كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ
الْعِرَاقِيُّ
( الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي إسْقَاطِ الْحِيَلِ كَمَنْ مَلَّكَ وَلَدَهُ أَوْ غَيْرَهُ مَالًا لَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَاعَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ أَوْ بَادَلَ بِهِ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ أَوْ بَاعَ بِالْعَيِّنَةِ الْمَشْهُورَةِ أَوْ تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ لِيُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ مَلَّكَ الدَّارَ لِغَيْرِ الشَّرِيكِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ أَوْ أَوْقَعَ عَقْدَ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الشُّفْعَةُ بِثَمَنٍ فِيهِ مَا تُجْهَلُ قِيمَتُهُ كَفَصٍّ وَنَحْوِهِ أَوْ زَادَ فِي ثَمَنِهَا وَعَوَّضَهُ عَنْ عَشَرَةِ آلَافٍ دِينَارًا مَثَلًا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْحِيَلِ الْمُسْقِطَةِ لِلْحُقُوقِ أَوْ الْمُوقِعَةِ فِي الْمَنَاهِي .
وَإِنَّمَا يُخَادِعُ بِالنِّيَّاتِ مَنْ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُ فَرِيضَةَ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ } .
وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } وَاَلَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ كَرَاهَةُ إزَالَةِ مِلْكِهِ لِلْفِرَارِ مِنْ الزَّكَاةِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْكَرَاهَةَ لِلتَّحْرِيمِ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ فِي قَوْلِهِ إثْمٌ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ الْبَيْعُ بِالْعَيِّنَةِ ، وَالِاسْتِحْلَالِ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الْعَقْدِ ، وَالتَّحَيُّلُ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ بِالتَّحْرِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَرَأَيْت فِي كَلَامِ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْأَلْغَازِ أَنَّ الْحِيَلَ لَيْسَ فِيهَا مُنَافَاةٌ لِلشَّرِيعَةِ بَلْ قَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَعَاطِي الْحِيَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا
تَحْنَثْ } فَمَا كَانَ مِنْ الْحِيَلِ هَكَذَا لَيْسَ فِيهِ إسْقَاطُ حَقٍّ لِمُسْتَحِقٍّ لَهُ فَهُوَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ ، وَمَا أَدَّى مِنْ الْحِيَلِ إلَى إسْقَاطِ حَقِّ الْغَيْرِ فَهُوَ مَذْمُومٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
( الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) فِيهِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مِنْ الْمَجْنُونِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ ، وَالصَّوْمِ ، وَالِاعْتِكَافِ ، وَالْحَجِّ ، وَالنَّذْرِ وَغَيْرِهَا وَلَا عُقُودُهُ كَالْبَيْعِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالنِّكَاحِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الطَّلَاقُ ، وَالظِّهَارُ ، وَاللِّعَانُ ، وَالْإِيلَاءُ .
وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَوَدُ وَلَا الْحُدُودُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ نَعَمْ إنْ كَانَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِمُحَرَّمٍ كَالسَّكْرَانِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَالْحَدُّ وَوَقَعَ خِلَافُهُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ .
( السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ قَتْلَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الدِّيَةِ فَجَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَثْلَاثًا وَجَعَلَهَا الْبَاقُونَ أَرْبَاعًا وَجَعَلَهَا أَبُو ثَوْرٍ أَخْمَاسًا ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ شِبْهَ الْعَمْدِ وَقَالَ : لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَّا الْخَطَأُ ، وَالْعَمْدُ .
وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ فَلَا نَعْرِفُهُ ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ ، وَالْجُمْهُورُ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا { أَلَا إنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ ، وَالْعَصَا مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } الْحَدِيثَ .
( السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) قَوْلُهُ ( فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى آخِرِهِ ) الْهِجْرَةُ بِكَسْرِ الْهَاءِ فِعْلُهُ مِنْ الْهَجْرِ ، وَهُوَ ضِدُّ الْوَصْلِ ، ثُمَّ غَلَبَ ذَلِكَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ وَتَرْكِ الْأُولَى لِلثَّانِيَةِ قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : الْهِجْرَةُ تَقَعُ عَلَى أُمُورٍ : ( الْهِجْرَةُ الْأُولَى ) إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ( الثَّانِيَةُ ) مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ .
( الثَّالِثَةُ ) هِجْرَةُ الْقَبَائِلِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( الرَّابِعَةُ ) هِجْرَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ .
( الْخَامِسَةُ ) هِجْرَةُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَحُكْمُهُ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ غَيْرَ أَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْهِجْرَةُ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تُسَمَّى أُمِّ قَيْسٍ فَسُمِّيَ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ .
( قُلْت ) : بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَقْسَامِ الْهِجْرَةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ، وَهِيَ ( الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ ) إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَإِنَّهُمْ هَاجَرُوا إلَى الْحَبَشَةِ مَرَّتَيْنِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي السِّيَرِ وَلَا يُقَالُ : كِلَاهُمَا هِجْرَةٌ إلَى الْحَبَشَةِ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْهِجْرَةِ إلَيْهَا مَرَّةً ، فَإِنَّهُ قَدْ عَدَّدَ الْهِجْرَةَ إلَى الْمَدِينَةِ فِي الْأَقْسَامِ لِتَعَدُّدِهَا .
( وَالْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ ) هِجْرَةُ مَنْ كَانَ مُقِيمًا بِبِلَادِ الْكُفْرِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ الدِّينِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا .
( وَالْهِجْرَةُ الثَّالِثَةُ ) الْهِجْرَةُ إلَى الشَّامِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إبْرَاهِيمَ وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ
شِرَارُ أَهْلِهَا } الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ فَجَعَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : يُرِيدُ بِهِ الشَّامَ ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ الْعِرَاقِ مَضَى إلَى الشَّامِ وَأَقَامَ بِهِ انْتَهَى وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ إلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ } فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ لِلْهِجْرَةِ .
( الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي الْهِجْرَةِ هَلْ انْقَطَعَتْ بِفَتْحِ مَكَّةَ أَمْ هِيَ بَاقِيَةٌ ؟ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ أَوْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَيْضًا أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ الْهِجْرَةِ ؟ فَقَالَتْ : " لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ ، كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ ، وَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ شَاءَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ " .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ مُجَاشِعِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { انْطَلَقْت بِأَبِي مَعْبَدٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ فَقَالَ : مَضَتْ الْهِجْرَةُ لِأَهْلِهَا ، أُبَايِعُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَالْجِهَادِ } وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ جَاءَ بِأَخِيهِ مُجَالِدٍ .
وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَيْضًا { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ
جِهَادٌ وَنِيَّةٌ } فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى انْقِطَاعِ الْهِجْرَةِ وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا } .
، وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ السَّعْدِيِّ مَرْفُوعًا { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا دَامَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُ } .
وَرَوَى أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ مَرْفُوعًا أَنَّ الْهِجْرَةَ لَا تَنْقَطِعُ مَا كَانَ الْجِهَادُ وَجَمَعَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِمِ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ بِأَنَّ الْهِجْرَةَ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَرْضًا ، ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ مَنْدُوبًا إلَيْهَا غَيْرَ مَفْرُوضَةٍ قَالَ فَالْمُنْقَطِعَةُ مِنْهُمَا هِيَ الْفَرْضُ ، وَالْبَاقِيَةُ مِنْهُمَا هِيَ النَّدْبُ قَالَ : فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّ بَيْنَ الْإِسْنَادَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا ، حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مُتَّصِلٌ صَحِيحٌ وَحَدِيثُ مُعَاوِيَةَ فِيهِ مَقَالٌ انْتَهَى وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : إنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْهِجْرَةَ هِجْرَتَانِ : إحْدَاهُمَا الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِالْجَنَّةِ كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدَعُ أَهْلَهُ ، وَمَالَهُ لَا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الْهِجْرَةُ .
( وَالثَّانِيَةُ ) مَنْ هَاجَرَ مِنْ الْأَعْرَابِ وَغَزَا مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَفْعَلْ كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ الْهِجْرَةِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ انْتَهَى وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاقِيَةِ هَجْرُ السَّيِّئَاتِ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْهِجْرَةُ خَصْلَتَانِ : إحْدَاهُمَا
تَهْجُرُ السَّيِّئَاتِ ، وَالْأُخْرَى تُهَاجِرُ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَلَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا تُقُبِّلَتْ التَّوْبَةُ وَلَا تَزَالُ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةً حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ الْمَغْرِبِ ، فَإِذَا طَلَعَتْ طُبِعَ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ وَكَفَى النَّاسَ الْعَمَلُ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ { : جَاءَ رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ جَافِي جَرِيءٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ الْهِجْرَةُ إلَيْك حَيْثُ كُنْتَ أَمْ إلَى أَرْضٍ مَعْلُومَةٍ أَوْ لِقَوْمٍ خَاصَّةً أَمْ إذَا مِتَّ انْقَطَعَتْ ؟ قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ الْهِجْرَةِ ؟ قَالَ : هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَقَمْت الصَّلَاةَ وَآتَيْت الزَّكَاةَ فَأَنْتَ مُهَاجِرٌ ، وَإِنْ مِتَّ بِالْحَضَرِ } قَالَ يَعْنِي أَرْضًا بِالْيَمَامَةِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { الْهِجْرَةُ أَنْ تَهْجُرَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ، وَمَا بَطَنَ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ثُمَّ أَنْتَ مُهَاجِرٌ ، وَإِنْ مِتَّ بِالْحَضَرِ } .
( التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) وَقَعَ هُنَا الشَّرْطُ ، وَالْجَزَاءُ مُتَّحِدَيْنِ فِي الْجُمْلَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ : فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَكَذَا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ ، وَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الشَّرْطَ ، وَالْجَزَاءَ ، وَالْمُبْتَدَأَ ، وَالْخَبَرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَا مُتَغَايِرَيْنِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّغَايُرَ فِي الْحَدِيثِ مُقَدَّرٌ وَتَقْدِيرُهُ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ نِيَّةً وَقَصْدًا فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثَوَابًا وَأَجْرًا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَائِدَةُ الْخَمْسُونَ ) لَمْ يَقُلْ فِي الْجَزَاءِ فَهِجْرَتُهُ إلَيْهِمَا ، وَإِنْ كَانَ أَخْصَرَ بَلْ أَتَى بِالظَّاهِرِ فَقَالَ : فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَذَلِكَ مِنْ آدَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ أَنْ يُجْمَعَ مَعَ ضَمِيرٍ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ لِلْخَطِيبِ { بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ ، حِينَ قَالَ مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى } وَبَيَّنَ لَهُ وَجْهَ الْإِنْكَارِ فَقَالَ لَهُ : ( قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) .
وَهَذَا يَدْفَعُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ وُقُوفَهُ عَلَى قَوْلِهِ : وَمَنْ يَعْصِهِمَا ، وَقَدْ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّمِيرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا تَشَهَّدَ الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ { مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا } .
وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ تَرْكَ جَمْعِهِمَا فِي ضَمِيرٍ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهِ الْأَدَبِ ، وَأَنَّهُ إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى الْخَطِيبِ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى دَقَائِقِ الْكَلَامِ وَلِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَعْلَمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ ) الدُّنْيَا فَعَلَى مِنْ الدُّنُوِّ ، وَهُوَ الْقُرْبُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَبْقِهَا لِلْآخِرَةِ ، وَفِي الدَّالِ لُغَتَانِ ، الضَّمُّ ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ ، وَالْكَسْرُ حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ ، وَهِيَ مَقْصُورَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَنْوِينٌ بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ ، وَالْعَرَبِيَّةِ ، وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ شُرَّاحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ فِيهَا لُغَةً غَرِيبَةً بِالتَّنْوِينِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ ، فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ .
وَسَبَبُ الْغَلَطِ أَنَّ بَعْضَ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ رَوَاهُ بِالتَّنْوِينِ ، وَهُوَ أَبُو الْهَيْثَمِ الْكُشْمِيهَنِيُّ ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَأَخَذَ بَعْضُهُمْ يَحْكِي ذَلِكَ لُغَةً كَمَا وَقَعَ لَهُمْ نَحْوُ ذَلِكَ فِي خُلُوفِ فَمِ الصَّائِمِ فَحَكَوْا فِيهِ لُغَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ أَهْلُ اللُّغَةِ الضَّمَّ ، وَأَمَّا الْفَتْحُ فَرِوَايَةٌ مَرْدُودَةٌ لَا لُغَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ ) اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي حَقِيقَةِ الدُّنْيَا عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْهَوَاءِ ، وَالْجَوِّ ، وَالثَّانِي أَنَّهَا كُلُّ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْجَوَاهِرِ ، وَالْأَعْرَاضِ .
( الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ ) مَا فَائِدَةُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْمَرْأَةِ مَعَ كَوْنِهَا دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الدُّنْيَا ؟ وَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِأَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ دُخُولُهَا فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ دُنْيَا نَكِرَةٌ ، وَهِيَ لَا تَعُمُّ فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا يَلْزَمُ دُخُولُ الْمَرْأَةِ فِيهَا .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى زِيَادَةِ التَّحْذِيرِ .
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ جَاءَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَدِيثِ مُهَاجِرُ أُمِّ قَيْسٍ وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا عَنْ ابْنِ سِرَاجٍ أَنَّهُ إنَّمَا خَصَّ الْمَرْأَةَ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتَزَوَّجُ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ وَلَا يُزَوِّجُونَ بَنَاتَهمْ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ فِي النَّسَبِ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ سَوَّى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَنَاكِحِهِمْ وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كُفُؤًا لِصَاحِبِهِ فَهَاجَرَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَزَوَّجَ بِهَا حَتَّى سُمِّيَ بَعْضُهُمْ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ .
( الرَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : شَرَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي تَصْنِيفٍ فِي أَسْبَابِ الْحَدِيثِ كَمَا صُنِّفَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَوَقَفْتُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى يَسِيرٍ لَهُ قَالَ : فَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْحِكَايَةِ عَنْ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْقَبِيلِ .
( الْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ ) مَا اُشْتُهِرَ بَيْنَ الشُّرَّاحِ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ سَبَبَ قِصَّةِ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ بِإِسْنَادِ رِجَالٍ ثِقَاتٍ .
مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ كَانَ فِينَا رَجُلٌ خَطَبَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ قَيْسٍ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ حَتَّى يُهَاجِرَ فَهَاجَرَ فَتَزَوَّجَهَا فَكُنَّا نُسَمِّيهِ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ .
( السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ ) لَمْ يُسَمِّ أَحَدٌ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الصَّحَابَةِ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يُسَمَّى مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ فِيمَا رَأَيْته مِنْ التَّصَانِيفِ .
وَأَمَّا أُمُّ قَيْسٍ الْمَذْكُورَةُ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ أَنَّ اسْمَهَا قَيْلَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ ) إنْ قِيلَ مَا وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِيعَابِ فِي تَرْجَمَةِ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ خَطَبَهَا مُشْرِكًا فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا إلَّا بِالْإِسْلَامِ أَسْلَمَ وَتَزَوَّجَهَا وَحَسُنَ إسْلَامُهُ .
وَهَكَذَا رَوَى النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ : تَزَوَّجَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَكَانَ صَدَاقُ مَا بَيْنَهُمَا الْإِسْلَامَ أَسْلَمَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ قَبْلَ أَبِي طَلْحَةَ فَخَطَبَهَا فَقَالَتْ : إنِّي قَدْ أَسْلَمْت ، فَإِنْ أَسْلَمْتَ نَكَحْتُك فَأَسْلَمَ فَكَانَ صَدَاقَ مَا بَيْنَهُمَا ، بَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيّ ( التَّزَوُّجُ عَلَى الْإِسْلَامِ ) وَرَوَى النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا قَالَ خَطَبَ أَوْ طَلْحَةُ أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ : وَاَللَّهِ
مَا مِثْلُك يَا أَبَا طَلْحَةَ يُرَدُّ وَلَكِنَّك رَجُلٌ كَافِرٌ ، وَأَنَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَك ، فَإِنْ أَسْلَمْت فَذَاكَ مَهْرِي فَلَا أَسْأَلُك غَيْرَهُ فَأَسْلَمَ فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا قَالَ ثَابِتٌ : فَمَا سَمِعْت بِامْرَأَةٍ قَطُّ كَانَتْ أَكْرَمَ مَهْرًا مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ ( الْإِسْلَام ) .
فَدَخَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ إسْلَامَهُ كَانَ لِيَتَزَوَّجَ بِهَا فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْهِجْرَةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ كَوْنِ الْإِسْلَامِ أَشْرَفَ الْأَعْمَالِ ؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَسْلَمَ لِيَتَزَوَّجَهَا حَتَّى يَكُونَ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ الْهِجْرَةِ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ مِنْ تَزَوُّجِهِ حَتَّى هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ لَا لِيَتَزَوَّجَهَا وَلَا يُظَنُّ ذَلِكَ بِأَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ إنَّمَا أَسْلَمَ لِيَتَزَوَّجَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَدْ كَانَ مِنْ أَجَلِّ الصَّحَابَةِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الرَّغْبَةِ فِي نِكَاحِهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِسْلَامُ رَغْبَةً فِيهِ فَمَتَى كَانَ الدَّاعِي إلَى الْإِسْلَامِ الرَّغْبَةَ فِي الدِّينِ لَمْ يَضُرَّ مَعَهُ كَوْنُهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ بِذَلِكَ نِكَاحُ الْمُسْلِمَاتِ وَلَا مِيرَاثُ مُوَرِّثِهِ الْمُسْلِمِ وَلَا اسْتِحْقَاقُ الْغَنِيمَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْإِسْلَامِ الرَّغْبَةَ فِي الدِّينِ .
وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ عِنْدَ حَدِيثِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ مَنْ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ نِيَّةَ الْأَعْمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَضُرَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا عَرَضَ فِي نَفْسِهِ وَخَطَرَ بِقَلْبِهِ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَوَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ وَلَا يُزِيلُهُ عَنْ حُكْمِهِ إعْجَابُ اطِّلَاعِ الْعِبَادِ عَلَيْهِ بَعْدَ مُضِيِّهِ إلَى مَا نَدَبَهُ اللَّهُ إلَيْهِ وَلَا سُرُورُهُ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ أَنْ يَبْدَأَ بِنِيَّةٍ غَيْرِ مُخْلِصَةٍ وَحَكَاهُ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ الطَّبَرِيِّ ،
وَأَنَّهُ حَكَاهُ عَنْ قَوْلِ عَامَّةِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَالْحَقُّ فِي اجْتِمَاعِ الْبَاعِثَيْنِ أَوْ الْبَوَاعِثِ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْهَا لَوْ انْفَرَدَ لَكَانَ كَافِيًا فِي الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ أَوْ يَكُونَ الْكَافِي لِذَلِكَ أَحَدَهُمَا أَوْ لِعِلَّةِ أَحَدِهِمَا ، فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ كَافِيًا بِالْإِتْيَانِ بِهِ فَهَذَا يَضُرُّ فِيهِ التَّشْرِيكُ لِقُوَّةِ الدَّاعِي ، وَإِنْ غَلَبَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يَكُونَ حُصُولُهُ أَسْرَعَ إلَى وُقُوعِ الْمَنْوِيِّ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْفِعْلِ أَحَدَهُمَا بِحَيْثُ لَوْ عُدِمَ الْآخَرُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ الْمَنْوِيِّ فَالْحُكْمُ لِلْقَوِيِّ كَمَنْ يَقُومُ لِلْعِبَادَةِ ، وَهُوَ يَسْتَحْسِنُ إطْلَاعَ النَّاسِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ لَمَا صَرَفَهُ ذَلِكَ عَنْهَا وَلَا عَنْ الرَّغْبَةِ فِيهَا فَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ عِبَادَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْمَلُ فِي حَقِّهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ اطِّلَاعِ النَّاسِ وَعَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ ، وَالْأَسْلَمُ لَهُ عَدَمُ مَحَبَّةِ اطِّلَاعِهِمْ .
( وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنَّهُ لَا يَصِحُّ هَذَا عَنْ أَبِي طَلْحَةَ ، وَالْحَدِيثُ ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحَ الْإِسْنَادِ ، فَإِنَّهُ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْكُفَّارِ إنَّمَا نَزَلَ بَيْنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَبَيْنَ الْفَتْحِ حِينَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فَقَوْلُ أُمِّ سُلَيْمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَك شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ وَالْخَمْسُونَ ) فِي قَوْلِ عَلْقَمَةَ : سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الْوَاحِدَ إذَا ادَّعَى شَيْئًا كَانَ فِي مَجْلِسِ جَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعِلْمِهِ دُونَ أَهْلِ الْمَجْلِسِ لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يُبَايِعَهُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ مُسْتَدِلِّينَ بِقِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ رِوَايَةِ أَحَدٍ عَنْ عُمَرَ إلَّا عَلْقَمَةَ مَعَ كَوْنِهِ حَدَّثَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ بِمَحْضَرٍ مِنْ النَّاسِ وَانْفَرَدَ عَلْقَمَةُ بِنَقْلِهِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ بَلْ قَدْ ذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ بِهِ حِينَ وَصَلَ إلَى دَارِ الْهِجْرَةِ وَشَهَرَ الْإِسْلَامَ ، فَإِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَدْ سَمِعَهُ جَمْعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ غَيْرُ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّتِهِ فَلَوْ اشْتَرَطَ مُتَابَعَةَ الرَّاوِي لَمَّا حَضَرَهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يُقْبَلْ انْفِرَادُهُ بِهِ لِمَا قَبِلُوهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَإِنَّمَا اسْتَفْهَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِخِلَافِ مَا كَانَ فِي ظَنِّهِ فَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ هَذَا مُخَالَفَةٌ لِمَا رَوَاهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ .
( التَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ ) فِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْخَطِيبِ أَنْ يُورِدَ أَحَادِيثَ فِي أَثْنَاءِ الْخُطْبَةِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ أَيْضًا ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ .
( الْفَائِدَةُ السِّتُّونَ ) ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ حِكَايَةً عَنْ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْمُرَادَةُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } قَالَ : لِأَنَّ الذِّكْرَ مُضَادٌّ لِلنِّسْيَانِ ، وَالنِّسْيَانُ ، وَالذِّكْرُ إنَّمَا يَتَضَادَّانِ بِالْمَحَلِّ الْوَاحِدِ وَمَحَلُّ النِّسْيَانِ الْقَلْبُ فَمَحَلُّ الذِّكْرِ إذًا الْقَلْبُ وَذِكْرُ الْقَلْبِ هُوَ النِّيَّةُ ، وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ وَحَكَى قَوْلَ أَحْمَدَ لَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثًا صَحِيحًا انْتَهَى .
وَمَا حَكَاهُ عَنْ عُلَمَائِهِمْ قَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ رَبِيعَةَ شَيْخِ مَالِكٍ أَنَّهُ الَّذِي يَتَوَضَّأُ وَيَغْتَسِلُ وَلَا يَنْوِي وُضُوءًا لِلصَّلَاةِ وَلَا غُسْلًا لِلْجَنَابَةِ وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ تَطَهَّرَ جَسَدُهُ كُلُّهُ وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمْ يَتَطَهَّرْ إلَّا مَوْضِعَ الْوُضُوءِ } فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ النِّيَّةَ لَمْ يَتَطَهَّرْ مَعَ عَدَمِهَا شَيْءٌ لَا مَوَاضِعُ الْوُضُوءِ وَلَا غَيْرُهَا .
وَقَدْ يُقَالُ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ يَحِلُّ جَمِيعَ الْجَسَدِ أَوْ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ فَقَطْ ، فَإِنْ قُلْنَا : يَحِلُّ جَمِيعَ الْجَسَدِ لَمْ تَحْصُلْ الطَّهَارَةُ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : تَحِلُّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ فَقَطْ حَصَلَ ذَلِكَ لِتَطَهُّرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ، وَقَوْلُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ : إنَّ الذِّكْرَ مُضَادُّ النِّسْيَانِ إلَى آخِرِهِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي ذِكْرِ الْقَلْبِ ، فَأَمَّا ذِكْرُ اللِّسَانِ فَلَا يُضَادُّهُ النِّسْيَانُ بَلْ يُضَادُّهُ تَرْكُ الذِّكْرِ ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا بِقَلْبِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَقَوْلُهُ : إنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ قَدْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَفِيهِ نَظَرٌ .
( الْحَادِيَةُ وَالسِّتُّونَ ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَمِمَّا يَجْرِي بِغَيْرِ نِيَّةٍ مَا قَالَهُ مَالِكٌ : إنَّ الْخَوَارِجَ أَخَذُوا الزَّكَاةَ مِنْ النَّاسِ بِالْقَهْرِ ، وَالْغَلَبَةِ وَأَجْزَأَتْ عَمَّنْ أُخِذَتْ مِنْهُ وَمِنْهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَجَمَاعَةَ الصَّحَابَةِ أَخَذُوا الزَّكَاةَ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ بِالْقَهْرِ ، وَالْغَلَبَةِ ، وَلَوْ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُمْ مَا أُخِذَتْ مِنْهُمْ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَهُمْ وَجَعَلَ حَدِيثَ النِّيَّةِ عَلَى الْعُمُومِ أَنَّ أَخْذَ الْخَوَارِجِ لِلزَّكَاةِ غَلَبَةً لَا يَنْفَكُّ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ مِنْ النِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النِّيَّةِ ذِكْرُهَا وَقْتَ أَخْذِهَا مِنْهُ أَنَّهُ عَنْ الزَّكَاةِ أَخَذَهَا الْمُتَغَلِّبُ عَلَيْهِ .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ أَخْذَ الْإِمَامِ الظَّالِمِ لَهَا يُجْزِئُهُ فَالْخَارِجِيُّ فِي مَعْنَى الظَّالِمِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَشَاهِدَةِ التَّوْحِيدِ .
وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ أَهْلِ الرِّدَّةِ بَلْ قَصَدَ حَرْبَهُمْ وَغَنِيمَةَ أَمْوَالِهِمْ وَسَبْيَهُمْ لِكُفْرِهِمْ ، وَلَوْ قَصَدَ أَخْذَ الزَّكَاةِ فَقَطْ لَرَدَّ عَلَيْهِمْ مَا فَضَلَ عَنْهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ .
( الثَّانِيَةُ وَالسِّتُّونَ ) فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ الْقَاسِمِ فِي قَوْلِهِ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ فَرْضًا عَلَيْهِ فَأَسْقَطَ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ بِغَيْرِ نِيَّةِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ خَالَفَهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ أَشْهَبُ وَابْنُ الْمَوَّازِ وَالْأَبْهَرِيُّ وَقَالَ : الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَنْوِ عِتْقَهُ ، وَالْعِتْقُ فِي الْكَفَّارَاتِ لَا يُجْزِئُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَلَيْسَ كَالْمَيِّتِ يُعْتَقُ عَنْهُ فِي الْكَفَّارَةِ ، فَإِنَّ نِيَّتَهُ مَعْدُومَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ وَالسِّتُّونَ ) اسْتَثْنَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ النِّيَّةُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ مَا إذَا غَابَ عَنْ الْمَرْأَةِ زَوْجُهَا مُدَّةً طَوِيلَةً ، وَمَاتَ وَلَمْ تَعْلَمْ بِمَوْتِهِ أَنَّ عِدَّتَهَا مِنْ يَوْمِ مَوْتِهِ لَا مِنْ يَوْمِ بَلَغَتْهَا وَفَاتُهُ فَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا ، وَقَدْ سَقَطَتْ عَنْهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ ، وَالْمَالِكِيَّةُ ، وَالشَّافِعِيَّةُ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْعِدَّةَ جُعِلَتْ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، وَقَدْ حَصَلَتْ ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ ، وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ الْحَامِلَ الَّتِي لَمْ تَعْلَمْ بِوَفَاةِ الزَّوْجِ أَوْ طَلَاقِهِ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْوَضْعِ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَبُلْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ مِنْهُ } .
( بَابُ مَا يُفْسِدُ الْمَاءَ ، وَمَا لَا يُفْسِدُهُ ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَبُلْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ، ثُمَّ تَغْتَسِلُ مِنْهُ } فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ مِنْ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ وَمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ وَعَجْلَانُ ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامٍ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَجْلَانَ خَمْسَتُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) فِي اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ فَفِي بَعْضِهَا ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ أَوْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ } ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ وَفِي رِوَايَةٍ { وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ أَوْ يَشْرَبُ مِنْهُ ، وَفِي رِوَايَةٍ : الدَّائِمُ أَوْ الرَّاكِدُ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الرَّاكِدُ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ النَّاقِعُ وَلَا تَعَارُضَ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَ مَعْنَى الْوُضُوءِ ، وَالْغُسْلِ ، وَالشُّرْبِ فَقَدْ صَحَّ الْكُلُّ وَمَحْمَلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ فَأَدَّى بَعْضُهُمْ وَاحِدًا وَأَدَّى بَعْضُهُمْ اثْنَيْنِ عَلَى مَا حَفِظَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرُّوَاةِ .
وَقَالَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْكَرِيمِ : هَذَا الِاخْتِلَافُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ ؛ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ ، وَالْوُضُوءَ مِمَّا يُمْكِنُ السُّؤَالُ عَنْهُ ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةُ الْمَعْنَى ، وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَدِيثًا وَاحِدًا لَكَانَ مُخْتَلِفَ اللَّفْظِ ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ انْتَهَى ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ
الْجَمْعِ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ .
( الثَّالِثَةُ ) الدَّائِمُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ دَامَ بِالْمَكَانِ أَيْ أَقَامَ بِهِ ، وَهُوَ الرَّاكِدُ ، وَالنَّاقِعُ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُهُ بَعْدَهُ ( الَّذِي لَا يَجْرِي ) هَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْإِيضَاحِ ، وَالْبَيَانِ أَمْ لَهُ مَعْنًى آخَرُ ؟ وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَبِهِ صَدَّرَ النَّوَوِيُّ كَلَامَهُ ، ثُمَّ قَالَ : وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ رَاكِدٍ لَا يَجْرِي بَعْضُهُ كَالْبِرَكِ وَنَحْوِهَا هَكَذَا فِي النُّسَخِ الصَّحِيحَةِ مِنْ شَرْحِ مُسْلِمٍ وَلَعَلَّهُ عَنْ رَاكِدٍ يَجْرِي بَعْضُهُ أَيْ فَلَيْسَ بِمَحَلِّ النَّهْيِ ، فَأَمَّا الرَّاكِدُ الَّذِي لَا يَجْرِي بَعْضُهُ ، فَإِنَّهُ لَا يُحْتَرَزُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الرَّاكِدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) وَقَوْلُهُ : ( ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ ) الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ ضَمُّ اللَّامِ أَيْ ، ثُمَّ هُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَضْرِبُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرْبَ الْأَمَةِ ، ثُمَّ يُضَاجِعُهَا ، فَإِنَّهُ يَرْفَعُ الْعَيْنَ } .
قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ : وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ بِالْجَزْمِ وَلَا تَخَيَّلَهُ فِيهِ أَيْ قَوْلِهِ ، ثُمَّ يُضَاجِعُهَا .
وَأَمَّا يَغْتَسِلُ فَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ الْعَلَّامَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا جَزْمُهُ عَطْفًا عَلَى مَوْضِعِ يَبُولَنَّ وَنَصْبُهُ بِإِضْمَارِ " أَنْ " وَإِعْطَاءِ " ثُمَّ " حُكْمَ وَاوِ الْجَمْعِ قَالَ النَّوَوِيُّ : فَأَمَّا الْجَزْمُ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا النَّصْبُ فَلَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا دُونَ إفْرَادِ أَحَدِهِمَا .
قَالَ : وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ بَلْ الْبَوْلُ فِيهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ : إنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ الَّذِي عَلَّلَ بِهِ امْتِنَاعَ النَّصْبِ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَتَنَاوَلُ النَّهْيَ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ بِمُفْرَدِهِ وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْأَحْكَامِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَيُؤْخَذُ النَّهْيُ عَنْ الْجَمْعِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَيُؤْخَذُ النَّهْيُ عَنْ الْإِفْرَادِ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ انْتَهَى وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ : لَا يَجُوزُ النَّصْبُ إذْ لَا يُنْصَبُ بِإِضْمَارِ أَنْ بَعْدَ ثُمَّ ، وَقَالَ أَيْضًا : إنَّ الْجَزْمَ لَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَقَالَ : ثُمَّ لَا يَغْتَسِلْنَ ؛ لِأَنَّهُ إذْ ذَاكَ يَكُونُ عَطْفَ فِعْلٍ عَلَى فِعْلٍ لَا عَطْفَ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ .
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْأَصْلُ مُسَاوَاةَ الْفِعْلَيْنِ فِي النَّهْيِ عَنْهُمَا وَتَأْكِيدُهُمَا بِالنُّونِ الشَّدِيدَةِ ، فَإِنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي تَوَارَدَ عَلَيْهِ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْمَاءُ فَعُدُولُهُ عَنْ ، ثُمَّ لَا يَغْتَسِلْنَ إلَى ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ لِلْعَطْفِ ، وَإِنَّمَا جَاءَ ثُمَّ يَغْتَسِلُ عَلَى التَّنْبِيهِ عَلَى مَآلِ الْحَالِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا بَال فِيهِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ لِمَا أَوْقَعَ فِيهِ مِنْ الْبَوْلِ .
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي شَرْحِ الْإِلْمَامِ نَحْوَ ذَلِكَ فِي تَضْعِيفِ الْجَزْمِ أَيْضًا ( قُلْت ) لَا يَلْزَمُ فِي عَطْفِ النَّهْيِ عَلَى النَّهْيِ وُرُودُ التَّأْكِيدِ فِيهِمَا مَعًا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَأَتَى بِأَدَاةِ النَّهْيِ وَلَمْ يُؤَكِّدْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) وَقَعَ فِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ بِالْمِيمِ ، وَالنُّونِ وَهَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ بِالْفَاءِ ، وَالْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَمَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ يُفِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا بِطَرِيقِ النَّصِّ وَآخَرُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ لَاسْتَوَيَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
( السَّادِسَةُ ) إذَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ : ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ نَهْيًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَيَكُونُ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ شَيْئَيْنِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْئَيْنِ قَدْ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الْجَمْعِ ، وَقَدْ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الْجَمِيعِ فَالْأَوَّلُ لَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ وَحْدَهُ ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ وَيَدُلُّ عَلَى الثَّانِي رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَلَا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ } .
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ بِمُفْرَدِهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ، وَهُوَ جُنُبٌ فَقَالَ كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟ قَالَ يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلًا } .
( السَّابِعَةُ ) احْتَجَّ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي تَنْجِيسِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ بِحُلُولِ النَّجَاسَةِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ ، فَإِنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ عُمُومٍ وَأَجَابَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَتَعَذَّرُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الدَّائِمَ الْكَثِيرَ الْمُسْتَبْحِرَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النَّجَاسَةُ اتِّفَاقًا مِنَّا وَمِنْكُمْ ، وَإِذَا بَطَلَ عُمُومُهُ وَتَطَرَّقَ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ خَصَّصْنَاهُ بِحَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ فَيُحْمَلُ عُمُومُهُ عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ ، فَإِنَّ حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ يَقْتَضِي عَدَمَ تَنْجِيسِ الْقُلَّتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا ، وَذَلِكَ أَخَصُّ مِنْ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ الْعَامِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ .
( الثَّامِنَةُ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِلْقَوْلِ الْقَدِيمِ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَاءَ الْجَارِيَ ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النَّجَاسَةُ إلَّا إذَا غَيَّرَتْهُ ، فَإِنَّهُ يَنْجُسُ إجْمَاعًا ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ فَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ إخْرَاجُهُ عَنْ الْمَاءِ الدَّائِمِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ وَلَا عَنْ الِاغْتِسَالِ مِنْهُ ، وَهُوَ مَفْهُومُ صِفَةٍ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْأُصُولِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ اخْتِيَارَ الْقَوْلِ الْقَدِيمِ وَأَشَارَ إلَى أَنَّهُ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَخَصَّصَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَفْهُومَ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَفْهُومِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ تَأْثِيرُ النَّجَاسَةِ فِيمَا دُونَهَا جَارِيًا كَانَ أَوْ رَاكِدًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( التَّاسِعَةُ ) احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ بَوْلَ الْآدَمِيِّ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْعَذِرَةِ يُنَجِّسُ الْمَاءَ الرَّاكِدَ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ ، وَإِنَّ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ النَّجَاسَاتِ يَعْتَبِرُ فِيهِ الْقُلَّتَيْنِ فَلَمْ نُعِدْ حُكْمَ الْبَوْلِ ، وَالْعَذِرَةِ إلَى غَيْرِهِمَا مِنْ النَّجَاسَاتِ ، وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ عَنْ أَحْمَدَ تَقْيِيدُ الْعَذِرَةِ بِالْمَائِعَةِ ، وَكَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي عِنْدَهُ فِي مَعْنَى الْبَوْلِ دُونَ الْجَامِدَةِ إذْ لَا امْتِنَاعَ فِي الْمَاءِ .
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَكَأَنَّهُ رَأَى الْخُبْثَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَنْجَاسِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَوْلِ الْآدَمِيِّ فَقَدَّمَ الْخَاصَّ عَلَى الْعَامِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّجَاسَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ وَأَخْرَجَ بَوْلَ الْآدَمِيِّ ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ جُمْلَةِ النَّجَاسَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُلَّتَيْنِ بِخُصُوصِهِ فَتُنَجِّسُ الْمَاءَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ ، ثُمَّ قَالَ : وَلِمُخَالِفِهِمْ أَنْ يَقُولَ قَدْ عَلِمْنَا جَزْمًا أَنَّ هَذَا النَّهْيَ جَزْمًا إنَّمَا هُوَ لِمَعْنَى النَّجَاسَةِ وَعَدَمِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا خَالَطَهَا .
وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ سَائِرُ الْأَنْجَاسِ فَلَا يُتَّجَهُ تَخْصِيصُ بَوْلِ الْآدَمِيِّ مِنْهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى إلَى أَنْ قَالَ : فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْبَوْلِ وَرَدَ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا يُشَارِكُهُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ الِاسْتِقْذَارِ ، وَالْوُقُوفِ عَلَى مُجَرَّدِ الظَّاهِرِ هَهُنَا مَعَ وُضُوحِ الْمَعْنَى وَشُمُولِهِ لِسَائِرِ الْأَنْجَاسِ ظَاهِرِيَّةٌ مَحْضَةٌ .
( الْعَاشِرَةُ ) حَمَلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى النَّهْيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَتَنَجَّسُ عِنْدَهُ بِوُصُولِ النَّجَاسَةِ إلَيْهِ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ كَثِيرًا كَانَ أَوْ قَلِيلًا جَارِيًا كَانَ أَوْ رَاكِدًا وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ : { خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } الْحَدِيثَ .
وَلَكِنْ رُبَّمَا تَغَيَّرَ الرَّاكِدُ بِالْبَوْلِ فِيهِ فَيَكُونُ الِاغْتِسَالُ بِهِ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ .
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَهَذَا يَلْتَفِتُ عَلَى حَمْلِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ قَالَ ، وَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا : إنَّ حَالَةَ التَّغَيُّرِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ فَلَا يَلْزَمُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنَيَيْنِ قَالَ ، وَهَذَا مُتَّجَهٌ إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّخْصِيصُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، فَإِنْ جَعَلْنَا النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْكَرَاهَةِ ، وَالتَّحْرِيمِ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى مَنْعِهِ انْتَهَى وَأَجَابَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ عَنْ مَالِكٍ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَشْهُورُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ طَهُورٌ ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى سَدِّ الذَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى إلَى تَغَيُّرِهِ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ .
( الْحَادِيَةَ عَشَرَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجِسٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ رِوَايَةٌ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ قَرَنَ فِيهِ بَيْنَ الْبَوْلِ فِيهِ ، وَالِاغْتِسَالِ مِنْهُ ، وَالْبَوْلُ يُنَجِّسُهُ فَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ ، وَرَدَّهُ الْجُمْهُورُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ دَلَالَةَ الِاقْتِرَانِ ضَعِيفَةٌ قَالَ بِهَا أَبُو يُوسُفَ وَالْمُزَنِيِّ وَخَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ الْفُقَهَاءِ ، وَالْأُصُولِيِّينَ وَمِمَّا يَرُدُّ عَلَيْهِمَا قَوْله تَعَالَى { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اقْتِرَانِ الْأَكْلِ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وُجُوبُ الْأَكْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّا وَلَوْ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ الِاقْتِرَانِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلُ بِنَجَاسَتِهِ بَلْ يَحْصُلُ ذَلِكَ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَتَطَهَّرُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَّا كَوْنُ الِامْتِنَاعِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا لِلنَّجَاسَةِ فَغَيْرُ لَازِمٍ بَلْ الْأَوَّلُ لِتَنَجُّسِهِ بِهِ ، وَالثَّانِي لِاسْتِعْمَالِهِ وَهَكَذَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ إنَّ نَهْيَهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْلُبُهُ حُكْمَهُ كَالْبَوْلِ فِيهِ يَسْلُبُهُ حُكْمَهُ إلَّا أَنَّ الِاغْتِسَالَ فِيهِ لَا يُنَجِّسُهُ ، وَالْبَوْلَ يُنَجِّسُهُ لِنَجَاسَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةَ عَشَرَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ مَسْلُوبُ الطَّهُورِيَّةِ فَلَا يَتَطَهَّرُ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى ، وَلَوْلَا أَنَّ الِاغْتِسَالَ فِيهِ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ يَغْتَسِلُ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى لَمَا نَهَى عَنْهُ ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال إنَّمَا يُجْعَلُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مَجْزُومٌ عَلَى النَّهْيِ ، فَإِنْ قِيلَ : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ نَهْيًا ، فَإِنَّمَا النَّهْيُ بَعْدَ تَقَدُّمِ الْبَوْلِ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُ النَّهْيُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ بَوْلٍ قُلْنَا أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ فَنَعَمْ .
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد { وَلَا يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ } فَهُوَ نَهْيٌ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ عَلَى الِانْفِرَادِ وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ الْمُتَقَدِّمَةُ { لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ، وَهُوَ جُنُبٌ } وَلَمْ يَذْكُرْهُ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةَ عَشَرَ ) النَّهْيُ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ اتِّفَاقًا ، فَإِنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَبْحِرَ الْكَثِيرَ كَالْبَحْرِ الْمِلْحِ لَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ اتِّفَاقًا ، وَكَذَلِكَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ الْقُلَّتَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِحَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي النَّجَاسَةِ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ الِاغْتِسَالُ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبُوَيْطِيِّ فَقَالَ فِيهِ وَسَوَاءٌ قَلِيلُ الرَّاكِدِ وَكَثِيرُهُ أَكْرَهُ الِاغْتِسَالَ فِيهِ قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَكَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ بِمَعْنَاهُ قَالَ ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ لَا التَّحْرِيمِ .
( الرَّابِعَةَ عَشَرَ ) إذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْبَوْلَ أَوْ الِاغْتِسَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ فَيَفْتَرِقُ الْحُكْمُ فِيهِ بِسَبَبِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ قَالَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ : النَّهْيُ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ مَرْدُودٌ إلَى الْأُصُولِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا فَالنَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَالنَّهْيُ عَلَى الْوُجُوبِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ ، وَهَذَا النَّهْيُ فِي بَعْضِ الْمِيَاهِ لِلتَّحْرِيمِ وَفِي بَعْضِهَا لِلْكَرَاهَةِ وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا جَارِيًا لَمْ يَحْرُمْ الْبَوْلُ فِيهِ لِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى اجْتِنَابُهُ .
وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا جَارِيًا فَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا يُكْرَهُ ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّهُ يُقَدِّرُهُ وَتَنَجُّسُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَيَغُرُّ غَيْرَهُ فَيَسْتَعْمِلُهُ مَعَ أَنَّهُ نَجِسٌ ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا رَاكِدًا فَقَالَ أَصْحَابُنَا يُكْرَهُ وَلَا يُحَرَّمُ ، وَلَوْ قِيلَ يُحَرَّمُ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا ، فَإِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ ، وَالْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ .
وَفِيهِ مِنْ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَدِّرُهُ وَرُبَّمَا أَدَّى إلَى تَنْجِيسِهِ بِالْإِجْمَاعِ لِتَغَيُّرِهِ أَوْ إلَى تَنْجِيسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّ الْغَدِيرَ الَّذِي يَتَحَرَّكُ طَرَفُهُ بِتَحْرِيكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ يَنْجُسُ بِوُقُوعِ نَجَاسَةٍ فِيهِ .
وَأَمَّا الرَّاكِدُ الْقَلِيلُ فَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ، وَالصَّوَابُ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَحْرُمُ الْبَوْلُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُنَجِّسُهُ وَيُتْلِفُ مَائِيَّتَهُ وَيَغُرُّ غَيْرَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : وَإِذَا اغْتَسَلَ فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَهَلْ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا ؟ فِيهِ تَفْصِيلٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ فَصَاعِدًا لَمْ يَصِرْ مُسْتَعْمَلًا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ ، فَإِنْ انْغَمَسَ فِيهِ الْجُنُبُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، ثُمَّ لَمَّا صَارَ تَحْتَ الْمَاءِ نَوَى ارْتَفَعَتْ جَنَابَتُهُ وَصَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا ، وَإِنْ نَزَلَ فِيهِ إلَى رُكْبَتَيْهِ مَثَلًا ، ثُمَّ نَوَى قَبْلَ انْغِمَاسِ بَاقِيهِ صَارَ الْمَاءُ فِي الْحَالِ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ وَارْتَفَعَتْ الْجَنَابَةُ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ الْمُنْغَمِسِ بِلَا خِلَافٍ وَارْتَفَعَتْ أَيْضًا عَنْ الْبَاقِي إذَا تَمَّمَ انْغِمَاسَهُ مِنْ غَيْرِ انْفِصَالٍ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ الْمَنْصُوصِ الْمَشْهُورِ فَلَوْ انْفَصَلَ ، ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ مَا يَغْسِلُهُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ انْتَهَى كَلَامُهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ .
وَقَوْلُهُ فِي الْجَارِي الْقَلِيلِ : إنَّ الْبَوْلَ يُنَجِّسُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ فَمَا نَقَلَهُ عَنْ غَيْرِ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلْ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ بَلْ الْقَلِيلُ الرَّاكِدُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا .
( الْخَامِسَةَ عَشَرَ ) فَرَّقَ قَوْمٌ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ فِي الْبَوْلِ ، وَالِاغْتِسَالِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ بَيْنَ اللَّيْلِ ، وَالنَّهَارِ وَجَعَلُوا الْكَرَاهَةَ فِي اللَّيْلِ أَشَدَّ ، وَذَلِكَ لِمَا قِيلَ أَنَّ الْمَاءَ بِاللَّيْلِ لِلْجِنِّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَالَ فِيهِ وَلَا يُغْتَسَلَ خَوْفًا مِنْ آفَةٍ تُصِيبُهُ مِنْ جِهَتِهِمْ هَكَذَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ وَجَزَمَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْكِفَايَةِ بِكَرَاهَةِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ الْجَارِي فِي اللَّيْلِ لِمَا قِيلَ : إنَّ الْمَاءَ بِاللَّيْلِ لِلْجِنِّ ، وَهُوَ يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ إطْلَاقِ كَوْنِهِ خِلَافَ الْأَوْلَى فَقَطْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةَ عَشَرَ ) مَفْهُومُ الْحَدِيثِ أَنَّ الِاغْتِسَالَ بِالْمَاءِ الْجَارِي لَيْسَ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ سَوَاءٌ حَمَلْنَاهُ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوْ الْكَرَاهَةِ وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بِالْكَرَاهَةِ فَقَالَ قَالَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يُكْرَهُ الِاغْتِسَالُ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ، وَكَذَا يُكْرَهُ الِاغْتِسَالُ فِي الْعَيْنِ الْجَارِيَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبُوَيْطِيِّ : أَكْرَهُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْبِئْرِ مَعِينَةً كَانَتْ أَوْ دَائِمَةً وَفِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ الَّذِي لَا يَجْرِي انْتَهَى .
وَكَأَنَّ النَّوَوِيَّ أَخَذَ كَرَاهَةَ الِاغْتِسَالِ فِي الْعَيْنِ الْجَارِيَةِ مِنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَلَيْسَ فِي نَصِّهِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَذْكُرْ الْجَارِيَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْبِئْرَ الْمُعِينَةَ ، وَالدَّائِمَةَ فَالْمُعِينَةُ هِيَ الَّتِي تَمُدُّهَا عَيْنٌ فِيهَا ، وَالدَّائِمَةُ هِيَ الَّتِي لَا تَمُدُّهَا عَيْنٌ وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ تَعَرُّضٌ لِلْجَارِيَةِ وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْجَارِيَ لَا بَأْسَ بِالِاغْتِسَالِ فِيهِ خُصُوصًا إنْ كَانَتْ عَيْنًا كَبِيرَةً فَلَا وَجْهَ لِلْكَرَاهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةَ عَشَرَ ) هَلْ يَلْحَقُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ الِاسْتِنْجَاءُ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِهِ أَوْ لَيْسَ الِاسْتِنْجَاءُ فِي حُكْمِ الْبَوْلِ قَالَ النَّوَوِيُّ : إنْ كَانَ قَلِيلًا فَهُوَ حَرَامٌ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا تَظْهَرُ كَرَاهَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَوْلِ وَلَا يُقَارِبُهُ قَالَ : وَلَوْ اجْتَنَبَ الْإِنْسَانُ هَذَا كَانَ أَحْسَنَ انْتَهَى .
فَإِنْ كَانَ أَرَادَ الِاسْتِنْجَاءَ مِنْ الْبَوْلِ فَوَاضِحٌ ، وَإِنْ أَرَادَ الِاسْتِنْجَاءَ مِنْ الْغَائِطِ فَفِي عَدَمِ الْكَرَاهَةِ نَظَرٌ خُصُوصًا لِمَنْ لَمْ يُخَفِّفْهُ بِالْحَجَرِ وَمَعَ الِانْتِشَارِ ، وَالْكَثْرَةِ فَرُبَّمَا كَانَ أَفْحَشَ مِنْ الْبَوْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةَ عَشَرَ ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِالتَّخْصِيصِ أَوْ التَّقْيِيدِ ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَبْحِرَ الْكَثِيرَ جِدًّا لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النَّجَاسَةُ ، وَالِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إذَا غَيَّرَتْهُ النَّجَاسَةُ امْتَنَعَ اسْتِعْمَالُهُ فَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ لَا بُدَّ أَنْ يُخْرِجَ صُورَةَ التَّغَيُّرِ بِالنَّجَاسَةِ أَعْنِي عَنْ الْحُكْمِ بِالْكَرَاهَةِ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ ثُمَّ التَّحْرِيمَ .
فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْكُلِّ .
( التَّاسِعَةَ عَشَرَ ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : وَلَمْ يَأْخُذْ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ إلَّا رَجُلٌ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ يُقَالُ لَهُ دَاوُد بْنُ عَلِيٍّ فَقَالَ : مَنْ بَالَ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ فَقَدْ حَرُمَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ بِهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا قَالَ : فَإِنْ بَالَ فِي إنَاءٍ وَصَبَّهُ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ كَانَ لَهُ الْوُضُوءُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نُهِيَ عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ فَقَطْ بِزَعْمِهِ ، وَصَبُّهُ لِلْبَوْلِ مِنْ الْإِنَاءِ لَيْسَ بِبَوْلٍ فِيهِ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ .
فَلَوْ بَالَ خَارِجًا عَنْ الْمَاءِ الدَّائِمِ فَسَالَ فِيهِ جَازَ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ قَالَ : وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَيْ لِغَيْرِ الْبَائِلِ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِيمَا بَالَ فِيهِ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى الْبَائِلَ وَلَمْ يَنْهَ غَيْرَهُ وَقَالَ مَا هُوَ أَشْنَعَ مِنْ هَذَا إنَّهُ إذَا تَغَوَّطَ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ كَانَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِهِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا جَاءَ فِي الْبَوْلِ فَقَطْ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الْغَائِطِ قَالَ : وَهَذَا غَايَةٌ فِي السُّقُوطِ وَإِبْطَالِ الْمَعْقُولِ إلَى أَنْ قَالَ وَيُقَالُ لَهُ خَبِّرْنَا عَنْ الْبَائِلِ فِي الْبَحْرِ أَوْ الْحَوْضِ الْكَبِيرِ أَوْ الْغَدِيرِ الْوَاسِعِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ
أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ ؟ فَإِنْ قَالَ لَا قَالَ مَا نَعْرِفُ أَنَّ الْحَقَّ فِي خِلَافِهِ ، وَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ قَدْ تَرَكْت ظَاهِرَ الْحَدِيثِ وَفِي ضَرُورَتِك إلَى تَرْكِ ظَاهِرِهِ مَا يُوجِبُ عَلَيْك أَنْ تَقُولَ : إنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ وَتَأْدِيبِهِمْ بِأَنْ يَتَنَزَّهُوا عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الَّذِي لَا يَجْرِي فَيَحْتَاجُونَ عَلَى الْوُضُوءِ مِنْهُ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ .
وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ دَاوُد قَالَهُ أَيْضًا ابْنُ حَزْمٍ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَقِلَّ الْمَاءُ أَوْ يَكْثُرَ قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ : وَمَنْ الْتَزَمَ هَذِهِ الْفَضَائِحَ وَجَمَدَ هَذَا الْجُمُودَ فَحَقِيقٌ أَنْ لَا يُعَدَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ وَلَا فِي الْوُجُودِ قَالَ : وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ حَيْثُ قَالَ : إنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ لَيْسُوا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَا مِنْ الْفُقَهَاءِ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ بَلْ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْعَوَامّ وَعَلَى هَذَا جُلُّ الْفُقَهَاءِ ، وَالْأُصُولِيِّينَ وَمَنْ اعْتَدَّ بِخِلَافِهِمْ إنَّمَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ خِلَافَ الْعَوَامّ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ وُجُودِ خِلَافِهِمْ .
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إلَّا خِلَافُ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ ، وَالِاجْتِهَادِ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي الْأُصُولِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ : إنَّ هَذَا مِنْ أَقْبَحِ مَا نُقِلَ عَنْ دَاوُد فِي الْجُمُودِ عَلَى الظَّاهِرِ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : إنَّهُ يَعْلَمُ بُطْلَانَهُ قَطْعًا ، وَالْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ حَاصِلٌ بِبُطْلَانِ قَوْلِهِمْ لِاسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ فِي الْحُصُولِ فِي الْمَاءِ ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ اجْتِنَابُ مَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ مِنْ الْمَاءِ .
قَالَ : وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَحَالِّ الظُّنُونِ بَلْ هُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ .
وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يَقُولُ : { إنَّ الرِّجَالَ ، وَالنِّسَاءَ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعًا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ يَقُولُ { : إنَّ الرِّجَالَ ، وَالنِّسَاءَ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعًا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ( فِيهِ فَوَائِدُ ) ( الْأُولَى ) أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ مُفْتَرِقِينَ كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ .
( الثَّانِيَةُ ) إضَافَةُ الصَّحَابِيِّ الْفِعْلَ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى رَفْعِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اطِّلَاعُهُ خِلَافًا لِأَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَطَائِفَةٍ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجْرِيَ خِلَافُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ نِسَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ كَعَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَهَذَا مُصَرَّحٌ بِاطِّلَاعِهِ فَلَا يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) حَمَلُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَوْلَهُ جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ وُضُوءَ أَحَدِهِمَا بِفَضْلِ الْآخَرِ حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ .
وَهَذَا يَرُدُّهُ رِوَايَةُ هِشَامِ ابْنِ عَمَّارٍ عَنْ مَالِكٍ فَقَالَ فِيهَا { مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ { كُنَّا نَتَوَضَّأُ نَحْنُ ، وَالنِّسَاءُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُدْلِي فِيهِ أَيْدِيَنَا } .
( الرَّابِعَةُ ) حَمَلَ سَحْنُونٌ أَيْضًا مِنْ الْمَالِكِيَّةِ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَتَوَضَّأُ الرِّجَالُ وَيَذْهَبُونَ ، ثُمَّ تَأْتِي النِّسَاءُ فَيَتَوَضَّئُونَ حَكَاهُ ابْنُ التِّينِ أَيْضًا ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ
قَوْلِهِ جَمِيعًا فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي اجْتِمَاعِهِمَا فِي حَالَةِ الِاغْتِسَالِ ، وَكَذَا رِوَايَةُ نُدْلِي أَيْدِيَنَا فِيهِ ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ { كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ } .
وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْغُسْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ هُوَ ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ نِسَائِهِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ } .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ { أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ } .
وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ مَا خَصَّصَهُ بِهِ سَحْنُونٌ مِنْ تَأْخِيرِ غَسْلِ النِّسَاءِ عَنْ الرِّجَالِ وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَفْنَةٍ فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت جُنُبًا قَالَ : إنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنُبُ } .
لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
( الْخَامِسَةُ ) أَطْلَقَ ابْنُ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ وُضُوءَ النِّسَاءِ ، وَالرِّجَالِ جَمِيعًا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الرِّجَالَ مِنْ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الزَّوْجَاتِ أَوْ مَنْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرَى مِنْهَا مَوَاضِعَ الْوُضُوءِ وَلِذَلِكَ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ بَابَ وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ .
( السَّادِسَةُ ) فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ صَبِيَّةَ الْجُهَنِيَّةِ قَالَتْ { :
اخْتَلَفَتْ يَدِي وَيَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ } .
وَلَيْسَتْ أُمُّ صَبِيَّةَ هَذِهِ زَوْجَةً وَلَا مَحْرَمًا نَعَمْ قِيلَ : إنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ قِيسٍ ، وَإِنَّهَا كَانَتْ زَوْجَةَ حَمْزَةَ وَقِيلَ : إنَّ زَوْجَةَ حَمْزَةَ غَيْرُهَا ، وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَزَوْجَةُ الْعَمِّ لَيْسَتْ مَحْرَمًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ عَدُّ ذَلِكَ مِنْ الْخَصَائِصِ فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقِيلُ عِنْدَ أُمِّ حَرَامٍ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَقَوْلُ الْقَاضِي عِيَاضٍ وَمَنْ تَبِعَهُ : إنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ مِنْ الرَّضَاعَةِ رَدَّهُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ الدِّمْيَاطِيُّ فِي جُزْءٍ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ رَأَيْت فِي كَلَامِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِ الشَّافِعِيَّةِ الْإِشَارَةَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْخَصَائِصِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُنَا .
( السَّابِعَةُ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ كَعَكْسِهِ ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِوُضُوئِهِمَا وَاغْتِسَالِهِمَا جَمِيعًا .
قَالَ النَّوَوِيُّ : فَأَمَّا تَطْهِيرُهُمَا مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ فَهُوَ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ طُهْرُ الْمَرْأَةِ بِفَضْلِ الرَّجُلِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا .
وَأَمَّا طُهْرُ الرَّجُلِ بِفَضْلِهَا فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ خَلَتْ بِهِ أَمْ لَمْ تَخْلُ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : وَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَدَاوُد إلَى أَنَّهَا إذَا خَلَتْ بِالْمَاءِ وَاسْتَعْمَلَتْهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ اسْتِعْمَالُ فَضْلِهَا مُطْلَقًا وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ كَرَاهِيَةُ فَضْلِهَا مُطْلَقًا وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ كَمَذْهَبِنَا انْتَهَى .
وَمَا حَكَاهُ مِنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ تَطْهِيرِهِمَا مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ ، وَكَذَلِكَ حِكَايَةُ صَاحِبِ الْمُفْهِمِ أَيْضًا
الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ .
فَقَدْ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ طَائِفَةٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَغْتَرِفَ الرَّجُلُ مَعَ الْمَرْأَةِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَوَضَّأُ حِينَئِذٍ بِفَضْلِ صَاحِبِهِ انْتَهَى .
وَكَذَلِكَ نَقْلُ النَّوَوِيِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ تَطَهُّرِهَا بِفَضْلِ الرَّجُلِ فِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ حَكَى الطَّحْطَاوِيُّ فِي شَرْحِ مَعَانِي الْآثَارِ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَتَوَضَّأَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِفَضْلِ الْآخَرِ وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمَا كَرِهَا فَضْلَ طَهُورِهَا وَلَمْ يَرَيَا بِفَضْلِ سُؤْرِهَا بَأْسًا .
( الثَّامِنَةُ ) احْتَجَّ أَحْمَدُ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بِحَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ أَوْ قَالَ بِسُؤْرِهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَهَذَا لَفْظُهُ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فِي تَحْسِينِهِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدِيثُ الْحَكَمِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ النَّهْيُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ فَضْلِ الْآخَرِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ { : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ ، وَالْمَرْأَةُ بِفَضْلِ وُضُوءِ الرَّجُلِ وَلَكِنْ يَشْرَعَانِ جَمِيعًا } .
قَالَ الْبُخَارِيُّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ وَمَنْ رَفَعَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ وَهَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ : لَقِيت رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ سِنِينَ كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ أَوْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ
بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ } .
وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ { لِيَغْتَرِفَا جَمِيعًا } وَأَجَابَ الْخَطَّابِيُّ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا سَالَ مِنْ الْأَعْضَاءِ عِنْدَ التَّطَهُّرِ بِهِ دُونَ مَا بَقِيَ فِي الْإِنَاءِ قَالَ : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَإِسْنَادُ حَدِيثِ الْإِبَاحَةِ أَجْوَدُ مِنْ إسْنَادِ خَبَرِ النَّهْيِ .
( التَّاسِعَةُ ) حَكَى الْخَطَّابِيُّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ فَضْلِ وُضُوءِ الْمَرْأَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَتْ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا ، فَإِذَا كَانَتْ طَاهِرًا فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَهَذَا يَرُدُّهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمُ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ ، وَفِيهِ { فَقَالَتْ إنِّي كُنْت جُنُبًا فَقَالَ : إنَّ الْمَاءَ لَا يَجْنُبُ } .
صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَيَرُدُّهُ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَنَحْنُ جُنُبَانِ } .
وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي وُضُوئِهِ بِفَضْلِهَا ، فَإِنَّ تَقَدُّمَ اغْتِرَافِ عَائِشَةَ مُوجِبٌ لِاسْتِعْمَالِهِ لِفَضْلِهَا ، وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِيُّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ يَغْتَرِفُ قَبْلَهَا وَتَغْتَرِفُ قَبْلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِطَهَارَةِ الذِّمِّيَّةِ وَجَوَازِ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ طَهُورِهَا وَسُؤْرِهَا لِجَوَازِ تَزَوُّجِهِنَّ وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَغَيْرِهَا ، وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إلَى اسْتِدْلَالِهِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ قَالَ : بَابُ وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالْحَمِيمِ وَمِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ الْبَابِ ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ مِنْ طَهَارَةِ سُؤْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَهُ يَعْنِي سُؤْرَ النَّصْرَانِيَّةِ غَيْرُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ انْتَهَى .
وَفِي رِوَايَةٍ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ فِي أَثَرِ عُمَرَ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ : وَحُكْمُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ أَوَانِي الْكُفَّارِ وَثِيَابِهِمْ سَوَاءٌ فِيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ ، وَالْمُتَدَيِّنُ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ وَغَيْرُهُ قَالَ : وَإِذَا تَطَهَّرَ مِنْ إنَاءِ كَافِرٍ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ طَهَارَتَهُ وَلَا نَجَاسَتَهُ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ صَحَّتْ طَهَارَتُهُ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَتَدَيَّنُونَ بِهَا فَوَجْهَانِ الصَّحِيحُ مِنْهُمَا أَنَّهُ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ .
( الْحَادِيَةَ عَشَرَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَحْدِيدَ فِي مَاءِ الْوُضُوءِ ، وَالْغُسْلِ فَقَالَ فِي التَّمْهِيدِ : وَإِذَا جَازَ وُضُوءُ الْجَمَاعَةِ مَعًا رِجَالًا وَنِسَاءً فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَحْدِيدَ وَلَا تَوْقِيتَ فِيمَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ الْمُتَوَضِّئُ ، وَالْمُغْتَسِلُ مِنْ الْمَاءِ إلَّا الْإِتْيَانَ مِنْهُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ مِنْ غُسْلٍ وَمَسْحٍ انْتَهَى ، وَفِي وَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ نَظَرٌ .
( بَابُ الْوُضُوءِ ) عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَضَعْ يَدَهُ فِي الْوُضُوءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا إنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { ثَلَاثًا } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ { مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا }
( بَابُ الْوُضُوءِ ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ ) .
( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَضَعْ يَدَهُ فِي وَضُوئِهِ حَتَّى يَغْسِلَهَا إنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ وَمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ وَأَبِي رَزِينٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَأَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ وَثَابِتٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ وَأَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ أَبِي رَزِينٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَأَبِي مَرْيَمَ ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُمْ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا .
( الثَّانِيَةُ ) فِي اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ فَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ } ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ مَاجَهْ { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ اللَّيْلِ } وَلِمُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ فِي الْإِنَاءِ مَوْضِعُ قَوْلِهِ فِي وَضُوئِهِ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي إنَائِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } ، وَكَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ قَالَ مُسْلِمٌ : وَلَمْ يَقُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ثَلَاثًا إلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَأَبِي رَزِينٍ .
قُلْت : وَكَذَا قَالَ أَبُو مَرْيَمَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي
رِوَايَةٍ لَهُ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ { مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا } وَلِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ لَهُ وَابْنُ مَاجَهْ فِيمَا بَاتَتْ لَهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد { أَيْنَ بَاتَتْ أَوْ أَيْنَ كَانَتْ تَطُوفُ يَدُهُ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ { أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ مِنْهُ } وَقَالَ تَفَرَّدَ بِقَوْلِهِ مِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْبُسْرِيُّ ، وَهُوَ ثِقَةٌ وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَلَا عَلَى مَا وَضَعَهَا } وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ أَوْ أَيْنَ طَافَتْ يَدُهُ } وَقَالَ إسْنَادُهُ حَسَنٌ .
( الثَّالِثَةُ ) احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ مِنْ نَوْمِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ نَوْمِ اللَّيْلِ ، وَالنَّهَارِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَحْمَدُ وَدَاوُد فَخَصَّصَا هَذَا الْحُكْمَ بِنَوْمِ اللَّيْلِ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ : أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَلِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ إذَا قَامَ أَوْ اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ بِاللَّيْلِ وَهَكَذَا يَقُولُ الْحَسَنُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَلُ نَوْمَ النَّهَارِ مِثْلَ نَوْمِ اللَّيْلِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا مُوَافَقَةُ الْجُمْهُورِ ، وَقَالَ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْهُ ، فَالْمَبِيتُ إنَّمَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَمَّا الْمَبِيتُ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ أَحْمَدُ صَحِيحًا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْخَلِيلَ قَالَ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ الْبَيْتُوتَةُ دُخُولُك فِي اللَّيْلِ وَكَوْنُك فِيهِ بِنَوْمٍ وَغَيْرِ نَوْمٍ قَالَ : وَمَنْ قَالَ بِتُّ بِمَعْنَى نِمْت وَفَسَّرَهُ عَلَى النَّوْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ قَالَ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ : بِتُّ أُرَاعِي النَّجْمَ قَالَ فَلَوْ كَانَ نَوْمًا كَيْفَ كَانَ يَنَامُ وَيَنْظُرُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِقَوْلِ الْحَسَنِ وَأَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرَهُمَا انْتَهَى .
وَقَدْ خَالَفَ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ صَاحِبَهُ إِسْحَاق بْنُ رَاهْوَيْهِ فَقَالَ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ اسْتَيْقَظَ
لَيْلًا أَوْ نَهَارًا إلَّا أَنْ يَغْسِلَ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا الْوُضُوءَ قَالَ : وَالْقِيَاسُ فِي نَوْمِ اللَّيْلِ أَنَّهُ مِثْلُ نَوْمِ النَّهَارِ .
وَمَا قَالَهُ إِسْحَاقُ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد { وَأَيْنَ كَانَتْ تَطُوفُ يَدُهُ } وَرِوَايَةُ الدَّارَقُطْنِيِّ { وَأَيْنَ طَافَتْ يَدُهُ } وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِيغَةٍ أَوْ فِي الرِّوَايَتَيْنِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَكًّا بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا يُرِيدُ أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ فِي الْمَبِيتِ أَوْ أَيْنَ كَانَتْ تَطُوفُ يَدُهُ فِي نَوْمِهِ مَسَاءً كَانَ أَوْ نَهَارًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) مَفْهُومُ الشَّرْطِ حُجَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَنْ بِذَلِكَ غَيْرُ الْمُسْتَيْقِظِ مِمَّنْ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ كَالشَّاكِّ عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الشَّعْبِيُّ فَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْهُ النَّائِمُ ، وَالْمُسْتَيْقِظُ سَوَاءٌ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لَمْ يُدْخِلْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا وَرَوَى ابْنُ نَصْرٍ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَطَاوُسٍ إطْلَاقَ غَسْلِ الْيَدِ قَبْلَ إدْخَالِهَا لِلْإِنَاءِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِاسْتِيقَاظٍ مِنْ نَوْمٍ وَلَعَلَّ مَنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ أَرَادَ الِاغْتِرَافَ لِلِاسْتِعْمَالِ احْتِرَازًا عَنْ الْوُضُوءِ فِي الْأَوَانِي الصِّغَارِ ، وَقَدْ يَقُولُ الشَّعْبِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ : لَعَلَّ النَّهْيَ عَنْ إدْخَالِ يَدِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ النَّوْمِ فِي الْإِنَاءِ خَرَجَ عَلَى جَوَابِ سُؤَالٍ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومٌ وَذَكَرَ بَعْضُ أَفْرَادِ الْعُمُومِ لَا يُخَصَّصُ ، وَقَدْ يُجِيبُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ خُرُوجُ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَابِ سُؤَالٌ فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالِاحْتِمَالِ فَيُفَرَّقُ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ النَّوْمِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ
لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ هَلْ هُوَ عَلَى النَّدْبِ أَوْ الْوُجُوبِ ، وَكَذَا النَّهْيُ فِي قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ : فَلَا يَضَعْ يَدَهُ فِي الْوُضُوءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا هَلْ هُوَ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ التَّنْزِيهِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى النَّدْبِ ، وَالتَّنْزِيهِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ ، وَالتَّحْرِيمِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَالتَّحْرِيمِ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ ، وَالنَّهْيِ .
وَقَالُوا يُهْرَاقُ الْمَاءُ وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ دَاوُد وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ وُجُوبَ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُمَا رَأَيَا أَنَّ الْمَاءَ يَنْجُسُ بِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ الْيَدُ مَغْسُولَةً وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُوجِبُ غَسْلَهُمَا عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ مِنْ التَّفْرِقَةِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ عَنْهُ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : إنَّهُ إنْ فَعَلَهُ كَانَ عَاصِيًا وَلَا يَفْسُدُ الْمَاءُ بِذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ وَقَالَ ابْنُ زَرْقُونٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : الْمُسْتَيْقِظُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ طَاهِرٌ وَنَجِسٌ وَجُنُبٌ فَالطَّاهِرُ لَا يُفْسِدُ الْمَاءَ .
وَحَكَى ابْنُ حَارِثٍ عَنْ ابْنِ غَافِقٍ التُّونُسِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُفْسِدُهُ ، وَأَمَّا الْمُوقِنُ بِالنَّجَاسَةِ فَيَجْرِي عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي النَّجَاسَةِ تَحِلُّ فِي قَلِيلِ الْمَاءِ ، وَأَمَّا الْجُنُبُ ، وَالْمُحْتَلِمُ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا أَصَابَ يَدَهُ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : إنَّهُ يُفْسِدُ الْمَاءَ قَالَ : وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَلِمَالِكٍ فِي الْمَجْمُوعَةِ نَحْوُهُ انْتَهَى .
وَالصَّوَابُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اقْتَرَنَ بِالْأَمْرِ مَا دَلَّ عَلَى النَّدْبِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ بِالشَّكِّ ، وَلَوْ شَكَّ هَلْ مَسَّتْ
يَدُهُ نَجَاسَةً لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ غَسْلُ يَدِهِ .
( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ فِي وَضُوئِهِ هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى الْمَشْهُورِ الْمَعْرُوفِ فِي الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ ، وَأَمَّا الْوُضُوءُ بِضَمِّهَا فَهُوَ الْفِعْلُ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَقَدْ أَثْبَتَ سِيبَوَيْهِ الْوَضُوءَ ، وَالطَّهُورَ ، وَالْوَقُودَ بِالْفَتْحِ فِي الْمَصَادِرِ فَهِيَ تَقَعُ عَلَى الِاسْمِ ، وَالْمَصْدَرِ قَالَ : وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ الْوَضَاءَةِ ، وَهِيَ الْحُسْنُ ، وَالْبَهْجَةُ وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ { لَقَلَّمَا كَانَتْ امْرَأَةٌ وَضِيئَةٌ } الْحَدِيثَ .
( السَّابِعَةُ ) تَقَدَّمَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ بَدَلُ قَوْلِهِ فِي وَضُوئِهِ فِي إنَائِهِ وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْإِنَاءِ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ مَخْصُوصٌ بِالْأَوَانِي دُونَ الْبِرَكِ ، وَالْحِيَاضٍ الَّتِي لَا يُخَافُ فَسَادُ مَائِهَا بِغَمْسِ الْيَدِ فِيهَا عَلَى تَقْدِيرِ نَجَاسَتِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ قَيْسٌ الْأَشْجَعِيُّ لِأَبِي هُرَيْرَةَ حِينَ حَدَّثَ بِهَذَا : فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِهْرَاسَكُمْ هَذَا فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِهِ ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّك رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فَكَرِهَ أَبُو هُرَيْرَةَ ضَرْبَ الْأَمْثَالِ لِلْحَدِيثِ ، وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَرَأَيْت إنْ كَانَ حَوْضًا فَحَصَبَهُ ابْنُ عُمَرَ وَقَالَ أُخْبِرُك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ أَرَأَيْت إنْ كَانَ حَوْضًا فَكَرِهَ ابْنُ عُمَرَ ضَرْبَ الْأَمْثَالِ بِحَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ شَدِيدَ الِاتِّبَاعِ لِلْأَثَرِ وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا : إنَّهُ إذَا كَانَ الْإِنَاءُ كَبِيرًا لَا يُمْكِنُهُ تَحْرِيكُهُ وَلَمْ يَجِدْ إنَاءً يَغْتَرِفُ بِهِ أَخَذَ الْمَاءَ مِنْهُ بِفَمِهِ أَوْ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ النَّظِيفِ وَغَسَلَ بِهِ يَدَهُ أَوْ يَسْتَعِينُ بِمَنْ يَصُبُّ عَلَيْهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الشَّكِّ فِي النَّجَاسَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي
( الثَّامِنَةُ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَمْرِ بِذَلِكَ هَلْ هُوَ تَعَبُّدٌ أَوْ مَعْقُولُ الْمَعْنَى فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ تَعَبُّدٌ حَتَّى إنَّ مَنْ تَحَقَّقَ طَهَارَةَ يَدِهِ فِي نَوْمِهِ بِأَنْ لَفَّ عَلَيْهَا ثَوْبًا أَوْ خِرْقَةً طَاهِرَةً وَاسْتَيْقَظَ ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَانَ مَأْمُورًا بِغَسْلِهَا لِعُمُومِ أَمْرِ الْمُسْتَيْقِظِ بِذَلِكَ ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ ، وَإِنْ تَيَقَّنَ طَهَارَةَ يَدِهِ ، وَأَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ غَمْسُ الْيَدِ لِلْمُسْتَيْقِظِ مَعَ تَيَقُّنِ طَهَارَةِ يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِاحْتِمَالِ النَّجَاسَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ فَعَلَّلَ الْأَمْرَ بِاحْتِمَالِ طُرُوُّ نَجَاسَةٍ عَلَى يَدِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( التَّاسِعَةُ ) إذَا تَقَرَّرَ أَنَّ ذَلِكَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى ، وَأَنَّ الشَّارِعَ أَشَارَ إلَى الْعِلَّةِ بِقَوْلِهِ : فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعْنَاهُ أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْأَحْجَارِ وَبِلَادُهُمْ حَارَّةٌ ، فَإِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ عَرِقَ فَلَا يَأْمَنُ النَّائِمُ أَنْ تَطُوفَ يَدُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ النَّجِسِ أَوْ عَلَى بَثْرَةٍ أَوْ قَمْلَةٍ أَوْ قَذِرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ : اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ غَسْلِ الْيَدِ لِلْمُسْتَيْقِظِ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ أَمَّا لَعَلَّهُ قَدْ مَسَّ مِنْ نَجَاسَةٍ خَرَجَتْ مِنْهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا أَوْ غَيْرِ نَجَاسَةٍ مِمَّا يَقْذُرُ وَقِيلَ : لِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا يَسْتَجْمِرُونَ ، وَقَدْ يَمَسُّ بِيَدِهِ أَثَرَ النَّجْوِ قَالَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَيِّنٍ ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَاتِ لَا تَخْرُجُ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِعِلْمٍ مِنْهُ ، وَمَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَلَا حُكْمَ لَهُ وَمَوْضِعُ الِاسْتِجْمَارِ لَا تَنَالُهُ يَدُ النَّائِمِ إلَّا مَعَ الْقَصْدِ لِذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ
غَسْلُ الْيَدَيْنِ لِتَجْوِيزِ ذَلِكَ لَأُمِرَ بِغَسْلِ الثِّيَابِ لِجَوَازِ ذَلِكَ عَلَيْهَا قَالَ : وَالْأَظْهَرُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ النَّائِمَ لَا يَكَادُ تَسْلَمُ يَدُهُ مِنْ حَكِّ مَغَابِنِهِ أَوْ بَثْرِهِ فِي بَدَنِهِ وَمَوْضِعِ عَرَقِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَاسْتُحِبَّ لَهُ غَسْلُ يَدِهِ مُطْلَقًا انْتَهَى .
حَاصِلُ كَلَامِهِ وَقَوْلُهُ : إنَّ مَوْضِعَ الِاسْتِجْمَارِ لَا تَنَالُهُ يَدُ النَّائِمِ إلَّا مَعَ الْقَصْدِ لِذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَاعْتِرَاضُهُ بِالثِّيَابِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ الْعَرَقُ فِي يَدِهِ دُونَ مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ فَتَتَأَثَّرُ الْيَدُ دُونَ الثَّوْبِ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُرِيدُ غَمْسَ ثَوْبِهِ فِي الْمَاءِ حَتَّى يُؤْمَرَ بِغَسْلِ ثَوْبِهِ .
وَأَمَّا الْيَدُ فَأُمِرَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الِاسْتِنْجَاءِ لَا يُعْفَى عَنْهُ فِي الْمَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَزَلَ مُسْتَجْمِرٌ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ تَنَجَّسَ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عُفِيَ عَنْ أَثَرِ الِاسْتِنْجَاءِ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَحَلِّ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ ، وَمَا رَجَّحَهُ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ حَكُّ بَثْرِهِ أَوْ مَا يَقْذُرُ فَهُوَ فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَذْكُورٌ .
( الْعَاشِرَةُ ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ اسْتِحْبَابُ التَّثْلِيثِ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَلَكِنَّ التَّثْلِيثَ الْمَأْمُورَ هَلْ هُوَ لِاحْتِمَالِ النَّجَاسَةِ أَوْ هُوَ التَّثْلِيثُ الْمَشْرُوعُ فِي الْوُضُوءِ ؟ مَحَلُّ النَّظَرِ .
( الْحَادِيَةَ عَشَرَ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّثْلِيثِ فِي غَسْلِ النَّجَاسَاتِ مُطْلَقًا غَيْرِ الْمُغَلَّظَةِ الَّتِي أَمَرَ بِالسَّبْعِ فِيهَا ، فَإِنَّ فِي اسْتِحْبَابِ التَّثْلِيثِ فِيهَا خِلَافًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، وَإِذَا أَمَرَ بِالتَّثْلِيثِ فِي مَوْضِعِ احْتِمَالِ النَّجَاسَةِ فَالْإِتْيَانُ بِهِ مَعَ تَحَقُّقِ النَّجَاسَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى .
( الثَّانِيَةَ عَشَرَ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ تَزُولُ الْكَرَاهَةُ بِغَسْلِ الْيَدِ مَرَّةً قَبْلَ غَمْسِهَا أَوْ يَتَوَقَّفُ زَوَالُهَا عَلَى غَسْلِهَا ثَلَاثًا عَلَى مَا ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ : فَإِنْ لَمْ يَغْسِلْهُمَا إلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ لَمْ يَغْسِلْهُمَا أَصْلًا حِينَ أَدْخَلَهُمَا فِي وَضُوئِهِ فَقَدْ أَسَاءَ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ : إنَّ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ ، وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنْ تَوَقُّفِ زَوَالِ الْكَرَاهَةِ عَلَى الثَّلَاثِ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ تَصْحِيحُهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ غَمْسُ الْيَدِ إذَا تَحَقَّقَ طَهَارَتَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ مُطَهِّرَةٌ لِلْيَدِ إنْ لَمْ يَكُنْ ، ثُمَّ نَجَاسَةٌ عَيْنِيَّةٌ لَمْ يَزُلْ حُكْمُهَا فَكَيْفَ يُقَالُ بِبَقَاءِ الْكَرَاهَةِ مَعَ تَحَقُّقِ الطَّهَارَةِ لَا جَرَمَ كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ تَيَقُّنَ طَهَارَةِ الْيَدِ لِلْمُسْتَيْقِظِ مِنْ النَّوْمِ لَا يَرْفَعُ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ بِإِجْمَاعِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَمْرَ نَدْبٍ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَمْرُ إيجَابٍ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ بَلْ حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَصَحَّحَهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْغَسْلُ عِنْدَ تَيَقُّنِ الطَّهَارَةِ وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي النِّهَايَةِ نَحْوَهُ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ غَمْسُ يَدِهِ مَعَ تَحَقُّقِ طَهَارَتِهِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .
( الثَّالِثَةَ عَشَرَ ) فِي قَوْلِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا غَسَلَ وَاحِدَةً مِنْ يَدَيْهِ أَدْخَلَهَا الْإِنَاءَ ، وَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنْ حَكَى أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ خِلَافًا فِي صِفَةِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْوَضُوءِ فَحُكِيَ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْرِغَ عَلَى يَدِهِ الْيُمْنَى فَيَغْسِلَهَا ، ثُمَّ يُدْخِلَهَا فِي إنَائِهِ ، ثُمَّ يَصُبَّ عَلَى الْيُسْرَى ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ قَالَ وَرَوَى عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُفْرِغَ عَلَى يَدَيْهِ فَيَغْسِلَهُمَا قَالَ : وَوَجْهُ رِوَايَةِ أَشْهَبَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي إفْرَادَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الْقَصْدَ التَّنْظِيفُ ، وَغَسْلُ بَعْضِهِمَا بِبَعْضٍ أَنْظَفُ لَهُمَا .
( الرَّابِعَةَ عَشَرَ ) لَيْسَتْ كَرَاهَةُ غَمْسِ الْمُتَوَضِّئِ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا خَاصَّةً بِحَالِ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ النَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ احْتِمَالُ النَّجَاسَةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَعَلَى هَذَا فَمَنْ شَكَّ فِي نَجَاسَةِ يَدِهِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَامَ ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ .
( الْخَامِسَةَ عَشَرَ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا وَرَدَتْ عَلَى الْمَاءِ الْقَلِيلِ نَجَّسَتْهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ .
( السَّادِسَةَ عَشَرَ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ إيرَادِ يَدِهِ عَلَى الْمَاءِ وَأَمَرَهُ بِإِيرَادِ الْمَاءِ عَلَى يَدِهِ كُلُّ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ طُرُوءِ نَجَاسَةٍ عَلَى يَدِهِ فَلَوْ اسْتَوَى الْأَمْرَانِ كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ لَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ لَوْ لَمْ يَأْتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَاءِ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ لَسَاغَ فِي الْمَاءِ غَيْرُ هَذَا التَّأْوِيلِ وَلَكِنْ قَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَاءِ أَنَّهُ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ يُرِيدُ إلَّا مَا غَلَبَ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ حَدِيثِ الْبَابِ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ ، وَالْأَدَبِ ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ نَقَضُوا أَقْوَالَهُمْ فِي وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إذَا وَرَدَ الْمَاءُ عَلَى النَّجَاسَةِ فِي إنَاءٍ أَوْ مَوْضِعٍ وَكَانَ الْمَاءُ دُونَ الْقُلَّتَيْنِ أَنَّ النَّجَاسَةَ تُفْسِدُهُ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ لَهَا فَلَمْ يُفَرِّقُوا هَهُنَا بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَبَيْنَ وُرُودِهَا عَلَيْهِ وَشَرْطُهُمْ أَنْ يَكُونَ وُرُودُ الْمَاءِ صَبًّا مِهْرَاقًا تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قُلْت : وَمَا حَكَاهُ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمْ وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَبًّا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي إنَاءٍ بِحَيْثُ يَغْمُرُ الْمَاءُ النَّجَاسَةَ وَيُزِيلُهَا نَعَمْ إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَيْنِيَّةً وَوُضِعَتْ فِي إنَاءٍ وَصُبَّ الْمَاءُ عَلَيْهَا وَاجْتَمَعَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ وَعَيْنُ النَّجَاسَةِ فِي إنَاءٍ تَنَجَّسَ الْمَاءُ وَلَمْ يَطْهُرْ الثَّوْبُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَسْكُبْ فِي إنَاءٍ وَصَبَّ الْمَاءَ صَبًّا عَلَى نَجَاسَةٍ عَيْنِيَّةٍ وَانْفَصَلَ عَنْهَا وَلَمْ يُزِلْ
الْعَيْنَ ، فَإِنَّ الْمَاءَ يَتَنَجَّسُ ، وَالثَّوْبَ لَا يَطْهُرُ فَلَيْسَ حُكْمُهُمْ هُنَا بِعَدَمِ الطَّهَارَةِ بِكَوْنِ الْمَاءِ وَارِدًا فِي إنَاءٍ بَلْ لِكَوْنِ الْمَاءِ لَمْ يُزِلْ عَيْنَ النَّجَاسَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةَ عَشَرَ ) فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : إنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ سَبْعًا حَمْلًا لِلْجَمْعِ عَلَى وُلُوغِ الْكَلْبِ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فَلَمْ يُوجِبُوا فِي غَيْرِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا إلَّا الْغَسْلَ مَرَّةً ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { : كَانَتْ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ ، وَالْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَغَسْلُ الْبَوْلِ مِنْ الثَّوْبِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ حَتَّى جُعِلَتْ الصَّلَاةُ خَمْسًا ، وَالْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ مَرَّةً وَغَسْلُ الْبَوْلِ مِنْ الثَّوْبِ مَرَّةً } وَفِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ .
( الثَّامِنَةَ عَشَرَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ مَوْضِعَ الِاسْتِنْجَاءِ مَخْصُوصٌ بِالرُّخْصَةِ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ ، وَأَنَّ مَا عَدَاهُ غَيْرُ مَقِيسٍ عَلَيْهِ انْتَهَى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيّ { أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ مِنْهُ } أَيْ مِنْ مَظَانِّ النَّجَاسَةِ مِنْ جَسَدِهِ .
( التَّاسِعَةَ عَشَرَ ) وَفِيهِ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْمُتَوَهَّمَةَ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِالرَّشِّ لِحُصُولِ الِاحْتِيَاطِ بَلْ إنَّمَا يَحْصُلُ الِاحْتِيَاطُ بِغَسْلِهَا لِأَمْرِهِ بِغَسْلِ الْيَدِ ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ نَضْحِ الثَّوْبِ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ فَلَيْسَ ذَلِكَ لِلتَّطْهِيرِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِدَفْعِ الْوَسْوَاسِ حَتَّى إذَا وَجَدَ بَلَلًا أَحَالَهُ عَلَى الرَّشِّ لِتَذْهَبَ عَنْهُ الْوَسْوَسَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَائِدَةُ الْعِشْرُونَ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَفِيهِ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْوَثِيقَةِ ، وَالْعَمَلَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ أَوْلَى قَالَ النَّوَوِيُّ مَا لَمْ يَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الِاحْتِيَاطِ إلَى حَدِّ الْوَسْوَسَةِ قَالَ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ الِاحْتِيَاطِ ، وَالْوَسْوَسَةِ كَلَامٌ طَوِيلٌ أَوْضَحْته فِي بَابِ الْآنِيَةِ مِنْ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ
( الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ النَّسَائِيّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ بِهِ فِي سُنَنِهِ ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ قَالَ : وَهُوَ أَمْرٌ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي النَّائِمِ الْمُضْطَجِعِ الَّذِي قَدْ اسْتَثْقَلَ نَوْمًا وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، وَالسُّدِّيُّ : فِي قَوْله تَعَالَى { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } أَيْ مِنْ النَّوْمِ ، ثُمَّ حَكَى بَعْدَ ذَلِكَ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ أَيْضًا ، وَفِيهِ ثَمَانِيَةُ مَذَاهِبَ : ( أَحَدُهَا ) لَا يُنْقَضُ مُطْلَقًا ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَعُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي مِجْلَزٍ وَحُمَيْدَ الْأَعْرَجِ ، وَالشِّيعَةِ ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ يَرُدُّ مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ الْإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : إنَّهُ قَوْلٌ شَاذٌّ ، وَالنَّاسُ عَلَى خِلَافِهِ وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَقَالَ : وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ جَهْلًا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَجَّ لِهَذَا الْمَذْهَبِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ { الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ } الْحَدِيثَ قَالَ وَلَيْسَا بِالْقَوِيَّيْنِ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ يُنْقَضُ مُطْلَقًا ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْمُزَنِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ قَالَ ابْنُ زَرْقُونٍ وَحَكَاهُ أَبُو الْفَرَجِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ غَرِيبٌ ( قُلْت ) : وَهُوَ قَوْلٌ لِلْأَوْزَاعِيِّ أَيْضًا وَكَوْنُهُ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدٍ قَدْ جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا رَجَعَ عَنْ كَوْنِ نَوْمِ الْجَالِسِ لَا يُنْقَضُ إلَى غَلَبَةِ النَّوْمِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْهُ ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ
إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ لَا يُنْقَضُ مُطْلَقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ قَالَ وَحُجَّةُ مَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ { كُنَّا إذَا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ أَمَرَنَا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ } قَالَ : وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى النَّوْمِ الثَّقِيلِ الْغَالِبِ .
( وَالثَّالِثُ ) يُنْقَضُ كَثِيرُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ دُونَ قَلِيلِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ( وَالرَّابِعُ ) لَا يُنْقَضُ عَلَى هَيْئَةٍ مِنْ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَدَاوُد فِيمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ لِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا ( وَالْخَامِسُ ) لَا يَنْقُضُ إلَّا نَوْمُ الرَّاكِعِ ، وَالسَّاجِدِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ .
( السَّادِسُ ) أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ إلَّا نَوْمُ السَّاجِدِ فَقَطْ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ أَيْضًا .
( السَّابِعُ ) أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ فِي الصَّلَاةِ مُطْلَقًا وَيُنْقَضُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ .
( الثَّامِنُ ) أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ نَوْمُ الْجَالِسِ الْمُمَكَّنِ الْمَقْعَدَةِ مِنْ الْأَرْضِ وَيَنْقُضُ غَيْرُهُ سَوَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ كَانَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُد وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فَهَذَا مَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ مِنْ الْمَذَاهِبِ فِي النَّوْمِ ، وَفِيهِ قَوْلٌ ( تَاسِعٌ ) وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ تَعَمُّدِ النَّوْمِ جَالِسًا وَبَيْنَ غَلَبَتِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ فَقَالَ : إنْ تَعَمَّدَ النَّوْمَ جَالِسًا فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ ، وَإِنْ نَامَ سَاجِدًا فِي صَلَاتِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنْ تَعَمَّدَ النَّوْمَ فِي السُّجُودِ
تَوَضَّأَ وَقَوْلُ اللَّيْثِ إذَا تَصَنَّعَ لِلنَّوْمِ جَالِسًا فَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ ، وَإِنْ غَلَبَهُ النَّوْمُ لَمْ يَتَوَضَّأْ ، وَفِيهِ قَوْلٌ عَاشِرٌ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ إلَّا نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَالنَّوَوِيِّ ، وَالْحَسَنِ بْنِ رُوحِيٍّ وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ ، وَالْأَكْثَرِينَ ، وَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ دَاوُد قَالَ : وَهُوَ قَوْلٌ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُمَا انْتَهَى وَحُجَّتُهُمْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا } ، وَهُوَ ضَعِيفٌ تَفَرَّدَ بِرَفْعِهِ أَبُو خَالِدٍ الدَّالَانِيُّ ، وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُد وَقَالَ : إنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ عُلَمَائِهِمْ أَنَّ لِلنَّائِمِ أَحَدَ عَشَرَ حَالًا الْمَاشِي ، وَالْقَائِمُ ، وَالْمُسْتَنِدُ ، وَالرَّاكِعُ ، وَالسَّاجِدُ ، وَالْقَاعِدُ ، وَالْمُتَرَبِّعُ ، وَالْمُنْحَنِي ، وَالْمُتَّكِئُ ، وَالرَّاكِبُ ، وَالْمُضْطَجِعُ ، وَالْمُسْتَنْفِرُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حُكْمِ بَعْضِهَا .
فَأَمَّا الْمَاشِي فَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ الْمَالِكِيُّ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ شُعُورِهِ ، وَكَذَلِكَ الْقَائِمُ ، وَأَمَّا الْمُسْتَنِدُ ، فَإِنْ كَانَ قَائِمًا فَقِيلَ هُوَ كَالْمَاشِي ، وَالْقَائِمِ ، وَإِنْ كَانَ جَالِسًا مُمَكَّنًا لَمْ يُنْتَقَضْ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ زَالَ مَسْنَدُهُ لَسَقَطَ انْتَقَضَ ، وَأَمَّا الْمُنْحَنِي فَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ الْجَالِسِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ثَالِثُهَا الْفَرْقُ بَيْنَ النَّحِيفِ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا الْمُتَّكِئُ فَأَجْرَاهُ مَالِكٌ مَجْرَى الْجَالِسِ وَأَجْرَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ حَبِيبٍ مَجْرَى الْمُضْطَجِعِ ، وَأَمَّا الرَّاكِبُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْجَالِسِ الْمُسْتَنِدِ اللَّاصِقِ بِالْأَرْضِ .
وَأَمَّا الْمُسْتَقِرُّ فَقَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ : لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ " الثَّانِيَةُ ، وَالْعِشْرُونَ " مَا ذُكِرَ مِنْ كَوْنِ النَّوْمِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ هُوَ فِي حَقِّ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ النَّوْمُ يَنْقُضُ وُضُوءَهُ فَقَدْ كَانَ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ وَلِهَذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ مُضْطَجِعًا ، ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْكِنَايَةِ عَمَّا يُسْتَحْيَا مِنْهُ إذَا حَصَلَ الْإِفْهَامُ بِالْكِنَايَةِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ يَدَهُ تَمُرُّ عَلَى فَرْجِهِ أَوْ دُبُرِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ بَلْ كَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِفْهَامُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) يَنْبَغِي لِلسَّامِعِ لِأَقْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَلَقَّاهَا بِالْقَبُولِ وَدَفْعِ الْخَوَاطِرِ الرَّادَّةِ لَهَا ، وَأَنَّهُ لَا يَضْرِبُ بِهَا الْأَمْثَالَ فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ شَخْصًا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ وَأَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ مِنْهُ فَاسْتَيْقَظَ مِنْ النَّوْمِ وَيَدُهُ فِي دَاخِلِ دُبُرِهِ مَحْشُوَّةً فَلَمْ تَخْرُجْ حَتَّى تَابَ عَنْ ذَلِكَ وَأَقْلَعَ ، وَالْأَدَبُ مَعَ أَقْوَالِهِ بَعْدَهُ كَالْأَدَبِ مَعَهُ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ سَمِعَهُ يَتَكَلَّمُ فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَحْفَظَ قُلُوبَنَا مِنْ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيئَةِ وَيَرْزُقَنَا الْأَدَبَ مَعَ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ ) أَمْرُ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ النَّوْمِ بِغَسْلِ الْيَدِ ثَلَاثًا قَبْلَ إدْخَالِهَا الْإِنَاءَ هَلْ الْمُرَادُ بِهِمَا غَسْلُ الْكَفَّيْنِ الَّذِي هُوَ سُنَّةٌ فِي أَوَّلِ الْوُضُوءِ أَوْ هَذَا أَمْرٌ آخَرُ بِحَيْثُ أَنَّهُ إذَا غَسَلَ يَدَهُ لِلْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ ثَلَاثًا وَأَرَادَ الْوُضُوءَ غَسَلَ كَفَّيْهِ لَهُ ثَلَاثَةً ؟ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا الْأَوَّلَ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ فِي وَضُوئِهِ فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ غَسْلُهُمَا عِنْدَ الْوُضُوءِ ، وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ النَّوْمِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَلَا يُدْخِلُ يَدَهُ فِي وَضُوئِهِ حَتَّى يَغْسِلَهَا } الْحَدِيثَ .
وَكَذَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ مِنْ رِوَايَةِ ثَابِتٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ نَائِمًا ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَأَرَادَ الْوُضُوءَ فَلَا يَضَعْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ } الْحَدِيثَ .
وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَذَهَبَ أَشْهَبُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّ الْغَسْلَ إنَّمَا هُوَ لِخَشْيَةِ النَّجَاسَةِ ، فَإِنْ تَحَقَّقَ طَهَارَةَ يَدِهِ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ غَسْلُ كَفَّيْهِ فِي الْوُضُوءِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ : تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَك اللَّهُ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ ، ثُمَّ لِيَسْتَنْثِرْ } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ، ثُمَّ لِيَنْثُرْ ، وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ }
( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ ، ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ، ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ } .
فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فَأَخْرَجُوهُ خَلَا ابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ وَمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ هَمَّامٍ ، وَالشَّيْخَانِ ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ } .
وَالشَّيْخَانِ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا } الْحَدِيثَ .
( الثَّانِيَةُ ) الِاسْتِنْشَاقُ هُوَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ خَيَاشِيمَهُ ، وَهُوَ مِنْ اسْتِنْشَاقِ الرِّيحِ إذَا شَمَّهَا مَعَ قُوَّةٍ قَالَهَا الْجَوْهَرِيُّ ، وَالْمَنْخِرُ بِكَسْرِ الْمُعْجَمَةِ وَفِي مِيمِهِ لُغَتَانِ الْفَتْحُ ، وَالْكَسْرُ ، وَالِانْتِثَارُ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّثْرَةِ ، وَهِيَ طَرَفُ الْأَنْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هِيَ الْأَنْفُ وَاخْتُلِفَ فِي حَقِيقَةِ الِانْتِثَارِ .
فَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ هُوَ إخْرَاجُ الْمَاءِ مِنْ الْأَنْفِ بَعْدَ الِاسْتِنْشَاقِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ قُتَيْبَةَ إنَّ الِاسْتِنْثَارَ هُوَ الِاسْتِنْشَاقُ ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ ، ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ بَعْدَ قَوْلِهِ فَلْيَسْتَنْشِقْ .
وَأَمَّا الِاسْتِجْمَارُ فَهُوَ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْأَحْجَارِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْجِمَارِ ، وَهِيَ الْأَحْجَارُ الصِّغَارُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ جُمْهُورُ اللُّغَوِيِّينَ ، وَالْفُقَهَاءِ ،
وَالْمُحَدِّثِينَ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ فِي مَعْنَاهُ قَوْلًا آخَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِجْمَارِ هُنَا الْبَخُورُ مِنْ قَوْلِهِ وَمَجَامِرُهُمْ الْأَلْوَةُ ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ثَلَاثَ قِطَعٍ أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَسْتَعْمِلَ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى قَالَ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ، وَالْإِيتَارُ الْمَأْمُورُ بِهِ أَنْ يَكُونَ عَدَدُ الِاسْتِجْمَارِ وِتْرًا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ .
( الثَّالِثَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ أَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِنْشَاقِ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقَ أَيْضًا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْهُمَا وَجُمْلَةُ الْجُمْهُورِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ عَلَى النَّدْبِ { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ : تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَك اللَّهُ } .
وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الِاسْتِنْشَاقِ وَأَيْضًا ، فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الِانْتِثَارِ مَعَ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ مَعَ عَطْفِهِ عَلَى أَمْرِهِ بِالِاسْتِنْشَاقِ وَلِأَنَّهُ أَمَرَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِالتَّثْلِيثِ فِيهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ اتِّفَاقًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْأَمْرِ لِلنَّدَبِ وَأَجَابَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ بِالِاسْتِنْثَارِ أَمْرًا بِالْوُضُوءِ كَمَا قَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا انْتَهَى .
( الرَّابِعَةُ ) لَيْسَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ وَهَمَّامٍ تَعَرُّضٌ لِعَدَدِ الِاسْتِنْشَاقِ .
وَفِي رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بَيَانُ كَوْنِهِ ثَلَاثًا ، وَهِيَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّثْلِيثِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَسْتَنْشِقُ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَكُفَّ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَيْضًا هَلْ يَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَضْمَضَةِ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا .
وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ إنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِثَلَاثِ
غَرَفَاتٍ وَصَحَّحَ الرَّافِعِيُّ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( الْخَامِسَةُ ) فِي بَيَانِ حِكْمَةِ الِاسْتِنْشَاقِ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ } فَبَيَّنَ سَبَبَ الْأَمْرِ ، وَهُوَ تَطْهِيرُ آثَارِ الشَّيْطَانِ ، وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ احْتِمَالَيْنِ فِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ يَبِيتُ عَلَى الْخَيَاشِيمِ جَمْعُ خَيْشُومٍ ، وَهُوَ أَعْلَى الْأَنْفِ أَوْ هُوَ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ ؛ لِأَنَّ مَا يَنْعَقِدُ مِنْ الْغُبَارِ وَرُطُوبَةِ الْخَيَاشِيمِ قَذَارَةٌ تُوَافِقُ الشَّيْطَانَ .
قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ : وَهَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي نِسْبَتِهِمْ الْمُسْتَخْبَثَ ، وَالْمُسْتَبْشَعَ إلَى الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ } وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ تَكْسِيلِهِ عَنْ الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ كَمَا قَالَ { يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ } الْحَدِيثَ وَلَا مَانِعَ مِنْ الْحَقِيقَةِ ، وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهَا فَقَدْ يُقَالُ هَذَا مَخْصُوصٌ بِالْوُضُوءِ الَّذِي يَعْقُبُ النَّوْمَ ، وَقَدْ حَكَى بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا لِلِاسْتِنْشَاقِ مَعْنًى آخَرَ فَذَكَرُوا أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَقْدِيمِهِ وَتَقْدِيمِ الْمَضْمَضَةِ وَغَسْلِ الْكَفَّيْنِ عَلَى غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْوَاجِبَةِ حَتَّى يَعْرِفَ الْمُتَوَضِّئُ بِذَلِكَ أَوْصَافَ الْمَاءِ الثَّلَاثَةِ ، وَهِيَ الرَّائِحَةُ ، وَالطَّعْمُ ، وَاللَّوْنُ هَلْ هِيَ مُتَغَيِّرَةٌ أَمْ لَا ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَالْعِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَذَكَرَ لَهُ الْخَطَّابِيُّ مَعْنًى آخَرَ فَقَالَ وَتَرَى أَنَّ مُعْظَمَ مَا جَاءَ مِنْ الْحَثِّ ، وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ فِي الْوُضُوءِ إنَّمَا جَاءَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَعُونَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَتَنْقِيَةِ مَجْرَى النَّفْسِ الَّتِي تَكُونُ بِهِ
التِّلَاوَةُ وَبِإِزَالَةِ مَا فِيهِ مِنْ التَّفْلِ تَصِحُّ مَخَارِجُ الْحُرُوفِ .
( السَّادِسَةُ ) مَبِيتُ الشَّيْطَانِ عَلَى الْخَيْشُومِ هَلْ هُوَ لِعُمُومِ النَّائِمِينَ أَوْ مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا يَحْتَرِسُ بِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فِي مَنَامِهِ كَقِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا عِنْدَ النَّوْمِ لَا يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ ، وَأَيُّ قُرْبٍ أَقْرَبُ مِنْ مَبِيتِهِ عَلَى خَيَاشِيمِهِ ؟ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ لَمْ يَقْرَبْهُ أَيْ لَمْ يَقْرَبْ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِيهِ ، وَهُوَ الْقَلْبُ ، وَإِنْ بَاتَ عَلَى الْخَيْشُومِ فَيَكُونُ مَحْفُوظًا مِنْهُ مَعَ الْقُرْبِ مِنْ الْبَدَنِ لَهُ دُونَ الْقَلْبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ ) قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الِاسْتِنْشَاقِ لَا تَحْصُلُ بِإِيصَالٍ الْمَاءِ إلَى الْخَيْشُومِ بَلْ بِالِانْتِثَارِ عَقِبَهُ ؛ لِأَنَّهُ فَائِدَةُ الِاسْتِنْشَاقِ وَبِهِ يُشْعِرُ بَعْضُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا كَاشْتِرَاطِ بَعْضِهِمْ مَجَّ الْمَاءِ مِنْ الْفَمِ فِي حُصُولِ الْمَضْمَضَةِ ، وَإِنْ كَانَ الرَّافِعِيُّ قَدْ جَزَمَ بِالِاكْتِفَاءِ فِيهَا بِإِيصَالِ الْمَاءِ إلَى الْأَنْفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) لَمْ يُفَرِّقْ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ بَيْنَ الصَّائِمِ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ { : وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا } رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلصَّائِمِ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ ، وَأَنَّهُ لَوْ بَالَغَ فَوَصَلَ الْمَاءُ إلَى جَوْفِهِ بَطَلَ صَوْمُهُ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُشْرَعْ لَهُ الْمُبَالَغَةُ بِخِلَافِ مَا وَصَلَ مَعَ عَدَمِ الْمُبَالَغَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( التَّاسِعَةُ ) هَلْ الْمُرَادُ مِنْ الِانْتِثَارِ نَثْرُ الْمَاءِ بِالْيَدِ أَوْ نَثْرُهُ بِرِيحِ الْأَنْفِ ؟ فَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ أَنَّ الِانْتِثَارَ دَفْعُ الْمَاءِ بِرِيحِ الْأَنْفِ ، ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : الِاسْتِنْثَارُ أَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ وَيَسْتَنْثِرَ قِيلَ لِمَالِكٍ أَيَسْتَنْثِرُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ ؟ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْحِمَارُ .
( الْعَاشِرَةُ ) إذَا قُلْنَا يَسْتَنْثِرُ بِيَدِهِ فَهَلْ يُبَاشِرُ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِنْشَاقُ قَبْلَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِشِمَالِهِ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِنْثَارَ يَكُونُ بِشِمَالِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْوَسَخِ الَّذِي فِي الْأَنْفِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ فَقَالَ بِأَيِّ الْيَدَيْنِ يَسْتَنْثِرُ ؟ ثُمَّ رُوِيَ حَدِيثٌ عَلَى أَنَّهُ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَنَثَرَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى فَفَعَلَ هَذَا ثَلَاثًا قَالَ هَذَا طُهْرُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا الِاسْتِنْشَاقُ فَظَاهِرُ حَدِيثِ عُثْمَانَ أَنَّهُ يَكُونُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوُضُوءِ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيّ بِأَيِّ الْيَدَيْنِ يَتَمَضْمَضُ ؟ وَلَكِنْ ذَكَرَ الْقَمُولِيُّ فِي الْجَوَاهِرِ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْمَاءَ لِلْمَضْمَضَةِ بِيَمِينِهِ وَلِلِاسْتِنْشَاقِ بِشِمَالِهِ .
وَبَنَى بَعْضُهُمْ هَذَا عَلَى قَوْلِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ ، وَالِاسْتِنْشَاقِ وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا الْإِتْيَانَ بِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَعًا فَاحْتَاجَ لِمَا ذَكَرْت أَنْ يَأْتِيَ بِأَحَدِهِمَا بِيَمِينِهِ ، وَالْآخَرِ بِشِمَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِهِمَا مَعًا مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ ، وَلَيْسَ مُرَادُ أَصْحَابِنَا بِالْجَمْعِ الْإِتْيَانَ بِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ قَدَّمَ الْمَرَّاتِ الثَّلَاثَ لِلْمَضْمَضَةِ أَوْ قَدَّمَ مَرَّةً مِنْ
الْمَضْمَضَةِ وَعَقَّبَهَا بِمَرَّةٍ مِنْ الِاسْتِنْشَاقِ وَهَكَذَا هَذَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ وَالرَّافِعِيِّ نَعَمْ كَلَامُ الرُّويَانِيِّ فِي الْبَحْرِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا هُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يُقَدِّمُ الْمَضْمَضَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشَرَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الْإِيتَارَ وَاجِبٌ فِي الِاسْتِجْمَارِ ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ ، وَأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَحْصُلْ الِانْتِقَاءُ إلَّا بِأَرْبَعِ مَسَحَاتٍ وَجَبَتْ الْخَامِسَةُ أَوْ بِسِتَّةٍ وَجَبَتْ السَّابِعَةُ لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ الْإِيتَارَ بَعْدَ الثَّلَاثِ ، وَالْإِنْقَاءَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ فِي الْأَمْرِ بِالْإِيتَارِ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْإِيتَارِ ، وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ فِي بَابِ الِاسْتِجْمَارِ فَحَمْلُ الْجُمْهُورِ الْحَدِيثَ إمَّا عَلَى وُجُوبِ الثَّلَاثِ أَوْ عَلَى النَّدْبِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ بَعْدَ الْإِنْقَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةَ عَشَرَ ) اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِقَوْلِهِ { : مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ } أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِنْجَاءُ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الِاسْتِجْمَارِ وَتَرْكِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ فَقَدْ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي إدْرِيسَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا { مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ } وَلَيْسَ هُوَ مُخَيَّرًا فِي الْوُضُوءِ فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِجْمَارِ عَلَى أَنَّا لَا نَقُولُ يَتَعَيَّنُ الِاسْتِجْمَارُ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الِاسْتِجْمَارَ بِالْأَحْجَارِ فَهُوَ حِينَئِذٍ مَأْمُورٌ بِالْإِيتَارِ وَلَيْسَ فِيهِ عَدَمُ وُجُوبِ الْأَمْرَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةَ عَشَرَ ) إذَا حَمَلْنَا الِاسْتِجْمَارَ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ عَنْ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْمُرَادَ التَّبْخِيرُ فَمَحْمَلُ الْأَمْرِ بِالْإِيتَارِ حِينَئِذٍ عَلَى النَّدْبِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَعَلَى هَذَا فَيُسْتَحَبُّ التَّطَيُّبُ ، وَالتَّبَخُّرُ ثَلَاثًا وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَسْتَحِبُّ الْوِتْرَ فِي تَجْمِيرِ ثِيَابِهِ وَكَانَ يَسْتَعْمِلُ
الْعُمُومَ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ فَكَانَ يَسْتَجْمِرُ بِالْأَحْجَارِ وِتْرًا وَكَانَ يُجَمِّرُ ثِيَابَهُ وِتْرًا تَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُسْتَعْمِلًا عُمُومَ الْخِطَابِ .
وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ : { أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِلَالًا فَقَالَ : يَا بِلَالُ بِمَ سَبَقْتَنِي إلَى الْجَنَّةِ ؟ مَا دَخَلْت الْجَنَّةَ قَطُّ إلَّا سَمِعْت خَشْخَشَتَك أَمَامِي إنِّي دَخَلْت الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْت خَشْخَشَتَك فَأَتَيْت عَلَى قَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُرْتَفِعٍ مُشَرَّفٍ فَقُلْت : لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ قَالُوا لِرَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ ؛ قُلْت أَنَا عَرَبِيٌّ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ قَالُوا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، قُلْت فَأَنَا مُحَمَّدٌ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ قَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا غَيْرَتُك يَا عُمَرُ لَدَخَلْت الْقَصْرَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا كُنْت لِأَغَارَ عَلَيْك قَالَ وَقَالَ لِبِلَالٍ : بِمَ سَبَقْتَنِي إلَى الْجَنَّة ؟ قَالَ : مَا أَحْدَثْتُ إلَّا تَوَضَّأَتْ وَصَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ : فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ صَحِيح عَلَى شَرْط الشَّيْخَيْنِ .
( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ { : أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِلَالًا يَا بِلَالُ بِمَ سَبَقْتنِي إلَى الْجَنَّةِ مَا دَخَلْت الْجَنَّةَ قَطُّ إلَّا سَمِعْت خَشْخَشَتَك أَمَامِي إنِّي دَخَلْت الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْت خَشْخَشَتَك فَأَتَيْت عَلَى قَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُرْتَفِعٍ مُشَرَّفٍ فَقُلْت لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ قَالُوا لِرَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ قُلْت أَنَا عَرَبِيٌّ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ قَالُوا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ قُلْت فَأَنَا مُحَمَّدٌ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ قَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْلَا غَيْرَتُك يَا عُمَرُ لَدَخَلْت الْقَصْرَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنْت لِأَغَارَ عَلَيْك قَالَ وَقَالَ لِبِلَالٍ بِمَ سَبَقْتنِي إلَى الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ مَا أَحْدَثْت إلَّا تَوَضَّأْت وَصَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ الْحَدِيثُ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .
فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) حَدِيثُ بُرَيْدَةَ هَذَا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إفْرَادِ التِّرْمِذِيِّ فَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ حَدِيثِهِ أَخْرَجَاهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ : يَا بِلَالُ أَخْبِرْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْته فِي الْإِسْلَامِ ، فَإِنِّي سَمِعْت دَفَّ نَعْلَيْك بَيْنَ يَدَيْ فِي الْجَنَّةِ قَالَ مَا عَمِلْت عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي مِنْ أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إلَّا صَلَّيْت بِذَلِكَ الطَّهُورِ مَا كَتَبْت لِي أَنْ أُصَلِّيَ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ .
وَقَالَ مُسْلِمٌ { : فَإِنِّي سَمِعْت اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْك } الْحَدِيثَ وَقَالَ { مِنْ أَنِّي لَا أَتَطَهَّرُ طَهُورًا تَامًّا } الْحَدِيثَ وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { دَخَلْت الْجَنَّةَ ، فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ وَسَمِعْت خَشْفَةً فَقُلْت مَنْ هَذَا فَقَالَ هَذَا بِلَالٌ وَرَأَيْت قَصْرًا بِفِنَائِهِ جَارِيَةٌ فَقُلْت لِمَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ لِعُمَرَ فَأَرَدْت أَنْ أَدْخُلَهُ فَأَنْظُرَ إلَيْهِ فَذَكَرْت غَيْرَتَك فَقَالَ عُمَرُ بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَيْكَ أَغَارُ } ؟ لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قِصَّةُ عُمَرَ دُونَ ذِكْرِ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ قَصِّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ عَلَى أَصْحَابِهِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قَصُّهَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَالِانْصِرَافِ مِنْ الصَّلَاةِ وَلِذَلِكَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى الْغَدَاةَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا } الْحَدِيثَ ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ .
( الرَّابِعَةُ ) وَفِيهِ أَنَّهُ إذَا رَأَى لِصَاحِبِهِ خَيْرًا يُبَشِّرُهُ بِهِ ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ .
( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ أَنَّ مَنْ رَأَى لِصَاحِبِهِ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ فِعْلِهِ لِشَيْءٍ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا اسْتَحَقَّ بِهِ ذَلِكَ لِيَحُضَّهُ عَلَيْهِ وَيُرَغِّبَهُ فِيهِ لِيَدُومَ عَلَيْهِ .
( السَّادِسَةُ ) فِيهِ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ وَوَحْيٌ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ : بِمَ سَبَقْتنِي إلَى الْجَنَّةِ فَجَزَمَ بِسَبَقِهِ اعْتِمَادًا عَلَى رُؤْيَاهُ لِذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَاهُ يَجُوزُ وُقُوعُهَا ، وَالْخُلْفُ فِيهَا كَغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَجْزِمْ بِسَبَقِهِ بِجَوَازِ الْخُلْفِ فِي مَنَامِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ ) فِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِبِلَالٍ بِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ قَطُّ إلَّا سَمِعَ خَشْخَشَتَهُ أَمَامَهُ ، وَهَذَا شَرَفٌ عَرِيضٌ .
( الثَّامِنَةُ ) الْخَشْخَشَةُ
بِتَكْرَارِ الْخَاءِ ، وَالشَّيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ مَفْتُوحَ الْأَوَّلِ وَذَكَرَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي ذَيْلِهِ عَلَى الْغَرِيبَيْنِ أَنَّ الْخَشْخَشَةَ حَرَكَةٌ لَهَا صَوْتٌ كَصَوْتِ السِّلَاحِ ، وَهِيَ أَيْضًا بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ خَشْفَ نَعْلَيْك ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَفِي آخِرِهِ فَاءٌ فَقِيلَ هُوَ الْحَرَكَةُ وَقِيلَ الصَّوْتُ قَالَهُ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ .
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ بِزِيَادَةِ الْهَاءِ فِي آخِرِهِ فَفِي الشِّينِ فِيهَا وَجْهَانِ الْحَرَكَةُ ، وَالْإِسْكَانُ فَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى وَقِيلَ الْمُحَرَّكُ بِمَعْنَى الْحَرَكَةِ ، وَالسَّاكِنُ بِمَعْنَى الْحِسِّ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ دَفَّ نَعْلَيْك فَاخْتُلِفَ فِي ضَبْطِهِ فَقِيلَ هُوَ بِالدَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَقِيلَ بِالْمُهْمَلَةِ ، وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ ، وَالْمُرَادُ صَوْتُهُمَا عِنْدَ الْوَطْءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( التَّاسِعَةُ ) إنْ قِيلَ مَا مَعْنَى رُؤْيَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبِلَالٍ أَمَامَهُ فِي الْجَنَّةِ كُلَّمَا دَخَلَ مَعَ كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَكَيْفَ مَعْنَى تَقَدُّمِ بِلَالٍ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الرُّؤْيَا ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي هَذِهِ الرُّؤْيَا أَنَّهُ يَدْخُلُهَا قَبْلَهُ فِي الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّمَا رَآهُ أَمَامَهُ فِي مَنَامِهِ ، وَأَمَّا الدُّخُولُ حَقِيقَةً فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُهَا مُطْلَقًا ، وَأَمَّا هَذَا الدُّخُولُ فَالْمُرَادُ بِهِ سَرَيَانُ الرُّوحِ فِي حَالَةِ النَّوْمِ فَلَا إشْكَالَ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَدْ حَكَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سَبْقَ بِلَالٍ إلَى الْجَنَّةِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْحَدَثِ ، وَالصَّلَاةِ بَعْدَهُ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ خَصْلَةً أُخْرَى { فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَذَّنْتُ قَطُّ إلَّا صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ ، وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إلَّا تَوَضَّأْتُ عِنْدَهَا وَرَأَيْت أَنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا } فَزَادَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْأَذَانِ وَكَوْنُهُ يَرَى أَنَّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْوُضُوءِ لِلَّهِ رَكْعَتَيْنِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ رِوَايَةِ أَحْمَدَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا هَذَا ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ بِهِمَا يَحْتَمِلُ عَوْدَهُ إلَى الْخَصْلَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ وَهُمَا الْوُضُوءُ عِنْدَ الْحَدَثِ ، وَالصَّلَاةُ بَعْدَهُ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَتَكُونُ الصَّلَاةُ عِنْدَ الْأَذَانِ لَهَا ثَوَابٌ آخَرُ .
وَأَمَّا زِيَادَتُهُ كَوْنُهُ يَرَى أَنَّ لِلَّهِ رَكْعَتَيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ مُنَافَاةٌ لِرِوَايَةِ أَحْمَدَ ، وَقَدْ اشْتَرَكَا فِي ذِكْرِ الصَّلَاةِ عَقِبَ الْوُضُوءِ وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ مَا يَنْفِي كَوْنَهُ يَرَى ذَلِكَ وَرُبَّمَا كَانَ الثَّوَابُ مُتَرَتِّبًا عَلَى الْفِعْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشَرَ ) هَلْ يَظْهَرُ لِمُجَازَاتِهِ بِهَذَا عَلَى هَذَا الْفِعْلِ مُنَاسَبَةٌ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ لِذَلِكَ مُنَاسَبَةً ، وَهُوَ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُدِيمُ الطَّهَارَةَ فَمَنْ لَازَمَهُ أَنَّهُ كَانَ يَبِيتُ عَلَى طَهَارَةٍ ، وَقَدْ جَاءَ فِي النَّوْمِ عَلَى طَهَارَةٍ مَا يَقْتَضِي عُرُوجَ الرُّوحِ وَسُجُودَهَا تَحْتَ الْعَرْشِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْفِرْدَوْسَ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَسَقْفَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الْأَرْوَاحَ يُعْرَجُ بِهَا فِي مَنَامِهَا إلَى السَّمَاءِ فَتُؤْمَرُ بِالسُّجُودِ عِنْدَ الْعَرْشِ فَمَنْ بَاتَ طَاهِرًا سَجَدَ عِنْدَ الْعَرْشِ وَمَنْ كَانَ لَيْسَ بِطَاهِرٍ سَجَدَ بَعِيدًا مِنْ الْعَرْشِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : هَكَذَا جَاءَ مَوْقُوفًا انْتَهَى .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَنْ نَامَ طَاهِرًا نَامَ فِي شِعَارِ مَلَكٍ وَصِفَةُ الْمَلَائِكَةِ الْعُلُوُّ فَكَانَ فِيهِ مُنَاسَبَةٌ لِعُلُوِّ رُوحِهِ وَصُعُودِهَا إلَى الْجِنَانِ ، وَذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَاتَ طَاهِرًا بَاتَ فِي شِعَارِ مَلَكٍ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا قَالَ الْمَلَكُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِك فُلَانٍ ، فَإِنَّهُ نَامَ طَاهِرًا } أَوْرَدَهُ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ فَجَعَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ فَجَعَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةَ عَشَرَ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ دَوَامِ الطَّهَارَةِ ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ عَقِبَ الْحَدَثِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُ صَلَاةٍ وَلَمْ يُرِدْ الصَّلَاةَ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ } فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ دَوَامُ
الْوُضُوءِ لَا الْوُضُوءُ الْوَاجِبُ فَقَطْ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةَ عَشَرَ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ عَقِبَ الْوُضُوءِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ .
( الرَّابِعَةَ عَشَرَ ) فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ اسْتِحْبَابُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْأَذَانِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ } ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيْنَ الْأَذَانِ ، وَالْإِقَامَةِ وَرُبَّمَا قَرُبَتْ الْإِقَامَةُ فَكَانَ فِعْلُهَا عَقِبَ الْأَذَانِ أَوْلَى .
( الْخَامِسَةَ عَشَرَ ) وَفِيهِ أَيْضًا اسْتِحْبَابُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ أَيْضًا ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : صَلُّوا قَبْلَ الْمَغْرِبِ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ { كُنَّا نَفْعَلُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَلَهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ { رَأَيْت كِبَارَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ } .
وَقَالَ مُسْلِمٌ { : فَإِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ فَرَكَعُوا رَكْعَتَيْنِ حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَحْسِبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهِمَا } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { كُنَّا نُصَلِّي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ فَقِيلَ لَهُ أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّاهَا ؟ قَالَ كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهَا فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا } .
( السَّادِسَةَ عَشَرَ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ مَوْجُودَةٌ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي تَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى إبْطَالِ مَا زَعَمُوهُ .
( السَّابِعَةَ عَشَرَ ) قَوْلُهُ بِمَ سَبَقْتنِي إلَى الْجَنَّةِ هَكَذَا فِي الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ مِنْ الْمُسْنَدِ عَلَى الصَّوَابِ بِمَ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْمِيمِ وَوَقَعَ فِي سَمَاعِنَا مِنْ التِّرْمِذِيِّ بِمَا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ ، وَهِيَ لُغَةُ الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى { لِمَ أَذِنْت لَهُمْ } { وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ } .
( الثَّامِنَةَ عَشَرَ ) وَقَعَ فِي الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ مِنْ الْمُسْنَدِ فَأَتَيْت عَلَى قَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ مُرْتَفِعٍ مُشَرَّفٍ فَمُرْتَفِعٌ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ ، وَالْفَاءُ مِنْ الِارْتِفَاعِ وَمُشَرَّفٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا وَآخِرُهُ فَاءٌ ، وَمَعْنَاهُ لَهُ شُرُفَاتٌ كَعَادَةِ الْقُصُورِ وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ مُشْرِفٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الشِّينِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنَى مُرْتَفِعٍ فَيَكُونُ تَكْرَارًا وَحَمْلُهُ عَلَى زِيَادَةِ مَعْنًى آخَرَ أَوْلَى مَعَ مُوَافَقَةِ الرِّوَايَةِ وَوَقَعَ فِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مُرَبَّعٌ مُشَرَّفٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ ، وَالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ مِنْ التَّرْبِيعِ ، وَهُوَ كَوْنُهُ ذَا أَرْبَاعٍ لَا مُدَوَّرًا كَالدَّائِرَةِ وَإِلَّا كَثُرَ فِي الرِّوَايَةِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مُشَرَّفٌ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ مُرْتَفِعٌ وَلَا مُنَافَاةَ حِينَئِذٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّرْبِيعِ الْمُتَقَدِّمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( التَّاسِعَةَ عَشَرَ ) مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَرِّحْ لَهُ بِالْجَوَابِ عَمَّا سَأَلَ عَنْهُ بِاسْمِ مَنْ لَهُ الْقَصْرُ بَلْ قِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ بَعْدَهُ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ قَالُوا لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قُلْت أَنَا قُرَشِيٌّ ، ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى قَوْلِهِ لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْحَدِيثَ فَلَمْ يُسَمِّ عُمَرَ إلَّا فِي الرَّابِعَةِ عَلَى رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَفِي الثَّالِثَةِ عَلَى رِوَايَةِ الْمُسْنَدِ ، وَكَذَلِكَ رَدَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا عَرَبِيٌّ أَنَا قُرَشِيٌّ أَنَا مُحَمَّدٌ فَهَلْ كَانَ ذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَصْرُ لَهُ أَوْ لِمَعْنًى آخَرَ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَيَانُ فَضِيلَةِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَكَوْنُهُ مِنْ الْعَرَبِ أَفْضَلَ وَأَرْفَعَ مِنْ كَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا وَكَوْنُهُ مِنْ قُرَيْشٍ أَفْضَلَ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ عَرَبِ غَيْرِ قُرَيْشٍ وَكَوْنُهُ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ أَفْضَلَ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الْأُمَّةِ لِمَوْتِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَأُرِيدَ بِتَكْرَارِ الْجَوَابِ ، وَالسُّؤَالِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا عَرَبِيٌّ أَنَا قُرَشِيٌّ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَهُ تَجْوِيزًا لِكَوْنِهِ لَهُ إذْ فِيهِ ذَلِكَ الْوَصْفُ الَّذِي ذَكَرَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَا مُحَمَّدٌ فَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَلَكِنَّهُ عَرَفَ عُلُوَّ مَنْزِلَتِهِ عَلَى مَنْ لَهُ الْقَصْرُ ، وَأَنَّهُ بَلَغَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مِنْ أُمَّتِهِ وَأَرَادَ مَعْرِفَةَ مَنْ لَهُ لِيُبَشِّرَ صَاحِبَهُ كَمَا وَقَعَ أَوْ لِيَعْرِفَ مَنْزِلَةَ صَاحِبِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَائِدَةُ الْعِشْرُونَ ) فِيهِ مُعَامَلَةُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ أَخْلَاقِهِمْ ، وَمَا فُطِرُوا عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَرَفَ غَيْرَةَ عُمَرَ لَمْ يَدْخُلْ مَنْزِلَهُ فِي غَيْبَتِهِ ، وَإِنْ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْمَنُهُ عَلَى الدِّينِ ، وَالدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ عُمَرُ مَا كُنْت لِأَغَارَ عَلَيْك ، وَإِنْ حَصَلَتْ الْغَيْرَةُ فَعَلَى غَيْرِهِ وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوَ يُغَارُ عَلَيْك أَنْكَرَ عُمَرُ وُجُودَ الْغَيْرَةِ مِنْ أَحَدٍ مُطْلَقًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِظَمِ حَقِّهِ وَأَمَانَتِهِ عَلَى حُقُوقِ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ .
( الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) فِيهِ ذَمُّ الْغَيْرَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الرِّيبَةِ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ أَنْكَرَ وُجُودَ الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ وَأَقَرَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ { مِنْ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ ، وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ } الْحَدِيثَ .
بَابُ السِّوَاكِ وَخِصَالِ الْفِطْرَةِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ } زَادَ الْبُخَارِيُّ { مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ } وَقَالَ مُسْلِمٌ { عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } وَفِي رِوَايَةِ لِلْبُخَارِيِّ عَلَّقَهَا { مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ } وَأَسْنَدَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهَا
بَابُ السِّوَاكِ وَخِصَالِ الْفِطْرَةِ " الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ " عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ } فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) اخْتَلَفَتْ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ فِي لَفْظِهِ فَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ وَجَمَاعَةٌ مَا تَقَدَّمَ وَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَزَادَ { مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَآخَرُونَ { عَلَى أُمَّتِي } فَقَطْ وَلَمْ يَقُولُوا أَوْ عَلَى النَّاسِ وَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ وَأَيُّوبُ بْنُ صَالِحٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَوْ عَلَى النَّاسِ وَكَذَا قَالَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ أَيْضًا عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَزَادَ أَيْضًا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي رِوَايَتِهِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَكَذَا قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا فَزَادُوا فِيهِ { مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ } كَذَا رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ حَرْمَلَةَ وَرَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ وَبِشْرِ بْنِ عُمَرَ الزَّهْرَانِيِّ وَإِسْمَاعِيلِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ عُمَرَ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ رَوْحٍ وَإِسْمَاعِيلَ .
وَقَدْ ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا فَقَالَ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَوَصَلَهَا ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهَا وَهِيَ فِي الْمُوَطَّإِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَيْسَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ذِكْرُ الْوُضُوءِ وَفِي بَعْضِهَا ذِكْرُهُ عَلَى الشَّكِّ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ .
( الثَّالِثَةُ ) السِّوَاكُ بِكَسْرِ السِّينِ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ وَعَلَى الْعُودِ الَّذِي يُسْتَاكُ بِهِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ عَلَى الصَّحِيحِ وَحَكَى صَاحِبُ الْمُحْكَمِ فِيهِ التَّأْنِيثَ أَيْضًا وَغَلَّطَ الْأَزْهَرِيُّ الْقَوْلَ بِالتَّأْنِيثِ وَاخْتَلَفَ فِي مَأْخَذِهِ فَقِيلَ مِنْ سَاكَ إذَا دَلَّكَ يُقَالُ سَاكَ فَمَه يَسُوكُهُ سَوْكًا وَقِيلَ هُوَ مِنْ جَاءَتْ الْإِبِلُ تُسَاوِكُ هِزَالًا .
( الرَّابِعَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ قَالَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا أَمَرَهُمْ بِهِ شَقَّ عَلَيْهِمْ أَوْ لَمْ يَشُقَّ انْتَهَى .
وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ دَاوُد أَوْجَبَهُ لِلصَّلَاةِ وَكَذَا حَكَى أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ دَاوُد وُجُوبَهُ وَحَكَى أَيْضًا عَنْ إِسْحَاقَ وُجُوبَهُ وَأَنَّهُ إنْ تَرَكَهُ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ قَالَ النَّوَوِيُّ .
وَقَدْ أَنْكَرَ أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ نَقْلَ الْوُجُوبِ عَنْ دَاوُد وَقَالُوا مَذْهَبُهُ أَنَّهُ سُنَّةٌ كَالْجَمَاعَةِ قَالَ : وَلَوْ صَحَّ إيجَابُهُ عَنْ دَاوُد لَمْ تَضُرَّ مُخَالَفَتُهُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْمُخْتَارِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ قَالَ : وَأَمَّا إِسْحَاقُ فَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْهُ .
( الْخَامِسَةُ ) كَلِمَةُ لَوْلَا حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْأَمْرِ لِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ ، وَالْمَنْفِيُّ إنَّمَا هُوَ الْوُجُوبُ دُونَ الِاسْتِحْبَابِ اتِّفَاقًا فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَاتٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَصْحَابِ الْأُصُولِ قَالَ : وَهَذَا الِاسْتِدْلَال يَحْتَاجُ فِي تَمَامِهِ إلَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ كَانَ مَسْنُونًا حَالَتَئِذْ .
( السَّادِسَةُ ) فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ فَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَسَوَّكُوا فَإِنَّ السِّوَاكَ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ } الْحَدِيثَ ، وَرَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : تَدْخُلُونَ عَلَيَّ قُلْحًا اسْتَاكُوا } .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ تَمَّامِ بْنِ الْعَبَّاسِ بِلَفْظِ { مَا لِي أَرَاكُمْ تَأْتُونِي قُلْحًا اسْتَاكُوا } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ { تَدْخُلُونَ عَلَيَّ قُلْحًا اسْتَاكُوا } .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا { عَلَيْك بِالسِّوَاكِ فَإِنَّهُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ } الْحَدِيثَ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْأَمْرُ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ ، أَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَفِيهِ عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ الْأَلْهَانِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْعَبَّاسِ وَحَدِيثُ تَمَّامٍ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَوَّلُ أَيْضًا فَفِيهَا أَبُو عَلِيٍّ الصَّيْقَلِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ قَالَهُ ابْنُ السَّكَنِ وَغَيْرُهُ .
، وَأَمَّا
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَخِيرُ فَتَفَرَّدَ بِهِ الْخَلِيلُ بْنُ مُرَّةَ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ .
وَالْوَجْهُ ( الثَّانِي ) أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ لَيْسَ الْمَنْفِيُّ فِيهِ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بَلْ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ لِلْوُجُوبِ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَفَرَضْت عَلَيْهِمْ السِّوَاكَ مَعَ الْوُضُوءِ } الْحَدِيثَ وَأَيْضًا فَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ الَّذِي فِيهِ الْأَمْرُ قَالَ فِي تَتِمَّةِ الْحَدِيثِ { وَلَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَفَرَضْته عَلَيْهِمْ } وَكَذَا قَالَ أَحْمَدُ فِي حَدِيثِ تَمَّامٍ { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَفَرَضْت عَلَيْهِمْ السِّوَاكَ كَمَا فَرَضْت عَلَيْهِمْ الْوُضُوءَ } .
وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { مَا لِي أَرَاكُمْ تَأْتُونِي قُلْحًا لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَفَرَضْت عَلَيْهِمْ السِّوَاكَ } الْحَدِيثَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ أَمْرُ الْإِيجَابِ لَا الْأَمْرُ الَّذِي مَحْمَله النَّدْبُ .
وَالْوَجْهُ ( الثَّالِثُ ) أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْفِيَّ الْأَمْرُ بِهِ مُطْلَقُ السِّوَاكِ فَقَدْ دَلَّتْ رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ عَلَى تَقْيِيدِ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ ، وَالْمَنْفِيُّ مَعَ الْقَيْدِ غَيْرُ الْمَنْفِيِّ مُطْلَقًا وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ أَوْ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ وَلَوْ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ فِي الشَّهْرِ أَوْ فِي السَّنَةِ أَوْ فِي الْعُمْرِ فَلَا تَعَارُضَ حِينَئِذٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اُتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ مَطْلُوبٌ وَمُقْتَضَاهُ كَمَا قَدْ حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي قَالَ النَّوَوِيُّ وَيُقَالُ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوُجُوبِ .
( الثَّامِنَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَوَجْهُهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَشَقَّةَ سَبَبًا لِعَدَمِ أَمْرِهِ فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَوَقِّفًا لَكَانَ سَبَبُ انْتِفَاءِ أَمْرِهِ عَدَمَ وُرُودِ النَّصِّ لَا وُرُودَ الْمَشَقَّةِ قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابِ الْأُصُولِ وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : إنَّ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ احْتِمَالًا لِلْبَحْثِ ، وَالتَّأْوِيلِ .
( التَّاسِعَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِعُمُومِ رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ .
وَرِوَايَةِ النَّسَائِيّ وَابْنِ خُزَيْمَةَ ، وَالْحَاكِمِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ عَلَى اسْتِحْبَابِ السِّوَاكِ لِلصَّائِمِ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ وَعِنْدَ الْوُضُوءِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالْمُزَنِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ : إنَّهُ الْمُخْتَارُ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ { : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَسَوَّكُ مَا لَا أُحْصِي وَهُوَ صَائِمٌ } وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكْرَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ لِلصَّائِمِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَيَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ بِهَذَا الْوَقْتِ يَخُصُّ بِهِ ذَلِكَ الْعُمُومَ وَهُوَ حَدِيثُ الْخَلُوفِ وَفِيهِ بَحْثٌ انْتَهَى ، وَسَيَأْتِي تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي الصِّيَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( الْعَاشِرَةُ ) اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ مَعَ كُلِّ وُضُوءٍ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ السِّوَاكَ مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا قَالَ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ الْوَجْهُ قَالَ وَلَمْ يَعُدَّهُ كَثِيرُونَ مِنْ سُنَنِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا فِي ابْتِدَائِهِ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَ ) فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ اسْتِحْبَابُ السِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَهُوَ كَذَلِكَ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَمَّنْ أَدْرَكَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تَأَكُّدَهُ عِنْدَ صَلَاتَيْ الصُّبْحِ ، وَالظُّهْرِ ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا { صَلَاةٌ بِسِوَاكٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صَلَاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ } .
قَالَ الْحَاكِمُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مُشْكِلِ الْوَسِيطِ ، وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِالْعَنْعَنَةِ وَهُوَ مُدَلِّسٌ فَلَا يَصِحُّ زَادَ النَّوَوِيُّ وَالْمُدَلَّسُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ سَمَاعَهُ لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ بِلَا خِلَافٍ .
قُلْت وَقَوْلُهُ بِلَا خِلَافٍ لَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلْ فِيهِ الْخِلَافُ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ وَأَوْلَى بِالصِّحَّةِ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ سُقُوطِ أَحَدٍ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِيهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَضَعَّفَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ أَيْضًا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ وَقَالَ إنَّهُ بَاطِلٌ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَ ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : السِّرُّ فِي اسْتِحْبَابِ السِّوَاكِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ أَنَّا مَأْمُورُونَ فِي كُلِّ حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ نَكُونَ فِي حَالَةِ كَمَالٍ وَنَظَافَةٍ إظْهَارًا لِشَرَفِ الْعِبَادَةِ قَالَ : وَقَدْ قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ مُتَعَلِّقٍ بِالْمَلَكِ وَهُوَ أَنْ يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِي الْقَارِئِ وَيَتَأَذَّى بِالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ فَسُنَّ السِّوَاكُ لِأَجْلِ ذَلِكَ انْتَهَى قُلْت قَدْ وَرَدَ هَذَا مَرْفُوعًا رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الْعَبْدَ إذَا تَسَوَّكَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَامَ الْمَلَكُ خَلْفَهُ فَيَسْمَعُ لِقِرَاءَتِهِ فَيَدْنُو مِنْهُ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ فَمَا يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ
شَيْءٌ إلَّا صَارَ فِي جَوْفِ الْمَلَكِ فَطَهِّرُوا أَفْوَاهَكُمْ لِلْقُرْآنِ } وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إلَّا أَنَّ فِيهِ فُضَيْلٍ بْنَ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيَّ وَهُوَ وَإِنْ أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ فَقَدْ ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ وَآخِرُ الْحَدِيثِ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ إنَّ أَفْوَاهَكُمْ طُرُقٌ لِلْقُرْآنِ فَطَيِّبُوهَا بِالسِّوَاكِ وَفِيهِ بَحْرُ بْنُ كَثِيرٍ السَّقَّا ضَعِيفٌ جِدًّا .
وَقَدْ رَفَعَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ( قُلْت ) : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ حِكْمَتُهُ عِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ مَا وَرَدَ أَنَّهُ يَقْطَعُ الْبَلْغَمَ ، وَيَزِيدُ فِي الْفَصَاحَةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَائِدَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَ ، وَتَقْطِيعُ الْبَلْغَمِ مُنَاسِبٌ لِلْقِرَاءَةِ لِئَلَّا يَطْرَأَ عَلَيْهِ فَيَمْنَعَهُ الْقِرَاءَةَ وَكَذَلِكَ الْفَصَاحَةُ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَ ) أُطْلِقَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ ذِكْرُ السِّوَاكِ مُطْلَقًا وَهُوَ يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَهُ مُطْلَقًا ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ فِي أَحْوَالٍ مِنْهَا عِنْدَ الْوُضُوءِ وَإِرَادَةِ الصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ } ، وَقَدْ يُقَالُ الْمُرَادُ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ لِلصَّلَاةِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ السِّوَاكَ لِلصَّلَاةِ أَوْ عِنْدَ الْوُضُوءِ وَمِنْهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَائِدَةِ قَبْلَهَا حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ وَمِنْهَا تَغَيُّرُ الْفَمِ سَوَاءٌ فِيهِ تَغَيُّرُ الرَّائِحَةِ أَوْ تَغَيُّرُ اللَّوْنِ كَصُفْرَةِ الْأَسْنَانِ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ وَمِنْهَا دُخُولُ الْمَنْزِلِ جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ مِنْ زَوَائِدِهِ فِي الرَّوْضَةِ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ يَبْدَأُ بِالسِّوَاكِ } .
وَمِنْهَا إرَادَةُ النَّوْمِ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي الرَّوْنَقِ وَوَرَدَ فِيهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَاكُ إذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ } وَفِيهِ حَرَامُ بْنُ عُثْمَانَ ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ قُلْت وَمِنْهَا الِانْصِرَافُ مِنْ صَلَاةُ اللَّيْلِ لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَسْتَاكُ } .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَ ) فِي فَوَائِدِ السِّوَاكِ مُطْلَقًا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { عَلَيْك بِالسِّوَاكِ فَإِنَّهُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ مَفْرَحَةٌ لِلْمَلَائِكَةِ يَزِيدُ فِي الْحَسَنَاتِ ، وَهُوَ مِنْ السُّنَّةِ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُذْهِبُ الْخُضْرَةَ وَيَشُدُّ اللِّثَةَ وَيُذْهِبُ الْبَلْغَمَ وَيُطَيِّبُ الْفَمَ } وَزَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَيُصِحُّ الْمَعِدَةَ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ غَيْرِ الْبَيْهَقِيّ ، وَيَزِيدُ فِي الْفَصَاحَةِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ الْخَلِيلُ بْنُ مُرَّةَ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ انْتَهَى .
وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو زُرْعَةَ : شَيْخٌ صَالِحٌ وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ وَضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ وَصَدْرُ الْحَدِيثِ صَحِيحُ رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ } وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَ ) فِيمَا يُسْتَحَبُّ السِّوَاكُ بِهِ وَيَصِحُّ ، ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ السِّوَاكَ يَكُونُ بِقُضْبَانِ الْأَشْجَارِ قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاطِ لَكِنَّهَا أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا قَالَ : وَالْأَوْلَى مِنْهَا الْأَرَاكُ قَالَ ، وَالْأَحَبُّ أَنْ يَكُونَ يَابِسًا لُيِّنَ بِالْمَاءِ قَالَ : وَأَصْلُ السُّنَّةِ تَتَأَدَّى بِكُلِّ خَشِنٍ يَصْلُحُ لِإِزَالَةِ الْقُلْحِ كَالْخِرْقَةِ ، وَالْخَشَبَةِ وَنَحْوِهَا نَعَمْ لَوْ كَانَ جُزْءًا مِنْهُ كَأُصْبُعِهِ الْخَشِنَةِ فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَظْهَرُهَا لَا يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى اسْتِيَاكًا .
وَالثَّانِي يُجْزِئُ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الِاسْتِيَاكِ بِهِ ، وَالثَّالِثُ إنْ قَدَرَ عَلَى الْعُودِ وَنَحْوِهِ فَلَا يُجْزِئُ وَإِلَّا فَيُجْزِئُ لِمَكَانِ الْعُذْرِ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ بِأُصْبُعِهِ الْخَشِنَةِ احْتِرَازًا مِمَّا إذَا كَانَتْ نَاعِمَةً فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُ الِاسْتِيَاكُ بِهَا قَطْعًا لِعَدَمِ إزَالَةِ الْقُلْحِ وَقَوْلُهُ بِأُصْبُعِهِ لِيُخْرِجَ بِهِ أُصْبُعَ غَيْرِهِ ، وَقَدْ جَزَمَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَدَقَائِقِ الْمِنْهَاجِ أَنَّهُ يُجْزِئُ بِهَا قَطْعًا ، وَمَا أَدْرِي مَا وَجْهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أُصْبُعِهِ وَأُصْبُعِ غَيْرِهِ وَكَوْنُهُ جُزْءًا مِنْهُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي مَنْعَهُ بَلْ كَوْنُهَا أُصْبُعَهُ أَبْلَغَ فِي الْإِزَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ تَمَكُّنِ غَيْرِهِ أَنْ يَسُوكَهُ بِأُصْبُعِهِ لَا جَرَمَ .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ الْمُخْتَارُ أُخْرَاهُ مُطْلَقًا قَالَ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمَحَامِلِيُّ فِي اللُّبَابِ وَالْبَغَوِيُّ وَاخْتَارَهُ فِي الْبَحْرِ انْتَهَى .
وَهَكَذَا قَطَعَ بِهِ أَيْضًا أَبُو حَامِدٍ فِي الرَّوْنَقِ ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي وَرَدَ فِي السِّوَاكِ بِالْأُصْبُعِ أَعَمُّ مِنْ أُصْبُعِهِ وَأُصْبُعِ غَيْرِهِ بَلْ فِي بَعْضِهَا التَّصْرِيحُ بِأُصْبُعِ الْمُسْتَاكِ كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَالَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّك رَغَّبْتنَا فِي السِّوَاكِ فَهَلْ دُونَ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ ؟ قَالَ إصْبَعَاك سِوَاكٌ عِنْدَ وُضُوئِك تُمِرُّهُمَا عَلَى أَسْنَانِك } .
الْحَدِيثَ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّ الرَّاوِيَ لَهُ عَنْ أَنَسٍ بَعْضُ أَهْلِهِ غَيْرُ مُسَمًّى ، وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ بِأَنَّهُ النَّضْرُ بْنُ أَنَسٍ ، وَهُوَ ثِقَةٌ وَلَفْظُهُ { يُجْزِئُ مِنْ السِّوَاكِ الْأَصَابِعُ } .
وَفِيهِ عِيسَى بْنُ شُعَيْبٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ عَلِيِّ الْفَلَّاسُ أَنَّهُ صَدُوقٌ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : كَانَ مِمَّنْ يُخْطِئُ حَتَّى فَحُشَ خَطَؤُهُ فَاسْتَحَقَّ التَّرْكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَظْهَرُ مَعْنًى فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ أُصْبُعِهِ وَأُصْبُعِ غَيْرِهِ فَالْمُخْتَارُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ تَأَدِّي السُّنَّةُ بِهِ مُطْلَقًا مَا لَمْ تَكُنْ نَاعِمَةً لَا تُزِيلُ الْقُلْحَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ : أَنَّهُ كَانَ يُدَلِّكُ أَسْنَانَهُ بِأُصْبُعِهِ وَيَسْتَجْزِئُ بِذَلِكَ مِنْ السِّوَاكِ .
وَقَدْ أَطْلَقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْأَرَاكِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَوْ لَمْ يَرِدْ فِي الِاسْتِيَاكِ بِهِ حَدِيثٌ ، وَهُوَ عَجِيبٌ ، وَقَدْ تَتَبَّعْت ذَلِكَ فَوَجَدْت الطَّبَرَانِيَّ قَدْ رَوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي خَبْرَةَ الصَّحَابِيِّ وَلَهُ صُحْبَةٌ فَذَكَرَ حَدِيثًا قَالَ فِيهِ : ثُمَّ { أَمَرَ لَنَا يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرَاكٍ فَقَالَ : اسْتَاكُوا بِهَذَا } .
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ { عَائِشَةَ فِي دُخُولِ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ سِوَاكٌ مِنْ أَرَاكٍ فَأَخَذَتْهُ عَائِشَةُ فَطَيَّبَتْهُ ثُمَّ أَعْطَتْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ } .
وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْأَرَاكِ وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ
الْبُخَارِيِّ وَمَعَهُ سِوَاكٌ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ { ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَبِي سِوَاكًا مِنْ الْأَرَاكِ فَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ فَجَعَلَتْ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِمَّا تُضْحَكُونَ قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ فَقَالَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ } .
فَهَذَا قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ اسْتَاكَ بِهِ وَأَمَرَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ : وَالسِّوَاكُ الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ وَفِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ الْأَرَاكُ ، وَالْبَشَامُ قَالَ الشَّاعِرُ : إذَا هِيَ لَمْ تَسْتَكْ بِعُودِ أَرَاكِ وَقَالَ جَرِيرٌ : أَتَذْكُرُ يَوْمَ تَصْقُلُ عَارِضَيْهَا بِفَرْعِ بَشَامَةٍ سُقِيَ الْبَشَامُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَكُلُّ مَا يَجْلُو الْأَسْنَانَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ صِبْغٌ وَلَوْنٌ فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ مَا خَلَا الرَّيْحَانَ ، وَالْقَصَبَ فَإِنَّهُمَا يُكْرَهَانِ قَالَ : وَقَدْ كَرِهَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ السِّوَاكَ الَّذِي يُغَيِّرُ الْفَمَ وَيَصْبُغُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِزِينَةِ النِّسَاءِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ كُلُّ مَا جَلَا الْأَسْنَانَ وَلَمْ يُؤْذِهَا وَلَا كَانَ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ فَجَائِزٌ الِاسْتِنَانُ بِهِ انْتَهَى وَذَكَرَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي ذَيْلِ الْغَرْبِيِّينَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ لَا بَأْسَ بِفَرْعِ السِّوَاكِ مِنْ الْبَشَامَةِ قَالَ : وَالْبَشَامُ شَجَرٌ طَيِّبُ الرِّيحِ يُسْتَاكُ بِهِ وَاحِدَتُهَا بَشَامَةٌ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَ ) فِي صِفَةِ الِاسْتِيَاكِ الْمَأْمُورِ بِهِ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابٍ لَهُ فِي السِّوَاكِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ عَرْضًا وَلَا يَسْتَاكُ طُولًا } وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا شَرِبْتُمْ فَاشْرَبُوا مَصًّا ، وَإِذَا اسْتَكْتُمْ فَاسْتَاكُوا عَرْضًا } .
وَرَوَى ابْنُ مَنْدَهْ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ حَدِيث بَهْزٍ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ عَرْضًا } وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ إنَّمَا يُعْرَفُ بَهْزٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ رَبِيعَةَ بْنِ أَكْتَمَ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَاكُ عَرْضًا } الْحَدِيثَ .
وَقَالَ ابْنُ رَبِيعَةَ بْنِ أَكْتَمَ اُسْتُشْهِدَ بِخَيْبَرَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْهُ قَالَ أَصْحَابُنَا : وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَرْضًا عَرْضُ الْأَسْنَانِ فِي طُولِ الْفَمِ وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَحْصُلُ سُنَّةُ السِّوَاكِ بِالِاسْتِيَاكِ طُولًا أَمْ لَا ؟ فَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ يُمِرُّ السِّوَاكَ عَلَى طُولِ الْأَسْنَانِ وَعَرْضِهَا فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى إحْدَى الْجِهَتَيْنِ فَالْعَرْضُ أَوْلَى لِحَدِيثِ { اسْتَاكُوا عَرْضًا } قَالَ وَهَكَذَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْوَسِيطِ قَالَ وَذَكَرَ آخَرُونَ مِنْهُمْ صَاحِبُ التَّتِمَّةِ أَنَّهُ يَسْتَاكُ فِي عَرْضِ الْأَسْنَانِ لَا فِي طُولِهَا قَالَ فَعَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عَرْضًا لَيْسَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي إقَامَةِ هَذِهِ السُّنَّةِ بَلْ خَصَّهُ بِالذِّكْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى وَعَلَى الثَّانِي هُوَ تَعْيِينٌ وَرَوَوْا فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ قَالَ : اسْتَاكُوا عَرْضًا لَا طُولًا وَرَوَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ شَاذٌّ مَرْدُودٌ مُخَالِفٌ لِلنَّقْلِ ، وَالدَّلِيلِ .
وَكَذَا قَالَ فِي
شَرْحِ الْوَسِيطِ الْمُسَمَّى بِالتَّنْقِيحِ هَذَا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ وَلَا فِي الْمَذْهَبِ بَلْ الصَّوَابُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْعَرْضِ بَلْ نَصَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى كَرَاهَةِ الطُّولِ وَسَبَقَهُ إلَى إنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى الْغَزَالِيِّ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي مُشْكِلِ الْوَسِيطِ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَلَوْ خَالَفَ وَاسْتَاكَ طُولًا حَصَلَ السِّوَاكُ وَإِنْ خَالَفَ الْمُخْتَارَ صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا ، وَكَذَا قَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فَإِنْ اسْتَاك طُولًا حَصَلَ السِّوَاكُ مَعَ الْكَرَاهَةِ قَالَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ فِي سِوَاكِهِ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنْ فَمِهِ .
( السَّابِعَةَ عَشْرَ ) ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ السِّوَاكَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ طَاهِرًا أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أُمِرَ بِالسِّوَاكِ لِكُلِّ صَلَاةٍ } وَفِي إسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، وَقَدْ رَوَاهُ بِالْعَنْعَنَةِ ، وَهُوَ مُدَلِّسٌ .
وَحُجَّةُ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا جَاءَنِي جِبْرِيلُ إلَّا أَوْصَانِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى لَقَدْ خَشِيت أَنْ يُفْرَضَ عَلَيَّ وَعَلَى أُمَّتِي } الْحَدِيثَ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ .
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت بِالسِّوَاكِ حَتَّى خَشِيت أَنْ يُكْتَبَ عَلَيَّ } وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ ، وَالْخَصَائِصُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةَ عَشْرَ ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ التَّيْسِيرِ فِي أُمُورِ الدِّيَانَةِ وَأَنَّ مَا يَشُقُّ مِنْهَا مَكْرُوهٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إثْمًا } .
( التَّاسِعَةَ عَشْرَ ) إنْ قِيلَ قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادِ الصَّحِيحِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتهمْ بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ وَبِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ { وَلَأَخَّرْت الْعِشَاءَ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ فَلِمَ ذَهَبْتُمْ إلَى تَأَكُّدِ السِّوَاكِ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَلَمْ تَذْهَبُوا إلَى اسْتِحْبَابِ تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ ؟ بَلْ قُلْتُمْ تَقْدِيمُهَا أَفْضَلُ عَلَى الْأَظْهَرِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَّلَ فِيهِ تَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَشَقَّةِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاظَبَ عَلَى السِّوَاكِ فَأَجْمَعُوا لِذَلِكَ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَى تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ بَلْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ تَقْدِيمُهَا وَأَخَّرَهَا مَرَّةً قَبْلَ أَنْ يَفْشُوَ الْإِسْلَامُ وَكَانَ يُؤَخِّرُهَا أَحْيَانَا دُونَ ذَلِكَ فَكَانَ الْأَفْضَلُ تَقْدِيمَهَا لِغَلَبَةِ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي تَرَكَهُ لِخَشْيَةِ الْمَشَقَّةِ لَيْسَ مُسْتَوِيًا فِي الصُّورَتَيْنِ بَلْ الْأَمْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالسِّوَاكِ أَمْرُ إيجَابٍ وَفَرْضٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ لَفَرَضْتُ عَلَيْكُمْ السِّوَاكَ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّمَا تَرَكَ الْأَمْرَ الدَّالَّ عَلَى الْفَرْضِ وَأَتَى بِهِ وَأَمَرَ بِهِ إنْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ .
وَأَمَّا الْأَمْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ فَإِنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ قَطْعًا لِمَا
ثَبَتَ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ جَوَازِ فِعْلِهَا مِنْ أَوَّلِ دُخُولِ وَقْتِهَا فَلَوْ أَمَرَهُمْ بِتَأْخِيرِهَا إنَّمَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي لَوْ وَقَعَ لَكَانَ نَدْبًا وَلَمْ يُوَاظِبْ عَلَيْهِ بَلْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ فِعْلِهِ تَقْدِيمَهَا فَكَانَ تَقْدِيمُهَا أَفْضَلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَائِدَةُ الْعِشْرُونَ ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرِّفْقِ بِأَمَتِهِ .
( الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) السِّوَاكُ الْمَأْمُورُ بِهِ هَلْ الْأَوْلَى أَنَّهُ يُبَاشِرُهُ الْمُسْتَاكُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِشِمَالِهِ ؟ ذَكَرَ بَعْضُ مُتَأَخِّرَيْ الْحَنَابِلَةِ مِمَّنْ رَأَيْته أَنَّهُ يَسْتَاكُ بِيَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَشْهُورِ { كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَتَطَهُّرِهِ وَسِوَاكِهِ } وَسَمِعْت بَعْضَ مَشَايِخِنَا الشَّافِعِيَّةِ يَبْنِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السِّوَاكَ هَلْ هُوَ مِنْ بَابِ التَّطْهِيرِ ، وَالتَّطَيُّبِ أَوْ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْقَاذُورَاتِ ؟ .
فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مِنْ بَابِ التَّطَيُّبِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَكُونَ بِيَمِينِهِ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْقَاذُورَاتِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَلِيَهُ بِشِمَالِهِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ { كَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيُمْنَى لِطَهُورِهِ وَطَعَامِهِ وَكَانَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِخَلَائِهِ وَمَا كَانَ مِنْ أَذًى } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ { كَانَ يَجْعَلُ يَمِينَهُ لِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَثِيَابِهِ وَيَجْعَلُ شِمَالَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ } وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ بِالْيَمِينِ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْبُدَاءَةُ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ فِي التَّرَجُّلِ ، وَالْبُدَاءَةُ بِلُبْسِ النَّعْلِ ، وَالْبُدَاءَةُ بِالْأَعْضَاءِ الْيُمْنَى فِي التَّطَهُّرِ ، وَالْبُدَاءَةُ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنْ الْفَمِ فِي الِاسْتِيَاكِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْأَذَى كَالِامْتِخَاطِ وَنَحْوِهِ فَيَكُونُ بِالْيُسْرَى ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فَقَالَ فِي الْمُفْهِمِ حِكَايَةً عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَتَسَوَّكُ فِي الْمَسَاجِدِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْقَذِرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ سُفْيَانُ ( مَرَّةً ) رِوَايَةَ { خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ ، الْخِتَانُ ، وَالِاسْتِحْدَادُ ، وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ يُزَادُ فِيهَا السِّوَاكُ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ } وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِتَانَ ، وَنَسِيَ مُصْعَبٌ الْعَاشِرَةَ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةُ ، وَقَدْ صَنَّفَهُ النَّسَائِيّ .
وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ { إنَّ مِنْ الْفِطْرَةِ الْمَضْمَضَةَ ، وَالِاسْتِنْشَاقَ } قَالَ فَذَكَرَ نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ إعْفَاءَ اللِّحْيَةِ زَادَ ( وَالْخِتَانُ ) قَالَ ( وَالِانْتِضَاحُ ) وَلَمْ يَذْكُرْ انْتِقَاصَ الْمَاءِ يَعْنِي الِاسْتِنْجَاءَ ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِتَمَامِهِ وَتَكَلَّمَ الْبُخَارِيُّ فِي اتِّصَالِهِ .
( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) : وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً رِوَايَةَ { خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ : الْخِتَانُ ، وَالِاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ } فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فَرَوَوْهُ خَلَا التِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَالتِّرْمِذِيِّ ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ .
عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي عَنْ الصَّحَابِيِّ رِوَايَةً مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ الْحَدِيثِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَدْ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا صَرَّحَ مَرَّةً بِالرَّفْعِ وَأَشَارَ إلَيْهِ أُخْرَى بِقَوْلِهِ رِوَايَةً ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ مُسَدَّدٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ فِيهِ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
( الثَّالِثَةُ ) اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْفِطْرَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا السُّنَّةُ حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ أَبِي عَوَانَةَ فِي الْمُسْتَخْرَجِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْآتِي ذِكْرُهُ عَشْرٌ مِنْ السُّنَّةِ وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ الطَّرِيقَةُ أَيْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَطَرِيقَتِهِمْ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا وَاجِبٌ كَمَا سَيَأْتِي عَلَى الْخِلَافِ وَمَنْ لَا يَرَى وُجُوبَ شَيْءٍ مِنْهَا يَحْمِلُهَا عَلَى السُّنَّةِ الَّتِي تُقَابِلُ الْوَاجِبَ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْفِطْرَةِ هُنَا الدَّيْنُ .
وَأَمَّا أَصْلُ الْفِطْرَةِ فَابْتِدَاءُ الْخَلْقِ وَاخْتِرَاعُهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَعَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَا كُنْت أَدْرِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ حَتَّى احْتَكَمَ إلَيَّ أَعْرَابِيَّانِ فِي بِئْرٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَنَا فَطَرْتُهَا أَيْ ابْتَدَأْتُ حَفْرَهَا وَمِنْهُ بَعِيرٌ فَاطِرٌ إذَا ابْتَدَأَ خُرُوجَ نَابِهِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِبِلَّةُ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا ابْنُ آدَمَ وَمِنْهُ قَوْلُ عَلِيٍّ فِي خُطْبَتِهِ جُبَارُ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا أَيْ عَلَى خَلْقِهَا وَجِبِلَّتِهَا ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ : { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ } وَقِيلَ الْفِطْرَةُ الْإِسْلَامُ وَمِنْهُ قَوْلُ حُذَيْفَةَ لَوْ مِتَّ عَلَى هَذَا مِتَّ عَلَى غَيْرِ فِطْرَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ } وَعَلَيْهِ حُمِلَ قَوْلُ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَخَذَ اللَّبَنَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ أَصَبْت الْفِطْرَةَ .
( الرَّابِعَةُ ) فِي مُنَاسَبَةِ تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْخِصَالِ فِطْرَةً قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ مِمَّا فَطَرَهُ عَلَى حُسْنِ الْهَيْئَةِ ، وَالنَّظَافَةِ وَكِلَاهُمَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَقَاءُ عَلَى أَصْلِ كَمَالِ الْخِلْقَةِ الَّتِي خُلِقَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا ، وَبَقَاءُ هَذِهِ الْأُمُورِ وَتَرْكُ إزَالَتِهَا يُشَوِّهُ الْإِنْسَانَ وَيُقَبِّحُهُ بِحَيْثُ يُسْتَقْذَرُ وَيُجْتَنَبُ فَيَخْرُجُ عَمَّا تَقْتَضِيه الْفِطْرَةُ الْأُولَى فَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ فِطْرَةً لِهَذَا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ هِيَ الَّتِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهَا إبْرَاهِيمَ فَأَتَمَّهُنَّ فَجَعَلَهُ اللَّهُ إمَامًا .
( السَّادِسَةُ ) فِي قَوْلِهِ مِنْ الْفِطْرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ بَعْضُ خِصَالِ الْفِطْرَةِ لَا كُلُّهَا ، وَهُوَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَصْحَابِ السُّنَنِ { عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ، وَالسِّوَاكُ وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ قَالَ زَكَرِيَّا قَالَ مُصْعَبٌ وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ } وَزَادَ قُتَيْبَةُ قَالَ وَكِيعٌ انْتِقَاصُ الْمَاءِ يَعْنِي الِاسْتِنْجَاءَ ، وَقَدْ ضَعَّفَ النَّسَائِيّ رَفْعَهُ فَإِنَّهُ رَوَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى طَلْقِ ابْنِ حَبِيبٍ ثُمَّ قَالَ : إنَّهُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ قَالَ وَمُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ إنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ هَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ خِصَالَ الْفِطْرَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْعَشَرَةِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ أَسْقَطَ مِنْهَا الْخِتَانَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَ مِنْهَا الِانْتِضَاحَ فِي حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مِنْ الْفِطْرَةِ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ ،
وَالسِّوَاكُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ ، وَالِاسْتِحْدَادُ وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ ، وَالِانْتِضَاحُ ، وَالِاخْتِتَانُ } لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ وَسَاقَ أَبُو دَاوُد بَعْضَهُ وَأَحَالَ بِبَقِيَّتِهِ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : إنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِسَلَمَةَ سَمَاعٌ مِنْ عَمَّارٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ ، وَقَدْ ذَكَرَ مِنْ الْفِطْرَةِ الْفَرْقَ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد بَعْدَ حَدِيثِ عَمَّارٍ فَقَالَ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ خَمْسٌ كُلُّهَا فِي الرَّأْسِ ذَكَرَ فِيهَا الْفَرْقَ لَمْ يَذْكُرْ إعْفَاءَ اللِّحْيَةِ فَقَدْ تَحَصَّلَ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ثَلَاثَةَ عَشْرَ خَصْلَةً .
وَأَمَّا قَوْلُ مُسْلِمٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ الْفِطْرَةُ خَمْسٌ وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الْفِطْرَةُ خَمْسٌ فَإِنَّ سُفْيَانَ قَدْ رَوَاهُ عَلَى الشَّكِّ كَمَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْفِطْرَةِ خَمْسٌ أَوْ خَمْسٌ مِنْ الْفِطْرَةِ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّكُّ مِنْهُ أَوْ مِمَّنْ فَوْقَهُ أَوْ مِنْ الرُّوَاةِ عَنْهُ وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَعَمَّارٍ بِجَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ التَّأَكُّدَ مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ وَأَفْرَدَهَا بِالذِّكْرِ لِتَأَكُّدِهَا .
( وَالثَّانِي ) أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ بِزِيَادَةِ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَحَدِيثِ عَمَّارٍ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِمَا وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ النَّسَائِيّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْفِطْرَةُ قَصُّ الْأَظْفَارِ وَأَخْذُ الشَّارِبِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ } فَاقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ { مِنْ الْفِطْرَةِ
حَلْقُ الْعَانَةِ وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ وَقَصُّ الشَّارِبِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ هَكَذَا أَوْرَدَهُ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ فِي اللِّبَاسِ مِنْ رِوَايَةِ حَنْظَلَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَسْقَطَهُ الْمِزِّيُّ فِي الْأَطْرَافِ فَاقْتَصَرَ عَلَى عَزْوِهِ لِلنَّسَائِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ ) فِيهِ أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى خَمْسٍ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى ثَلَاثٍ وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى عَشْرٍ مَعَ وُرُودِ غَيْرِهَا فَأَفَادَنَا ذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ الْعَدَدِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأُصُولِ وَلِمَنْ قَالَ بِهِ أَنْ يُجِيبَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَهُ بِالزِّيَادَةِ فِي خِصَالِ الْفِطْرَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ لَمَّا حَدَّثَ بِبَعْضِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) الْخِتَانُ هُوَ قَطْعُ الْغُلْفَةِ الَّتِي تُغَطِّي الْحَشَفَةَ مِنْ الرَّجُلِ وَقَطْعُ بَعْضِ الْجِلْدَةِ الَّتِي فِي أَعْلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ وَيُسَمَّى خِتَانُ الرَّجُلِ إعْذَارًا بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ، وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ ، وَالرَّاءِ وَخِتَانُ الْمَرْأَةِ خَفْضًا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ، وَالْفَاءِ ، وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ أَيْضًا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ ؟ .
فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى وُجُوبِهِ ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ سَحْنُونٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ سُنَّةٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ سُنَّةٌ بِحَدِيثِ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : الْخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ مَكْرُمَةٌ لِلنِّسَاءِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إنَّهُ يَدُورُ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَلَيْسَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِهِ .
( قُلْت ) : قَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ بِشْرِ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَجَابَ مَنْ أَوْجَبَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ هُنَا خِلَافَ الْوَاجِبِ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الطَّرِيقَةُ وَاحْتَجُّوا عَلَى وُجُوبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُخْتُتِنَ إبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ } وَبِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَسْلَمَ { أَلْقِ عَنْك شَعْرَ
الْكُفْرِ وَاخْتَتِنْ } وَاسْتَدَلَّ ابْنُ شُرَيْحٍ عَلَى وُجُوبِهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ فَلَوْلَا أَنَّ الْخِتَانَ فَرْضٌ لَمَا أُبِيحَ النَّظَرُ إلَيْهَا مِنْ الْمَخْتُونِ وَنَقَضَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِجَوَازِ نَظَرِ الطَّبِيبِ وَلَيْسَ الطِّبُّ وَاجِبًا إجْمَاعًا وَاحْتَجَّ الْقَفَّالُ لِوُجُوبِهِ بِأَنَّ بَقَاءَ الْغُلْفَةِ تَحْبِسُ النَّجَاسَةَ وَتَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ فَتَجِبُ إزَالَتُهَا وَشَبَّهَهُ بِالنَّجَاسَةِ فِي بَاطِنِ الْفَمِ وَقَاسَهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ فَقَالَ هُوَ قَطْعُ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ لَا يُسْتَخْلَفُ تَعَبُّدًا فَوَجَبَ كَالْقَطْعِ وَاحْتُرِزَ بِعَدَمِ الِاسْتِخْلَافِ عَنْ الشَّعْرِ ، وَالظُّفْرِ وَبِالتَّعَبُّدِ عَلَى الْقَطْعِ لِلْآكِلَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ .
( التَّاسِعَةُ ) إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْخِتَانِ فَمَحَلُّ الْوُجُوبِ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِنَا لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّهُ سُئِلَ مِثْلُ مَنْ أَنْتَ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ أَنَا يَوْمئِذٍ مَخْتُونٌ وَكَانُوا لَا يَخْتِنُونَ الرَّجُلَ حَتَّى يُدْرِكَ } وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يَخْتِنَ الصَّغِيرَ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَحْرُمُ الْخِتَانُ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ عَشْرِ سِنِينَ ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِمَا رَوَاهُ .
( الْعَاشِرَةُ ) الِاسْتِحْدَادُ اسْتِفْعَالٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْحَدِيدِ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ إجْمَاعًا وَاخْتُلِفَ فِي الْعَانَةِ الَّتِي يُسْتَحَبُّ حَلْقُهَا فَالْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ مَا حَوْلَ ذَكَرِ الرَّجُلِ وَفَرْجِ الْمَرْأَةِ مِنْ الشَّعْرِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ شُرَيْحٍ إنَّهُ الشَّعْرُ الَّذِي حَوْلَ حَلْقَةِ الدُّبُرِ قَالَ النَّوَوِيُّ فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذَا اسْتِحْبَابُ حَلْقِ جَمِيعِ مَا عَلَى الْقُبُلِ ، وَالدُّبُرِ وَحَوْلَهُمَا ، وَالْأَحْسَنُ فِي هَذِهِ السُّنَّةِ الْحَلْقُ بِالْمُوسَى ؛ لِأَنَّهُ أَنْظَفُ وَيَحْصُلُ بِالْقَصِّ بِالْمِقَصَّيْنِ وَكَذَلِكَ يَحْصُلُ أَصْلُ السُّنَّةِ بِالنَّتْفِ وَاسْتِعْمَالِ النُّورَةِ وَنَحْوِهَا إذْ الْمَقْصُودُ حُصُولُ النَّظَافَةِ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ اسْتِعْمَالِ الْكِنَايَاتِ عَنْ التَّصْرِيحِ بِمَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ إذَا حَصَلَ الْإِفْهَامُ بِغَيْرِ التَّصْرِيحِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ قَصِّ الشَّارِبِ ، وَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ وَذَهَبَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ إلَى وُجُوبِهِ لِقَوْلِهِ { قُصُّوا الشَّوَارِبَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَهُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ جُزُّوا وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ أَحْفُوا وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { أَنْهِكُوا الشَّوَارِبَ } .
وَالْمُخْتَارُ فِي صِفَةِ قَصِّهِ أَنْ يَقُصَّ مِنْهُ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ ، وَهُوَ حُمْرَتُهَا وَلَا يُحْفِيه مِنْ أَصْلِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَكَانَ مَالِكٌ يَرَى حَلْقَهُ مُثْلَةً وَيَأْمُرُ بِأَدَبِ فَاعِلِهِ وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَعْلَاهُ وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَبَعْضُ التَّابِعِينَ إلَى اسْتِحْبَابِ إحْفَائِهِ وَاسْتِئْصَالِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ أَحْفُوا وَجُزُّوا وَفِي بَعْضِهَا أَنْهِكُوا وَبِرِوَايَةِ النَّسَائِيّ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَحَلْقُ الشَّارِبِ وَحَمَلَ الْأَوَّلُونَ الْجَزَّ ، وَالْإِحْفَاءَ عَلَى الْقَصِّ وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى إحْفَاءِ مَا طَالَ عَلَى الشَّفَتَيْنِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّقْصِيرُ لَا اسْتِئْصَالُهُ رِوَايَةُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَتَقْصِيرُ الشَّارِبِ .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا { قَصُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارِبَ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَلَى سِوَاكٍ } كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ اسْتِئْصَالَهُ لَمَا وَضَعَ السِّوَاكَ حَتَّى يَقْطَعَ مَا زَادَ عَلَيْهِ وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَ ) يُسْتَحَبُّ الِابْتِدَاءٌ بِقَصِّ الْجِهَةِ الْيُمْنَى مِنْ الشَّارِبِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا
لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ { كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنَ فِي تَطَهُّرِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ } ( الرَّابِعَةَ عَشْرَ ) يَجُوزُ فِي قَصّ الشَّارِبِ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يَقُصَّهُ لَهُ غَيْرُهُ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد إذْ لَا هَتْكَ حُرْمَةٍ فِي ذَلِكَ وَلَا نَقْصَ مُرُوءَةٍ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَ ) اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ قَصِّ الشَّارِبِ هَلْ يُقَصُّ طَرَفَاهُ أَيْضًا وَهُمَا الْمُسَمَّيَانِ بِالسِّبَالَيْنِ أَمْ يُتْرَكُ السِّبَالَانِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ؟ فَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ سِبَالَيْهِ وَهُمَا طَرَفَا الشَّارِبِ فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتُرُ الْفَمَ وَلَا يُبْقِي فِيهِ غَمْرَةَ الطَّعَامِ إذْ لَا يَصِلُ إلَيْهِ انْتَهَى .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا نُعْفِي السِّبَالَ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ بَقَاءَ السِّبَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ بَلْ بِالْمَجُوسِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَجُوسُ فَقَالَ إنَّهُمْ يُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ وَيَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ فَخَالِفُوهُمْ } فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجُزُّ سِبَالَهُ كَمَا تُجَزُّ الشَّاةُ أَوْ الْبَعِيرُ وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ لِأَبِي أُمَامَةَ { فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَقُصُّونَ عَثَانِينَهُمْ وَيُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُصُّوا سِبَالَكُمْ وَوَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ } ، وَالْعَثَانِينُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ ، وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَتَكْرَارِ النُّونِ جَمْعُ عُثْنُونٍ : اللِّحْيَةُ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَالتَّقْلِيمُ تَفْعِيلٌ مِنْ الْقَلْمِ ، وَهُوَ الْقَطْعُ وَمِنْهُ تَقْلِيمُ الْأَشْجَارِ ، وَهُوَ قَطْعُ أَطْرَافِهَا .
( السَّابِعَةَ عَشْرَ ) لَمْ يَثْبُتْ فِي كَيْفِيَّةِ تَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ حَدِيثٌ يُعْمَلُ بِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ لَمْ أَرَ فِي الْكُتُبِ خَبَرًا مَرْوِيًّا فِي تَرْتِيبِ قَلْمِ الْأَظْفَارِ وَلَكِنْ سَمِعْت أَنَّهُ رَوَى { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِمُسَبِّحَةِ الْيُمْنَى وَخَتَمَ بِإِبْهَامِ الْيُمْنَى وَابْتَدَأَ فِي الْيُسْرَى بِالْخِنْصَرِ إلَى الْإِبْهَامِ وَفِي الْيُمْنَى مِنْ الْمُسَبِّحَةِ إلَى الْخِنْصَرِ وَيَخْتِمُ بِإِبْهَامِ الْيُمْنَى } .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَلَمَّا تَأَمَّلْت هَذَا خَطَرَ لِي مِنْ الْمَعْنَى مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ فِيهِ صَحِيحَةٌ ثُمَّ ذَكَرَ لِذَلِكَ حِكْمَةً ، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي كِتَابٍ وَقَفْت عَلَيْهِ لَهُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ وَبَالَغَ فِي هَذَا الْمَكَانِ فِي إنْكَارِ هَذَا عَلَيْهِ وَقَالَ : إنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَخْلِطَ الشَّرِيعَةَ بِالْفَلْسَفَةِ هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ وَبَالَغَ فِي تَقْبِيحِ ذَلِكَ ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ سَهْلٌ .
وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إلَّا أَنَّهُ خَالَفَهُ فِي تَأْخِيرِ إبْهَامِ الْيُمْنَى إلَى بَعْدِ الْفَرَاغِ مِنْ الْيُسْرَى وَقَالَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتِمَ الْيُمْنَى بِإِبْهَامِهَا وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ حِكْمَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْيُمْنَى أَوْلَى ثُمَّ إنَّ أَشْرَفَ أَصَابِعِ الْيَدِ الْيُمْنَى الْمُسَبِّحَةُ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ بِهَا عِنْدَ الدُّعَاءِ وَفِي التَّشَهُّدِ فَكَانَ الِابْتِدَاءُ بِالْمُسَبِّحَةِ أَوْلَى ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَعْقُبَهَا بِمَا عَلَى جِهَةِ يَمِينِ الرَّجُلِ .
وَالْغَالِبُ أَنَّ الَّذِي يَقُصُّ تَكُونُ يَدُهُ ظَهْرُهَا إلَى فَوْقٍ فَكَانَ الَّذِي إلَى جِهَةِ يَمِينِهِ الْوُسْطَى ثُمَّ مَا بَعْدَهَا إلَى
الْخِنْصَرِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا حِينَئِذٍ إلَّا الْإِبْهَامُ فَيَخْتِمُ بِهِ .
وَأَمَّا الْيُسْرَى فَلَا فَضِيلَةَ فِيهَا لِلْمُسَبِّحَةِ عَلَى غَيْرِهَا ، وَقَدْ { رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا يَدْعُو ، وَهُوَ يُشِيرُ بِأُصْبُعَيْهِ الْمُسَبِّحَةِ مِنْ الْيُمْنَى وَنَظِيرِهَا مِنْ الْيُسْرَى فَقَالَ لَهُ أَحَدٌ أَحَدٌ } أَيْ أُشِرْ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ وَلَا تُشِرْ بِنَظِيرِهَا مِنْ الْيُسْرَى ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا وَجْهَ لِتَقْدِيمِ الْمُسَبِّحَةِ مِنْهَا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْبُدَاءَةُ بِأَحَدِ طَرَفَيْهَا وَيَقُصُّ عَلَى الْوَلَاءِ .
وَأَمَّا مَيْلُهُ إلَى تَقْدِيمِ الْخِنْصَرِ فَلِأَنَّ الْيَدَ غَالِبًا تُقَصُّ وَظُهْرُهَا إلَى فَوْقٍ ، فَإِذَا بَدَأَ بِخِنْصَرِهَا أَتَى بَعْدَهَا بِمَا يَلِي جِهَةَ يَمِينِهِ وَلَوْ بَدَأَ بِالْإِبْهَامِ أَوَّلًا لَأَتَى بَعْدَهَا بِمَا يَلِي جِهَةَ شِمَالِهِ فَكَانَ الِاعْتِنَاءُ لِجِهَةِ الْيَمِينِ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَزَادَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي تَقْلِيمِ أَظْفَارِ الرِّجْلَيْنِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِخِنْصَرِ الْيُمْنَى وَيَخْتِمَ بِخِنْصَرِ الْيُسْرَى ، وَهُوَ يُعَكِّرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَصِّ إلَى جِهَةِ الْيَمِينِ وَرَأَيْت بَعْضَ شُيُوخِنَا يَخْتَارُ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ كَيْفِيَّةً أُخْرَى بِحَيْثُ يَكُونُ الْقَصُّ مُخَالِفًا لَا عَلَى الْوَلَاءِ وَأَنَّهُ يَبْدَأُ بِمُسَبِّحَةِ الْيَدِ الْيُمْنَى ثُمَّ بِالْبِنْصِرِ ثُمَّ بِالْإِبْهَامِ ثُمَّ بِالْوُسْطَى ثُمَّ بِالْخِنْصَرِ ثُمَّ بِمُسَبِّحَةِ الْيُسْرَى كَذَلِكَ عَلَى الْمُخَالِفَةِ ثُمَّ بِخِنْصَرِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى ثُمَّ بِالْوُسْطَى ثُمَّ بِالْإِبْهَامِ ثُمَّ الْإِصْبَعِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْخِنْصَرِ ثُمَّ بِالْمُجَاوِرَةِ لِلْإِبْهَامِ ثُمَّ بِإِبْهَامِ الْيُسْرَى ثُمَّ بِالْوُسْطَى ثُمَّ الْخِنْصَرِ الَّتِي تُجَاوِرُ الْإِبْهَامَ ثُمَّ الَّتِي تُجَاوِرُ الْخِنْصَرِ وَقَالَ : إنَّهُ جَرَّبَ هَذَا لِلسَّلَامَةِ مِنْ الرَّمَدِ وَأَنَّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يَرْمَدُ فَمِنْ حِينَ صَارَ يَقُصُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَرْمِدْ بَعْدَ ذَلِكَ وَرَأَيْت مَنْ يَذْكُرُهُ
حَدَّثَنَا مَنْ قَصَّ أَظْفَارَهُ مُخَالِفًا عُوفِيَ الرَّمَدَ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ أَلْبَتَّةَ ، وَالْكَيْفِيَّةُ الْأُولَى أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ التَّقْيِيدُ بِهَا سُنَّةً لِعَدَمِ ثُبُوتِهَا أَيْضًا وَكَيْفَمَا قَصَّ حَصَلَ أَصْلُ السُّنَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةَ عَشْرَ ) يُخَيَّرُ الَّذِي يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ بَيْنَ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَقُصَّ لَهُ غَيْرُهُ لِقَصِّ الشَّارِبِ سَوَاءٌ إذْ لَا هَتْكَ حُرْمَةٍ فِي ذَلِكَ وَلَا تَرْكَ مُرُوءَةٍ قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَا سِيَّمَا مَنْ لَا يُحْسِنُ قَصَّ أَظَافِرَ يَدِهِ الْيُمْنَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَسْتَمْكِنُ مِنْ قَصِّهَا لِعُسْرِ اسْتِعْمَالِ الْيَسَارِ ، فَإِنَّ الْأَوْلَى فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ غَيْرُهُ لِئَلَّا يَجْرَحَ يَدَهُ أَوْ يُؤْذِيَهَا .
( التَّاسِعَةَ عَشْرَ ) اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ بِقَصِّ الْأَظْفَارِ فَوَرَدَ فِي بَعْضِهَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَفِي بَعْضِهَا يَوْمُ الْخَمِيسِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى رَوَيْنَا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُرْسَلًا قَالَ { : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَارِبِهِ وَأَظَافِرِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ } انْتَهَى .
وَأَمَّا قَصُّهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ فَرَوَيْنَاهُ فِي حَدِيثٍ مُسَلْسَلٍ بِذَلِكَ أَخْبَرَنِي بِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَحَدِ الْحَرَّانِيِّ وَرَأَيْته يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ .
قَالَ أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفٍ الدِّمْيَاطِيُّ وَرَأَيْته يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ قَالَ أَخْبَرَنَا الْمَشَايِخُ السِّتَّةُ صَقْرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ صَقْرٍ وَأَبُو طَالِبٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ الْعَجَمِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْحَلَبِيُّونَ ، وَالْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ يُوسُفُ بْنُ خَلِيلٍ وَمُحَمَّدٌ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ أَبْنَاءُ عَبْدِ الْهَادِي بْنِ قُدَامَةَ الدِّمَشْقِيُّونَ وَرَأَيْت كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ قَالُوا أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مَحْمُودٍ الثَّقَفِيُّ وَرَأَيْنَاهُ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ .
قَالَ أَخْبَرَنِي جَدِّي لِأُمِّي أَبُو الْقَاسِمِ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ التَّمِيمِيُّ وَرَأَيْته يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ
يَوْمَ الْخَمِيسِ قَالَ رَأَيْت الْإِمَامَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيَّ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ قَالَ رَأَيْت الْحَافِظَ أَبَا الْعَبَّاسِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمُسْتَغْفِرِيَّ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ قَالَ رَأَيْت الْإِمَامَ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الْمَكِّيَّ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ قَالَ رَأَيْت الْإِمَامَ إسْمَاعِيلَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ شَاهْ الْمَرْوَرُذِيَّ بِهَا يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ قَالَ رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيَّ ، وَهُوَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ قَالَ رَأَيْت الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ الْكُوفِيَّ ، وَهُوَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ قَالَ رَأَيْت الْحُسَيْنَ بْنَ هَارُونَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الضَّبِّيَّ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ قَالَ رَأَيْت عُمَرَ بْنَ حَفْصٍ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ قَالَ رَأَيْت أَبِي حَفْصَ بْنَ غِيَاثٍ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَقَالَ رَأَيْت جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَقَالَ رَأَيْت مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَقَالَ رَأَيْت عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَقَالَ رَأَيْت الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَقَالَ رَأَيْت عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَقَالَ { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثُمَّ قَالَ : يَا عَلِيُّ قَصُّ الظُّفْرِ وَنَتْفُ الْأَنْفِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَالْغُسْلُ ، وَالطِّيبُ ، وَاللِّبَاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ } .
وَفِي إسْنَادِهِ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى الْكَشْفِ عَنْهُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَأَمَّا الْحُسَيْنُ بْنُ هَارُونَ الضَّبِّيُّ وَمَنْ بَعْدَهُ فَثِقَاتٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَائِدَةُ الْعِشْرُونَ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ نَتْفِ شَعْرِ الْإِبِطِ ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ وَسُنِّيَّتِهِ وَتَحْصُلُ أَصْلُ السُّنَّةِ بِإِزَالَتِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْ الْحَلْقِ ، وَالْقَصِّ ، وَالنُّورَةِ وَحُكِيَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ دَخَلْت عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُ الْمُزَيِّنُ يَحْلِقُ إبِطَهُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلِمْت أَنَّ السُّنَّةَ النَّتْفُ وَلَكِنْ لَا أَقْوَى عَلَى الْوَجَعِ وَيُسْتَحَبُّ الِابْتِدَاءُ بِالْإِبِطِ الْأَيْمَنِ .
( الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) سَوَّى النَّوَوِيُّ بَيْنَ الْإِبِطِ ، وَالْعَانَةِ فِي أَنَّهُ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَا يُخَيَّرُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مُبَاشَرَةِ غَيْرِهِ لِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ الْمُرُوءَةِ ، وَالْحُرْمَةِ بِخِلَافِ قَصِّ الشَّارِبِ ، وَهُوَ مُسَلَّمٌ فِيمَا إذَا أَتَى بِالْأَفْضَلِ مِنْ النَّتْفِ فِي الْإِبِطِ أَمَّا إذَا أَتَى بِالْحَلْقِ فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ لِمُبَاشَرَةِ غَيْرِهِ لِإِزَالَتِهِ لِعُسْرِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْحَلْقِ كَمَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ حَلَقَهُ لَهُ الْمُزَيِّنُ .
( الثَّانِيَةُ ، وَالْعِشْرُونَ ) الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ الْإِبِطِ بِالنَّتْفِ ، وَالْعَانَةِ بِالْحَلْقِ عَلَى وَجْهِ الْأَفْضَلِيَّةِ أَنَّ الْإِبِطَ مَحَلُّ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ ، وَالنَّتْفُ يُضْعِفُ الشَّعْرَ فَتَخِفُّ الرَّائِحَةُ ، وَالْحَلْقُ يُكَثِّفُ الشَّعْرَ فَتَكْثُرُ فِيهِ الرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ ) ذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَعْرٌ تَحْتَ إبِطِهِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبِطَيْهِ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُوَ بَيَاضُ إبِطَيْهِ } وَقَالَ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ : إنَّ بَيَاضَ الْإِبِطِ كَانَ مِنْ خَوَاصِّهِ فَوَرَدَ التَّعْبِيرُ بِذَلِكَ فِي حَقِّهِ فَأُطْلِقَ عَلَى غَيْرِهِ ذُهُولًا قَالَ : وَأَمَّا إبِطُ غَيْرِهِ فَأَسْوَدُ لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّعْرِ انْتَهَى وَمَا ادَّعَاهُ مِنْ كَوْنِ هَذَا مِنْ الْخَصَائِصِ فِيهِ نَظَرٌ إذْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ بَلْ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ .
وَالْخَصَائِصُ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ بَيَاضَ إبِطَيْهِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَعْرٌ فَإِنَّ الشَّعْرَ إذَا نُتِفَ بَقِيَ الْمَكَانُ أَبْيَضَ وَإِنْ بَقِيَ فِيهِ آثَارُ الشَّعْرِ ؛ وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَقْوَمَ الْخُزَاعِيِّ أَنَّهُ { صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَاعِ مِنْ نَمِرَةَ فَقَالَ كُنْت أَنْظُرُ إلَى عُفْرَةِ إبِطَيْهِ إذَا سَجَدَ } .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فَذَكَرَ الْهَرَوِيُّ فِي الْغَرِيبَيْنِ وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الْعُفْرَةَ بَيَاضٌ لَيْسَ بِالنَّاصِعِ وَلَكِنْ كَلَوْنِ عَفْرِ الْأَرْضِ ، وَهُوَ وَجْهُهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ آثَارَ الشَّعْرِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَكَانَ أَعْفَرَ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ خَالِيًا مِنْ بَنَاتِ الشَّعْرِ جُمْلَةً لَمْ يَكُنْ أَعْفَرَ وَإِطْلَاقُ بَيَاضِ الْإِبِطَيْنِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ
الْفُقَهَاءِ وَلَا إنْكَارَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْإِبِطَ لَا تَنَالُهُ الشَّمْسُ فِي السَّفَرِ ، وَالْحَرِّ فَيُغَيَّرُ لَوْنُهُ كَسَائِرِ الْجَسَدِ الَّذِي يَبْدُو لِلشَّمْسِ نَعَمْ الَّذِي نَعْتَقِدُ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِإِبْطِهِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ بَلْ كَانَ نَظِيفًا طَيِّبَ الرَّائِحَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { مَا شَمَمْت عَنْبَرًا قَطُّ وَلَا مِسْكًا وَلَا شَيْئًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا { أَنَّ أُمَّ أَنَسٍ كَانَتْ تَجْمَعُ عَرَقَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَارُورَةٍ فَتَجْعَلُهُ فِي طِيبِهَا } قَالَتْ ، وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ يُوجَدُ مِنْ الرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ عِنْدَ قَضَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَتَهُ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَنِينَ بِأَخْبَارِهِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَغَوَّطُ انْشَقَّتْ الْأَرْضُ فَابْتَلَعَتْ غَائِطَهُ وَبَوْلَهُ .
وَفَاحَتْ لِذَلِكَ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّك تَأْتِي الْخَلَاءَ فَلَا نَرَى مِنْك شَيْئًا مِنْ الْأَذَى فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ أَوَ مَا عَلِمْت أَنَّ الْأَرْضَ تَبْلَعُ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ } .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِطَهَارَةِ الْحَدَثَيْنِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا .
( الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَدَّمْتُمْ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ حَلْقَ الْعَانَةِ وَتَقْلِيمَ الْأَظْفَارِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ { مَنْ لَمْ يَحْلِقْ عَانَتَهُ وَيُقَلِّمْ أَظْفَارَهُ وَيَجُزَّ شَارِبَهُ فَلَيْسَ مِنَّا } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ ذَلِكَ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا إنَّ هَذَا لَا يَثْبُتُ ؛ لِأَنَّ فِي إسْنَادِهِ ابْنَ لَهِيعَةَ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ مَعْرُوفٌ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ مِنْهُ الْأَخْذُ مِنْ الشَّارِبِ فَقَطْ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَارِبِهِ فَلَيْسَ مِنَّا } ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَيْسَ عَلَى سُنَّتِنَا وَطَرِيقَتِنَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ قَطْعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ ) فِي التَّوْقِيتِ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَقَصِّ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَفِيهِ حَدِيثُ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ { وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَحَلْقِ الْعَانَةِ أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ وُقِّتَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَحُكْمُهُ الرَّفْعُ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَالْأُصُولِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَّتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَّحَ بِالْفَاعِلِ .
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُقَيْلِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ هَذَا فَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ فِي تَرْجَمَةِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ الضُّبَيْعِيِّ فِي حَدِيثِ هَذَا نَظَرٌ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يَرْوِهِ إلَّا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَلَيْسَ بِحُجَّةِ لِسُوءِ حِفْظِهِ وَكَثْرَةِ غَلَطِهِ قُلْت قَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ بْنُ مُوسَى الدَّقِيقِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَكِنْ صَدَقَةُ ضَعِيفٌ .
وَرَوَى أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِمْرَانَ شَيْخٌ مِصْرِيٌّ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ كَمَا سَيَأْتِي وَلَهُ طَرِيقٌ آخَرُ رَوَاهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَلَمَةَ الْقَطَّانُ فِي زِيَادَاتِهِ عَلَى سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أَنَسٍ وَابْنِ جُدْعَانَ أَيْضًا ضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا مِنْ وَجْهٍ لَا يَثْبُتُ وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذِهِ الْخِصَالِ فِي التَّوْقِيتِ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَلِيٍّ فِي الْكَامِلِ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي خَالِدٍ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَالِمٍ النَّيْسَابُورِيِّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ مِصْرِيٌّ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يَحْلِقَ الرَّجُلُ عَانَتَهُ كُلَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَنْ يَنْتِفَ إبِطَهُ كُلَّمَا طَلَعَ وَلَا يَدْعُ شَارِبَيْهِ يَطُولَانِ وَأَنْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ وَأَنْ يَتَعَهَّدَ الْبَرَاجِمَ إذَا تَوَضَّأَ } الْحَدِيثَ قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَأَصَحُّ طُرُقِهِ طَرِيقُ مُسْلِمٍ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الْكَلَامِ وَلَيْسَ فِيهَا تَأْقِيتٌ لِمَا هُوَ أَوْلَى بَلْ ذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِينَ قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ هَذَا تَحْدِيدُ أَكْثَرِ الْمُدَّةِ قَالَ : وَالْمُسْتَحَبُّ تَفَقُّدُ ذَلِكَ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ وَإِلَّا فَلَا تَحْدِيدَ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَثُرَ ذَلِكَ أُزِيلَ ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يُضْبَطُ بِالْحَاجَةِ وَطُولِهِ .
( السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ زَادَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عَلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ إعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ، وَهُوَ تَوْفِيرُ شَعْرِهَا وَتَكْثِيرُهُ وَأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ كَالشَّارِبِ مِنْ عَفَا الشَّيْءَ إذَا كَثُرَ وَزَادَ ، وَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ وَفِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي لُغَتَانِ أَعْفَاهُ وَعَفَاهُ وَجَاءَ الْمَصْدَرُ هُنَا عَلَى الرُّبَاعِيِّ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ { أَعْفُوا اللِّحَى } وَفِي رِوَايَةٍ أَوْفُوا وَفِي رِوَايَةٍ وَفِّرُوا .
وَفِي رِوَايَةٍ أَرْخُوا وَهِيَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ بِالْجِيمِ مِنْ التَّرْكِ ، وَالتَّأْخِيرِ وَأَصْلُهُ الْهَمْزَةُ فَحُذِفَ تَخْفِيفًا كَقَوْلِهِ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ اللِّحْيَةِ عَلَى حَالِهَا وَأَنْ لَا يُقْطَعَ مِنْهَا شَيْءٌ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : يُكْرَهُ حَلْقُهَا وَقَصُّهَا وَتَحْرِيقُهَا .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ لَا يَجُوزُ حَلْقُهَا وَلَا نَتْفُهَا وَلَا قَصُّ الْكَثِيرِ مِنْهَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَأَمَّا الْأَخْذُ مِنْ طُولِهَا فَحَسَنٌ قَالَ وَتَكْرَهُ الشُّهْرَةُ فِي تَعْظِيمِهَا كَمَا يُكْرَهُ فِي قَصِّهَا وَجَزِّهَا قَالَ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ هَلْ لِذَلِكَ حَدٌّ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُحَدِّدْ شَيْئًا فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتْرُكُهَا لِحَدِّ الشُّهْرَةِ وَيَأْخُذُ مِنْهَا وَكَرِهَ مَالِكٌ طُولَهَا جِدًّا وَمِنْهُمْ مَنْ حَدَّدَ بِمَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ فَيُزَالُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ الْأَخْذَ مِنْهَا إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ انْتَهَى وَقَالَ النَّوَوِيُّ : ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي اللِّحْيَةِ عَشْرَ خِصَالٍ مَكْرُوهَةً بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ .
( إحْدَاهَا ) خِضَابُهَا بِالسَّوَادِ لَا لِغَرَضِ الْجِهَادِ ( الثَّانِيَةُ ) خِضَابُهَا بِالصُّفْرَةِ تَشَبُّهًا بِالصَّالِحِينَ لَا لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ .
( الثَّالِثَةُ ) تَبْيِيضُهَا بِالْكِبْرِيتِ اسْتِعْجَالًا لِلشَّيْخُوخَةِ لِأَجْلِ
الرِّيَاسَةِ ، وَالتَّعْظِيمِ وَإِيهَامِ لُقِيِّ الْمَشَايِخِ .
( الرَّابِعَةُ ) نَتْفُهَا أَوَّلَ طُلُوعِهَا إيثَارًا لِلْمُرُودَةِ وَحُسْنِ الصُّورَةِ .
( الْخَامِسَةُ ) نَتْفُ الشَّيْبِ .
( السَّادِسَةُ ) تَصْفِيفُهَا طَاقَةً فَوْقَ طَاقَةٍ تَصَنُّعًا لِيَسْتَحْسِنَهُ النِّسَاءُ وَغَيْرُهُنَّ .
( السَّابِعَةُ ) الزِّيَادَةُ فِيهَا ، وَالنَّقْصُ فِيهَا بِالزِّيَادَةِ فِي شَعْرِ الْعِذَارَيْنِ مِنْ الصُّدْغَيْنِ أَوْ أَخْذُ بَعْضِ الْعِذَارِ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ وَنَتْفِ جَانِبَيْ الْعَنْفَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
( الثَّامِنَةُ ) تَسْرِيحُهَا تَصَنُّعًا لِأَجْلِ النَّاسِ .
( التَّاسِعَةُ ) تَرْكُهَا شَعِثَةً مُنْتَفِشَةً إظْهَارًا لِلزَّهَادَةِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ بِنَفْسِهِ .
( الْعَاشِرَةُ ) النَّظَرُ إلَى سَوَادِهَا أَوْ بَيَاضِهَا إعْجَابًا وَخُيَلَاءَ وَغُرَّةً بِالشَّبَابِ وَفَخْرًا بِالْمَشِيبِ وَتَطَاوُلًا عَلَى الشَّبَابِ ثُمَّ قَالَ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَ ) عَقْدُهَا وَطَفْرُهَا .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَ ) حَلْقُهَا إلَّا إذَا نَبَتَتْ لِلْمَرْأَةِ لِحْيَةٌ فَيُسْتَحَبُّ حَلْقُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ ) وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ السِّوَاكِ وَتَأَكُّدُهُ وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ .
( التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ غَسْلِ الْبَرَاجِمِ بِالْمُوَحَّدَةِ ، وَالْجِيمِ جَمْعُ بُرْجُمَةٍ بِضَمِّهَا وَهِيَ عُقَدُ الْأَصَابِعِ الَّتِي فِي ظَاهِرِ الْكَفِّ قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهِيَ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِالْوُضُوءِ قُلْت : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ تَنْظِيفُهَا فِي الْوُضُوءِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ : { وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْلِقَ الرَّجُلُ عَانَتَهُ } الْحَدِيثَ وَفِيهِ { أَنْ يَتَعَاهَدَ الْبَرَاجِمَ إذَا تَوَضَّأَ فَإِنَّ الْوَسَخَ إلَيْهَا سَرِيعٌ } الْحَدِيثَ وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ .
وَوَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ بِلَالٍ قَالَ سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قُصُّوا أَظْفَارَكُمْ وَادْفِنُوا قَلَائِمَكُمْ وَنَقُّوا بَرَاجِمَكُمْ } الْحَدِيثَ وَعُمَرُ بْنُ بِلَالٍ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ قَالَهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَمِمَّا يُسْتَحَبُّ تَعَاهُدُهُ أَيْضًا مَا بَيْنَ عُقَدِ الْأَصَابِعِ مِنْ بَاطِنِ الْكَفِّ وَتُسَمَّى الرَّوَاجِبَ بِالْجِيمِ ، وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْضًا وَاحِدَاتُهَا رَاجِبَةٌ قَالَهُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي ذَيْلِ الْغَرِيبَيْنِ ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قِيلَ : لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ أَبْطَأَ عَنْك جِبْرِيلُ فَقَالَ وَلِمَ لَا يُبْطِئُ عَنِّي وَأَنْتُمْ لَا تَسْتَنُّونَ وَلَا تُقَلِّمُونَ أَظْفَارَكُمْ وَلَا تَقُصُّونَ شَوَارِبَكُمْ وَلَا تُنَقُّونَ رَوَاجِبَكُمْ } .
( الْفَائِدَةُ الثَّلَاثُونَ ) وَفِيهِ انْتِقَاصُ الْمَاءِ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ضَبْطِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا بِالْقَافِ ، وَالصَّادِ الْمُهْمَلَة ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ ، وَالْهَرَوِيُّ فِي الْعُرَنِيِّينَ وَغَيْرُهُمَا وَقِيلَ بِالْفَاءِ حَكَاهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ وَحَكَى بَعْضُهُمْ تَصْوِيبَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ لِنُضْحِ الدَّمِ الْقَلِيلِ نَفْصُهُ وَجَمْعُهَا نُفَصٌ قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا شَاذٌّ ، وَالصَّوَابُ مَا سَبَقَ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي مَعْنَاهُ فَفَسَّرَهُ وَكِيعٌ كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ بِالِاسْتِنْجَاءِ وَمُرَادُهُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ لَا مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْحَدِيثِ .
وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي الْغَرِيبِ انْتِقَاصُ الْبَوْلِ بِالْمَاءِ إذَا غَسَلَ مَذَاكِيرَهُ ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ قَوْلِ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ وَقَالَ فِيهِ وَغَسْلُ الدُّبُرِ وَقَالَ النَّسَائِيّ : إنَّهُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ وَقِيلَ : إنَّ انْتِقَاصَ الْمَاءِ الِانْتِضَاحُ وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْفَوَائِدِ لِهَذَا الْحَدِيثِ .
( الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) ذَكَرَ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنُ أَنَّ مُصْعَبًا هُوَ الَّذِي نَسِيَ الْعَاشِرَةَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةُ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ الَّذِي نَسِيَهَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَأَنَا شَكَكْت فِي الْمَضْمَضَةِ إلَّا أَنَّ سُلَيْمَانَ جَعَلَ الْحَدِيثَ مِنْ قَوْلِ طَلْقٍ وَقَالَ النَّسَائِيُّ إنَّهُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ ، وَالْقَائِلُ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بَقِيَّةَ قَوْلِ مُصْعَبٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي عَنْهُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهَا .
وَقَدْ جَزَمَ بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ فِيهَا أَبُو بِشْرٍ جَعْفَرُ بْنُ إيَاسٍ الرَّاوِي لَهُ عَنْ طَلْقٍ قَوْلَهُ فَقَالَ فِيهِ ، وَالْمَضْمَضَةُ ، وَالِاسْتِنْشَاقُ قَالَ النَّسَائِيُّ وَحَدِيثُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَجَعْفَرِ بْنِ إيَاسٍ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ مِنْ حَدِيثِ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ انْتَهَى وَكَذَلِكَ هُوَ ثَابِتٌ فِي حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ { وَإِنَّ مِنْ الْفِطْرَةِ الْمَضْمَضَةُ ، وَالِاسْتِنْشَاقُ } وَقَدْ تَقَدَّمَ وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الْمَضْمَضَةَ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ ، وَالْغُسْلِ وَقِيلَ وَاجِبَةٌ فِيهِمَا وَقِيلَ وَاجِبَةٌ فِي الْغُسْلِ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .
( الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) ذَكَرَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارٍ فِي خِصَالِ الْفِطْرَةِ الِانْتِضَاحُ فَقِيلَ : إنَّهُ انْتِقَاصُ الْمَاءِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ انْتِقَاصَ الْمَاءِ هُوَ الِاسْتِنْجَاءُ .
وَأَمَّا الِانْتِضَاحُ فَهُوَ رَشُّ الْمَاءِ وَاخْتُلِفَ فِي مَوْضِعِ اسْتِحْبَابِهِ فَحَكَى النَّوَوِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ نَضْحُ الْفَرْجِ بِمَاءٍ قَلِيلٍ بَعْدَ الْوُضُوءِ لِدَفْعِ الْوَسْوَاسِ .
وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ ، وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ { رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ثُمَّ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَنَضَحَ بِهِ فَرْجَهُ } .
وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَلَّمَنِي جِبْرِيلُ الْوُضُوءَ وَأَمَرَنِي أَنْ أَنْضَحَ تَحْتَ ثَوْبِي مِمَّا يَخْرُجُ مِنْ الْبَوْلِ بَعْدَ الْوُضُوءِ } فَقَوْلُهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ مُتَعَلِّقٌ بِأَنْضَحَ لَا بِقَوْلِهِ يَخْرُجُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ الْبَوْلُ بَعْدَ الْوُضُوءِ لَوَجَبَتْ إعَادَةُ الْوُضُوءِ وَلِابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { إذَا تَوَضَّأْت فَانْتَضِحْ } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَضَحَ فَرْجَهُ } وَقِيلَ : إنَّ الِانْتِضَاحَ الْمَذْكُورَ هُوَ أَنْ يَنْضَحَ ثَوْبَهُ بِالْمَاءِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ لِدَفْعِ الْوَسْوَاسِ أَيْضًا حَتَّى إذَا تَوَهَّمَ نَجَاسَةَ بَلَلٍ فِي ثَوْبِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَحَالَ بِهِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي نَضَحَ بِهِ وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالَ ثُمَّ نَضَحَ فَرْجَهُ } ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالنَّضْحِ هُنَا غَسْلُ الْبَوْلِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ الِاسْتِنْجَاءَ فَإِنَّ النَّضْحَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْغُسْلُ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
، وَقَدْ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلَانِ
بَابُ الِاسْتِجْمَارِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُوتِرْ } زَادَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ { مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ } وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
بَابُ الِاسْتِجْمَارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُوتِرْ } الْكَلَامُ عَلَيْهِ : الِاسْتِجْمَارُ اسْتِفْعَالٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْجِمَارِ وَهِيَ الْأَحْجَارُ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اسْتِعْمَالُ الْمِجْمَرَةِ ، وَهُوَ التَّبَخُّرُ ، وَالْأَمْرُ بِالْإِيتَارِ فِي الِاسْتِجْمَارِ مُسْتَحَبٌّ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ وَمَنْ أَكَلَ فَمَا تَخَلَّلَ فَلْيَلْفِظْ وَمَا لَاكَ بِلِسَانِهِ فَلْيَبْتَلِعْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ ؛ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ وَمَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ رَمْلٍ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِي آدَمَ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ } وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ إنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنْ بَابِ الْوُضُوءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْغُسْلِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ فِيهِ قَدْرُ الْفَرَقِ } لَمْ يَقُلْ الشَّيْخَانِ { فِيهِ قَدْرُ الْفَرَقِ } زَادَ الشَّيْخَانِ { تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ مِنْ الْجَنَابَةِ } .
بَابُ الْغُسْلِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { : كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ فِيهِ قَدْرُ الْفَرَقِ } فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) حَدِيثُ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ خَلَا التِّرْمِذِيِّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ هَكَذَا ، وَالْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِلَفْظِ مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ الْفَرَقُ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ بِلَفْظِ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ إنَاءٍ هُوَ الْفَرَقُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَمِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ وَابْنِ عُيَيْنَةَ بِلَفْظِ كَانَ يَغْتَسِلُ فِي قَدَحٍ هُوَ الْفَرَقُ وَكُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا ، وَهُوَ فِي الْإِنَاءِ الْوَاحِدِ .
وَقَالَ سُفْيَانُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ وَابْنِ عُيَيْنَةَ ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ خَمْسَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ عَنْ عُرْوَةَ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ دُون ذِكْرِ الْفَرَقِ وَزَادَ الشَّيْخَانِ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ .
زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ الْجَنَابَةِ وَهِيَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ دُونَ قَوْلِهِ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَ وَنَحْنُ جُنُبَانِ وَلَهُ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَائِشَةَ { كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاء وَاحِدٍ يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ } وَلَهُ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذَةَ عَنْهَا { كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَاحِدٍ فَيُبَادِرُنِي حَتَّى أَقُولَ دَعْ لِي دَعْ لِي قَالَتْ وَهُمَا جُنُبَانِ } .
وَقَالَ النَّسَائِيّ : يُبَادِرُنِي وَأُبَادِرُهُ حَتَّى يَقُولَ دَعِي لِي وَأَقُولُ
دَعْ لِي وَلِلشَّيْخَيْنِ وَأَبِي دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ { كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ } .
( الثَّانِيَةُ ) الْفَرَقُ بِفَتْحِ الْفَاءِ ، وَالرَّاءِ مَعًا وَآخِرُهُ قَافٌ هَذِهِ هِيَ اللُّغَةُ الْفُصْحَى الشَّهِيرَةُ وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى بِإِسْكَانِ الرَّاءِ حَكَاهَا ابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ .
وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ الْفَرَقِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ فَيَكُونُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَهَابِهِ إلَى أَنَّ الصَّاعَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ صَاعِ الزَّكَاةِ وَصَاعِ الْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَجَعَلَ صَاعَ الْجَنَابَةِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ بِإِنَاءٍ يَسَعُ رِطْلَيْنِ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ } فَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ مَعَ حَدِيثِهِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ أَنَّ الصَّاعَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى الْجُهَنِيِّ قَالَ : { أَتَى مُجَاهِدٌ بِقَدَحٍ حَزَرْتُهُ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ فَقَالَ حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْتَسِلُ بِمِثْلِ هَذَا } وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّاعُ بَلْ هُوَ مِثْلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي اغْتِسَالِهِمَا بِالْفَرَقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ سُفْيَانُ مِنْ كَوْنِ الْفَرَقِ ثَلَاثَةَ آصُعٍ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ وَقِيلَ الْفَرَقُ صَاعَانِ وَنِصْفٌ حَكَاهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَلَكِنَّهُ فَرَّقَ
بَيْنَ الْمَفْتُوحِ الرَّاءِ ، وَالسَّاكِنِ الرَّاءِ فِي الْمِقْدَارِ فَقَالَ فِي الْمَفْتُوحِ الرَّاءِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ ثَلَاثَةَ آصُعٍ عَلَى الصَّحِيحِ أَوْ صَاعَيْنِ وَنِصْفًا وَقَالَ فِي السَّاكِنِ الرَّاءِ إنَّهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ رِطْلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقِيلَ الْفَرَقُ إنَاءٌ ضَخْمٌ مِنْ مَكَايِيلِ الْعِرَاقِ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ وَقِيلَ هُوَ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَكَاهُ أَيْضًا وَلَمْ يَذْكُرْ تَحْدِيدَهُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ لِزَيْنَبِ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ { أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ بِالْفَرَقِ } ، وَهُوَ الصَّاعُ فَفَسَّرَ الْفَرَقَ بِالصَّاعِ ، وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ .
( وَالثَّالِثَةُ ) فِيهِ جَوَازُ اغْتِسَالِ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ مَعًا وَاسْتِعْمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِفَضْلِ الْآخَرِ لِقَوْلِ عَائِشَةَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ { يُبَادِرُنِي وَأُبَادَرُهُ } فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَعْمِلٌ لِفَضْلِ الْآخَرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مِنْ بَابِ مَا يُفْسِدُ الْمَاءَ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ .
( الرَّابِعَةُ ) فِي الْجَمْعِ بَيْنَ مَا ظَاهِرُهُ الِاخْتِلَافُ مِنْ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَحَدِيثُ الْبَابِ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَعَائِشَةُ مِنْ الْإِنَاءِ الْمَذْكُورِ وَرِوَايَةُ مَالِكٍ عِنْد مُسْلِمٍ أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَائِشَةَ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ إسْقَاطَ ذِكْرِ عَائِشَةَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ اغْتِسَالِهَا مَعَهُ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ اغْتَسَلَ مِنْهُ وَحْدَهُ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ اسْتَوْعَبَ الْإِنَاءَ فِي غُسْلِهِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مَرَّةً مَعَهَا وَمَرَّةً وَحْدَهُ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ اللَّيْثِ وَابْنِ عُيَيْنَةَ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا اغْتِسَالَ عَائِشَةَ مَعَهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ : وَكُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا ، وَهُوَ فِي الْإِنَاءِ الْوَاحِدِ أَوْ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهَا هُوَ الْإِنَاءُ الْمَذْكُورُ الَّذِي هُوَ الْفَرَقُ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِحَدِيثِ مَعْمَرٍ وَإِنْ كَانَتْ أَرَادَتْ بَيَانَ اغْتِسَالِهَا مَعَهُ بِغَيْرِ قَيْدِ كَوْنِهِ مِنْ الْإِنَاءِ الَّذِي هُوَ الْفَرَقُ فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ كَالْجَوَابِ عَنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ حَفْصَةَ عَنْ عَائِشَةَ الَّتِي فِيهَا أَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَسِلَانِ مِنْ إنَاءٍ يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ أَوْ قَرِيبَهَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ الْفَرَقِ ، وَقَدْ جَمَعَ الْقَاضِي عِيَاضٌ بَيْنَهُمَا بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِاغْتِسَالِهِ بِثَلَاثَةِ أَمْدَادٍ ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْمُدِّ هُنَا الصَّاعَ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِحَدِيثِ الْفَرَقِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَاغْتَسَلَا مِنْ إنَاءٍ يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ وَزَادَهُ لَمَّا فَرَغَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قُلْت وَلَعَلَّهُمَا أَيْضًا لَمْ يَزِيدَاهُ بَلْ كَفَاهُمَا لِلِاغْتِسَالِ إذْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمَا زَادَاهُ
فَلَا مَانِعَ مِنْ اكْتِفَائِهِمَا بِهِ .
وَقَدْ وَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِيهِ فَبُورِكَ كَمَا وَقَعَ فِي الْقَدَحِ الَّذِي تَوَضَّأَ مِنْهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ وَكَانَ لَا يَسَعُ يَدَهُ أَنْ يَبْسُطَهَا فِيهِ فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) إنْ قَالَ قَائِلٌ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي اغْتِسَالِهِمَا بِالْفَرَقِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِعْمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اغْتِسَالِهِ صَاعًا وَنِصْفَ صَاعٍ إنْ اسْتَعْمَلَاهُ بِالسَّوِيَّةِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ صَاعٍ وَنِصْفٍ إنْ تَفَاضَلَا فَكَيْفَ يَتَّفِقُ هَذَا مَعَ حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ غَايَةَ مَا اغْتَسَلَ بِهِ صَاعٌ وَرُبُعٌ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَفِينَةَ { كَانَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَيَتَطَهَّرُ بِالْمُدِّ } ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ الْفَرَقِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنْ يَكُونَا اسْتَعْمَلَاهُ بِجُمْلَتِهِ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمَا كَانَا يَغْتَسِلَانِ مِنْهُ .
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي قَالَتْ فِيهَا { حَتَّى يَقُولَ دَعِي لِي وَأَقُولُ دَعْ لِي } فَإِنَّهُمَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا أَنَّهُمَا اسْتَكْمَلَا مَاءَ ذَلِكَ الْإِنَاءِ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ذِكْرٌ لِلْفَرَقِ أَصْلًا وَإِنَّمَا قَالَتْ فِيهِ { مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ } فَلَعَلَّ هَذِهِ الْمَرَّةَ كَانَ اسْتِعْمَالُهُمَا لِلْإِنَاءِ الَّذِي يَسَعُ ثَلَاثَةَ أَمْدَادٍ عَلَى تَقْدِيرِ إرَادَةِ الْمُدِّ حَقِيقَةً وَأَنَّهُمَا اغْتَسَلَا مِنْهُ جَمِيعًا وَلَمْ يَزِيدَاهُ عِنْدَ فَرَاغِهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّا وَإِنْ جَوَّزْنَا اسْتِكْمَالَ الْفَرَقِ فِي اغْتِسَالِهِمَا فَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْخَمْسَةِ الْأَمْدَادِ ؛ لِأَنَّ كَانَ لَا تَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَلَا عَلَى التَّكْرَارِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ أَنَسٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى أَنَّهُ زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ وَاطَّلَعَتْ عَائِشَةُ عَلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ اطِّلَاعِهَا عَلَى اغْتِسَالِهِ فَهِيَ أَعْرَفُ مِنْ أَنَسٍ بِذَلِكَ .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ : إنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا اغْتِسَالَاتٌ فِي أَحْوَالٍ حَدَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كَثِيرَهَا وَفِي بَعْضِهَا قَلِيلَهَا وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي قِلَّةِ مَاءِ الطَّهَارَةِ بَلْ الْوَاجِبُ الِاسْتِيعَابُ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَدْ يُدَقِّقُ الْفَقِيهُ بِالْقَلِيلِ فَيَكْفِي وَيَخْرِقُ الْأَخْرَقُ بِالْكَثِيرِ فَلَا يَكْفِي انْتَهَى إلَّا أَنَّ مِمَّا يَسْتَشْكِلُ مِنْ ذَلِكَ الرِّوَايَةُ الَّتِي عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ بِخَمْسِ مَكَاكِيكَ وَيَتَوَضَّأُ بِمَكُّوكٍ } فَإِنَّ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الصِّحَاحِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَمْسَةَ الْمَكَاكِيكَ سِتَّةٌ وَخَمْسُونَ رِطْلًا وَرُبُعُ رِطْلٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الْمَكُّوكَ ثَلَاثُ كِيلَجَاتٍ وَالْكِيلَجَةُ مَنٌّ وَسَبْعَةُ أَثْمَانِ مَنٍّ ، وَالْمَنُّ رِطْلَانِ وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ غَيْرِ صَاحِبِ الصِّحَاحِ أَنَّ الْمَكُّوكَ مِكْيَالٌ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ يَسَعُ صَاعًا وَنِصْفَ صَاعٍ بِالْمَدَنِيِّ انْتَهَى .
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْمَكَاكِيكُ الْخَمْسَةُ أَرْبَعِينَ رِطْلًا لَا جَرَمَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكُّوكِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمُدُّ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَلَمْ يَذْكُرْ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ مِقْدَارَ الْمَكُّوكِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ بَلْ قَالَ لَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْمَكُّوكِ هُنَا الْمُدُّ انْتَهَى وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّحْدِيدِ فِي مَاءِ الطَّهَارَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ بِإِنَاءٍ فِيهِ قَدْرُ ثُلُثَيْ مُدٍّ } وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ عَدِيٍّ وَضَعَّفَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ بِنِصْفِ مُدٍّ } وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا بِلَفْظِ بِقِسْطٍ مِنْ مَاءٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا ، وَالْقِسْطُ نِصْفُ مُدٍّ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى ابْنِ شَعْبَانَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ حَيْثُ قَالَ لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ مُدٍّ فِي الْوُضُوءِ وَصَاعٍ فِي الْغُسْلِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَحَدِيثُ الثَّلَاثَةِ أَمْدَادٍ يَرُدُّ عَلَيْهِ انْتَهَى .
وَهَكَذَا حَكَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ حَدِيثًا آخَرَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِثُلُثِ مُدِّ وَحَدِيثٌ آخَرُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِمَا لَا يَلُتُّ الثَّرَى وَلَا أَصْلَ لَهُمَا وَبَلَغَنِي عَنْ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مَرَّةً بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا أُوقِيَّةٍ وَنِصْفٍ وَمَا أَدْرِي كَيْفَ يُمْكِنُ جَرَيَانُ الْمَاءِ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ أَوْ أَضْعَافِهِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ جَرَيَانُ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ الْمَغْسُولِ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا ، وَقَدْ أَوَّلَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وُضُوءَهُ بِثُلُثَيْ مُدٍّ وَحَمَلَهُ عَلَى رِوَايَةِ وُضُوئِهِ بِمُدٍّ فَقَالَ : إنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ ثُلُثَا مُدٍّ هُوَ فِي حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَاذٍ .
وَالْمُدُّ مُدَّانِ مُدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُدُّ هِشَامِ بْنِ إسْمَاعِيلَ ، وَهُوَ أَزْيَدُ مِنْ الْمُدِّ الْأَوَّلِ قِيلَ بِثُلُثٍ وَقِيلَ بِنِصْفٍ لَكِنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَارِيخِ مَوْتِ الرُّبَيِّعِ وَمُدَّةِ وِلَايَةِ هِشَامِ بْنِ إسْمَاعِيلَ وَهَلْ أَدْرَكَتْ زَمَن هِشَامِ بْنِ إسْمَاعِيلَ أَوْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فَلَا دَلَالَةَ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ أَرَادَتْ مُدَّ هِشَامٍ قَالَ وَلَا يُتَوَهَّمَنَّ أَنَّ قَوْلَهَا فَأَتَى بِمَا قَدْرَ ثُلُثَيْ مُدٍّ يَتَعَيَّنُ لَأَنْ يَكُونَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهَا إذَا أَدْرَكَتْ مُدَّ هِشَامٍ جَازَ أَنْ تُعَيِّنَ مَا كَانَ أَوَّلًا عِنْدَ الْمِقْدَارِ
بِثُلُثَيْ الْمِقْدَارِ الْحَاضِرِ عِنْدَ إخْبَارِهَا انْتَهَى وَفِي كَلَامِهِ نَظَرٌ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حَدِيثَ ثُلُثَيْ الْمُدِّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ وَاسْمُهَا نُسَيْبَةُ وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَكِلَاهُمَا لَمْ تَتَأَخَّرْ وَفَاتُهُ إلَى مُدِّ هِشَامٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ أَصْحَابِنَا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُسْتَحَبُّ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَاءِ لِلْغُسْلِ ، وَالْوُضُوءِ هَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ فِي الْغُسْلِ عَنْ صَاعٍ وَلَا فِي الْوُضُوءِ عَنْ مُدٍّ أَوْ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ ؟ فَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : إنَّ كَلَامَ الْأَصْحَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ الِاقْتِصَارُ عَلَى الصَّاعِ ، وَالْمُدِّ ؛ لِأَنَّ الرِّفْقَ مَحْبُوبٌ قَالَ : وَعَلَيْهِ يَدُلُّ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَتَأْتِي أَقْوَامٌ يَسْتَقِلُّونَ هَذَا فَمَنْ رَغِبَ فِي سُنَّتِي وَتَمَسَّكَ بِهَا بُعِثَ مَعِي فِي حَضِيرَةِ الْقُدْسِ } انْتَهَى .
وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا أَصْلَ لَهُ ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ .
( السَّابِعَةُ ) ذَكَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْقَوَاعِدِ أَنَّ اسْتِحْبَابَ الصَّاعِ فِي الْغُسْلِ ، وَالْمُدِّ فِي الْوُضُوءِ هُوَ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مُعْتَدِلُ الْخَلْقِ كَاعْتِدَالِ خَلْقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَ ضَئِيلَ الْخَلْقِ أَوْ مُتَفَاحِشَهُ طُولًا أَوْ ضَخْمًا فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي وُضُوئِهِ مَاءً نِسْبَتُهُ إلَى جَسَدِهِ كَنِسْبَةِ الْمُدِّ إلَى جَسَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ حَسَنٌ مُتَّجَهٌ .
بَابُ التَّيَمُّمِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَتَى النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ فَقَالُوا : أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ حَبَسْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ ؟ قَالَتْ فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ ، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْت عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ } .
بَابُ التَّيَمُّمِ .
هُوَ فِي اللُّغَةِ الْقَصْدُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ يُقَالُ تَيَمَّمْت فُلَانًا وَيَمَّمْتُهُ وَأَمَمْتُهُ أَيْ قَصَدْتُهُ ، وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَهُوَ الْقَصْدُ إلَى الصَّعِيدِ لِلطَّهَارَةِ بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ الْعَجْزِ الشَّرْعِيِّ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ فَيَضْرِبُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ كَذَلِكَ .
( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ { عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَأَتَى النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ فَقَالُوا أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ : حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالنَّاسُ لَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ قَالَتْ : فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ وَجَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إلَّا مَكَانُ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ فَتَيَمَّمُوا قَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ ، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ : مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْت عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ } .
فِيهِ فَوَائِدُ ( الْأُولَى ) هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ خَلَا التِّرْمِذِيِّ فَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ
مَالِكٍ ، وَالْبُخَارِيِّ وَحْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَسَمِ وَرَوَاهُ السِّتَّةُ خَلَا التِّرْمِذِيِّ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ جَوَازُ مُسَافَرَةِ الرَّجُلِ بِزَوْجَتِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيهِ خُرُوجُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْأَسْفَارِ قَالَ وَخُرُوجُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْغَزَوَاتِ وَغَيْرِ الْغَزَوَاتِ مُبَاحٌ إذَا كَانَ الْعَسْكَرُ كَثِيرًا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْغَلَبَةُ وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ وَنِسْوَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى } .
( الثَّالِثَةُ ) يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ خُرُوجِ الرَّجُلِ بِزَوْجَتِهِ فِي سَفَرٍ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ زَوْجَةٌ حُرَّةٌ غَيْرُهَا فَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ أُخْرَى فَأَكْثَرُ فَإِنَّمَا يَجُوز تَخْصِيصُ بَعْضِهِنَّ بِالْخُرُوجِ بِالْقُرْعَةِ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا } .
الْحَدِيثَ فَقَوْلُ عَائِشَةَ خَرَجْنَا هَلْ أَرَادَتْ نَفْسَهَا فَقَطْ مَعَ جُمْلَةِ النَّاسِ أَوْ أَرَادَتْ نَفْسَهَا وَبَعْضَ زَوْجَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْتَمَلُ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ السَّفْرَةُ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهِيَ الْمُرَيْسِيعُ كَمَا قِيلَ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْفَائِدَةِ الَّتِي تَلِيهَا فَقَدْ خَرَجَ مَعَهُ فِيهَا بِعَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي السِّيَرِ .
( الرَّابِعَةُ ) وَقَوْلُ عَائِشَةَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ لَمْ يَقَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْيِينُ هَذَا السَّفَرِ الَّذِي أَبْهَمَتْهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غُزَاةِ الْمُرَيْسِيعِ فَإِنَّ مَشْرُوعِيَّةَ التَّيَمُّمِ كَانَتْ فِيهَا وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ فَإِنَّ غَزَاةَ الْمُرَيْسِيعِ كَانَتْ
مِنْ نَاحِيَةِ مَكَّةَ بَيْنَ قُدَيْدٍ وَسَاحِلِ الْبَحْرِ ، وَهَذِهِ السَّفْرَةُ كَانَتْ مِنْ نَاحِيَةِ خَيْبَرَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ وَهُمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي تَعْيِينِ الْمَكَانِ الَّذِي ضَاعَ فِيهِ الْعِقْدُ كَمَا سَيَأْتِي .
وَكَانَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ قَلَّدَ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ قَالَ فِي الطَّبَقَاتِ جَازِمًا بِهِ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ أَيْضًا لَا عَلَى طَرِيقِ الْجَزْمِ بَلْ قَالَ يُقَالُ إنَّهُ كَانَ فِي غُزَاةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَكَأَنَّهُ أَيْضًا عَنَى عَنْ ابْنِ سَعْدٍ .
وَلَقَدْ أَحْسَنَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ حَيْثُ إنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِهِ كَمَا جَزَمَ ابْنُ سَعْدٍ ، وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ الْمُرَيْسِيعِ كَمَا رَوَيْنَاهُ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ عِقْدِي مَا كَانَ قَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ أُخْرَى فَسَقَطَ أَيْضًا عِقْدِي حَتَّى حَبَسَ الْتِمَاسُهُ النَّاسَ وَطَلَعَ الْفَجْرُ فَلَقِيتُ مَا شَاءَ اللَّهُ .
وَقَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ يَا بُنَيَّةُ فِي كُلِّ سَفْرَةٍ تَكُونِينَ عَنَاءً وَبَلَاءً وَلَيْسَ مَعَ النَّاسِ مَاءٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ بِالتَّيَمُّمِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاَللَّهِ يَا بُنَيَّةُ إنَّكِ كَمَا عَلِمْتُ مُبَارَكَةٌ } .
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ نُزُولَ التَّيَمُّمِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْمُرَيْسِيعِ وَكَانَ مِنْ ذِكْرِهِ فِيهَا وَهَلْ مِنْ عِقْدِهَا الَّذِي سَقَطَ مِنْهَا فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْمُرَيْسِيعِ إلَى سُقُوطِ عِقْدِهَا فِي قِصَّةِ التَّيَمُّمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهَا حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ
بِذَاتِ الْجَيْشِ هَكَذَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ رُوَاةُ الْمُوَطَّإِ عَنْ مَالِكٍ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ عَلَى الشَّكِّ وَكَأَنَّهُ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ عَنْ عَائِشَةَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ عَائِشَةَ تَرَدَّدَتْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ سَقَطَ عِقْدُهَا وَفِيهِ بُعْدٌ ، وَالْبَيْدَاءُ مَمْدُودٌ .
وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَذَاتُ الْجَيْشِ بِالْجِيمِ ، وَالْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ وَآخِرُهُ شِينٌ مُعْجَمَةٌ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : هُمَا مَوْضِعَانِ قَرِيبَانِ مِنْ الْمَدِينَةِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ هُمَا مَوْضِعَانِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ قُلْت : وَالْبَيْدَاءُ عِدَّةُ مَوَاضِعَ مِنْهَا بَيْدَاءُ ذِي الْحُلَيْفَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا ابْنُ عُمَرَ بَيْدَاؤُكُمْ الَّتِي تَكْذِبُونَ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي يَتَرَجَّحُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ بِذَاتِ الْجَيْشِ فَإِنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ قَدْ رَوَاهُ فَقَالَ فِيهِ بِأُولَاتِ الْجَيْشِ لَمْ يَشُكَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْدَاءِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَائِدَةِ بَعْدَهَا فَهُوَ أَوْلَى ، وَقَدْ رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ فَذَكَرَ أَنَّهُ بِالْبَيْدَاءِ لَمْ يَشُكَّ ، وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) اخْتَلَفَتْ طُرُقُ الْحَدِيثِ فِي تَعْيِينِ الْمَكَانِ الَّذِي ضَاعَ فِيهِ الْعِقْدُ فَقَالَ مَالِكٌ مَا تَقَدَّمَ وَرَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ فِيهِ فَأَكْثَرُ الرُّوَاةُ عَنْهُ لَمْ يَذْكُرُوا الْمَكَانَ ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَرَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْهُ فَقَالَ فِيهِ : إنَّهَا سَقَطَتْ قِلَادَتُهَا لَيْلَةَ الْأَبْوَاءِ كَذَا رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِ سُفْيَانَ وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ فَقَالَ : وَكَانَ هَذَا الْمَكَانُ يُقَالُ لَهُ الصَّلْصَلُ رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ .
وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامٍ فَقَالَ فِيهِ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ إلَى الْمُعَرَّسِ يَلْتَمِسَانِ الْقِلَادَةَ فَأَمَّا حَدِيثُ سُفْيَانَ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ الْأَبْوَاءَ جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ ، وَالْمَدِينَةِ ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَلْصَلٌ فِي جِهَةِ ذَاتِ الْجَيْشِ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فَلَيْسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِالْمُعَرَّسِ مَكَانٌ مَعْرُوفٌ ، وَإِنَّمَا أُرِيدَ الْمَكَانُ الَّذِي عَرَّسُوا فِيهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ حَدِيثِهِ فَعَرَّسُوا ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ الْآتِي وَرِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ وَيَشْهَدُ لَهَا حَدِيثُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ { عَرَّسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُولَاتِ الْجَيْشِ وَمَعَهُ عَائِشَةُ زَوْجَتُهُ فَانْقَطَعَ عِقْدُهَا مِنْ جَزْعِ ظَفَارَ فَحُبِسَ النَّاسُ فِي ابْتِغَاءِ عِقْدِهَا ذَلِكَ حَتَّى أَضَاءَ الْفَجْرُ } الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَلَيْسَ اخْتِلَافُ النَّقَلَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَ ذَلِكَ فِيهِ مَا يُوهِنُ شَيْئًا مِنْ الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُرَادَ مِنْ الْحَدِيثِ هُوَ نُزُولُ آيَةِ
التَّيَمُّمِ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهَا انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي الْعِقْدُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ هُوَ كُلُّ مَا يُعْقَدُ وَيُعَلَّقُ فِي الْعُنُقِ وَهَكَذَا عِنْدَ مَالِكٍ أَنَّ الْعِقْدَ لِعَائِشَةَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْهَا أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً فَهَلَكَتْ ، وَقَدْ جَعَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي الْحَدِيثِ وَقَالَ لَيْسَ اخْتِلَافُ النَّقَلَةِ فِي الْعِقْدِ ، وَالْقِلَادَةِ وَلَا فِي قَوْلِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ عِقْدٌ لِي وَقَوْلِ هِشَامٍ إنَّ الْقِلَادَةَ اسْتَعَارَتْهَا مِنْ أَسْمَاءَ مَا يُوهِنُ شَيْئًا مِنْ الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُرَادَ مِنْ الْحَدِيثِ نُزُولُ آيَةِ التَّيَمُّمِ وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي ذَلِكَ انْتَهَى وَلَمْ يَجْعَلْهُ النَّوَوِيُّ اخْتِلَافًا بَلْ قَالَ إنَّهُ يُسَمَّى عِقْدًا وَيُسَمَّى قِلَادَةً وَفِي رِوَايَةٍ لِلْقَاسِمِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ تَسْمِيَتُهَا قِلَادَةً أَيْضًا .
وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ وَأَنَّهُ لَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ نِسْبَتِهِ لِعَائِشَةَ وَكَوْنِهَا اسْتَعَارَتْهُ مِنْ أَسْمَاءَ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِلْكٌ لِأَسْمَاءِ وَأَضَافَتْهُ إلَى نَفْسِهَا لِكَوْنِهِ فِي يَدِهَا وَكَذَلِكَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَضَافَتْهُ لِنَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي حَوْزِهَا .
( الثَّامِنَةُ ) فِيهِ جَوَازُ اتِّخَاذِ النِّسَاءِ الْقَلَائِدَ وَفِي حَدِيثِ عَمَّارٍ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جَزْعِ ظَفَارَ ، وَالْجَزْعُ خَرَزُ يَمَانٍ وَظَفَارُ مَدِينَةٌ لِحِمْيَرَ بِالْيَمَنِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَسْرِ كَعِظَامِ وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ كَانَ قِيمَتُهُ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا .
( التَّاسِعَةُ ) فِيهِ اعْتِنَاءُ الْإِمَامِ ، وَالْأَمِيرِ بِحِفْظِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ قَلَّتْ وَإِقَامَتُهُ بِالرَّكْبِ لِتَحْصِيلِ ضَائِعٍ وَلِحَاقِ مُنْقَطِعٍ وَدَفْنِ مَيِّتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَصَالِحِ الرَّعِيَّةِ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَالَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ : فِيهِ النَّهْيُ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَ ) فِيهِ جَوَازُ سُلُوكِ الطَّرِيقِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَهُوَ مُسَلَّمٌ فِيمَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَاءٌ لِلطَّهَارَةِ لِجَوَازِ رُجُوعِهِ إلَى بَدَلِهِ ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَاءٌ مُطْلَقًا لَا لِشُرْبٍ وَلَا لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَحْمِلْ مَعَهُ مَاءً لِذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ أَلْقَى بِنَفْسِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ بِالْجَوَازِ لِجَوَازِ إرْسَالِ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ مَاءً يَكْفِيه لِشُرْبِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَ ) فِيهِ جَوَازُ الْإِقَامَةِ فِي مَوْضِعٍ لَا مَاءَ فِيهِ وَإِنْ احْتَاجَ إلَى التَّيَمُّمِ .
( الثَّالِثَةَ عَشَرَ ) فِيهِ شَكْوَى الْمَرْأَةِ إلَى ابْنِهَا وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَ ) فِيهِ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى مَنْ كَانَ سَبَبًا فِيهِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ أَيْ إنَّ إضَاعَتَهَا لِلْعِقْدِ كَانَ سَبَبًا لِذَلِكَ فَذَهَبَ إلَيْهَا كَقَوْلِهِ لَعَنَ اللَّهُ الرَّجُلَ يَسُبُّ وَالِدِيهِ وَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ .