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ وَرَوَيْنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
وَابْنُ عُمَرَ يَحِلُّ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَقَالَ مَالِكٌ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَالصَّيْدَ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ إِسْحَاقَ فَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد الْخَفَّافُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ وَالصَّيْدَ ثُمَّ قَالَ وَفِيهِ قَوْلٌ خَامِسٌ فَذَكَرَ كَلَامَهُ الَّذِي قَدَّمْته فِي صَدْرِ هَذِهِ الْفَائِدَةِ
التَّاسِعَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الطِّيبِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الطَّوَافِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ كَانَ مِنْ تَكْرِيرِ ذَلِكَ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَتَابَعَهُ أَصْحَابُهُ وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الطِّيبِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا الشُّعْثُ فَغَيْرُهَا أَوْلَى .
( الْعَاشِرَةُ ) وَفِيهِ طَهَارَةُ الْمِسْكِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إلَّا فِي قَوْلٍ شَاذٍّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ .
بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُقْتُلُوهُ .
قَالَ مَالِكٌ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ }
( بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُقْتُلُوهُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمًا } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ .
( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ عَنْ مَالِكٍ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ لَا نَعْرِفُ كَبِيرًا قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إسْنَادٌ غَيْرُ حَدِيثِ مَالِكٍ وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ وَاحْتَاجَ إلَيْهِ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ وَمِنْ أَجْلِ مَا رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جُرَيْجٍ انْتَهَى وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَدَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ غَيْرِ طَرِيقِ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَأَبِي أُوَيْسٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ وَمَعْمَرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ كُلِّهِمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَرِوَايَةُ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ رَوَاهَا أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَرِوَايَةُ أَبِي أُوَيْسٍ رَوَاهَا ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي أُوَيْسٍ وَرِوَايَةُ مَعْمَرٍ ذَكَرَهَا ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَرِوَايَةُ الْأَوْزَاعِيِّ ذَكَرَهَا الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ قَالَ وَقَدْ يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ قَالَ وَرَوَى ابْنُ مُسْدِي فِي مُعْجَمِ شُيُوخِهِ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْعَرَبِيِّ قَالَ لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْمُرَخِّي حِينَ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَدْ رَوَيْتُهُ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ طَرِيقًا غَيْرِ طَرِيقِ مَالِكٍ فَقَالُوا لَهُ أَفِدْنَا هَذِهِ الْفَوَائِدَ فَوَعَدَهُمْ وَلَمْ يُخْرِجْ لَهُمْ شَيْئًا ، ثُمَّ تَعَقَّبَ ابْنُ مُسْدِي هَذِهِ
الْحِكَايَةَ بِأَنَّ شَيْخَهُ فِيهَا وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْعَشَّابُ كَانَ مُتَعَصِّبًا عَلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ لِكَوْنِهِ كَانَ مُتَعَصِّبًا عَلَى ابْنِ حَزْمٍ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو دُرٍّ عَبْدُ بْنُ أَحْمَدَ الْهَرَوِيُّ لَمْ يَرْوِ حَدِيثَ الْمِغْفَرِ عَنْ الزُّهْرِيِّ إلَّا مَالِكٌ وَحْدَهُ قَالَ وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ وَلَيْسَ صَالِحٌ بِذَاكَ ، وَزَادَ فِيهِ { وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ } ا هـ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَوَاهُ رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ مَالِكٍ وَزَادَ فِيهِ { وَطَافَ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ } وَلَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ قَالَ وَرَوَاهُ عَنْهُ جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ وَزَادَ فِيهِ { وَاسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِمِحْجَنٍ } وَهَذَا أَيْضًا لَمْ يَقُلْهُ عَنْ مَالِكٍ غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ { فِيهِ مِغْفَرٌ مِنْ حَدِيدٍ } رَوَاهُ بُسْرُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مَالِكٍ انْتَهَى .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ { وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا } كَذَا فِي الْمُوَطَّإِ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي الْمَغَازِي عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ مَالِكٌ وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نَرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ ثَمَّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ قَزَعَةَ عَنْهُ وَيَشْهَدُ لَهُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ } .
( الثَّالِثَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مَسْتُورَ الرَّأْسِ بِالْمِغْفَرِ وَالْمُحْرِمُ يَجِبُ عَلَيْهِ كَشْفُ رَأْسِهِ وَمِنْ تَصْرِيحِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا وَأَبْدَى الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ فِي سَتْرِ الرَّأْسِ احْتِمَالًا فَقَالَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ انْتَهَى وَيَرُدُّهُ تَصْرِيحُ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ وَهَذَا الِاسْتِدْلَال فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ مِنْ وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ خَائِفًا مِنْ الْقَتْلِ مُتَأَهِّبًا لَهُ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ الدُّخُولُ بِلَا إحْرَامٍ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ نَعْلَمُهُ وَقَدْ اسْتَشْكَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ذَلِكَ بِأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ صُلْحًا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ إنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَحِينَئِذٍ فَلَا خَوْفَ ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ { بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَالَحَ أَبَا سُفْيَانَ وَكَانَ لَا يَأْمَنُ غَدْرَ أَهْلِ مَكَّةَ فَدَخَلَهَا صُلْحًا وَهُوَ مُتَأَهِّبٌ لِلْقِتَالِ إنْ غَدَرُوا } ( ثَانِيهِمَا ) أَنَّ أَصْحَابَنَا عَدُّوا مِنْ خَصَائِصِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَوَازُ دُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ مُطْلَقًا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاصِّ وَغَيْرُهُ فَأَمَّا غَيْرُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ خَائِفًا فَقَالَ أَصْحَابُنَا إنْ لَمْ يَكُنْ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ فَفِي وُجُوبِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ فَإِنْ تَكَرَّرَ دُخُولُهُ كَالْحَطَّابِينَ وَنَحْوِهِمْ فَفِيهِ خِلَافٌ مُرَتَّبٌ وَأَوْلَى بِعَدَمِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ بِوُجُوبِ الْإِحْرَامِ إلَّا عَلَى الْخَائِفِ وَأَصْحَابِ الْحَاجَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ وَلَمْ يُوجِبْهُ بَعْضُهُمْ وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَأَوْجَبَهُ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ عَلَى غَيْرِ ذَوِي الْحَاجَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ وَلَمْ أَرَهُمْ اسْتَثْنَوْا الْخَائِفَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يُنَازِعُونَ فِي اسْتِثْنَائِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْوُجُوبِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ وَذَهَبَ أَبُو مُصْعَبٍ إلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا مِثْلُ رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ حَكَاهُمَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَوْجَبَهُ الْحَنَفِيَّةُ مُطْلَقًا وَلَمْ أَرَهُمْ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَلَمْ يُوجِبُوا عَلَيْهِ الْإِحْرَامَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَيْضًا لَا يُنَازِعُونَ فِي الْخَائِفِ بَلْ وَلَا فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِاسْتِثْنَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ عَلَّلُوا مَنْعَ الْوُجُوبِ فِيمَنْ هُوَ دَاخِلُ الْمِيقَاتِ بِأَنَّهُ يَكْثُرُ دُخُولُهُمْ مَكَّةَ وَفِي إيجَابِ الْإِحْرَامِ كُلَّ مَرَّةٍ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَصَارُوا كَأَهْلِ مَكَّةَ حَيْثُ يُبَاحُ لَهُمْ الْخُرُوجُ مِنْهَا ثُمَّ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ لَكِنْ مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي مُنَازَعَتُهُمْ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ أَيْضًا وَقَدْ تَحَرَّرَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا وَمِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْوُجُوبُ إلَّا فِيمَا يُسْتَثْنَى وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَعَدَمُ الْوُجُوبِ مَحْكِيٌّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ انْفِرَادَهُمَا بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ السَّلَفِ وَأَنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْوُجُوبُ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ وَذَهَبَ إلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ أَيْضًا دَاوُد وَابْنُ حَزْمٍ وَسَائِرُ أَهْلِ الظَّاهِرِ .
( الرَّابِعَةُ ) الْمِغْفَرُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَيُقَالُ لَهُ مِغْفَرَةٌ بِزِيَادَةِ هَاءِ التَّأْنِيثِ آخِرَهُ وَهُوَ زَرَدٌ يُنْسَجُ مِنْ الدُّرُوعِ عَلَى قَدْرِ الرَّأْسِ يُلْبَسُ تَحْتَ الْقَلَنْسُوَةِ حَكَاهُ فِي الصِّحَاحِ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ وَصَدَّرَ بِهِ صَاحِبُ الْمُحْكَمِ كَلَامَهُ ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ هُوَ رَفْرَفُ الْبَيْضَةِ وَقِيلَ هُوَ حَلَقٌ يَتَقَنَّعُ بِهِ الْمُتَسَلِّحُ وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ هُوَ مَا يُجْعَلُ مِنْ فَضْلِ دِرْعِ الْحَدِيدِ عَلَى الرَّأْسِ مِثْلُ الْقَلَنْسُوَةِ وَالْخِمَارِ .
( الْخَامِسَةُ )
يُسْأَلُ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ { وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ } وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الْقَاضِي عِيَاضٌ بِأَنَّ أَوَّلَ دُخُولِهِ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ الْعِمَامَةُ بَعْدَ إزَالَةِ الْمِغْفَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ { خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ } لِأَنَّ الْخُطْبَةَ إنَّمَا كَانَتْ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ بَعْدَ تَمَامِ فَتْحِ مَكَّةَ ( قُلْت ) وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْعِمَامَةَ السَّوْدَاءَ كَانَتْ فَوْقَ الْمِغْفَرِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْجَمْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) فِي دُخُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَكَّةَ بِآلَةِ الْحَرْبِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْقِتَالِ بِهَا وَذَلِكَ فِيمَا إذَا الْتَجَأَ إلَيْهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ أَوْ الْبُغَاةِ أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْجَزْمُ بِجَوَازِهِ وَحَكَى الْقَفَّالُ وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا .
( السَّابِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ عَلَى جَوَازِ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى مَنْعِهِ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَحَكَى عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ تَفْصِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ خَارِجَ الْحَرَمِ فَدَخَلَهُ لَمْ يُقْتَلْ فِيهِ وَيُقَامُ عَلَيْهِ مَا دُونَ الْقَتْلِ ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ بِأَنْ قَتَلَ فِيهِ أَوْ زَنَى فِيهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَتَأَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ قَتَلَهُ فِي السَّاعَةِ الَّتِي أُبِيحَتْ لَهُ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهَا إنَّمَا أُبِيحَتْ لَهُ سَاعَةَ الدُّخُولِ حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَيْهَا وَأَذْعَنَ أَهْلُهَا وَإِنَّمَا قَتَلَ ابْنَ خَطَلٍ بَعْدَ ذَلِكَ .
( الثَّامِنَةُ ) ابْنُ خَطَلٍ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ لَامٌ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ اسْمُهُ غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ جَابِرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ تَيْمِ ابْنِ غَالِبٍ انْتَهَى وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ تَسْمِيَتَهُ هِلَالًا وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ وَقَدْ قِيلَ هِلَالٌ كَانَ أَخَاهُ وَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا الْخَطَلَانِ انْتَهَى قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ وَقَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَجَزَمَ ابْنُ طَاهِرٍ فِي مُبْهَمَاتِهِ بِأَنَّ الَّذِي قَتَلَهُ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ اشْتِرَاكًا فِي دَمِهِ ( التَّاسِعَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّمَا قَتَلَهُ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَقَتَلَ مُسْلِمًا كَانَ يَخْدُمُهُ وَكَانَ يَهْجُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسُبُّهُ وَكَانَتْ لَهُ قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ انْتَهَى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَهَذَا الْقَتْلُ قَوَدٌ مِنْ دَمِ مُسْلِمٍ وَكَذَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ لَمْ يُنَفِّذْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمَانَ وَقَتَلَهُ بِحَقِّ مَا جَنَاهُ فِي الْإِسْلَامِ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ فَإِنْ قِيلَ فَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ } فَكَيْفَ قَتَلَهُ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَسْتَارِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْأَمَانِ بَلْ اسْتَثْنَاهُ هُوَ وَابْنُ أَبِي سَرْحٍ وَالْقَيْنَتَيْنِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَإِنْ وُجِدَ مُعَلَّقًا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ وَقِيلَ لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَمْ يَفِ بِالشَّرْطِ بَلْ قَاتَلَ بَعْدَ ذَلِكَ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا أَصْلٌ فِي قَتْلِ الذِّمِّيِّ إذَا سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ ابْنَ خَطَلٍ كَانَ حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُدْخِلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمَانِهِ لِأَهْلِ مَكَّةَ بَلْ اسْتَثْنَاهُ وَقَوْمًا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمَانِ ، وَخَرَجَ أَمْرُهُ بِقَتْلِهِ مَعَ الْأَمَانِ لِأَهْلِ مَكَّةَ مَخْرَجًا وَاحِدًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِذَلِكَ وَرَدَتْ الْآثَارُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى قَتْلِ الْأَسِيرِ صَبْرًا وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ وَاضِحٌ فَالْقُدْرَةُ عَلَى ابْنِ خَطَلٍ صَيَّرَتْهُ كَالْأَسِيرِ فِي يَدِ الْإِمَامِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ أُمُورٍ مِنْهَا الْقَتْلُ وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو دَاوُد عَلَى قَتْلِ الْأَسِيرِ وَلَا يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَى ابْنِ خَطَلٍ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ { عِنْدَمَا قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ خَطَلٍ قَالَ لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا } كَذَلِكَ قَالَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ انْتَهَى وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ فِي مُبْهَمَاتِهِ مِنْ حَدِيثِ النَّهْيِ عَنْ الزُّبَيْرِ قَالَ { قَتَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ قَالَ لَا يُقْتَلُ بَعْدَ الْيَوْمِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ صَبْرًا } ثُمَّ قَالَ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الزُّبَيْرِيُّ هَذَا هُوَ ابْنُ أَبِي هَالَةَ انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْحِلْيَةِ وَصَرَّحَ فِي نَفْسِ الْإِسْنَادِ بِأَنَّهُ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ يَوْمَ بَدْرٍ وَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ بَعْدَ بَدْرٍ قَتْلُ بَعْضِ قُرَيْشٍ صَبْرًا وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ مُطِيعِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ { سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ يَقُولُ : لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَأَمَّا كَوْنُهُ قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ قَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ فَغَرِيبٌ وَالْمُرَادُ الْقَتْلُ عَلَى الرِّدَّةِ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ التَّلْبِيَةِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ ، إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك قَالَ نَافِعٌ : فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك وَالْعَمَلُ } لَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ زِيَادَةَ ابْنِ عُمَرَ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ ( أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَكَى هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُهَا بَعْدَ التَّلْبِيَةِ ) .
وَلِلنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّيْكَ إلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ } وَلِلْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ التَّلْبِيَةِ قَالَ { إنَّمَا الْخَيْرُ خَيْرُ الْآخِرَةِ } وَفِي الْعِلَلِ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { لَبَّيْكَ حَجًّا حَقًّا ، تَعَبُّدًا وَرِقًّا }
( بَابُ التَّلْبِيَةِ ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ عُمَرَ { أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ ، لَا شَرِيكَ لَك قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِيهَا لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ بَيْنَ يَدَيْك ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك وَالْعَمَلُ } .
لَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ زِيَادَةَ ابْنِ عُمَرَ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَابْنُ مَاجَهْ وَمِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ .
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ كُلِّهِمْ عَنْ نَافِعٍ وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ زِيَادَةُ ابْنِ عُمَرَ وَلَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمٍ وَنَافِعٍ وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمًا عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ أَهَلَّ فَقَالَ لَبَّيْكَ } .
فَذَكَرَهُ وَفِي آخِرِهِ قَالَ نَافِعٌ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَزِيدُ مَعَ هَذَا لَبَّيْكَ فَذَكَرَهُ وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ التَّلْبِيَةَ الْمَرْفُوعَةَ وَفِي آخِرِهِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُهِلُّ بِإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَيَقُولُ { لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْك ، لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك وَالْعَمَلُ } .
وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي اللِّبَاسِ ( الثَّانِيَةُ ) التَّلْبِيَةُ مَصْدَرُ لَبَّى أَيْ قَالَ لَبَّيْكَ وَهُوَ مُثَنَّى
عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْجُمْهُورِ وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ وَأَلِفُهُ إنَّمَا انْقَلَبَتْ بَاءً لِاتِّصَالِهَا بِالضَّمِيرِ كَلَدَيَّ وَعَلَيَّ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ قَلْبِهَا يَاءً مَعَ الْمُظْهَرِ وَهَذِهِ التَّثْنِيَةُ لَيْسَتْ حَقِيقِيَّةً بَلْ هِيَ لِلتَّكْثِيرِ وَالْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أَيْ نِعْمَتَاهُ عِنْدَ مَنْ أَوَّلَ الْيَدَ بِالنِّعْمَةِ وَنِعَمُهُ تَعَالَى لَا تُحْصَى وَمَعْنَاهُ إجَابَةً بَعْدَ إجَابَةٍ وَلُزُومًا لِطَاعَتِك قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ثَنَّوْا لَبَّيْكَ كَمَا ثَنَّوْا حَنَانَيْكَ أَيْ تَحَنُّنًا بَعْدَ تَحَنُّنٍ وَأَصْلُ لَبَّيْكَ لَبَبَّيْك فَاسْتَثْقَلُوا الْجَمْعَ بَيْنَ ثَلَاثِ بَاءَاتٍ فَأَبْدَلُوا مِنْ الثَّالِثَةِ يَاءً كَمَا قَالُوا مِنْ الظَّنِّ تَظَنَّيْتُ وَأَصْلُهُ تَظَنَّنْت وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهَا وَمَعْنَاهَا فَقِيلَ مَعْنَاهَا اتِّجَاهِي وَقَصْدِي إلَيْك ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ دَارِي تَلُبُّ دَارَك أَيْ تُوَاجِهُهَا وَقِيلَ مَعْنَاهَا مَحَبَّتِي لَك مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ امْرَأَةٌ لَبَّةٌ إذَا كَانَتْ مُحِبَّةً وَلَدَهَا عَاطِفَةً عَلَيْهِ .
وَقِيلَ مَعْنَاهَا إخْلَاصِي لَك مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ حَسَبٌ لُبَابٌ ، إذَا كَانَ خَالِصًا مَحْضًا وَمِنْ ذَلِكَ لُبُّ الطَّعَامِ وَلُبَابُهُ وَقِيلَ مَعْنَاهَا أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِك وَإِجَابَتِك مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ لَبَّ الرَّجُلُ بِالْمَكَانِ وَأَلَبَّ إذَا أَقَامَ فِيهِ وَلَزِمَهُ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَبِهَذَا قَالَ الْخَلِيلُ وَالْأَحْمَرُ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَرْبِيِّ مَعْنَى لَبَّيْكَ قُرْبًا مِنْك وَطَاعَةً ، وَالْأَلْبَابُ الْقُرَبُ ، وَقَالَ أَبُو نَصْرٍ : مَعْنَاهُ أَنَا مُلَبٍّ بَيْنَ يَدَيْك أَيْ خَاضِعٌ حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي الْفَائِقِ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لِلتَّكْثِيرِ وَلَا يَكُونُ عَامِلُهُ إلَّا مُضْمِرًا كَأَنَّهُ قَالَ أَلَبَّ إلْبَابًا بَعْدَ إلْبَابٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَمَعْنَى التَّلْبِيَةِ إجَابَةُ اللَّهِ فِيمَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ
حَجِّ بَيْتِهِ وَالْإِقَامَةِ عَلَى طَاعَتِهِ فَالْمُحْرِمُ بِتَلْبِيَتِهِ مُسْتَجِيبٌ لِدُعَاءِ اللَّهِ إيَّاهُ فِي إيجَابِ الْحَجِّ عَلَيْهِ وَمِنْ أَجْلِ الِاسْتِجَابَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَبَّى لِأَنَّ مَنْ دُعِيَ فَقَالَ لَبَّيْكَ فَقَدْ اسْتَجَابَ ثُمَّ قَالَ : وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إنَّ مَعْنَى التَّلْبِيَةِ إجَابَةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ .
قِيلَ وَهَذِهِ الْإِجَابَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } انْتَهَى وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ ( مُثِيرُ الْغَرَامِ السَّاكِنِ ) عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : لَمَّا قِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوك رِجَالًا } قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَقُولُ ؟ قَالَ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ فَصَعِدَ الْجَبَلَ فَنَادَى يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ فَأَجَابُوهُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ فَكَانَ هُوَ أَوَّلَ التَّلْبِيَةِ .
وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّهُ اسْتَقْبَلَ الْمَشْرِقَ ثُمَّ الْمَغْرِبَ ثُمَّ الْيَمَنِ ثُمَّ الشَّامِ فَدَعَا فَأُجِيبَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْوَانَ بَلَغَنِي عَنْ بَدْءِ التَّلْبِيَةِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي شَأْنِ حَجِّ الْبَيْتِ وَكَانَ غَرِقَ زَمَنَ الطُّوفَانِ وَبَقِيَ أَسَاسُهُ فَأُمِرَ أَنْ يَتْبَعَ سَحَابَةً وَكَانَ كُلَّمَا نُودِيَ مِنْهَا يَا إبْرَاهِيمُ بَيْتِي بَيْتِي قَالَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ .
( الثَّالِثَةُ ) فِي الْمَرْفُوعِ تَكْرِيرُ لَفْظِهِ لَبَّيْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَكَذَا فِي الْمَوْقُوفِ إلَّا أَنَّ فِي الْمَرْفُوعِ الْفَصْلَ بَيْنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ اللَّهُمَّ وَقَدْ نُقِلَ اتِّفَاقُ الْأُدَبَاءِ عَلَى أَنَّ التَّكْرِيرَ اللَّفْظِيَّ أَلَّا يُزَادَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ إنَّ الْحَمْدَ رُوِيَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَفَتْحِهَا عَلَى التَّعْلِيلِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَالْكَسْرُ أَجْوَدُ وَحَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ قُدَامَةَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ اخْتِيَارِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ الْفَتْحُ رِوَايَةُ الْعَامَّةِ وَحَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ ثَعْلَبٌ الِاخْتِيَارُ الْكَسْرُ وَهُوَ أَجْوَدُ فِي الْمَعْنَى مِنْ الْفَتْحِ لِأَنَّ مَنْ كَسَرَ جَعَلَ مَعْنَاهُ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك عَلَى كُلِّ حَالٍ وَمَنْ فَتَحَ قَالَ مَعْنَاهُ لَبَّيْكَ لِهَذَا السَّبَبِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْمَعْنَى عِنْدِي وَاحِدٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَتَحَ الْهَمْزَةَ ، أَرَادَ لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَالْمُلْكَ لَك وَالنِّعْمَةَ وَحْدَك دُونَ غَيْرِك حَقِيقَةً لَا شَرِيكَ لَك ( قُلْت ) التَّقْيِيدُ لَيْسَ فِي الْحَمْدِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي التَّلْبِيَةِ فَمَعْنَى الْفَتْحِ تَلْبِيَتُهُ بِسَبَبِ أَنَّ لَهُ الْحَمْدَ وَمَعْنَى الْكَسْرِ تَلْبِيَتُهُ مُطْلَقًا غَيْرُ مُعَلَّلٍ وَلَا مُقَيَّدٍ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ وَالنِّعْمَةُ لَك الْمَشْهُورُ فِيهِ نَصْبُ النِّعْمَةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَيَجُوزُ رَفْعُهَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَيَكُونُ الْخَبَرُ مَحْذُوفًا قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ خَبَرَ إنَّ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ إنَّ الْحَمْدَ لَك وَالنِّعْمَةَ مُسْتَقِرَّةٌ لَك .
( السَّادِسَةُ ) وَقَوْلُهُ وَالْمُلْكَ ، فِيهِ وَجْهَانِ أَيْضًا : ( أَشْهَرُهُمَا ) النَّصْبُ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إنَّ
.
( وَالثَّانِي ) الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ تَقْدِيرَهُ وَالْمُلْكُ كَذَلِكَ .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ وَسَعْدَيْكَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ إعْرَابُهَا وَتَثْنِيَتُهَا كَمَا سَبَقَ فِي لَبَّيْكَ وَمَعْنَاهُ مُسَاعِدَةً لِطَاعَتِك بَعْدَ مُسَاعِدَةٍ وَقَالَ الْمَازِرِيُّ وَقِيلَ مَعْنَاهُ اسْعَدْنَا سَعَادَةً بَعْدَ سَعَادَةٍ وَإِسْعَادًا بَعْدَ إسْعَادٍ وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إنَّهُ سُؤَالٌ مِنْ اللَّهِ السَّعْدَ وَتَأْكِيدٌ فِيهِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ لَمْ يُسْمَعْ سَعْدَيْكَ مُفْرَدًا وَهُوَ مِنْ الْمَصَادِرِ الْمَنْصُوبَةِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ وَالْخَيْرُ بِيَدَيْك أَيْ فِي قَبْضَتِك وَمُلْكِك وَهُوَ مِنْ بَابِ إصْلَاحِ الْمُخَاطَبَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } .
( التَّاسِعَةُ ) الرَّغْبَاءُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ فَتْحُ الرَّاءِ وَالْمَدُّ وَهُوَ أَشْهَرُهَا وَضَمُّ الرَّاءِ مَعَ الْقَصْرِ وَهُوَ مَشْهُورٌ أَيْضًا وَفَتْحُ الرَّاءِ مَعَ الْقَصْرِ وَهُوَ غَرِيبٌ حَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَغَيْرُهُ وَنَظِيرُ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ الْعَلْيَاءُ وَالْعُلْيَا وَالنَّعْمَاءُ وَالنُّعْمَى وَمَعْنَى اللَّفْظَةِ الطَّلَبُ وَالْمَسْأَلَةُ أَيْ إنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَطْلُوبُ الْمَسْئُولُ مِنْهُ فَبِيَدِهِ جَمِيعُ الْأُمُورِ قَالَ شِمْرٌ رُغُبُ النَّفْسِ سَعَةُ الْأَمَلِ وَطَلَبُ الْكَثِيرِ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَوْلُهُ وَالْعَمَلُ أَيْ إنَّ الْعَمَلَ كُلَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ وَفِيهِ حَذْفٌ يَحْتَمِلُ أَنَّ تَقْرِيرَهُ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَيْ وَالْعَمَلُ إلَيْك أَيْ إلَيْك الْقَصْدُ بِهِ وَالِانْتِهَاءُ بِهِ إلَيْك لِتُجَازِي عَلَيْهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ تَقْرِيرَهُ وَالْعَمَلُ لَك
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ حُكْمِ التَّلْبِيَةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهَا سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يَصِحَّانِ بِدُونِهَا وَلَا إثْمَ عَلَى تَارِكِهَا وَلَا دَمَ نَاسِيًا كَانَ أَوْ مُتَعَمِّدًا وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ أَجِدْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصًّا عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأُصُولُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ عِنْدَهُ ثُمَّ قَالَ وَذَكَرَ ابْنُ خواز بنداد عَنْ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّلْبِيَةَ إنْ فَعَلَهَا فَحَسَنٌ وَإِنْ تَرَكَهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
( الثَّانِي ) أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَيَجِبُ بِتَرْكِهَا الدَّمُ وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ ابْنِ خَيْرَانَ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَّهُمَا زَعَمَا أَنَّهُمَا وَجَدَا لِلشَّافِعِيِّ نَصًّا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ لَيْسَ يُعْرَفُ لَهُ نَصٌّ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَحَكَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَذْكُرْ التَّلْبِيَةَ حَتَّى خَرَجَ مِنْ حَجِّهِ رَأَيْتُ أَنْ يُهْرِقَ دَمًا قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّ الْإِهْلَالَ لِلْإِحْرَامِ لَيْسَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ التَّكْبِيرِ لِلدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ .
وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْإِمَامِ لِمَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ بِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ { حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَابِرٍ الْأَحْمَسِيَّةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا فِي امْرَأَةٍ حَجَّتْ مَعَهَا مُصْمَتَةً قُولِي لَهَا تَتَكَلَّمُ فَإِنَّهُ لَا حَجَّ لِمَنْ لَا يَتَكَلَّمُ } .
وَفِي الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ بِالتَّلْبِيَةِ لَا سِيَّمَا وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ أَنَّمَا صَمَتَتْ عَنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَخِطَابِهِمْ لَا عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ وَالتَّلْبِيَةُ مِنْ الذِّكْرِ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّهَا سُنَّةٌ وَيَجِبُ بِتَرْكِهَا الدَّمُ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَفِيهِ نَظَرٌ وَلَمْ أَرَهُ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالسُّنَّةُ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهَا دَمٌ .
( الرَّابِعُ ) أَنَّهَا رُكْنٌ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهَا وَلَا يَصِحُّ الْإِحْرَامُ وَلَا الْحَجُّ إلَّا بِهَا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ التَّلْبِيَةُ فَرْضُ الْحَجِّ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ الْفَرْضُ التَّلْبِيَةُ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَطَاوُسٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْفَرْضُ الْإِهْلَالُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْفَرْضُ الْإِحْرَامُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ انْتَهَى وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ التَّلْبِيَةُ كَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ التَّلْبِيَةُ عِنْدَ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْحَجُّ إلَيْهَا مُفْتَقِرٌ .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي وَعَنْ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا مِنْ شَرْطِ الْإِحْرَامِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِهَا كَالتَّكْبِيرِ لِلصَّلَاةِ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ هِيَ فَرْضٌ وَلَوْ مَرَّةً .
وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهَا .
( الْخَامِسُ ) وُجُوبُهَا عَلَى التَّخْيِيرِ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِالنِّيَّةِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ كَالتَّلْبِيَةِ وَالتَّوَجُّهِ عَلَى الطَّرِيقِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ بِمُقْتَضَى نَقْلِ ابْنِ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ فَإِنَّهُ صَدَّرَ بِهِ كَلَامَهُ ثُمَّ حَكَى مَقَالَةَ ابْنِ حَبِيبٍ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا .
( السَّادِسُ ) وُجُوبُهَا عَلَى التَّخْيِيرِ أَيْضًا لَكِنْ بِتَفْصِيلٍ آخَرَ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ حَتَّى تَنْضَمَّ إلَيْهِ التَّلْبِيَةُ أَوْ سَوْقُ الْهَدْيِ أَوْ تَقْلِيدُ الْبُدْنِ وَيَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ مَا فِي مَعْنَاهَا
مِنْ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا يَقُولُ فِي إحْرَامِ الصَّلَاةِ إنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالتَّكْبِيرِ بَلْ يَقُومُ مَقَامَهُ مَا دَلَّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَيَرَى الْحَجَّ أَوْسَعَ مِنْ الصَّلَاةِ وَفِي ذَلِكَ لِقِيَامِ سَوْقِ الْهَدْيِ وَنَحْوِهِ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ أَصْحَابِنَا .
( السَّابِعُ ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إنْ كَبَّرَ وَهَلَّلَ أَوْ سَبَّحَ يَنْوِي بِذَلِكَ الْإِحْرَامَ فَهُوَ مُحْرِمٌ انْتَهَى .
وَفِيهِ وُجُوبُ التَّلْبِيَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ بِتَفْصِيلٍ آخَرَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ سَوْقِ الْهَدْيِ وَنَحْوِهِ .
( الثَّامِنُ ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا وَقَالَتْ عَائِشَةُ لَا إحْرَامَ إلَّا لِمَنْ أَهَلَّ أَوْ لَبَّى انْتَهَى وَفِيهِ وُجُوبُ التَّلْبِيَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ بِتَفْصِيلٍ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ فَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ الْأَخِيرَةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى إيجَابِ التَّلْبِيَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ لَكِنْ بِتَفَاصِيلَ مُخْتَلِفَةٍ .
( التَّاسِعُ ) أَنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِ تَكْرَارِهَا دَمٌ وَهُوَ أَشْهَرُ قَوْلَيْ الْمَالِكِيَّةِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَصْلِ وُجُوبِ التَّلْبِيَةِ
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذِهِ تَلْبِيَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْإِحْرَامِ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي وَلَا بَأْسَ أَنْ يُلَبِّيَ الْحَلَالُ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَكَرِهَهُ مَالِكٌ انْتَهَى .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) لَمْ يَقْتَصِرْ رَاوِي الْحَدِيثِ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ زَادَ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ جَائِزٌ بِلَا اسْتِحْبَابٍ وَلَا كَرَاهَةٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ مَالِكٌ أَكْرَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُزَادَ فِيهَا مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَزِيدُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ انْتَهَى وَفِي الْجَوَاهِرِ لِابْنِ شَاسٍ قَالَ أَشْهَبُ وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعْرُوفَةِ اقْتَصَرَ عَلَى حَظٍّ وَافِرٍ وَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ إنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى وَلَمْ يُنْقَلْ مَا يُخَالِفُ قَوْلَ أَشْهَبَ وَحَكَى الْحَنَفِيَّةُ عَنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ كَرِهَ الزِّيَادَةَ عَلَى تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ أَصْحَابُنَا بَلْ أَنْكَرُوهُ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ ذَكَرَ أَهْلَ الْعِرَاقِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ وَغَلِطُوا بَلْ لَا تُكْرَهُ الزِّيَادَةُ وَلَا تُسْتَحَبُّ انْتَهَى .
نَعَمْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأَحَبَّ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا خِلَافَ الْأَحَبِّ وَالْأَوْلَى وَأَنْ تَكُونَ مَكْرُوهَةً وَعِبَارَتُهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ زَادَ فِي التَّلْبِيَةِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ فَلَا بَأْسَ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا بَأْسَ بِزِيَادَةِ تَعْظِيمِ اللَّهِ فِيهَا لِمَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ حَافِظُ التَّلْبِيَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ زَادَ ابْنُ عُمَرَ فِي تَلْبِيَتِهِ مِنْ قِبَلِهِ ( لَبَّيْكَ وَالرَّغْبَاءُ إلَيْك وَالْعَمَلُ ) انْتَهَى .
وَحَكَى
الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ وَلَا أُضَيِّقُ عَلَى أَحَدٍ فِي مِثْلِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَدُعَائِهِ مَعَ التَّلْبِيَةِ غَيْرَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ عِنْدِي أَنْ يُفْرِدَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّلْبِيَةِ .
وَمَشَى عَلَى ذَلِكَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ وَنُصِبَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فَقَالَ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ وَلَا يُضَيِّقُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ زَادَ فَحَسَنٌ انْتَهَى .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ التَّلْبِيَةَ قَالَ وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ ذَا الْمَعَارِجِ وَنَحْوَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ فَلَا يَقُولُ لَهُمْ شَيْئًا } .
وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ : كَانَتْ تَلْبِيَةُ عُمَرَ وَذَكَرَ الْمَرْفُوعَ وَزَادَ بَعْدَهُ ( لَبَّيْكَ مَرْهُوبًا وَمَرْغُوبًا إلَيْك لَبَّيْكَ ذَا النَّعْمَاءِ وَالْفَضْلِ ) وَزَادَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يُبْدِي ذَلِكَ وَيُعِيدُهُ وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ( لَبَّيْكَ غَفَّارَ الذُّنُوبِ لَبَّيْكَ ) .
وَفِي تَارِيخِ مَكَّةَ لِلْأَزْرَقِيِّ بِإِسْنَادٍ مُفَصَّلٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَقَدْ مَرَّ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ سَبْعُونَ نَبِيًّا تَلْبِيَتُهُمْ شَتَّى مِنْهُمْ يُونُسُ بْنُ مَتَّى .
وَكَانَ يُونُسُ يَقُولُ لَبَّيْكَ فَرَّاجَ الْكَرْبِ لَبَّيْكَ وَكَانَ مُوسَى يَقُولُ لَبَّيْكَ أَنَا عَبْدُك لَدَيْك لَبَّيْكَ قَالَ وَتَلْبِيَةُ عِيسَى أَنَا عَبْدُك وَابْنُ أَمَتِك بِنْتِ عَبْدِك لَبَّيْكَ } .
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ ( سَمِعَ سَعْدٌ رَجُلًا يَقُولُ لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ ، فَقَالَ إنَّهُ
لَذُو الْمَعَارِجِ وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ ) .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) وَرَدَ فِي تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْفَاظٌ زَائِدَةٌ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ( مِنْهَا ) مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَبَّيْكَ إلَهَ الْحَقِّ لَبَّيْكَ } .
قَالَ الْحَاكِمُ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَقَالَ النَّسَائِيّ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ وَهُوَ ثِقَةٌ وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ رِوَايَةِ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ فَلَمَّا قَالَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، قَالَ إنَّمَا الْخَيْرُ خَيْرُ الْآخِرَةِ } .
قَالَ وَقَدْ احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ بِعِكْرِمَةَ وَاحْتَجَّ مُسْلِمٌ بِدَاوُد وَهَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَبَّيْكَ حَجًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا } .
وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ اجْتِمَاعُ ثَلَاثَةِ إخْوَةٍ يَرْوِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ عَنْ مُجَاهِدٍ : أَنَّهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُظْهِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ } .
فَذَكَرَهَا إلَى آخِرِهَا قَالَ حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمٌ وَالنَّاسُ يُصْرَفُونَ عَنْهُ كَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ مَا هُوَ فِيهِ فَزَادَ فِيهَا { لَبَّيْكَ إنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ } قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَحَسِبْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَحَبَّ أَصْحَابُنَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّلْبِيَةِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى رِضَاهُ وَالْجَنَّةَ وَيَتَعَوَّذَ بِهِ مِنْ النَّارِ وَاسْتَأْنَسُوا فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَرِيمٍ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَةٍ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ وَاسْتَعَاذَ بِرَحْمَتِهِ مِنْ النَّارِ } قَالَ صَالِحٌ سَمِعْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ وَكَانَ يَسْتَحِبُّ لِلرَّجُلِ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَالِحٌ هَذَا ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالَ أَحْمَدُ لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا .
بَابُ طَوَافِ الْمُتَّكِئِ عَلَى غَيْرِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ اللِّمَمِ قَدْ رَجَّلَهَا فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَأَلْت مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ إذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ فَسَأَلْت مَنْ هَذَا ؟ فَقِيلَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ }
( بَابُ طَوَافِ الْمُتَّكِئِ عَلَى غَيْرِهِ ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَأَيْتُنِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ اللِّمَمِ قَدْ رَجَّلَهَا فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَأَلْت مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، ثُمَّ إذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ فَسَأَلْت مَنْ هَذَا ؟ فَقِيلَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ هَكَذَا وَمِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ فِي الْمَنَامِ وَفِيهِ فِي ذِكْرِ الدَّجَّالِ زِيَادَةٌ { كَأَشْبَهَ مَنْ رَأَيْت مِنْ النَّاسِ بِابْنِ قُطْنٍ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ } وَمِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ وَمُسْلِمٍ وَحْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ كِلَاهُمَا عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ ، وَفِيهِ فِي وَصْفِ ابْنِ مَرْيَمَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ { سَبْطَ الشَّعْرِ } .
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ { سَبْطَ الرَّأْسِ } وَفِي وَصْفِ الدَّجَّالِ { أَحْمَرَ } وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ فِي الدَّجَّالِ { جَسِيمٌ } .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ رَأَيْتُنِي بِضَمِّ التَّاءِ وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ ( أَرَانِي ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ رُؤْيَا مَنَامٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ وَحَقٌّ ( الثَّالِثَةُ ) الْكَعْبَةِ مَعْرُوفَةٌ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِارْتِفَاعِهَا وَتَرْبِيعِهَا وَكُلُّ بَيْتٍ مُرَبَّعٌ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ كَعْبَةٌ وَقِيلَ سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِاسْتِدَارَتِهَا وَعُلُوِّهَا وَمِنْهُ كَعْبُ الرَّجُلِ وَمِنْهُ كَعْبُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ إذَا عَلَا وَاسْتَدَارَ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ آدَمَ أَيْ أَسْمَرَ ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَجَمْعُهُ أُدْمٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ الْأُدْمَةُ فِي النَّاسِ السُّمْرَةُ الشَّدِيدَةُ وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ الْآدَمُ الْأَسْمَرُ إذَا عَلَاهُ شَيْءٌ مِنْ سَوَادٍ قَلِيلًا وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَفِي وَصْفِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ { أَحْمَرُ } .
وَهَذَا يُخَالِفُ وَصْفَهُ هُنَا بِالْأُدْمَةِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ أَنْكَرَ رِوَايَةَ أَحْمَرَ وَحَلَفَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْهُ يَعْنِي وَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَى الرَّاوِي وَقَالَ النَّوَوِيُّ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ الْأَحْمَرَ عَلَى الْآدَمِ وَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْحُمْرَةِ وَالْأُدْمَةِ بَلْ مَا قَارَبَهَا انْتَهَى وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَفْسِيرِ الْأُدْمَةِ بِالسُّمْرَةِ هُوَ فِي بَنِي آدَمَ أَمَّا فِي الْإِبِلِ فَالْآدَمُ هُوَ الْأَبْيَضُ إمَّا مُطْلَقًا أَوْ مَعَ سَوَادِ الْمُقْلَتَيْنِ .
( الْخَامِسَةُ ) اللِّمَّةُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَجَمْعُهَا لِمَمٌ كَقِرْبَةٍ وَقِرَبٍ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَتُجْمَعُ عَلَى لِمَامٍ أَيْضًا أَيْ بِزِيَادَةِ أَلِفٍ بَيْنَ الْمِيمَيْنِ وَهِيَ الشَّعْرُ الْمُتَدَلِّي الَّذِي يُجَاوِزُ شَحْمَةَ الْأُذُنَيْنِ فَإِذَا بَلَغَ الْمَنْكِبَيْنِ فَهُوَ جُمَّةٌ كَذَا ذَكَرَهُ وَالنَّوَوِيُّ وَقَبِلَهُ الْجَوْهَرِيُّ هُنَا وَابْنُ الْأَثِيرِ ، وَعَكَسَ الْجَوْهَرِيُّ فِي مَادَّةِ وَفَرَ فَقَالَ الْوَفْرَةُ الشَّعْرَةُ إلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ ثُمَّ الْجُمَّةُ ثُمَّ اللِّمَّةُ وَهِيَ الَّتِي أَلَمَّتْ بِالْمَنْكِبَيْنِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اللِّمَّةُ الْجَمَّةُ وَهِيَ أَكْمَلُ مِنْ الْوَفْرَةِ السَّادِسَةُ قَوْلُهُ رَجَّلَهَا بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ أَيْ سَرَّحَهَا بِمُشْطٍ مَعَ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَاءِ أَوْ بِالْمُشْطِ يُقَالُ شَعْرٌ مُرَجَّلٌ إذَا مُشِّطَ وَشَعْرٌ رَجِلٌ إذَا كَانَ فِي خِلْقَتِهِ وَتَكْسِيرِهِ عَلَى هَيْئَةِ الْمَمْشُوطِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ يَعْنِي مَشَطَهَا بَعْدَ أَنْ بَلَّهَا
السَّابِعَةُ قَوْلُهُ فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ أَيْ تَقْطُرُ بِالْمَاءِ الَّذِي رَجَّلَهَا بِهِ لِقُرْبِ تَرْجِيلِهِ وَإِلَى هَذَا نَحَا الْقَاضِي الْبَاجِيَّ وَقَالَ لَعَلَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ بِطَوَافِ الْوُرُودِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمَعْنَاهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ نَضَارَتِهِ وَحُسْنِهِ وَاسْتِعَارَةً لِجَمَالِهِ وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هُوَ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ الْعَجِيبَةِ وَالْكَلَامِ الْبَدِيعِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ( قُلْت ) وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { فِي وَصْفِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ كَانَ رَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ } .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ { مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ } شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي فِي لَفْظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ شَكًّا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَّكِئًا عَلَى عَوَاتِقِهِمَا فَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيْهِمَا فَلَا يَصِحُّ تَرْدِيدُ الْمُتَكَلِّمِ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا النَّاقِلُ فَقَدْ يَشُكُّ فِي اللَّفْظِ فَيَتَحَرَّى وَلَوْ رُوِيَ بِالْمَعْنَى لَمْ يَحْتَجْ لِذَلِكَ .
( التَّاسِعَةُ ) الْعَوَاتِقُ جَمْعُ عَاتِقٍ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ قَالَهُ فِي الْمُحْكَمِ وَقَالَهُ النَّوَوِيُّ هُنَا وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ هُوَ الْمَنْكِبُ وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ مَوْضِعُ الرِّدَاءِ مِنْ الْمَنْكِبِ وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ إلَى أَصْلِ الْعُنُقِ هَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ هُوَ مَوْضِعُ الرِّدَاءِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَفِيهِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ التَّأْنِيثُ أَنْكَرُ لَيْسَ يَثْبُتُ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ مَصْنُوعٌ وَهُوَ لَا صُلْحَ بَيْنِي فَاعْلَمُوهُ وَلَا
بَيْنَكُمْ مَا حَمَلَتْ عَاتِقِي قَالَ اللِّحْيَانِيُّ هُوَ مُذَكَّرٌ لَا غَيْرَ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَأَمَّا طَوَافُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْبَيْتِ فَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا عَيْنٍ فَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ قَالَ النَّوَوِيُّ يَعْنِي فَلَا امْتِنَاعَ فِي طَوَافِهِ حَقِيقَةً قَالَ الْقَاضِي وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا مَنَامٍ كَمَا بَيَّنَهُ ابْنُ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ فَهَذَا مُحْتَمِلٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَلِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا ذُكِرَ مِنْ طَوَافِ الدَّجَّالِ بِالْبَيْتِ وَأَنَّ ذَلِكَ رُؤْيَا إذْ قَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ لَمْ يَذْكُرْ طَوَافَ الدَّجَّالِ وَهُوَ أَثْبَتُ مِمَّنْ رَوَى طَوَافَهُ لِمَا قُلْنَا ( قُلْت ) سَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَافَ أَمْ لَا فَفِيهِ أَنَّهُ رَآهُ بِمَكَّةَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَظَاهِرُهُ الْمُنَافَاةُ لِنَفْيِ دُخُولِهِ مَكَّةَ إلَّا أَنْ يُؤَوَّلَ .
فَلَا تَتَوَقَّفُ الْمُنَافَاةُ عَلَى طَوَافِهِ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ يُقَالُ إنَّ تَحْرِيمَ دُخُولِهَا عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ فِي زَمَنِ فِتْنَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى جَوَازِ طَوَافِ الْمُتَّكِئِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إنَّمَا الْخِلَافُ فِي طَوَافِ الْمَحْمُولِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجِيزُ الطَّوَافَ عَلَى الدَّابَّةِ وَلِلْمَحْمُولِ بِغَيْرِ عُذْرٍ بِمَا ذُكِرَ مِنْ طَوَافِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَنَاكِبِ رَجُلَيْنِ وَمَالِكٌ لَا يُجِيزُهُ إلَّا لِعُذْرٍ وَيُجَابُ عَنْهُ فِي قِصَّةِ عِيسَى بِأَنَّهَا مَنَامٌ كَمَا رُوِيَ أَوْ مُحْتَمِلَةٌ لِلْمَنَامِ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوَاجِبِ أَوْ لَعَلَّهُ لِعُذْرٍ أَوْ لِأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا غَيْرُ لَازِمٍ لَنَا ( قُلْت ) وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ طَوَافِ الْمُتَّكِئِ صِحَّةُ طَوَافِ الْمَحْمُولِ ، وَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي الثَّانِي وَالْأَوَّلُ لَيْسَ هُوَ مَوْضِعَ خِلَافٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ الْجَوَابِ
عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي صَلَاةِ الْمُتَّكِئِ عَلَى غَيْرِهِ وَالْمُسْتَنِدِ إلَى شَيْءٍ أَنَّهُ إنَّ سُلِبَ اسْمُ الْقِيَامِ بِحَيْثُ إنَّهُ لَوْ رَفَعَ قَدَمَيْهِ عَنْ الْأَرْضِ لَأَمْكَنَهُ الْبَقَاءُ فَهُوَ مُعَلِّقٌ نَفْسَهُ وَلَيْسَ بِقَائِمٍ فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ ( أَصَحُّهَا ) صِحَّةُ صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رَفَعَ السِّنَادَ لَسَقَطَ .
( وَالثَّانِي ) عَدَمُ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا .
وَ ( الثَّالِثُ ) التَّفْصِيلُ فَيَصِحُّ إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رَفَعَ السِّنَادَ لَمْ يَسْقُطْ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يُتَّجَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الطَّوَافِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقِيَامُ حَتَّى لَوْ طَافَ زَخْفًا صَحَّ مَعَ الْقُدْرَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَحَكَاهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ لَكِنْ قَالَ إنَّهُ مَكْرُوهٌ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ مُخَفَّفَةً وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ .
قَالَ الْوَاحِدِيُّ ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ وَاللَّيْثُ إلَى أَنَّ أَصْلَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مُشِيحًا فَعَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ وَغَيَّرَتْ لَفْظَهُ كَمَا قَالُوا مُوسَى وَأَصْلُهُ مُوَشَّى أَوْ مِيسَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَلَمَّا عَرَّبُوهُ غَيَّرُوهُ فَعَلَى هَذَا لَا اشْتِقَاقَ لَهُ قَالَ وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ مُشْتَقٌّ وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ إنَّهُ مُشْتَقٌّ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَمْ يَمْسَحْ ذَا عَاهَةٍ إلَّا بَرَأَ قَالَ إبْرَاهِيمُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ وَقِيلَ لِكَوْنِهِ مَسِيحَ أَسْفَلِ الْقَدَمَيْنِ لَا أَخْمَصَ لَهُ وَقِيلَ لِمَسْحِ زَكَرِيَّا إيَّاهُ وَقِيلَ لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ أَيْ قَطْعِهَا .
وَقِيلَ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَمْسُوحًا بِالدُّهْنِ وَقِيلَ لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالْبَرَكَةِ حِينَ وُلِدَ وَقِيلَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَحَهُ أَيْ خَلَقَهُ خَلْقًا حَسَنًا وَقِيلَ
غَيْرُ ذَلِكَ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ جَعْدٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَقَوْلُهُ قَطَطٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ الْأُولَى هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ كَسْرَهَا أَيْضًا وَالشَّعْرُ الْجَعْدُ هُوَ الَّذِي فِيهِ تَقَبُّضٌ وَالْتِوَاءٌ ضِدُّ الْبَسْطِ وَهُوَ الْمُسْتَرْسِلُ وَالْقَطَطُ هُوَ شَدِيدُ الْجُعُودَةِ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُمَا وَكَذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ الْحَسَنُ الْجُعُودَةِ قَالَ وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ وَقَالَ الْهَرَوِيُّ وَالْجَعْدُ فِي صِفَاتِ الرِّجَالِ يَكُونُ مَدْحًا وَيَكُونُ ذَمًّا فَإِذَا كَانَ ذَمًّا فَلَهُ مَعْنَيَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) الْقَصِيرُ الْمُتَرَدِّدُ الْحَلْقِ .
( وَالْآخَرُ ) الْبَخِيلُ يُقَالُ رَجُلٌ جَعْدُ الْيَدَيْنِ وَجَعْدُ الْأَصَابِعِ أَيْ بَخِيلٌ وَإِذَا كَانَ مَدْحًا فَلَهُ أَيْضًا مَعْنَيَانِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ سَدِيدَ الْحَلْقِ وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ شَعْرُهُ جَعْدًا غَيْرَ سَبْطٍ فَيَكُونُ مَدْحًا لِأَنَّ السُّبُوطَةَ أَكْثَرُهَا فِي شُعُورِ الْعَجَمِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ غَيْرُ الْهَرَوِيِّ الْجَعْدُ فِي صِفَةِ الرِّجَالِ ذَمٌّ وَفِي صِفَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَدْحٌ ( قُلْت ) تَقَدَّمَ فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَصَفَ عِيسَى بِالسُّبُوطَةِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ } فَتَبَيَّنَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ وُصِفَ بِالْجُعُودَةِ .
{ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ } قَوْلُهُ { كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ } رُوِيَ بِالْهَمْزِ وَبِغَيْرِ هَمْزٍ فَمَنْ هَمَزَ فَمَعْنَاهُ ذَهَبَ ضَوْءُهَا وَمَنْ لَمْ يَهْمِزْ فَمَعْنَاهُ نَاتِئَةٌ بَارِزَةٌ ثُمَّ إنَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى وَقَدْ ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا مُسْلِمٌ فِي آخِرِ صَحِيحِهِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَوَيْنَا هَذَا
الْحَرْفَ وَهُوَ طَافِيَةٌ عَنْ أَكْثَرِ شُيُوخِنَا بِغَيْرِ هَمْزٍ وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ أَكْثَرُهُمْ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَخْفَشُ وَمَعْنَاهُ نَاتِئَةٌ كَنُتُوءِ حَبَّةِ الْعِنَبِ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِهَا وَضَبَطَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا بِالْهَمْزَةِ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ وَقَدْ وُصِفَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ حَجَرًا وَلَا نَاتِئَةً وَأَنَّهَا مَطْمُوسَةٌ وَهَذِهِ صِفَةُ حَبَّةِ الْعِنَبِ إذَا سَالَ مَاؤُهَا وَهَذَا يُصَحِّحُ رِوَايَةَ الْهَمْزِ .
وَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ جَاحِظُ الْعَيْنِ وَكَأَنَّهَا كَوْكَبٌ وَفِي رِوَايَةٍ { لَهَا حَدَقَةٌ جَاحِظَةٌ كَأَنَّهَا نُخَاعَةٌ فِي حَائِطٍ } فَيُصَحِّحُ رِوَايَةَ تَرْكِ الْهَمْزِ لَكِنْ يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَتُصَحَّحُ الرِّوَايَاتُ جَمِيعًا بِأَنْ تَكُونَ الْمَطْمُوسَةَ وَالْمَمْسُوحَةَ وَاَلَّتِي لَيْسَتْ حَجَرًا وَلَا نَاتِئَةً هِيَ الْعَوْرَاءُ الطَّائِفَةُ بِالْهَمْزِ وَهِيَ الْعَيْنُ الْيُمْنَى كَمَا جَاءَ هُنَا وَتَكُونُ الْجَاحِظَةُ وَاَلَّتِي كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ وَكَأَنَّهَا نُخَاعَةٌ هِيَ الطَّافِيَةُ بِغَيْرِ هَمْزٍ وَهِيَ الْعَيْنُ الْيُسْرَى كَمَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَالرِّوَايَاتِ فِي الطَّافِئَةِ بِالْهَمْزِ وَبِتَرْكِهِ وَأَعْوَرُ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَوْرَاءُ فَإِنَّ الْأَعْوَرَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ الْمَعِيبُ لَا سِيَّمَا مَا يَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ وَكِلَا عَيْنَيْ الدَّجَّالِ مَعِيبَةٌ عَوْرَاءُ فَإِحْدَاهُمَا بِذَهَابِهَا ، وَالْأُخْرَى بِعَيْبِهَا انْتَهَى كَلَامُ الْقَاضِي .
وَحَكَاهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ ثُمَّ قَالَ وَهُوَ فِي نِهَايَةٍ مِنْ الْحُسْنِ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ حَدِيثَ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى أَثْبَتُ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ فَأَشَارَ إلَى التَّرْجِيحِ وَالْجَمْعِ إنْ أَمْكَنَ مُقَدَّمٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ } الْمَشْهُورُ فِي لَفْظِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ أَنَّهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ السِّينِ مُخَفَّفَةً وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ كَالْمَسِيحِ
ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَّا أَنَّ هَذَا مَسِيحُ الْهُدَى وَذَاكَ مَسِيحُ الضَّلَالَةِ وَضَبْطُ الدَّجَّالِ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أُخْرَى ( أَحَدُهَا ) كَسْرُ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا .
وَ ( الثَّانِي ) فَتْحُ الْمِيمِ وَتَخْفِيفُ السِّينِ وَبِالْحَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَ ( الثَّالِثُ ) كَسْرُ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ السِّينِ وَبِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي بَابِ الدُّعَاءِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ
بَابُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { { أَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ، قَالَتْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنَاةُ صَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّا كُنَّا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ ، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطُوفَ بِهِمَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } } ذَكَرَ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَهُ تَعْلِيقًا وَلَمْ أَرَهُ فِيهِ .
وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ { عَنْ عُرْوَةَ سَأَلْت عَائِشَةَ فَقُلْت لَهَا : أَرَأَيْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } فَوَاَللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، قَالَتْ بِئْسَ مَا قُلْت يَا ابْنَ أُخْتِي إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتُهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطُوفَ بِهِمَا وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } قَالَتْ عَائِشَةُ وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ
{ بَابُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ } عَنْ عُرْوَةَ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } قَالَتْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنَاةُ صَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّا كُنَّا نَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطُوفَ بِهِمَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ فَقَالَ وَقَالَ مَعْمَرٌ بِهِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ { قَالَ عُرْوَةُ سَأَلْت عَائِشَةَ فَقُلْت لَهَا أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } فَوَاَللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لَا يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ .
قَالَتْ بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتهَا عَلَيْهِ لَكَانَتْ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطُوفَ بِهِمَا وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الْأَنْصَارِ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } الْآيَةَ .
قَالَتْ عَائِشَةُ وَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا } .
اتَّفَقَ
عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ .
وَمِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ كُلِّهِمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَلَفْظُ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَعُقَيْلٍ بِنَحْوِ لَفْظِ شُعَيْبٍ وَلَفْظُ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ { عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا هُمْ وَغَسَّانُ يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ فَتَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَكَانَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي آبَائِهِمْ مَنْ أَحْرَمَ لِمَنَاةَ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَنَّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ حِينَ أَسْلَمُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } الْآيَةَ } .
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ وَمُسْلِمٌ وَحْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُعَاوِيَةَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ .
{ الثَّانِيَةُ } الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ جَبَلَا السَّعْيِ اللَّذَانِ يُسْعَى مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ وَالصَّفَا فِي الْأَصْلِ جَمْعُ صَفَاةٍ وَهِيَ الصَّخْرَةُ وَالْحَجَرُ الْأَمْلَسُ وَالْمَرْوَةُ فِي الْأَصْلِ حَجَرٌ أَبْيَضُ بَرَّاقٌ وَقِيلَ هِيَ الْحِجَارَةُ الَّتِي تُقْدَحُ مِنْهَا النَّارُ { الثَّالِثَةُ } قَالَ الْأَزْهَرِيُّ الشَّعَائِرُ الْمَعَالِمُ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ إلَيْهَا وَأَمَرَ بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ شَعَائِرُ الْحَجِّ آثَارُهُ وَعَلَامَاتُهُ جَمْعُ شَعِيرَةٍ وَقِيلَ هُوَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالِهِ كَالْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَالذَّبْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ الشَّعَائِرُ أَعْمَالُ الْحَجِّ وَكُلُّ مَا جُعِلَ عَلَمًا لِطَاعَةِ اللَّهِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ الْوَاحِدُ شَعِيرَةٌ قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ شَعَارَةٌ وَالْمَشَاعِرُ مَوَاضِعُ الْمَنَاسِكِ .
{ الرَّابِعَةُ } اسْتَدَلَّ عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى رَفْعِ الْجُنَاحِ وَهُوَ الْإِثْمُ عَنْ فَاعِلِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَتِهِ وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لِمَا قِيلَ فِيهِ مِثْلُ هَذَا وَرَدَّتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِأَنَّهَا إنَّمَا كَانَتْ تَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ لَوْ كَانَ لَفْظُهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطُوفَ بِهِمَا فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ كَانَتْ تَدُلُّ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ عَنْ تَارِكِهِ وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الْمُبَاحِ بَلْ هِيَ سَاكِتَةٌ عَنْ الْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ وَيُسْتَفَادُ الْوُجُوبُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ بِنَفْيِ الْإِثْمِ الْمُطَابَقَةُ لِجَوَابِ سُؤَالِ الْأَنْصَارِ عَنْ ذَلِكَ هَلْ فِيهِ إثْمٌ فَأُجِيبُوا بِأَنَّهُ لَا إثْمَ فِيهِ : قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ دَقِيقِ عِلْمِهَا وَفَهْمِهَا الثَّاقِبِ ، وَكَبِيرِ مَعْرِفَتِهَا بِدَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ ، .
قَالَ وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ وَاجِبًا وَيَعْتَقِدُ إنْسَانٌ إنَّهُ يَمْتَنِعُ إيقَاعُهُ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَذَلِكَ كَمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَيُقَالُ فِي جَوَابِهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْك إنْ صَلَّيْتهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ فَيَكُونُ جَوَابًا صَحِيحًا وَلَا يَقْتَضِي نَفْيَ وُجُوبِ صَلَاةِ الظُّهْرِ انْتَهَى .
وَقَدْ اُسْتُدِلَّ عَلَى الْوُجُوبِ بِأُمُورٍ : ( أَحَدُهَا ) مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رِوَايَةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ أَخْبَرَتْنِي ابْنَةُ أَبِي تَجْرَاةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ } .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَنَّهُنَّ سَمِعْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فِي الْمَسْعَى وَقَالَ {
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْعَوْا فَإِنَّ السَّعْيَ قَدْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ } .
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ وَقَالَ لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ فِيهِ اضْطِرَابٌ ثُمَّ ذَكَرَ الطَّرِيقَ الثَّانِيَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ وَقَالَ إسْنَادُهُ حَسَنٌ فَعَدَّ ذَلِكَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ تَنَاقُضًا وَقَالَ اخْتَلَفَ فِيهِ النَّوَوِيُّ وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ طَرِيقَيْنِ فَإِنَّ فِي الْأَوَّلِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُؤَمَّلِ وَلَيْسَ فِي الثَّانِي فَلِذَلِكَ ضَعُفَ الْأَوَّلُ وَحَسُنَ الثَّانِي قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي الْإِشْرَافِ إنْ ثَبَتَ حَدِيثُ بِنْتِ أَبِي تَجْرَاةَ وَجَبَ فَرْضُ السَّعْيِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا أَعْلَمُ دَلَالَةً تُوجِبُهُ .
وَاَلَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي حَدِيثِهِ ا هـ وَقَدْ أَشَارَ الْإِسْنَوِيُّ فِي بَقِيَّةِ كَلَامِهِ لِذَلِكَ فَقَالَ وَحَسَّنَهُ أَيْضًا الشَّيْخُ زَكِيُّ الدِّينِ فِي كَلَامِهِ عَلَى أَحَادِيثِ الْمُهَذَّبِ إلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ رُوِيَ بِإِسْنَادَيْنِ انْتَهَى وَمَعَ ذَلِكَ فَفِي جَعْلِهِمَا طَرِيقَيْنِ وَتَضْعِيفِ الْأَوَّلِ وَتَحْسِينِ الثَّانِي نَظَرٌ فَهُوَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ مَدَارُهُ عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ وَقَدْ سَلَكَ ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَتَقَدَّمَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إنَّ فِيهِ اضْطِرَابًا لَكِنَّهُ قَالَ فِي الِاسْتِذْكَارِ اضْطَرَبَ فِيهِ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمَّلِ وَجَوَّدُوا إسْنَادَهُ وَمَعْنَاهُ وَقَدْ رَوَاهُ مَعَهُ ابْنُ الْمُؤَمَّلِ غَيْرُهُ وَابْنُ الْمُؤَمَّلِ لَمْ يَطْعَنْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا مِنْ سُوءِ حِفْظِهِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَيَتَبَيَّنُ فِيهِ سُوءُ حِفْظِهِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا عِنْدَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى إيجَابِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ
قِبَلِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا السَّعْيَ بَيْنَهُمَا أَوْ السَّعْيَ فِي بَطْنِ الْوَادِي فَإِذَا وَجَبَ السَّعْيُ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ بَعْضُ الْعَمَلِ وَجَبَ فِي كُلِّهِ انْتَهَى .
( الثَّانِي ) اسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا وَقَوْلِهَا فِيهِ ثُمَّ { قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا } وَبِقَوْلِهَا فِيهِ أَيْضًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { وَلَعَمْرِي مَا أَتَمَّ اللَّهُ حَجَّ مَنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ } .
( الثَّالِثُ ) اسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا { بِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَسْعَى بَيْنَهُمَا فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ وَقَالَ خُذُوا عَنَى مَنَاسِكَكُمْ } .
( الرَّابِعُ ) وَاسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ : سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ قَدِمَ بِعُمْرَةٍ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ : فَقَالَ { قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا وَقَالَ { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } } .
وَقَالَ عَمْرٌو ( سَأَلْنَا جَابِرًا فَقَالَ لَا يُقَرُّ بِهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ) .
( الْخَامِسُ ) اسْتَدَلَّ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى ذَلِكَ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ { قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ : حَجَجْتَ ؟ فَقُلْتُ نَعَمْ ، فَقَالَ بِمَ أَهْلَلْتَ ، فَقُلْتُ لَبَّيْكَ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ قَدْ أَحْسَنْتَ ، طُفْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَحِلَّ } .
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ بِهَذَا صَارَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ فِي الْعُمْرَةِ فَرْضًا وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ وَكَذَلِكَ فِي الْعُمْرَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُمَا قَالَا : إذَا أُنْسِيَ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ حَاجٌّ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَعَلَيْهِ الْعُمْرَةُ وَلَا يُجْزِيهِ إلَّا الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ .
( الثَّانِي ) أَنَّهُ وَاجِبٌ وَيُجْبَرُ تَرْكُهُ بِالدَّمِ وَيَصِحُّ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ بِدُونِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ الْأَصَحُّ عَنْهُ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ قَتَادَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ إنْ نَسِيَهُ حَتَّى رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ أَجْزَأَهُ دَمٌ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ إنْ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا فَعَلَيْهِ دَمٌ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ ( لَا جُنَاحَ ) يُسْتَعْمَلُ مِثْلُهُ لِلْإِبَاحَةِ فَيَنْفِي الرُّكْنِيَّةَ وَالْإِيجَابَ إلَّا أَنَّا عَدَلْنَا عَنْهُ فِي الْإِيجَابِ وَلِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ .
ثُمَّ مَعْنَى مَا رُوِيَ كُتِبَ اسْتِحْبَابًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ } الْآيَةَ انْتَهَى .
( فَإِنْ قُلْت ) قَدْ قَالَ أَوَّلًا بِالْوُجُوبِ فَكَيْفَ قَالَ آخِرًا بِالِاسْتِحْبَابِ ؟ ( قُلْت ) لَمْ يَقُلْ آخِرًا بِالِاسْتِحْبَابِ وَإِنَّمَا قَالَ
إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الصِّيغَةِ وَهِيَ كُتِبَ تُسْتَعْمَلُ فِي الِاسْتِحْبَابِ كَمَا فِي الْآيَةِ الَّتِي اسْتَشْهَدَ بِهَا ثُمَّ هُوَ مُنَازَعٌ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَلْ هِيَ عَلَى بَابِهَا مِنْ الْوُجُوبِ وَكَانَتْ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِهَا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي التَّفْسِيرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّهُ سُنَّةٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَلَا وَاجِبٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ إنْ شَاءَ سَعَى وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَسْعَ وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى عَلَى مَنْ لَمْ يَسْعَ شَيْئًا ، قِيلَ لَهُ قَدْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ .
وَكَانَ يُفْتِي فِي الْعَلَانِيَةِ بِدَمٍ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ كَانَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ سِيرِينَ يَقُولُونَ هُوَ تَطَوُّعٌ ، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطُوفَ بِهِمَا وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقْرَأُ ( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطُوفَ بِهِمَا ) ثُمَّ قَالَ هَذَا قَوْلٌ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا إدْخَالٌ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ ثُمَّ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّهُ قَالَ فَنَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } فَلَمَّا نَزَلَتْ طَافُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إنْ صَحَّتْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ صَارَ إلَى الْوُجُوبِ .
( الرَّابِعُ ) أَنَّ عَلَى مَنْ تَرَكَ السَّعْيَ أَنْ يَأْتِيَ بِعُمْرَةٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ طَاوُسٍ وَحَكَاهُ عَنْهُ أَيْضًا ابْنُ الْمُنْذِرِ .
( الْخَامِسُ ) أَنَّهُ إنْ تَرَكَ مِنْ السَّعْيِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِنْ تَرَكَ دُونَهَا لَزِمَ لِكُلِّ
شَوْطٍ نِصْفُ صَاعٍ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَحَكَاهُ الدَّارِمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ قَوْلًا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَهَذَا الْقَوْلُ شَاذٌّ غَلَطٌ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ حَكَى هَذَا عَنْ طَاوُسٍ وَإِنَّمَا رَأَيْته حَكَى عَنْ طَاوُسٍ الْقَوْلَ الَّذِي قَبْلَهُ وَحَكَى هَذَا عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ نُسْخَةِ النَّوَوِيِّ هُنَا شَيْءٌ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَاخْتُلِفَ عَنْ عَطَاءٍ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ دَمٌ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يُطْعِمُ مَسَاكِينَ أَوْ يَذْبَحُ شَاةً يُطْعِمُهَا الْمَسَاكِينَ انْتَهَى وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الْأَخِيرَةُ عَنْ عَطَاءٍ قَوْلٌ سَادِسٌ وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ حَكَى إجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ وَجَعَلَ الْخِلَافَ فِي الْحَجِّ فَقَطْ وَلَمْ أَرَ لِغَيْرِهِ تَعَرُّضًا لِذَلِكَ وَيُخَالِفُهُ صَرِيحًا كَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ فَإِنَّهُ حَكَى الْخِلَافَ فِي الْعُمْرَةِ وَحَكَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ الْعُمْرَةُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حَكَى الْخِلَافَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ .
{ الْخَامِسَةُ } مَنَاةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالنُّونِ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ صَنَمٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ { لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ } وَهُوَ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِهَا وَآخِرُهُ لَامٌ أَيْضًا وَهُوَ صَنَمٌ كَانَ نَصَبَهُ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ بِجِهَةِ الْبَحْرِ بِالْمُشَلَّلِ مِمَّا يَلِي قَدِيدًا وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ مَنَاةُ صَخْرَةٌ لِهُذَيْلٍ بِقَدِيدٍ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يُهِلُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِصَنَمَيْنِ عَلَى
شَطِّ الْبَحْرِ يُقَالُ لَهُمَا إسَافُ وَنَائِلَةُ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ وَإِسَافُ وَنَائِلَةُ لَمْ يَكُونَا قَطُّ فِي نَاحِيَةِ الْبَحْرِ وَإِنَّمَا كَانَا فِيمَا يُقَالُ رَجُلًا وَامْرَأَةً قِيلَ كَانَا مِنْ خَيْرِهِمْ فَزَنَيَا دَاخِلَ الْكَعْبَةِ فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ حَجَرَيْنِ فَنُصِبَا عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَقِيلَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِتَعْتَبِرَ النَّاسُ بِهِمَا وَيَتَّعِظُوا ثُمَّ حَوَّلَهُمَا قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ فَجَعَلَ أَحَدَهُمَا مُلَاصِقَ الْكَعْبَةِ وَالْآخَرَ بِزَمْزَمَ وَقِيلَ جَعَلَهُمَا بِزَمْزَمَ وَنَحَرَ عِنْدَهُمَا وَأَمَرَ بِعِبَادَتِهِمَا { فَلَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ كَسَرَهُمَا } .
{ السَّادِسَةُ } فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَنْصَارَ إنَّمَا تَوَقَّفُوا فِي الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَعْظِيمًا لِمَنَاةَ فَخَشُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي أَبْطَلَهُ الشَّرْعُ وَيُخَالِفُهُ بَقِيَّةُ الرِّوَايَاتِ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَإِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُهَلِّينَ لِمَنَاةَ لَمْ يَكُونُوا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَاسْتَمَرُّوا فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَمِنْ أَصْرَحِهَا فِي ذَلِكَ رِوَايَةُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فَإِنَّ لَفْظَهَا { وَإِنَّمَا كَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي بِالْمُشَلَّلِ لَا يَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ سَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ } .
وَرِوَايَةُ يُونُسَ فَإِنَّ لَفْظَهَا { إنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا هُمْ وَغَسَّانُ يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ فَتَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَكَانَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي آبَائِهِمْ مَنْ أَحْرَمَ لِمَنَاةَ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةِ } .
وَالرِّوَايَاتُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ أَيْضًا فَرِوَايَةُ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْهُ وَافَقَ رِوَايَةَ الْمُصَنِّفِ وَلَفْظُهَا { إنَّمَا كَانَ ذَاكَ أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يُهِلُّونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِصَنَمَيْنِ عَلَى شَطِّ الْبَحْرِ يُقَالُ لَهُمَا إسَافُ وَنَائِلَةُ ثُمَّ يَجِيئُونَ فَيَطُوفُونَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يَحْلِقُونَ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَرِهُوا أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَهُمَا لِلَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ } .
وَرِوَايَةُ أَبِي أُسَامَةَ تُخَالِفُهَا وَلَفْظُهَا { إنَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي أُنَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانُوا إذَا أَهَلُّوا أَهَلُّوا لِمَنَاةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ } .
وَمِثْلُهَا فِي ذَلِكَ لَفْظُ رِوَايَةِ مَالِكٍ فَهِيَ كَرِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ الَّتِي سُقْتُهَا فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى وَهَذَا تَنَافٍ يَبْعُدُ الْجَمْعُ مَعَهُ وَلَعَلَّ الرِّوَايَاتِ بِتَرْكِهِمْ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَرْجَحُ وَلَعَلَّهُمْ فَرِيقَانِ كَانَ بَعْضُهُمْ يَطُوفُ بَيْنَهُمَا وَبَعْضُهُمْ لَا يَفْعَلُهُ فَخَرَجَ الْفَرِيقَانِ مِنْ ذَلِكَ الطَّائِفُونَ لِكَوْنِهِ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ .
وَالتَّارِكُونَ تَمَسُّكًا بِعَادَتِهِمْ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ إنَّ هَذَا الْعِلْمَ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ إلَّا مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ لِمَنَاةَ كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَذْكُرْ الصَّفَا فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ؟ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } الْآيَةَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَاسْمَعْ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ كِلَاهُمَا فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِي الْإِسْلَامِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّفَا حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَرِيبٌ مِنْهُ
بَابُ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ ؛ قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ تَكْرَارُ التَّرَحُّمِ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا فَلَمَّا كَانَتْ الرَّابِعَةُ قَالَ { وَالْمُقَصِّرِينَ } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ { قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ ظَاهَرْتَ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ وَاحِدَةً ؟ قَالَ إنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ }
{ بَابُ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ } عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ ، قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ ، قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ ، قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ ، قَالُوا وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ } .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَحْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ فِيهِ فَلَمَّا كَانَتْ الرَّابِعَةُ قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ وَذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا فَقَالَ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ وَالْمُقَصِّرِينَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ { حَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَلَقَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ وَالْمُقَصِّرِينَ } .
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ مِنْهُ تَعْلِيقًا { الثَّانِيَةُ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَكَذَا هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا عَنْ مَالِكٍ وَكَذَا رَوَاهُ سَائِرُ أَصْحَابِ نَافِعٍ لَمْ يَذْكُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ تَقْصِيرٌ وَحَذْفٌ وَالْمَحْفُوظُ أَنَّ دُعَاءَهُ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً إنَّمَا جَرَى يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ
حِينَ صُدَّ عَنْ الْبَيْتِ فَنَحَرَ وَحَلَقَ وَدَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ وَهَذَا مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ مَحْفُوظٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَحَبَشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ بَسَطَ ذَلِكَ .
وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ وَقَالَ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي الْبَابِ خِلَافَ مَا قَالُوهُ فَذَكَرَ مَنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ حَدِيثَ يَحْيَى بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ جَدَّتِهِ أَنَّهَا { سَمِعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً وَاحِدَةً } .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ كَانَ أَكْثَرُ مَنْ أَحْرَمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّحَابَةِ لَيْسَ مَعَهُمْ هَدْيٌ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَإِنَّهُ لَا يَحْلِقُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ فَلَمَّا أَمَرَ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَحِلَّ وَجَدُوا مِنْ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَحَبُّوا أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْمُقَامِ عَلَى إحْرَامِهِمْ حَتَّى يُكْمِلُوا الْحَجَّ وَكَانَتْ طَاعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِهِمْ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ الْإِحْلَالِ كَانَ الْقَصْرُ فِي نُفُوسِهِمْ أَخَفَّ مِنْ الْحَلْقِ فَمَالُوا إلَى الْقَصْرِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَخَّرَهُمْ فِي الدُّعَاءِ وَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ مَنْ حَلَقَ وَبَادَرَ إلَى الطَّاعَةِ وَقَصَّرَ بِمَنْ تَهَيَّبَهُ وَحَادَ عَنْهُ ثُمَّ جَمَعَهُمْ فِي الدَّعْوَةِ وَعَمَّهُمْ بِالرَّحْمَةِ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ثُمَّ قَالَ وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ لَعَلَّهُ وَقَعَ فِيهِمَا مَعًا وَهُوَ الْأَقْرَبُ وَقَدْ كَانَ فِي كِلَا الْوَقْتَيْنِ تَوَقُّفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْحَلْقِ أَمَّا الْحُدَيْبِيَةُ فَلِأَنَّهُ
عَظُمَ عَلَيْهِمْ الرُّجُوعُ قَبْلَ تَمَامِ مَقْصُودِهِمْ مِنْ الدُّخُولِ إلَى مَكَّةَ وَكَمَالِ نُسُكِهِمْ وَأَمَّا فِي الْحَجِّ فَلِأَنَّهُ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ وَمَنْ قَصَّرَ شَعْرَهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ الْحَلْقِ إذْ هُوَ يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِلشَّيْءِ وَكَرَّرَ الدُّعَاءَ ، لِلْمُحَلِّقِينَ لِأَنَّهُمْ بَادَرُوا إلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَأَتَمُّوا فِعْلَ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الْحَلْقِ وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فَقَالَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا ( قُلْت ) رَوَى ذَلِكَ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ ظَاهَرْت لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ وَاحِدَةً ؟ قَالَ إنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا } .
وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ إسْنَادُهُ جَيِّدٌ وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِيهِ زِيَادَةٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ { حَلَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ إلَّا رَجُلَيْنِ قَصَّرَا وَلَمْ يَحْلِقَا } .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَبُو قَتَادَةَ { الثَّالِثَةُ } التَّحْلِيقُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ حَلْقِ الشَّعْرِ وَالْمُرَادُ حَلْقَهُ فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ وَالتَّقْصِيرُ الْأَخْذُ مِنْ أَطْرَافِ الشَّعْرِ بِدُونِ اسْتِئْصَالٍ .
{ الرَّابِعَةُ } فِيهِ الِاكْتِفَاءٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِالْحَلْقِ عَلَى انْفِرَادِهِ وَالتَّقْصِيرُ عَلَى انْفِرَادِهِ وَأَنَّ الْأَفْضَلَ الْحَلْقُ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ كَمَا نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ حَكَى عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ يَلْزَمُهُ الْحَلْقُ فِي أَوَّلِ حَجَّةٍ وَلَا يُجْزِئُهُ لِلتَّقْصِيرِ ، فَقَالَ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ يُجْزِئُ إلَّا شَيْءٌ ذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يُوجِبُ الْحَلْقَ فِي أَوَّلِ
حَجَّةٍ يَحُجُّهَا الْإِنْسَانُ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْهُ مَرْدُودٌ بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ ( قُلْتُ ) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ الْحَسَنِ فِي الَّذِي لَمْ يَحُجَّ قَطُّ إنْ شَاءَ حَلَقَ وَإِنْ شَاءَ قَصَّرَ وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ قَالَ إذَا حَجَّ الرَّجُلُ أَوَّلَ حُجَّةٍ ، حَلَقَ وَإِنْ حَجَّ مَرَّةً أُخْرَى إنْ شَاءَ حَلَقَ وَإِنْ شَاءَ قَصَّرَ ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ وَإِذَا اعْتَمَرَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَحُجَّ قَطُّ فَإِنْ شَاءَ حَلَقَ وَإِنْ شَاءَ قَصَّرَ ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا قَصَّرَ ثُمَّ حَلَقَ ثُمَّ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا كَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَحْلِقُوا فِي أَوَّلِ حَجَّةٍ وَأَوَّلِ عُمْرَةٍ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَحْكِيَّ عَنْهُمَا اسْتِحْبَابٌ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ تَفْضِيلِ الْحَلْقِ الْمُعْتَمِرُ إذَا ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ وَعَلِمَ أَنَّهُ إنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لَمْ يَنْبُتْ شَعْرُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ التَّقْصِيرُ لِيَحْلِقَ فِي الْحَجِّ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ .
{ الْخَامِسَةُ } الْمَعْنَى فِي تَفْضِيلِ الْحَلْقِ عَلَى التَّقْصِيرِ بِالنَّظَرِ إلَى سَبَبِهِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ إمَّا فِي الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَدْ سَبَقَ ، وَإِمَّا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذَا السَّبَبِ فَكَوْنُهُ أَبْلَغَ فِي الْعِبَادَةِ وَأَدَلَّ عَلَى صِدْقِ النِّيَّةِ فِي التَّذَلُّلِ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ الْمُقَصِّرَ مُبْقٍ عَلَى نَفْسِهِ الشَّعْرَ الَّذِي هُوَ زِينَةٌ وَالْحَاجُّ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ الزِّينَةِ بَلْ هُوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَفِي الْمَعْنَى الْآخَرِ نَظَرٌ : فَإِنَّ الْحَلْقَ إنْ كَانَ فِي عُمْرَةٍ فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ النُّسُكِ ، وَإِنْ كَانَ فِي حَجٍّ فَقَدْ انْقَضَى زَمَنُ الشُّعْثِ وَحَلَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ حَرُمَ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ ، فَإِذَا طَافَ حَلَّ جَمِيعُ
الْمُحَرَّمَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ السَّادِسَةُ } اُسْتُدِلَّ بِتَرْجِيحِ الْحَلْقِ عَلَى التَّقْصِيرِ عَلَى أَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ وَنُسُكَانِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَلَيْسَا مُجَرَّدَ اسْتِبَاحَةِ مَحْظُورٍ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنَّ الْمُبَاحَ لَا تَفْضِيلَ لِبَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ وَلَيْسَ بِنُسُكٍ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ .
وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وَبِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَافَّةً وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ أَحَدٌ غَيْرُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَلَكِنْ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا ( قُلْت ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ حَكَاهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ .
{ السَّابِعَةُ } الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ نُسُكٌ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ لَا يَتِمُّ إلَّا بِفِعْلِهِ وَلَا يُجْبَرُ بِدَمٍ أَوْ وَاجِبٌ فَذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ إنَّهُ الصَّوَابُ وَذَهَبَ الدَّارَكِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ إلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ .
وَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَجَمَاعَةٌ إلَى أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْعُمْرَةِ وَاجِبٌ فِي الْحَجِّ وَاسْتَدَلَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ مُطْلَقًا بِأَنَّهُ لَا تَقُومُ الْفِدْيَةُ مَقَامَهُ حَتَّى لَوْ عَرَضَ فِي الرَّأْسِ عِلَّةٌ تَمْنَعُ الْحَلْقَ وَجَبَ الصَّبْرُ إلَى إمْكَانِهِ وَلَا يَفْدِي .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ إنْ تَرَكَ الْحِلَاقَ حَتَّى رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ حَلَقَ وَعَلَيْهِ دَمٌ وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِهِ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الدَّمَ لَمْ يَقُمْ مَقَامَ الْحَلْقِ بَلْ يُقَامُ مَكَانَهُ وَأَصْحَابُنَا لَا يُوجِبُونَ فِي ذَلِكَ دَمًا وَلَا يَجْعَلُونَ لِلْحَلْقِ مَكَانًا وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ لَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ لَزِمَهُ دَمٌ وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ وَالْجُمْهُورُ وَدَلَالَةُ هَذَا الْحَدِيثِ قَاصِرَةٌ عَلَى الرُّكْنِيَّةِ وَالْوُجُوبِ .
{ الثَّامِنَةُ } قَدْ يُفْهَمُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْحَلْقِ بِلَفْظِ الْمُبَالَغَةِ تَرْجِيحُ حَلْقِ جَمِيعِهِ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِهِ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَقَلَّ الْمُجْزِئِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ وَلِبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يَكْفِي شَعْرَةٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَقَلُّ الْمُجَزِّئِ رُبْعُ الرَّأْسِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ نِصْفُ الرَّأْسِ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ أَكْثَرُ الرَّأْسِ ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ كُلُّ الرَّأْسِ كَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لَكِنْ فِي كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وُجُوبُ الْكُلِّ فَقَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي
الْجَوَاهِرِ : وَلَا يَتِمُّ هَذَا النُّسُكُ بِدُونِ حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ فِي عَدِّ الْوَاجِبَاتِ حَلْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ كُلِّهِ أَوْ تَقْصِيرُهُ وَعَنْ أَحْمَدَ يُجْزِئُ بَعْضُهُ كَالْمَسْحِ { التَّاسِعَةُ } التَّقْصِيرُ كَالْحَلْقِ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُقَصِّرَ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِ الرَّأْسِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَالْوَاجِبُ تَقْصِيرُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ قَالُوا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُنْقِصَ فِي التَّقْصِيرِ عَنْ قَدْرِ الْأُنْمُلَةِ مِنْ أَطْرَافِ الشَّعْرِ فَإِنْ قَصَّرَ .
دُونَهَا جَازَ لِحُصُولِ اسْمِ التَّقْصِيرِ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ التَّقْصِيرُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رُءُوسِ شَعْرِهِ مِقْدَارَ الْأُنْمُلَةِ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يُقَصِّرَ مِنْ رَأْسِهِ النِّصْفَ فَإِنْ قَصَّرَ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ يُجْزِئُهُ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَ .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ يُفْتَقَرُ فِي التَّقْصِيرِ إلَى الْأَخْذِ مِنْ جَمِيعِ الشَّعْرِ كَمَا يَأْخُذُ فِي الْحِلَاقِ جَمِيعَهُ قَالَ مَالِكٌ وَلَا يَكْفِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ وَلَكِنْ يَجُزُّ ذَلِكَ جَزًّا فَإِنْ لَمْ يَجُزَّهُ وَأَخَذَ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ وَيُجْزِئُهُ ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ الَّذِي يَقْرَبُ مِنْ أُصُولِ الشَّعْرِ .
وَتَقَدَّمَ كَلَامُ الْحَنَابِلَةِ فِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْصِيرِ جَمِيعِ شَعْرِ الرَّأْسِ .
{ الْعَاشِرَةُ } هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ وَتَرْجِيحِ الْحَلْقِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ ، فَأَمَّا النِّسَاءٌ فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّهِنَّ التَّقْصِيرُ بِالْإِجْمَاعِ وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ إنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ } .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا فَلَوْ حَلَقَتْ الْمَرْأَةُ أَجْزَأَهَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَتَكُونُ مُسِيئَةً وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ لَهَا الْحَلْقُ وَقَالَ الْقَاضِيَانِ أَبُو الطَّيِّبِ وَحُسَيْنٌ لَا يَجُوزُ ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ قَالَ وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِلْكَرَاهَةِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِيهِ اضْطِرَابٌ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِضَعْفِهِ وَلَكِنْ يُسْتَدَلُّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَبِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي نَهْيِ النِّسَاءِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ هَذَا كَلَامُ النَّوَوِيِّ ثُمَّ حَكَى عَنْ الْقَاضِي أَبِي الْفُتُوحِ بْنُ أَبِي عُقَامَةَ أَنَّهُ قَالَ وَظِيفَةُ الْخُنْثَى التَّقْصِيرُ دُونَ الْحَلْقِ كَالْمَرْأَةِ وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْإِسْنَوِيُّ يُتَّجَهُ تَقْيِيدُ الْكَرَاهَةِ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ أَنْ تَكُونَ كَبِيرَةً حُرَّةً خَلِيَّةً عَنْ الْأَزْوَاجِ فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَمْ تَنْتَهِ إلَى سِنٍّ يُتْرَكُ فِيهِ شَعْرُهَا .
فَالْمُتَّجَهُ أَنَّهَا كَالرَّجُلِ فِي اسْتِحْبَابِ الْحَلْقِ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَإِنْ مَنَعَهَا السَّيِّدُ مِنْ الْحَلْقِ حَرُمَ بِلَا نِزَاعٍ وَتَعْدِلُ إلَى التَّقْصِيرِ لِأَنَّ الشَّعْرَ مِلْكُهُ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا أَوْ بَيْعَهَا وَالْحَلْقُ يُنْقِصُ الْقِيمَةَ وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ وَلَمْ يَأْذَنْ ،
فَالْمُتَّجَهُ التَّحْرِيمُ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ ثُمَّ الْمُتَّجَهُ فِيمَا إذَا قَصَّرَتْ ، امْتِنَاعُ الزِّيَادَةِ عَلَى ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ إلَّا بِإِذْنٍ إنْ كَانَتْ حُرَّةً إلَّا أَنَّهَا مُتَزَوِّجَةٌ جَازَ لَهَا تَقْصِيرُ الْجَمِيعِ وَإِنْ مَنَعَ الزَّوْجُ ، لِأَنَّ لَهَا غَرَضًا فِي حُصُولِ هَذِهِ السُّنَّةِ وَلَا ضَرَرَ عَلَى الزَّوْجِ فِيهِ وَأَمَّا الْحَلْقُ فَيَحْتَمِلُ الْجَزْمُ بِامْتِنَاعِهِ لِأَنَّ فِيهِ تَشْوِيهًا وَيُحْتَمَلُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي إجْبَارِهَا عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَمَالُ الِاسْتِمْتَاعِ كَإِزَالَةِ الْأَوْسَاخِ وَنَحْوِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ إجْبَارَهَا عَلَيْهِ وَفِي التَّحْرِيمِ عَلَيْهَا عِنْدَ مَنْعِ الْوَالِدِ نَظَرٌ ، .
وَالْأَوْجَهُ إثْبَاتُهُ ، وَحُكْمُ التَّقْصِيرِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأُنْمُلَةِ كَحُكْمِ الْحَلْقِ لِأَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ فَلَوْ جَوَّزْنَا زِيَادَةً عَلَيْهِ لَكَانَ يُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّشْوِيهِ انْتَهَى ؛ وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَرْأَةِ إذَا قَصَّرَتْ تَأْخُذُ قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ أَوْ فَوْقَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ دُونَهُ بِقَلِيلٍ وَلَيْسَتْ كَالرَّجُلِ فِي أَنَّهُ يَجُزُّهُ جَزًّا ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهَا تَأْخُذُ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ أَوْ أَرْبَعٍ مَقْبُوضَةً وَعَنْ النَّخَعِيّ قَدْرَ مِفْصَلَيْنِ وَعَنْ قَتَادَةَ تُقَصِّرُ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبْعَ ، وَعَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ فِي الْعَجُوزِ نَحْوَ الرُّبْعِ وَفِي الشَّابَّةِ أَشَارَتْ بِأُنْمُلَتِهَا تَأْخُذُ وَتُقَلِّلُ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ تَأْخُذُ ثُلُثَهُ .
{ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ } وَمَحَلُّ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مَا إذَا لَمْ يُلَبِّدْ شَعْرَ رَأْسِهِ فَإِنْ لَبَّدَهُ أَيْ سَكَّنَهُ بِمَا يَمْنَعُ الِانْتِفَاشَ كَالصَّمْغِ وَنَحْوِهِ تَعَيَّنَ عِنْدَهُمْ الْحَلْقُ وَلَمْ يَجُزْ التَّقْصِيرُ ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقُ وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ بِهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَنَّهُ عَلَى مَا نَوَى مِنْ ذَلِكَ ، إنْ نَوَى الْحَلْقَ تَعَيَّنَ وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى بَقَاءِ التَّخْيِيرِ فِي حَقِّهِ أَيْضًا وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُلَبِّدِ وَغَيْرِهِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ وَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ هُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَتَمَسَّكَ الْأَوَّلُونَ بِمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ فَلْيَحْلِقْ } .
وَجَعَلَ أَصْحَابُنَا الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّلْبِيدَ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ يُرِيدُ الْحَلْقَ يَوْمَ النَّحْرِ لِلنُّسُكِ : فَيُنَزَّلُ هَذَا مَنْزِلَةَ نَذْرِ الْحَلْقِ وَجَعَلَ الْمَالِكِيَّةُ سَبَبَ ذَلِكَ تَعَذُّرَ التَّقْصِيرِ وَقَالُوا لَا يُمْكِنُ التَّقْصِيرُ مَعَ التَّلْبِيدِ قَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ : وَيَقُومُ التَّقْصِيرُ مَقَامَ الْحَلْقِ حَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ عَجْزٌ عَنْ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ الْحَلْقُ كَمَنْ لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ شَعْرُهُ لَطِيفٌ لَا يُمْكِنُ تَقْصِيرُهُ أَوْ لَبَّدَ شَعْرَهُ مِثْلَ أَنْ يَجْعَلَ الصَّمْغَ فِي الْغَسُولِ ثُمَّ يُلَطِّخُ بِهِ رَأْسَهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ أَوْ
عَقَصَهُ أَوْ ضَفَّرَهُ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْحَلْقِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ انْتَهَى .
وَفِي ذِكْرِهِ مَعَ ذَلِكَ مَنْ لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ نَظَرٌ فَإِنَّ هَذَا لَا يَتَأَتَّى فِي حَقِّهِ حَلْقٌ وَلَا تَقْصِيرٌ وَمَسْأَلَةُ الْعَقْصِ وَالضَّفْرِ شَكْلٌ مِنْ التَّلْبِيدِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَ ذَلِكَ التَّقْصِيرُ بِلَا شَكٍّ بَلْ وَلَا يَتَعَذَّرُ مَعَ التَّلْبِيدِ وَالْعِيَانُ يَدْفَعُهُ ، وَهَذَا خِلَافٌ فِي شَهَادَةٍ وَالْمُدْرَكُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا أَقْرَبُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَشَارَ الْخَطَّابِيُّ إلَى الِاسْتِدْلَالِ لِتَعَيُّنِ الْحَلْقِ فِي صُورَةِ التَّلْبِيدِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ بَعْدَ كَلَامِهِ الَّذِي نَقَلْته عَنْهُ فِي الْفَائِدَةِ الثَّانِيَةِ : وَفِي قَوْلِهِ { اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ } .
وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ السُّنَّةَ فِيمَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ الْحِلَاقِ وَإِنَّمَا يُجْزِئُ التَّقْصِيرُ فِيمَنْ لَمْ يُلَبِّدْ { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ لَبَّدَ رَأْسَهُ } .
وَفِيمَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّقْصِيرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَيْضًا بِدُعَائِهِ لِلْمُقَصِّرِينَ وَهُوَ خِلَافُ مُدَّعَاهُ .
{ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ } وَمَحَلُّ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مَا إذَا لَمْ يَنْذِرْ الْحَلْقَ فَإِنْ نَذَرَهُ تَعَيَّنَ وَلَا يُجْزِئُهُ التَّقْصِيرُ وَهَذَا التَّعْيِينُ لَيْسَ بِأَصْلِ النُّسُكِ بَلْ لِعَارِضِ النَّذْرِ .
{ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ } قَالَ أَصْحَابُنَا : الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ إزَالَةُ الشَّعْرِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ النَّتْفُ وَالْإِحْرَاقُ وَالْأَخْذُ بِالنُّورَةِ وَالْمِقَصَّيْنِ وَالْقَطْعِ بِالْأَسْنَانِ وَغَيْرِهَا وَيَحْصُلُ الْحَلْقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا وَمَحَلُّهُ مَا إذَا لَمْ يَنْذِرْ الْحَلْقَ فَإِنْ نَذَرَهُ تَعَيَّنَ وَلَمْ تَقُمْ هَذِهِ الْأُمُورُ مَقَامَهُ : وَقَدْ يُقَالُ إنَّ فِي ذَلِكَ اسْتِنْبَاطَ مَعْنًى مِنْ النَّصِّ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ .
كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ أَبْلَغَ فِي سَدِّ خُلَّةِ الْفَقِيرِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا إجْزَاءُ الْأَخْذِ بِالنُّورَةِ وَقَالَ أَشْهَبُ لَا يُجْزِئُ .
{ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ } رَتَّبَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّ الْمُحْصَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ كَغَيْرِهِ فَإِنَّ سُقُوطَ بَقِيَّةِ الْأَرْكَانِ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ لِعَجْزِهِ عَنْهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْحَلْقِ فَيَبْقَى وُجُوبُهُ وَقَدْ حَضَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَلَى ذَلِكَ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَكَذَا الشَّافِعِيُّ بِنَاءً عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْهِ وَأَشْهَرِهِمَا أَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لَيْسَ عَلَيْهِ حَلْقٌ وَلَا تَقْصِيرٌ .
{ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ } مَحَلُّ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ شَعْرُ الرَّأْسِ دُونَ بَقِيَّةِ شُعُورِ الْبَدَنِ وَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ مَعَ الْحَلْقِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ وَأَظَافِرِهِ وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِعْلُ ذَلِكَ ، رَوَاهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ { السَّادِسَةَ عَشْرَةَ } يَسْقُطُ الْحَلْقُ ، وَالتَّقْصِيرُ بِفَقْدِ شَعْرِ الرَّأْسِ فَإِذَا كَانَ أَصْلَعَ أَوْ مَحْلُوقًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا فِدْيَةَ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ إمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ ، وَأَوْجَبَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَنْكَرَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ فَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَعَ يُمِرُّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَوْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ أَوْ شَعْرِ لِحْيَتِهِ شَيْئًا كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ لِيَكُونَ قَدْ وَضَعَ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا لِلَّهِ تَعَالَى ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَلَسْت أَرَى لِذَلِكَ وَجْهًا إلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْنَدَهُ إلَى أَثَرٍ ، وَقَالَ الْمُتَوَلِّي يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الشُّعُورِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِإِزَالَتِهَا لِلْفِطْرَةِ كَالشَّارِبِ وَالْإِبِطِ وَالْعَانَةِ لِئَلَّا يَخْلُوَ نُسُكُهُ عَنْ حَلْقٍ ، قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَوْ نَبَتَ شَعْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ حَلْقٌ وَلَا تَقْصِيرٌ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ بِرَأْسِهِ شَعْرٌ وَبِهِ عِلَّةٌ تَمْنَعُ الْحَلْقَ فَيَصْبِرُ لِلْإِمْكَانِ وَلَا يَفْتَدِي وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَلْقُ
بَابُ طَوَافِ الْحَائِضِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ { عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطَّهَّرِي } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { حَتَّى تَغْتَسِلِي } وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ { غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ } وَلَمْ يَقُلْهُ رُوَاةُ الْمُوَطَّإِ وَلَا غَيْرُهُمْ إلَّا يَحْيَى قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَعَنْهَا { أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاضَتْ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَابِسَتُنَا هِيَ فَقِيلَ لَهُ إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ ، قَالَ فَلَا إذًا } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { فَلْتَنْفِرْ } وَلِلْبُخَارِيِّ { فَلَا بَأْسَ انْفِرِي } وَلِمُسْلِمٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ مِنْ صَفِيَّةَ بَعْضَ مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالُوا إنَّهَا حَائِضٌ } الْحَدِيثَ ، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ أُخْبِرَ أَنَّ صَفِيَّةَ حَائِضٌ فَقَالَ أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ فَأُخْبِرَ أَنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ فَأَمَرَهَا بِالْخُرُوجِ } .
{ بَابُ طَوَافِ الْحَائِضِ } { الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ } عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ بِمَعْنَاهُ هُوَ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { حَتَّى تَغْتَسِلِي } وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ كُلِّهِمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيِّ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ { غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى تَطَّهَّرِي } وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يَقُلْهُ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّإِ وَلَا غَيْرِهِمْ إلَّا يَحْيَى ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ حَتَّى تَطَّهَّرِي بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا وَفَتْحِ الْهَاءِ أَيْضًا وَهُوَ عَلَى حَذْفِ إحْدَى التَّاءَيْنِ وَأَصْلُهُ تَتَطَهَّرِي كَذَا ضَبَطْنَاهُ وَحَفِظْنَاهُ ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { حَتَّى تَغْتَسِلِي } وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ رِوَايَةَ { حَتَّى تَغْتَسِلِي } رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَلَمْ أَرَهَا فِيهِ .
وَذَكَرَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { إنَّ النُّفَسَاءَ وَالْحَائِضَ تَغْتَسِلُ وَتُحْرِمُ .
وَتَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفَ
بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ } إنَّ الْمَشْهُورَ فِي الرِّوَايَةِ التَّخْفِيفُ وَضَمُّ الْهَاءِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَتَّى تَطَّهَّرَ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَالْهَاءِ ا هـ وَمُقْتَضَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا كَذَلِكَ .
وَالْمَعْرُوفُ مَا قَدَّمْته وَقَدْ يَكُونُ الْمَشْهُورُ فِي كُلٍّ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ عَنْهُ الْمَشْهُورُ فِي الْآخَرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّالِثَةُ } فِيهِ نَهْيُ الْحَائِضِ عَنْ الطَّوَافِ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُهَا وَتَغْتَسِلَ ، وَالنَّهْيُ فِي الْعِبَادَاتِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الطَّوَافِ لَوْ فَعَلَتْهُ وَفِي مَعْنَاهُ الْجَنَابَةُ وَكَذَا سَائِرُ الْأَحْدَاثِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الِاسْتِدْلَال ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ } لَكِنَّ الصَّحِيحَ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ مَرْفُوعٌ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْفُوعًا لَفْظًا لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذُوا عَنَى مَنَاسِكَكُمْ } وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقُ وَأَبِي ثَوْرٍ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ : وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
قَالَ وَانْفَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ :
الطَّهَارَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلطَّوَافِ فَلَوْ طَافَ وَعَلَيْهِ نَجَاسَةٌ أَوْ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا صَحَّ طَوَافُهُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي كَوْنِ الطَّهَارَةِ وَاجِبَةً مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا فَمَنْ أَوْجَبَهَا مِنْهُمْ قَالَ إنْ طَافَ مُحْدِثًا لَزِمَهُ شَاةٌ وَإِنْ طَافَ جُنُبًا لَزِمَهُ بَدَنَةٌ قَالُوا وَيُعِيدُهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ( إحْدَاهُمَا ) كَمَذْهَبِنَا .
( الثَّانِيَةُ ) إنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ وَإِنْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ جَبَرَهُ بِدَمٍ .
وَقَالَ دَاوُد : الطَّهَارَةُ لِلطَّوَافِ وَاجِبَةٌ فَإِنْ طَافَ مُحْدِثًا أَجْزَأَهُ إلَّا الْحَائِضُ ، وَقَالَ الْمَنْصُورِيُّ مِنْ أَصْحَابِ دَاوُد : الطَّهَارَةُ شَرْطٌ كَمَذْهَبِنَا انْتَهَى وَفِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ انْفِرَادِ أَبِي حَنِيفَةَ بِذَلِكَ نَظَرٌ : فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ : سَأَلْتُ الْحَكَمَ وَحَمَّادًا وَمَنْصُورًا وَسُلَيْمَانَ عَنْ الرَّجُلِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : إذَا طَافَتْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَ أَطْوَافٍ فَصَاعِدًا ثُمَّ حَاضَتْ أَجْزَأَ عَنْهَا وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى عَنْ عَطَاءٍ قَالَ : حَاضَتْ امْرَأَةٌ وَهِيَ تَطُوفُ مَعَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَتَمَّتْ بِهَا عَائِشَةُ بَقِيَّةَ طَوَافِهَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فَهَذِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ تَرَ الطَّهَارَةَ مِنْ شُرُوطِ الطَّوَافِ انْتَهَى وَفِي تَقْيِيدِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَحْمَدَ بِالْعَوْدِ إلَى بَلَدِهِ نَظَرٌ فَقَدْ حَكَى الْمَجْدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الطَّهَارَةَ وَاجِبَةٌ تُجْبَرُ بِالدَّمِ ، وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَوْلٌ يُوَافِقُ هَذَا فَحَكَى ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ عَنْ الْمُغِيرَةِ أَنَّهُ إنْ طَافَ غَيْرَ مُتَطَهِّرٍ أَعَادَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ فَإِنْ أَصَابَ النِّسَاءَ وَخَرَجَ إلَى بَلَدِهِ أَجْزَأَهُ ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ : الطَّوَافُ
بِالْبَيْتِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ جَائِزٌ وَلِلنُّفَسَاءِ وَلَا يَحْرُمُ إلَّا عَلَى الْحَائِضِ فَقَطْ لِلنَّهْيِ فِيهِ ، وَهَذَا جُمُودٌ عَجِيبٌ .
وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذِكْرُ النُّفَسَاءِ مَعَ الْحَائِضِ وَسَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَصِحُّ مِنْ الْحَائِضِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّتِهِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لِلطَّوَافِ .
فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ هِيَ شَرْطٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَبِهِ قَالَ دَاوُد فَمَنْ شَرَطَ الطَّهَارَةَ قَالَ الْعِلَّةُ فِي بُطْلَانِ طَوَافِ الْحَائِضِ عَدَمُ الطَّهَارَةِ وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهَا قَالَ الْعِلَّةُ فِيهِ كَوْنُهَا مَمْنُوعَةً مِنْ اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُصَحِّحُ الطَّوَافَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُ وَكَمَا حَكَاهُ هُوَ عَنْهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ارْتِكَابِ الْمُحْرِمِ فِي اللُّبْثِ فِي الْمَسْجِدِ بُطْلَانُ الطَّوَافِ وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَجْهٌ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ مَرْدُودٌ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الْأَبِيوَرْدِيِّ أَنَّهُ يَصِحُّ طَوَافُ الْوَدَاعِ بِلَا طَهَارَةٍ وَتُجْبَرُ الطَّهَارَةُ بِالدَّمِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الدَّمَ إنَّمَا وَجَبَ جَبْرًا لِلطَّوَافِ لَا لِلطَّهَارَةِ { الرَّابِعَةُ } إنْ قُلْت فِي مَعْنَى الطَّوَافِ رَكْعَتَا الْإِحْرَامِ فَلَا يَجُوزُ لِلْحَائِضِ فِعْلُهُمَا فَلِمَ لَا اسْتَثْنَاهُمَا بَلْ هُمَا أَوْلَى بِالْمَنْعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِمَا ( قُلْت ) يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُمَا تَبَعٌ لِلطَّوَافِ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْمَتْبُوعِ عَنْ التَّابِعِ ( ثَانِيهمَا ) أَنَّ تَحْرِيمَ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَائِضِ مَعْرُوفٌ مُقَرَّرٌ لَا يَحْتَاجُ لِذِكْرِهِ بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ قَدْ يَخْفَى حُكْمُهُ { الْخَامِسَةُ } اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَيْضًا الطَّهَارَةُ
عَنْ النَّجَسِ فِي الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يَطَؤُهُ فِي الطَّوَافِ وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ لَكِنْ اغْتَفَرَ الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ مَعَ النِّسْيَانِ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَلَمْ أَرَ لِلْأَئِمَّةِ تَشْبِيهَ مَكَانِ الطَّوَافِ بِالطَّرِيقِ فِي حَقِّ الْمُتَنَفِّلِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ لَا بَأْسَ بِهِ ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَاَلَّذِي أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَوْ لَاقَى النَّجَاسَةَ بِبَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ مَشَى عَلَيْهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ ، قَالَ وَمِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى غَلَبَةُ النَّجَاسَةِ فِي مَوْضِعِ الطَّوَافِ مِنْ جِهَةِ الطَّيْرِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُحَقِّقِينَ الْعَفْوَ عَنْهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ يُعْفَى عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ كَنَظَائِرِهِ .
{ السَّادِسَةُ } لَوْ عَجَزَ عَنْ الْغُسْلِ أَوْ الْوُضُوءِ تَيَمَّمَ كَنَظَائِرِهِ فَلَوْ عَجَزَ عَنْ الطَّهُورَيْنِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَطُوفُ وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِهِ مَعَ الطَّهَارَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَيْسَ الْوَقْتُ مُضَيَّقًا حَتَّى يَفْعَلَهُ { السَّابِعَةُ } فِيهِ جَوَازُ السَّعْيِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَأَمَّا رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ فِي ذِكْرِ السَّعْيِ فَإِنَّهَا شَاذَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ قَالَ وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ إنْ ذَكَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ فَلْيُعِدْ الطَّوَافَ وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ مَا حَلَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا اشْتَرَطَ فِيهِ الطَّهَارَةَ إلَّا الْحَسَنُ فَإِنَّهُ قَالَ إنْ سَعَى عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَإِنْ ذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ فَلْيُعِدْ وَإِنْ ذَكَرَ بَعْدَ مَا حَلَّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ انْتَهَى .
وَفِيهِ نَظَرٌ ، مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ كَلَامٌ مُتَهَافِتٌ فَإِنَّ اشْتِرَاطَ الطَّهَارَةِ يُنَافِي الْإِجْزَاءَ مَعَ فَقْدِهَا وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا نُقِلَ عَنْهُ الِاشْتِرَاطُ وَلَعَلَّهُ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ فَقَطْ بَلْ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَا بَأْسًا أَنْ يَطُوفَ الرَّجُلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ وَكَانَ الْوُضُوءُ أَحَبَّ إلَيْهِمَا وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحَسَنَ إنَّمَا يَقُولُ بِاسْتِحْبَابِ الطَّهَارَةِ لَهُ كَمَا يَقُولُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ( ثَانِيهمَا ) أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ فَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ قَالَ لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ الْقُرْآنَ وَلَا تُصَلِّي وَلَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَدْلُ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَهُوَ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا ( لَا تَطُوفُ الْبَيْتَ وَلَا تَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَا تَقْرَبُ الْمَسْجِدَ حَتَّى تَطْهُرَ ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ تَجِبُ لَهُ الطَّهَارَةُ كَالطَّوَافِ حَكَاهَا عَنْهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ { الثَّامِنَةُ } فَإِنْ قُلْت فَإِذَا كَانَ السَّعْيُ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ فَلِمَ لَمْ تَفْعَلْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَلْ قَالَتْ لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَكَفَتْ عَنْ فِعْلِهِ كَمَا كَفَتْ عَنْ الطَّوَافِ ( قُلْت ) لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ طَوَافٍ فَتَرْكُ السَّعْيِ لَيْسَ لِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِيهِ بَلْ لِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِيمَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الطَّوَافُ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ إنَّ السَّعْيَ مَوْصُولٌ بِالطَّوَافِ لَا فَصْلَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَالْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ فِي مَنَاسِكِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ الْحَائِضُ تُنْسِك الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا مَا خَلَا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَاضَتْ بَعْدَ مَا طَافَتْ بِالْبَيْتِ فَإِنَّهَا تَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِيمَنْ طَافَتْ ثُمَّ حَاضَتْ أَنَّهَا تَسْعَى وَهِيَ حَائِضٌ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ { التَّاسِعَةُ } وَفِيهِ أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَأَفْعَالِهِ سِوَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ
{ الْعَاشِرَةُ } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي قَوْلِهِ { لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَغْتَسِلِي } دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ الْحَائِضِ وَإِنْ انْقَطَعَ عَنْهَا دَمُهَا عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ قَالَ وَفِيهِ تَنْزِيهُ الْمَسَاجِدِ عَنْ الْأَقْذَارِ وَالْحَائِضِ وَالْجُنُبِ ( قُلْت ) الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الطَّوَافُ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْأَخَصِّ النَّهْيُ عَنْ الْأَعَمِّ { الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ } اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَائِضِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ إلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِهِ وَالْمُرَادُ مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ مِمَّا هُوَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَأَفْعَالِهِ الْمَعْدُودَةِ مِنْهُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مِنْ ذَلِكَ وَالْمَسْأَلَةُ مُقَرَّرَةٌ فِي مَوْضِعِهَا .
الْحَدِيثُ الثَّانِي } وَعَنْهَا { أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاضَتْ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ فَقِيلَ لَهُ إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ ، قَالَ فَلَا إذَنْ } وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ أُخْبِرَ أَنَّ صَفِيَّةَ حَائِضٌ فَقَالَ أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ فَأُخْبِرَ أَنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ فَأَمَرَهَا بِالْخُرُوجِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فَقَطْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كُلِّهِمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { كُنَّا نَتَخَوَّفُ أَنْ تَحِيضَ صَفِيَّةَ قَبْلَ أَنْ تُفِيضَ قَالَتْ فَجَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَابِسَتُنَا صَفِيَّةُ ؟ قُلْنَا قَدْ أَفَاضَتْ قَالَ فَلَا إذًا } وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ فَقَالَ وَقَالَ أَفْلَحُ فَذَكَرَهُ ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كُلِّهِمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَلَهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا طُرُقٌ أُخْرَى { الثَّانِيَةُ } أُبْهِمَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الذَّاكِرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ صَفِيَّةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَاضَتْ وَالْمُخْبِرُ لَهُ أَنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ وَهِيَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الصَّحِيحِ { الثَّالِثَةُ } فِيهِ أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ رُكْنٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا طَافَتْ لِلْإِفَاضَةِ { أَحَابِسَتُنَا هِيَ } وَهُوَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ { الرَّابِعَةُ } وَفِيهِ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَا تَقَدَّمَ { الْخَامِسَةُ } مُقْتَضَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَحَابِسَتُنَا هِيَ } ، أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ طَافَتْ لِلْإِفَاضَةِ لَمْ يَرْحَلْ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ الْحَيْضِ وَتَغْتَسِلَ وَتَطُوفَ ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ وَهُوَ ظَاهِرُ التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ الْحَبْسِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُهُ لِكَوْنِهَا لَزِمَهُ وَزَوْجَهُ وَلِهَذَا احْتَبَسَ عَلَى طَلَبِ عَقْدِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَطَّرِدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ امْرَأَةٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَنَّ عَلَى أَمِيرِ الْحَجِّ أَنْ يَكُفَّ عَنْ الرَّحِيلِ مِنْ مَكَّةَ لِأَجْلِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ إذَا لَمْ تَطُفْ لِلْإِفَاضَةِ وَلَمْ تُرِدْ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَيْنَاهُ فِي الْجُزْءِ الثَّامِنِ مِنْ فَوَائِدِ الثَّقَفِيِّ شَيْخِ السَّلَفِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمِيرَانِ وَلَيْسَا بِأَمِيرَيْنِ مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ حَتَّى تُدْفَنَ أَوْ يَأْذَنَ صَاحِبُهَا ، وَالْمَرْأَةُ حَجَّتْ أَوْ اعْتَمَرَتْ فَكَانَتْ مَعَ قَوْمٍ فَحَاضَتْ وَلَمْ تَقْضِ الطَّوَافَ الْوَاجِبَ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَنْصَرِفُوا حَتَّى تَطْهُرَ أَوْ تَأْذَنَ لَهُمْ } ، قَالَ الشَّيْخُ مُحِبُّ الدِّينِ الطَّبَرِيُّ وَلَمْ أَعْثُرْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا لَكِنْ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَيْهِ قَالَ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ قَالَ
يَلْزَمُ الْجَمَّالَ حَبْسُ الْجِمَالِ لَهَا أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَزِيَادَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ( قُلْت ) كَذَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَكَذَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ أَصْحَابَنَا حَكَوْا عَنْهُ لَكِنْ لَمْ أَرَ فِي كَلَامِهِ زِيَادَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَفْظُهُ فِي الْمُوَطَّإِ { وَإِنْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ بِمِنًى قَبْلَ أَنْ تُفِيضَ فَإِنَّ كَرِيِّهَا يُحْبَسُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مَا يَحْبِسُ النِّسَاءُ الدَّمَ } ، وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ حَكَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُحْبَسُ الْكَرِيُّ عَلَيْهَا إلَى انْقِضَاءِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ حِينِ رَأَتْ الدَّمَ قَالَ وَيُحْبَسُ عَلَى النُّفَسَاءِ أَقْصَى مَا تَحْبِسُ النُّفَسَاءُ الدَّمَ فِي النِّفَاسِ قَالَ وَلَا حُجَّةَ لِلْكَرِيِّ أَنْ يَقُولَ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهَا حَامِلٌ وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تُعِينَهُ فِي الْعَلَفِ قَالَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الطُّهْرِ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ حُبِسَ عَلَيْهَا الْكَرِيُّ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ بَقِيَ لَهَا أَيَّامٌ لَمْ يُحْبَسْ إلَّا وَحْدَهُ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ لَسْت أَعْرِفُ حَبْسَ الْكَرِيِّ كَيْفَ يُحْبَسُ وَحْدَهُ يُعَرَّضُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : مَوْضِعُ الْخِلَافِ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ لَهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ آمِنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَحْرَمٌ لَمْ يَنْتَظِرْهَا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ السَّيْرُ بِهَا وَحْدَهُ وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي مُدَّةِ الْحَبْسِ فَرَوَى أَشْهَبُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَرَوَى غَيْرُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَتَسْتَطْهِرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَحَبُّ إلَيَّ ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ قَدْرَ مَا تُقِيمُ فِي حَيْضَتِهَا وَالِاسْتِطْهَارُ ، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ تُحْبَسُ أَكْثَرَ مَا تُقِيمُ الْحَائِضُ فِي الْحَيْضِ وَالنُّفَسَاءُ فِي النِّفَاسِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَإِنَّهُ
يُفْسَخُ لِلْخَوْفِ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّبَّادِ قِيلَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْأَمْنِ فَأَمَّا فِي هَذَا الْوَقْتِ حَيْثُ لَا يَأْمَنُ فِي الطَّرِيقِ فَهِيَ ضَرُورَةٌ وَيُفْسَخُ الْكِرَاءُ بَيْنَهُمَا .
قَالَ ابْنُ شَاسٍ وَإِذَا قُلْنَا بِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فَجَاوَزَ الدَّمُ مُدَّةَ الْحَبْسِ فَهَلْ تَطُوفُ أَوْ تَفْسَخُ الْكِرَاءَ ؟ قَوْلَانِ .
{ السَّادِسَةُ } فِيهِ أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْحَائِضِ فَلَهَا النَّفْرُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَفْعَلَهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهَا وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هُوَ مُجْمَعٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ انْتَهَى وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ طَائِفَةٍ وُجُوبَهُ عَلَيْهَا كَغَيْرِهَا وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ { أَتَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَسَأَلْته عَنْ الْمَرْأَةِ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَوْمَ التَّحْرِيمِ تَحِيضُ قَالَ لِيَكُنْ آخِرَ عَهْدِهَا فِي الْبَيْتِ قَالَ فَقَالَ الْحَارِثُ كَذَلِكَ أَفْتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَقَالَ عُمَرُ أَرَأَيْت عَنْ يَدَيْك سَأَلْتنِي عَنْ شَيْءٍ سَأَلْت عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَيْمَا أُخَالِفُ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ سَأَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ امْرَأَةٍ طَافَتْ ثُمَّ حَاضَتْ قَالَ لَهُمْ تَنْفِرُ قَالُوا لَا نَأْخُذُ بِقَوْلِكَ وَنَدَعُ قَوْلَ زَيْدٍ قَالَ إذَا قَدِمْتُمْ الْمَدِينَةَ فَسَلُوا فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَسَأَلُوا فَكَانَ فِيمَنْ سَأَلُوا أُمَّ سُلَيْمٍ فَذَكَرَتْ حَدِيثَ صَفِيَّةَ لَكِنْ قَدْ رَجَعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ ذَلِكَ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ ( إذْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ تُفْتِي أَنْ تَصْدُرَ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَّا لَا فَسَلْ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ هَلْ أَمَرَهَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ فَرَجَعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ مَا أَرَاك إلَّا قَدْ صَدَقَتْ ) .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ { كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ إنَّهَا لَا تَنْفِرُ ثُمَّ سَمِعْته يَقُولُ تَنْفِرُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لَهُنَّ } .
وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُقِيمُ عَلَى الْحَائِضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى تَطُوفَ طَوَافَ يَوْمِ النَّحْرِ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ رَوَيْنَا عَنْ زَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ الرُّجُوعَ وَتَرَكَا قَوْلَ عُمَرَ لِلثَّابِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( كَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ سَمِعَ الْأَمْرَ بِالْوَدَاعِ وَلَمْ يَسْمَعْ الرُّخْصَةَ لِلْحَائِضِ فَقَالَ بِهِ عَلَى الْعَامِّ فَلَمَّا بَلَغَتْهُ الرُّخْصَةُ ذَكَرَهَا ) حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ : أَيَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ " كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ قَدْ فَرَغَتْ الْأَعْمُرُ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَكُونُ آخِرَ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ " { السَّابِعَةُ } قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ غَيْرُ وَاجِبٍ مُطْلَقًا إذْ لَوْ وَجَبَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الْحَائِضِ كَطَوَافِ الرُّكْنِ وَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا سَقَطَ عَنْ الْحَائِضِ لِلْعُذْرِ مَعَ وُجُوبِهِ عَلَى غَيْرِهَا وَيُوَافِقُ الثَّانِيَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ ( أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إلَّا الْحَائِضَ ) .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { مَنْ حَجَّ الْبَيْتِ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ إلَّا الْحَيْضَ وَرَخَّصَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَقَالَ الْحَاكِمُ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ انْتَهَى وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ عَلَى غَيْرِ الْحَائِضِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَحَكَى عَنْ مُجَاهِدٍ رِوَايَةً مُوَافِقَةً لَهُ وَأُخْرَى مُوَافِقَةً لِلْجُمْهُورِ وَمِمَّنْ حَكَى عَنْهُ عَدَمَ وُجُوبِهِ أَيْضًا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ { الثَّامِنَةُ } قَوْلُهُ أَفَاضَتْ أَيْ طَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى طَوَافَ الزِّيَادَةِ وَهُوَ طَوَافُ الرُّكْنِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ يَفْعَلُ يَوْمَ النَّحْرِ يُفِيضُ الْحَاجُّ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ ثُمَّ يَرْجِعُ وَالْإِفَاضَةُ الزَّحْفُ وَالدَّفْعُ فِي السَّيْرِ بِكَثْرَةٍ وَمِنْهُ الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَةَ وَلَا تَكُونُ إلَّا عَنْ تَفَرُّقٍ وَجَمْعٍ ، وَأَصْلُ الْإِفَاضَةِ الصَّبُّ فَاسْتُعِيرَتْ لِلدَّفْعِ فِي السَّيْرِ وَأَصْلُهُ أَفَاضَ نَفْسَهُ أَوْ رَاحِلَتَهُ فَرَفَضُوا ذِكْرَ الْمَفْعُولِ حَتَّى أَشْبَهَ غَيْرَ الْمُتَعَدِّي
{ التَّاسِعَةُ } قَالَ أَصْحَابُنَا إنْ نَفَرَتْ الْمُسْتَحَاضَةُ فِي يَوْمِ حَيْضِهَا فَلَا وَدَاعَ عَلَيْهَا ؛ وَإِنْ نَفَرَتْ فِي يَوْمِ طُهْرِهَا لَزِمَهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي فِيمَا إذَا نَفَرَتْ فِي يَوْمِ طُهْرِهَا وَكَانَتْ تَخْشَى تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ لَوْ دَخَلَتْهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا فِي سُقُوطِ طَوَافِ الْوَدَاعِ عَنْهَا حُكْمَ الْحَائِضِ وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْتَحَقَ بِهِ كُلُّ مَنْ بِهِ جِرَاحَةٌ نَضَّاحَةٌ يُخْشَى مِنْ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ تَلْوِيثُهُ بِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْعَاشِرَةُ } فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ مِنْ صَفِيَّةَ بَعْضَ مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ فَقَالُوا إنَّهَا حَائِضٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنَّهَا لَحَابِسَتُنَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا قَدْ زَارَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ فَلْتَنْفِرْ مَعَكُمْ } وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُشْكِلَةٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِأَنَّهَا طَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ كَمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ سَائِرُ الرِّوَايَاتِ فَكَيْفَ يُرِيدُ وِقَاعَهَا وَحُكْمُ الْإِحْرَامِ فِي حَقِّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوِقَاعِ بَاقٍ قَبْلَ الطَّوَافِ ( وَجَوَابُهُ ) أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ظَنَّ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ وَأَنَّهَا طَافَتْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا حَائِضٌ تَوَهَّمَ حِينَئِذٍ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ فَمَا حَدَثَ لَهُ هَذَا التَّوَهُّمُ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا حَائِضٌ فَلَمْ يَجْتَمِعْ إرَادَةُ الْوِقَاعِ وَتَوَهُّمُ عَدَمِ الطَّوَافِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ تُنَافِي بِظَاهِرِهَا إرَادَةَ وِقَاعِهَا فَإِنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ وَهِيَ وَقْتُ النَّفْرِ لَا يَتَهَيَّأُ فِيهَا هَذَا وَيُوَافِقُ ذَلِكَ رِوَايَةَ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَنْفِرَ إذَا صَفِيَّةُ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً حَزِينَةً فَقَالَ عَقْرَى حَلْقَى إنَّك لَحَابِسَتُنَا } الْحَدِيثَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ فَلَعَلَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا إرَادَةُ الْوِقَاعِ وَهْمٌ وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فَفِي ذِكْرِ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيَّ لَهَا فِي الْعُمْدَةِ نَظَرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ } قَوْلُهُ فَأَمَرَهَا بِالْخُرُوجِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمْرُ إبَاحَةٍ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمْرُ إيجَابٍ لَا لِأَجْلِ النُّسُكِ بَلْ لَحِقَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كَوْنِهَا زَوْجَتَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ دُخُولِ الْكَعْبَةِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ فَأَغْلَقَاهَا عَلَيْهِ وَمَكَثَ فِيهَا .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَسَأَلْتُ بِلَالًا حِينَ خَرَجَ مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ ثُمَّ صَلَّى } وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ { وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ } وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ { بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ } وَلَهُمَا { وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى } وَلِلْبُخَارِيِّ { صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ إذَا دَخَلْت } وَلَهُ { وَعِنْدَ الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَرْمَرَةٌ حَمْرَاءُ } وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ { اسْتَقْبَلَ الْجَزْعَةَ } وَلِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { فَدَعَا فِيهِ وَلَمْ يُصَلِّ } وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَشْهَدْ الْقِصَّةَ وَإِنَّمَا حَدَّثَهُ بِذَلِكَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ
( بَابُ دُخُولِ الْكَعْبَةِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ فَأَغْلَقَاهَا عَلَيْهِ وَمَكَثَا فِيهَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَسَأَلْت بِلَالًا حِينَ خَرَجَ مَاذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ ثُمَّ صَلَّى } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَالْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَجُوَيْرَةَ بْنِ أَسْمَاءَ وَفُلَيْحِ بْنُ سُلَيْمَانَ وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ وَمُسْلِمٍ وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ كُلِّهِمْ عَنْ نَافِعٍ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ كُلِّهِمْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ بِلَالٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ } وَقَالَ حَدِيثُ بِلَالٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ { الثَّانِيَةُ } فِيهِ اسْتِحْبَابُ دُخُولِ الْكَعْبَةِ اقْتِدَاءً بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَدْ وَرَدَ التَّرْغِيبُ فِيهِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنَةٍ وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ مَغْفُورًا لَهُ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَمَحَلُّ اسْتِحْبَابِهِ إذَا لَمْ يُؤْذِ بِدُخُولِهِ أَحَدًا لِزَحْمَةٍ وَنَحْوِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاسْتُحِبَّ دُخُولُ الْبَيْتِ إنْ كَانَ لَا يُؤْذِي أَحَدًا بِدُخُولِهِ وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِي وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ طَيِّبُ النَّفْسِ فَرَجَعَ إلَيَّ وَهُوَ حَزِينٌ فَقُلْتُ لَهُ فَقَالَ إنِّي دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ فَعَلْت ، إنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ أَتْعَبْت أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي } لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَصَحَّحَهُ وَلَعَلَّ مَعْنَاهُ إتْعَابُهُمْ بِتَجَشُّمِ الْمَشَقَّةِ فِي الدُّخُولِ مَعَ تَعَسُّرِ ذَلِكَ وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ دُخُولَكُمْ الْبَيْتَ لَيْسَ مِنْ حَجِّكُمْ فِي شَيْءٍ ) وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ فِي الْحَاجِّ إنْ شَاءَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَدْخُلْهَا وَعَنْ خَيْثَمَةَ لَا يَضُرُّك وَاَللَّهِ أَنْ لَا تَدْخُلَهُ وَعَنْ عَطَاءٍ إنْ شِئْت فَلَا تَدْخُلُهُ ، وَمَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ لَا يُنَافِي اسْتِحْبَابَ دُخُولِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ وُجُوبُهُ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَاسِكِ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ مُسْتَقِلٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّالِثَةُ } دُخُولُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْكَعْبَةَ كَانَ فِي الْفَتْحِ كَمَا هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يَدْخُلْ الْكَعْبَةَ فِي عُمْرَتِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَمْ يُنْقَلْ فِيمَا أَعْلَمُ دُخُولُهُ فِي حَجِّهِ ، وَلَعَلَّ تَرْكَهُ الدُّخُولَ فِي عُمْرَتِهِ وَحَجَّتِهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ كَوْنُهُ مِنْ الْمَنَاسِكِ وَلَيْسَ مِنْهَا وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَمَا قَدَّمْته وَقَالَ
الْبَيْهَقِيُّ دُخُولُهُ كَانَ فِي حَجَّتِهِ وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فِي عُمْرَتِهِ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ دُخُولَهُ فِي حَجَّتِهِ مَرْدُودٌ وَإِنَّمَا كَانَ فِي الْفَتْحِ كَمَا قَدَّمْته وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ دُخُولَهُ كَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَلَمْ يَكُنْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَسَبَبُ عَدَمِ دُخُولِهِ أَيْ فِي عُمْرَتِهِ مَا كَانَ فِي الْبَيْتِ مِنْ الْأَصْنَامِ وَالصُّوَرِ وَلَمْ يَكُنْ الْمُشْرِكُونَ يَتْرُكُونَهُ لِيُغَيِّرَهَا { فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مَكَّةَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَصَلَّى فِيهِ وَأَزَالَ الصُّوَرَ قَبْلَ دُخُولِهِ } ( قُلْت ) لَوْ كَانَ الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ لَدَخَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَلَعَلَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَبْدَيْته أَوْجَهَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ حَدَّثَنِي جَدِّي قَالَ سَمِعْت سُفْيَانَ يَقُولُ سَمِعْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً عَامَ الْفَتْحِ ثُمَّ حَجَّ فَلَمْ يَدْخُلْهَا } قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ ( فِي إحْيَاءِ الْقَلْبِ الْمَيِّتِ بِدُخُولِ الْبَيْتِ ) وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَأَمَّا قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَهُوَ بِمَكَّةَ فَفِي طَبَقَاتِ ابْنِ سَعْدٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلَهَا عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { أَنَّهُ دَخَلَهَا يَوْمَ الْفَتْحِ مَرَّتَيْنِ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ ثُمَّ خَرَجَ وَبِلَالٌ خَلْفَهُ فَقُلْت لِبِلَالٍ هَلْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ لَا ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ دَخَلَ فَسَأَلْت بِلَالًا هَلْ صَلَّى ؟ قَالَ نَعَمْ } ، قَالَ وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ دَخَلَهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ
الَّذِي ذَكَرْته فِي الْفَائِدَةِ قَبْلَهَا وَفِيهِ { أَنِّي دَخَلْت الْكَعْبَةَ } وَكَأَنَّ وَجْهَ ذَلِكَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّمَا كَانَتْ مَعَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الرَّابِعَةُ } قَالَ الْمُهَلَّبُ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ إدْخَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ لَمَعَانٍ تَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَمَّا دُخُولُ عُثْمَانَ فَلِخِدْمَتِهِ الْبَيْتَ فِي الْغَلْقِ وَالْفَتْحِ وَالْكَنْسِ وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْهُ لِغَلْقِ بَابِهَا لَتَوَهَّمَ النَّاسُ أَنَّهُ عَزَلَهُ ، وَأَمَّا بِلَالٌ فَمُؤَذِّنُهُ وَخَادِمُ أَمْرِ صَلَاتِهِ .
وَأَمَّا أُسَامَةُ فَمُتَوَلِّي خِدْمَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَهُمْ خَاصَّتُهُ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخِصَّ خَاصَّتَهُ بِبَعْضِ مَا يَسْتَتِرُ بِهِ عَنْ النَّاسِ ا هـ وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ وَمَعَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ وَبِلَالٌ } الْحَدِيثَ فَزَادَ مَعَهُمْ الْفَضْلَ وَهُوَ غَرِيبٌ وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْفَضْلِ ، وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَكَانَ مَعَهُ حِينَ دَخَلَهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ فِي الْكَعْبَةِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا دَخَلَهَا وَقَعَ سَاجِدًا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ يَدْعُو } وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ شَاذَّةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ دُخُولُ الْفَضْلِ مَعَهُمْ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى السُّجُودِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَلَمْ يَدْخُلْهَا مَعَهُمْ أَحَدٌ { الْخَامِسَةُ } قَوْلُهُ فَأَغْلَقَاهَا عَلَيْهِ كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالتَّثْنِيَةِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمَذْكُورَيْنِ آخِرًا وَهُمَا عُثْمَانُ وَبِلَالٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ { فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ } وَفِي
رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { فَأَغْلَقَهَا } وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ لِعُثْمَانَ فَإِنَّهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ قَالَ فِيهَا وَأَجَافَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْبَابَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ عُثْمَانَ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْإِغْلَاقِ لِأَنَّهَا وَظِيفَتُهُ وَلِهَذَا انْفَرَدَ بِالْفَتْحِ وَأَمَّا ضَمُّ بِلَالٍ إلَيْهِ فِي رِوَايَةٍ فَلَعَلَّهُ سَاعَدَهُ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي نُسِبَ فِيهَا ذَلِكَ إلَى الْجَمِيعِ فَوَجْهُ نِسْبَتِهِ إلَى غَيْرِ عُثْمَانَ لِلْأَمْرِ بِذَلِكَ فَالْفِعْلُ يُنْسَبُ تَارَةً إلَى فَاعِلِهِ وَتَارَةً إلَى الْآمِرِ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ السَّادِسَةُ } قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَأَمَّا غَلْقُ الْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ حِينَ صَلَّى فِي الْبَيْتِ لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ سُنَّةٌ فَيُلْزَمُونَ ذَلِكَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إنَّمَا أَغْلَقَهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيَكُونَ أَسْكَنَ لِقَلْبِهِ وَأَجْمَعَ لِخُشُوعِهِ وَلِئَلَّا يَجْتَمِعَ النَّاسُ وَيَدْخُلُوهُ أَوْ يَزْدَحِمُوا فَيَنَالَهُمْ ضَرَرٌ وَيَتَهَوَّشَ عَلَيْهِ الْحَالُ بِسَبَبِ لَغَطِهِمْ انْتَهَى وَمَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ أَظْهَرُ وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَخْفَى صَلَاتُهُ فِي الْبَيْتِ وَقَدْ شَاهَدَهَا جَمَاعَةٌ وَنَقَلُوهَا وَقِيلَ إنَّمَا أَغْلَقَهَا لِيُصَلِّيَ إلَى جَمِيعِ جِهَاتِهَا فَإِنَّ الْبَابَ إذَا كَانَ مَفْتُوحًا وَلَيْسَ أَمَامَهُ قَدْرُ مُؤَخِّرَةِ الرَّجُلِ لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ حَكَاهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ { السَّابِعَةُ } فِيهِ اخْتِصَاصُ جَمَاعَةٍ بِدُخُولِهِمْ الْكَعْبَةَ وَإِغْلَاقِهَا عَلَيْهِمْ وَفِي تَارِيخِ الْأَزْرَقِيِّ { أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ كَانَ يَوْمَئِذٍ بِالْبَابِ يَذُبُّ النَّاسَ } .
{ الثَّامِنَةُ } وَفِيهِ إغْلَاقُ الْكَعْبَةِ وَيُقَاسُ بِهَا غَيْرُهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إغْلَاقُهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَبَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ ( بَابُ الْأَبْوَابِ وَالْغَلْقِ لِلْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ ) وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ اتِّخَاذُ الْأَبْوَابِ لِلْمَسَاجِدِ وَاجِبٌ لِتُصَانَ عَنْ مَكَانِ الرِّيَبِ وَتُنَزَّهَ عَمَّا لَا يَصْلُحُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ الطَّاعَاتِ { التَّاسِعَةُ } لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُدَّةَ مُكْثِهِ فِيهَا وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { فَمَكَثَ فِيهَا نَهَارًا طَوِيلًا } .
{ الْعَاشِرَةُ } فِيهِ رِوَايَةُ الصَّاحِبِ عَنْ الصَّاحِبِ وَفِيهِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا يُقَالُ كَيْفَ يُثْبِتُونَ خَبَرَ الْوَاحِدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ هَذَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادٍ يَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهَا التَّوَاتُرُ فَيُنَبَّهُ عَلَيْهِ لِيُحْفَظَ وَيُضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ
{ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ } فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ إثْبَاتُ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْكَعْبَةِ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ { وَدَعَا وَلَمْ يُصَلِّ } وَإِنَّمَا تَلَقَّى ابْنُ عَبَّاسٍ ذَلِكَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ فِي قِبَلِ الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ هَذِهِ الْقِبْلَةُ } وَالْعَمَلُ عَلَى الْإِثْبَاتِ فَإِنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ الْآثَارُ أَنَّهُ صَلَّى أَكْثَرَ وَلَوْ تَسَاوَتْ فِي الْكَثْرَةِ لَكَانَ الْأَخْذُ بِالْمُثْبِتِ أَوْلَى مِنْ النَّافِي فَقَدْ رَوَى { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى فِي الْبَيْتِ غَيْرُ بِلَالٍ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَجَابِرٌ وَشَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ } مِنْ طُرُقٍ حِسَانٍ ذَكَرَهَا الطَّحَاوِيُّ كُلَّهَا وَفِي شَرْحِ مَعَانِي الْآثَارِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رِوَايَةُ أَنَّهُ صَلَّى أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ مَقْبُولَةٌ وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ قَالَ لَمْ يَفْعَلْ بِشَهَادَةٍ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْأَخْذِ بِرِوَايَةِ بِلَالٍ لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ فَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ فَوَجَبَ تَرْجِيحُهُ وَكَذَا حَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ قَالَ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ اثْنَيْنِ فَأَمَّا وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فَأَثْبَتَ مَرَّةً وَنَفَى أُخْرَى .
وَقَوْلُ النَّفْيِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَا أَدْرِي مَا هَذَا انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ
الْخَبَرُ عَنْ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ فَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ عَلَى وَاحِدٍ .
( الثَّانِي ) أَنَّ ذِكْرَ ابْنِ عُمَرَ سَهْوٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْهُ النَّفْيَ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أُسَامَةَ فَسَبَقَ قَلَمُهُ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَأَمَّا نَفْيُ أُسَامَةَ فَقَدْ سَبَقَ وَأَمَّا إثْبَاتُهُ فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ : { خَرَجْت حَاجًّا فَجِئْت حَتَّى دَخَلْت الْبَيْتَ فَلَمَّا كُنْت بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ مَضَيْت حَتَّى لَزِمْت الْحَائِطَ فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ فَصَلَّى إلَى جَنْبِي فَصَلَّى أَرْبَعًا فَلَمَّا صَلَّى قُلْت لَهُ أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَيْتِ فَقَالَ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّهُ صَلَّى هَهُنَا فَقُلْت كَمْ صَلَّى ؟ فَقَالَ عَلَى هَذَا أَجِدُنِي أَلُومُ نَفْسِي .
إنِّي مَكَثْت مَعَهُ عُمْرًا فَلَمْ أَسْأَلْهُ كَمْ صَلَّى } وَيُوَافِقُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّ فِيهَا بَعْدَ ذِكْرِ أُسَامَةَ وَبِلَالٍ وَعُثْمَانُ { فَقُلْت أَيْنَ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا هَاهُنَا ، قَالَ وَنَسِيت أَنْ أَسْأَلَهُمْ كَمْ صَلَّى } ، وَمُقْتَضَاهَا نِسْبَةُ ذَلِكَ إلَى جَمِيعِهِمْ وَالْمَشْهُورُ عَنْ أُسَامَةَ النَّفْيُ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : إنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَهَنُوا هَذِهِ الرِّوَايَةَ فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَهَمَ ابْنُ عَوْنٍ هُنَا وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَأَسْنَدُوهُ عَنْ بِلَالٍ وَحْدَهُ قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ فِي بَاقِي الطُّرُقِ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ فَأَخْبَرَنِي بِلَالٌ أَوْ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ هَكَذَا هُوَ عِنْدَ عَامَّةِ شُيُوخِنَا وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَعُثْمَانُ قَالَ وَهَذَا يَعْضُدُ رِوَايَةَ ابْنِ عَوْنٍ وَالْمَشْهُورُ انْفِرَادُ بِلَالٍ بِرِوَايَةِ ذَلِكَ { الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ } إنْ قُلْت كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ إثْبَاتِ بِلَالٍ وَنَفْيِ أُسَامَةُ مَعَ دُخُولِهِمَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ؟ ( قُلْت ) أُجِيبَ عَنْهُ بِأَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَأَمَّا نَفْيُ أُسَامَةَ فَسَبَبُهُ أَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الْكَعْبَةَ أَغْلَقُوا الْبَابَ وَاشْتَغَلُوا بِالدُّعَاءِ فَرَأَى أُسَامَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو ثُمَّ اشْتَغَلَ أُسَامَةُ بِالدُّعَاءِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْبَيْتِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى وَبِلَالٌ قَرِيبٌ مِنْهُ ثُمَّ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَآهُ بِلَالٌ لِقُرْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ أُسَامَةُ لِبُعْدِهِ وَاشْتِغَالِهِ وَكَانَتْ صَلَاتُهُ خَفِيفَةً فَلَمْ يَرَهَا أُسَامَةُ لِإِغْلَاقِ الْبَابِ مَعَ بُعْدِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِالدُّعَاءِ وَجَازَ لَهُ نَفْيُهَا عَمَلًا بِظَنِّهِ وَأَمَّا بِلَالٌ فَتَحَقَّقَهَا فَأَخْبَرَ بِهَا .
( الثَّانِي ) أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُسَامَةُ غَابَ عَنْهُ بَعْدَ دُخُولِهِ لِحَاجَةٍ فَلَمْ يَشْهَدْ صَلَاتَهُ أَجَابَ بِهِ الشَّيْخُ مُحِبُّ الدِّينِ الطَّبَرِيُّ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَيَدُلُّ مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى صُوَرًا فِي الْكَعْبَةِ فَكُنْت آتِيهِ بِمَاءٍ فِي الدَّلْوِ يَضْرِبُ بِهِ الصُّوَرَ } قَالَ فَقَدْ أَخْبَرَ أُسَامَةُ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ لِنَقْلِ الْمَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يَوْمَ الْفَتْحِ .
( الثَّالِثُ ) قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ الْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنْ يُحْمَلَ الْخَبَرَانِ عَلَى دُخُولَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) يَوْمَ الْفَتْحِ وَصَلَّى فِيهِ وَالْآخَرُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَضَادٌّ وَكَذَا قَالَ الْمُهَلَّبُ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَ مَرَّتَيْنِ صَلَّى فِي إحْدَاهُمَا وَلَمْ يُصَلِّ فِي الْأُخْرَى قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ { إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي أَوْفَى أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ فِي عُمْرَتِهِ ؟ قَالَ لَا } ، قَالَ فَتَعَيَّنَ الدُّخُولُ فِي الْحَجِّ وَالْفَتْحِ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ مَا جَمَعَ بِهِ ابْنُ حِبَّانَ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ كَوْنِ اخْتِلَافِ بِلَالٍ وَأُسَامَةَ إنَّمَا هُوَ فِي دُخُولٍ وَاحِدٍ وَهُوَ يَوْمُ الْفَتْحِ نَعَمْ الِاخْتِلَافُ الَّذِي عَنْ أُسَامَةَ فِي صَلَاتِهِ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ فِي دُخُولَيْنِ إمَّا فِي سُفْرَةٍ أَوْ فِي سُفْرَتَيْنِ ( قُلْتُ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَائِدَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَرَّةً وَاحِدَةً عَامَ الْفَتْحِ ثُمَّ حَجَّ فَلَمْ يَدْخُلْهَا } الرَّابِعُ أَنَّ الْمُرَادَ بِإِثْبَاتِ بِلَالٍ الصَّلَاةَ اللُّغَوِيَّةَ وَهِيَ الدُّعَاءُ لَا الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ حَكَاهُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ بَعْضِ مَنْ مَنَعَ الصَّلَاةَ فِي الْكَعْبَةِ قَالَ وَهُوَ جَوَابٌ فَاسِدٌ يَرُدُّهُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحِ وَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى وَقَوْلُهُ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ } وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ ذَلِكَ { الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ } قَوْلُهُ { جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَثَلَاثَةَ أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ } كَذَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد عَنْ الْقَعْنَبِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ { جَعَلَ عَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ مُسْلِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ { عَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ } وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ عَنْ الْأَكْثَرِ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّإِ مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى
الْأَنْدَلُسِيُّ وَالْقَعْنَبِيُّ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو مُصْعَبٍ وَابْنُ بُكَيْر وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَأَحْمَدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَابْنُ مَهْدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ الْقَطَّانِ عَنْهُ وَالشَّافِعِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي يَحْيَى مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْعَطَّارِ عَنْهُ وَنَقَلَ اللَّفْظَ الثَّانِي عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ الطَّبَّاعِ وَمَكِّيِّ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَأَبِي قِلَابَةَ عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ وَبُنْدَارٍ عَنْ ابْنِ مَهْدِيٍّ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ وَنَقَلَ اللَّفْظَ الثَّالِثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيِّ وَبُنْدَارٍ عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ وَالرَّبِيعِ عَنْ الشَّافِعِيِّ كُلِّهِمْ عَنْ مَالِكٍ قَالَ وَرَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ فِيهِ { جَعَلَ عَمُودَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودَيْنِ عَنْ يَسَارِهِ } وَقَالَ وَلَمْ يُتَابِعْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَوْلَى بِالصَّوَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَصَحَّحَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا هَذِهِ الرِّوَايَةَ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِكَوْنِهِ مُقَابِلَ الْبَابِ وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا { صَلَّى بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ } وَإِذَا تَقَرَّرَ تَرْجِيحُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَلَا يُنَافِيهَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَمُودًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ لِأَنَّ مَعْنَاهَا صَلَّى بَيْنَ عَمُودَيْنِ وَإِنْ كَانَ بِجَانِبِ أَحَدِ الْعَمُودَيْنِ عَمُودٌ آخَرُ وَلَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ فَإِنَّ الْعُمُدَ الثَّلَاثَةَ أَحَدُهَا يَمَانِيٌّ وَهُوَ الْأَقْرَبُ إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَالْآخَرُ وَهُوَ الْأَقْرَبُ إلَى الْحَجَرِ شَامِيٌّ وَالْأَوْسَطُ بَيْنَهُمَا إنْ قُرِنَ بِالْأَوَّلِ قِيلَ الْيَمَانِيَّانِ وَإِنْ قُرِنَ بِالثَّانِي قِيلَ الشَّامِيَّانِ ذَكَرَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ وَاضِحٌ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى فَهِيَ ضَعِيفَةٌ لِشُذُوذِهَا وَمُخَالَفَتِهَا
رِوَايَةَ الْأَكْثَرِينَ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ فَهِيَ مَقْطُوعٌ بِوَهْمِهَا إذْ لَيْسَ هُنَاكَ أَرْبَعَةُ أَعْمِدَةٍ حَتَّى يَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ اثْنَانِ وَعَنْ يَسَارِهِ اثْنَانِ { الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ } لَمْ يُفْصِحْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ الْقَدْرِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ كَوْنِهِ كَانَ بَيْنَ الْعَوَامِيدِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّ مِقْدَارَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَعْرُوفٌ وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَزْرَمِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ مَالِكٍ قَالَ فِيهَا { ثُمَّ صَلَّى وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ } وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ ابْنَ عُفَيْرٍ وَابْنَ وَهْبٍ وَشَبَّابَةَ بْنَ سَوَّارٍ رَوَوْهَا عَنْ مَالِكٍ كَذَلِكَ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَفِيهِ { وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ } وَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ حِينَ يَدْخُلُ وَجَعَلَ الْبَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ فَمَشَى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ صَلَّى يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِهِ بِلَالٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ ، قَالَ وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَأْسٌ إنْ صَلَّى فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ وَفِي تَارِيخِ مَكَّةَ لِلْأَزْرَقِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ { سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ دَخَلَهَا ؟ قَالَ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ اجْعَلْ بَيْنَك وَبَيْنَ الْجِدَارِ ذِرَاعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً } وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ مُوَافِقَةٌ فِي الْمَعْنَى لِلرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فَإِنَّ بَيْنَ الْعَوَامِيدِ الْمُقَدَّمَةِ وَبَيْنَ الْجِدَارِ هَذَا
الْقَدْرُ وَيَنْبَغِي تَحَرِّي هَذِهِ الْبُقْعَةُ لِلصَّلَاةِ فِيهَا ، وَقَدْ يُقَالُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ بِقَاعِ الْكَعْبَةِ لِلِاتِّبَاعِ ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّمَا فَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ اتِّفَاقًا لَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ ، فَيَكُونُ كَالْأُمُورِ الْجِبِلِّيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إحْيَاءِ الْقَلْبِ الْمَيِّتِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ فَإِمَّا أَنْ يُصَادِفَ مُصَلَّاهُ أَوْ يَقَعَ وَجْهُهُ وَذِرَاعَاهُ فِي مَكَانِ قَدَمَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ التَّقَدُّمِ عَنْهُ { الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ } إنْ قُلْت لِمَ لَمْ يَقْرَبْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ السُّتْرَةِ مَعَ أَمْرِهِ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ ؟ ( قُلْت ) جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ مَا إذَا خَشِيَ الْمُرُورَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ وَهَذَا هُنَا مَأْمُونٌ لِإِغْلَاقِ الْبَابِ وَانْحِصَارِ الْكَائِنِينَ فِي الْبَيْتِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ( ثَانِيهمَا ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْبِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ فَمَا دُونَهَا وَقَدْ دَلَّتْ الرِّوَايَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ هَذَا الْمِقْدَارُ وَقَدْ اسْتَدَلَّ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ حَدُّ الدُّنُوِّ مِنْ السُّتْرَةِ { السَّادِسَةَ عَشْرَةَ } لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَدَدَ رَكَعَاتِ صَلَاتِهِ بَلْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ قَالَ وَنَسِيت أَنْ أَسْأَلَهُ يَعْنِي بِلَالًا كَمْ صَلَّى } لَكِنْ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سَيْفٍ قَالَ سَمِعْت مُجَاهِدًا قَالَ { أُتِيَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقِيلَ لَهُ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَأَقْبَلْت وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
خَرَجَ وَأَجِدُ بِلَالًا قَائِمًا بَيْنَ الْبَابَيْنِ فَسَأَلْت بِلَالًا فَقُلْتُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ ؟ قَالَ نَعَمْ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ إذَا دَخَلْت ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ } وَمَا أَدْرِي مَا أَقُولُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَقَدْ أَعَادَهَا الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ مَا جَاءَ فِي التَّطَوُّعِ مَثْنَى مَثْنَى رَوَاهَا عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ سَيْفٍ وَلَيْسَ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ أَنَّ صَلَاتَهُ فِي الْكَعْبَةِ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ نَعَمْ رَوَاهَا النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ وَفِيهَا ذِكْرُ الرَّكْعَتَيْنِ وَرَوَى النَّسَائِيّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ { دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ } الْحَدِيثَ وَفِيهِ { فَسَأَلْت بِلَالًا هَلْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ ، قَالَ نَعَمْ رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ } وَلَمْ يَسْتَحْضِرْ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ فَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ { قُلْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ ، قَالَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ } وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ صَفْوَانَ أَوْ ابْنِ صَفْوَانَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ حِينَ دَخَلَهُ } وَلَمْ أَتَوَقَّفْ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لِاسْتِغْرَابِ كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ عَادَتِهِ إنَّمَا تَوَقَّفْت فِيهَا لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ { وَنَسِيت أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى } وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَالَ وَالِدِي فِي إحْيَاءِ الْقَلْبِ الْمَيِّتِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُ بِهِ بِلَالٌ
بِغَيْرِ سُؤَالٍ ، وَفِيهِ بُعْدٌ .
لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَى تَرْكِ السُّؤَالِ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ بِدُونِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْأَلَ بِلَالًا ثُمَّ سَأَلَ بِلَالًا بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ حَدَّثَ بِهِ بِلَالٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَفِيهِ بُعْدٌ أَيْضًا لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ حَدَّثَهُ عَنْهُ بِكَوْنِهِ لَمْ يَسْأَلْ بِلَالًا عَنْ ذَلِكَ إنَّمَا سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ وَفَاةِ بِلَالٍ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَإِنْ سَمِعَ مِنْ بِلَالٍ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ فِي أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ غَيْرَهُمَا لِأَنَّ مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا أَوْ أَكْثَرَ يُصَدَّقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ كَمَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِي الْأُصُولِ فَيَكُونُ الَّذِي نَسِيَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْهُ هَلْ زَادَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ شَيْئًا أَمْ لَا ، انْتَهَى { السَّابِعَةَ عَشْرَةَ } يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصَّلَاةُ تَحِيَّةَ الْكَعْبَةِ وَلَا يُقَالُ قَدْ حَصَلَتْ التَّحِيَّةُ بِالطَّوَافِ الَّذِي أَتَى بِهِ قَبْلَ دُخُولِهَا فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ الطَّوَافَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَقُومُ مَقَامَ التَّحِيَّةِ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ فِي حُكْمِ مَسْجِدٍ مُنْفَرِدٍ عَمَّا حَوْلَهَا وَقَدْ يُقَالُ مَا كَانَ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ طَافَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَتْ تِلْكَ الرَّكْعَتَانِ هِيَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْعَامِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ } فِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ وَإِنْ كَانَتْ نَافِلَةً فَالْفَرِيضَةُ فِي مَعْنَاهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِوَاءُ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فِي الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ بِدَلِيلٍ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ كَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ بِالصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ بَأْسًا وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ النَّافِلَةِ فِي الْكَعْبَةِ وَكَرِهَ أَنْ تُصَلَّى الْمَكْتُوبَةُ فِي الْكَعْبَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا بَأْسَ أَنْ تُصَلَّى الْمَكْتُوبَةُ وَالتَّطَوُّعُ فِي الْكَعْبَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَكْتُوبَةِ وَالنَّافِلَةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالْقِبْلَةِ سَوَاءٌ انْتَهَى .
وَقَالَ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا فِي الْكَعْبَةِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ أَشْهَبُ وَصَحَّحَهُ مِنْهُمْ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازُ صَلَاةِ النَّافِلَةِ فِيهَا وَالْمَنْعُ مِنْ الْفَرْضِ وَالسُّنَنِ كَالْوِتْرِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَقَيَّدَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْهُ ذَلِكَ بِالطَّوَافِ الْوَاجِبِ وَإِطْلَاقُ التِّرْمِذِيِّ عَنْ مَالِكٍ تَجْوِيزَ النَّافِلَةِ تَبِعَهُ عَلَيْهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا حَكَيْتُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ وَقَدْ حَكَى عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ تَجْوِيزَ النَّفْلِ فِيهَا دُونَ الْفَرْضِ فَإِنْ كَانَ يَقُولُ بِهِ عَلَى إطْلَاقِهِ فَهُوَ مَذْهَبٌ ( ثَالِثٌ ) فِي الْمَسْأَلَةِ وَفِيهَا مَذْهَبٌ ( رَابِعٌ ) وَهُوَ مَنْعُ الصَّلَاةِ فِيهَا مُطْلَقًا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ مَالِكٍ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَصْبَغُ وَحَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ وَقَالَ بِهِ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ وَتَمَسَّكَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ
بِاسْتِقْبَالِهِ وَالْمُصَلِّي فِيهِ مُسْتَدْبِرٌ لِبَعْضِهِ وَرَوَى الْأَزْرَقِيُّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِسِمَاكٍ الْحَنَفِيِّ ائْتَمَّ بِهِ كُلِّهِ وَلَا تَجْعَلَنَّ شَيْئًا مِنْهُ خَلْفَك قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَّا أَحَدُ قَوْلَيْنِ إمَّا الصِّحَّةُ مُطْلَقًا أَوْ الْفَسَادُ مُطْلَقًا ، وَالصَّوَابُ عِنْدِي قَوْلُ الصِّحَّةِ مُطْلَقًا ثُمَّ بَسَطَ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى الْمَشْهُورِ أَيْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فَصَلَّى الْفَرْضَ فِيهَا فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ يُعِيدُ أَبَدًا فِي الْعَمْدِ وَالْجَهْلِ وَقَالَ فِي الْكِتَابِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَقَالَ أَصْبَغُ تَبْطُلُ وَتَجِبُ الْإِعَادَةُ وَإِنْ ذَهَبَ الْوَقْتُ لَكِنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مُتَعَمِّدِ الصَّلَاةِ فِيهَا فَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاسِيًا لَأَعَادَ فِي الْوَقْتِ لِأَنَّ النَّاسِيَ لِلْقِبْلَةِ إنَّمَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَاسْتُشْهِدَ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ كَمَنْ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ قَالَ وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا التَّشْبِيهُ فِيمَنْ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ نَاسِيًا ، انْتَهَى وَيَحْصُلُ مِنْهُ ( مَذْهَبٌ خَامِسٌ ) وَهُوَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ إنَّمَا هُوَ فِي الِاسْتِحْبَابِ فَلَوْ صَلَّى الْفَرْضَ فِيهَا صَحَّ وَارْتَكَبَ خِلَافَ الْأَوْلَى وَهُوَ الْقَائِلُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لَازِمٌ لِلِاسْتِحْبَابِ ( وَمَذْهَبٌ سَادِسٌ ) وَهُوَ التَّفْرِيقُ فِي الْفَرْضِ بَيْنَ التَّعَمُّدِ وَالنِّسْيَانِ فَيَصِحُّ مَعَ النِّسْيَانِ دُونَ التَّعَمُّدِ وَتَرَدَّدَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ كَرِهَ الْفَرْضَ أَوْ مَنَعَهُ وَعَلَّلَ تَجْوِيزَ النَّفْلِ بِأَنَّهُ مَظِنَّةُ التَّخْوِيفِ فِي الشُّرُوطِ { التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ } شَرَطَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ جِدَارَهَا أَوْ بَابَهَا وَهُوَ مَرْدُودٌ أَوْ مَفْتُوحٌ بِشَرْطِ كَوْنِ
عَتَبَتِهِ قَدْرَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ تَقْرِيبًا هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَلَنَا ( وَجْهٌ ) أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَتَبَةِ أَنْ تَكُونَ بِقَدْرِ قَامَةِ الْمُصَلِّي طُولًا وَعَرْضًا ( وَوَجْهٌ ) أَنَّهُ يَكْفِي شُخُوصُهَا بِأَيِّ قَدْرٍ كَانَ وَهَذَا الشَّرْطُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ صَلَّى فِيهَا اسْتَقْبَلَ أَحَدَ جُدْرَانِهَا وَمَنْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ الْجِدَارَ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَظَاهِرُ مَا سَنَحْكِيهِ فِي الْفَائِدَةِ بَعْدَهَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ مُطْلَقًا .
{ الْفَائِدَةُ الْعِشْرُونَ } قَالَ أَصْحَابُنَا الصَّلَاةُ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ كَالصَّلَاةِ فِي نَفْسِ الْكَعْبَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَاخِصٌ لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ عَلَى الصَّحِيحِ وَإِنْ كَانَ شَاخِصٌ مِنْ نَفْسِ الْكَعْبَةِ فَلَهُ حُكْمُ الْعَتَبَةِ إنْ كَانَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ جَازَ وَإِلَّا فَلَا عَلَى الصَّحِيحِ ، وَفِيهِ الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَقَالَ ابْنُ شَاسٍ الصَّلَاةُ فَوْقَ ظَهْرِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَحَمَلَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ النَّهْيَ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَقُمْ بِمَا يَقْصِدُهُ وَحَمْلُ النَّهْيِ عَلَى الْإِطْلَاقِ رَأْيُ الْجَمَاعَةِ ، وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْمَشْهُورَ مَنْعُ الصَّلَاةِ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ مَنْعِ الصَّلَاةِ دَاخِلَهَا وَأَنَّ الْإِعَادَةَ تَجِبُ فِيهِ أَبَدًا ، وَحَكَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الْإِجْزَاءَ ، وَحَكَى عَنْ أَشْهَبَ الْإِجْزَاءَ إنْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ قِطْعَةٌ مِنْ سَطْحِهَا وَبَنَى الْخِلَافَ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ اسْتِقْبَالُ بِنَائِهَا أَوْ هَوَائِهَا انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ الشَّافِعِيُّ مَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِهَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْبِلْ مِنْهَا شَيْئًا وَقَالَ مَالِكٌ مَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِهَا مَكْتُوبَةً أَعَادَ فِي الْوَقْتِ وَرَوَى عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ يُعِيدُ أَبَدًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ انْتَهَى وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ شَيْئًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ } ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْحِجْرِ كَالصَّلَاةِ فِي الْبَيْتِ وَحِينَئِذٍ فَيُفَرَّقُ فِيهِ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ عَائِشَةَ بِالصَّلَاةِ فِي الْحِجْرِ وَقَالَ إنَّهُ مِنْ الْبَيْتِ } { الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ } الذَّاهِبُونَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فِي جَوَازِ فِعْلِهِ فِي الْكَعْبَةِ إنَّمَا يُسَوُّونَ بَيْنَهُمَا فِي مُطْلَقِ الْإِبَاحَةِ لَا فِي الْمَرْتَبَةِ وَالْفَضِيلَةِ فَأَشْهَبُ مَعَ تَجْوِيزِهِ الْفَرْضَ يَقُولُ إنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ فِيهَا وَأَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ إنَّ النَّفَلَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ خَارِجَهَا ، وَكَذَا الْفَرْضُ إنْ لَمْ يَرْجُ جَمَاعَةً فَإِنْ رَجَا فَخَارِجُهَا أَفْضَلُ وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ تَرْجِيحُ الصَّلَاةِ دَاخِلَهَا مُطْلَقًا إلَّا إنْ عَارَضَهُ الْجَمَاعَةُ فَهِيَ عِنْدَهُمْ مُرَجَّحَةٌ فِي الْفَرْضِ وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النَّافِلَةَ فِيهَا عَلَى اسْتِحْبَابِهِ وَيُقَاسُ بِهِ الْفَرْضُ وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَفْعَلْ الْفَرْضَ فِيهَا فَلِمُعَارَضَةِ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الصَّلَاةُ بِالنَّاسِ جَمِيعِهِمْ فِيهَا وَتَخْصِيصُ بَعْضِهِمْ بِذَلِكَ فِيهِ إيحَاشٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ } قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْأَسَاطِينِ وَالْأَعْمِدَةِ وَإِنْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى فِي الْجِهَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مُسَامَتَتِهَا حَقِيقَةً وَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ كَرَاهَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهَا قُدِّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَعُمِلَ بِحَقِيقَةِ قَوْلِهِ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَإِنْ صَحَّ سَنَدُهَا أُوِّلَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ صَلَّى فِي سَمْتِ مَا بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَتْ آثَارٌ ، قُدِّمَ الْمُسْنَدُ عَلَيْهَا انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ بَيْنَ الْأَسَاطِينِ إنَّمَا هُوَ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ لِأَنَّ الْأَسَاطِينَ تَقْطَعُ الصُّفُوفَ فَأَمَّا مَنْ صَلَّى بَيْنَهَا مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ وَكَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْوَاقِفُ بَيْنَهَا أَوْ الْمَأْمُومِينَ وَلَمْ يَكْثُرُوا بِحَيْثُ تَحُولُ الْأُسْطُوَانَةُ بَيْنَهُمْ فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَهُ فَلَمْ تَتَوَارَدْ صُورَةُ الْحَدِيثِ مَعَ صُورَةِ الْكَرَاهَةِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَقَدْ أَشَارَ لِذَلِكَ الْبُخَارِيُّ بِتَبْوِيبِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ ( بَابُ الصَّلَاةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ جَمَاعَةٍ ) { الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ } الْمَرْمَرَةُ بِرَاءٍ وَمِيمٍ مُكَرَّرَتَيْنِ وَاحِدَةُ الْمَرْمَرِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الرُّخَامِ صُلْبٌ قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ وَأَطْلَقَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّهُ الرُّخَامُ وَحَكَاهُ فِي الْمَشَارِقِ عَنْ الْكِسَائِيّ وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ { اسْتَقْبَلَ الْجَزْعَةَ } فَهِيَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الزَّايِ وَاحِدَةُ الْجَزْعِ وَهُوَ الْخَرَزُ الْيَمَانِيُّ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يُسَمَّى الْمَرْمَرَةُ جَزْعَةً عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَرْمَرَةٌ وَجَزْعَةٌ فَذَكَرَ الرَّاوِي كُلًّا مِنْهُمَا فِي مَرَّةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْهَدْيِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَدَنَةً مُقَلَّدَةً قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيْلَك ارْكَبْهَا .
قَالَ بَدَنَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ ، وَيْلَك ارْكَبْهَا وَيْلَك ارْكَبْهَا } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ لَهُ ارْكَبْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا بَدَنَةٌ ، فَقَالَ ارْكَبْهَا وَيْلَك فِي الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ } وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { رَأَى رَجُلًا يَسُوقَ بَدَنَةً وَقَدْ جَهِدَهُ الْمَشْيُ } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { ارْكَبْهَا بِالْمَعْرُوفِ إذَا أُلْجِئْت إلَيْهَا حَتَّى تَجِدَ ظَهْرًا } وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { إنْ كُنْت لَأَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا فَمَا يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُ الْمُحْرِمُ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { قَلَائِدَ الْغَنَمِ } وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ { كُلَّهَا غَنَمًا } وَلِمُسْلِمٍ { قَلَائِدَ بُدْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَلِلْبُخَارِيِّ { فَتَلْتُ لِهَدْيِهِ تَعْنِي الْقَلَائِدَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ } وَلَهُمَا { فَتَلْتُ قَلَائِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِي } وَلَهُمَا { ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي } .
وَلِلنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { كَانُوا إذَا كَانُوا حَاضِرِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ بَعَثَ بِالْهَدْيِ فَمَنْ شَاءَ أَحْرَمَ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ }
{ بَابُ الْهَدْيِ } { الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ } عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَدَنَةً مُقَلَّدَةً قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيْلَك ارْكَبْهَا قَالَ بَدَنَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ وَيْلَك ارْكَبْهَا وَيْلَك ارْكَبْهَا } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ لَهُ ارْكَبْهَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا بَدَنَةٌ ، فَقَالَ ارْكَبْهَا وَيْلَك فِي الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٍ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كُثَيِّرٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ بْنُ حَيَّانَ فِي الضَّحَايَا مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كَذَا ذَكَرَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَصَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَجْلَانَ مَوْلَى الْمُشْمَعِلِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّانِيَةُ } الْمُرَادُ بِالْبُدْنِ هُنَا الْوَاحِدَةُ مِنْ الْإِبِلِ الْمُهْدَاةِ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَيَقَعُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِالِاتِّفَاقِ كَمَا نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلًا إنَّهَا تَخْتَصُّ بِالْأُنْثَى وَرَدَّهُ ؛ وَهَلْ تَخْتَصُّ فِي أَصْلِ وَضْعِهَا بِالْإِبِلِ أَمْ تُسْتَعْمَلُ فِيهَا وَفِي الْبَقَرِ أَمْ فِيهَا
وَفِي الْغَنَمِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ فِي الْحَدِيثِ الرَّابِعِ ، وَلَوْ اُسْتُعْمِلَتْ الْبَدَنَةُ هُنَا فِي أَصْلِ مَدْلُولِهَا لَمْ يَحْصُلْ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ إنَّهَا بَدَنَةٌ لِأَنَّ كَوْنَهَا مِنْ الْإِبِلِ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ وَاَلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ خَفِيَ مِنْ أَمْرِهَا كَوْنُهَا هَدْيًا فَدَلَّ بِقَوْلِهِ إنَّهَا بَدَنَةٌ عَلَى أَنَّهَا مُهْدَاةٌ وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى بَدَنَةٌ بِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ بَدَنَةٌ { الثَّالِثَةُ } وَالْمُرَادُ بِالتَّقْلِيدِ أَنْ يُعَلَّقَ فِي أَعْنَاقِهَا مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إهْدَائِهَا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَسَيَأْتِي إيضَاحُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ .
{ الرَّابِعَةُ } فِيهِ جَوَازُ رُكُوبِ الْهَدْيِ وَقَدْ قَسَّمَ أَصْحَابُنَا الْهَدْيَ إلَى مُتَطَوَّعٍ بِهِ وَمَنْذُورٍ ( فَالْأَوَّلُ ) بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُهْدَى لَهُ فَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا يَشَاءُ ( وَالثَّانِي ) خَارِجٌ عَنْ مِلْكِهِ بِالنَّذْرِ وَفِيهِ خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ وَلَمَّا لَمْ يَسْتَفْصِلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبُ هَذَا الْهَدْيِ عَنْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ رُكُوبُهُ فِي الْحَالَتَيْنِ وَالْخِلَافُ الَّذِي فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ مَذَاهِبُ : ( أَحَدُهَا ) الْجَوَازُ مُطْلَقًا وَهَذَا هُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ فِي كِتَابِ الضَّحَايَا وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ وَالْقَفَّالِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَكَذَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحَيْ مُسْلِمٍ وَالْمُهَذَّبِ عَنْهُمْ وَعَنْ مَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ وَعَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَصَرَّحَ عَنْهُمَا بِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَرِطَا مِنْهُ حَاجَةً إلَيْهِمَا .
( الثَّانِي ) الْجَوَازُ بِشَرْطِ الِاحْتِيَاجِ لِذَلِكَ وَلَا يَرْكَبُهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَنَقَلَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ تَصْرِيحِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبِ الْبَيَانِ وَآخَرِينَ قَالَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ يَرْكَبُ الْهَدْيَ إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ وَقَالَ الرُّويَانِيُّ أَنَّ تَجْوِيزَ الرُّكُوبِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ خِلَافُ النَّصِّ قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْقَادِرِ عَلَى الْمَشْيِ إذَا رَكِبَ مُتَرَفَّهًا كَكَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ وَلَا لِلْقَادِرِ عَلَى غَيْرِهَا بِمِلْكٍ أَوْ إجَارَةٍ وَفِي الْإِعَارَةِ نَظَرٌ ا هـ .
وَتَقْيِيدُ الْجَوَازِ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، قَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي