كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ
الْعِرَاقِيُّ
وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالنُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَطَاوُسٌ وَمَكْحُولٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ وَنَافِعٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُمْ عِدَّةٌ كَثِيرَةٌ انْتَهَى .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَقَدْ رَوَيْنَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَأَبِي الزُّبَيْرِ ثُمَّ عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَاللَّيْثِ وَابْنِ عُيَيْنَةَ ثُمَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَيَحْيَى الْقَطَّانِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ وَعِدَّةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْآثَارِ بِالْبُلْدَانِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِيمَا سِوَى الِافْتِتَاحِ ، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَتَعَلَّقَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مَالِكٍ أَكْثَرُ الْمَالِكِيِّينَ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ انْتَهَى .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ عَنْ مَالِكٍ مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ قَالَ مُحَمَّدٌ وَاَلَّذِي آخُذُ بِهِ أَنْ أَرْفَعَ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ الرَّفْعَ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَقَطْ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْأَسْوَدِ وَعَلْقَمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَخَيْثَمَةَ وَقَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ وَأَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ .
وَحَكَاهُ عَنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْ عُمَرَ ، وَذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ عَنْهُ الرَّفْعُ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا هُوَ مَشْهُورُ
مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الرَّفْعَ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ هُوَ آخِرُ أَقْوَالِهِ وَأَصَحُّهَا .
وَالْمَعْرُوفُ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ وَمَذْهَبِ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ إلَّا مَنْ ذَكَرَ انْتَهَى .
وَكَذَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ إنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي آخِرِ أَمْرِهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَعْلَمُ مِصْرًا مِنْ الْأَمْصَارِ تَرَكُوا بِأَجْمَعِهِمْ رَفْعَ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَهْلَ الْكُوفَةِ فَكُلُّهُمْ لَا يَرْفَعُ إلَّا فِي الْإِحْرَامِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ تَرْكُ الرَّفْعِ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ مِمَّنْ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فِيهِ إلَّا ابْنُ مَسْعُودٍ وَحْدُهُ .
وَرَوَى الْكُوفِيُّونَ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَ ذَلِكَ وَرَوَى الْمَدَنِيُّونَ عَنْهُ الرَّفْعَ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ انْتَهَى .
وَذَكَرَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ أَنَّ الطَّرِيقَ عَنْ عَلِيٍّ فِي تَرْكِ الرَّفْعِ وَاهِيَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ الزَّعْفَرَانِيِّ عَنْهُ وَلَا يَثْبُتُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا عَنْهُمَا لَا يُثْبِتُهُ أَنْ يَكُونَ رَآهُمَا مَرَّةً أَغْفَلَا رَفْعَ الْيَدَيْنِ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : ذَهَبَ عَنْهُمَا حِفْظُ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَفِظَهُ ابْنُ عُمَرَ لَكَانَتْ لَهُ الْحُجَّةُ انْتَهَى .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ وَكِيعٍ قَالَ صَلَّيْت فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فَإِذَا أَبُو حَنِيفَةَ قَائِمٌ يُصَلِّي وَابْنُ الْمُبَارَكِ إلَى جَنْبِهِ يُصَلِّي فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ كُلَّمَا رَكَعَ وَكُلَّمَا رَفَعَ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرْفَعُ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِعَبْدِ اللَّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَيْتُك تُكْثِرُ رَفْعَ الْيَدَيْنِ أَرَدْت أَنْ تَطِيرَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ يَا أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ رَأَيْتُك تَرْفَعُ يَدَيْك حِينَ افْتَتَحْت الصَّلَاةَ فَأَرَدْتَ أَنْ تَطِيرَ فَسَكَتَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ وَكِيعٌ : مَا رَأَيْت جَوَابًا أَحْضَرَ مِنْ جَوَابِ
عَبْدِ اللَّهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ اجْتَمَعَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ بِمِنًى فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لِلثَّوْرِيِّ : لِمَ لَا تَرْفَعُ يَدَيْك فِي خَفْضِ الرُّكُوعِ وَرَفْعِهِ ؟ .
فَقَالَ الثَّوْرِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ أَرْوِي لَك عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُعَارِضُنِي بِيَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَيَزِيدُ رَجُلٌ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ وَحَدِيثُهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ قَالَ فَاحْمَارَّ وَجْهُ سُفْيَانَ فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ كَأَنَّك كَرِهْتَ مَا قُلْتُ قَالَ الثَّوْرِيُّ نَعَمْ فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ قُمْ بِنَا إلَى الْمَقَامِ نَلْتَعِنُ أَيُّنَا عَلَى الْحَقِّ قَالَ فَتَبَسَّمَ الثَّوْرِيُّ لَمَّا رَأَى الْأَوْزَاعِيَّ قَدْ احْتَدَّ .
( الثَّانِيَةُ ) الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ فِعْلُ الرَّفْعِ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ وَلَا اسْتِحْبَابِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ مُحْتَمِلٌ لَهُمَا وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَقِيلَ بِالْوُجُوبِ وَسَنُوَضِّحُ ذَلِكَ .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَجْمَعَتْ الْأَمَةُ عَلَى اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَاهَا انْتَهَى .
وَفِي حِكَايَةِ هَذَا الْإِجْمَاعِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ ، أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ بِوُجُوبِهِ وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَسْطُرٍ أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ الرَّفْعِ وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد إيجَابُهُ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَبِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ السَّيَّارِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَصْحَابِ الْوُجُوهِ انْتَهَى .
( قُلْت ) وَحَكَاهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي تَعْلِيقِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كُلُّ مَنْ رَأَى الرَّفْعَ وَعَمِلَ بِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يُبْطِلُ صَلَاةَ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ إلَّا الْحُمَيْدِيُّ وَبَعْضُ أَصْحَابِ دَاوُد وَرِوَايَةٌ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ثُمَّ حُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّفْعَ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ فَقِيلَ لَهُ فَإِنْ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ ذَلِكَ نَقْصٌ مِنْ صَلَاتِهِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَوْلُ الْحُمَيْدِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ شُذُوذٌ عَنْ الْجُمْهُورِ وَخَطَأٌ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ انْتَهَى .
وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ إيجَابَهُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ وَالْقِيَامِ مِنْ السُّنَنِ عَنْ قَوْمٍ وَاعْتَرَضَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا يُوجِبُ الرَّفْعَ وَحَكَى صَاحِبُ الْمُفْهِمِ عَنْ بَعْضِهِمْ وُجُوبَ الرَّفْعِ كُلِّهِ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْمُحَلَّى : وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ لِلتَّكْبِيرِ مِنْ الْإِحْرَامِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ فَرْضٌ لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ ثُمَّ قَالَ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ مَنْ
تَقَدَّمَ مِنْ أَصْحَابِنَا انْتَهَى .
وَقَدْ ثَبَتَ بِذَلِكَ وُجُودُ الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الرَّفْعِ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بَلْ فِي وُجُوبِ الرَّفْعِ كُلِّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( ثَانِيهِمَا ) أَنَّ بَعْضَهُمْ لَا يَسْتَحِبُّ الرَّفْعَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ حَكَاهَا عَنْهُ ابْنُ شَعْبَانَ وَابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَابْنُ الْقَصَّارِ وَلِهَذَا حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الرَّفْعِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَكَأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ إلَى الْجَوَازِ لِهَذِهِ الْقَوْلَةِ لَكِنَّهَا رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) قَوْلُهُ { إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ } ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إنَّمَا رَفَعَ يَدَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِ التَّكْبِيرِ ؛ لِأَنَّ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ هُوَ التَّكْبِيرُ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ شَرَعَ فِي الرَّفْعِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي التَّكْبِيرِ فَأَتَى بِالرَّفْعِ وَالتَّكْبِيرِ مُقْتَرِنَيْنِ وَهَذَا مَذْهَبٌ سَنَحْكِيهِ وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ أَوْلَى ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى تَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ كَبَّرَ وَهُمَا كَذَلِكَ } وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي تَقْدِيمِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى التَّكْبِيرِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلِأَصْحَابِنَا فِيهَا خَمْسَةُ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ يَرْفَعُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ ثُمَّ يَبْتَدِئُ التَّكْبِيرَ مَعَ إرْسَالِ الْيَدَيْنِ وَيُنْهِيهِ مَعَ انْتِهَائِهِ .
( وَالثَّانِي ) يَرْفَعُ غَيْرَ مُكَبِّرٍ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَدَاهُ قَارَّتَانِ ثُمَّ يُرْسِلُهُمَا وَيَدُلُّ لَهُ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُنْسَبُ إلَى رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ وَالرِّوَايَةُ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ ظَاهِرُهَا مُخَالِفٌ لَهُ وَكَأَنَّ الشَّيْخَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَسْتَحْضِرْ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُد هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .
( وَالثَّالِثُ ) يَبْتَدِئُ الرَّفْعَ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ وَيُنْهِيهِمَا مَعًا وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَالتَّحْقِيقِ وَقَالَ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ الْمُسَمَّى بِالتَّنْقِيحِ إنَّهُ الْأَصَحُّ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَالرَّابِعُ يَبْتَدِئُهُمَا مَعًا وَيُنْهِي التَّكْبِيرَ مَعَ انْتِهَاءِ الْإِرْسَالِ .
( وَالْخَامِسُ ) يَبْتَدِئُ الرَّفْعَ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ وَلَا اسْتِحْبَابَ فِي الِانْتِهَاءِ فَإِنْ فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرِ قَبْلَ تَمَامِ الرَّفْعِ أَوْ
بِالْعَكْسِ تَمَّمَ الْبَاقِيَ وَإِنْ فَرَغَ مِنْهُمَا حَطَّ يَدَيْهِ وَلَمْ يَسْتَدِمْ الرَّفْعَ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي بَقِيَّةِ كُتُبِهِ تَبَعًا لِنَقْلِ الرَّافِعِيِّ لَهُ عَنْ تَرْجِيحِ الْأَكْثَرِينَ وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْوَسِيطِ قَالَ الْمُحَقِّقُونَ : لَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا بَلْ صَحَّتْ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا فَلْنَقْبَلْ الْكُلَّ وَلْنُجَوِّزْهَا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ وَتَبِعَ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ فَإِنَّهُ حَكَى عَنْ وَالِدِهِ أَنَّ الْكَيْفِيَّاتِ كُلَّهَا عَلَى السَّوَاءِ وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِنَا .
وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ وَإِذَا شَرَعَ فِي التَّكْبِيرِ رَفَعَ يَدَيْهِ مَعَهُ عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ الْمَذْهَبِ وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِهِ فِي الْبِدَايَةِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ التَّكْبِيرِ : هَذَا اللَّفْظُ يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ الْمُقَارَنَةِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْمَحْكِيُّ عَنْ الطَّحَاوِيِّ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَرْفَعُ أَوَّلًا ثُمَّ يُكَبِّرُ ؛ لِأَنَّ فِي فِعْلِهِ نَفْيَ الْكِبْرِيَاءِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ ، وَالنَّفْيُ مُقَدَّمٌ انْتَهَى .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ } بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ أَوَّلِهِ أَيْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الرَّفْعِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ { رَفَعَ } أَيْ حَتَّى يُحَاذِيَ الرَّفْعُ مَنْكِبَيْهِ وَفِي حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ { حَتَّى حَاذَتَا أُذُنَيْهِ } وَهُوَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَأَخَذَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ بِحَدِيثِ وَائِلٍ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ : الْمُصَلِّي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَإِنْ شَاءَ إلَى الْأُذُنَيْنِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَهَذَا مَذْهَبٌ حَسَنٌ وَأَنَا إلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَمِيلُ انْتَهَى .
وَأَخَذَ بِحَدِيثِ وَائِلٍ فِي ذَلِكَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ فَإِمَّا أَنْ يُؤْخَذَ بِالْجَمِيعِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَإِمَّا أَنْ تُتْرَكَ رِوَايَةُ مَنْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَلَيْهِ وَيُؤْخَذُ بِرِوَايَةِ مَنْ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ يَعْنِي رِوَايَةَ الرَّفْعِ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهَا أَثْبَتُ إسْنَادًا وَأَنَّهَا حَدِيثُ عَدَدٍ وَالْعَدَدُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنْ وَاحِدٍ انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَيْفِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَا فَوْقَ أُذُنَيْهِ مَعَ رَأْسِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ أُذُنَيْهِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُهُمَا إلَى صَدْرِهِ وَكُلُّهَا آثَارٌ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ وَأَثْبَتُ مَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ هَذَا وَفِيهِ { حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ } وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ .
وَقَدْ رَوَى
مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَع يَدَيْهِ فِي الْإِحْرَامِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَفِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ دُونَ ذَلِكَ قَلِيلًا وَكُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ حَسَنٌ وَابْنُ عُمَرَ رَوَى الْحَدِيثَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَخْرَجِهِ وَتَأْوِيلِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ انْتَهَى .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيُّ فِي صِفَةِ الرَّفْعِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : حَذْوَ الصَّدْرِ ، وَقِيلَ حَذْوَ الْمَنْكِبِ ، وَقِيلَ حَذْوَ الْأُذُنِ فَأَمَّا حِيَالَ الصَّدْرِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَأَمَّا حِيَالَ الْمَنْكِبِ وَالْأُذُنِ فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنْ تَكُونَ أَطْرَافُ الْأَصَابِعِ بِإِزَاءِ الْأُذُنَيْنِ وَآخِرُ الْكَفِّ بِإِزَاءِ الْمَنْكِبَيْنِ فَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ الْجَمَاهِيرِ أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ بِحَيْثُ يُحَاذِي أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ فُرُوعَ أُذُنَيْهِ أَيْ أَعْلَى أُذُنَيْهِ وَإِبْهَامَاهُ شَحْمَتِي أُذُنَيْهِ وَرَاحَتَاهُ مَنْكِبَيْهِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ وَبِهَذَا جَمَعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي الْوَجِيزِ فِي قَدْرِ الرَّفْعِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ لِلشَّافِعِيِّ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ ( وَالثَّانِي ) إلَى أَنْ تُحَاذِيَ رُءُوسُ أَصَابِعِهِ أُذُنَيْهِ ( وَالثَّالِثُ ) إلَى أَنْ تُحَاذِيَ أَطْرَافُ أَصَابِعِهِ أُذُنَيْهِ وَإِبْهَامَاهُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ وَكَفَّاهُ مَنْكِبَيْهِ قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالْمُرَادُ مِنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ بِأَصَابِعِهِ مَنْكِبَيْهِ وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْأُذُنِ هُوَ شَحْمَتَهُ وَأَسَافِلَهُ لَا أَعْلَاهُ وَإِلَّا اتَّحَدَ مَعَ الْقَوْلِ الثَّالِثِ وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْقَوْلُ الثَّالِثِ وَلَمْ يَنْقُلْ
مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَلَمْ أَرَ حِكَايَةَ الْخِلَافِ إلَّا لِابْنِ كَجٍّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ لَكِنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا إلَّا الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ فَظَهَرَ تَفَرُّدُ الْغَزَالِيِّ بِمَا نَقَلَ مِنْ حِكَايَةِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ لَا إلَى الْأُذُنَيْنِ وَاخْتَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنْ يُحَاذِيَ بِالْكُوعِ الصَّدْرَ وَبِطَرَفِ الْكَفِّ الْمَنْكِبَ وَبِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ الْأُذُنَيْنِ وَهَذَا إنَّمَا يَتَهَيَّأُ إذَا كَانَتْ يَدَاهُ قَائِمَتَيْنِ ، رُءُوسُ أَصَابِعِهِمَا مِمَّا يَلِي السَّمَاءَ وَهُوَ صِفَةُ الْعَابِدِ وَقَالَ سَحْنُونٌ يَكُونَانِ مَبْسُوطَتَيْنِ بُطُونُهُمَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ وَظُهُورُهُمَا مِمَّا يَلِي السَّمَاءَ وَهِيَ صِفَةُ الرَّاهِبِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ إنَّمَا كَانَ الرَّفْعُ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { وَقَتَ كَانَتْ يَدَاهُ فِي ثِيَابِهِ } بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ { فَرَأَيْته يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ } وَفِيهِ { ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَعَلَيْهِمْ الْأَكْسِيَةُ وَالْبَرَانِسُ فَكَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ وَأَشَارَ شَرِيكٌ إلَى صَدْرِهِ } انْتَهَى .
وَاعْتَرَضَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ وَائِلٍ { الرَّفْعُ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ } أَيْضًا وَهُوَ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ بَقِيَّةَ الرِّوَايَاتِ قَالَ : مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُسْتَطَاعُ الرَّفْعُ فِي الثِّيَابِ إلَى الْأُذُنَيْنِ وَفِي زَعْمِهِ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ وَلَمْ يَرْفَعْهُمَا فِي رِوَايَتِهِ إلَّا إلَى صَدْرِهِ فَكَيْفَ حَمَلَ سَائِرَ الْأَخْبَارِ عَلَى خَبَرِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا حَمَلَهَا عَلَيْهِ ا هـ .
( الْخَامِسَةُ ) قَالَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ لَا فَرْقَ فِي مُنْتَهَى الرَّفْعِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ يَرْفَعُ الرَّجُلُ إلَى الْأُذُنَيْنِ وَالْمَرْأَةُ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ أَنَّهَا كَانَتْ تَرْفَعُ يَدَيْهَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهَا وَعَنْ الزُّهْرِيِّ تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ يَدَيْهَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهَا وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُمَا قَالَا : تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ يَدَيْهَا فِي الصَّلَاةِ حَذْوَ ثَدْيَيْهَا وَعَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ أَنَّهَا رَفَعَتْ يَدَيْهَا فِي الصَّلَاةِ حَذْوَ ثَدْيَيْهَا وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ إنَّ لِلْمَرْأَةِ هَيْئَةٌ لَيْسَتْ لِلرِّجَالِ وَإِنْ تَرَكَتْ ذَلِكَ فَلَا حَرَجَ .
( السَّادِسَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْعُلَمَاءِ فِي الْحِكْمَةِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَعَلْتُهُ إعْظَامًا لِلَّهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ غَيْرُهُ : هُوَ اسْتِكَانَةٌ وَاسْتِسْلَامٌ وَانْقِيَادٌ وَكَانَ الْأَسِيرُ إذَا غُلِبَ مَدَّ يَدَيْهِ إعْلَامًا بِاسْتِسْلَامِهِ وَقِيلَ : هُوَ إشَارَةٌ إلَى اسْتِعْظَامِ مَا دَخَلَ فِيهِ وَقِيلَ : إشَارَةٌ إلَى طَرْحِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى صَلَاتِهِ وَمُنَاجَاةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ قَوْلُهُ : اللَّهُ أَكْبَرُ فَتَطَابَقَ فِعْلُهُ وَقَوْلُهُ وَقِيلَ : إشَارَةٌ إلَى دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا الْأَخِيرُ يَخْتَصُّ بِالرَّفْعِ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ وَفِي أَكْثَرِهَا نَظَرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ا هـ .
وَهَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرُ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إلَى دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ قَدْ ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مَعَ زِيَادَةٍ فِيهِ وَهُوَ إعْلَامُ الْأَصَمِّ وَنَحْوِهِ بِذَلِكَ وَذَكَرَهُ أَيْضًا الْمُهَلَّبِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إلَى نَفْيِ الْكِبْرِيَاءِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ قِيلَ : فِيهِ أَقْوَالٌ أَنْسَبُهَا مُطَابِقَةُ قَوْلِهِ : اللَّهُ أَكْبَرُ لِفِعْلِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مَعْنَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ وَغَيْرِهِ خُضُوعٌ وَاسْتِكَانَةٌ وَابْتِهَالٌ وَتَعْظِيمٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاتِّبَاعٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ مِنْ زِينَةِ الصَّلَاةِ ثُمَّ حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةٌ وَزِينَةُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ وَرَفْعُ الْأَيْدِي فِيهَا وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ قَالَ كَانَ يُقَالُ : لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةٌ وَزِينَةُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ وَرَفْعُ
الْأَيْدِي عِنْدَ الِافْتِتَاحِ وَحِينَ تُرِيدُ أَنْ تَرْكَعَ وَحِينَ تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَ وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ لَهُ بِكُلِّ إشَارَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِكُلِّ أُصْبُعٍ حَسَنَةٌ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ قُلْت لِلشَّافِعِيِّ مَا مَعْنَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ فَقَالَ : مِثْلُ مَعْنَى رَفْعِهِمَا عِنْدَ الِافْتِتَاحِ تَعْظِيمُ اللَّهِ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يُرْجَى فِيهَا ثَوَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِثْلُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَغَيْرِهِمَا .
( السَّابِعَةُ ) ذَكَرَ الْإِمَام أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ شَيْخِهِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { وَبَعْدَ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ } وَأَنَّهُ قَالَ مَرَّةً { وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ } وَاَلَّذِي رَوَاهُ غَيْرُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ { وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ } كَذَلِكَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَعَمْرِ وَالنَّاقِدِ وَزُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ وَابْنِ أَبِي عُمَرَ وَالْفَضْلِ بْنِ الصَّبَّاحِ الْبَغْدَادِيِّ وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ قُتَيْبَةَ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ وَأَبِي عُمَرَ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الضَّرِيرِ الْمُقْرِئِ كُلِّهِمْ وَهُمْ اثْنَا عَشَرَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِلَفْظِ { وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ } وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ بِلَفْظِ { وَبَعْدَ الرُّكُوعِ } .
وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ ، وَإِذَا أَرَادَ الرَّفْعَ أَوْ إذَا شَرَعَ فِيهِ وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فَذَكَرُوا أَنَّ ابْتِدَاءَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ يَكُونُ مَعَ ابْتِدَاءِ رَفْعِ الرَّأْسِ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد { ثُمَّ إذَا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ صُلْبَهُ رَفَعَهُمَا حَتَّى يَكُونَا حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ } فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ رَفَعَ مَعْنَاهُ أَرَادَ الرَّفْعَ وَيُمْكِنُ أَنْ تُرَدَّ إلَيْهَا رِوَايَةُ أَحْمَدَ الْأُخْرَى بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ { وَبَعْدَ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ } بَعْدَ مَا يَشْرَعُ فِي رَفْعِ رَأْسِهِ فَتُتَّفَقُ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ مُقَارِنٌ لِرَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ { وَلَا يَرْفَعُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ { وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السُّجُودِ } وَهُوَ أَعَمُّ لِتَنَاوُلِهِ النُّزُولَ لِلسَّجْدَةِ الْأُولَى وَرَفْعَ الرَّأْسِ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي لَفْظٍ آخَرَ { وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حِينَ يَسْجُدُ وَلَا حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { وَلَا يَفْعَلُهُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ } وَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ رَاوِيَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ { بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ } وَصَوَّبَ بَقِيَّةَ الْأَلْفَاظِ لِعُمُومِهَا .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ إنَّ قَوْلَ بُنْدَارٍ { بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ } وَهْمٌ وَقَوْلَ ابْنِ سِنَانٍ { فِي السُّجُودِ } أَصَحُّ وَيُعَارِضُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا { كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا كَبَّرَ وَإِذَا رَفَعَ وَإِذَا سَجَدَ } وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { وَحِينَ يَرْكَعُ وَحِينَ يَسْجُدُ } وَلِأَبِي دَاوُد { وَإِذَا رَفَعَ لِلسُّجُودِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ } .
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ { وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ } وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ { وَإِذَا سَجَدَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِهِ } .
وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ وَائِلٍ { كُلَّمَا كَبَّرَ وَرَفَعَ وَوَضَعَ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ } وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُمَيْرِ بْنِ حَبِيبٍ { مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ } وَلِلطَّحَاوِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ } وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةِ شَاذَّةٌ وَصَحَّحَهَا ابْنُ الْقَطَّانِ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي الْعِلَلِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ } وَقَالَ الصَّحِيحُ { يُكَبِّرُ } .
وَصَحَّحَ ابْنُ حَزْمٍ وَابْنُ الْقَطَّانِ حَدِيثَ الرَّفْعِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَأَعَلَّهُ الْجُمْهُورُ
وَقَدْ ذَكَرَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلَّهَا فِي الْأَصْلِ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى .
فَتَمَسَّكَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا نَفْيَ الرَّفْعِ فِي السُّجُودِ لِكَوْنِهَا أَصَحَّ وَضَعَّفُوا مَا عَارَضَهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَأَخَذَ آخَرُونَ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الرَّفْعُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَصَحَّحُوهَا وَقَالُوا : هِيَ مُثْبِتَةٌ فَهِيَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّفْيِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَقَالَ : إنَّ أَحَادِيثَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ مُتَوَاتِرَةٌ تُوجِبُ يَقِينَ الْعِلْمِ وَنُقِلَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَطَاوُسٍ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمْر وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَقَالَ بِهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلٌ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَحَكَى ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَةً أَنَّهُ يَرْفَعُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَفِي أَوَاخِرِ الْبُوَيْطِيِّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ الرَّفْعَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ عَنْ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ .
( التَّاسِعَةُ ) قَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ { وَلَا يَرْفَعُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ } عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الْقِيَامِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الرَّفْعِ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ذَكَرُهَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّفْيِ فِي السُّجُودِ مَعْنًى لِوُجُودِ النَّفْيِ فِي غَيْرِ السُّجُودِ أَيْضًا فَدَلَّ النَّفْيُ عَنْ السُّجُودِ عَلَى ثُبُوتِ الرَّفْعِ فِي غَيْرِ الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ وَمَا هُوَ إلَّا الْقِيَامُ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { وَإِذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ } وَيَرْفَعُ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد الصَّحِيحُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ الرَّفْعَ فَقَالَ : إنَّهُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ وَيُوَافِقُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثُمَّ إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ كُلَّمَا كَبَّرَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُمْ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ وَالْقَوْلُ بِهِ لَازِمٌ عَلَى أَصْلِهِ فِي قَبُولِ الزِّيَادَاتِ .
وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ رَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ سُنَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّ إسْنَادَهُ صَحِيحٌ وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ إذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي بِخِلَافِ سُنَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعُوا مَا قُلْت .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ : اقْتَصَرَ الشَّافِعِيُّ عَلَى الرَّفْعِ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ وَقَدْ ثَبَتَ الرَّفْعُ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ وَقِيَاسُ نَظَرِهِ أَنْ يُسَنَّ الرَّفْعُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ بِإِثْبَاتِ الرَّفْعِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ لِكَوْنِهِ زَائِدًا عَلَى مَنْ رَوَى الرَّفْعَ فِي التَّكْبِيرِ ، قَطُّ وَجَبَ أَيْضًا أَنْ يُثْبِتَ الرَّفْعَ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ الرَّفْعَ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ وَالْحُجَّةُ وَاحِدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَوَّلُ رَاضٍ سِيرَةَ مَنْ يَسِيرُهَا وَالصَّوَابُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اسْتِحْبَابُ الرَّفْعِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ لِثُبُوتِهِ فِي الْحَدِيثِ ، أَمَّا كَوْنُهُ مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ فَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُمْ إنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَذْكُرْ الرَّفْعَ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ وَبِهَذَا نَقُولُ وَفِيهِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ : هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ وَبِهِ أَقُولُ وَلِقَوْلِهِ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي ؛ وَلِذَلِكَ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ : إنَّهُ الصَّحِيحُ أَوْ الصَّوَابُ وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَاعْتَمَدَ الْبُخَارِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ هَذِهِ وَبَوَّبَ عَلَيْهَا فِي صَحِيحِهِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : الرَّفْعُ عِنْدَ الْقِيَامِ زِيَادَةٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ فِيهِ يَجِبُ قَبُولُهَا لِمَنْ يَقُولُ بِالرَّفْعِ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ مَا يَدْفَعُهَا بَلْ
فِيهِ مَا يُثْبِتُهَا وَهُوَ قَوْلُهُ { وَكَانَ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ } فَدَلِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهَا فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ مَا عَدَا السُّجُودِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ مَا زَادَهُ ابْنُ عُمَرَ وَعَلِيٌّ وَأَبُو حُمَيْدٍ فِي عَشَرَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ } كُلُّهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُوا صَلَاةً وَاحِدَةً وَيَخْتَلِفُونَ فِيهَا مَعَ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا زَادَ بَعْضُهُمْ وَالزِّيَادَةُ مَقْبُولَةٌ مِنْ الثِّقَةِ .
( الْعَاشِرَةُ ) مَا ذَكَرَهُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى مِنْ أَنَّ رَفْعَ الْيَدَيْنِ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ خَمْسِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي شَرْحِ أَلْفِيَّتِهِ فَقَالَ : وَقَدْ جَمَعْت رُوَاتَهُ فَبَلَغُوا نَحْوَ الْخَمْسِينَ لَكِنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ اقْتَصَرَ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَالسَّلَفِيُّ قَالَ : رَوَاهُ سَبْعَةَ عَشَرَ ، وَمَنْ عَلِمَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ ، وَقَوْلُهُ إنَّ مِنْهُمْ الْعَشَرَةَ سَبَقَهُ إلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ سَمِعْتُ الْحَاكِمَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْحَافِظِ يَقُولُ : لَا نَعْلَمُ سُنَّةً اتَّفَقَ عَلَى رِوَايَتِهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ ثُمَّ الْعَشَرَةُ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَفَرُّقِهِمْ فِي الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ غَيْرَ هَذِهِ السُّنَّةِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهُوَ كَمَا قَالَ أُسْتَاذُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِلْمَامِ جَزْمُهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ فَإِنَّمَا الْجَزْمُ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الصِّحَّةِ وَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْ جُمْلَةِ الْعَشَرَةِ .
( قُلْت ) وَلِذَلِكَ أَتَى وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ فَقَالَ رُوِيَ وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ حَدِيثَ رَفْعِ
الْيَدَيْنِ رَوَاهُ الْعَشَرَةُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْدَهْ فِي كِتَابٍ لَهُ سَمَّاهُ الْمُسْتَخْرَجَ مِنْ كُتُبِ النَّاسِ ، لَكِنْ فِي تَخْصِيصِ الْحَاكِمِ وَالْبَيْهَقِيِّ رِوَايَةُ الْعَشَرَةِ بِحَدِيثِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ نَظَرٌ فَقَدْ شَارَكَهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ رَوَاهُ الْعَشَرَةُ فَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُقَدَّمَةِ الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْإسْفَرايِينِيّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا حَدِيثٌ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْعَشَرَةُ غَيْرُهُ .
وَحَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْحُفَّاظِ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ هَذَا وَفِي هَذَا الْحَصْرِ نَظَرٌ أَيْضًا لِمَا عَرَفْت وَقَدْ شَارَكَهُمَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ فَقَدْ رَوَاهُ أَكْثَرُ مِنْ سِتِّينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمِنْهُمْ الْعَشَرَةُ كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَنْدَهْ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ كُتُبِ النَّاسِ .
بَابُ التَّأْمِينِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا قَالَ الْإِمَامُ آمِينَ وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ فَوَافَقَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ وَالْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ فَتُوَافِقُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } .
زَادَ مُسْلِمٌ { إذَا قَالَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ } وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ { فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ } وَلَهُ { إذَا قَالَ الْقَارِئُ { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فَقَالَ مَنْ خَلْفَهُ : آمِينَ فَوَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ أَهْلِ السَّمَاءِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَلِلْبُخَارِيِّ { إذَا قَالَ الْإِمَامُ { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فَقُولُوا آمِينَ } الْحَدِيثَ .
بَابُ التَّأْمِينِ وَهُوَ مَصْدَرٌ لِقَوْلِهِ { أَمَّنَ } وَمَعْنَى أَمَّنَ قَالَ آمِينَ ، وَفِي آمِينَ ثَلَاثُ لُغَاتٍ : الْمَدُّ وَالْقَصْرُ مَعَ تَخْفِيفِ الْمِيمِ وَلَمْ يَحْكِ جُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ غَيْرَهُمَا ، وَأَشْهَرُهُمَا الْمَدُّ وَالثَّالِثَةُ تَشْدِيدُ الْمِيمِ مَعَ الْقَصْرِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : وَتَشْدِيدُ الْمِيمِ خَطَأٌ وَآمِينَ اسْمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ كَأَيْنَ وَكَيْفَ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا فَقِيلَ : الْمَعْنَى اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقِيلَ : مَعْنَاهُمَا لِيَكُنْ كَذَلِكَ وَبِهِ جَزَمَ الرَّافِعِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ وَقِيلَ : هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقِيلَ : اسْمُ قَبِيلَةٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي زُهَيْرٍ النُّمَيْرِيِّ أَحَدِ الصَّحَابَةِ أَنَّ آمِينَ مِثْلُ الطَّابَعِ عَلَى الصَّحِيفَةِ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنْ خَتَمَ بِآمِينَ فَقَدْ أَوْجَبَ } عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إذَا قَالَ الْإِمَامُ آمِينَ وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ فَوَافَقَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) فِيهِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ التَّأْمِينُ عَقِبَ الْفَاتِحَةِ وَخَالَفَ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَسْتَحِبَّ لِلْإِمَامِ التَّأْمِينَ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَأَوَّلُوا قَوْلَهُ { إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ } عَلَى بُلُوغِهِ مَوْضِعَ التَّأْمِينِ وَهُوَ خَاتِمَةُ الْفَاتِحَةِ كَمَا يُقَالُ : أَنْجَدَ إذَا بَلَغَ نَجْدًا وَأَتْهَمَ إذَا بَلَغَ تِهَامَةَ وَأَحْرَمَ إذَا بَلَغَ الْحَرَمَ قَالَ : وَهَذَا مَجَازٌ فَإِنْ وُجِدَ دَلِيلٌ يُرَجِّحُهُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ { إذَا أَمَّنَ } وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي التَّأْمِينِ عُمِلَ بِهِ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَجَازِ قَالَ وَلَعَلَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
إنْ كَانَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عَمَلٌ وَرَجَّحَ بِهِ مَذْهَبَهُ انْتَهَى .
( قُلْت ) وَمَا حَكَاهُ مِنْ التَّأْوِيلِ عَنْهُمْ لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَهِيَ رِوَايَةُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَهَا { إذَا قَالَ الْإِمَامُ آمِينَ } فَهَذِهِ لَا تَحْتَمِلُ الْمَحْمَلَ الَّذِي أَوَّلُوا عَلَيْهِ { إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَيْضًا يُنَافِي تَأْوِيلُهُمْ قَوْلَهُ { فَوَافَقَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِلْمَلَائِكَةِ قُوَّةَ الْإِدْرَاكِ بِالسَّمْعِ وَهُمْ فِي السَّمَاءِ لِمَا يَنْطِقُ بِهِ بَنُو آدَمَ فِي الْأَرْضِ أَوْ لِبَعْضِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَكَانَ تَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالسَّمَاءِ الْعُلُوُّ وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
( الثَّالِثَةُ ) ظَاهِرُهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ غَيْرُ الْحَفَظَةِ لِتَقْيِيدِ تَأْمِينِهِمْ بِالسَّمَاءِ وَالْحَفَظَةُ مَعَ بَنِي آدَمَ وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ خِلَافًا هَلْ هُمْ الْحَفَظَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ .
( الرَّابِعَةُ ) اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ { فَوَافَقَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } فَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُوَافَقَةُ فِي الزَّمَنِ بِحَيْثُ يَقَعُ تَأْمِينُ ابْنِ آدَمَ وَتَأْمِينُ الْمَلَائِكَةِ مَعًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْمُوَافَقَةُ فِي صِفَةِ التَّأْمِينِ مِنْ كَوْنِهِ بِإِخْلَاصٍ وَخُشُوعٍ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَهَذَا بَعِيدٌ وَقِيلَ : مَنْ وَافَقَ الْمَلَائِكَةَ فِي اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ غُفِرَ لَهُ وَقِيلَ : مَنْ وَافَقَهُمْ فِي لَفْظِ الدُّعَاءِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
( الْخَامِسَةُ ) الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ { غُفِرَ لَهُ } رَاجِعٌ إلَى الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ذِكْرٌ لِلْمَأْمُومِ أَصْلًا فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِمَامِ .
( السَّادِسَةُ ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مَغْفِرَةُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الذُّنُوبِ سَوَاءٌ فِيهِ الصَّغَائِرُ وَالْكَبَائِرُ وَقَدْ خَصَّ الْعُلَمَاءُ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ بِتَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ فَقَطْ وَقَالُوا : إنَّمَا يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ التَّوْبَةُ وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا التَّقْيِيدَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ بِالصَّغَائِرِ حَمَلُوا مَا أُطْلِقَ فِي غَيْرِهَا عَلَيْهَا كَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { : الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى الْإِمَامِيَّةِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ التَّأْمِينَ فِي الصَّلَاةِ مُبْطِلٌ لَهَا وَهُمْ فِي ذَلِكَ خَارِقُونَ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لَا صَحِيحَةً وَلَا سَقِيمَةً .
( الطَّرِيقُ الثَّانِي لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ) { إذَا قَالَ أَحَدُكُمْ آمِينَ وَالْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ فَتُوَافِقُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى غَفَرَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } .
وَفِيهَا فَائِدَتَانِ الْأُولَى ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّأْمِينِ لِلْمُنْفَرِدِ وَالْمَأْمُومِ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ { أَحَدُكُمْ } قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ : وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْفَذَّ يُؤَمِّنُ مُطْلَقًا وَالْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِيمَا يُسِرَّانِ فِيهِ يُؤَمِّنَانِ .
( الثَّانِيَةُ ) أَطْلَقَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ التَّأْمِينَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالصَّلَاةِ فَمَنْ قَالَ : يُعْمَلُ بِالْمُطْلَقِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ يَقُولُونَ : إنَّ هَذَا الثَّوَابَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالصَّلَاةِ بَلْ التَّأْمِينُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ حُكْمُهُ هَكَذَا وَيُقَالُ لَهُمْ : إنَّ الثَّوَابَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى مُوَافَقَةِ تَأْمِينِ ابْنِ آدَمَ لِتَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا نُقِلَ لَنَا تَأْمِينُ الْمَلَائِكَةِ لِتَأْمِينِ الْمُصَلِّي كَمَا سَيَأْتِي فِي الطَّرِيقِ الثَّالِثِ وَأَمَّا مَنْ حَمَلَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَإِنَّهُ يَخُصُّهُ بِالصَّلَاةِ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ { إذَا قَالَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ آمِينَ } .
( الطَّرِيقُ الثَّالِثُ ) { إذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تُؤَمِّنُ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } .
فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إنَّمَا شُرِعَ التَّأْمِينُ لِلْمَأْمُومِ إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّهُ رَتَّبَهُ عَلَى تَأْمِينِهِ فَإِنْ تَرَكَ الْإِمَامُ التَّأْمِينَ لَمْ يُؤَمِّنْ الْمَأْمُومُ وَهَذَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ بَلْ ادَّعَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ الِاتِّفَاقَ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّهُ إذَا لَمْ يُؤَمِّنْ الْإِمَامُ فَيُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ الْجَهْرُ بِهِ سَوَاءٌ تَرَكَهُ الْإِمَامُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا وَنَقَلَهُ عَنْ النَّصِّ وَقَالَ إنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ خِلَافٌ انْتَهَى .
وَظَاهِرُهُ إطْلَاقُ الرَّافِعِيِّ يَقْتَضِي جَرَيَانَ الْخِلَافِ فِيهِ وَبِهِ صَرَّحَ الْقَاضِي مُجَلِّي فِي الذَّخَائِرِ .
( الثَّانِيَةُ ) قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ تَأْمِينَ الْمَأْمُومِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ تَأْمِينِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ رَتَّبَهُ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ وَقَدْ جَزَمَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِاسْتِحْبَابِ مُقَارَنَةِ الْإِمَامِ فِيهِ فَقَالَ الرَّافِعِيُّ : وَالْأَحَبُّ أَنْ يَكُونَ تَأْمِينُ الْمَأْمُومِ مَعَ تَأْمِينِ الْإِمَامِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ : إنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ مُسَاوَاتُهُ فِيمَا عَدَاهُ مِنْ الصَّلَاةِ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : وَيُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ بِأَنَّ التَّأْمِينَ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ لَا لِتَأْمِينِهِ .
( قُلْت ) وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَقَدْ ذَكَرْتهَا فِي آخَرِ الْبَابِ { إذَا قَالَ الْإِمَامُ { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فَقُولُوا آمِينَ } الْحَدِيثَ وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ { يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ } وَإِسْنَادُهُ ثِقَاتٌ إلَّا أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ صَحَّحَ رِوَايَةَ مَنْ جَعَلَهُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ مُرْسَلًا ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بِلَالٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : فَكَأَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَمِّنُ قَبْلَ تَأْمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ } كَمَا قَالَ { إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا } .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ بِالتَّأْمِينِ فِيمَا يَجْهَرُ بِهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ ، وَإِلَّا لَمَا عَلَّقَ تَأْمِينَهُمْ عَلَى تَأْمِينِهِ وَإِنَّمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بِالسَّمَاعِ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ إلَى أَنَّهُ يُسِرُّ بِهِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَدَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى الْجَهْرِ بِالتَّأْمِينِ أَضْعَفُ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى نَفْسِ التَّأْمِينِ قَلِيلًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَدُلُّ دَلِيلٌ عَلَى تَأْمِينِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ جَهْرٍ .
( قُلْت ) قَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِالْجَهْرِ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ { صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَهَرَ بِآمِينَ } وَفِي لَفْظٍ لَهُ { وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ } وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ بِلَفْظٍ { وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ } وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَأَمَّا رِوَايَةُ شُعْبَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { وَخَفَضَ بِهَا صَوْتَهُ } فَهِيَ خَطَأٌ خَطَّأَهُ فِيهَا الْبُخَارِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُمَا وَلِأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مَرْفُوعًا { كَانَ إذَا قَالَ { وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ آمِينَ حَتَّى يُسْمِعَنَا أَهْلَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَيَرْتَجُّ بِهَا الْمَسْجِدُ } لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { هَذَا جَهْرُ الْمَأْمُومِينَ } أَيْضًا بِالتَّأْمِينِ ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَفِي الْجَدِيدِ لَا يَجْهَرُونَ قَالَ الرَّافِعِيُّ قَالَ الْأَكْثَرُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَجْهَرُ .
( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّأْمِينُ لِقِرَاءَةِ الْقَارِئِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصُهُ بِكَوْنِهِ إمَامًا لَكِنَّ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ الَّتِي فِي آخَرِ الْبَابِ تَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ الْإِمَامُ فَإِنَّهُ قَالَ { إذَا قَالَ الْقَارِئُ { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فَقَالَ مَنْ خَلْفَهُ آمِينَ } الْحَدِيثَ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { إذَا قَالَ الْإِمَامُ } الْحَدِيثَ .
( الْخَامِسَةُ ) اسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ بِقَوْلِهِ { إذَا قَالَ الْإِمَامُ { وَلَا الضَّالِّينَ } فَقُولُوا آمِينَ } عَلَى تَعْيِينِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِلْإِمَامِ وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى الْوُجُوبِ نَظَرٌ وَالْأَدِلَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ قَائِمَةٌ صَحِيحَةٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ .
( السَّادِسَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرَأَ الْفَاتِحَةَ فِيمَا جَهَرَ بِهِ إمَامُهُ وَمَا أَدْرِي مَا وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ وَالْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ قَائِمَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ مُطْلَقًا .
( السَّابِعَةُ ) فِي مُطْلَقِ الْأَمْرِ بِتَأْمِينِ الْمَأْمُومِ لِتَأْمِينِ الْإِمَامِ أَنَّ الْمَأْمُومَ يُؤَمِّنُ وَإِنْ كَانَ يَقْرَأُ فِي أَثْنَاءِ فَاتِحَةِ نَفْسِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ وَلَكِنْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ تَنْقَطِعُ الْمُوَالَاةُ بِذَلِكَ حَتَّى يَجِبَ اسْتِئْنَافُهَا أَمْ لَا تَنْقَطِعُ وَيُبْنَى عَلَيْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ بَلْ زَادَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِقِيُّ صَاحِبُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ عَلَى هَذَا بِأَنَّ الْمَأْمُومَ لَوْ قَرَأَ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ فِي السَّكْتَةِ الْأُولَى ثُمَّ قَرَأَ الْإِمَامُ اسْتَمَعَ الْمَأْمُومُ فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ وَسَكَتَ فِي الثَّانِيَةِ أَتَمَّهَا وَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَذَا السُّكُوتِ فَكَأَنَّ الْفَارِقِيَّ لَحَظَ كَوْنَ الْفَصْلِ مِنْ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ لَكِنْ قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ وَهَذَا لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَصْحَابِ انْتَهَى .
وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَنْدُوبِ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ كَالْعَاطِسِ يَحْمَدُ اللَّهَ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ اسْتِئْنَافُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) الْمُسْتَحَبُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّأْمِينِ عَقِبَ الْفَاتِحَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ اتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٌ أَنَّهُ { سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي آمِينَ } فَإِنَّ فِي إسْنَادِهِ أَبَا بَكْرٍ النَّهْشَلِيَّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَفِي الْأُمِّ لِلشَّافِعِيِّ فَإِنْ قَالَ آمِينَ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ حَسَنًا وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ مِنْ زَوَائِدِهِ فِي الرَّوْضَةِ .
بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَأَشْبَاهِهَا مِنْ السُّوَرِ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
.
بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ .
( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَأَشْبَاهِهَا مِنْ السُّوَرِ } فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الْعِشَاءِ بِأَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ مِنْهُ وَهُوَ كَذَلِكَ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { مَا صَلَّيْت وَرَاءَ أَحَدٍ أَشْبَهِ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فُلَانٍ قَالَ سُلَيْمَانُ كَانَ يُطِيلُ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ } الْحَدِيثَ وَفِيهِ { وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِوَسَطِ الْمُفَصَّلِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { وَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَبِأَشْبَاهِهَا } وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { فِي قِصَّةِ تَطْوِيلِ مُعَاذٍ الْعِشَاءَ وَأَمْرِهِ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ } وَلِمُسْلِمٍ أَنَّهُ { أَمَرَهُ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالضُّحَى } وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِسُورَتَيْنِ مِنْ الْمُفَصَّلِ نَحْوِ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ وَأَشْبَاهِهَا .
( الثَّانِيَةُ ) الْمُرَادُ { بِأَشْبَاهِهَا مِنْ السُّوَرِ } وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَالضُّحَى وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهَا مَعَهَا فِي قِصَّةِ تَطْوِيلِ مُعَاذٍ الصَّلَاةَ فَأَمَّا وَاللَّيْلِ وَسَبِّحْ فَهِيَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَأَمَّا الضُّحَى فَهِيَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَهَكَذَا عِنْدَ مُسْلِمٍ ذَكَرَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك } وَأَمَّا إذَا السَّمَاءُ
انْفَطَرَتْ فَرَوَاهَا النَّسَائِيّ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَقْرَأُ فِي عِشَاءِ الْآخِرَةِ بِالسَّمَاءِ يَعْنِي ، ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّهُ { قَرَأَ فِي الْعِشَاءِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ } فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ { كَانَ فِي سَفَرٍ } وَفِي رِوَايَةٍ إطْلَاقُ ذَلِكَ وَفِي كَوْنِ سُورَةِ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَسُورَةِ اقْرَأْ مِنْ أَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ اخْتِلَافٌ ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مَعِينٍ فِي التَّنْقِيبِ أَنَّ أَوْسَاطَهُ مِنْ عَمَّ إلَى الضُّحَى وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ لَهُ هَذَا التَّحْدِيدُ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَمْثِيلُ التِّرْمِذِيِّ أَوْسَاطَهُ بِالْمُنَافِقِينَ وَذَكَرَ أَبُو مَنْصُورٍ التَّمِيمِيُّ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ تَمْثِيلَ قِصَارِهِ بِالْعَادِيَاتِ وَنَحْوِهَا فَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَوْسَاطَ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا أَنَّ قِصَارَهُ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا أَنَّ طِوَالَهُ فِيهَا مَا هُوَ أَطْوَلُ مِنْ بَعْضٍ .
( الثَّالِثَةُ ) أَطْلَقَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ ذِكْرَ { الْعِشَاءِ } وَهَكَذَا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ النَّسَائِيّ فِي رِوَايَتِهِ { الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ } وَإِنَّمَا وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا الْآخِرَةَ ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا يُسَمُّونَ الْمَغْرِبَ عِشَاءً وَقَدْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ الْمَغْرِبِ قَالَ : وَتَقُولُ الْأَعْرَابُ هِيَ الْعِشَاءُ } .
( الرَّابِعَةُ ) تَعَلَّقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَتَعَيَّنُ الْفَاتِحَةُ فِي الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ إنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بُرَيْدَةَ بَيَانَ مَا كَانَ يَقْرَؤُهُ فِيهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَقَدْ بَيَّنَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا كَانَ يَبْدَأُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاتِهِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ { بِأُمِّ الْقُرْآنِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ { فَافْتَتَحُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةِ سَجْدَةَ } الْحَدِيثِ .
وَلَهُمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ { لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } وَقَالَ : إسْنَادُهُ حَسَنٌ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ كُلُّهُمْ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا هَكَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَعَنْهُ أَنَّ { مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَقَرَأَ فِيهَا اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْرُغَ فَصَلَّى وَذَهَبَ فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ قَوْلًا شَدِيدًا فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَالَ : إنِّي كُنْت أَعْمَلُ فِي نَخْلٍ وَخِفْت عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلِّ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَنَحْوِهَا مِنْ السُّوَرِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ .
.
الْحَدِيثُ الثَّانِي وَعَنْهُ أَنَّ { مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فَقَرَأَ فِيهَا اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْرُغَ فَصَلَّى وَذَهَبَ فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ قَوْلًا شَدِيدًا فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَالَ : إنِّي كُنْت أَعْمَلُ فِي نَخْلٍ وَخِفْت عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلِّ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَنَحْوِهَا مِنْ السُّوَرِ } .
فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) حَدِيثُ بُرَيْدَةَ هَذَا لَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ وَانْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ وَعَزَوْتُهُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عُرِفَ أَنَّهُ فِيهِ لِئَلَّا أَسْكُتَ عَلَيْهِ فَيُظَنُّ أَنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ كَمَا نَبَّهْت عَلَى ذَلِكَ فِي الْخُطْبَةِ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ أَنَّ أَحَقَّ الْجَمَاعَةِ بِالْإِمَامَةِ أَفْقَهُهُمْ ؛ لِأَنَّ مُعَاذًا كَانَ أَفْقَهُ قَوْمِهِ فَكَانَ يَؤُمُّهُمْ بَلْ كَانَ أَعْلَمَ الْأُمَّةِ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَرْحَمُ أُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ } الْحَدِيثَ .
وَفِيهِ { وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ تَخْفِيفِ الصَّلَاةِ لِلْإِمَامِ مُرَاعَاةً لِحَالِ الْمَأْمُومِينَ وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانُوا مَحْصُورِينَ وَعُلِمَ أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَ التَّطْوِيلَ فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ وَإِنَّمَا نَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا عَرَضَ لِبَعْضِ الْمَأْمُومِينَ مِنْ الشُّغْلِ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ .
( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُخْرِجَ نَفْسَهُ مِنْ الْجَمَاعَةِ لِعُذْرٍ فَإِنَّ الرَّجُلَ ذَكَرَ أَنَّهُ خَافَ عَلَى الْمَاءِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَالْحُكْمُ كَذَلِكَ وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ قَضِيَّةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُمْ يُخْرِجُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ الْجَمَاعَةِ وَيُتِمُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى إحْدَى الْهَيْئَاتِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَمُفَارَقَتُهُمْ لِعُذْرٍ وَأَمَّا الْمُفَارَقَةُ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَفِيهَا قَوْلَانِ ؛ لِأَنَّ لِلشَّافِعِيِّ أَحَدَهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { : إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ } وَالْقَوْلُ الثَّانِي : جَوَازُهُ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ مُسْتَحَبٌّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخُرُوجِ مِنْ النَّافِلَةِ .
( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِأَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَنَّ مُفَارَقَةَ الْمَأْمُومِ لِكَوْنِهِ لَا يَصْبِرُ عَلَى طُولِ الْقِرَاءَةِ لِضَعْفٍ أَوْ شُغْلٍ عُذْرٌ مُجَوِّزٌ لِلْخُرُوجِ مِنْهَا وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعُذْرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْ جَوَازِ الْخُرُوجِ مِنْ الْجَمَاعَةِ لِعُذْرٍ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ الْفَقِيهُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ الرِّفْعَةِ فَقَالَ فِي الْكِفَايَةِ : إنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الِانْفِرَادِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ هَكَذَا جَزَمَ بِهِ وَهُوَ قَضِيَّةُ تَعْلِيلِهِمْ جَوَازَ الْخُرُوجِ مِنْ الْجَمَاعَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ بِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ مُسْتَحَبٌّ ، فَاقْتَضَى وُجُوبُ الِاقْتِدَاءِ فِي الْجُمُعَةِ أَنْ لَا يَجُوزَ الْخُرُوجُ مِنْهُ وَلَكِنَّ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ تَبَعًا لَهُ أَنَّ الْجُمُعَةَ كَغَيْرِهَا فَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ لَوْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ ثُمَّ فَارَقَهُ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِهِ وَقُلْنَا لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِالْمُفَارَقَةِ أَتَمَّهَا جُمُعَةً كَمَا إذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ وَزَادَ عَلَى هَذَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَقَالَ : إنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ وَالْمَسْأَلَةُ مَحَلُّ نَظَرٍ لِاشْتِرَاطِ الْجَمَاعَةِ فِي الْجُمُعَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْجُمُعَةَ إنَّمَا جُعِلَ إدْرَاكُهَا بِرَكْعَةٍ لِأَجْلِ الْمَسْبُوقِينَ لَا لِمَنْ خَرَجَ مِنْ الْجَمَاعَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْجُمُعَةِ فَلْيُضِفْ إلَيْهَا أُخْرَى وَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ إلَّا أَنَّ فِي إسْنَادِهِ ضَعْفًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ ) وَقَوْلُهُ فِيهِ { فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْرُغَ فَصَلَّى وَذَهَبَ } هَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ بَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ وَإِنَّمَا أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ الْجَمَاعَةِ فَقَطْ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ أَنَّهُ أَبْطَلَ إحْرَامَهُ مَعَهُ ثُمَّ أَنْشَأَ إحْرَامًا مُنْفَرِدًا ؟ وَلَفْظُ هَذَا الْحَدِيثِ مُحْتَمِلٌ لِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ لَكِنْ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ التَّصْرِيحُ بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ { فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ } فَإِنْ كَانَتْ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ
رَأْسًا وَإِنْ كَانَا وَاقِعَتَيْنِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخَرِ الْبَابِ فَالْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَقَدْ أَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إلَى أَنَّ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ سَلَّمَ شَاذَّةٌ ضَعِيفَةٌ فَقَالَ : لَا أَدْرِي هَلْ حُفِظَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَمْ لَا لِكَثْرَةِ مَنْ رَوَاهُ عَنْ سُفْيَانَ بِدُونِهَا ؟ وَانْفَرَدَ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ سُفْيَانَ .
( الثَّامِنَةُ ) وَقَوْلُهُ فِيهِ { فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ قَوْلًا شَدِيدًا } أَبْهَمَ قَوْلَ مُعَاذٍ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ { إنَّهُ مُنَافِقٌ } .
( التَّاسِعَةُ ) فِيهِ اعْتِذَارُ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ خَطَأٌ أَوْ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَطَأً وَإِظْهَارُهُ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يُعْلَمَ بِعُذْرِهِ .
( الْعَاشِرَةُ ) قَدْ اخْتَلَفَ بَيَانُ عُذْرِهِ الَّذِي اعْتَذَرَهُ فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ { كُنْت أَعْمَلُ فِي نَخْلٍ وَخِفْت عَلَى الْمَاءِ } وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّهُ قَالَ { إنَّمَا نَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ { كَانَ مَعَ الرَّجُلِ نَاضِحَانِ وَقَدْ نَضَحَ اللَّيْلَ فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي فَتَرَكَ نَاضِحَيْهِ وَأَقْبَلَ إلَى مُعَاذٍ } الْحَدِيثَ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ الرَّجُلِ صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ أَنَّ { مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَأْتِينَا بَعْدَ مَا نَنَامُ وَنَكُونُ فِي أَعْمَالِنَا بِالنَّهَارِ فَيُنَادِي بِالصَّلَاةِ فَنَخْرُجُ فَيُطَوِّلُ عَلَيْنَا } ، الْحَدِيثَ ، وَلَا مُنَافَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِمْ أَصْحَابَ نَوَاضِحَ أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ نَاضِحَانِ حِينَئِذٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ هَذَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ خَافَ عَلَى الْمَاءِ ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { : إنَّهُ يَأْتِيهِمْ بَعْدَ مَا يَنَامُونَ } لَعَلَّهُ أَرَادَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِيِ غَيْرِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا بِالنَّاضِحَيْنِ أَوْ أَرَادَ بَعْدَ مَا يَدْخُلُ وَقْتُ نَوْمِهِمْ
أَوْ بَعْدَ أَنْ نَامَ غَيْرُ صَاحِبِ الْوَاقِعَةِ أَوْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاقِعَتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي آخَرِ الْبَابِ .
( الْحَادِيَةَ عَشَرَ ) هَذَا الرَّجُلُ الْمُبْهَمُ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَحَدِيثِ جَابِرٍ اسْمُهُ سُلَيْمٌ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ { رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ يُقَالُ لَهُ : سُلَيْمٌ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَأْتِينَا بَعْدَ مَا نَنَامُ وَنَكُونُ فِي أَعْمَالِنَا بِالنَّهَارِ } الْحَدِيثَ .
وَقِيلَ : إنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ اسْمُهُ حَزْمُ بْنُ أَبِي كَعْبٍ فَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ حَزْمِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ أَنَّهُ { أَتَى مُعَاذًا وَهُوَ يُصَلِّي بِقَوْمٍ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ } فِي هَذَا الْخَبَرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ كَمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُد هَذِهِ فِيهَا طَالِبُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ نَظَرٌ انْتَهَى .
وَطَرِيقُ أَحْمَدَ فِي كَوْنِهِ اسْمَهُ سُلَيْمٌ أَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ قِيلَ : إنَّهُ حَرَامٌ بِالرَّاءِ وَقِيلَ : حَازِمٌ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَحَدِيثِ جَابِرٍ بَعْدَهُ أَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي طَوَّلَ فِيهَا مُعَاذٌ هِيَ الْعِشَاءُ وَوَقَعَ فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { مَرَّ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِنَاضِحَيْنِ عَلَى مُعَاذٍ وَهُوَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَصَلَّى الرَّجُلُ ثُمَّ ذَهَبَ } الْحَدِيثَ هَكَذَا فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ فِي الْمَغْرِبِ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ هَكَذَا ثُمَّ قَالَ كَذَا قَالَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنْ جَابِرٍ { الْمَغْرِبُ } قَالَ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مِقْسَمٍ عَنْ جَابِرٍ { : الْعِشَاءُ } ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ حَزْمِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ وَقَالَ فِيهِ { الْمَغْرِبُ } ثُمَّ قَالَ
وَالرِّوَايَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْعِشَاءِ أَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَرِوَايَةُ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جَابِرٍ { الْمَغْرِبُ } عِنْدَ الْبُخَارِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْمَغْرِبَ وَلَا الْعِشَاءَ وَإِنَّمَا قَالَ { فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي } وَرِوَايَةُ النَّسَائِيّ هَذِهِ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهَا شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِبَقِيَّةِ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةِ مُحَارِبٍ هَذِهِ { أَنَّهُ مَرَّ ، وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ } وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ جُنْحَ اللَّيْلِ أَوَّلُهُ وَقِيلَ : قِطْعَةٌ مِنْهُ نِصْفُ النِّصْفِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ النِّهَايَةِ قَالَ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ هَذَا أَنَّ { مُعَاذًا قَرَأَ بِاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي بَعْدَهُ { أَنَّهُ قَرَأَ الْبَقَرَةَ } وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَارِبٍ عَنْ جَابِرٍ { فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ النِّسَاءِ } وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ الَّتِي قَالَ فِيهَا { أَوْ النِّسَاءِ } شَكٌّ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ .
وَقَدْ جَزَمَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا الْبَقَرَةُ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى قَوْلِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ حَفِظُوا مَا شَكَّ فِيهِ مَنْ شَكَّ وَأَمَّا رِوَايَةُ { اقْتَرَبَتْ } فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بِكَوْنِهِمَا وَاقِعَتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ الْبَابِ فَلَا تَعَارُضَ وَإِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بِذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْفَائِدَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْأَرْجَحِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رِوَايَةَ جَابِرٍ أَصَحُّ لِكَثْرَةِ طُرُقِهَا وَلِكَوْنِهَا اتَّفَقَ عَلَيْهَا الشَّيْخَانِ فَهِيَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَدْ يُسْتَشْكَلُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَجَابِرٍ لِكَوْنِهِمَا وَاقِعَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَأْمُرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّخْفِيفِ وَقِرَاءَةِ مَا سَمَّى لَهُ مِنْ السُّوَرِ فِي وَاقِعَةٍ ثُمَّ يَصْنَعُ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى فَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ مُعَاذٍ وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْوَاقِعَةَ الْأُولَى كَانَ قَرَأَ فِيهَا الْبَقَرَةَ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَلِهَذَا { تَغَيَّظَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِمَا سَمَّى لَهُ مِنْ السُّوَرِ وَهِيَ مِنْ الْمُفَصَّلِ } وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَوْسَاطِهِ فَلَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي قِرَاءَةِ مَا شَاءَ مِنْ الْمُفَصَّلِ وَإِنَّمَا سَمَّى لَهُ غَيْرَ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي تَحْقِيقِهِ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ صَلَّى مَرَّةً أُخْرَى بِاقْتَرَبَتْ وَهِيَ مِنْ الْمُفَصَّلِ فَلَمَّا بَلَغَهُ أَمَرَهُ أَيْضًا بِأَوْسَاطِهِ فَائْتَمَرَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيُهُ لَهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْإِمَامَةِ لَمَّا كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ وَأَنَّهُ يَخْشَى مِنْ تَنْفِيرِ بَعْضِ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّ سُلَيْمًا صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ قُتِلَ بِأُحُدٍ كَمَا وَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ { وَطَالَ عَهْدُ النَّاسِ بِالْإِسْلَامِ وَوَقَرَ فِي نُفُوسِهِمْ وَشَاهَدَ مُعَاذٌ مِنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّطْوِيلَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ حَتَّى فِي الْمَغْرِبِ فَقَرَأَ فِيهَا بِطِوَالِ الْمُفَصَّلِ كَالطُّورِ } { بَلْ قَرَأَ فِيهَا بِالْأَعْرَافِ } كَمَا فِي الصَّحِيحِ { ظَنَّ مُعَاذٌ زَوَالَ مَا كَانَ يَخْشَى مِنْ التَّطْوِيلِ فَعَدَلَ إلَى التَّوَسُّطِ فَوَافَقَ صَاحِبَ شُغْلٍ أَيْضًا فَنَهَاهُ ثَانِيًا } ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُعَاذًا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَرَفَ مِنْ قَوْمِهِ إيثَارَ التَّطْوِيلِ فَلِذَلِكَ قَرَأَ بِاقْتَرَبَتْ فَصَادَفَهُ صَاحِبُ شُغْلٍ فَنَهَاهُ ثَانِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ وَلَعَلَّهُ قَرَأَ الْبَقَرَةَ فِي رَكْعَةٍ فَانْصَرَفَ رَجُلٌ وَقَرَأَ اقْتَرَبَتْ فِي رَكْعَةٍ أُخْرَى فَانْصَرَفَ آخَرُ .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ { كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا ، وَقَالَ مَرَّةً ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي بِقَوْمِهِ ، فَأَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً قَالَ مَرَّةً : الصَّلَاةَ وَقَالَ مَرَّةً : الْعِشَاءَ ، فَصَلَّى مُعَاذٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَاءَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَصَلَّى فَقِيلَ : نَافَقْت يَا فُلَانُ ؟ قَالَ مَا نَافَقْت ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنَّ مُعَاذًا يُصَلِّي مَعَك ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّمَا نَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا وَإِنَّهُ جَاءَ يَؤُمُّنَا فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ ؟ اقْرَأْ بِكَذَا ، وَكَذَا ، قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى فَذَكَرْنَا لِعَمْرٍو فَقَالَ أَرَاهُ فَذَكَرَهُ } .
وَقَالَ مُسْلِمٍ { فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ } ، وَزَادَ فِي قَوْلِ أَبِي الزُّبَيْرِ { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالضُّحَى } ، وَفِيهِ قَالَ عَمْرٌو نَحْوَ هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ قَوْلَ أَبِي الزُّبَيْرِ ، وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ { وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ قَالَ عَمْرٌو وَلَا أَحْفَظُهُمَا } ، وَلَهُ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ عَمْرٍو { فَلَوْلَا صَلَّيْت بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى } ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { اقْرَأْ } فَذَكَرَهَا ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { وَاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك وَلَهُ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ } وَلَمْ يَقُلْ الْبُخَارِيُّ { تِلْكَ } ، وَلَهُ فِي نُسْخَةٍ { الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ { فَيُصَلِّيهَا لَهُمْ هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ وَلَهُمْ مَكْتُوبَةٌ الْعِشَاءَ } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ وَصَحَّحَهَا الْبَيْهَقِيُّ ، وَالْجَمْعُ
بَيْنَ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَجَابِرٍ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ .
.
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ { كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا وَقَالَ مَرَّةً : ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي بِقَوْمِهِ فَأَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً قَالَ مَرَّةً : الصَّلَاةَ وَقَالَ مَرَّةً : الْعِشَاءَ فَصَلَّى مُعَاذٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَاءَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَصَلَّى فَقِيلَ : نَافَقْت يَا فُلَانُ قَالَ مَا نَافَقْت فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنَّ مُعَاذًا يُصَلِّي مَعَك ثُمَّ رَجَعَ فَيَؤُمُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّمَا نَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ نَعْمَلُ بِأَيْدِينَا وَإِنَّهُ جَاءَ يَؤُمُّنَا فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ ؟ اقْرَأْ بِكَذَا ، وَكَذَا } ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي الزُّبَيْرِ وَقَوْلَ عَمْرٍو أَرَاهُ قَدْ ذَكَرَهُ .
فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) فِيهِ حُجَّةٌ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ كَمَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ ؛ لِأَنَّ مُعَاذًا كَانَ قَدْ سَقَطَ فَرْضُهُ بِصَلَاتِهِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ صَلَاتُهُ بِقَوْمِهِ نَافِلَةً وَهُمْ مُفْتَرِضُونَ وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ { هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ وَلَهُمْ مَكْتُوبَةٌ الْعِشَاءُ } قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ : وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ ، وَكَذَا فِي مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ وَصَحَّحَهَا الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا وَغَيْرُهُ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَقَالُوا : لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ } .
وَأَجَابَ عَنْهُ الْقَائِلُونَ بِالصِّحَّةِ : بِأَنَّ الْمُرَادَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ لَا فِي النِّيَّاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ
لَا يَخْتَلِفُ بِهِ تَرْتِيبُ الصَّلَاةِ وَأَيْضًا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ مُرَادَ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ فِي بَقِيَّتِهِ { فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا : رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ } .
فَهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ { لَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ } وَمَعَ هَذَا فَقَدْ نَسَخَ بَعْضَ وُجُوهِ الْمُخَالَفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { بِصَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ جَالِسًا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ قِيَامٌ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةُ ) أَجَابَ الْمُخَالِفُونَ لِقِصَّةِ مُعَاذٍ بِأَجْوِبَةٍ ( فَمِنْهَا ) أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى قَوْمِهِ فَيَؤُمُّهُمْ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا عِيٌّ مِنْ الْقَوْلِ ، وَتَرُدُّهُ الرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي آخَرِ الْبَابِ مِنْ عِنْدِ مُسْلِمٍ فَيُصَلِّي بِهِمْ تِلْكَ الصَّلَاةَ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ مُعَاذًا كَانَتْ صَلَاتُهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَافِلَةً وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بِقَوْمِهِ هِيَ الْفَرِيضَةُ قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ وَلَيْسَ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِأَوْلَى مِمَّا صَارُوا إلَيْهِ فَلَحِقَ بِالْمُجْمَلَاتِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ حُجَّةٌ .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِمَا فِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ يُقَالُ لَهُ : سُلَيْمٌ أَنَّهُ { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَظَلُّ فِي أَعْمَالِنَا فَنَأْتِي حِينَ نُمْسِي فَيَأْتِي مُعَاذٌ فَيُطَوِّلُ عَلَيْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا مُعَاذُ لَا تَكُنْ فَتَّانًا إمَّا أَنْ تُخَفِّفَ بِقَوْمِك أَوْ تَجْعَلَ صَلَاتَك مَعِي } .
قَالَ : وَظَاهِرُ هَذَا يَدُلُّ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الْفَرِيضَةَ مَعَ قَوْمِهِ انْتَهَى .
وَقَدْ
قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَقَالَ فِيهِ { إمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي وَإِمَّا أَنْ تُخَفِّفَ عَلَى قَوْمِكَ } .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ أَنَّهُ يَتْرُكُ فَضِيلَةَ صَلَاةِ الْفَرْضِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ لَمْ يَقَعْ نَهْيٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } فَلَمْ يَكُنْ مُعَاذٌ لِيُخَالِفَ أَمْرَهُ وَيُصَلِّي نَافِلَةً بَعْدَ إقَامَةِ الصَّلَاةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي عِنْدَ أَحْمَدَ وَالْبَزَّارِ فَمُرَادُهُ إمَّا أَنْ تُصَلِّيَ مَعِي مُقْتَصِرًا عَلَى ذَلِكَ وَلَا تَؤُمَّ قَوْمَكَ ، وَكَذَا قَوْلُهُ { أَوْ تَجْعَلَ صَلَاتَك مَعِي } .
وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَإِلَّا فَهُوَ كَانَ يُصَلِّي مَعَهُ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَقْتَصِرُ عَلَى صَلَاتِك مَعِي وَلَيْسَ فِيهِ كَوْنُ الْفَرْضِ هِيَ الَّتِي كَانَتْ مَعَ قَوْمِهِ وَإِذَا كَانَ هَذَا مُحْتَمِلًا لِلتَّأْوِيلِ وَقَوْلُ جَابِرٍ { هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ } لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَجَابِرٌ مِمَّنْ كَانَ يُصَلِّي مَعَ مُعَاذٍ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَقَدْ اعْتَرَضَ الطَّحَاوِيُّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ ابْنَ عُيَيْنَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا .
وَذَكَرَهَا ابْنُ جُرَيْجٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ قَوْلِ مَنْ رَوَى عَنْهُ أَوْ قَوْلِ جَابِرٍ وَالْجَوَابُ أَنْ لَا نَحْكُمَ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا مُدْرَجَةٌ بِالِاحْتِمَالِ وَإِذَا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِالْحَدِيثِ فَهِيَ مِنْ كَلَامِ الَّذِي رَوَى الْقِصَّةَ وَهُوَ جَابِرٌ وَهُوَ مِمَّنْ حَضَرَ الصَّلَاةَ مَعَ مُعَاذٍ فَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِقِصَّةِ مُعَاذٍ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَرْكِ إنْكَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهَا وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَبْعُدُ بَلْ يَمْتَنِعُ عَادَةً أَنْ يَتَرَافَعُوا فِي قِصَّةٍ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ حَدِيثَ { فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ } نَاسِخٌ لِقِصَّةِ مُعَاذٍ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ أُحُدٍ بِدَلِيلِ أَنَّ صَاحِبَ الْوَاقِعَةِ مَعَ مُعَاذٍ قُتِلَ شَهِيدًا بِأُحُدٍ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ الِاخْتِلَافِ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ خَيْبَرَ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُصَارُ إلَى النَّسْخِ مَعَ إمْكَانِ الْجَمْعِ فَحُمِلَ النَّهْيُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ ، فِيهِ إعْمَالٌ لِلْحَدِيثَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْمَصِيرِ إلَى النَّسْخِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَمِنْهَا ) أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ غَيْرَ مَرَّةٍ بَعْدَ سَنَتَيْنِ مِنْ الْهِجْرَةِ } عَلَى وَجْهٍ فِيهِ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ بِالْأَفْعَالِ الْمُنَافِيَةِ لِلصَّلَاةِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْخَوْفِ فَلَوْ جَازَتْ صَلَاةُ الْمُفْتَرِضِ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ لَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ صَلَاةً عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ فِيهِ مُنَافَاةٌ وَكَانَ إسْلَامُ مُعَاذٍ مُتَقَدِّمًا عَلَى هَذَا وَفِي هَذَا أَيْضًا إشَارَةٌ إلَى النَّسْخِ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ بِكُلِّ طَائِفَةٍ مُنْفَرِدَةً فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ { صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَوْفٍ الظُّهْرَ فَصَفَّ بَعْضَهُمْ خَلْفَهُ وَبَعْضَهُمْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ فَانْطَلَقَ الَّذِينَ صَلَّوْا مَعَهُ فَوَقَفُوا مَوْقِفَ أَصْحَابِهِمْ ، ثُمَّ جَاءَ أُولَئِكَ فَصَلُّوا خَلْفَهُ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ سَلَّمَ } .
فَفِي هَذَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ مَرَّتَيْنِ ، وَالطُّرُقُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ التَّسْلِيمِ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذِهِ فَهَذِهِ زِيَادَةُ ثِقَةٍ مَقْبُولَةٌ وَإِنَّمَا لَمْ يُصَلِّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَامِلَةً
أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إتْمَامُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ أَتَمَّ لَتَشَوَّفَ أَصْحَابُهُ إلَى الْإِتْمَامِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْرِصُونَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي صِيَامِهِ فِي السَّفَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ أَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ } وَفِيهِ { أَنَّهُ سَلَّمَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ } .
( الثَّالِثَةُ ) أُبْهِمَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْقَائِلُ لَهُ { نَافَقْت } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ { مُعَاذًا هُوَ الَّذِي قَالَ إنَّهُ مُنَافِقٌ } وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْقَائِلِ الْمُبْهَمِ الَّذِي بَلَّغَهُ عَنْ مُعَاذٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يُوَاجِهْهُ وَفِي قَوْلِهِ { قِيلَ لَهُ : نَافَقْت } خِطَابُهُ بِذَلِكَ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي أَظْهَرُ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { فَأُخْبِرَ مُعَاذٌ عَنْهُ فَقَالَ : إنَّهُ مُنَافِقٌ فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } الْحَدِيثَ .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ { فَقِيلَ لَهُ نَافَقْت } لَيْسَ خَبَرًا وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِفْهَامٌ بِغَيْرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ قَوْلُ غَيْرِ مُعَاذٍ لَهُ بِدَلِيلِ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْأُولَى { فَقَالُوا لَهُ : أَنَافَقْت يَا فُلَانُ ؟ قَالَ : لَا وَاَللَّهِ وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأُخْبِرَنَّهُ } الْحَدِيثَ .
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ جَمَاعَةً اسْتَفْهَمُوهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَ مُعَاذٍ فِيهِ إنَّهُ مُنَافِقٌ سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ مُسْتَفْهِمِينَ حَتَّى يَنْظُرُوا جَوَابَهُ وَهَذَا أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) إنْ قِيلَ : كَيْفَ أَطْلَقَ مُعَاذٌ الْقَوْلَ فِي هَذَا إنَّهُ مُنَافِقٌ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّرِ عِنْدَهُمْ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ التَّخَلُّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ فِي الْعِشَاءِ حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ شُهُودُ الْعَتَمَةِ } فَلَمَّا وُجِدَتْ مِنْهُ أَمَارَةُ النِّفَاقِ وَهُوَ تَرْكُ الْجَمَاعَةِ فِيهَا مَعَ كَوْنِهِ قَدْ حَضَرَ الْمَسْجِدَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ النِّفَاقِ بِاعْتِبَارِ أَمَارَتِهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ مُعَاذٌ عَلِمَ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَبْدَى الصَّحَابِيُّ الْمَذْكُورُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُذْرَهُ فِي صَلَاتِهِ وَحْدَهُ فَعُرِفَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ غَيْرُ مُنَافِقٍ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي
آخَرِ حَدِيثِهِ قَالَ سُلَيْمٌ { سَتَرَوْنَ غَدًا إذَا الْتَقَى الْقَوْمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ وَالنَّاسُ يَتَجَهَّزُونَ إلَى أُحُدٍ فَخَرَجَ فَكَانَ فِي الشُّهَدَاءِ } انْتَهَى فَأَرَادَ سُلَيْمٌ بِهَذَا الْكَلَامِ عَقِبَ هَذَا أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ بَرَاءَتَهُ مِمَّا اُتُّهِمَ بِهِ مِنْ النِّفَاقِ بِشَهَادَتِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ { قَالَ الْفَتَى : وَلَكِنْ سَيَعْلَمُ مُعَاذٌ إذَا قَدِمَ الْقَوْمُ } وَزَادَ فِي آخِرِهِ { فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لِمُعَاذٍ مَا فَعَلَ خَصْمِي وَخَصْمُك قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبْتُ ، اُسْتُشْهِدَ } .
( الْخَامِسَةُ ) كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ قِصَّةِ مُعَاذٍ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَلْمَانَ مَوْلَى مَيْمُونَةَ قَالَ أَتَيْت ابْنَ عُمَرَ وَهُمْ يُصَلُّونَ فَقُلْت أَلَا تُصَلِّي مَعَهُمْ فَقَالَ قَدْ صَلَّيْت إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا تُصَلُّوا الصَّلَاةَ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ ؟ } وَأَجَابَ عَنْهُ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ بِأَنْ قَالَ : قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ : مَعْنَاهُ لَا تَجِبُ الصَّلَاةُ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِمَا سَبَقَ مِنْ اسْتِحْبَابِ إعَادَتِهَا قَالَ وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَلَمْ يُعِدْهَا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ صَلَّاهَا جَمَاعَةً وَمَذْهَبُهُ إعَادَةُ الْمُنْفَرِدِ كَمَا سَبَقَ عَنْهُ وَأَرَادَ بِمَا سَبَقَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عُمَرَ إنِّي أُصَلِّي فِي بَيْتِي ، ثُمَّ أُدْرِكُ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ أَفَأُصَلِّي مَعَهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَقَالَ أَيَّتُهُمَا أَجْعَلُ صَلَاتِي ؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ أَوَ ذَلِكَ إلَيْك إنَّمَا ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَجْعَلُ أَيَّتَهُمَا شَاءَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ يَرَى تَرْكَ إعَادَةِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا .
وَالْأَحَادِيثُ فِي الْإِعَادَةِ أَكْثَرُ وَأَصَحُّ ( مِنْهَا ) حَدِيثُ الْبَابِ فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ ( وَمِنْهَا ) حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ مُسْلِمٍ { كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْك أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ ؟ قُلْت فَمَا تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، فَإِنْ أَدْرَكْتهَا مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ } .
وَحَدِيثُ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ { إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ، ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ { جَاءَ رَجُلٌ وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيُّكُمْ
يَأْتَجِرُ عَلَى هَذَا فَقَامَ رَجُلٌ مَعَهُ } وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ { أَنَّ الَّذِي صَلَّى مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ } .
وَحَدِيثُ مِحْجَنٍ الدِّيلِيِّ فِي الْمُوَطَّأ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ { : إذَا جِئْت فَصَلِّ مَعَ النَّاسِ وَإِنْ كُنْت قَدْ صَلَّيْت } فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَكْثَرُ فِي إعَادَةِ الصَّلَاةِ لِمَصْلَحَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) وَفِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ { هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى صَلَاةً وَاحِدَةً مَرَّتَيْنِ تَكُونُ الْفَرِيضَةُ هِيَ الْأُولَى ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ وَذَهَبَ فِي الْقَدِيمِ إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْتَسِبُ بِأَيَّتِهِمَا شَاءَ لِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِي الْمُوَطَّإِ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ كِلْتَيْهِمَا فَرْضٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْفَرْضُ أَكْمَلُهُمَا ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّ الْفَرْضَ هِيَ النَّاقِصَةُ وَلَا شَكَّ أَنَّ صَلَاةَ مُعَاذٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ مِنْ صَلَاتِهِ بِقَوْمِهِ فَلَا يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ فَرْضَهُ الثَّانِيَةُ هَكَذَا أَطْلَقَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْخِلَافَ وَفِي هَذَا الْإِطْلَاقِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا صَلَّى فَرْضَ الْوَقْتِ كَيْفَ كَانَ جَمَاعَةً أَوْ مُنْفَرِدًا مُسْتَجْمِعًا لِشُرُوطِ الصِّحَّةِ وَنَوَى بِهِ الْفَرْضَ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْقَلِبَ نَفْلًا بَعْدَ تَمَامِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْفَرْضِيَّةِ ، أَوْ كَيْفَ يُوصَفُ الثَّانِي بِالْفَرِيضَةِ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا الْفَرْضُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ .
نَعَمْ الْخِلَافُ لَهُ وَجْهٌ فِيمَا إذَا صَلَّى وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا مَرَّةً أُخْرَى كَقِصَّةِ مُعَاذٍ هَذِهِ وَيَنْبَغِي أَيْضًا أَنْ يُعَلَّقَ الْحُكْمُ بِاعْتِبَارِ نِيَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِالْأُولَى الْفَرْضَ فَالْفَرْضُ هِيَ الثَّانِيَةُ قَطْعًا وَإِنْ نَوَى بِالْأُولَى الْفَرْضَ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ الثَّانِيَةِ فَرْضًا وَالْفَرْضُ وَاحِدٌ ، .
( السَّابِعَةُ ) فِي قَوْلِهِ { هِيَ لَهُ تَطَوُّعٌ } دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ لَا يَنْوِي بِالثَّانِيَةِ الْفَرْضَ بَلْ يَنْوِي الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ مَثَلًا وَهُوَ اخْتِيَارُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَاَلَّذِي حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَنْوِي الْفَرِيضَةَ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْفَرْضَ الْأَوَّلُ لَا جَرَمَ قَالَ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ إنَّ هَذِهِ هَفْوَةٌ .
( الثَّامِنَةُ ) فِي قِصَّةِ مُعَاذٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي إعَادَةِ الصَّلَاةِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُكْرَهُ الصَّلَاةُ بَعْدَهَا بِأَنْ تَكُونَ صُبْحًا أَوْ عَصْرًا أَوْ لَا لِإِطْلَاقِ جَابِرٍ أَنَّهُ { كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ } وَفِي وَجْهٍ لِأَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الْعَصْرَ وَالصُّبْحَ ؛ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً ، فَالصَّلَاةُ مَكْرُوهَةً فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ كَرَاهِيَةَ تَحْرِيمٍ ، وَفِي وَجْهٍ آخَرَ يُعِيدُ الظُّهْرَ وَالْعِشَاءَ وَلَا يُعِيدُ بَقِيَّةَ الصَّلَوَاتِ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ .
بَابُ التَّطْبِيقِ فِي الرُّكُوعِ وَنَسْخِهِ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْرِشْ ذِرَاعَيْهِ فَخِذَيْهِ وَلْيَجْنَأْ ، ثُمَّ طَبَّقَ بَيْنَ كَفِيهِ فَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى اخْتِلَافِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ طَبَّقَ بَيْنَ كَفَّيْهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَزَادَ فِي أَوَّلِهِ " قَالَا : أَتَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فِي دَارِهِ فَقَالَ أَصَلَّى هَؤُلَاءِ خَلْفَكُمْ ؟ فَقُلْنَا لَا ، قَالَ قُومُوا فَصَلُّوا ، فَلَمْ يَأْمُرْنَا بِأَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ ، قَالَ وَذَهَبْنَا لِنَقُومَ خَلْفَهُ فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا فَجَعَلَ أَحَدَنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ ، قَالَ فَلَمَّا رَكَعْنَا وَضَعْنَا أَيْدِيَنَا عَلَى رُكَبِنَا ، قَالَ فَضَرَبَ أَيْدِيَنَا وَطَبَّقَ بَيْنَ كَفَّيْهِ ، ثُمَّ أَدْخَلَهَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ إنَّهُ سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مِيقَاتِهَا وَيَخْنُقُونَهَا إلَى شَرَقِ الْمَوْتَى ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ قَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِمِيقَاتِهَا وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً ، وَإِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَصَلُّوا صَفًّا وَإِذَا كُنْتُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ " الْحَدِيثَ .
وَالتَّطْبِيقُ مَنْسُوخٌ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ { صَلَّيْت إلَى جَنْبِ أَبِي فَطَبَّقْت بَيْنَ كَفَّيَّ ، ثُمَّ وَضَعَتْهُمَا بَيْنَ فَخِذَيَّ فَنَهَانِي أَبِي قَالَ : كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ وَأُمِرْنَا أَنْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الرُّكَبِ } .
وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ فِي أَصْحَابِهِ { أَمْكَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ } وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عُمَرَ قَالَ " إنَّ الرُّكَبَ سُنَّتْ لَكُمْ فَخُذُوا بِالرُّكَبِ .
وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ " إذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَصَلُّوا صَفًّا " رَفَعَهُ أَبُو دَاوُد وَفِيهِ ضَعْفٌ وَتَأَوَّلَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ أَنَسٍ فِي
الصَّحِيحَيْنِ { صَلَّيْت أَنَا وَيَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمِّي خَلْفَنَا } وَقَالَ النَّوَوِيُّ الْمُخْتَارُ لَوْ ثَبَتَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى فِعْلِهِ مَرَّةً لِبَيَانِ الْجَوَازِ .
.
بَابُ التَّطْبِيقِ فِي الرُّكُوعِ وَنَسْخِهِ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ قَالَ إذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْرِشْ ذِرَاعَيْهِ فَخِذَيْهِ وَلْيَجْنَأْ ، ثُمَّ طَبَّقَ بَيْنَ كَفَّيْهِ فَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى اخْتِلَافِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَبَّقَ بَيْنَ كَفَّيْهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَنَّ الْأَسْوَدَ لَيْسَ مِنْ الْأَسَانِيدِ الَّتِي ذَكَرْتهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي الْمُسْنَدِ رِوَايَةُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ مَعًا فَذَكَرْتُهُ مَعَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَإِنَّمَا ذَكَرْته وَلَمْ أَحْذِفْهُ لِمَا تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا كَانَ عَنْ رَجُلَيْنِ فَلَا يَحْسُنُ حَذْفُ أَحَدِهِمَا وَإِبْقَاءُ الْآخَرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ لِأَحَدِهِمَا وَحُمِلَ لَفْظُ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ هُوَ الَّذِي لَهُ لَفْظُ الْحَدِيثِ فَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَحَذْفُهُ فِي حَالَةِ كَوْنِهِمَا ثِقَتَيْنِ أَقْرَبُ وَأَخَفُّ ضَرَرًا مِمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا ضَعِيفًا وَحَذَفَ الضَّعِيفَ وَأَبْقَى الثِّقَةَ فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى إلَى أَنْ يُذْكَرَ لَفْظُ الضَّعِيفِ مَعْزُوًّا إلَى الثِّقَةِ .
وَقَدْ أَرَادَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الصَّحِيحِ الِاحْتِرَازَ عَنْ هَذَا فَمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ إلَى الِاحْتِرَازِ وَالِاحْتِيَاطِ فَيَقُولُ مَثَلًا عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَذَكَرَ آخَرَ مَعَهُ وَيَكُونُ الَّذِي ذَكَرَ مَعَهُ وَحَذَفَهُ مُسْلِمٌ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ فَلَا يُسَمِّيهِ مُسْلِمٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الثِّقَةِ فَيُشِيرُ إلَى أَنَّ مَعَهُ آخَرَ ، وَأَكْثَرُ مَا يُفِيدُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى طُرُقِ الْحَدِيثِ أَنْ يَتَنَبَّهَ بِذِكْرِ الْآخَرِ مُبْهَمًا عَلَى أَنَّهُ ابْنُ لَهِيعَةَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ مَحَلَّ نَظَرٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ لِابْنِ لَهِيعَةَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةُ ) فِي غَرِيبِهِ ( قَوْلُهُ فَلْيُفْرِشْ ) هُوَ بِضَمِّ الْيَاءِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ رُبَاعِيٌّ لِكَوْنِهِ عَدَّاهُ إلَى مَفْعُولَيْنِ تَقُولُ فَرَشْت الثَّوْبَ أَفْرُشُهُ وَأَفْرَشْت الضَّيْفَ بُسُطًا إذَا عَدَّيْتَهُ إلَى اثْنَيْنِ ( وَقَوْلُهُ وَلْيَجْنَأْ ) هُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِالْجِيمِ وَالنُّونِ مَهْمُوزٌ عَلَى أَنَّهُ ثُلَاثِيٌّ هَكَذَا فِي الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ وَضَبَطَهُ بَعْضُهُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ فَجَعَلَهُ رُبَاعِيًّا وَهُوَ الْمَيْلُ بِالرَّأْسِ وَالْإِكْبَابُ فَكَأَنَّهُ خَشِيَ مِنْ التَّقَعُّسِ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَلِيَحْنِ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ مِنْ الِانْحِنَاءِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ .
( وَقَوْلُهُ : ثُمَّ طَبَّقَ ) وَالتَّطْبِيقُ هُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ ، ثُمَّ يَجْعَلُهَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالتَّشَهُّدِ وَعُلِمَ أَنَّهُ أَدْخَلَهُمَا بَيْنَ فَخِذَيْهِ كَمَا ذَكَرْته فِي بَقِيَّةِ الْبَابِ .
.
( وَقَوْلُهُ فِي الزِّيَادَةِ الَّتِي عِنْدَ مُسْلِمٍ : وَيَخْنُقُونَهَا إلَى شَرَقِ الْمَوْتَى ) هُوَ مِنْ خَنَقَ يَخْنُقُ وَيَخْنُقُ خَنْقًا وَالْمُرَادُ تَضْيِيقُ وَقْتِهَا وَمِنْهُ خِنَاقُ الْمَوْتِ وَشَرَقُ الْمَوْتَى بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ : هُوَ مِنْ شَرَقَ الْمَيِّتُ بِرِيقِهِ إذَا غَصَّ بِهِ فَكَأَنَّهُ شَبَّهَ مَا بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَيَاةِ مَنْ شَرَقَ بِرِيقِهِ وَقِيلَ : شَرَقُ الْمَوْتَى : هُوَ أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ عَنْ الْحِيطَانِ فَصَارَتْ بَيْنَ الْقُبُورِ كَأَنَّهَا لُجَّةٌ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَيُقَالُ : شَرَقَتْ الشَّمْسُ شَرَقًا إذَا ضَعُفَ ضَوْءُهَا وَالسُّبْحَةُ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ النَّافِلَةُ وَأَصْلُ التَّسْبِيحِ التَّنْزِيهُ وَالتَّقْدِيسُ وَأُطْلِقَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَذْكَارِ مَجَازًا وَأُطْلِقَ عَلَى صَلَاةِ التَّطَوُّعِ دُونَ الْفَرِيضَةِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَإِنَّمَا خُصَّتْ النَّافِلَةُ بِالسُّبْحَةِ وَإِنْ شَارَكَتْهَا الْفَرِيضَةُ فِي مَعْنَى التَّسْبِيحِ ؛ لِأَنَّ التَّسْبِيحَاتِ فِي الْفَرَائِضِ نَوَافِلُ فَقِيلَ : لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ سُبْحَةٌ ؛ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ كَالتَّسْبِيحَاتِ وَالْأَذْكَارِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ انْتَهَى كَلَامُهُ وَفِيهِ نَظَرٌ .
( الثَّالِثَةُ ) دَلَّتْ فَتْوَى ابْنِ مَسْعُودٍ بِالتَّطْبِيقِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى الْعَالِمِ وَإِنْ كَانَ كَبِيرَ الْمَحَلِّ فِي الْعِلْمِ بَعْضُ الْأَحْكَامِ مِنْ النَّسْخِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَعَلَّهُ عِنْدَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ أَوْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) وَفِي قَوْلِهِ وَلْيَجْنَأْ بَيَانٌ لِهَيْئَةِ الرُّكُوعِ وَأَنَّهُ الِانْحِنَاءُ وَمَيْلُ الرَّأْسِ وَالِانْكِبَابُ فَلَوْ لَمْ يَنْحَنِ وَإِنَّمَا تَقَاعَسَ وَانْخَنَسَ حَتَّى بَلَغَتْ يَدَاهُ رُكْبَتَيْهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِرُكُوعٍ جَزَمَ بِهِ أَصْحَابُنَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : وَلَوْ مُزِجَ الِانْحِنَاءُ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ الْمَذْكُورَةِ وَكَانَ التَّمَكُّنُ مِنْ وَضْعِ الرَّاحَتَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ بِهِمَا جَمِيعًا لَمْ يَكُنْ أَيْضًا رُكُوعًا .
( الْخَامِسَةُ ) وَقَدْ ثَبَتَ النَّسْخُ لِلتَّطْبِيقِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ الْمَذْكُورِ فِي بَقِيَّةِ الْبَابِ { كُنَّا نَفْعَلُهُ فَنُهِينَا عَنْهُ وَأُمِرْنَا بِالرُّكَبِ } ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ أُمِرْنَا وَنُهِينَا حُكْمُهُ الرَّفْعُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ ، وَالْمَسْأَلَةُ مُقَرَّرَةٌ فِي مَوَاضِعِهَا ، وَكَذَا قَوْلُ عُمَرَ إنَّ الرُّكَبَ سُنَّتْ لَكُمْ حُكْمُهُ أَيْضًا حُكْمُ الْمَرْفُوعِ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ .
وَحَدِيثُ أَبِي حُمَيْدٍ مُصَرِّحٌ بِالرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ { أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ } وَقَدْ كَانَ فِي عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَثَبَتَ النَّسْخُ بِذَلِكَ وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ أَبَا سَبْرَةَ الْجُعْفِيَّ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ تَرَكَ التَّطْبِيقَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَذَكَرُوا لَهُ نَسْخَ ذَلِكَ فَكَانَ لَا يُطَبِّقُ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَعْرَفُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) فِي زِيَادَةِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضْلُ التَّعْجِيلِ بِالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَهُوَ كَذَلِكَ إلَّا فِي الظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ لِصِحَّةِ الْأَحَادِيثِ بِالْإِبْرَادِ كَمَا تَقَدَّمَ .
( السَّابِعَةُ ) فِيهِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِأَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ وَإِنَّمَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ حِينَئِذٍ كَانُوا يُنْكِرُونَ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ بِالصَّلَاةِ قَبْلَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ بِالْكُوفَةِ وَكَانَ الْأَمِيرُ بِهَا يَوْمَئِذٍ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ فَكَأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ خَشِيَ مِنْ إظْهَارِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ مُخَالَفَةَ الْأَمِيرِ وَفِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْأَئِمَّةِ إذَا أَخَّرُوا الصَّلَاةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) مَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ كَوْنِ الِاثْنَيْنِ يَصْطَفَّانِ مَعَ الْإِمَامِ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا حُجَّةَ فِي الْمَوْقُوفَاتِ مَعَ وُجُودِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَرْفُوعَةِ وَقَدْ رَفَعَ أَبُو دَاوُد هَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ فِيهِ ، ثُمَّ { قَامَ فَصَلَّى بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ } وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ فِي إسْنَادِهِ هَارُونَ بْنَ عَنْتَرَةَ وَقَدْ قَالَ فِيهِ الدَّارَقُطْنِيُّ : إنَّهُ مَتْرُوكٌ يَكْذِبُ وَهَذَا جَرْحٌ مُفَسَّرٌ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى تَوْثِيقِ أَحْمَدَ وَابْنِ مَعِينٍ وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ إلَّا أَنَّهُ عَنْعَنَهُ وَهُوَ مُدَلِّسٌ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ : وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْمُدَلِّسَ إذَا قَالَ عَنْ ؛ لَا يُحْتَجُّ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ .
( قُلْت ) : كَأَنَّهُ أَرَادَ اتِّفَاقَ مَنْ لَا يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ وَأَمَّا الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِالْمُرْسَلِ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِخَبَرِ الْمُدَلِّسِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَرْفُوعًا وَإِنَّمَا يَصِحُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ فَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَرْفُوعَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ يَقِفَانِ صَفًّا خَلْفَ الْإِمَامِ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ أَنَسٍ { صَلَّيْت أَنَا وَيَتِيمٌ فِي بَيْتِنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُمْت عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ ، ثُمَّ جَاءَ جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ فَقَامَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِأَيْدِينَا جَمِيعًا فَدَفَعْنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ } .
وَلِلشَّيْخَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ { فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ
فَاسْتَأْذَنَا فَأُذِنَ لَهُمَا فَمَا جَلَسَ حَتَّى قَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّي فِي مَنْزِلِك ؟ فَأَشَرْت لَهُ إلَى نَاحِيَةٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَفَّنَا خَلْفَهُ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ } الْحَدِيثَ .
( التَّاسِعَةُ ) اخْتَلَفَ عَمَلُ عُلَمَائِنَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي رَفَعَهُ أَبُو دَاوُد إنْ صَحَّ أَوْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فَذَهَبَ الْبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ نَاسِخَةٌ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَذَهَبَ الْحُمَيْدِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ إلَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِقَضِيَّةٍ أُخْرَى ذَكَرَهَا بِإِسْنَادِهِ وَذَهَبَ ابْنُ سِيرِينَ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا صَفَّ الِاثْنَيْنِ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ ضَيِّقًا وَذَهَبَ النَّوَوِيُّ إلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى فِعْلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ مَرَّةً لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَقَالَ إنَّ هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) وَفِيهِ صِحَّةُ صَلَاةِ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرِضِ عَكْسَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ : وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ سُبْحَةً وَهُوَ كَذَلِكَ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ أَنَّ مَنْ صَلَّى صَلَاةً فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ كَانَتْ فَرْضُهُ هِيَ الْأُولَى وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ .
( الثَّانِيَةَ عَشَرَ ) قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ { إنَّهُ سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ } قَدْ صَحَّ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ { قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ أَنْتَ إذَا كَانَتْ عَلَيْك أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا أَوْ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا قَالَ فَمَا تَأْمُرُنِي قَالَ صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فَإِنْ أَدْرَكْت الصَّلَاةَ مَعَهُمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَك نَافِلَةٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَجَاءَ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْمَذْكُورِ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَمْدًا ، ثُمَّ صَلَّاهَا بَعْدَ الْوَقْتِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا كَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا بِعُذْرٍ كَالنَّاسِي وَالنَّائِمِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ مَعَهُمْ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَوْلَا أَنَّ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ لَمَا أَمَرَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ عَلَى هَذَا وَحَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلَّا بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ ادَّعَى فِي كِتَابِ الْأَعْرَابِ : الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْضَى وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ إنَّمَا دَلَّتْ عَلَى قَضَاءِ الْمَعْذُورِ مِنْ قَوْلِهِ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } فَلَمْ يَأْمُرْ التَّارِكَ لَهَا عَمْدًا بِالْقَضَاءِ وَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا لَا تُقْضَى وَإِنْ قَضَاهَا لَمْ يَصِحَّ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ قَضَائِهَا وَصِحَّةِ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ الْقَضَاءُ فِي النَّاسِي مَعَ عُذْرِهِ فَالْمُتَعَمِّدُ أَوْلَى بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ وَبِالْقِيَاسِ أَيْضًا عَلَى الصَّوْمِ فَإِنَّ الْمُجَامِعَ فِي رَمَضَانَ جَامَعَ عَامِدًا وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَضَاءِ وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَابْنُ
حَزْمٍ مُوَافِقٌ فِي الصَّوْمِ أَنَّهُ يُقْضَى وَلَكِنَّهُ لَا يَحْتَجُّ بِالْقِيَاسِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ حَزْمٍ شَاذٌّ مُخَالِفٌ لِأَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) وَمَعْنَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلْيَؤُمَّكُمْ أَحَدُكُمْ أَيْ فَلِيُصَلِّ إمَامُكُمْ وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي بِهِمْ أَحَدُهُمْ إلَّا إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَغَيْرَهُ مُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ الْجَمَاعَةِ بِدُونِ ذَلِكَ وَهَذَا وَاضِحٌ ، وَقَوْلُ أَنَسٍ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي آخَرِ الْبَابِ { وَأُمِّي خَلْفَنَا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَقِفُ مَعَ صَفِّ الرِّجَالِ بَلْ تَقِفُ خَلْفَهُمْ وَكَذَلِكَ تَقِفُ خَلْفَ الصِّبْيَانِ أَيْضًا وَلَا تُصَفُّ مَعَهُمْ لِكَوْنِهِمْ ذُكُورًا .
بَابُ الْقُنُوتِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { لَمَّا رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَالَ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { قَنَتَ بَعْدِ الرُّكُوعِ فِي صَلَاتِهِ شَهْرًا يَدْعُو لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ ، ثُمَّ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ } ، وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ، ثُمَّ تَرَكَهُ } زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَصَحَّحُوهُ { فَأَمَّا فِي الصُّبْحِ فَلَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا } .
بَابُ الْقُنُوتِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { لَمَّا رَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَالَ : اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ } .
فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) : الْقُنُوتُ يُطْلَقُ بِإِزَاءِ مَعَانٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } فَقِيلَ : الْمُرَادُ الطَّاعَةُ وَقِيلَ : الدُّعَاءُ وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى طُولِ الْقِيَامِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ } وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى السُّكُوتِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ { كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى نَزَلَتْ { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقِيلَ : أَصْلُهُ الدَّوَامُ عَلَى الشَّيْءِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلُهُ فَمُدِيمُ الطَّاعَةِ قَانِتٌ وَكَذَلِكَ الدَّاعِي وَالْقَائِمُ فِي الصَّلَاةِ وَالْمُخْلِصُ فِيهَا وَالسَّاكِتُ فِيهَا كُلُّهُمْ فَاعِلُونَ لِلْقُنُوتِ قَالَ وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْمُشْتَرَكِ قَالَ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقْصِدُونَ دَفْعَ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ وَلَا بَأْسَ بِهَا إنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنًى مُعَيَّنٍ أَوْ مَعَانٍ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ اسْتَحَبَّ الْقُنُوتَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ إلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ حَكَوْا عَنْ مَالِكٍ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ سُنَّةٌ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ أَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ عَمْدًا تُعَادُ لَهُ الصَّلَاةُ وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلصَّلَاةِ وَجَعَلَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ الَّتِي يُشْرَعُ
لِتَرْكِهَا سُجُودُ السَّهْوِ وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَيْضًا أَنَّ فِي تَرْكِهِ سُجُودُ السَّهْوِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : أَنَّهُ لَا قُنُوتَ فِي الْفَجْرِ وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ وَلَا فِي الْوِتْرِ أَيْضًا وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا ، ثُمَّ تَرَكَهُ } كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ فِي بَقِيَّةِ الْبَابِ وَأَجَابَ مَنْ اسْتَحَبَّهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَرْكُ الدُّعَاءِ لِمَنْ سَمَّى وَتَرَكَ الدُّعَاءَ عَلَى مَنْ سَمَّاهُ لَا أَنَّهُ تَرَكَ أَصْلَ الْقُنُوتِ بِدَلِيلِ الزِّيَادَةِ الَّتِي رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ { فَأَمَّا فِي الصُّبْحِ فَلَمْ يَزَلْ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا } وَفِي إسْنَادِهِ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَوَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ وَقَالَ الْفَلَّاسُ سَيِّئُ الْحِفْظِ وَقَالَ النَّسَائِيّ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَقَدْ صَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَجَلِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَمِمَّنْ قَالَ بِاسْتِحْبَابِهِ فِي الصُّبْحِ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ جَيِّدَيْنِ .
وَجَاءَ عَنْهُمْ أَيْضًا تَرْكُهُ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْنُتْ } وَصَلَّيْت خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَقْنُتْ وَصَلَّيْت خَلْفَ عُمَرَ فَلَمْ يَقْنُتْ وَصَلَّيْت خَلْفَ عُثْمَانَ فَلَمْ يَقْنُتْ وَصَلَّيْت خَلْفَ عَلِيٍّ فَلَمْ يَقْنُتْ ، ثُمَّ قَالَ يَا بُنَيَّ إنَّهَا بِدْعَةٌ .
لَفْظُ رِوَايَةِ النَّسَائِيّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ إنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ قَالَ : أَصْحَابُنَا الَّذِينَ رَوَوْا إثْبَاتَ الْقُنُوتِ أَكْثَرُ
وَمَعَهُمْ زِيَادَةُ عِلْمٍ فَتُقَدَّمُ رِوَايَتُهُمْ انْتَهَى وَبِالْجُمْلَةِ فَمَسْأَلَةُ الْقُنُوتِ مِنْ مَسَائِلِ الِاخْتِلَافِ الَّتِي تَعَارَضَتْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ وَأَفْرَدَهَا النَّاسُ بِالتَّصْنِيفِ فَصَنَّفَ ابْنُ مَنْدَهْ تَصْنِيفًا فِي إنْكَارِهِ وَأَنَّهُ بِدْعَةٌ وَصَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ تَصْنِيفًا فِي اسْتِحْبَابِهِ وَأَنَّهُ سُنَّةٌ وَالْأَدِلَّةُ مُتَعَادِلَةٌ ، وَمَنْ أَثْبَتَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَنْ نَفَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إلَى أَنَّهُ لَا يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ إلَّا عِنْدَ نَازِلَةٍ تَنْزِلُ بِالْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْقُنُوتَ فِي الْفَجْرِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إنْ قَنَتَ فِي الْفَجْرِ فَحَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَقْنُتْ فَحَسَنٌ وَاخْتَارَ أَلَّا يَقْنُتَ وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ أَنَّ الْعَمَلَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ .
( الثَّالِثَةُ ) اقْتَصَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ فِي رِوَايَتِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ { : الْعِشَاءُ } بَدَلُ { الصُّبْحِ } وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ أَيْضًا أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ { وَاَللَّهِ لَأُقَرِّبَنَّ بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقْنُتُ فِي الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ وَالصُّبْحِ يَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الْكُفَّارَ } .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ } .
وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُصَلِّي صَلَاةً مَكْتُوبَةً إلَّا قَنَتَ فِيهَا } .
وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ } الْحَدِيثَ زَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِيهِ قَالَ عِكْرِمَةُ هَذَا مِفْتَاحُ الْقُنُوتِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْقُنُوتِ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ فَقَالَ الرَّافِعِيُّ إنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الْمُعْظَمِ أَنَّهُ إنْ نَزَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ نَازِلَةٌ قَنَتُوا وَإِلَّا فَلَا وَقِيلَ : لَا يُقْنَتُ فِيهَا وَقِيلَ يُتَخَيَّرُ فِي غَيْرِ النَّازِلَةِ وَقِيلَ يَقْنُتُ مُطْلَقًا وَقِيلَ : يَقْنُتُ فِي الْجَهْرِيَّةِ دُونَ السِّرِّيَّةِ فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالِ اقْتَصَرَ الرَّافِعِيُّ مِنْهَا عَلَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ وَحَكَى ابْنُ يُونُسَ الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ قَالَ الرَّافِعِيُّ ، ثُمَّ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ إنَّمَا هُوَ فِي الْجَوَازِ قَالَ مِنْهُمْ مَنْ يَشْعُرُ إيرَادَهُ بِالِاسْتِحْبَابِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ : الْأَصَحُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الِاسْتِحْبَابِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ .
( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ مَحَلَّ الْقُنُوتِ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ { سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ الْعَنْ فُلَانًا بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ } الْحَدِيثَ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ خُفَافِ بْنِ إيمَاءَ { رَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا } الْحَدِيثَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَقَدْ ذَكَرْته فِي الْأَصْلِ فِي آخِرِ الْبَابِ .
وَذَهَبَ مَالِكٌ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ إلَى أَنَّ مَحَلَّهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمٍ قَالَ سَأَلْت أَنَسًا عَنْ الْقُنُوتِ أَكَانَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَمْ بَعْدَهُ قَالَ قَبْلَهُ قُلْت فَإِنَّ فُلَانًا أَخْبَرَنِي عَنْك أَنَّك قُلْت بَعْدَهُ قَالَ كَذَبَ { إنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الرُّكُوعِ شَهْرًا } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَقَالَ مُسْلِمٌ { قُلْت فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَقَالَ إنَّمَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى أُنَاسٍ قَتَلُوا أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ } هَكَذَا رَوَاهُ عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ .
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَاصِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { إنَّمَا قَنَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا فَقُلْت كَيْفَ الْقُنُوتُ ؟ قَالَ بَعْدَ الرُّكُوعِ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : فَهُوَ ذَا قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْقُنُوتَ الْمُطْلَقَ الْمُعْتَادَ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَقَوْلُهُ { إنَّمَا قَنَتَ شَهْرًا يُرِيدُ بِهِ اللَّعْنَ } قَالَ وَرُوَاةُ الْقُنُوتِ بَعْدَ الرُّكُوعِ أَكْثَرُ وَأَحْفَظُ فَهُوَ أَوْلَى قَالَ
وَعَلَى هَذَا دَرَجَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمْ وَأَكْثَرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْقُنُوتِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ .
( الْخَامِسَةُ ) فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَنْعِهِ أَنْ يُدْعَى لِمُعَيَّنٍ أَوْ عَلَى مُعَيَّنٍ فِي الصَّلَاةِ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فَجَوَّزُوا ذَلِكَ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ .
( السَّادِسَةُ ) فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا فِي مَنْعِهِ مَا لَيْسَ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ .
( السَّابِعَةُ ) فِيهِ جَوَازُ الدُّعَاءِ عَلَى الْكُفَّارِ وَلَعْنَتِهِمْ قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ لَعْنِ الْكَفَرَةِ وَالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي فَأَجَازَهُ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ .
( قُلْت ) أَمَّا الدُّعَاءُ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي وَلَعْنِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ لِقَوْلِهِ { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ } .
{ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ } وَنَحْوُ ذَلِكَ وَأَمَّا مَعَ التَّعْيِينِ فَوَقَعَ كَثِيرًا فِي الْأَحَادِيثِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ لَا تَغْفِرْ لِمُحَلِّمِ بْنِ جَثَّامَةَ } وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ إنَّ ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ لَعْنِ أَهْلِ الْمَعَاصِي مَعَ التَّعْيِينِ .
( قُلْت ) وَقَدْ يُقَالُ : هَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ إنِّي اتَّخَذْت عِنْدَك عَهْدًا أَيُّمَا مُسْلِمٍ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ وَلَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً } الْحَدِيثَ .
وَهَذَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ فَلِهَذَا كَانَ الْمَنْقُولُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَعْنُ الْعَاصِي الْمُعَيَّنِ وَأَمَّا لَعْنُ الْكَافِرِ الْمُعَيَّنِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ ، وَلَكِنْ هَلْ لَنَا أَنْ نَتَعَاطَى ذَلِكَ فَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ إلَّا أَنْ يُقَيِّدَ ذَلِكَ بِأَنْ يَمُوتَ عَلَى كُفْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ { اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك } هُوَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْهَمْزِ وَالْمَعْنَى خُذْهُمْ أَخَذَا شَدِيدًا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِنْ حَدِيثِ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ { آخَرُ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا اللَّهُ بِوَجٍّ } قَالَ وَالْوَطْءُ فِي الْأَصْلِ الدَّوْسُ بِالْقَدَمِ فَسُمِّيَ بِهِ الْغَزْوُ وَالْقَتْلُ قَالَ وَالْمَعْنَى أَنَّ آخِرَ أَخْذَةٍ وَوَقْعَةٍ أَوْقَعَهَا اللَّهُ بِالْكُفَّارِ كَانَتْ بِوَجٍّ
وَكَانَتْ غَزْوَةُ الطَّائِفِ آخِرَ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغْزُ بَعْدَهَا إلَّا غَزْوَةَ تَبُوكَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ انْتَهَى .
( التَّاسِعَةُ ) الْمُرَادُ { بِسِنِي يُوسُفَ } السَّبْعُ الشِّدَادُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ } وَالْمُرَادُ بِهِ الْغَلَاءُ وَالْقَحْطُ وَقَدْ أَوَّلَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ هَذَا الدُّعَاءَ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ { وَاسْتُجِيبَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ فَأَجْدَبُوا سَبْعًا أَكَلُوا فِيهَا كُلَّ شَيْءٍ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ { حَتَّى جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا لَهُمْ فَسُقُوا } عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ ، وَفِيهِ أَوْهَامٌ أَحَدُهَا فِي قَوْلِهِ { فَأَجْدَبُوا سَبْعًا } وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا فَإِنَّهُ كُشِفَ عَنْهُمْ قَبْلَ بَدْرٍ وَكَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَأَيْضًا فَأَبُو هُرَيْرَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ شَهِدَ قُنُوتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُعَاءَهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا أَسْلَمَ أَبُو هُرَيْرَةَ بَعْدَ خَيْبَرَ فَلَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى دُعَائِهِ عَلَى قُرَيْشٍ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ .
وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى قُرَيْشًا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ فَأَخَذَتْهُمْ السَّنَةُ حَتَّى خَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْجُلُودَ } وَفِي رِوَايَةٍ { الْمَيْتَةَ } بَدَلَ الْعِظَامِ { وَجَعَلَ يَخْرُجُ مِنْ الْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ أَيْ مُحَمَّدٌ إنَّ قَوْمَك هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمْ فَدَعَا } وَفِي رِوَايَةٍ { فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَعَادُوا فَانْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ }
، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ دُعَاءَهُ عَلَى قُرَيْشٍ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَهَذَا لَمْ يَشْهَدْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاَلَّذِي أَوْقَعَ الْقُرْطُبِيَّ فِي ذَلِكَ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ ذِكْرُ { مُضَرَ } فَذَكَرَ أَوَّلَ الْحَدِيثِ إلَى قَوْلِهِ { وَحَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا فَقَالَ لِمُضَرَ إنَّك لَجَرِيءٌ قَالَ فَدَعَا لَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إنَّكُمْ عَائِدُونَ } } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَظَنَّ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ أَنَّهَا قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَقِصَّةُ الدُّعَاءِ عَلَى قُرَيْشٍ كَانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ وَلَمْ يُنْقَلْ فِيهَا قُنُوتٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَقُرَيْشٌ هِيَ مِنْ مُضَرَ وَقِصَّةُ الْقُنُوتِ كَانَتْ بَعْدَ خَيْبَرَ بَعْدَ إسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَكَانَ دُعَاؤُهُ فِيهَا عَلَى مُضَرَ وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِقُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا وَكَانَ سَبَبُ الْقُنُوتِ { قِصَّةُ بِئْرِ مَعُونَةَ الَّتِي فِيهَا السَّبْعُونَ مِنْ الْقُرَّاءِ فَقَنَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَيْهِمْ وَعَمَّمَ الدُّعَاءَ عَلَى مُضَرَ } وَلَيْسَ بِدُعَائِهِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ بَدْرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَجَاءَ قَوْلُهُ { كَسِنِي يُوسُفَ } عَلَى إحْدَى اللُّغَتَيْنِ فِي أَنَّ سِنِينَ جَمْعُ سَنَةِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْجَمْعِ فَحُذِفَ مِنْهُ النُّونُ لِلْإِضَافَةِ وَهِيَ لُغَةٌ ، وَاللُّغَةُ الْفَصِيحَةُ بِإِثْبَاتِ النُّونِ دَائِمًا وَبِالْيَاءِ فَقَطْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ { ، ثُمَّ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الدُّعَاءَ لِلْمُسْتَضْعَفَيْنِ الَّذِينَ كَانُوا يَدْعُو لَهُمْ لَا أَصْلَ الْقُنُوتِ وَفِي رِوَايَةِ لِمُسْلِمٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ فَقُلْت { أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ قَالَ فَقِيلَ : وَمَا تَرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا ، أَيْ
إنَّ الَّذِينَ كَانَ يَدْعُو لَهُمْ بِالنَّجَاةِ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ نَجَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَلَحِقُوا بِأَبِي بَصِيرٍ فَكَانُوا بِسَيْفِ الْبَحْرِ يَأْخُذُونَ مَا وَجَدُوا لِقُرَيْشٍ حَتَّى بَعَثَتْ قُرَيْشٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ يُرْسِلَ إلَيْهِمْ لِيَأْتُوهُ } كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي السِّيَرِ فَأَمَّا أَصْلُ الْقُنُوتِ فَلَمْ يَتْرُكْهُ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْبَابِ .
( الْحَادِيَةَ عَشَرَ ) اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِاسْتِحْبَابِ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ فِي كَيْفِيَّةِ الْقُنُوتِ فَقَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مُؤَقَّتٌ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي تَخْصِيصِهِمْ بِقُنُوتِ مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ الْمَرْوِيِّ أَنَّ { جِبْرِيلَ عَلَّمَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك وَنَسْتَغْفِرُك } إلَى آخِرِهِ وَأَنَّهُ لَا يُصَلِّي خَلْفَ مَنْ لَا يَقْنُتُ بِذَلِكَ وَاسْتَحَبَّهُ مَالِكٌ وَاسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ الْقُنُوتَ بِالدُّعَاءِ الْمَرْوِيِّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت } إلَى آخِرِهِ .
قَالَ وَقَدْ اخْتَارَ بَعْضُ شُيُوخنَا الْبَغْدَادِيِّينَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِيمَا ذُكِرَ اخْتِلَافُ الْأَحَادِيثِ وَهَلْ كَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا انْتَهَى كَلَامُهُ وَمَا حَكَاهُ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ دُعَاءٌ مُؤَقَّتٌ إلَّا مَا حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ تَعَيُّنِ قُنُوتِ أُبَيٍّ لَيْسَ بِجَيِّدٍ فَإِنَّ الْخِلَافَ عِنْدَنَا فِي تَعَيُّنِ الْقُنُوتِ الْمَرْوِيِّ فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ فَقَدْ حَكَى فِيهِ الرَّافِعِيُّ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ كَكَلِمَاتِ التَّشَهُّدِ وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فَأَمَّا قُنُوتُ الْحَسَنِ فَرَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ بِلَفْظِ { عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ } وَفِي رِوَايَةٍ { فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْت وَعَافَنِي فِيمَنْ عَافَيْت وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْت وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْت وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْت إنَّك تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْك وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْت تَبَارَكْت رَبَّنَا وَتَعَالَيْت } لَفْظُ أَبِي دَاوُد وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ { فَإِنَّك تَقْضِي } وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ { سُبْحَانَك رَبَّنَا وَتَعَالَيْت } .
وَزَادَ فِيهِ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ { إنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْت وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْت } وَزَادَ فِيهِ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي كِتَابِ التَّوْبَةِ وَالْمَتَابَةِ { نَسْتَغْفِرُك اللَّهُمَّ وَنَتُوبُ إلَيْك } وَزَادَ فِيهِ النَّسَائِيّ فِي آخِرِهِ { وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ } وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا فِي قُنُوتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ لِيَدْعُوا بِهِ فِي الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِي وِتْرِ اللَّيْلِ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فَدَلَّ هَذَا كُلُّهُ أَنَّ تَعْلِيمَ هَذَا الدُّعَاءِ وَقَعَ لِقُنُوتِ الصُّبْحِ وَالْوِتْرِ وَأَمَّا الْقُنُوتُ الَّذِي ذُكِرَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَّمَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ { بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى مُضَرَ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ { ، ثُمَّ عَلَّمَهُ هَذَا الْقُنُوتَ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك وَنَسْتَغْفِرُك وَنُؤْمِنُ بِك وَنَخْضَعُ لَك وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُك اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ نَرْجُو رَحْمَتَك وَنَخَافُ عَذَابَك الْجِدَّ إنَّ عَذَابَك بِالْكَافِرِينَ مُلْحَقٌ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا مُرْسَلٌ قَالَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ صَحِيحًا مُوصَلًا ، ثُمَّ رَوَاهُ مَعَ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ وَزِيَادَةٍ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْجَهْرِ بِالْقُنُوتِ لِلْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَرَ بِهِ وَإِلَّا لَمَا سَمِعُوهُ أَصْحَابُهُ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ { يَجْهَرُ بِذَلِكَ } فَصَرَّحَ بِالظَّاهِرِ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ فِي قُنُوتِهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ { وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْجَهْرِ أَيْضًا وَأَخْرُجهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ مِنْ جَهْرِ الْإِمَامِ بِالْقُنُوتِ هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَفِي وَجْهٍ يُسِرُّ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَجَزَمَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُسِرُّ بِالْقُنُوتِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي التَّحْقِيقِ إنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ انْتَهَى .
وَكَلَامُ الْبَنْدَنِيجِيِّ يَدُلُّ عَلَى الْجَهْرِ فَإِنَّهُ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ وَيَجْهَرُ بِهِ الْمُصَلِّي .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ { قَنَتَ شَهْرًا بَعْدَ الرُّكُوعِ } هَكَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ فِي قِصَّةِ قَتْلِ الْقُرَّاءِ بِبِئْرِ مَعُونَةَ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ { دَعَا عَلَى مَنْ قَتَلَهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً } قَالَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { فَدَعَا عَلَى مَنْ قَتَلَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَالرِّوَايَةُ فِي الشَّهْرِ أَشْهَرُ وَأَكْثَرُ وَأَصَحُّ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ عَلَى أَنَّهَا الصَّلَاةُ الْوُسْطَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } وَفِيهِ نَظَرٌ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا حَكَاهَا الْحَافِظُ شَرَفُ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيُّ فِي كِتَابِهِ كَشْفِ الْمُغَطَّى وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ الصَّلَاةِ .
بَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْمَشْيِ إلَيْهَا عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعْدٍ { بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } ، زَادَ أَبُو دَاوُد { فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ صَلَاةً } ، وَرَوَاهَا ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا } ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } ، وَلَهُمَا : { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ } .
قَالَ الْبُخَارِيُّ { خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا } ، وَقَالَ مُسْلِمٌ { بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رُفِعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ } ، الْحَدِيثَ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { أَوْ حُطَّ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَعَامَّةُ مَنْ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَالُوا { خَمْسَةً وَعِشْرِينَ } إلَّا ابْنَ عُمَرَ فَإِنَّهُ قَالَ { بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ } ( قُلْت ) بَلْ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ } .
.
( بَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْمَشْيِ إلَيْهَا ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } .
فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) فِيهِ تَأَكُّدُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَفَضْلِهَا وَالْحَضُّ عَلَيْهَا .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمَاعَةِ اثْنَانِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْفَضْلَ لِغَيْرِ الْفَذِّ وَمَا زَادَ عَلَى الْفَذِّ فَهُوَ جَمَاعَةٌ وَقَدْ يُقَالُ : إنَّمَا رَتَّبَ هَذَا الْفَضْلَ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِنَفْيِ دَرَجَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ بَيْنَ الْفَذِّ وَالْجَمَاعَةِ كَصَلَاةِ الِاثْنَيْنِ مَثَلًا وَلَكِنْ قَدْ وَرَدَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ التَّصْرِيحُ بِكَوْنِ الِاثْنَيْنِ جَمَاعَةٌ فَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ } وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَفِيهِمَا ضَعْفٌ لَكِنْ اُسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ { إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا ، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا } بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ بَابُ اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ وَيُسْتَدَلُّ فِيهِ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ قُلْت وَفِي الْإِجْمَاعِ نَظَرٌ وَقَدْ حَكَى ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْكِفَايَةِ خِلَافًا فِي أَنَّ أَقَلَّ الْجَمَاعَةِ ثَلَاثَةٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَحَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى دَاوُد الظَّاهِرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَابْنِ خُزَيْمَةَ فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ وَعَزَاهُ بَعْضُهُمْ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ فِيمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ إلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِهِ أَكْثَرُهُمْ يَجْعَلُهُ فَرْضًا وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الصِّحَّةِ وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهُ شَرْطٌ فِي الصِّحَّةِ وَهُوَ دَاوُد وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَأَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ : أَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْفَضِيلَةِ لِصَلَاةِ الْفَذِّ وَإِذَا كَانَتْ الْجَمَاعَةُ فَرْضَ عَيْنٍ لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ بِدُونِهَا فَلَا يَكُونُ فِيهَا فَضِيلَةٌ وَأَيْضًا فَلَا يُقَالُ : الْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ لَا يُقَالُ : إنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ قَدْ تَرِدُ لِإِثْبَاتِ صِفَةٍ فِي إحْدَى الْجِهَتَيْنِ وَنَفْيِهَا عَنْ الْأُخْرَى ، وَأَفْضَلُ الْمُضَافَةُ إلَى صَلَاةِ الْفَذِّ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي أَفْعَلَ مُطْلَقًا غَيْرَ مَقْرُونٍ بِمِنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } انْتَهَى .
وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ { تَزِيدُ عَنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ } وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ وَحْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) لِلْقَائِلِ بِاشْتِرَاطِ الْجَمَاعَةِ أَنْ يُجِيبَ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ فِي الْفَضِيلَةِ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ وَالْفَذِّ بِأَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ الصَّحِيحَةِ عِنْدَهُمْ كَمَنْ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ وَيَجُوزُ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْذُورَ لَا يُكْتَبُ لَهُ التَّضْعِيفُ الْمَجْعُولُ لِلْجَمَاعَةِ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ صَحِيحًا مُقِيمًا } وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ، ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلُّوا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَجْرَ مَنْ صَلَّاهَا وَحَضَرَهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِمْ شَيْئًا } .
وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إنَّ أَصْحَابَ الْأَعْذَارِ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ بِلَا شَكٍّ فَهُوَ مَرْدُودٌ اسْتِدْلَالًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَمَرْدُودٌ نَقْلًا بِمَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَالرُّويَانِيُّ وَالْغَزَالِيُّ مِنْ حُصُولِ ثَوَابِ الْجَمَاعَةِ لَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) قَدْ اخْتَلَفَ الْأَحَادِيثُ فِي الْعَدَدِ الَّذِي تَفْضُلُ بِهِ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ فَفِي حَدِيثِ الْبَابِ { بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ } وَفِي الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَقِيَّةِ الْبَابِ { بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ } وَلِابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ { أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ أَوْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الِاخْتِلَافِ ؟ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةٍ : ( أَحَدُهَا مَا قِيلَ ) إنَّ الدَّرَجَةَ أَصْغَرُ مِنْ الْجُزْءِ فَكَأَنَّ الْخَمْسَةَ وَعِشْرِينَ جُزْءًا إذَا جُزِّئَتْ دَرَجَاتٌ كَانَتْ سَبْعًا وَعِشْرِينَ حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ وَغَيْرُهُ وَهَذَا الْجَوَابُ يَرُدُّهُ مَا ذُكِرَ فِي بَقِيَّةِ الْبَابِ مِنْ الرِّوَايَةِ الَّتِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } ، وَكَذَا مَا ذُكِرَ مِنْ عِنْدِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِيهَا أَنَّهَا أَفْضَلُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا ، ثُمَّ تَفْضُلُ بِزِيَادَةِ دَرَجَتَيْنِ .
( وَالثَّالِثُ ) أَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْمُصَلِّينَ فَيَحْصُلُ التَّضْعِيفُ لِبَعْضِهِمْ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَلِبَعْضِهِمْ بِسَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ بِحَسَبِ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى آدَابِ الْجَمَاعَةِ .
( وَالرَّابِعُ ) أَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أَعْيَانِ الصَّلَوَاتِ فَيَفْضُلُ بَعْضُهَا بِخَمْسٍ وَبَعْضُهَا بِسَبْعٍ حَكَاهَا كُلَّهَا صَاحِبُ الْمُفْهِمِ فَذَكَرَ حَدِيثَ أُبَيٍّ فَهُوَ شَكٌّ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ وَقَدْ حَفِظَ غَيْرُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) ذَكَرَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ بِثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } فَقَالَ وَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي جَمَاعَةٍ يَكُونُ لَهُ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ الَّذِي زِيدَ عَلَيْهِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ وَيَكُونُ لِلْمُصَلِّي
وَحْدَهُ جُزْءٌ وَاحِدٌ .
( السَّابِعَةُ ) هَلْ هَذَا الْفَضْلُ الْمَذْكُورُ لِلْجَمَاعَةِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهَا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ التَّضْعِيفُ حَاصِلٌ بِمُطْلَقِ الْجَمَاعَةِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَتْ حَكَى صَاحِبُ الْمُفْهِمِ فِيهِ خِلَافًا قَالَ وَالظَّاهِرُ الْإِطْلَاقُ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ .
( قُلْت ) وَلَكِنْ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ فِي آخَرِ الْبَابِ يَقْتَضِي التَّقْيِيدَ بِالْمَسْجِدِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهَا { تَفْضُلُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا أَوْ بِبِضْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } قَالَ { وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا الصَّلَاةُ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَعَلَّلَ مَا ذَكَرَ مِنْ الثَّوَابِ أَوَّلًا بِمَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا وَفِيهِ الْخُرُوجُ إلَى الْمَسْجِدِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ { تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ } وَرُبَّمَا كَانَتْ صَلَاتُهُ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي سُوقِهِ جَمَاعَةً فَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْفَضْلَ بِالتَّضْعِيفِ الْمَذْكُورِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) تَكَلَّفَ بَعْضُ شَارِحِي الْبُخَارِيِّ وَهُوَ ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنْ عَيَّنَ الدَّرَجَاتِ السَّبْعَ وَعِشْرِينَ مِنْ أَحَادِيثَ ذَكَرَهَا هِيَ نِيَّةُ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ وَالْخُطَى إلَى الْمَسْجِدِ وَصَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ وَكَوْنُهُ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ وَإِدْرَاكُ النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ وَالتَّهْجِيرُ وَاجْتِمَاعُ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةِ النَّهَارِ فِي الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَإِجَابَةُ دَاعِيَ اللَّهِ وَالسَّكِينَةُ فِي إتْيَانِ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرُ فِي طَرِيقِهِ إلَيْهَا وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّعَاءُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَتَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ وَتَرْكُ الْخَوْضِ فِي الدُّنْيَا فِي الْمَسْجِدِ وَإِجَابَةُ الدُّعَاءِ بِحَضْرَةِ النِّدَاءِ وَاعْتِدَالُ
الصُّفُوفِ وَالتَّرَاصُّ فِيهَا وَاسْتِمَاعُ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَقَوْلُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ بَعْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، وَمُوَافَقَةُ الْمَلَائِكَةِ فِي التَّأْمِينِ وَشَهَادَةُ الْمَلَائِكَةِ لِمَنْ حَضَرَ الْجَمَاعَةَ وَتَحَرَّى مُوَافَقَةَ الْإِمَامِ وَفَضْلُ تَسْلِيمِهِ عَلَى الْإِمَامِ وَعَلَى مَنْ بِجَنْبِهِ وَفَضْلُ دُعَاءِ الْجَمَاعَةِ ، وَالِاعْتِصَامِ بِالْجَمَاعَةِ مِنْ سَهْوِ الشَّيْطَانِ ، قَالَ فَتَمَّتْ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً .
( التَّاسِعَةُ ) قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ أَبِي دَاوُد { فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ } هَلْ الْمُرَادُ مِنْهُ صَلَّاهَا فِي الْفَلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ مُنْفَرِدًا أَوْ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ حَكَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ مَعَ الِانْفِرَادِ فَقَالَ قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { : صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْفَلَاةِ تُضَاعَفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي الْجَمَاعَةِ } وَسَاقَ الْحَدِيثَ .
( قُلْت ) وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ بَلْ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْجَمَاعَةَ فِي الْفَلَاةِ فَإِنَّمَا ضُعِّفَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِ الْجَمَاعَةُ كَمَا تَتَأَكَّدُ عَلَى الْمُقِيمِ حَتَّى ادَّعَى النَّوَوِيُّ أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي الْمُسَافِرِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي كَوْنِهَا فَرْضَ كِفَايَةٍ أَوْ فَرْضَ عَيْنٍ لِشُغْلِهِ .
بِالسَّفَرِ فَإِذَا أَقَامَهَا جَمَاعَةً فِي السَّفَرِ وَمَعَ وُجُودِ مَشَقَّةِ السَّفَرِ ضُوعِفَتْ لَهُ عَلَى الْإِقَامَةِ فَكَانَتْ بِخَمْسِينَ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ فِعْلَهَا مُنْفَرِدًا فَلَمَّا وَرَدَ أَنَّ { مَنْ أَذَّنَ فِي فَلَاةٍ وَأَقَامَ وَصَلَّى صَلَّى مَعَهُ صَفٌّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَا يُرَى طَرَفَاهُمْ } فَضُوعِفَتْ صَلَاتُهُ لِأَفْضَلِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ صَلَّوْا مَعَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْحَاكِمِ مِنْ جَعْلِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ
وَقَعَ لِلْحَاكِمِ فِيهِ وَهَمٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى الْحُجَّةِ بِرِوَايَاتِ هِلَالِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ وَيُقَالُ ابْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ وَيُقَالُ ابْنُ عَلِيٍّ وَيُقَالُ ابْنُ أُسَامَةَ كُلُّهُ وَاحِدٌ انْتَهَى كَلَامُهُ وَهُوَ وَهَمٌ فَإِنَّ هِلَالَ بْنَ مَيْمُونٍ الْمَذْكُورَ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ هُوَ هِلَالٌ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ ذَاكَ أَقْدَمُ مِنْ هَذَا وَهُوَ مَدَنِيٌّ قُرَشِيٌّ عَامِرِيٌّ مَوْلَاهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَرَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جُهَيْنَةَ وَيُقَالُ مِنْ هُذَيْلٍ فِلَسْطِينِيٌّ رَمْلِيٌّ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ فَذَكَرَ ذَاكَ فِي طَبَقَةِ التَّابِعِينَ وَهَذَا فِي طَبَقَةِ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَذَاكَ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَالَتِهِ وَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ تَكَلَّمَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ وَوَثَّقَهُ الْجُمْهُورُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) ذَكَرْنَا فِي الْأَصْلِ عَنْ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ رَوَاهُ قَالُوا { خَمْسَةً وَعِشْرِينَ } إلَّا ابْنَ عُمَرَ وَذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَحْمَدَ { سَبْعٌ وَعِشْرِينَ } مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ هَكَذَا ثَنَا أَبُو النَّضْرِ ثَنَا شَرِيكٌ عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدَةِ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً } وَشَرِيكٌ هَذَا هُوَ النَّخَعِيّ تَكَلَّمَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ وَعَلَّقَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لِلْمَشْهُورِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِجَمَاعَةٍ عَلَى جَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْجَمَاعَاتِ كُلَّهَا بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَجَمَاعَةٍ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْجَمَاعَاتِ تَتَفَاوَتُ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { صَلَاةُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى } .
وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ حُجَّةٌ لِمَنْ تَعَلَّقَ بِهِ فِي تَسَاوِي الْجَمَاعَاتِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : أَقَلُّ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْجَمَاعَةُ مُحَصِّلٌ لِلتَّضْعِيفِ وَلَا مَانِعَ مِنْ تَضْعِيفٍ آخَرَ بِسَبَبٍ آخَرَ مِنْ كَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ أَوْ شَرَفِ الْمَسْجِدِ أَوْ بُعْدِ طَرِيقِ الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلَّا رَفَعَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً } الْمَشْهُورُ فِي الْخَطْوَةِ فَتْحُ الْخَاءِ وَقَيَّدَهُ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ بِضَمِّهَا وَقَالَ إنَّهُ الرِّوَايَةُ كَذَا قَالَ وَهِيَ وَاحِدَةُ الْخُطَا وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ قَالَ فَأَمَّا الْخَطْوَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ فَهِيَ لِلْمَصْدَرِ وَالضَّمُّ لِلِاسْمِ وَالْفَتْحُ لِلْمَصْدَرِ وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ الْخُطْوَةُ بِالضَّمِّ بُعْدُ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ فِي الْمَشْيِ وَبِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ وَمِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ هَلْ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْخُطَا مَا كَانَ فِي الذَّهَابِ إلَى الْمَسْجِدِ فَقَطْ أَوْ فِي الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ الْأَمْرَيْنِ .
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ تَعَلُّقُهُ بِالذَّهَابِ فَقَطْ لِقَوْلِهِ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ { حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ } وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِالِاحْتِمَالِ الثَّانِي فِيمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَاحَ إلَى مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ فَخُطْوَةٌ تَمْحُو سَيِّئَةً وَخُطْوَةٌ تَكْتُبُ لَهُ حَسَنَةً ذَاهِبًا وَرَاجِعًا } وَفِي إسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ { يُكْتَبُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إلَى الْمَسْجِدِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ } وَالْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَةِ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ حَسَنَةٌ مُضَاعَفَةٌ وَلَا اخْتِلَافَ حِينَئِذٍ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ الشَّمْسُ قَالَ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ تَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ مَتَاعَهُ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَقَالَ الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ وَقَالَ كُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ } .
الْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ الشَّمْسُ قَالَ تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ صَدَقَةٌ وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ تَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ مَتَاعَهُ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَقَالَ : الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةِ صَدَقَةٌ وَقَالَ كُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ } .
فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) السُّلَامَى بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مَقْصُورٌ وَهُوَ جَمْعُ سَلَامِيَّةَ وَقِيلَ : وَاحِدَهُ وَجَمْعُهُ سَوَاءٌ وَيُجْمَعُ عَلَى سُلَامَيَاتٍ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا فَقِيلَ : السُّلَامِيَّةُ الْأُنْمُلَةُ مِنْ أَنَامِلِ الْأَصَابِعِ وَقِيلَ السُّلَامَى كُلُّ عَظْمٍ مُجَوَّفٍ مِنْ صِغَارِ الْعِظَامِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ عَظْمٌ يَكُونُ فِي فِرْسِنِ الْبَعِيرِ .
( قُلْت ) وَالصَّوَابُ أَنَّ السُّلَامَى هِيَ الْمَفَاصِلُ وَأَنَّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ مَفْصِلًا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ مُبَيَّنًا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثمِائَةِ السُّلَامَى فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنْ النَّارِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { يُمْسِي } فَبَيَّنَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا أَنَّ السُّلَامَى هِيَ الْمَفَاصِلُ .
( الثَّانِيَةُ ) مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ عَظْمٍ أَوْ مَفْصِلٍ مِنْ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَظَاهِرُ التَّعْبِيرِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ؛ لِأَنَّ السُّنَنَ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا عَلَى الْمُكَلَّفِ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا
قَدْ يُطْلَقُ فِي الْفِعْلِ الْمُتَأَكِّدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَقَوْلِهِ { لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتُّ خِصَالٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ } الْحَدِيثَ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالسَّلَامِ سُنَّةٌ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ مَجْمُوعَ هَذِهِ الْخِصَالِ وَاجِبَةً وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ { يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِي آخِرَةِ { وَيُجْزِي مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى } وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّوَافِلَ لَا تُجْزِي عَنْ الْوَاجِبَاتِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ صَلَاةِ الضُّحَى عَلَى عُمُومِ النَّاسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تُؤَوَّلَ هَذِهِ الْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ عَلَى الْوُجُوبِ كَمَا سَيَأْتِي .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالنَّوَافِلَ يُدَاوِمُ عَلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ وَأَنَّ الْعِبَادَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي يَوْمٍ لَا تُغْنِي عَنْ يَوْمٍ آخَرَ فَلَا يَقُولُ مَثَلًا قَدْ فَعَلْت أَمْسُ فَأَجْزَأَ عَنِّي الْيَوْمَ لِقَوْلِهِ { كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ الشَّمْسُ } .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ { تَعْدِلُ بَيْنَ اثْنَيْنِ } يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعَدْلُ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَلَا تَسْلِيطٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّ عَدْلَ الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ وَاجِبٌ لَا تَطَوُّعٌ وَقَدْ أَدْخَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِنْ أُرِيدَ حَمْلُهُ عَلَى الْوَاجِبِ حَقِيقَةً فَيُحْمَلُ عَلَى عَدْلِ الْحُكَّامِ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ تَحْمِلُهُ عَلَيْهَا } هُوَ أَنْ تُرْكِبَ الْعَاجِزَ عَنْ الرُّكُوبِ عَلَى دَابَّتِهِ وَهَكَذَا أَنْ تَحْمِلَ مَعَهُ عَلَى دَابَّتِهِ مَتَاعَهُ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ بَابُ فَضْلِ مَنْ حَمَلَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ فِي السَّفَرِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْوُجُوبِ فَيْءُ الْمُكَارِي فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إرْكَابُ الشَّيْخِ لِعَجْزِهِ عَنْ الرُّكُوبِ وَحْدَهُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ إبْرَاكُ الْجَمَلِ لِلْمَرْأَةِ لِعَجْزِهَا أَوْ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهَا فِي رُكُوبِ الْبَعِيرِ قَائِمًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْمُخَاطَبَةُ لِلنَّاسِ كَأَنْ يُجِيبَ السَّائِلَ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ مِنْ غَيْرِ إفْحَاشٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { تَبَسُّمُك فِي وَجْهِ أَخِيك صَدَقَةٌ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاك وَوَجْهُك مُنْبَسِطٌ إلَيْهِ } وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْكَلِمَةُ مِنْ الْأَذْكَارِ كَالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ مِنْ عِنْدِ مُسْلِمٍ فِي ذِكْرِ السُّلَامَى { فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَهَلَّلَ اللَّهَ وَسَبَّحَ اللَّهَ } الْحَدِيثَ وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ } أَنَّ الْمُرَادَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَكَذَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى { : إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } .
( السَّابِعَةُ ) فِي قَوْلِهِ { كُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ } مَا يَقْتَضِي أَنَّ ثَوَابَ الْخُطَا إنَّمَا هُوَ الذَّهَابُ إلَى الْمَسْجِدِ دُونَ الرُّجُوعِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لَكِنْ قَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بِقَوْلِهِ { ذَاهِبًا وَرَاجِعًا } وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوُجُوبِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى السَّعْيِ الْوَاجِبِ كَالسَّعْيِ لِلْجُمُعَةِ إلَّا أَنَّهُ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ { كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ الشَّمْسُ } فَإِنَّمَا يَجِبُ السَّعْيُ مَرَّةً فِي الْجُمُعَةِ نَعَمْ يُحْمَلُ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ الْجَمَاعَةَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) الْأَلْفُ وَاللَّامُ فِي الصَّلَاةِ هَلْ هِيَ لِلْعَهْدِ أَوْ لِلْجِنْسِ ، الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْهُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةَ وَإِنْ أُرِيدَ الْجِنْسُ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ صَلَاةٍ يُشْرَعُ الْمَشْيُ إلَيْهَا كَالْعِيدِ وَالْجِنَازَةِ أَيْضًا وَهُوَ بَعِيدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( التَّاسِعَةُ ) الْمُرَادُ بِإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ إزَالَةُ مَا يُؤْذِي الْمَارَّةَ مِنْ حَجَرٍ أَوْ شَوْكٍ ، وَكَذَا قَطْعُ الْأَحْجَارِ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْوَعِرَةِ كَمَا يُفْعَلُ فِي طَرِيقٍ ، وَكَذَا كَنْسُ الطَّرِيقِ مِنْ التُّرَابِ الَّذِي يَتَأَذَّى بِهِ الْمَارُّ وَرَدْمُ مَا فِيهِ مِنْ حُفْرَةٍ أَوْ وَهْدَةٍ وَقَطْعُ شَجَرَةٍ تَكُونُ فِي الطَّرِيقِ وَفِي مَعْنَاهُ تَوْسِيعُ الطُّرُقِ الَّتِي تَضِيقُ عَلَى الْمَارَّةِ وَإِقَامَةُ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَشْتَرِي فِي وَسَطِ الطُّرُقِ الْعَامَّةِ كَمَحَلِّ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكُلُّهُ مِنْ بَابِ إمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَرْتَفِعُ إلَى دَرَجَةِ الْوُجُوبِ كَالْبِئْرِ الَّتِي فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ الَّتِي يُخْشَى أَنْ يَسْقُطَ فِيهَا الْأَعْمَى وَالصَّغِيرُ وَالدَّابَّةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ طَمُّهَا أَوْ التَّحْوِيطُ عَلَيْهَا إنْ لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِالْمَارَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ } وَهُوَ أَنْ يَدُلَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الطَّرِيقَ عَلَيْهَا
وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ : تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ } فَذَكَرَهُ وَلَمْ يَقُلْ { بِهِمْ } وَقَالَ { فَقَالُوا } مَوْضِعٌ { فَيَقُولُونَ } .
( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) .
عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ : تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ } ، وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ } الْحَدِيثَ .
فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) التَّعَاقُبُ هُوَ أَنْ يَأْتِيَ هَذَا فِي عَقِبِ هَذَا وَهَذَا فِي عَقِبِ هَذَا عَلَى بَابِ الْمُفَاعَلَةِ وَقَوْلُهُ { يَتَعَاقَبُونَ } جَاءَ عَلَى لُغَةِ بَنِي الْحَارِثِ وَهِيَ أَنَّهُمْ يُلْحِقُونَ عَلَامَةَ الْفَاعِلِ لِلْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ مَعَ تَقَدُّمِ الْفِعْلُ وَهُمْ الْقَائِلُونَ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ وَهِيَ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَعَلَيْهَا حَمَلَ الْأَخْفَشُ قَوْله تَعَالَى { وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } وَلَمْ يَحْمِلْ بَعْضُهُمْ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ ، بَلْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ { وَأَسَرُّوا } عَائِدًا إلَى النَّاسِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ وَجَعَلَ { الَّذِينَ ظَلَمُوا } بَدَلًا مِنْ الضَّمِيرِ فَيَكُونُ هَذَا بَدَلَ الْبَعْضِ مِنْ الْكُلِّ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ أَسْقَطَ مِنْهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ ذِكْرَ الْمَلَائِكَةِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ زِيَادَتُهَا الْمَلَائِكَةَ { يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ } وَهَذَا وَاضِحٌ وَأَبْعَدَ الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ أَبُو حَيَّانَ النُّجَعَةُ فَنَسَبَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ إلَى مُسْنَدِ الْبَزَّارِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةُ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ هَلْ هُمْ الْحَفَظَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ ؟ فَحَكَى صَاحِبُ الْمُفْهِمِ عَنْ الْجُمْهُورِ
أَنَّهُمْ الْحَفَظَةُ وَقَالَ : إنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدَهُ أَنَّهُمْ غَيْرُ الْحَفَظَةِ وَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ الْأَظْهَرُ هُوَ الَّذِي لَا يُتَّجَهُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ حَفَظَةَ اللَّيْلِ غَيْرُ حَفَظَةِ النَّهَارِ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ لِمَا حَكَاهُ عَنْ الْجُمْهُورِ .
( الثَّالِثَةُ ) بَنَى صَاحِبُ الْمُفْهِمِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا هُوَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ فِي سُؤَالِ الْمَلَائِكَةِ فَإِنْ كَانُوا هُمْ الْحَفَظَةُ فَسُؤَالُهُ لَهُمْ عَنْ كِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ وَحِفْظِهَا عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَهُمْ فَسُؤَالُهُ لَهُمْ إنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ لِمَنْ قَالَ { أَتَجْعَلُ فِيهَا } وَإِظْهَارٌ لِمَا سَبَقَ فِي مَعْلُومِهِ إذْ قَالَ لَهُمْ { إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } قَالَ أَوْ يَكُونُ سُؤَالُهُ لَهُمْ اسْتِدْعَاءً لِشَهَادَتِهِمْ لَهُمْ ؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا : { أَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ } .
( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ فَضِيلَةُ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ بِاجْتِمَاعِ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمَا وَهُمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } كَمَا قَالَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حِين رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا يَعْنِي الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ ، ثُمَّ قَرَأَ جَرِيرٌ الْآيَةَ } أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى { مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ } وَلَمْ يَذْكُرْ عُرُوجَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا بِالنَّهَارِ وَلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْأَلُهُمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي كَمَا يَسْأَلُ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ فَهَلْ يَظْهَرُ لِذَلِكَ مَعْنًى أَمْ لَا ؟ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ اخْتِفَاءٍ وَاسْتِتَارٍ عَنْ الْأَعْيُنِ وَإِغْلَاقِ النَّاسِ أَبْوَابَهُمْ عَلَى مَا يَبِيتُونَ عَلَيْهِ فَكَانَ سُؤَالُ مَلَائِكَةِ اللَّيْلِ أَبْلَغَ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا إلَّا خَيْرًا مِنْ مَجِيئِهِمْ إلَيْهِمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَتَرْكِهِمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ بِخِلَافِ النَّهَارِ ، فَإِنَّهُ مَحَلُّ الِانْتِشَارِ وَالْإِظْهَارِ وَإِنْ أَمْكَنَ الِاخْتِفَاءُ فِيهِ وَالْإِظْهَارُ فِي اللَّيْلِ وَلَكِنْ جَرَى ذَلِكَ عَلَى غَالِبِ الْأَحْوَالِ .
( وَالْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ إذَا صَلُّوا مَعَهُمْ الصُّبْحَ عَرَجُوا فَحَسُنَ سُؤَالُهُمْ لِيُجِيبُوا بِمَا فَارَقُوهُمْ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ قَدْ لَا يَعْرُجُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ بَلْ يَسْتَكْمِلُونَ فِي الْأَرْضِ بَقِيَّةَ النَّهَارِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَضْبِطُونَ مَا وَقَعَ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ الْحَفَظَةُ وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمْ غَيْرَ الْحَفَظَةِ فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ { مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ } وَالظَّاهِرُ مِنْهُمْ اسْتِيعَابُ النَّهَارِ وَإِذَا لَمْ يُفَارِقُوا بَنِي آدَمَ عَقِبَ الصَّلَاةِ أَمْكَنَ أَنْ يَطْرَأَ بَعْدَ الصَّلَاةِ مَا لَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ الْإِخْبَارَ بِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ أَوْ مَا لَا يُرِيدُونَ هُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِهِ فَلَمْ يَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ .
( وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا تَعْرُجُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ فَقَطْ ، وَأَنَّهُمْ الَّذِينَ يَعْرُجُونَ وَيَنْزِلُونَ وَأَنَّ مَلَائِكَةَ النَّهَارِ هُمْ الْحَفَظَةُ لَا يُفَارِقُونَ بَنِي آدَمَ وَيُقَوِّي هَذَا الثَّالِثَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ لَنَا عُرُوجُ مَلَائِكَةِ النَّهَارِ ، وَفِيهِ مُوَافَقَةُ
الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْحَفَظَةُ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْحَفَظَةَ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ وَأَنَّهُمْ مُقِيمُونَ مَعَ بَنِي آدَمَ وَأَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّيْلِ غَيْرُ الْحَفَظَةِ يَنْزِلُونَ مِنْ الْعَصْرِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ وَلَا يَضُرُّ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ { يَتَعَاقَبُونَ } إذْ التَّعَاقُبُ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فَقَدْ يَرِدُ التَّفَاعُلُ عَلَى غَيْرِ بَابِهِ كَقَوْلِهِمْ طَارَقَتْ النَّعْلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ اقْتَصَرَ الشَّيْخَانِ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عَلَى اجْتِمَاعِ الْمَلَائِكَةِ فِي الصُّبْحِ فَقَالَ { وَيَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَاقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ { إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } } .
( السَّادِسَةُ ) فِيهِ بَيَانُ لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ وَإِظْهَارُ جَمِيلِ أَفْعَالِهِمْ وَسَتْرِ قَبِيحِهَا إذْ جَعَلَ اجْتِمَاعَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ بَنِي آدَمَ فِي حَالَةِ عِبَادَتِهِمْ وَلَمْ يَجْعَلْ اجْتِمَاعَهُمْ مَعَهُمْ فِي حَالِ خَلَوَاتِهِمْ بِلَذَّاتِهِمْ وَانْهِمَاكِهِمْ عَلَى شَهَوَاتِهِمْ فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى تَوْفِيقِهِ لِلْخَيْرِ وَإِظْهَارِهِ وَالْإِثَابَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى سَتْرِهِ لِلْقَبِيحِ وَمَحَبَّةِ سَتْرِهِ وَكَرَاهَةِ إشَاعَتِهِ حَتَّى { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهُزَالٍ لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِك كَانَ خَيْرًا لَك } .
وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ فِتْيَانِي أَنْ يَسْتَعِدُّوا لِي بِحُزَمٍ مِنْ حَطَبٍ ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، ثُمَّ نُحَرِّقَ بُيُوتًا عَلَى مَنْ فِيهَا } وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُنَادَى بِهَا ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يَؤُمَّ النَّاسَ ، ثُمَّ أُخَالِفَ إلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ } زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَقَدَ نَاسًا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فَقَالَ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ { فَأُحَرِّقَ عَلَى قَوْمٍ بُيُوتَهُمْ لَا يَشْهَدُونَ الْجُمُعَةَ } قَالَ كَذَا قَالَ الْجُمُعَةَ ، قَالَ وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سَائِرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ عَبَّرَ بِالْجُمُعَةِ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَلِأَبِي دَاوُد فِي هَذَا الْحَدِيثِ { قُلْت لِيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ يَا أَبَا عَوْفٍ الْجُمُعَةَ عَنِيَ أَوْ غَيْرَهَا ؟ فَقَالَ صُمَّتَا أُذُنَايَ إنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ يَذْكُرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَكَرَ جُمُعَةً وَلَا غَيْرَهَا } قُلْت وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ { : إنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا وَلَقَدْ هَمَمْت } فَذَكَرَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْجَمَاعَةُ .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ : لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، ثُمَّ أُحَرِّقَ عَلَى
رِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ } .
( الْحَدِيثُ الرَّابِعُ ) وَعَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ فِتْيَانِي أَنْ يَسْتَعِدُّوا لِي بِحُزَمٍ مِنْ حَطَبٍ ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ، ثُمَّ نُحَرِّقَ بُيُوتًا عَلَى مَنْ فِيهَا } ، وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ بِزِيَادَةٍ فِيهِ ذُكِرَتْ فِي الْأَصْلِ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) فِيهِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْحَلِفِ فِيمَا يُرِيدُ الْمُخْبِرُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ لِلتَّأْكِيدِ وَالِاهْتِمَامِ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ أَنْ لَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَنِيبَ عَنْهُ فِي الْإِمَامَةِ لِحَاجَةٍ تَعْرِضُ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ جَوَازُ الْعُقُوبَةِ بِالْمَالِ مِنْ قَوْلِهِ { نُحَرِّقُ بُيُوتًا } وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْعُقُوبَاتِ بِالْمَالِ مَنْسُوخَةٌ بِنَهْيِهِ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ يُقَالُ : هَذَا مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يَخْتَفُونَ فِي مَكَان لَا يُعْلَمُ فَأَرَادَ التَّوَصُّلَ إلَيْهِمْ بِتَحْرِيقِ الْبُيُوتِ .
( الرَّابِعَةُ ) فِيهِ تَأَكُّدُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْحَضُّ عَلَيْهَا وَالتَّهْدِيدُ لِمَنْ تَرَكَهَا .
( الْخَامِسَةُ ) احْتَجَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ وَأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سُنَّةً أَوْ فَرْضَ كِفَايَةٍ لَمَا هَمَّ بِتَحْرِيقِهِمْ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ ( بَابُ وُجُوبِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ ) وَأَجَابَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالْقُرْطُبِيُّ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ هَمَّ وَلَمْ يَفْعَلْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَهُمُّ إلَّا بِمَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ لَوْ فَعَلَهُ إنْ سَلَّمَ الْمُجِيبُ بِهَذَا أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَإِنَّمَا مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَالْجُمُعَةِ وَقَدْ كَانَ التَّخَلُّفُ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ عَلَامَةً مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ عِنْدَهُمْ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَقَدْ رَأَيْتنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ شُهُودُ الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَا يَسْتَطِيعُونَهُمَا } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُمْ أَنَّ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ الْجَمَاعَةِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ غَيْرُ مُجْزِئَةٍ وَهُوَ مَوْضِعُ الْبَيَانِ وَأَجَابَ عَنْهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْبَيَانَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ نَصًّا قَدْ يَكُونُ بِالدَّلَالَةِ ، وَذِكْرُهُ لَهُمْ بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْحُضُورِ إنْ دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ فِي الْعِبَادَةِ كَانَ شَرْطًا فِيهَا كَمَا هُوَ الْغَالِبُ .
( السَّادِسَةُ ) فِيهِ تَقْدِيمُ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَى الْعُقُوبَةِ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَسِرُّهُ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ إذَا ارْتَفَعَتْ بِالْأَهْوَنِ مِنْ الزَّوَاجِرِ اُكْتُفِيَ بِهِ عَنْ الْأَعْلَى .
( السَّابِعَةُ ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ وَالْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ الصَّلَاةِ الْمُتَوَعَّدِ عَلَى تَرْكِهَا بِالتَّخْوِيفِ هَلْ هِيَ الْعِشَاءُ أَوْ هِيَ الصُّبْحُ أَوْ الْجُمُعَةُ ؟ فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمُرَادَ الْعِشَاءُ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِهِ { لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَظْمًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ } .
وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِيمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ عَجْلَانَ مَوْلَى الْمُشْمَعِلِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيَنْتَهِيَنَّ رِجَالٌ مِمَّنْ حَوْلَ الْمَسْجِدِ لَا يَشْهَدُونَ الْعِشَاءَ أَوْ لَأُحَرِّقَنَّ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ } .
وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقِيلَ : هِيَ الْعِشَاءُ وَالصُّبْحُ مَعًا وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ { : إنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا وَلَقَدْ هَمَمْت } .
فَذَكَرَهُ وَقِيلَ : هِيَ الْجُمُعَةُ وَيَدُلُّ لَهُ رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيّ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَصْلِ { فَأُحَرِّقُ عَلَى قَوْمٍ بُيُوتَهُمْ لَا يَشْهَدُونَ الْجُمُعَةَ } .
وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا مَا ذَكَرْته فِي الْأَصْلِ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ لَقَدْ هَمَمْت } .
فَذَكَرَهُ وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَنْ ابْنِ مَعِينٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْجُمُعَةِ لَا فِي غَيْرِهَا انْتَهَى .
وَهَذَا مِمَّا يُضَعِّفُ قَوْلَ مَنْ احْتَجَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فَرْضُ عَيْنٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ الْجُمُعَةَ فَالْجَمَاعَةُ فِيهَا شَرْطٌ فَلَا يَبْقَى فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ فِي غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ قَالَ ابْنُ
دَقِيقِ الْعِيدِ وَيُحْتَاجُ أَنْ يُنْظَرَ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ثَبَتَتْ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ أَنَّهَا الْجُمُعَةُ أَوْ الْعِشَاءُ أَوْ الْفَجْرُ فَإِنْ كَانَتْ أَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةً قِيلَ : بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ حَدِيثًا وَاحِدًا اخْتَلَفَ فِيهِ بَعْضُ الطُّرُقِ وَعُدِمَ التَّرْجِيحُ وَقَفَ الِاسْتِدْلَال هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ ( قُلْت ) رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيّ فِي كَوْنِهَا الْجُمُعَةَ وَرِوَايَةُ كَوْنِهَا الْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي كَوْنِهَا الْجُمُعَةَ حَدِيثٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَقْدَحُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيُنْظَرُ فِي اخْتِلَافِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ رَجَّحَ الْبَيْهَقِيُّ رِوَايَةَ الْجَمَاعَةِ فِيهِ عَلَى رِوَايَةِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ بَعْدَ رِوَايَةِ الْجُمُعَةِ فِيهِ وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ سَائِرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ عَبَّرَ بِالْجُمُعَةِ عَنْ الْجَمَاعَةِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْخُلَاصَةِ بَعْدَ حِكَايَةِ كَلَامِ الْبَيْهَقِيّ بَلْ هُمَا رِوَايَتَانِ رِوَايَةٌ فِي الْجُمُعَةِ وَرِوَايَةٌ فِي الْجَمَاعَةِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ .
( الثَّامِنَةُ ) اعْتَرَضَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَلَى مَنْ احْتَجَّ لِلظَّاهِرِيَّةِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى شَرْطِيَّةِ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا بِأَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ إذَا وَرَدَ بِالتَّخْوِيفِ فِي صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ وَهِيَ الْعِشَاءُ أَوْ الْجُمُعَةُ أَوْ الْفَجْرُ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَمَاعَةِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الظَّاهِرِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ وَتَرْكِ اتِّبَاعِ الْمَعْنَى اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ نَأْخُذَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنْ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَتُقَامَ } عَلَى عُمُومِ الصَّلَاةِ فَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى اعْتِبَارِ لَفْظِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَسِيَاقِهِ وَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَيُحْمَلُ لَفْظُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ إنْ أُرِيدَ التَّحْقِيقُ بِطَلَبِ الْحَقِّ .
( التَّاسِعَةُ ) اُخْتُلِفَ أَيْضًا فِي هَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا هَمَّ بِهِ مِنْ التَّخْوِيفِ هَلْ هُوَ لِكَوْنِهِمْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ صَلَّوْا أَصْلًا فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّخْوِيفِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ رَأْسًا أَوْ هُوَ لِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمْ صَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَا يَشْهَدُونَ الصَّلَاةَ وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فَقَالَ فِيهِ { ، ثُمَّ آتِي قَوْمًا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ لَيْسَتْ بِهِمْ عِلَّةٌ فَأُحَرِّقُهَا عَلَيْهِمْ قُلْت لِيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ يَا أَبَا عَوْفٍ الْجُمُعَةَ عَنِيَ أَوْ غَيْرَهَا ؟ } فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَصْلِ مِنْ عِنْدِ أَبِي دَاوُد قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَعَلَى هَذَا تَكُونُ هَذِهِ الْجَمَاعَةُ الْمُهَدَّدُ عَلَى التَّخَلُّفِ عَنْهَا هِيَ الْجُمُعَةُ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ مِنْهُمَا عَلَى الْمُقَيَّدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) اُخْتُلِفَ أَيْضًا فِي الَّذِينَ تَوَعَّدَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّحْرِيقِ هَلْ هُمْ مُنَافِقُونَ أَوْ قَوْمٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ؟ وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ ابْنُ بَطَّالٍ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَاسْتَدَلَّ ابْنُ بَطَّالٍ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْسَمَ أَنَّهُ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَيَشْهَدُ لَهُ سِيَاقُ الْحَدِيثِ مِنْ أَوَّلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ { أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ } وَرَجَّحَهُ أَيْضًا بِأَنَّ هَمَّهُ بِالتَّحْرِيقِ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَتَرْكَهُ لِلتَّحْرِيقِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّرْكِ وَهَذَا لَا يَكُونُ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ تَرَكَ عِقَابَ الْمُنَافِقِينَ ، وَعِقَابُهُمْ كَانَ مُبَاحًا
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرًا فِيهِ وَاسْتَدَلَّ الْقُرْطُبِيُّ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي قَالَ فِيهِ { يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ } قَالَ وَالْمُنَافِقُونَ لَا يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ إنَّمَا يُصَلُّونَ فِي الْجَمَاعَةِ رِيَاءً وَسُمْعَةً .
( قُلْت ) وَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِذَلِكَ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِينَ يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطَانِ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } وَقَدْ تَكُونُ الصَّلَاةُ الْمُشَارُ إلَيْهَا فِي بُيُوتِهِمْ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ لَا يُرَاءُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمَذْمُومَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا تَتَأَكَّدُ فِي حَقِّهِنَّ مِنْ قَوْلِهِ { ، ثُمَّ أُخَالِفُ إلَى رِجَالٍ } وَهُوَ كَذَلِكَ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) الْمُرَادُ بِالْعَظْمِ السَّمِينِ هُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ لَحْمٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { عَرْقًا سَمِينًا } وَالْعَرْقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَهُوَ الْعَظْمُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ لَحْمٌ فَإِنْ كَانَ الْعَظْمُ لَا لَحْمَ عَلَيْهِ فَهُوَ عُرَاقُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَزِيَادَةِ الْأَلْفِ هَكَذَا فِي كِتَابِ الْعَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّقْ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ بَيْنَ الْعَرْقِ وَالْعُرَاقِ وَقَالَ : إنَّهُمَا الْعَظْمُ الَّذِي عَلَيْهِ لَحْمٌ وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ إنَّ الْعُرَاقَ جَمْعُ عَرْقٍ قَالَ وَهُوَ جَمْعٌ نَادِرٌ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) الْمِرْمَاتَانِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا أَيْضًا وَاحِدَتُهُمَا مِرْمَاةٌ وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِمَا فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يُقَالُ : إنَّ الْمِرْمَاتَيْنِ ظِلْفَيْ الشَّاةِ قَالَ : وَهَذَا حَرْفٌ لَا أَدْرِي مَا وَجْهُهُ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ : إنَّهُ قَوْلُ الْخَلِيلِ أَيْضًا قَالَ الْحَرْبِيُّ وَلَا أَحْسِبُ هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ وَلَكِنَّهُ كَمَا أَخْبَرَنِي أَبُو نَصْرٍ عَنْ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ : الْمِرْمَاةُ سَهْمُ الْهَدَفِ قَالَ الْحَرْبِيُّ وَيُصَدِّقُ هَذَا مَا حَدَّثَنِي بِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إذَا شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعِي كَانَ لَهُ عَظْمٌ مِنْ شَاةٍ سَمِينَةٍ أَوْ سُهْمَانٍ لَفَعَلَ } وَقَالَ أَبُو عُمَرَ وَمِرْمَاةٌ وَمَرَامٍ وَهِيَ الدِّقَاقُ مِنْ السِّهَامِ الْمُسْتَوِيَةِ وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَقِيلَ الْمِرْمَاةُ بِالْكَسْرِ هُوَ السَّهْمُ الصَّغِيرُ الَّذِي يُتَعَلَّمُ بِهِ الرَّمْيُ وَهُوَ أَحْقَرُ السِّهَامِ وَأَرْذَلُهَا أَيْ لَوْ دُعِيَ إلَى أَنْ يُعْطَى سَهْمَيْنِ مِنْ هَذِهِ السِّهَامِ لَأَسْرَعَ الْإِجَابَةَ .
قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ وَهَذَا لَيْسَ
بِوَجْهٍ وَتَدْفَعُهُ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى { لَوْ دُعِيَ إلَى مِرْمَاتَيْنِ أَوْ عَرْقٍ } انْتَهَى .
وَقِيلَ : إنَّ الْمِرْمَاةَ ظِلْفُ الشَّاةِ نَفْسُهُ وَبِهِ صَدَّرَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ كَلَامَهُ وَقَالَ الْأَخْفَشُ : الْمِرْمَاةُ لُعْبَةٌ كَانُوا يَلْعَبُونَهَا بِنِصَالٍ مُحَدَّدَةٍ يَرْمُونَهَا فِي كَوْمٍ مِنْ تُرَابٍ فَأَيُّهُمْ أَثْبَتَهَا فِي الْكَوْمِ غَلَبَ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) وَفِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { فَقَدْنَا نَاسًا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فَقَالَ } إشَارَةً إلَى سَبَبِ الْحَدِيثِ فَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ وَعِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَا يَقْتَضِي أَنَّ الصَّلَاةَ الْمُبْهَمَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ هِيَ الصُّبْحُ فَقَالَ { صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا الصُّبْحَ فَقَالَ : أَشَاهِدٌ فُلَانٌ ؟ قَالُوا لَا قَالَ أَشَاهِدٌ فُلَانٌ ؟ قَالُوا لَا قَالَ أَشَاهِدٌ فُلَانٌ ؟ قَالُوا لَا قَالَ : إنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ } .
الْحَدِيثَ ( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد { صُمَّتَا أُذُنَايَ } كَذَا وَقَعَ فِي سَمَاعِنَا مِنْ الْمُسْنَدِ وَهُوَ لُغَةُ بَنِي الْحَارِثِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ { يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ } فِي الْحَدِيثِ قَبْلَهُ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { أَثْقَلُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الصُّبْحِ } وَإِنَّمَا كَانَتْ هَاتَانِ الصَّلَاتَانِ ثَقِيلَتَيْنِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهَا لِلْمَشَقَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي حُضُورِ الْمَسَاجِدِ فِيهِمَا مِنْ الظُّلْمَةِ وَكَوْنِ وَقْتِهِمَا وَقْتَ رَاحَةٍ أَوْ غَلَبَةَ نَوْمٍ أَوْ خَلْوَةٍ بِأَهَالِيِهِمْ فَلَا يَتَجَشَّمُ تِلْكَ الْمَشَاقَّ إلَّا مَنْ وُفِّقَ بِثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُنَافِقُ إمَّا شَاكٌّ فِي ذَلِكَ أَوْ لَا يُصَدِّقُ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ .
وَالْمَعْنَى الثَّانِي أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } وَهَاتَانِ الصَّلَاتَانِ فِي لَيْلٍ فَرُبَّمَا خَفِيَ مَنْ غَابَ عَنْهُمَا وَاسْتَتَرَ حَالُهُ بِخِلَافِ بَاقِي الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهَا بِحَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَيَتَفَقَّدُونَ غَيْبَتَهُ فَكَانَ رِيَاؤُهُ يَحُضُّهُ عَلَى حُضُورِهَا لِيَرَاهُ النَّاسُ وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ { وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى } وَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْآيَةِ كِلَاهُمَا حَامِلٌ لَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَاتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ { لَا يَشْهَدُونَ الْجُمُعَةَ } ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ جَعَلَ الْمُكَلَّفَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ بِغَيْرِ عُذْرٍ إذْ لَوْ كَانُوا مُخَيَّرِينَ لَمَا هَمَّ بِتَحْرِيقِهِمْ قِيلَ : إنَّ حُضُورَ الْجُمُعَةِ فَرْضُ عَيْنٍ إلَّا لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ { وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا } أَيْ يَزْحَفُونَ عَلَى أَلْيَاتِهِمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ آفَةٍ قَالَهُ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ وَفِيهِ نَظَرٌ وَالْحَبْوُ غَالِبًا إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْحَبْوِ عَلَى الرُّكَبِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الزَّحْفِ فَالْمُرَادُ هُنَا الزَّحْفُ عَلَى الرُّكَبِ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ { وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ } وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ مِنْ مَرِيضٍ أَوْ نَحْوِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَأَكَّدْ فِي حَقِّهِ وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ .
( التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ حُجَّةٌ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّهُ يُقَاتَلُ أَهْلُ بَلَدٍ تَمَالَئُوا عَلَى تَرْكِ السُّنَنِ ظَاهِرًا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْجَمَاعَةَ سُنَّةٌ لَا فَرْضٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالصَّحِيحُ قِتَالُهُمْ ؛ لِأَنَّ فِي التَّمَالُؤ عَلَيْهَا إمَاتَتَهَا انْتَهَى .
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي قِتَالِ أَهْلِ بَلَدٍ اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا سُنَّةٌ وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتَلُونَ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا يُقَاتَلُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَائِدَةُ الْعِشْرُونَ ) فِيهِ أَخْذُ أَهْلِ الْجَرَائِمِ عَلَى غِرَّةٍ قَالَهُ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ وَقَدْ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَحْكَامِ ( بَابُ إخْرَاجِ الْخُصُومِ وَأَهْلِ الذَّنْبِ مِنْ الْبُيُوتِ ) .
( الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) اسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ بِقَوْلِهِ { نُحَرِّقُ بُيُوتًا عَلَى مَنْ فِيهَا } عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ مُتَهَاوِنًا يُقْتَلُ وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد { يُصَلُّونَ فِي بُيُوتِهِمْ } فَلَمْ يَتْرُكُوهَا رَأْسًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) إنْ قَالَ قَائِلٌ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا تَرْكَ الْجُمُعَةِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ تَرْكُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِأَجْلٍ أَخْذِ مَنْ فِي الْبُيُوتِ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ أَوْ يَرْتَكِبُ مَا يَجِبُ إزَالَتُهُ أَوْ يَكُونُ هَذَا خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِعْلُ هَذَا الْيَوْمَ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَهِيَ لَا تُعَادُ ؟ ( فَالْجَوَابُ ) أَنَّ أَصْحَابَنَا ذَكَرُوا مِنْ الْأَعْذَارِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ مَنْ لَهُ غَرِيمٌ يَخَافُ فَوْتَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَرْبَابَ الْجَرَائِمِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَنَائِبِهِ كَالْغُرَمَاءِ حَتَّى إذَا خَشِيَ أَنْ يَفُوتُوهُ إنْ شَهِدَ الْجَمَاعَةَ أَوْ الْجُمُعَةَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ ) التَّحْرِيقُ بِالنَّارِ مَنْسُوخٌ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْثٍ فَقَالَ : إنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ إنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا } .
وَرَوَى الْجَمَاعَةَ الْمَذْكُورِينَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ قَالَ أَتَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أُحَرِّقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } زَادَ التِّرْمِذِيُّ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ { لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ { لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ } ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ أَنَّ مَا كَانَ هَمَّ بِهِ مِنْ التَّحْرِيقِ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ .
وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { إذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ } وَلِمُسْلِمٍ { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ الْمَسَاجِدَ وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ } وَلِأَبِي دَاوُد فِيهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ { وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ } وَلِمُسْلِمٍ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ { إذَا شَهِدَتْ إحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ فَلَا تَطَيَّبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ } .
الْحَدِيثُ الْخَامِسُ وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ .
( الْأُولَى ) فِيهِ جَوَازُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَمْنُوعًا عَلَيْهِنَّ لَمْ يُؤْمَرْ الرِّجَالُ بِالْإِذْنِ لَهُنَّ إذَا اسْتَأْذَنَّ وَلَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِشُرُوطٍ تَأْتِي فِي بَقِيَّةِ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي شُهُودِهَا لِلْجَمَاعَةِ هَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ فَقَطْ ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ : إنَّ إطْلَاقَ الْخُرُوجِ لَهُنَّ إلَى الْمَسَاجِدِ إبَاحَةٌ لَا نَدْبٌ وَلَا فَرْضٌ وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الشَّابَّةِ وَالْعَجُوزِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْفَائِدَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَ مَأْمُورٌ أَنْ لَا يَمْنَعَهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ إذَا اسْتَأْذَنَتْهُ وَلَكِنْ بِالشُّرُوطِ الْآتِي ذِكْرُهَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلنِّسَاءِ أَنْ يَخْرُجْنَ إلَى الْمَسَاجِدِ إذَا حَدَثَ فِي النَّاسِ الْفَسَادُ .
( الثَّالِثَةُ ) هَذَا الْأَمْرُ لِلْأَزْوَاجِ هَلْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ ؟ حَمَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى النَّدْبِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ حُمَيْدٍ أَنَّهَا { قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نُحِبُّ الصَّلَاةَ تَعْنِي مَعَك فَيَمْنَعُنَا أَزْوَاجُنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلَاتُكُنَّ فِي بُيُوتِكُنَّ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكُنَّ فِي دُورِكُنَّ وَصَلَاتُكُنَّ فِي دُورِكُنَّ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِكُنَّ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِأَنْ لَا يُمْنَعْنَ أَمْرُ نَدْبٍ وَاسْتِحْبَابٍ لَا أَمْرُ فَرْضٍ وَإِيجَابٍ ، قَالَ وَهُوَ قَوْلُ الْعَامَّةِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ انْتَهَى .
وَكَذَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ بَطَّالٍ فَقَالَ إنَّ نَهْيَهُ عَنْ مَنْعِهَا مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ نَهْيُ أَدَبٍ لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَمْنَعَهَا .
( الرَّابِعَةُ ) أُطْلِقَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ مَنْعِهِنَّ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَيَّدَهُ فِي بَعْضِهَا بِاللَّيْلِ فَقَالَ { إذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إلَى الْمَسْجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ } وَهِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا ذَكَرْته فِي الْأَصْلِ ، وَالتَّقْيِيدُ بِالطُّرُقِ مِمَّا يُخَصَّصُ بِهِ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّهَارَ بِخِلَافِ ذَلِكَ لِنَصِّهِ عَلَى اللَّيْلِ قَالَ : وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْضِي عَلَى الْمُطْلَقِ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عَائِشَةَ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الْغَلَسِ .
( الْخَامِسَةُ ) إنْ قِيلَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِاللَّيْلِ مُدْرَجٌ مِنْ قَوْلِ سُفْيَانَ فَإِنَّهُ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِهِ { إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعُهَا } ، ثُمَّ قَالَ زَادَ الْعَلَوِيُّ فِي رِوَايَتِهِ قَالَ سُفْيَانُ { إذَا كَانَ ذَلِكَ لَيْلًا ؟ } .
وَالْجَوَابُ أَنَّ رِوَايَةَ سُفْيَانَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مُطْلَقَةٌ لَيْسَ فِيهَا التَّقْيِيدُ بِاللَّيْلِ فَلَا يَضُرُّنَا زِيَادَةُ سُفْيَانَ فِيهَا اشْتِرَاطُهُ ذَلِكَ وَالرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا التَّقْيِيدُ بِاللَّيْلِ لَيْسَتْ مِنْ طَرِيقِهِ إنَّمَا هِيَ مِنْ رِوَايَةِ حَنْظَلَةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهَا الشَّيْخَانِ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلَيْسَتْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ وَلَيْسَتْ عَلَى هَذَا مُدْرَجَةٌ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ أَصْلِ الْحَدِيثِ .
( السَّادِسَةُ ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْرُجُ إلَى الْمَسْجِدِ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهَا قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُ وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ قِيلَ : إنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ لِلزَّوْجِ مَنْعُ امْرَأَتِهِ مِنْ الْخُرُوجِ إلَّا بِإِذْنِهِ قَالَ وَهَذَا إنْ أُخِذَ مِنْ تَخْصِيصِ النَّهْيِ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَسَاجِدِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ جَوَازَ الْمَنْعِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ فَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِأَنَّ هَذَا تَخْصِيصٌ لِلْحُكْمِ بِاللَّقَبِ وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ قَالَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي هَذَا إنَّ مَنْعَ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْخُرُوجِ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِالْمَسَاجِدِ لِبَيَانِ مَحَلِّ الْجَوَازِ عَلَى الْمَنْعِ الْمُسْتَمِرِّ الْمَعْلُومِ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْمَنْعِ الْمَعْلُومِ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ مَنْعُ الرَّجُلِ بِخُرُوجِ امْرَأَتِهِ لِغَيْرِ الْمَسْجِدِ مَأْخُوذًا مِنْ تَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِالْمَسْجِدِ .
( السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ } قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ إنَّ التَّعْبِيرَ بِإِمَاءِ اللَّهِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالنِّسَاءِ لَوْ قِيلَ : فَفِيهِ مُنَاسَبَةٌ تَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ أَعْنِي بِكَوْنِهِنَّ إمَاءَ اللَّهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى خُرُوجِهِنَّ إلَى الْمَسَاجِدِ وَإِذَا كَانَ مُنَاسِبًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الْجَوَازِ فَإِذَا انْتَفَى انْتَفَى الْحُكْمُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَزُولُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ قَالَ وَالْمُرَادُ بِالِانْتِفَاءِ هُنَا انْتِفَاءُ الْخُرُوجِ إلَى الْمَسَاجِدِ انْتَهَى .
يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ لِلزَّوْجِ مَنْعَهَا مِنْ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَائِدَةِ السَّادِسَةِ .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلَاتٍ } هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ وَكَسْرِ الْفَاءِ جَمْعُ تَفِلَةٍ ، مَأْخُوذٌ مِنْ التَّفَلِ بِفَتْحِهِمَا وَهُوَ الرِّيحُ الْكَرِيهَةُ وَالْمُرَادُ بِهِ لِيَخْرُجْنَ تَارِكَاتٍ لِلطَّيِّبِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ { الْحَاجُّ الشُّعْثُ التُّفْلُ } .
( التَّاسِعَةُ ) فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ } حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ الطِّيبُ لِلْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ عِنْدَ مُسْلِمٍ { إذَا شَهِدَتْ إحْدَاكُنَّ الْعِشَاءَ فَلَا تَطَيَّبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ } وَهُوَ كَذَلِكَ وَالْبَخُورُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مَا يُتَبَخَّرُ بِهِ مِنْ عُودٍ أَوْ لِبَانٍ أَوْ غَيْرِهِمَا .
( الْعَاشِرَةُ ) قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ يَلْتَحِقُ بِالطِّيبِ مَا فِي مَعْنَاهُ فَإِنَّ الطِّيبَ إنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيكِ دَاعِيَةِ الرِّجَالِ وَشَهْوَتِهِمْ قَالَ وَقَدْ أُلْحِقَ بِهِ حُسْنُ الْمَلَابِسِ وَلُبْسُ الْحُلِيِّ الَّذِي يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الزِّينَةِ وَحَمَلَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ قَوْلَ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَوْ أَدْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد { وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ حُجَّةٌ } لِمَنْ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُنَّ شُهُودَ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ يَمْنَعُ نِسَاءَهُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَكْرَهُ لِلنِّسَاءِ شُهُودَ الْجُمُعَةِ وَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَقَدْ أُرَخِّصُ لِلْعَجُوزِ أَنْ تَشْهَدَ الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا وَقَالَ الثَّوْرِيُّ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ خَيْرٌ مِنْ بَيْتِهَا وَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَكْرَهُهُ لِلشَّابَّةِ وَلَا بَأْسَ أَنْ تَخْرُجَ الْعَجُوزُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا .
وَكَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا إنْ أَرَدْنَ حُضُورَ الْمَسْجِدِ مَعَ الرِّجَالِ كُرِهَ لِلشَّوَابِّ دُونَ الْعَجَائِزِ وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ وَلِلْمُتَجَالَّةِ أَنْ تَخْرُجَ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَا تُكْثِرَ التَّرَدُّدَ إلَيْهِ وَلِلشَّابَّةِ أَنْ تَخْرُجَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) اسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْ الْكَرَاهَةِ مَسْجِدَيْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا صَلَّتْ امْرَأَةٌ صَلَاةً خَيْرًا لَهَا مِنْ صَلَاةٍ تُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ مَسْجِدَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَجُوزٌ فِي مِنْقَلَيْهَا وَفِي إسْنَادِهِ الْمَسْعُودِيُّ تُكُلِّمَ فِي حِفْظِهِ وَالْمِنْقَلَانِ الْخُفَّانِ وَقِيلَ الْخُفَّانِ الْخَلَقَانِ ضَبَطَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالْهَرَوِيُّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَبَطَهُ الْجَوْهَرِيُّ بِالْكَسْرِ وَذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْمُثَلَّثِ وَقَالَ هُوَ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ الْخُفُّ وَبِالضَّمِّ الْخُفُّ الْمُصْلَحُ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اسْتَأْذَنَتْهُ امْرَأَتُهُ إلَى الْحَجِّ لَا يَمْنَعُهَا فَيَكُونُ وَجْهُ نَهْيِهِ عَنْ مَسْجِدِ اللَّهِ الْحَرَامِ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ نَهْيَ إيجَابٍ قَالَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لِزَوْجِهَا مَنْعُهَا مِنْ الْحَجِّ انْتَهَى .
( قُلْت ) وَمَا نَقَلَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْهِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ حَجِّ الْفَرْضِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْإِذْنِ لَهَا فِي الْمَسْجِدِ الْقَرِيبِ الْإِذْنُ فِي الْحَجِّ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى سَفَرٍ وَنَفَقَةٍ وَأَعْمَالٍ كَثِيرَةٍ .
وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ فَقَالَ أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ ، ثُمَّ قَالَ إنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُولُ : أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ { أَوْ ذَاتُ مَطَرٍ فِي السَّفَرِ } وَقَالَ الْبُخَارِيُّ { فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوْ الْمَطِيرَةِ فِي السَّفَرِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا : أَنَّ أَذَانَ ابْنِ عُمَرَ كَانَ بِضَجَنَانَ وَلَهُمَا أَنَّ { ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ : إذَا قُلْت أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ حَيِّ عَلَى الصَّلَاةِ قُلْ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ قَالَ فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ ، فَقَالَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ ذَا ؟ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا أَنَّهُ { كَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَفِيهِ فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
الْحَدِيثُ السَّادِسُ وَعَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ فَقَالَ أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ ، ثُمَّ قَالَ إنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ يَقُولُ أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) فِيهِ الرُّخْصَةُ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ لِعُذْرٍ وَهُوَ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ الْجَمَاعَةِ فِي شِدَّةِ الْمَطَرِ وَالظُّلْمَةِ وَالرِّيحِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مُبَاحٌ .
( الثَّانِيَةُ ) اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَتَقْدِيرُهُ : أَنَّ الَّذِي رَخَّصَ فِيهِ لِلْمَطَرِ إتْيَانُ الْجَمَاعَةِ .
وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فِي الْبُيُوتِ وَالرِّحَالِ فَلَيْسَ الْمَطَرُ عُذْرًا فِيهَا فَلَمَّا قَالَ { صَلُّوا فِي الرِّحَالِ } وَأَطْلَقَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا تَجِبُ إذْ لَوْ وَجَبَ ذَلِكَ بَيَّنَهُ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْبَيَانِ .
( الثَّالِثَةُ ) { أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَقُولَ : أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ } لَيْسَ هُوَ أَمْرُ عَزِيمَةٍ حَتَّى يُشْرَعَ لَهُمْ الْخُرُوجُ إلَى الْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إلَى مَشِيئَتِهِمْ فَمَنْ شَاءَ صَلَّى فِي رَحْلِهِ ، وَمَنْ شَاءَ خَرَجَ إلَى الْجَمَاعَةِ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَمُطِرْنَا فَقَالَ : لِيُصَلِّ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فِي رَحْلِهِ } فَوَكَلَ ذَلِكَ إلَى مَشِيئَتِهِمْ .
( الرَّابِعَةُ ) أَطْلَقَ مَالِكٌ فِي رِوَايَتِهِ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الْمُؤَذِّنُ أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ هَلْ يَقُولُهَا بَعْدَ فَرَاغِهِ أَمْ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ ؟ لَكِنَّ الْإِتْيَانَ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ { فَقَالَ أَلَا صَلُّوا } يَقْتَضِي تَعْقِيبَهُ لِلْأَذَانِ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ نَادَى بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ مَطَرٍ وَرِيحٍ وَبَرْدٍ فَقَالَ فِي آخَرِ نِدَائِهِ : أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ لَفْظُ مُسْلِمٍ فَقَيَّدَهَا فِي أَذَانِ ابْنِ عُمَرَ بِآخِرِ نِدَائِهِ وَأَطْلَقَهَا فِي الْمَرْفُوعِ .
وَقَدْ قَيَّدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الرُّكُوعِ فَقَالَ وَأُخْبِرْنَا أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ مُؤَذِّنًا يُؤَذِّنُ ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى أَثَرِهِ أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ } .
( الْخَامِسَةُ ) قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ مَحَلَّ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْأَذَانِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ فِي بَقِيَّةِ الْبَابِ أَنَّهُ { يَقُولُهَا مَوْضِعَ حَيِّ عَلَى الصَّلَاةِ } .
وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِأَنْ قَالَ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي آخَرِ رِوَايَةٍ قَبْلَ الْفَرَاغِ وَيَكُونُ هَذَا مِثْلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( قُلْت ) هَذَا الْجَمْعُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ { ، ثُمَّ يَقُولُ عَلَى أَثَرِهِ } .
وَأَيْضًا فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ التَّصْرِيحُ بِكَوْنِهِ بَعْدَ الْأَذَانِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ أَوْ مَطِيرَةٌ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَذَّنَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ فَإِذَا فَرَغَ نَادَى : الصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ أَوْ فِي رِحَالِكُمْ } .
( السَّادِسَةُ ) ذَهَبَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بَعْدَ الْأَذَانِ أَوْ بَعْدَ الْحَيْعَلَةِ نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ زَوَائِدِهِ فَقَالَ قَالَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ : إذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ مَطِيرَةٌ وَذَاتُ رِيحٍ وَظُلْمَةٍ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ إذَا فَرَغَ مِنْ أَذَانِهِ أَلَا صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ فَإِنْ قَالَهُ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ بَعْدَ الْحَيْعَلَةِ فَلَا بَأْسَ ، وَكَذَا قَالَهُ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالشَّاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ ، قَالَ وَاسْتَبْعَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ .
قَوْلَهُ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ وَلَيْسَ هُوَ بِبَعِيدٍ بَلْ هُوَ الْحَقُّ وَالسُّنَّةُ فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي آخَرِ أَبْوَابِ الْأَذَانِ فِي الْأُمِّ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ : إذَا قُلْت أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَقُلْ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ فَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْحَدِيثِ .
( السَّابِعَةُ ) مَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ مُطَابِقًا لَهُ ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ مَكَانَ حَيِّ عَلَى الصَّلَاةِ وَاَلَّذِي .
قَالَهُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يَقُولُهَا بَعْدَ الْحَيْعَلَةِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا اقْتَضَاهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ كَوْنِهِ يَجْعَلُهَا مَكَانَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ هُوَ الْمُنَاسِبُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ يُخَالِفُ قَوْلَهُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ الْمُؤَذِّنُ تَعَالَوْا ، ثُمَّ يَقُولُ لَا تَجِيئُوا وَلَكِنَّ الْبُخَارِيَّ قَدْ بَوَّبَ عَلَى بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : بَابُ الْكَلَامِ فِي الْأَذَانِ .
وَإِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ أَذَانٌ كَامِلٌ زَادَ فِيهِ صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ فَيَكُونُ تَأْوِيلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إذَا قُلْت أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ أَيْ لَا تَقُلْهَا
بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ بَلْ قُلْ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ أَوَّلًا وَأَتِمَّ الْأَذَانَ بَعْدَ ذَلِكَ وَفِيهِ نَظَرٌ .
( الثَّامِنَةُ ) قَالَ صَاحِبُ الْمُفْهِمِ اسْتَدَلَّ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ يُرِيدُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ أَجَازَ الْكَلَامَ فِي الْأَذَانِ وَهُمْ أَحْمَدُ وَالْحَسَنُ وَعُرْوَةُ وَقَتَادَةُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنُ أَبِي حَازِمٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ قَالَ : وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ عِنْدِ ابْنِ عَدِيٍّ فِي التَّصْرِيحِ بِكَوْنِهَا تُقَالُ بَعْدَ الْأَذَانِ قَالَ وَالْحَدِيثَ الثَّانِي أَيْ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمْ يَسْلُكْ فِيهِ مَسْلَكَ الْأَذَانِ أَلَا تَرَاهُ قَالَ لَا تَقُلْ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا أَرَادَ إشْعَارَ النَّاسِ بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ لِلْعُذْرِ كَمَا فَعَلَ مِنْ التَّثْوِيبِ لِلْأُمَرَاءِ قَالَ وَقَدْ كَرِهَ الْكَلَامَ فِي الْأَذَانِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ انْتَهَى .
وَمَا أَوَّلَ الْقُرْطُبِيُّ بِهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْطُلُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْأَذَانِ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ أَذَانًا وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ صَرَّحَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْأَذَانِ .
( التَّاسِعَةُ ) فِي قَوْلِهِ { لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ } مَا يَقْتَضِي أَنَّ التَّرَخُّصَ بِاجْتِمَاعِ الْبَرْدِ وَالْمَطَرِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا رُخْصَةٌ وَلَكِنْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الَّتِي تَلِيهَا { أَوْ ذَاتُ مَطَرٍ } ، وَكَذَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ أَوْ الْمَطِيرَةِ } وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَحَدَهُمَا عُذْرٌ وَلَكِنْ كِلَا الرِّوَايَتَيْنِ الَّتِي أَتَى فِيهَا بِأَوْ مُقَيَّدَةٌ بِالسَّفَرِ وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ { إذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ أَوْ ذَاتُ مَطَرٍ أَوْ ذَاتُ رِيحٍ فِي سَفَرٍ } الْحَدِيثَ .
فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَمَّا كَانَ السَّفَرُ لَا تَتَأَكَّدُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ وَيَشُقُّ الِاجْتِمَاعُ لِأَجْلِهَا اكْتَفَى فِيهِ بِأَحَدِ الْأُمُورِ بِخِلَافِ الْحَضَرِ فَإِنَّ الْمَشَقَّةَ فِيهِ أَخَفُّ مِنْ السَّفَرِ وَالْجَمَاعَةُ فِيهِ آكَدُ وَلَكِنْ لَا أَعْلَمُ قَائِلًا بِالْفَرْقِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الْوَاوِ عَلَى رِوَايَةِ أَوْ لِزِيَادَةِ الْفَائِدَةِ فِيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْعَاشِرَةُ ) ظَاهِرُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ مَحَلَّ الرُّخْصَةِ فِي الْمَطَرِ وَالْبَرْدِ وَالرِّيحِ إنَّمَا هُوَ اللَّيْلُ فَقَطْ دُونَ النَّهَارِ مِنْ قَوْلِهِ { إذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ } .
أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ قَائِلُونَ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الرِّيحِ فَقَطْ دُونَ الْمَطَرِ وَالْبَرْدِ فَقَالُوا فِي الْمَطَرِ وَالْبَرْدِ : إنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عُذْرٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَقَالُوا فِي الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ : إنَّهَا عُذْرٌ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ هَكَذَا جَزَمَ الرَّافِعِيُّ وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ وَحَكَى ابْنُ الرِّفْعَةِ وَجْهًا آخَرَ فِي الرِّيحِ أَنَّهَا عُذْرٌ فِي النَّهَارِ وَلِلْأَصْحَابِ أَنْ يُجِيبُوا عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِاللَّيْلِ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالْعِلَّةُ إنَّمَا هِيَ الْبَرْدُ وَالْمَطَرُ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ { فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ } .
وَقَدْ ذَكَرْته بَعْدَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي الْأَصْلِ وَأَمَّا الْبَرْدُ فِي النَّهَارِ فَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَالْغَدَاةِ الْقَارَّةِ فَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْبَرْدَ عُذْرٌ فِي النَّهَارِ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ : قَيَّدَهُ بِالْغَدَاةِ دُونَ بَقِيَّةِ النَّهَارِ لِمَا فِي الْغَدَاةِ مِنْ الْبَرْدِ دُونَ وَسَطِ النَّهَارِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ هَكَذَا بِالْعَنْعَنَةِ وَهُوَ مُدَلِّسٌ فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) إنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ التَّقْيِيدَ بِكَوْنِهِ فِي السَّفَرِ ، وَكَذَا حَدِيثُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ { أَنَّهُمْ كَانُوا فِي سَفَرٍ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ وَهَكَذَا حَدِيثُ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ أَصْحَابِ السُّنَنِ { أَنَّهُمْ كَانُوا فِي سَفَرٍ } فَكَانَ يَنْبَغِي حَمْلُ الرِّوَايَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ بِالسَّفَرِ حَتَّى إنَّهُ لَا يَكُونُ الْمَطَرُ وَالْبَرْدُ وَالرِّيحُ رُخْصَةً فِي التَّخَلُّفِ عَنْ الْجَمَاعَةِ فِي الْحَضَرِ
وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ فَمَا الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ ؟ ( وَالْجَوَابُ ) أَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد { نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَالْغَدَاةِ الْقَارَّةِ } فَصَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ لَيْسَ فِي سَفَرٍ وَلَكِنَّ هَذِهِ الطُّرُقَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ بِالْعَنْعَنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَكِنَّ قِصَّةَ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ تَدُلُّ عَلَى التَّرْخِيصِ بِالْمَطَرِ فِي الْحَضَرِ أَنَّهُ { قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ ؟ فَأَشَارَ إلَى مَكَان مِنْ الْبَيْتِ فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ رَخَّصَ لِعِتْبَانَ فِي ذَلِكَ التَّرْخِيصُ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ عَلَّلَ أَيْضًا بِكَوْنِهِ ضَرِيرَ الْبَصَرِ فَلَعَلَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعِلَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) ضَجْنَانُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِفَتْحِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ وَبِنُونَيْنِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ قَالَ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي ذَيْلِهِ عَلَى كِتَابِ الْغَرِيبَيْنِ لِلْهَرَوِيِّ : إنَّهُ مَوْضِعٌ أَوْ جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ أَنَّ الْأَعْذَارَ الْمَذْكُورَةَ رُخْصَةٌ فِي مُطْلَقِ الْجَمَاعَةِ سَوَاءٌ فِيهِ الْجُمُعَةُ وَغَيْرُهَا وَقَدْ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ { فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ } وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا فِي أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ إلَّا مَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْعُدَّةِ عَنْ أَئِمَّةِ طَبَرِسْتَانَ أَنَّهُمْ أَفْتَوْا أَنَّ الْوَحَلَ الشَّدِيدَ عُذْرٌ فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الْجُمُعَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عُذْرٌ فِيهِمَا مَعًا ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا مَحْجُوجٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ ذِي رَدَغٍ الْحَدِيثَ .
فِي أَمْرِهِ مُؤَذِّنَهُ أَنْ يَقُولَ صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ وَالرَّدَغُ وَالرَّزَغُ الطِّينُ وَقَالَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ : إنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْت أَنْ أُخْرِجَكُمْ فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ حُجَّةٌ عَلَى رِوَايَةِ مَالِكٍ حَيْثُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمَطَرَ وَالْوَحْلَ لَيْسَا بِعُذْرٍ فِي الْجُمُعَةِ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أَنَّ الْمَطَرَ الشَّدِيدَ وَالْوَحْلَ عُذْرٌ فِيهَا .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إنَّ الْمَطَرَ الْوَابِلَ عُذْرٌ ، وَقَيَّدَ أَصْحَابُنَا الْوَحَلَ بِالشَّدِيدِ وَأَطْلَقَ أَكْثَرُهُمْ الْمَطَرَ وَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِالشَّدِيدِ وَقَيَّدَ بَعْضُهُمْ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ أَذًى وَقَدْ أُطْلِقَ الْمَطَرُ وَالرَّدَغُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكِنْ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ كَرِهْت أَنْ أَؤُمَّكُمْ فَتَجِيئُونَ تَدُوسُونَ الطِّينَ إلَى رُكَبِكُمْ ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْوَحَلِ وَالْمَطَرِ ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْمَطَرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ وَيُسْتَدَلُّ لِمَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ إطْلَاقِهِمْ الْمَطَرَ فِي عُذْرِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ { شَهِدَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ وَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ لَمْ يَبُلَّ أَسْفَلَ نِعَالِهِمْ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِي رِحَالِهِمْ } لَفْظُ أَبِي دَاوُد وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد : إنَّ { ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ } وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَكُونُوا مُقِيمِينَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ صَلُّوا الْجُمُعَةَ فَيَكُونُ ظُهْرًا فَلَا يَبْقَى فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الْجُمُعَةِ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) حَكَى ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ الْمُهَلَّبِ أَنَّ قَوْلَهُ { الصَّلَاةُ فِي الرِّحَالِ } أَبَاحَ التَّخَلُّفَ عَنْ الْجَمَاعَةِ ، وَقَوْلُهُ إنَّهَا عَزْمَةٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى الْجُمُعَةَ وَحْدَهَا وَلَمْ يُصَلِّ بَعْدَهَا الْعَصْرَ قَالَ فَفِيهِ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعُذْرِ الْمَطَرِ انْتَهَى .
وَلَيْسَ كَمَا قَالَ مِنْ كَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُجْمَعُ مَعَ الْعَصْرِ إنَّمَا يُجْمَعُ مَعَهَا الظُّهْرُ ، فَاسْتِدْلَالُهُ بِعَدَمِ جَمْعِ الْعَصْرِ مَعَ الْجُمُعَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَرْكِ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ نَقْلِ الْجَمْعِ عَدَمُ وُقُوعِهِ لَوْ كَانَ جَائِزًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْأَذَانِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ مَالِكٌ لَا أَذَانَ عَلَى مُسَافِرٍ وَإِنَّمَا الْأَذَانُ عَلَى مَنْ يَجْتَمِعُ إلَيْهِ لِتَأْدِيَتِهِ وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ يُقِيمُ الْمُسَافِرُ وَلَا يُؤَذِّنُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَكْحُولٍ وَالْحَسَنِ وَالْقَاسِمِ .
وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ حُجَّةٌ لِمَنْ اسْتَحَبَّ الْأَذَانَ لِلْمُسَافِرِ مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ الطَّوِيلُ عِنْدَ مُسْلِمٍ { فِي نَوْمِهِمْ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْوَادِي } .
وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ { إنِّي أَرَاك تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِك أَوْ فِي بَادِيَتِك فَأَذَّنْت فَارْفَعْ صَوْتَك بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَّ صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَحَدِيثُ مَالِكٍ أَبُو الْحُوَيْرِثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ { وَإِذَا خَرَجْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا } الْحَدِيثَ بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا وَقَالَ بِوُجُوبِ الْأَذَانِ فِي السَّفَرِ وَهُوَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فَقَالَ : إذَا كُنْت فِي سَفَرٍ وَلَمْ تُؤَذِّنْ وَلَمْ تُقِمْ فَأَعِدْ الصَّلَاةَ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ إذَا نَسِيَ الْإِقَامَةَ فِي السَّفَرِ أَعَادَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَالْحُجَّةُ لَهُمَا قَوْلُهُ { أَذِّنَا وَأَقِيمَا } وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ قَالَ وَالْعُلَمَاءُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ .
بَابُ الْإِمَامَةِ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ إقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ } وَقَالَ الْبُخَارِيُّ { مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { فَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ }
( بَابُ الْإِمَامَةِ ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقِيمُوا الصَّفَّ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّ إقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) فِيهِ الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ وَالْمُرَادُ بِالصَّفِّ الْجِنْسُ وَيَدْخُلُ فِي إقَامَةِ الصَّفِّ اسْتِوَاءُ الْقَائِمِينَ عَلَى سَمْتٍ وَاحِدٍ وَالْتِصَاقُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ خَلَلٌ وَتَتْمِيمُ الصُّفُوفِ الْمُقَدَّمَةِ أَوَّلًا فَأَوَّلًا وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ حَتَّى رَأَى أَنْ قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُكَبِّرَ فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنْ الصَّفِّ فَقَالَ : عِبَادَ اللَّهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ النُّعْمَانِ { أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ فَقَالَ أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثَلَاثًا وَاَللَّهِ لَتُقِيمُنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قَالَ فَرَأَيْت الرَّجُلَ يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَرُكْبَتَهُ بِرُكْبَةِ صَاحِبِهِ وَكَعْبَهُ بِكَعْبِهِ } .
فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ دَالَّتَانِ بِمَجْمُوعِهِمَا عَلَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي إقَامَةِ الصَّفِّ اسْتِوَاءُ الْقَائِمِينَ بِهِ وَانْضِمَامُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ
عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قُلْنَا وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا قَالَ يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْمُقَدَّمَةَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَلَ وَلِينُوا ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { رُصُّوا صُفُوفَكُمْ وَقَارِبُوا بَيْنَهُمَا وَحَاذُوا بِالْأَعْنَاقِ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَرَى الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهَا الْحَذَفُ } .
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ ( الثَّانِيَةُ ) هَذَا الْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي تَعْلِيلِهِ { فَإِنَّ إقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ } قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الصُّفُوفِ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ حُسْنِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ حُسْنَ الشَّيْءِ زِيَادَةٌ عَلَى تَمَامِهِ وَذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ قَالَ وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ { تَسْوِيَةُ الصَّفِّ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ أَنَّ إقَامَةَ الصَّلَاةِ } .
تَقَعُ عَلَى السُّنَّةِ كَمَا تَقَعُ عَلَى الْفَرِيضَةِ لِمَا قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ فِي قَوْلِ أَنَسٍ مَا أَنْكَرْت شَيْئًا إلَّا أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ لِمَا كَانَ تَسْوِيَةُ الصَّفِّ مِنْ السُّنَّةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا الْمَدْحَ عَلَيْهَا دَلَّ ذَلِكَ أَنَّ تَارِكَهَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَالْعَتْبَ كَمَا قَالَ أَنَسٌ رَحِمَهُ اللَّهُ غَيْرَ أَنَّ مَنْ لَمْ يُقِمْ الصُّفُوفَ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَنَسًا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ انْتَهَى .
وَهَذَا اللَّفْظُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَهُوَ قَوْلُهُ { مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ } .
هُوَ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ { مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ
} وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ { مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ } أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ مِنْ أَرْكَانِهَا وَلَا وَاجِبَاتِهَا وَتَمَامُ الشَّيْءِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ الَّتِي لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهَا فِي مَشْهُورِ الِاصْطِلَاحِ قَالَ وَقَدْ يَنْطَلِقُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ عَلَى بَعْضِ مَا لَا تَتِمُّ الْحَقِيقَةُ إلَّا بِهِ انْتَهَى .
وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ إلَى وُجُوبِهِ فَقَالَ وَفُرِضَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ تَعْدِيلُ الصُّفُوفِ الْأُوَلِ وَالتَّرَاصُّ فِيهَا وَالْمُحَاذَاةُ بِالْمَنَاكِبِ وَالْأَرْجُلِ فَإِنْ كَانَ نَقْصٌ كَانَ فِي آخِرِهَا وَمَنْ صَلَّى وَأَمَامَهُ فِي الصَّفِّ فُرْجَةٌ يُمْكِنُهُ سَدُّهَا بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي الصَّفِّ مَدْخَلًا فَلْيَجْذِبْ إلَى نَفْسِهِ رَجُلًا يُصَلِّي مَعَهُ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيَرْجِعْ وَلَا يُصَلِّ وَحْدَهُ خَلْفَ الصَّفِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا فَيُصَلِّيَ وَيَجْزِيهِ ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ { لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ } .
قَالَ وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَالْوَعِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي كَبِيرَةٍ مِنْ الْكَبَائِرِ ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ أَنَسٍ كَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ثُمَّ قَالَ هَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ ثُمَّ قَالَ وَبِقَوْلِنَا يَقُولُ السَّلَفُ الطَّيِّبُ رَوَيْنَا بِأَصَحِّ إسْنَادٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ كُنْت فِيمَنْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدَمَهُ لِإِقَامَةِ الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ مَا كَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَضْرِبَ أَحَدًا وَيَسْتَبِيحَ بَشَرَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِ فَرْضٍ ثُمَّ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ بَعَثَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا لِذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ حَتَّى يُخْبِرُوهُ بِاسْتِوَائِهَا ثُمَّ قَالَ :
فَهَذَا فِعْلُ الْخَلِيفَتَيْنِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ لَا يُخَالِفُهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ ثُمَّ حَكَى عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ كَانَ بِلَالٌ هُوَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْرِبُ أَقْدَامَنَا فِي الصَّلَاةِ وَيُسَوِّي مَنَاكِبَنَا .
ثُمَّ قَالَ فَهَذَا بِلَالٌ مَا كَانَ لِيَضْرِبَ أَحَدًا عَلَى غَيْرِ الْفَرْضِ ثُمَّ حَكَى قَوْلَهُمْ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَتُنْكِرُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا ، إلَّا أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ الْمُبَاحُ لَيْسَ مُنْكَرًا انْتَهَى .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ بِكَلَامِ أَنَسٍ هَذَا عَلَى الْوُجُوبِ فَبَوَّبَ عَلَيْهِ فِي صَحِيحِهِ ، بَابَ إثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : هَذَا الْوَعِيدُ يَعْنِي الَّذِي فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي تَرْكِ وَاجِبٍ وَهَذَا كَانَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ سَمَحَ فِي ذَلِكَ .
ا هـ ( الثَّالِثَةُ ) ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى إقَامَةِ الصَّفِّ أُمُورًا : ( أَحَدُهَا ) حُصُولُ الِاسْتِقَامَةِ وَالِاعْتِدَالِ ظَاهِرٌ كَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بَاطِنًا .
( ثَانِيهَا ) لِئَلَّا يَتَخَلَّلَهُمْ الشَّيْطَانُ فَيُفْسِدَ صَلَاتَهُمْ بِالْوَسْوَسَةِ كَمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ .
( ثَالِثُهَا ) مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْهَيْئَةِ .
( رَابِعُهَا ) أَنَّ فِي ذَلِكَ تَمَكُّنَهُمْ مِنْ صَلَاتِهِمْ مَعَ كَثْرَةِ جَمْعِهِمْ فَإِذَا تَرَاصُّوا وَسِعَ جَمِيعَهُمْ الْمَسْجِدُ وَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ ضَاقَ عَنْهُمْ .
( خَامِسُهَا ) أَنْ لَا يَشْغَلَ بَعْضُهُمَا بَعْضًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا يَشْغَلُهُ مِنْهُ إذَا كَانُوا مُخْتَلِفِينَ وَإِذَا اصْطَفُّوا غَابَتْ وُجُوهُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ وَكَثِيرٌ مِنْ حَرَكَاتِهِمْ وَإِنَّمَا يَلِي بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ظُهُورَهُمْ ( الرَّابِعَةُ ) وَجْهُ إيرَادِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ أَنَّ الصُّفُوفَ إنَّمَا تَحْصُلُ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَذَلِكَ بِالْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ
فَهِيَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْإِمَامَةِ وَأَيْضًا فَتَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ مِنْ وَظَائِفِ الْإِمَامَةِ .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إلَى نَاحِيَةٍ يَمْسَحُ صُدُورَنَا وَمَنَاكِبَنَا وَيَقُولُ لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصُّفُوفِ الْأُوَلِ } .
وَرُوِيَ عَنْ كُلٍّ مِنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ رِجَالًا يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ فَإِذَا أَخْبَرُوهُ بِتَسْوِيَتِهَا كَبَّرَ } وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَعَاهَدُ ذَلِكَ أَيْضًا وَيَقُولُ تَقَدَّمْ يَا فُلَانُ تَأَخَّرْ يَا فُلَانُ .
وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْإِمَامُ لِيُؤْتَمّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبَّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَأُرْكِعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبّنَا وَلَك الْحَمْدُ وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلَّوْا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ } زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَة { وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا } وَفِي رِوَايَة { لَا تُبَادِرُوا الْإِمَامَ وَفِيهَا وَإِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا آمِينَ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { فَلَا تَرْفَعُوا قَبْلَهُ }
الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ } .
فِيهِ فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ لِاخْتِلَافِ نِيَّتِهِمَا وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فِي الْأَفْعَالِ وَالنِّيَّاتِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ أَيْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَآخَرُونَ مَعْنَاهُ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ دُونَ النِّيَّاتِ فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا فَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرْضَ خَلْفَ النَّفْلِ وَعَكْسَهُ وَالظُّهْرَ خَلْفَ الْعَصْرِ وَعَكْسَهُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ حَيْثُ قَالَ { فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا } إلَى آخِرِهِ وَيَدُلُّ لِلشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلَّى بِقَوْمِهِ } وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَابِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ تَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ هُنَا .
( الثَّانِيَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمَأْمُومُ عَلَى الْإِمَامِ فِي الْمَوْقِفِ لِأَنَّهُ إذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَهُوَ حِينَئِذٍ غَيْرُ مُؤْتَمٍّ بِهِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْكُوفِيُّونَ وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَطَائِفَةٌ وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ الِائْتِمَامُ بِهِ فِي الْأَفْعَالِ لَا فِي الْمَوْقِفِ وَهُوَ تَقْيِيدٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَنْكَرُوا عَلَى الشَّافِعِيَّةِ تَقْيِيدَ الِائْتِمَامِ بِالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَقَيَّدُوهُ هُنَا ثُمَّ إنَّ إخْرَاجَ الشَّافِعِيَّةِ النِّيَّاتِ عَنْ ذَلِكَ سَاعَدَهُ كَوْنُهُ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ مَا أَمَرَ بِالِائْتِمَامِ بِهِ فِيهِ فَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ النِّيَّاتِ وَأَنَّ النِّيَّاتِ لَا يُمْكِنْ الْأَمْرُ بِالْمُتَابَعَةِ فِيهَا لِكَوْنِهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا وَأَمَّا إخْرَاجُ الْمَالِكِيَّةِ الْمَوْقِفَ عَنْ ذَلِكَ فَهُمْ مُطَالَبُونَ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ .
( الثَّالِثَةُ ) قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْإِمَامِ إذَا بَانَ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا أَوْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لِكَوْنِهِ حَضَرَ الْإِمَامَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَمْرٌ آخَرُ سِوَى ذَلِكَ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ مُمْكِنٌ مَعَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ وَبِهَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُنَا وَقَيَّدَ الرَّافِعِيُّ فِي الْمُحَرَّرِ النَّجَاسَةَ بِالْخَفِيَّةِ وَفِي النَّجَاسَةِ الظَّاهِرَةِ احْتِمَالٌ لِلْإِمَامِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّمَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ هُوَ بِحَدَثِ نَفْسِهِ فَإِنْ عَلِمَ فَفِيهِ قَوْلَانِ أَمَّا إذَا عَلِمَ الْمَأْمُومُ بِحَدَثِ الْإِمَامِ ثُمَّ نَسِيَهُ فَاقْتَدَى بِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِتَفْرِيطِهِ .
وَإِذَا صَحَّحْنَا الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ الْمُحْدِثِ حَصَلَ لِلْمَأْمُومِ الْجَمَاعَةُ عَلَى الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ ائْتَمَّ بِإِمَامٍ يَظُنُّهُ مُتَطَهِّرًا فَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ فِي الْبَاطِنِ مُحْدِثًا أَمَّا إذَا ظَهَرَ الْإِمَامُ كَافِرًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ خُنْثَى أَوْ مَجْنُونًا فَإِنَّهُ تَجِبُ الْإِعَادَةُ خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ فِي الْكَافِرِ وَصَحَّحَ الْبَغَوِيّ وَجَمَاعَةٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَسِيرَ الْكُفْرِ لَمْ تَجِبْ الْإِعَادَةُ وَهُوَ أَقْوَى دَلِيلًا كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ .
( الرَّابِعَةُ ) اسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ إذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا عَلَى إيجَابِ تَكْبِيرِ الْإِحْرَامِ فَبَوَّبَ عَلَيْهِ بَابَ إيجَابِ التَّكْبِيرِ وَافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ فَرَدَّ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ يَقُولُ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ يَجُوزُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ لَفْظٍ بَلْ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالتَّكْبِيرِ وَقَدْ يُقَالُ أَنَّ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ نَظَرٌ لِأَنَّ غَايَةَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ فِي التَّكْبِيرِ فَأَمَّا كَوْنُ التَّكْبِيرِ وَاجِبًا أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ { فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا } يَتَنَاوَلُ تَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالَاتِ أَيْضًا وَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ قَطْعًا .
وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ قَوْلُ الْمَأْمُومِ رَبّنَا لَك الْحَمْدُ عِنْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَهُمَا غَيْرُ وَاجِبَيْنِ ثُمَّ لَوْ كَانَتْ جَمِيعُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ وَاجِبَةً لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَنَّ التَّكْبِيرَ وَاجِبٌ لِضَعْفِ دَلَالَةِ الِاقْتِرَانِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ .
( الْخَامِسَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْمَأْمُومِ تَكُونُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ أَفْعَالِ الْإِمَامِ فَيُكَبِّرُ لِلْإِحْرَامِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ التَّكْبِيرِ وَيَرْكَعُ بَعْدَ شُرُوعِ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ وَقَبْلَ رَفْعِهِ مِنْهُ وَكَذَا سَائِرُ الْأَفْعَالِ وَبِهَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُنَا فَقَالُوا إنْ قَارَنَهُ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ أَوْ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَتَفُوتُ بِهِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ وَفِي الْمُقَارَنَةِ فِي السَّلَامِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يَكُونُ عَمَلُ الْمَأْمُومِ وَالْإِمَامِ مَعًا أَوْ بَعْدَهُ ؟ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ قَالَ مَالِكٌ وَيَفْعَلُ الْمَأْمُومُ مَعَ الْإِمَامِ إلَّا فِي الْإِحْرَامِ وَالْقِيَامِ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَالسَّلَامِ فَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا بَعْدُهُ وَرَوَى سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ إنْ أَحْرَمَ مَعَهُ أَجْزَأَهُ وَبَعْدَهُ أَصْوَبُ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَفِي الْمَجْمُوعَةِ عَنْ مَالِكٍ إنْ أَحْرَمَ مَعَهُ أَوْ سَلَّمَ يُعِيدُ الصَّلَاةَ قَالَهُ أَصْبَغُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَالْعَمَلُ بَعْدَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَحْسَنُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا } .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ يُكَبِّرُ فِي الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُكَبِّرُ الْمَأْمُومُ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ التَّكْبِيرِ وَتَوْجِيهُ قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ تَكْبِيرَهُ مَعَهُ أَنَّ الِائْتِمَامَ مَعْنَاهُ الِامْتِثَالُ لِفِعْلِ الْإِمَامِ فَهُوَ إذَا فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ فَسَوَاءٌ أَوْقَعَهُ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَقَدْ حَصَلَ مُمْتَثِلًا لِفِعْلِهِ انْتَهَى .
وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ مَتَى فَارَقَ الْإِمَامَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَفْعَالِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ انْتَهَى .
وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْ الْحَدِيثِ عَلَى تَأَخُّرِ أَفْعَالِ الْمَأْمُومِ عَنْ أَفْعَالِ الْإِمَامِ أَنَّهُ
رَتَّبَ فِعْلَهُ عَلَى فِعْلِ الْإِمَامِ بِالْفَاءِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّعْقِيبِ كَذَا ذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْفَاءَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلتَّعْقِيبِ هِيَ الْعَاطِفَةُ أَمَّا الْوَاقِعَةُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ فَإِنَّمَا هِيَ لِلرَّبْطِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى التَّعْقِيبِ عَلَى أَنَّ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى التَّعْقِيبِ مَذْهَبَيْنِ حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ الْأَنْدَلُسِيُّ فِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ وَلَعَلَّ أَصْلَهَا أَنَّ الشَّرْطَ مَعَ الْجَزَاءِ أَوْ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْقِيبَ إنْ قُلْنَا بِهِ فَلَيْسَ مِنْ الْفَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْجَزَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فَإِنْ قِيلَ قَدْ قُلْتُمْ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا } .
أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُؤَمِّنَ مَعَ الْإِمَامِ مُقَارِنًا لَهُ مَعَ كَوْنِهِ بِالْفَاءِ أَيْضًا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الَّذِي صَرَفَنَا عَنْ التَّعْقِيبِ هُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا قَالَ الْإِمَامُ { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } فَقُولُوا آمِينَ } فَعَقَّبَ قَوْلَ الْإِمَامِ { وَلَا الضَّالِّينَ } بِتَأْمِينِ الْمَأْمُومِ وَهُوَ مَحَلُّ تَأْمِينِ الْإِمَامِ وَصَرَفَنَا مِنْ الْقَوْلِ بِمِثْلِ هَذَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد { فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَلَا تُكَبِّرُوا حَتَّى يُكَبِّرَ } وَكَذَا قَالَ فِي الرُّكُوعِ { وَلَا تَرْكَعُوا حَتَّى يَرْكَعَ } وَقَالَ فِي السُّجُودِ { وَلَا تَسْجُدُوا حَتَّى يَسْجُدَ } وَفَائِدَةُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عِنْدَ أَبِي دَاوُد نَفْيُ احْتِمَالِ إرَادَةِ الْمُقَارَنَةِ انْتَهَى .
( السَّادِسَةُ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ الْجَهْرُ بِقَوْلِهِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لِأَنَّهُ رَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَ الْمَأْمُومِينَ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجْهَرُ بِهِ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ الْمَأْمُومُ وَبِهَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ ( السَّابِعَةُ ) وَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَأَنَّ الْمَأْمُومَ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَالْمَأْمُومُ يَقْتَصِرُ عَلَى قَوْلِهِ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُمَا صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَإِنَّهُمَا قَالَا فِي قَوْلِهِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا فِي نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا حَكَاهُ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ أَعْنِي جَمْعَ الْإِمَامِ بَيْنَهُمَا وَاقْتِصَارَ الْمَأْمُومِ عَلَى قَوْلِهِ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ جَمْعُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مَعًا فَقَوْلُهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ذِكْرُ الِانْتِقَالِ وَقَوْلُهُ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ ذِكْرُ الِاعْتِدَالِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } .
وَغَايَةُ مَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ السُّكُوتُ عَنْ قَوْلِ الْمَأْمُومِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَعَنْ قَوْلِ الْإِمَامِ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ فَيُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَأَمَّا جَمْعُ الْإِمَامِ بَيْنَهُمَا فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ } وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ } .
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ أُخَرُ وَفِي هَذِهِ كِفَايَةٌ وَقَدْ وَرَدَ فِي جَمْعِ الْمَأْمُومِ بَيْنَهُمَا أَحَادِيثُ فِي إسْنَادِهَا ضَعْفٌ فَنَذْكُرُهَا مَعَ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَالَ مَنْ وَرَاءَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ } قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْمَحْفُوظُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ { إذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَلْيَقُلْ مَنْ وَرَاءَهُ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ } وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْخِلَافِيَّاتِ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ { قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا بُرَيْدَةَ إذَا رَفَعَتْ رَأْسَك مِنْ الرُّكُوعِ فَقُلْ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ } وَهَذَا عَامٌ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ إمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَمَنْ دُونَهُ أَكْثَرُهُمْ ضَعْفًا وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ اخْتَلَفُوا فِي الْمَأْمُومِ إذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ كَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ وَأَبُو بُرْدَةَ
وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ عَطَاءٌ يَجْمَعُهُمَا مَعَ الْإِمَامِ أَحَبُّ إلَيَّ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إذَا قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَلْيَقُلْ مَنْ خَلْفَهُ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ هَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَقَالَ أَحْمَدُ إلَى هَذَا انْتَهَى أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِهِ أَقُولُ ( قُلْت ) لَمْ يَحْكِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ وَإِنَّمَا حَكَى عَنْهُمَا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَذْهَبِهِ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عَلِيٍّ { أَنَّهُ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ بِحَوْلِك وَقُوَّتِك أَقُومُ وَأَقْعُدُ } وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَهُوَ إمَامٌ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ اللَّهُ أَكْبَرُ يَرْفَعُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ وَيُتَابِعُهُ مَعًا وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَالَ مَنْ خَلْفَهُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ قَالَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ خَلْفَ الْإِمَامِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَقَالَ عَطَاءٌ يَجْمَعُهُمَا مَعَ الْإِمَامِ أَحَبُّ إلَيَّ وَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ الْقَاضِي مُجَلِّي أَنَّهُ قَالَ فِي الذَّخَائِرِ ادَّعَى ابْنُ الْمُنْذِرِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ فِي جَمْعِ الْمَأْمُومِ بَيْنَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَرَبَّنَا لَك الْحَمْدُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِهِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمْ قُلْت وَفِي هَذَا النَّقْلِ عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ نَظَرٌ فَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ فِي الْإِشْرَافِ حَكَى ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ
الشَّافِعِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَعْنَى حَدِيثِ الْبَابِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فِي انْتِقَالِهِ فَقُولُوا رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ فِي اعْتِدَالِكُمْ بَلْ نَزِيدُ عَلَى هَذَا وَنَقُولُ إنَّ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنْ قَوْلِهِ إنَّمَا الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَالْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ فَكُلُّ مُصَلٍّ كَذَلِكَ وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَعَزَاهُ لِطَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَمِمَّنْ قَالَ يَجْمَعُ الْمُنْفَرِدُ بَيْنَهُمَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِنَّ مَا يَقُولَانِ ذَلِكَ فِي الْمَأْمُومِ وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُنْفَرِدُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَصَحِّ وَإِنْ كَانَ يُرْوَى الِاكْتِفَاءُ بِالتَّسْمِيعِ وَيُرْوَى بِالتَّحْمِيدِ انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَمْعِ الْمُنْفَرِدِ بَيْنَهُمَا .
( الثَّامِنَةُ ) فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ بِغَيْرِ وَاوٍ وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ وَلَك الْحَمْدُ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ كَأَنَّ إثْبَاتَ الْوَاوِ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ التَّقْدِيرُ رَبَّنَا اسْتَجِبْ أَوْ مَا قَارَبَ ذَلِكَ وَلَك الْحَمْدُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ وَمَعْنَى الْخَبَرِ وَإِذَا قِيلَ بِإِسْقَاطِ الْوَاوِ دَلَّ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ انْتَهَى وَإِسْقَاطُ الْوَاوِ قَدْ حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ قُدَامَةَ وَقَالَ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ هُنَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ وَعَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْأَفْضَلَ إثْبَاتُهَا وَرَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ أَنَّ الْأَفْضَلَ إسْقَاطُهَا وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يُثْبِتُ الْوَاوَ فِي رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ وَقَالَ رَوَى الْأَزْهَرِيُّ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحَادِيثَ أَحَدُهَا عَنْ أَنَسٍ وَالثَّانِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالثَّالِثُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي حَدِيثَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَقَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الطَّوِيلِ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ بِالْوَاوِ وَنَقَلَ فِيهِ ابْنُ قُدَامَةَ خِلَافًا عَنْ أَحْمَدَ وَقَالَ النَّوَوِيُّ كِلَاهُمَا جَاءَتْ بِهِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ وَإِنَّ الْأَمْرَيْنِ جَائِزَانِ وَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ .