كتاب : طرح التثريب
المؤلف : زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ
الْعِرَاقِيُّ
الثَّانِي ) يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ بَدَلَهُ .
( وَالثَّالِثُ ) لَا يَرُدُّ بَلْ يَأْخُذُ الْأَرْشَ .
( السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) قَدْ يُقَالُ إنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَدَدًا مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْغَنَمِ أَوْ غَيْرِهَا فَوَجَدَ الْكُلَّ مُصَرًّا ، وَاخْتَارَ الرَّدَّ رَدَّ عَنْ الْمَجْمُوعِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ أَنْ نَهَى عَنْ تَصْرِيَةِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَاهَا وَسَخِطَهَا رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ .
وَظَاهِرُهُ رَدُّ الصَّاعِ مَعَ الْإِبِلِ أَوْ الْغَنَمِ لَكِنْ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً ، فَرَتَّبَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَرُدُّ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ يَرُدُّ الصَّاعَ عَنْ جَمِيعِهَا تَعَبُّدًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَمَنٍ لِلَّبَنِ وَلَا قِيمَةٍ ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْأَوَّلَ عَنْ الْأَكْثَرِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَغَيْرِهِمْ وَالثَّانِيَ عَمَّنْ اسْتَعْمَلَ ظَوَاهِرَ الْآثَارِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ الثَّانِيَ عَنْ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ وَالْأَوَّلُ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ أَوْلَى بِدَلِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَنَقَلَ ابْنُ قُدَامَةَ الْأَوَّلَ عَنْ مَذْهَبِهِمْ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ السُّبْكِيُّ لَمْ أَقِفْ لِأَصْحَابِنَا عَلَى نَقْلٍ فِي ذَلِكَ .
( السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) الْحَدِيثُ إنَّمَا وَرَدَ فِيمَا إذَا رَدَّهَا بِسَبَبِ التَّصْرِيَةِ فَلَوْ رَدَّهَا بِسَبَبٍ آخَرَ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ صُورَتَيْنِ ( إحْدَاهُمَا ) أَنْ تَكُونَ مُصَرَّاةً وَرَضِيَ بِإِمْسَاكِهَا كَذَلِكَ ثُمَّ اطَّلَعَ بِهَا عَلَى عَيْبٍ قَدِيمٍ فَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّهَا وَيَرُدُّ بَدَلَ اللَّبَنِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ .
( الثَّانِيَةُ ) أَنْ لَا تَكُونَ مُصَرَّاةً فَيَحْلُبَ
لَبَنَهَا ثُمَّ يَرُدَّهَا بِعَيْبٍ .
فَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي التَّهْذِيبِ : يَرُدُّ بَدَلَ اللَّبَنِ صَاعًا كَالْمُصَرَّاةِ وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ بَدَلَ اللَّبَنِ ؛ لِأَنَّهُ قَلِيلٌ غَيْرُ مُعْتَنًى بِجَمْعِهِ بِخِلَافِ الْمُصَرَّاةِ وَرَأَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَخْرِيجَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّبَنَ هَلْ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنْ الثَّمَنِ أَمْ لَا فَإِنْ قُلْنَا يَأْخُذُ وَهُوَ الْأَصَحُّ رَدَّ بَدَلَهُ ، وَإِلَّا فَلَا وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ الْحَدِيثَ يَدُلُّ عَلَى رَدِّ الصَّاعِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهَا مُصَرَّاةٌ وَقَدْ سَخِطَهَا لَكِنَّهُ لَمْ يَسْخَطْهَا ؛ لِأَجْلِ التَّصْرِيَةَ بَلْ لِسَبَبٍ آخَرَ .
وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْحَدِيثُ وَالْقِيَاسُ فِي مِثْلِ هَذَا بَعِيدٌ وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْحَاجِبِ الْمَالِكِيِّ فَلَوْ رَدَّ بِعَيْبٍ غَيْرِهِ فَفِي الصَّاعِ قَوْلَانِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الصُّورَةَ الْأُولَى أَوَالثَّانِيَةَ أَوْ هُمَا مَعًا وَكَذَا عِبَارَةُ ابْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ فَإِنْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ غَيْرِ التَّصْرِيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ التَّمْرِ وَلَا شَيْءَ غَيْرَ اللَّبَنِ الَّذِي كَانَ فِي ضَرْعِهَا إذَا اشْتَرَاهَا .
( الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) اعْتَلَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي مُخَالَفَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَمْرَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ مَنْسُوخٌ وَاخْتُلِفَ فِي نَاسِخِهِ فَقِيلَ هُوَ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } وَجَوَابُهُ أَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْعُقُوبَاتِ ، وَأَنَّ شَرْطَ النَّسْخِ مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا يَقِينٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَيُعْرَفُ التَّارِيخُ فَالْآيَةُ عَامَّةٌ وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ خَاصَّةٌ وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَقِيلَ : إنَّ النَّاسِخَ لَهُ مَا نَسَخَ الْعُقُوبَاتِ فِي الْغَرَامَاتِ بِأَكْثَرَ مِنْ الْمِثْلِ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ مَعَ شَطْرِ مَالِهِ ، وَفِي
سَارِقِ التَّمْرِ مِنْ غَيْرِ الْجَرِينِ غَرَامَةٌ مِثْلِيَّةٌ وَجَلَدَاتٌ تُكَالُ وَنَحْوُ ذَلِكَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا يُوهِمُ ، وَسِعْرُ اللَّبَنِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَرْخَصُ مِنْ سِعْرِ التَّمْرِ ، وَالتَّصْرِيَةُ وُجِدَتْ مِنْ الْبَائِعِ لَا مِنْ الْمُشْتَرِي فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّصْرِيَةِ لَأَشْبَهَ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلْمُشْتَرِي بِلَا شَيْءٍ أَوْ بِمَا يَنْقُصُ عَنْ قِيمَةِ اللَّبَنِ بِكُلِّ حَالٍ لَا بِمَا قَدْ تَكُونُ قِيمَتُهُ مِثْلَ قِيمَةِ اللَّبَنِ أَوْ أَكْثَرَ بِكَثِيرٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ رَدُّ مَا كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْبَيْعِ دُونَ مَا حَدَثَ بَعْدَهُ وَهَلَّا جَعَلَهُ شَبِيهًا بِقَضَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ حِينَ لَمْ يُوقَفْ عَلَى حَدِّهِ فَقَضَى فِيهِ بِأَمْرٍ يَنْتَهِي إلَيْهِ ؛ ثُمَّ مَنْ أَخْبَرَهُ بِأَنَّ قَضَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُصَرَّاةِ كَانَ قَبْلَ نَسْخِ الْعُقُوبَاتِ فِي الْأَمْوَالِ حَتَّى يَجْعَلَهُ مَنْسُوخًا ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ أَوَاخِرِ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَمَلَ خَبَرَ التَّصْرِيَةِ عَنْهُ فِي آخَرِ عُمُرِهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَفْتَى بِهِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَوْ صَارَ إلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَعَهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا لَكَانَ أَوْلَى بِهِ مِنْ دَعْوَى النَّسْخِ بِالتَّوَهُّمِ .
انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي ادِّعَاءِ النَّسْخِ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ إثْبَاتُ النَّسْخِ بِالِاحْتِمَالِ وَهُوَ غَيْرُ سَائِغٍ ، وَقِيلَ نَسَخَهُ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْمُصَرَّاةِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي ، وَإِذَا أَلْزَمْنَاهُ فِي ذِمَّتِهِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ كَانَ الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ نَسِيئَةً وَدَيْنًا بِدَيْنٍ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَهَذَا مِنْ الضَّرْبِ الَّذِي تُغْنِي حِكَايَتُهُ عَنْ جَوَابِهِ أَيْ بَيْعٌ جَرَى بَيْنَهُمَا
عَلَى اللَّبَنِ بِالتَّمْرِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ؟ وَمِنْ أَتْلَفَ عَلَى غَيْرِهِ شَيْئًا فَالْمُتْلِفُ غَيْرُ حَاضِرٍ وَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ مِنْ الضَّمَانِ غَيْرُ حَاضِرٍ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ دَيْنًا بِدَيْنٍ حَتَّى لَا نُوجِبَ الضَّمَانَ ، وَنَعْدِلَ عَنْ إيجَابِ الضَّمَانِ إلَى حُكْمٍ آخَرَ ، وَقَدْ يَكُونُ مَا حَلَبَهُ مِنْ اللَّبَنِ حَاضِرًا عِنْدَهُ فِي آنِيَتِهِ أَفَيُجْعَلُ ذَلِكَ مَحَلَّ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ أَوْ يَكُونُ خَارِجًا مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ ، وَذَلِكَ الْحَدِيثُ لَوْ كَانَ يُصَرِّحُ بِنَسْخِ حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الزَّيْدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمُوسَى هُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ كَيْفَ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِ مِمَّا يُوهِمُ قَائِلَ هَذَا شَيْءٌ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
انْتَهَى .
وَقِيلَ نَسَخَهُ حَدِيثُ الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ وَالْمُشْتَرِي ضَامِنٌ لِمَا اشْتَرَاهُ بِخَرَاجِهِ لَهُ فَكَيْفَ يَغْرَمُ بَدَلَهُ لِلْبَائِعِ ؟ وَجَوَابُهُ : أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ وَرَدَ شَيْءٌ مَخْصُوصٌ وَبِتَقْدِيرِ عُمُومِهِ فَالْمُشْتَرِي لَمْ يَغْرَمْ بَدَلَ مَا حَدَثَ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنَّمَا غَرِمَ بَدَلَ اللَّبَنِ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ .
( الْأَمْرُ الثَّانِي ) قَالُوا إنَّهُ مُخَالِفٌ لِقِيَاسِ الْأُصُولِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ الْأُصُولِ أَنَّ ضَمَانَ الْمِثْلِيَّاتِ بِالْمِثْلِ وَضَمَانَ الْمُقَوَّمَاتِ بِالْقِيمَةِ مِنْ النَّقْدَيْنِ فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ مِثْلِيًّا فَيَنْبَغِي ضَمَانُ مِثْلِهِ لَبَنًا ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ مِنْ النَّقْدَيْنِ وَقَدْ ضُمِنَ هُنَا بِالتَّمْرِ ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْأَصْلَيْنِ مَعًا .
( الثَّانِي ) أَنَّ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ بِقَدْرِ التَّالِفِ وَهُنَا ضُمِنَ اللَّبَنُ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الصَّاعُ قَلَّ اللَّبَنُ أَوْ كَثُرَ .
( الثَّالِثُ ) أَنَّ اللَّبَنَ التَّالِفَ إنْ كَانَ
مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَقَدْ ذَهَبَ جُزْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الرَّدِّ كَمَا لَوْ ذَهَبَ بَعْضُ أَعْضَاءِ الْمَبِيعِ ثُمَّ ظَهَرَ عَيْبٌ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ ، وَإِنْ كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الشِّرَاءِ فَقَدْ حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَضْمَنُهُ ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِطًا بِمَا كَانَ مَوْجُودًا مِنْهُ عِنْدَ الْعَقْدِ مَنَعَ الرَّدَّ وَمَا كَانَ حَادِثًا لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ .
( الرَّابِعُ ) إثْبَاتُ الْخِيَارِ ثَلَاثًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ مُخَالِفٍ لِلْأُصُولِ فَإِنَّ الْخِيَارَاتِ الثَّابِتَةَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لَا تَتَقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارِ الْمَجْلِسِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِمَا .
( الْخَامِسُ ) يَلْزَمُ مَنْ يَقُولُ بِظَاهِرِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ لِلْبَائِعِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الشَّاةِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَيْهِ مَعَ الصَّاعِ الَّذِي هُوَ مِقْدَارُ ثَمَنِهَا .
( السَّادِسُ ) أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَاعِدَةِ الرِّبَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَى شَاةً بِصَاعٍ فَإِذَا اسْتَرَدَّ مَعَهَا صَاعَ تَمْرٍ فَقَدْ اسْتَرْجَعَ الصَّاعَ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ صَاعًا وَشَاةً وَذَلِكَ مِنْ الرِّبَا عِنْدَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَمْنَعُونَ مِثْلَ ذَلِكَ .
( السَّابِعُ ) إذَا كَانَ اللَّبَنُ بَاقِيًا لَمْ يُكَلَّفْ رَدَّهُ عِنْدَكُمْ فَإِذَا أَمْسَكَهُ فَالْحُكْمُ كَمَا لَوْ تَلِفَ فَيَرُدُّ الصَّاعَ وَفِي ذَلِكَ ضَمَانُ الْأَعْيَانِ مَعَ بَقَائِهَا وَالْأَعْيَانُ لَا تُضْمَنُ بِالْبَدَلِ إلَّا مَعَ فَوَاتِهَا كَالْمَغْصُوبِ وَسَائِرِ الْمَضْمُونَاتِ .
( الثَّامِنُ ) قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ أَثْبَتَ الرَّدَّ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ وَلَا شَرْطٍ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ اللَّبَنِ لَوْ كَانَ عَيْبًا لَثَبَتَ بِهِ الرَّدُّ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيَةٍ وَلَا يَثْبُتُ الرَّدُّ فِي الشَّرْعِ إلَّا بِعَيْبٍ أَوْ شَرْطٍ ذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّمَانِيَةَ ، وَأَنَّهُمْ رَتَّبُوا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ
إذَا خَالَفَ قِيَاسَ الْأُصُولِ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ ، وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ ثُمَّ قَالَ : وَأَجَابَ الْقَائِلُونَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ بِالطَّعْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ مَعًا أَعْنِي أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ ، وَأَنَّهُ إذَا خَالَفَ الْأُصُولَ لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ .
( أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ ) فَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ وَمُخَالَفَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ وَخَصَّ الرَّدَّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِمُخَالَفَةِ الْأُصُولِ لَا لِمُخَالَفَةِ قِيَاسِ الْأُصُولِ وَهَذَا الْخَبَرُ إنَّمَا يُخَالِفُ قِيَاسَ الْأُصُولِ .
قَالَ : وَفِي هَذَا نَظَرٌ قَالَ : وَسَلَكَ آخَرُونَ تَخْرِيجَ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهَا أَمَّا الْأَوَّلُ : فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَمِيعَ الْأُصُولِ تَقْتَضِي الضَّمَانَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَإِنَّ الْحُرَّ يُضْمَنُ بِالْإِبِلِ وَلَيْسَتْ بِمِثْلٍ لَهُ وَلَا قِيمَةٍ وَالْجَنِينُ يُضْمَنُ بِالْغُرَّةِ وَلَيْسَتْ بِمِثْلٍ لَهُ وَلَا قِيمَةٍ ، وَأَيْضًا فَقَدْ يُضْمَنُ الْمِثْلِيُّ بِالْقِيمَةِ إذَا تَعَذَّرَتْ الْمُمَاثَلَةُ كَمَنْ أَتْلَفَ شَاةً لَبُونًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا مَعَ اللَّبَنِ وَلَا يُجْعَلُ بِإِزَاءِ لَبَنِهَا لَبَنٌ آخَرُ ؛ لِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا تَتَحَقَّقُ مُمَاثَلَةُ مَا يَرُدُّهُ مِنْ اللَّبَنِ عِوَضًا عَنْ اللَّبَنِ التَّالِفِ فِي الْقَدْرِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَقَلَّ .
( قُلْتُ ) وَوَجَدْنَا بَعْضَ الْمِثْلِيَّاتِ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ وَبَعْضَ الْمُتَقَوِّمَاتِ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ وَبَعْضُ الْأَشْيَاءِ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ مَعًا وَبَعْضُ الْمُتَقَوِّمَاتِ يُضْمَنُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ وَوَجَدْنَا صُورَةً يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَضْمُونُ بِحَسَبِ الضَّامِنِ ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ بِتَفَاصِيلِهِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : أَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ السُّنَّةَ إذَا وَرَدَتْ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهَا بِالْمَعْقُولِ .
وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فِي تَقْيِيدِهِ بِصَاعِ التَّمْرِ فَلِأَنَّهُ كَانَ غَالِبَ قُوتِهِمْ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ فَاسْتَمَرَّ حُكْمُ الشَّرْعِ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ مِثْلُهُ وَلَا قِيمَتُهُ بَلْ وَجَبَ صَاعٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ حَدًّا يَرْجِعُ إلَيْهِ وَيَزُولُ بِهِ التَّخَاصُمُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرِيصًا عَلَى رَفْعِ الْخِصَامِ وَالْمَنْعِ مِنْ كُلِّ مَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ .
وَقَدْ يَقَعُ بَيْعُ الْمُصَرَّاةِ فِي الْبَوَادِي وَالْقُرَى وَفِي مَوَاضِعَ لَا يُوجَدُ بِهَا مَنْ يَعْرِفُ الْقِيمَةَ وَيُعْتَمَدُ قَوْلُهُ فِيهَا .
وَقَدْ يَتْلَفُ اللَّبَنُ وَيَتَنَازَعُونَ فِي قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ وَفِي عَيْنِهِ فَجَعَلَ الشَّرْعُ لَهُمْ ضَابِطًا لَا نِزَاعَ مَعَهُ وَهُوَ صَاعُ تَمْرٍ وَنَظِيرُ هَذَا الدِّيَةُ فَإِنَّهَا مِائَةُ بَعِيرٍ وَلَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْقَتِيلِ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ وَمِثْلُهُ الْغُرَّةُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْجَنِينِ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى تَامَّ الْخِلْقَةِ أَوْ نَاقِصَهَا جَمِيلًا أَوْ قَبِيحًا ، وَمِثْلُهُ الْجُبْرَانُ فِي الزَّكَاةِ بَيْنَ السِّنِينَ جَعَلَهُ الشَّرْعُ شَاتَيْنِ أَوْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا قَطْعًا لِلنِّزَاعِ سَوَاءٌ كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ وَآخَرُونَ نَحْوَ هَذَا الْمَعْنَى .
انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ( وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي ) فَقِيلَ فِي جَوَابِهِ : إنَّ بَعْضَ الْأُصُولِ لَا يَتَقَدَّرُ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ كَالْمُوضِحَةِ فَإِنَّ أَرْشَهَا مُقَدَّرٌ مَعَ اخْتِلَافِهَا بِالْكِبْرِ وَالصِّغَرِ ، وَالْجَنِينُ مُقَدَّرٌ وَلَا يَخْتَلِفُ أَرْشُهُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَاخْتِلَافِ الصِّفَاتِ ، وَالْحُرُّ دِيَتُهُ مَقْدِرَةٌ ، وَإِنْ اخْتَلَفَ بِالصِّغَرِ وَالْكِبْرِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ ، وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ مَا يَقَعُ فِيهِ التَّنَازُعُ وَالتَّشَاجُرُ يَقْصِدُ قَطْعَ النِّزَاعِ فِيهِ بِتَقْدِيرِهِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَتُقَدَّمُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ .
قَالَ : ( وَأَمَّا الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ ) فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ : مَتَى يَمْتَنِعُ الرَّدُّ بِالنَّقْصِ إذَا
كَانَ النَّقْصُ لِاسْتِعْلَامِ الْعَيْبِ أَوْ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ مَمْنُوعًا وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ .
وَأَمَّا ( الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ ) فَإِنَّمَا يَكُونُ الشَّيْءُ مُخَالِفًا لِغَيْرِهِ إذَا كَانَ مُمَاثِلًا لَهُ وَخُولِفَ فِي حُكْمٍ وَهَا هُنَا هَذِهِ الصُّورَةُ انْفَرَدَتْ عَنْ غَيْرِهَا بِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ هِيَ الَّتِي يَتَبَيَّنُ فِيهَا لَبَنُ الْحَلْبَةِ الْمُجْتَمِعُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ ، وَاللَّبَنُ الْمُجْتَمِعُ بِالتَّدْلِيسِ فَهِيَ مُدَّةٌ يَتَوَقَّفُ عِلْمُ الْغَيْبِ عَلَيْهَا غَالِبًا بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ لَيْسَ لِاسْتِعْلَامِ عَيْبٍ .
وَأَمَّا ( الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسُ ) فَقَدْ قِيلَ فِيهِ : إنَّ الْخَبَرَ وَارِدٌ عَلَى الْعَادَةِ وَالْعَادَةُ أَنْ لَا تُبَاعَ شَاةٌ بِصَاعٍ وَفِي هَذَا ضَعْفٌ .
وَقِيلَ : إنَّ صَاعَ التَّمْرِ بَدَلٌ عَنْ اللَّبَنِ لَا عَنْ الشَّاةِ فَلَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ ( قُلْت ) هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الْجَوَابِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : وَأَمَّا ( الِاعْتِرَاضُ السَّادِسُ ) فَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ أَنَّ الرِّبَا إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْعُقُودِ لَا فِي الْفُسُوخِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا ذَهَبًا بِفِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَلَوْ تَقَابَلَا فِي هَذَا الْعَقْدِ لَجَازَ أَنْ يَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَأَمَّا ( الِاعْتِرَاضُ السَّابِعُ ) فَجَوَابُهُ فِيمَا قِيلَ إنَّ اللَّبَنَ الَّذِي كَانَ فِي الضَّرْعِ حَالَ الْعَقْدِ يَتَعَذَّرُ رَدُّهُ لِاخْتِلَاطِهِ بِاللَّبَنِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَأَحَدُهُمَا لِلْبَائِعِ وَالْآخَرُ لِلْمُشْتَرِي ، وَتَعَذُّرُ الرَّدِّ لَا يَمْنَعُ مِنْ الضَّمَانِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ كَمَا لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ .
وَأَمَّا ( الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنُ ) فَقِيلَ فِيهِ إنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ بِالتَّدْلِيسِ وَهَذَا مِنْهُ .
قَالَ : وَأَمَّا ( الْمَقَامُ الثَّانِي ) وَهُوَ
النِّزَاعُ فِي تَقْدِيمِ قِيَاسِ الْأُصُولِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فَقِيلَ فِيهِ : إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَوْجَبَ اعْتِبَارَ الْأُصُولِ نَصُّ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَيْهَا ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْقِيَاسِ عَلَى الْأُصُولِ بِاعْتِبَارِ الْقَطْعِ وَكَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مَظْنُونًا فَيَتَنَاوَلُ الْأَصْلَ لِمَحَلِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ ؛ لِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ مَحَلِّ الْخَبَرِ عَنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ .
قَالَ : وَعِنْدِي أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذَا الْكَلَامِ أَقْوَى مِنْ التَّمَسُّكِ بِالِاعْتِذَارَاتِ عَنْ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى مَا إذَا اشْتَرَى شَاةً بِشَرْطِ أَنَّهَا تَحْلُبُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ مَثَلًا ، وَشَرَطَ الْخِيَارَ فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى إسْقَاطِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ صَحَّ الْعَقْدُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا بَطَلَ .
وَأَمَّا رَدُّ الصَّاعِ فَلِأَنَّهُ كَانَ قِيمَةُ اللَّبَنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِالتَّصْرِيَةِ ، وَمَا ذُكِرَ يَقْتَضِي تَعْلِيقَهُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ سَوَاءٌ وُجِدَتْ تَصْرِيَةٌ أَمْ لَا .
انْتَهَى .
( التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ ) قَوْلُهُ فِي أَحَدِ لَفْظَيْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَا سَمْرَاءَ ) تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ السَّمْرَاءَ وَهِيَ الْقَمْحُ لَا تُجْزِئُ فِي هَذَا ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ لِفَهْمِ غَيْرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ أَغْلَى الْأَقْوَاتِ ، وَأَنْفَسُهَا فَإِذَا لَمْ يُجْزِئْ فَغَيْرُهُ أَوْلَى بِذَلِكَ وَقَوْلُهُ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ ( صَاعًا مِنْ طَعَامٍ لَا سَمْرَاءَ ) يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالطَّعَامِ الْمَذْكُورِ فِيهِ التَّمْرَ بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَعَلَى هَذَا مَشَى الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ : الْمُرَادُ بِالطَّعَامِ الْمَذْكُورِ فِيهِ التَّمْرُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ
مُطْلَقَ الطَّعَامِ ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْهُ السَّمْرَاءَ وَخَرَّجَ مَا هُوَ أَدْوَنُ مِنْهَا مِنْ الْأَقْوَاتِ وَالْخُضَرِ لِلْأَمْرِ فِي التَّمْرِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَهَذَا الِاحْتِمَالُ يَعُودُ فِي الْمَعْنَى لِلَّذِي قَبْلَهُ لَكِنَّهُ يُخَالِفُهُ فِي التَّقْدِيرِ .
( الْخَمْسُونَ ) نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ اشْتَرَى نَخْلًا وَفِيهَا ثَمَرٌ قَدْ أُبِّرَ أَوْ أَمَةً حَامِلًا فَأَكَلَ الثَّمَرَ أَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ ثُمَّ رَدَّ النَّخْلَ أَوْ الْأَمَةَ بِعَيْبٍ أَنَّهُ يَرُدُّ قِيمَةَ التَّالِفِ ؛ لِأَنَّ لَهُ حِصَّةً مِنْ الثَّمَنِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُصَرَّاةِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَخَالَفَهُ أَشْهَبُ فِي الثَّمَرَةِ ، وَقَالَ : الثَّمَرَةُ لِلْمُشْتَرِي بِالضَّمَانِ .
قَالَ : وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ يَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ .
انْتَهَى .
وَمُرَادُهُ فِي الثَّمَرِ الْمُؤَبَّرِ أَنَّهُ صَرَّحَ بِإِدْخَالِهِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَكُونُ لِلْبَائِعِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُمْنَعُ الرَّدُّ بِالْقَهْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ .
وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ أَوْ تَنَاجَشُوا أَوْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَوْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا أَوْ إنَائِهَا وَلِتَنْكِحَ فَإِنَّمَا رِزْقُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
( الْحَدِيثُ الرَّابِعُ ) وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ أَوْ تَنَاجَشُوا أَوْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَوْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا وَلِتُنْكَحَ فَإِنَّمَا رِزْقُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ ( أَوْ تَنَاجَشُوا ) وَكَذَا فِي رِوَايَتِنَا وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كُلٌّ مِنْهَا عَلَى انْفِرَادِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَأَوْ فِيهِ بِمَعْنَى الْوَاوِ ، وَالتَّقْدِيرُ نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ ، وَأَنْ تَنَاجَشُوا وَيَدُلُّ لِذَلِكَ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ ( نَهَى أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ .
وَلَا تَنَاجَشُوا ) وَكَذَا أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ أَوْ يَخْطُبَ أَوْ يَبِيعَ وَقَوْلُهُ يَخْطُبَ وَيَبِيعَ مَنْصُوبَانِ بِتَقْدِيرِ أَنْ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْخِطْبَةُ هُنَا بِكَسْرِ الْخَاءِ .
وَأَمَّا الْخُطْبَةُ فِي الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا فَبِضَمِّهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَا تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ ) بِكَسْرِ اللَّامِ عَلَى النَّهْيِ وَكُسِرَتْ اللَّامُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنِينَ وَيَدُلُّ لَهُ عَطْفُهُ الْأَمْرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ ( وَلْتَنْكِحْ ) عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ سَنَحْكِيهِمَا وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ يَجُوزُ فِي تَسْأَلْ الرَّفْعُ وَالْكَسْرُ الْأَوَّلُ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ وَلَا يَخْطُبُ وَلَا يَسُومُ وَالثَّانِي عَلَى النَّهْيِ الْحَقِيقِيِّ وَقَوْلُهُ ( لِتَكْتَفِئَ ) هُوَ افْتِعَالٌ مِنْ كَفَأْت الْإِنَاءَ إذَا قَلَبْته ، وَأَفْرَغْت مَا فِيهِ .
وَأَمَّا أَكْفَأْت الْإِنَاءَ فَهُوَ بِمَعْنَى أَمَلْته هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِيهِمَا ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ : أَكْفَأْت
الْإِنَاءَ كَبَبْتُهُ ، وَأَكْفَأْتُهُ أَمَلْتُهُ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ خِطْبَةِ الرَّجُلِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَهَذَا النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هُوَ نَهْيُ تَأْدِيبٍ وَلَيْسَ بِنَهْيِ تَحْرِيمِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ .
( قُلْت ) كَأَنَّ الْخَطَّابِيَّ فَهِمَ مِنْ كَوْنِ الْعَقْدِ لَا يَبْطُلُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النَّهْيَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ لِلتَّحْرِيمِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْفُقَهَاءُ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمُتَنَوِّعَةِ ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى التَّحْرِيمِ بِشُرُوطِهِ .
( الرَّابِعَةُ ) قَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : مَحَلُّ التَّحْرِيمِ مَا إذَا صُرِّحَ لِلْخَاطِبِ بِالْإِجَابَةِ بِأَنْ يَقُولَ أَجَبْتُك إلَى ذَلِكَ أَوْ يَأْذَنَ لِوَلِيِّهَا فِي أَنْ يُزَوِّجَهَا إيَّاهُ وَهِيَ مُعْتَبَرَةُ الْإِذْنِ فَلَوْ لَمْ يَقَعْ التَّصْرِيحُ بِالْإِجَابَةِ لَكِنْ وُجِدَ تَعْرِيضٌ كَقَوْلِهَا لَا رَغْبَةَ عَنْك فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : تَجُوزُ .
وَحَكَى وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ تَحْرِيمَ الْخِطْبَةِ عِنْدَ التَّعْرِيضِ أَيْضًا ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ التَّعْرِيضِ وَتَصْحِيحِ التَّحْرِيمِ : وَاسْتَدَلُّوا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا هُوَ إذَا حَصَلَتْ الْإِجَابَةُ بِحَدِيثِ { فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَإِنَّهَا قَالَتْ خَطَبَنِي مُعَاوِيَةُ ، وَأَبُو جَهْمٍ فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِطْبَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بَلْ خَطَبَهَا لِأُسَامَةَ } قَالَ النَّوَوِيُّ : وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ فَيُقَالُ لَعَلَّ الثَّانِيَ لَمْ يَعْلَمْ بِخِطْبَةِ الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ
بِأُسَامَةَ لَا أَنَّهُ خَطَبَ لَهُ .
انْتَهَى .
وَقَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ لَعَلَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهَا مَا فِي أَبِي جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةَ مِمَّا يُرَغِّبُ عَنْهُمَا رَغِبَتْ عَنْهُمَا فَخَطَبَهَا حِينَئِذٍ عَلَى أُسَامَةَ ، وَقَالَ أَيْضًا : فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ أَبِي الْجَهْمِ وَمُعَاوِيَةَ أُجِيبَ لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا .
( قُلْت ) وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ فِي صُورَةِ التَّعْرِيضِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَا وَالرُّكُونِ فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ هَذَا عِنْدَنَا إذَا خَطَبَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فَرَضِيَتْ بِهِ وَرَكَنَتْ إلَيْهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ .
وَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ رِضَاهَا أَوْ رُكُونَهَا إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَخْطُبَهَا وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَذَكَرَهُ ثُمَّ قَالَ فَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَنَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ فَاطِمَةَ لَمْ تُخْبِرْهُ بِرِضَاهَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَوْ أَخْبَرَتْهُ لَمْ يُشِرْ عَلَيْهَا بِغَيْرِ الَّذِي ذَكَرَتْ .
انْتَهَى .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَلَوْ رَدَّتْهُ فَلِلْغَيْرِ خِطْبَتُهَا قَطْعًا وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ إجَابَةٌ وَلَا رَدٌّ فَقَطَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِالْجَوَازِ ، وَأَجْرَى بَعْضُهُمْ فِيهِ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ قَالُوا وَيَجُوزُ الْهُجُومُ عَلَى خِطْبَةِ مَنْ لَمْ يَدْرِ أَخُطِبَتْ أَمْ لَا ؛ وَمَنْ لَمْ يَدْرِ أُجِيبَ خَاطِبُهَا أَمْ رُدَّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : إنْ لَمْ يَعْلَمْ أُجِيبَ أَمْ لَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ ؛ قَالَ أَصْحَابُنَا : وَالْمُعْتَبَرُ رَدُّ الْوَلِيِّ ، وَإِجَابَتُهُ إنْ كَانَتْ مُجْبَرَةً ، وَإِلَّا فَرَدُّهَا ، وَإِجَابَتُهَا ؛ وَفِي الْأَمَةِ رَدُّ السَّيِّدِ ، وَإِجَابَتُهُ وَفِي الْمَجْنُونَةِ رَدُّ السُّلْطَانِ ، وَإِجَابَتُهُ .
وَقَالَ
شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ هَذَا الْإِطْلَاقُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْخَاطِبُ غَيْرُ كُفْءٍ يَكُونُ النِّكَاحُ مُتَوَقِّفًا عَلَى رِضَى الْوَلِيِّ وَالْمَرْأَةِ مَعًا وَحِينَئِذٍ فَيُعْتَبَرُ فِي تَحْرِيمِ الْخِطْبَةِ إجَابَتُهُمَا مَعًا وَفِي الْجَوَازِ رَدُّهُمَا أَوْ رَدُّ أَحَدِهِمَا .
قَالَ : وَأَيْضًا فَيَنْبَغِي فِيمَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا أَنْ يَكُونَ الِاعْتِبَارُ بِالْوَلِيِّ مُخَرَّجًا عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إذَا عَيَّنَتْ كُفُؤًا وَعَيَّنَ الْمُجْبِرُ كُفُؤًا آخَرَ هَلْ الْمُجَابُ تَعْيِينُهَا أَمْ تَعْيِينُهُ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي اعْتِبَارِ تَصْرِيحِ الْإِجَابَةِ هُوَ فِي الثَّيِّبُ أَمَّا الْبِكْرُ فَسُكُوتُهَا كَصَرِيحِ إذْنِ الثَّيِّبِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ قَالَ : فَوَجَدْنَا الدَّلَالَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ رَاضِيَةً قَالَ وَرِضَاهَا إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا أَنْ تَأْذَنَ فِي النِّكَاحِ بِنِعَمٍ ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا أَنْ تَسْكُتَ فَيَكُونَ ذَلِكَ إذْنًا .
انْتَهَى .
وَحَيْثُ اشْتَرَطْنَا التَّصْرِيحَ بِالْإِجَابَةِ فَلَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ الْإِذْنِ لِلْوَلِيِّ فِي زَوَاجِهَا لَهُ فَإِنْ لَمْ تَأْذَنْ فِي ذَلِكَ لَمْ تَحْرُمْ الْخِطْبَةُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ فِي بَابِ النَّهْيِ عَنْ مَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنًى فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، وَحَكَاهُ عَنْهُ الْخَطَّابِيُّ وَاسْتَشْكَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فَقَالَ : وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ فَإِنَّهُ حَمَلَ الْعُمُومَ الَّذِي قَصَدَ بِهِ تَقْعِيدَ قَاعِدَةٍ عَلَى صُورَةٍ نَادِرَةٍ قَالَ : وَهَذَا مِثْلُ مَا أَنْكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَمْلِ قَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ .
( قُلْت ) : لَيْسَ مِثْلَهُ وَلَمْ يَحْمِلْ الشَّافِعِيُّ النَّهْيَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى صُورَةٍ نَادِرَةٍ بَلْ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ مَخْطُوبَةٍ لَكِنْ إذَا لَمْ تَأْذَنْ فِي تَزْوِيجِهَا فَلَيْسَ بِيَدِ الْخَاطِبِ شَيْءٌ
يَتَمَسَّكُ بِهِ ، وَزَادَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الرِّضَا بِالزَّوْجِ تَسْمِيَةَ الْمَهْرِ وَهَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ .
( الْخَامِسَةُ ) وَمَحَلُّ التَّحْرِيمِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَأْذَنْ الْخَاطِبُ لِغَيْرِهِ فِي الْخِطْبَةِ فَإِنْ أَذِنَ ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّهِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّهُ إذَا أَذِنَ لِشَخْصٍ مَخْصُوصٍ فِي الْخِطْبَةِ هَلْ لِغَيْرِهِ الْخِطْبَةُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لِشَخْصٍ يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ الْخِطْبَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ لِخَاطِبَيْنِ أَوْ لَيْسَ لِغَيْرِهِ الْخِطْبَةُ إذْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ وَزَوَالُ الْمَنْعِ إنَّمَا كَانَ لِلْإِذْنِ هَذَا مُحْتَمَلٌ وَالْأَرْجَحُ الْأَوَّلُ .
( السَّادِسَةُ ) وَمَحَلُّ التَّحْرِيمِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَتْرُكْ الْخَاطِبُ الْخِطْبَةَ وَيُعْرِضْ عَنْهَا فَإِنْ تَرَكَ جَازَ لِغَيْرِهِ الْخِطْبَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَتَّى يَنْكِحَ أَوْ يَتْرُكَ وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ { الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ } وَقَوْلُهُ حَتَّى يَذَرَ يَعُودُ لِلْجُمْلَتَيْنِ مَعًا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ قَالَ فِيهِ : حَتَّى يَذَرَ بَعْدَ كُلٍّ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ .
( السَّابِعَةُ ) وَمَحَلُّ التَّحْرِيمِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْخِطْبَةُ الْأُولَى جَائِزَةً فَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً كَالْوَاقِعَةِ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَيْهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ .
( الثَّامِنَةُ ) وَمَحَلُّ التَّحْرِيمِ أَيْضًا إذَا لَمْ تَأْذَنْ الْمَرْأَةُ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا مِمَّنْ يَشَاءُ فَإِنْ أَذِنَتْ لَهُ كَذَلِكَ صَحَّ
وَحَلَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَهَا عَلَى خِطْبَةِ الْغَيْرِ كَمَا نَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ وَلَك أَنْ تَقُولَ إنْ كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ مِمَّنْ يَشَاءُ عَائِدًا عَلَى الْوَلِيِّ فَيَنْبَغِي إذَا أَجَابَ الْوَلِيُّ الْخَاطِبَ الْأَوَّلَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَى غَيْرِهِ الْخِطْبَةُ ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا عَلَى الْخَاطِبِ فَإِذَا خَطَبَهَا شَخْصٌ فَقَدْ شَاءَ تَزْوِيجَهَا وَقَدْ أَذِنَتْ فِي تَزْوِيجِهَا مِمَّنْ يَشَاءُ هُوَ تَزْوِيجَهَا فَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ إجَابَتُهُ وَيَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ خِطْبَتَهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ أَجَابَتْهُ بِالْوَصْفِ ، وَإِنْ لَمْ تُجِبْهُ بِالتَّعْيِينِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( التَّاسِعَةُ ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ ظَاهِرُهُ اخْتِصَاصُ التَّحْرِيمِ بِمَا إذَا كَانَ الْخَاطِبُ مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَلَا تَحْرِيمَ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبَوَيْهِ قَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ { الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ } فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِخِطْبَةِ الْمُسْلِمِ .
انْتَهَى .
وَقَالَ الْجُمْهُورُ : تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ الْكَافِرِ أَيْضًا قَالَ النَّوَوِيُّ وَلَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِأَخِيهِ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَفْهُومٌ يَعْمَلُ بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } وَنَظَائِرُهُ .
( الْعَاشِرَةُ ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ فَاسِقًا أَوْ لَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْأَحَادِيثُ وَعُمُومُهَا وَذَهَبَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ إلَى تَجْوِيزِ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَةِ الْفَاسِقِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ ، وَقَالَ : لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي هَذَا .
ا هـ .
قَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَهُوَ مَرْدُودٌ ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ إذْ الْفِسْقُ لَا يُخْرِجُ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) حَيْثُ مَنَعْنَا الْخِطْبَةَ عَلَى الْخِطْبَةِ فَارْتَكَبَ النَّهْيَ وَخَطَبَ وَتَزَوَّجَ أَثِمَ بِفِعْلِهِ وَصَحَّ النِّكَاحُ وَلَمْ يُفْسَخْ هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ، وَقَالَ دَاوُد : يُفْسَخُ النِّكَاحُ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ .
وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ : يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا بَعْدَهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ .
وَاحْتِجَاجُ الْقَائِلِ بِالْبُطْلَانِ بِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ مَرْدُودٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْخِطْبَةَ وَالْخِطْبَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِحَيْثُ إذَا فَسَدَتْ فَسَدَ النِّكَاحُ لِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ خِطْبَةٍ جَازَ فَتَحْرِيمُ الْخِطْبَةِ لَا يَقْتَضِي فَسَادَ النِّكَاحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ) الْحَدِيثُ إنَّمَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ خِطْبَةِ الرَّجُلِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِهِ خِطْبَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى خِطْبَةِ امْرَأَةٍ أُخْرَى بِأَنْ تَرْغَبَ امْرَأَةٌ فِي تَزْوِيجِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَتَخْطُبُهُ فَيَرْكَنُ إلَى التَّزَوُّجِ بِهَا فَتَجِيءُ امْرَأَةٌ أُخْرَى فَتَخْطُبُهُ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ فِي الْمُهِمَّاتِ فَقَالَ : نَصُّوا عَلَى اسْتِحْبَابِ خِطْبَةِ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنْ الرِّجَالِ فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَأْتِي فِي التَّحْرِيمِ مَا سَبَقَ فِي الْمَرْأَةِ .
انْتَهَى .
( فَإِنْ قُلْت ) الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَزْوِيجُ الْمَرْأَةِ لِرَجُلَيْنِ وَيُمْكِنُ تَزْوِيجُ الرَّجُلِ بِامْرَأَتَيْنِ ( قُلْت ) الصُّورَةُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَزَمَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا بِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ بِحَيْثُ إنْ عَرَضَتْ الثَّانِيَةُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا يَصْرِفُهُ عَنْ التَّزَوُّجِ بِالْأُولَى لِتَمَيُّزِهَا عَلَيْهَا فِي الْأَوْصَافِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلرَّغْبَةِ .
( الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ ) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي قَوْلَهُ ( وَلَا تَسْأَلْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا ) نَهَى الْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ أَنْ تَسْأَلَ الزَّوْجَ طَلَاقَ زَوْجَتِهِ ، وَأَنْ يَنْكِحَهَا وَيُصَيِّرَ لَهَا مِنْ نَفَقَتِهِ وَمَعْرُوفِهِ وَمُعَاشَرَتِهِ وَنَحْوِهَا مَا كَانَ لِلْمُطَلَّقَةِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِاكْتِفَاءِ مَا فِي الصَّحْفَةِ مَجَازًا وَالْمُرَادُ بِأُخْتِهَا غَيْرُهَا سَوَاءٌ كَانَتْ أُخْتَهَا مِنْ النَّسَبِ أَوْ أُخْتَهَا فِي الْإِسْلَامِ أَوْ كَافِرَةً .
انْتَهَى .
وَحَمَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْأُخْتَ هُنَا عَلَى الضَّرَّةِ فَقَالَ فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا أَنْ يُطَلِّقَ ضَرَّتَهَا لِتَنْفَرِدَ بِهِ .
انْتَهَى .
وَرَدَّهُ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَلْتَنْكِحْ فَإِنَّهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ نَاكِحَةً وَحَمَلَ الشَّيْخُ مُحِبُّ الدِّينِ الطَّبَرِيُّ الْأُخْتَ عَلَى الْأُخْتِ فِي الدِّينِ فَقَالَ أَرَادَ أُخْتَهَا مِنْ الدِّينِ فَإِنَّهَا مِنْ النَّسَبِ لَا تَجْتَمِعُ مَعَهَا قَالَ وَالِدِي : وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا زَادَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي الْحَدِيثِ ( فَإِنَّ الْمُسْلِمَةَ أُخْتُ الْمُسْلِمَةِ ) وَحَمَلَ الشَّيْخُ مُحِبُّ الدِّينِ الْمَذْكُورُ الْحَدِيثَ عَلَى اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي أَحْكَامِهِ بِلَفْظِ ( نَهَى أَنْ تَشْتَرِطَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ ) وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ ( ذِكْرُ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الشُّرُوطِ ) وَعَزَاهُ لِلصَّحِيحَيْنِ .
قَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَلَيْسَ هَذَا لَفْظَهُ عِنْدَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ { لَا يَنْبَغِي لِامْرَأَةٍ أَنْ تَشْتَرِطَ طَلَاقَ أُخْتِهَا لِتُكْفِئَ إنَاءَهَا } ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ .
قَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْبَيْهَقِيُّ أَصْلَ الْحَدِيثِ لَا مُوَافَقَةَ اللَّفْظِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ قَالَ : نَعَمْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ
الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ( بَابُ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي النِّكَاحِ ) وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا ( لَا تَشْتَرِطْ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا ) ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تَسْأَلُ طَلَاقَ أُخْتِهَا } .
( الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) يَنْبَغِي أَنْ يَعُودَ هُنَا الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ ( لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ ) فَعَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ حَرْبَوَيْهِ لَا يَحْرُمُ أَنْ تَسْأَلَ الْمُسْلِمَةُ طَلَاقَ الْكَافِرَةِ وَعَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لَا فَرْقَ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ النَّوَوِيِّ أَنَّهُ سَوَّى فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْكَافِرَةِ ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ .
( الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ) وَيَنْبَغِي عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ يُسْتَثْنَى مَا إذَا كَانَ الْمَسْئُولُ طَلَاقَهَا فَاسِقَةً وَعَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ لَا فَرْقَ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ) خَرَجَ بِقَوْلِهِ لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا مَا إذَا سَأَلَتْ طَلَاقَهَا لِمَعْنًى آخَرَ كَرِيبَةٍ فِيهَا لَا يَنْبَغِي ؛ لِأَجْلِهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَ الزَّوْجِ أَوْ لِضَرَرٍ يَحْصُلُ لَهَا مِنْ الزَّوْجِ أَوْ يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ مِنْهَا وَقَدْ يَكُونُ سُؤَالُهَا ذَلِكَ بِعِوَضٍ فَيَكُونُ خُلْعًا مَعَ أَجْنَبِيٍّ .
( السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ) قَوْلُهُ ( وَلْتَنْكِحْ ) رُوِيَ بِالْجَزْمِ عَلَى الْأَمْرِ وَحِينَئِذٍ فَيَجُوزُ فِي اللَّازِمِ الْإِسْكَانُ وَالْكَسْرُ وَرُوِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِتَكْستَفِئَ فَيَكُونُ تَعْلِيلًا لِسُؤَالِهَا طَلَاقَ أُخْتِهَا أَيْ تَفْعَلُ ذَلِكَ لِتَكْتَفِئَ مَا فِي إنَائِهَا وَلِتَنْكِحَ زَوْجَهَا وَحِينَئِذٍ فَيَتَعَيَّنُ فِي اللَّازِمِ الْكَسْرُ .
( الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ ) عَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَمْرُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلْتَنْكِحْ ذَلِكَ الرَّجُلَ مَعَ وُجُودِ الضَّرَّةِ وَحِينَئِذٍ فَيَمْتَنِعُ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأُخْتَ مِنْ النَّسَبِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ وَيُرَدُّ ذَلِكَ عَلَى النَّوَوِيِّ فِي إدْخَالِهِ الْأُخْتَ مِنْ النَّسَبِ تَحْتَ اللَّفْظِ وَلَعَلَّهُ لَا يَرَى هَذَا الِاحْتِمَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلْتَنْكِحْ غَيْرَهُ وَتُعْرِضْ عَنْ نِكَاحِ هَذَا الرَّجُلِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ
الْأَعَمُّ مِنْ الِاحْتِمَالَيْنِ أَيْ وَلْتَنْكِحْ مَنْ تَيَسَّرَ لَهَا هَذَا الرَّجُلَ أَوْ غَيْرَهُ مَعَ انْكِفَافِهَا عَنْ سُؤَالِ الطَّلَاقِ وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ الثَّالِثِ فَيَمْتَنِعُ أَيْضًا إرَادَةُ أُخْتِ النَّسَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَا اشْتَرَى أَحَدُكُمْ لِقْحَةً مُصَرَّاةَ أَوْ شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا إمَّا رَضِيَ ، وَإِلَّا فَلْيَرُدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ } زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ ( لَا سَمْرَاءَ ) وَلَهُ { مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ طَعَامٍ لَا سَمْرَاءَ } قَالَ الْبُخَارِيُّ ( وَالتَّمْرُ أَكْثَرُ ) وَلِلنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ { مَنْ ابْتَاعَ مُحَفَّلَةً وَمُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } وَلَمْ يَقُلْ ابْنُ مَاجَهْ ( مُحَفَّلَةً ) وَلِأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { مَنْ ابْتَاعَ مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ رَدَّهَا رَدَّ مَعَهَا مِثْلَ أَوْ مِثْلَيْ لَبَنِهَا قَمْحًا } قَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَيْسَ إسْنَادُهُ بِذَاكَ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : تَفَرَّدَ بِهِ جُمَيْعُ بْنُ عُمَيْرٍ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ : فِيهِ نَظَرٌ وَكَذَّبَهُ ابْنُ نُمَيْرٍ وَابْنُ حِبَّانَ
( الْحَدِيثُ الْخَامِسُ ) وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَا اشْتَرَى أَحَدُكُمْ لِقْحَةً مُصَرَّاةً أَوْ شَاةً مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا إمَّا رَضِيَ ، وَإِلَّا فَلْيَرُدَّهَا وَصَاعُ تَمْرٍ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ سِوَى مَا تَقَدَّمَ ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ إذَا مَا اشْتَرَى كَذَا هُوَ فِي رِوَايَتِنَا وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَمَا زَائِدَةٌ وَكَذَا هِيَ زَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ إمَّا رَضِيَ وَالْأَصْلُ إنْ رَضِيَ وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَخَذَهَا أَوْ لَمْ يَرُدَّهَا .
( الثَّالِثَةُ ) اللِّقْحَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا لُغَتَانِ الْكَسْرُ أَفْصَحُ ، بَعْدَهَا قَافٌ ثُمَّ حَاءٌ مُهْمَلَةٌ وَهِيَ النَّاقَةُ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ نَحْوَ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَحَكَاهُ فِي الصِّحَاحِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَفِي الْمَشَارِقِ عَنْ ثَعْلَبٍ بَعْدَ أَنْ صَدَّرَا كَلَامَهُمَا بِأَنَّهَا ذَاتُ اللَّبَنِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَالْجَمْعُ لِقَحٌ كَقِرْبَةٍ وَقِرَبٍ .
وَحَكَى فِي الْمُحْكَمِ جَمْعَهُ أَيْضًا عَلَى لِقَاحٍ قَالَ فَأَمَّا لِقَحٌ فَهُوَ الْقِيَاسُ .
وَأَمَّا لِقَاحٌ فَقَالَ سِيبَوَيْهِ كَسَّرُوا فِعْلَةً عَلَى فَعَالٍ كَمَا كَسَّرُوا فِعْلَةً عَلَيْهِ حِينَ قَالُوا جِفْرَةٌ وَجِفَارٌ .
انْتَهَى .
ثُمَّ اعْرِفْ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي اللُّغَةِ اخْتِصَاصُ اللِّقْحَةِ بِالْإِبِلِ لَكِنْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إطْلَاقُهَا عَلَى الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فِي قَوْلِهِ وَاللِّقْحَةُ مِنْ الْبَقَرِ وَاللِّقْحَةُ مِنْ الْغَنَمِ نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي الْمَشَارِقِ .
( وَثَانِيَهُمَا ) ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ اللِّقْحَةَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا وَاللَّقُوحَ بِفَتْحِ اللَّامِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَغَايَرَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُحْكَمِ فَقَالَ : قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ النَّاقَةُ لَقُوحٌ أَوَّلُ نِتَاجِهَا
شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً ، وَقِيلَ اللَّقُوحُ الْحَلُوبَةُ ، وَجَمْعُ اللَّقُوحِ لِقَحٌ وَلَقَائِحُ وَلِقَاحٌ ثُمَّ قَالَ وَاللِّقْحَةُ : النَّاقَةُ مِنْ حِينِ يَسْمُنُ سَنَامُ وَلَدِهَا ثُمَّ لَا يَزَالُ ذَلِكَ اسْمُهَا حَتَّى يَمْضِيَ لَهَا سَبْعَةُ أَشْهُرٍ وَيُفْصَلُ وَلَدُهَا وَذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ سُهَيْلٍ وَالْجَمْعُ لِقَحٌ وَلِقَاحٌ .
ثُمَّ قَالَ : وَقِيلَ اللِّقْحَةُ وَاللِّقْحَةُ النَّاقَةُ الْحَلُوبُ .
انْتَهَى .
وَكَذَا غَايَرَ بَيْنَهُمَا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَقَالَ اللِّقْحَةُ النَّاقَةُ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالنِّتَاجِ وَنَاقَةٌ لَقُوحٌ إذَا كَانَتْ عَزِيزَةً وَنَاقَةٌ لَاقِحٌ إذَا كَانَتْ حَامِلًا وَنُوقٌ لَوَاقِحُ وَاللِّقَاحُ ذَوَاتُ الْأَلْبَانِ وَالْوَاحِدَةُ لَقُوحٌ .
انْتَهَى .
( الرَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ فَلْيَرُدَّهَا ) ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الْحَجِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي نَظِيرِهِ أَنَّهُ مَفْتُوحُ الدَّالِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ فِيهِ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ كَمَا حَكَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ ( إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ ) .
وَمَا ذَكَرَهُ هُوَ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ قَبْلَهُ فِي أَنَّ الضَّمَّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مُرَاعَاةٌ لِلْوَاوِ الَّتِي تُوجِبُهَا ضَمَّةُ الْهَاءِ بَعْدَهَا لِخَفَاءِ الْهَاءِ فَكَأَنَّ مَا قَبْلَهَا وَلِيَ الْوَاوَ وَلَا يَكُونُ مَا قَبْلَ الْوَاوِ إلَّا مَضْمُومًا لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُرَاعَاةٌ لِلضَّمَّةِ الَّتِي قَبْلَ الْحَرْفِ الْمُضَاعَفِ حَتَّى يَطَّرِدَ فِيمَا إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ ضَمِيرٌ مُؤَنَّثٌ كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَوْ ضَمِيرٍ مُثَنًّى أَوْ جَمْعٍ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ ضَمِيرٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَكَلَامُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْته .
وَقَدْ مَثَّلَ ثَعْلَبٌ فِي الْفَصِيحِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مَدَّ مَدَّ مَدَّ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ ضَمِيرٌ أَصْلًا .
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى - { لَا يَضُرُّكُمْ } قِيلَ حَقُّهُ الْجَزْمُ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ وَلَكِنَّهُ حُرِّكَ بِالضَّمِّ اتِّبَاعًا لِضَمَّةِ الضَّادِ .
وَقَالَ مَكِّيٌّ : حَكَى النَّحْوِيُّونَ ( لَمْ تَرُدُّهَا ) بِضَمِّ الدَّالِ
وَهُوَ مَجْزُومٌ لَكِنَّهُ لَمَّا احْتَاجَ إلَى حَرَكَةِ الدَّالِ أَتْبَعَهَا مَا قَبْلَهَا وَهُوَ حَرَكَةُ الصَّادِ .
انْتَهَى .
فَنُقِلَ عَنْ النُّحَاةِ الضَّمُّ اتِّبَاعًا مَعَ دُخُولِ الضَّمِيرِ لِلْمُفْرَدِ الْمُؤَنَّثِ وَفِي الْإِفْصَاحِ حَكَى الْكُوفِيُّونَ رَدَّهَا بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ وَرَدَّهُ بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ .
انْتَهَى .
وَإِنَّمَا حَكَيْت عِبَارَاتِهِمْ لِيَتَّضِحَ الرَّدُّ عَلَى النَّوَوِيِّ فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِكَلَامِهِ لِجَلَالَتِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَعَنْ أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَعَنْ أَنْ يَشْتَمِلَ الرَّجُلُ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ وَلِبْسَتَيْنِ أَنْ يَحْتَبِيَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ فِي إزَارِهِ إذَا مَا صَلَّى إلَّا أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ وَنَهَى عَنْ اللَّمْسِ وَالنَّجْشِ } زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ { وَعَنْ صِيَامَيْنِ وَعَنْ صَلَاتَيْنِ } وَزَادَ مُسْلِمٌ { أَمَّا الْمُلَامَسَةُ فَأَنْ يَلْمِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ ، وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَهُ إلَى الْآخَرِ وَلَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ } وَلَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ التَّفْسِيرَ إلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ .
( الْحَدِيثُ السَّادِسُ ) وَعَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَعَنْ أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَعَنْ أَنْ يَشْتَمِلَ الرَّجُلُ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ وَلِبْسَتَيْنِ أَنْ يَحْتَبِيَ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ فِي إزَارِهِ إذَا مَا صَلَّى إلَّا أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ وَنَهَى عَنْ اللَّمْسِ وَالنَّجْشِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) الرِّوَايَةُ الْأُولَى فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ ، وَأَبِي الزِّنَادِ كِلَاهُمَا عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هُوَ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ جَمَاعَةٍ رِوَايَةٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ .
انْتَهَى .
وَأَسْقَطَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذِكْرَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التَّرَاجِمِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي خُطْبَةِ الْكِتَابِ ، وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْحَدِيثَ إذَا كَانَ جَمِيعُهُ عَنْ رِوَايَتَيْنِ ثِقَتَيْنِ جَازَ حَذْفُ أَحَدِهِمَا ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْهُمَا مُقْتَصِرَيْنِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ فَقَطْ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ حِبَّانَ فَقَطْ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ صَلَاتَيْنِ نَهَى
عَنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ .
وَاقْتَصَرَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ عَلَى الْبَيْعَتَيْنِ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { نَهَى عَنْ صِيَامَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ } ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْبَيْعَتَيْنِ فَقَطْ وَزَادَ أَمَّا الْمُلَامَسَةُ فَأَنْ يَلْمِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ ، وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَهُ إلَى الْآخَرِ لَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبُخَارِيُّ التَّفْسِيرَ إلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا قِصَّةَ الْبَيْعَتَيْنِ بِدُونِ تَفْسِيرِهِمَا مِنْ رِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
( الثَّانِيَةُ ) قَوْلُهُ ( نَهَى عَنْ لِبْسَتَيْنِ ) هُوَ بِكَسْرِ اللَّامِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْهَيْئَةِ وَالْحَالَةِ قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِقِ : وَرُوِيَ بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى اسْمِ الْفِعْلِ وَالْأَوَّلُ هُنَا أَوْجَهُ ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : رُوِيَ بِالضَّمِّ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْأَوَّلُ الْوَجْهُ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَرَّةُ مِنْ الْبَيْعِ وَلِمَا فَصَّلَ ذِكْرَ الْبَيْعَتَيْنِ قَبْلَ اللِّبْسَتَيْنِ .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَهُوَ مِنْ بُيُوعِ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنْ يَلْمِسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٌ .
وَلِأَصْحَابِنَا فِي تَفْسِيرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِثَوْبٍ مَطْوِيٍّ أَوْ فِي ظُلْمَةٍ فَيَلْمِسَهُ الْمُسْتَامُ فَيَقُولَ صَاحِبُهُ بِعْتُكَهُ بِكَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَقُومَ لَمْسُك مَقَامَ نَظَرِك وَلَا خِيَارَ لَك إذَا رَأَيْتَهُ .
( الثَّانِي ) أَنْ يَجْعَلَا نَفْسَ اللَّمْسِ بَيْعًا فَيَقُولُ إذَا لَمْسَتَهُ فَهُوَ
مَبِيعٌ لَك .
( الثَّالِثُ ) أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمَسَهُ انْقَطَعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَغَيْرُهُ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ يُوَافِقُ التَّأْوِيلَ الْأَوَّلَ وَكَذَا لَفْظُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَالْمُلَامَسَةُ : لَمْسُ الثَّوْبِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِ وَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى التَّأْوِيلَاتِ كُلِّهَا .
( أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ ) فَوَاضِحٌ إنْ أَبْطَلْنَا بَيْعَ الْغَائِبِ .
وَأَمَّا إذَا صَحَّحْنَاهُ فَلِإِقَامَةِ اللَّمْسِ مَقَامَ النَّظَرِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَتَخَرَّجُ عَلَى نَفْيِ شَرْطِ الْخِيَارِ .
( وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي ) فَالتَّعْلِيقُ فِي الصِّيغَةِ وَعُدُولُهُ عَنْ الصِّيغَةِ الْمَوْضُوعَةِ شَرْعًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا مِنْ صُوَرِ الْمُعَاطَاةِ ( وَأَمَّا عَلَى الثَّالِثِ ) فَلِلشَّرْطِ الْفَاسِدِ .
( الرَّابِعَةُ ) وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْمُنَابَذَةِ وَهُوَ مِنْ بُيُوعِ الْجَاهِلِيَّةِ أَيْضًا وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ ثَوْبَهُ لِلْآخَرِ لَمْ يَنْظُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ وَيُوَافِقُهُ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يَقْلِبَهُ أَوْ يَنْظُرَ إلَيْهِ وَلِأَصْحَابِنَا فِي تَفْسِيرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنْ يَجْعَلَا نَفْسَ النَّبْذِ بَيْعًا وَهُوَ تَأْوِيلُ الشَّافِعِيِّ .
( وَالثَّانِي ) أَنْ يَقُولَ بِعْتُك فَإِذَا نَبَذْتُهُ إلَيْك انْقَطَعَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ .
وَ ( الثَّالِثُ ) الْمُرَادُ نَبْذُ الْحَصَاة وَفِي بَيْعِ الْحَصَاةِ تَأْوِيلَاتٌ ( أَحَدُهَا ) أَنْ يَقُولَ بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الْأَثْوَابِ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحَصَاةُ الَّتِي أَرْمِيهَا أَوْ بِعْتُك مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ هُنَا إلَى مَا انْتَهَتْ إلَيْهِ هَذِهِ الْحَصَاةُ .
وَ ( الثَّانِي ) أَنْ يَقُولَ بِعْتُك عَلَى أَنَّك بِالْخِيَارِ إلَى أَنْ أَرْمِيَ بِهَذِهِ الْحَصَاةِ .
وَ ( الثَّالِثُ ) أَنْ يَجْعَلَا نَفْسَ الرَّمْيِ بِالْحَصَاةِ بَيْعًا فَيَقُولَ إذَا رَمَيْت هَذَا الثَّوْبَ بِالْحَصَاةِ فَهُوَ مَبِيعٌ مِنْك بِكَذَا قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعَاطَاةِ وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ فَإِذَا عُلِّلَ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ الْمُشْتَرَطَةِ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ ، وَإِذَا فُسِّرَ بِأَمْرٍ لَا يَعُودُ إلَى ذَلِكَ اُحْتِيجَ حِينَئِذٍ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْمُعَاطَاةِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهَا .
( قُلْت ) الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُعَاطَاةَ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُهَا إنَّمَا تَجُوزُ فِي الْمُحَقَّرَاتِ أَوْ فِيمَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِيهِ بِالْمُعَاطَاةِ ، وَالْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةِ عِنْدَ مَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُهَا لَا يَخُصُّهُمَا بِذَلِكَ لَكِنْ مَا بَحَثَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَئِمَّةِ فَنَقَلَ عَنْهُمْ أَنَّهُ يَجْرِي فِي بَيْعِ
الْمُنَابَذَةِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي الْمُعَاطَاةِ فَإِنَّ الْمُنَابَذَةَ مَعَ قَرِينَةِ الْبَيْعِ هِيَ الْمُعَاطَاةُ بِعَيْنِهَا وَحَكَى الرَّافِعِيُّ أَيْضًا عَنْ الْمُتَوَلِّي أَنَّ بَيْعَ الْمُلَامَسَةِ فِي حُكْمِ الْمُعَاطَاةِ .
انْتَهَى .
وَقَدْ عَرَفْت الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا .
{ الْخَامِسَةُ } اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ بُطْلَانَ بَيْعِ الْغَائِبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) : الْبُطْلَانُ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ وَفِي رِوَايَةِ الْبُوَيْطِيِّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيّ .
وَ ( الثَّانِي ) الصِّحَّةُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ وُصِفَ أَمْ لَا وَلَكِنْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلٌ عَنْ مَالِكٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ بَطَّالٍ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ ثُمَّ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي الْقَاسِم الْقَزْوِينِيِّ الْقَاضِي أَنَّهُ قَالَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إجَازَةُ بَيْعِ الْغَائِبِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ إذَا نَظَرَ إلَيْهِ وَافَقَ الصِّفَةَ أَوْ لَمْ يُوَافِقْهَا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ سَوَاءٌ ، قَالَ هَذَا فِي كُتُبِهِ الْمِصْرِيَّةِ .
انْتَهَى .
وَمَا حَكَاهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ لَا يُعْرَفُ عَنْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِهِ وَاَلَّذِي قَالَهُ فِي كُتُبِهِ الْمِصْرِيَّةِ إنَّمَا هُوَ الْبُطْلَانُ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَ ( الثَّالِثُ ) الصِّحَّةُ إنْ وُصِفَ ، وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالْإِمْلَاءِ وَالصَّرْفِ مِنْ الْجَدِيدِ وَصَحَّحَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْبَغَوِيّ وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيلِهِ .
فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ : يُشْتَرَطُ ذِكْرُ جِنْسِ الْمَبِيعِ وَنَوْعِهِ وَفِي وَجْهٍ يَكْفِي ذِكْرُ الْجِنْسِ وَلَا حَاجَةَ إلَى النَّوْعِ وَفِي وَجْهٍ لَا يُحْتَاجُ إلَى الْجِنْسِ أَيْضًا فَيَقُولُ بِعْتُك مَا فِي كُمِّي أَوْ كَفِّي أَوْ خِزَانَتِي أَوْ مِيرَاثِي مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ وَهُمَا شَاذَّانِ ضَعِيفَانِ .
وَفِي وَجْهٍ يُفْتَقَرُ إلَى ذِكْرِ
مُعْظَمِ الصِّفَاتِ وَضَبْطِ ذَلِكَ بِمَا يَصِفُهُ الْمُدَّعِي عِنْدَ الْقَاضِي قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ وَفِي وَجْهٍ يُفْتَقَرُ إلَى صِفَاتِ السَّلَمِ قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ .
وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ لَمْ يُجَوِّزُوا بَيْعَ الْغَائِبِ إلَّا مَعَ وَصْفِهِ بِصِفَاتِ السَّلَمِ إنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ ، وَاعْتَبَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَصْفَهُ بِمَا يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِهِ وَاشْتَرَطُوا أَيْضًا أَلَّا يَكُونَ الْمَبِيعُ فِي مَكَان بَعِيدٍ جِدًّا كَإِفْرِيقِيَّةَ مِنْ خُرَاسَانَ وَلَا قَرِيبٍ يُمْكِنُ رُؤْيَتَهُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فَإِنْ كَانَ بِمَشَقَّةٍ جَازَ عَلَى الْأَشْهَرِ وَفِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْأَعْدَالِ عَلَى الْبَرْنَامَجِ بِخِلَافِ الثِّيَابِ الْمَطْوِيَّةِ وَشِبْهِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَمَلُ الْمَاضِينَ ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ : أَجَازَ الْغَرَرَ الْكَثِيرَ وَمَنَعَ الْيَسِيرَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ فِيمَا إذَا وَجَدَهُ كَمَا وُصِفَ فَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ : لَا خِيَارَ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ ثُبُوتُ الْخِيَارِ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ عَلَى خِلَافِ تِلْكَ الصِّفَةِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ لَمَّا ذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الْغَائِبِ وَمَنْ يَشْتَرِطُ الْوَصْفَ فِي بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ لَا يَكُونُ الْحَدِيثُ دَلِيلًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ وَصْفًا ، وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اسْتَدَلُّوا عَلَى مَنْعِ الْغَائِبِ بِنَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ قَالَ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْغَائِبِ إذَا وُصِفَ عَنْ رُؤْيَةٍ وَخِبْرَةٍ وَمَعْرِفَةٍ قَدْ صَحَّ مِلْكُهُ لِمَا اشْتَرَى فَأَيْنَ الْغَرَرُ .
قَالَ : وَمِمَّا يُبْطِلُهُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ الْمُسْلِمُونَ يَتَبَايَعُونَ الضِّيَاعَ بِالصِّفَةِ وَهِيَ فِي الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ وَقَدْ بَاعَ عُثْمَانُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ مَالًا لِعُثْمَانَ بِخَيْبَرَ بِمَالٍ لِابْنِ عُمَرَ بِوَادِي الْقُرَى انْتَهَى .
وَهُوَ عَجِيبٌ فَإِنَّهُ نَقَلَ هَذَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لَمَّا فَصَّلَ ذَلِكَ لَمْ يَنْقُلْ سِوَى قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ وَعَمَلُ الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ مِنْ الصَّحَابَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلَوْ كَانَ هُنَا إجْمَاعٌ لَأَخَذْنَا بِهِ وَالنَّاصِرُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ عَنْ الشَّافِعِيِّ يَقُولُونَ فِي الْمُعَايَنَةِ وَالرُّؤْيَةِ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْوَصْفِ وَلَيْسَ بَيْعُ الْأَعْيَانِ كَالسَّلَمِ فَالْقَصْدُ هُنَا الْأَعْيَانُ وَهُنَاكَ الْأَوْصَافُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ السَّادِسَةُ } اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْأَعْمَى وَلَا شِرَاؤُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ سَوَاءٌ قُلْنَا بِجَوَازِ الْبَيْعِ عَلَى الْوَصْفِ أَمْ لَا ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى رُؤْيَتِهِ فَيَكُونُ كَبَيْعِ الْغَائِبِ عَلَى أَنْ لَا خِيَارَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجُوزُ إذَا قُلْنَا بِجَوَازِ الْبَيْعِ عَلَى الْوَصْفِ وَيُقَامُ وَصْفُ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَهُ مَقَامُ رُؤْيَتِهِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ إذَا كَانَ عَمَاهُ أَصْلِيًّا وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَجْوِيزُ الْبَيْعِ بِدُونِ رُؤْيَةٍ وَوَصْفٍ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْبَصِيرِ وَالْأَعْمَى ، وَقَالَ فِي الْأَعْمَى : إنَّ خِيَارَهُ يَسْقُطُ بِجَمْعِهِ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالْجَسِّ وَبِشَمِّهِ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالشَّمِّ وَبِذَوْقِهِ إذَا كَانَ يُعْرَفُ بِالذَّوْقِ كَمَا فِي الْبَصِيرِ قَالَ وَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ فِي الْعَقَارِ حَتَّى يُوصَفَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ يَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي السَّلَمِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ فِي مَكَان لَوْ كَانَ بَصِيرًا لَرَآهُ فَقَالَ رَضِيت سَقَطَ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّ التَّشَبُّهَ يُقَامُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ فِي مَوْضِعِ الْعَجْزِ كَتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ مَقَامَ الْقِرَاءَةِ فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِجْرَاءِ الْمُوسَى مَقَامَ الْحَلْقِ فِي حَقِّ مَنْ لَا شَعْرَ لَهُ فِي الْحَجِّ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ يُوَكَّلُ وَكِيلًا يَقْبِضُهُ وَهُوَ يَرَاهُ ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْوَكِيلِ رُؤْيَةُ الْمُوَكِّلِ .
{ السَّابِعَةُ } قَوْلُهُ ( يَحْتَبِي ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ ، وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالِاحْتِبَاءُ بِالْمَدِّ هُوَ أَنْ يَقْعُدَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَلْيَتِهِ وَيَنْصِبَ سَاقَيْهِ وَيَحْتَوِيَ عَلَيْهِمَا بِثَوْبٍ أَوْ نَحْوِهِ أَوْ بِيَدِهِ وَهَذِهِ الْقَعْدَةُ يُقَالُ لَهَا الْحُبْوَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا وَكَانَ هَذَا الِاحْتِبَاءُ عَادَةً لِلْعَرَبِ فِي مَجَالِسِهِمْ فَنَهَى عَنْهُ إذَا أَدَّى إلَى انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ قَصِيرٌ فَإِذَا قَعَدَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ كَثِيرَةٌ وَكُلُّهَا قَصِيرَةٌ بِحَيْثُ تَنْكَشِفُ عَوْرَتُهُ إذَا جَلَسَ هَكَذَا كَانَ حَرَامًا أَيْضًا ، وَذِكْرُ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فِي الْحَدِيثِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فِي أَنَّ الِانْكِشَافَ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ دُونَ الثِّيَابِ الْكَثِيرَةِ وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ حَرَامٌ بِحُضُورِ النَّاسِ وَكَذَا فِي الْخَلْوَةِ عَلَى الْأَصَحِّ إذَا كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَاقْتَصَرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى ذِكْرِ الْفَرْجِ لِفُحْشِهِ وَنَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ الْعَوْرَةِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْعَوْرَةَ السَّوْأَتَانِ فَقَطْ ، وَكَرِهَ الصَّلَاةَ مُحْتَبِيًا ابْنُ سِيرِينَ ، وَأَجَازَهَا الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَعُرْوَةُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يُصَلِّي مُحْتَبِيًا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ حَلَّ حَبْوَتَهُ ثُمَّ قَامَ وَرَكَعَ ، وَصَلَّى التَّطَوُّعَ مُحْتَبِيًا عَطَاءٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
{ الثَّامِنَةُ } فِيهِ النَّهْيُ عَنْ اشْتِمَالِ الرَّجُلِ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ وَقَدْ فَسَّرَهُ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنْ يَشْتَمِلَ بِالثَّوْبِ حَتَّى يُجَلِّلَ بِهِ صَدْرَهُ لَا يَرْفَعُ مِنْهُ جَانِبًا وَلَا يَبْقَى مَا يُخْرِجُ مِنْهُ يَدَهُ وَهَذَا يَقُولُهُ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ سُمِّيَتْ صَمَّاءَ ؛ لِأَنَّهُ سَدَّ الْمَنَافِذَ كُلَّهَا كَالصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خَرْقٌ وَلَا صَدْعٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ .
وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَيَقُولُونَ هُوَ أَنْ يَشْتَمِلَ بِثَوْبٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ثُمَّ يَرْفَعَهُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْهِ فَيَضَعَهُ عَلَى أَحَدِ مَنْكِبَيْهِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ الْعُلَمَاءُ فَعَلَى تَفْسِيرِ أَهْلِ اللُّغَةِ يُكْرَهُ الِاشْتِمَالُ الْمَذْكُورُ لِئَلَّا تَعْرِضَ لَهُ حَاجَةٌ مِنْ دَفْعِ بَعْضِ الْهَوَامِّ وَنَحْوِهَا أَوْ غَيْرِهَا فَيَعْسُرُ عَلَيْهِ أَوْ يَتَعَذَّرُ فَيَلْحَقُهُ الضَّرَرُ ، وَعَلَى تَفْسِيرِ الْفُقَهَاءِ يَحْرُمُ الِاشْتِمَالُ الْمَذْكُورُ إنْ انْكَشَفَ بَعْضُ الْعَوْرَةِ ، وَإِلَّا فَيُكْرَهُ .
( قُلْت ) : وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ مَا فَسَّرَهُ بِهِ الْفُقَهَاءُ قَوْلُهُ فِيهِ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ ، وَلَيْسَ فِي تَفْسِيرِ أَهْلِ اللُّغَةِ رَفْعُهُ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ إذَا مَا صَلَّى فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ الِاحْتِيَاطُ لِلْعَوْرَةِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ مِنْ عَجْزِهِ عَنْ الْحَرَكَةِ وَالتَّصَرُّفِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالصَّلَاةِ وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى الِاحْتِيَاطُ لِلْعَوْرَةِ لِئَلَّا تَنْكَشِفَ وَذَلِكَ يُؤْمَنُ بِالْمُخَالَفَةِ بَيْنَ طَرَفَيْهِ وَرَبْطِهِ عَلَى عَاتِقِهِ بِخِلَافِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِهِ لَا يُؤَيِّدُهُ إلَّا تَأَكُّدًا وَشِدَّةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{
التَّاسِعَةُ } اللَّمْسُ الْمَذْكُورُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ الْمُلَامَسَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي بَقِيَّةِ الرِّوَايَاتِ وَذَكَرَ فِيهَا بَدَلَ الْمُنَابَذَةِ النَّجْشَ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ .
{ الْعَاشِرَةُ } قَوْلُهُ ( نَهَى عَنْ لِبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ ) لَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ النَّهْيِ بِالْمَذْكُورِ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى انْتِفَاءِ النَّهْيِ عَنْ لِبْسَةٍ ثَالِثَةٍ وَبَيْعَةٍ ثَالِثَةٍ فَإِنَّ هَذَا فِي مَعْنَى مَفْهُومِ اللَّقَبِ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْأُصُولِ فِي أَنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ حُجَّةً أَمْ لَا ، وَأَمَّا هَذَا فَسَمَّاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَفْهُومَ الْمَعْدُودِ وَمَثَّلَ لَهُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَانِ وَدَمَانِ } وَذَكَرَ أَنَّ مَفْهُومَهُ لَيْسَ حُجَّةً وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَفْهُومِ الْعَدَدِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ بِأَنَّ الْعَدَدَ شِبْهُ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَك فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ فِي قُوَّةِ قَوْلِك فِي إبِلٍ خَمْسٍ بِجَعْلِ الْخَمْسِ صِفَةً لِلْإِبِلِ وَهِيَ إحْدَى صِفَتَيْ الذَّاتِ ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ قَدْ تَكُونُ خَمْسًا وَقَدْ تَكُونُ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَلَمَّا قَيَّدَ وُجُوبَ الشَّاةِ بِالْخَمْسِ فُهِمَ أَنَّ غَيْرَهَا يُخَالِفُهُ فَإِذَا قَدَّمْت لَفْظَ الْعَدَدِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ وَالْمَعْدُودُ لَمْ يُذْكَرْ مَعَهُ أَمْرٌ زَائِدٌ يُفْهَمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ فَصَارَ كَاللَّقَبِ وَاللَّقَبُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ مَثْنًى أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ قُلْت رِجَالٌ لَمْ يُتَوَهَّمْ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ عَدَدٌ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا مَا يُفْهَمُ مِنْ التَّخْصِيصِ بِالْعَدَدِ فَكَذَلِكَ الْمُثَنَّى ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِلِاثْنَيْنِ ؛ لِأَنَّ الرِّجَالَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِمَا زَادَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ } قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : اعْلَمْ أَنَّ بَيْعَ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَحَبَلِ الْحُبْلَةِ وَبَيْعَ الْحَصَاةٍ وَعَسْبِ الْفَحْلِ ، وَأَشْبَاهِهَا مِنْ الْبُيُوعِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا نُصُوصٌ خَاصَّةٌ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَلَكِنْ أُفْرِدَتْ بِالذِّكْرِ وَنُهِيَ عَنْهَا ؛ لِكَوْنِهَا مِنْ بَيْعَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ قَالَ وَالنَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْبُيُوعِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ وَقَدْ تَحْتَمِلُ بَعْضَ الْغَرَرِ تَبَعًا إذَا دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَةٌ كَالْجَهْلِ بِأَسَاسِ الدَّارِ وَكَمَا إذَا بَاعَ الشَّاةَ الْحَامِلَ وَاَلَّتِي فِي ضَرْعِهَا اللَّبَنُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْأَسَاسَ تَابِعٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ الدَّارِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ وَكَذَا الْقَوْلُ فِي حَمْلِ الشَّاةِ وَلَبَنِهَا وَكَذَلِكَ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَشْيَاءَ فِيهَا غَرَرٌ حَقِيرٌ .
( مِنْهَا ) أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ الْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَرَ حَشْوَهَا وَلَوْ بِيعَ حَشْوُهَا بِانْفِرَادِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى إجَارَةِ الدَّارِ وَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ شَهْرًا مَعَ أَنَّ الشَّهْرَ قَدْ يَكُونُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ يَكُونُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ دُخُولِ الْحَمَّامِ بِالْأُجْرَةِ مَعَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ الْمَاءَ وَفِي قَدْرِ مُكْثِهِمْ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الشُّرْبِ مِنْ السِّقَاءِ بِالْعِوَضِ مَعَ جَهَالَةِ قَدْرِ الْمَشْرُوبِ وَاخْتِلَافِ عَادَةِ الشَّارِبِينَ .
قَالَ : وَعَكْسُ هَذَا أَجْمَعُوا عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الْأَجِنَّةِ فِي الْبُطُونِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ قَالَ الْعُلَمَاءُ مَدَارُ الْبُطْلَانِ بِسَبَبِ الْغَرَرِ ، وَالصِّحَّةُ مَعَ وُجُودِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ أَنَّهُ إنْ دَعَتْ حَاجَةٌ إلَى ارْتِكَابِ الْغَرَرِ وَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ إلَّا بِمَشَقَّةٍ أَوْ كَانَ الْغَرَرُ حَقِيرًا
جَازَ الْبَيْعُ ، وَإِلَّا فَلَا وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْبَابِ مِنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ فِيهَا وَفَسَادِهِ كَبَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ الْغَرَرَ حَقِيرٌ فَيَجْعَلُهُ كَالْمَعْدُومِ فَيُصَحِّحُ الْبَيْعَ ؛ وَبَعْضُهُمْ يَرَاهُ لَيْسَ بِحَقِيرٍ فَيُبْطِلُ الْبَيْعَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
انْتَهَى .
وَمِنْ بُيُوعِ الْغَرَرِ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّ مَا يَعْتَادُهُ النَّاسُ مِنْ الِاسْتِحْرَازِ مِنْ الْأَسْوَاقِ بِالْأَوْرَاقِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ حَاضِرًا حَتَّى يَكُونَ مُعَاطَاةً وَلَمْ يُوجَدْ صِيغَةٌ يَصِحُّ بِهَا الْعَقْدُ .
وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَبِيعُ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ } زَادَ مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ { وَلَا يَسُمْ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ } وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ .
إنَّهَا شَاذَّةٌ وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ { لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ } زَادَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا ( حَتَّى يَذَرَ ) وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ } زَادَ الدَّارَقُطْنِيُّ ( إلَّا الْغَنَائِمَ وَالْمَوَارِيثَ ) وَلِأَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ حِلْسًا وَقَدَحًا فِيمَنْ يَزِيدُ } وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ .
{ الْحَدِيثُ السَّابِعُ } وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَبِيعُ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ } فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ .
{ الْحَدِيثُ الثَّامِنُ } عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ } فِيهِ ) فَوَائِدُ .
{ الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَلِمُسْلِمٍ زِيَادَةٌ فِيهِ ( وَلَا تَلَقَّوْا السِّلَعَ حَتَّى يُبْلَغَ بِهَا إلَى السُّوقِ ) كَذَا عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ وَلَا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ إلَّا الْغَنَائِمَ وَالْمَوَارِيثَ } وَمِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ { سَمِعْت رَجُلًا يُقَالُ لَهُ شَهْرٌ كَانَ تَاجِرًا وَهُوَ يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ عَنْ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ فَقَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَحَدٍ حَتَّى يَذَرَ إلَّا الْغَنَائِمَ وَالْمَوَارِيثَ } وَمِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ بِهِ مِثْلُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَعُمَرُ بْنُ مَالِكٍ هُوَ الشَّرْعَبِيُّ مُوَثَّقٌ ، وَأَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ وَالْوَاقِدِيُّ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَالْإِسْنَادُ الثَّانِي مِنْ أَسَانِيدِ الدَّارَقُطْنِيِّ هَذِهِ لَا يَأْمَنُ بِهِ .
{ الثَّانِيَةُ } تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَفِي
رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ اسْتِثْنَاءُ الْغَنَائِمِ وَالْمَوَارِيثِ وَمُقْتَضَاهَا جَوَازُ الْبَيْعِ عَلَى الْبَيْعِ فِيهِمَا خَاصَّةً ، وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ فِي الْغَنَائِمِ وَالْمَوَارِيثِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : الْبَابُ وَاحِدٌ وَالْمَعْنَى مُشْتَرَكٌ لَا يَخْتَصُّ بِهِ غَنِيمَةٌ وَلَا مِيرَاثٌ وَقَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ ذَلِكَ بِالْغَنِيمَةِ وَالْمِيرَاثِ تَبَعًا لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ فَأَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ وَعَلَى مَا كَانُوا يَعْتَادُونَ الْبَيْعَ فِيهِ مُزَايَدَةً وَهِيَ الْغَنَائِمُ وَالْمَوَارِيثُ فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْعُ فِي غَيْرِهِمَا مُزَايَدَةً فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قُلْت ) وَقَدْ يَكُونُ الْمِيرَاثُ لِوَاحِدٍ أَوْ لِجَمَاعَةٍ وَيَتَّفِقُونَ عَلَى بَيْعِهِ لِشَخْصٍ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ زِيَادَةٍ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ حِينَئِذٍ وَكَذَلِكَ فِي الْغَنِيمَةِ فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لَا عَكْسًا وَلَا طَرْدًا ، وَإِنَّمَا خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّالِثَةُ } تَقَدَّمَ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا إذَا وَقَعَ الرُّكُونُ .
وَأَمَّا مَا دَامَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ طَالِبًا لِلزِّيَادَةِ فَإِنَّ الْمُزَايَدَةَ فِيهِ جَائِزَةٌ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ حِلْسًا وَقَدْ جَاءَ فِيمَنْ يَزِيدُ هَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى مِنْ الْأَحْكَامِ وَهَذَا اللَّفْظُ الَّذِي أَرَادُوهُ هُوَ لَفْظُ النَّسَائِيّ ؛ وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ ( بَاعَ حِلْسًا ) وَقَدْ جَاءَ ( وَقَالَ مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْحِلْسَ وَالْقَدَحَ فَقَالَ رَجُلٌ آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ فَأَعْطَاهُ رَجُلٌ دِرْهَمَيْنِ فَبَاعَهُمَا مِنْهُ ) .
وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ الْأَخْضَرِ بْنِ عَجْلَانَ وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَمْ يَرَوْا بَأْسًا بِبَيْعِ مَنْ يَزِيدُ فِي الْغَنَائِمِ وَالْمَوَارِيثِ ، وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ فَقَالَ أَمَا فِي بَيْتِك شَيْءٌ قَالَ بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ قَالَ ائْتِنِي بِهِمَا قَالَ فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ قَالَ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إيَّاهُ ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ وَقَالَ اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إلَى أَهْلِك وَاشْتَرِ بِالْآخِرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِك يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا لِثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ } .
وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا الْمَبِيعَ لَمْ يَكُنْ مِنْ غَنِيمَةٍ وَلَا مِيرَاثٍ ( وَالْحِلْسُ ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ، وَإِسْكَانِ اللَّامِ بَعْدَهَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ كِسَاءٌ رَقِيقٌ يُجْعَلُ تَحْتَ بَرْذَعَةِ الْبَعِيرِ وَقَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - : فِيهِ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي بَاعَ الْقَدَحَ وَالْحِلْسَ فَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى بَيْعِ الْحَاكِمِ عَلَى الْمُعْسِرِ وَلَكِنْ لَمْ يَنْقُلْ هُنَا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى يَبِيعَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يُقَالُ : كَانَتْ نَفَقَةُ أَهْلِهِ وَاجِبَةً عَلَيْهِ فَهِيَ كَالدَّيْنِ ، وَأَرَادَ الِاكْتِسَابَ بِالسُّؤَالِ فَكَرِهَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّؤَالَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ فَبَاعَ عَلَيْهِ بَعْضَ مَا يَمْلِكُهُ وَاشْتَرَى لَهُ بِهِ آلَةً يَكْتَسِبُ بِهَا .
وَقَدْ يُقَالُ : هَذَا تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ بِرِضَاهُ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي أَمْوَالِ أُمَّتِهِ بِمَا شَاءَ .
فَتَصَرَّفَ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ { كُنَّا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْتَاعُ الطَّعَامَ فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَاهُ فِيهِ إلَى مَكَان سِوَاهُ قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ } لَفْظُ مُسْلِمٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { قَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ابْتَاعُوا الطَّعَامَ جُزَافًا يُضْرَبُونَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى يُؤْوُوهُ إلَى رِحَالِهِمْ } وَلِأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ { نَهَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدُنَا طَعَامًا اشْتَرَاهُ بِكَيْلٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ } وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ ( حَتَّى يَقْبِضَهُ ) وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ ( حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ وَيَقْبِضَهُ ) وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ( حَتَّى يَكْتَالَهُ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ وَلَا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا مِثْلَهُ وَلِلْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعَ حَيْثُ تُشْتَرَى حَتَّى يَحُوزَهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا إلَى رَحْلِهِ } وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ( قُلْت ) يَمْنَعُهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إسْنَادِهِ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي دَاوُد وَالْحَاكِمِ مِنْ الْوَجْهِ الْآخَرِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَفِي أَوَّلِهِ قِصَّةٌ .
{ الْحَدِيثُ التَّاسِعُ } وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { كُنَّا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْتَاعُ الطَّعَامَ فَيَبْعَثُ عَلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي ابْتَعْنَاهُ فِيهِ إلَى مَكَان سِوَاهُ قَبْلَ أَنْ نَبِيعَهُ } { الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ } وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ .
{ الْأُولَى } الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ زَادَ أَبُو دَاوُد وَفِي آخِرِ الْحَدِيثِ يَعْنِي جُزَافًا وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ جُمْهُورُ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ ذَكَرُوا فِيهِ عَنْهُ الْجُزَافَ كَمَا ذَكَرَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ وَالزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ ذِكْرَهُ الْقَعْنَبِيُّ وَيَحْيَى فَقَطْ تَوَهُّمًا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ .
انْتَهَى .
وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَى مَالِكٍ فِيهِ وَلَمْ يَقُلْ جُزَافًا ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { كَانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ فِي أَعْلَى السُّوقِ فَيَبِيعُونَهُ فِي مَكَانِهِمْ فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ } لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَقَالَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ ( يَتَبَايَعُونَ الطَّعَامَ جُزَافًا ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَمُسْلِمٌ وَحْدَهُ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ كِلَاهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ { كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ جُزَافًا فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ } ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ
نَافِعٍ { عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَرُونَ الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَبْعَثُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ حَيْثُ اشْتَرَوْهُ حَتَّى يَنْقُلُوهُ حَيْثُ يُبَاعُ الطَّعَامُ } ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { كُنَّا نَتَلَقَّى الرُّكْبَانَ فَنَشْتَرِي مِنْهُمْ الطَّعَامَ فَنَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَبْلُغَ بِهِ سُوقَ الطَّعَامِ } .
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلَجٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ { كَانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الرُّكْبَانِ فَنَهَاهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ الَّذِي ابْتَاعُوا فِيهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ إلَى سُوقِ الطَّعَامِ } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُشْتَرَى حَتَّى يَحُوزَهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا إلَى رَحْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَيَبْعَثُ رِجَالًا فَيَضْرِبُونَا عَلَى ذَلِكَ } وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ .
( قُلْت ) قَدْ عَرَفْت أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِالْعَنْعَنَةِ وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي إسْنَادِهِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { ابْتَعْت زَيْتًا فِي السُّوقِ فَلَمَّا اسْتَوْجَبْته لَقِيَنِي رَجُلٌ فَأَعْطَانِي بِهِ زَيْتًا حَسَنًا فَأَرَدْت أَنْ أَضْرِبَ عَلَى يَدِهِ فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذِرَاعِي فَالْتَفَتُّ فَإِذَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ لَا تَبِعْهُ حَيْثُ ابْتَعْته حَتَّى تَحُوزَهُ إلَى رَحْلِك فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يُحْرِزَهَا التُّجَّارُ إلَى رِحَالِهِمْ } .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ
، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { قَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ابْتَاعُوا الطَّعَامَ جُزَافًا يُضْرَبُونَ أَنْ يَبِيعُوهُ فِي مَكَانِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى يُؤْوُوهُ إلَى رِحَالِهِمْ } .
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا التِّرْمِذِيَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ كُلِّهِمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَلَفْظُ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ ( حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ وَيَقْبِضَهُ ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ حَتَّى ( يَقْبِضَهُ ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدٌ طَعَامًا مَا اشْتَرَاهُ بِكَيْلٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ } { الثَّانِيَةُ } اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ( يَعْنِي جُزَافًا ) وَبِجَزْمِهِ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ جُزَافٌ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عِنْدَ مُسْلِمٍ ، وَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ وَمِنْ حَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ جُزَافًا أَيْ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ بِكَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ وَلَا غَيْرِهِمَا وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ الْبَائِعُ قَدْرَهَا أَمْ لَا وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَالشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ وَلَكِنَّ ( الْأَظْهَرَ ) مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ قَالَ النَّوَوِيُّ : وَنَقَلَ أَصْحَابُنَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إذَا كَانَ بَائِعُ
الصُّبْرَةِ جُزَافًا يَعْلَمُ قَدْرَهَا .
( قُلْت ) الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ عَلِمَ مِقْدَارَ الْمَبِيعِ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا أَنْ يَبِيعَهُ جُزَافًا حَتَّى يُعَرِّفَ الْمُشْتَرِيَ بِمَبْلَغِهِ فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ غَاشٌّ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إذَا عَلِمَ كَالْعَيْبِ وَقَالَ لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ ثُمَّ رُوِيَ بِإِسْنَادِهِ أَنَّهُمْ كَرِهُوهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجُزَافَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ الْكَسْرُ أَفْصَحُ ، وَأَشْهَرُ .
{ الثَّالِثَةُ } فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى طَعَامًا لَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ حَتَّى يَنْقُلَهُ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي اشْتَرَاهُ فِيهِ إلَى مَكَانٍ آخَرَ وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فَإِنَّ الِاسْتِيفَاءَ هُوَ الْقَبْضُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى وَالْقَبْضُ فِي الْمَنْقُولَاتِ يَكُونُ بِالنَّقْلِ ، وَالْمُرَادُ بِالنَّقْلِ تَحْوِيلُهُ إلَى مَكَان لَا يَخْتَصُّ بِالْبَائِعِ أَوْ يَخْتَصُّ بِالْبَائِعِ بِإِذْنِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْمَطْعُومِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ فَأَمَّا غَيْرُهُ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَحَكَى عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ اسْتِثْنَاءَ أَمْرَيْنِ مِنْ الْمَطْعُومِ يَجُوزُ بَيْعُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ .
( أَحَدُهُمَا ) الْمَاءُ وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ عَنْهُ فِي الْمَاءِ رِوَايَتَيْنِ .
( الْأَمْرُ الثَّانِي ) الطَّعَامُ الْمُشْتَرَى جُزَافًا قَالَ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازُ بَيْعِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ثُمَّ قَالَ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ مَالِكًا مِنْ جَمَاعَةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ مَا اشْتَرَى جُزَافًا مِنْ الطَّعَامِ وَبَيْنَ مَا اشْتَرَى مِنْهُ كَيْلًا إلَّا الْأَوْزَاعِيَّ فَإِنَّهُ قَالَ مَنْ اشْتَرَى طَعَامًا جُزَافًا فَهَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَهُوَ مِنْ الْمُشْتَرَى ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ مُكَايَلَةً فَهُوَ مِنْ الْبَائِعِ وَهُوَ نَصُّ قَوْلِ مَالِكٍ وَقَدْ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ مَنْ اشْتَرَى ثَمَرَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ ثُمَّ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِمَالِكٍ بِرِوَايَةِ الْقَاسِمِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدٌ طَعَامًا اشْتَرَاهُ بِكَيْلٍ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ } قَالَ فَقَوْلُهُ ( بِكَيْلٍ ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا خَالَفَهُ بِخِلَافِهِ .
( قُلْت ) لَكِنَّ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي
نَهْيِ الَّذِينَ يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ جُزَافًا عَنْ بَيْعِهِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ مِنْ مَكَانِهِ صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ إذَا كَانَ اشْتَرَاهُ جُزَافًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْقَوْلُ الثَّانِي ) اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْمَطْعُومِ سَوَاءٌ اشْتَرَى جُزَافًا أَوْ مِقْدَارًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَحَكَاهُ عَنْ مَالِكٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الْوَقَارُ وَصَحَّحَهُ أَبُو عُمَرَ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ قَالَ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي لِثُبُوتِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَلِ أَصْحَابِهِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ : وَحُجَّتُهُمْ عُمُومُ قَوْلِهِ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا لَمْ يَقُلْ جُزَافًا وَلَا كَيْلًا بَلْ ثَبَتَ عَنْهُ فِيمَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا جُزَافًا أَنْ لَا يَبِيعَهُ حَتَّى يَنْقُلَهُ وَيَقْبِضَهُ قَالَ وَضَعَّفُوا الزِّيَادَةَ فِي قَوْلِهِ طَعَامًا بِكَيْلٍ .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِمَا اشْتَرَى مِقْدَارًا بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ عَدَدٍ سَوَاءٌ كَانَ مَطْعُومًا أَمْ لَا فَإِنْ اشْتَرَى بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ جَازَ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبَضَهُ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَنْهُ .
انْتَهَى .
وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فَإِنَّهُ أَعْرَفُ بِمَذْهَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ الطَّعَامَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ أَصْلُهُ الْكَيْلُ أَوْ الْوَزْنُ فَكُلُّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَذَلِكَ حُكْمُهُ .
( قُلْت ) وَيَرُدُّ هَذَا الْمَذْهَبَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْمُشْتَرَى جُزَافًا قَبْلَ قَبْضِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَعَنْ
أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى إنْ صَبَّرَ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ خَاصَّةً كَبَيْعِهِمَا كَيْلًا وَوَزْنًا .
( الْقَوْلُ الرَّابِعُ ) طَرْدُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْمَطْعُومِ وَغَيْرِهِ .
وَالْمُقَدَّرُ وَغَيْرُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ قَبْضِهَا إلَّا الْعَقَارَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ .
( الْقَوْلُ الْخَامِسُ ) مَنْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُطْلَقًا حَتَّى فِي الْعَقَارِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَّا رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يُسْتَوْفَى قَالَ وَلَا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا مِثْلَهُ } رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ ، وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُ مُسْلِمٍ ( وَأَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ) وَفِي لَفْظٍ لَهُ ( وَأَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ ) وَفِي لَفْظٍ لَهُ ( حَتَّى يَقْبِضَهُ ) وَفِي لَفْظٍ لَهُ ( حَتَّى يَكْتَالَهُ ) وَكَذَلِكَ قَالَ جَابِرٌ أَعْنِي أَنَّ غَيْرَ الطَّعَامِ مِثْلُهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا فَهِمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُرَادَ وَالْمَغْزَى وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَشْتَرِي بُيُوعًا فَمَا يَحِلُّ لِي مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ ؟ فَقَالَ إذَا اشْتَرَيْت بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِاخْتِلَافٍ فِي إسْنَادِهِ وَمَتْنِهِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا الْإِسْنَادُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَقَالٌ فَفِيهِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ اسْتِظْهَارٌ وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ بَيْعٌ وَسَلَفٌ وَلَا بَيْعُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك } وَتَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعَ حَيْثُ تُشْتَرَى حَتَّى يَحُوزَهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا إلَى رَحْلِهِ } فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ حُجَّةٌ لِهَذَا الْمَذْهَبِ وَلِلَّذِي قَبْلَهُ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الْمَذْهَبِ الَّذِي قَبْلَهُ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْعَقَارَ ؛ لِانْتِفَاءِ الْغَرَرِ فِيهِ فَإِنَّ الْهَلَاكَ فِيهِ نَادِرٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
( الْقَوْلُ السَّادِسُ ) جَوَازُ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ مُطْلَقًا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَذَا قَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ بِالسُّنَّةِ وَالْحُجَّةِ الْمُجْمِعَةِ عَلَى الطَّعَامِ فَقَطْ ، وَأَظُنُّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَحَكَاهُ الْمَازِرِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ وَلَمْ يَحْكِهِ الْأَكْثَرُونَ بَلْ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى بُطْلَانِ بَيْعِ الطَّعَامِ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ قَالُوا : وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا سِوَاهُ فَهُوَ شَاذٌّ مَتْرُوكٌ .
( قُلْت ) وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ .
( الْقَوْلُ السَّابِعُ ) : مَنْعُ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْقَمْحِ مُطْلَقًا وَفِي غَيْرِهِ إنَّهُ مَلَكَهُ بِالشِّرَاءِ خَاصَّةً وَيُعْتَبَر أَيْضًا فِي الْقَمْحِ خَاصَّةً مَعَ الْقَبْضِ ، وَهُوَ إطْلَاقُ الْيَدِ عَلَيْهِ وَعَدَمُ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ إلَى مَكَان آخَرَ فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِكَيْلٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ بَيْعُهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ فَإِذَا اكْتَالَهُ حَلَّ لَهُ بَيْعُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ مَوْضِعِهِ وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَتَمَسَّكَ فِي الْقَمْحِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاعَ حَتَّى يُقْبَضَ فَهُوَ الطَّعَامُ ) وَقَالَ فَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلطَّعَامِ فِي الْبَيْعِ خَاصَّةً وَعُمُومٌ لَهُ بِأَيِّ وَجْهِ مِلْكٍ ، وَاسْمُ الطَّعَامِ فِي اللُّغَةِ لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى الْقَمْحِ وَحْدَهُ ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ
بِإِضَافَةٍ ، وَتَمَسَّكَ فِي غَيْرِ الْقَمْحِ بِحَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ الْمُتَقَدِّمِ وَقَالَ هَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ بَيْعٍ وَلِكُلِّ ابْتِيَاعٍ وَالْمَذْكُورُ فِي حَدِيثَيْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ بَعْضُ مَا فِي حَدِيثِ حَكِيمِ فَهُوَ أَعَمُّ ثُمَّ حَكَى مِثْلَ قَوْلِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَالْحَسَنِ وَابْنُ شُبْرُمَةَ .
{ الرَّابِعَةُ } الَّذِي فِي الْحَدِيثِ مَنْعُ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِغَيْرِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) قَصْرُ ذَلِكَ عَلَى الْبَيْعِ وَتَجْوِيزُ غَيْرِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ قَبْلَ الْقَبْضِ قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ قَالَ : وَالشَّرِكَةُ وَالتَّوْلِيَةُ وَالْإِقَالَةُ كُلُّهَا بُيُوعٌ مُبْتَدَأَةٌ لَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ .
( الْقَوْلُ الثَّانِي ) : أَنَّ سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْمَنْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمْته مِنْ مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ لِإِطْلَاقِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ التَّصَرُّفَ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) طَرْدُ الْمَنْعِ فِي كُلِّ مُعَاوَضَةٍ فِيهَا حَقُّ تَوْفِيَةٍ مِنْ كَيْلٍ أَوْ شَبَهِهِ بِخِلَافِ الْقَرْضِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأُرَخِّصُ فِي الْإِقَالَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالشَّرِكَةِ مَعَ كَوْنِهَا مُعَاوَضَاتٌ فِيهَا حَقُّ تَوْفِيَةٍ وَابْنِ حَزْمٍ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ حَدِيثًا مُسْتَفَاضًا فِي الْمَدِينَةِ { مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَوْفِيَهُ إلَّا أَنْ يُشْرِكَ فِيهِ أَوْ يُوَلِّيَهُ أَوْ يُقِيلَهُ } وَقَالَ مَالِكٌ إنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالشَّرِكَةِ وَالْإِقَالَةِ وَالتَّوْلِيَةِ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ يَعْنِي قَبْلَ الْقَبْضِ .
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : مَا نَعْلَمُ رُوِيَ هَذَا إلَّا عَنْ رَبِيعَةَ وَطَاوُسٍ فَقَطْ ، وَقَوْلُهُ عَنْ الْحَسَنِ فِي التَّوْلِيَةِ قَدْ جَاءَ عَنْهُ خِلَافُهَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَخَبَرُ رَبِيعَةَ مُرْسَلٌ وَلَوْ كَانَتْ اسْتِفَاضَةً عَنْ أَصْلٍ صَحِيحٍ لَكَانَ الزُّهْرِيُّ أَوْلَى بِأَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ مِنْ رَبِيعَةَ ؛ وَالزُّهْرِيُّ مُخَالِفٌ لَهُ فِي ذَلِكَ .
قَالَ :
التَّوْلِيَةُ بَيْعٌ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ فَقِيلَ لَهُ أَبِرَأْيِك تَقُولُهُ ؟ قَالَ لَا وَلَكِنْ أَخَذْنَاهُ عَنْ سَلَفِنَا ، وَأَصْحَابِنَا ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ سَلَفُ الْحَسَنِ هُمْ الصَّحَابَةُ أَدْرَكَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةٍ ، وَأَكْثَرَ ، وَأَصْحَابُهُ أَكَابِرُ التَّابِعِينَ فَلَوْ أَقْدَمَ امْرُؤٌ عَلَى دَعْوَى الْإِجْمَاعِ هُنَا لَكَانَ أَصَحَّ مِنْ الْإِجْمَاعِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ .
( الْقَوْلُ الرَّابِعُ ) الْمَنْعُ مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ كَالْبَيْعِ إلَّا الْعِتْقَ وَالِاسْتِيلَادَ وَالتَّزْوِيجَ وَالْقِسْمَةَ ؛ هَذَا حَاصِلُ الْفَتْوَى فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مَعَ الْخِلَافِ فِي أَكْثَرِ الصُّوَرِ .
وَأَمَّا الْوَقْفُ فَقَالَ الْمُتَوَلِّي فِي التَّتِمَّةِ : إنْ قُلْنَا إنَّ الْوَقْفَ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ فَهُوَ كَالْبَيْعِ ، وَإِلَّا فَهُوَ كَالْإِعْتَاقِ وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي وَقَالَ يَصِيرُ قَابِضًا حَتَّى لَوْ لَمْ يَرْفَعْ الْبَائِعُ يَدَهُ عَنْهُ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ فَمَنْ قَصَرَ الْمَنْعَ عَلَى الْبَيْعِ اقْتَصَرَ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَمَنْ عَدَّاهُ إلَى غَيْرِهِ فَبِالْقِيَاسِ وَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فَهْمِ الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ وَوُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ الْمَقِيسِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْخَامِسَةُ } وَاَلَّذِي فِي الْحَدِيثِ الْمَنْعُ فِيمَا مُلِكَ بِالْبَيْعِ ، وَهُوَ سَاكِتٌ عَمَّا مُلِكَ بِغَيْرِهِ وَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ أَيْضًا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ يَلْتَحِقُ بِالْمَمْلُوكِ بِالْبَيْعِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ مَا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ كَالْأُجْرَةِ وَالْعِوَضِ الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ عَنْ الْمَالِ .
وَكَذَا الصَّدَاقُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ ضَمَانَ عَقْدٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَمَّا مَا لَيْسَ مَضْمُونًا عَلَى مَنْ هُوَ تَحْتَ يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْإِرْثِ أَوْ مَضْمُونًا ضَمَانَ يَدٍ وَهُوَ الْمَضْمُونُ بِالْقِيمَةِ كَالْمُسْتَامِ وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛
لِتَمَامِ الْمِلْكِ فِيهِ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ نَحْوُهُ قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُحَرَّرِ : وَكُلُّ عَيْنٍ مُلِكَتْ بِنِكَاحٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ صُلْحٍ عَنْ دَمٍ عَمْدًا أَوْ عِتْقٍ فَهِيَ كَالْبَيْعِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَكِنْ يَجِبُ بِتَلَفِهَا مِثْلُهَا إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً ، وَإِلَّا فَقِيمَتُهَا ، وَلَا فَسْخَ لِعَقْدِهَا بِحَالٍ فَأَمَّا مَا مُلِكَ بِإِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَالتَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ جَائِزٌ وَفَرَّقَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَمْحِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ فِي الْقَمْحِ : إنَّهُ بِأَيِّ وَجْهٍ مَلَكَهُ لَا يَحِلُّ لَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ وَقَالَ فِي غَيْرِهِ : مَتَى مَلَكَهُ بِغَيْرِ الْبَيْعِ فَلَهُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ .
بَابُ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ وَالرُّخْصَةِ فِي الْعَرَايَا } عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ } وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ، وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرًا فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَكَذَا رَوَاهُ سَالِمٌ وَخَالَفَهُ نَافِعٌ فَرَوَى قِصَّةَ النَّخْلِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِصَّةَ الْعَبْدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ الْقَوْلُ مَا قَالَ نَافِعٌ ، وَإِنْ كَانَ سَالِمٌ أَحْفَظَ مِنْهُ وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ أَنَّ حَدِيثَ سَالِمٍ أَصَحُّ ، وَذَكَرَ فِي الْعِلَلِ أَنَّهُ سَأَلَ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ قَالَ فَكَأَنَّهُ رَأَى الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ ، وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ عَنْهُمَا جَمِيعًا وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ وَرَفَعَ الْقِصَّتَيْنِ وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ نَافِعٍ وَسَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِالْقِصَّتَيْنِ .
{ بَابُ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ وَالرُّخْصَةِ فِي الْعَرَايَا } { الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ } عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ } وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرًا فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ } .
" فِيهِ " فَوَائِدُ .
{ الْأُولَى } أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ خَلَا التِّرْمِذِيَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فَرَوَاهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فَقَطْ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مَعْمَرٍ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ قِصَّةَ الْعَبْدِ رَوَاهَا نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ كَذَا رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد فِي سُنَنِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَهَذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا سَالِمٌ وَنَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ هَكَذَا رَوَاهُ سَالِمٌ وَخَالَفَهُ نَافِعٌ فَرَوَى قِصَّةَ النَّخْلِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِصَّةَ الْعَبْدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ كَذَلِكَ قَالَ ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ نَافِعٍ .
انْتَهَى .
وَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي الْأَرْجَحِ مِنْ رِوَايَتَيْ نَافِعٍ وَسَالِمٍ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) تَرْجِيحُ رِوَايَةِ نَافِعٍ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ
مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُمَا سُئِلَا عَنْ اخْتِلَافِ سَالِمٍ وَنَافِعٍ فِي قِصَّةِ الْعَبْدِ فَقَالَا الْقَوْلُ مَا قَالَ نَافِعٌ ، وَإِنْ كَانَ سَالِمٌ أَحْفَظَ مِنْهُ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَشَارَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ إلَى تَرْجِيحِ رِوَايَةِ نَافِعٍ وَهَذِهِ إشَارَةٌ مَرْدُودَةٌ .
( الْقَوْلُ الثَّانِي ) تَرْجِيحُ رِوَايَةِ سَالِمٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَحُّ قَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ وَسَبَقَهُ إلَيْهِ شَيْخُهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ : إنَّهُ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِرَفْعِ الْقِصَّتَيْنِ مَعًا وَهَذَا مُرَجِّحٌ لِرِوَايَةِ سَالِمٍ .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) تَصْحِيحُهُمَا مَعًا قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَقُلْت لَهُ : حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ بَاعَ عَبْدًا ) وَقَالَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ أَيُّهُمَا أَصَحُّ ؟ قَالَ : إنَّ نَافِعًا خَالَفَ سَالِمًا فِي أَحَادِيثَ وَهَذَا مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ رَوَى سَالِمٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ كَأَنَّهُ رَأَى الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ ، وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ عَنْهُمَا جَمِيعًا .
قَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : وَلَيْسَ بَيْنَ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ فِي الْجَامِعِ وَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ فِي الْعِلَلِ اخْتِلَافٌ فَحُكْمُهُ عَلَى الْحَدِيثَيْنِ بِالصِّحَّةِ لَا يُنَافِي حُكْمَهُ فِي الْجَامِعِ بِأَنَّ حَدِيثَ سَالِمٍ أَصَحُّ بَلْ صِيغَةُ أَفْعَلَ تَقْتَضِي اشْتِرَاكَهُمَا فِي الصِّحَّةِ .
( قُلْت ) الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمُحَدِّثِينَ فِي مِثْلِ هَذَا وَالْمَعْرُوفُ مِنْ اصْطِلَاحِهِمْ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ تَرْجِيحُ الرِّوَايَةِ الَّتِي
قَالُوا إنَّهَا أَصَحُّ ، وَالْحُكْمُ لِلرَّاجِحِ فَتَكُونُ تِلْكَ الرِّوَايَةُ شَاذَّةً ضَعِيفَةً ، وَالْمُرَجَّحَةُ هِيَ الصَّحِيحَةُ وَحِينَئِذٍ فَبَيْنَ النَّقْلَيْنِ تَنَافٍ لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ مَا فِي الْجَامِعِ ؛ لِأَنَّهُ مَقُولٌ بِالْجَزْمِ وَالْيَقِينِ بِخِلَافِ مَا فِي الْعِلَلِ فَإِنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ وَالِاحْتِمَالِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
عَلَى أَنَّ مَا فِي الْعِلَلِ هُوَ الَّذِي يَمْشِي عَلَى طَرِيقَةِ الْفُقَهَاءِ ؛ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ بِأَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ أَبِيهِ فَرَفَعَهُ تَارَةً وَسَمِعَهُ كَذَلِكَ سَالِمٌ وَوَقَفَهُ تَارَةً ، وَسَمِعَهُ كَذَلِكَ نَافِعٌ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لَمْ تَقَعْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ يَعْنِي قِصَّةَ الْعَبْدِ فِي حَدِيثِ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ فَسَالِمٌ ثِقَةٌ بَلْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ نَافِعٍ فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ .
انْتَهَى .
وَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ سَالِمٍ وَنَافِعٍ هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُمَا وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ رَفْعُ الْقِصَّتَيْنِ رَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَذَكَرَ الْقِصَّتَيْنِ مَرْفُوعَتَيْنِ قَالَ شُعْبَةُ فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثِ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ حَدَّثَنِي بِالنَّخْلِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَمْلُوكِ عَنْ عُمَرَ فَقَالَ عَبْدُ رَبِّهِ لَا أَعْلَمُهَا جَمِيعًا إلَّا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ مَرَّة أُخْرَى فَحَدَّثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَشُكَّ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ شُعْبَةَ أَيْضًا مُخْتَصَرًا ( مَنْ بَاعَ نَخْلًا وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا ) جَمِيعًا وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ أَيُّوبَ .
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِالْقِصَّتَيْنِ ، وَقَالَ هَذَا خَطَأٌ وَالصَّوَابُ حَدِيثُ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ ، وَأَيُّوبَ أَيْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ
بِقِصَّةِ الْعَبْدِ خَاصَّةً مَوْقُوفَةً وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بِالْقِصَّتَيْنِ مَرْفُوعًا قَالَ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ : وَالْمَحْفُوظُ أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ .
{ الثَّانِيَةُ } قَالَ النَّوَوِيُّ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ أَبَرْت النَّخْلَ آبُرُهُ أَبْرًا بِالتَّخْفِيفِ كَأَكَلْتُهُ آكُلُهُ أَكْلًا ، وَأَبَّرْتُهُ بِالتَّشْدِيدِ أُؤَبِّرُهُ تَأْبِيرًا كَعَلَّمْتُهُ أُعَلِّمُهُ تَعْلِيمًا وَهُوَ أَنْ يَشُقَّ طَلْعَ النَّخْلَةِ لِيُذَرَّ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ طَلْعِ ذَكَرِ النَّخْلِ ، وَالْأُبَارُ هُوَ شَقُّهُ سَوَاءٌ حُطَّ فِيهِ شَيْءٌ أَمْ لَا .
{ الثَّالِثَةُ } فِيهِ بِمَنْطُوقِهِ أَنَّ مَنْ بَاعَ نَخْلًا وَعَلَيْهَا ثَمَرَةٌ مُؤَبَّرَةٌ لَمْ تَدْخُلْ الثَّمَرَةُ فِي الْبَيْعِ بَلْ تَسْتَمِرُّ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَبِمَفْهُومِهِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُؤَبَّرَةٍ دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ وَكَانَتْ لِلْمُشْتَرِي وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَدَاوُد وَبَقِيَّةُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّهَا لِلْبَائِعِ مُطْلَقًا قَبْلَ التَّأْبِيرِ وَبَعْدَهُ .
وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ النَّوَوِيُّ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بِمَنْطُوقِهِ فِي الْمُؤَبَّرَةِ وَهُوَ لَا يَقُولُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فَأَلْحَقَ غَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ بِالْمُؤَبَّرَةِ وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِأَنَّ الظَّاهِرَ يُخَالِفُ الْمُشْتَرِيَ فِي حُكْمِ التَّبَعِيَّةِ فِي الْبَيْعِ كَمَا أَنَّ الْجَنِينَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْبَيْعِ وَلَا يَتْبَعُهَا الْوَلَدُ الْمُنْفَصِلُ .
انْتَهَى .
وَذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إلَى أَنَّهَا لِلْمُشْتَرِي مُطْلَقًا قَبْلَ التَّأْبِيرِ وَبَعْدَهُ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ : قَوْلُهُ بَاطِلٌ مُنَابِذٌ لِصَرِيحِ السُّنَّةِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ ؛ وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ رَدُّوا هَذِهِ السُّنَّةَ بِتَأْوِيلٍ وَرَدَّهَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى جَهْلًا بِهَا .
{ الرَّابِعَةُ } هَذَا
الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ عِنْدَ إطْلَاقِ بَيْعِ النَّخْلِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلثَّمَرَةِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ فَإِنْ شَرَطَهَا الْمُشْتَرِي بِأَنْ قَالَ : اشْتَرَيْت النَّخْلَةَ بِثَمَرَتِهَا كَانَتْ لِلْمُشْتَرِي كَمَا هُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ ، وَإِنْ شَرَطَهَا الْبَائِعُ لِنَفْسِهِ فِيمَا إذَا كَانَ قَبْلَ التَّأْبِيرِ اُتُّبِعَ شَرْطُهُ ، وَكَانَتْ لِلْبَائِعِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْأَكْثَرِينَ وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَجُوزُ شَرْطُهَا لِلْبَائِعِ .
{ الْخَامِسَةُ } : اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ ( إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ) بِدُونِ ضَمِيرٍ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ جَمِيعَ الثَّمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ بَلْ بَعْضَهَا كَأَنْ يَشْتَرِطَ نِصْفَهَا أَوْ رُبُعَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ اُتُّبِعَ شَرْطُهُ وَكَأَنَّهُ قَالَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَبِهِ قَالَ أَشْهَبُ كَمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .
قَالَ : وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا يَجُوزُ لَهُ شَرْطُ بَعْضِهَا بَلْ إمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ جَمِيعَهَا أَوْ يَسْكُتَ عَنْهُ .
{ السَّادِسَةُ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا بَاعَ نَخْلًا عَلَيْهِ ثَمَرَةٌ قَدْ أُبِّرَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ فَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ الْجَمِيعُ لِلْبَائِعِ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي نَخْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَا إنْ كَانَ فِي نَخَلَاتٍ بِشَرْطَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) اتِّحَادُ الصَّفْقَةِ فَلَوْ أَفْرَدَ كُلًّا مِنْ الْمُؤَبَّرِ وَغَيْرِهِ بِصَفْقَةٍ ( فَالْأَصَحُّ ) أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حُكْمًا .
وَ ( الثَّانِي ) أَنَّ الْجَمِيعَ لِلْبَائِعِ اكْتِفَاءً بِوَقْتِ التَّأْبِيرِ ( ثَانِيهِمَا ) اتِّحَادُ الْبُسْتَانِ فَلَوْ كَانَ فِي بَسَاتِينَ أُفْرِدَ كُلُّ بُسْتَانٍ بِحُكْمٍ عَلَى الْمَذْهَبِ وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ النَّوْعِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّهُ إذَا أَبَّرَ الْبَعْضَ كَانَ الْكُلُّ لِلْبَائِعِ لَكِنَّ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَنَّ مَا أُبِّرَ لِلْبَائِعِ ، وَمَا لَمْ يُؤَبَّرْ لِلْمُشْتَرِي .
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : إنْ أُبِّرَ الْأَكْثَرُ غَلَبَ حُكْمُهُ عَلَى الْبَاقِي فَيَكُونُ الْجَمِيعُ لِلْبَائِعِ ، وَإِنْ أُبِّرَ الْأَقَلُّ غَلَبَ حُكْمُهُ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِنْ أُبِّرَ النِّصْفُ فَفِيهِ خِلَافٌ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجَمِيعَ لِلْمُشْتَرِي كَذَا نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ لَكِنَّ الَّذِي نَقَلَهُ ابْنُ شَاسٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّهُ إذَا أُبِّرَ النِّصْفُ فَمَا دُونَهُ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حُكْمُهُ .
وَعِبَارَةُ ابْنِ شَاسٍ لَوْ تَأَبَّرَ شَطْرُ الثِّمَارِ حُكِمَ بِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ فِيهِ دُونَ الشَّطْرِ الَّذِي لَمْ يُؤَبَّرْ ، وَإِنْ تَأَبَّرَ أَكْثَرُهَا حُكِمَ بِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ فِي الْكُلِّ وَرُوِيَ أَنَّ غَيْرَ الْمُؤَبَّرِ تَبَعٌ ، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ .
انْتَهَى .
فَمَنْ جَعَلَ غَيْرَ الْمُؤَبَّرِ تَبَعًا لِلْمُؤَبَّرِ قَالَ : إنَّهُ إذَا أُبِّرَ بَعْضُ ثَمَرَةِ النَّخْلِ الْمَبِيعَةِ صَدَقَ فِي الْعُرْفِ أَنَّهُ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ وَمَنْ قَالَ لَا يَتْبَعُ قَالَ مَا لَمْ يُؤَبَّرْ غَيْرُ مُؤَبَّرٍ فَمَنْ سَمَّاهُ مُؤَبَّرًا فَلَيْسَ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مَجَازٌ
بِدَلِيلِ صِحَّةِ نَفْيِهِ وَمَنْ جَعَلَ الْحُكْمَ لِلْأَكْثَرِ غَلَّبَ .
{ السَّابِعَةُ } لَوْ لَمْ تُؤَبَّرْ النَّخْلَةُ بَلْ تَأَبَّرَتْ هِيَ وَتَشَقَّقَتْ بِنَفْسِهَا وَظَهَرَتْ الْكِيزَانُ مِنْهَا كَانَ كَمَا لَوْ أُبِّرَتْ فَيَكُونُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِلْبَائِعِ صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَمْ يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ فِيهِ .
انْتَهَى .
وَذِكْرُ التَّأْبِيرِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ وَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهَا تَكُونُ لِلْبَائِعِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُشْتَرِي .
فَقَالَ : وَلَوْ ظَهَرَتْ ثَمَرَةٌ بِغَيْرِ إبَارٍ لَمْ يَحِلَّ اشْتِرَاطُهَا أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى .
وَمَا أَدْرِي لِمَ أَعْمَلَ قَوْلَهُ قَدْ أُبِّرَتْ فِي إخْرَاجِ الظَّاهِرَةِ مِنْ غَيْرِ تَأْبِيرٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاشْتِرَاطِ ، وَلَمْ يُعْمِلْهُ بِالنِّسْبَةِ لِكَوْنِهَا لِلْمُشْتَرِي فَإِنَّ مُقْتَضَى قَوْلِهِ قَدْ أُبِّرَتْ أَنَّهَا إذَا لَمْ تُؤَبَّرْ بَلْ تَأَبَّرَتْ بِنَفْسِهَا أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي .
{ الثَّامِنَةُ } ادَّعَى ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمُؤَبَّرِ اشْتِرَاطُ الثَّمَرَةِ إلَّا إنْ كَانَ الْمَبِيعُ ثَلَاثَ نَخَلَاتٍ فَأَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ نَخْلَةً أَوْ نَخْلَتَيْنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ اشْتِرَاطُ ثَمَرَتِهَا ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ نَخْلٍ ثَلَاثٌ فَصَاعِدًا وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ مُقْتَضَى جُمُودِهِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَجْعَلَ الثَّمَرَةَ الْمُؤَبَّرَةَ لِلْبَائِعِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ نَخْلَةً أَوْ نَخْلَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ إنَّمَا جَعَلَهَا لَهُ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ نَخْلًا فَعَدَلَ عَنْ هَذَا وَجَعَلَ الثَّمَرَةَ الْمُؤَبَّرَةَ لَهُ مُطْلَقًا قَلَّ الْمَبِيعُ أَوْ كَثُرَ وَلَمْ يَجْعَلْ التَّقْيِيدَ بِالنَّخْلِ إلَّا فِي اشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي الثَّمَرَةَ خَاصَّةً ، وَمَا أَدْرَى لِمَ جَعَلَ هَذَا قَيْدًا فِي الْوَصْفِ وَالِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَمْ
يَجْعَلْهُ قَيْدًا فِي الْأَصْلِ وَلَيْسَ هَذَا مُقْتَضَى الْجُمُودِ .
وَأَمَّا مُقْتَضَى الْفِقْهِ وَفَهْمِ الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ النَّادِرَ فِي حُكْمِ الْمُفْرَدِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، وَيَدْخُلُ بِالشَّرْطِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَالْمَعْنَى إذَا فُهِمَ لَمْ يَجُزْ الْجُمُودُ عَلَى الْأَلْفَاظِ إلَّا عِنْدَ مَنْ لَا تَحْقِيقَ لَهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ بَلْ اللَّفْظُ فِي الْعُرْفِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ مِنْ ذَلِكَ وَالْكَثِيرَ وَالْعُرْفُ فِي مِثْلِ هَذَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْجُمُودِ عَلَى مُقْتَضَى اللُّغَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ التَّاسِعَةُ } وَفِيهِ جَوَازُ الْإِبَارِ لِلنَّخْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الثِّمَارِ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِهِ قَالَهُ النَّوَوِيُّ .
{ الْعَاشِرَةُ } جَعَلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ مَفْهُومَ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ أَنَّ غَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ لِلْمُشْتَرِي خَاصًّا بِإِنَاثِ النَّخْلِ وَقَالَ إنَّ ثَمَرَةَ الذُّكُورِ لِلْبَائِعِ وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَشَقِّقَةٍ ؛ لِأَنَّهَا تُقْصَدُ لِلْقَطْعِ وَالْأَكْلِ وَهِيَ كَذَلِكَ فَأَشْبَهَتْ الْمُؤَبَّرَةَ مِنْ الْإِنَاثِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا لِلْمُشْتَرِي عَمَلًا بِمَفْهُومِ الْحَدِيثِ .
{ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ } نَصُّ الْحَدِيثِ فِي النَّخْلِ وَفَهِمَ الْفُقَهَاءُ مِنْهُ حُكْمَ مَا عَدَاهُ فَقَالُوا : إذَا بَاعَ شَجَرَةً مُثْمِرَةً فَإِنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ قَدْ ظَهَرَتْ أَوْ بَعْضُهَا فَالْكُلُّ لِلْبَائِعِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا شَيْءٌ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي ، وَاقْتِصَارُهُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى ثَمَرَةِ النَّخْلِ إمَّا ؛ لِكَوْنِهِ كَانَ الْغَالِبَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالٍ .
وَوَافَقَ الظَّاهِرِيَّةُ غَيْرَهُمْ فِي أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الثِّمَارِ لِلْبَائِعِ لَكِنَّهُمْ قَالُوا لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاطَ إنَّمَا جَاءَ النَّصُّ بِهِ فِي ثَمَرَةِ النَّخْلِ وَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمْ بَاطِلٌ ، وَقَدْ يُقَالُ كَانَ مُقْتَضَى الْجُمُودِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ ثَمَرَةُ غَيْرِ النَّخْلِ الظَّاهِرِ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي اسْمِ الشَّجَرَةِ وَكَوْنُهُ يَمْتَنِعُ بَيْعُهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِدُونِ شَرْطِ الْقَطْعِ لَا يُنَافِي انْدِرَاجَهَا تَبَعًا ؛ لِأَنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي التَّبَعِيَّةِ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي الِاسْتِقْلَالِ .
{ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ } اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ فِي مَسْأَلَةٍ وَهِيَ مَا لَوْ بَاعَ نَخْلَةً وَبَقِيَتْ الثَّمَرَةُ لَهُ لِكَوْنِهَا ظَاهِرَةً ثُمَّ خَرَجَ طَلْعٌ آخَرُ مِنْ تِلْكَ النَّخْلَةِ أَوْ مِنْ أُخْرَى حَيْثُ يَقْتَضِي الْحَالُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْحُكْمِ فَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ هُوَ لِلْمُشْتَرِي .
وَقَالَ الْجُمْهُورُ هُوَ لِلْبَائِعِ وَلِكُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ مُتَعَلِّقٌ مِنْ الْحَدِيثِ فَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ جَعَلَ الشَّرْعُ ثَمَرَةَ الْمُؤَبَّرَةِ لِلْبَائِعِ وَهَذَا مِنْ ثَمَرَةِ الْمُؤَبَّرَةِ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ إنَّمَا جُعِلَ لَهُ مَا وُجِدَ وَظَهَرَ فَأَمَّا مَا لَمْ يُوجَدْ فَقَدْ حَدَثَ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ أَقْيَسُ وَالْأَوَّلُ أَسْعَدُ بِالْحَدِيثِ ، وَأَقْرَبُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ } فِيهِ أَنَّهُ إذَا بَاعَ عَبْدًا وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ بَلْ تَسْتَمِرُّ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُشْتَرِي لِانْدِرَاجِ الثِّيَابِ تَحْتَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَهُ مَالٌ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَوْجُهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ .
وَ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّهَا تَدْخُلُ .
وَ ( الثَّالِثُ ) يَدْخُلُ سَاتِرُ الْعَوْرَةِ فَقَطْ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ تَدْخُلُ ثِيَابُ الْمِهْنَةِ الَّتِي عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ : يَدْخُلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ اللِّبَاسِ الْمُعْتَادِ .
{ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ } فِيهِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ مَالًا مَلَكَهُ لَكِنَّهُ إذَا بَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي كَوْنَهُ لَهُ وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ شَيْئًا أَصْلًا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَتَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ مَالِ السَّيِّدِ فَأُضِيفَ ذَلِكَ الْمَالُ إلَى الْعَبْدِ لِلِاخْتِصَاصِ وَالِانْتِفَاعِ لَا لِلْمِلْكِ كَمَا يُقَالُ جُلُّ الدَّابَّةِ وَسَرْجُ الْفَرَسِ .
قَالُوا : فَإِذَا بَاعَ السَّيِّدُ الْعَبْدَ فَذَلِكَ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ فَيَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ بَاعَ شَيْئَيْنِ الْعَبْدَ وَالْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ مَالُ الْعَبْدِ تَبَعٌ لَهُ فِي الْبَيْعِ لَا يَحْتَاجُ مُشْتَرِيهِ فِيهِ إلَى اشْتِرَاطٍ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ : وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ بِالسُّنَّةِ لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ ، وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْهُمَا وَعَنْ شُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَقَالَ : لَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
{ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ } قَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي مَالَ الْعَبْدِ ، وَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، وَالثَّمَنُ دَنَانِيرُ .
أَوْ حِنْطَةً وَالثَّمَنُ حِنْطَةٌ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَحَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، وَعَنْ أَبِي ثَوْرٍ وَقَالَ بِهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّبَا وَهُوَ مِنْ قَاعِدَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الصِّحَّةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بُطْلَانُهَا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاحْتِرَازِ فِيهِ عَنْ الرِّبَا وَكَأَنَّ مَالِكًا
لَمْ يَجْعَلْ لِهَذَا الْمَالِ حِصَّةً مِنْ الثَّمَنِ .
{ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ } ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي مَالِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لَهُ أَمْ لَا لَكِنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الشَّرْطُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيَّةُ : وَأَهْلُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ وَلَوْ كَانَ مَجْهُولًا وَكَذَا قَالَ الْحَنَابِلَةُ إنْ فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ بِتَمْلِيكِ السَّيِّدِ صَحَّ الشَّرْطُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَجْهُولًا ، وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ اُعْتُبِرَ عِلْمُهُ وَسَائِرُ شُرُوطِ الْبَيْعِ إلَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ الْعَبْدَ لَا الْمَالَ فَلَا يُشْتَرَطُ وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْهُمَا .
{ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ } اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ : إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ بِدُونِ ضَمِيرٍ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُشْتَرِي بَعْضَ مَالِ الْعَبْدِ إمَّا شَيْءٌ مُعَيَّنٌ ، وَإِمَّا جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي ثَمَرَةِ النَّخْلِ ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ ، وَقَالَ بِهِ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ قَالَ وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَالِكٌ وَأَبُو سُفْيَانَ وَقَالَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ إلَّا الْجَمِيعَ أَوْ يَدَعَ .
{ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ } الْجَارِيَةُ فِي ذَلِكَ كَالْعَبْدِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ حَتَّى مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ لَفْظُ الْعَبْدِ يَقَعُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى جِنْسِ الْعَبْدِ وَالْإِمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ عَبْدٌ وَعَبَدَةٌ وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ كَمَا تَقُولُ الْإِنْسَانُ وَالْفَرَسُ وَالْحِمَارُ .
وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ } زَادَ مُسْلِمٌ ( وَتَذْهَبَ عَنْهَا الْعَاهَةُ وَقَالَ يَبْدُوَ صَلَاحُهُ حُمْرَتُهُ وَصُفْرَتُهُ ) وَلِلْبَيْهَقِيِّ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُؤْمَنَ عَلَيْهَا الْعَاهَةُ قِيلَ وَمَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ قَالَ إذَا طَلَعَتْ الثُّرَيَّا ) وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالثَّمَرِ كَيْلًا وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا } وَزَادَ مُسْلِمٌ وَبَيْعُ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلًا وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : ( وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ ) .
.
{ الْحَدِيثُ الثَّانِي } وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ .
} ( فِيهِ ) فَوَائِدُ .
{ الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ السِّتَّةُ فَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُد مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَحْدَهُ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمُوسَى بْنِ عُتْبَةَ وَالضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ بِلَفْظِ { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى تَزْهُوَ وَعَنْ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ } ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِلَفْظِ { لَا تَتَبَايَعُوا الثَّمَرَةَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَتَذْهَبَ عَنْهَا الْآفَةُ نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ } ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ ( يَبْدُوَ صَلَاحُهُ حُمْرَتُهُ وَصُفْرَتُهُ ) كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ } الْحَدِيثَ .
وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( { لَا تَبِيعُوا الثَّمَرَ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ } فَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ مَا صَلَاحُهُ فَقَالَ تَذْهَبُ عَاهَتُهُ ) وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ فِيهِ : ( قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَصَلَاحُهُ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ ) وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُرَاقَةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ
الثِّمَارِ حَتَّى يُؤْمَنَ عَلَيْهِ الْعَاهَةُ قِيلَ وَمَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ إذَا طَلَعَتْ الثُّرَيَّا } قَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
{ الثَّانِيَةُ } قَوْلُهُ ( حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا ) أَيْ يَظْهَرَ وَهُوَ بِلَا هَمْزٍ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقَعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى يَبْدُوَا بِأَلْفٍ فِي الْخَطِّ وَهُوَ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ حَذْفُهَا فِي مِثْلِ هَذَا لِلنَّاصِبِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي إثْبَاتِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ نَاصِبٌ مِثْلُ زَيْدٌ يَبْدُوَا وَالِاخْتِيَارُ حَذْفُهَا أَيْضًا .
( الثَّالِثَةُ ) فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَهَذَا يَشْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ .
( إحْدَاهَا ) بَيْعُهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ النَّوَوِيُّ فَخَصَّ النَّهْيَ بِالْإِجْمَاعِ لَكِنْ ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ إلَى مَنْعِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا قَالَ وَمِمَّنْ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ مُطْلَقًا لَا بِشَرْطٍ وَلَا بِغَيْرِهِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى .
انْتَهَى .
وَهَذَا يَقْدَحُ فِي دَعْوَى الْإِجْمَاعِ قَالَ أَصْحَابُنَا : فَلَوْ شَرَطَ الْقَطْعَ ثُمَّ لَمْ يَقْطَعْ فَالْبَيْعُ بَاقٍ عَلَى صِحَّتِهِ وَيُلْزِمُهُ الْبَائِعُ بِالْقَطْعِ فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى إبْقَائِهِ جَازَ .
قَالُوا : وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ إذَا كَانَ الْمَقْطُوعُ مُنْتَفَعًا بِهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ كَالْجَوْزِ وَالْكُمَّثْرَى لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ .
( الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ) بَيْعُهَا بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَلِفَتْ الثَّمَرَةُ قَبْلَ إدْرَاكِهَا فَيَكُونُ الْبَائِعُ قَدْ أَكَلَ مَالَ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ فَإِذَا شَرَطَ الْقَطْعَ فَقَدْ انْتَفَى هَذَا الضَّرَرُ وَعَلَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ شَغْلُ
مِلْكِ الْغَيْرِ وَبِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ صَفْقَتَيْنِ وَهُوَ إعَارَةٌ أَوْ إجَارَةٌ فِي بَيْعٍ .
( الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ ) بَيْعُهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ قَطْعٍ وَلَا تَبْقِيَةٍ وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْبُطْلَانُ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى الصِّحَّةِ وَعَنْ مَالِكٍ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ قَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ سَبَبُهُمَا الْخِلَافُ فِي إطْلَاقِ الْعَقْدِ هَلْ يَقْتَضِي التَّبْقِيَةَ فَيَبْطُلُ كَمَا فِي اشْتِرَاطِهَا أَوْ الْقَطْعَ فَيَصِحُّ كَاشْتِرَاطِهِ وَالْأَوَّلُ رَأْيُ الْبَغْدَادِيِّينَ فِي حِكَايَتِهِمْ عَنْ الْمَذْهَبِ وَتَابَعَهُمْ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ التُّونِسِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَالثَّانِي هُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ أَيْ الْمُدَوَّنَةِ عِنْدَ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ مُحْرِزٍ وَأَبِي الْحَسَنِ اللَّخْمِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتِقْرَاءً مِنْ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ فِيمَنْ اشْتَرَى ثَمَرَةَ نَخْلٍ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فَجَذَّهَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ : الْبَيْعُ جَائِزٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ بَيْعٍ شَرْطٌ أَنْ يَتْرُكَهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ صَرْفُ الْإِطْلَاقِ إلَى الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ كَمَا بَعْدَ الزَّهْوِ ؛ وَلِأَنَّ التَّبْقِيَةَ انْتِفَاعٌ بِمِلْكٍ آخَرَ لَمْ يُشْتَرَطْ وَلَمْ يَقَعْ الْبَيْعُ عَلَيْهِ .
انْتَهَى .
وَأَجَابَ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِجَوَابَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيْعُ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ تُوجَدَ وَتُخْلَقَ فَهُوَ كَالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِتَفْسِيرِهِ بُدُوَّ الصَّلَاحِ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ صُفْرَتُهُ وَحُمْرَتُهُ وَبِأَنَّهُ صَلَاحُهُ لِلْأَكْلِ مِنْهُ وَبِأَنَّهُ ذَهَابُ عَاهَتِهِ وَبِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا أَيْ مُقَارِنَةً لِلْفَجْرِ وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { إذَا طَلَعَ النَّجْمُ
صَبَاحًا رُفِعَتْ الْعَاهَةُ عَنْ أَهْلِ الْبَلَدِ } وَالنَّجْمُ الثُّرَيَّا ، وَالْمُرَادُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْحِجَازِ خَاصَّةً لِشِدَّةِ حَرِّهِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ بَعْدَ نَقْلِهِ هَذَا عَنْ بَعْضِ مَنْ يُسَوِّي الْأَخْبَارَ عَلَى مَذْهَبِهِ قَدْ عَرَفْنَا بِذَلِكَ الْأَخْبَارِ نَهْيَهُ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَعَرَفْنَا بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ نَهْيَهُ عَنْ بَيْعِهَا مُطْلَقًا إذَا كَانَتْ مَا لَمْ يَبْدُو فِيهَا الصَّلَاحُ بِمَا يُوجَدُ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الثِّمَارُ عِدَّةً فَقَالَ حَتَّى تَزْهُوَ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ جَابِرٍ حَتَّى تُشَقِّحَ قِيلَ وَمَا تُشَقِّحُ ؟ قَالَ تَحْمَارُّ أَوْ تَصْفَارُّ وَيُؤْكَلُ مِنْهَا وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ جَابِرٍ حَتَّى تَطِيبَ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الثِّمَارِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فِيهَا فِي الْبَيْعِ خِلَافُ حُكْمِهَا قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ الصَّلَاحُ فِيهَا مُطْلَقًا وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ إلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ .
انْتَهَى .
( الْجَوَابُ الثَّانِي ) أَنَّ النَّهْيَ هُنَا لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْزِيهِ وَالْأَدَبِ وَالْمَشُورَةِ عَلَيْهِمْ لِكَثْرَةِ مَا كَانُوا يَخْتَصِمُونَ إلَيْهِ فِيهِ وَهَذَا مَرْدُودٌ ، وَالْأَصْلُ فِي النَّهْيِ التَّحْرِيمُ حَتَّى يَصْرِفَهُ عَنْ ذَلِكَ صَارِفٌ وَوَافَقَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْجُمْهُورَ عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ اتِّبَاعًا لِلْحَدِيثِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَاضِي خَانَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ الْمَنْعِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مَا إذَا كَانَتْ الشَّجَرَةُ ثَابِتَةً فَإِنْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً صَحَّ بَيْعُ ثَمَرَتِهَا مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ لَا تَبْقَى عَلَيْهَا فَقَبْضُهُ كَشَرْطِ الْقَطْعِ .
{ الرَّابِعَةُ } ذَهَبَ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى جَوَازِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فِي صُورَةٍ وَهِيَ مَا إذَا كَانَتْ الْكُرُومُ فِي بِلَادٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ بِحَيْثُ لَا تَنْتَهِي ثِمَارُهَا إلَى الْحَلَاوَةِ وَاعْتَادَ أَهْلُهَا قَطَعَهُ حِصْرِمًا وَيَكُونُ الْمُعْتَادُ
كَالْمَشْرُوطِ وَمَنَعَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ الصُّوَرِ ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِهَذِهِ الْعَادَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِاشْتِرَاطِ الْقَطْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الْخَامِسَةُ } ذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى جَوَازِ الْبَيْعِ مُطْلَقًا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْأَشْجَارُ لِلْمُشْتَرِي بِأَنْ يَبِيعَ إنْسَانٌ شَجَرَةً وَتَبْقَى الثَّمَرَةُ لَهُ ثُمَّ يَبِيعَهُ الثَّمَرَةَ أَوْ يُوصِيَ لِإِنْسَانٍ بِالثَّمَرَةِ فَيَبِيعَهَا لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَوَقَعَ لِلنَّوَوِيِّ فِي الرَّوْضَةِ فِي كِتَابِ الْمُسَاقَاةِ تَصْحِيحُهُ لَكِنْ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا لَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ هُنَا بَلْ لَهُ الْإِبْقَاءُ إذْ لَا مَعْنَى لِتَكْلِيفِهِ قَطْعَ ثِمَارِهِ عَنْ أَشْجَارِهِ وَقَالَ بِالْبُطْلَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَ عَدَمِ شَرْطِ الْقَطْعِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ دِينَارٍ .
{ السَّادِسَةُ } حَمَلَ الْفُقَهَاءُ مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الْمَنْعَ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ عَلَى مَا إذَا بَاعَهَا مُفْرَدَةً عَنْ الْأَشْجَارِ فَإِنْ بَاعَهَا مَعَ الْأَشْجَارِ صَحَّ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ بَلْ قَالَ أَصْحَابُنَا لَا يَجُوزُ شَرْطُ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَبَشَّعَ فِي إنْكَارِهِ وَهُوَ مَرْدُودٌ وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ ، وَأَيُّ مَعْنًى لِلْقَطْعِ وَالْأَشْجَارُ لَيْسَتْ بَاقِيَةً لِلْبَائِعِ بَلْ هِيَ مَبِيعَةٌ لِلْمُشْتَرِي .
{ السَّابِعَةُ } مُقْتَضَى قَوْلِهِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا جَوَازُ بَيْعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُطْلَقًا وَبِشَرْطِ الْقَطْعِ وَبِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا وَقَدْ جَعَلَ النَّهْيَ مُمْتَدًّا إلَى غَايَةِ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنْ
تُؤْمَنَ فِيهَا الْعَاهَةُ وَتَغْلِبَ السَّلَامَةُ فَيُوثَقَ بِحُصُولِهَا لِلْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ بَيْعُهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ فَسَوَّى بَيْنَ مَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَمَا بَعْدَهُ وَقَدْ فَرَّقَ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ وَغَايَرَ بَيْنَ حُكْمِهِمَا وَحَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَوْجَبَ شَرْطَ الْقَطْعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجِبْهُ لَا قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَلَا بَعْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَلْ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ الْبَيْعَ حَالَةَ الْإِطْلَاقِ فِيهِمَا ، وَأَبْطَلَهُ حَالَةَ شَرْطِ التَّبْقِيَةِ فِيهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ فِي حَالَةِ الْإِطْلَاقِ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي قَطْعُهَا فِي الْحَالِ تَفْرِيغًا لِمِلْكِ الْبَائِعِ فَإِنْ تَرَكَهَا بِإِذْنِهِ طَابَ لَهُ ، وَإِنْ تَرَكَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ تَصَدَّقَ بِمَا زَادَ لِحُصُولِهِ بِجِهَةٍ مَحْظُورَةٍ ، وَإِنْ تَرَكَهَا بَعْدَ مَا تَنَاهَى عِظَمُهَا لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا لِغَيْرِ حَالَةٍ لَا تُحَقِّقُ زِيَادَةً .
{ الثَّامِنَةُ } لَا يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ بِالنَّخْلِ بَلْ سَائِرُ الْأَشْجَارِ كَذَلِكَ فِي جَوَازِ بَيْعِ ثَمَرَتِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُطْلَقًا وَبِشَرْطِ الْقَطْعِ وَبِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ وَامْتِنَاعِهِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ إلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ مَعَ كَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
{ التَّاسِعَةُ } قَالَ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ لَا يُشْتَرَطُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي كُلِّ عُنْقُودٍ بَلْ إذَا بَاعَ ثَمَرَةَ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ بَدَا الصَّلَاحُ فِي بَعْضِهَا كَانَ كَمَا لَوْ بَدَا فِي كُلِّهَا حَتَّى يَصِحَّ بَيْعُهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ .
وَلَوْ بَاعَ ثِمَارَ أَشْجَارٍ بَدَا الصَّلَاحُ فِي بَعْضِهَا نُظِرَ إنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ لَمْ يُغَيِّرْ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي جِنْسٍ حُكْمَ جِنْسٍ آخَرَ ؛ فَلَوْ بَاعَ رُطَبًا وَعِنَبًا بَدَا الصَّلَاحُ فِي أَحَدِهِمَا فَقَطْ وَجَبَ شَرْطُ الْقَطْعِ فِي الْآخَرِ ، وَإِنْ اتَّحِدْ الْجِنْسُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَإِنَّهُمْ سَوَّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْعِ نَخْلٍ عَلَيْهِ ثَمَرَةٌ قَدْ أُبِّرَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ فَقَالُوا مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ تَبَعٌ لِمَا بَدَا صَلَاحُهُ بِشَرْطِ اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَالْبُسْتَانِ دُونَ النَّوْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ عِنْدَهُمْ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إذَا غَلَبَ صَلَاحُ نَوْعٍ فِي بُسْتَانٍ جَازَ بَيْعُ جَمِيعِهِ وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يُبَاعُ مِنْهُ إلَّا مَا بَدَا صَلَاحُهُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي بَيْعِ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ مِنْهُ عَلَى انْفِرَادِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ النَّوْعِ وَلَا الْبُسْتَانِ بَلْ يُبَاعُ بِطِيبِ الْحَوَائِطِ الْمُجَاوِرَةِ لَهُ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْكُلَّ فِي مَعْنَى الْحَائِطِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَوْ هَدَمَ الْجِدَارَ الْفَاصِلَ صَارَ الْجَمِيعُ حَائِطًا وَاحِدًا لَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَكُونَ طِيبُهُ مُتَلَاحِقًا فَلَوْ كَانَ الَّذِي طَابَ نَوْعًا يُبَكِّرُ جِدًّا لَمْ يُلْحَقْ بِهِ غَيْرُهُ وَقِيلَ يُشْتَرَط اتِّحَادُ الْبُسْتَانِ .
وَقَالَ
الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ يُلْحَقُ بِهِ حَوَائِطُ الْبَلَدِ كُلُّهَا قَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي الْجَوَاهِرِ وَهَذَا الْقَوْلُ يَرْجِعُ إلَى إقَامَةِ وَقْتِ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مَقَامَ نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَتْ الْأَشْجَارُ مِمَّا تُطْعِمُ بَطْنَيْنِ فِي السَّنَةِ فَفِي جَوَازِ بَيْعِ الْبَطْنِ الثَّانِي بِبُدُوِّ صَلَاحِ الْأَوَّلِ قَوْلَانِ الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا الْمَنْعُ هَكَذَا ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ الْمَسْأَلَةَ .
{ الْعَاشِرَةُ } قَالَ أَصْحَابُنَا يَحْصُلُ بُدُوُّ الصَّلَاحِ بِظُهُورِ النُّضْجِ وَمَبَادِئِ الْحَلَاوَةِ وَزَوَالِ الْعُفُوصَةِ أَوْ الْحُمُوضَةِ الْمُفْرِطَتَيْنِ وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَتَلَوَّنُ بِأَنْ يَتَمَوَّهَ وَيَلِينَ وَفِيمَا يَتَلَوَّنُ بِأَنْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ يَسْوَدَّ قَالُوا وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ فَإِنْ عُرِفَ بِهَا بُدُوُّ الصَّلَاحِ فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا شَرْطًا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقِثَّاءَ لَا يَتَصَوَّرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا بَلْ يُسْتَطَابُ أَكْلُهُ صَغِيرًا وَكَبِيرًا ، وَإِنَّمَا بُدُوُّ صَلَاحِهِ أَنْ يَكْبُرَ بِحَيْثُ يُجْنَى فِي الْغَالِبِ وَيُؤْكَلُ ، وَإِنَّمَا يُؤْكَلُ فِي الصِّغَرِ عَلَى النُّدُورِ وَكَذَا الزَّرْعُ لَا يَتَصَوَّرُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا بِاشْتِدَادِ الْحَبِّ وَقَالَ الْبَغَوِيّ بَيْعُ أَوْرَاقِ التُّوتِ قَبْلَ تَنَاهِيهَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَبَعْدَهُ يَجُوزُ مُطْلَقًا وَبِشَرْطِ الْقَطْعِ ، وَالْعِبَارَةُ الشَّامِلَةُ أَنْ يُقَالَ بُدُوُّ الصَّلَاحِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ صَيْرُورَتُهَا إلَى الصِّفَةِ الَّتِي تُطْلَبُ غَالِبًا لِكَوْنِهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ .
{ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ } قَوْلُهُ نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ تَأْكِيدٌ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ أَنَّ الْبَيْعَ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةُ الْإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْتَكِبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِيهِ وَيَقُولُ أَسْقَطْت حَقِّي مِنْ اعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ فَإِنَّ الْمَنْعَ لِمَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الثِّمَارَ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُعَرَّضَةٌ لِطَوَارِئِ الْعَاهَاتِ عَلَيْهَا فَإِذَا طَرَأَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْهَا حَصَلَ الْإِجْحَافُ لِلْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ الَّذِي بَذَلَهُ وَمَعَ فَقَدْ مَنَعَهُ الشَّرْعُ وَنَهَى الْمُشْتَرِيَ كَمَا نَهَى الْبَائِعَ وَكَأَنَّهُ قَطَعَ بِذَلِكَ النِّزَاعَ وَالتَّخَاصُمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ } اسْتَدَلَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَقَالَ فَلَمْ يُحَذِّرْ الْبَيْعَ بَعْدَ الصَّلَاحِ عَلَى أَحَدٍ وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ .
( قُلْت ) وَلِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الثَّمَرِ الزَّكَوِيِّ قَبْلَ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ( الْبُطْلَانُ ) فِي الْجَمِيعِ .
وَ ( الصِّحَّةُ ) فِي الْجَمِيعِ .
وَ ( الْأَظْهَرُ ) الْبُطْلَانُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ وَالصِّحَّةُ فِي الْبَاقِي فَمَنْ أَبْطَلَ الْبَيْعَ إمَّا فِي الْجَمِيعِ ، وَإِمَّا فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ فَلِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْأَصْنَافِ بِهَا كَمَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي الثِّمَارِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ بِهَا إذَا كَانَتْ مَزْهُوَّةً كَسَائِرِ الْمَزْهُوَّاتِ وَالْمَنْعُ فِي الْحَدِيثِ لِمَعْنًى وَهُوَ تَعَرُّضُهَا لِلْآفَاتِ وَذَلِكَ يَزُولُ غَالِبًا بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ فَإِذَا كَانَ فِيهَا بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مَانِعٌ آخَرُ مِنْ الصِّحَّةِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الصِّحَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَانِعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ } قَالَ سُفْيَانُ كَذَا حَفِظْنَاهُ الثَّمَرُ بِالتَّمْرِ ، وَأَخْبَرَهُمْ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا ) وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { وَرَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ أَوْ بِالتَّمْرِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِهِ } وَلِأَبِي دَاوُد بِالتَّمْرِ وَالرُّطَبِ وَلِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ } وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ { وَرَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا } .
{ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ } وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ ، وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا } { الْحَدِيثُ الرَّابِعُ } وَعَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ } قَالَ سُفْيَانُ كَذَا حَفِظْنَاهُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ ، وَأَخْبَرَهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا الْحَدِيثُ الْخَامِسُ } وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ } .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) { الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ } أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ ( ثَمَرُ النَّخْلِ ) وَبِلَفْظِ ( الْعِنَبِ ) وَبِزِيَادَةِ ( بَيْعِ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلًا ) وَفِي لَفْظٍ لَهُ ( وَعَنْ كُلِّ تَمْرٍ بِخَرْصِهِ ) وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ ، وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ بِلَفْظِ ( وَالْمُزَابَنَةُ أَنْ يُبَاعَ مَا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِتَمْرٍ مَكِيلٍ مُسَمًّى إنْ زَادَ فَلِيَ ، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ ) لَفْظُ مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ ( أَنْ يَبِيعَ التَّمْرَ بِكَيْلٍ ) وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِلَفْظِ ( أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إنْ كَانَتْ نَخْلًا بِتَمْرٍ كَيْلًا ، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلًا ، وَإِنْ كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ نَهَى عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ) وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَيُونُسَ بْنِ يَزِيدَ وَالضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُمْ كُلِّهِمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَ ( الْحَدِيثُ الثَّانِي ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِلَفْظِ ( قَالَ ابْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ بِلَفْظِ رَخَّصَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِالرُّطَبِ أَوْ بِالتَّمْرِ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِهِ كِلَاهُمَا عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ .
وَ ( الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ) اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ لَفْظُ الْبُخَارِيِّ { رَخَّصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُبَاعَ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا } .
وَلَفْظُ مُسْلِمٍ { رَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا } وَفِي لَفْظٍ لَهُ { وَالْعَرِيَّةُ النَّخْلَةُ تُجْعَلُ لِلْقَوْمِ فَيَبِيعُونَهَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا } .
وَفِي لَفْظٍ لَهُ { رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا } قَالَ يَحْيَى : الْعَرِيَّةُ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ ثَمَرَ النَّخَلَاتِ لِطَعَامِ أَهْلِهِ رُطَبًا بِخَرْصِهَا تَمْرًا وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ أَيْضًا وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ بِلَفْظِ { رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا } .
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِلَفْظِ { رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا كَيْلًا } وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَالْعَرَايَا نَخَلَاتٌ مَعْلُومَاتٌ يَأْتِيهَا فَيَشْتَرِيهَا ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ خَمْسَتُهُمْ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ
وَالْمُزَابَنَةِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لِأَهْلِ الْعَرَايَا أَنْ يَبِيعُوهَا بِمِثْلِ خَرْصِهَا } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَكَذَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ ؛ وَرَوَى أَيُّوبُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ } .
وَبِهَذَا الْأَسْنَادِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا } وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَقَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا يَشْهَدُ لِرِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْدٍ ( وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِهِ قَالَ فَقَوْل زَيْدٍ وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي غَيْرِهِ هُوَ النَّهْيُ عَنْ الْمُزَابَنَةِ ) .
{ الثَّانِيَةُ } الْمُزَابَنَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَبَعْدَ الْأَلْفِ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ مَفْتُوحَةٌ ثُمَّ نُونٌ ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ الزَّبْنِ وَهُوَ الْمُخَاصَمَةُ وَالْمُدَافَعَةُ ، وَقَدْ فَسَّرَهَا فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهَا بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا وَالثَّمَرُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا بِفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْمِيمِ وَالثَّانِي بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقَ ، وَإِسْكَانِ الْمِيمِ فَالْأَوَّلُ اسْمٌ لَهُ وَهُوَ رُطَبٌ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ وَالثَّانِي اسْمٌ لَهُ بَعْدَ الْجِدَادِ وَالْيُبْسِ وَكَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الصَّحِيحَيْنِ .
وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ وَكَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فَإِنْ كَانَ هَذَا التَّفْسِيرُ مَرْفُوعًا فَلَا إشْكَالَ فِي وُجُوبِ الْأَخْذِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ فَهُمْ رُوَاةُ الْحَدِيثِ ، وَأَعْرَفُ بِتَفْسِيرِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَلَا مُخَالِفَ لَهُمْ عَلِمْته بَلْ قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُزَابَنَةٌ
وَلِذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْهُ كَيْلٌ بِجُزَافٍ وَلَا جُزَافٌ بِجُزَافٍ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ جَهْلَ الْمُسَاوَاةِ وَلَا يُؤْمَنُ مَعَ ذَلِكَ التَّفَاضُلُ .
( قُلْت ) وَحَقِيقَتُهَا الْجَامِعَةُ لِأَفْرَادِهَا بَيْعُ الرُّطَبِ مِنْ الرِّبَوِيِّ بِالْيَابِسِ مِنْهُ وَفَسَّرَهَا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ بَيْعُ مَجْهُولٍ بِمَعْلُومٍ مِنْ صِنْفِ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ أَصْلًا ، وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْمُخَاطَرَةِ وَالْقِمَارِ ، وَأَدْخَلَهُ فِي مَعْنَى الْمُزَابَنَةِ فَقَالَ فِي الْمُوَطَّإِ وَتَفْسِيرُ الْمُزَابَنَةِ : كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْجُزَافِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ كَيْلُهُ وَلَا وَزْنُهُ وَلَا عَدَدُهُ أَنْ يُبَاعَ بِشَيْءٍ مُثْمِرٍ مِنْ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَوْ الْعَدَدِ وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الطَّعَامُ الْمُصَبَّرُ الَّذِي لَا يُعْلَمُ كَيْلُهُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَطْعِمَةِ أَوْ يَكُونُ لِلرَّجُلِ السِّلْعَةُ مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ النَّوَى أَوْ الْقَصَبِ أَوْ الْعُصْفُرِ أَوْ الْكَرَفْسِ أَوْ الْكَتَّانِ أَوْ الْغَزْلِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ السِّلَعِ لَا يُعْلَمُ كَيْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا وَزْنُهُ وَلَا عَدَدُهُ فَيَقُولُ الرَّجُلُ لِرَبِّ تِلْكَ السِّلْعَةِ كِلْ سِلْعَتَك أَوْ مُرْ مَنْ يَكِيلُهَا أَوْ زِنْ مِنْ ذَلِكَ مَا يُوزَنُ أَوْ اُعْدُدْ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعَدُّ فَمَا نَقَصَ مِنْ كَذَا وَكَذَا صَاعًا فَعَلَيَّ غُرْمُهُ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ لِي أَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَوْ الْعَدَدِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِي مَا زَادَ فَلَيْسَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ الْغَرَرُ وَالْمُخَاطَرَةُ وَالْقِمَارُ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ لَهُ الثَّوْبُ أَضْمَنُ لَك مِنْ ثَوْبِك هَذَا كَذَا وَكَذَا طَهَارَةُ قَلَنْسُوَةٍ قَدْرُ كُلِّ طَهَارَةٍ كَذَا وَكَذَا فَمَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيَّ غُرْمُهُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ لِي ثُمَّ ذَكَرَ أَمْثِلَةً أُخْرَى ثُمَّ قَالَ
فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَشْيَاءِ مِنْ الْمُزَابَنَةِ الَّتِي لَا تَجُوزُ .
انْتَهَى .
مَعَ إسْقَاطِ بَعْضِهِ اخْتِصَارًا .
وَفَسَّرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُزَابَنَةَ بِأَنَّهُ بَيْعُ مَا حُرِّمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ جُزَافًا بِجُزَافٍ أَوْ مَعْلُومًا بِجُزَافٍ أَوْ مَعَ التَّسَاوِي وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا رُطَبٌ يَنْقُصُ إذَا جَفَّ .
قَالَ : وَأَمَّا إذَا قَالَ أَضْمَنُ لَك صُبْرَتَك هَذِهِ بِعِشْرِينَ صَاعًا فَمَا زَادَ فَلِي وَمَا نَقَصَ فَعَلَيَّ تَمَامُهَا فَهَذَا مِنْ الْقِمَارِ وَلَيْسَ مِنْ الْمُزَابَنَةِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَمَا قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ فِي تَفْسِيرِ الْمُزَابَنَةِ يَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآثَارُ الْمَرْفُوعَةُ فِي ذَلِكَ قَالَ وَيَشْهَدُ لِقَوْلِ مَالِكٍ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَصْلُ مَعْنَى الْمُزَابَنَةِ فِي اللُّغَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الزَّبْنِ وَهُوَ الْمُقَامَرَةُ وَالدَّفْعُ وَالْمُغَالَبَةُ وَفِي مَعْنَى الْقِمَارِ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ أَيْضًا حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ : إنَّ الْقَمَرَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقِمَارِ لِزِيَادَتِهِ وَنُقْصَانِهِ فَالْمُزَابَنَةُ وَالْقِمَارُ وَالْمُخَاطَرَةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ اشْتِقَاقِهَا وَاحِدٌ يَقُولُ الْعَرَبُ حَرْبٌ زَبُونٌ أَيْ ذَاتُ دَفْعٍ وَقِمَارٍ وَمُغَالَبَةٍ .
قَالَ أَبُو الْعَوْلِ الطُّهْوِيُّ : فَوَارِسُ لَا يَمَلُّونَ الْمَنَايَا إذَا دَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ الزَّبُونِ وَقَالَ مَعْمَرُ بْنُ لَقِيطٍ الْإِيَادِيُّ عَبْلُ الذِّرَاعِ أَبِيًّا ذَا مُزَابَنَةٍ فِي الْحَرْبِ يَخْتِلُ الرِّئْبَالَ وَالسَّقْبَا وَقَالَ مُعَاوِيَةُ : وَمُسْتَعْجِبٌ مِمَّا رَأَى مِنْ إنَاثِنَا وَلَوْ زَبَنَتْهُ الْحَرْبُ لَمْ يَتَزَمْزَمْ .
{ الثَّالِثَةُ } فِيهِ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الرُّطَبِ مِنْ الرِّبَوِيِّ بِالْيَابِسِ مِنْهُ وَلَوْ تَسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ وَهَذَا مَدْلُولُ الْمُزَابَنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالتَّسَاوِي حَالَةُ الْكَمَالِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُسَاوَاةِ الرُّطَبِ لَهُ فِي حَالَةِ الرُّطُوبَةِ مُسَاوَاتُهُ فِي حَالَةِ الْجَفَافِ إذْ يَنْقُصُ بِجَفَافِهِ كَثِيرًا وَقَدْ يَنْقُصُ قَلِيلًا وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ التَّسَاوِي وَاكْتَفَى بِالْمُسَاوَاةِ حَالَةَ الرُّطُوبَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فِي غَيْرِ الْعَرَايَا ، وَأَنَّهُ رِبَا وَعَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ وَسَوَاءٌ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ كَانَ الرُّطَبُ وَالْعِنَبُ عَلَى الشَّجَرِ أَوْ مَقْطُوعًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ مَقْطُوعًا جَازَ بَيْعُهُ بِمِثْلِهِ مِنْ الْيَابِسِ .
انْتَهَى .
وَلَمْ أَرَ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ تَقْيِيدَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْمَقْطُوعَةِ .
{ الرَّابِعَةُ } قَوْلُهُ ( كَيْلًا ) لَيْسَ تَقَيُّدًا لِلنَّهْيِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ جُزَافًا فَلَا كَيْلَ بَلْ كَانَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا قُيِّدَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا صُورَةُ الْمُبَايَعَةِ الَّتِي كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَلَا مَفْهُومَ لَهُ لِخُرُوجِهِ عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَنْطُوقِ .
{ الْخَامِسَةُ } وَفِيهِ أَنَّ مِعْيَارَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ الْكَيْلُ وَهُوَ كَذَلِكَ .
{ السَّادِسَةُ } وَفِيهِ تَسْمِيَةُ الْعِنَبِ كَرْمًا وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُهُ ، وَأَنَّ ذَلِكَ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ لِلْأَدَبِ وَالتَّنْزِيهُ دُونَ الْمَنْعِ وَالتَّحْرِيمِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ السَّابِعَةُ } فِيهِ التَّرْخِيصُ فِي الْعَرَايَا وَاسْتِثْنَاؤُهَا مِنْ الْمُزَابَنَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ كَمَا قَالَهُ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَوْ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ كَمَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالْجُمْهُورُ فَمَنْ جَعَلَهَا بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ قَالَ هِيَ مِنْ عَرَى النَّخْلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ مَعًا عَلَى أَنَّهُ مُتَعَدٍّ يَعْرُوهَا إذَا أَفْرَدَهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ النَّخْلِ بِبَيْعِهَا رُطَبًا وَقِيلَ مِنْ عَرَاهُ يَعْرُوهُ إذَا أَتَاهُ وَتَرَدَّدَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَتَرَدَّدُ إلَيْهَا وَمَنْ جَعَلَهَا بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ قَالَ هِيَ مِنْ عَرِيَ بِكَسْرِ الرَّاءِ يَعْرَى بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهُ قَاصِرٌ فَكَأَنَّهَا عَرِيَتْ مِنْ التَّحْرِيمِ وَالْمُرَادُ بِهَا فِي الشَّرْعِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ أَنْ يَخْرُصَ الْخَارِصُ نَخَلَاتٍ فَيَقُولَ هَذَا الرُّطَبُ الَّذِي عَلَيْهَا إذَا جَفَّ يَجِيءُ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ فَيَبِيعُهُ صَاحِبُهُ لِإِنْسَانٍ بِثَلَاثَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ وَيَتَقَابَضَانِ فِي الْمَجْلِسِ فَيُسَلِّمُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَيُسَلِّمُ بَائِعُ الرُّطَبِ الرُّطَبَ بِالتَّخْلِيَةِ وَفِي تَفْسِيرِهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ .
( أَحَدُهَا ) أَنَّ مَدْلُولَ الْعَرَايَا لُغَةً عَطِيَّةُ ثَمَرَةِ النَّخْلِ دُونَ رِقَابِهَا كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا دَهَمَتْهُمْ سَنَةٌ تَطَوَّعَ أَهْلُ النَّخْلِ مِنْهُمْ عَلَى مَنْ لَا نَخْلَ لَهُ فَيُعْطِيهِمْ مِنْ ثَمَرِ نَخْلِهِ .
وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ .
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رَجَبِيَّةٍ وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الْجَوَائِحِ وَالسَّنْهَاءُ الَّتِي تَحْمِلُ سَنَةً دُونَ سَنَةٍ وَالرَّجَبِيَّةُ الَّتِي تَمِيلُ لِضَعْفِهَا فَيُدَعَّمُ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ يُعَرَّى ثَمَرَتُهَا فِي سِنِي الْجَائِحَةِ وَالْمُرَادُ بِهَا شَرْعًا بَيْعُ ذَلِكَ الْمُعَرَّى الرُّطَبَ الَّذِي مِلْكُهُ بِالْإِعْرَاءِ لِلْمُعْرِي بِتَمْرٍ وَلَا تَجُوزُ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ إلَّا بَيْنَهُمَا خَاصَّةً لِمَا يَدْخُلُ عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ مِنْ الضَّرَرِ بِدُخُولِ غَيْرِهِ حَائِطَهُ أَوْ لِقَصْدِ
الْمَعْرُوفِ بِقِيَامِ صَاحِبِ النَّخْلِ بِالسَّقْيِ وَالْكُلَفِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَشَرْطُهُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ ، وَأَنْ يَكُونَ بِتَمْرٍ مُؤَجَّلٍ إلَى الْجِدَادِ وَلَا يَجُوزُ كَوْنُهُ حَالًّا وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا } .
قَالُوا : فَالْمُرَادُ بِأَهْلِهَا الَّذِينَ يَشْتَرُونَهَا فَقَدْ صَارُوا بِشِرَائِهَا أَهْلَهَا وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَكُونَ أُصُولُ النَّخْلِ مِلْكَهُمْ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ( رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا ) فَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِأَهْلِهَا .
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ يَشْهَدُ لِتَأْوِيلِ مَالِكٍ أَمْرَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْعَرِيَّةَ مَشْهُورَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُتَدَاوَلَةٌ بَيْنَهُمْ وَقَدْ نَقَلَهَا مَالِكٌ هَكَذَا .
( وَالثَّانِي ) قَوْلُهُ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِاخْتِصَاصِهِ بِصِفَةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ ، وَهِيَ الْهِبَةُ الْوَاقِعَةُ .
( الْقَوْلُ الثَّانِي ) رَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ فِي رَجُلٍ لَهُ نَخْلَتَانِ فِي حَائِطِ رَجُلٍ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ أَنَا آخُذُهَا بِخَرْصِهَا إلَى الْجِدَادِ إنْ كَانَ ذَلِكَ لِلرِّفْقِ يُدْخِلُهُ عَلَيْهِ يَعْنِي عَلَى صَاحِبِ النَّخْلَتَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَإِنْ كَرِهَ دُخُولَهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَكْفِيَهُ مُؤْنَةَ السَّقْيِ فَهَذَا عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ وَلَا أُحِبُّهُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ عَلَى خِلَافِ أَصْلِهِ فِي الْعَرِيَّةِ أَنَّهَا هِبَةُ الثَّمَرَةِ ، وَأَنَّ الْوَاهِبَ هُوَ الَّذِي رَخَّصَ لَهُ فِي شِرَائِهَا قَالَ وَهِيَ رِوَايَةٌ مَشْهُورَةٌ عَنْهُ
بِالْمَدِينَةِ وَبِالْعِرَاقِ إلَّا أَنَّ الْعِرَاقِيِّينَ رَوَوْهَا عَنْهُ بِخِلَافِ شَيْءٍ مِنْ مَعْنَاهَا فَذَكَرَهَا الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ عَنْ ابْنِ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْعَرِيَّةَ النَّخْلَةُ وَالنَّخْلَتَانِ لِلرَّجُلِ فِي حَائِطِ غَيْرِهِ .
وَالْعَادَةُ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ بِأَهْلَيْهِمْ فِي وَقْتِ الثِّمَارِ إلَى حَوَائِطِهِمْ فَيَكْرَهُ صَاحِبُ النَّخْلِ الْكَثِيرِ دُخُولَ الْآخَرِ عَلَيْهِ فَيَقُولُ أَنَا أُعْطِيك خَرْصَ نَخْلِك تَمْرًا فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذِهِ الرِّوَايَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا عَنْ مَالِكٍ يُضَارِعُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَرَايَا .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) أَنَّ صُورَتَهَا فِيمَنْ أَعْرَى نَخْلَةٌ أَوْ نَخْلَتَيْنِ لَكِنْ لَا يَخْتَصُّ الْبَيْعُ بِالْمُعَرَّى فَلَهُ بَيْعُ تِلْكَ الثَّمَرَةِ مِمَّنْ شَاءَ فَإِذَا بَاعَهَا بِمِثْلِ خَرْصِهَا تَمْرًا فَهُوَ الْعَرَايَا ، وَحُكِيَ هَذَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فَحَكَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ أَنَّهُ قَالَ : أَنَا لَا أَقُولُ فِيهَا بِقَوْلِ مَالِكٍ لِلْمُعْرِي أَنْ يَبِيعَهَا فِيمَنْ شَاءَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُزَابَنَةِ أَنْ يُبَاعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَرَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَمَالِكٌ يَقُولُ يَبِيعُهَا مِنْ الَّذِي أَعْرَاهَا وَلَيْسَ هَذَا وَجْهُ الْحَدِيثِ عِنْدِي وَيَبِيعُهَا مِمَّنْ شَاءَ وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ لِي ابْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ .
قِيلَ لَهُ فَإِذَا بَاعَ الْمُعْرَى الْعَرِيَّةَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ التَّمْرَ السَّاعَةَ أَوْ حَتَّى يَجِدَ ؟ قَالَ بَلْ يَأْخُذُهُ السَّاعَةَ عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ .
( الْقَوْلُ الرَّابِعُ ) قَالَ الْحَنَفِيَّةُ : الْعَرِيَّةُ هِيَ النَّخْلَةُ يَهَبُ صَاحِبُهَا تَمْرَهَا لِرَجُلٍ وَيَأْذَنُ لَهُ فِي أَخْذِهَا فَلَا يَفْعَلُ حَتَّى يَبْدُوَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَهُ مَنْعُهُ ؛
لِأَنَّهَا هِبَةٌ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمُعْرَى لَمْ يَكُنْ مَلَكَهَا فَأُبِيحَ لِلْمُعْرِي أَنْ يُعَوِّضَهُ بِخَرْصِهَا تَمْرًا وَيَمْنَعَهُ ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ مِنْهُمْ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ لِلْمُعْرَى أَنْ يَأْخُذَ بَدَلًا مِنْ رُطَبٍ لَمْ يَمْلِكْهُ تَمْرًا وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْهُمْ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ لِلْمُعْرِي ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَكُونُ مُخْلِفًا لِوَعْدِهِ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَأُخْرِجَ بِهِ مِنْ إخْلَافِ الْوَعْدِ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَقَالَ لَيْسَ لِلْعَرِيَّةِ عِنْدَهُمْ مَدْخَلٌ فِي الْبُيُوعِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَ تَمْرَ الْعَرِيَّةِ غَيْرَ الْمُعْطِي وَحْدَهُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْعَرِيَّةُ عِنْدَهُمْ هِبَةٌ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ .
قَالَ : وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثِ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ أَصْحَابَ الْخَرْصِ أَنْ لَا يَخْرُصُوا الْعَرَايَا قَالَ : وَالْعَرَايَا أَنْ يَمْنَحَ الرَّجُلُ مِنْ حَائِطِهِ نَخْلًا ثُمَّ يَبْتَاعُهَا الَّذِي مَنَحَهَا إيَّاهُ مِنْ الْمَمْنُوحِ بِخَرْصِهَا .
قَالُوا : فَالْعَرِيَّةُ مِنْحَةٌ وَعَطِيَّةٌ لَمْ تُقْبَضْ فَلِذَلِكَ جَازَ فِيهَا هَذِهِ الرُّخْصَةُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْآثَارُ الصِّحَاحُ تَشْهَدُ بِأَنَّ الْعَرَايَا بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ فِي مِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمَحْظُورِ فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَصْفِ فِي الْعَرَايَا وَمُحَالٌ أَنْ يَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ فِي بَيْعِ مَا لَمْ يَمْلِكْ ؛ وَقَالَ قَبْلَ ذَلِكَ قَالُوا فِي الْعَرَايَا قَوْلًا لَا وَجْهَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِصَحِيحِ الْأَثَرِ فِي ذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْرَجَ عَلَيْهِ قَالَ ، وَإِنْكَارُهُمْ لِلْعَرَايَا كَإِنْكَارِهِمْ لِلْمُسَاقَاةِ مَعَ صِحَّتِهَا وَدَفْعِهِمْ لِحَدِيثِ التَّفْلِيسِ إلَى أَشْيَاءَ مِنْ الْأُصُولِ رَدُّوهَا بِتَأْوِيلٍ لَا مَعْنَى لَهُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَ الْمَبْدُوءَ بِهِ فِي تَفْسِيرِ
الْعَرَايَا وَتَأَوَّلَهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى غَيْرِ هَذَا وَظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ تَرُدُّ تَأْوِيلَهَا .
انْتَهَى .
وَقَدْ رَدَّ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي أَوَّلِ الْخَبَرِ الْبَيْعُ وَاسْتَثْنَى مِنْهُ بَيْعَ الْعَرَايَا ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْهِبَةَ لَمَا احْتَاجَ إلَى اسْتِثْنَائِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْخَبَرِ .
( الثَّانِي ) أَنَّهُ قَالَ فِيهِ أُرَخِّصُ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا وَالرُّخْصَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ حَظْرٍ وَالْحَظْرُ إنَّمَا كَانَ فِي الْبَيْعِ ذَلِكَ لَا فِي الرُّجُوعِ عَنْ الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَ ( الثَّالِثُ ) أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا هُنَا بَيْنَ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ دُونَ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ جَائِزًا فَلَيْسَ إعْطَاؤُهُ التَّمْرَ بَدَلَهُ بَيْعًا فَإِنَّمَا هُوَ تَجْدِيدُ هِبَةٍ أُخْرَى .
وَ ( الرَّابِعُ ) : أَنَّ الرُّخْصَةَ قُيِّدَتْ بِمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَالرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لَا يَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَلَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ .
وَفَسَّرَهَا ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ بِمِثْلِ تَفْسِيرِ الشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّهُ حَتَّى عَنْ الشَّافِعِيِّ تَقْيِيدُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ وَخَالَفَهُ فِي هَذَا التَّقْيِيدِ وَقَالَ إنَّ الشَّافِعِيَّ ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثًا لَا يَدْرِي أَحَدٌ مَنْشَأَهُ وَلَا مَبْدَأَهُ وَلَا طَرِيقَهُ ذَكَرَهُ بِغَيْرِ إسْنَادٍ .
( قُلْت ) وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ قَالَ الشَّافِعِيُّ ( قِيلَ لِمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَوْ قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَإِمَّا غَيْرُهُ مَا عَرَايَاكُمْ هَذِهِ قَالَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَسَمَّى رِجَالًا مُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ شَكُّوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الرُّطَبَ يَأْتِي وَلَا نَقْدَ بِأَيْدِيهِمْ يَبْتَاعُونَ بِهِ رُطَبًا يَأْكُلُونَهُ مَعَ النَّاسِ وَعِنْدَهُمْ فُضُولٌ مِنْ قُوتِهِمْ مِنْ التَّمْرِ فَرَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَبْتَاعُوا
الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا ) وَجَزَمَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ الْمَسْئُولَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ حَكَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ ثُمَّ قَالَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَحَدِيثُ سُفْيَانَ يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّ قَوْلَهُ يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا خَبَرُ أَنْ يَبْتَاعَ الْعَرِيَّةَ أَيْ يَبْتَاعُهَا ؛ لِيَأْكُلَهَا وَذَلِكَ عَلَى أَنْ لَا رُطَبَ لَهُ فِي مَوْضِعِهَا يَأْكُلُهُ غَيْرَهَا ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْحَائِطِ هُوَ الْمُرَخِّصَ لَهُ أَنْ يَبْتَاعَ الْعَرِيَّةَ لِيَأْكُلَهَا كَانَ لَهُ حَائِطُهُ مَعَهَا أَكْثَرَ مِنْ الْعَرَايَا يَأْكُلُ مِنْ حَائِطِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ إلَى أَنْ يَبْتَاعَ الْعَرِيَّةَ الَّتِي هِيَ دَاخِلَةٌ فِي مَعْنَى مَا وَصَفْت مِنْ النَّهْيِ .
انْتَهَى .
وَاعْتِبَارُ الْفَقْرِ فِي جَوَازِ ذَلِكَ هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْفَقْرِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ الَّذِي بِهِ الْفَتْوَى فِي مَذْهَبِهِ ثُمَّ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْفَقْرِ هُنَا مَا يَتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ عَدَمُ النَّقْدِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَالْجُرْجَانِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ الْإِمَامُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ وَقِصَّةُ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ فِي سُؤَالِهِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ تُرْشِدُ لَهُ .
قَالَ : وَنَقَلَ الرُّويَانِيُّ عَنْ الْمُزَنِيّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا لِلْمُعْسِرِ الْمُضْطَرِّ قَالَ وَلَعَلَّ هَذَا تَسَمُّحٌ فِي الْعِبَارَةِ .
( قُلْت ) لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ظَاهِرَ الْإِعْسَارِ وَالِاضْطِرَارِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ الْإِعْسَارُ مِنْ النَّقْدِ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّامِنَةُ } قَوْلُهُ بِخَرْصِهَا ضَبَطَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ بِكَسْرِ الْخَاءِ .
وَقَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفَتْحُ وَقَالَ النَّوَوِيُّ هُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا الْفَتْحُ أَشْهُرُ وَمَعْنَاهُ بِقَدْرِ مَا فِيهَا إذَا صَارَ تَمْرًا فَمَنْ فَتَحَ قَالَ هُوَ مَصْدَرٌ أَيْ اسْمٌ لِلْفِعْلِ وَمَنْ كَسَرَ قَالَ هُوَ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمَخْرُوصِ .
انْتَهَى .
وَالْخَرْصُ هُوَ التَّخْمِينُ وَالْحَدْسُ { التَّاسِعَةُ } الرُّخْصَةُ وَرَدَتْ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ بِالتَّمْرِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَالْيُسْرُ فِي مَعْنَى الرُّطَبِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَوَرَدَتْ رِوَايَةٌ فِي بَيْعِهِ بِرُطَبٍ أَيْضًا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَائِدَةِ الْأُولَى عَزْوُهَا لِلصَّحِيحَيْنِ وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا بِالتَّمْرِ وَالرُّطَبِ } فَتَمَسَّك بِذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْلِ بِرُطَبٍ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ عَلَى النَّخْلِ وَبِهِ قَالَ ابْنُ خَيْرَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجَوَّزَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيمَا إذَا كَانَ عَلَى النَّخْلِ وَمَنَعَهُ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ نَوْعُهُمَا وَيَمْتَنِعُ مَعَ الِاتِّحَادِ وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ مَنْقُولَانِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ يَحْرُمُ مُطْلَقًا وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ قَالَ النَّوَوِيُّ وَيَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلَى أَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ لَا لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ بَلْ مَعْنَاهَا رَخَّصَ فِي بَيْعِهَا بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ وَشَكَّ فِيهِ الرَّاوِي فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّمْرُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ .
انْتَهَى .
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الَّتِي بِالْوَاوِ فَقَالَ ابْنُ عَبْدٍ الْبَرِّ ذِكْرُ الرُّطَبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ إلَّا فِي هَذَا
الْإِسْنَادِ وَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهْمًا وَجَعَلَ الْقَوْلَ بِهِ شُذُوذًا وَمَنْ ذَهَبَ إلَيْهِ قَالَ رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ فُقَهَاءُ عُدُولٌ .
{ الْعَاشِرَةُ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ هَذِهِ الرُّخْصَةَ هَلْ يُقْتَصَرُ بِهَا عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَهُوَ النَّخْلُ أَمْ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) اخْتِصَاصُهَا بِالنَّخْلِ وَهَذَا قَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ فِي تَرْكِ الْقِيَاسِ .
( الثَّانِي ) تَعَدِّيهِمَا إلَى الْعِنَبِ بِجَامِعِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنْ إمْكَانِ الْخَرْصِ فَإِنَّ ثَمَرَتَهُمَا مُتَمَيِّزَةٌ مَجْمُوعَةٌ فِي عَنَاقِيدِهَا بِخِلَافِ سَائِرِ الثِّمَارِ فَإِنَّهَا مُتَفَرِّقَةٌ مُسْتَتِرَةٌ بِالْأَوْرَاقِ لَا يَتَأَتَّى خَرْصُهَا وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
( الثَّالِثُ ) تَعَدِّيهَا إلَى كُلِّ مَا يَيْبَسُ وَيُدَّخَرُ مِنْ الثِّمَارِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَجَعَلُوا ذَلِكَ عِلَّةَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ ، وَأَنَاطُوا الْحُكْمَ بِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا حَتَّى قَالُوا لَوْ كَانَ الْبُسْرُ مِمَّا لَا يَتَتَمَّرُ وَالْعِنَبُ مِمَّا لَا يَتَزَبَّبُ لَمْ يَجُزْ شِرَاءُ الْعَرِيَّةِ مِنْهُ بِخَرْصِهَا بَلْ يَخْرُجُ عَنْ مَحَلِّ الرُّخْصَةِ ؛ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ .
( الرَّابِعُ ) تَعَدِّيهَا إلَى كُلِّ ثَمَرَةٍ مُدَّخَرَةٍ وَغَيْرِ مُدَّخَرَةٍ وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ .
{ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ } لَمْ يُقَيِّدْ الرُّخْصَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِقَدْرٍ مَخْصُوصٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ } شَكَّ دَاوُد فَجَعَلَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْحَدِيثَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ وَقَالُوا تَتَقَيَّدُ الرُّخْصَةُ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ
بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ وَجَاءَتْ الْعَرَايَا رُخْصَةً وَشَكَّ الرَّاوِي فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَهَا فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِالْيَقِينِ وَهُوَ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَبَقِيَتْ الْخَمْسَةُ أَوْسُقٍ عَلَى التَّحْرِيمِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةُ الْمَصْرِيِّينَ الْجَوَازُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَتَوْجِيهُ جَعْلِ الْخَرْصِ أَصْلًا إلَّا فِي نَخْلٍ يَتَيَقَّنُ فِيهِ الْمَنْعُ قَالَ وَالِدِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ تَخْتَصُّ الرُّخْصَةُ بِأَرْبَعَةِ أَوْسُقٍ ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا صَرَّحَ بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ ، وَأَذِنَ لِأَصْحَابِ الْعَرَايَا أَنْ يَبِيعُوهَا بِمِثْلِ خَرْصِهَا ، ثُمَّ قَالَ الْوَسْقِ وَالْوَسْقَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ } .
قَالَ وَقَوْلُهُ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا دُونَهَا فَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَدَّى بِالرُّخْصَةِ عَنْ الْقَدْرِ الْمُحَقِّقِ ( قُلْت ) هُوَ قَوْلٌ قَدْ حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي التَّمْهِيدِ فَقَالَ بَعْدَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمِينَ : وَقَالَ آخَرُونَ لَا تَجُوزُ فِي أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْسُقٍ قَالَ وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمَ ثُمَّ قَالَ وَلَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا فِي جَوَازِ الْعَرَايَا فِي أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْسُقٍ إذَا كَانَتْ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَلَمْ يَعْرِفُوا حَدِيثَ جَابِرٍ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَوْسُقِ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ } هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اخْتِصَاصِ
الْجَوَازِ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ بِمَا دُونَهَا عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ أَخَذَهُ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَقَالَ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْلُغَ بِذَلِكَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ فِي صَفْقَةٍ وَلَا فِي صَفَقَاتٍ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَصْلًا لَا الْبَائِعُ وَلَا الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ الْجُمْهُورُ الْمَنْعُ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ فَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِهَا فَلَا مَنْعَ ، وَلِذَلِكَ تَفَاصِيلُ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ لَوْ بَاعَ قَدْرًا كَثِيرًا فِي صَفَقَاتٍ لَا تَزِيدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ جَازَ وَكَذَا لَوْ بَاعَ فِي صَفْقَةٍ لِرَجُلَيْنِ بِحَيْثُ يَخُصُّ كُلُّ وَاحِدٍ الْقَدْرَ الْجَائِزَ فَلَوْ بَاعَ رَجُلَانِ لِرَجُلٍ فَوَجْهَانِ ( أَصَحُّهُمَا ) أَنَّهُ كَبَيْعِ رَجُلٍ لِرَجُلَيْنِ .
وَ ( الثَّانِي ) : كَبَيْعِهِ لِرَجُلٍ صَفْقَةً .
وَلَوْ بَاعَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ صَفْقَةً لَمْ يَجُزْ فِيمَا زَادَ عَلَى عَشْرَةِ أَوْسُقٍ وَيَجُوزُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَفِي الْعَشَرَةِ الْقَوْلَانِ وَسَوَاءٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَانَتْ الْعُقُودُ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ حَتَّى لَوْ بَاعَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ أَلْفَ وَسْقٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِصَفَقَاتٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ جَازَ وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ لَوْ تَعَدَّدَ الْمُشْتَرِي أَوْ الْبَائِعُ جَازَ إنْ اتَّحِدْ الشِّقُّ الْآخَرُ ، وَإِنْ اتَّحِدَا أَوْ تَعَدَّدَتْ الْحَوَائِطُ وَقَدْ أَعْرَاهُ مِنْ كُلِّ حَائِطٍ قَدْرَ الْعَرِيَّةِ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ هِيَ كَالْحَائِطِ الْوَاحِدِ لَا يُشْتَرَى مِنْهُ مِنْ جَمِيعِهَا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَى مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْكَاتِبِ إنْ كَانَتْ الْعَرَايَا بِلَفْظٍ فَهِيَ كَالْحَائِيِّ الْوَاحِدِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِأَلْفَاظِ أَزْمَانٍ مُتَغَايِرَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ
خَمْسَةَ أَوْسُقٍ .
بَابُ بَيْعِ الْعَقَارِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ ) عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ خُذْ ذَهَبَك مِنِّي إنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْك الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْك الذَّهَبَ وَقَالَ الَّذِي بَاعَ الْأَرْضَ إنَّمَا بِعْتُك الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا قَالَ فَتَحَاكَمَا إلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إلَيْهِ أَلَكُمَا وَلَدٌ قَالَ أَحَدُهُمَا لِي غُلَامٌ وَقَالَ الْآخَرُ لِي جَارِيَةٌ قَالَ أَنْكِحْ الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا } .
{ بَابُ بَيْعِ الْعَقَارِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ } عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ خُذْ ذَهَبَك مِنِّي إنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْك الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْك الذَّهَبَ وَقَالَ الَّذِي بَاعَ الْأَرْضَ إنَّمَا بِعْتُك الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا ؛ قَالَ فَتَحَاكَمَا إلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إلَيْهِ أَلَكُمَا وَلَدٌ ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا لِي غُلَامٌ وَقَالَ الْآخَرُ لِي جَارِيَةٌ قَالَ أَنْكِحْ الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا " ( فِيهِ ) فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { الثَّانِيَةُ } ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي ذِكْرِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ جَرَتْ فِيهِمْ وَحِينَئِذٍ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا هَلْ شَرْعٌ لَنَا أَمْ لَا وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْعًا لَنَا وَأَرَادَ الْبُخَارِيُّ بِذِكْرِهَا بَيَانَ مَنَاقِبِهِمْ وَمُسْلِمٌ أَوْرَدَهَا فِي الْأَقْضِيَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَصَدَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ .
{ الثَّالِثَةُ } الْعَقَارُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ هُوَ الْأَرْضُ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا وَحَقِيقَةُ الْعَقَارِ الْأَصْلُ سُمِّيَ بِذَلِكَ مِنْ الْعُقْرِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَفَتْحِهَا وَهُوَ الْأَصْلُ وَمِنْهُ عُقْرُ الدَّابَّةِ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ .
انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ الْعَقَارُ الْأَرْضُ وَالضِّيَاعُ وَالنَّخْلُ وَيُقَالُ أَيْضًا فِي الْبَيْتِ عَقَارٌ حَسَنٌ أَيْ مَتَاعٌ وَأَدَاةٌ وَقَالَ فِي الْمُحْكَمِ الْعُقْرُ وَالْعَقَارُ الْمَنْزِلُ وَالضَّيْعَةُ وَخَصَّ بَعْضُهُمْ بِالْعَقَارِ النَّخْلَ وَعَقَارُ الْبَيْتِ مَتَاعُهُ وَنَضَدُهُ الَّذِي لَا
يُبْتَذَلُ إلَّا فِي الْأَعْيَادِ وَالْحُقُوقِ الْكِبَارِ وَقَالَ فِي الْمَشَارِقِ الْعَقَارُ الْأَصْلُ مِنْ الْمَالِ وَقِيلَ الْمَنْزِلُ وَالضِّيَاعُ وَقِيلَ مَتَاعُ الْبَيْتِ .
انْتَهَى .
فَجَعَلَ ذَلِكَ خِلَافًا وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ .
{ الرَّابِعَةُ } قَوْلُهُ ( وَقَالَ بَائِعُ الْأَرْضِ إنَّمَا بِعْتُك الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا ) لَفْظٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ ( وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ ) وَهُوَ بِمَعْنَاهُ لِأَنَّهُ الَّذِي كَانَتْ لَهُ الْأَرْضُ قَبْلَ بَيْعِهَا وَاخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ نُسَخُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ فَفِي أَصْلِنَا ( الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ ) وَحَكَاهَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ رِوَايَةِ السَّمَرْقَنْدِيِّ وَحَكَاهَا النَّوَوِيُّ عَنْ أَكْثَرِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا اشْتَرَى قَالَ الْعُلَمَاءُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَشَرَى هُنَا بِمَعْنَى بَاعَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } وَلِهَذَا قَالَ : فَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ إنَّمَا بِعْتُك ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ الرِّوَايَةَ التَّالِيَةَ عَنْ غَيْرِ السَّمَرْقَنْدِيِّ قَالَ وَفِيهَا بُعْدٌ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ هُنَا الْبَائِعُ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَلَيْهِ مُشْتَرٍ لَا إنْ صَحَّ فِي اشْتَرَى أَنَّهُ مِنْ الْأَضْدَادِ كَمَا قُلْنَاهُ فِي شَرَى ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ .
انْتَهَى .
{ الْخَامِسَةُ } قَوْلُهُ ( فَتَحَاكَمَا إلَى رَجُلٍ ) قَالَ الْقُرْطُبِيُّ ظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا حَكَّمَاهُ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا مَنْصُوبًا لِلنَّاسِ مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَفِي ظَاهِرِهِ يَكُونُ فِيهِ لِمَالِكٍ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ : إنَّ الْمُتَدَاعِيَيْنِ إذَا حَكَّمَا بَيْنَهُمَا مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْحُكْمِ صَحَّ وَلَزِمَهُمَا حُكْمُهُ مَا لَمْ يَكُنْ جَوْرًا سَوَاءٌ وَافَقَ ذَلِكَ الْحُكْمُ رَأْيَ قَاضِي الْبَلَدِ أَوْ خَالَفَهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ وَافَقَ رَأْيُهُ رَأْيَ قَاضِي الْبَلَدِ نَفَذَ وَإِلَّا فَلَا وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ وَقَالَ أَيْضًا لَا يَلْزَمُ
حُكْمُهُ وَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْفَتْوَى مِنْهُ وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ .
انْتَهَى .
( قُلْت ) الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ التَّحْكِيمِ فِي غَيْرِ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ مَا عَرَفْت مِنْ أَيْنَ لِلْقُرْطُبِيِّ أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا وَإِنَّمَا كَانَ مُحَكَّمًا فَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ كَمَا ذَكَرَهُ آخِرًا وَقَدْ سَمَّاهُ النَّوَوِيُّ فِي تَبْوِيبِهِ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ حَاكِمًا .
{ السَّادِسَةُ } قَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا : وَهَذَا الرَّجُلُ الْمُحَكَّمُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُنْفِقَا ذَلِكَ الْمَالَ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَعَلَى وَلَدَيْهِمَا وَيَتَصَدَّقَا وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَالَ ضَائِعٌ إذْ لَمْ يَدَّعِهِ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيْتُ مَالٍ فَظَهَرَ لِهَذَا الرَّجُلِ أَنَّهُمَا أَحَقُّ بِذَلِكَ الْمَالِ مِنْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمُسْتَحَقِّينَ لِزُهْدِهِمَا وَوَرَعِهِمَا وَحُسْنِ حَالِهِمَا وَلِمَا ارْتَجَى مِنْ طِيبِ نَسْلِهِمَا وَصَلَاحِ ذُرِّيَّتِهِمَا .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : وَاخْتُلِفَ عِنْدَنَا فِيمَنْ ابْتَاعَ أَرْضًا فَوَجَدَ فِيهَا شَيْئًا مَدْفُونًا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِلْبَائِعٍ أَوْ لِلْمُشْتَرِي ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَيَعْنِي بِذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَرْضِ كَالْحِجَارَةِ وَالْعَمَدِ وَالرُّخَامِ وَلَمْ يَكُنْ خِلْقَةً فِيهَا ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِ أَنْوَاعِ الْأَرْضِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ رِكَازًا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ دِفْنِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ لُقَطَةٌ ، وَإِنْ كَانَ جُهِلَ ذَلِكَ كَانَ مَالًا ضَائِعًا فَإِنْ كَانَ هُنَالِكَ بَيْتُ مَالٍ حُفِظَ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صُرِفَ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَفِيمَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى أُمُورِ الدِّينِ وَفِيمَا أَمْكَنَ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
انْتَهَى .
وَجَزَمَ أَصْحَابُنَا الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ الْحِجَارَةُ الْمَخْلُوقَةُ فِيهَا وَالْمُثَبَّتَةُ وَبِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الْكُنُوزُ وَالْأَقْمِشَةُ
وَالْحِجَارَةُ الْمَدْفُونَةُ .
{ السَّابِعَةُ } هَذِهِ الْوَاقِعَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صُورَتُهَا أَنَّهُ بَاعَهُ الْعَقَارَ مُطْلَقًا وَبَنَى الْبَائِعُ عَلَى دُخُولِ الذَّهَبِ الَّذِي فِيهَا فِي الْإِطْلَاقِ وَبَنَى الْمُشْتَرِي عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ .
وَالْحُكْمُ فِيهَا فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ عَدَمُ الدُّخُولِ كَمَا تَقَدَّمَ فَالْمُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ الْمُشْتَرِي ، وَالذَّهَبُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صُورَتُهَا أَنَّ الْبَائِعَ يَقُولُ : إنَّهُ وَقَعَ تَصْرِيحٌ بِبَيْعِ الذَّهَبِ مَعَ الْعَقَارِ وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ لَمْ يَقَعْ تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِبَيْعِ الْعَقَارِ خَاصَّةً وَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَتَحَالَفَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ فَيَحْلِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا يَمِينًا يَجْمَعُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ حَيْثُ لَا يَكُونُ هُنَاكَ بَيِّنَةٌ فَإِذَا تَحَالَفَا فُسِخَ الْبَيْعُ إنْ لَمْ يَرْضَ أَحَدُهُمَا بِمَا قَالَ الْآخَرُ ، وَرَجَعَ الْعَقَارُ وَالذَّهَبُ إلَى الْبَائِعِ وَقَدْ ظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقُرْطُبِيِّ إنَّ هَذَا مَالٌ ضَائِعٌ إذْ لَمْ يَدَّعِهِ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ مَرْدُودٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْبَائِعُ لَيْسَ هَذَا الذَّهَبُ لِي أَصْلًا وَحِينَئِذٍ فَيَرْجِعُ إلَى بَائِعِهِ وَهَكَذَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْمُجْبِي وَأَمَّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَإِنَّ الْبَائِعَ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ الذَّهَبَ كَانَ لَهُ وَبَاعَهُ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ إنَّمَا بِعْتُك الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا ، وَإِنَّمَا الِاحْتِمَالُ فِي أَنْ يَبِيعَهُ مَا فِيهَا هَلْ كَانَ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ أَوْ بِدُخُولِهِ تَحْتَ لَفْظِ الْأَرْضِ وَتَبَعِيَّتِهِ لَهَا فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا قَدَّمْتُهُ مِنْ الِاحْتِمَالَيْنِ وَحُكْمُهُمَا عِنْدَنَا وَهَذَا الَّذِي وَقَعَ مِنْ كَلَامَيْهِمَا يُسَمَّى عِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ قَصْرُ إفْرَادٍ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِشَيْئَيْنِ وَهُوَ الْأَرْضُ وَالذَّهَبُ وَالْمُشْتَرِي يُقْصِرُ ذَلِكَ عَلَى
أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْأَرْضُ وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ يَدَّعِي بَيْعَ الذَّهَبِ دُونَ الْأَرْضِ وَالْمُشْتَرِي ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ دُونَ الذَّهَبِ لَكَانَ قَصْرُ قَلْبٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
{ الثَّامِنَةُ } وَفِيهِ فَضْلُ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَأَنَّ الْقَاضِيَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعَيْنِ كَمَا يُسْتَحَبُّ لِغَيْرِهِ وَقَدْ عَدَّ أَصْحَابُنَا ذَلِكَ مِنْ وَظَائِفِ الْقَضَاءِ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ وَظَائِفِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ التَّاسِعَةُ } الْوَلَدُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ وَبِضَمِّ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ اللَّامِ فِيهِمَا يَكُونُ مُفْرَدًا وَجَمْعًا وَهُوَ هُنَا مُحْتَمِلٌ لَهُمَا فَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ أَلِكُلٍّ مِنْكُمَا وَلَدٌ فَهُوَ مُفْرَدٌ ، وَإِنْ كَانَ التَّقْدِيرُ أَلِمَجْمُوعِكُمَا وَلَدٌ فَالْمُرَادُ الْجَمْعُ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلَيْنِ وَلَدٌ وَاحِدٌ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَقَدْ يَكُونُ الْوَلَدُ جَمْعَ الْوَلَدِ مِثْلَ أُسُدٌ وَأَسَدٌ .
{ الْعَاشِرَةُ } قَوْلُهُ أَنْفِقُوا كَذَا فِي رِوَايَتِنَا وَرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَلَعَلَّ الْجَمْعَ ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ قَدْ يَكُونُ بِيَدِ الْوَالِدَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ لَكِنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ وَتَصَدَّقَا فَثَنَّى الضَّمِيرَ وَلَعَلَّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَبَرُّعٌ فَلَا تَصْدُرُ إلَّا مِنْ الْمَالِكِ الرَّشِيدِ وَالْوَلَدَانِ لَيْسَ لَهُمَا مِلْكٌ فِي ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونَانِ مَعَ ذَلِكَ صَغِيرَيْنِ أَوْ سَفِيهَيْنِ وَقَوْلُهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا كَذَا هُوَ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي رِوَايَتِنَا وَرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَنْفُسِكُمَا بِضَمِيرِ الْخِطَابِ .
بَابُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ } عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا { إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ } وَلَهُمَا { كُلُّ بَيْعَيْنِ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ } وَلِلْبُخَارِيِّ ( الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ وَرُبَّمَا قَالَ أَوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيَارٍ ) وَلَهُ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ ) وَقَالَ مُسْلِمٌ ( كَانَ إذَا بَايَعَ رَجُلًا فَأَرَادَ أَلَا يُقِيلَهُ قَامَ فَمَشَى هُنَيَّة ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ ) وَلِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ { الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةُ خِيَارٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ } وَلِلْبَيْهَقِيِّ ( حَتَّى يَتَفَرَّقَا مِنْ مَكَانِهِمَا ) وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا أَوْ يَخْتَارَ ثَلَاثَ مِرَارٍ } وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ دُونَ قَوْلِهِ ( أَوْ ) وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا وَيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْبَيْعِ مَا هَوِيَ وَيَتَخَايَرَانِ ثَلَاثَ مِرَارٍ } .
{ بَابُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ } عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ } فِيهِ فَوَائِدُ : { الْأُولَى } أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ بِهَذَا اللَّفْظِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ فِي لَفْظِهِ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ طُرُقِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ بِلَفْظِ ( الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ ) وَرُبَّمَا قَالَ ( أَوْ يَكُونُ بَيْعَ خِيَارٍ ) لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَلَمْ يَسُقْ مُسْلِمٌ لَفْظَهُ بَلْ قَالَ إنَّهُ نَحْوُ حَدِيثِ مَالِكٍ وَقَالَ أَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ قَالَ ( أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ بِلَفْظِ ( إنَّ الْمُتَبَايِعِينَ بِالْخِيَارِ فِي بَيْعِهِمَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا ) قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ ( إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ ) لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَكَذَا النَّسَائِيّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ ( يَفْتَرِقَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ خِيَارًا ) وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ ( الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَخْتَارَا وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا ابْتَاعَ بَيْعًا وَهُوَ قَاعِدٌ قَامَ لِيَجِبَ لَهُ ) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِلَفْظِ { إذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، وَكَانَا جَمِيعًا وَتَخَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ يَتَبَايَعَا ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ } .
وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِلَفْظِ ( إذَا تَبَايَعَ الْمُتَبَايِعَانِ فَكُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مِنْ بَيْعِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ فَإِنْ كَانَ بَيْعُهُمَا عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ قَالَ نَافِعٌ فَكَانَ إذَا بَايَعَ رَجُلًا فَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ قَامَ فَمَشَى هُنَيَّة ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ ) لَفْظُ مُسْلِمٍ وَقَالَ النَّسَائِيّ ( يَفْتَرِقَا ) وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَوْقُوفَ الَّذِي فِي آخِرِهِ وَأَخْرَجَاهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ وَانْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ كُلُّهُمْ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ طُرُقَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ هَذِهِ أَسَانِيدُ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ ثُمَّ حَكَى عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْجَهْلِ أَنَّهُ قَالَ هَذَا خَبَرٌ جَاءَ بِأَلْفَاظٍ شَتَّى فَهُوَ مُضْطَرِبٌ ثُمَّ رَدَّهُ بِأَنَّ أَلْفَاظَهُ مَنْقُولَةٌ نَقْلَ التَّوَاتُرِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مُخْتَلِفًا .
{ الثَّانِيَةُ } قَوْلُهُ الْمُتَبَايِعَانِ كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَفِي بَعْضِهَا الْبَيِّعَانِ وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِهِ فِيمَا أَعْلَمُ الْبَائِعَانِ ، وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْبَائِعِ أَغْلَبَ وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِي اللُّغَةِ الْأَمْرَانِ كَمَا فِي ضَيِّقٍ وَضَائِقٍ وَصَيِّنٌ وَصَائِنٍ ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى فَعْلٍ فِي أَلْفَاظٍ مَحْصُورَةٍ كَطَيِّبٍ وَسَيِّئٍ وَمَيِّتٍ وَكَيِّسٍ وَرَيِّضٍ وَلَيِّنٍ وَهَيِّنٍ وَقَالُوا بَانَ بِمَعْنَى بَعُدَ فَهُوَ بَائِنٌ وَبِمَعْنَى ظَهَرَ فَهُوَ بَيِّنٌ ، وَقَامَ بِبَدَنِهِ فَهُوَ قَائِمٌ وَقَامَ بِالْأَمْرِ وَعَلَى الْيَتِيمِ فَهُوَ قَيِّمٌ فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ الْمَعْنَى .
{ الثَّالِثَةُ } قَوْلُهُ : مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ وَفِي بَعْضِهَا يَفْتَرِقَا بِتَقْدِيمِ الْفَاءِ وَبِالتَّخْفِيفِ ، وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا هُوَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ
حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَحَكَى ثَعْلَبٌ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ الْمُفَضَّلِ أَنَّهُ قَالَ يَفْتَرِقَانِ بِالْكَلَامِ وَيَتَفَرَّقَانِ بِالْأَبْدَانِ ، وَأَنْكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ وَلَا يَعْضُدُهُ الِاشْتِقَاقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ } فَذَكَرَ التَّفَرُّقَ فِيمَا ذَكَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِافْتِرَاقَ فِي قَوْلِهِ { افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً } ( قُلْت ) : التَّفَرُّقُ الَّذِي فِي الْآيَةِ وَالِافْتِرَاقُ الَّذِي فِي الْخَبَرِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْأَبْدَانُ ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِاخْتِلَافِ الْعَقَائِدِ غَالِبًا فَإِنَّ مَنْ خَالَفَ شَخْصًا فِي عَقِيدَتِهِ هَجَرَهُ وَلَمْ يُسَاكِنْهُ غَالِبًا .
وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَقْوَالُ فَلَا يُطَابَقُ مِنْ أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الِافْتِرَاقِ بِالْأَقْوَالِ كَمَا سَنَحْكِيهِ ؛ لِأَنَّ أَقْوَالَ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ مُتَفَرِّقَةٌ وَلَا يُطَابِقُ شَيْءٌ مِنْهَا الْآخَرَ وَأَمَّا هُنَا فَإِنَّ قَوْلَيْ الْبَائِعَيْنِ مُتَوَافِقَانِ لَا يُخَالِفُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَإِنَّهُ لَوْ خَالَفَهُ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
{ الرَّابِعَةُ } فِيهِ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي إمْضَاءِ الْبَيْعِ وَفَسْخِهِ مَا دَامَا مُصْطَحِبَيْنِ فَإِذَا تَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا انْقَطَعَ هَذَا الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ وَطَاوُسٌ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٌ وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ
وَالشَّافِعِيُّ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ وَسَوَّارٌ الْقَاضِي وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ وَسَائِرُ الْمُحَدِّثِينَ وَآخَرُونَ وَقَالَ بِهِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا إلَى إنْكَارِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَقَالُوا : إنَّهُ يَلْزَمُ الْبَيْعُ بِنَفْسِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَبِهِ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَبِيعَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ : مَا نَعْلَمُ لَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ سَلَفًا إلَّا إبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ وَرِوَايَتُهُ مَكْذُوبَةٌ عَنْ شُرَيْحٍ وَالصَّحِيحُ عَنْهُ مُوَافَقَةُ الْحَقِّ ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَدَّهُ غَيْرَ هَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ .
انْتَهَى .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ لَمَّا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ : وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ وَلَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَخْرِيجِ قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ : دَفَعَهُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ ، وَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَصِحُّ دَعْوَى إجْمَاعِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَابْنَ شِهَابٍ وَهُمَا أَجَلُّ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ رُوِيَ عَنْهُمَا مَنْصُوصًا الْعَمَلُ بِهِ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ نَصَّا إلَّا عَنْ مَالِكٍ وَرَبِيعَةَ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى رَبِيعَةَ وَكَانَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي عَصْرِ مَالِكٍ يُنْكِرُ عَلَى مَالِكٍ اخْتِيَارَهُ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهِ حَتَّى جَرَى مِنْهُ لِذَلِكَ فِي مَالِكٍ قَوْلٌ خَشِنٌ .
قَالَ : وَإِنَّمَا أَرَادَ
مَالِكٌ بِهَذَا إنْكَارَ الْقَوْلِ بِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ إلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ يَكُونُ ثَلَاثًا وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ بِحَسَبِ الْمَبِيعِ .
قَالَ : وَأَمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَإِنَّمَا رَدَّهُ اعْتِبَارًا وَنَظَرًا مَالَ فِيهِ إلَى رَأْيِ بَعْضِ أَهْلِ بَلَدِهِ انْتَهَى .
وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ حَمَلَ كَلَامَ مَالِكٍ هَذَا عَلَى دَفْعِ الْحَدِيثِ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَمَّنْ لَا تَحْصِيلَ لَهُ مِنْ أَصْحَابِهِمْ قَالَ : وَقَدْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ يَعْنِي إمَامَ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ : يَرْوِي الْحَدِيثَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَتْرُكُهُ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ وَلَمْ يَفْهَمْ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ عَنْهُ ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ مَقْصُودَ مَالِكٍ رَدُّ الْحَدِيثِ بِأَنَّ وَقْتَ التَّفَرُّقِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَالْتَحَقَ بِبُيُوعِ الْغَرَرِ كَالْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَسَنَحْكِي عِبَارَتَهُ فِي ذَلِكَ وَسَبَقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فَقَالَ مَا أَدْرِي أَتَّهِمُ مَالِكًا نَفْسَهُ أَمْ نَافِعًا وَأَعْلَمُ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ أَنْ أَذْكُرَهُ إجْلَالًا لَهُ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ حَدَّثَ الْكُوفِيِّينَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَيِّعَيْنِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا قَالَ فَحَدَّثُوا بِهِ أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ أَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي سَفِينَةٍ قَالَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سَائِلُهُ عَمَّا قَالَ وَقَدْ أَجَابَ أَصْحَابُهُمَا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِأَجْوِبَةٍ : ( أَحَدُهَا ) مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَتَقَدَّمَ رَدُّهُ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَأَيْضًا فَإِجْمَاعُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ
فِيهِ أَنَّ إجْمَاعَهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ وَالنَّظَرُ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْعَاصِمَ لِلْأُمَّةِ مِنْ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ لَا يَتَنَاوَلُ بَعْضَهُمْ وَلَا مُسْتَنَدَ لِلْعِصْمَةِ سِوَاهُ وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ يَقْبَلُ خِلَافَهُ مَا دَامَ مُقِيمًا بِهَا فَإِذَا خَرَجَ عَنْهَا لَمْ يَقْبَلْ خِلَافَهُ هَذَا مُحَالٌ فَإِنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ بِاعْتِبَارِ صِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهِ حَيْثُ حَلَّ وَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا عَلِيٌّ وَهُوَ أَفْضَلُ أَهْلِ زَمَانِهِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَالَ أَقْوَالًا بِالْعِرَاقِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تُهْدَرَ إذَا خَالَفَهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَهُوَ كَانَ رَأْسَهُمْ وَكَذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمَحَلُّهُ مِنْ الْعِلْمِ مَعْلُومٌ وَغَيْرُهُمَا قَدْ خَرَجُوا وَقَالُوا أَقْوَالًا عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ إنَّ الْمَسَائِلَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا خَارِجَ الْمَدِينَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا بِالْمَدِينَةِ وَادَّعَى الْعُمُومَ فِي ذَلِكَ .
انْتَهَى .
( ثَانِيهَا ) ادَّعَى أَنَّهُ حَدِيثٌ مَنْسُوخٌ إمَّا ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَ الْمَدِينَةِ أَجْمَعُوا عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ ، وَإِمَّا لِحَدِيثِ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْحَاجَةَ إلَى الْيَمِينِ ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ لُزُومَ الْعَقْدِ وَلَوْ ثَبَتَ الْخِيَارُ لَكَانَ كَافِيًا فِي رَفْعِ الْعَقْدِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ حَكَاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَقَالَ : وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا ، أَمَّا النَّسْخُ لِأَجْلِ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَمُجَرَّدُ الْمُخَالَفَةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِتَقْدِيمِ دَلِيلٍ آخَرَ رَاجِحٍ فِي ظَنِّهِمْ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُمْ وَأَمَّا حَدِيثُ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ أَوْ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى زَمَنِ التَّفَرُّقِ وَزَمَنِ الْمَجْلِسِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَا بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَلَا حَاجَةَ إلَى
النَّسْخِ ، وَالنَّسْخُ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ .
انْتَهَى .
( ثَالِثُهَا ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَبَايِعِينَ الْمُتَسَاوِمَانِ وَالْمُرَادُ بِالْخِيَارِ خِيَارُ الْقَبُولِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ إنْ شَاءَ قَبِلَ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ وَالْبَائِعُ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِيجَابِ مَا لَمْ يَقْبَلْ الْمُشْتَرِي وَهَذَا التَّأْوِيلُ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَعِيسَى بْنُ أَبَانَ وَحَكَاهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ عَنْ مَالِكٍ وَرَدَّ بِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْمُتَسَاوِمَيْنِ مُتَبَايِعَيْنِ مَجَازٌ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى بَلْ الْحَمْلُ عَلَى هَذَا الْمَجَازِ مُتَعَذِّرٌ فَإِنَّهُ جَعَلَ غَايَةَ الْخِيَارِ التَّفَرُّقَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ خِيَارَ الْمُتَسَاوِمَيْنِ لَمْ يَنْقَطِعْ بِالتَّفَرُّقِ فَإِنْ حَمَلَ التَّفَرُّقَ عَلَى الْأَقْوَالِ فَهَذَا جَوَابٌ آخَرُ سَنَحْكِيهِ وَنَرُدُّهُ وَقَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الرَّدِّ بِأَنَّ تَسْمِيَتَهُمَا مُتَبَايِعَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مَجَازٌ أَيْضًا .
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بِخِلَافِهِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فَإِنَّهُ مَجَازٌ بِالِاتِّفَاقِ .
( رَابِعُهَا ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَبَايِعِينَ الْمُتَسَاوِمَيْنِ بِتَقْرِيرِ غَيْرِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُرَادُ مِنْهُ الْبَيْعُ إنْ شَاءَ بَاعَ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَبِعْ وَاَلَّذِي يُرِيدُ الشِّرَاءَ قَدْ يَشْتَرِي وَقَدْ لَا يَشْتَرِي وَهَذَا أَضْعَفُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ فَإِنَّ هَذَا مَعْنًى رَكِيكٌ يُصَانُ كَلَامُ الشَّارِعِ مِنْ الْحَمْلِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِ النَّاسِ الْأَخْيَارِ بِأَنَّ الْمُتَسَاوِمَيْنِ إنْ شَاءَا عَقَدَا الْبَيْعَ ، وَإِنْ شَاءَا لَمْ يَعْقِدَاهُ عُدَّ ذَلِكَ سُخْفًا وَحَمَاقَةً فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى ذَلِكَ .
( خَامِسُهَا ) أَنَّ الْمُرَادَ التَّفَرُّقُ بِالْأَقْوَالِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ } أَيْ عَنْ النِّكَاحِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَإِنَّ السَّابِقَ
إلَى الْفَهْمِ التَّفَرُّقُ عَنْ الْمَكَانِ وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا { أَيُّمَا رَجُلٍ ابْتَاعَ مِنْ رَجُلٍ بَيْعَةً فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا مِنْ مَكَانِهِمَا } الْحَدِيثَ وَيَدُلُّ لَهُ فِعْلُ رَاوِيهِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ كَانَ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ إذَا بَايَعَ رَجُلًا فَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ قَامَ فَمَشَى هُنَيَّة ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرِّوَايَتَيْنِ وَهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهُمَا صَرِيحَتَانِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ التَّفَرُّقُ عَنْ الْمَكَانِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا بَعْدَ الْبَيْعِ فَقَالَ الرَّجُلُ عَمَّرَك اللَّهُ مِمَّنْ أَنْتَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرُؤٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَكَانَ أَبِي يَحْلِفُ مَا الْخِيَارُ إلَّا بَعْدَ الْبَيْعِ } وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مُتَّصِلًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الرَّدِّ عَلَى الِافْتِرَاقِ : خَبِّرُونَا عَنْ الْكَلَامِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الِاجْتِمَاعُ وَتَمَّ بِهِ الْبَيْعُ أَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الِافْتِرَاقُ أَمْ غَيْرُهُ فَإِنْ قَالُوا هُوَ غَيْرُهُ فَقَدْ جَاءُوا بِمَا لَا يُعْقَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ كَلَامٌ غَيْرُهُ ، وَإِنْ قَالُوا هُوَ ذَلِكَ الْكَلَامُ بِعَيْنِهِ قِيلَ لَهُمْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ الَّذِي بِهِ اجْتَمَعَا وَتَمَّ بِهِ بَيْعُهُمَا بِهِ افْتَرَقَا وَبِهِ انْفَسَخَ بَيْعُهُمَا هَذَا ، ، مَا لَا يُعْقَلُ .
( سَادِسُهَا ) أَنَّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ فَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ
عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَوْلَا أَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ لَمَا احْتَاجَ إلَى اسْتِقَالَةٍ وَلَا طَلَبَ الْفِرَارَ مِنْ الِاسْتِقَالَةِ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَحِلُّ لَفْظَةٌ مُنْكَرَةٌ فَإِنْ صَحَّتْ فَلَيْسَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ لِيُنْفِذَ بَيْعَهُ وَلَا يُقِيلَهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ ( ثَانِيهِمَا ) أَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِقَالَةِ هُنَا الْفَسْخَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ الَّذِي يَنْقَطِعُ بِالْمُفَارَقَةِ أَمَّا طَلَبُ الْإِقَالَةِ بِالِاخْتِيَارِ فَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَتَفَرَّقَا أَمْ لَا فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالرِّضَا مِنْهُمَا وَهُوَ جَائِزٌ بَعْدَ التَّفَرُّقِ ( سَابِعُهَا ) أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ خَالَفَهُ رِوَايَةُ مَالِكٍ فَلَا يُعْمَلُ بِهِ قَالَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ هَذِهِ قَاعِدَةٌ مَرْدُودَةٌ ( ثَانِيهِمَا ) مَعَ تَسْلِيمِهَا فَمَالِكٌ يَنْفَرِدُ بِهِ فَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ وَعَمِلَ بِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَال بِهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ أَمْكَنَ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْقَرَافِيَّ قَالَ : الَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْخِلَافَ مَخْصُوصٌ بِالصَّحَابِيِّ لَكِنْ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ .
( ثَامِنُهَا ) أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا يُقْبَلُ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَهُوَ الْبَيْعُ .
وَجَوَابُهُ : أَنَّ الْفَسْخَ لَيْسَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، وَإِنْ عَمَّتْ الْبَلْوَى بِالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْبَيْعِ دَالٌّ عَلَى الرَّغْبَةِ فِيهِ فَالْحَاجَةُ لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ فَسْخِهِ لَا تَعُمُّ وَبِتَقْدِيرِ عُمُومِهَا فَرَدُّ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ مَمْنُوعٌ .
( تَاسِعُهَا ) أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فِي إلْحَاقِ مَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ بِمَا بَعْدَهُ فِي مَنْعِ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ إبْطَالِ حَقِّ صَاحِبِهِ وَذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَجَوَابُهُ أَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ النَّدَمُ
عَلَى الْبَيْعِ لِوُقُوعِهِ مِنْ غَيْرِ تَرَوٍّ فَيُسْتَدْرَكُ بِالْخِيَارِ ، وَلَا يُمْكِنُ ثُبُوتُهُ مُطْلَقًا لِانْتِفَاءِ وُثُوقِ الْمُشْتَرِي بِتَصَرُّفِهِ فَجُعِلَ مَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ حَرِيمًا لِذَلِكَ وَهَذَا فَارِقٌ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ ثُمَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ لَمْ يَرِدْ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ إنَّمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ ، وَالنَّصُّ مَوْجُودٌ فِي هَذَا الْفَرْعِ بِعَيْنِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ أَخْرَجَ هَذِهِ الْجُزْئِيَّةَ عَنْ الْكُلِّيَّاتِ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ تَعَبُّدًا فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ .
( عَاشِرُهَا ) قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْعَمَلَ بِظَاهِرِهِ مُتَعَذِّرٌ فَإِنَّهُ أَثْبَتَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا الْخِيَارَ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنْ اتَّفَقَا فِي الِاخْتِيَارِ لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ خِيَارٌ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا بِأَنْ اخْتَارَ أَحَدُهُمَا الْفَسْخَ وَالْآخَرُ الْإِمْضَاءَ فَقَدْ اسْتَحَالَ أَنْ يَثْبُتَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ خِيَارٌ فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ مُسْتَحِيلٌ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ الْخِيَارُ فِي الْفَسْخِ فَأَيُّهُمَا اخْتَارَ الْفَسْخَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ مُكِّنَ مِنْهُ وَأَمَّا الْإِمْضَاءُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى اخْتِيَارٍ فَإِنَّهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَالْحَالُ يُفْضِي إلَيْهِ مَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( حَادِي عَشَرَهَا ) قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْخِيَارِ هُنَا عَلَى خِيَارِ الْفَسْخِ فَلَعَلَّهُ أُرِيدَ خِيَارُ الشِّرَاءِ أَوْ خِيَارُ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إرَادَةُ خِيَارِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْمُتَعَاقِدَانِ وَبَعْدَ صُدُورِ الْعَقْدِ لَا خِيَارَ ، وَلَا خِيَارَ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ لِبَقَائِهِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَالْخِيَارُ الْمُثْبِتُ مَلْغِيًّا بِالتَّفَرُّقِ .
( ثَانِيهِمَا ) أَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِعْمَالُ لَفْظَةِ الْخِيَارِ فِي
خِيَارِ الْفَسْخِ كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ وَلَك الْخِيَارُ وَفِي حَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا وَالْمُرَادُ فِيهِمَا خِيَارُ الْفَسْخِ فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ .
( ثَانِي عَشَرَهَا ) تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ فِي رَدِّ ذَلِكَ بِالْعُمُومَاتِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قَالُوا : وَفِي الْخِيَارِ إبْطَالُ الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ } قَالُوا فَقَدْ أَبَاحَ بَيْعَهُ بَعْدَ قَبْضِهِ ، وَلَوْ كَانَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْمَسْلَكِ فَإِنَّ الْعُمُومَ لَا تُرَدُّ بِهِ النُّصُوصُ الْخَاصَّةُ ، وَإِنَّمَا يُقْضَى لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ، وَقَدْ ظَهَرَ بِمَا بَسَطْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ صَحِيحٌ فِي رَدِّ هَذَا الْحَدِيثِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ فِي الِاحْتِجَاجِ لِمَذْهَبِنَا فِي رَدِّ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ وَأَكْثَرُهُ تَشْعِيبٌ لَا يُحْصَلُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ لَازِمٍ لَا مَدْفَعَ لَهُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَلَيْهَا جَوَابٌ صَحِيحٌ فَالصَّوَابُ ثُبُوتُهُ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ وَانْتَصَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي ذَلِكَ لِمَذْهَبِهِ بِمَا لَا يَقْبَلُهُ مُنْصِفٌ وَلَا يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ عَاقِلٌ فَقَالَ الَّذِي قَصَدَ مَالِكٍ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَعَلَ الْعَاقِدَيْنِ بِالْخِيَارِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، وَلَمْ يَكُنْ لِفُرْقَتِهِمَا وَانْفِصَالِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ وَقْتٌ مَعْلُومٌ وَلَا غَايَةٌ مَعْرُوفَةٌ إلَّا أَنْ يَقُومَا أَوْ يَقُومَ أَحَدُهُمَا عَلَى مَذْهَبٍ وَهَذِهِ جَهَالَةٌ يَقِفُ مَعَهَا انْعِقَادُ الْبَيْعِ فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ بَيْعِ الْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةِ بِأَنْ يَقُولَ إذَا لَمَسْتَهُ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ ، وَإِذَا نَبَذْتَهُ أَوْ نَبَذْتَ
الْحَصَاةَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ مَقْطُوعٌ بِفَسَادِهَا فِي الْعَقْدِ فَلَمْ يَتَحَصَّلْ الْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ مَفْهُومًا ، وَإِنْ فَسَّرَهُ ابْنُ عُمَرَ رَاوِيَهُ بِفِعْلِهِ وَقِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ لِيَجِبَ لَهُ الْبَيْعُ فَإِنَّمَا فَسَّرَهُ بِمَا يُثْبِتُ الْجَهَالَةَ فِيهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ عَنْ الْغَرَرِ كَمَا يُوجِبُهُ النَّهْيُ عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَلَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَفْسِيرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ فَهْمِ ابْنِ عُمَرَ .
وَأَصْلُ التَّرْجِيحِ الَّذِي هُوَ قَضِيَّةُ الْأُصُولِ أَنْ يُقَدَّمَ الْمَقْطُوعُ بِهِ عَلَى الْمَظْنُونِ وَالْأَكْثَرُ رُوَاةً عَلَى الْأَقَلِّ فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَصَدَهُ مَالِكٌ مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ إلَّا مِثْلُهُ وَلَا يَتَفَطَّنُ لَهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَهُوَ إمَامُ الْأَئِمَّةِ غَيْرُ مُدَافَعٍ لَهُ فِي ذَلِكَ .
انْتَهَى .
وَهُوَ عَجِيبٌ أَيُعْقَلُ عَلَى الشَّارِعِ ، وَيُقَالُ لَهُ هَذَا الَّذِي حَكَمْت بِهِ غَرَرٌ وَقَدْ نَهَيْت عَنْ الْغَرَرِ فَلَا نَقْبَلُ هَذَا الْحُكْمَ وَنَتَمَسَّكُ بِقَاعِدَةِ النَّهْيِ عَنْ الْغَرَرِ وَأَيُّ غَرَرٍ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ رِفْقًا بِالْمُتَعَاقِدِينَ لِاسْتِدْرَاكِ نَدَمٍ ، وَهَذَا الْمُخَالِفُ يُثْبِتُ خِيَارَ الشَّرْطِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ بِزَعْمِهِ وَحَدِيثُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَصَحُّ مِنْهُ وَيَعْتَبِرُ التَّفَرُّقَ فِي إبْطَالِهِ لِلْبَيْعِ إذَا وَجَدَ قَبْلَ التَّقَابُضِ فِي الصَّرْفِ وَلَا يَرَى تَعْلِيقَ ذَلِكَ بِالتَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ غَرَرًا مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ غَرَرٌ فَقَدْ أَبَاحَ الشَّارِعُ الْغَرَرَ فِي مَوَاضِعَ مَعْرُوفَةٍ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَالْحَوَالَةِ وَغَيْرِهَا ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ بَلْ لَوْ لَمْ يُظْهِرْ لَنَا حِكْمَتَهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا الْأَخْذُ بِهِ تَعَبُّدًا وَالْمَسْلَكُ الَّذِي نَفَاهُ عَنْ إمَامِهِ أَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنْ الَّذِي سَلَكَهُ فَإِنَّ ذَاكَ تَقْدِيمٌ لِلْإِجْمَاعِ فِي اعْتِقَادِهِ إنْ صَحَّ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ
وَأَمَّا مَا سَلَكَهُ فَفِيهِ رَدُّ السُّنَنِ بِالرَّأْيِ وَذَلِكَ قَبِيحٌ بِالْعُلَمَاءِ .
( الْخَامِسَةُ ) ظَاهِرُهُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ فِي كُلِّ بَيْعٍ وَقَدْ اسْتَثْنَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا لَمْ يُثْبِتُوا فِيهَا خِيَارَ الْمَجْلِسِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ ثُبُوتُهُ فِي كُلِّ بَيْعٍ وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَالنَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَقْدُ عَتَاقَةٍ وَاسْتَثْنَى الْأَوْزَاعِيُّ مِنْ ذَلِكَ بُيُوعًا ثَلَاثَةً بَيْعَ السُّلْطَانِ لِلْغَنَائِمِ ، وَالشَّرِكَةَ فِي الْمِيرَاثِ ، وَالشَّرِكَةَ فِي التِّجَارَةِ قَالَ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ خِيَارٌ .
( السَّادِسَةُ ) لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ لِلتَّفْرِقَةِ ضَابِطًا وَمَرْجِعُهُ الْعُرْفُ وَقَدْ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَارَقَ صَاحِبَهُ وَفِي رِوَايَةٍ إذَا ابْتَاعَ بَيْعًا وَهُوَ قَاعِدٌ قَامَ لِيَجِبَ لَهُ وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ إذَا بَايَعَ رَجُلًا فَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ قَامَ فَمَشَى هُنَيَّة ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا قَالَ أَصْحَابُنَا مَا عَدَّهُ النَّاسُ تَفَرُّقًا لَزِمَ بِهِ الْعَقْدُ فَلَوْ كَانَا فِي دَارٍ صَغِيرَةٍ فَالتَّفْرِقَةُ أَنْ يَخْرُجَ أَحَدُهُمَا مِنْهَا أَوْ يَصْعَدَ السَّطْحَ ، وَكَذَا لَوْ كَانَا فِي مَسْجِدٍ صَغِيرٍ أَوْ سَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ فَالتَّفَرُّقُ أَنْ يَخْرُجَ أَحَدُهُمَا مِنْهَا فَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ كَبِيرَةً حَصَلَ التَّفَرُّقُ بِأَنْ يَخْرُجَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْبَيْتِ إلَى الصَّحْنِ أَوْ مِنْ الصَّحْنِ إلَى بَيْتٍ أَوْ صُفَّةٍ ، وَإِنْ كَانَا فِي صَحْرَاءَ أَوْ سُوقٍ فَإِذَا وَلَّى أَحَدُهُمَا ظَهْرَهُ وَمَشَى قَلِيلًا حَصَلَ التَّفَرُّقُ عَلَى الصَّحِيحِ .
وَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْعُدَ عَنْ صَاحِبِهِ بِحَيْثُ لَوْ كَلَّمَهُ عَلَى الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ رَفْعِ صَوْتٍ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ ، وَلَا يَحْصُلْ التَّفَرُّقُ بِأَنْ يُرْخَى بَيْنَهُمَا سِتْرٌ أَوْ يُشَقُّ نَهْرٌ وَهَلْ يَحْصُلُ بِبِنَاءِ جِدَارٍ بَيْنَهُمَا فِيهِ
وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا ، وَصَحْنُ الدَّارِ وَالْبَيْتُ الْوَاحِدُ إذَا تَفَاحَشَ اتِّسَاعُهُمَا كَالصَّحْرَاءِ فَلَوْ تَنَادَيَا مُتَبَاعِدَيْنِ وَتَبَايَعَا فَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ ثُمَّ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ لَا خِيَارَ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّفَرُّقَ الطَّارِئَ يَقْطَعُ الْخِيَارَ فَالْمُقَارِنُ يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ يَثْبُتُ مَا دَامَا فِي مَوْضِعِهِمَا وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُتَوَلَّى ثُمَّ إذَا فَارَقَ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَهُ بَطَلَ خِيَارُهُ وَهَلْ يَبْطُلُ خِيَارُ الْآخَرِ أَمْ يَدُومُ إلَى أَنْ يُفَارِقَ مَكَانَهُ فِيهِ احْتِمَالَانِ لِلْإِمَامِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : الْأَصَحُّ ثُبُوتُ الْخِيَارِ ، وَأَنَّهُ مَتَى فَارَقَ أَحَدُهُمَا مَوْضِعَهُ بَطَلَ خِيَارُ الْآخَرِ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ حَدُّ التَّفْرِقَةِ أَنْ يَتَوَارَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الشَّامِ قَالَ وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ التَّفَرُّقُ أَنْ يَقُومَ أَحَدُهُمَا .
( السَّابِعَةُ ) اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ ( إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ ) عَلَى أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ امْتِدَادِ الْخِيَارِ إلَى التَّفَرُّقِ ، وَالْمُرَادُ بِبَيْعِ الْخِيَارِ أَنْ يَتَخَايَرَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَخْتَارَا إمْضَاءَ الْبَيْعِ فَيَلْزَمُ بِنَفْسِ الْخِيَارِ وَلَا يَدُومُ إلَى التَّفَرُّقِ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَهِيَ فِي الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ ( مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ ) وَرُبَّمَا قَالَ أَوْ يَكُونُ بَيْعُ الْخِيَارِ فَلَمَّا وَضَعَ قَوْلَهُ أَوْ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ مَوْضِعَ بَيْعِ الْخِيَارِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ بِمَعْنَاهُ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَخْتَارَا وَكَذَا قَوْلُهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، وَكَانَا جَمِيعًا أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ .
وَقَدْ رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي
الْمَعْرِفَةِ وَاحْتَمَلَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ مَعْنَيَيْنِ ( أَظْهَرُهُمَا ) عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ وَأَوْلَاهُمَا بِمَعْنَى السُّنَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا وَالْقِيَاسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ جَعَلَ الْخِيَارَ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ ، وَالْمُتَبَايِعَانِ اللَّذَانِ عَقَدَا الْبَيْعَ .
حَتَّى يَتَفَرَّقَا إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ فَإِنَّ الْخِيَارَ إذَا كَانَ لَا يَنْعَقِدُ بَعْدَ قَطْعِ الْبَيْعِ فِي السُّنَّةِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا وَتَفَرُّقُهُمَا هُوَ أَنْ يَتَفَرَّقَا عَنْ مَقَامِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ كَانَ بِالتَّفَرُّقِ أَوْ بِالتَّخْيِيرِ ، وَكَانَ مَوْجُودًا فِي اللِّسَانِ ، وَالْقِيَاسُ إذَا كَانَ الْبَيْعُ يَجِبُ بِشَيْءٍ بَعْدَ الْبَيْعِ ، وَهُوَ الْفِرَاقُ أَنْ يَجِبَ بِالثَّانِي بَعْدَ الْبَيْعِ فَيَكُونُ إذَا خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ كَانَ الِاخْتِيَارُ بِجَدِيدِ شَيْءٍ يُوجِبُهُ كَمَا كَانَ التَّفَرُّقُ بِجَدِيدِ شَيْءٍ يُوجِبُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ تُبَيِّنُهُ بِمِثْلِ مَا ذَهَبْت إلَيْهِ كَانَ مَا وَصَفْنَا أَوْلَى الْمَعْنَيَيْنِ أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ لِمَا وَصَفْت مِنْ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ قَالَ أَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا بَعْدَ الْبَيْعِ فَقَالَ الرَّجُلُ عَمَّرَك اللَّهُ مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرُؤٌ مِنْ قُرَيْشٍ } قَالَ وَكَانَ أَبِي يَحْلِفُ مَا كَانَ الْخِيَارُ إلَّا بَعْدَ الْبَيْعِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَبِهَذَا نَقُولُ ، وَكَذَا حَكَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى تَرْجِيحِ هَذَا الْقَوْلِ وَأَبْطَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَا سِوَاهُ وَغَلَّطُوا قَائِلَهُ
وَمِمَّنْ رَجَّحَهُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ الْبَيْهَقِيُّ ثُمَّ بَسَطَ دَلَائِلَهُ ، وَبَيَّنَ ضَعْفَ مَا يُعَارِضُهَا .
( الْقَوْلُ الثَّانِي ) أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ انْقِطَاعِ الْخِيَارِ بِالتَّفَرُّقِ وَالْمُرَادُ إلَّا بَيْعًا شُرِطَ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ دُونَهَا فَلَا يَنْقَضِي الْخِيَارُ فِيهِ بِالتَّفَرُّقِ بَلْ يَبْقَى حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ الْمَشْرُوطَةُ حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَجَمَاعَةٍ .
( الْقَوْلُ الثَّالِثُ ) أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ إثْبَاتِ الْخِيَارِ وَالْمَعْنَى إلَّا بَيْعًا شُرِطَ فِيهِ نَفْيُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَيَلْزَمُ الْبَيْعُ ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ خِيَارٌ .
( الثَّامِنَةُ ) فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ قَالَ أَصْحَابُنَا يَنْقَطِعُ الْخِيَارُ بِأَنْ يَقُولَا تَخَايَرْنَا أَوْ اخْتَرْنَا إمْضَاءَ الْعَقْدِ أَوْ أَمْضَيْنَاهُ أَوْ أَجَزْنَاهُ أَوْ أَلْزَمْنَاهُ وَمَا أَشْبَهَهَا وَكَذَا لَوْ قَالَا أَبْطَلْنَا الْخِيَارَ وَأَفْسَدْنَاهُ عَلَى مَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ .
فَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : اخْتَرْت إمْضَاءَهُ انْقَطَعَ خِيَارُهُ وَبَقِيَ خِيَارُ الْآخَرِ عَلَى الصَّحِيحِ .
وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : اخْتَرْ أَوْ خَيَّرْتُك فَقَالَ الْآخَرُ : اخْتَرْت انْقَطَعَ خِيَارُهُمَا ، وَإِنْ سَكَتَ لَمْ يَنْقَطِعْ خِيَارُهُ وَيَنْقَطِعُ خِيَارُ الْقَائِلِ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا وَلَوْ أَجَازَهُ وَاحِدٌ وَفَسَخَهُ آخَرُ قُدِّمَ الْفَسْخُ ، وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ الْخِيَارُ بِإِمْضَائِهِمَا بَلْ يَسْتَمِرُّ حَتَّى يَتَفَرَّقَا وَحَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ أَحْمَدَ بِالْجَزْمِ وَحَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى خِلَافِهِ قَالَ : وَقَوْلُهُ خِلَافُ الْحَدِيثِ فَلَا مَعْنَى لَهُ .
( التَّاسِعَةُ ) ظَاهِرُ إطْلَاقِهِ انْقِطَاعُ الْخِيَارِ بِالتَّخَايُرِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَلَوْ كَانَ عَقْدُ صَرْفٍ وَلَمْ يَتَقَابَضَا بَعْدُ وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا نَقَلَهُمَا الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ فِي الْخِيَارِ وَصَحَّحَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَعَلَيْهِمَا التَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ .
( وَالْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ الْإِجَازَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَاغِيَةٌ وَيَبْقَى الْخِيَارُ مُسْتَمِرًّا وَصَحَّحَا فِي أَوَائِلِ بَابِ الرَّبَّا ( وَجْهًا ثَالِثًا ) أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالتَّخَايُرِ كَمَا لَوْ تَفَرَّقَا خِلَافًا لِابْنِ سُرَيْجٍ فَإِنَّهُ قَالَ لَا يَبْطُلُ .
( الْعَاشِرَةُ ) وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ فِيهِ سُقُوطُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ إذَا شُرِطَ نَفْيُهُ فِي الْعَقْدِ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَهُوَ وَجْهٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَلْغُوا الشَّرْطُ ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وَالْأَصَحُّ عِنْدَهُمْ وَجْهٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ بُطْلَانُ الْبَيْعِ وَهُوَ قِيَاسُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَلَمْ يَرْتَضِ أَصْحَابُنَا تَفْسِيرَ هَذَا الْحَدِيثِ بِهَذَا الْمَعْنَى .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى تَضْعِيفِ الْأَثَرِ الْمَنْقُولِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أَوْ خِيَارٌ وَقَالُوا : إنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ فِيهِ شَرْطُ قَطْعِ الْخِيَارِ قَالَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ ثُمَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْبَيْعُ صَفْقَةٌ بَعْدَهَا تَفَرُّقٌ أَوْ خِيَارٌ فَمِنْ الْمُحَالِ تَعَلُّقُ وُجُوبِ الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ دُونَ الصَّفْقَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّفْقَةِ دُونَ التَّفَرُّقِ أَوْ الْخِيَارِ .
( الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ ) فِي شَرْحِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الرِّوَايَاتِ الْمَزِيدَةِ فِي النُّسْخَةِ الْكُبْرَى قَوْلُهُ ( وَكَانَا جَمِيعًا ) تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَقَوْلُهُ ( أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ) مَجْزُومٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ يَتَفَرَّقَا وَالْمُرَادُ أَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَخْتَارُ الْآخَرُ إمْضَاءَ الْبَيْعِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ أَمَّا لَوْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَلَمْ يَخْتَرْ الْآخَرُ الْإِمْضَاءَ فَخِيَارُ ذَلِكَ السَّاكِتِ بَاقٍ .
وَأَمَّا خِيَارُ الْمُتَكَلِّمِ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ : إنَّهُ ظَاهِرُ لَفْظِ الْحَدِيثِ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّ بِتَمَامِهِ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا خَيَّرَهُ فَاخْتَارَ الْإِمْضَاءَ إلَّا أَنْ يَعْتَمِدَ فِي ذَلِكَ لَفْظَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى قَوْلِهِ أَوْ يَقُولُ
أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اخْتَرْ لَكِنَّ الرِّوَايَاتِ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ فِي مَجْمُوعِهَا ، وَقَدْ اعْتَمَدَ أَصْحَابُنَا فِي انْقِطَاعِ خِيَارِ الْقَائِلِ أَنَّ تَخْيِيرَهُ لِصَاحِبِهِ دَالٌّ عَلَى رِضَاهُ بِإِمْضَاءِ الْبَيْعِ وَقَوْلُهُ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ أَيْ لَزِمَ وَانْبَرَمَ .
وَقَوْلُهُ : ( وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ تَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ ) تَأْكِيدٌ لِمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ أَوَّلًا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مُصَرِّحٌ بِأَنَّهُمَا إذَا تَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ تَرْكِ أَحَدِهِمَا لِلْبَيْعِ وَجَبَ الْبَيْعُ أَيْ لَزِمَ وَالْمُرَادُ بِتَرْكِ الْبَيْعِ فَسْخُهُ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي حُصُولِ الْفَسْخِ بِفَسْخِ أَحَدِهِمَا ، وَلَوْ لَمْ يُسَاعِدْهُ الْآخَرُ عَلَيْهِ بَلْ اخْتَارَ الْإِمْضَاءَ وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلُهُ ( بَيْعٌ بَيْنَهُمَا ) أَيْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ لَازِمٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ أَصْلِ الْبَيْعِ وَكَيْفَ يَنْفِي أَصْلَ الْبَيْعِ وَقَدْ أَثْبَتَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ كُلُّ بَيْعَيْنِ وَتَمَسَّكَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ بِظَاهِرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ ، وَقَالَ : إنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ صَحِيحٍ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَتَخَيَّرَا وَالْمَعْرُوفُ صِحَّتُهُ إلَّا أَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ مَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( أَوْ يَقُولُ ) كَذَا هُوَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَالْوَجْهُ ( يَقُلْ ) لِعَطْفِهِ عَلَى الْمَجْزُومِ وَهُوَ قَوْلُهُ يَتَفَرَّقَا وَكَأَنَّهُ أُشْبِعَتْ ضَمَّةُ الْقَافِ فَتَوَلَّدَ مِنْهَا وَاوٌ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرْ } عِنْدَ مَنْ قَرَأَ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَكَذَا قَوْلُهُ ( أَوْ يَكُونَ ) .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ : إنَّهُ مَنْصُوبُ اللَّامِ قَالَ وَأَوْ هُنَا نَاصِبَةٌ بِتَقْدِيرِ إلَّا أَنْ يَقُولَ أَوْ إلَى أَنْ يَقُولَ وَلَوْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهُ لَكَانَ مَجْزُومًا ،
وَلَقَالَ أَوْ يَقُلْ وَقَوْلُهُ ( هُنَيْهَةً ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ ، وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتَ بَعْدَهَا هَاءٌ وَبِتَشْدِيدِ الْيَاءِ ، وَإِسْقَاطِ الْهَاءِ الثَّانِيَةِ أَيْ شَيْئًا يَسِيرًا وَهُوَ تَصْغِيرُ هَنَّهْ وَالْهَنُ وَالْهَنَةُ كِنَايَةٌ عَنْ الشَّيْءِ لَا يَذْكُرُهُ بِاسْمِهِ .
وَقَوْلُهُ ( فَأَرَادَ أَنْ لَا يُقِيلَهُ ) عَبَّرَ فِيهِ بِالْإِقَالَةِ عَنْ الْفَسْخِ الْقَهْرِيِّ فَإِنَّ الْإِقَالَةَ بِالتَّرَاضِي لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَتَفَرَّقَا أَمْ لَا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا أَنْ تَكُونَ صَفْقَةَ خِيَارٍ ) بِفَتْحِ الصَّادِ ، وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ أَيْ بَيْعَةَ خِيَارٍ وَسَمَّى الْبَيْعَ صَفْقَةً ؛ لِأَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَضَعُ أَحَدُهُمَا يَدَهُ فِي يَدِ الْآخَرِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ وَقَوْلُهُ وَلِأَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا أَوْ يَخْتَارَ ثَلَاثَ مِرَارٍ } يُوهِمُ أَنَّ أَبَا دَاوُد وَأَسْنَدَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ تَعْلِيقًا فَإِنَّهُ رَوَاهُ أَوَّلًا بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ ثُمَّ قَالَ : وَلِذَلِكَ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَهَمَّامٌ فَأَمَّا هَمَّامٌ فَقَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا أَوْ يَخْتَارَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
وَقَوْلُهُ : يَخْتَارُ كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا يَخْتَارَا بِالتَّثْنِيَةِ وَقَوْلُهُ وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ دُونَ قَوْلِهِ أَوْ وَلَفْظِهِ ( الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ) قَالَ هَمَّامٌ وَوَجَدْت فِي كِتَابِي يَخْتَارُ ثَلَاثَ مِرَارٍ .
فَأَمَّا رِوَايَةُ التَّثْنِيَةِ فَوَاضِحَةٌ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْأَفْرَادِ فَتَأْوِيلُهَا يَخْتَارُ مَنْ ذُكِرَ وَهُوَ الْبَيِّعَانِ الْمَذْكُورَانِ فَإِنْ اخْتَارَا الْإِمْضَاءَ لَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهِ وَلَا يُكْتَفَى بِهِ مِنْ وَاحِدٍ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ثَلَاثَ مِرَارٍ يَحْتَمِلُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرَّرَ هَذَا اللَّفْظَ ثَلَاثَ مِرَارٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ التَّخَايُرَ يَكُونُ ثَلَاثَ مِرَارٍ وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي فَهُوَ احْتِيَاطٌ وَاسْتِظْهَارٌ فَإِنَّ التَّخَايُرَ يَحْصُلُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي فِي قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ يَخْتَارُ ثَلَاثَ مِرَارٍ وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ وَهُوَ عِنْدَ النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا وَيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْبَيْعِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَنَّ قَوْلَهُ وَيَأْخُذَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ يَتَفَرَّقَا وَتَقْدِيرُ إدْخَالِ حَتَّى عَلَيْهِ مُمْكِنٌ لَكِنْ يَكُونُ مَدْلُولُهَا غَيْرَ مَدْلُولِهَا عِنْدَ الدُّخُولِ عَلَى قَوْلِهِ يَتَفَرَّقَا فَهِيَ فِي دُخُولِهَا عَلَى قَوْلِهِ يَتَفَرَّقَا لِلْغَايَةِ وَفِي دُخُولِهَا عَلَى قَوْلِهِ يَأْخُذَ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ إنَّ الْخِيَارَ ثَابِتٌ إلَى غَايَةِ التَّفَرُّقِ وَأَنَّ عِلَّةَ ثُبُوتِهِ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْبَيْعِ مَا هَوِيَ ، وَإِذَا اخْتَلَفَ مَدْلُولُ حَتَّى تَعَذَّرَ عَطْفُ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَيُقَدَّرُ لَهُ حِينَئِذٍ فِعْلٌ تَقْدِيرُهُ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَأْخُذَ إلَى آخِرِهِ وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمُقَدَّرِ حَتَّى الدَّاخِلَةُ عَلَى قَوْلِهِ يَتَفَرَّقَا .
وَقَوْلُهُ ( وَيَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْبَيْعِ ) أَيْ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ عَقْدُ الْبَيْعُ مِنْ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْإِجَازَةِ فَيَأْخُذُ الثَّمَنَ .
وَالْفَسْخَ فَيَأْخُذُ الْمُثَمَّنَ وَالْمُشْتَرِي بِعَكْسِهِ .
وَقَوْلُهُ ( مَا هَوِيَ ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ لِلنَّسَائِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ( مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَيَأْخُذَ أَحَدُهُمَا مَا رَضِيَ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ هَوِيَ ) وَقَوْلُهُ ( وَيَتَخَايَرَانِ ثَلَاثَ مِرَارٍ ) نَدَبَ إلَى تَكْرِيرِ التَّخَايُرِ ثَلَاثَ مِرَارٍ ؛ لِأَنَّهُ أَطْيَبُ لِلْقَلْبِ وَأَحْوَطُ
وَهُوَ اسْتِحْبَابٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا نَعْلَمُ وَلَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَرَدَّ ابْنُ حَزْمٍ حَدِيثَ سَمُرَةَ بِالْإِرْسَالِ فَإِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إلَّا حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ ، وَحَدِيثَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ بِأَنَّ هَمَّامًا لَمْ يُحَدِّثْ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ وَجَدَهَا فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يَرْوِهَا وَلَا أَسْنَدَهَا وَقَدْ رَوَاهُ هَمَّامٌ مَرَّةً أُخْرَى فَتَرَك ذِكْرَهَا قَالَ : وَلَوْ ثَبَتَ هَمَّامٌ عَلَيْهَا أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الثِّقَاتِ لَقُلْنَا بِهَا ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ .
بَابُ الْحَوَالَةِ ) .
عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ الظُّلْمِ } فَذَكَرَهُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ { وَإِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ } .
( بَابُ الْحَوَالَةِ ) ( الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ) عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } وَعَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إنَّ مِنْ الظُّلْمِ ) فَذَكَرَهُ .
( فِيهِ ) فَوَائِدُ : ( الْأُولَى ) أَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الْأُولَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِلَفْظِ ( وَإِذَا أُحِيلَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ ) أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ وَأَحَالَ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَقَالَ إنَّهُ مِثْلُهُ وَلَفْظُهُ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ { إنَّ مِنْ الظُّلْمِ مَطْلُ الْغَنِيِّ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى فَقَطْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ مَعْمَرٍ .
( الثَّانِيَةُ ) الْمَشْهُورُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ ) أَنَّهُ مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْغَنِيِّ الْقَادِرِ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ أَنَّهُ يَمْطُلُ بِهِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ قَضَائِهِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ بِخِلَافِ الْعَاجِزِ عَنْ الْوَفَاءِ فَإِنَّهُ غَيْرُ ظَالِمٍ بِالِامْتِنَاعِ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ لِلْمَفْعُولِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ وَفَاءُ الدَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّهُ غَنِيًّا غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَمِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى وُجُوبُ وَفَائِهِ فِيمَا إذَا كَانَ مُسْتَحِقُّهُ
مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَهُوَ مِنْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ .
وَقَالَ وَالِدِي فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ إنَّ هَذَا الثَّانِي تَعَسُّفٌ وَتَكَلُّفٌ .
( الثَّالِثَةُ ) قَدْ عَرَفْت أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغِنَى الْقُدْرَةُ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ وَبِضِدِّهِ الْعَجْزُ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ غَنِيًّا إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ الْأَدَاءِ لِغَيْبَةِ الْمَالِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَى الْإِمْكَانِ ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مَخْصُوصٌ مِنْ مَطْلِ الْغَنِيِّ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ : الْمُرَادُ بِالْغَنِيِّ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ الْأَدَاءِ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا ، ذَكَرَهُمَا النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَقُوَّةُ كَلَامِهِ تَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْأَوَّلِ وَالظَّاهِرُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَجُوزُ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ ، وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا لِلْفُقَرَاءِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ .
( الرَّابِعَةُ ) لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى التَّكَسُّبِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِوَفَاءِ الدَّيْنِ أَطْلَقَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَمِنْهُمْ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَفَصَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْفَرَاوِيُّ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَوَائِدِ الرِّحْلَةِ بَيْنَ أَنْ يَلْزَمَهُ الدَّيْنُ بِسَبَبٍ هُوَ عَاصٍ بِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الِاكْتِسَابُ لِوَفَائِهِ أَوْ غَيْرُ عَاصٍ فَلَا .
قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ الْإِسْنَوِيُّ وَهُوَ وَاضِحٌ ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ فِيمَا فَعَلَهُ وَاجِبَةٌ وَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى الرَّدِّ .
انْتَهَى .
وَلَوْ قِيلَ بِوُجُوبِ التَّكَسُّبِ مُطْلَقًا لَمْ يَبْعُدْ كَالتَّكَسُّبِ لِنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْقَرِيبِ وَكَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَسْبِ كَالْمَالِ فِي مَنْعِ أَخْذِ الزَّكَاةِ يَبْقَى النَّظَرُ فِي أَنَّ لَفْظَ هَذَا الْحَدِيثِ هَلْ يَتَنَاوَلُهُ إنْ فَسَّرْنَا الْغِنَى
بِالْمَالِ فَلَا ، وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى وَفَاءِ الدَّيْنِ فَنَعَمْ وَكَلَامُهُمْ فِيمَنْ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ يُوَافِقُ الثَّانِيَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْخَامِسَةُ ) هَلْ يَتَوَقَّفُ وُجُوبُ أَدَاءِ الدَّيْنِ عَلَى مُطَالَبَةِ مُسْتَحِقِّهِ أَمْ لَا اخْتَلَفَ فِيهِ الشَّافِعِيَّةُ فَمِمَّنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَدَاءُ إلَّا بَعْدَ الطَّلَبِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْوَكَالَةِ مِنْ النِّهَايَةِ وَأَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ فِي الْقَوَاطِعِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْقَوَاعِدِ الْكُبْرَى وَهُوَ مَفْهُومُ تَقْيِيدِ النَّوَوِيِّ فِي التَّفْلِيسِ بِالطَّلَبِ وَبَحَثَ الْإِمَامُ فِي النِّهَايَةِ فِي كِتَابِ الْقَاضِي وُجُوبَ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ ، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إذَا كَانَ عَلَى الْمَحْجُورِ دَيْنٌ وَجَبَ عَلَى الْوَلِيِّ قَضَاؤُهُ إذَا طَالَبَ بِهِ صَاحِبُهُ أَوْ لَمْ يُطَالِبْ ، وَلَكِنْ كَانَ مَالُ الْمَحْجُورِ نَاضًّا خَشْيَةَ التَّلَفِ ، وَإِنْ كَانَ أَرْضًا أَوْ عَقَارًا تَرَكَهُمْ عَلَى خِيَارِهِ فِي الْمُطَالَبَةِ إذَا شَاءُوا وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ وَالنَّوَوِيُّ فِي الْحَجْرِ أَنَّ الْوَلِيَّ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الزَّكَوَاتِ وَأُرُوشَ الْجِنَايَاتِ ، وَإِنْ لَمْ تُطْلَبْ وَنَفَقَةَ الْقَرِيبِ بَعْدَ الطَّلَبِ وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بَعْدَ ذِكْرِهِ عَدَمَ الْوُجُوبِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّلَبِ : فَإِنْ ظَهَرَتْ قَرَائِنُ حَالِيَّةٌ تُشْعِرُ بِالطَّلَبِ فَفِي وُجُوبِهِ احْتِمَالٌ وَتَرَدُّدٌ وَقَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْكِفَايَةِ : قَالَ صَاحِبُ الْبَحْرِ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ : يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَ وُجُوبُهُ بِرِضَا الْمَالِكِ فَهُوَ عَلَى التَّرَاضِي وَيَتَعَيَّنُ أَدَاؤُهُ بِالْمُطَالَبَةِ أَوْ لِخَوْفٍ مِنْهُ عَلَى مَالِهِ أَنْ يَفُوتَ ، وَإِنْ كَانَ وُجُوبُهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمَالِكِ فَالْقَضَاءُ عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَرْضَ بِوُجُوبِهِ فِي ذِمَّتِهِ وَيَحْتَمِلُ فِيمَا إذَا كَانَ وُجُوبُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّرَاخِي أَيْضًا إذَا كَانَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ وَكَانَ الْمُسْتَحِقُّ عَالِمًا بِهِ .
انْتَهَى .
وَيَنْبَغِي وُجُوبُ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فِيمَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ لِمَحْجُورٍ ذَكَرَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِي