كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ
الْعِرَاقِيُّ
وَعَنْهَا قَالَتْ { أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ ، فَقَالَ اقْرَأْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ ، فَقُلْت مَا أَنَا بِقَارِئٍ ، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْت مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ حَتَّى بَلَغَ مَا لَمْ يَعْلَمْ قَالَ فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ، فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ يَا خَدِيجَةُ مَالِي فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ ، قَالَ وَقَدْ خَشِيتُ عَلَيَّ ، فَقَالَتْ كَلًّا أَبْشِرْ فَوَاَللَّهِ لَا يُخْزِيك اللَّهُ أَبَدًا ، إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَصِيٍّ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ ؛ فَكَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ الْإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ أَيْ ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيك ، فَقَالَ وَرَقَةُ : ابْنَ أَخِي مَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى ، فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُك قَوْمُك ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا } وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ { حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ جَاوَرْت بِحِرَاءَ شَهْرًا فَلَمَّا قَضَيْت جِوَارِي نَزَلْت } ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، وَلِابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلًا { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْلُو فِي حِرَاءَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا } .
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ وَعَنْهَا قَالَتْ { أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَأْتِي حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فِيهِ ، فَقَالَ اقْرَأْ ، فَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْت مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك الَّذِي خَلَقَ حَتَّى بَلَغَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ، قَالَ فَرَجَعَ بِهَا تَرْتَجِفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ، فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَقَالَ يَا خَدِيجَةُ مَالِي ، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ قَالَ وَقَدْ خَشِيتُ عَلَيَّ ، فَقَالَتْ لَهُ كَلًّا أَبْشِرْ فَوَاَللَّهِ لَا يُخْزِيك اللَّهُ أَبَدًا إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ؛ وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَصِيٍّ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ فَكَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ الْإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ أَيْ ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيك ، فَقَالَ وَرَقَةُ : ابْنَ أَخِي مَا تَرَى ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى ، فَقَالَ وَرَقَةُ هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا أَكُونُ حَيًّا
حِينَ يُخْرِجُك قَوْمُك ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ فَقَالَ وَرَقَةُ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْت بِهِ إلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَمِنْ طَرِيقِ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ .
( الثَّانِيَةُ ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمْ تُدْرِكْ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَتَكُونُ سَمِعَتْهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ وَمُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ إلَّا مَا انْفَرَدَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ ( قُلْت ) إنَّمَا أَرْسَلَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا صَدْرَ الْحَدِيثِ ثُمَّ صَرَّحَتْ بِرِوَايَةِ بَاقِيهِ وَهُوَ أَكْثَرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهَا ، { فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت مَا أَنَا بِقَارِئٍ } ( فَإِنْ قُلْت ) قَدْ عَادَتْ إلَى الْإِرْسَالِ مِنْ قَوْلِهَا فَرَجَعَ بِهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ ؟ ( قُلْت ) بَلْ هِيَ مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى الرَّفْعِ فَإِنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ قَالَ { فَرَجَعَ بِهَا } ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ قَالَ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى عَائِشَةَ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَأَنَّثَهُ وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَى بِهِ بِلَفْظِ الْغَائِبِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ قَالَ زَيْدٌ إنَّهُ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى { إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك } وَالْوَحْيُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكِتَابِ وَالْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْإِلْهَامِ وَالْكَلَامِ الْخَفِيِّ وَكُلِّ مَا أَلْقَيْته إلَى غَيْرِك ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ أَصْلُهُ الْإِعْلَامُ فِي خَفَاءٍ وَسُرْعَةٍ ثُمَّ هُوَ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى ضُرُوبٍ فَمِنْهُ سَمَاعُ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ ، وَوَحْيُ رِسَالَةٍ بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ ، وَوَحْيٌ يُلْقَى بِالْقَلْبِ ، وَالْوَحْيُ إلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ كَالْوَحْيِ إلَى النَّحْلِ ، وَبِمَعْنَى الْإِشَارَةِ { فَأَوْحَى إلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } وَقِيلَ فِي هَذَا إنَّهُ كَتَبَ وَبِمَعْنَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ { وَإِذْ أَوْحَيْت إلَى الْحَوَارِيِّينَ } قِيلَ أَمَرْتهمْ وَقِيلَ أَلْهَمْتهمْ انْتَهَى .
وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهُ مَرَاتِبَ عَدِيدَةً جَمَعَهَا السُّهَيْلِيُّ فِي ( الرَّوْضِ الْأُنُفِ ) سَبْعَةً : ( أَحَدُهَا ) الرُّؤْيَا كَمَا ذَكَرْته .
( الثَّانِي ) أَنْ يَنْفُثَ فِي رَوْعِهِ الْكَلَامَ نَفْثًا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ رَوْحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ } .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا } هُوَ أَنْ يَنْفُثَ فِي رُوعِهِ بِالْوَحْيِ .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيْهِ وَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ لِمُتَجَمَّعِ قَلْبِهِ عِنْدَ تِلْكَ الصَّلْصَلَةِ فَيَكُونُ أَوْعَى لِمَا يَسْمَعُ .
( الرَّابِعُ ) أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الْمَلَكُ رَجُلًا فَقَدْ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ .
( الْخَامِسُ ) أَنْ يَتَرَاءَى لَهُ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِيهَا لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ .
( السَّادِسُ ) أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ إمَّا فِي الْيَقِظَةِ كَمَا فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَإِمَّا فِي النَّوْمِ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ { أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ، فَقَالَ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى } الْحَدِيثَ .
( السَّابِعُ ) نُزُولُ إسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَلِمَاتٍ مِنْ الْوَحْيِ قَبْلَ جِبْرِيلَ فَقَدْ ثَبَتَ بِالطُّرُقِ الصِّحَاحِ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُكِّلَ بِهِ إسْرَافِيلُ فَكَانَ يَتَرَاءَى لَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَيَأْتِيهِ بِالْكَلِمَةِ مِنْ الْوَحْيِ وَالشَّيْءِ ثُمَّ وُكِّلَ بِهِ جِبْرِيلُ فَجَاءَهُ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ } قَالَ السُّهَيْلِيُّ فَهَذِهِ سَبْعُ صُوَرٍ فِي كَيْفِيَّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ أَرَ أَحَدًا جَمَعَهَا كَهَذَا الْجَمْعِ انْتَهَى .
وَقَدْ جَمَعَهَا الْإِمَامُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ السُّهَيْلِيِّ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا السَّابِعَ وَغَايَرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ مِمَّا تَقَدَّمَ هُمَا وَاحِدٌ فَجَاءَتْ سَبْعَةٌ مَعَ إسْقَاطِهِ ، فَقَالَ السَّادِسَةُ مَا أَوْحَاهُ إلَيْهِ وَهُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا ، السَّابِعَةُ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَهُ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةِ مَلَكٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ ثَابِتَةٌ لِمُوسَى قَطْعًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَثُبُوتُهَا لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ
فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ انْتَهَى .
فَإِنْ أَرَادَ مَا أَوْحَاهُ إلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِيمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَلَى صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ عَلَى صُورَةِ الْآدَمِيِّ وَكِلَاهُمَا قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَإِنْ أَرَادَ وَحْيَ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَهِيَ الصُّورَةُ الَّتِي بَعْدَهَا كَمَا قَدَّمْته ثُمَّ قَالَ وَزَادَ بَعْضُهُمْ مَرْتَبَةً .
( ثَامِنَةً ) وَهِيَ تَكْلِيمُ اللَّهِ لَهُ كِفَاحًا بِغَيْرِ حِجَابٍ وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافِ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ بَلْ كُلُّهُمْ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَمَا حَكَاهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ إجْمَاعًا لِلصَّحَابَةِ انْتَهَى .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ أَرَادَ بِالْمَرْتَبَةِ السَّادِسَةِ وَحْيَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَايَرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّ الْإِيحَاءِ أَيْ كَوْنِهِ كَانَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْأَرْضِ ، وَلَا يُقَالُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ تَتَعَدَّدَ أَقْسَامُ الْوَحْيِ بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ غَايَرَ الْوَحْيُ الْحَاصِلُ فِي السَّمَاءِ غَيْرَهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي رُؤْيَةِ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ مِنْ الْغَيْبِ فَهُوَ نَوْعٌ غَيْرُ الْأَرْضِ عَلَى اخْتِلَافِ بِقَاعِهَا ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّؤْيَا إنْ كَانَتْ لِنَبِيٍّ فَهِيَ وَحْيٌ وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَلَيْسَتْ وَحَيًّا وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ } فَإِنَّهُ سَمَّى مَا يَقَعُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الرُّؤْيَا مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ النُّبُوَّةِ لَكِنَّهَا تُشْبِهُهَا فِي صُورَتِهَا وَصِحَّتِهَا ( فَإِنْ قُلْت ) قَدْ بَقِيَ مَا يُشْبِهُ وَحْيَ النُّبُوَّةِ وَلَيْسَ مِنْهَا الْإِلْقَاءُ فِي الرَّوْعِ ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { كَانَ فِيمَا مَضَى مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ فَإِنْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ فَعُمَرُ } فَكَيْفَ حَصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي الرُّؤْيَا ( قُلْت ) الرُّؤْيَا
عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْوِلَايَةِ ثُمَّ إنَّ لَهَا تَأْوِيلَيْنِ وَحُكْمًا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ وَيُوقَفُ عِنْدَمَا يَقُولُونَ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْإِلْقَاءِ فِي الرَّوْعِ فَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِخَوَاصِّ أَهْلِ الْوِلَايَةِ ثُمَّ إنَّهُ لَيْسَ عَلَى صِحَّتِهِ دَلِيلٌ وَلَا يَرْجِعُ إلَى قَاعِدَةٍ وَلَيْسَ لَهُ أَهْلُ عِلْمٍ يُرْجَعُ فِي تَفْسِيرِهِ إلَيْهِمْ فَاسْتِفَادَةُ الْمُغَيَّبَاتِ عَزِيزَةٌ بِخِلَافِ الرُّؤْيَا كَمَا قَدَّمْته وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهَا { مِنْ الْوَحْيِ } ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقَزَّازُ أَنَّ مِنْ هُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ كَأَنَّهُ قَالَ مِنْ جِنْسِ الْوَحْيِ وَلَيْسَتْ مِنْ الْوَحْيِ فَتَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ { فِي النَّوْمِ } وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ فِي الصِّحَّةِ كَالْوَحْيِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ ( قُلْت ) وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ الرُّؤْيَا وَحْيٌ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهُ { الصَّادِقَةُ } كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ هُنَا وَالْبُخَارِيِّ فِي التَّفْسِيرِ وَالتَّعْبِيرِ ، وَفِي رِوَايَتِهِ هُنَا الصَّالِحَةُ وَهُمَا بِمَعْنًى قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ رَأَى فِي مَنَامِهِ رُؤْيَا بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى وَزْنِ فُعْلَى كَحُبْلَى وَجَمْعُهَا رُؤًى بِالتَّنْوِينِ عَلَى وَزْنِ رُغًى .
( السَّادِسَةُ ) الْمَشْهُورُ اسْتِعْمَالُ الرُّؤْيَا فِي الْحُلْمِيَّةِ خَاصَّةً فَقَوْلُهُ فِي النَّوْمِ تَأْكِيدٌ لَكِنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ مَصْدَرًا لِرَأَى مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَتْ فِي الْيَقِظَةِ فَالتَّقْيِيدُ حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِ فِي النَّوْمِ لَا بُدَّ مِنْهُ .
( السَّابِعَةُ ) { فَلَقُ الصُّبْحِ } بِفَتْحِ الْفَاءِ وَاللَّامِ وَآخِرُهُ قَافٌ ضِيَاؤُهُ وَيُقَالُ فَرَقُ الصُّبْحِ أَيْضًا وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا فِي الشَّيْءِ الْوَاضِحِ الْبَيِّنِ .
( الثَّامِنَةُ ) ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُدَّةَ الْوَحْيِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَا قَبْلَ الْوَحْيِ إلَيْهِ لِمَجِيءِ الْمَلَكِ إلَيْهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَجَعَلَ هَذَا تَوْجِيهًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ } لِأَنَّ مُدَّةَ حَيَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً فَنِصْفُ سَنَةٍ هِيَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا وَهَذَا مُحْتَمَلٌ .
( التَّاسِعَةُ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ إنَّمَا اُبْتُدِئَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالرُّؤْيَا لِئَلَّا يَفْجَأَهُ الْمَلَكُ وَيَأْتِيَهُ صَرِيحُ النُّبُوَّةِ بَغْتَةً فَلَا تَحْتَمِلُهَا قُوَى الْبَشَرِيَّةِ فَبُدِئَ بِأَوَائِلِ خِصَالِ النُّبُوَّةِ وَتَبَاشِيرِ الْكَرَامَةِ مِنْ صِدْقِ الرُّؤْيَا وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ رُؤْيَةِ الضَّوْءِ وَسَمَاعِ الصَّوْتِ وَسَلَامِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ .
( الْعَاشِرَةُ ) جَاءَ فِي حَدِيثٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ صَدْرُ سُورَةِ اقْرَأْ فِي النَّوْمِ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيِّ وَكَانَ وَاعِيَهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إلَى حِرَاءَ فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا يَنْسُكُ فِيهِ } الْحَدِيثُ ، وَفِيهِ حَتَّى { إذَا كَانَ الشَّهْرُ الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ مِنْ السَّنَةِ الَّتِي بُعِثَ فِيهَا وَذَلِكَ الشَّهْرُ رَمَضَانُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ يَخْرُجُ لِجِوَارِهِ وَخَرَجَ مَعَهُ بِأَهْلِهِ حَتَّى إذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا بِرِسَالَتِهِ وَرَحِمَ الْعِبَادَ بِهِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَمْرِ اللَّهِ ، قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَنِي وَأَنَا نَائِمٌ ، فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْت وَمَا أَقْرَأُ فَغَتَّنِي حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ الْمَوْتُ ثُمَّ كَشَفَهُ عَنِّي ، فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْت وَمَا أَقْرَأُ فَعَادَ لِي بِمِثْلِ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ اقْرَأْ فَقُلْت وَمَا أَقْرَأُ ؟ وَمَا أَقُولُهَا إلَّا تَنَحِّيًا أَنْ يَعُودَ لِي بِمِثْلِ الَّذِي صَنَعَ ، فَقَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ثُمَّ انْتَهَى فَانْصَرَفَ عَنِّي وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي كَأَنَّمَا صُوِّرَ فِي قَلْبِي كِتَابًا } الْحَدِيثَ .
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْإِنْزَالُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَتَكُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةُ شَاذَّةً لِمُخَالَفَتِهَا لِلرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي فِيهَا أَنَّ إنْزَالَ ذَلِكَ فِي الْيَقِظَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا إنْزَالٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى نُزُولِهَا عَلَيْهِ فِي الْيَقِظَةِ فَتَكُونُ نَزَلَتْ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ الْوَاحِدَةُ فِي النَّوْمِ ثُمَّ الْأُخْرَى فِي الْيَقِظَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) ( الْخَلَاءُ ) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْمَدِّ الْخَلْوَةُ قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَكَانُ الْخَالِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ لَكِنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ حُبِّبَتْ الْعُزْلَةُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ وَهِيَ مُعِينَةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ ، وَيَتَخَشَّعُ قَلْبُهُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمَوَاهِبُ الرَّبَّانِيَّةُ تَكُونُ مَعَ الْعُزْلَةِ ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } الْآيَةَ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ هُوَ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادُ اللَّهِ الْعَارِفِينَ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) حِرَاءُ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ وَهُوَ مَصْرُوفٌ مُذَكَّرٌ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ قَالَ الْقَاضِي
عِيَاضٌ فِيهِ لُغَتَانِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالتَّذْكِيرُ أَكْثَرُ فَمَنْ ذَكَّرَهُ صَرَفَهُ وَمَنْ أَنَّثَهُ لَمْ يَصْرِفْهُ ، أَرَادَ الْبُقْعَةَ أَوْ الْجِهَةَ الَّتِي فِيهَا الْجَبَلُ .
قَالَ الْقَاضِي ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيهِ حَرًى بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْقَصْرِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، قَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ وَالْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْعَوَامِّ يُخْطِئُونَ فِي حِرَاءَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ يَفْتَحُونَ الْحَاءَ وَهِيَ مَكْسُورَةٌ وَيَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ وَيَقْصُرُونَ الْأَلِفَ وَهِيَ مَمْدُودَةٌ ، وَحِرَاءُ جَبَلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ عَنْ يَسَارِ الذَّاهِبِ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) التَّحَنُّثُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ التَّعَبُّدُ وَهُوَ كَذَلِكَ وَأَصْلُ الْحِنْثِ الْإِثْمُ فَمَعْنَى يَتَحَنَّثُ يَتَجَنَّبُ الْحِنْثَ فَكَأَنَّهُ بِعِبَادَتِهِ يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنْ الْإِثْمِ وَمِثْلُهُ يَتَحَرَّجُ يَتَجَنَّبُ الْحَرَجَ وَيَتَأَثَّمُ يَتَجَنَّبُ الْإِثْمَ ، وَقَوْلُهُ { اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ } يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ يَتَحَنَّثُ ظَرْفٌ لَهُ أَيْ يَتَحَنَّثُ اللَّيَالِيَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالتَّعَبُّدِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَقْيِيدُ التَّحَنُّثِ بِكَوْنِهِ تَعَبُّدًا لَيَالِيَ ذَوَاتِ عَدَدٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ التَّعَبُّدُ وَإِنْ قَلَّ ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ اعْتَرَضَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ عَائِشَةَ وَأَصْلُهُ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ وَتَقَدَّمَ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إلَى حِرَاءَ فِي كُلِّ عَامٍ شَهْرًا مِنْ السَّنَةِ يَنْسُكُ فِيهِ } .
وَكَذَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلًا { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ فِي حِرَاءَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا } ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ
حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { جَاوَرْت بِحِرَاءَ شَهْرًا فَلَمَّا قَضَيْت جِوَارِي نَزَلْت } ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ تِلْكَ اللَّيَالِيَ كَانَتْ شَهْرًا .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتَعَبَّدُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَلَّيْت شِعْرِي كَيْفَ تِلْكَ الْعِبَادَةُ وَأَيُّ أَنْوَاعِهَا هِيَ ؟ وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ فَعَلَهَا ؟ يَحْتَاجُ ذَلِكَ لِنَقْلٍ وَلَا أَسْتَحْضِرُهُ الْآنَ ، وَهَلْ كَانَ مُكَلَّفًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِشَرِيعَةِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَمْ لَا وَإِنَّمَا كَانَ يَتَعَبَّدُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ ؟ هَذِهِ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ فِي الْأُصُولِ ، رَجَّحَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ وَعَزَاهُ لِجُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَرَجَّحَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ تَكْلِيفَهُ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَحَيْثُ قُلْنَا بِتَكْلِيفِهِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ فَقِيلَ هُوَ آدَم وَقِيلَ نُوحٌ وَقِيلَ إبْرَاهِيمُ وَقِيلَ مُوسَى وَقِيلَ عِيسَى وَقِيلَ جَمِيعُ الشَّرَائِعِ شَرْعٌ لَهُ وَغَلِطَ هَذَا الْقَوْلُ فَإِنَّ شَرَائِعَهُمْ تَخْتَلِفُ فِي الْفُرُوعِ فَلَوْ كُلِّفَ بِجَمِيعِهَا لَزِمَ أَنْ يُخَاطَبَ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِأَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ ، فَلَعَلَّ مُرَادَ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ فَيَعْمَلُ بِأَيِّهَا شَاءَ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّهُ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ لَا يَلِيقُ بِهِ الْكُفْرُ وَلَا الشَّكُّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا الْجَهْلُ بِهِ وَلَا خِلَافَ فِي عِصْمَتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ خِلَافًا لِمَنْ جَوَّزَهُ انْتَهَى .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ بَعْضُهُمْ تَزَوُّدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تَحَنُّثِهِ يَرُدُّ قَوْلَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ طَعَامًا وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ أَوْلَى بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْبَشَرِ وَكَانَ يَتَزَوَّدُ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهَا ( ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ ) هِيَ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَهِيَ أُمُّ أَوْلَادِهِ كُلِّهِمْ إلَّا إبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُ مِنْ مَارِيَةَ وَهِيَ أَوَّلُ أَزْوَاجِهِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ غَيْرَهَا فِي حَيَاتِهَا وَأَقَامَتْ مَعَهُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا ثُمَّ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَهِيَ أَفْضَلُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ ، وَقِيلَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَجْمَعِينَ ، وَالْمُرَادُ بِرُجُوعِهِ إلَى خَدِيجَةَ الرُّجُوعُ إلَى مَنْزِلِهِ .
( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهَا { فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا } يَعُودُ إلَى اللَّيَالِيِ وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ يَقْتَصِرُ فِي الْمُجَاوَرَةِ عَلَى شَهْرٍ فِي السَّنَةِ بَلْ كَانَ يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ ، وَالزَّادُ كَمَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الطَّعَامُ الَّذِي يَسْتَصْحِبُهُ الْمُسَافِرُ .
( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهَا { حَتَّى فَجِئَهُ } بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَفْتُوحَةٌ ، وَفِيهِ لُغَةٌ ثَانِيَةٌ فَجَأَهُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْهَمْزَةِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ حَكَاهُمَا الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ وَمَعْنَاهُ جَاءَهُ بَغْتَةً وَهُوَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِلْوَحْيِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ { حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ } وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ الْحَقُّ وَهُوَ الْوَحْيُ الْكَرِيمُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ وَكَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقِيلَ فِيهِ
وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ } .
( التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ ) الْغَارُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمَغَارُ بِزِيَادَةِ مِيمٍ أَوَّلَهُ وَالْمَغَارَةُ بِزِيَادَةِ مِيمٍ أَوَّلَهُ وَهَاءٍ آخِرَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ هُوَ كَالْكَهْفِ فِي الْجَبَلِ قَالَ وَالْكَهْفُ كَالْبَيْتِ الْمَنْقُورِ فِي الْجَبَلِ ، وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ الْغَارُ كَالْكَهْفِ فِي الْجَبَلِ .
وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ هُوَ شِبْهُ الْبَيْتِ فِيهِ ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ هُوَ الْمُنْخَفَضُ فِي الْجَبَلِ وَكُلُّ مُطْمَئِنٍّ مِنْ الْأَرْضِ غَارٌ انْتَهَى .
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ هُوَ الْكَهْفُ زَادَ النَّوَوِيُّ وَالنَّقْبُ فِي الْجَبَلِ ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ، وَقَالَ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ هُوَ النَّقْبُ فِي الْجَبَلِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْكَهْفِ .
( الْعِشْرُونَ ) { فَجَاءَهُ الْمَلَكُ } هُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَهُوَ جِبْرِيلُ هُنَا بِلَا خِلَافٍ .
( الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) قَوْلُهُ { فَقُلْت مَا أَنَا بِقَارِئٍ } قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ لَا أُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ فَمَا نَافِيَةٌ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهَا خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا نَافِيَةً وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا اسْتِفْهَامِيَّةً وَضَعَّفُوهُ بِإِدْخَالِ الْبَاءِ فِي الْخَبَرِ قَالَ الْقَاضِي وَيُصَحِّحُ قَوْلَ مَنْ قَالَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى مَا أَقْرَأُ ، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ " مَا " فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا نَافِيَةً انْتَهَى وَكَذَا فَسَّرَ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ قَوْلَهُ { مَا أَنَا بِقَارِئٍ } ، بِأَنَّ مَعْنَاهُ مَا أُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عِنْدِي مَعَ النَّفْيِ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَاهُ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُ بِقِرَاءَةِ مَا يُلْقِيهِ إلَيْهِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ أَيْ لَا أُطِيعُك فِي قِرَاءَةِ مَا تُلْقِيهِ إلَيَّ وَتُقْرِئُنِي إيَّاهُ ، وَلِهَذَا رَتَّبَ عَلَيْهِ الْغَطَّ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَحِينَئِذٍ وَافَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُتَابَعَتِهِ فِي الْقِرَاءَةِ
فَقَرَأَ جِبْرِيلُ وَتَبِعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْمَقْرُوءِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا يَسْتَمِرُّ عَلَى أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْمُرُهُ بِقِرَاءَةِ شَيْءٍ مِنْ عِنْدِهِ غَيْرَ الَّذِي يُلْقِيهِ إلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ جَوَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِأَنِّي لَا أُحْسِنُ الْقِرَاءَةَ وَهُوَ بَعِيدٌ فَكَيْفَ يُكَلِّفُهُ قِرَاءَةً وَلَا قُرْآنَ عِنْدَهُ إنَّمَا يُكَلِّفُهُ قِرَاءَةَ مَا يُلْقِيهِ إلَيْهِ فَامْتَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ أَجَابَ إلَيْهِ ( فَإِنْ قُلْتَ ) يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ مَحْذُورٌ وَهُوَ مُخَالَفَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمَلَكِ فِيمَا يَأْتِيهِ بِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ( قُلْت ) لَمْ يَتَحَقَّقْ أَوَّلًا أَنَّهُ مَلَكٌ وَلَا أَنَّهُ الْمَأْمُورُ بِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَتَمَامُ الْقِصَّةِ مَعَ خَدِيجَةَ وَوَرَقَةَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
( الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) قَوْلُهُ { فَغَطَّنِي } بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ مَعْنَاهُ ضَمَّنِي وَعَصَرَنِي يُقَالُ غَطَّهُ وَغَتَّهُ وَضَغَطَهُ وَعَصَرَهُ وَخَنَقَهُ وَغَمَزَهُ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَقَوْلُهُ { حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ } يَجُوزُ فِي الْجِيمِ الْفَتْحُ وَالضَّمُّ لُغَتَانِ وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَشَقَّةُ وَيَجُوزُ فِي الدَّالِ النَّصْبُ وَالرَّفْعُ ( فَالْأَوَّلُ ) عَلَى أَنَّ فَاعِلَ بَلَغَ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى جِبْرِيلَ أَيْ بَلَغَ جِبْرِيلُ مِنِّي الْجَهْدَ .
( وَالثَّانِي ) عَلَى أَنَّ الْجَهْدَ فَاعِلٌ أَيْ بَلَغَ الْجَهْدُ مِنِّي مَبْلَغَهُ وَغَايَتَهُ .
قَالَ النَّوَوِيُّ وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ فِي نَصْبِ الدَّالِ وَرَفْعِهَا صَاحِبُ التَّحْرِيرِ وَغَيْرُهُ ، وَقَوْلُهُ { ثُمَّ أَرْسَلَنِي } أَيْ أَطْلَقَنِي قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ وَالْحِكْمَةُ فِي الْغَطِّ شَغْلُهُ عَنْ الِالْتِفَاتِ ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ لِمَا يَقُولُهُ لَهُ وَكَرَّرَهُ ثَلَاثًا مُبَالَغَةً فِي التَّنْبِيهِ فَفِيهِ
أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي تَنْبِيه الْمُتَعَلِّمِ وَأَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ كَأَنَّ فِي ذَلِكَ إظْهَارًا لِلشِّدَّةِ وَالْجَدِّ فِي الْأَمْرِ وَأَنْ يَأْخُذَ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَيَتْرُكَ الْأَنَاةَ فَإِنَّهُ أَمْرٌ لَيْسَ بِالْهُوَيْنَى .
قَالَ وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي نَوْمِهِ يَكُونُ فِي تِلْكَ الْغَطَّاتِ الثَّلَاثِ مِنْ التَّأْوِيلِ ثَلَاثُ شَدَائِدَ يُبْتَلَى بِهَا أَوَّلًا ثُمَّ يَأْتِي الْفَرْجُ وَالرَّوَحُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ لَقِيَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ شِدَّةً مِنْ الْجُوعِ فِي شِعْبِ الْخَيْفِ حِينَ تَعَاقَدَتْ قُرَيْشٌ أَنْ لَا يَبِيعُوا مِنْهُمْ وَلَا يَتْرُكُوا مِيرَةً تَصِلُ إلَيْهِمْ وَشِدَّةً أُخْرَى مِنْ الْخَوْفِ وَالْإِيعَادِ بِالْقَتْلِ ، وَشِدَّةً أُخْرَى مِنْ الْإِجْلَاءِ عَنْ أَحَبِّ الْأَوْطَانِ إلَيْهِ ثُمَّ كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ انْتَهَى .
وَعَلَى مَا قَدَّمْته فِي الْفَائِدَةِ قَبْلَهَا مِنْ الِاحْتِمَالِ تَكُونُ حِكْمَةُ الْغَطِّ إلْزَامُهُ بِالتَّلَقِّي عَنْهُ وَالْمُتَابَعَةِ لَهُ فِي الْقِرَاءَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ ) قَالَ السُّهَيْلِيُّ : انْتَزَعَ بَعْضُ التَّابِعِينَ وَهُوَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي مِنْ هَذَا أَنْ لَا يُضْرَبَ الصَّبِيُّ عَلَى الْقُرْآنِ إلَّا ثَلَاثًا كَمَا غَطَّ جِبْرِيلُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ثَلَاثًا .
( الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) قَالَ الْمُهَلَّبُ فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُذَكَّرُ وَيُنَبَّهُ إلَى فِعْلِ الْخَيْرِ بِمَا عَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةٌ .
( الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ ) فِيهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى .
أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ اقْرَأْ ، وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَفِيهِ قَوْلَانِ آخَرَانِ .
( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ بَلْ بَاطِلٌ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ .
( ثَانِيهِمَا ) أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ، وَقَالَ هَذَا مُنْقَطِعٌ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ نُزُولِهَا بَعْدَ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك } وَ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } وَقَالَ النَّوَوِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ هَذَا الْقَوْلَ : بُطْلَانُهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ .
( السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ ) وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ : فِيهِ رَدٌّ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ إنَّ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ وَهَذِهِ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : وَجَوَابُ الْمُثْبِتِينَ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ أَوَّلًا بَلْ نَزَلَتْ الْبَسْمَلَةُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَمَا نَزَلَ بَاقِي السُّورَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي قَوْلِهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } وُجُوبُ اسْتِفْتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِبَسْمِ اللَّهِ غَيْرَ أَنَّهُ أَمْرٌ مُبْهَمٌ لَمْ يُبَيَّنْ لَهُ بِأَيِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ رَبِّهِ يُفْتَتَحُ ؟ حَتَّى جَاءَ الْبَيَانُ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ { بِاسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } ثُمَّ قَوْلُهُ { وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَعَ كُلِّ سُورَةٍ ، وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ فَهِيَ مِنْ الْقُرْآنِ ، قَالَ وَلَا نَلْتَزِمُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ وَلَا مِنْ الْفَاتِحَةِ بَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مُقْتَرِنَةٌ مَعَ السُّورَةِ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلٌ بَيِّنُ الْقُوَّةِ لِمَنْ أَنْصَفَ ، ( قُلْت ) إذَا كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ بِهَا مَعَ كُلِّ سُورَةٍ فَهِيَ مِنْ السُّورَةِ إذْ لَيْسَتْ سُورَةً مُنْفَرِدَةً بِالْإِجْمَاعِ وَإِلَّا يَزِيدُ عَدَدُ السُّوَرِ عَمَّا ذَكَرُوهُ زِيَادَةً كَثِيرَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) قَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي قَوْلِهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك } أَيْ إنَّك لَا تَقْرَأْهُ بِحَوْلِك وَلَا بِصِفَةِ نَفْسِك وَلَا بِمَعْرِفَتِك وَلَكِنْ اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّك مُسْتَعِينًا بِهِ فَهُوَ يُعَلِّمُك كَمَا خَلَقَك وَكَمَا نَزَعَ عَنْك عَلَقَ الدَّمِ وَمَغْمَزَ الشَّيْطَانِ بَعْدَ مَا خَلَقَهُ فِيك كَمَا خَلَقَهُ فِي كُلِّ إنْسَانٍ
فَالْآيَتَانِ الْمُتَقَدِّمَتَانِ لِمُحَمَّدٍ وَالْآخِرَتَانِ لِأُمَّتِهِ وَهُمَا قَوْلُهُ { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أُمَّةً أُمِّيَّةً لَا تَكْتُبُ فَصَارُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَأَصْحَابَ قَلَمٍ ، فَتَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ بِالْقَلَمِ وَتَعَلَّمَهُ نَبِيُّهُمْ تَلَقِّيًا مِنْ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى قَلْبِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ لِيَكُونَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ انْتَهَى .
( الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ ) قَوْلُهُ { فَرَجَعَ بِهَا } أَيْ بِالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَوْلِهِ اقْرَأْ إلَى قَوْلِهِ يَعْلَمْ ، وَالرَّجَفَانُ الِاضْطِرَابُ وَشِدَّةُ الْحَرَكَةِ .
( التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) قَوْلُهُ { بَوَادِرُهُ } كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ وَمُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ بَعْدَهَا رَاءٌ مُهْمَلَةٌ جَمْعُ بَادِرَةٍ وَهِيَ اللَّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْعُنُقِ تَضْطَرِبُ عِنْدَ فَزَعِ الْإِنْسَانِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَسَائِرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ ، ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ أَيْضًا يَرْجُفُ فُؤَادُهُ وَهُوَ الْقَلْبُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ بَاطِنُهُ وَقِيلَ غِشَاؤُهُ وَقِيلَ عَيْنُهُ وَقِيلَ الْقَلْبُ مُضْغَةٌ مِنْ الْفُؤَادِ مُعَلَّقَةٌ بِالنِّيَاطِ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَكَأَنَّ الرَّجَفَانَ فِي الْبَوَادِرِ وَالْفُؤَادِ وَلَعَلَّ رَجَفَانَ الْفُؤَادِ مُلَازِمٌ لِرَجَفَانِ الْبَوَادِرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ النَّوَوِيُّ وَعِلْمُ خَدِيجَةَ بِرَجَفَانِ فُؤَادِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا رَأَتْهُ حَقِيقَةٌ ، وَيَجُوزُ أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ وَعَلِمَتْهُ بِقَرَائِنِ وَصُورَةِ الْحَالِ .
( الثَّلَاثُونَ ) قَوْلُهُ { زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي } كَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ مُكَرَّرًا مَرَّتَيْنِ وَمَعْنَاهُ غَطَّوْنِي بِالثِّيَابِ وَلُفُّونِي بِهَا وَالرَّوْعُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَبِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الْفَزَعُ .
( الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) قَالَ بَعْضُهُمْ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُخْبِرْ بِشَيْءٍ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْأَلَ الْفَازِعُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ مَا دَامَ فِي حَالِ فَزَعِهِ ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمَذْعُورَ لَا يَلْزَمُهُ بَيْعٌ وَلَا إقْرَارٌ وَلَا غَيْرُهُ فِي حَالِ فَزَعِهِ .
( الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) قَوْلُهُ { قَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ فِيمَا أَتَاهُ مِنْ اللَّهِ لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَةِ هَذَا الْأَمْرِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ فَتَزْهَقُ نَفْسُهُ أَوْ يَكُونُ هَذَا لِأَوَّلِ مَا رَأَى التَّبَاشِيرَ فِي النَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ وَسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ وَتَحَقُّقِهِ رِسَالَةَ رَبِّهِ فَيَكُونُ خَافَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَأَمَّا مُنْذُ جَاءَهُ الْمَلَكُ بِرِسَالَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الشَّكُّ فِيهِ وَلَا يَخْشَى مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يُحْمَلُ جَمِيعُ مَا وَرَدَ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي حَدِيثِ الْمَبْعَثِ ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ تَصْرِيحِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ غَطِّ الْمَلَكِ وَإِتْيَانِهِ بِاقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك انْتَهَى .
قَالَ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ بَعْدَ نَقْلِهِ كَلَامَ الْقَاضِي وَيَكُونُ مَعْنَى خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي أَنَّهُ يُخْبِرُهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ أَوَّلًا مِنْ الْخَوْفِ لَا أَنَّهُ فِي الْحَالِ خَائِفٌ .
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْخَشْيَةِ بِأَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّ الَّذِي جَاءَهُ مَلَكٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَانَ أَشَقُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ مَجْنُونٌ ، قَالَ وَلَمْ يَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ أَنَّ هَذَا مُحَالٌ فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ قَدْ لَا يَحْصُلُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَضَرَبَ مَثَلًا بِالْبَيْتِ مِنْ الشِّعْرِ تَسْمَعُ أَوَّلَهُ فَلَا تَدْرِي أَنَظْمٌ هُوَ أَمْ نَثْرٌ ، فَإِذَا اسْتَمَرَّ الْإِنْشَادُ عَلِمْتَ قَطْعًا أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ قَصْدَ الشِّعْرِ كَذَلِكَ لَمَّا اسْتَمَرَّ الْوَحْيُ وَاقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرَائِنُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ حَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ ، وَقَدْ أَثْنَى
اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْعِلْمِ ، فَقَالَ { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ } إلَى قَوْلِهِ { وَمَلَائِكَتِهِ } فَإِيمَانُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ إيمَانٌ كَسْبِيٌّ مَوْعُودٌ عَلَيْهِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ كَمَا وَعَدَ عَلَى سَائِرِ أَفْعَالِهِ الْمُكْتَسَبَةِ كَانَتْ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ أَوْ الْجَوَارِحِ ، قَالَ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ { لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي } أَيْ خَشِيتُ أَنْ لَا أَنْتَهِضَ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَأَنْ أَضْعُفَ عَنْهَا ثُمَّ أَزَالَ اللَّهُ خَشْيَتَهُ وَرَزَقَهُ الْأَيْدَ وَالْقُوَّةَ وَالثَّبَاتَ وَالْعِصْمَةَ ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ خَشْيَتَهُ كَانَتْ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَقْتُلُوهُ وَلَا غَرْوَ فَإِنَّهُ بَشَرٌ يَخْشَى مِنْ الْقَتْلِ وَالْإِذَايَةِ الشَّدِيدَةِ مَا يَخْشَاهُ الْبَشَرُ ثُمَّ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ فِي ذَاتِ اللَّهِ كُلَّ خَشْيَةٍ وَيَجْلِبُ إلَى قَلْبِهِ كُلَّ شُجَاعَةٍ وَقُوَّةٍ انْتَهَى .
( الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) فِيهِ أَنَّهُ مَنْ نَزَلَتْ بِهِ مُلِمَّةٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشَارِكَ فِيهَا مَنْ يَثِقُ بِنُصْحِهِ وَرَأْيِهِ وَمَعْرِفَتِهِ .
( الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) قَوْلُهَا { كَلًّا } بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ مَقْصُورٌ وَهِيَ هُنَا كَلِمَةُ نَفْيٍ وَإِبْعَادٍ وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِيهَا ، وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى حَقًّا وَبِمَعْنَى الاستفتاحية ، وَقَوْلُهَا { أَبْشِرْ } يَجُوزُ فِيهِ قَطْعُ الْهَمْزَةِ وَوَصْلُهَا يُقَالُ بَشَّرْته وَأَبْشَرْتُهُ وَبَشَّرْته بِمَعْنًى ثَلَاثُ لُغَاتٍ .
( الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) قَوْلُهَا { لَا يُخْزِيك اللَّهُ } ضَبَطْنَاهُ فِي رِوَايَتِنَا بِضَمِّ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَإِسْكَانِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَ الزَّايِ يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتُ أَيْضًا مِنْ الْخِزْيِ وَهُوَ الْفَضِيحَةُ وَالْهَوَانُ ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ رِوَايَتَنَا هِيَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ لَكِنْ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ وَعُقَيْلٍ ، وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ بِلَفْظِ { يُحْزِنُك } بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالنُّونِ وَيَجُوزُ حِينَئِذٍ فَتْحُ أَوَّلِهِ وَضَمُّ ثَالِثِهِ ، وَضَمُّ أَوَّلِهِ وَكَسْرُ ثَالِثِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ مِنْ الْحُزْنِ حَزَنَهُ وَأَحْزَنَهُ ثُلَاثِيٌّ وَرُبَاعِيٌّ هَكَذَا ضَبَطَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ وَقَعَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ الْخَلَلُ أَوْ فِي ضَبْطِنَا أَوْ عَنْ مَعْمَرٍ رِوَايَتَانِ .
( السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) قَوْلُهَا { إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ } بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَالَ النَّوَوِيُّ كَذَا الرِّوَايَةُ وَهُوَ الصَّوَابُ انْتَهَى .
وَصِلَةُ الرَّحِمِ الْإِحْسَانُ إلَى الْأَقَارِبِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْوَاصِلِ وَالْمَوْصُولِ فَتَارَةً يَكُونُ بِالْمَالِ وَتَارَةً يَكُونُ بِالْخِدْمَةِ وَتَارَةً بِالزِّيَارَةِ وَالسَّلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
( السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) قَوْلُهَا { وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ } بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَإِسْكَانِ ثَانِيهِ وَضَمِّ ثَالِثِهِ يُقَالُ صَدَقَ الْحَدِيثَ وَصَدَقَ فِي الْحَدِيثِ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِحَرْفِ الْجَرِّ .
( الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) الْكَلُّ بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَأَصْلُهُ النَّقْلُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ } وَهُوَ مِنْ الْكَلَالِ وَهُوَ الْإِعْيَاءُ وَيَدْخُلُ فِي حَمْلِ الْكَلِّ الْإِنْفَاقُ عَلَى الضَّعِيفِ وَالْيَتِيمِ وَالْعِيَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
( التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ ) قَوْلُهَا { وَتَقْرِي الضَّيْفَ } بِفَتْحِ أَوَّلِهِ يُقَالُ قَرَيْتُ الضَّيْفَ أَقْرِيهِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ مَقْصُورٌ وَبِفَتْحِهَا مَمْدُودٌ وَيُقَالُ لِلطَّعَامِ الَّذِي يُضَيَّفُ بِهِ قِرًى بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ وَيُقَالُ لِفَاعِلِهِ قَارٍ كَقَاضٍ .
( الْأَرْبَعُونَ ) النَّوَائِبُ جَمْعُ نَائِبَةٍ وَهِيَ الْحَادِثَةُ وَإِنَّمَا قَالَتْ نَوَائِبُ الْحَقِّ ؛ لِأَنَّ النَّائِبَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْخَيْرِ ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الشَّرِّ قَالَ لَبِيدٌ نَوَائِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلَاهُمَا فَلَا الْخَيْرُ مَمْدُودٌ وَلَا الشَّرُّ لَازِبُ .
( الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَى كَلَامِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { إنَّك لَا يُصِيبُك مَكْرُوهٌ } لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِمْ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَرَمِ الشَّمَائِلِ وَذَكَرْت ضُرُوبًا مِنْ ذَلِكَ ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَخِصَالَ الْخَيْرِ سَبَبٌ لِلسَّلَامَةِ مِنْ مَصَارِعِ السُّوءِ .
( الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) فِيهِ مَدْحُ الْإِنْسَانِ فِي وَجْهِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِمَصْلَحَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ وَلَيْسَ بِمُعَارِضٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اُحْثُوَا التُّرَابَ فِي وُجُوهِ الْمَدَّاحِينَ } وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ إذَا مَدَحُوا بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لَيْسَ فِي الْمَمْدُوحِ .
( الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) وَفِيهِ تَأْنِيسُ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مَخَافَةٌ مِنْ أَمْرٍ وَتَبْشِيرُهُ وَذِكْرُ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ .
( الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَجَزَالَةِ رَأْيِهَا وَقُوَّةِ نَفْسِهَا وَثَبَاتِ قَلْبِهَا وَعِظَمِ فِقْهِهَا .
( الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) قَوْلُهُ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ يُكْتَبُ بِالْأَلِفِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ عَلَمَيْنِ .
( السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) قَوْلُهَا { وَكَانَ امْرَءًا تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ } أَيْ صَارَ نَصْرَانِيًّا وَتَرَكَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَفَارَقَ طَرِيقَ الْجَاهِلِيَّةِ .
وَالْجَاهِلِيَّةُ مَا كَانَ قَبْلَ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ فَاحِشِ الْجَهَالَاتِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ ( قُلْت ) ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ فِيمَنْ عَاشَ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ سِتِّينَ سَنَةً فِي الْإِسْلَامِ وَسِتِّينَ سَنَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَغَيْرِهِ أَمْ مُرَادُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ مَا قَبْلَ فُشُوِّ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَاتُوا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ فَسَمَّوْا الزَّائِدَ عَلَى سِتِّ سِنِينَ مِمَّا قَبْلَ الْهِجْرَةِ جَاهِلِيَّةً لِانْتِشَارِ الْجَاهِلِيَّةِ وَفُشُوِّ أَمْرِهَا قَبْلَ فُشُوِّ الْإِسْلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) قَوْلُهَا { وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ } فَكَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ الْإِنْجِيلِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا وَرِوَايَةِ مُسْلِمٍ .
، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فِي أَوَّلِ صَحِيحِهِ { يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ } .
قَالَ النَّوَوِيُّ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَحَاصِلُهُمَا أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَةِ دَيْنِ النَّصَارَى بِحَيْثُ صَارَ يَتَصَرَّفُ فِي الْإِنْجِيلِ فَيَكْتُبُ أَيَّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إنْ شَاءَ وَبِالْعَرَبِيَّةِ إنْ شَاءَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) قَوْلُهَا { أَيْ } بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ حَرْفُ نِدَاءٍ لِلْبَعِيدِ مَسَافَةً أَوْ حُكْمًا
فَنَادَتْهُ نِدَاءَ الْبَعِيدِ مَعَ قُرْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَعِيدِ لِضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْمَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ ، وَقَوْلُهَا { ابْنَ عَمِّ } مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ وَهَكَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { أَيْ عَمِّ } قَالَ النَّوَوِيُّ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ عَمِّهَا حَقِيقَةً فَإِنَّهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ وَسَمَّتْهُ عَمًّا مَجَازًا لِلِاحْتِرَامِ وَهَذِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي آدَابِ خِطَابِهِمْ يُخَاطِبُ الصَّغِيرُ الْكَبِيرَ بِيَا عَمِّ احْتِرَامًا لَهُ وَرَفْعًا لِمَرْتَبَتِهِ وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْغَرَضُ بِقَوْلِهَا يَا ابْنَ عَمِّ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ تَكَلَّمْت بِاللَّفْظَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) قَوْلُ وَرَقَةَ { ابْنَ أَخِي } مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ وَحَرْفُ النِّدَاءِ مَحْذُوفٌ أَيْ يَا ابْنَ أَخِي وَالصَّحِيحُ عِنْدَ ابْنِ مَالِكٍ جَوَازُ حَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ مَعَ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى قِلَّةٍ وِفَاقًا لِلْكُوفِيِّينَ .
وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا فِي شُذُوذٍ أَوْ ضَرُورَةٍ .
( الْخَمْسُونَ ) النَّامُوسُ بِالنُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا نَقَلَ النَّوَوِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ قَالَ الْهَرَوِيُّ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْغَيْبِ وَالْوَحْيِ ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ : النَّامُوسُ فِي اللُّغَةِ صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ وَالْجَاسُوسُ صَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ وَيُقَالُ نَمَسَتْ السِّرَّ بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمِيمِ أَنَمِسُهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ نَمْسًا أَيْ كَتَمْته وَنَمَسْت الرَّجُلَ وَنَامَسْتُهُ سَارَرْته .
( الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ ) قَوْلُهُ { الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى } كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ قَالَ النَّوَوِيُّ وَرَوَيْنَاهُ فِي غَيْرِ الصَّحِيحِ نَزَلَ عَلَى عِيسَى وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ انْتَهَى .
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ إنَّمَا ذَكَرَ مُوسَى وَلَمْ يَذْكُرْ عِيسَى وَهُوَ أَقْرَبُ ؛ لِأَنَّ وَرَقَةَ
كَانَ قَدْ تَنَصَّرَ وَالنَّصَارَى لَا يَقُولُونَ فِي عِيسَى إنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ إنَّمَا يَقُولُونَ فِيهِ أُقْنُومًا مِنْ الْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ اللَّاهُوتِيَّةِ حَلَّ بِنَاسُوتِ الْمَسِيحِ وَاتَّحَدَ بِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُلُولِ ؛ وَهُوَ أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ وَالْكَلِمَةُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْمَسِيحُ فِي عِلْمِهِمْ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَيُخْبِرُ بِمَا فِي غَدٍ ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِ النَّصَارَى الْكَذَبَةِ عَلَى اللَّهِ الْمُدَّعِينَ الْمُحَالَ عَدَلَ عَنْ عِيسَى إلَى مُوسَى لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى لَكِنْ وَرَقَةُ قَدْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رَآهُ فِي الْمَنَامِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ } ( قُلْت ) ، وَرَوَى أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، فَقَالَ أَبْصَرْتُهُ فِي بُطْنَانِ الْجَنَّةِ عَلَيْهِ سُنْدُسٌ } ، وَرَوَى الْبَزَّارُ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَسُبُّوا وَرَقَةَ فَإِنِّي رَأَيْت لَهُ جَنَّةً أَوْ جَنَّتَيْنِ } وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَرَقَةَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَسِّكًا بِالْمُبْدَلِ مِنْ النَّصْرَانِيَّةِ وَإِنَّمَا كَانَ مُتَمَسِّكًا بِالصَّحِيحِ مِنْهَا الَّذِي هُوَ عَلَى الْحَقِّ فَلَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ هَذَا الِاعْتِقَادَ فَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُجَابَ عَنْ ذِكْرِ مُوسَى دُونَ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ لِمُوسَى بِشَرِيعَةٍ مُبْتَدَأَةٍ غَيْرِ مَبْنِيَّةٍ عَلَى شَرِيعَةٍ قَبْلَهَا وَكَذَا كَانَ مَجِيئُهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ عِيسَى فَإِنَّهُ إنَّمَا جَاءَهُ بِشَرِيعَةٍ مُقَرِّرَةٍ لِلشَّرِيعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ شَرِيعَةُ مُوسَى لَا
تُخَالِفُهَا إلَّا فِي يَسِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي قَوْلِ الْجِنِّ الْمُسْتَمِعِينَ لِلْقُرْآنِ { إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } فَذَكَرُوا مُوسَى وَلَمْ يَذْكُرُوا عِيسَى وَهُوَ أَقْرَبُ وَهُوَ نَظِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ سَوَاءً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ ) قَوْلُهُ { يَا لَيْتَنِي فِيهَا } أَيْ فِي أَيَّامِ النُّبُوَّةِ وَمُدَّتِهَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَيَّامَ الْمُحَارَبَةِ وَالدَّعْوَةِ فَإِنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ مَبْدَأَ النُّبُوَّةِ ، وَقَوْلُهُ جَذَعًا بِالْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ يَعْنِي شَابًّا قَوِيًّا حَتَّى أُبَالِغَ فِي نُصْرَتِك ، وَالْأَصْلُ فِي الْجَذَعِ لِلدَّوَابِّ وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ وَالرِّوَايَةُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا { جَذَعًا } بِالنَّصْبِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاهَانَ فِي مُسْلِمٍ { جَذَعٌ } بِالرَّفْعِ .
وَكَذَلِكَ هُوَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ فِي الْبُخَارِيِّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةُ التَّوْجِيهِ وَأَمَّا النَّصْبُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَوْجِيهِهِ ، فَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْمَازِرِيُّ وَغَيْرُهُمَا نُصِبَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ الْمَحْذُوفَةِ تَقْدِيرُهُ لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعًا وَهَذَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ ( قُلْت ) وَاخْتَارَ ابْنُ مَالِكٍ جَوَازَهُ عَلَى قِلَّةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ وَلَوْ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ مِنْ لَدُ شَوْلًا فَإِلَى ائْتِلَافِهَا أَيْ مِنْ لَدُنْ كَانَتْ شَوْلًا إلَى أَنْ تَلَاهَا وَلَدُهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ وَخَبَرُ لَيْتَ قَوْلُهُ : فِيهَا .
قَالَ النَّوَوِيُّ وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ الْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ أَهْلُ التَّحْقِيقِ وَالْمَعْرِفَةِ مِنْ شُيُوخِنَا وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ .
( الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ ) قَوْلُهُ { أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُك قَوْمُك } أَيْ يَضْطَرُّونَك لِلْخُرُوجِ كَمَا وَقَعَ فِي الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ
يُبَاشِرُوا إخْرَاجَهُ بَلْ حَرَصُوا عَلَى عَدَمِ خُرُوجِهِ وَلَكِنَّهُمْ اضْطَرُّوهُ إلَى ذَلِكَ بِمَا فَعَلُوهُ مَعَهُ مِنْ الْأَذَى وَمَنْعِهِ إقَامَةَ الدِّينِ وَعِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَفِي التَّنْزِيلِ { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ } { أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِك الَّتِي أَخْرَجَتْك } .
( الرَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ ) قَوْلُهُ { أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ } بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِهَا وَهُوَ جَمْعُ مُخْرِجٍ وَأَصْلُهُ مُخْرِجُويَ فَأُدْغِمَتْ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ فَالْيَاءُ الْأُولَى يَاءُ الْجَمْعِ وَالثَّانِيَةُ ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ وَفُتِحَتْ لِلتَّخَفُّفِ لِئَلَّا تَجْتَمِعَ الْكَسْرَةُ وَالْيَاءَانِ بَعْدَ كَسْرَتَيْنِ قَالَ النَّوَوِيُّ هَكَذَا الرِّوَايَةُ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ الْيَاءِ عَلَى وَجْهٍ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ تَشْدِيدُهَا وَهُوَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى { بِمُصْرِخِيَّ } .
( الْخَامِسَةُ وَالْخَمْسُونَ ) قَوْلُ وَرَقَةَ { نَعَمْ } يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَهُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعُلَمَائِهِمْ فَقَالَهُ بِنَقْلٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَهُ بِاسْتِقْرَاءٍ وَتَجْرِبَةٍ فَعَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ { لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إلَّا عُودِيَ } خَرَجَ مَخْرَجَ التَّسْلِيَةِ لَهُ وَأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَك أَذَى قَوْمِهِمْ لَهُمْ وَصَبْرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ خَرَجَ مَخْرَجَ الدَّلِيلِ وَالِاسْتِشْهَادِ بِصِحَّةِ مَا قَالَهُ .
( السَّادِسَةُ وَالْخَمْسُونَ ) فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ وَرَقَةَ قَالَ { لَتُكَذِّبَنَّهُ وَلَتُؤْذِيَنَّهُ وَلَتُخْرِجَنَّهُ } ، فَقَالَ أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ ، فَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبِّ الْوَطَنِ وَشِدَّةِ مُفَارَقَتِهِ عَلَى النَّفْسِ فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ { لَتُكَذِّبَنَّهُ } فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ { وَلَتُؤْذِيَنَّهُ } فَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ { وَلَتُخْرِجَنَّهُ } ، فَقَالَ أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حَرَمُ اللَّهِ وَجِوَارُ بَيْتِهِ وَبَلْدَةُ أَبِيهِ إسْمَاعِيلَ ؛ فَلِذَلِكَ تَحَرَّكَتْ
نَفْسُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْخُرُوجِ مِنْهُ مَا لَمْ تَتَحَرَّكْ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ وَالْمَوْضِعُ الدَّالُ عَلَى تَحَرُّكِ النَّفْسِ وَتَحَرُّقِهَا إدْخَالُ الْوَاوِ بَعْدَ أَلْفِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ اخْتِصَاصِ الْإِخْرَاجِ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ تُرَدُّ إلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ وَتُشْعِرُ الْمُخَاطَبَ بِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ أَوْ التَّكَلُّفِ لِكَلَامِهِ وَالتَّأَلُّمِ مِنْهُ انْتَهَى .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ اسْتَبْعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِيمَا مَضَى وَلَا فِيمَا بَعْدَهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي إخْرَاجًا بَلْ كَانَتْ مِنْهُ الْأَسْبَابُ الْمُتَكَاثِرَاتُ وَالْمَحَاسِنُ الْمُتَظَاهِرَاتُ الْمُوجِبَاتُ إكْرَامَهُ وَإِنْزَالَهُ بِأَعْلَى الدَّرَجَاتِ انْتَهَى .
( السَّابِعَةُ وَالْخَمْسُونَ ) قَوْلُهُ { وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك } كَذَا فِي رِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا .
، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ { إنْ أُدْرِكْ ذَلِكَ الْيَوْمَ } قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ وَرَقَةَ سَابِقٌ بِالْوُجُودِ وَالسَّابِقُ هُوَ الَّذِي يُدْرِكُهُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ كَمَا جَاءَ { أَشْقَى النَّاسِ مَنْ أَدْرَكَتْهُ السَّاعَةُ وَهُوَ حَيٌّ } قَالَ وَرِوَايَةُ ابْنِ إِسْحَاقَ لَهَا أَيْضًا وَجْهٌ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى إنْ أَرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَسَمَّى رُؤْيَتَهُ إدْرَاكًا ، وَفِي التَّنْزِيلِ { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } أَيْ لَا تَرَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ { يَوْمُك } أَيْ وَقْتُ إخْرَاجِك أَوْ وَقْتُ انْتِشَارِ نُبُوَّتِك .
( الثَّامِنَةُ وَالْخَمْسُونَ ) قَوْلُهُ { مُؤَزَّرًا } بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالزَّايِ وَتَشْدِيدِهَا وَبَعْدِهَا رَاءٌ مُهْمَلَةٌ أَيْ قَوِيًّا بَالِغًا مِنْ الْأَزْرِ وَهُوَ الْقُوَّةُ وَالْعَوْنُ ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ كَذَا جَاءَتْ الرِّوَايَةُ مُؤَزَّرًا قَالَ بَعْضُهُمْ أَصْلُهُ مُوزَرًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَازَرْتُ أَيْ عَاوَنْت وَيُقَالُ فِيهِ آزَرْت قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْأَلِفَ
سَقَطَتْ إذْ لَا أَصْلَ لِمُؤَزَّرٍ فِي الْكَلَامِ ، وَرَجَّحَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْأَوَّلَ قَالَ وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ هَذَا الْقَائِلُ لَكَانَ صَوَابُ الْكَلَامِ مُؤَزِّرًا بِكَسْرِ الزَّايِ ، وَذَكَرَ فِي الْمَشَارِقِ أَنَّ قَوْلَهُ مُؤَزَّرًا يُهْمَزُ وَيُسَهَّلُ .
( التَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ ) قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نُكَتِ ابْنِ الصَّلَاحِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنَّ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ مِنْ الرِّجَالِ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ الْوَحْيَ نَزَلَ فِي حَيَاةِ وَرَقَةَ وَأَنَّهُ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ ، وَذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ ، وَقَالَ اُخْتُلِفَ فِي إسْلَامِهِ قَالَ وَالِدِي وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ خَدِيجَةُ ثُمَّ عَلِيٌّ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ ثُمَّ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ فَأَظْهَرَ إسْلَامَهُ ، وَحَكَى وَالِدِي كَوْنَ عَلِيٍّ أَوَّلَ ذَكَرٍ أَسْلَمَ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِ التَّوَارِيخِ أَنَّ عَلِيًّا أَوَّلُهُمْ إسْلَامًا وَأَنْكَرَ هَذَا الْإِجْمَاعَ عَلَى الْحَاكِمِ ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ أَوَّلُ الصَّحَابَةِ إسْلَامًا وَقِيلَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَادَّعَى الثَّعْلَبِيُّ اتِّفَاقَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ خَدِيجَةُ وَأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي أَوَّلِ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَهَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ وَالْأَوْرَعُ أَنْ يُقَالَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ وَمِنْ الصِّبْيَانِ الْأَحْدَاثِ عَلِيٌّ وَمِنْ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ وَمِنْ الْمَوَالِي زَيْدٌ وَمِنْ الْعَبِيدِ بِلَالٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السِّتُّونَ ) ( إنْ قُلْت ) مَا وَجْهُ إيرَادِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ اعْتِكَافٍ وَلَا مُجَاوَرَةٍ وَإِنَّمَا فِيهِ التَّعَبُّدُ بِحِرَاءَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّعَبُّدِ الِاعْتِكَافُ فَالْأَعَمُّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْأَخَصِّ ( قُلْت ) قَدْ تَبَيَّنَ بِغَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ كَانَ يُجَاوِرُ بِهِ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { جَاوَرْت بِحِرَاءَ شَهْرًا فَلَمَّا قَضَيْت جِوَارِي نَزَلْت } ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلًا { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ فِي حِرَاءَ مِنْ كُلِّ سَنَةٍ شَهْرًا } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمُجَاوَرَةَ بِمَعْنَى الِاعْتِكَافِ أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الِاعْتِكَافِ فَالْحَدِيثُ حِينَئِذٍ مُطَابِقٌ لِلتَّبْوِيبِ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَكَانُ مِنْ حِرَاءَ مَسْجِدًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ مِنْ يُجَوِّزُ اعْتِكَافَ الرَّجُلِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُهَيَّأُ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْمُجَاوَرَةِ غَيْرَ مَعْنَى الِاعْتِكَافِ فَالْمُجَاوَرَةُ مَذْكُورَةٌ فِي تَبْوِيبِ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا ، وَلِذَلِكَ صَرَّحَ بِذِكْرِهَا فِي التَّبْوِيبِ وَعَطَفَهَا عَلَى الِاعْتِكَافِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْحَجِّ - مَوَاقِيتُ الْإِحْرَامِ - عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ } وَقَالَ مَرَّةً { مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ وَأَهْلِ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ قَالَ وَذَكَرَ لِي وَلَمْ أَسْمَعْهُ ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمُ } وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ } فَذَكَرَهُ وَقَالَ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمُ } وَوَصَلَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ هُنَّ لَهُمْ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَحْسِبُهُ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَيُهِلُّ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمُ } وَصَرَّحَ ابْنُ مَاجَهْ بِرَفْعِهِ بِلَفْظٍ { وَمُهَلُّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ } وَفِيهِ إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْخُوزِيُّ مَتْرُوكٌ وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ } وَزَادَ النَّسَائِيّ فِيهِ { وَلِأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ الْجُحْفَةُ وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ } وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَرَ السَّهْمِيِّ { وَقَّتَ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ } وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ } وَلِلْبُخَارِيِّ ( أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ حَدَّ لَهُمْ عُمَرُ ذَاتَ عِرْقٍ ) وَلِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدَائِنِ الْعَقِيقَ وَلِأَهْلِ الْبَصْرَةِ ذَاتَ عِرْقٍ }
( كِتَابُ الْحَجِّ مَوَاقِيتُ الْإِحْرَامِ ) عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ وَقَالَ مَرَّةً مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ مِنْ الْجُحْفَةِ وَأَهْلِ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ قَالَ وَذَكَرَ لِي وَلَمْ أَسْمَعْهُ وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمُ } وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَذَكَرَهُ قَالَ وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمُ } فِيهِ ( فَوَائِدُ ) " الْأُولَى " أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَقَّتَ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ ( يُهِلُّ ) بِلَفْظِ الْفِعْلِ مِنْ الْإِهْلَالِ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِلَفْظِ { مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّامِ مَهْيَعَةَ وَهِيَ الْجُحْفَةُ وَمُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ } .
{ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَزَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَلَمْ أَسْمَعْهُ وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ } وَأَخْرُجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا التِّرْمِذِيَّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ كَلَفْظِ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَبَا دَاوُد فَإِنَّ لَفْظَهُ ( وَقَّتَ ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ { إنَّ رَجُلًا قَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ } فَذَكَرَهُ وَفِي آخِرِهِ { وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ لَمْ أَفْقَهْ هَذِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } لَفْظُ اللَّيْثِ وَالْآخَرُ قَرِيبٌ
مِنْهُ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ طَرِيقٍ آخَرَ فَجَعَلَهُ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَرِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ انْفَرَدَ بِهَا مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْهُ بِلَفْظِ { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنْ يُهِلُّوا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ } إلَى آخِرِهِ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ { أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فِي مَنْزِلِهِ وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ فَسَأَلْته مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ ؟ قَالَ فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ } قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَاتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمُ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابَةِ صَحِيحٌ حُجَّةٌ ( قُلْت ) قَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فَذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَقَدْ وَرَدَ مِيقَاتُ الْيَمَنِ مَرْفُوعًا مِنْ غَيْرِ إرْسَالٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ إلَّا أَنَّهُ قَالَ أَحْسِبُهُ رَفَعَهُ وَمِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ النَّسَائِيّ وَمِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ أَبِي دَاوُد { الثَّانِيَةُ } فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ الْأَرْبَعَةَ هِيَ مَوَاقِيتُ الْإِحْرَامِ لِأَهْلِ الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ فَلِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ حَكَى الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالنَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَمَعْنَى التَّوْقِيتِ بِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَرِيدِ النُّسُكِ أَنْ يُجَاوِزَهَا
غَيْرَ مُحْرِمٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَهَا مِيقَاتًا لِلْإِحْرَامِ وَقَالَ خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَلَزِمَنَا الْوُقُوفُ عِنْدَ ذَلِكَ ( ثَانِيهَا ) أَنَّهُ قَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى { يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ } إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ فَأَتَى بِهِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ الْأَمْرُ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ لِتَأَكُّدِهِ وَالْأَمْرُ الْمُتَأَكِّدُ لِلْوُجُوبِ ( ثَالِثُهَا ) أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ أَيْنَ تَأْمُرُنَا أَنْ نُهِلَّ وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَبَيَّنَ لَهُ مَوَاضِعَ الْإِهْلَالِ الْمَأْمُورَ بِهَا وَفِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنْ يُهِلُّوا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ } الْحَدِيثَ ( رَابِعُهَا ) أَنَّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَافْتِرَاضُ الْمَوَاقِيتِ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِذَلِكَ بَوَّبَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ ( فَرْضُ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ) وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْجُمْهُورُ وَقَالُوا لَوْ تَرَكَهَا لَزِمَهُ دَمٌ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَإِيجَابُ الدَّمِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَآخَرُونَ مَتَى عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِنُسُكٍ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ إذَا عَادَ إلَيْهِ مُلَبِّيًا فَإِنْ عَادَ غَيْرَ مُلَبٍّ اسْتَمَرَّ لُزُومُ الدَّمِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَزُفَرُ : لَا يَسْقُطُ الدَّمُ بِعَوْدِهِ إلَيْهِ مُطْلَقًا
وَقَالَ مَالِكٌ إنْ عَادَ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَبْعُدَ عَنْهُ وَهُوَ حَلَالٌ سَقَطَ وَإِنْ عَادَ بَعْدَ الْبُعْدِ وَالْإِحْرَامِ لَمْ يَسْقُطْ وَحَكَى صَاحِبُ الْبَيَانِ عَنْ الشَّرِيفِ الْعُثْمَانِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْمَدَنِيَّ إذَا جَاوَزَ ذَا الْحُلَيْفَةٍ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَهُوَ مَرِيدٌ لِلنُّسُكِ فَبَلَغَ مَكَّةَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى مِيقَاتِ بَلَدٍ آخَرَ كَيَلَمْلَمُ وَأَحْرَمَ مِنْهُ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ مُجَاوَزَةِ ذِي الْحُلَيْفَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَفِيهِ نَظَرٌ انْتَهَى وَوَرَاءَ ذَلِكَ أَقْوَالٌ شَاذَّةٌ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ إنْ لَمْ يَعُدْ لِلْمِيقَاتِ حَتَّى تَمَّ حَجَّةً رَجَعَ لِلْمِيقَاتِ وَأَهَلَّ مِنْهُ بِعُمْرَةٍ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ ( ثَانِيهَا ) أَنَّهُ مَتَى تَرَكَ الْمِيقَاتَ لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ أَصْلًا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ( ثَالِثُهَا ) أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الْمِيقَاتَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ عَطَاءٍ وَرَوَيْنَاهُ عَنْ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ الثَّلَاثَةُ شَاذَّةٌ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لِأَنَّهَا لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْآثَارِ وَلَا تَصِحُّ فِي النَّظَرِ .
( الثَّالِثَةُ ) قَدْ بَيَّنَّا أَنْ مَعْنَى التَّوْقِيتِ بِهَذِهِ الْمَوَاقِيتِ مَنْعَ مُجَاوَزَتِهَا بِلَا إحْرَامٍ إذَا كَانَ مُرِيدًا لِلنُّسُكِ أَمَّا الْإِحْرَامُ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهَا فَلَا مَانِعَ مِنْهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ بَلْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى تَرْجِيحِ الْإِحْرَامِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ عَلَى التَّأْخِيرِ إلَى الْمِيقَاتِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَرَجَّحَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالرُّويَانِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَالَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَهَلَّ مِنْ إيلِيَاءَ يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَكَانَ الْأَسْوَدُ وَعَلْقَمَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَبُو إِسْحَاقَ يُحْرِمُونَ مِنْ بُيُوتِهِمْ ، انْتَهَى لَكِنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ النَّوَوِيِّ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ ، وَنُقِلَ تَصْحِيحُهُ عَنْ الْأَكْثَرِينَ وَالْمُحَقِّقِينَ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِعْلَهُ عَنْ عَوَامِّ أَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ زَادَ مَالِكٌ عَنْ ذَلِكَ فِكْرَةَ تَقَدُّمِ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَرَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ إحْرَامَهُ مِنْ الْبَصْرَةِ وَكَرِهَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمَالِكٌ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ انْتَهَى وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عَنْ الْوُقُوعِ فِي مَحْظُورٍ فَالْإِحْرَامُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَفْضَلُ ، وَإِلَّا فَمِنْ الْمِيقَاتِ ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَشَذَّ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ فَقَالَ إنْ أَحْرَمَ قَبْلَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ وَهُوَ يَمُرُّ عَلَيْهَا فَلَا إحْرَامَ لَهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ إذَا صَارَ إلَى الْمِيقَاتِ تَجْدِيدَ إحْرَامٍ وَحَكَاهُ عَنْ دَاوُد وَأَصْحَابِهِمْ وَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ بِالْإِجْمَاعِ قَبِلَهُ عَلَى خِلَافِهِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمِيقَاتَ فَهُوَ مُحْرِمٌ وَكَذَا نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ { الرَّابِعَةُ } قَوْلُهُ ( وَقَّتَ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَيْ حَدَّدَ وَجَعَلَ لَهُمْ مِيقَاتًا وَحَدَّ الْحَدَّ الَّذِي يُحْرِمُونَ مِنْهُ وَمِنْهُ الْوَقْتُ وَالْمَوَاقِيتُ كُلُّهَا حُدُودٌ لِلْعِبَادَاتِ وَيَكُونُ وَقَّتَ بِمَعْنَى أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْإِحْرَامَ مِنْهُ وَمِنْهُ { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ :
التَّوْقِيتُ وَالتَّأْقِيتُ أَنْ يُجْعَلَ لِلشَّيْءِ وَقْتٌ يُخْتَصُّ بِهِ وَهُوَ بَيَانُ مِقْدَارِ الْمُدَّةِ يُقَالُ وَقَّتَ الشَّيْءَ يُوَقِّتُهُ وَوَقَّتَهُ يَقِتُهُ إذَا بَيَّنَ مُدَّتَهُ ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَأَطْلَقَ عَلَى الْمَكَانِ فَقِيلَ لِلْمَوْضِعِ مِيقَاتٌ وَهُوَ مِفْعَالٌ مِنْهُ وَأَصْلُهُ مِوْقَاتٌ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ قِيلَ إنَّ التَّوْقِيتَ فِي اللُّغَةِ التَّحْدِيدُ لِلشَّيْءِ مُطْلَقًا لِأَنَّ التَّوْقِيتَ تَحْدِيدٌ بِالْوَقْتِ فَيَصِيرُ التَّحْدِيدُ مِنْ لَوَازِمِ التَّوْقِيتِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ تَوْقِيتٌ وَقَوْلُهُ هُنَا وَقَّتَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّحْدِيدُ أَيْ حَدَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ لِلْإِحْرَامِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِذَلِكَ تَعْلِيقُ الْإِحْرَامِ بِوَقْتِ الْوُصُولِ إلَى هَذِهِ الْأَمَاكِنِ بِشَرْطِ إرَادَةِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ { الْخَامِسَةُ } قَوْلُهُ ( مُهَلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ مَوْضِعُ إهْلَالِهِمْ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مُطْلَقُ الْإِحْرَامِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمُلَازِمَتِهِ لَهُ فِي عَادَتِهِمْ غَالِبًا وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ يُهِلُّ بِيَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ تَحْتٍ أَوَّلُهُ مَضْمُومَةٌ وَهَاءٌ مَكْسُورَةٌ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مِنْ أَهَلَّ .
{ السَّادِسَةُ } الْمُرَادُ بِأَهْلِ الْمَدِينَةٍ وَأَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ نَجْدٍ كُلُّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ سَفَرِهِمْ بِحَيْثُ إنَّهُ مَرَّ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بِلَادِهِمْ فَلَوْ مَرَّ الشَّامِيُّ عَلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ كَمَا يَفْعَلُ الْآنَ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ مِنْهَا وَلَيْسَ لَهُ مُجَاوَزَتُهَا إلَى الْجُحْفَةِ الَّتِي هِيَ مِيقَاتُهُ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَقَالَ { هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } وَقَوْلُهُ ( لَهُنَّ ) كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَيْ لِلْأَقْطَارِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ الْمَدِينَةُ وَمَا مَعَهَا وَالْمُرَادُ لِأَهْلِهِنَّ فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فِي سُنَنِهِ لَهُمْ وَكَذَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَيْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِع وَهُوَ أَظْهَرُ تَوْجِيهًا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ : إنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ الْخِلَافِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ الْخِلَافِ مُطْلَقًا فَمَرْدُودٌ ، فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ ذَا الْحُلَيْفَةِ إلَى الْجُحْفَةِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَوْ مِصْرَ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَلَا أَعْلَمُ عِنْدَهُمْ خِلَافًا فِي ذَلِكَ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ قَالَ وَبِهَذَا نَقُولُ وَصَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ وَقَدْ نَكَّتَ الشَّيْخُ تَقِيِّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ بِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ إذَا أَرَدْت الْحَجَّ أَحْرَمْت مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَإِذَا أَرَدْت الْعُمْرَةَ أَحْرَمَتْ مِنْ الْجُحْفَةِ ( قُلْت ) لَعَلَّهَا لَمَّا كَانَتْ تَعْتَمِرُ لَا تَسْلُكُ طَرِيقَ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلَا تَمُرُّ بِهَا عَلَيْهَا بَلْ تَسْلُكُ
طَرِيقًا أُخْرَى تَمُرُّ عَلَى الْجُحْفَةِ خَاصَّةً وَقَدْ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعِمْرَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْبَيَانِ وَيَدُلُّ لَهُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَحْسَبُهُ رَفَعَ الْحَدِيثَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ } وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ الْجُحْفَةِ الْحَدِيثُ وَأَمَّا الْفَرْقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَا يَظْهَرُ لَهُ مَعْنًى وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ : هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ عَامٌّ فِيمَنْ أَتَى ، يَدْخُلُ تَحْتَهُ مِنْ مِيقَاتِهِ بَيْنَ يَدَيْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ الَّتِي مَرَّ بِهَا وَمَنْ لَيْسَ مِيقَاتُهُ بَيْنَ يَدَيْهَا ، وَقَوْلُهُ وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يَمُرُّ بِمِيقَاتٍ آخَرَ أَوَّلًا فَإِذَا قُلْنَا بِالْعُمُومِ الْأَوَّلِ دَخَلَ تَحْتَهُ هَذَا الشَّامِيُّ الَّذِي مَرَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْهَا وَإِذَا عَمِلْنَا بِالْعُمُومِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ لِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ دَخَلَ تَحْتَهُ هَذَا الْمَارُّ أَيْضًا بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَيَكُونُ لَهُ التَّجَاوُزُ إلَيْهَا وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ فَكَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَيْسَ مِيقَاتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةُ مَخْصُوصٌ بِمَنْ لَمْ يَمُرَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ ا هـ وَلَوْ سَلَكَ مَا ذَكَرْته أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ سَفَرِهِمْ وَمَرَّ عَلَى مِيقَاتِهِمْ لَمْ يَرِدْ هَذَا الْإِشْكَالُ وَلَمْ يَتَعَارَضْ هُنَا دَلِيلَانِ ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِيقَاتٌ لِأَهْلِ بَلَدِهِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ سَكَنِهِ كَالْيَمَنِيِّ يَحُجُّ مِنْ الْمَدِينَةِ لَيْسَ لَهُ مُجَاوَزَةُ مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ غَيْرَ مُحْرِمٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ سُكَّانَهَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِأَهْلِهَا مَنْ حَجَّ مِنْهَا وَسَلَكَ طَرِيقَ أَهْلِهَا وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى سُكَّانِهَا لَوَرَدَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ وَحَصَلَ الِاضْطِرَابُ فِي هَذَا فَنُفَرِّقُ فِي الْغَرِيبِ الطَّارِئِ عَلَى الْمَدِينَةِ مَثَلًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ مِيقَاتٌ لِأَهْلِ بَلَدِهِ أَمْ لَا فَنَحْمِلُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ تَارَةً عَلَى سُكَّانِهَا وَتَارَةً عَلَى سُكَّانِهَا وَالْوَارِدِينَ عَلَيْهَا وَيَصِيرُ هَذَا تَفْرِيقًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَإِذَا حَمَلْنَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَحْصُلْ فِي ذَلِكَ اضْطِرَابٌ وَمَشَى اللَّفْظُ عَلَى مَدْلُولٍ وَاحِدٍ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَكَلَامُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ الْمَالِكِيَّانِ وَابْنُ قُدَامَةَ الْحَنْبَلِيِّ يَقْتَضِي مَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ لَهُ مِيقَاتٌ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالشَّامِّي يَمُرُّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ هَلْ لَهُ مُجَاوَزَتُهَا إلَى الْجُحْفَةِ : أَمَّا الْمَدَنِيُّ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَطْعًا وَكَذَلِكَ الْيَمَنِيُّ وَنَحْوُهُ وَجَعَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْخِلَافَ فِي الْجَمِيعِ وَمَثَّلَ لِمَوْضِعِ الْخِلَافِ بِمُجَاوَزَةِ الْمَدَنِيِّ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَيْضًا وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ شَارِحُ الْقُدُورِيِّ مَحْمُودُ بْنُ رَمَضَانَ فَيَنْبَغِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ
{ السَّابِعَةُ } ذُو الْحُلَيْفَةِ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ تَصْغِيرُ الْحَلَفَةِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا وَهِيَ وَاحِدُ الْحَلْفَاءِ وَهُوَ النَّبْتُ الْمَعْرُوفُ وَالْمُرَادُ بِهَا مَوْضِعٌ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا نَحْوُ سِتَّةِ أَمْيَالٍ قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَقَبْلَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ ثُمَّ قَالَ وَقِيلَ سَبْعَةُ أَمْيَالٍ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ وَذَكَرَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَتَبِعَهُ الرَّافِعِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ بَيْنَهُمَا مِيلًا قَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ : وَهُوَ وَهُمْ وَالْحِسُّ يَرُدُّ ذَلِكَ وَقَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ : الصَّوَابُ الْمَعْرُوفُ الْمُشَاهَدُ أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ أَوْ تَزِيدُ قَلِيلًا وَالْقَائِلُونَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا أَتْقَنُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ عَالِمُ الْحِجَازِ وَصَوَّبَهُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَهُوَ مَأْمَنُ مِيَاهِ بَنِي جَثْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَفَاجَةَ الْعُقَيْلِيِّينَ وَهُوَ أَبْعَدُ الْمَوَاقِيتِ مِنْ مَكَّةَ بَيْنَهُمَا نَحْوُ عَشَرَةِ مَرَاحِلَ أَوْ تِسْعٍ أَمَّا ذُو الْحُلَيْفَةِ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تِهَامَةَ } فَهُوَ مَوْضِعٌ آخَرُ قَالَ الدَّاوُدِيُّ لَيْسَ هُوَ الْمُهَلُّ الَّذِي بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ .
{ الثَّامِنَةُ } الْجُحْفَةُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْفَاءِ قَرْيَةٌ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْبَحْرِ وَثَمَانِي مَرَاحِلَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَنَحْوُ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ السَّيْلَ اجْتَحَفَهَا وَحَمَلَ أَهْلَهَا وَهِيَ مَهْيَعَةٌ كَمَا فِي رِوَايَةٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مِنْ الصَّحِيحَيْنِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ كَسْرَ الْهَاءِ مَعَ إسْكَانِ الْيَاءِ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْآنَ خَرِبَةٌ لَا يَصِلُ إلَيْهَا أَحَدٌ لِوَخَمِهَا وَإِنَّمَا يُحْرِمُ النَّاسُ مِنْ رَابِغٍ وَهِيَ عَلَى مُحَاذَاتِهَا وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ مَهْيَعَةَ قَرِيبٌ مِنْ الْجُحْفَةِ وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَدَّمْنَاهُ إنَّهَا هِيَ الْجُحْفَةُ نَفْسُهَا .
( التَّاسِعَةُ ) الشَّامُ بِلَادٌ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ مِنْ الْعَرِيشِ إلَى بَالِسَ وَقِيلَ إلَى الْفُرَاتِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ أَبِي دَاوُد وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ هِيَ بِلَادٌ بَيْنَ الْجَزِيرَةِ وَالْغَوْرِ إلَى السَّاحِلِ وَيَجُوزُ فِيهَا التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ وَالْهَمْزُ وَتَرْكُهُ وَأَمَّا شَآمٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمَدِّ فَأَبَاهُ أَكْثَرُهُمْ إلَّا فِي النَّسَبِ وَفِي سَبَبِ تَسْمِيَتِهَا بِهَذَا الِاسْمِ خِلَافٌ لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ .
( الْعَاشِرَةُ ) رَوَى النَّسَائِيّ فِي سُنَنِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا { وَلِأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ الْجُحْفَةُ } وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا وَعَلَيْهَا الْعَمَلُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) نَجْدٌ بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ وَآخِرُهُ دَالٌ مُهْمَلَةٌ قَالَ فِي الصِّحَاحِ وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنْ تِهَامَةَ إلَى أَرْضِ الْعِرَاقِ ، وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ ، مَا بَيْنَ جَرَشَ إلَى سَوَادِ الْكُوفَةِ وَحَدُّهُ مِمَّا يَلِي الْمَغْرِبَ الْحِجَازُ وَعَنْ يَسَارِ الْكَعْبَةِ الْيَمَنُ قَالَ وَنَجْدٌ كُلُّهَا مِنْ عَمَلِ الْيَمَامَةِ ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ النَّجْدُ مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْض وَهُوَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا دُونَ الْحِجَازُ مِمَّا يَلِي الْعِرَاقَ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَرْنٌ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ وَالتَّارِيخِ وَالْأَسْمَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ قَالَ وَغَلِطَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ فِي غَلْطَتَيْنِ فَاحِشَتَيْنِ فَقَالَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَزَعَمَ أَنَّ أُوَيْسًا الْقَرَنِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ وَالصَّوَابُ إسْكَانُ الرَّاءِ وَأَنَّ أُوَيْسًا مَنْسُوبٌ إلَى قَبِيلَةٍ مَعْرُوفَةٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو قَرْنٍ وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ مُرَادٍ الْقَبِيلَةُ الْمَعْرُوفَةُ يُنْسَبُ إلَيْهَا الْمُرَادِيُّ ( قُلْت ) حَكَى الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ عَنْ تَعْلِيقِ عَنْ الْقَابِسِيِّ أَنَّ مَنْ قَالَ قَرْنٌ بِالْإِسْكَانِ أَرَادَ الْجَبَلَ الْمُشْرِفَ عَلَى الْمَوْضِعِ وَمَنْ قَالَ قَرَنٌ بِالْفَتْحِ أَرَادَ الطَّرِيقَ الَّذِي يَفْتَرِقُ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَوْضِعٌ فِيهِ طُرُقٌ مُفْتَرِقَةٌ انْتَهَى وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ خِلَافًا وَيُقَالُ لَهُ قَرْنُ الْمَنَازِلِ وَقَرْنُ الثَّعَالِبِ قَالَ النَّوَوِيُّ وَهُوَ عَلَى نَحْوِ مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ قَالُوا وَهُوَ أَقْرَبُ الْمَوَاقِيتِ إلَى مَكَّةَ وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ هُوَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِمَّا قَدَّمْته عَنْ النَّوَوِيِّ وَفِيمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ قَرْنًا أَقْرَبُ الْمَوَاقِيتِ إلَى مَكَّةَ نَظَرَ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا وَأَنَّ بَيْنَ يَلَمْلَمُ وَمَكَّةَ ثَلَاثِينَ مِيلًا فَتَكُونُ يَلَمْلَمُ حِينَئِذٍ أَقْرَبَ الْمَوَاقِيتِ إلَى مَكَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) يَلَمْلَمُ بِفَتْحِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتُ وَاللَّامَيْنِ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا أَلَمْلَمُ بِهَمْزَةٍ أَوَّلَهُ وَهِيَ الْأَصْلُ وَالْيَاءُ بَدَلٌ مِنْهَا كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَشَارِقِ وَهُوَ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ تِهَامَةَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ : يَلَمْلَمُ وَيَرَمْرَمُ بِاللَّامِ وَالرَّاءِ .
{ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ } قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ الْمُرَادُ بِكَوْنِ يَلَمْلَم مِيقَاتَ أَهْلِ الْيَمَنِ بَعْضُ الْيَمَنِ وَهُوَ تِهَامَةُ فَأَمَّا نَجْدٌ فَإِنَّ مِيقَاتَهُ قَرْنٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَمَنَ يَشْمَلُ نَجْدًا وَتِهَامَةَ فَأَطْلَقَ الْيَمَنَ وَأُرِيدَ بَعْضُهُ وَهُوَ تِهَامَةُ مِنْهُ خَاصَّةً وَقَوْلُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ نَجْدٌ تَنَاوَلَ نَجْدِ الْحِجَازِ وَنَجْدُ الْيَمَنِ فَكِلَاهُمَا مِيقَاتُ أَهْلِهِ قَرْنٌ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) بَقِيَ مِيقَاتٌ خَامِسٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ ذَاتُ عِرْقٍ مِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لَانَ فِيهِ عِرْقًا وَهُوَ الْجَبَلُ الصَّغِيرُ وَقِيلَ الْعِرْقُ مِنْ الْأَرْضِ سَبْخَةٌ تَنْبُتُ الطُّرَفَاءُ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَهِيَ الْحَدُّ بَيْنَ نَجْدٍ وَتِهَامَةَ وَمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَوْقِيتِ ذَاتِ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ تَبِعْتُ فِيهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالنَّوَوِيُّ فَقَالَا : إنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْخِلَافَ فِيهِ مَوْجُودٌ فَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ مِيقَاتَ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْعَقِيقُ قَالَ وَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ لَا يَصِحُّ : لِأَنَّ رِوَايَةَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( قُلْت ) الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ } سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ وَكَذَلِكَ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ بِأَنَّ فِيهِ يَزِيدَ بْنَ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمِيقَاتَ ذَاتُ عِرْقٍ وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ لَكِنْ اخْتَلَفُوا هَلْ صَارَتْ مِيقَاتُهُمْ بِتَوْقِيتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ لِأَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ وَجْهَيْنِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ قَوْلَيْنِ الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ
بِاجْتِهَادِ عُمَرَ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ : أَنَّهُ مَنْصُوصٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ يَدُلُّ لِلْأَوَّلِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا وَإِنَّا إنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شُقَّ عَلَيْنَا قَالَ فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ وَيَدُلُّ لِلثَّانِي عِدَّةُ أَحَادِيثَ وَهِيَ مُتَكَلَّمٌ فِيهَا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ ( قُلْت ) رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ الْمُهَلِّ فَقَالَ سَمِعْت أَحْسَبُهُ رَفَعَ الْحَدِيثَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ { وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ } وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ لِعَدَمِ جَزْمِهِ بِرَفْعِهِ وَأَمَّا قَوْلُ الدَّارَقُطْنِيِّ إنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْعِرَاقَ لَمْ تَكُنْ فُتِحَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَامُهُ فِي تَضْعِيفِهِ صَحِيحٌ وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْته وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ لِضَعْفِهِ بِعَدَمِ فَتْحِ الْعِرَاقِ فَفَاسِدٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِلْمِهِ بَانَهُ سَيُفْتَحُ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِ النُّبُوَّةِ وَالْإِخْبَارِ بِالْمُغْيِبَاتِ الْمُسْتَقْبِلَاتِ كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ فِي جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّامَ لَمْ يَكُنْ فُتِحَ يَوْمئِذٍ وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { أَخْبَرَ بِفَتْحِ الشَّامِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ وَأَنَّهُمْ يَأْتُونَ إلَيْهِنَّ
يَبِسُّونَ وَالْمَدِينَةِ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ زُوِيَتْ لَهُ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا وَقَالَ سَيَبْلُغُ مِلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا وَإِنَّهُمْ سَيَفْتَحُونَ مِصْرَ وَهِيَ أَرْضٌ يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ وَإِنَّ عِيسَى يَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِي دِمَشْقَ } وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي الصَّحِيحِ انْتَهَى وَقَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إسْنَادُهُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِرَفْعِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ لِمُجَرَّدِ هَذَا وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَة إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الْخُوزِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا بِغَيْرِ شَكٍّ بِلَفْظِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ لَكِنَّ الْخُوزِيَّ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا شَكٍّ أَيْضًا لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ ( قُلْت ) فِي قَوْلِ النَّوَوِيِّ إنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ غَيْرُ ثَابِتٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِرَفْعِهِ نَظَرٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ أَحْسَبُهُ مَعْنَاهُ أَظُنُّهُ وَالظَّنُّ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْيَقِينِ فَلَيْسَ ذَلِكَ قَادِحًا فِي رَفْعِهِ : وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ بِرَفْعِهِ لَا يَقِينًا وَلَا ظَنًّا فَهُوَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْمَرْفُوعِ لِأَنَّ هَذَا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ تَوْقِيفًا مِنْ الشَّارِعِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ ضَمَّنَهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الْمَوَاقِيتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا يَقِينًا بِاتِّفَاقٍ وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ } وَذَكَرَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى أَفْلَحَ بْنِ حُمَيْدٍ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ قَدْ حَدَّثَ عَنْهُ
ثِقَاتُ النَّاسِ وَهُوَ عِنْدِي صَالِحٌ وَأَحَادِيثُهُ أَرْجُو أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِيمَةً كُلَّهَا وَهَذَا الْحَدِيثُ يَنْفَرِدُ بِهِ مُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ عَنْهُ وَإِنْكَارُ أَحْمَدَ قَوْلُهُ { وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ } وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَاقِيَ مِنْ إسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ انْتَهَى وَصَحَّحَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ الذَّهَبِيُّ هُوَ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ إسْنَادَهُ جَيِّدٌ وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو السَّهْمِيِّ حَدِيثًا وَفِيهِ { وَوَقَّتَ يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي إسْنَادِهِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ ( قُلْت ) زُرَارَةُ بْنُ كَرِيمٍ بِفَتْحِ الْكَافِ رَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَالرَّاوِي عَنْهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ كَذَلِكَ وَبَاقِي رِجَالِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَحْصِ عَنْهُمْ فَلَيْسَ فِي إسْنَادِهِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ فَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ غَيْرِهِ وَرَوَى أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ { وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ { وَقَالَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ } وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا { أَنَّهُ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ ذَاتَ عِرْقٍ } فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرْتهَا وَإِنْ كَانَ فِي كُلٍّ مِنْهَا ضَعِيفٌ فَمَجْمُوعُهَا لَا يَقْصُرُ عَنْ بُلُوغِ دَرَجَةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَكَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فَالْأَرْجَحُ عِنْدِي أَنَّهُ مَنْصُوصٌ أَيْضًا قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمَرُ وَمَنْ سَأَلَهُ لَمْ يَعْلَمُوا تَوْقِيتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ عِرْقٍ فَقَالَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ
وَوَافَقَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ كَثِيرَ الْإِصَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ا هـ .
فَإِنْ قُلْت مَا الْجَمْعُ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي التَّوْقِيتِ مِنْ الْعَقِيقِ وَبَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ فِي التَّوْقِيتِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ ؟ ( قُلْت ) فِي ذَلِكَ أَوْجُهٌ : ( أَحَدُهَا ) ضَعْفُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَأَحَادِيثُ التَّوْقِيتِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ أَصَحُّ وَأَكْثَرُ وَأَرْجَحُ ، وَعَكَسَ ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ فَقَالَ الْحَدِيثُ فِي الْعَقِيقِ أَثْبَتُ مِنْهُ فِي ذَاتِ عِرْقٍ .
( الثَّانِي ) أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مِيقَاتُ الْإِيجَابِ وَالْعَقِيقُ مِيقَاتُ الِاسْتِحْبَابِ فَالْإِحْرَامُ مِنْ الْعَقِيقِ أَفْضَلُ فَإِنْ جَاوَزَهُ وَأَحْرَمَ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ جَازَ وَبِهَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ وَاقْتَضَى كَلَامُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مِيقَاتٌ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْعَقِيقُ مِيقَاتٌ لِبَعْضِهِمْ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدَائِنِ الْعَقِيقَ وَلِأَهْلِ الْبَصْرَةِ ذَاتَ عِرْقٍ } الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَبُو ظِلَالٍ هِلَالُ بْنُ يَزِيدَ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ .
( الرَّابِعُ ) ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ كَانَتْ أَوَّلًا فِي مَوْضِعِ الْعَقِيقِ ثُمَّ حُوِّلَتْ وَقُرِّبَتْ إلَى مَكَّةَ وَعَلَى هَذَا فَذَاتُ عِرْقٍ هُوَ الْعَقِيقُ وَاللَّفْظَانِ مُتَوَارِدَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ عَنْ الشَّافِعِيِّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ قَالَ رَأَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَجُلًا يُرِيدُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ فَأَخَذَ بِيَدِهِ حَتَّى خَرَجَ بِهِ مِنْ الْبُيُوتِ وَقَطَعَ الْوَادِيَ فَأَتَى بِهِ الْمَقَابِرَ فَقَالَ هَذِهِ ذَاتُ عِرْقٍ الْأُولَى ا هـ .
وَمُقْتَضَى هَذَا الْجَوَابِ وُجُوبُ الْإِحْرَامِ مِنْ الْعَقِيقِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ كَمَا
تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ اسْتِحْبَابًا كَمَا تَقَدَّمَ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمَالِكِيَّةِ كَرَاهَتُهُ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى كَرَاهَةِ تَقَدَّمْ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْتِبَاسِ الْمِيقَاتِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ كَرَاهَتُهُ عِنْدَ التَّقْدِيمِ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ أَيْضًا ، قَالَ وَهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ كَرَاهَةَ أَنْ يُضَيِّقَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ مَا قَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْ يَتَعَرَّضَ لِمَا لَا يُؤْمَرُ أَنْ يُحْدِثَ فِي إحْرَامِهِ قَالَ وَكُلُّهُمْ أَلْزَمَهُ الْإِحْرَامَ إذَا فَعَلَ لِأَنَّهُ زَادَ وَلَمْ يُنْقِصْ ا هـ .
وَلَمْ يُفَرِّقْ هَؤُلَاءِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ بَعْضِ الْمَوَاقِيتِ وَبَعْضِهَا فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ ذَاتُ عِرْقٍ أَيْضًا ، وَمَا حَكَاهُ عَنْ الْكُلِّ مِنْ صِحَّةِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ يُخَالِفُهُ كَلَامُ ابْنُ حَزْمٍ الْمُتَقَدِّمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْعَقِيقُ كُلُّ مَسِيلٍ شَقَّهُ مَاءُ السَّيْلِ فَوَسَّعَهُ وَفِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَرْبَعَةُ أَعِقَّةٍ وَهِيَ أَوْدِيَةٌ عَادِيَةٌ مِنْهَا عَقِيقٌ يَتَدَفَّقُ مَاؤُهُ فِي غَوْرِي تِهَامَةَ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا عَشَرَةٌ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِيهِ رِفْقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمَتِهِ فِي تَوْقِيتِهِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ لَهُمْ فَجَعَلَ الْأَمْرَ لِأَهْلِ الْآفَاقِ بِالْقُرْبِ وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَقْرَبَ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ الْمَذْكُورَةِ وَقَّتَ لَهُمْ ذَا الْحُلَيْفَةِ خَارِجَ الْمَدِينَةِ بِسِتَّةِ أَمْيَالٍ وَجَعَلَ لِمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ الْمَصِيرَ إلَى مِيقَاتِهِمْ الْجُحْفَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ مَرَاحِلَ مِنْ الْمَدِينَةِ ا هـ .
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْأَفَّاقِيَّ الْمَارَّ بِذِي الْحُلَيْفَةِ لَهُ مُجَاوَزَتُهَا غَيْرَ مُحْرِمٍ إلَى الْجُحْفَةِ الَّتِي هِيَ مِيقَاتُهُ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ خِلَافُهُ .
( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) وَقَّتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ لِأَهْلِ هَذِهِ الْأَمْصَارِ وَبَيَّنَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَنْ مَرَّ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِهَا وَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْمُقِيمِينَ بِهَذِهِ الْمَوَاقِيتِ كَحُكْمِ الْمَارِّينَ بِهَا ، وَفُهِمَ مِنْ سُكُوتِهِ عَمَّنْ سَكَنُهُ بَيْنَ الْمَوَاقِيتِ وَمَكَّةَ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الرُّجُوعُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ بَلْ يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ إذْ لَوْ كُلِّفَ الرُّجُوعَ إلَيْهَا لَمْ يَخْتَصَّ تَأْقِيتُهَا بِالْمَارِّينَ بِهَا ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَوْلِهِ { وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ حَتَّى أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ } أَيْ فَمَنْ حَيْثُ أَنْشَأَ السَّفَرَ مِنْهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ إلَّا مُجَاهِدًا فَقَالَ مِيقَاتُهُ مَكَّةُ نَفْسُهَا وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ يُحْرِمُ مِنْ مَوْضِعِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا يَدْخُلُ الْحَرَمَ إلَّا حَرَامًا فَإِنْ دَخَلَهُ غَيْرَ حَرَامٍ فَلْيَخْرُجْ مِنْهُ وَلِيُهِلَّ حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْحِلِّ ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ إنَّهُ وَقَوْلَ مُجَاهِدٍ شَاذَّانِ .
وَأَمَّا مَنْ هُوَ بِمَكَّةَ فَمِيقَاتُهُ نَفْسُ مَكَّةَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهَا وَالْإِحْرَامُ خَارِجَهَا وَلَوْ كَانَ فِي الْحَرَمِ ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْإِحْرَامُ مِنْ الْحَرَمِ كُلِّهِ جَائِزٌ ، وَالْحَدِيثُ بِخِلَافِهِ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : لَوْ خَرَجَ إلَى الْحِلِّ جَازَ عَلَى الْأَشْهَرِ ، وَلَا دَمَ لِأَنَّهُ زَادَ وَمَا نَقَصَ ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا وَيَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِي مَكَّةَ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ عَنْ نَفْسِ الْبَلَدِ وَفِي الْأَفْضَلِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا مِنْ بَابِ دَارِهِ وَالثَّانِي مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَحْتَ الْمِيزَابِ ثُمَّ إنَّ هَذَا فِي الْحَجِّ أَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّ مِيقَاتَ الْمَكِّيِّ إذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِهَا أَدْنَى الْحِلِّ مِنْ أَيْ الْجِهَاتِ كَانَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَهَا فِي الْعُمْرَةِ أَنْ تَخْرُجَ إلَى التَّنْعِيمِ وَتُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ مِنْهُ } وَالتَّنْعِيمُ فِي طَرَفِ الْحِلِّ وَهُوَ أَقْرَبُ نَوَاحِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) سَكَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ قَاصِدِ مَكَّةَ لِلنُّسُكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمُرَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ وَقَدْ قَالَ الْجُمْهُورُ : يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ إذَا حَاذَى أَقْرَبَ الْمَوَاقِيتِ إلَيْهِ وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ ، قَالَ أَصْحَابُنَا فَإِنْ لَمْ يُحَاذِ مِيقَاتًا لَزِمَ أَنْ يُحْرِمَ إذَا لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ إلَّا مَرْحَلَتَانِ ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ : يُحْرِمُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ فَإِنْ مَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مِيقَاتٍ مِنْهَا لَزِمَهُ تَجْدِيدُ الْإِحْرَامِ مِنْهُ وَادَّعَى دُخُولَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ } وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ دُونَ الْمَوَاقِيتِ الْمَذْكُورَةِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْحَدِيثُ وَتَمَسَّك الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا شَكَا إلَيْهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ جَوْزَ قَرْنٍ عَنْ طَرِيقِهِمْ : اُنْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ ، وَالْإِحْرَامُ مِنْ مُحَاذَاتِ الْمِيقَاتِ أَقْرَبُ الْأُمُورِ إلَى النَّصِّ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْبَعْدُ عَنْ مَكَّةَ بِهَذِهِ الْمَسَافَةِ فَلَزِمَ اتِّبَاعُهُ .
بَابُ إفْرَادِ الْحَجِّ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ } لَفْظُ مُسْلِمٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { أَهَلَّ بِالْحَجِّ } وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ { قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ لَا يَخْلِطُهُ شَيْءٌ فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً } وَقَالَ مُسْلِمٌ فِي حَدِيث جَابِرٍ { أَقْبَلْنَا مُهَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ } وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِ الصَّحِيحِ { أَفْرَدَ الْحَجَّ } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { هَذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ { تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { جَمَعَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ { قَرَنَ } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ { جَمَعَ بَيْنَهُمَا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ } وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ { إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْت } وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مِثْلُهُ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ { قَرَنَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ } وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ { جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ } وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي قَتَادَةَ مِثْلُهُ وَلِلْبَرَاءِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى مِثْلُهُ وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ
الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْت بِعُمْرَةٍ وَلَمْ أَكُنْ سُقْت الْهَدْيَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلِيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعِهَا قَالَتْ فَحِضْت فَلَمَّا دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّى كُنْت أَهْلَلْت بِعُمْرَةٍ فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِحَجَّتِي قَالَ اُنْقُضِي رَأْسَك وَامْتَشِطِي وَامْسِكِي عَنْ الْعُمْرَةِ وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ فَلَمَّا قَضَيْت حَجَّتِي أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَعْمَرَنِي مِنْ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي سَكَتَ عَنْهَا } لَفْظُ مُسْلِمٍ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : { أَمْسَكْت عَنْهَا } وَزَادَ الشَّيْخَانِ فِي رِوَايَةٍ قَالَ { فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا } وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك ؟ فَقَالَ إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ } فَجَعَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ
( بَابُ إفْرَادِ الْحَجِّ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ ) .
( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ } .
لَفْظُ مُسْلِمٍ ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ بِهَذَا اللَّفْظِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بِلَفْظِ { خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَذْكُرُ إلَّا الْحَجَّ } الْحَدِيثَ .
وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ أَيْضًا وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَتِيمُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَمِنَّا مِنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَلَمْ يُحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ } .
لَفْظُ الشَّيْخَيْنِ وَأَبِي دَاوُد وَاقْتَصَرَ النَّسَائِيّ مِنْهُ عَلَى { أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ } وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ { أَفْرَدَ الْحَجَّ } .
( الثَّانِيَةَ ) إفْرَادُ الْحَجِّ هُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ وَيَفْرُغُ مِنْهُ ثُمَّ يَعْتَمِرُ مِنْ عَامِهِ وَالتَّمَتُّعُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَيَفْرُغُ مِنْهَا ثُمَّ يَحُجُّ مِنْ عَامِهِ وَالْقِرَانُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَيُحْرِمُ بِهِمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً وَكَذَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ الطَّوَافِ يَصِحُّ وَيَصِيرُ قَارِنًا فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ
أَصَحُّهُمَا لَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ وَالثَّانِي يَصِحُّ وَيَصِيرُ قَارِنًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ مِنْ الْحَجِّ .
وَقِيلَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ ، وَقِيلَ قَبْلَ فِعْلِ فَرْضٍ ، وَقِيلَ قَبْلَ فِعْلِ طَوَافِ الْقُدُومِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ تَأْدِيَةِ نُسُكِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِكُلِّ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْإِفْرَادُ وَالتَّمَتُّعُ وَالْقِرَانُ ، وَذَكَرَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ نَوْعَيْنِ آخَرَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) الْإِطْلَاقُ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِنُسُكٍ مُطْلَقًا ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى مَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ كِلَيْهِمَا ( وَالثَّانِي ) التَّعْلِيقُ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِإِحْرَامٍ كَإِحْرَامِ زَيْدٍ وَلَا يَرُدُّ عَلَى مَا حَكَيْته مِنْ الْإِجْمَاعِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا نَهَيَا عَنْ التَّمَتُّعِ فَلِأَصْحَابِنَا عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُمَا نَهَيَا عَنْهَا تَنْزِيهًا وَحَمَلَا النَّاسَ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَهُمَا وَهُوَ الْإِفْرَادُ لَا أَنَّهُمَا يَعْتَقِدَانِ بُطْلَانَ التَّمَتُّعِ ، وَكَيْفَ يَظُنُّ بِهِمَا هَذَا مَعَ عِلْمِهِمَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } .
( ثَانِيهُمَا ) أَنَّهُمَا نَهَيَا عَنْ التَّمَتُّعِ الَّذِي فَعَلَتْهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَادِعِ وَهُوَ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ خَاصًّا لَهُمْ ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقْتَضِي كَلَامُهُ أَنَّ مَذْهَبَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بُطْلَانُ التَّمَتُّعِ وَهَذَا ضَعِيفٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَيْهِ بَلْ الْمُخْتَارُ فِي مَذْهَبِهِ مَا قَدَّمْته وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَشَذَّ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ فَقَالَ إنَّهُ يَتَعَيَّنُ التَّمَتُّعُ عَلَى مَنْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ وَالْقِرَانُ عَلَى مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ ، وَلَا
يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُ ذَلِكَ .
( الثَّالِثَةُ ) فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَامَ حَجَّتِهِ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَكَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَتَى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ } .
وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ { أَهَلَّ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { أَهَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ } .
وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ { أَقْبَلْنَا مُهَلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ } وَفِي لَفْظٍ لَهُ { بِالْحَجِّ خَالِصًا وَحْدَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ { لَسْنَا نَنْوِي إلَّا الْحَجَّ } وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ بِإِسْنَادِ الصَّحِيحِ { أَفْرَدَ الْحَجَّ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَجِّ } .
وَوَرَدَ فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ { أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا } فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَادِعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } الْحَدِيثَ .
وَفِيهِ { وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ } الْحَدِيثَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ { أَنَّهُ أَهَلَّ كَإِهْلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَمَرَنِي فَطُفْت بِالْبَيْتِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْت } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { هَذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ { تَمَتَّعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَمَتَّعْنَا مَعَهُ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ عَلِيٍّ { تَمَتَّعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَوَرَدَتْ
أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَارِنًا فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : { اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَهُمَا بِعُسْفَانَ فِي الْمُتْعَةِ فَقَالَ مَا تُرِيدُ إلَّا أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ثُمَّ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قُرْآنٌ يُحَرِّمُهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ { قَرَنَ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بِوَادِي الْعَقِيقِ { أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِك قَالَ إنِّي قَلَّدْت هَدْيِي وَلَبَّدْت رَأْسِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنْ الْحَجِّ } .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَمِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { أَنِّي سُقْت الْهَدْيَ وَقَرَنْت } .
وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مِثْلِهِ وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ سُرَاقَةَ { قَرَنَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ } .
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ { جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ } وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي قَتَادَةَ مِثْلُهُ وَلِلْبَزَّارِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى مِثْلُهُ قَالَ الْخَطَّابِيُّ طَعَنَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْجُهَّالِ وَنَفَرٌ مِنْ الْمُلْحِدِينَ فِي الْأَحَادِيثِ وَالرُّوَاةِ حَيْثُ اخْتَلَفُوا فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ مُفْرِدًا أَمْ
مُتَمَتِّعًا أَمْ قَارِنًا وَهِيَ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَأَفْعَالُهَا مُخْتَلِفَةٌ وَلَوْ يُسِّرُوا لِلتَّوْفِيقِ وَأُعِينُوا بِحُسْنِ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَدْفَعُوهُ .
وَقَدْ أَنْعَمَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيَانَ هَذَا فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ وُجُودُ الْكَلَامِ فِيهِ وَفِي اقْتِصَاصِ كُلِّ مَا قَبْلَهُ تَطْوِيلٌ وَلَكِنَّ الْوَجِيزَ الْمُخْتَصَرَ مِنْ جَوَامِعِ مَا قَالَ : أَنَّ مَعْلُومًا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ جَوَازُ إضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى الْأَمْرِ بِهِ كَجَوَازِ إضَافَتِهِ إلَى الْفَاعِلِ كَقَوْلِك بَنَى فُلَانٌ دَارًا إذَا أَمَرَ بِبِنَائِهَا وَضَرَبَ الْأَمِيرُ فُلَانًا إذَا أَمَرَ بِضَرْبِهِ { وَرَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا وَقَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ } .
وَإِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ الْقَارِنُ وَالْمُفْرِدُ وَالْمُتَمَتِّعُ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَأْخُذُ عَنْهُ أَمْرَ نُسُكِهِ وَيَصْدُرُ عَنْ تَعْلِيمِهِ فَجَازَ أَنْ تُضَافَ كُلُّهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا وَأَذِنَ فِيهَا قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَيُحْتَمَلُ : أَنَّ بَعْضَهُمْ سَمِعَهُ يَقُولُ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ فَحَكَى أَنَّهُ أَفْرَدَ وَخَفِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَعُمْرَةٍ فَلَمْ يَحْكِ إلَّا مَا سَمِعَ وَسَمِعَ أَنَسٌ وَغَيْرَهُ الزِّيَادَةَ وَهِيَ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَلَا يُنْكَرُ قَبُولُ الزِّيَادَةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ التَّنَاقُضُ لَوْ كَانَ الزَّائِدُ نَافِيًا لِقَوْلِ صَاحِبِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُثْبَتًا لَهُ وَزَائِدًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ .
قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي سَمِعَهُ يَقُولُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ فَيَقُولُ لَهُ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ عَلَى سَبِيلِ التَّلْقِينِ فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الظَّاهِرِ لَيْسَ فِيهَا تَكَاذُبٌ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا سَهْلٌ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَقَدْ رَوَى جَابِرٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ مِنْ
ذِي الْحُلَيْفَةِ إحْرَامًا مَوْقُوفًا وَخَرَجَ يَنْتَظِرُ الْقَضَاءَ فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهُوَ عَلَى الصَّفَا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَجْعَلَهُ عُمْرَةً وَأَمَرَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَحُجَّ } انْتَهَى كَلَامُ الْخَطَّابِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : قَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَأَوْسَعُهُمْ نَفْسًا فِي ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فِي زِيَادَةٍ عَلَى أَلْفِ وَرَقَةٍ وَتَكَلَّمَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ ثُمَّ الْمُهَلَّبُ وَالْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُرَابِطِ وَالْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ وَأَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ .
وَأَوْلَى مَا يُقَالُ فِي هَذَا عَلَى مَا فَحَصْنَاهُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَاخْتَرْنَاهُ مِنْ اخْتِيَارَاتِهِمْ مِمَّا هُوَ أَجْمَعُ لِلرِّوَايَاتِ وَأَشْبَهُ بِمَسَاقِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ لِلنَّاسِ فِعْلَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِيَدُلَّ عَلَى جَوَازِ جَمِيعِهَا إذْ لَوْ أَمَرَ بِوَاحِدٍ لَكَانَ غَيْرُهُ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فَأُضِيفَ الْجَمِيعُ إلَيْهِ وَأَخْبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَأَبَاحَهُ لَهُ وَنَسَبَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا لِأَمْرِهِ بِهِ وَإِمَّا لِتَأْوِيلِهِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا إحْرَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ فَأَخَذَ بِالْأَفْضَلِ فَأَحْرَمَ مُفْرِدًا لِلْحَجِّ تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ بِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَمَعْنَاهَا أَمَرَ بِهِ .
وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ بِأَنَّهُ كَانَ قَارِنًا فَإِخْبَارٌ عَنْ حَالَتِهِ الثَّانِيَةِ لَا عَنْ ابْتِدَاءِ إحْرَامِهِ بَلْ إخْبَارٌ عَنْ حَالِهِ حِينَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ حَجِّهِمْ وَقَلْبِهِ إلَى عُمْرَةٍ لِمُخَالِفَةِ الْجَاهِلِيَّةِ إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَكَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ
الْهَدْيُ فِي آخِرِ إحْرَامِهِمْ قَارِنِينَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَرْدَفُوا الْحَجَّ بِالْعُمْرَةِ وَفَعَلَ ذَلِكَ مُوَاسَاةً لِأَصْحَابِهِ وَتَأْنِيسًا لَهُمْ فِي فِعْلِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِكَوْنِهَا كَانَتْ مُنْكَرَةً عِنْدَهُمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّحَلُّلُ مَعَهُمْ بِسَبَبِ الْهَدْيِ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي تَرْكِ مُوَاسَاتِهِمْ فَصَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِنًا فِي آخِرِ أَمْرِهِ وَقَدْ اتَّفَقَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ إدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَشَذَّ بَعْضُ النَّاسِ فَمَنَعَهُ وَقَالَ لَا يَدْخُلُ إحْرَامٌ عَلَى إحْرَامٍ كَمَا لَا يَدْخُلُ صَلَاةٌ عَلَى صَلَاةٍ وَاخْتَلَفُوا فِي إدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ فَجَوَّزَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ وَجَعَلُوا هَذَا خَاصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِضَرُورَةِ الِاعْتِمَارِ حِينَئِذٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
قَالَ وَكَذَلِكَ يُتَأَوَّلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ كَانَ مُتَمَتِّعًا أَيْ تَمَتَّعَ بِفِعْلِهِ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَفَعَلَهَا مَعَ الْحَجِّ لِأَنَّ لَفْظَ الْمُتْعَةِ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ فَانْتَظَمَتْ الْأَحَادِيثُ وَاتَّفَقَتْ قَالَ وَلَا يَبْعُدُ رَدُّ مَا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ فِعْلٍ مِثْلِ ذَلِكَ إلَى مِثْلِ هَذَا مَعَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُمْ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ مُفْرِدًا فَيَكُونُ الْإِفْرَادُ إخْبَارًا عَنْ فِعْلِهِمْ أَوَّلًا وَالْقِرَانُ إخْبَارًا عَنْ إحْرَامِ الَّذِينَ مَعَهُمْ هَدْيٌ بِالْعُمْرَةِ ثَانِيًا وَالتَّمَتُّعُ لِفَسْخِهِمْ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ ثُمَّ إهْلَالِهِمْ بِالْحَجِّ بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْهَا كَمَا فَعَلَهُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ ( قُلْت ) نَقْلُهُ عَنْ الشَّافِعِيُّ جَوَازَ إدْخَالِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ هُوَ قَوْلُهُ الْقَدِيمُ لَكِنَّ الْجَدِيدَ الْمَعْمُولَ بِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ مَنْعَ ذَلِكَ الْآنَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّهُ أَحْرَمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا مُنْتَظِرًا مَا يُؤْمَرُ
بِهِ مِنْ إفْرَادٍ أَوْ تَمَتُّعٍ أَوْ قِرَانٍ ثُمَّ أُمِرَ بِالْحَجِّ ثُمَّ أُمِرَ بِالْعُمْرَةِ فِي وَادِي الْعَقِيقِ بِقَوْلِهِ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ قَالَ الْقَاضِي وَاَلَّذِي سَبَقَ أَبْيَنُ وَأَحْسَنُ فِي التَّأْوِيلِ ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ قَوْلُ مَنْ قَالَ : أَحْرَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْرَامًا مُطْلَقًا مُبْهَمًا لِأَنَّ رِوَايَةَ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ تَرُدُّهُ وَهِيَ مُصَرِّحَةٌ بِخِلَافِهِ ا هـ .
وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ فِي كِتَابٍ لَهُ صَنَّفَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّ الرِّوَايَةَ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَرُوِيَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِفْرَادِ لِلْحَجِّ وَمَا يَدُلُّ عَلَى التَّمَتُّعِ وَمَا يَدُلُّ عَلَى الْقِرَانِ حَاشَا جَابِرٌ فَإِنَّهُ إنَّمَا رَوَى عَنْهُ الْإِفْرَادَ وَالْقِرَانَ فَقَطْ ثُمَّ قَالَ فَأَمَّا عِنْدَ صِحَّةِ الْبَحْثِ وَتَحْقِيقِ النَّظَرِ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمُضْطَرِبٍ بَلْ كُلُّهُ مُتَّفَقٌ ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَنْ رَوَى الْقِرَانَ عِنْدَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ لِأَنَّ مَنْ رَوَى الْإِفْرَادَ قَالَ أَحْرَمَ بِحَجٍّ وَمَنْ رَوَى التَّمَتُّعَ قَالَ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ .
وَمَنْ رَوَى الْقِرَانَ زَادَ عَلَى الْأَوَّلِ عُمْرَةً وَعَلَى الثَّانِي حَجَّةً وَزِيَادَةُ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ وَأَيْضًا فَمَنْ رَوَى الْقِرَانَ مَنْ الصَّحَابَةِ لَمْ تَخْتَلِفْ الرِّوَايَةُ عَنْهُمْ وَمَنْ رَوَى الْإِفْرَادَ وَالتَّمَتُّعَ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُمْ وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ شَيْءٌ مَرْفُوعٌ إلَّا الْقِرَانُ وَهُوَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ مَرْفُوعًا { إنِّي سُقْت الْهَدْيَ وَقَرَنْت } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَلَمْ يَرْوِ لَفْظَ الْإِفْرَادِ عَنْ عَائِشَةَ إلَّا عُرْوَةَ وَالْقَاسِمُ وَرَوَى عَنْهَا الْقِرَانَ عُرْوَةُ أَيْضًا وَمُجَاهِدٌ وَلَيْسَ مُجَاهِدٌ دُونَ الْقَاسِمِ فَنَظَرْنَا فَوَجَدْنَا مَنْ رَوَى الْقِرَانَ لَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا أَصْلًا
وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى الْإِفْرَادَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهَا أَفْرَدَ الْحَجَّ أَيْ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ إلَّا حَجَّةً فَرْدَةً لَمْ يُثَنِّهَا بِأُخْرَى وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ سَمِعْته يُلَبِّي بِالْحَجِّ فَرَوَتْهُ وَلَمْ تَسْمَعْ ذِكْرَ الْعُمْرَةِ فَلَمْ تَرْوِ مَا لَمْ تَسْمَعْ ثُمَّ صَحَّ عِنْدَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَرَنَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ كَمَا رَوَى عَنْهَا عُرْوَةُ وَمُجَاهِدٌ .
وَأَمَّا عَمْرَةُ وَالْأَسْوَدُ فَلَمْ يَرْوِيَا عَنْهَا لَفْظَةَ الْإِفْرَادِ وَإِنَّمَا رَوَيَا عَنْهَا { أَهَلَّ بِالْحَجِّ } .
وَلَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَيْضًا فَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِمَا مَا يُوجِبُ الْإِفْرَادَ وَلَا مَا يُخَالِفُ مَنْ رَوَى عَنْهَا الْقِرَانَ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ { قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مُهَلِّينَ بِالْحَجِّ } .
فَإِنَّمَا عَنَتْ أَصْحَابَهُ لَا إهْلَالَهُ وَلَمْ تَنْفِ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَنَ إلَى الْحَجِّ عُمْرَةً فَقَوْلُ مَنْ زَادَ أَوْلَى وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَوَاءٌ بَلْ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ بَيَانُ مَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ عَنْ الْإِفْرَادِ ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَقَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي آخِرِ زَمَانِهِ } .
وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُفْرِدُ الْحَجَّ وَاتَّفَقَ سَالِمٌ وَنَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَلَى الْقِرَانِ وَهُمَا أَوْثَقُ النَّاسِ فِيهِ .
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ جَابِرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ إلَّا الدَّرَاوَرْدِيُّ وَحْدَهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ وَهَذَا يَقِينًا مُخْتَصَرٌ مِنْ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ وَسَائِرُ النَّاسِ عَنْ جَابِرٍ إنَّمَا قَالُوا أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ حَاشَا مِنْ طَرِيقَيْنِ لَا يُعْتَدُّ بِهِمَا .
( إحْدَاهُمَا ) مِنْ رِوَايَةِ مُطَرِّفِ بْنِ مُصْعَبٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْحَجَّ } .
( وَالْأُخْرَى ) مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَهُوَ مَجْهُولٌ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرٍ كَذَلِكَ وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ إنْ كَانَ الطَّائِفِيُّ فَهُوَ سَاقِطٌ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَلَا أَدْرِي مَنْ هُوَ وَأَمَّا سَائِرُ الرُّوَاةِ الثِّقَاتِ فَقَالُوا كَمَا قَدَّمْنَا وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَهَلَّ مَعَهُ بِعُمْرَةٍ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ سَكَتَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ ذِكْرِهَا وَلَيْسَ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُحَدِّثَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِكُلِّ مَا سَمِعَ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ } فَقَوْلُ الْقَائِلِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ يَقْتَضِي الْعُمْرَةَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَا لَمْ يُقَلْ الرَّاوِي أَفْرَدَ الْحَجَّ وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ وَيَشُدُّ هَذَا مَا أَوْرَدْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَةً } .
وَالْأَظْهَرُ فِيمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ } إنَّمَا أَرَادَ إهْلَالَهُ بِقَوْلِهِ { لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ } فَصَحَّ أَنَّهُ عَنَى بِالتَّوْحِيدِ هَذِهِ التَّلْبِيَةَ إلَّا إفْرَادَ الْحَجِّ وَصَحَّ أَنَّ قَوْلَ الدَّرَاوَرْدِيِّ أَفْرَدَ الْحَجَّ إنَّمَا هُوَ اخْتِصَارٌ مِنْهُ وَظَنٌّ لَا مِنْ قَوْلِ جَابِرٍ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِيمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا فَرْقَ .
وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ } .
ثُمَّ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُحِلَّ مِنْهَا وَهَذِهِ صِفَةُ الْقِرَانِ وَهَكَذَا مَعْنَى حَدِيثِهِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَأَنْتَ إذَا أَضَفْت قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي حَسَّانَ عَنْهُ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ } إلَى
قَوْلِ مُسْلِمٍ الْقَوِيِّ عَنْهُ { أَنَّهُ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ } صَحَّ الْقِرَانُ يَقِينًا وَصَدَقَتْ كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ وَلَا يَصِحُّ غَيْرُ هَذَا إلَّا بِتَكْذِيبِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَبِهَذَا يَتَآلَفُ جَمِيعُ الرِّوَايَاتِ وَيَصِحُّ تَصْدِيقُ جَمِيعِهَا وَإِضَافَةُ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ قَالَ فَوَهَتْ رِوَايَاتُ الْإِفْرَادِ وَسَقَطَتْ كُلُّهَا ثُمَّ عُدْنَا إلَى الرِّوَايَاتِ فَوَجَدْنَا عَائِشَةَ وَعُمَرَ وَعَلِيًّا وَابْنَ عُمَرَ وَعِمْرَانَ وَابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرُوا { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَمَتَّعَ } .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ { وَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ } ثُمَّ لَمَّا فَسَّرُوا أَقْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ أَتَوْا بِصِفَةِ الْقِرَانِ وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ حَتَّى أَتَمَّ جَمِيعَ عَمَلِ الْحَجِّ وَصَدَرَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إلَى مِنًى فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا احْتَمَلَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ عُثْمَانَ وَسَعْدٍ فِي التَّمَتُّعِ أَنَّهُمَا عَنَيَا بِذَلِكَ الْقِرَانَ مَعَ شُهْرَةِ قَوْلِهِ { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } .
وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهُ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ ثُمَّ أَحَلَّ مِنْهَا وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ فَصَارَ مُتَمَتِّعًا فَلَمَّا وَهَتْ رِوَايَاتُ التَّمَتُّعِ أَيْضًا وَبَطَلَ الْإِفْرَادُ وَالتَّمَتُّعُ لَمْ يَبْقَ إلَّا رِوَايَاتُ الْقِرَانِ فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهَا وَثَبَتَتْ صِحَّتُهَا إذْ مَنْ وَصَفَ الْقِرَانِ لَا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا أَلْبَتَّةَ وَكَانَ الرُّوَاةُ لِلْقِرَانِ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ سِتَّةٌ مَدَنِيُّونَ وَوَاحِدٌ مَكِّيٌّ وَاثْنَانِ بَصْرِيَّانِ وَثَلَاثَةٌ كُوفِيُّونَ وَبِدُونِ هَذَا النَّقْلِ تَصِحُّ الْأَخْبَارُ صِحَّةً تَرْفَعُ الشَّكَّ وَتُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ فَصَحَّ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا بِيَقِينٍ لَا شَكَّ فِيهِ وَكَانَتْ سَائِرُ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا مَنْ ادَّعَى الْإِفْرَادَ وَالتَّمَتُّعَ غَيْرَ مُخَالِفَةٍ لِرِوَايَةِ الَّذِينَ رَوَوْا الْقِرَانَ وَلَا دَافِعَةً لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ
قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَعَلَيْهِ مُؤَاخَذَاتٌ : ( مِنْهَا ) قَوْلُهُ أَنَّ الدَّرَاوَرْدِيَّ انْفَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ بِقَوْلِهِ أَفْرَدَ الْحَجَّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ كَمَا هُوَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ فِي فَوَائِدِ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفْرَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ } .
ثُمَّ قَالَ وَالِدِي وَهَذَا الَّذِي جَمَعَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ } .
وَهَذَا مُنَافٍ لِإِحْرَامِهِ بِهِمَا مَعًا فِي أَوَّلِ دُفْعَةٍ انْتَهَى وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بَعْدَ ذِكْرِهِ أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ اخْتَارَ الْقِرَانَ وَتَأَوَّلَ بَاقِيَ الْأَحَادِيثِ ، وَتَأْوِيلُ بَعْضِهَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ فِيمَا قَالَهُ وَالصَّوَابُ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحْرَمَ أَوَّلًا بِالْحَجِّ مُفْرِدًا ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ فَصَارَ قَارِنًا فَمَنْ رَوَى أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ اعْتَمَدَ أَوَّلَ الْإِحْرَامِ وَمَنْ رَوَى قَارِنًا اعْتَمَدَ آخِرَهُ .
وَمَنْ رَوَى مُتَمَتِّعًا أَرَادَ التَّمَتُّعَ اللُّغَوِيَّ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَالِالْتِذَاذُ وَقَدْ انْتَفَعَ بِأَنْ كَفَاهُ عَنْ النُّسُكَيْنِ فِعْلٌ وَاحِدٌ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى إفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ بِعَمَلٍ قَالَ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْته أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَعْتَمِرْ تِلْكَ السَّنَةَ عُمْرَةً مُفْرَدَةً لَا قَبْلَ الْحَجِّ وَلَا بَعْدَهُ .
وَقَدَّمْنَا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْ إفْرَادِ الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ عُمْرَةٍ بِلَا خِلَافٍ ، وَلَوْ
جَعَلْت حَجَّتَهُ مُفْرَدَةً لَزِمَ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ اعْتَمَرَ تِلْكَ السَّنَةَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ الْحَجَّ وَحْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ ، قُلْت سَيَأْتِي عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَالْمُتَوَلِّي تَرْجِيحُ الْإِفْرَادِ وَلَوْ لَمْ يَعْتَمِرْ تِلْكَ السَّنَةَ .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اعْتَمَرَ فِي سَنَةٍ أُخْرَى فَهَذَا قَادِحٌ فِيمَا نَفَاهُ مِنْ الْخِلَافِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : قَالَ النَّوَوِيُّ ، وَحَاصِلُهُ تَرْجِيحُ الْإِفْرَادِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اخْتَارَهُ أَوَّلًا وَإِنَّمَا أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ لِمَصْلَحَةٍ وَهِيَ بَيَانُ جَوَازِ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُهُ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ انْتَهَى وَأَنْكَرَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ هَذَا الْكَلَامَ .
وَقَالَ { قَدْ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ قَبْلَ الْفَتْحِ ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَامَ الْفَتْحِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي ذِي الْحُلَيْفَةِ مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ } وَهَذَا كَافٍ فِي الْبَيَانِ .
" الرَّابِعَةُ " اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَفْضَلِ وُجُوهِ الْإِحْرَامِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْأَفْضَلَ الْإِفْرَادُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْهُمْ وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَدَاوُد قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ثُمَّ الْأَفْضَلُ بَعْدَ الْإِفْرَادِ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الْقِرَانُ .
( الثَّانِي ) أَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ اخْتِيَارُ التَّمَتُّعِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَسَالِمٌ وَالْقَاسِمُ وَعِكْرِمَةُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَحَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ وَعَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ قَالَ الْحَنَابِلَةُ ثُمَّ الْأَفْضَلُ بَعْدَ التَّمَتُّعِ الْإِفْرَادُ ثُمَّ الْقِرَانُ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ ثُمَّ قَالَ لَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَارِنًا انْتَهَى وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ بِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُزَنِيّ وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْأَفْضَلَ بَعْدَ الْقِرَانِ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الْأَفْرَادُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ .
( الرَّابِعُ ) أَنَّهُ إنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ وَإِنْ لَمْ يَسُقْهُ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ .
حَكَاهُ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ .
( الْخَامِسُ ) أَنَّ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ سَوَاءٌ فِي الْفَضِيلَةِ لَا فَضِيلَةَ
لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ، حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ .
( السَّادِسُ ) أَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ سَوَاءٌ وَهُمَا أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ ، حُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَرَجَّحَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ الْإِفْرَادَ أَنَّهُ الْأَكْثَرُ فِي الرِّوَايَاتِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَنَّ رُوَاتَهُ أَخُصُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْحَجَّةِ فَإِنَّ مِنْهُمْ جَابِرًا وَهُوَ أَحْسَنُهُمْ سِيَاقَةً لِحَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ ذَكَرَهَا مِنْ أَوَّلِ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى فَرَاغِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ضَبْطِهِ لَهَا وَاعْتِنَائِهِ بِهَا ، وَمِنْهُمْ { ابْنُ عُمَرَ .
وَقَدْ قَالَ كُنْت تَحْتَ نَاقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّنِي لُعَابُهَا أَسْمَعُهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ } .
وَمِنْهُمْ عَائِشَةُ وَقُرْبُهَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاطِّلَاعُهَا عَلَى بَاطِنِ أَمْرِهِ وَفِعْلِهِ فِي خَلْوَتِهِ وَعَلَانِيَتِهِ كُلُّهُ مَعْرُوفٌ مَعَ فِقْهِهَا وَعَظِيمِ فِطْنَتِهَا وَمِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ بِالْمَحَلِّ الْمَعْرُوفِ مِنْ الْفِقْهِ وَالْفَهْمِ الثَّاقِبِ مَعَ كَثْرَةِ بَحْثِهِ وَحِفْظِهِ أَحْوَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي لَمْ يَحْفَظْهَا غَيْرُهُ ، وَبِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدُوا الْحَجَّ وَوَاظَبُوا عَلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَهُمْ وَعَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ لَمْ يُوَاظِبُوا عَلَيْهِ وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى خِلَافِ فِعْلِهِ أَوْ أَنَّهُمْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ فِعْلُهُ .
وَأَمَّا الْخِلَافُ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا فَعَلُوهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ ، وَبِأَنَّ الْإِفْرَادَ لَا يَجِبُ فِيهِ دَمٌ بِالْإِجْمَاعِ لِكَمَالِهِ بِخِلَافِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ فَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى جَبْرٍ أَفْضَلُ وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ الْإِفْرَادِ
بِلَا كَرَاهَةٍ ، وَكَرِهَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَغَيْرُهُمَا التَّمَتُّعَ وَبَعْضُهُمْ الْقِرَانَ أَيْضًا وَإِنْ جَوَّزُوهُ وَاحْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ التَّمَتُّعَ بِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَمَنَّاهُ بِقَوْلِهِ { لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } .
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ سَبَبَهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أُمِرُوا بِجَعْلِهَا عُمْرَةً فَحَصَلَ لَهُمْ حُزْنٌ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ هَدْيٌ فَيُوَافِقُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَقَاءَ عَلَى الْإِحْرَامِ فَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَئِذٍ عَلَى فَوَاتِ مُوَافَقَتِهِمْ تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ وَرَغْبَةً فِيمَا فِيهِ مُوَافَقَتُهُمْ لَا أَنَّ التَّمَتُّعَ دَائِمًا أَفْضَلُ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَلِأَنَّ ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعُمْرَةِ .
وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ وَاحْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ الْقِرَانَ بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَتَمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَاشْتُهِرَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ أَنَّ إتْمَامَهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك وَقَالُوا إنَّ الدَّمَ الَّذِي عَلَى الْقَارِنِ لَيْسَ دَمُ جُبْرَانُ بَلْ دَمُ عِبَادَةٍ وَالْعِبَادَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَدَنِ وَالْمَالِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُخْتَصَّةِ بِالْبَدَنِ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ أَحَادِيثِ الْقِرَانِ بِأَنَّهَا مُؤَوَّلَةٌ وَبِأَنَّ أَحَادِيثَ الْإِفْرَادِ أَكْثَرُ وَأَرْجَحُ وَعَنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ قَرْنُهُمَا فِي الْفِعْلِ .
فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ } وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ فَمَعْنَاهُ الْإِحْرَامُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ كَرَاهَتُهُ لِلتَّمَتُّعِ وَأَمْرِهِ بِالْأَفْرَادِ وَاسْتَدَلَّ
أَصْحَابُنَا عَنْ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي عَلَى الْقَارِنِ دَمُ جُبْرَانَ لَا نُسُكَ بِأَنَّ الصِّيَامَ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ وَلَوْ كَانَ دَمُ نُسُكٍ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ كَالْأُضْحِيَّةِ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ : وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى الْقَارِنِ عِنْدَنَا يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ وَعِنْدَهُ طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا وَاحِدًا .
( الْخَامِسَةُ ) قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَرْجِيحِ الْإِفْرَادِ عَلَى التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَلَوْ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَلَكِنْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ شَرْطَ تَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمَا أَنْ يَعْتَمِرَ مِنْ سَنَتِهِ فَلَوْ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ عَنْ تِلْكَ السَّنَةِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا أَفْضَلُ مِنْهُ لِلْإِتْيَانِ فِيهِمَا بِالنُّسُكَيْنِ وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ مَا قَالَاهُ شَاذٌّ ضَعِيفٌ وَبَحَثَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ أَنَّهُ إذَا قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ ثُمَّ اعْتَمَرَ بَعْدَهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ الْإِفْرَادِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ وَهَذَا قَدْ أَدَّى ثَلَاثَةً فَهِيَ غَيْرُ الصُّورَةِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي فِي تَرْجِيحِ مَذْهَبِهِ فِي التَّمَتُّعِ : الْمُفْرِدُ إنَّمَا يَأْتِي بِالْحَجِّ وَحْدَهُ وَإِنْ اعْتَمَرَ بَعْدَهُ مِنْ التَّنْعِيمِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِي إجْزَائِهَا عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ اُخْتُلِفَ فِي إجْزَاءِ عُمْرَةِ الْقِرَانِ وَلَا خِلَافَ فِي إجْزَاءِ التَّمَتُّعِ عَنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا ا هـ .
( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) عَنْ عُرْوَةَ { عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْت بِعُمْرَةٍ وَلَمْ أَكُنْ سُقْت الْهَدْيَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلِيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهِ ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا قَالَتْ فَحِضْت فَلَمَّا دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت أَهْلَلْت بِعُمْرَةٍ فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِحَجَّتِي ؟ قَالَ اُنْقُضِي رَأْسَك وَامْتَشِطِي وَأَمْسِكِي عَنْ الْعُمْرَةِ وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ فَلَمَّا قَضَيْت حَجَّتِي أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَعْمَرَنِي مِنْ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِي سَكَتَ عَنْهَا } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَتِهِ أَمْسَكْت عَنْهَا مَكَانَ سَكَتَ عَنْهَا وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ وَعُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ وَمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كُلُّهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ { فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا } .
( الثَّانِيَةُ ) حَجَّةُ الْوَدَاعِ كَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ الْهِجْرَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ غَيْرَهَا .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُحْرِمَةً بِعُمْرَةٍ وَرَوَى الْقَاسِمُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَرَى إلَّا الْحَجَّ } .
وَفِي رِوَايَةٍ { لَا نَذْكُرُ إلَّا الْحَجَّ } وَفِي رِوَايَةٍ {
لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ } وَفِي رِوَايَةٍ { مُهَلِّينَ بِالْحَجِّ } .
وَرَوَى الْأَسْوَدُ وَعَمْرَةُ عَنْهَا { وَلَا نَرَى إلَّا أَنَّهُ الْحَجُّ } وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ عَائِشَةَ فِيمَا أَحْرَمَتْ بِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ مَالِكٌ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَنَا قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِتَرْجِيحِ أَنَّهَا كَانَتْ مُحْرِمَةً بِحَجٍّ لِأَنَّهَا رِوَايَةُ عَمْرَةَ وَالْأَسْوَدِ وَالْقَاسِمِ ، وَغَلَّطُوا عُرْوَةَ فِي الْعُمْرَةِ ، مِمَّنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ وَرَجَّحُوا الرِّوَايَةَ غَيْرَ عُرْوَةَ عَلَى رِوَايَتِهِ لِأَنَّ عُرْوَةَ قَالَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْهُ حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا دَعِي عُمْرَتَك } .
فَقَدْ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ الْحَدِيثَ مِنْهَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَلَيْسَ هَذَا بِوَاضِحٍ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا مِمَّنْ حَدَّثَهُ ذَلِكَ قَالُوا أَيْضًا وَلِأَنَّ رِوَايَةَ عَمْرَةَ وَالْقَاسِمِ نَسَّقَتْ عَمَلَ عَائِشَةَ فِي الْحَجِّ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَلِهَذَا قَالَ الْقَاسِمُ عَنْ رِوَايَةِ عَمْرَةَ نَبَّأَتْك بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ وَقَالُوا وَلِأَنَّ رِوَايَةَ عُرْوَةَ إنَّمَا أَخْبَرَ فِيهَا عَنْ آخِرِ أَمْرِ عَائِشَةَ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ مُمْكِنٌ فَأَحْرَمْت أَوَّلًا بِالْحَجِّ كَمَا صَحَّ عَنْهَا فِي رِوَايَةِ الْأَكْثَرِينَ وَكَمَا هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ ثُمَّ أَحْرَمْت بِالْعُمْرَةِ حِينَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ وَهَكَذَا فَسَّرَهُ الْقَاسِمُ فِي حَدِيثِهِ فَأَخْبَرَ عُرْوَةُ بِاعْتِمَارِهَا فِي آخِرِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ أَمْرِهَا .
قَالَ الْقَاضِي وَقَدْ يُعَارَضُ هَذَا بِمَا صَحَّ عَنْهَا فِي إخْبَارِهَا عَنْ فِعْلِ الصَّحَابَةِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي
الْإِحْرَامِ وَإِنَّمَا أَحْرَمَتْ هِيَ بِعُمْرَةٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّهَا أَحْرَمَتْ بِحَجٍّ ثُمَّ فَسَخَتْهُ إلَى عُمْرَةٍ حِينَ أَمَرَ النَّاسَ بِذَلِكَ فَلَمَّا حَاضَتْ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا إتْمَامُ الْعُمْرَةِ وَالتَّحَلُّلُ مِنْهَا وَإِدْرَاكُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ ، أَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فَأَحْرَمَتْ بِهِ فَصَارَتْ مُدْخِلَةً لِلْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَقَارِنَةً وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَمَّنْ رَجَّحَ رِوَايَةَ عُرْوَةَ فِي إحْرَامِهَا بِعُمْرَةٍ أَنَّ جَابِرًا رَوَى ذَلِكَ أَيْضًا قَالُوا وَلَيْسَ فِي قَوْلِهَا { كُنَّا مُهَلِّينَ بِالْحَجِّ وَخَرَجْنَا لَا نَرَى إلَّا الْحَجَّ } .
بَيَانُ أَنَّهَا كَانَتْ هِيَ مُهِلَّةٌ بِالْحَجِّ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْلَالٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ تُرِيدَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَتُرِيدُ بَعْضَهُمْ أَوْ أَكْثَرَهُمْ وَلَيْسَ الِاسْتِدْلَال الْمُحْتَمَلُ لِلتَّأْوِيلِ كَالتَّصْرِيحِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الِاضْطِرَابُ عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثِهَا هَذَا فِي الْحَجِّ عَظِيمٌ .
وَقَدْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءُ فِي تَوْجِيهِ الرِّوَايَاتِ فِيهِ وَدَفَعَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِبَعْضٍ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الْجَمْعَ بَيْنَهَا وَرَامَ قَوْمٌ الْجَمْعَ فِي بَعْضِ مَعَالِيهَا ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي قَوْلِ مَالِكٍ : لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ قَدِيمًا وَلَا حَدِيثًا يُرِيدُ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ فِي رَفْضِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ .
( الرَّابِعَةُ ) أَصْلُ الْإِهْلَالِ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى مُطْلَقِ الْإِحْرَامِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ رَفْعُ صَوْتٍ .
( الْخَامِسَةُ ) قَوْلُهَا { وَلَمْ أَكُنْ سُقْت الْهَدْيَ } تَوْطِئَةً لِمَا تُرِيدُ الْأَخْبَارُ بِهِ مِنْ اسْتِمْرَارِهَا عَلَى تَمْحِيضِ الْعُمْرَةِ وَأَنَّهَا لَمْ تُدْخِلْ عَلَيْهَا الْحَجُّ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا أَمَرَ بِضَمِّ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَالْهَدْيُ بِإِسْكَانِ الدَّالِ
وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَبِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ الْأُولَى أَفْصَحُ وَأَشْهُرُ وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ مِنْ الْأَنْعَامِ .
وَسَوْقُ الْهَدْيِ سُنَّةٌ لِمَنْ أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ( السَّادِسَةُ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا } .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْأَحَادِيثِ فِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرِهِمَا مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قَالَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ بَعْدَ إحْرَامِهِمْ بِالْحَجِّ وَفِي مُنْتَهَى سَفَرِهِمْ وَدُنُوِّهِمْ مِنْ مَكَّةَ بِسَرِفٍ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ أَوْ بَعْدَ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ وَسَعْيِهِمْ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ وَيُحْتَمَلُ تَكْرِيرُهُ الْأَمْرَ بِذَلِكَ مَرَّتَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَأَنَّ الْعَزِيمَةَ كَانَتْ آخِرًا حِينَ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ .
( السَّابِعَةُ ) قَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْجُمْهُورُ هَذِهِ الرِّوَايَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ فِي بَقَاءِ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ الْحَجِّ كَوْنُهُ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَأَنَّهُ لَيْسَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ مُجَرَّدِ سَوْقِ الْهَدْيِ فَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُمَا : أَنَّ الْمُعْتَمِرَ الْمُتَمَتِّعَ إذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْ عُمْرَتِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُمْ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَهِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ فَلْيَحْلِلْ ، وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلَا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ } .
وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الدَّلَالَةِ لِمَذْهَبِهِمْ ، لَكِنْ تَأَوَّلَهَا
أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَلَا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ عَلَيْهَا وَقَالُوا هَذَا التَّأْوِيلُ مُتَعَيَّنٌ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ وَاحِدَةٌ وَالرَّاوِيَ وَاحِدٌ فَيَتَعَيَّنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهَا { فَلَمَّا دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ } يُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَاهُ قَرُبَتْ وَشَارَفَتْ فَإِنَّ مَحْمَلَ اسْتِحْبَابِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي التَّوَجُّهِ إلَى مِنًى وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ إنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَكْوَاهَا { وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ الْآنَ } .
وَقَوْلُهَا { إنِّي كُنْت أَهْلَلْت بِعُمْرَةٍ أَيْ مُفْرِدَةً وَلَمْ أُدْخِلْ عَلَيْهَا الْحَجَّ } وَقَوْلُهَا { فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِحَجَّتِي } أَيْ بِالْحَجَّةِ الَّتِي قَصَدْت تَحْصِيلَهَا وَالْإِتْيَانَ بِهَا إذْ الْفَرْضُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُحْرِمَةً بِحَجٍّ فَأَضَافَتْ الْحَجَّةَ إلَيْهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ " التَّاسِعَةُ " قَوْلُهُ { اُنْقُضِي رَأْسَك } بِالْقَافِ وَالضَّادِ وَالْمُعْجَمَةِ أَيْ حِلِّي ضَفْرَهُ .
وَقَوْلُهُ وَامْتَشِطِي أَيْ سَرِّحِي بِالْمُشْطِ ( الْعَاشِرَةُ ) قَوْلُهُ { وَامْسِكِي عَنْ الْعُمْرَةِ } أَيْ عَنْ إتْمَامِ أَفْعَالِهَا وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَتَقْصِيرُ الشَّعْرِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُبَيِّنَةٌ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الرَّاوِيَةِ الْأُخْرَى { اُرْفُضِي عُمْرَتَك } .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { دَعِي عُمْرَتَك } وَدَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِرَفْضِهَا إبْطَالَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ رَفْضُ الْعَمَلِ فِيهَا وَإِتْمَامُ أَفْعَالِهَا وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَيْضًا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ فَقَدِمَتْ وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَاضَتْ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا وَقَدْ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّفْرِ يَسَعُك طَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك فَأَبَتْ فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إلَى التَّنْعِيمِ وَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ } .
فَهَذِهِ رِوَايَةٌ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ عُمْرَتَهَا بَاقِيَةٌ صَحِيحَةٌ مُجْزِئَةٌ لِقَوْلِهِ يَسَعُك طَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ
الْأَعْمَالَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهَا إمَّا مُطْلَقًا أَوْ الْوَاجِبَاتُ مِنْهَا وَيَزِيدُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَلَى غَيْرِهِمَا بِأَنَّهُمَا لِشِدَّةِ تَشَبُّثِهِمَا وَلُزُومِهِمَا لَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ مِنْهُمَا بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ وَإِنَّمَا يُخْرَجُ مِنْهُمَا بِالتَّحَلُّلِ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَأْوِيلِ هَذَا اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِهِ وَرَدِّهِ وَنَسَبَهُ عُرْوَةُ لِلْوَهْمِ فِيهِ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِهِمْ ثُمَّ أَيَّدَهُ بِأَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَفِيهِ قَالَ عُرْوَةُ فَحَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا دَعِي عُمْرَتَك وَانْقُضِي رَأْسَك وَامْتَشِطِي وَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ الْمُسْلِمُونَ فِي حَجِّهِمْ قَالَتْ فَأَطَعْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الصَّدْرِ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَخْرَجَهَا إلَى التَّنْعِيمِ فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ } .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ عِلَّةُ اللَّفْظِ الدَّالِ عَلَى رَفْضِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ كَلَامٌ لَمْ يَسْمَعْهُ عُرْوَةُ مِنْ عَائِشَةَ وَإِنْ كَانَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَدْ انْفَرَدَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ ثِقَةٌ فِيمَا نَقَلَ انْتَهَى فَالتَّأْوِيلُ أَوْلَى مِنْ الرَّدِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) أَنْ قُلْت أَمَرَهَا بِنَقْضِ رَأْسِهَا وَالِامْتِشَاطِ ظَاهِرٌ فِي إبْطَالِ الْعُمْرَةِ إذَا الْبَاقِي فِي الْإِحْرَامِ لَا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ خَشْيَةَ انْتِشَافِ الشَّعْرِ ( قُلْت ) لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إبْطَالُ الْعُمْرَةِ ، فَإِنَّ نَقْضَ الرَّأْسِ وَالِامْتِشَاطَ جَائِزَانِ فِي الْإِحْرَامِ إذَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى انْتِتَافِ شَعْرٍ لَكِنْ يُكْرَهُ الِامْتِشَاطُ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَقِيلَ إنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ بِهَا عُذْرٌ مِنْ أَذًى بِرَأْسِهَا فَأُبِيحَ لَهَا الِامْتِشَاطُ كَمَا أُبِيحَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ الْحَلْقُ
لِلْأَذَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالِامْتِشَاطِ هُنَا حَقِيقَةَ الِامْتِشَاطِ بِالْمِشْطِ بَلْ تَسْرِيحُ الشَّعْرِ بِالْأَصَابِعِ لِلْغُسْلِ لِإِحْرَامِهَا بِالْحَجِّ لَا سِيَّمَا أَنْ كَانَتْ لَبَّدَتْ رَأْسَهَا كَمَا هُوَ السُّنَّةُ { لِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ } .
فَلَا يَصِحُّ غُسْلُهَا إلَّا بِإِيصَالِ الْمَاءِ إلَى جَمِيعِ شَعْرِهَا وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا نَقْضُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ أَيْ مُدْخِلَةً لَهُ عَلَى الْعُمْرَةِ وَحِينَئِذٍ فَتَصِيرُ قَارِنَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُتَمَتِّعَةً وَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ إذَا كَانَ قَبْلَ الطَّوَافِ وَإِنَّمَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا إتْمَامُ الْعُمْرَةِ وَالتَّحَلُّلِ مِنْهَا لِلْحَيْضِ الطَّارِئِ الْمَانِعِ لَهَا مِنْ الطَّوَافِ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهَا { فَلَمَّا قَضَيْت حَجَّتِي أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَاعْمُرْنِي } .
قَدْ تَبَيَّنَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ سَبَبُ ذَلِكَ وَهُوَ { أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَرْجَعَ بِحَجٍّ } ؟ وَهُوَ مُشْكِلٌ إذْ قَدْ حَصَلَتْ لَهَا الْعُمْرَةُ الَّتِي أَدْخَلَتْ عَلَيْهَا الْحَجَّ فَإِنَّهَا لَمْ تُبْطِلْهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ يَرْجِعُ النَّاسُ بِحَجٍّ مُفْرِدٍ عَنْ عُمْرَةٍ وَعُمْرَةٍ مُفْرِدَةٍ عَنْ حَجٍّ وَأَرْجِعُ وَلَيْسَتْ لِي عُمْرَةٌ مُنْفَرِدَةٌ : حَرَصَتْ بِذَلِكَ عَلَى تَكْثِيرِ الْأَفْعَالِ كَمَا حَصَلَ لِسَائِرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ فَسَخُوا الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ وَأَتَمُّوا الْعُمْرَةَ وَتَحَلَّلُوا مِنْهَا قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ ثُمَّ أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَحَصَلَتْ لَهُمْ حَجَّةٌ مُنْفَرِدَةٌ وَعُمْرَةٌ مُنْفَرِدَةٌ وَأَمَّا عَائِشَةُ فَإِنَّمَا حَصَلَ لَهَا عُمْرَةٌ مُنْدَرِجَةٌ فِي حَجَّةٍ بِالْقِرَانِ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لَهَا يَوْمَ النَّفْرِ {
يَسَعُك طَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك } .
أَيْ وَقَدْ تَمَّا وَحُسِبَا لَك فَأَبَتْ وَأَرَادَتْ عُمْرَةً مُنْفَرِدَةً كَمَا حَصَلَ لِبَقِيَّةِ النَّاسِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهَا مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي سَكَتَ عَنْهَا أَيْ الَّتِي سَكَتَ عَنْ أَعْمَالِهَا فَلَمْ أُتِمَّهَا مُنْفَرِدَةً بَلْ مَضْمُومَةً لِلْحَجِّ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِك وَفِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ الْقِرَانُ أَفْضَلُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ الْخَلْوَةُ بِالْمَحَارِمِ وَالرُّكُوبُ مَعَهُمْ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَرْدَفَهَا وَرَاءَهُ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) إنَّمَا أَمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِخْرَاجِهَا فِي الْعُمْرَةِ إلَى التَّنْعِيمِ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْحِلِّ وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْإِحْرَامَ بِعُمْرَةٍ فَمِيقَاتُهُ لَهَا أَدْنَى الْحِلِّ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْرِمَ بِهَا فِي الْحَرَمِ وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ الْجَمْعُ فِي نُسُكِ الْعُمْرَةِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ كَمَا أَنَّ الْحَاجَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ يَقِفُ بِعَرَفَاتٍ وَهِيَ مِنْ الْحِلِّ ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ لِلطَّوَافِ وَغَيْرِهِ فَلَوْ خَالَفَ وَأَحْرَمَ بِهَا فِي الْحَرَمِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْحِلِّ قَبْلَ الطَّوَافِ أَجْزَأَهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ وَطَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ : ( أَحَدُهُمَا ) لَا تَصِحُّ عُمْرَتُهُ حَتَّى يَخْرُجَ إلَى الْحِلّ ثُمَّ يَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحْلِقُ .
وَ ( الثَّانِي ) تَصِحُّ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ الْمِيقَاتَ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ جِهَاتِ الْحِلِّ لِلْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مِنْهَا التَّنْعِيمُ وَبِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَفْضَلَ { الْإِحْرَامُ بِهَا مِنْ الْجِعْرَانَةِ لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَهُ } ثُمَّ مِنْ التَّنْعِيمِ لِكَوْنِهِ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ لِكَوْنِهِ هَمَّ بِهِ وَقَالُوا إنَّمَا أَمَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِالتَّنْعِيمِ لِتَيَسُّرِهِ فَإِنَّهُ أَقْرَبُ الْجِهَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ .
( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا فَقَالَ إنَّهُ يَتَعَيَّنُ التَّنْعِيمُ لِلْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مِنْهُ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مَالِكٍ وَإِنَّهُ مِيقَاتُ الْمُعْتَمِرِينَ مِنْ مَكَّةَ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ أَنَّ جَمِيعَ جِهَاتِ الْحِلِّ سَوَاءٌ وَلَا يَخْتَصُّ بِالتَّنْعِيمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) فِي قَوْلِهَا فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ { وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يَكْفِيهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ عَنْ طَوَافِ الرُّكْنِ وَأَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ وَتَنْدَرِجُ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ كُلُّهَا فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَكَانَ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَطُفْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا ، رَوَاهَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَدَاوُد وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَلْزَمُهُ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَالشَّعْبِيُّ وَالْأَسْوَدُ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَوَاهُ عَنْهُمْ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ .
( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { عَنْ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك ؟ فَقَالَ إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَهِيَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَرِوَايَةِ النَّسَائِيّ وَهِيَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْقَاسِمِ { مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ } .
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَأَنَّهُ رَوَاهُ بِدُونِهَا الْقَعْنَبِيُّ وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْر وَأَبُو مُصْعَبٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَغَيْرِهِمْ قَالَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الرُّوَاةُ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ { وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك } .
قَالَ وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ نَافِعٍ { وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِك } إلَّا مَالِكٌ وَحْدَهُ قَالَ وَقَدْ رَوَاهَا غَيْرُ مَالِكٍ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَهَؤُلَاءِ هُمْ حُفَّاظُ أَصْحَابِ نَافِعٍ وَالْحُجَّةُ فِيهِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَرَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ نَافِعٍ فَلَمْ يَقُلْ مِنْ عُمْرَتِك وَزِيَادَةُ مَالِكٍ مَقْبُولَةٌ لِحِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ لَوْ انْفَرَدَ بِهَا فَكَيْفَ وَقَدْ تَابَعَهُ مَنْ ذَكَرْنَا قَالَ وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا فِي قَدِيمِ الدَّهْرِ وَلَا حَدِيثِهِ رَدَّ حَدِيثَ حَفْصَةَ هَذَا بِأَنَّ مَالِكًا انْفَرَدَ بِقَوْلِهِ مِنْ عُمْرَتِك إلَّا هَذَا الرَّجُلُ .
ا هـ بِمَعْنَاهُ .
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هُوَ الْأَصِيلِيُّ وَرِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ هَذِهِ رَوَاهَا مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَفِيهَا {
مِنْ عُمْرَتِك } .
وَرَوَاهَا الْبُخَارِيُّ بِدُونِ قَوْلِهَا مِنْ عُمْرَتِك وَلَفْظُ الشَّيْخَيْنِ فِيهَا { فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنْ الْحَجِّ } .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ { حَتَّى أَنْحَرَ } كَرِوَايَةِ مَالِكٍ وَكَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ وَرِوَايَةُ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِثْلَهَا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ رِوَايَةَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ثُمَّ قَالَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ نَافِعٍ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْعُمْرَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذِكْرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَفِيهِ مَيْلٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْأَصِيلِيِّ .
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ ، فَجَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِ ابْنِ عُمَرَ وَكَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَفِي حَدِيثِ الْبَاقِينَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ وَفِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَتْنِي حَفْصَةُ ( الثَّانِيَةُ ) تَمَسَّك بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَادِعِ مُتَمَتِّعًا لِكَوْنِهِ أَقَرَّ عَلَى أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ وَالتَّمَتُّعُ هُوَ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَطَعَنَ مَنْ طَعَنَ فِي قَوْلِهِ مِنْ عُمْرَتِك غَيْرُ مُلْتَفِتٍ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنَّ هَذَا التَّمَسُّكَ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا هَذَا اللَّفْظُ لَاحْتَمَلَ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ فَتَعَيَّنَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { حَتَّى أَحَلَّ مِنْ الْحَجِّ } أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ .
( الثَّالِثَة ) وَرَتَّبُوا عَلَى هَذَا أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَا يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ إذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ حَتَّى يَنْحَرَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي بَقَائِهِ عَلَى إحْرَامِهِ الْهَدْيَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَهُ وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ سَوْقَ الْهَدْيِ وَإِنَّمَا السَّبَبُ فِيهِ إدْخَالُهُ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { حَتَّى أَحِلَّ مِنْ الْحَجِّ } وَعَبَّرَ عَنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ بِسَوْقِ الْهَدْيِ لِأَنَّهُ كَانَ مُلَازِمًا لَهُ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ لَهُمْ { مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهِ ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا } كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ .
( الرَّابِعَةُ ) وَتَمَسَّك بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَارِنًا وَهُوَ تَمَسُّكٌ قَوِيٌّ وَمَا أَدْرِي مَا يَقُولُ مَنْ ذَهَبَ إلَى التَّمَتُّعِ هَلْ يَقُولُ اسْتَمَرَّ عَلَى الْعُمْرَةِ خَاصَّةً وَلَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ أَصْلًا فَيَكُونُ لَمْ يَحُجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ وَأَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ فَصَارَ قَارِنًا وَصَحَّ مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ لِلْقِرَانِ حَالَتَيْنِ ( إحْدَاهُمَا ) أَنْ يُحْرِمَ بِالنُّسُكَيْنِ ابْتِدَاءً .
( الثَّانِي ) أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ يُدْخِلُ عَلَيْهَا الْحَجَّ وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { حَتَّى أَحَلَّ مِنْ الْحَجِّ } صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا وَقَوْلُهَا مِنْ عُمْرَتِك أَيْ الْعُمْرَةِ الْمَضْمُومَةِ إلَى الْحَجِّ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذَا دَلِيلٌ لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَارِنًا فِي حَجَّةِ الْوَادِعِ .
( الْخَامِسَةُ ) إنْ قُلْت مَا مَعْنَى قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بِعُمْرَةٍ وَكَيْفَ يَلْتَئِمُ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ بَعْدَهُ مِنْ عُمْرَتِك كَيْفَ يُهِلُّ بِعُمْرَةٍ وَيَحِلُّ مِنْهَا ؟ ( قُلْت ) الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ فَإِنَّهُمْ فَسَخُوا الْحَجَّ إلَيْهَا فَأَتَوْا بِأَعْمَالِهَا وَتَحَلَّلُوا مِنْهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاسْتَمَرُّوا عَلَى الْإِحْرَامِ حَتَّى يَأْتُوا بِأَعْمَالِ الْحَجِّ فَكَانَ إحْرَامُهُمْ بِعُمْرَةٍ سَبَبًا لِسُرْعَةِ حِلِّهِمْ وَأَمَّا هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنَّهُ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ فَلَمْ يَفِدْهُ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ سُرْعَةَ الْإِخْلَالِ لِبَقَائِهِ عَلَى الْحَجِّ فَشَارَكَ الصَّحَابَةَ فِي الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ وَفَارَقَهُمْ بِبَقَائِهِ عَلَى الْحَجِّ وَفَسْخِهِمْ لَهُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مِنْ إدْخَالِهِ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَعَكَسَ الْخَطَّابِيُّ ذَلِكَ فَقَالَ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ : هَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّهُ كَانَتْ هُنَاكَ عُمْرَةٌ وَلَكِنَّهُ أَدْخَلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ فَصَارَ قَارِنًا ثُمَّ حَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ إدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَالْخِلَافُ فِي إدْخَالِهَا عَلَى الْحَجِّ مَنَعَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَجَازَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ هَذَا كَلَامُهُ ، وَمَنْ يَمْنَعُ إدْخَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ يُجِيبُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ أَوَّلًا بِأَنَّ هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْحَجَّةِ فَقَدْ وَقَعَتْ فِيهَا أُمُورٌ غَرِيبَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةُ ) الذَّاهِبُونَ إلَى الْإِفْرَادِ أَجَابُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهَا أَرَادَتْ بِالْعُمْرَةِ مُطْلَقَ الْإِحْرَامِ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فَإِنْ قِيلَ فَمَا قَوْلُ حَفْصَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ مِنْ عُمْرَتِك } ؟ قِيلَ أَكْثَرُ النَّاسِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ
مَعَهُ هَدْيٌ وَكَانَتْ حَفْصَةُ مَعَهُمْ فَأُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا إحْرَامَهُمْ عُمْرَةً وَيَحِلُّوا فَقَالَتْ لِمَ تَحَلَّلَ النَّاسُ وَلَمْ تَحْلِلْ مِنْ عُمْرَتِك يَعْنِي إحْرَامَك الَّذِي ابْتَدَأْته وَهُمْ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ { فَقَالَ لَبَّدْت رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ بُدْنِي يُعْنَى } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ حَتَّى يَحِلَّ الْحَاجُّ لِأَنَّ الْقَضَاءَ نَزَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ إحْرَامَهُ حَجًّا وَهَذَا مِنْ سَعَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ الَّذِي يَكَادُ يُعْرَفُ بِالْجَوَابِ فِيهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
( ثَانِيهَا ) أَنَّهَا أَرَادَتْ بِالْعُمْرَةِ الْحَجَّ لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِهِمَا قَصْدًا ( ثَالِثُهَا ) أَنَّهَا ظَنَّتْ أَنَّهُ مُعْتَمِرٌ ( رَابِعُهَا ) أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا مِنْ عُمْرَتِك أَيْ لِعُمْرَتِك بِأَنْ تَفْسَخَ حَجَّك إلَى عُمْرَةٍ كَمَا فَعَلَ غَيْرُك قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ وَكُلُّ هَذَا ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ مَا سَبَقَ يَعْنِي الْقِرَانَ .
( السَّابِعَةُ ) إنْ قُلْت إذَا كَانَ الرَّاجِحُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَارِنًا فَلِمَ رَجَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ الْإِفْرَادَ عَلَى الْقِرَانِ وَغَيْرِهِ ( قُلْت ) أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ بِأَنَّ تَرْجِيحَ الْإِفْرَادِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اخْتَارَهُ أَوَّلًا وَإِنَّمَا أَدْخَلَ عَلَيْهِ الْعُمْرَةَ لِمَصْلَحَةٍ وَهِيَ بَيَانُ جَوَازِ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُهُ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .
( الثَّامِنَةُ ) قَوْلُهُ إنِّي لَبَّدْت رَأْسِي بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ شَعْرَ رَأْسِي وَتَلْبِيدُ الشَّعْرِ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ صَمْغٍ أَوْ نَحْوِهِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ لِيَنْضَمَّ الشَّعْرُ وَيَلْتَصِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ احْتِرَازًا عَنْ تَعَطُّنِهِ وَتَقَمُّلِهِ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ يَطُولُ مُكْثُهُ فِي الْإِحْرَامِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُهُ
وَالْمَعْنَى فِيهِ الْإِبْقَاءُ عَلَى الشَّعْرِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ .
( التَّاسِعَةُ ) الْهَدْيُ بِإِسْكَانِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَبِكَسْرِ الدَّالِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ لُغَتَانِ وَتَقْلِيدُهُ أَنْ يُعَلِّقَ عَلَيْهِ شَيْئًا يُعْرَفُ بِهِ كَوْنُهُ هَدْيًا فَإِنْ كَانَ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ اُسْتُحِبَّ تَقْلِيدُهُ بِنَعْلَيْنِ مِنْ النِّعَالِ الَّتِي تُلْبَسُ فِي الرِّجْلَيْنِ فِي الْإِحْرَامِ وَيُسْتَحَبُّ التَّصَدُّقُ بِهِمَا عِنْدَ ذَبْحِ الْهَدْيِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْغَنَمِ اُسْتُحِبَّ تَقْلِيدُهُ بِخَرِبِ الْقُرَبِ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَهِيَ عُرَاهَا وَآذَانُهَا وَبِالْخُيُوطِ الْمَفْتُولَةِ وَنَحْوِهَا وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ سَوْقِ الْهَدْيِ وَعَلَى اسْتِحْبَابِ تَقْلِيدِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِحْبَابِ تَقْلِيدِ الْغَنَمِ فَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُسْتَحَبُّ .
( الْعَاشِرَةُ ) يَجُوزُ فِي قَوْلِهَا وَلَمْ تَحِلَّ وَفِي قَوْلِهِ فَلَا أَحِلُّ فَتَحَ أَوَّلَهُ وَضَمَّهُ عَلَى أَنَّهُ ثُلَاثِيٌّ وَرُبَاعِيٌّ وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهِ وَالْفَتْحُ أَوْفَقُ لِقَوْلِهَا حَلُّوا
بَابُ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَيُبَاحُ لَهُ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً مَا يَتْرُكُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ ؟ فَقَالَ لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ وَلَا الزَّعْفَرَانُ وَالْخُفَّيْنِ إلَّا لِمَنْ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلِيَقْطَعَهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ } لَمْ يَقُلْ الشَّيْخَانِ { مَا يَتْرُكُ } وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا الْخِفَافَ إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ } زَادَ الْبُخَارِيُّ : { وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ }
( بَابُ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَيُبَاحُ لَهُ ) .
( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً مَا يَتْرُكُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ ؟ فَقَالَ لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ وَلَا الزَّعْفَرَانُ وَلَا الْخُفَّيْنِ إلَّا لِمَنْ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ } لَمْ يَقُلْ الشَّيْخَانِ { مَا يَتْرُكُ } وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ إلَّا أَحَدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد { مَا يَتْرُكُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ } وَلَفْظُ الْبَاقِينَ { مَا يَلْبَسُ } وَأَبُو دَاوُد قَدْ رَوَاهُ عَنْ أَحْمَدَ وَمُسَدَّدٍ كِلَاهُمَا عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَقَدْ بَيَّنَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ مِنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ نَفْسِهِ كَمَا فِي الْأَصْلِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا مِنْهُ قَوْلَهُ { مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ } مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَجُوَيْرِيَةَ ابْنِ أَسْمَاءَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ وَعُمَرَ بْنِ نَافِعٍ كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ نَافِعٍ وَفِيهِ { وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ } وَقَالَ الْبُخَارِيُّ تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ وَجُوَيْرِيَةُ وَأَبُو إِسْحَاقَ فِي النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ { وَلَا وَرْسَ } وَكَانَ يَقُولُ { لَا تَنْتَقِبُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ } وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { لَا تَنْتَقِبُ الْمُحْرِمَةُ } وَتَابَعَهُ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ انْتَهَى وَقَالَ أَبُو دَاوُد وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَلَى مَا قَالَ اللَّيْثُ وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ طَارِقٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ وَأَيُّوبُ مَوْقُوفًا وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَدَنِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمُحْرِمَةُ لَا تَنْتَقِبُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ } قَالَ أَبُو دَاوُد إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَدَنِيُّ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ حَدِيثٍ ثُمَّ رَوَى أَبُو دَاوُد رِوَايَةَ إبْرَاهِيمَ هَذِهِ ثُمَّ رَوَى أَبُو دَاوُد أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ : فَإِنَّ نَافِعًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، حَدَّثَنِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ
وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ مِنْ الثِّيَابِ وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مُعَصْفَرًا أَوْ خَزًّا أَوْ حُلِيًّا أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ قَمِيصًا } وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ { أَوْ خُفًّا ذَهَبًا } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِلَفْظِ { أَوْ خُفٍّ } وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إخْرَاجِ رِوَايَةِ اللَّيْثِ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ رِوَايَةَ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ الْمَرْفُوعَةَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ ذَلِكَ فَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَفَعَهُ صَحِيحٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَحَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ عَنْ شَيْخِهِ الْحَافِظِ أَبِي عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ لَا تَنْتَقِبُ إلَى آخِره مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ أُدْرِجَ فِي الْحَدِيثِ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ عَلَّلُوهُ بِأَنَّ ذِكْرَ الْقُفَّازَيْنِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِلْمَامِ هَذَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَكَأَنَّ الْحَافِظَ أَبَا عَلِيٍّ نَظَرَ إلَى الِاخْتِلَافِ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ فَإِنْ كَانَ لَيْسَ إلَّا ذَلِكَ فَالْمَسْأَلَةُ مَعْلُومَةُ الْحُكْمِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ وَإِنْ كَانَ حَصَلَ فِيهِ الطَّرِيقُ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى فَصْلِ كَلَامِ الرَّاوِي مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فَهِيَ طَرِيقٌ مُعْتَدَّةٌ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِالْقَرِينَةِ وَإِلَّا فَيُمْكِنُ أَنْ يَرْوِيَ الرَّاوِي مَا يُفْتِي بِهِ وَبِالْعَكْسِ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ قَدْ نَقَلَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِدْرَاج فَحَكَى قَوْلَهُ الْمُتَقَدِّمَ وَقَالَ عُبَيْدُ
اللَّهِ { وَلَا وَرْسَ } وَكَانَ يَقُولُ { لَا تَنْتَقِبُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ } قَالَ وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَاقَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ { وَلَا وَرْسَ } ثُمَّ قَالَ وَكَانَ يَقُولُ { لَا تَنْتَقِبُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ } ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لَكِنْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَرِينَةٌ مُخَالِفَةٌ لِهَذَا دَالَّةٌ عَلَى عَكْسِهِ وَهِيَ وَجْهَانِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ وَرَدَ إفْرَادُ النَّهْيِ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ فَذَكَرَ رِوَايَةَ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمَةَ .
( الثَّانِي ) أَنَّهُ جَاءَ النَّهْيُ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ مَبْدُوءًا بِهِ مُسْنَدًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا يَمْنَعُ الْإِدْرَاجَ فَذَكَرَ رِوَايَةَ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُتَقَدِّمَةَ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ضَعِيفٌ لِجَهَالَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْمَدَنِيِّ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَقَالَ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ ثُمَّ رَوَى لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ لَا يُتَابِعُ عَلَى رَفْعِهِ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ نَافِعٍ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ الذَّهَبِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي الْإِحْرَامِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَسَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مُقَارِبُ الْحَالِ قَالَ وَالِدِي قَدْ تَعَقَّبَ أَبُو دَاوُد الْحَدِيث بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ شُهْرَةِ رِوَايَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ فُضَيْلٍ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ وَمِنْ رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ وَإِسْنَادُهُمَا صَحِيحٌ فَفِيهِ تَرْجِيحٌ لِرِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ وَرَدٌّ لِقَوْلِ ابْنِ عَدِيٍّ إنَّهُ تَفَرَّدَ بِرَفْعِهِ ( قُلْت ) وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ رَوَاهُ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ الصَّنْعَانِيُّ وَفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فَرَفَعَاهُ قَالَ وَكُلُّ مَنْ رَفَعَهُ ثِقَةٌ ثَبْتٌ مُحْتَجٌّ بِهِ ثُمَّ قَالَ وَالِدِي وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
فَإِنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ لَا شَكَّ أَنَّهُ دُونَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ وَقَدْ فَصَلَ الْمَوْقُوفَ مِنْ الْمَرْفُوعِ وَقَوْلُهُ إنَّ هَذَا يَمْنَعُ الْإِدْرَاجَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ فِي الِاقْتِرَاحِ أَنَّهُ يُضَعِّفُهُ لَا يَمْنَعُهُ وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ فِي الْمَدْرَجِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ } فَجَعَلَ قَوْلَهُ أَسْبِغُوا مُدْرَجًا وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَرْفُوعِ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ ظَنَّهُ مَرْفُوعًا قَدَّمَهُ وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْحَدِيثِ سَائِغٌ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْمَعْنَى ا هـ كَلَامُ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَيُّوبَ { وَلَا الْقَبَاءَ } وَقَالَ هُوَ صَحِيحٌ مَحْفُوظٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَيُّوبَ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيق عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَفِيهِ { وَالْأَقْبِيَةَ } .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا وَقَالَ وَالِدِي إسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ { لَا يَلْبَسُ } الْأَشْهَرُ فِيهِ الرَّفْعَ عَلَى الْخَبَرِ وَيَجُوزُ فِيهِ الْجَزْمُ عَلَى النَّهْيِ وَهَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقٌ لِلسُّؤَالِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الَّتِي نَقَلَهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَهِيَ قَوْلُ السَّائِلِ مَا يَتْرُكُ الْمُحْرِمُ وَكَذَا هِيَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد كَمَا تَقَدَّمَ وَبِمَعْنَاهَا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ { مَا لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ } وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فَإِنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ مَا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ فَأُجِيبُ بِذِكْرِ مَا لَا يَلْبَسُهُ وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنْ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ لُبْسُهُ مَحْصُورٌ فَذِكْرُهُ أَوْلَى وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِخِلَافِ مَا يُبَاحُ لَهُ لُبْسُهُ فَإِنَّهُ
كَثِيرٌ غَيْرُ مَحْصُورٍ فَذِكْرُهُ تَطْوِيلٌ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ السَّائِلَ لَمْ يُحْسِنْ السُّؤَالَ وَأَنَّهُ كَانَ الْأَلْيَقُ السُّؤَالَ عَمَّا يَتْرُكُهُ فَعَدَلَ عَنْ مُطَابِقَتِهِ إلَى مَا هُوَ أَوْلَى ، وَبَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي يُسَمِّي هَذَا أُسْلُوبُ الْحَكِيمِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ } الْآيَةَ فَالسُّؤَالُ عَنْ جِنْسِ الْمُنْفَقِ فَعَدَلَ عَنْهُ فِي الْجَوَابِ إلَى ذِكْرِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَهَمُّ وَكَانَ اعْتِنَاءُ السَّائِلِ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ أَوْلَى وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ وَجَزْلِهِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُهُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ لَا تَلْبَسُوا كَذَا وَكَذَا فَحَصَلَ فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ الْمَذْكُورَاتِ وَيَلْبَسُ مَا عَدَاهَا فَكَانَ التَّصْرِيحُ بِمَا لَا يَلْبَسُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُنْحَصِرٌ فَأَمَّا الْمَلْبُوسُ الْجَائِزُ لِلْمُحْرِمِ فَغَيْرُ مُنْحَصِرٍ فَضَبَطَ الْجَمِيعَ بِقَوْلِهِ لَا يَلْبَسُ كَذَا وَكَذَا يَعْنِي وَيَلْبَسُ مَا سِوَاهُ ا هـ ، وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْجَوَابِ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ كَيْفَ كَانَ لَوْ بِتَغْيِيرٍ أَوْ زِيَادَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ الْمُطَابَقَةُ .
( الثَّالِثَةُ ) الْقَمِيصُ مَعْرُوفٌ وَجَمْعُهُ قُمُصٌ بِضَمِّ الْقَافِ وَالْمِيمِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُ مِيمِهِ وَهُوَ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ فِي الْجَمْعِ الَّذِي عَلَى وَزْنِ فُعُلٍ وَجَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى بِالْإِفْرَادِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْجَمْعِ وَكَذَا بَقِيَّةُ الْمَذْكُورَاتِ مَعَهُ وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْجِلْدَةِ الَّتِي هِيَ غِلَافُ الْقَلْبِ اسْمُهَا الْقَمِيصُ .
( الرَّابِعَةُ ) الْبُرْنُسُ بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَضَمِّ النُّونِ كُلُّ ثَوْبٍ رَأْسُهُ مِنْهُ مُلْتَزِقٌ بِهِ
مِنْ ذِرَاعِهِ أَوْ جُبَّةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبَا الْمَشَارِقِ وَالنِّهَايَةِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَهُوَ مِنْ الْبِرْسِ بِكَسْرِ الْبَاءِ الْقُطْنُ وَالنُّونُ زَائِدَةٌ وَقِيلَ إنَّهُ غَيْرُ عَرَبِيٍّ ا هـ ، وَحُكِيَ فِي الْمُحْكَمِ فِي الْبُرْسِ ضَمُّ الْبَاءِ أَيْضًا وَقَالَ إنَّهُ الْقُطْنُ أَوْ شَبِيهٌ بِهِ قَالَ فِي الصِّحَاحِ الْبُرْنُسُ قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ وَكَانَ النُّسَّاكُ يَلْبَسُونَهَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ .
( الْخَامِسَةُ ) نَبَّهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْبُرْنُسِ وَالْعِمَامَةِ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ سَاتِرٍ لِلرَّأْسِ مِخْيَطًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ حَتَّى الْعِصَابَةُ فَإِنَّهَا حَرَامٌ فَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهَا لِشَجَّةٍ أَوْ صُدَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ شَدَّهَا وَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ ذَكَرَهُمَا مَعًا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَغْطِيَةُ الرَّأْسِ لَا بِالْمُعْتَادِ فِي سَتْرِهِ وَلَا بِالنَّادِرِ وَسَبَقَهُ إلَى ذَلِكَ الْخَطَّابِيُّ وَذَكَرَ مِنْ النَّادِرِ الْمِكْتَلِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ إنَّ فِيهِ الْفِدْيَةَ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا تَحْرِيمَ فِي حَمْلِ الْمِكْتَلِ وَلَا فِدْيَةَ فِيهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى رَأْسِهِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ كَخُرْجِهِ وَجِرَابِهِ وَلَا يَحْمِلُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ تَطَوُّعًا وَلَا بِإِجَارَةٍ فَإِنْ فَعَلَ افْتَدَى وَلَا يَحْمِلُ لِنَفْسِهِ تِجَارَةً قَالَ أَشْهَبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَيْشُهُ ذَلِكَ .
( السَّادِسَةُ ) فِيهِ تَحْرِيمُ لُبْسِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا عَلَى الْمُحْرِمِ وَهُوَ مُجْمَع عَلَيْهِ فَنَبَّهَ بِالْقَمِيصِ عَلَى كُلِّ مَخِيطٍ أَوْ مُحِيطٍ مَعْمُولٍ عَلَى قَدْرِ الْبَدَنِ وَبِالسَّرَاوِيلِ عَلَى مَا هُوَ مَعْمُولٌ عَلَى قَدْرِ عُضْوٍ مِنْهُ وَبِالْعِمَامَةِ عَلَى السَّاتِرِ لِلرَّأْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَخِيطًا وَبِالْبُرْنُسِ عَلَى السَّاتِرِ لَهُ وَإِنْ كَانَ لُبْسُهُ نَادِرًا وَمِنْ ذَلِكَ يُفْهَمُ تَحْرِيمُ
سَتْرِ الرَّأْسِ مُطْلَقًا وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ سَتْرُ بَعْضِهِ إذَا كَانَ قَدْرًا يَقْصِدُ سَتْرَهُ لِغَرَضٍ بِخِلَافِ الْخَيْطِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَضُرُّ الِانْغِمَاسُ فِي الْمَاءِ وَالسَّتْرُ بِكَفِّهِ وَكَذَا بِيَدِ غَيْرِهِ فِي الْأَصَحِّ وَلَوْ طَلًا رَأْسَهُ بِحِنَّاءٍ وَنَحْوِهِ فَإِنْ كَانَ رَقِيقًا لَا يَسْتُرُ فَلَا فِدْيَةَ وَإِلَّا وَجَبَتْ عَلَى الْمَذْهَبِ وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ عَنْ الرُّويَانِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ تَجِبُ الْفِدْيَةُ بِتَغْطِيَةِ الْبَيَاضِ الَّذِي وَرَاءَ الْأُذُنِ وَنَبَّهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْخُفِّ عَلَى كُلِّ سَاتِرٍ لِلرِّجْلِ مِنْ مَدَاسٍ وَجُمْجُمٍ وَجَوْرَبٍ وَغَيْرِهَا وَيَقْدَحُ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُحْرِمِ فِي لُبْسِ الْخُفِّ فِي الدُّلْجَةِ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ لِغَيْرِ عَطَاءٍ إلَّا أَنَّ الطَّحَاوِيَّ رَوَى فِي بَيَانِ الْمُشْكِلِ { أَنَّ عُمَرَ رَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ خُفَّيْنِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ وَخُفٌّ أَيْضًا وَأَنْتَ مُحْرِمٌ ؟ فَقَالَ فَعَلْته مَعَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك } قَالَ وَالِدِي فَلَعَلَّ هَذَا مُسْتَنَدُ عَطَاءٍ وَيُحْتَمَلُ عَدَمُ وِجْدَانِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِلنَّعْلَيْنِ .
( السَّابِعَةُ ) تَقَدَّمَ أَنَّ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ زِيَادَةَ ذِكْرِ الْقَبَاءِ وَعَدَّهُ مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ الْمُحْرِمُ وَظَاهِرُهَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ أَمْ لَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَزُفَرُ ، وَرَخَّصَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ بِمَا إذَا أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى لُبْسِهِ عَلَى كَتِفَيْهِ لَمْ يَحْرُمْ وَبِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَبِهِ قَالَ الْخِرَقِيِّ مِنْ الْحَنَابِلَةِ .
( الثَّامِنَةُ ) جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ
إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَهَا لُبْسُ الْمَخِيطِ وَسَتْرُ الرَّأْسِ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لَهَا فَإِنَّ لَفْظَ الْمُحْرِمِ مَوْضُوعٌ لِلرَّجُلِ وَإِنَّمَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ مُحْرِمَةً وَهَذَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ لَفْظَ الذُّكُورِ لَا يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ وَلَمْ يُخَالِفْ الْحَنَابِلَةُ فِي هَذَا الْفَرْعُ لِوُرُودِ مَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ هَذَا الْحُكْمِ بِالرِّجَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ { وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ } وَهُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ إنَّمَا هُوَ لِلرِّجَالِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ لُبْسُ الْقَمِيصِ وَالدِّرْعِ وَالسَّرَاوِيلَاتِ وَالْخَمْرِ وَالْخِفَافِ انْتَهَى فَدَلَّ النَّهْيُ عَنْ الِانْتِقَابِ عَلَى تَحْرِيمِ سَتْرِ الْوَجْهِ بِمَا يُلَاقِيهِ وَيَمَسُّهُ دُونَ مَا إذَا كَانَ مُتَجَافِيًا عَنْهُ وَهَذَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِيهِ يَعْنِي النِّقَابَ ثُمَّ قَالَ وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ تَغَطِّي وَجْهَهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ وَرَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ الْمُحْرِمَةُ تُغَطِّي وَجْهَهَا إنْ شَاءَتْ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَعَلَى كَرَاهَةِ النِّقَابِ لِلْمَرْأَةِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَجْمَعِينَ إلَّا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَغَطِّي وَجْهَهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ .
وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ تَغَطِّي الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا إنْ شَاءَتْ وَرُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا لَا تَفْعَلُ وَعَلَيْهِ النَّاسُ انْتَهَى وَأَمَّا لُبْسُ الْمَرْأَةِ الْقُفَّازَيْنِ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إلَى
مَنْعِهِ وَهُوَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَطَاءٍ وَنَافِعٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ اتِّقَاؤُهُ أَحَبُّ إلَيَّ لِلْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ فِيهِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الصَّوَابُ عِنْدِي نَهْيُ الْمَرْأَةِ عَنْهُ وَوُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَيْهَا بِهِ لِثُبُوتِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى جَوَازِهِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَائِشَةَ وَعَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا انْتَهَى وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَصَحَّحَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْغَزَالِيُّ وَالْبَغَوِيُّ قَالَ الرَّافِعِيُّ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّقَلَةِ عَلَى تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهَا إذَا لَبِسَتْ الْقُفَّازَيْنِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَمَّا سَتْرُ الْمَرْأَةِ يَدَيْهَا بِغَيْرِ مَخِيطٍ كَمَا لَوْ أَخْتَضَبَتْ فَأَلْقَتْ عَلَى يَدِهَا خِرْقَةً فَوْقَ الْخِضَابِ أَوْ أَلْقَتْهَا بِلَا خِضَابٍ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُهُ وَبَعْضُهُمْ أَجْرَى فِيهِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْقُفَّازَيْنِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ إنْ لَمْ تَشُدَّ الْخِرْقَةَ جَازَ وَإِلَّا فَالْقَوْلَانِ ، فَعَلَى الْمَشْهُورِ يَكُونُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَبَّهَ بِالْقُفَّازَيْنِ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ الْمَخِيطِ أَوْ الْمُحِيطِ وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ نَبَّهَ بِهِمَا عَلَى مُطْلَقِ السَّاتِرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( التَّاسِعَةُ ) ظَاهِرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ } اسْتِوَاءَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ فِي ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ .
( الْعَاشِرَةُ ) ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ اخْتِصَاصُهَا بِذَلِكَ وَأَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ أَوَّلَ الْحَدِيثِ فِيمَا يَتْرُكُهُ الْمُحْرِمُ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهُ سَاتِرَ الْوَجْهِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ سَتْرُ وَجْهِهِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ وَفِيهِ آثَارٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إلَى مَنْعِهِ كَالرَّأْسِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَقَالُوا إذَا حَرُمَ عَلَى الْمَرْأَةِ سَتْرُ وَجْهِهَا مَعَ احْتِيَاجِهَا إلَى ذَلِكَ فَالرَّجُلُ أَوْلَى بِتَحْرِيمِهِ وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ { وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ } وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْهُ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ إنَّمَا كَانَ لِصِيَانَةِ رَأْسِهِ لَا لِقَصْدِ كَشْفِ وَجْهِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّ الْمُتَمَسِّكِينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَهُمْ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ لَا يَقُولُونَ بِبَقَاءِ أَثَرِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا فِي الرَّأْسِ وَلَا فِي الْوَجْهِ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ لَا إحْرَامَ فِي الْوَجْهِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَحِينَئِذٍ لَمْ يَقْبَلْ بِظَاهِرِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا بُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ عَلَى أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالُوا إنَّهُ لَا فِدْيَةَ فِي تَغْطِيَةِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ جَزَمَ بِهَا ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ وَبَنَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْخِلَافَ عَلَى أَنَّ التَّغْطِيَةَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ إنْ غَطَّى ثُلُثَهُ أَوْ رُبْعَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ يُغَطِّي الْمُحْرِمُ وَجْهَهُ مَا دُونَ الْحَاجِبَيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مَا دُونَ عَيْنَيْهِ وَهَذِهِ تَفْرِقَةٌ غَرِيبَةٌ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الِاحْتِيَاطَ لِكَشْفِ الرَّأْسِ
وَلَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ لِذَلِكَ وَهُوَ حَاصِلٌ بِدُونِهِ انْتَهَى .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) وَأَمَّا لُبْسُ الْقُفَّازَيْنِ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الرَّجُلِ أَيْضًا لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ السَّرَاوِيلُ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُحِيطُ بِجُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ بَلْ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي حَقِّ الْمَرْأَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) الْمُرَادُ بِاللُّبْسِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ فَلَوْ ارْتَدَى الْقَمِيصَ وَنَحْوَهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ لَابِسًا لَهُ فِي الْعُرْفِ فَإِنْ قُلْت فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَجَدَ الْقُرَّ فَقَالَ أَلْقِ عَلَيَّ ثَوْبًا يَا نَافِعُ فَأَلْقَيْت عَلَيْهِ بُرْنُسًا فَقَالَ تُلْقِي عَلَى هَذَا وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَلْبَسَهُ الْمُحْرِمُ } ؟ ( قُلْت ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا مِنْ وَرَعِهِ وَتَوَقُّفِهِ كَرِهَ أَنْ يُلْقِيَ عَلَيْهِ الْبُرْنُسَ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إنَّمَا يَكْرَهُونَ الدُّخُولَ فِيهِ وَلَكِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَعْمَلَ الْعُمُومَ فِي اللِّبَاسِ لِأَنَّ التَّغْطِيَةَ وَالِامْتِهَانَ قَدْ يُسْمَى لِبَاسًا أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى { قَوْلِ أَنَسٍ فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ } انْتَهَى وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ احْتِيَاطًا لَا لِاعْتِقَادِهِ الْوُجُوبَ وَقَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْبُرْنُسَ كَانَ مُفَرَّجًا كَالْقَبَاءِ بِحَيْثُ لَوْ قَامَ عُدَّ لَابِسًا لَهُ فَإِنَّ بَعْضَ الْبَرَانِسِ كَذَلِكَ وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِيمَا لَوْ أَلْقَى عَلَى نَفْسِهِ قَبَاءً أَوْ فَرَجِيَّةً وَهُوَ مُضْطَجَعُ أَنَّهُ إنْ أَخَذَ مِنْ بَدَنِهِ مَا إذَا قَامَ عُدَّ لَابِسَهُ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ قَامَ أَوْ قَعَدَ لَمْ يَسْتَمْسِكْ عَلَيْهِ إلَّا بِمَزِيدِ أَمْرٍ فَلَا ، انْتَهَى .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) الْوَرْسُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ فِي الصِّحَاحِ نَبْتٌ أَصْفَرُ يَكُونُ بِالْيَمَنِ يُتَّخَذُ مِنْهُ الْغَمْرَةُ لِلْوَجْهِ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ نَبْتٌ أَصْفَرُ يُصْبَغُ بِهِ ، زَادَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ لَوْنُ صَبْغِهِ بَيْنَ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ وَرَائِحَتُهُ طَيِّبَةٌ وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ شَيْءٌ أَصْفَرُ مِثْلُ الْمُلَآءِ يَخْرُجُ عَلَى الرَّمْثِ بَيْنَ آخَرِ الصَّيْفِ وَأَوَّلِ الشِّتَاءِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْسَ بِبَرِّيٍّ يُزْرَعُ سَنَةً فَيَجْلِسُ عَشْرَ سِنِينَ أَيْ يُقِيمُ فِي الْأَرْضِ لَا يَتَعَطَّلُ قَالَ وَنَبَاتُهُ مِثْلُ نَبَاتِ السِّمْسِمِ فَإِذَا جَفَّ عِنْدَ إدْرَاكِهِ تَفَتَّقَتْ خَرَائِطُهُ فَيَنْتَفِضُ مِنْهُ الْوَرْسُ انْتَهَى وَلَا تَنَافِي بَيْنَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ لَكِنَّ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ عَلَى بَعْضٍ فَلِذَلِكَ حَكَيْتهَا ، وَالرَّمْثُ مِنْ مَرَاعِي الْإِبِلِ وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْوَرْسَ طِيبٌ وَقَالَ الرَّافِعِيُّ هُوَ فِيمَا يُقَالُ أَشْهُرُ طِيبٍ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِطِيبٍ فَقَالَ وَالْوَرْسُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طِيبًا فَلَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَيِّنَ تَجَنُّبَ الطِّيبِ الْمَحْضِ وَمَا يُشْبِهُ الطِّيبَ فِي مُلَائِمَةِ الشَّمِّ وَاسْتِحْسَانِهِ انْتَهَى .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) فِيهِ تَحْرِيمُ التَّطَيُّبِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ إذَا حُرِّمَ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ فَمَا فَوْقَهُمَا كَالْمِسْكِ وَنَحْوِهِ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ وَإِذَا حَرُمَ لُبْسُ الثَّوْبِ الَّذِي مَسَّهُ أَحَدُهُمَا فَالتَّضَمُّخُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ وَهَذَا مَجْمَعٌ عَلَيْهِ قَالَ أَصْحَابُنَا وَالْمُرَادُ بِالطِّيبِ مَا يُقْصَدُ بِهِ الطِّيبُ فَأَمَّا الْفَوَاكِهُ كَالْأُتْرُجِّ وَالتُّفَّاحِ وَأَزْهَارِ الْبَرَارِيِّ كَالشِّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَنَحْوِهِمَا فَلَيْسَ بِحَرَامٍ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ لِلطِّيبِ .
( الْخَامِسَةُ عَشْرَةُ ) ظَاهِرُهُ تَحْرِيمِ لُبْسِ مَا مَسَّهُ الْوَرْسُ أَوْ الزَّعْفَرَانُ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا وَلَوْ خَفِيَتْ رَائِحَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِمُرُورِ الزَّمَانِ أَوْ غَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ أَصَابَهُ الْمَاءُ فَاحَتْ رَائِحَتُهُ حُرِّمَ اسْتِعْمَالُهُ وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ مَتَى كَانَ غَسِيلًا لَا يُنْفَضُ لَمْ يَحْرُمْ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِلطِّيبِ لَا لِلَّوْنِ وَفِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ ثَوْبٍ مَسَّهُ طِيبٌ ثُمَّ ذَهَبَ رِيحُ الطِّيبِ مِنْهُ هَلْ يُحْرِمُ فِيهِ ؟ فَقَالَ نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبُ زَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ وَفِي رِوَايَةٍ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ صِبَاغُ زَعْفَرَانٍ أَوْ وَرْسٍ قَالَ مَالِكٌ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لُبْسُ الْمُسْبِغَاتِ لِأَنَّ الْمُسْبِغَاتِ تُنْفَضُ وَفِي الْجَوَاهِرِ لِابْنِ شَاسٍ لَوْ بَطَلَتْ رَائِحَةُ الطِّيبِ لَمْ يُبَحْ اسْتِعْمَالُهُ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَرْدِيَةِ وَالْأُزُرِ تُلْبَسُ إلَّا الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ } .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَوَى يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَلْبَسُوا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَزَعْفَرَانٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ غَسِيلًا } .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ ( رَأَيْت يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَهُوَ يَتَعَجَّبُ مِنْ الْحِمَّانِيُّ كَيْفَ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ هَذَا عِنْدِي ثُمَّ وَثَبَ مِنْ فَوْرِهِ فَجَاءَ بِأَصْلِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ كَمَا قَالَ الْحِمَّانِيُّ ) ا هـ ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ رَوَى بَعْضُ النَّاسِ
فِي هَذَا أَثَرًا فَإِنْ صَحَّ وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ وَلَا نَعْلَمُهُ صَحِيحًا وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ لِبَاسُهُ أَصْلًا لِأَنَّهُ قَدْ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ الْوَرْسُ ا هـ ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : اخْتَلَفُوا فِي لُبْسِ الثَّوْبِ الَّذِي مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ فَغُسِلَ وَذَهَبَ رِيحُهُ وَنَفْضُهُ فَمِمَّنْ رَخَّصَ فِيهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَرَوَى عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ غُسِلَ وَذَهَبَ لَوْنُهُ ا هـ ، .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) مَوْرِدُ النَّصِّ فِي اللُّبْسِ فَلَوْ أَكَلَ مَا فِيهِ زَعْفَرَانٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ قَالَ أَصْحَابُنَا إنْ اسْتَهْلَكَ الطِّيبَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ طَعْمٌ وَلَا لَوْنٌ وَلَا رِيحٌ لَمْ يَحْرُمْ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ حَرُمَ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ بَقِيَتْ الرَّائِحَةُ وَحْدَهَا حَرُمَ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُعَدُّ طِيبًا وَإِنْ بَقِيَ الطَّعْمُ وَحْدَهُ فَالْأَظْهَرُ التَّحْرِيمُ وَإِنْ بَقِيَ اللَّوْنُ وَحْدَهُ فَالْأَظْهَرُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي أَكْلِ الْخَبِيصِ بِالزَّعْفَرَانِ وَقِيلَ إنْ صَبَغَ الْفَمَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَمَا خُلِطَ بِالطِّيبِ مِنْ غَيْرِ طَبْخٍ فَفِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ بِهِ رِوَايَتَانِ وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ إنْ أَكَلَ الطِّيبَ فِي طَعَامٍ قَدْ طُبِخَ وَتَغَيَّرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ وَرِيحُهُ مَوْجُودٌ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَقَدْ يُقَالُ إنَّ تَحْرِيمَ الْأَكْلِ حَيْثُ حَرُمَ مَأْخُوذٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ أَبْلَغُ فِي مُخَالَطَةِ الْجَسَدِ مِنْ اللُّبْسِ .
{ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ } ظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُ تَحْرِيمِ الطِّيبِ بِالرَّجُلِ كَالْمَذْكُورَاتِ قَبْلَهُ لَكِنَّ جَمِيعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي ذَلِكَ كَالرَّجُلِ وَهِيَ مُسَاوِيَةٌ لَهُ فِي سَائِرِ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ إلَّا فِي لُبْسِ الْمَخِيطِ وَتَقَدَّمَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَمُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ عَنْ الْقُفَّازَيْنِ وَالنِّقَابِ وَمَا مَسَّ الْوَرْسَ وَالزَّعْفَرَانَ } وَهَذَا صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ الطِّيبِ عَلَى النِّسَاءِ وَهُوَ وَاضِحٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْحِكْمَةَ فِي تَحْرِيمِ الطِّيبِ أَنَّهُ دَاعِيَةٌ إلَى الْجِمَاعِ وَلِأَنَّهُ يُنَافِي تَذَلُّلَ الْحَاجِّ فَإِنَّ الْحَاجَّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ وَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) ظَاهِرُهُ إبَاحَةُ لُبْسِ الْمُوَرَّسِ وَالْمُزَعْفَرِ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ وَهُوَ كَذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ وَيُعَارِضُهُ فِي الْمُزَعْفَرِ لِلرَّجُلِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ } قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَنْهَى الرَّجُلَ الْحَلَالَ بِكُلِّ حَالٍ أَنْ يَتَزَعْفَرَ وَآمُرُهُ إذَا تَزَعْفَرَ أَنْ يَغْسِلَهُ ، وَحَمَلَ الْخَطَّابِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ النَّهْيَ عَلَى مَا صُبِغَ مِنْ الثِّيَابِ بَعْدَ نَسْجِهِ فَأَمَّا مَا صُبِغَ ثُمَّ نُسِجَ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ ، وَحَكَى وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ حَمَلَ النَّهْيَ عَنْ التَّزَعْفُرِ عَلَى الْمُحْرِمِ قَالَ وَفِيهِ بُعْدٌ وَجَوَّزَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَمْرَيْنِ آخَرِينَ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ النَّهْيَ عَنْ لُبْسِ مَا مَسَّهُ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي جَوَابِ السُّؤَالِ عَمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ بَلْ هُوَ كَلَامٌ مُنْفَصِلٌ مُسْتَقِلٌّ ثُمَّ اسْتَبْعَدَهُ وَهُوَ حَقِيقٌ بِالِاسْتِبْعَادِ وَمِمَّا رَدَّهُ بِهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ } قَالَ فَقَيَّدَ ذَلِكَ بِالْمُحْرِمِ ( ثَانِيهِمَا ) حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى لَطْخِ الْبَدَنِ بِالزَّعْفَرَانِ دُونَ لُبْسِ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ بِهِ وَأَيَّدَهُ بِمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُزَعْفِرَ الرَّجُلُ جِلْدَهُ } .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِمَا عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ { أَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعْنَا لَهُ مَاءً يَتَبَرَّدُ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ أَتَيْته بِمِلْحَفَةٍ صَفْرَاءَ فَرَأَيْت أَثَرَ الْوَرْسِ عَلَى عُكَنِهِ } .
لَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ وَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { كَانَ
يَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ ثِيَابَهُ كُلَّهَا حَتَّى عِمَامَتَهُ } .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَفِي لَفْظٍ لَهُ ( إنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَصْبُغُ ثِيَابَهُ بِالزَّعْفَرَانِ ) وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحِ وَلَفْظُهُ { وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْبُغُ بِهَا } .
{ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ } فِيهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ إلَّا إذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ بِشَرْطِ أَنْ يَقْطَعَهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ جَوَازُ لُبْسُهُمَا بِحَالِهِمَا عِنْدَ فَقْدِ النَّعْلَيْنِ وَلَا يَجِبُ قَطْعُهُمَا وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ { مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ } وَهُمَا فِي الصَّحِيحِ وَلَيْسَ فِيهِمَا ذِكْرُ الْقَطْعِ وَزَعَمَ أَصْحَابُهُ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمُصَرِّحَ بِقَطْعِهِمَا مَنْسُوخٌ وَقَالُوا قَطْعُهُمَا إضَاعَةُ مَالٍ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : وَلَا أَدْرِي أَيُّ الْحَدِيثَيْنِ نَسَخَ الْآخَرَ اُنْظُرُوا أَيُّهُمَا قَبْلُ .
وَقَالَ الْجُمْهُورُ يَجِبُ حَمْلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لِأَنَّهُمَا مُطْلَقَانِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ زِيَادَةٌ لَمْ يَذْكُرَاهَا يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ كِلَاهُمَا صَادِقٌ حَافِظٌ وَلَيْسَ زِيَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ شَيْئًا لَمْ يُؤَدِّهِ الْآخَرُ إمَّا عَزَبَ عَنْهُ وَإِمَّا شَكَّ فِيهِ فَلَمْ يُؤَدَّ وَإِمَّا سَكَتَ عَنْهُ وَإِمَّا أَدَّاهُ فَلَمْ يُؤَدِّ عَنْهُ لِبَعْضِ هَذِهِ الْمَعَانِي اخْتَلَفَا ا هـ ، وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ مَرْدُودٌ فَإِنَّ الْإِضَاعَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَمَّا مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فَهُوَ حَقٌّ يَجِبُ الْإِذْعَانُ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُهُمَا لِأَنَّ فِي قَطْعِهِمَا إفْسَادًا ثُمَّ قَالَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ وَالْعَجَبُ مِنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُخَالِفُ سُنَّةً تَبْلُغُهُ وَقَلَّتْ سُنَّةً لَمْ تَبْلُغْهُ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَّا عَطَاءٌ فَيَهِمُ فِي الْفَتْوَى وَأَمَّا أَحْمَدُ فَعَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ قَالَ وَهَذِهِ الْقَوْلَةُ لَا أَرَاهَا صَحِيحَةً فَإِنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَصْلُ أَحْمَدَ ا هـ ، وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ فِي حَدِيثِ ابْن عَبَّاسٍ { وَإِذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ } وَلِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ هُنَا بَحْثٌ رَدَّهُ الْوَالِدُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَبَسَطَ فِيهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ .
{ الْفَائِدَةُ الْعِشْرُونَ } : ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إذَا فَعَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ مَقْطُوعَيْنِ لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ فَإِنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مَوْضِعُ بَيَانِهَا وَهُوَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَاضِحٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْتَكِبْ مَحْظُورًا وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ كَمَا إذَا احْتَاجَ إلَى حَلْقِ الرَّأْسِ يَحْلِقُهُ وَيَفْدِي .
{ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ } قَالَ الْجُمْهُورُ الْمُرَادُ بِالْكَعْبَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَيْرِهِ الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ عِنْدَ مِفْصَلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُرَادُ بِالْكَعْبِ هُنَا الْمِفْصَلُ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَنَفِيَّةُ وَلَا يُعْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ اسْتِعْمَالُ الْكَعْبِ فِي هَذَا .
" الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ " فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لُبْسُ الْخُفَّيْنِ مَقْطُوعَيْنِ إلَّا عِنْدَ فَقْدِ النَّعْلَيْنِ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَكَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ لَوْ لَبِسَ وَاجِدُ النَّعْلِ خُفًّا مَقْطُوعًا تَحْتَ الْكَعْبِ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ ، وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى جَوَازِ لُبْسِهِ مَعَ وُجُودِهِمَا لِأَنَّهُ صَارَ فِي مَعْنَاهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَحَكَاهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ
أَصْحَابِهِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ مُوَافَقَةَ مَالِكٍ وَالْجُمْهُورِ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَاَلَّذِي أَقُولُ إنَّهُ إنْ كَشَفَ الْكَعْبَ لَبِسَهُمَا إنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ وَإِنْ وَجَدَ النَّعْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ لُبْسُهُمَا حَتَّى يَكُونَا كَهَيْئَةِ النَّعْلَيْنِ لَا يَسْتُرَانِ مِنْ ظَاهِرِ الرِّجْلِ شَيْئًا .
( الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ ) هَذَا الْحُكْمُ خَاصٌّ بِالرَّجُلِ أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَهَا لُبْسُ الْخُفَّيْنِ مُطْلَقًا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِهِ قَالَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ انْتَهَى لَكِنْ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد { أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ يَعْنِي يَقْطَعُ الْخُفَّيْنِ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ ثُمَّ حَدَّثَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَدَّثَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ رَخَّصَ لِلنِّسَاءِ فِي الْخُفَّيْنِ فَتَرَكَ ذَلِكَ } وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا عَلِمْت وَهَذَا إنَّمَا كَانَ مِنْ وَرَعِ ابْنِ عُمَرَ وَكَثْرَةِ اتِّبَاعِهِ فَاسْتَعْمَلَ مَا حَفِظَ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى بَلَغَهُ فِيهِ الْخُصُوصُ .
{ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ } فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَجَابِرٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ زِيَادَةٌ لَيْسَتْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَهِيَ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ مَالِكًا فَأَنْكَرَهُ فَفِي الْمُوَطَّإِ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّا ذُكِرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ } فَقَالَ مَالِكٌ لَمْ أَسْمَعْ بِهَذَا وَلَا أَرَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ سَرَاوِيلَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ لُبْسِ السَّرَاوِيلَاتِ } فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنْ لُبْسِ الثِّيَابِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَهَا وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهَا كَمَا اسْتَثْنَى فِي الْخُفَّيْنِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخَطَّابِيُّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِمُ إزَارًا لَبِسَ السَّرَاوِيلَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ قَالَ وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ حَالَةَ وُجُودِ الْإِزَارِ وَذَكَرَ فِي حَدِيثَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ حَالَةَ الْعَدَمِ فَلَا مُنَافَاةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الرَّازِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لُبْسُهُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَأَجَابَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ ثُمَّ حَكَى عَنْ الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي التَّجْرِيدِ وَافَقُونَا عَلَى أَنَّ السَّرَاوِيلَ لَوْ كَانَ كَبِيرًا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّزِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ فَتْقٍ لَمْ يَجُزْ لُبْسُهُ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْإِزَارِ وَكَذَا لَوْ خَاطَ إزَارَهُ سَرَاوِيلَ قِطْعَةً وَاحِدَةً لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ إزَارٌ فِي نَفْسِهِ إذَا فَتَقَهُ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ لَا يَحْسُنُ الِاعْتِرَاضُ بِهَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ
لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِلْإِزَارِ فِيهِمَا وَقَدْ عَلَّلَهُ الْقُدُورِيُّ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَجُوزُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ عِنْدَ عَدَمِ وِجْدَانِ الْإِزَارِ ، فَلَيْسَ الْحَدِيثُ إذًا مَتْرُوكَ الظَّاهِرِ .
( الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ ) إنْ قُلْت مَا الْمُرَادُ بِعَدَمِ وِجْدَانِ الْإِزَارِ وَالنَّعْلَيْنِ ؟ ( قُلْت ) قَالَ الرَّافِعِيُّ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ إمَّا لِفَقْدِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَوْ لِعَدَمِ بَذْلِ الْمَالِكِ إيَّاهُ أَوْ لِعَجْزِهِ عَنْ الثَّمَنِ إنْ بَاعَهُ أَوْ الْأُجْرَةِ إنْ آجَرَهُ قَالَ وَلَوْ بِيعَ بِغَبْنٍ أَوْ نَسِيئَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهُ وَلَوْ أُعِيرَ مِنْهُ وَجَبَ قَبُولُهُ ، وَلَوْ وُهِبَ لَمْ يَجِبْ ثُمَّ قَالَ : ذَكَرَ هَذِهِ الصُّوَرَ الْقَاضِي ابْنُ كَجٍّ وَحَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنْ أَصْحَابِنَا .
( السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ ) لَمْ يَأْمُرْ بِقَطْعِ السَّرَاوِيلِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِزَارِ كَمَا فِي الْخُفِّ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَهُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ لَا يَجُوزُ لُبْسُ السَّرَاوِيلِ عَلَى حَالَةٍ إلَّا إذَا لَمْ يَتَأَتَّ فَتْقُهُ وَجَعْلُهُ إزَارًا فَإِنْ تَأَتَّى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لُبْسُهُ وَإِنْ لَبِسَهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ يُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ يَشُقُّ السَّرَاوِيلَ وَيَتَّزِرُ بِهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَالْأَصْلُ فِي الْمَالِ أَنَّ تَضْيِيعَهُ مُحَرَّمٌ وَالرُّخْصَةُ إذَا جَاءَتْ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ فَظَاهِرُهَا اللُّبْسُ الْمُعْتَادُ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ فَإِذَا فَتَقَ السَّرَاوِيلَ وَاِتَّزَرَ بِهِ لَمْ تَسْتَتِرْ الْعَوْرَةُ فَأَمَّا الْخُفُّ فَإِنَّهُ لَا يُغَطِّي عَوْرَةً وَإِنَّمَا هُوَ لِبَاسُ رِفْقٍ وَزِينَةٍ فَلَا يَشْتَبِهَانِ قَالَ وَمُرْسَلُ الْإِذْنِ فِي لِبَاسِ السَّرَاوِيل إبَاحَةٌ لَا تَقْتَضِي غَرَامَةً انْتَهَى وَحَكَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ أَنَّ غَيْرَ أَحْمَدَ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يُبِيحُ السَّرَاوِيلَ عَلَى هَيْئَتِهِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ قَالَ وَالِدِي رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامِ وَالْغَزَالِيِّ وَإِلَّا فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْجَوَازِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ الْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ اللِّبَاسِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَلِبَاسِهِ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ التَّرَفُّهِ وَيَتَّصِفَ بِصِفَةِ الْخَاشِعِ الذَّلِيلِ ، وَلْيَتَذَكَّرْ أَنَّهُ مُحْرِمٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَيَكُونُ أَقْرَبَ إلَى كَثْرَةِ أَذْكَارِهِ ، وَأَبْلَغَ فِي مُرَاقَبَتِهِ وَصِيَانَتِهِ لِعِبَادَتِهِ .
وَامْتِنَاعِهِ مِنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَلْيَتَذَكَّرْ بِهِ الْمَوْتَ وَلِبَاسَ الْأَكْفَانِ وَلْيَتَذَكَّرْ الْبَعْثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً مُهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِي
وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ ، الْغُرَابُ وَالْحَدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } .
وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنْ الدَّوَابِّ فَقَالَ خَمْسٌ لَا جُنَاحَ فِي قَتْلِهِنَّ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالْمُحْرِمِ الْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا حَدَّثَتْنِي إحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَزَادَ مُسْلِمٌ فِيهَا { وَالْحَيَّةُ } وَقَالَ وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا وَلَمْ يَقُلْ فِي أَوَّلِهِ { خَمْسٌ } .
وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ الْحَدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ الْحَيَّةُ بَدَلُ الْعَقْرَبِ وَقَالَ فِيهَا { وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ } .
وَلِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ حَدِيث ابْنِ مَسْعُودٍ { بِقَتْلِ الْمُحْرِمِ الْحَيَّةَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِهِ { الْأَمْرُ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ فِي غَارِ الْمُرْسَلَاتِ } .
وَفِي النَّسَائِيّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ { يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ السَّبُعَ الْعَادِيَ } قَالَ أَبُو دَاوُد { وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ } وَلِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ { قَالَ لِلْوَزَغِ فُوَيْسِقٌ } وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ أُمِّ شَرِيكٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا بِقَتْلِ الْأَوْزَاغِ } .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ { أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَسَمَّاهُ فُوَيْسِقًا } وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ { كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ } .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ { حِينَ أَحْرَمَ } .
وَكَذَا لِمُسْلِمٍ فِي رِوَايَةٍ وَلِلنَّسَائِيِّ حِينَ { أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ } .
وَلِلشَّيْخَيْنِ حِينَ { أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ } .
وَلِلنَّسَائِيِّ { عِنْدَ إحْلَالِهِ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّ } وَلَهُ { وَلِحِلِّهِ بَعْدَ مَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ } وَلَهُمَا { بِذَرِيرَةٍ } .
لِلْبُخَارِيِّ { بِأَطْيَبَ مَا أَجِدُ } .
وَقَالَ مُسْلِمٌ { مَا وَجَدْت } وَلَهُ { بِأَطْيَبِ الطِّيبِ } وَلَهُ { بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ } وَلِلْبُخَارِيِّ { فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَته } .
( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ ، الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ مِنْ الدَّوَابِّ فَقَالَ خَمْسٌ لَا جُنَاحَ فِي قَتْلِهِنَّ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْحَرَمِ وَالْمُحْرِمِ الْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } .
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسِقَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، الْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } .
( فِيهِمَا ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ضَمَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دِينَارٍ إلَى نَافِعٍ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ فِي إسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَفْظِهِ انْتَهَى .
( فَإِنْ قُلْت ) قَدْ ذَكَرَ مَالِكٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ دِينَارٍ تَارَةً وَلَمْ يَذْكُرْهُ أُخْرَى ( قُلْت ) لَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا فَلَهُ فِيهِ شَيْخَانِ حَدَّثَ بِهِ فِي الْأَكْثَرِ عَنْ نَافِعٍ وَتَارَةً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ وَتَارَةً عَنْهُمَا وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ فَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَحْدَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ قَالَ مُسْلِمٌ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْت (
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) إلَّا ابْنَ جُرَيْجٍ وَحْدَهُ وَقَدْ تَابَعَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ نَافِعٍ وَفِيهِ سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَتْنِي إحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ ( وَالْحَيَّةُ ) قَالَ وَفِي الصَّلَاةِ أَيْضًا وَلَا يَضُرُّ هَذَا الِاخْتِلَافُ فَالْحَدِيثُ مَقْبُولٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِوَاسِطَةِ حَفْصَةَ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ ابْنِ عُمَرَ لَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ وَهَذَا وَجْهٌ آخَرُ مِنْ الِاخْتِلَافِ عَلَى الزُّهْرِيِّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إسْنَادًا آخَرَ ثُمَّ رَوَى عَنْ الْحُمَيْدِيِّ أَنَّهُ قِيلَ لِسُفْيَانَ يَعْنِي ابْنَ عُيَيْنَةَ إنَّ مَعْمَرًا يَرْوِيهِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فَقَالَ حَدَّثَنَا وَاَللَّهِ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ مَا ذَكَرَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ { أَرْبَعٌ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ وَأَسْقَطَ الْعَقْرَبَ وَفِيهِ قُلْت لِلْقَاسِمِ أَفَرَأَيْت الْحَيَّةَ ؟ قَالَ تُقْتَلُ بِصِغَرٍ لَهَا } .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَائِشَةَ وَذَكَرَ الْحَيَّةَ بَدَلَ الْعَقْرَبِ وَقَيَّدَ فِيهَا الْغُرَابَ بِالْأَبْقَعِ وَذَكَرَ عَبْدُ الْحَقِّ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا رِوَايَةُ خَمْسٌ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ذِكْرُ الْحَيَّةِ مَحْفُوظٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ الْحَيَّةِ أَوْ الْعَقْرَبِ عَلَى الشَّكِّ وَقَالَ كَأَنَّ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ أَيْ فِي ذِكْرِ الْعَقْرَبِ أَصَحُّ لِمُوَافَقَتِهَا سَائِرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّمَا رَوَى الْحَدِيثَ فِي الْحَيَّةِ وَالذِّئْبِ مُرْسَلًا .
( الثَّانِيَةُ ) اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ هَذِهِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ إلَّا مَا شَذَّ مِمَّا سَنَحْكِيهِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : الْمَعْنَى فِيهِ كَوْنُهُنَّ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ فَكُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ وَلَا هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فَقَتْلُهُ جَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ كَمَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ فَكُلُّ مَا جَمَعَ مِنْ الْوَحْشِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُبَاحِ اللَّحْمِ فِي الْإِحْلَالِ وَأَنْ يَكُونَ يَضُرُّ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَرَ أَنْ تُقْتَلَ الْفَأْرَةُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ مَعَ ضَعْفِ ضُرِّهِمَا إذَا كَانَتْ مِمَّا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَانَ مَا جَمَعَ أَنْ لَا يُؤْكَلَ لَحْمُهُ وَضُرُّهُ أَكْثَرُ مِنْ ضُرِّهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ مُبَاحًا
انْتَهَى وَقَالَ أَصْحَابُهُ هَذَا الضَّرْبُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : ( أَحَدُهَا ) مَا يُسْتَحَبُّ قَتْلُهُ لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ وَهِيَ الْمُؤْذِيَاتُ كَالْحَيَّةِ وَالْفَأْرَةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَالذِّئْبِ وَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالدُّبِّ وَالنَّسْرِ وَالْعُقَابِ وَالْبُرْغُوثِ وَالْبَقِّ وَالزُّنْبُورِ وَالْقُرَادِ وَالْحَلَمَةِ وَالْقِرْقِسِ وَأَشْبَاهِهَا .
( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا فِيهِ نَفْعٌ وَمَضَرَّةٌ كَالْفَهْدِ وَالْعُقَابِ وَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهَا فَلَا يُسْتَحَبُّ قَتْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يُعَلِّمُ الِاصْطِيَادَ وَلَا يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَعْدُو عَلَى النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ .
( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا لَا يَظْهَرُ فِيهِ نَفْعٌ وَلَا ضَرَرٌ كَالْخَنَافِسِ وَالْجُعْلَانِ وَالدُّودِ وَالسَّرَطَانِ وَالْبُغَاثَةِ وَالرَّخَمَةِ وَالذُّبَابِ وَأَشْبَاهِهَا فَيُكْرَهُ قَتْلُهَا وَلَا يَحْرُمُ كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُهُمْ وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجْهًا أَنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُ الطُّيُورِ دُونَ الْحَشَرَاتِ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا التَّقْسِيمَ عَنْ الشَّافِعِيِّ نَفْسِهِ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيِّ عَنْهُ وَكَلَامُ الْحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ مِثْلُ كَلَامِ أَصْحَابِنَا قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ وَلَا يُضْمَنُ بِالْإِحْرَامِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ قَتْلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْذِيًا وَجَوَّزَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَكُلَّمَا عَدَا عَلَيْهِ أَوْ آذَاهُ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ أَرَادَ مَا بَدَأَ الْمُحْرِمُ فَعَدَا عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ أَرَادَ مَا طَبْعُهُ الْأَذَى وَالْعُدْوَانُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَذًى فِي الْحَالِ وَكَلَامُ ابْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ يُوَافِقُ ذَلِكَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لَا يَنْظُرُ إلَى الْمَعْنَى وَلَا يُعَدِّي بِالْقِيَاسِ لَكِنَّهُ اعْتَمَدَ أَنَّ
التَّحْرِيمَ إنَّمَا وَرَدَ فِي الصَّيْدِ فَلَا يَتَعَدَّى وَلَا ذَلِكَ لِغَيْرِهِ وَأَجَابَ عَنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسِ بِمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَقَلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ كَوْنَ الْمَعْنَى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَنَعَ الْأَكْلَ بِوَاسِطَةِ بَعْضِ الشَّارِحِينَ وَأَرَادَ بِهِ النَّوَوِيَّ ثُمَّ قَالَ وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ جَوَازَ الْقَتْلِ غَيْرُ جَوَازِ الِاصْطِيَادِ وَإِنَّمَا يَرَى الشَّافِعِيُّ جَوَازَ الِاصْطِيَادِ وَعَدَمَ وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِالْقَتْلِ لِغَيْرِ الْمَأْكُولِ .
وَأَمَّا جَوَازُ الْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ فَمَا لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ فَغَيْرُ هَذَا انْتَهَى وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ حَكَى الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِ مِنْ الطَّيْرِ كُلِّ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ قَالَ وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَ مِنْ دَوَابِّ الْأَرْضِ وَهَوَامِّهَا كُلَّ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ انْتَهَى فَصَرَّحَ بِأَنَّ لَهُ قَتْلَ مَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ مِنْ الطَّيْرِ وَالْهَوَامِّ وَقَالَ آخَرُونَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كَوْنُهُنَّ مُؤْذِيَاتٍ فَيَلْتَحِقُ بِالْمَذْكُورَاتِ كُلُّ مُؤْذٍ وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِمَالِكٍ وَلْنَذْكُرْ تَفْصِيلَ مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ تَحْرِيمَ صَيْدِ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا تَنَاوَلَهُ الْحَدِيثُ وَهُوَ هَذِهِ الْخَمْسُ قَالَ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْغُرَابَ وَالْحِدَأَةَ يُقْتَلَانِ وَإِنْ لَمْ يَبْتَدِئَا بِالْأَذَى وَرَوَى أَشْهَبُ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ ، قَالَ إلَّا أَنْ يُؤْذِيَ فَيُقْتَلَ إلَّا أَنَّهُ إنْ قَتَلَهُمَا مِنْ غَيْرِ أَذًى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : إنْ قَتَلَهُمَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَدَاهَمَا وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي قَتْلِ صِغَارِهِمَا ابْتِدَاءً وَفِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِقَتْلِهِمَا وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ الطَّيْرِ فَإِنْ لَمْ يُؤْذِ فَلَا يُقْتَلُ فَإِنْ قَتَلَ فَفِيهِ الْجَزَاءُ وَإِنْ أَذَى فَهَلْ يُقْتَلُ
أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ وَإِذَا قُلْنَا لَا يَقْتُلُ فَقَتَلَ ، فَقَوْلَانِ أَيْضًا الْمَشْهُورُ نَفْيُ وُجُوبِ الْجَزَاءِ وَقَالَ أَشْهَبُ عَلَيْهِ فِي الطَّيْرِ الْفِدْيَةُ وَإِنْ ابْتَدَأَتْ بِالضَّرَرِ وَقَالَ أَصْبَغُ مَنْ عَدَا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ فَقَتَلَهُ وَدَاهُ بِشَاةٍ ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : وَهَذَا مِنْ أَصْبَغَ غَلَطٌ وَحَمَلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلَ أَصْبَغَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى الدَّفْعِ بِغَيْرِ الْقَتْلِ ، فَأَمَّا لَوْ تَعَيَّنَ الْقَتْلُ فِي الدَّفْعِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ .
وَأَمَّا الْعَقْرَبُ وَالْحَيَّةُ وَالْفَأْرَةُ فَيُقْتَلْنَ حَتَّى الصَّغِيرُ وَمَا لَمْ يُؤْذِ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ مِنْهَا الْأَذَى إلَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ الصِّغَرِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ مِنْهَا الْأَذَى فَيُخْتَلَفُ فِي حُكْمِهَا وَهَلْ يَلْحَقُ صَغِيرُ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانِ الْمُبَاحِ الْقَتْلُ لِأَذِيَّةٍ بِصِغَارِهَا فِي جَوَازِ الْقَتْلِ ابْتِدَاءً فِيهِ خِلَافٌ ؛ وَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْكَلْبِ الْعَقُورِ الْكَلْبُ الْوَحْشِيُّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَسَدُ وَالنَّمِرُ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا وَقِيلَ الْمُرَادُ الْكَلْبُ الْإِنْسِيُّ الْمُتَّخَذُ وَعَلَى الْمَشْهُورِ يُقْتَلُ صَغِيرُ هَذِهِ وَمَا لَمْ يُؤْذِ مِنْ كَبِيرِهَا انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ قَتْلُ صِغَارِ الْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَشَنَّعَ عَلَيْهِمْ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ فِي تَفْرِقَتِهِمْ بَيْنَ صِغَارِ الْغِرْبَانِ وَالْحُدَيَّا وَبَيْنَ صِغَارِ السِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَبَيْنَ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَبَيْنَ سِبَاعِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَقَالَ هَلَّا قَاسُوا سِبَاعَ الطَّيْرِ عَلَى الْحِدَأَةِ كَمَا قَاسُوا سِبَاعَ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ عَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ ؟ ، وَقَوَّى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ التَّعْلِيلَ بِالْأَذَى عَلَى التَّعْلِيلِ بِحُرْمَةِ الْأَكْلِ فَقَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْدِيَةَ بِمَعْنَى الْأَذَى إلَى كُلِّ مُؤْذٍ قَوِيٌّ بِالْإِضَافَةِ إلَى تَصَرُّفِ الْقِيَاسَيْنِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ
الْإِيمَاءِ بِالتَّعْلِيلِ بِالْفِسْقِ وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ .
وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِحُرْمَةِ الْأَكْلِ فَفِيهِ إبْطَالُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ إيمَاءُ النَّصِّ مِنْ التَّعْلِيلِ بِالْفِسْقِ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعِلَّةِ أَنْ يَتَقَيَّدَ الْحُكْمُ بِهَا وُجُودًا وَعَدَمًا فَإِنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ وَثَبَتَ الْحُكْمُ عِنْدَ عَدَمِهَا بَطَلَ تَأْثِيرُهَا بِخُصُوصِهَا وَهُوَ خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ النَّصِّ مِنْ التَّعْلِيلِ بِهَذَا وَاقْتَصَرَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُمْ ضَمُّوا إلَيْهَا الْحَيَّةَ أَيْضًا وَهِيَ مَنْصُوصَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَضَمُّوا إلَيْهَا الذِّئْبَ أَيْضًا قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْهُمْ وَقَدْ ذُكِرَ الذِّئْبُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ الذِّئْبُ وَيُقَالُ إنَّ الذِّئْبَ فِي مَعْنَاهُ ا هـ وَعَلَى هَذَا الْأَخِيرِ فَيُقَالُ لِمَ اقْتَصَرَ فِي الْإِلْحَاقِ عَلَى الذِّئْبِ وَلِمَ لَا يُلْحِقُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ كُلَّ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ نَمِرٍ وَخِنْزِيرٍ وَدُبٍّ وَقِرْدٍ وَغَيْرِهَا وَذَكَرَ الذِّئْبَ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ الْقَاضِي ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ وَبَرَةَ قَالَ : سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الذِّئْبِ } الْحَدِيثَ .
قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ جَعَلَ الذِّئْبَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَلْبًا عَقُورًا أَيْ لِذِكْرِهِ بَدَلَهُ قَالَ وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَفِيهِ قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ( يَعْنِي الْمُحْرِمَ ) ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ .
وَقَدْ رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ مُرْسَلًا جَيِّدًا ثُمَّ رَوَاهُ كَذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ نَحْوُ قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ انْتَهَى .
وَمَحَلُّ الْمَنْعِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِيمَا عَدَا الْخَمْسَ وَالذِّئْبَ إذَا لَمْ تَبْدَأْهُ السِّبَاعُ فَإِنْ بَدَأَتْهُ فَقَتَلَهَا دَفْعًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ إلَّا زُفَرُ فَإِنَّهُ قَالَ يَلْزَمُهُ دَمٌ وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْخَمْسِ .
وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ الْمُخَالِفِينَ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَلْحَقَ الذِّئْبَ بِهَا وَعَدُّوا ذَلِكَ مِنْ مُنَاقَضَاتِهِ ثُمَّ قَالَ وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي حَكَيْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اصْطِيَادُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنْ بَقِيَّةِ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ ، وَالشَّافِعِيَّةُ يَرُدُّونَ هَذَا بِظُهُورِ الْمَعْنَى فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ الْخَمْسِ وَهُوَ الْأَذَى الطَّبِيعِيُّ وَالْعُدْوَانُ الْمُرَكَّبُ فِي هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْمَعْنَى إذَا ظَهَرَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَدَّى الْقَائِسُونَ ذَلِكَ الْحُكْمَ إلَى كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَى كَالسِّتَّةِ الَّتِي فِي الرِّبَا .
وَقَدْ وَافَقَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى التَّعْدِيَةِ فِيهَا وَإِنْ اخْتَلَفَ هُوَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يُعْدَى بِهِ قَالَ وَأَقُولُ الْمَذْكُورُ ثُمَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأَلْقَابِ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي مَفْهُومًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، فَالتَّعْدِيَةُ لَا تُنَافِي مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَهُنَا لَوْ عَدَّيْنَا لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِالْعَدَدِ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى عَوَّلَ بَعْضُ مُصَنِّفِي الْحَنَفِيَّةِ فِي التَّخْصِيصِ بِالْخَمْسِ الْمَذْكُورَاتِ أَعْنِي مَفْهُومَ الْعَدَدِ انْتَهَى .
وَفِي نَقْلِهِ الذِّئْبَ مِنْ غَيْرِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ نَظَرَ فَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِهِمْ وَمَا نَقَلَهُ عَنْ مُقْتَضَى مَذْهَبِهِمْ مِنْ مَنْعِ اصْطِيَادِ الْأَسَدِ وَنَحْوِهِ قَدْ صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِهِمْ وَقَالُوا إنَّ عَلَى قَاتِلِهِ الْجَزَاءَ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ إلَّا أَنْ يَقْتُلَهُ لِصِيَالِهِ عَلَيْهِ فَلَا
شَيْءَ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ بِقَتْلِهِ لِلدَّفْعِ عِنْدَ الصِّيَالِ لَكِنَّ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ قَالَ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلًا وَالضَّبُّ وَالْيَرْبُوعُ لَيْسَا مِنْ الْخَمْسَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ لِأَنَّهُمَا لَا يَبْتَدِئَانِ بِالْأَذَى وَلَيْسَ فِي قَتْلِ الْبَعُوضِ وَالنَّمْلِ وَالْبَرَاغِيثِ وَالْقُرَادِ شَيْءٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَيُودٍ وَلَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْبَدَنِ بَلْ هِيَ مُؤْذِيَةٌ بِطِبَاعِهَا انْتَهَى وَمُقْتَضَاهُ مُوَافَقَةُ مَنْ قَالَ إنَّهُ يُلْحَقُ بِالْمَذْكُورَاتِ كُلُّ مُؤْذٍ بِالطَّبْعِ فَإِنَّ كَوْنَ الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ لَيْسَا مِنْ الْخَمْسَةِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ لَيْسَ لَهُمَا حُكْمُهُمَا .
وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمَا لَا يَبْتَدِئَانِ بِالْأَذَى وَمُقْتَضَى ذَلِكَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِكُلِّ مَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى ثُمَّ قَوَّى ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَعُوضِ وَنَحْوِهِ وَلَا سِيَّمَا تَعْلِيلُهُ بِأَنَّهَا مُؤْذِيَةٌ بِطِبَاعِهَا ثُمَّ إنَّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللَّهُ اقْتَصَرَ فِي رَدِّ ذَلِكَ عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ وُرُودِ النَّصِّ فِيهِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ السَّبُعَ الْعَادِيَ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ وَالْفَأْرَةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْحِدَأَةَ وَالْغُرَابَ } .
لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ السَّبُعَ الْعَادِيَ وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ ؟ قَالَ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ وَالْفُوَيْسِقَةَ وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ وَالْحِدَأَةَ وَالسَّبُعَ الْعَادِيَ } .
وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ مَاجَهْ الْحِدَأَةَ وَلَا الْغُرَابَ وَزَادَ فَقِيلَ لَهُ لِمَ قِيلَ لَهَا الْفُوَيْسِقَةُ ؟ قَالَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَيْقَظَ لَهَا وَقَدْ أَخَذَتْ الْفَتِيلَةَ لِتُحْرِقَ