كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي
الْمُشْتَرِي بِالْقِبْلِيِّ أَيْضًا فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إذَا تَأَخَّرَ إلَى اسْتِغْرَاقِ الذِّمَّةِ وَمِمَّا تُفَارِقُ بِهِ أَيْضًا أَوْقَافُ الْمُلُوكِ وَنَحْوِهِمْ غَيْرَهَا مِنْ الْأَوْقَافِ إنْ وَفَّرَهَا أَيْ مَا فَضَلَ مِنْهَا عَمَّا سَمَّوْهُ مِنْ الْمَصْرِفِ فَضْلًا بَيِّنًا لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ صَرْفِهِ فِي مَصْلَحَةِ غَيْرِ مَا عَيَّنُوهُ وَلَا يَدْخُلُهُ الْخِلَافُ الْمَعْرُوفُ فِي أَوْقَافِ الْأَحْبَاسِ كَمَا فِي جَوَابَيْ الْعَلَّامَةِ أَبِي عُثْمَانَ الْعُقْبَانِيِّ وَالْمُحَصِّلِ الْمُفْتِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُورِيِّ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمِعْيَارِ .
ا هـ وَقَالَ عبق وَفِي تت عِنْدَ قَوْلِهِ إنْ كَانَ عَلَى مَحْجُورِهِ عِنْدَ الذَّخِيرَةِ إنْ وَقَفُوا عَلَى مَدْرَسَةٍ أَكْثَرَ مِمَّا تَحْتَاجُ إلَيْهِ بَطَلَ فِيمَا زَادَ فَقَطْ لِأَنَّهُمْ مَعْزُولُونَ عَنْ التَّصَرُّفِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَالزَّائِدُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ فَهُوَ مِنْ غَيْرِ مُتَوَلٍّ وَلَا يَنْفُذُ .
ا هـ وَلِابْنِ وَهْبَانَ فِي مَنْظُومَتِهِ وَلَوْ وَقَفَ السُّلْطَانُ مِنْ بَيْتِ مَالِنَا بِالْمَصْلَحَةِ عَمَّتْ يَجُوزُ وَيُؤْجَرُ وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ عبق عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ مَعَ الْبُنَانِيِّ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ صَحَّ وَقْفُ مَمْلُوكٍ وَإِنْ بِأُجْرَةٍ .
الْفَرْقُ بَيْنَ أَرْصَادِ الْإِمَامِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي كُتُبِنَا بِالْخُلُوِّ وَبَيْنَ وَقْفِهِ نِيَابَةً عَنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جِهَةٍ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْخُلُوِّ مَمْلُوكَةٌ لَمْ يَتَعَلَّقْ الْحُبْسُ بِهَا وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ الْحُبْسُ بِأَصْلِهَا فَمَالِكُهَا كَمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بِأُجْرَةٍ فَكَمَا يَجُوزُ تَحْبِيسُ مَالِك الْمَنْفَعَةِ بِأُجْرَةٍ لِلْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ لِقَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ فِي الْإِجَارَاتِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُكْرِيَ أَرْضَهُ عَلَى أَنْ تُتَّخَذَ مَسْجِدًا عَشْرَ سِنِينَ فَإِذَا انْقَضَتْ كَانَ النَّقْضُ لِلَّذِي بَنَاهُ .
ا هـ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْبِيدُ عِنْدَنَا كَذَلِكَ يَجُوزُ بِالْأَحْرَى لِمَالِكِ مَنْفَعَةِ الْخُلُوِّ تَحْبِيسُهَا
لِكَوْنِهِ يَمْلِكُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ عَلَى مَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ بِمِصْرَ فَلِذَا أَفْتَى بِصِحَّتِهِ جَمْعٌ مِنْهُمْ شَيْخُ عج وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ السَّنْهُورِيُّ وَأَفْتَى النَّاصِرُ بِجَوَازِ بَيْعِ الْخُلُوِّ فِي الدَّيْنِ وَارِثُهُ وَرُجُوعُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ حَيْثُ لَا وَارِثَ وَمَا أَبْدَاهُ عج مِنْ الْفُرُوقِ بَيْنَ مَنْفَعَةِ الْخُلُوِّ وَمَنْفَعَةِ الْإِجَارَةِ بِمَسَائِلَ فَجَمِيعُهَا لَا يَصِحُّ وَمَا وَقَفَهُ الْإِمَامُ عَلَى جِهَةٍ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لِتِلْكَ الْجِهَةِ بَلْ تَعَلَّقَ الْحُبْسُ بِهَا كَأَصْلِهَا فَتُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ أَوْقَافِ غَيْرِ الْإِمَامِ لَا تُرَاعَى شُرُوطُهُ الَّتِي عَلَى وَفْقِ الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا عَلِمْت وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ لِأَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُوقِفَ وَقْفًا عَلَى جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ لَا يَقْتَضِي صِحَّتَهُ فَقَطْ بَلْ كَمَا يَحْتَمِلُهَا كَذَلِكَ يَحْتَمِلُ عَدَمَهَا وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الزُّرْعَةُ الْمَكِّيُّ فِي رِسَالَتِهِ بِسَاطِ الْكَرْمِ فِي الْقَوْلِ عَلَى أَوْقَافِ الْحَرَمِ عَنْ الْعَلَّامَةِ السُّيُوطِيّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْيَنْبُوعِ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ يَعْنِي الشَّافِعِيَّةَ أَنَّ الْوَظَائِفَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَوْقَافِ أَوْقَافِ الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ كُلِّهَا إنْ كَانَ لَهَا أَصْلٌ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ تَرْجِعُ إلَيْهِ فَيَجُوزُ لِمَنْ كَانَ بِصِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ عَالِمٍ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَطَالِبِ عِلْمٍ كَذَلِكَ وَصُوفِيٍّ عَلَى طَرِيقَةِ الصُّوفِيَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا وَقَفُوهُ غَيْرَ مُتَقَيِّدٍ بِمَا شَرَطُوهُ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ وَإِذَا وَقَفَ السُّلْطَانُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَرْضًا لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فَذَكَرَ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوِيهِ جَوَازَهُ وَلَا يُرَاعِي مَا شَرَطَهُ دَائِمًا ا هـ أَيْ بَلْ يُرَاعِي فِي الْجُمْلَةِ وَذَكَرَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ أَنَّ شُرُوطَ السَّلَاطِينِ فِي أَوْقَافِهِمْ مِنْ
بَيْتِ الْمَالِ لَا يُعْمَلُ بِشَيْءٍ مِنْهَا كَمَا قَالَهُ أَجِلَّاءُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ شُرُوطِهِمْ فِيهَا لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِ بَيْتِ الْمَالِ .
ا هـ فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ مَعَ قَوْلِهِمْ بِجَوَازِ أَوْقَافِهِمْ الْجَارِيَةِ عَلَى الْأَوْضَاعِ الشَّرْعِيَّةِ قَالُوا بِعَدَمِ صِحَّتِهَا وَعَدَمِ مُرَاعَاةِ شُرُوطِهَا فَمَذْهَبُهُمْ كَمَذْهَبِ الْأَحْنَافِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ لَا يَمْلِكُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا وَشَرْطُ صِحَّةِ الْوَقْفِ مِلْكُ الْوَاقِفِ فَمَا وَقَفُوهُ لَيْسَ بِوَقْفٍ حَقِيقَةً بَلْ صُورَةً مِنْ قَبِيلِ الْأَرْصَادِ عَيَّنَهُ وَاقِفُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَبَّدَهُ عَلَى مَصْرِفِهِ وَمُسْتَحِقِّهِ الشَّرْعِيِّ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالطَّلَبَةِ وَنَحْوِهِمْ عَوْنًا عَلَى وُصُولِهِمْ إلَى بَعْضِ حَقِّهِمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَمَنْعًا لِمَنْ يَصْرِفُهُ مِنْ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ فِي غَيْرِ مَصْرِفِهِ قَالَ فِي بِسَاطِ الْكَرْمِ جَوَّزَ الْعُلَمَاءُ وَالْحُكَّامُ لِضَرُورَاتِ النَّاسِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ فِي الْأَوْقَافِ السُّلْطَانِيَّةِ مِنْ الْفَرَاغِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ الْعَيْنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَيْفَ وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْجُمْلَةِ عَنْ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَادَةُ مُحْكَمَةٌ أَيْ هِيَ الْمُرَجِّعُ عِنْدَ النِّزَاعِ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ يُبْتَنَى عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ الْبِيرِيُّ وَأَصْلُهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ وَهُوَ مَوْقُوفٌ حَسَنٌ أَفَادَهُ الْعَلَّامَةُ السَّيِّدُ الْحَمَوِيُّ وَقَدْ أَجَابَ مُفْتِي مَكَّةَ الْعَلَّامَةُ السَّيِّدُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْمَرْحُومِ السَّيِّدِ مُحَمَّدٍ مِيرْغَنِيّ لَمَّا سَأَلَهُ قَاضِيهَا يَوْمئِذٍ بِمَا صُورَتُهُ مَا قَوْلُكُمْ فِي خَلَوَاتِ الْمَدَارِسِ الَّتِي بَنَاهَا وَاقِفُهَا لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ ثُمَّ اسْتَوْلَى
عَلَيْهَا وَسَكَنَهَا غَيْرُ الْمَشْرُوطَةِ لَهُمْ وَيُفَرِّغُونَ سُكْنَاهَا بِعِوَضٍ دَرَاهِمَ بَيْنَهُمْ فَهَلْ هَذَا الْفَرَاغُ صَحِيحٌ وَيَسْتَحِقُّ سُكْنَاهَا غَيْرُ طَلَبَةِ الْعِلْمِ أَمْ تُنْزَعُ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَتُعْطَى لِمَنْ شَرَطَ لَهُمْ أَمْ كَيْفَ الْحُكْمُ بِمَا نَصُّهُ نَعَمْ هُوَ صَحِيحٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ مِنْ جَوَازِ فَرَاغِ مَا ذُكِرَ مِمَّا الْفَرَاغُ جَازَ فِيهِ وَقَدْ جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ حَيْثُ كَانَ الِاسْتِيلَاءُ بِالطَّرِيقِ الْمُعْتَبَرِ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فَلَا يُنْزَعُ مِنْ يَدِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ بَلْ وَلَا يَتَكَلَّفُ بِإِثْبَاتِ مَا بِيَدِهِ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ فَلْيُرَاجَعْ مَظَانُّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَقَدْ أَفَادَ سَلَّمَهُ اللَّهُ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْعُرْفُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِهِمْ وَأَخَذَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ يَسُوقُ فِي رِسَالَتِهِ بِسَاطِ الْكَرْمِ نُصُوصَ عُلَمَاءِ مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبَ الشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ فَانْظُرْهَا إنْ شِئْت وَفِي شَرْحِ الْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ مَنْصُورِ بْنِ إدْرِيسَ الْحَنْبَلِيِّ كَشَّافِ الْقِنَاعِ عَلَى مَتْنِ الْإِقَنَاعِ فِي مَذْهَبِ ابْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا نَصُّهُ فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَأَوْقَافِ السَّلَاطِينِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَيْسَ بِوَقْفٍ حَقِيقِيٍّ بَلْ كُلُّ مَنْ جَازَ لَهُ الْأَكْلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ جَازَ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا كَمَا أَفْتَى بِهِ صَاحِبُ الْمُنْتَهَى مُوَافَقَةً لِلشَّيْخِ الرَّمْلِيِّ وَغَيْرِهِ فِي وَقْفِ جَامِعِ طُولُونَ وَنَحْوِهِ .
ا هـ فَتَحَصَّلَ أَنَّ أَوْقَافَ السَّلَاطِينِ عِنْدَنَا أَوْقَافٌ حَقِيقَةً لَا أَرْصَادٌ فَمَنْفَعَتُهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لِمَنْ وُقِفَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَيُرَاعَى فِيهَا شَرْطُ الْوَاقِفِ بِخِلَافِ الْأَرْصَادِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْخُلُوِّ وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ أَرْصَادٌ لَا أَوْقَافٌ حَقِيقَةً فَمَنْفَعَتُهَا مَمْلُوكَةٌ لِمَنْ وُقِفَتْ عَلَيْهِ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَلَا يُرَاعَى فِيهَا شَرْطُ الْوَاقِفِ فَاحْفَظْ ذَلِكَ وَمِنْ جِهَةِ
أَنَّ كَلَامَ الْأَصْلِ يُفِيدُ عَدَمَ صِحَّةِ وَقْفِ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ مَا مَلَكُوهُ بِالشِّرَاءِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ غَيْرِهِ لِاسْتِغْرَاقِ ذِمَمِهِمْ بِالدُّيُونِ الَّتِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمْ بِتَعَدِّيهِمْ عَلَى أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَكَلَامُ ابْنِ عَابِدِينَ يُفِيدُ صِحَّتَهُ وَالظَّاهِرُ التَّفْصِيلُ بِتَقْيِيدِ الصِّحَّةِ بِمَنْ لَمْ يَتَعَدَّ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ أَوْ عَلَى مَنْ وُقِفَ قَبْلَ تَقَرُّرِ الدُّيُونِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْدَ تَقَرُّرِهَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ بُطْلَانِ تَبَرُّعَاتِهِ وَتَقْيِيدِ عَدَمِ صِحَّةٍ بِمَنْ سِوَى ذَلِكَ كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُ خَلِيلٍ فِي جَامِعِهِ وَلَا تَجُوزُ وَصَايَا الْمُتَسَلِّطِينَ بِالظُّلْمِ الْمُسْتَغْرِقِي الذِّمَّة وَلَا عِتْقُهُمْ وَلَا تُورَثُ أَمْوَالُهُمْ وَيُسْلَكُ بِهَا سَبِيلُ مَا أَفَاءَ اللَّهُ .
ا هـ قَالَ كنون وَمِثْلُهُ لِابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ شَاسٍ وَفِي الذَّخِيرَةِ وَصِيَّةُ السَّلَاطِينِ الظَّلَمَةِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَعِتْقُهُمْ مَرْدُودٌ ا هـ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْمَصْرُوفُ مِنْ الزَّكَاةِ لِلْمُجَاهِدِينَ لَيْسَ أُجْرَةً وَإِجَارَةً بَلْ أَرْزَاقٌ خَاصٌّ مِنْ مَالٍ خَاصٍّ وَهَلْ يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ لِهَذِهِ الْجِهَةِ فَيَتَخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ هَلْ اللَّامُ لِلْمِلْكِ أَمْ لَا وَلَيْسَ هُوَ إجَارَةٌ وَإِلَّا لَاشْتُرِطَ فِيهِ مِقْدَارُ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةِ الْمُوجِبَةِ لِتَعْيِينِ الْعَمَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الْإِجَارَةِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ أَرْزَاقًا خَاصًّا مِنْ جِهَةٍ خَاصَّةٍ وَيَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِ الْأَرْزَاقِ بِأَنَّ أَصْلَ الْأَرْزَاقِ يَصِحُّ أَنْ يَبْقَى فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يُصْرَفُ فِي الْوَقْفِ وَهَذَا يَجِبُ صَرْفُهُ إمَّا فِي جِهَةِ الْمُجَاهِدِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْجِهَاتِ الثَّمَانِيَةِ لِأَنَّ جِهَةَ هَذَا الْمَالِ عَيَّنَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إخْرَاجُهَا فِيهَا إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ وَكَذَلِكَ كُلُّ جِهَةٍ عَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَالْخُمُسِ يَتَعَيَّنُ الْمُبَادَرَةُ إلَى صَرْفِهِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَأَمَّا مَا يُورَثُ عَنْ الْمَوْتَى مِنْ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ يُحَازُ عَنْ الْغَائِبِ الْمُنْقَطِعِ خَبَرُهُ فَهَذَا لَا جِهَةَ لَهُ إلَّا مَا يَعْرِضُ مِنْ الْمَصَالِحِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَرْزَاقِ الْخَاصَّةِ وَبَقِيَّةِ الْأَرْزَاقَاتِ
( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) الْمَصْرُوفُ مِنْ الزَّكَاةِ لِلْمُجَاهِدِينَ رِزْقٌ خَاصٌّ مِنْ مَالٍ خَاصٍّ لَا أُجْرَةَ وَلَا إجَارَةَ وَفِي تَعَيُّنِ صَرْفِهِ لِهَذِهِ الْجِهَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ غَيْرُهَا مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ بِالصَّرْفِ لِأَنَّ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ شَرِكَةٌ فِي الصَّدَقَةِ أَوْ لَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ لَهَا بَلْ يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ جَمِيعُ الصَّدَقَةِ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ خِلَافٌ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ وَبَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْأَحْنَافِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّامِ فِي { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } الْآيَةَ هَلْ هِيَ لَامُ التَّمْلِيكِ كَقَوْلِك هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ أَوْ لَامُ الْأَصْلِ كَقَوْلِك هَذَا السَّرْجُ لِلدَّابَّةِ وَالْبَابُ لِلدَّارِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْطَى جَمِيعُهَا لِلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَاعْتَمَدَ هَذَا أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَضَافَ الصَّدَقَةَ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ إلَى مُسْتَحِقٍّ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُ الْمِلْكُ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيكِ فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِلْمُسْتَحِقِّينَ وَهَذَا كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَصْنَافٍ مُعَيَّنِينَ أَوْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ } الْآيَةَ وَالصَّدَقَةُ مَتَى أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ صَدَقَةُ الْفَرْضِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ } وَهَذَا نَصٌّ فِي ذِكْرِ أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ قُرْآنًا وَسُنَّةً وَحَقَّقَ عُلَمَاؤُنَا الْمَعْنَى فَقَالُوا إنَّ الْمُسْتَحِقَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنَّهُ أَحَالَ بِحَقِّهِ لِمَنْ ضَمِنَ لَهُمْ رِزْقَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } فَكَانَ كَمَا لَوْ قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو إنَّ لِي حَقًّا عَلَى خَالِدٍ يُمَاثِلُ حَقَّك يَا
عَمْرُو أَوْ يُخَالِفُهُ فَخُذْهُ مِنْهُ مَكَانَ حَقِّك فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لِمَصْرِفِ حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ لَا لِلْمُسْتَحِقِّ وَالصِّنْفُ الْوَاحِدُ فِي جِهَةِ الْمَصْرِفِ وَالْحَلِيَّةِ كَالْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ وَقَدْ كُنَّا نَقُولُ إنَّ الزَّكَاةَ تُصْرَفُ إلَى الذِّمِّيِّ فَخَصَّصْنَا هَذَا الْعُمُومَ بِمَا خَصَّصَهُ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ } وَمَا فَهِمَ الْمَقْصُودَ أَحَدٌ فَهْمَ الطَّبَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ الصَّدَقَةُ لِسَدِّ خُلَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ لِسَدِّ خُلَّةِ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنْ مَأْخَذِ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ الْأَصْنَافِ وَتَعْدِيدِهِمْ وَاَلَّذِي جَعَلْنَاهُ فَصْلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّ الْأُمَّةَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُعْطِي كُلُّ صِنْفٍ حَظَّهُ لَمْ يَجِبْ تَعْمِيمُهُ فَكَذَلِكَ تَعْمِيمُ الْأَصْنَافِ مِثْلُهُ .
ا هـ بِتَصَرُّفٍ مَا وَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِابْنِ رُشْدٍ فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي الْقِسْمَةَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ يُؤْثِرَ بِهَا أَهْلَ الْحَاجَةِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ سَدَّ الْخُلَّةِ فَكَانَ تَعْدِيدُهُمْ فِي الْآيَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إنَّمَا وَرَدَ لِتَمْيِيزِ الْجِنْسِ أَعْنِي أَهْلَ الصَّدَقَاتِ لَا تَشْرِيكِهِمْ فِي الصَّدَقَةِ فَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَمِنْ الْحُجَّةِ لِلشَّافِعِيِّ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ الصُّدَائِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك حَقَّك } .
ا هـ وَفِي أَحْكَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّ النَّخَعِيّ قَالَ إنْ
كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا قَسَمَهُ عَلَى الْأَصْنَافِ وَإِلَّا وَضَعَهُ فِي صِنْفٍ وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ إنْ أَخْرَجَهُ صَاحِبُهُ جَازَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ فِي قِسْمٍ وَإِنْ قَسَّمَ الْإِمَامُ اسْتَوْعَبَ الْأَصْنَافَ وَذَلِكَ فِيمَا قَالُوا إنَّهُ إنْ كَانَ كَثِيرًا فَلْيَعُمَّهُمْ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَانَ قَسْمُهُ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ إنْ قَسَمَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّظَرِ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ فَأَمَّا الْإِمَامُ فَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلْقِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ فَيَبْحَثُ عَنْ النَّاسِ وَيُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُمْ وَالنَّظَرُ فِي أَمْرِهِمْ وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ وَيَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحَاجَةِ هُوَ الْأَقْوَى ثُمَّ قَالَ مَا مَعْنَاهُ وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي اللَّامِ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ بِعَدَمِ بَقَاءِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ إلَى الْيَوْمِ إمَّا أَنْ يَعُودَ سَهْمُهُمْ إلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا أَوْ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَهْلِ الْخِلَافِ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ يُعْطَى نِصْفَ سَهْمِهِمْ لِعُمَّارِ الْمَسَاجِدِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَالْأَوَّلُ أَيْ عَوْدُهُ لِلْأَصْنَافِ عَلَى الْخِلَافِ هُوَ الْأَصَحُّ وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ مَحَلٌّ لَا مُسْتَحِقُّونَ إذْ لَوْ كَانُوا مُسْتَحَقِّينَ لَسَقَطَ سَهْمُهُمْ بِسُقُوطِهِ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى غَيْرِهِمْ كَمَا لَوْ أَوْصَى لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَرْجِعْ نَصِيبُهُ إلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ بَلْ حَقُّ الْمُؤَلَّفَةِ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ لِأَنَّ الْإِمَامَ رُبَّمَا احْتَاجَ أَنْ يَسْتَأْلِفَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَطَعَهُمْ عُمَرُ لَمَّا رَأَى مِنْ إعْزَازِ الدِّينِ وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ زَالُوا وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِمْ أُعْطُوا سَهْمَهُمْ كَمَا كَانَ يُعْطِيه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الصَّحِيحَ قَدْ رُوِيَ فِيهِ { بَدَأَ
الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ } ا هـ .
وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ الْمَصْرُوفُ مِنْهَا لِلْمُجَاهِدِينَ إجَارَةً مَعَ أَنَّ الْمَصْرُوفَ مِنْهَا لِلْقَائِلِينَ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ يَدُلُّ قَوْله تَعَالَى { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } وَهُمْ الَّذِينَ يَقُومُونَ لِتَحْصِيلِهَا وَيُوَكَّلُونَ عَلَى جَمْعِهَا عَلَى مَسْأَلَةٍ بَدِيعَةٍ وَهِيَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَالْقَائِمُ بِهِ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ وَمِنْ ذَلِكَ الْإِمَامَةُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فَإِنَّ تَقَدُّمَ بَعْضِهِمْ بِهِمْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَلَا جَرَمَ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا وَهَذَا أَصْلُ الْبَابِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ عِيَالِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ } قَالَ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَلَّكَهَا لَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَلَيْسَ لَهُ وَصْفٌ يَأْخُذُ بِهِ مِنْهَا سِوَى الْخِدْمَةِ فِي جَمْعِهَا .
ا هـ قَالَ الْأَصِيلُ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يُصْرَفُ مِنْهَا لِلْمُجَاهِدِينَ شُرُوطُ الْإِجَارَةِ مِنْ مِقْدَارِ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةِ الْمُوجِبَةِ لِتَعَيُّنِ الْعَمَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ نَعَمْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِ الْأَرْزَاقِ بِأَنَّ أَصْلَ الْأَرْزَاقِ يَصِحُّ أَنْ يَبْقَى فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يُصْرَفُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ وَنَحْوِهَا وَإِنَّمَا يُصْرَفُ فِي الْمَصَالِحِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ وَهَذَا يَجِبُ صَرْفُهُ أَمَّا فِي جِهَةِ الْمُجَاهِدِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْجِهَاتِ الثَّمَانِ لِأَنَّ جِهَةَ هَذَا الْمَالِ عَيَّنَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إخْرَاجُهَا فِيهَا إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ وَكَذَلِكَ كُلُّ جِهَةٍ عَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَالْخُمُسِ يَتَعَيَّنُ الْمُبَادَرَةُ إلَى صَرْفِهِ فِي جِهَةٍ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ .
ا هـ وَقَدْ مَرَّ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَجُوزُ عَلَى الْقَضَاءِ وَإِمَامَةِ
الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِمَا وَأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ رِزْقٌ لَا أُجْرَةٌ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلُ فِي الصَّدَقَةِ يَسْتَحِقُّ يَعْنِي مِنْهَا كِفَايَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ بِسَبَبِ الْعَمَلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَدَلًا عَنْ الْعَمَلِ حَتَّى لَمْ يَحِلَّ لِلْهَاشِمِيِّ وَالْأُجْرَةُ تَحِلُّ لَهُ وَسَيَأْتِي مِثْلُهُ لِلْأَصْلِ نَعَمْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْأَحْكَامِ بِأَنَّ الْهَاشِمِيَّ إنَّمَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا مَعَ أَنَّهَا أُجْرَةٌ صَحِيحَةٌ تَحَرِّيًا لِكَرَامَتِهِ وَتَبَاعُدًا عَنْ الزَّرِيعَةِ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
ا هـ فَتَأَمَّلْ بِإِمْعَانٍ
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ مَا يُصْرَفُ لِلْقَسَّامِ لِلْعَقَارِ بَيْنَ الْخُصُومِ مِنْ جِهَةِ الْحُكَّامِ وَالتُّرْجُمَانِ الَّذِي يُتَرْجِمُ الْكُتُبَ عِنْدَ الْحُكَّامِ وَكَاتِبِ الْحَاكِمِ وَأُمَنَاءِ الْحُكَّامِ عَلَى الْأَيْتَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَذَلِكَ كُلُّهُ أَرْزَاقٌ لَا إجَارَةٌ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَرْزَاقِ دُونَ أَحْكَامِ الْإِجَارَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَكَذَلِكَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْخَرَّاصُ عَلَى خَرْصِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ مِنْ الدَّوَالِي وَالنَّخْلِ وَسُعَاةِ الْمَوَاشِي وَالْعُمَّالِ عَلَى الزَّكَاةِ كُلُّ ذَلِكَ أَرْزَاقٌ لَا إجَارَةٌ وَنَحْوُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِمَّا هُوَ فِي سِلْكِهَا يَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا فَقَدْ اتَّضَحَ لَك بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَرْزَاقِ وَقَاعِدَةِ الْإِجَارَةِ وَقَاعِدَةِ وَقْفِ الْمُلُوكِ وَأَحْكَامُ ذَلِكَ الْمُخْتَلِفَةُ الْأَوْضَاعِ
( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) مَا يُصْرَفُ مِنْ جِهَةِ الْحُكَّامِ لِقَسَّامِ الْعَقَارِ بَيْنَ الْخُصُومِ وَلِمُتَرْجِمِ الْكُتُبِ عِنْدَ الْحُكَّامِ وَلِكَاتِبِ الْحَاكِمِ وَلِأُمَنَاءِ الْحُكَّامِ عَلَى الْأَيْتَامِ وَلِلْخَرَّاصِ عَلَى خَرْصِ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ مِنْ الدَّوَالِي أَوْ النَّخْلِ وَلِسُعَاةِ الْمَوَاشِي وَالْعُمَّالِ عَلَى الزَّكَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ رِزْقٌ يَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَرْزَاقِ دُونَ أَحْكَامِ الْإِجَارَاتِ أَيْ عَلَى خِلَافِ مَا مَرَّ عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ مِنْ أَنَّ مَا يَدْفَعُ لِلْعَامِلِينَ مِنْهَا أُجْرَةٌ صَحِيحَةٌ لَا رِزْقٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
( الْفَرْقُ السَّادِسَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ فِي الْجِهَادِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِقْطَاعِ وَغَيْرِهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْإِمَامِ وَلَيْسَ بِإِجَارَةٍ ) وَاعْلَمْ أَنَّ السَّلَبَ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِقَوْلِ الْإِمَامِ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُسْتَحَقُّ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ وَأَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِفُتْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ لَا بِتَصَرُّفِهِ بِطَرِيقِ الْإِمَامَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَصَرُّفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْهَا عَلَى أَنَّهُ بِالْإِمَامَةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إذْنِ الْإِمَامِ وَمَا وَقَعَ مِنْهَا بِتَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْقَضَاءِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي وَمَا وَقَعَ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْفُتْيَا وَالتَّبْلِيغِ يُسْتَحَقُّ بِدُونِ قَضَاءِ قَاضٍ وَإِذْنِ إمَامٍ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ السَّلَبَ كَانَ لِلْقَاتِلِ إلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ وَهُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ مِنْ بَابِ التَّبْلِيغِ وَالْفُتْيَا فَقَدْ حَصَلَ السَّلَبُ مِنْ بَابٍ آخَرَ غَيْرِ تَصَرُّفَاتِ الْأَئِمَّةِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ نَزْعُهُ مِمَّنْ وُجِدَ فِي حَوْزِهِ بِشَرْطِهِ لِأَنَّ الْقَتْلَ حِينَئِذٍ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ بِسَبَبِهِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ مِنْ بَابِ تَصَرُّفَاتِ الْأَئِمَّةِ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِلْإِمَامِ نَزْعُهُ مِمَّنْ وُجِدَ مَعَهُ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ تَصَرُّفُ الْإِمَامِ وَلَمْ يُوجَدْ فَبَقِيَ مِنْ الْغَنِيمَةِ .
وَأَمَّا الْإِقْطَاعُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِغَيْرِ سَبَبٍ
يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهُ وَتَمْلِيكَهُ وَإِنَّمَا هُوَ إعَانَةٌ عَلَى أَحْوَالٍ تَقَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ وَلَيْسَ تَمْلِيكًا حَقِيقِيًّا فَلِذَلِكَ كَانَ لِلْإِمَامِ نَزْعُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ وَتَبْدِيلُهُ بِغَيْرِهِ بِخِلَافِ السَّلَبِ وَإِنَّمَا سَاوَى السَّلَبَ مَا حَازَهُ الْأَجْنَادُ وَالْأُمَرَاءُ مِنْ إقْطَاعَاتِهِمْ مِنْ خَرَاجٍ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ نَزْعُهُ مِنْهُمْ لِتَقَرُّرِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا السَّلَبُ فَقَبْلَ حُصُولِ سَبَبِهِ لَا يَكُونُ لِلْقَاتِلِ بِهِ تَعَلُّقٌ أَلْبَتَّةَ وَبَعْدَ حُصُولِ سَبَبِهِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا بِالْكُلِّيَّةِ فَالْحَالَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ الْقَابِلَةُ لِلِانْتِزَاعِ لَا تَحْصُلُ لِلسَّلَبِ أَلْبَتَّةَ وَالْإِقْطَاعُ يَحْصُلُ لَهَا هَذِهِ الْحَالَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ الْقَابِلَةُ لِلِانْتِزَاعِ وَإِبْدَالِهِ بِغَيْرِهِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْفُتْيَا وَالتَّبْلِيغِ أَنَّهُ الْغَالِبُ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ وَهَذَا شَأْنُ الرِّسَالَةِ أَعْنِي التَّبْلِيغَ ، وَحَمْلُ تَصَرُّفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْغَالِبِ طَرِيقٌ حَسَنٌ وَهُوَ مُسْتَنَدُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حَمْلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ } وَقَالَ إذْنُ الْإِمَامِ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْمِلْكِ بِالْإِحْيَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَشَى عَلَى قَاعِدَتِهِ فِيهِمَا وَجَعَلَهُمَا مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ بِالْإِمَامَةِ .
وَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ نَقَضَ أَصْلَهُ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَشَى عَلَى أَصْلِهِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْغَالِبِ فِي الْفُتْيَا دُونَ الْإِمَامَةِ وَسَبَبُ نَقْضِ مَالِكٍ لِأَصْلِهِ أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ أَصْلَ الْغَنِيمَةِ مُسْتَحَقٌّ لِلْغَانِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ لِلْغَانِمِينَ كَمَا
قَالَ تَعَالَى { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } مَعْنَاهُ وَالثُّلُثَانِ لِلْأَبِ وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ الضِّدِّ الْمُقَابِلِ يَدُلُّ عَلَى مُقَابِلِهِ اكْتَفَى بِذِكْرِهِ عَنْ ذِكْرِهِ فِي الْآيَتَيْنِ وَلَمَّا كَانَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسُ مُسْتَحَقَّةً لِلْغَانِمِينَ فَلَوْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } فُتْيَا لَكَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي مُنَافَاةِ الظَّاهِرِ الْمُتَقَدِّمِ مِمَّا إذَا جَعَلْنَاهُ مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ بِالْإِمَامَةِ وَأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ حَتَّى يَقُولَ الْإِمَامُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فَإِنَّ التَّوَقُّفَ عَلَى شَرْطٍ أَبْعَدُ عَنْ التَّخْصِيصِ مِنْ الْإِخْرَاجِ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَكَانَ تَقْلِيلُ التَّخْصِيصِ وَإِبْعَادُهُ أَوْلَى وَثَانِيهَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى إفْسَادِ النِّيَّاتِ وَأَنْ يُقَاتِلَ الْإِنْسَانُ مَنْ عَلَيْهِ سَلَبٌ طَمَعًا فِي سَلَبِهِ لَا نُصْرَةً لِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبَّمَا أَوْقَعَ ذَلِكَ خَلَلًا عَظِيمًا فِي الْجَيْشِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْهَزِيمَةِ وَاسْتِئْصَالِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَكُونَ الشُّجْعَانُ قَلِيلِينَ فِي التَّزَيُّنِ وَاللِّبَاسِ وَالْعَجَزَةُ وَالْجُبَنَاءُ هُمْ الْمُتَحَصَّنُونَ بِأَنْوَاعِ الْأَسْلِحَةِ فَيَشْتَغِلُ النَّاسُ بِهِمْ عَنْ الشُّجْعَانِ رَغْبَةً فِي لِبَاسِهِمْ فَيَسْتَوْلِي شُجْعَانُ الْأَعْدَاءِ عَلَى أَبْطَالِ الْمُسْلِمِينَ وَجَيْشِهِمْ فَيَهْلِكُونَ ثُمَّ إنَّهُ يُؤَدِّي إلَى ضَيَاعِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ بَلْ الْعِقَابُ الْأَلِيمُ بِسَبَبِ الْمَقَاصِدِ الرَّدِيَّةِ .
وَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ فَلَا يُسْتَكْثَرُ مِنْهُ فَإِذَا جُعِلَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ انْدَفَعَتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ بِسَبَبِ أَنَّهُ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ الَّذِينَ فِي الْجَيْشِ بَعِيدِينَ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ وَإِلَّا لَمْ يَقُلْ فَتُدْفَعُ الْمَفَاسِدُ وَإِنَّمَا يَأْتِي إذَا جَعَلْنَاهُ فُتْيَا عَامَّةً فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَثَالِثُهَا أَنَّ ظَاهِرَ
الْقُرْآنِ مُتَوَاتِرٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالْحَدِيثُ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَلَيْسَ أَخَصَّ مِنْ الْآيَةِ حَتَّى يُخَصِّصَهَا لِتَنَاوُلِ لَفْظِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى مَا غَنِمْتُمْ الْغَنِيمَةَ فِي الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مُقْتَضَى اللَّفْظِ لُغَةً الْغَنِيمَةُ صَادِقَةٌ لُغَةً عَنْ الْغَارَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَنَحْوِهَا وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } يَتَنَاوَلُ لُغَةً الْغَنِيمَةَ وَغَيْرَهَا حَتَّى لَوْ قَتَلَهُ غِيلَةً فِي بَيْتِهِ تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ غَيْرَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِالْجِهَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَحِينَئِذٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمُّ مِنْ الْآخَرِ وَأَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ وَالتَّخْصِيصُ وَالْعُمُومُ إنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيه اللَّفْظُ لُغَةً وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ مِنْ وَجْهٍ لَا يَخُصُّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لِحُصُولِ التَّعَارُضِ فَيُصَارُ لِلتَّرْجِيحِ وَلَفْظُ الْقُرْآنِ مُتَوَاتِرٌ فَيَكُونُ أَرْجَحَ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْخَبَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا قَالَ ذَلِكَ يُسْتَحَقُّ فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ وَرَابِعُهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَرَكَا ذَلِكَ فِي خِلَافَتِهِمَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فُتْيَا لَمَا تَرَكَاهَا بَلْ عَلِمَا أَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ بِطَرِيقِ الْإِمَامَةِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ .
وَلَمْ يَرَيَا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ حِينَئِذٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ فَلَمْ يَقُولَا بِهِ فَهَذِهِ وُجُوهٌ ظَاهِرَةٌ فِيمَا قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لَأَنْ يُخَالِفَ أَصْلَهُ لَهَا
( الْفَرْقُ السَّادِسَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ فِي الْجِهَادِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْإِقْطَاعِ وَغَيْرِهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْإِمَامِ وَلَيْسَ بِإِجَارَةٍ ) وَهُوَ أَنَّ الْإِقْطَاعَ يَجُوزُ بِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهُ وَتَمْلِيكَهُ فَلَهُ فِي التَّمْلِيكِ حَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ هِيَ الْإِعَانَةُ عَلَى أَحْوَالٍ تَقَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ لَا تَمْلِيكٌ حَقِيقِيٌّ فَلِذَلِكَ كَانَ لِلْإِمَامِ نَزْعُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ وَلَهُ تَبْدِيلُهُ بِغَيْرِهِ .
وَأَمَّا السَّلَبُ فَلَا يَجُوزُ بِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهُ وَتَمْلِيكَهُ فَقَبْلَ حُصُولِ سَبَبِهِ لَا يَكُونُ لِلْقَائِلِ بِهِ تَعَلُّقٌ أَلْبَتَّةَ وَبَعْدَ حُصُولِ سَبَبِهِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا فَلَا تَحْصُلُ لَهُ فِي التَّمْلِيكِ الْحَالَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ الْقَابِلَةُ لِلِانْتِزَاعِ وَالْإِبْدَالِ بِغَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ فَهُوَ نَظِيرُ مَا حَازَهُ الْأَجْنَادُ وَالْأُمَرَاءُ مِنْ إقْطَاعَاتِهِمْ مِنْ خَرَاجٍ أَوْ غَيْرِهِ لِتَقَرُّرِ مِلْكِهِمْ عَلَيْهِ نَعَمْ وَقَعَ فِي سَبَبِهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِقَوْلِ الْإِمَامِ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ لَا بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُسْتَحَقُّ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مَا تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَصَرُّفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْهَا عَلَى أَنَّهُ بِالْأَمَانَةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إذْنِ الْإِمَامِ وَمَا وَقَعَ مِنْهَا بِتَصَرُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْقَضَاءِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي وَمَا وَقَعَ مِنْهَا بِطَرِيقِ الْفُتْيَا وَالتَّبْلِيغِ يُسْتَحَقُّ بِدُونِ قَضَاءِ قَاضٍ وَإِذْنِ إمَامٍ ، فَمُسْتَنَدُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِفُتْيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ لَا بِتَصَرُّفِهِ بِطَرِيقِ
الْإِمَامَةِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّبْلِيغِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ وَالتَّبْلِيغُ شَأْنُ الرِّسَالَةِ وَحَمْلُ تَصَرُّفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْغَالِبِ طَرِيقٌ حَسَنٌ وَبِذَلِكَ اسْتَنَدَا كَمَالِكٍ فِي حَمْلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ } وَقَالُوا إذْنُ الْإِمَامِ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْمِلْكِ بِالْإِحْيَاءِ وَمَشَى أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي السَّلَبِ وَالْإِحْيَاءِ عَلَى قَاعِدَتِهِ فَجَعَلَهُمَا مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ بِالْإِمَامَةِ وَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ وَإِنْ مَشَى فِي الْإِحْيَاءِ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْغَالِبِ فِي الْفُتْيَا وَالتَّبْلِيغِ دُونَ الْإِمَامَةِ إلَّا أَنَّهُ خَالَفَ فِي السَّلَبِ أَصْلَهُ الْمَذْكُورَ فَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ بِالْإِمَامَةِ بِسَبَبِ أُمُورٍ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ حَمْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } عَلَى التَّصَرُّفِ بِالْإِمَامَةِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ حَتَّى يَقُولَ الْإِمَامُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ أَبْلَغُ وَأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْفُتْيَا وَالتَّبْلِيغِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ فِي مُنَافَاتِهِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } فَإِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ أَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ لِلْغَانِمِينَ كَمَا أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لِلْأَبِ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الضِّدِّ الْمُقَابِلِ عَنْ ذِكْرِهِ فِي الْآيَتَيْنِ بِسَبَبِ أَنَّ ذِكْرَ الضِّدِّ الْمُقَابِلِ يَدُلُّ عَلَى مُقَابَلَةٍ وَوَجْهُ الْأَبْلَغِيَّةِ أَنَّ التَّوَقُّفَ عَلَى شَرْطٍ كَمَا فِي الْحَمْلِ عَلَى بَابِ التَّصَرُّفِ بِالْإِمَامَةِ أَبْعَدُ عَنْ التَّخْصِيصِ مِنْ الْإِخْرَاجِ بِغَيْرِ شَرْطٍ كَمَا فِي الْحَمْلِ عَلَى بَابِ الْفُتْيَا وَالتَّبْلِيغِ وَمَا كَانَ أَبْعَدَ عَنْ
التَّخْصِيصِ فَهُوَ أَبْلَغُ وَأَوْلَى ( وَثَانِيهِمَا ) أَنَّ حَمْلَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْفُتْيَا وَالتَّبْلِيغِ وَإِنْ كَانَ حَمْلًا عَلَى الْغَالِبِ عَلَى تَصَرُّفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا عَلِمْت إلَّا أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُؤَدِّي إلَى مَفْسَدَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ يَكُونُ بَعِيدًا عَنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ أَحَدُهُمَا إفْسَادُ النِّيَّاتِ وَأَنْ يُقَاتِلَ الْإِنْسَانُ مَنْ عَلَيْهِ سَلَبٌ طَمَعًا فِي سَلَبِهِ لَا نُصْرَةً لِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَرُبَّمَا أَوْقَعَ ذَلِكَ خَلَلًا عَظِيمًا فِي الْجَيْشِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَجَزَةُ وَالْجُبَنَاءُ هُمْ الْمُتَزَيِّنُونَ بِاللِّبَاسِ وَالْمُتَحَصِّنُونَ بِأَنْوَاعِ الْأَسْلِحَةِ دُونَ الشُّجْعَانِ فَيَشْتَغِلُ النَّاسُ بِالْجُبَنَاءِ عَنْ الشُّجْعَانِ رَغْبَةً فِي لِبَاسِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ فَيَسْتَوْلِي شُجْعَانُ الْأَعْدَاءِ عَلَى أَبْطَالِ الْمُسْلِمِينَ وَجَيْشِهِمْ فَيَهْلِكُونَ ( وَالْمَفْسَدَةُ الثَّانِيَةُ ) ضَيَاعُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاكْتِسَابِ الْعِقَابِ الْأَلِيمِ بِسَبَبِ الْمَقَاصِدِ الرَّدِيئَةِ وَأَمَّا إذَا حُمِلَ عَلَى التَّصَرُّفِ بِالْإِمَامَةِ وَصَارَ مَوْقُوفًا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ فَلَا مَفْسَدَةَ لِأَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَثَالِثُهَا إنَّ بَيْنَ لَفْظِ حَدِيثِ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } وَلَفْظِ مَا غَنِمْتُمْ فِي الْآيَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ بِسَبَبِ أَنَّ الْأَوَّلَ يَتَنَاوَلُ لُغَةً الْغَنِيمَةَ وَغَيْرَهَا كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غِيلَةً فِي بَيْتِهِ وَالثَّانِي يَتَنَاوَلُ الْغَنِيمَةَ الصَّادِقَةَ لُغَةً حَتَّى عَلَى الْغَارَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَنَحْوِهَا غَيْرَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ انْعَقَدَ عَلَى تَخْصِيصِهَا بِالْجِهَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْخُصُوصُ وَالْعُمُومُ إنَّمَا يَكُونُ بِحَسَبِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ لُغَةً وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ مِنْ وَجْهٍ لَا يُخَصِّصُ أَحَدَهُمَا الْآخَرُ لِحُصُولِ التَّعَارُضِ فَيُصَارُ لِلتَّرْجِيحِ وَلَفْظُ الْقُرْآنِ مُتَوَاتِرٌ فَيَكُونُ أَرْجَحَ فَيُقَدَّمُ عَلَى الْخَبَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ
الْإِمَامَ إذَا قَالَ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ ( وَرَابِعُهَا ) أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ لَوْ كَانَ فُتْيَا لَانْصَرَفَا بِطَرِيقِ الْإِمَامَةِ لَمَا تَرَكَهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي خِلَافَتِهِمَا لَكِنَّهُمَا تَرَكَاهَا عِلْمًا مِنْهُمَا أَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ بِطَرِيقِ الْإِمَامَةِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ وَلَمْ يَرَيَا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ حِينَئِذٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ فَلَمْ يَقُولَا بِهِ فَهَذِهِ وُجُوهٌ ظَاهِرَةٌ فِيمَا قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمُوجِبَةٌ لَأَنْ يُخَالِفَ أَصْلَهُ لَهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ السَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ عَلَى التَّمَادِي عَلَى الْكُفْرِ فَيَجُوزُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ أَخْذِ الْأَعْوَاضِ عَلَى التَّمَادِي عَلَى الزِّنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا ) وَقَدْ أَوْرَدَهُ بَعْضُ الطَّاعِنِينَ فِي الدِّينِ سُؤَالًا فِي الْجِزْيَةِ فَقَالَ شَأْنُ الشَّرَائِعِ دَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِإِيقَاعِ أَدْنَاهُمَا وَتَفْوِيتُ الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَا بِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا وَمَفْسَدَةُ الْكُفْرِ تَرْبَى عَلَى مَصْلَحَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْجِزْيَةِ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بَلْ عَلَى جُمْلَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فَضْلًا عَنْ هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ فَلِمَ وَرَدَتْ الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ بِذَلِكَ وَلِمَ لَا حَتَّمَ الْقَتْلَ دَرْءًا لِمَفْسَدَةِ الْكُفْرِ ؟ وَجَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ هُوَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ قَاعِدَةَ الْجِزْيَةِ مِنْ بَابِ الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَا لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا وَتَوَقُّعِ الْمَصْلَحَةِ الْعُلْيَا وَذَلِكَ هُوَ شَأْنُ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ بَيَانُهُ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا قُتِلَ انْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الْإِيمَانِ وَبَابُ مَقَامِ سَعَادَةِ الْجِنَانِ وَتَحَتَّمَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ وَالْخُلُودُ فِي النِّيرَانِ وَغَضَبُ الدَّيَّانِ فَشَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْجِزْيَةَ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَزْمَانِ لَا سِيَّمَا مَعَ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِلْجَاءِ إلَيْهِ بِالذُّلِّ وَالصَّغَارِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ .
فَإِذَا أَسْلَمَ لَزِمَ مِنْ إسْلَامِهِ إسْلَامُ ذُرِّيَّتِهِ فَاتَّصَلَتْ سِلْسِلَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ قِبَلِهِ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ وَلَمْ يُسْلِمْ فَنَحْنُ نَتَوَقَّعُ إسْلَامَ ذُرِّيَّتِهِ الْمُخَلَّفِينَ مِنْ بَعْدِهِ وَكَذَلِكَ يَحْصُلُ التَّوَقُّعُ مِنْ ذُرِّيَّةِ ذُرِّيَّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَاعَةً مِنْ إيمَانٍ تَعْدِلُ دَهْرًا مِنْ كُفْرٍ وَكَذَلِكَ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَأَكْثَرُ ذُرِّيَّتِهِ كُفَّارٌ وَعَدَّ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْقَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبَرَكَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَعْظِيمِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ فِي تَعْظِيمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَمَّا سَاقَ تَعْظِيمَهُ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَفْضَلُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَم وَفِيهِ تَابَ عَلَيْهِ وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ } فَجَعَلَ خَلْقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ جُمْلَةِ فَضَائِلِهِ لِأَنَّ خَلْقَهُ سَبَبُ وُجُودِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَالصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ .
وَإِنْ كَانَ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مُسْلِمٍ الْمِئُونَ مِنْ الْكُفَّارِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمُسْلِمِ الْوَاحِدِ وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ فَيَخْرُجُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَيَبْقَى مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ وَالْبَقِيَّةُ كُفَّارٌ } فَجَازَ أَهْلُ النَّارِ وَالْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ تَرْبَى مَصْلَحَةُ إسْلَامِهِ عَلَى مَفْسَدَةِ أُولَئِكَ وَأَنَّهُمْ كَالْعَدَمِ الصِّرْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا إيمَانٌ يُتَوَقَّعُ مِنْ الْأَصْلِ أَوْ مِنْ آحَادِ الذَّرَارِيِّ لَا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْوَاقِعِ مِنْ غَيْرِهِ فَعَقْدُ الْجِزْيَةِ مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ الشَّرَائِعِ الْوَاقِعَةِ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ .
وَلَمْ تُؤْخَذْ الْجِزْيَةُ مِنْ الْكُفَّارِ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْهُ بَلْ لِتَوَقُّعِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ الْمَصَالِحِ الْعَظِيمَةِ بِالْتِزَامِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ الْحَقِيرَةِ بِخِلَافِ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى مُدَاوَمَةِ الزِّنَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَرْجِيحٌ لِلْمَصْلَحَةِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي هِيَ الدَّرَاهِمُ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مَعْصِيَةُ اللَّهِ
تَعَالَى نَعَمْ لَوْ عَجَزْنَا عَنْ إزَالَةِ مُنْكِرٍ مِنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ إلَّا بِدَفْعِ دَرَاهِمَ دَفَعْنَاهَا لِمَنْ يَأْكُلُهَا حَرَامًا حَتَّى يَتْرُكَ ذَلِكَ الْمُنْكَرَ الْعَظِيمَ كَمَا يُدْفَعُ الْمَالُ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى ، وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَكْلُ ذَلِكَ الْمَالِ لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ الْمُحَرَّمِ لِتَخْلِيصِ الْأَسِيرِ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ وَلِذَلِكَ يُعْطَى الْمُحَارِبُ الْمَالَ الْيَسِيرَ كَالثَّوْبِ وَنَحْوِهِ لِيُسَلِّمَ صَاحِبَهُ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ مَعَهُ فَيَمُوتَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا أَوْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ وَالْمَعْصِيَةِ أَكْثَرَ .
وَأَمَّا دَفْعُ الْمَالِ لِغَرَضِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَيْسَ إلَّا فَهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ بَلْ الشَّرِيعَةُ تُحَرِّمُهُ وَلَا تُبِيحُهُ فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَفْسَدَةٌ صِرْفَةٌ فَلَمْ تُشْرَعْ وَقَاعِدَةُ الْجِزْيَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الْقَلِيلَةِ لِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعَظِيمَةِ وَتَوَقُّعُ الْمَصْلَحَةِ الْعَظِيمَةِ فَشُرِعَتْ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ
( الْفَرْقُ السَّابِعَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ إنَّ أَخْذِ الْجِزْيَةِ عَلَى التَّمَادِي عَلَى الْكُفْرِ يَجُوزُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ إنَّ أَخْذَ الْأَعْوَاضِ عَلَى التَّمَادِي عَلَى الزِّنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ لَا يَجُوزُ إجْمَاعًا ) .
وَهُوَ أَنَّ قَاعِدَةَ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى مُدَاوَمَةِ الزِّنَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَفْسَدَةٌ صِرْفَةٌ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَرْجِيحِ الْمَصْلَحَةِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي هِيَ أَخْذُ الدَّرَاهِمِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مَعْصِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ بَلْ الشَّرِيعَةُ تُحَرِّمُهُ وَلَا تُبِيحُهُ وَإِنَّمَا الَّذِي مِنْ الشَّرَائِعِ الْوَاقِعَةِ وَتُبِيحُهُ الْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ هُوَ عَكْسُ ذَلِكَ وَهُوَ تَرْجِيحُ الْمَصْلَحَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ إزَالَةُ مُنْكِرٍ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي هِيَ دَفْعُ الدَّرَاهِمِ لِمَنْ يَأْكُلُهَا حَرَامًا كَمَا فِي دَفْعِ الْمَالِ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى الْكُفَّارِ وَهُمْ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُمْ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ أَكْلُ ذَلِكَ الْمَالِ لِيُتَوَصَّلَ بِذَلِكَ الْمُحَرَّمِ لِتَخْلِيصِ الْأَسِيرِ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ .
وَكَمَا فِي دَفْعِ الْمَالِ الْيَسِيرِ كَالثَّوْبِ وَنَحْوِهِ لِلْمُحَارِبِ لِيُسَلِّمَ دَفْعَ ذَلِكَ الْمَالِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ مَعَهُ فَيَمُوتُ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا وَمِنْ ذَلِكَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ فَهُوَ مَصْلَحَةٌ صِرْفَةٌ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ الْإِقْرَارُ عَلَى الْكُفْرِ بِأَخْذِهَا لِدَفْعِ مَفْسَدَةِ الْعُلْيَا الَّتِي هِيَ انْسِدَادُ بَابِ الْإِيمَانِ وَبَابِ مَقَامِ سَعَادَةِ الْجِنَانِ عَلَى الْكَافِرِ إذَا قُتِلَ لِيَتَحَتَّمَ الْكُفْرُ عَلَيْهِ وَالْخُلُودُ فِي النِّيرَانِ وَغَضَبُ الدَّيَّانِ حِينَئِذٍ وَلِتَوَقُّعِ الْمَصْلَحَةِ الْعُلْيَا الَّتِي هِيَ إمَّا رَجَاءُ الْإِسْلَامِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَزْمَانِ مِنْ الْمُقِرِّ عَلَى الْكُفْرِ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُ سِيَّمَا مَعَ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ
وَالْإِلْجَاءِ إلَيْهِ بِالذُّلِّ وَالصَّغَارِ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ فَيَلْزَمُ مِنْ إسْلَامِهِ إسْلَامُ ذُرِّيَّتِهِ فَتَتَّصِلُ سِلْسِلَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ قِبَلِهِ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْمُقَرِّ عَلَيْهِ وَإِمَّا رَجَاءُ إسْلَامِ ذُرِّيَّتِهِ الْمُخَلَّفِينَ مِنْ بَعْدِهِ أَوْ مِنْ ذُرِّيَّةِ ذُرِّيَّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَاعَةً مِنْ إيمَانٍ تَعْدِلُ دَهْرًا مِنْ كُفْرٍ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ وَعَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْقَهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ جُمْلَةِ الْبَرَكَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَعْظِيمِهِ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَفْضَلُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَم وَفِيهِ تَابَ عَلَيْهِ وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ } لِأَنَّ خَلْقَهُ سَبَبُ وُجُودِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَالصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ .
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ ذُرِّيَّتِهِ كُفَّارًا فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ فَيُخْرَجُ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فَيَبْقَى مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ وَالْبَقِيَّةُ كُفَّارٌ فُجَّارٌ أَهْلُ النَّارِ وَالْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ } إذْ لَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الْكُفَّارِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمُسْلِمِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ تَرْبُو مَصْلَحَةُ إسْلَامِهِ عَلَى مَفْسَدَةِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ وَأَنَّهُمْ كَالْعَدَمِ الصِّرْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَعَقْدُ الْجِزْيَةِ لَمَّا كَانَتْ ثَمَرَتُهُ تُوقِعُ الْإِيمَانَ مِنْ الْأَصْلِ أَوْ مِنْ أَحَدِ الذَّرَارِيّ الَّذِي لَا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْكُفْرِ الْوَاقِعِ مِنْ غَيْرِهِ لَا مُجَرَّدُ تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْهُ كَانَ مِنْ آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ الشَّرَائِعِ الْوَاقِعَةِ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فَلِذَا
أَبَاحَتْهُ الْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِ بَعْضِ الطَّاعِنِينَ فِي الدِّينِ فِي إيرَادِهِ سُؤَالًا فِي الْجِزْيَةِ إنَّ شَأْنَ الشَّرَائِعِ دَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِإِيقَاعِ أَدْنَاهَا وَتَفْوِيتُ الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَا بِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا وَمَفْسَدَةُ الْكُفْرِ تَرْبُوا عَلَى مَصْلَحَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْجِزْيَةِ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بَلْ عَلَى جُمْلَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فَضْلًا عَنْ هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ فَلِمَ وَرَدَتْ الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ بِذَلِكَ وَلِمَ لَمْ تُحَتِّمْ الْقَتْلَ دَرْءًا لِمَفْسَدَةِ الْكُفْرِ ا هـ .
وَلِمَ كَانَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى مُدَاوَمَةِ الزِّنَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ ثَمَرَتُهُ مُجَرَّدُ أَخْذِ الدَّرَاهِمِ الَّذِي هُوَ مَصْلَحَةٌ حَقِيرَةٌ لَا تُعَادِلُ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مَعْصِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَقَعْ فِي الشَّرِيعَةِ بَلْ مَنَعَتْهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَفْسَدَةٌ صِرْفَةٌ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الثَّامِنَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْجِزْيَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُ نَقْضَهَا ) اعْلَمْ أَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ مُوجِبٌ لِعِصْمَةِ الدِّمَاءِ وَصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَحَقِيقَةُ عَقْدِ الْجِزْيَةِ هُوَ الْتِزَامُنَا لَهُمْ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ نَشْتَرِطُهَا عَلَيْهِمْ مَضَتْ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِهَا وَهِيَ أَيْضًا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ الشُّرُوطُ الْمُشْتَرَطَةُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُعْطُوا أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ ذَهَبًا فِي انْقِضَاءِ كُلِّ عَامٍ قَمَرِيٍّ صَرْفُ كُلِّ دِينَارٍ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا وَأَنْ لَا يُحْدِثُوا كَنِيسَةً وَلَا بِيعَةً وَلَا دِيرًا وَلَا صَوْمَعَةً وَلَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلَا يَمْنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ النُّزُولِ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا وَيُوَسِّعُوا أَبْوَابَهَا لِلنَّازِلِينَ وَيُضَيِّفُوا مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةً وَأَنْ لَا يَأْوُوا جَاسُوسًا وَلَا يَكْتُمُوا غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا يُعَلِّمُوا أَوْلَادَهُمْ الْقُرْآنَ وَلَا يَمْنَعُوا أَحَدًا مِنْهُمْ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَيُوَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ وَيَقُومُوا لَهُمْ مِنْ الْمَجَالِسِ وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ وَلَا فَرْقِ شَعْرِهِمْ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِهِمْ وَلَا يَتَكَنَّوْا بِكُنَاهُمْ وَلَا يَرْكَبُوا عَلَى السُّرُوجِ وَلَا يَتَقَلَّدُوا شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ وَلَا يَحْمِلُوهُ مَعَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَتَّخِذُوهُ وَلَا يَنْقُشُوا خَوَاتِيمَهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَبِيعُوا الْخَمْرَ مِنْ مُسْلِمٍ وَيَجُزُّوا مَقَادِمَ رُءُوسِهِمْ وَيَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ وَلَا يُظْهِرُوا الصَّلِيبَ وَلَا يُجَاوِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَاهُمْ وَلَا يَطْرَحُوا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ نَجَاسَةً وَيُخْفُوا النَّوَاقِيسَ وَأَصْوَاتَهُمْ وَلَا يُظْهِرُوا شَيْئًا مِنْ شَعَائِرِهِمْ وَلَا يَتَّخِذُوا مِنْ الرَّقِيقِ مَا
جَرَتْ عَلَيْهِ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ وَيُرْشِدُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُطْلِعُوا عَلَيْهِمْ عَدُوًّا وَلَا يَضْرِبُوا مُسْلِمًا وَلَا يَسُبُّوهُ وَلَا يَسْتَخْدِمُوهُ وَلَا يُسْمِعُوا مُسْلِمًا شَيْئًا مِنْ كُفْرِهِمْ وَلَا يَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُظْهِرُوا خَمْرًا وَلَا نِكَاحَ ذَاتِ مَحْرَمٍ وَأَنْ يُسْكِنُوا الْمُسْلِمِينَ بَيْنَهُمْ فَمَتَى أَخَلُّوا بِوَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ اُخْتُلِفَ فِي نَقْضِ عَهْدِهِمْ وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَادَّةَ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يَرَوْا النَّقْضَ بِالْإِخْلَالِ بِأَحَدِ هَذِهِ الشُّرُوطِ كَيْفَ كَانَ بَلْ بَعْضُهَا يُوجِبُ النَّقْضَ وَبَعْضُهَا لَا يُوجِبُ وَقَدْ سَبَقَ إلَى خَاطِرِ الْفَقِيهِ أَنَّ الْمَشْرُوطَ شَأْنُهُ الِانْتِفَاءُ عِنْدَ انْتِفَاءِ أَحَدِ الشُّرُوطِ وَلَوْ كَانَ أَلْفَ شَرْطٍ إذَا عُدِمَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَا يُفِيدُ حُضُورُ مَا عَدَاهُ كَمَا يَجِدُهُ فِي شَرَائِطِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا إنْ عُدِمَ شَرْطٌ وَاحِدٌ عُدِمَ جَمِيعُ الشُّرُوطِ فَلِذَلِكَ يَخْطِرُ لِضَعْفِهِ الْفُقَهَاءُ أَنَّ شُرُوطَ الْجِزْيَةِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ هُوَ الصَّوَابُ وَأَنَّ قَاعِدَةَ مَا يُوجِبُ النَّقْضَ مُخَالِفَةٌ لِقَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُهُ فَإِنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَاصِمٌ لِلدِّمَاءِ كَالْإِسْلَامِ .
وَقَدْ أَلْزَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْلِمَ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ فِي عَقْدِ إسْلَامِهِ كَمَا أَلْزَمَ الذِّمِّيَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي عَقْدِ أَمَانَةٍ فَكَمَا انْقَسَمَ رَفْضُ التَّكَالِيفِ فِي الْإِسْلَامِ إلَى مَا يُنَافِي الْإِسْلَامَ وَيُبِيحُ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ كَرَمْيِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ النُّبُوَّاتِ وَإِلَى مَا لَيْسَ مُنَافِيًا لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ ضَرْبَانِ كَبَائِرُ تُوجِبُ التَّغْلِيظَ بِالْعُقُوبَةِ وَرَدِّ الشَّهَادَاتِ وَسَلْبِ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ وَصَغَائِرُ
تُوجِبُ التَّأْدِيبَ دُونَ التَّغْلِيظِ .
فَكَذَلِكَ عَقْدُ الْجِزْيَةِ تَنْقَسِمُ شُرُوطُهُ إلَى مَا يُنَافِيه كَالْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ عَنْ أَحْكَامِ السُّلْطَانِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلْأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ وَهُمَا مَقْصُودُ الْعَقْدِ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلْأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ وَهُوَ عَظِيمُ الْمَفْسَدَةِ فَهُوَ كَالْكَبِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِسْلَامِ كَالْحِرَابَةِ وَالسَّرِقَةِ وَإِلَى مَا هُوَ كَالصَّغِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِسْلَامِ كَسَبِّ الْمُسْلِمِ وَإِظْهَارِ التَّرَفُّعِ عَلَيْهِ فَكَمَا أَنَّ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ لَا يُنَافِيَانِ الْإِسْلَامَ وَلَا يُبْطِلَانِ عِصْمَةَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ فَكَذَلِكَ لَا يُبْطِلَانِ عَقْدَ الْجِزْيَةِ لِعَدَمِ مُنَافَاتِهِمَا لَهُ مِنْ جِهَةِ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ الْمَقْصُودَيْنِ مِنْ عَقْدِ الْجِزْيَةِ وَالْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمَشْهُورَةُ فِي أَبْوَابِ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهَا لَا تُبْطِلُ عَقْدًا مِنْ الْعُقُودِ إلَّا بِمَا يُنَافِي مَقْصُودَ ذَلِكَ الْعَقْدِ دُونَ مَا لَا يُنَافِي مَقْصُودَهُ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ مُقَارَنَتِهِ مَعَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْطُلَ عَقْدُ الْجِزْيَةِ إلَّا بِمَا تَقَدَّمَ وَنَحْوِهِ وَانْقَسَمَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُوجِبٌ لِمُنَافَاةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ كَالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَنَبْذِ الْعَهْدِ وَالْقَتْلِ وَالْقِتَالِ بِمُفْرَدِهِمْ أَوْ مَعَ الْأَعْدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُنَافِيه كَتَرْكِ الزِّنَادِ وَرُكُوبِ الْخَيْلِ وَتَرْكِ ضِيَافَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَقْشِ خَوَاتِمِهِمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَخِفُّ مَفْسَدَتُهُ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيُنْتَقَضُ عَقْدُ الْجِزْيَةِ أَوْ بِالْقِسْمِ الثَّانِي فَلَا يُنْتَقَضُ وَهَا أَنَا أَسْرُدُ لَك مَسَائِلَ تُوَضِّحُ لَك هَذِهِ الْأَقْسَامَ قَالَ الْأَصْحَابُ إذَا أَظْهَرُوا مُعْتَقَدَهُمْ فِي الْمَسِيحِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَوْ غَيْرِهِ أَدَّبْنَاهُمْ وَلَا يُنْقَضُ بِهِ الْعَهْدُ وَإِنَّمَا يُنْقَضُ بِالْقِتَالِ وَمَنْعِ الْجِزْيَةِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى الْأَحْكَامِ وَإِكْرَاهِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا فَإِنْ أَسْلَمَ لَمْ يُقْتَلْ لِأَنَّ قَتْلَهُ لِنَقْضِ الْعَهْدِ وَكَذَلِكَ التَّطَلُّعُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا قَطْعُ الطَّرِيقِ وَالْقَتْلُ الْمُوجِبُ لِلْقِصَاصِ فَحُكْمُهُمْ فِيهِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ وَتَعَرُّضُهُمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ إلَّا أَنْ يُسْلِمُوا وَرُوِيَ يَوْجَعُ أَدَبًا وَيُشَدَّدُ بِهِ .
فَإِنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُ قَالَ اللَّخْمِيُّ إنْ زَنَى بِالْمُسْلِمَةِ طَوْعًا لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ عِنْدَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَانْتُقِضَ عِنْدَ رَبِيعَةَ وَابْنِ وَهْبٍ .
وَإِنْ غَرَّهَا بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَتَزَوَّجَهَا فَهُوَ نَقْضٌ عِنْدَ ابْنِ نَافِعٍ وَإِنْ عَلِمَتْ بِهِ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا وَإِنْ طَاوَعَتْهُ الْأَمَةُ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا وَإِنْ اغْتَصَبَهَا قَالَ مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِنَقْضٍ وَقِيلَ نَقْضٌ .
قَالَ فَإِنْ عُوهِدَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَقْضٌ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِذَلِكَ قُلْت وَهَذِهِ الْفُرُوعُ بَعْضُهَا أَقْرَبُ مِنْ بَعْضٍ لِلْقَاعِدَةِ فِي النَّقْضِ فَإِكْرَاهُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا وَجَعْلُهُ نَاقِضًا دُونَ الْحِرَابَةِ مُشْكِلٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِالْحِرَابَةِ فَلَا يُنْتَقَضُ أَوْ تُلْحَقُ الْحِرَابَةُ بِهِ فَيُنْتَقَضُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِعُمُومِ مَفْسَدَةِ الْحِرَابَةِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ وَعَدَمِ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ قَالَ فِي الْكِتَابِ فَإِنْ خَرَجُوا نَقْضًا لِلْعَهْدِ وَالْإِمَامُ عَادِلٌ فَهُمْ فَيْءٌ كَمَا فَعَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لَمَّا عَصَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْفَتْحِ قَالَ التُّونُسِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا لَمْ يَجْعَلْ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَتْلَ فِي الْحِرَابَةِ نَقْضًا وَهُوَ يَقُولُ غَصْبُ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الْوَطْءِ نَقْضٌ قَالَ وَهُوَ
مُشْكِلٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَهْدُ اقْتَضَاهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ وَامْتِنَاعُهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ لِظُلْمٍ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ رُدُّوا إلَى ذِمَّتِهِمْ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ حِرَابَةُ الذِّمِّيِّ نَقْضٌ لِلْعَهْدِ وَلَا يُؤْخَذُ وَلَدُهُ لِبَقَاءِ الْعَهْدِ فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ مَالِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحِرَابَةِ وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ إنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ مِنْ ظُلْمٍ فَهُوَ نَقْضٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَاهَدُوا عَلَى أَنْ يَظْلِمُوا مَنْ ظَلَمَهُمْ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُخْبِرَ أَنَّ ذِمِّيًّا نَخَسَ بَغْلًا عَلَيْهِ مُسْلِمَةٌ فَوَقَعَتْ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهَا فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَقَالَ إنَّمَا عَاهَدْنَاهُمْ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَقْضُ الْعَهْدِ بِغَصْبِ الْمُسْلِمَةِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إذَا حَارَبَ أَهْلُ الذِّمَّةِ وَظُفِرَ بِهِمْ وَالْإِمَامُ عَدْلٌ قُتِلُوا وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَلَا تَعَرُّضَ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ مَعَهُمْ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالضَّعِيفِ وَلَوْ ذَهَبُوا لِبَلَدِ الْحَرْبِ وَتَرَكُوا أَوْلَادَهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ لَمْ يُسْبَوْا بِخِلَافِ إذَا ذَهَبُوا بِهِمْ وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِظُلْمٍ أَصَابَهُمْ إلَّا أَنْ يُعِينُوا عَلَيْنَا الْمُشْرِكِينَ فَهُمْ كَالْمُحَارِبِينَ وَقَالَ أَيْضًا إذَا حَارَبُوا وَالْإِمَامُ عَدْلٌ اسْتَحَلَّ سَبْيَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ إلَّا مَنْ يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ كَالضُّعَفَاءِ .
وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَصْبَغُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدًا وَأَلْحَقَ الضُّعَفَاءَ بِالْأَقْوِيَاءِ فِي النَّقْضِ كَمَا أَنْدَرَجُوا مَعَهُمْ فِي الْعَقْدِ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَبَى ذَرَارِيَّ قُرَيْظَةَ وَنِسَاءَهُمْ بَعْدَ نَقْضِ الْعَهْدِ } قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إذَا اسْتَوْلَى الْعَدُوُّ عَلَى مَدِينَةِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا ذِمَّةٌ فَغَزَوْا مَعَهُمْ ثُمَّ اعْتَذَرُوا لَنَا بِالْقَهْرِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ إلَّا بِقَوْلِهِمْ فَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا قُتِلَ وَإِلَّا أُطِيلَ
سَجْنُهُ قَالَ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ إذَا صَارُوا عَيْنًا لِلْحَرْبِيِّينَ عَلَيْنَا فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ تُوَضِّحُ لَك الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ وَمَا اُخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ نَاقِضًا وَمَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ وَمَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ النَّقْضِ وَمَا هُوَ بَعِيدٌ وَتَحَرَّرَ لَك بِذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ النَّقْضَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُ النَّقْضَ فَتَعْتَبِرُ مَا يَقَعُ لَك مِنْ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ
( الْفَرْقُ الثَّامِنَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ نَقْضَ الْجِزْيَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُ نَقْضَهَا ) عَقْدُ الْجِزْيَةِ هُوَ الْتِزَامُنَا لِلْكُفَّارِ صِيَانَةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ نَشْتَرِطُهَا عَلَيْهِمْ بِهَا سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَاسْتُفِيدَتْ مِنْ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ وَهِيَ أَنْ يُعْطُوا أَرْبَعَةَ مَثَاقِيلَ ذَهَبًا فِي انْقِضَاءِ كُلِّ عَامٍ قَمَرِيٍّ صَرْفُ كُلِّ دِينَارٍ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا وَأَنْ لَا يُحْدِثُوا كَنِيسَةً وَلَا بِيعَةً وَلَا دِيرًا وَلَا صَوْمَعَةً وَلَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا وَلَا يَمْنَعُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ النُّزُولِ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا وَيُوَسِّعُوا أَبْوَابَهَا لِلنَّازِلِينَ وَيُضَيِّفُوا مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثًا وَأَنْ لَا يَأْوُوا جَاسُوسًا وَلَا يَكْتُمُوا غِشًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا يُعَلِّمُوا أَوْلَادَهُمْ الْقُرْآنَ وَلَا يَمْنَعُوا أَحَدًا مِنْهُمْ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَيُوَقِّرُوا الْمُسْلِمِينَ وَيَقُومُوا لَهُمْ مِنْ الْمَجَالِسِ وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي شَيْءٍ مِنْ لِبَاسِهِمْ وَلَا فَرْقِ شَعْرِهِمْ وَلَا يَتَكَلَّمُوا بِكَلَامِهِمْ وَلَا يَتَكَنَّوْا بِكُنَاهُمْ وَلَا يَرْكَبُوا عَلَى السُّرُوجِ وَلَا يَتَقَلَّدُوا شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ وَلَا يَحْمِلُوهُ مَعَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا يَتَّخِذُوهُ وَلَا يَنْقُشُوا خَوَاتِيمَهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَبِيعُوا الْخَمْرَ مِنْ مُسْلِمٍ وَيَجِزُّوا مَقَادِمَ رُءُوسِهِمْ وَيَشُدُّوا الزَّنَانِيرَ وَلَا يُظْهِرُوا الصَّلِيبَ وَلَا يُجَاوِرُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَاهُمْ وَلَا يَطْرَحُوا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ نَجَاسَةً وَيُخْفُوا النَّوَاقِيسَ وَأَصْوَاتَهُمْ وَلَا يُظْهِرُوا شَيْئًا مِنْ شَعَائِرِهِمْ وَلَا يَتَّخِذُوا مِنْ الرَّقِيقِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِمْ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ وَيُرْشِدُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُطْلِعُوا عَلَيْهِمْ عَدُوًّا وَلَا يَضْرِبُوا مُسْلِمًا وَلَا يَسُبُّوهُ وَلَا
يَسْتَخْدِمُوهُ وَلَا يُسْمِعُوا مُسْلِمًا شَيْئًا مِنْ كُفْرِهِمْ وَلَا يَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُظْهِرُوا خَمْرًا وَلَا نِكَاحَ ذَاتِ مَحْرَمٍ وَأَنْ يُسْكِنُوا الْمُسْلِمِينَ بَيْنَهُمْ .
ا هـ وَقَدْ ذَهَبَ عُلَمَاءُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي إخْلَالِ الذِّمِّيِّ بِشَرْطٍ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ إلَى طَرِيقَتَيْنِ الطَّرِيقَةُ الْأُولَى لِبَعْضِهِمْ نَقْضُ الْعَهْدِ بِإِخْلَالِهِ بِأَيِّ شَرْطٍ مِنْهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ مِنْ الْأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ لِجُمْهُورِهِمْ نَقْضُ الْعَهْدِ بِإِخْلَالِهِ بِمَا يُنَافِي الْأَمَانَ وَالتَّأْمِينَ فَقَطْ وَهَذِهِ هِيَ الصَّوَابُ لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ كَعَقْدِ الْإِسْلَامِ فَكَمَا أَنَّ عَقْدَ الْإِسْلَامِ عَاصِمٌ لِلدِّمَاءِ وَنَحْوِهَا كَذَلِكَ عَقْدُ الذِّمَّةِ عَاصِمٌ لِلدِّمَاءِ وَكَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَ الْمُسْلِمَ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ فِي عَقْدِ إسْلَامِهِ كَذَلِكَ أَلْزَمَ الذِّمِّيَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي عَقْدِ أَمَانِهِ وَكَمَا أَنَّ رَفْضَ التَّكَالِيفِ فِي الْإِسْلَامِ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يُنَافِي الْإِسْلَامَ وَيُبِيحُ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ كَرَمْيِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ النُّبُوَّاتِ وَإِلَى مَا لَيْسَ مُنَافِيًا لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ ضَرْبَانِ كَبَائِرُ تُوجِبُ التَّغْلِيظَ بِالْعُقُوبَةِ وَرَدَّ الشَّهَادَاتِ وَسَلْبَ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ وَصَغَائِرُ تُوجِبُ التَّأْدِيبَ دُونَ التَّغْلِيظِ فَكَذَلِكَ رَفْضُ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي الذِّمَّةِ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يُنَافِي مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ مِنْ الْأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ كَالْقَتْلِ وَالْخُرُوجِ عَنْ أَحْكَامِ السُّلْطَانِ وَإِلَى مَا لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلْأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ وَهُوَ ضَرْبَانِ مَا هُوَ عَظِيمُ الْمَفْسَدَةِ كَالْكَبِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِسْلَامِ كَالْحِرَابَةِ وَالسَّرِقَةِ وَمَا هُوَ خَفِيفُ الْمَفْسَدَةِ كَالصَّغِيرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِسْلَامِ كَسَبِّ
الْمُسْلِمِ وَإِظْهَارِ التَّرَفُّعِ عَلَيْهِ فَكَمَا أَنَّ ضَرْبَيْ مَا لَيْسَ بِمُنَافٍ لِعَقْدِ الْإِسْلَامِ مِنْ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ لَا يُبْطِلَانِ عِصْمَةَ دَمِ وَمَالِ الْمُسْلِمِ الْمُرْتَكِبِ لِأَحَدِهِمَا كَذَلِكَ ضَرْبَا مَا لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلْأَمْنِ وَالْأَمَانِ الْمَقْصُودَيْنِ مِنْ عَقْدِ الْجِزْيَةِ مِمَّا يُشْبِهُ وَاحِدًا مِنْ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ لَا يُبْطِلَانِ عِصْمَةَ دَمِ وَمَالِ الذِّمِّيِّ النَّاقِضِ لِأَحَدِهِمَا ( الْأَمْرُ الثَّانِي ) أَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ الْمَشْهُورَةَ فِي أَبْوَابِ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّنَا لَا نُبْطِلُ عَقْدًا مِنْ الْعُقُودِ إلَّا بِمَا يُنَافِي مَقْصُودَ ذَلِكَ الْعَقْدِ دُونَ مَا لَا يُنَافِي مَقْصُودَهُ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ مُقَارَنَتِهِ مَعَهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الشُّرُوطُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي هِيَ طَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُوجِبٌ لِمُنَافَاةِ عَقْدِ الذِّمَّةِ كَالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَنَبْذِ الْعَهْدِ وَالْقَتْلِ وَالْقِتَالِ بِمُفْرَدِهِمْ أَوْ مَعَ الْأَعْدَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فَإِنْ خَرَجُوا نَقْضًا لِلْعَهْدِ وَالْإِمَامُ عَادِلٌ فَهُمْ فَيْءٌ كَمَا فَعَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لَمَّا عَصَتْ عَلَيْهِ بَعْدَ الْفَتْحِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ وَامْتِنَاعُهُمْ مِنْ الْجِزْيَةِ الظُّلْمَ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ رُدُّوا إلَى ذِمَّتِهِمْ .
وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ إنْ كَانَ خُرُوجُهُمْ مِنْ ظُلْمٍ فَهُوَ نَقْضٌ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَاهَدُوا عَلَى أَنْ يَظْلِمُوا مَنْ ظَلَمَهُمْ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ ذِمِّيًّا نَخَسَ بَغْلًا عَلَيْهِ مُسْلِمَةٌ فَوَقَعَتْ فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهَا فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَقَالَ إنَّمَا عَاهَدْنَاهُمْ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إذَا حَارَبَ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَظُفِرَ بِهِمْ وَالْإِمَامُ عَدْلٌ قُتِلُوا وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ
وَلَا نَتَعَرَّضُ لِمَنْ يُظَنُّ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ مَعَهُمْ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالضَّعِيفِ وَلَوْ ذَهَبُوا لِبَلَدِ الْحَرْبِ وَتَرَكُوا أَوْلَادَهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ لَمْ يُسْبَوْا بِخِلَافِ مَا إذَا ذَهَبُوا بِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِظُلْمٍ أَصَابَهُمْ إلَّا أَنْ يُعِينُوا عَلَيْنَا الْمُشْرِكِينَ فَهُمْ كَالْمُحَارِبِينَ وَقَالَ أَيْضًا إذَا حَارَبُوا وَالْإِمَامُ عَدْلٌ اسْتَحَلَّ سَبْيَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ إلَّا مَنْ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ مَغْلُوبٌ كَالضُّعَفَاءِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ أَصْبَغُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدًا وَأَلْحَقَ الضُّعَفَاءَ بِالْأَقْوِيَاءِ فِي النَّقْضِ كَمَا انْدَرَجُوا مَعَهُمْ فِي النَّقْدِ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَبَى ذَرَارِيَّ قُرَيْظَةَ وَنِسَاءَهُمْ بَعْدَ نَقْضِ الْعَهْدِ } قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إذَا اسْتَوْلَى الْعَدُوُّ عَلَى مَدِينَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا ذِمَّةٌ فَغَزَوْا مَعَهُمْ ثُمَّ اعْتَذَرُوا لَنَا بِالْقَهْرِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ إلَّا بِقَوْلِهِمْ فَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ مُسْلِمًا قُتِلَ وَإِلَّا أُطِيلَ سَجْنُهُ قَالَ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ إذَا صَارُوا عَوْنًا لِلْحَرْبِيِّينَ عَلَيْنَا ( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُنَافِي عَقْدَ الذِّمَّةِ كَتَرْكِ الزِّنَا وَرُكُوبِ الْخَيْلِ وَتَرْكِ ضِيَافَةِ الْمُسْلِمِينَ وَنَقْشِ خَوَاتِيمِهِمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَخِفُّ مَفْسَدَتُهُ فَفِي الْأَصْلِ عَنْ الْأَصْحَابِ إذَا أَظْهَرُوا مُعْتَقَدَهُمْ فِي الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ غَيْرِهِ أَدَّبْنَاهُمْ وَلَا يُنْقَضُ بِهِ الْعَهْدُ وَإِنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ هَلْ يُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الْجِزْيَةِ أَوْ بِالْقِسْمِ الثَّانِي فَلَا يُنْتَقَضُ بِهِ عَقْدُ الْجِزْيَةِ كَإِكْرَاهِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَتَعَرُّضِهِمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا عَظُمَتْ مَفْسَدَتُهُ
فَفِي الْأَصْلِ عَنْ الْأَصْحَابِ وَإِنَّمَا يُنْقَضُ بِالْقِتَالِ وَمَنْعِ الْجِزْيَةِ وَالتَّمَرُّدِ عَلَى الْأَحْكَامِ وَالتَّطَلُّعِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَإِكْرَاهِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا .
وَأَمَّا قَطْعُ الطَّرِيقِ فَحُكْمُهُمْ فِيهِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ ، وَتَعَرُّضُهُمْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ إلَّا أَنْ يُسْلِمُوا وَرُوِيَ يُوجَعُ أَدَبًا وَيُشَدُّ ذَنَبُهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُ وَقَالَ اللَّخْمِيُّ إنْ زَنَى بِالْمُسْلِمَةِ طَوْعًا لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُ عِنْدَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَانْتَقَضَ عِنْدَ رَبِيعَةَ وَابْنِ وَهْبٍ وَإِنْ غَرَّهَا بِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَتَزَوَّجَهَا فَهُوَ نَقْضٌ عِنْدَ ابْنِ نَافِعٍ وَإِنْ عَلِمَتْ بِهِ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا وَإِنْ طَاوَعَتْهُ الْأَمَةُ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا وَإِنْ اغْتَصَبَهَا قَالَ مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِنَقْضٍ وَقِيلَ نَقْضٌ قَالَ فَإِنْ عُوهِدَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَقْضٌ انْتَقَضَ عَهْدُهُ بِذَلِكَ قَالَ الْأَصْلُ وَهَذِهِ الْفُرُوعُ بَعْضُهَا أَقْرَبُ مِنْ بَعْضٍ لِلْقَاعِدَةِ فِي النَّقْضِ فَإِكْرَاهُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ عَلَى الزِّنَا وَجَعْلُهُ نَاقِضًا دُونَ الْحِرَابَةِ مُشْكِلٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ بِالْحِرَابَةِ فَلَا يُنْتَقَضُ أَوْ تُلْحَقُ الْحِرَابَةُ فِيهِ فَيُنْتَقَضُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِعُمُومِ مُفْسِدَةِ الْحِرَابَةِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ وَعَدَمُ اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ .
ا هـ فَإِذَا عَلِمْت هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ وَتَوَضَّحَتْ عِنْدَك مَسَائِلُهَا ظَهَرَ لَك تَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُوجِبُ النَّقْضَ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُوجِبُهُ فَتَعْتَبِرُ مَا يَقَعُ لَك مِنْ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
.
( الْفَرْقُ التَّاسِعَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ بِرِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّوَدُّدِ لَهُمْ ) اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنْ التَّوَدُّدِ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ } الْآيَةَ فَمَنَعَ الْمُوَالَاةَ وَالتَّوَدُّدَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ } الْآيَةَ وَقَالَ فِي حَقِّ الْفَرِيقِ الْآخَرِ { إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ } الْآيَةَ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَوْصُوا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ خَيْرًا } وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { اسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْرًا } فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ النُّصُوصِ وَإِنَّ الْإِحْسَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ مَطْلُوبٌ وَأَنَّ التَّوَدُّدَ وَالْمُوَالَاةَ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا وَالْبَابَانِ مُلْتَبِسَانِ فَيَحْتَاجَانِ إلَى الْفَرْقِ وَسِرُّ الْفَرْقِ أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ يُوجِبُ حُقُوقًا عَلَيْنَا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ فِي جِوَارِنَا وَفِي خَفَارَتِنَا وَذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِ الْإِسْلَامِ فَمِنْ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ وَلَوْ بِكَلِمَةِ سُوءٍ أَوْ غِيبَةٍ فِي عِرْضِ أَحَدِهِمْ أَوْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذِيَّةِ أَوْ أَعَانَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ ضَيَّعَ ذِمَّةَ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِمَّةَ دِينِ الْإِسْلَامِ .
وَكَذَلِكَ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ لَهُ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَجَاءَ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى بِلَادِنَا يَقْصِدُونَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَخْرُجَ لِقِتَالِهِمْ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَنَمُوتَ دُونَ ذَلِكَ صَوْنًا لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ تَسْلِيمَهُ دُونَ ذَلِكَ إهْمَالٌ
لِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَحَكَى فِي ذَلِكَ إجْمَاعَ الْأَمَةِ فَقَدْ يُؤَدِّي إلَى إتْلَافِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ صَوْنًا لِمُقْتَضَاهُ عَنْ الضَّيَاعِ إنَّهُ لَعَظِيمٌ وَإِذَا كَانَ عَقْدُ الذِّمَّةِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نَبَرَّهُمْ بِكُلِّ أَمْرٍ لَا يَكُونُ ظَاهِرُهُ يَدُلُّ عَلَى مَوَدَّاتِ الْقُلُوبِ وَلَا تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ فَمَتَى أَدَّى إلَى أَحَدِ هَذَيْنِ امْتَنَعَ وَصَارَ مِنْ قِبَلِ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ وَغَيْرِهَا وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِالْمَثَلِ فَإِخْلَاءُ الْمَجَالِسِ لَهُمْ عِنْدَ قُدُومِهِمْ عَلَيْنَا وَالْقِيَامُ لَهُمْ حِينَئِذٍ وَنِدَاؤُهُمْ بِالْأَسْمَاءِ الْعَظِيمَةِ الْمُوجِبَةِ لِرَفْعِ شَأْنِ الْمُنَادَى بِهَا هَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ وَكَذَلِكَ إذَا تَلَاقَيْنَا مَعَهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَأَخْلَيْنَا لَهُمْ وَاسِعَهَا وَرَحْبَهَا وَالسَّهْلَ مِنْهَا وَتَرَكْنَا أَنْفُسَنَا فِي خَسِيسِهَا وَحَزَنِهَا وَضَيِّقِهَا كَمَا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ الْمَرْءُ مَعَ الرَّئِيسِ وَالْوَلَدُ مَعَ الْوَالِدِ وَالْحَقِيرُ مَعَ الشَّرِيفِ فَإِنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ وَتَحْقِيرِ شَعَائِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَعَائِرِ دِينِهِ وَاحْتِقَارِ أَهْلِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ تَمْكِينُهُمْ مِنْ الْوِلَايَاتِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِقَهْرِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ أَوْ ظُهُورِ الْعُلُوِّ وَسُلْطَانِ الْمُطَالَبَةِ فَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الرِّفْقِ وَالْأَنَاةِ أَيْضًا لِأَنَّ الرِّفْقَ وَالْأَنَاةَ فِي هَذَا الْبَابِ نَوْعٌ مِنْ الرِّئَاسَةِ وَالسِّيَادَةِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ فِي الْمَكَارِمِ فَهِيَ دَرَجَةٌ رَفِيعَةٌ أَوْصَلْنَاهُمْ إلَيْهَا وَعَظَّمْنَاهُمْ بِسَبَبِهَا وَرَفَعْنَا قَدْرَهُمْ بِإِيثَارِهَا وَذَلِكَ كُلُّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ عِنْدَهُمْ خَادِمًا وَلَا أَجِيرًا يُؤْمَرُ عَلَيْهِ وَيُنْهَى وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَكِيلًا فِي الْمُحَاكَمَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا إثْبَاتٌ لِسُلْطَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْلِمِ .
وَأَمَّا مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ بِرِّهِمْ وَمِنْ غَيْرِ مَوَدَّةٍ بَاطِنِيَّةٍ فَالرِّفْقُ بِضَعِيفِهِمْ وَسَدُّ خُلَّةِ فَقِيرِهِمْ وَإِطْعَامُ جَائِعِهِمْ وَإِكْسَاءُ عَارِيهِمْ وَلِينُ الْقَوْلِ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ اللُّطْفِ لَهُمْ وَالرَّحْمَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخَوْفِ وَالذِّلَّةِ وَاحْتِمَالِ إذَايَتِهِمْ فِي الْجِوَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إزَالَتِهِ لُطْفًا مِنَّا بِهِمْ لَا خَوْفًا وَتَعْظِيمًا وَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَأَنْ يُجْعَلُوا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَنَصِيحَتُهُمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَحِفْظُ غَيْبَتِهِمْ إذَا تَعَرَّضَ أَحَدٌ لِأَذِيَّتِهِمْ وَصَوْنُ أَمْوَالِهِمْ وَعِيَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَجَمِيعِ حُقُوقِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ وَأَنْ يُعَانُوا عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُمْ وَإِيصَالُهُمْ لِجَمِيعِ حُقُوقِهِمْ وَكُلُّ خَيْرٍ يَحْسُنُ مِنْ الْأَعْلَى مَعَ الْأَسْفَلِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمِنْ الْعَدُوِّ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ عَدُوِّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَجَمِيعُ مَا نَفْعَلُهُ مَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لَا عَلَى وَجْهِ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالَةِ مِنَّا وَلَا عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لَهُمْ وَتَحْقِيرِ أَنْفُسِنَا بِذَلِكَ الصَّنِيعِ لَهُمْ وَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَسْتَحْضِرَ فِي قُلُوبِنَا مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ بُغْضِنَا وَتَكْذِيبِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْنَا لَاسْتَأْصَلُوا شَأْفَتَنَا وَاسْتَوْلَوْا عَلَى دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ الْعُصَاةِ لِرَبِّنَا وَمَالِكِنَا عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ نُعَامِلُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ وَأَمْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَحَبَّةً فِيهِمْ وَلَا تَعْظِيمًا لَهُمْ وَلَا نُظْهِرُ آثَارَ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي نَسْتَحْضِرُهَا فِي قُلُوبِنَا مِنْ صِفَاتِهِمْ الذَّمِيمَةِ لِأَنَّ عَقْدَ الْعَهْدِ يَمْنَعُنَا مِنْ ذَلِكَ فَنَسْتَحْضِرُهَا حَتَّى يَمْنَعَنَا مِنْ الْوُدِّ الْبَاطِنِ لَهُمْ وَالْمُحَرَّمِ عَلَيْنَا خَاصَّةً وَلَمَّا أَتَى
الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ بِمِصْرَ وَجَدَ عِنْدَهُ وَزِيرًا رَاهِبًا وَسَلَّمَ إلَيْهِ قِيَادَهُ وَأَخَذَ يَسْمَعُ رَأْيَهُ وَيُنَفِّذُ كَلِمَاتِهِ الْمَسْمُومَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ .
وَكَانَ هُوَ مِمَّنْ يَسْمَعُ قَوْلَهُ فِيهِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْمُغْضَبِ وَالْوَزِيرُ الرَّاهِبُ بِإِزَائِهِ جَالِسٌ أَنْشَدَهُ : يَا أَيَّهَا الْمَلِكُ الَّذِي جُودُهُ يَطْلُبُهُ الْقَاصِدُ وَالرَّاغِبُ إنَّ الَّذِي شُرِّفْت مِنْ أَجْلِهِ يَزْعُمُ هَذَا أَنَّهُ كَاذِبٌ فَاشْتَدَّ غَضَبُ الْخَلِيفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ وَأَمَرَ بِالرَّاهِبِ فَسُحِبَ وَضُرِبَ وَقُتِلَ وَأَقْبَلَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْوَلِيدِ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ بَعْدَ عَزْمِهِ عَلَى إيذَائِهِ فَلَمَّا اسْتَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ تَكْذِيبَ الرَّاهِبِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَبَبُ شَرَفِهِ وَشَرَفِ آبَائِهِ وَأَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ بَعَثَهُ ذَلِكَ عَلَى الْبُعْدِ عَنْ السُّكُونِ إلَيْهِ وَالْمَوَدَّةِ لَهُ وَأَبْعَدَهُ عَنْ مَنَازِلِ الْعِزِّ إلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ أَهِينُوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ وَكَتَبَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا بِالْبَصْرَةِ لَا يُحْسِنُ ضَبْطَ خَرَاجِهَا إلَّا هُوَ وَقَصَدَ وِلَايَتَهُ عَلَى جِبَايَةِ الْخَرَاجِ لِضَرُورَةِ تَعَذُّرِ غَيْرِهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ فِي الْكِتَابِ مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ أَيْ افْرِضْهُ مَاتَ مَاذَا كُنْت تَصْنَعُ حِينَئِذٍ فَاصْنَعْهُ الْآنَ وَبِالْجُمْلَةِ فَبِرُّهُمْ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ مَأْمُورٌ بِهِ وَوُدُّهُمْ وَتَوَلِّيهِمْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَهُمَا قَاعِدَتَانِ إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ وَالْأُخْرَى مَأْمُورٌ بِهَا وَقَدْ أَوْضَحْت لَك الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِالْبَيَانِ وَالْمَثَلِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
( الْفَرْقُ التَّاسِعَ عَشَرَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ بِرِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّوَدُّدِ لَهُمْ ) مِنْ حَيْثُ إنَّ بِرَّهُمْ وَالْإِحْسَانَ إلَيْهِمْ مَأْمُورٌ بِهِ { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ } الْآيَةَ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَوْصُوا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ خَيْرًا } وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { اسْتَوْصُوا بِالْقِبْطِ خَيْرًا } وَوُدُّهُمْ وَتُوَلِّيهِمْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ } الْآيَةَ .
وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ { إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ } الْآيَةَ حَتَّى اُحْتِيجَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ النُّصُوصِ بِمَا هُوَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ بِرِّهِمْ وَالتَّوَدُّدِ لَهُمْ مِنْ أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَمَّا كَانَ عَقْدًا عَظِيمًا فَيُوجِبُ عَلَيْنَا حُقُوقًا لَهُمْ مِنْهَا مَا حَكَى ابْنُ حَزْمٍ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَاعِ وَنَجْعَلُهُمْ فِي جِوَارِنَا وَفِي حَقِّ رَبِّنَا وَفِي ذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِمَّةِ دِينِ الْإِسْلَامِ ا هـ .
وَاَلَّذِي إجْمَاعُ الْأَمَةِ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَجَاءَ أَهْلُ الْحَرْبِ إلَى بِلَادِنَا يَقْصِدُونَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَخْرُجَ لِقِتَالِهِمْ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَنَمُوتَ دُونَ ذَلِكَ صَوْنًا لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ تَسْلِيمَهُ دُونَ ذَلِكَ إهْمَالٌ لِعَقْدِ الذِّمَّةِ وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ وَلَوْ بِكَلِمَةِ سُوءٍ أَوْ غِيبَةٍ فِي عِرْضِ أَحَدِهِمْ أَوْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذِيَّةِ أَوْ أَعَانَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ ضَيَّعَ ذِمَّةَ اللَّهِ تَعَالَى وَذِمَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِمَّةَ دِينِ الْإِسْلَامِ تَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ
نَبَرَّهُمْ بِكُلِّ أَمْرٍ لَا يُؤَدِّي إلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى مَوَدَّاتِ الْقُلُوبِ وَثَانِيهِمَا مَا يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ وَذَلِكَ كَالرِّفْقِ بِضَعِيفِهِمْ وَسَدِّ خُلَّةِ فَقِيرِهِمْ وَإِطْعَامِ جَائِعِهِمْ وَإِكْسَاءِ عَارِيهِمْ وَلِينِ الْقَوْلِ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ اللُّطْفِ لَهُمْ وَالرَّحْمَةِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخَوْفِ وَالذِّلَّةِ وَاحْتِمَالِ أَذِيَّتِهِمْ فِي الْجِوَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إزَالَتِهِ لُطْفًا مِنَّا بِهِمْ لَا خَوْفًا وَتَعْظِيمًا وَالدُّعَاءِ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَأَنْ يُجْعَلُوا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَنَصِيحَتِهِمْ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَحِفْظِ غَيْبَتِهِمْ إذَا تَعَرَّضَ أَحَدٌ لِأَذِيَّتِهِمْ وَصَوْنِ أَمْوَالِهِمْ وَعِيَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَجَمِيعِ حُقُوقِهِمْ وَمَصَالِحِهِمْ وَأَنْ يُعَانُوا عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُمْ وَإِيصَالِهِمْ لِجَمِيعِ حُقُوقِهِمْ وَكُلِّ خَيْرٍ يَحْسُنُ مِنْ الْأَعْلَى مَعَ الْأَسْفَلِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمِنْ الْعَدُوِّ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ عَدُوِّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ .
إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَا عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لَهُمْ وَتَحْقِيرِ أَنْفُسِنَا بِذَلِكَ الصَّنِيعِ لَهُمْ بَلْ امْتِثَالًا مِنَّا لِأَمْرِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ وَأَمْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَوْنِنَا نَسْتَحْضِرُ فِي قُلُوبِنَا مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ بُغْضِنَا وَتَكْذِيبِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَيْنَا لَاسْتَأْصَلُوا شَأْفَتَنَا وَاسْتَوْلَوْا عَلَى دِمَائِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ الْعُصَاةِ لِرَبِّنَا وَمَالِكِنَا عَزَّ وَجَلَّ لِيَمْنَعَنَا ذَلِكَ الِاسْتِحْضَارُ مِنْ الْوُدِّ الْبَاطِنِ لَهُمْ الْمُحَرَّمِ عَلَيْنَا خَاصَّةً لَا لَأَنْ نُظْهِرَ آثَارَ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي نَسْتَحْضِرُهَا فِي قُلُوبِنَا مِنْ صِفَاتِهِمْ الذَّمِيمَةِ لِأَنَّ عَقْدَ الْعَهْدِ يَمْنَعُنَا مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَحْمَلُ الْآيَةِ الْأُولَى وَالْحَدِيثَيْنِ .
أَمَّا بِرُّنَا لَهُمْ
بِمَا يُؤَدِّي إلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ كَإِخْلَاءِ الْمَجَالِسِ لَهُمْ عِنْدَ قُدُومِهِمْ عَلَيْنَا وَالْقِيَامِ لَهُمْ حِينَئِذٍ وَنِدَائِهِمْ بِالْأَسْمَاءِ الْعَظِيمَةِ الْمُوجِبَةِ لِرَفْعِ شَأْنِ الْمُنَادَى بِهَا وَكَإِخْلَائِنَا لَهُمْ أَوْسَعَ الطُّرُقِ إذَا تَلَاقَيْنَا مَعَهُمْ وَرَحْبَهَا وَالسَّهْلَ مِنْهَا وَتَرْكِنَا أَنْفُسَنَا فِي خَسِيسِهَا وَحَزَنِهَا وَضَيِّقِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمَرْءُ مَعَ الرَّئِيسِ وَالْوَلَدُ مَعَ الْوَالِدِ وَالْحَقِيرُ مَعَ الشَّرِيفِ وَكَتَمْكِينِهِمْ مِنْ الْوِلَايَاتِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِقَهْرِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ أَوْ ظُهُورِ الْعُلُوِّ وَسُلْطَانِ الْمُطَالَبَةِ وَإِنْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ لِأَنَّ الرِّفْقَ وَالْأَنَاةَ فِي هَذَا الْبَابِ نَوْعٌ مِنْ الرِّئَاسَةِ وَالسِّيَادَةِ وَعُلُوِّ الْمَنْزِلَةِ مِنْ الْمَكَارِمِ فَهِيَ دَرَجَةٌ رَفِيعَةٌ أَوْصَلْنَاهُمْ إلَيْهَا وَعَظَّمْنَاهُمْ بِسَبَبِهَا وَرَفَعْنَا قَدْرَهُمْ بِإِيثَارِهِمْ بِهَا وَكَأَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ خَادِمًا عِنْدَهُمْ أَوْ أَجِيرًا يُؤْمَرُ عَلَيْهِ وَيُنْهَى أَوْ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَكِيلًا فِي الْمُحَاكَمَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا إثْبَاتٌ لِسُلْطَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْلِمِ فَهَذَا كُلُّهُ حَرَامٌ وَهُوَ مَحْمَلُ النَّهْيِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَغَيْرِهِمَا .
فَلِذَا لَمَّا أَتَى الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ بِمِصْرَ وَوَجَدَ عِنْدَهُ وَزِيرًا رَاهِبًا قَدْ سَلَّمَ إلَيْهِ قِيَادَهُ وَأَخَذَ يَسْمَعُ رَأْيَهُ وَيُنَفِّذُ كَلِمَاتِهِ الْمَسْمُومَةَ فِي الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ الشَّيْخُ مِمَّنْ يَسْمَعُ الْخَلِيفَةُ قَوْلَهُ فِي مِثْلِ هَذَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْمُغْضَبِ وَالْوَزِيرُ الرَّاهِبُ جَالِسٌ بِإِزَائِهِ وَأَنْشَدَهُ : يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الَّذِي جُودُهُ يَطْلُبُهُ الْقَاصِدُ وَالرَّاغِبُ إنَّ الَّذِي شُرِّفْت مِنْ أَجْلِهِ يَزْعُمُ هَذَا أَنَّهُ كَاذِبٌ .
فَاشْتَدَّ غَضَبُ الْخَلِيفَةِ عِنْدَ سَمَاعِ
الْأَبْيَاتِ وَأَمَرَ بِالرَّاهِبِ فَسُحِبَ وَضُرِبَ وَقُتِلَ وَأَقْبَلَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ بَعْدَ عَزْمِهِ عَلَى إيذَائِهِ لَكِنَّهُ لَمَّا اسْتَحْضَرَ تَكْذِيبَ الرَّاهِبِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ شَرَفِهِ وَشَرَفِ آبَائِهِ وَأَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ بَعَثَهُ ذَلِكَ عَلَى الْبُعْدِ عَنْ السُّكُونِ إلَيْهِ وَالْمَوَدَّةِ لَهُ وَأَبْعَدَهُ عَنْ مَنَازِلِ الْعِزِّ إلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ أَهِينُوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ وَكَتَبَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا بِالْبَصْرَةِ لَا يُحْسِنُ ضَبْطَ خَرَاجِهَا إلَّا هُوَ وَقَصَدَ وِلَايَتَهُ عَلَى جِبَايَةِ الْخَرَاجِ لِضَرُورَةِ تَعَذُّرِ غَيْرِهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ فِي الْكِتَابِ مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ يَعْنِي هَبْ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فَمَا كُنْت صَانِعًا فَأَصْنَعْهُ السَّاعَةَ وَاسْتَغْنِ عَنْهُ وَاصْرِفْ ا هـ .
قِيلَ يُفِيدُ أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاتَ خَبَرٌ اُسْتُعْمِلَ فِي إنْشَاءٍ فَيَكُونُ مِنْ الْمَجَازِ الْمُرَكَّبِ وَقَالَ الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ يُفِيدُ إنَّ فِي قَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاتَ اسْتِعَارَةٌ فِي الْفِعْلِ غَيْرُ مَا عُرِفَ فِيهَا بِتَشْبِيهِ الْحَدَثِ الْمَفْرُوضِ فِي الْمَاضِي بِالْحَدَثِ الْمُحَقَّقِ فِيهِ فَاتَّحَدَا حَدَثًا وَزَمَانًا وَنِسْبَةً وَاخْتَلَفَا تَحَقُّقًا وَتَقْدِيرًا فَاسْتُعِيرَ الْحَدَثُ الْمُحَقَّقُ لِلْحَدَثِ الْمَفْرُوضِ وَاشْتُقَّ مِنْهُ مَاتَ بِمَعْنَى فُرِضَ مَوْتُهُ ، أَوْ فَسَرَى التَّشْبِيهُ لِمَا فِي ضِمْنَيْ الْفِعْلَيْنِ وَاسْتُعِيرَ الْفِعْلُ الدَّالُّ عَلَى الْحَدَثِ الْمُحَقَّقِ لِلْمَفْرُوضِ وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا يُرَتَّبُ عَلَى الْآخَرِ فَيَعْزِلَ الْكَاتِبَ الْمَفْرُوضَ مَوْتُهُ وَيَسْتَغْنِي عَنْهُ كَمَا يَفْعَلُ فِيمَنْ
تَحَقَّقَ مَوْتُهُ وَهَذَا مِنْ قَضَايَا عُمَرَ الْعَجِيبَةِ كَمَا فِي بَيَانِهِ الصَّبَّانِ وَالْأُنْبَابِيِّ عَلَيْهَا قَالَ الْأُنْبَابِيُّ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْأَلْفَاظِ فِي مَعَانِيهَا الْفَرْضِيَّةِ مَجَازِيٌّ وَهُوَ إنَّمَا يَظْهَرُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ الْأُمُورُ الْخَارِجِيَّةُ إمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَدْلُولَهَا الْأُمُورُ الذِّهْنِيَّةُ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا إنْ قُلْنَا إنَّ مُرَادَهُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ مَاتَ فِي الْمَوْتِ الْفَرْضِيِّ مَجَازٌ بِالِاسْتِعَارَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ بَلْ مِنْ حَيْثُ مُلَاحَظَةُ عَلَاقَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْتِ الْمُحَقَّقِ لِيُرَتَّبَ عَلَى الْأَوَّلِ مَا يُرَتَّبَ عَلَى الثَّانِي فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ لَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَوْتِ الْفَرْضِيِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ لِتَحَقُّقِ الْمَاهِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ فِيهِ فَيَكُونُ اسْتِعْمَالًا حَقِيقِيًّا نَظِيرُ مَا قَالَهُ حَفِيدُ السَّعْدِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ فِي أَحَدِ مَعَانِيهِ وَإِنْ كَانَ مَا هُنَا مِنْ قَبِيلِ الْمُشْتَرَكِ الْمَعْنَوِيِّ لِوَضْعِهِ لِلْحَقِيقَةِ الذِّهْنِيَّةِ الْمُتَحَقِّقَةِ فِي الْأَفْرَادِ الْحَاصِلَةِ بِالْفِعْلِ فِي الْخَارِجِ وَفِي الْأَفْرَادِ الْفَرْضِيَّةِ ا هـ بِتَصَرُّفٍ .
قُلْت : وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَدْلُولَ الْأَلْفَاظِ الْأُمُورُ الذِّهْنِيَّةُ لَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ فِي الْمَوْتِ الْفَرْضِيِّ مَجَازًا بِالِاسْتِعَارَةِ نَظِيرُ مَا لِحَفِيدِ السَّعْدِ فِي الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ الْمَعْنَوِيَّ فِي أَفْرَادِهِ حَقِيقَةً مُطْلَقًا أَمَّا عَلَى مَا قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ إنَّهُ مَذْهَبُ الْأُصُولِيِّينَ الَّذِي لَا يَعْرِفُونَ خِلَافَهُ مِنْ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ الْمَعْنَوِيَّ فِي أَفْرَادِهِ مِنْ حَيْثُ خُصُوصُهَا مَجَازٌ وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا أَفْرَادٌ حَقِيقَةً فَلَا يَظْهَرُ إلَّا أَنَّ كَوْنَهُ فِي الْمَوْتِ الْفَرْضِيِّ مَجَازٌ مُرْسَلٌ عَلَاقَتُهُ الْإِطْلَاقُ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ هَذَا وَبِالْجُمْلَةِ فَبِرُّ الْكُفَّارِ
وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ مَأْمُورٌ بِهِ وَوُدُّهُمْ وَتَوَلِّيهِمْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَهُمَا قَاعِدَتَانِ إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ وَالْأُخْرَى مَأْمُورٌ بِهَا وَقَدْ اتَّضَحَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالْبَيَانِ وَالْمَثَلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْكَفَّارَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُسَارَى وَالتَّعْزِيرِ وَحَدِّ الْمُحَارِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ) اعْلَمْ أَنَّ إطْلَاقَ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى شَائِعٌ فِي كُتُبِهِمْ بِأَنَّ الْأُسَارَى أَمْرُهُمْ مَوْكُولٌ إلَى خِيرَةِ الْإِمَامِ ، وَتَوْلِيَةُ الْقَضَاءِ مَوْكُولٌ إلَى خِيرَةِ الْإِمَامِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ تَعْيِينُ خَصْلَةٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مَوْكُولٌ إلَى خِيرَةِ الْحَانِثِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا قَاعِدَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ فَالتَّخْيِيرُ فِي الْكَفَّارَةِ فِي خِصَالِهَا مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْ أَيِّ خَصْلَةٍ شَاءَ إلَى الْخَصْلَةِ الْأُخْرَى بِشَهْوَتِهِ وَمَا يَجِدُهُ يَمِيلُ إلَيْهِ طَبْعُهُ أَوْ مَا هُوَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا خَيَّرَهُ بَيْنَهَا إلَّا لُطْفًا بِهِ وَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَوْ شَاءَ لَحَتَّمَ عَلَيْهِ خُصُوصَ كُلِّ خَصْلَةٍ كَمَا فَعَلَهُ فِي خِصَالِ الظِّهَارِ الْمُرَتَّبَةِ بَلْ لَهُ الْخِيرَةُ بِهَوَاهُ بَيْنَ الْخُصُوصِيَّاتِ لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ وَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ فَلَا جَرَمَ لَيْسَ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ بِهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ بَلْ يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ .
وَأَمَّا الْخُصُوصِيَّاتُ فَلَهُ ذَلِكَ فِيهَا فَهَذَا هُوَ مَعْنَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فِي حَقِّ الْحَانِثِ وَأَمَّا التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْخِصَالِ الْخَمْسِ فِي حَقِّ الْأُسَارَى عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ وَهِيَ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ وَالْمَنُّ وَالْفِدَاءُ وَالْجِزْيَةُ فَهَذِهِ الْخِصَالُ الْخَمْسُ لَيْسَ لَهُ فِعْلُ أَحَدِهَا بِهَوَاهُ وَلَا لِأَنَّهَا أَخَفُّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ الْجَهْدِ فِيمَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا فَكَّرَ وَاسْتَوْعَبَ فِكْرَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَوَجَدَ بَعْدَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً هِيَ أَرْجَحُ لِلْمُسْلِمِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا وَتَحَتَّمَتْ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهَا فَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّهِ الْإِبَاحَةُ وَالتَّخْيِيرُ
الْمُقَرَّرُ فِي خِصَالِ كَفَّارَةِ الْحِنْثِ أَبَدًا لَا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ وَلَا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ أَمَّا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَبَذْلُ الْجَهْدِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَلَا تَخْيِيرَ هَاهُنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ وَلَا إبَاحَةَ بَلْ الْوُجُوبُ الصِّرْفُ .
وَأَمَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مِنْ الْمَصَالِحِ وَلَا خِيرَةَ لَهُ فِيهِ وَمَتَى تَرَكَهُ أَثِمَ فَالْوُجُوبُ قَبْلُ وَالْوُجُوبُ بَعْدُ وَالْوُجُوبُ حَالَةَ الْفِكْرَةِ فَلَا تَخْيِيرَ أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا هُوَ وُجُوبٌ صِرْفٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَتَسْمِيَةُ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ خِيرَةً إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْفِكْرِ فِعْلُ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الْخَمْسِ بَلْ يَجْتَهِدُ حَتَّى يَتَحَصَّلَ لَهُ الْأَصْلَحُ فَيَفْعَلُهُ حِينَئِذٍ بِخِلَافِ رَدِّ الْغُصُوبِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ فَإِنَّهَا تَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ اجْتِهَادٌ وَلَا خِيرَةَ لَهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ فَهَذَا هُوَ وَجْهُ تَسْمِيَةِ الْفُقَهَاءِ ذَلِكَ خِيرَةً وَإِنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ مَوْكُولَةٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَخِيرَتِهِ وَوَجْهُ مَا يَعْتَمِدُهُ فِي الْأُسَارَى أَنْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَدِيدَ الدَّهَاءِ كَثِيرَ التَّأْلِيبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِرَأْيِهِ وَدَهَائِهِ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِمَامِ فِيهِ الْقَتْلُ إذَا ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي اجْتِهَادِهِ بِالسُّؤَالِ عَنْ أَخْبَارِهِ وَأَحْوَالِهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ سِيرَتِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَسِيرُ قَدْ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ هُوَ مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ وَتَتَأَلَّفُ بِإِطْلَاقِهِ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إطْلَاقُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ إذَا مَنَّ عَلَيْهِ قُوبِلَ عَلَى ذَلِكَ بِمِثْلِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الَّتِي تَعْرِضُ فِي النَّظَرِ وَالْفِكْرِ الْمُسْتَقِيمِ بَعْدَ بَذْلِ الْجَهْدِ فَإِنَّهُ يَمُنُّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ لَا يُرْتَجَى
مِنْهُ ذَلِكَ وَالْإِمَامُ مُحْتَاجٌ لِلْمَالِ لِمَصَالِحِ الْغَزْوِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَفْدِيه بِالْمَالِ .
وَإِنْ رَأَى الْمُسْلِمِينَ مُحْتَاجِينَ إلَى مَنْ يَخْدُمُهُمْ وَاسْتَرَقَّهُمْ إنْ انْتَفَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا وَلَمْ يَجِدْ فِي اجْتِهَادِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَصْلَحَةً وَرَأَى أَنَّ ضَرْبَ الْجِزْيَةِ مَصْلَحَةٌ لِمَا يَتَوَقَّعُ مِنْ إسْلَامِهِمْ وَأَنَّهُمْ قَرِيبُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ إذَا اطَّلَعُوا عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ بِمُخَالَطَةِ أَهْلِهِ وَرُؤْيَتِهِمْ لِشَعَائِرِهِ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا فَهُوَ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إبَاحَةٍ وَلَا خِيرَةٍ فِي ذَلِكَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَكَذَلِكَ تَخْيِيرُهُ فِي حَدِّ الْحِرَابَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ الْجَهْدِ فِيمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُ الْأَصْلَحُ وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُحَارِبُ صَاحِبَ رَأْيٍ وَجَبَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ .
وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ فِي اجْتِهَادِهِ أَنَّهُ لَا رَأْيَ لَهُ بَلْ لَهُ قُوَّةٌ وَبَطْشٌ قَطَعَهُ مِنْ خِلَافٍ فَتَزُولُ مَفْسَدَتُهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ مِنْ حَالِهِ الْعَفَافَ وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْفَلْتَةِ وَالْمُوَافَقَةِ لِغَيْرِهِ مَعَ تَوَقُّعِ النَّدَمِ مِنْهُ عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا يَجِبُ نَفْيُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ وَلَا قَطْعُهُ بَلْ يَفْعَلُ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُوَ أَبَدًا يَنْتَقِلُ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ وَالْوُجُوبُ دَائِمًا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَحَالَةُ الِاجْتِهَادِ هُوَ سَاعٍ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَفِعْلُهُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ وَبَعْدَ الِاجْتِهَادِ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ الْوُجُوبِ أَبَدًا وَذَلِكَ هُوَ ضِدُّ التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ وَإِنَّمَا خِيرَتُهُ مُفَسَّرَةٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ
لَمْ يَتَحَتَّمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً وَلَهُ النَّظَرُ وَفِعْلُ مَا ظَهَرَ رُجْحَانُهُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا مِمَّا عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ اجْتِهَادًا كَالصَّلَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَأَخْذِ الزَّكَاةِ وَتَعْيِينِ مَصْرِفِهَا فِي الْوُجُوهِ الثَّمَانِيَةِ وَرَجْمِ الزَّانِي وَقَطْعِ السَّارِقِ وَأَنْ لَا يَحُدَّ فِي الزِّنَا إلَّا بِأَرْبَعَةٍ وَفِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ بِشَاهِدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَحَتِّمَاتِ فَهَذَا مَعْنَى التَّخْيِيرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ إنَّ تَفْرِقَةَ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ مَوْكُولَةٌ إلَى خِيرَتِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي مَصَالِحِ الصَّرْفِ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ أَهَمِّهَا فَأَهَمِّهَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا خِيرَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ بَلْ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَالْخَالِصَةِ بِخِلَافِ تَخْيِيرِ الْمُكَلَّفِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَتَخْيِيرِهِ فِي إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ أَوْ دِينَارٍ مِنْ أَرْبَعِينَ فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ شَاةً بِشَهْوَتِهِ وَكَذَلِكَ دِينَارٌ مِنْ الْأَرْبَعِينَ بِهَوَاهُ وَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مِقْدَارًا مِنْ مِيَاهِ الدُّنْيَا لِلْوُضُوءِ وَلَمْ يَتَحَتَّمْ عَلَيْهِ مَاءٌ دُونَ مَاءٍ وَكَذَلِكَ خِيرَتُهُ فِي ثِيَابِ السُّتْرَةِ لِلصَّلَاةِ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ ثِيَابٌ فَلَهُ تَعْيِينُ وَاحِدٍ مِنْهَا لِسُتْرَتِهِ بِهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ .
وَكَذَلِكَ خَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ الدُّنْيَا يُصَلِّي فِيهَا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ بُقْعَةً مِنْهَا إذَا اسْتَوَتْ بِهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ وَكَذَلِكَ خَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فِي أَيِّ بُقْعَةٍ شَاءَ مِنْ وَلَدِهِ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ فِي أَيِّ دَارٍ شَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِهَوَاهُ وَهَذَا جَمِيعُهُ تَخْيِيرٌ صِرْفٌ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا بِخِلَافِ تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَأَكْثَرُ
تَصَرُّفَاتِ الْأَئِمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْرِيرُهُ فِي الْأُسَارَى وَغَيْرِهِمْ غَيْرَ أُمُورٍ قَلِيلَةٍ جِدًّا أُطْلِقَ فِيهَا التَّخْيِيرُ وَمُرَادُهُمْ التَّخْيِيرُ عَلَى بَابِهِ كَمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي أَرْبَعِ حَقَائِقَ وَخَمْسٍ بَنَاتِ لَبُونٍ يَأْخُذُ أَيَّهَا شَاءَ مِنْ صَاحِبِ الْمَاشِيَةِ إذَا وَجَدَ إبِلَهُ مِائَتَيْنِ فَإِنَّ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَقَدْ وُجِدَ الْأَمْرَانِ فَإِنَّ الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعُ خَمْسِينَاتٍ وَخَمْسُ أَرْبَعِينَاتِ فَيُخَيَّرُ هَاهُنَا إذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَرْجَحَ لِلْفُقَرَاءِ فَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْأَرْجَحُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَلَمْ يَجْتَهِدْ لَهُمْ وَلَمْ يَنْصَحْ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ } فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَرْجَحِ لِلْفُقَرَاءِ وَكَذَلِكَ بَيْعُ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ أَحَدِ مُشْتَرِيَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ أَوْ تَزْوِيجُ الْيَتِيمَةِ مِنْ كُفُوَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ أَوْ تَوْلِيَةُ الْقَضَاءِ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ وَنَحْوُ هَذَا فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ مُسَاوُونَ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْخِيرَةِ الْمُخْتَصَّةِ وَلَا وُجُوبَ هَاهُنَا أَلْبَتَّةَ بَلْ لَهُمْ التَّرْجِيحُ بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ ضَمِيمَةٍ إلَيْهَا كَالْمُكَلَّفِ فِي إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَإِطْلَاقُ الْخِيرَةِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ حَقِيقَةٌ وَفِي تِلْكَ الصُّوَرِ فَهِيَ وُجُوبٌ مَحْضٌ بَلْ بِمَعْنَى عَدَمِ التَّحَتُّمِ ابْتِدَاءً وَكَوْنُ الِاجْتِهَادِ لَهُ مَدْخَلٌ فِي ذَلِكَ الْقِسْمِ الْمُحَتَّمِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ التَّخْيِيرَاتِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ وَقَاعِدَةِ تَخْيِيرِ آحَادِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَنَّ الثَّانِيَ خِيرَةٌ حَقِيقَةً وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُهُ مَجَازٌ وَوُجُوبُ صَرْفٍ كَمَا تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا مُمَثَّلًا .
( فَائِدَةٌ ) يُطْلَقُ التَّخْيِيرُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فَيُطْلَقُ التَّخَيُّرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاجِبٌ بِخُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُسَارَى وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ يَقَعُ وَاجِبًا بِخُصُوصِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ قَتْلًا أَوْ فِدَاءً مَثَلًا وَبِعُمُومِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الْخِصَالِ الْخَمْسَةِ وَيَكُونُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ وَاجِبٍ بِخُصُوصِهِ وَلَا بِعُمُومِهِ كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَنَحْوِهِمَا فَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ مَثَلًا فَالتَّمْرُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا بِخُصُوصِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَمْرٌ وَلَا بِعُمُومِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَنَاوَلَاتِ وَيَكُونُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ وَكِلَاهُمَا وَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهِ دُونَ خُصُوصِهِ كَالتَّخْيِيرِ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ فَإِنَّ الْعِتْقَ مَثَلًا وَاجِبٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الْخِصَالِ وَغَيْرُ وَاجِبٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ عِتْقٌ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْخَصْلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ فَقَدْ ظَهَرَ لَك أَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا قَدْ يَتَّصِفَانِ بِالْوُجُوبِ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِمَا وَعُمُومِهِمَا وَقَدْ لَا يَتَّصِفَانِ بِهِ لَا مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِمَا وَلَا عُمُومِهِمَا وَقَدْ يَتَّصِفَانِ بِهِ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهَا دُونَ خُصُوصِهِمَا وَأَمَّا الِاتِّصَافُ بِالْوُجُوبِ مِنْ جِهَةِ الْخُصُوصِ دُونَ الْعُمُومِ فَمُحَالٌ شَرْعًا وَعَقْلًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُصُوصَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعُمُومِ وَأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَإِنَّ الْعُمُومَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْخُصُوصِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ وَالْفُرُوقَ فَإِنَّهَا كُلُّهَا وَاقِعَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ وُقُوعًا كَثِيرًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْكَفَّارَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُسَارَى وَالتَّعْزِيرِ وَحَدِّ الْمُحَارِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ) اعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّخْيِيرَ فِي الشَّرِيعَةِ يُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ( الْأَوَّلُ ) تَخْيِيرٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَتَّصِفَانِ بِالْوُجُوبِ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِمَا وَعُمُومِهِمَا مَعًا وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ وَلَهُ مُثُلٌ ( مِنْهَا ) تَخْيِيرُ الْإِمَامِ بَيْنَ الْخِصَالِ الْخَمْسِ فِي حَقِّ الْأُسَارَى عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ وَهِيَ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ وَالْمَنُّ وَالْفِدَاءُ وَالْجِزْيَةُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَفْعَلُهُ مِنْهَا يَقَعُ وَاجِبًا بِخُصُوصِهِ وَهُوَ كَوْنُهُ قَتْلًا أَوْ فِدَاءً مَثَلًا وَبِعُمُومِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الْخِصَالِ الْخَمْسَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ لَهُ فِعْلُ أَحَدِهَا بِهَوَاهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ الْجَهْدِ فِيمَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا فَكَّرَ وَاسْتَوْعَبَ فِكْرَهُ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَوَجَدَ بَعْدَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً هِيَ أَرْجَحُ لِلْمُسْلِمِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا فَمَنْ كَانَ مِنْ الْأُسَارَى شَدِيدَ الدَّهَاءِ كَثِيرَ التَّأْلِيبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِرَأْيِهِ وَدَهَائِهِ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْإِمَامِ فِيهِ الْقَتْلُ إذَا ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي اجْتِهَادِهِ بِالسُّؤَالِ عَنْ أَخْبَارِهِ وَأَحْوَالِهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ سِيرَتِهِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ هُوَ مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ بِإِطْلَاقِهِ تَتَأَلَّفُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوْ يَحْصُلُ إطْلَاقُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْإِمَامِ فِيهِ الْمَنُّ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُرْتَجَى مِنْ إطْلَاقِهِ ذَلِكَ وَالْإِمَامُ مُحْتَاجٌ لِلْمَالِ لِمَصَالِحِ الْغَزْوِ وَغَيْرِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفِدَاءُ بِالْمَالِ أَوْ الْمُسْلِمُونَ مُحْتَاجُونَ إلَى مَنْ يَخْدُمُهُمْ وَجَبَ
عَلَيْهِ اسْتِرْقَاقُهُمْ .
وَإِنْ رَأَى انْتِفَاءَ هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا وَلَمْ يَجِدْ فِي اجْتِهَادِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَصْلَحَةً بَلْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ضَرْبِ الْجِزْيَةِ لِمَا يَتَوَقَّعُ مِنْ إسْلَامِهِمْ وَأَنَّهُمْ قَرِيبُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ إذَا اطَّلَعُوا عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ وَشَعَائِرِهِ بِمُخَالَطَةِ أَهْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ ضَرْبُ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا فَهُوَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ إنَّمَا يَفْعَلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إبَاحَةٍ وَلَا خِيرَةٍ فِي ذَلِكَ لَا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ وَلَا بَعْدَهُ وَلَا حَالَةَ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ أَبَدًا يَنْتَقِلُ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُ فَقَبْلَ الِاجْتِهَادِ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ وَبَذْلُ الْجَهْدِ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَحَالَةُ الِاجْتِهَادِ هُوَ سَاعٍ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَفِعْلُهُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ وَبَعْدَ الِاجْتِهَادِ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَلَا تَخْيِيرَ أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا هُوَ وُجُوبُ صَرْفٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَتَسْمِيَةُ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ خِيرَةً إنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْفِكْرِ قَبْلَ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الْخَمْسِ بَلْ يَجْتَهِدُ حَتَّى يَتَحَصَّلَ لَهُ الْأَصْلَحُ فَيَفْعَلُهُ حِينَئِذٍ وَمِنْهَا تَخْيِيرُ الْإِمَامِ فِي حَدِّ الْمُحَارِبِينَ بَيْنَ الْخِصَالِ الْأَرْبَعِ وَهِيَ الْقَتْلُ وَالصَّلْبُ وَالْقَطْعُ مِنْ خِلَافِ وَالنَّفْيُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ الْجَهْدِ فِيمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُ الْأَصْلَحُ وَجَبَ عَلَيْهِ .
وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُحَارِبُ صَاحِبَ رَأْيٍ وَجَبَ عَلَيْهِ قَتْلُهُ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ فِي اجْتِهَادِهِ أَنَّهُ لَا رَأْيَ لَهُ بَلْ لَهُ قُوَّةٌ وَبَطْشٌ قَطَعَهُ مِنْ خِلَافٍ لِتَزُولَ مَفْسَدَتُهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ وَإِنْ عَرَفَ مِنْ حَالِهِ الْعَفَافَ وَأَنَّهُ إنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ
عَلَى وَجْهِ الْفَلْتَةِ وَالْمُوَافَقَةِ لِغَيْرِهِ مَعَ تَوَقُّعِ النَّدَمِ مِنْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ نَفْيُهُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ وَلَا قَطْعُهُ فَهُوَ أَبَدًا يَنْتَقِلُ مِنْ وَاجِبٍ إلَى وَاجِبٍ فَلَا يَنْفَكُّ فِعْلُهُ عَنْ الْوُجُوبِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَإِنَّمَا تَخْيِيرُهُ مُفَسَّرٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَتَّمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً وَلَهُ النَّظَرُ وَفِعْلُ مَا ظَهَرَ رُجْحَانُهُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ مَا عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَحَتَّمَهُ وَلَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ اجْتِهَادًا مِنْ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا كَالصَّلَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَأَخْذِ الزَّكَاةِ وَتَعْيِينِ مَصْرِفِهَا فِي الْوُجُوهِ الثَّمَانِيَةِ وَرَجْمِ الزَّانِي وَقَطْعِ السَّارِقِ وَأَنْ لَا يَحُدَّ فِي الزِّنَا إلَّا بِأَرْبَعَةٍ وَفِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ بِشَاهِدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ إنَّ تَفْرِقَةَ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ مَوْكُولَةٌ إلَى خِيرَتِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي مَصَالِحِ الصَّرْفِ وَيَجِبَ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ أَهَمِّهَا فَأَهَمِّهَا وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا خِيرَةَ لَهُ إلَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ابْتِدَاءً بَلْ لَهُ النَّظَرُ فِي الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَالْخَالِصَةِ وَفِعْلُ مَا ظَهَرَ رُجْحَانُهُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ بِهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ تَصَرُّفَاتِ الْأَئِمَّةِ الْقِسْمُ الثَّانِي تَخْيِيرٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ لَا يَتَّصِفَانِ بِالْوُجُوبِ لَا مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِمَا وَلَا عُمُومِهِمَا كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْمُبَاحَاتِ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ وَنَحْوِهِمَا مَثَلًا التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا بِخُصُوصِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ وَلَا بِعُمُومِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَنَاوَلَاتِ وَالتَّخْيِيرُ فِي هَذَا صُرِفَ حَقِيقَةً بِخِلَافِهِ فِي الْأَوَّلِ فَمَجَازٌ كَمَا عَلِمْت ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) تَخْيِيرٌ بَيْنَ
شَيْئَيْنِ يَتَّصِفَانِ بِالْوُجُوبِ مِنْ جِهَةِ عُمُومِهِمَا لَا مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهِمَا وَهَذَا نَوْعَانِ ( الْأَوَّلُ ) تَخْيِيرُ الْمُكَلَّفِينَ فِي خُصُوصِ أَنْوَاعِ الْمُطْلَقِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ وَلَهُ مُثُلٌ مِنْهَا التَّخْيِيرُ بَيْنَ خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْحَانِثِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ أَيِّ خَصْلَةٍ شَاءَ إلَى الْخَصْلَةِ الْأُخْرَى بِشَهْوَتِهِ مِمَّا يَمِيلُ طَبْعُهُ إلَيْهِ أَوْ مَا هُوَ أَسْهَلُ عَلَيْهِ فَإِنَّ كُلَّ خَصْلَةٍ كَالْعِتْقِ وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً مِنْ جِهَةِ عُمُومِهَا وَأَنَّهَا أَحَدُ الْخِصَالِ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهَا وَأَنَّهَا خُصُوصُ الْعِتْقِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا خَيَّرَ الْحَانِثَ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ إلَّا لُطْفًا بِهِ وَلِيَفْعَلَ ذَلِكَ وَلَوْ شَاءَ لَحَتَّمَ عَلَيْهِ خُصُوصَ كُلِّ خَصْلَةٍ كَمَا حَتَّمَ خُصُوصَ كُلِّ خَصْلَةٍ فِي خِصَالِ الظِّهَارِ الْمُرَتَّبَةِ لَكِنَّهُ لَمْ يُحَتِّمْ عَلَيْهِ هُنَا إلَّا وَاحِدًا مُبْهَمًا مِنْ الْخِصَالِ وَخَيَّرَهُ فِي خُصُوصِهَا وَمِنْهَا التَّخْيِيرُ فِي إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ أَوْ دِينَارٍ مِنْ أَرْبَعِينَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ بِهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ شَاةً أَوْ دِينَارًا مِنْ الْأَرْبَعِينَ وَمِنْهَا التَّخْيِيرُ فِي مِيَاهِ الدُّنْيَا لِلْوُضُوءِ وَفِي ثِيَابِ السُّتْرَةِ لِلصَّلَاةِ فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ بِهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ مِقْدَارًا مِنْ مِيَاهِ الدُّنْيَا وَلَا يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ مَاءٌ دُونَ مَاءٍ وَأَنْ يُعَيِّنَ وَاحِدًا مِنْ الثِّيَابِ الْمُجْتَمِعَةِ عِنْدَهُ وَلَا يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ ثَوْبٌ بِخُصُوصِهِ دُونَ ثَوْبٍ وَمِنْهَا التَّخْيِيرُ فِي أَيِّ بُقْعَةٍ مِنْ بِقَاعِ الدُّنْيَا يُصَلِّي فِيهَا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَيَصُومُ فِيهَا رَمَضَانَ فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ بُقْعَةً مِنْهَا إذَا اسْتَوَتْ بِهَوَاهُ وَشَهْوَتِهِ ( وَالنَّوْعُ الثَّانِي ) أُمُورٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا مِنْ تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ فِي أَنْوَاعِ الْمُطْلَقِ الْوَاجِبِ إذَا اسْتَوَتْ وَلَهُ مِثْلٌ مِنْهَا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَرْبَعِ حَقَائِقَ
وَخَمْسٍ بَنَاتِ لَبُونٍ يَأْخُذُ أَيَّهَا شَاءَ مِنْ صَاحِبِ الْمَاشِيَةِ إذَا وَجَدَ إبِلَهُ مِائَتَيْنِ فَإِنَّ فِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةً وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتَ لَبُونٍ وَقَدْ وُجِدَ الْأَمْرَانِ فَإِنَّ الْمِائَتَيْنِ أَرْبَعُ خَمْسِينَاتٍ وَخَمْسُ أَرْبَعِينَاتِ فَيُخَيَّرُ هَاهُنَا إذَا اسْتَوَى الْأَمْرَانِ أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَرْجَحَ لِلْفُقَرَاءِ فَمُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا هُوَ الْأَرْجَحُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَلَمْ يَجْتَهِدْ لَهُمْ وَلَمْ يَنْصَحْ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ } فَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَرْجَحِ لِلْفُقَرَاءِ وَمِنْهَا بَيْعُ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ أَحَدِ مُشْتَرِيَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ أَوْ تَزْوِيجُ الْيَتِيمَةِ مِنْ كُفُوَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ أَوْ تَوْلِيَةُ الْقَضَاءِ لِأَحَدِ مُسْتَوِيَيْنِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ مُسَاوُونَ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْخِيرَةِ الْمُخْتَصَّةِ وَلَا وُجُوبَ هَاهُنَا أَلْبَتَّةَ بَلْ لَهُمْ التَّرْجِيحُ بِمُجَرَّدِ إرَادَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ ضَمِيمَةٍ إلَيْهَا كَالْمُكَلَّفِ فِي إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَالتَّخْيِيرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ بِنَوْعَيْهِ صِرْفُ حَقِيقَةٍ لَا مَجَازٍ كَهُوَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي بِخِلَافِهِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ بَلْ هُوَ وُجُوبٌ مَحْضٌ أُطْلِقَ عَلَيْهِ التَّخْيِيرُ بِمَعْنَى عَدَمِ التَّحَتُّمِ ابْتِدَاءً وَكَوْنُ الِاجْتِهَادِ لَهُ مَدْخَلٌ فِي ذَلِكَ الْقِسْمِ الْمُحَتَّمِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ تَخْيِيرِ الْأَئِمَّةِ وَقَاعِدَةِ تَخْيِيرِ آحَادِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَنَّ الثَّانِيَ خِيرَةٌ حَقِيقَةً وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُهُ مَجَازٌ وَوُجُوبٌ صِرْفٌ كَمَا عَلِمْته مُفَصَّلًا مُمَثَّلًا وَبَقِيَ مِنْ أَقْسَامِ التَّخْيِيرِ .
( قِسْمٌ رَابِعٌ ) وَهُوَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَتَّصِفَانِ بِالْوُجُوبِ مِنْ جِهَةِ الْخُصُوصِ دُونَ الْعُمُومِ لَكِنَّ هَذَا مُحَالٌ شَرْعًا وَعَقْلًا بِخِلَافِ الثَّالِثِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ
الْخُصُوصَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعُمُومِ وَأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَإِنَّ الْعُمُومَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْخُصُوصِ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ وَالْفُرُوقَ فَإِنَّهَا كُلَّهَا وَاقِعَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ وُقُوعًا كَثِيرًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ هَلْ يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الْمُطَالَبَةِ بِالْمِلْكِ هَلْ يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا ) اعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَطْلَقُوا عِبَارَتَهُمْ بِقَوْلِهِمْ مَنْ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ هَلْ يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ وَيُخَرِّجُونَ عَلَى ذَلِكَ فُرُوعًا كَثِيرَةً فِي الْمَذْهَبِ مِنْهَا إذَا وُهِبَ لَهُ الْمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ هَلْ يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا يَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالِكًا وَمَنْ عِنْدَهُ ثَمَنُ رَقَبَةٍ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ لِلصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ هَلْ يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْمُدَاوَاةِ فِي السَّلَسِ أَوْ التَّزْوِيجِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ هَلْ يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْفُرُوعِ زَعَمُوا أَنَّهَا مُخَرَّجَةٌ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بَاطِلَةٌ وَتِلْكَ الْفُرُوعُ لَهَا مَدَارِكُ غَيْرُ مَا ذَكَرُوهُ .
وَبَيَانُ بُطْلَانِهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْلِكُ أَنْ يَمْلِكَ أَرْبَعِينَ شَاةً فَهَلْ يَتَخَيَّلُ أَحَدٌ أَنَّهُ يُعَدُّ مَالِكًا الْآنَ قَبْلَ شِرَائِهَا حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَإِذَا كَانَ الْآنَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ فَهَلْ يَجْرِي فِي وُجُوبِ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ ؟ قَوْلَانِ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ الْمَرْأَةَ لِأَنَّهُ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ عِصْمَتَهَا وَالْإِنْسَانُ مَالِكٌ أَنْ يَمْلِكَ خَادِمًا أَوْ دَابَّةً فَهَلْ يَقُولُ أَحَدٌ إنَّهُ يُعَدُّ الْآنَ مَالِكًا لَهُمَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ كُلْفَتُهُمَا وَمَئُونَتُهُمَا عَلَى قَوْلٍ مِنْ الْأَقْوَالِ الشَّاذَّةِ أَوْ الْجَادَّةِ بَلْ هَذَا لَا يَتَخَيَّلُهُ مَنْ عِنْدَهُ أَدْنَى مِسْكَةٍ مِنْ الْعَقْلِ
وَالْفِقْهِ وَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَقَارِبَهُ فَهَلْ يُعَدُّهُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَالِكًا لِقَرِيبِهِ فَيَعْتِقُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ شِرَائِهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ عَلَى زَعْمِ مَنْ اعْتَقَدَهَا بَلْ هَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْفُرُوعِ كَثِيرَةٌ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَجْعَلَ هَذِهِ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَلْبَتَّةَ بَلْ الْقَاعِدَةُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ قَاعِدَةً شَرْعِيَّةً وَيَجْرِي فِيهَا الْخِلَافُ فِي بَعْضِ فُرُوعِهَا لَا فِي كُلِّهَا أَنَّ مَنْ جَرَى لَهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ بِالتَّمْلِيكِ هَلْ يُعْطَى حُكْمَ مَنْ مَلَكَ ، وَمَلَكَ قَدْ يُخْتَلَفُ فِي هَذَا الْأَصْلِ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ وَلِذَلِكَ مَسَائِلُ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى إذَا حِيزَتْ الْغَنِيمَةُ فَقَدْ انْعَقَدَ لِلْمُجَاهِدِينَ سَبَبُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِسْمَةِ وَالتَّمْلِيكِ فَهَلْ يُعَدُّونَ مَالِكِينَ لِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ فَقِيلَ يَمْلِكُونَ بِالْحَوْزِ وَالْأَخْذِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقِيلَ لَا يَمْلِكُونَ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْعَامِلُ فِي الْقِرَاضِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ بِالْقِيمَةِ وَإِعْطَاءِ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَهَلْ يُعَدُّ مَالِكًا بِالظُّهُورِ أَوْ لَا يَمْلِكُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْعَامِلُ فِي الْمُسَاقَاةِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ مِنْ الْعَمَلِ مَا يَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ بِالْقِسْمَةِ وَتَمْلِيكِ نَصِيبِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَهَلْ لَا يَمْلِكُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ أَوْ يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ .
وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَلَى عَكْسِ الْقِرَاضِ ؟ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الشَّرِيكُ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بَاعَ شَرِيكَهُ تَحَقَّقَ لَهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ بِأَنْ يَمْلِكَ الشِّقْصَ الْمَبِيعَ بِالشُّفْعَةِ .
وَلَمْ أَرَ خِلَافًا فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
الْفَقِيرُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي أَنْ يَمْلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِصِفَةِ فَقْرِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلِاسْتِحْقَاقِ كَالْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا وَالْقِسْمَةِ بَيْنَ النَّاسِ أَمْلَاكَهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَأْنُ الْإِنْسَانِ أَنْ يُعْطَى لِأَجْلِهِ فَإِذَا سَرَقَ هَلْ يُعَدُّ كَالْمَالِكِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّمْلِيكِ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالِكًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ ؟ قَوْلَانِ فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الْقُوَّةِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِنَا جَرَى لَهُ سَبَبُ التَّمْلِيكِ فِي تَمْشِيَتِهَا عُسْرٌ لِأَجْلِ كَثْرَةِ النُّقُوضِ عَلَيْهَا أَمَّا هَذَا الْمَفْهُومُ وَهُوَ قَوْلُنَا مَنْ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ جَرَيَانِ سَبَبٍ يَقْتَضِي مُطَالَبَتَهُ بِالتَّمْلِيكِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْقُيُودِ فَهَذَا جَعْلُهُ قَاعِدَةً شَرْعِيَّةً ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ لِضَعْفِ الْمُنَاسَبَةِ جِدًّا أَوْ لِعَدَمِهَا أَلْبَتَّةَ .
أَمَّا إذَا قُلْنَا انْعَقَدَ لَهُ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ بِالتَّمْلِيكِ فَهُوَ مُنَاسِبٌ لَأَنْ يُعَدَّ مَالِكًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ تَنْزِيلًا لِسَبَبِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ وَإِقَامَةً لِلسَّبَبِ الْبَعِيدِ مَقَامَ السَّبَبِ الْقَرِيبِ فَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَخَيَّلَ وُقُوعُهُ قَاعِدَةً فِي الشَّرِيعَةِ أَمَّا مُجَرَّدُ مَا ذَكَرُوهُ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ الْإِمْكَانِ وَالْقَبُولِ لِلْمُلْكِ وَذَلِكَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ الْمُنَاسَبَةِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ قَاعِدَةً وَتَتَخَرَّجُ تِلْكَ الْفُرُوعُ بِغَيْرِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَفِي الثَّوْبِ لِلسُّتْرَةِ يُلَاحَظُ فِيهَا قُوَّةُ الْمَالِيَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَوْ أَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ فَيَلْزَمُهُ وَيُكَافِئُ عَنْهُ إنْ شَاءَ .
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْمَاءِ يُوهَبُ لَهُ هَلْ يَنْظُرُ إلَى يَسَارَتِهِ فَلَا مِنَّةَ أَوْ يُلَاحِظُ الْمَالِيَّةَ .
وَهِيَ ضَرَرٌ وَالضَّرَرُ
مَنْفِيٌّ عَنْ الْمُكَلَّفِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } وَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَوَاجِدُ الثَّمَنِ يَخْرُجُ عَلَى تَنْزِيلِ وَسِيلَتِهِ مَنْزِلَتَهُ أَمْ لَا وَكَذَلِكَ الْقَادِرُ عَلَى التَّدَاوِي إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ وَالْمُنَاسِبَاتِ الَّتِي اُشْتُهِرَتْ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارُهَا وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مُوجِبِ الِاعْتِبَارِ أَمَّا مَا لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مُوجِبِ الِاعْتِبَارِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ قَاعِدَةً شَرْعِيَّةً بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ مِنْ الْقُيُودِ الْمُوجِبَةِ لِلْمُنَاسِبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مَا يُوجِبُ اشْتِمَالَهُ عَلَى مُوجِبِ الِاعْتِبَارِ وَنَقْلِ النُّقُوضِ عَلَيْهِ وَتَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ أَمَّا عَدَمُ الْمُنَاسَبَةِ وَكَثْرَةُ النُّقُوضِ فَاعْتِبَارُ مِثْلِ هَذَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ نَمَطِ الشَّرِيعَةِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ كَثُرَ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ خُصُوصًا الشَّيْخَ أَبَا الطَّاهِرِ بْنِ بَشِيرٍ فَإِنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِالتَّنْبِيهِ كَثِيرًا .
قَالَ ( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ هَلْ يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الْمُطَالَبَةِ بِالْمِلْكِ هَلْ يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا ) قُلْت مَا نَسَبَهُ إلَى مَشَايِخَ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَاعْتَقَدَهُ فِيهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا مُقْتَضَى عِبَارَتِهِمْ الْمُطْلَقَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَمَا اخْتَارَهُ مِنْ عَدَمِ إرَادَةِ مُقْتَضَى الْإِطْلَاقِ هُوَ الصَّحِيحُ وَالظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ إنَّمَا أَرَادُوا ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقَيْنِ بَعْدَ هَذَا صَحِيحٌ .
الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ هَلْ يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَنْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الْمُطَالَبَةِ بِالْمِلْكِ هَلْ يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا ) الْقَاعِدَةُ الْأُولَى وَإِنْ أَطْلَقَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِمْ مَنْ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ هَلْ يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا قَوْلَانِ وَخَرَّجُوا عَلَيْهَا فُرُوعًا كَثِيرَةً فِي الْمَذْهَبِ .
( مِنْهَا ) إذَا وُهِبَ لَهُ الْمَاءُ فِي التَّيَمُّمِ هَلْ يَبْطُلُ تَيَمُّمُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا يَبْطُلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالِكًا وَمِنْهَا مَنْ عِنْدَهُ ثَمَنُ رَقَبَةٍ هَلْ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ لِلصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا يَجُوزُ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُعَدُّ مَالِكًا وَمِنْهَا مَنْ قَدَرَ عَلَى الْمُدَاوَاةِ فِي السَّلَسِ أَوْ التَّزْوِيجِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُعَدُّ مَالِكًا أَمْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالِكًا إلَّا أَنَّهَا بَاطِلَةٌ إذْ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ مُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ وَالْقَبُولِ لِلْمِلْكِ بِدُونِ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مُوجِبِ الِاعْتِبَارِ قَاعِدَةً شَرْعِيَّةً أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَتَخَيَّلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَمْلِكَ أَرْبَعِينَ شَاةً هَلْ يُعَدُّ قَبْلَ شِرَائِهَا مَالِكًا لَهَا فَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَوْ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ هَلْ يُعَدُّ قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَ الْمَرْأَةَ مَالِكًا عِصْمَتَهَا أَمْ لَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ وَالنَّفَقَةُ أَمْ لَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَوْ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَمْلِكَ خَادِمًا أَوْ دَابَّةً هَلْ يُعَدُّ قَبْلَ شِرَائِهِمَا مَالِكًا لَهُمَا أَمْ لَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ كُلْفَتُهُمَا وَمُؤْنَتُهَا أَمْ لَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَوْ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ أَقَارِبَهُ هَلْ يَعُدُّهُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَالِكًا لِقَرِيبِهِ فَيُعْتِقَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ شِرَائِهِ
عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ عَلَى زَعْمِ مَنْ اعْتَقَدَهَا بَلْ هَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ لَا يَتَخَيَّلُهُ مَنْ عِنْدَهُ أَدْنَى مِسْكَةٍ مِنْ الْعَقْلِ وَالْفِقْهِ وَالظَّنُّ بِالْمَشَايِخِ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا مُقْتَضَى عِبَارَتِهِمْ الْمُطْلَقَةِ وَأَنَّ مَنْ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ جَرَيَانِ سَبَبٍ يَقْتَضِي مُطَالَبَتَهُ بِالتَّمْلِيكِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُيُودِ لِأَنَّ جَعْلَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ شَرْعِيَّةً ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ لِضَعْفِ الْمُنَاسَبَةِ جِدًّا أَوْ لِعَدَمِهَا أَلْبَتَّةَ وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ مَعَ جَرَيَانِ سَبَبٍ يَقْتَضِي مُطَالَبَتَهُ بِالتَّمْلِيكِ أَيْ مَنْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الْمُطَالَبَةِ بِالْمِلْكِ فَيَرْجِعُ بِذَلِكَ إلَى الْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ حَتَّى يَكُونَ مُنَاسِبًا لَأَنْ يُعَدَّ مَالِكًا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ تَنْزِيلًا لِسَبَبِ السَّبَبِ مَنْزِلَةَ السَّبَبِ وَإِقَامَةً لِلسَّبَبِ الْبَعِيدِ مَقَامَ السَّبَبِ الْقَرِيبِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُتَخَيَّلَ وُقُوعُهُ قَاعِدَةً مِنْ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ فِي تَمْشِيَةِ الْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْقُوَّةِ عُسْرًا مِنْ جِهَةِ قَوْلِنَا جَرَى لَهُ سَبَبُ التَّمْلِيكِ لِأَجْلِ كَثْرَةِ النُّقُوضِ عَلَيْهَا فَلِذَا لَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا فِي بَعْضِ فُرُوعِهَا كَمَا يَتَّضِحُ لَك ذَلِكَ بِمَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) إذَا حِيزَتْ الْغَنِيمَةُ وَانْعَقَدَ لِلْمُجَاهِدِينَ سَبَبُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِسْمَةِ وَالتَّمْلِيكِ فَقِيلَ يَمْلِكُونَ بِمُجَرَّدِ الْحَوْزِ وَالْأَخْذِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقِيلَ لَا يَمْلِكُونَ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) إذَا وَجَدَ الظُّهُورَ بِالْعَمَلِ فِي حَقِّ عَامِلِ الْقِرَاضِ وَانْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِسْمَةِ وَإِعْطَاءِ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَهَلْ يُعَدُّ مَالِكًا بِمُجَرَّدِ الظُّهُورِ أَمْ لَا يَمْلِكُ إلَّا
بِالْقِسْمَةِ ؟ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمَشْهُورُ الثَّانِي ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) إذَا وُجِدَ ظُهُورُ عَامِلِ الْمُسَاقَاةِ بِالْعَمَلِ وَانْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِسْمَةِ وَتَمْلِيكِ نَصِيبِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَهَلْ يُعَدُّ مَالِكًا بِمُجَرَّدِ الظُّهُورِ أَوْ لَا يَمْلِكُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ قَوْلَانِ فِي الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ عَلَى عَكْسِ الْقِرَاضِ ( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَالَ الْأَصْلُ لَمْ أَرَ خِلَافًا فِي أَنَّ الشَّرِيكَ إذَا بَاعَ شَرِيكَهُ شِقْصَهُ عَلَى الْغَيْرِ وَتَحَقَّقَ لَهُ مَا يَقْتَضِي سَبَبَ الْمُطَالَبَةِ بِأَنْ يَمْلِكَ الشِّقْصَ الْمَبِيعَ بِالشُّفْعَةِ لَا يَكُونُ مَالِكًا إلَّا بِأَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ بِالْفِعْلِ ( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) مَنْ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَبَبٌ يَقْتَضِي أَنْ يَمْلِكَ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِأَنْ يَتَّصِفَ بِصِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلِاسْتِحْقَاقِ مِنْهُ كَالْفَقْرِ وَالْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا وَالْقِسْمَةِ بَيْنَ النَّاسِ أَمْلَاكَهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَأْنُ الْإِنْسَانِ أَنْ يُعْطَى لِأَجْلِهِ فَإِذَا سَرَقَ هَلْ يُعَدُّ كَالْمَالِكِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُودِ سَبَبِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّمْلِيكِ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مَالِكًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ قَوْلَانِ .
وَأَمَّا الْفُرُوعُ الْمُخَرَّجَةُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأُولَى فَلَهَا مَدَارِكُ غَيْرُ ذَلِكَ التَّخْرِيجِ بِأَنْ يُلَاحِظَ فِي الثَّوْبِ لِلسُّتْرَةِ قُوَّةَ الْمَالِيَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَوْ أَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ فَيَلْزَمُهُ وَيُكَافِئُ عَنْهُ إنْ شَاءَ وَفِي الْمَاءِ يُوهَبُ لَهُ إمَّا يَسَارَتُهُ فَلَا مِنَّةَ وَإِمَّا الْمَالِيَّةُ الْمُؤَدِّيَةُ لِلْمِنَّةِ وَهِيَ ضَرَرٌ وَالضَّرَرُ مَنْفِيٌّ عَنْ الْمُكَلَّفِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } وَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَفِي وَاجِدِ ثَمَنِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ إمَّا
تَنْزِيلُ وُجُودِ الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةُ مِلْكِهَا مَنْزِلَتَهُ وَإِمَّا عَدَمُ تَنْزِيلِهِ مَنْزِلَتَهُ وَفِي الْقَادِرِ عَلَى التَّدَاوِي مِنْ السَّلَسِ أَوْ التَّزْوِيجِ إمَّا أَنْ تُنَزَّلَ قُدْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الَّتِي هِيَ وَسِيلَةُ التَّدَاوِي بِالْفِعْلِ مَنْزِلَتَهُ أَمْ لَا أَوْ يُلَاحِظُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ وَإِلَّا فِيهِ وَالْمُنَاسَبَاتُ الَّتِي اُشْتُهِرَ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارُهَا مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالُهَا عَلَى مُوجِبِ الِاعْتِبَارِ لَا مَا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا مِمَّا لَا يَشْتَمِلُ عَلَى مُوجِبِ الِاعْتِبَارِ فَتُقَدَّمُ مُنَاسَبَتُهُ وَتَكْثُرُ النُّقُوضُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ اعْتِبَارُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ خِلَافَ الْمَعْلُومِ مِنْ نَمَطِ الشَّرِيعَةِ إلَّا أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ مَا يُوجِبُ اشْتِمَالَهُ عَلَى مُوجِبِ الِاعْتِبَارِ مِنْ الْقُيُودِ الْمُوجِبَةِ لِلْمُنَاسَبَةِ فَتَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ وَتَقِلُّ النُّقُوضُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ اعْتِبَارُ مِثْلِهِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَهُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ نَمَطِ الشَّرِيعَةِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ كَثُرَ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ خُصُوصًا الشَّيْخَ الطَّاهِرَ بْنَ بُشَيْرٍ فَإِنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِالتَّنْبِيهِ كَثِيرًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْرِيكِ فِي الْعِبَادَاتِ ) اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ فِي الْعِبَادَاتِ شِرْكٌ وَتَشْرِيكٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَاعَتِهِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمَعْصِيَةِ وَالْإِثْمِ وَالْبُطْلَانِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْمُحَاسِبِيُّ وَغَيْرُهُ وَيُعَضِّدُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ { أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ لَهُ أَوْ تَرَكْتُهُ لِشَرِيكِي } فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ تَعَالَى لَيْسُوا مَأْمُورِينَ بِهِ وَمَا هُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ لَا يُجْزَى عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَسِرُّهَا وَضَابِطُهَا أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَالْمُتَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يُعَظِّمَهُ النَّاسُ أَوْ يُعَظَّمَ فِي قُلُوبِهِمْ فَيَصِلَ إلَيْهِ نَفْعُهُمْ أَوْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ ضَرَرُهُمْ فَهَذَا هُوَ قَاعِدَةُ أَحَدِ قِسْمَيْ الرِّيَاءِ وَالْقِسْمُ الْآخَرُ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ لَا يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ بَلْ النَّاسَ فَقَطْ وَيُسَمَّى هَذَا الْقِسْمُ رِيَاءَ الْإِخْلَاصِ وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ رِيَاءَ الشِّرْكِ لِأَنَّ هَذَا لَا تَشْرِيَك فِيهِ بَلْ خَالِصٌ لِلْخَلْقِ وَالْأَوَّلُ لِلْخَلْقِ وَلِلَّهِ تَعَالَى وَأَغْرَاضُ الرِّيَاءِ ثَلَاثَةٌ التَّعْظِيمُ وَجَلْبُ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَخِيرَانِ يَتَفَرَّعَانِ عَنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إذَا عَظُمَ انْجَلَبَتْ إلَيْهِ الْمَصَالِحُ وَانْدَفَعَتْ عَنْهُ الْمَفَاسِدُ فَهُوَ الْغَرَضُ الْكُلِّيُّ فِي الْحَقِيقَةِ
فَهَذِهِ قَاعِدَةُ الرِّيَاءِ الْمُبْطِلَةُ لِلْأَعْمَالِ الْمُحَرَّمَةُ بِالْإِجْمَاعِ .
وَأَمَّا مُطْلَقُ التَّشْرِيكِ كَمَنْ جَاهَدَ لِيُحَصِّلَ طَاعَةَ اللَّهِ بِالْجِهَادِ وَلِيُحَصِّلَ الْمَالَ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَهَذَا لَا يَضُرُّهُ وَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ هَذَا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَفَرْقٌ بَيْنَ جِهَادِهِ لِيَقُولَ النَّاسُ إنَّهُ شُجَاعٌ أَوْ لِيُعَظِّمَهُ الْإِمَامُ فَيُكْثِرَ إعْطَاءَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَهَذَا وَنَحْوُهُ رِيَاءٌ حَرَامٌ وَبَيْنَ أَنْ يُجَاهِدَ لِيُحَصِّلَ السَّبَايَا وَالْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ مِنْ جِهَةِ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ فَهَذَا لَا يَضُرُّهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَشْرَكَ وَلَا يُقَالُ لِهَذَا رِيَاءٌ بِسَبَبِ أَنَّ الرِّيَاءَ لِيَعْمَلَ أَنْ يَرَاهُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ خَلْقِهِ وَالرُّؤْيَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ الْخَلْقِ فَمَنْ لَا يَرَى وَلَا يُبْصِرُ لَا يُقَالُ فِي الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ رِيَاءٌ وَالْمَالُ الْمَأْخُوذُ فِي الْغَنِيمَةِ وَنَحْوُهُ لَا يُقَالُ إنَّهُ يَرَى أَوْ يُبْصِرُ فَلَا يَصْدُقُ عَلَى هَذِهِ الْأَغْرَاضِ لَفْظُ الرِّيَاءِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِيهَا وَكَذَلِكَ مَنْ حَجَّ وَشَرَّك فِي حَجِّهِ غَرَضَ الْمَتْجَرِ بِأَنْ يَكُونَ جُلُّ مَقْصُودِهِ أَوْ كُلُّهُ السَّفَرَ لِلتِّجَارَةِ خَاصَّةً وَيَكُونَ الْحَجُّ إمَّا مَقْصُودًا مَعَ ذَلِكَ أَوْ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَيَقَعُ تَابِعًا اتِّفَاقًا فَهَذَا أَيْضًا لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَجِّ وَلَا يُوجِبُ إثْمًا وَلَا مَعْصِيَةً وَكَذَلِكَ مَنْ صَامَ لِيَصِحَّ جَسَدُهُ أَوْ لِيَحْصُلَ لَهُ زَوَالُ مَرَضٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ الَّتِي يُنَافِيهَا الصِّيَامُ وَيَكُونُ التَّدَاوِي هُوَ مَقْصُودُهُ أَوْ بَعْضُ مَقْصُودِهِ وَالصَّوْمُ مَقْصُودُهُ مَعَ ذَلِكَ وَأَوْقَعَ الصَّوْمَ مَعَ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ لَا تَقْدَحُ هَذِهِ الْمَقَاصِدُ فِي صَوْمِهِ بَلْ أَمَرَ بِهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } أَيْ قَاطِعٌ
فَأَمَرَ بِالصَّوْمِ لِهَذَا الْغَرَضِ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْعِبَادَاتِ وَمَا مَعَهَا وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجَدِّدَ وُضُوءَهُ وَيَنْوِيَ التَّبَرُّدَ أَوْ التَّنْظِيفَ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ لَا يَدْخُلُ فِيهَا تَعْظِيمُ الْخَلْقِ بَلْ هِيَ تَشْرِيك أُمُورٍ مِنْ الْمَصَالِحِ لَيْسَ لَهَا إدْرَاكٌ وَلَا تَصْلُحُ لِلْإِدْرَاكِ وَلَا لِلتَّعْظِيمِ فَلَا تَقْدَحُ فِي الْعِبَادَاتِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْرِيكِ فِي الْعِبَادَاتِ غَرَضًا آخَرَ غَيْرَ الْخَلْقِ مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ تَشْرِيكٌ نَعَمْ لَا يَمْنَعُ أَنَّ هَذِهِ الْأَغْرَاضَ الْمُخَالِطَةَ لِلْعِبَادَةِ قَدْ تُنْقِصُ الْأَجْرَ وَأَنَّ الْعِبَادَةَ إذَا تَجَرَّدَتْ عَنْهَا زَادَ الْأَجْرُ وَعَظُمَ الثَّوَابُ أَمَّا الْإِثْمُ وَالْبُطْلَانُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَمِنْ جِهَتِهِ حَصَلَ الْفَرْقُ لَا مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَقِلَّتِهِ .
( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْرِيكِ فِي الْعِبَادَاتِ ) مِنْ حَيْثُ إنَّ التَّشْرِيكَ فِيهَا لَا يَحْرُمُ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ الرِّيَاءِ فِيهَا فَيَحْرُمُ هُوَ أَنَّ التَّشْرِيكَ فِيهَا لَمَّا كَانَ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُكَلَّفِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ مِمَّا لَا يَرَى وَلَا يُبْصِرُ كَمَنْ جَاهَدَ لِيُحَصِّلَ طَاعَةَ اللَّهِ بِالْجِهَادِ وَلِيُحَصِّلَ السَّبَايَا وَالْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ مِنْ جِهَةِ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ وَكَمَنْ حَجَّ وَشَرَّكَ فِي حَجِّهِ غَرَضَ الْمَتْجَرِ بِأَنْ يَكُونَ جُلُّ مَقْصُودِهِ أَوْ كُلُّهُ السَّفَرَ لِلتِّجَارَةِ خَاصَّةً وَيَكُونَ الْحَجُّ إمَّا مَقْصُودًا مَعَ ذَلِكَ أَوْ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَإِنَّمَا يَقَعُ تَابِعًا اتِّفَاقًا وَكَمَنْ صَامَ لِيَصِحَّ جَسَدُهُ أَوْ لِيَحْصُلَ زَوَالُ مَرَضٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تُدَاوَى بِالصَّوْمِ بِحَيْثُ يَكُونُ التَّدَاوِي هُوَ مَقْصُودُهُ أَوْ بَعْضُ مَقْصُودِهِ وَالصَّوْمُ مَقْصُودٌ مَعَ ذَلِكَ وَكَمَنْ يَتَوَضَّأُ بِقَصْدِ التَّبَرُّدِ أَوْ التَّنْظِيفِ لَمْ يَضُرَّهُ فِي عِبَادَتِهِ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ لَا يَدْخُلُ فِيهَا تَعْظِيمُ الْخَالِقِ بَلْ هِيَ تَشْرِيكُ أُمُورٍ مِنْ الْمَصَالِحِ لَيْسَ لَهَا إدْرَاكٌ وَلَا تَصْلُحُ لِلْإِدْرَاكِ وَلَا لِلتَّعْظِيمِ فَلَا تَقْدَحُ فِي الْعِبَادَاتِ إذْ كَيْفَ تَقْدَحُ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ أَمَرَ بِهَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } أَيْ قَاطِعٌ نَعَمْ إذَا تَجَرَّدَتْ الْعِبَادَةُ عَنْ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ زَادَ الْأَجْرُ وَعَظُمَ الثَّوَابُ وَإِذَا لَمْ تُجَرَّدْ الْعِبَادَةُ عَنْهَا نَقَصَ الْأَجْرُ وَإِنْ كَانَ لَا سَبِيلَ إلَى الْإِثْمِ وَالْبُطْلَانِ .
وَأَمَّا الرِّيَاءُ فِيهَا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ شِرْكًا وَتَشْرِيكًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَاعَتِهِ لِمَنْ يَرَى وَيُبْصِرُ مِنْ الْخَلْقِ لِأَحَدِ
أَغْرَاضٍ ثَلَاثَةٍ التَّعْظِيمُ وَجَلْبُ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَخِيرَانِ يَتَفَرَّعَانِ عَنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إذَا عُظِّمَ انْجَلَبَتْ إلَيْهِ الْمَصَالِحُ وَانْدَفَعَتْ عَنْهُ الْمَفَاسِدُ فَهُوَ الْغَرَضُ الْكُلِّيُّ فِي الْحَقِيقَةِ فَيَقْتَضِي رُؤْيَةَ النَّفْعِ أَوْ الضُّرِّ لِغَيْرِهِ تَعَالَى فَيُنَافِي مَا أَشَارَ لَهُ سَيِّدِي عَلِيُّ وفا بِقَوْلِهِ ( وَعِلْمُك أَنَّ كُلَّ الْأَمْرِ أَمْرِي هُوَ الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِاتِّحَادِي ) قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ وَلَا بُدَّ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ مِنْ حَظٍّ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَإِنْ تَفَاوَتُوا أَهُوَ ذَلِكَ إمَّا بِأَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَالْمُتَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يُعَظِّمَهُ النَّاسُ أَوْ يُعَظَّمَ فِي قُلُوبِهِمْ فَيَصِلَ إلَيْهِ نَفْعُهُمْ أَوْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ ضَرَرُهُمْ فَيُسَمَّى رِيَاءَ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ لِلْخَلْقِ وَلِلَّهِ تَعَالَى وَإِمَّا بِأَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ لَا يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ بَلْ النَّاسَ فَقَطْ فَيُسَمَّى رِيَاءَ الْإِخْلَاصِ لِأَنَّهُ لَا تَشْرِيَك فِيهِ بَلْ خَالِصٌ لِلْخَلْقِ كَانَ مُضِرًّا بِالْعِبَادَةِ وَمُحَرَّمًا عَلَى الْمُكَلَّفِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْمَعْصِيَةِ وَالْإِثْمِ وَالْبُطْلَانِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْمُحَاسِبِيُّ وَغَيْرُهُ وَيُعَضِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ لَهُ أَوْ تَرَكْتُهُ لِشَرِيكِي } وقَوْله تَعَالَى { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } فَإِنَّ الْحَدِيثَ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ تَعَالَى لَيْسُوا مَأْمُورِينَ بِهِ وَمَا هُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَبِالْجُمْلَةِ
فَفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يُجَاهِدُ لِيَقُولَ النَّاسُ إنَّهُ شُجَاعٌ أَوْ لِيُعَظِّمَهُ الْإِمَامُ فَيُكْثِرَ عَطَاءَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَيَكُونَ رِيَاءً حَرَامًا وَبَيْنَ مَنْ يُجَاهِدُ لِيُحَصِّلَ السَّبَايَا وَالْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ مِنْ جِهَةِ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ فَلَا يَضُرُّهُ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ إجْمَاعًا وَلَا يُقَالُ لِفِعْلِهِ رِيَاءً مَعَ أَنَّهُ قَدْ شَرَّك فِيهِ بِسَبَبِ أَنَّ الرِّيَاءَ الْعَمَلُ لِيَرَاهُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ خَلْقِهِ وَالرُّؤْيَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ الْخَلْقِ وَأَمَّا الْعَمَلُ لِمَنْ يَرَى وَلَا يُبْصِرُ كَالْمَالِ الْمَأْخُوذِ فِي الْغَنِيمَةِ وَنَحْوِهِ فَلَا يُقَالُ فِيهِ رِيَاءٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ غَيْرِهَا مِمَّا يُوجِبُ التَّأْمِينَ ) وَهُوَ إمَّا الْمَصْلَحَةُ أَوْ الْأَمَانُ وَالْجَمِيعُ يُوجِبُ الْأَمَانَ وَالتَّأْمِينَ غَيْرَ أَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ يَكُونُ لِضَرُورَةٍ وَلِغَيْرِ ضَرُورَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْقِتَالَ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ بِقَوْلِهِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ فَجَعَلَ الْقِتَالَ مُغَيًّا إلَى وَقْتِ مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَلَا يَعْقِدُهُ إلَّا الْإِمَامُ وَيَدُومُ لِلْمَعْقُودِ لَهُمْ وَلِذَرَارِيِّهِمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَقْدِ نَاقِضٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ النَّوَاقِضِ وَأَنَّهُ لَيْسَ رُخْصَةً عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ بَلْ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَأَمَّا التَّأْمِينُ فَيَصِحُّ مِنْ آحَادِ النَّاسِ بِخِلَافِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي عَدَدٍ مَحْصُورٍ كَالْوَاحِدِ وَنَحْوِهِ .
وَأَمَّا الْجَيْشُ الْكَثِيرُ فَالْعَقْدُ فِي تَأْمِينِهِ لِلْأَمِيرِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَلَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْمُصَالَحَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا يَعْقِدُهُ إلَّا الْإِمَامُ وَيَكُونُ إلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ وَيَجُوزُ بِغَيْرِ مَالٍ يُعْطُونَهُ بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْمَالِ وَهُوَ رُخْصَةٌ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ الْقِتَالِ وَطَلَبُ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ قِتَالِهِمْ أَوْ إلْجَائِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ الْجِزْيَةِ وَشُرُوطُ الْجِزْيَةِ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ مُتَقَرِّرَةٌ فِي الشَّرْعِ وَشُرُوطُ الْمُصَالَحَةِ بِحَسَبِ مَا يَحْصُلُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي الشُّرُوطِ فَسَادُ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ التَّأْمِينُ لَيْسَ لَهُ شُرُوطٌ بَلْ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ وَاللَّازِمُ فِيهِ مُطْلَقُ الْأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ وَعَقْدُ الْجِزْيَةِ يُوجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حُقُوقًا
مُتَأَكِّدَةً مِنْ الصَّوْنِ لَهُمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَالْمُصَالَحَةُ لَا تُوجِبُ مِثْلَ تِلْكَ الْحُقُوقِ بَلْ يَكُونُونَ أَجَانِبَ مِنَّا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْنَا بِرُّهُمْ وَلَا الْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي ذِمَّتِنَا غَيْرَ أَنَّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ وَلَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ فَقَطْ وَنَقُومُ بِمَا الْتَزَمْنَا لَهُمْ فِي الْعَقْدِ وَمِنْ الشُّرُوطِ وَاتَّفَقْنَا عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ نُوَاسِيَ فَقِيرَهُمْ وَنَنْصُرَ مَظْلُومَهُمْ بَلْ نَتْرُكُهُمْ يَنْفَصِلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ يَجِبُ عَلَيْنَا فِيهِ دَفْعُ التَّظَالُمِ بَيْنَهُمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْفِقْهِ مَبْسُوطًا هُنَالِكَ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ .
( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ عَقْدِ الْجِزْيَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ غَيْرِهَا مِمَّا يُوجِبُ التَّأْمِينَ مِنْ عَقْدَيْ الْمُصَالَحَةِ وَالتَّأْمِينِ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَاعِدَتَيْنِ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي وُجُوبِ الْأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ إلَّا أَنَّهُمَا افْتَرَقَا مِنْ وُجُوهٍ ) ( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) أَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ يَكُونُ لِضَرُورَةٍ وَلِغَيْرِ ضَرُورَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ الْقِتَالَ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فَجَعَلَ الْقَتْلَ مُغَيَّا إلَى وَقْتِ مُوَافَقَتِهِمْ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ وَعَقْدُ الْمُصَالَحَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْأَمِيرِ تَأْمِينَ الْجَيْشِ الْكَبِيرِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ تَقْتَضِيه .
( وَالْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ لَا يَعْقِدُهُ إلَّا الْإِمَامُ كَعَقْدِ الْمُصَالَحَةِ .
وَأَمَّا التَّأْمِينُ فَيَصِحُّ مِنْ آحَادِ النَّاسِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي عَدَدٍ مَحْصُورٍ كَالْوَاحِدِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا الْجَيْشُ الْكَبِيرُ فَعَقْدُ تَأْمِينِهِ لِلْأَمِيرِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ ( وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ يَدُومُ لِلْمَعْقُودِ لَهُمْ وَلِذَرَارِيِّهِمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ لِلْعَقْدِ نَاقِضٌ مِنْ النَّوَاقِضِ الْمُتَقَدِّمِ تَفْصِيلُهَا وَعَقْدُ الْمُصَالَحَةِ إنَّمَا يَكُونُ إلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ .
( وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ ) أَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ لَيْسَ رُخْصَةً عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ بَلْ عَلَى وَفْقِ الْقَوَاعِدِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَعَقْدُ الْمُصَالَحَةِ رُخْصَةٌ عَلَى خِلَافِ قَاعِدَةِ الْقِتَالِ وَطَلَبِ الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ وَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ وَقِتَالِهِمْ أَوْ إلْجَائِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ الْجِزْيَةِ ( وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ ) أَنَّ شُرُوطَ عَقْدِ الْجِزْيَةِ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي الشَّرْعِ وَشُرُوطَ عَقْدِ الْمُصَالَحَةِ بِحَسَبِ مَا يَحْصُلُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهَا مَا لَمْ
يَكُنْ فِي الشُّرُوطِ فَسَادٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ التَّأْمِينُ لَيْسَ لَهُ شُرُوطٌ بَلْ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ ( وَالْوَجْهُ السَّادِسُ ) أَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمَالِ وَعَقْدَ الْمُصَالَحَةِ يَجُوزُ بِغَيْرِ مَالٍ يُعْطُونَهُ ( وَالْوَجْهُ السَّابِعُ ) أَنَّ عَقْدَ الْجِزْيَةِ يُوجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ زِيَادَةً عَلَى الْأَمْنِ وَالتَّأْمِينِ حُقُوقًا مُتَأَكِّدَةً مِنْ الصَّوْنِ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ وَدَفْعِ التَّظَالُمِ بَيْنَهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ وَمَبْسُوطٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَالْمُصَالَحَةُ لَا تُوجِبُ مِثْلَ تِلْكَ الْحُقُوقِ بَلْ يَكُونُونَ أَجَانِبَ مِنَّا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْنَا بِرُّهُمْ وَلَا الْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي ذِمَّتِنَا غَيْرَ أَنَّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ وَلَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ فَقَطْ بَلْ نَقُومُ بِمَا الْتَزَمْنَا لَهُمْ فِي الْعَقْدِ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي اتَّفَقْنَا عَلَيْهَا وَنَتْرُكُهُمْ يَنْفَصِلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَنْصُرَ مَظْلُومَهُمْ وَلَا أَنْ نُوَاسِيَ فَقِيرَهُمْ وَاللَّازِمُ فِي عَقْدِ التَّأْمِينِ مُطْلَقُ الْأَمَانِ وَالتَّأْمِينِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجِبُ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ مِنْ التَّعْظِيمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَجِبُ تَوْحِيدُهُ بِهِ ) اعْلَمْ أَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّعْظِيمِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ وَاجِبٌ إجْمَاعًا وَغَيْرُ وَاجِبٍ إجْمَاعًا وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ هَلْ يَجِبُ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ أَمْ لَا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَجِبُ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ مِنْ التَّعْظِيمِ بِالْإِجْمَاعِ فَذَلِكَ كَالصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَالصَّوْمِ عَلَى اخْتِلَافِ رُتَبِهِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَالنَّذْرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْخَلْقُ وَالرِّزْقُ وَالْأَمَانَةُ وَالْإِحْيَاءُ وَالْبَعْثُ وَالنَّشْرُ وَالسَّعَادَةُ وَالشَّقَاءُ وَالْهِدَايَةُ وَالْإِضْلَالُ وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ وَالْقَبْضُ وَالْبَسْطُ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ تَوْحِيدَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَوَحُّدَهُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ وَإِنْ أُضِيفَ شَيْءٌ مِنْهَا لِغَيْرِهِ تَعَالَى فَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الرَّبْطِ الْعَادِيِّ لَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُشَارَ إلَيْهِ فَعَلَ شَيْئًا حَقِيقَةً كَقَوْلِنَا قَتَلَهُ السُّمُّ وَأَحْرَقَتْهُ النَّارُ وَرَوَاهُ الْمَاءُ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ حَقِيقَةً بَلْ اللَّهُ تَعَالَى رَبَطَ هَذِهِ الْمُسَبَّبَاتِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ كَمَا شَاءَ وَأَرَادَ وَلَوْ شَاءَ لَمْ يَرْبِطْهَا وَهُوَ الْخَالِقُ لِمُسَبِّبَاتِهَا عِنْدَ وُجُودِهَا لَا أَنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ هَذِهِ الْمُوجِدَةُ .
وَكَذَلِكَ إخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ عِنْدَ إرَادَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِذَلِكَ لَا أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ حَقِيقَةً بَلْ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِذَلِكَ وَمُعْجِزَةُ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ رَبْطُ وُقُوعِ ذَلِكَ الْإِحْيَاءِ وَذَلِكَ الْإِبْرَاءِ بِإِرَادَتِهِ فَإِنَّ غَيْرَهُ يُرِيدُ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُ إرَادَتُهُ ذَلِكَ فَاللُّزُومُ بِإِرَادَتِهِ هُوَ مُعْجِزَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا يَظْهَرُ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُهَا وَكَذَلِكَ يَجِبُ تَوْحِيدُهُ تَعَالَى بِاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَعُمُومُ تَعَلُّقِ صِفَاتِهِ تَعَالَى فَيَتَعَلَّقُ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَإِرَادَتُهُ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَبَصَرُهُ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الْبَاقِيَاتِ وَالْفَانِيَاتِ وَسَمْعُهُ بِجَمِيعِ الْأَصْوَاتِ وَخَبَرُهُ بِجَمِيعِ الْمُخْبَرَاتِ فَهَذَا وَنَحْوُهُ تَوْحِيدٌ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ لَا مُشَارَكَةَ لِأَحَدٍ فِيهِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى عَدَمِ التَّوْحِيدِ فِيهِ وَالتَّوَحُّدِ ، كَتَوْحِيدِهِ بِالْوُجُودِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِهِمَا فَمَفْهُومُ الْوُجُودِ مُشْتَرَكٌ فِيهِ سَوَاءٌ قُلْنَا هُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودِ أَوْ غَيْرُهُ فَإِنْ قُلْنَا الْوُجُودُ زَائِدٌ عَلَى الْمَوْجُودِ فَهُوَ مُشْتَرِكٌ فِيهِ فِي الْخَارِجِ وَإِنْ قُلْنَا وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ نَفْسُ مَاهِيَّتِه فَنُرِيدُ نَفْسَ مَاهِيَّتِه فِي الْخَارِجِ وَأَمَّا فِي الذِّهْنِ فَنَحْنُ نَتَصَوَّرُ مِنْ مَعْنَى الْوُجُودِ مَعْنًى عَامًّا يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ فَتِلْكَ الصُّورَةُ الذِّهْنِيَّةُ وَقَعَتْ الشَّرِكَةُ فِيهَا فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّوْحِيدَ فِي أَصْلِ الْوُجُودِ غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَكَذَلِكَ مَفْهُومُ الْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِلْمٌ وَقَعَتْ الشَّرِكَةُ فِيهِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَكَذَلِكَ مَفْهُومُ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ وَأَنْوَاعُهُ مِنْ الطَّلَبِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ وَلَوْلَا الشَّرِكَةُ فِي أُصُولِ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ لَتَعَذَّرَ عَلَيْنَا قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ
فَإِنَّ الْقِيَاسَ بِغَيْرِ مُشْتَرِكٍ مُتَعَذِّرٌ وَقِيَاسُ الْمُبَايِنِ عَلَى مُبَايِنِهِ لَا يَصِحُّ .
وَقَدْ أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَذَا السُّؤَالَ فَقَالَ إنْ كَانَ الْقِيَاسُ صَحِيحًا لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ فَقَدْ وَقَعَتْ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِ الْبَشَرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تُشْبِهُ ذَاتُهُ ذَاتًا وَلَا صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ غَيْرِهِ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } وَالسَّلْبُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌّ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ صَحِيحًا تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ فَإِنَّ مُسْتَنَدَهَا قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ السَّلْبَ لِلْمِثْلِيَّةِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْآيَةِ صَحِيحٌ وَالْقِيَاسُ أَيْضًا صَحِيحٌ وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَعَانِيَ لَهَا صِفَاتٌ نَفْسِيَّةٌ تَقَعُ الشَّرِكَةُ فِيهَا فَبِهَا يَقَعُ الْقِيَاسُ وَتِلْكَ الصِّفَاتُ النَّفِيسَةُ حُكْمٌ لِذَلِكَ الْمَعْنَى وَحَالٌ مِنْ أَحْوَالِهِ النَّفْسِيَّةِ وَهِيَ حَالَةٌ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ وَذَلِكَ كَمَا نَقُولُ كَوْنُ السَّوَادِ سَوَادًا وَكَوْنُ الْبَيَاضِ بَيَاضًا حَالَةٌ لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَهِيَ حَالَةٌ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ وَهَذِهِ الْحَالُ لَا مَوْجُودَةٌ وَلَا مَعْدُومَةٌ فَلَيْسَ خُصُوصُ السَّوَادِ الَّذِي امْتَازَ بِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْرَاضِ صِفَةً وُجُودِيَّةً قَائِمَةً بِالسَّوَادِ وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ عَرَضًا لَيْسَ بِصِفَةٍ وُجُودِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِالسَّوَادِ بَلْ السَّوَادُ فِي نَفْسِهِ بَسِيطٌ لَا تَرْكِيبَ فِيهِ وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْخَارِجِ لَيْسَ لَهَا صِفَةٌ بَلْ يُوصَفُ بِهَا وَلَا تُوصَفُ بِصِفَةٍ وُجُودِيَّةٍ حَقِيقَةٍ تَقُومُ بِهَا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ الْمَعَانِي .
فَكَذَلِكَ كَوْنُ الْعِلْمِ عِلْمًا صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ وَحَالَةٌ لَهُ لَيْسَتْ صِفَةً مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ قَائِمَةً بِالْعِلْمِ فَالْقِيَاسُ وَقَعَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ النَّفْسِيَّةِ وَالْحُكْمُ النَّفْسِيُّ لَا بِصِفَةٍ وُجُودِيَّةٍ وَكَذَلِكَ
الْقَوْلُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْحَيَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ وَإِذَا كَانَ الْقِيَاسُ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ وَهُوَ حُكْمٌ نَفْسِيٌّ وَحَالَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ فَالسَّلْبُ الَّذِي فِي الْآيَةِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمِثْلِيَّةَ مَنْفِيَّةٌ بَيْنَ الذَّاتِ وَجَمِيعِ الذَّوَاتِ .
وَكُلُّ صِفَةٍ لَهُ تَعَالَى وَبَيْنَ جَمِيعِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي أَمْرٍ وُجُودِيٍّ فَإِنَّهُ لَا صِفَةَ وُجُودِيَّةً مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَخَلْقِهِ أَلْبَتَّةَ بَلْ الشَّرِكَةُ إنَّمَا وَقَعَتْ فِي أُمُورٍ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ كَالْأَحْوَالِ وَالْأَحْكَامِ وَالنِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ كَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَالْقَبْلِيَّةِ وَالْبَعْدِيَّةِ وَالْمَعِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ أَمَّا فِي صِفَةٍ وُجُودِيَّةٍ فَلَا فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ قِيَاسِ الشَّاهِدِ عَلَى الْغَائِبِ وَبَيْنَ نَفْيِ الْمُشَابَهَةِ وَبُسِطَ هَذَا فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ وَقَدْ بَسَطْته فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ وَأَوْرَدْت هَذَا السُّؤَالَ وَأَجَبْت عَنْهُ هُنَالِكَ مَبْسُوطًا فَهَذَا الْقِسْمُ وَنَحْوُهُ لَا يَجِبُ التَّوْحِيدُ فِيهِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ إجْمَاعًا فَيَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ وَمُرِيدٌ وَحَيٌّ وَمَوْجُودٌ وَمُخْبِرٌ وَسَمِيعٌ وَبَصِيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ فِي اللَّفْظِ بَلْ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى عَامٍّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ .
قَالَ ( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجِبُ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ مِنْ التَّعْظِيمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَجِبُ تَوْحِيدُهُ تَعَالَى بِهِ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ ( الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى عَدَمِ التَّوْحِيدِ فِيهِ وَالتَّوَحُّدُ كَتَوْحِيدِهِ تَعَالَى بِالْوُجُودِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِهِمَا إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ تَقُولَ إنَّ الْوُجُودَ هُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودِ أَوْ غَيْرُهُ فَإِنْ قُلْت بِالْأَوَّلِ لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِعَدَمِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَحُّدِ مِنْ حَيْثُ إنَّ وُجُودَ الْبَارِي تَعَالَى عَيْنُ ذَاتِهِ وَوُجُودُ غَيْرِهِ عَيْنُ ذَاتِهِ وَالْغَيْرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدٌ بِذَاتِهِ غَيْرُ مُشَارَكٍ فِيهَا فَلَا يَصِحُّ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَحُّدِ عَلَى هَذَا بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ الْخَارِجِ عَنْ الذِّهْنِ .
وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ الْأَمْرِ الذِّهْنِيِّ فَلَا يَصِحُّ عَلَى ذَلِكَ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَحُّدِ لِلْخِلَافِ فِي الْأَمْرِ الذِّهْنِيِّ وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَمْرِ الثَّانِي فَلَا يَصِحُّ أَيْضًا الْقَوْلُ بِعَدَمِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَحُّدِ مِنْ حَيْثُ إنَّ وُجُودَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَيْرَيْنِ يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِإِنْكَارِ الْحَالِ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْحَالِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُقَالَ إنَّ الْحَالَ هِيَ الْأَمْرُ الذِّهْنِيُّ أَوْ لَا فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لَمْ يَصِحَّ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَحُّدِ لِلْخِلَافِ فِي الْأَمْرِ الذِّهْنِيِّ وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِعَدَمِ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَحُّدِ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَيْرَيْنِ بِحَالِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْوُجُودِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَوْلَا الشَّرِكَةُ فِي أُصُولِ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ لَتَعَذَّرَ عَلَيْنَا قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ
مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرِكَةَ فِي أُصُولِ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ لَمْ تَثْبُتْ فَيَتَعَذَّرُ قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ أَوْرَدَهُ وَارِدٌ وَجَوَابُهُ بِالْتِزَامِ بُطْلَانِ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَعَدَمِ تَعَذُّرِ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ لِإِثْبَاتِهَا قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَمَا أَجَابَ هُوَ بِهِ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ لَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْأَحْوَالِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الصِّفَاتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ فِي الْقِسْمِ بَعْدَهُ صَحِيحٌ
( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجِبُ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ مِنْ التَّعْظِيمِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَجِبُ تَوْحِيدُهُ بِهِ ) تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّعْظِيمِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) وَاجِبٌ إجْمَاعًا وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ النَّوْعُ الْأَوَّلُ عِبَادَةٌ كَالصَّلَوَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَالصَّوْمِ عَلَى اخْتِلَافِ رُتَبِهِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَالنَّذْرِ وَالْحَجِّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ( وَالنَّوْعُ الثَّانِي ) صِفَاتُ الْأَفْعَالِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَتَوَحُّدَهُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ وَأَنَّ مَا أُضِيفَ مِنْهَا لِغَيْرِهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ فِي كَلَامِهِ تَعَالَى كَإِخْبَارِهِ تَعَالَى عَنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ أَوْ فِي كَلَامِنَا كَقَوْلِنَا قَتَلَهُ السُّمُّ وَأَحْرَقَتْهُ النَّارُ وَأَرْوَاهُ الْمَاءُ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ غَيْرَهُ تَعَالَى فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةً بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبَطَ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا كَمَا شَاءَ وَأَرَادَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَسْبَابُ أَسْبَابًا عَادِيَّةً لِمُسَبِّبَاتِهَا كَمَا فِي سَبَبِيَّةِ السُّمِّ لِلْقَتْلِ وَالنَّارِ لِلْإِحْرَاقِ وَالْمَاءِ لِلْإِرْوَاءِ أَوْ أَسْبَابًا غَيْرَ عَادِيَّةٍ لِمُسَبِّبَاتِهَا كَمَا فِي إرَادَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ .
وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا يَظْهَرُ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ عِنْدَ إرَادَةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ أَوْ الْوَلِيِّ وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى لَمْ يَرْبِطْهَا وَهُوَ الْخَالِقُ حَقِيقَةً لِمُسَبِّبَاتِهَا عِنْدَ وُجُودِهَا لَا أَنَّ تِلْكَ
الْأَسْبَابَ هِيَ الْمُوجِدَةُ حَقِيقَةً قُلْت وَذَكَرَ شَيْخُ شُيُوخِنَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ السَّيِّدُ أَحْمَدُ دَخْلَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رِسَالَةٍ لَهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الْآيَةَ أَنَّ لِرَبْطِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا حِكَمًا وَمَصَالِحَ كَثِيرَةً مِنْهَا أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ إذَا تَحَمَّلُوا الْمَشَقَّةَ فِي الْحَرْثِ وَالْغَرْسِ طَلَبًا لِلثَّمَرَاتِ وَكَدُّوا أَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَمَّا احْتَاجُوا إلَى تَحَمُّلِ هَذِهِ الْمَشَاقِّ لِطَلَبِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَأَنْ يَحْتَاجُوا إلَى تَحَمُّلِ مَشَاقِّ الطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ أَقَلُّ مِنْ مَشَاقِّ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى لِأَنَّ مَشَاقَّ الطَّاعَةِ تُثْمِرُ الْمَنَافِعَ الْأُخْرَوِيَّةَ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ الدُّنْيَوِيَّةِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ بِتَوَقُّفِ الشِّفَاءِ عَلَى الدَّوَاءِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لِيَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ إذَا تَحَمَّلَ مَرَارَةَ الْأَدْوِيَةِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمَرَضِ فَلَأَنْ يَتَحَمَّلَ مَشَاقَّ التَّكْلِيفِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْعِقَابِ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَمِنْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ خَلَقَ الْمُسَبَّبَاتِ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ وَسَائِطِ أَسْبَابِهَا لَحَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِاسْتِنَادِهَا إلَى الْقَادِرِ الْحَكِيمِ وَذَلِكَ كَالْمُنَافِي لِلتَّكْلِيفِ وَالِابْتِلَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى كَافِرٌ وَلَا جَاحِدٌ حِينَئِذٍ فَلَمَّا خَلَقَهَا بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ ظَهَرَتْ حِكْمَةُ التَّكْلِيفِ وَالِابْتِلَاءِ وَتَمَيَّزَتْ الْفُرْقَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِالشَّقَاءِ عَنْ الْفُرْقَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالشَّقَاءِ لِأَنَّ الْمُهْتَدِيَ يَفْتَقِرُ فِي اسْتِنَادِهَا إلَى الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ إلَى نَظَرٍ دَقِيقٍ وَفِكْرٍ غَامِضٍ فَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ وَلِهَذَا قِيلَ لَوْلَا الْأَسْبَابُ لَمَا ارْتَابَ مُرْتَابٌ وَمِنْهَا أَنَّهُ يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ وَأُولِي
الِاسْتِبْصَارِ عِبَرٌ فِي ذَلِكَ وَأَفْكَارٌ صَائِبَةٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا إلَّا الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ .
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَاتِّصَافِهِ بِالْكَمَالَاتِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِأَنْوَاعٍ إنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ وَكَانَ عِلْمُ الْإِنْسَانِ بِأَحْوَالِ نَفْسِهِ أَظْهَرَ مِنْ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ غَيْرِهِ قَدَّمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهَا دَلَائِلَ الْأَنْفُسِ عَلَى دَلَائِلِ الْآفَاقِ وَمِنْ دَلَائِلِ الْأَنْفُسِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ ثُمَّ ذِكْرُ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ بِقَوْلِهِ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .
وَمِنْ دَلَائِلِ الْآفَاقِ الْأَرْضُ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ السَّمَاءِ وَمَعْرِفَتُهُ بِحَالِهَا أَكْثَرُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِحَالِ السَّمَاءِ وَقَدَّمَ ذِكْرَ السَّمَاءِ عَلَى ذِكْرِ الْمَاءِ وَخُرُوجِ الثَّمَرَاتِ بِسَبَبِ الْمَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالْأَثَرِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْأَثَرُ مُتَأَثِّرٌ عَنْ الْمُؤَثِّرِ وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الزَّنَادِقَةِ أَنْكَرَ الصَّانِعَ عِنْدَ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ هَلْ رَكِبْت الْبَحْرَ قَالَ نَعَمْ قَالَ هَلْ رَأَيْت أَهْوَالَهُ قَالَ نَعَمْ هَاجَتْ يَوْمًا رِيَاحٌ هَائِلَةٌ فَكَسَّرَتْ السُّفُنَ وَأَغْرَقَتْ الْمَلَّاحِينَ فَتَعَلَّقْت بِبَعْضِ أَلْوَاحِهَا ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي ذَلِكَ اللَّوْحُ فَإِذَا أَنَا مَدْفُوعٌ فِي تَلَاطُمِ الْأَمْوَاجِ حَتَّى دُفِعْت إلَى السَّاحِلِ فَقَالَ جَعْفَرٌ قَدْ كَانَ اعْتِمَادُك مَنْ قَبْلُ عَلَى السَّفِينَةِ وَالْمَلَّاحِ وَاللَّوْحِ بِأَنَّهُ يُنْجِيَك فَلَمَّا ذَهَبَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ عَنْك هَلْ أَسْلَمْت نَفْسَك لِلْهَلَاكِ أَمْ كُنْت تَرْجُو السَّلَامَةَ بَعْدَهُ قَالَ بَلْ رَجَوْت السَّلَامَةَ قَالَ مِمَّنْ تَرْجُوهَا فَسَكَتَ الرَّجُلُ فَقَالَ جَعْفَرٌ إنَّ الصَّانِعَ هُوَ الَّذِي تَرْجُوهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَهُوَ الَّذِي أَنْجَاك مِنْ الْغَرَقِ فَأَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِهِ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمْ لَك مِنْ آلَةٍ قَالَ عَشَرَةٌ قَالَ فَمَنْ نَعَّمَك وَكَرَّمَك وَرَفَعَ الْأَمْرَ الْعَظِيمَ إذَا نَزَلَ بِك مِنْ جُمْلَتِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا لَك مِنْ إلَهٍ إلَّا اللَّهُ } .
وَكَانَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَيْفًا عَلَى الدَّهْرِيَّةِ وَكَانُوا يَنْتَهِزُونَ الْفُرْصَةَ لِيَقْتُلُوهُ فَبَيْنَمَا هُوَ قَاعِدٌ فِي مَسْجِدِهِ إذْ هَجَمَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ بِأَيْدِيهِمْ سُيُوفٌ مَسْلُولَةٌ وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ فَقَالَ لَهُمْ أَجِيبُونِي عَلَى مَسْأَلَةٍ ثُمَّ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَالُوا لَهُ هَاتِ فَقَالَ مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ يَقُولُ لَكُمْ إنِّي رَأَيْت سَفِينَةً مَشْحُونَةً بِالْأَحْمَالِ مَمْلُوءَةً بِالْأَثْقَالِ قَدْ احْتَوَشَتْهَا فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ أَمْوَاجٌ مُتَلَاطِمَةٌ وَرِيَاحٌ مُخْتَلِفَةٌ وَهِيَ مِنْ بَيْنِهَا تَجْرِي مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا مَلَّاحٌ يُجْرِيهَا وَلَا مُدَبِّرٌ يُدَبِّرُ أَمْرَهَا هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ قَالُوا لَا هَذَا شَيْءٌ لَا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَا سُبْحَانَ اللَّهِ إذَا لَمْ يُجَوِّزْ الْعَقْلُ سَفِينَةً تَجْرِي مِنْ غَيْرِ مَلَّاحٍ يُدِيرُهَا فِي جَرَيَانِهَا فَكَيْفَ يُجَوِّزُ قِيَامَ هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا وَتَغَيُّرِ أَعْمَالِهَا وَسَعَةِ أَطْرَافِهَا مِنْ غَيْرِ صَانِعٍ وَحَافِظٍ فَبَكَوْا جَمِيعًا وَقَالُوا صَدَقْت وَأَغْمَدُوا سُيُوفَهُمْ وَتَابُوا .
وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الدَّهْرِيَّةِ سَأَلَ الْإِمَامَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا الدَّلِيلُ عَلَى الصَّانِعِ فَقَالَ وَرَقَةُ الْفِرْصَادِ أَيْ التُّوتِ طَعْمُهَا وَاحِدٌ وَلَوْنُهَا وَاحِدٌ وَرِيحُهَا وَاحِدٌ وَطَبْعُهَا وَاحِدٌ عِنْدَكُمْ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَتَأْكُلُهَا دُودَةُ الْقَزِّ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْإِبْرَيْسَمُ وَتَأْكُلُهَا النَّحْلُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْعَسَلُ وَتَأْكُلُهَا الشَّاةُ فَيَخْرُجُ مِنْهَا الْبَعْرُ وَتَأْكُلُهَا الظَّبْيَةُ فَيَنْعَقِدُ فِي نَوَافِجِهَا الْمِسْكُ فَمَنْ الَّذِي جَعَلَهَا كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ الطَّبْعَ وَاحِدٌ فَاسْتَحْسَنُوا ذَلِكَ وَآمَنُوا
عَلَى يَدِهِ وَكَانُوا سَبْعَةَ عَشَرَ ا هـ .
الْمُرَادُ فَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِلْمُمْكِنَاتِ وَلِلْعِبَادِ وَأَفْعَالِهِمْ جَمِيعًا قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ عَبْدُ السَّلَامِ عَلَى جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ وَلَيْسَ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ إلَّا مُجَرَّدُ الْمُقَارَنَةِ كَالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ مَعَهَا لَا بِهَا وَلَيْسَ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى بِآلَةٍ خِلَافًا لِقَوْلِ ابْنِ عَرَبِيٍّ لِلْعَبْدِ آلَةٌ وَالْعَبْدُ آلَةٌ لِفِعْلِ الرَّبِّ ذَكَرَهُ فِي وَمَا رَمَيْت أَيْ إيجَابًا إذْ رَمَيْت كَسْبًا فَلَا تَنَاقُضَ وَمَعَ أَنَّ الْفِعْلَ لَهُ تَعَالَى فَالْأَدَبُ أَنْ لَا يُنْسَبَ لَهُ إلَّا الْحَسَنُ بِإِشَارَةِ { مَا أَصَابَك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَك مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِك } وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ كَسْبًا بِدَلِيلِ الْأُخْرَى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَيْ خَلْقًا وَانْظُرْ لِقَوْلِ الْخَضِرِ { فَأَرَدْت أَنْ أَعِيبَهَا } مَعَ قَوْلِهِ { فَأَرَادَ رَبُّك أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } .
( وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ ) اسْتِحْقَاقُ الْعِبَادَةِ وَالْآلِهِيَّةِ وَعُمُومُ تَعَلُّقِ صِفَاتِهِ تَعَالَى فَيَتَعَلَّقُ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَإِرَادَتُهُ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَبَصَرُهُ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الْبَاقِيَاتِ وَالْفَانِيَاتِ وَسَمْعُهُ بِجَمِيعِ الْأَصْوَاتِ وَخَبَرُهُ بِجَمِيعِ الْمُخْبَرَاتِ ( فَتَوْحِيدُهُ تَعَالَى ) فِي هَذَا وَنَحْوِهِ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ لَا مُشَارَكَةَ لِأَحَدٍ فِيهِ ( وَالنَّوْعُ الرَّابِعُ ) كُلُّ لَفْظٍ أُشْهِرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً كَلَفْظِ اللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَلَفْظِ تَبَارَكَ فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى فَلَا يُسَمَّى بِاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ غَيْرُهُ تَعَالَى وَتَقُولُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَلَا تَقُولُ تَبَارَكَ زَيْدٌ قُلْت وَإِطْلَاقُ بَنِي حَنِيفَةَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ رَحْمَنَ الْيَمَامَةِ وَقَالَ شَاعِرُهُمْ : عَلَوْت بِالْمَجْدِ يَا ابْنَ الْأَكْرَمَيْنِ أَبًا وَأَنْتَ غَيْثُ الْوَرَى لَا زِلْت رَحْمَانَا قَالَ الصَّبَّانُ فِي رِسَالَتِهِ الْبَيَانِيَّةِ
أَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ تَفَنُّنِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ قَالَ الْمُحَقِّقُ الْمَحَلِّيُّ إلَّا أَنَّ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ غَيْرُ صَحِيحٍ دَعَاهُمْ إلَيْهِ لَجَاجُهُمْ فِي كُفْرِهِمْ بِزَعْمِهِمْ نُبُوَّةَ مُسَيْلِمَةَ دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا لَوْ اسْتَعْمَلَ كَافِرٌ لَفْظَةَ اللَّهِ فِي فِي غَيْرِ الْبَارِي مِنْ آلِهَتِهِمْ .
ا هـ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَيْ فَخَرَجُوا بِمُبَالَغَتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ عَنْ مَنْهَجِ اللُّغَةِ حَيْثُ اسْتَعْمَلُوا الْمُخْتَصَّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِهِ .
ا هـ قَالَ الْأُنْبَابِيُّ وَقَدْ عَارَضَ شَاعِرَهُمْ ابْنُ جَمَاعَةَ بِقَوْلِهِ : عَلَوْت بِالْكِذْبِ يَا ابْنَ الْأَخْبَثَيْنِ أَبًا وَأَنْتَ مُغْوِي الْوَرَى لَا زِلْت شَيْطَانَا قَالَ وَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ الْأَعْلَامُ لَمْ يَقُولُوا مَا ذُكِرَ كَمَا لَا يَخْفَى إلَّا بِالْوُقُوفِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ لُغَةً وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاشْتِرَاطِ الْوَضْعِ عَدَمَ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اخْتِصَاصَ الْمُشْتَقِّ بِشَيْءٍ بِحَيْثُ يَكُونُ إطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَاسِدًا لُغَةً وَإِنْ قَامَ مَبْدَأُ الِاشْتِقَاقِ بِذَلِكَ الْغَيْرِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِاشْتِرَاطِ الْوَاضِعِ أَنَّ هَذَا الْمُشْتَقَّ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فِي ذَاتِهِ لَكِنْ حَيْثُ نَقَلَ الْأَئِمَّةُ الْمَوْثُوقُ بِهِمْ اخْتِصَاصَهُ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِمْ وَلَا عِبْرَةَ بِالْبُعْدِ كَمَا لَا يَخْفَى وَدَعْوَى سَمِّ عَدَمَ الدَّلِيلِ عَلَى الِاشْتِرَاطِ لَا تُسْمَعُ وَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ كَوْنِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ أَخَذُوا عَنْ الْعَرَبِ مُشَافَهَةً أَوْ بِوَاسِطَةٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ الرَّحْمَنِ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى وَهُوَ دَلِيلُ اشْتِرَاطِ الْوَضْعِ فَإِنَّ مَا يَحْكُمُ بِهِ الْعَرَبِيُّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ بِمُقْتَضَى مَا يَعْلَمُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ حُكْمِ الْوَاضِعِ كَمَا لَا يَخْفَى وَكَوْنُ الْعَرَبِيِّ يَخْرُجُ بِتَعَنُّتِهِ عَنْ اللُّغَةِ وَيُكَابِرُ فِيهَا مِمَّا لَا يُشَكُّ فِيهِ .
فَالْحَقُّ هُوَ الْجَزْمُ
بِخَطَأِ بَنِي حَنِيفَةَ فِي إطْلَاقِ الرَّحْمَنِ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى وَمَا أَفَادَهُ قَوْلُ الْجَلَالِ الْمَحَلِّيِّ كَمَا لَوْ اسْتَعْمَلَ كَافِرٌ لَفْظَةَ اللَّهِ إلَخْ مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالِ لُغَةً لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا مُسَلَّمٌ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُ التَّجَوُّزِ فِي الْأَعْلَامِ لِأَنَّ سَبِيلَ هَذَا أَيْضًا نَقْلُ الْأَئِمَّةِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ فَلَفْظُ الْجَلَالَةِ مُسْتَثْنًى بِلَا شُبْهَةٍ فَلَا مَحَلَّ لِهَذَا الْإِشْكَالِ وَلَا لِدَعْوَى عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَاضِعِ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى وَلَا لِدَعْوَى أَنَّهُ يَصِحُّ جَوَازُ إطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى مَجَازًا بِعِلَّةِ أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُ التَّجَوُّزِ فِي الْأَعْلَامِ .
وَكَذَا لَا مَحَلَّ لِدَعْوَى أَنَّ الْمُخْتَصَّ بِهِ تَعَالَى الْمُعَرَّفَ بِأَلْ دُونَ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو { لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهَهُ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ بِكِتَابَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إلَّا صَاحِبَ الْيَمَامَةِ } وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُطْلِقُونَهُ مُعَرَّفًا وَمُنَكَّرًا فَلَا تَنْفَعُ هَذِهِ الدَّعْوَى وَكَذَا لَا مَحَلَّ لِدَعْوَى أَنَّ الِاخْتِصَاصَ شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ وَدَعْوَى أَنَّهُ لَا إشْكَالَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ شَرْعِيٌّ دُونَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لُغَوِيٌّ عَلِمْت مَا فِيهَا وَأَنَّ الْوَاقِعَ عَكْسُ ذَلِكَ وَعَلِمْت أَنَّ دَعْوَى أَنَّ عِلَّةَ اخْتِصَاصِهِ هِيَ كَوْنُ مَعْنَاهُ الْمُنْعِمَ الْحَقِيقِيَّ الْبَالِغَ مِنْ الْإِنْعَامِ غَايَتَهُ أَوْ الْمُنْعِمَ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ وَذَلِكَ لَا يَصْدُقُ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى الْمُقْتَضِي أَنَّ الِاخْتِصَاصَ شَرْعِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ لَا تَصِحُّ إذْ لَا وَجْهَ لِرَدِّ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الِاطِّلَاع عَلَى دَلِيلِهِمْ فَالْحَقُّ أَنَّ مَنْعَ إطْلَاقِ الرَّحْمَنِ عَلَى غَيْرِهِ تَعَالَى لُغَوِيٌّ وَشَرْعِيٌّ وَأَنَّهُ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ لَهُ ا
هـ .
أَيْ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الرَّحْمَةِ وَهِيَ وَرِقَّةُ الْقَلْبِ مُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى فَالْمُرَادُ مِنْهَا لَازِمُهَا وَهُوَ إرَادَةُ الْإِحْسَانِ أَوْ الْإِحْسَانُ ( الْقِسْمُ الثَّانِي ) قَالَ الْأَصْلُ مَا لَا يَجِبُ التَّوْحِيدُ وَالتَّوَحُّدُ بِهِ كَتَوْحِيدِهِ بِالْوُجُودِ لِأَنَّهُ إمَّا عَيْنُ الْمَوْجُودِ أَوْ غَيْرُهُ وَمَفْهُومُهُ عَلَى الثَّانِي مُشْتَرَكٌ فِيهِ خَارِجًا وَعَلَى الْأَوَّلِ مُشْتَرَكٌ فِيهِ ذِهْنًا لَا خَارِجًا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِنَا وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ نَفْسُ مَاهِيَّتِه أَنَّهُ نَفْسُهَا فِي الْخَارِجِ وَأَمَّا فِي الذِّهْنِ فَنَتَصَوَّرُ مِنْ مَعْنَاهُ مَعْنًى عَامًّا يَشْمَلُ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ وَالْوُجُودَ الْمُمْكِنَ فَوَقَعَتْ الشَّرِكَةُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الذِّهْنِيَّةِ فَلَمْ يَقَعْ التَّوْحِيدُ فِي أَصْلِ الْوُجُودِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَكَتَوْحِيدِهِ بِالْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ وَأَنْوَاعِهِ مِنْ الطَّلَبِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِثُبُوتِ الشَّرِكَةِ فِي أُصُولِ هَذِهِ الْمَفْهُومَاتِ وَإِلَّا فَقِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ بِغَيْرِ مُشْتَرَكٍ مُتَعَذِّرٌ إذْ لَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْمُبَايِنِ عَلَى مُبَايِنِهِ وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ قِيَاسٌ لِلْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ مُسْتَنَدُهَا وَكَوْنُ السَّلْبِ فِي قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } عَامًّا فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَإِنْ أَوْرَدَهُ الْفُضَلَاءُ لَا يُرَدُّ لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ صِحَّةِ سَلْبِ الْمِثْلِيَّةِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْآيَةِ وَبَيْنَ صِحَّةِ الْقِيَاسِ بِكَوْنِ السَّلْبِ بِاعْتِبَارِ مَعَانِي تِلْكَ الصِّفَاتِ وَالْقِيَاسُ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِ مَعَانِيهَا النَّفْسَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ وَلَا مَوْجُودَةٍ وَلَا مَعْدُومَةٍ .
فَكَمَا نَقُولُ كَوْنُ السَّوَادِ سَوَادًا وَكَوْنُ الْبَيَاضِ بَيَاضًا حَالَةٌ لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ وَلَا مَوْجُودَةٍ وَلَا مَعْدُومَةٍ فَلَيْسَ خُصُوصُ السَّوَادِ بِاَلَّذِي
امْتَازَ بِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْرَاضِ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِالسَّوَادِ بَلْ السَّوَادُ فِي نَفْسِهِ بَسِيطٌ لَا تَرْكِيبَ فِيهِ وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْخَارِجِ لَيْسَ لَهَا صِفَةٌ بَلْ يُوصَفُ بِهَا وَلَا تُوصَفُ بِصِفَةٍ وُجُودِيَّةٍ حَقِيقَةً تَقُومُ بِهَا وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ الْمَعَانِي كَذَلِكَ تَقُولُ كَوْنُ الْعِلْمِ عِلْمًا صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ وَحَالَةٌ لَهُ لَيْسَتْ صِفَةً مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ قَائِمَةً بِالْعِلْمِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْحَيَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ بَقِيَّةِ الصِّفَاتِ فَالْقِيَاسُ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالْغَائِبِ هُوَ حُكْمٌ نَفْسِيٌّ وَحَالَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ وَمَعْنَى السَّلْبِ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمِثْلِيَّةَ مَنْفِيَّةٌ بَيْنَ الذَّاتِ وَجَمِيعِ الذَّوَاتِ وَبَيْنَ كُلِّ صِفَةٍ لَهُ تَعَالَى وَجَمِيعِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي أَمْرٍ وُجُودِيٍّ إذْ لَا صِفَةَ وُجُودِيَّةً مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَخَلْقِهِ أَلْبَتَّةَ بَلْ الشِّرْكَةُ إنَّمَا وَقَعَتْ فِي أُمُورٍ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ كَالْأَحْوَالِ وَالْأَحْكَامِ وَالنِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ كَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَالْقَبْلِيَّةِ وَالْبَعْدِيَّةِ وَالْمَعِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ ا هـ مُلَخَّصًا .
وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّاطِّ ( أَوَّلًا ) بِأَنَّ عَدَمَ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَحُّدِ إجْمَاعًا لَا يَصِحُّ لَا عَلَى أَنَّ الْوُجُودَ عَيْنُ الْمَوْجُودِ لِأَنَّهُ إمَّا بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ فَيَخْتَصُّ كُلٌّ مِنْ الْبَارِي تَعَالَى وَغَيْرِهِ بِوُجُودٍ مُنْفَرِدٍ بِذَاتِهِ غَيْرَ مُشَارَكٍ فِيهِ وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ فَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي وُجُودِهِ ضِمْنَ أَفْرَادِهِ كَمَا مَرَّ وَلَا عَلَى أَنَّ الْوُجُودَ غَيْرُ الْمَوْجُودِ لِأَنَّهُ إمَّا عَلَى إنْكَارِ الْحَالِ فَيَخْتَصُّ كُلٌّ مِنْ الْبَارِي تَعَالَى وَغَيْرِهِ بِوُجُودِهِ وَإِمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْحَالِ فَإِمَّا عَلَى أَنَّ الْحَالَ هُوَ الْأَمْرُ الذِّهْنِيُّ فَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي
وُجُودِهِ ضِمْنَ إفْرَادِهِ كَمَا مَرَّ .
وَأَمَّا عَلَى أَنَّ الْحَالَ هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي لَهُ ثُبُوتٌ فِي نَفْسِهِ وَفِي مَحَلِّهِ فَيَخْتَصُّ كُلٌّ مِنْ الْبَارِي تَعَالَى وَغَيْرِهِ بِحَالِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْوُجُودِ ( وَثَانِيًا ) بِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي أُصُولِ مَفْهُومَاتِ الْعِلْمِ وَمَا مَعَهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي كَنُطْقِ الْعِلْمِ مَثَلًا بَيْنَ عِلْمِهِ تَعَالَى وَعِلْمِ غَيْرِهِ لَمْ يَثْبُتْ فَيَتَعَذَّرُ قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ بَلْ عَلَى فَرْضِ ثُبُوتِهَا وَعَدَمِ التَّعَذُّرِ نَلْتَزِمُ بُطْلَانَ قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ بِمَنْعِ اللُّزُومِ فِي نَحْوِ قَوْلِنَا لَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْكَلَامِ مَثَلًا لَزِمَ النَّقْصُ لِإِمْكَانِ أَنَّهُ نَقْصٌ فِي الشَّاهِدِ عِنْدَنَا فَقَطْ كَعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْوَلَدِ فَيَنْدَفِعُ مَا أَوْرَدَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِنَاءً عَلَى تَسْلِيمِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ وَلَا نُسَلِّمُ تَعَذُّرَ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ بِبُطْلَانِهِ إذْ لَا يَتَعَيَّنُ مُسْتَنَدًا لِإِثْبَاتِهَا فَلَا حَاجَةَ لِلْجَوَابِ عَنْ الْإِيرَادِ الْمَذْكُورِ بِمَا لَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْأَحْوَالِ وَالْحَقُّ خِلَافُهُ ا هـ بِتَلْخِيصٍ وَتَوْضِيحٍ لِلْمُرَادِ .
قُلْت وَقَوْلُهُ إذْ لَا يَتَعَيَّنُ مُسْتَنَدًا لِإِثْبَاتِهَا أَيْ فَإِنَّهَا قَدْ تَثْبُتُ بِوُرُودِ إطْلَاقِ مُشْتَقَّاتِهَا عَلَيْهِ تَعَالَى وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ مَعَ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ وَجَمِيعُ الْعُقَلَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْمَذْكُورِ نَعَمْ فِي الْأَمِيرِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ وَفِي الْخَيَالِيِّ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُشْتَقِّ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمَأْخَذِ فِي السَّعْدِ إنْ أَرَادُوا اقْتِضَاءَ ثُبُوتِ الْمَأْخَذِ فِي نَفْسِهِ بِحَسَبِ الْخَارِجِ فَمَنْقُوضٌ بِمِثْلِ الْوَاجِبِ وَالْمَوْجُودِ أَيْ مِمَّا لَا يَقْتَضِي الْغَيْرِيَّةَ وَإِنْ أَرَادُوا ثُبُوتَهُ لِمَوْصُوفِهِ بِمَعْنَى إنْصَافِهِ بِهِ فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ غَرَضُهُمْ .
قَالَ الْأَمِيرُ وَقَوْلُ عَبْدِ الْحَكِيمِ فِي دَفْعِ النَّقْضِ قِيلَ فَرَّقَ لِأَنَّ الْمَأْخَذَ أَيْ فِي صِفَاتِ
الْمَعَانِي تُثْبِتُ غَيْرِيَّتَهُ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْغَيْرِيَّةَ لَمْ تَثْبُتْ فِي حَقِّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْخَصْمِ وَفِي الْخَيَالِيِّ قَالَ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ لَا تَثْبُتُ فِي غَيْرِ الْإِضَافَةِ وَفِي عَبْدِ الْحَكَمِ عَلَيْهِ مَا نَصُّهُ بِالْحَرْفِ قَالَ صَاحِبُ الْمَوَاقِفِ إلَّا حُجَّةً عَلَى ثُبُوتِ أَمْرٍ سِوَى الْإِضَافَةِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا الْعَالِمُ عَالِمًا وَالْمَعْلُومُ مَعْلُومًا قَالَ الْمُحَقِّقُ الدَّوَانِيُّ فِي شَرْحِ الْعَقَائِدِ الْعَضُدِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّ مَسْأَلَةَ زِيَادَةِ الصِّفَاتِ وَعَدَمِ زِيَادَتِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا تَكْفِيرُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَقَدْ سَمِعْت بَعْضَ الْأَصْفِيَاءِ أَنَّهُ قَالَ عِنْدِي إنَّ زِيَادَةَ الصِّفَاتِ وَعَدَمَهَا وَأَمْثَالَهُمَا لَا يُدْرَكُ إلَّا بِكَشْفٍ حَقِيقِيٍّ لِلْعَارِفِينَ وَأَمَّا مَنْ تَمَرَّنَ فِي الِاسْتِدْلَالِ فَإِنْ اتَّفَقَ لَهُ كَشْفٌ فَإِنَّمَا يَرَى مَا كَانَ غَالِبًا عَلَى اعْتِقَادِهِ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْفِكْرِيِّ وَلَا أَرَى بَأْسًا فِي اعْتِقَادِ أَحَدِ طَرَفَيْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ا هـ .
قَالَ الْأَمِيرُ وَلَوْ اُخْتِيرَ الْوَقْفُ لَكَانَ أَنْسَبَ وَأَسْلَمَ مِنْ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَاذَا عَلَى الشَّخْصِ إذَا لَقِيَ رَبَّهُ جَازِمًا بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ مُفَوِّضًا عِلْمَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ إلَيْهِ لَكِنْ اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ كَلَامُ الْجَمَاعَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ : وَهَلْ أَنَا إلَّا مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ .
غَوَيْت وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدْ قَالَ وَقَالَ الشَّعْرَانِيُّ فِي الْيَوَاقِيتِ يَتَلَخَّصُ مِنْ جَمِيعِ كَلَامِ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّ الصِّفَاتِ عَيْنٌ لَا غَيْنٌ كَشْفًا وَيَقِينًا وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَوْلَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ا هـ .
ثُمَّ قَالَ الْأَمِيرُ بَعْدَ أَوْرَاقٍ قَالَ الشَّمْسُ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي الصَّحَائِفِ وَالْخِلَافُ فِي كَوْنِ صِفَاتِ الْمَعَانِي
لَيْسَتْ بِغَيْرِ الذَّاتِ كَمَا لِلْجُمْهُورِ أَوْ غَيْرِهَا نَظَرًا لِلْمَفْهُومِ وَزِيَادَةِ الْوُجُودِ وَإِنْ لَمْ تَنْفَكَّ كَمَا لِبَعْضِهِمْ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ وَلِكَوْنِ الصِّفَاتِ لَيْسَتْ غَيْرَ أَوْقَعَ فِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ التَّسَمُّحُ بِإِضَافَةِ مَا لِلذَّاتِ لَهَا نَحْوُ تَوَاضَعَ كُلُّ شَيْءٍ لِقُدْرَتِهِ وَفِي الْحَقِيقَةِ اللَّامُ لِلْأَجْلِ أَيْ تَوَاضَعَ كُلُّ شَيْءٍ لِذَاتِهِ لِأَجْلِ قُدْرَتِهِ وَإِلَّا فَعِبَادَةُ مُجَرَّدِ الصِّفَاتِ مِنْ الْإِشْرَاكِ كَمَا أَنَّ عِبَادَةَ مُجَرَّدِ الذَّاتِ فِسْقٌ وَتَعْطِيلٌ عِنْدَ الْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا الذَّاتُ الْمُتَّصِفَةُ بِالصِّفَاتِ وَفِي الْحَقِيقَةِ الذَّاتُ مِنْ حَيْثُ هِيَ ذَاتٌ لَا سَبِيلَ لَهَا وَإِنَّمَا حَضْرَتُهَا وَحْدَةٌ مَحْضَةٌ حَتَّى قَالُوا إنَّ فِي قَوْلِهِمْ فِي الذَّاتِ تَسَمُّحًا لِأَنَّ بِتَجَلِّيهَا يَتَلَاشَى مَا سِوَاهَا وَإِنَّمَا الْآثَارُ مَمْسُوكَةٌ بِالصِّفَاتِ فَكَيْفَ تُنْفَى وَإِذَا وَصَلَ الْعَارِفُ لِوَحْدَةِ الْوُجُودِ فِي الْكَوْنِ فَلَا يُتَوَقَّفُ فِي التَّوْحِيدِ مَعَ ثُبُوتِ الصِّفَاتِ وَلَا يُعْقَلُ افْتِقَارٌ فِي ذَاتٍ اتَّصَفَتْ بِالْكَمَالَاتِ فَلَا تَغْتَرَّ بِمَا سَبَقَ عَنْ الشَّيْخِ الْأَكْبَرِ يَعْنِي قَوْلَهُ فِي بَابِ الْأَسْرَارِ بِنَاءً عَلَى مَيْلِهِ لِنَفْيِ زِيَادَةِ الصِّفَاتِ مِنْ الْأَدَبِ أَنْ تُسَمَّى الصِّفَاتُ أَسْمَاءً لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وَمَا قَالَ فَصِفُوهُ بِهَا فَمَنْ عَرَفَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ الْمُمْكِنَةِ لِلْعَالِمِ سَمَّاهُ وَلَمْ يَصِفْهُ قَالَ وَلَمْ يَرِدْ لَنَا خَبَرٌ فِي الصِّفَاتِ إلَى أَنْ قَالَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { سُبْحَانَ رَبِّك رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } فَنَزَّهَ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ الصِّفَةِ لَا عَنْ الِاسْمِ فَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِالِاسْمِ لَا بِالصِّفَةِ كَمَا فِي يَوَاقِيتِ الشَّعْرَانِيِّ أَوَاخِرَ الْمَبْحَثِ الْحَادِي عَشَرَ فَتَأَمَّلْ بِتَدْقِيقٍ فَهُوَ غَايَةُ التَّحْقِيقِ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَجِبُ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ أَمْ لَا فَهَذَا هُوَ التَّعْظِيمُ بِالْقَسَمِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقْسِمَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ مِنْ التَّعْظِيمِ الَّذِي وَجَبَ التَّوْحِيدُ فِيهِ أَوْ لَا يَجُوزُ فَيَكُونُ مِنْ التَّعْظِيمِ الَّذِي وَجَبَ التَّوْحِيدُ فِيهِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي سِيقَ الْفَرْقُ لِأَجْلِهِ لِأَنَّهُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ فَقَالَ الشَّيْخُ الْفَقِيهُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ هُوَ مُبَاحٌ كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَبِصِفَاتِهِ الْعُلَا وَمُحَرَّمٌ كَالْحَلِفِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْحَلِفَ تَعْظِيمٌ وَتَعْظِيمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا وَأَقَلُّهُ التَّحْرِيمُ وَمَكْرُوهٌ وَهُوَ الْحَلِفُ بِمَا عَدَا ذَلِكَ .
وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِمَا فِي مُسْلِمٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } وَمِنْ الْمَكْرُوهِ الْحَلِفُ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِالْكَعْبَةِ وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَمْنُوعٌ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الْحَلِفِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِهَا مِنْ الصِّفَاتِ السَّبْعَةِ فَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ وَلُزُومُ الْكَفَّارَةِ فِي ذَلِكَ إذَا حَنِثَ وَقَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَرَاهَةُ فِي لَعَمْرُ اللَّهِ وَأَمَانَةِ اللَّهِ وَإِنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ وَالْمُصْحَفِ لَيْسَ بِيَمِينٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ فِي الْجَوَاهِرِ لَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِصِفَاتِ
اللَّهِ الْفِعْلِيَّةِ كَالرِّزْقِ وَالْخَلْقِ وَلَا يَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَلِفِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدِيمَةِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ بَلَى وَعِزَّتِك لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِك فَإِنْ قُلْت فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ السَّائِلِ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ { أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ } فَقَدْ حَلَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَبِي الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ قُلْت قَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْمُوَطَّإِ بَلْ أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ فَلَنَا مَنْعُهَا عَلَى الْخِلَافِ فِي زِيَادَةِ الْعَدْلِ فِي رِوَايَتِهِ أَوْ نُجِيبُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ قَالَهُ صَاحِبُ الِاسْتِذْكَارِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَوْ نَقُولُ هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ تَوْطِئَةِ الْكَلَامِ لَا الْحَلِفَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ قَاتَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَشْجَعَهُ وَلَا يُرِيدُونَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ بَلْ تَوْطِئَةَ الْكَلَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { تَرِبَتْ يَدَاك وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ } وَلَمْ يُرِدْ الدُّعَاءَ عَلَيْهَا بِالْفَقْرِ الَّذِي يُكَنَّى بِالْإِلْصَاقِ بِالتُّرَابِ تَقُولُ الْعَرَبُ الْتَصَقَتْ يَدُهُ بِالْأَرْضِ وَبِالتُّرَابِ إذَا افْتَقَرَ بَلْ أَرَادَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَوْطِئَةَ الْكَلَامِ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ الْقَسَمُ الْمُخْتَلِفُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فِي الْحَلِفِ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهُ غَيْرَهُ بِأَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِ بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ بِأَنْ يَقُولَ بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْك أَوْ بِحُرْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ إلَّا غَفَرْت لَنَا أَوْ بِحَقِّ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ إلَّا سَتَرْت عَلَيْنَا أَوْ بِحُرْمَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَالطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ إلَّا هَدَيْتنَا هَدْيَهُمْ وَسَلَكْت بِنَا سَبِيلَهُمْ فَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ
فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَوْ يَمْتَنِعُ لِأَنَّهُ قَسَمٌ وَتَعْظِيمُ الْقَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَوَقَّفَ فِي هَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَرُجِّحَ عِنْدَهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِهِ وَقَالَ الْكُلُّ قَسَمٌ وَتَعْظِيمٌ فَإِنْ قُلْت قَدْ حَلَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَكَيْفَ يُخْتَلَفُ فِي الْجَوَازِ مَعَ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ مُتَكَرِّرًا .
قُلْت : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْوَاقِعِ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : فِيهِ كُلُّهُ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَقْسِمُ بِرَبِّ الشَّمْسِ أُقْسِمُ بِرَبِّ التِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَكَذَا الْبَوَاقِي فَمَا وَقَعَ الْحَلِفُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى دُونَ خَلْقِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّمَا أَقَسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا تَنْبِيهًا لِعِبَادِهِ عَلَى عَظَمَتِهَا عِنْدَهُ فَيُعَظِّمُونَهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحَجْرِ عَلَى الْخَلْقِ فِي شَيْءٍ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ الْحَجْرُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ الْمَلِكُ الْمَالِكُ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَأْمُرُ بِمَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ وَلَا نَكِيرٍ فَيُحَرِّمُ عَلَى عِبَادِهِ مَا يَشَاءُ وَلَا يَحْرُمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَإِنْ قُلْت إذَا قُلْنَا بِالْحَلِفِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَعْنَوِيَّةِ كَالْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهِمَا فَهَلْ الْقُرْآنُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَسَائِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ ؟ أَمْ لَيْسَ كَذَلِكَ قُلْت قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَتْ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى النَّفْسِيِّ مِنْهَا لِاشْتِهَارِ لَفْظِ الْقُرْآنِ فِي الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ عُرْفًا وَأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْقُرْآنِ إلَّا هَذِهِ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتُ وَالْحُرُوفُ مَخْلُوقَةٌ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ اللَّفْظُ إلَيْهَا وَالْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةً فَلَا يَجِبُ بِالْحَلِفِ بِالْقُرْآنِ كَفَّارَةٌ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الْكُتُبِ وَقَالَ مَالِكٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إذَا حَلَفَ بِالْقُرْآنِ لِانْصِرَافِهِ عِنْدَهُ لِلْكَلَامِ الْقَدِيمِ النَّفْسِيِّ وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّا لَا نَفْهَمُ مِنْ قَبُولِ الْقَائِلِ : الْقُرْآنَ وَهُوَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ ، وَكَتَبَ الْقُرْآنَ إلَّا هَذِهِ الْأَصْوَاتِ وَالرُّقُومَ الْمَكْتُوبَةَ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ فَإِنَّ الْمُسَافَرَةَ مُتَعَذِّرَةٌ بِالْقَدِيمِ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَمِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا لَفْظُ اللَّهِ وَالرَّحْمَنِ فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُمَا عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يُسَمَّى بِهِمَا غَيْرُهُ وَمِنْ ذَلِكَ لَفْظُ تَبَارَكَ فَتَقُولُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَلَا تَقُولُ تَبَارَكَ زَيْدٌ وَكَذَلِكَ كُلُّ لَفْظٍ اُشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مِنْ الْقُرْآنِ وَتَبَارَكَ وَنَحْوُهَا مِمَّا يَقْبَلُ الْحُكْمُ فِيهَا التَّغَيُّرَ إذَا تَغَيَّرَ الْعُرْفُ فَإِذَا جَاءَ عُرْفٌ بِكَوْنِ أَهْلِهِ لَا يُرِيدُونَ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ إلَّا الْكَلَامَ الْقَدِيمَ تَعَيَّنَ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِهِ وَجُوِّزَ الْحَلِفُ بِهِ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْمُرَتَّبَةَ عَلَى الْعَوَائِدِ تَتْبَعُ الْعَوَائِدَ وَتَتَغَيَّرُ عِنْدَ تُغَيِّرُهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهَذَا تَلْخِيصُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجِبُ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَتَوَحُّدُهُ وَبَيْنَ مَا لَا يَجِبُ
( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا اخْتَلَفَ فِي وُجُوبِ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَعَدَمِ وُجُوبِهِ مِنْ التَّعْظِيمِ بِالْقَسَمِ أَوْ الْإِقْسَامِ ( وَهَذَا الْقِسْمُ ) هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ فَلِأَجْلِهِ سِيقَ الْفَرْقُ أَمَّا الْقَسَمُ فَفِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ لِحَفِيدِ بْنِ رُشْدٍ مَعَ زِيَادَتِهِ مِنْ الْأَصْلِ اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ مِنْهَا مَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يُقْسَمَ بِهِ وَمِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ بِهِ وَاخْتَلَفُوا أَيُّ الْأَشْيَاءِ هِيَ الْمُتَّصِفَةِ بِالْجَوَازِ وَالْمُتَّصِفَةُ بِعَدَمِهِ فَقَالَ قَوْمٌ إنَّ الْحَلِفَ الْمُبَاحَ فِي الشَّرْعِ هُوَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ وَأَنَّ الْحَالِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ عَاصٍ وَعَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ اللَّخْمِيِّ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَمْنُوعٌ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى ا هـ .
وَقَالَ قَوْمٌ بَلْ يَجُوزُ الْحَلِفُ بِكُلِّ مُعَظَّمٍ بِالشَّرْعِ وَعَلَيْهِ قَوْلُ أَبِي الْوَلِيدِ بْنِ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْحَلِفُ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَرَّمٌ لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ وَتَعْظِيمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا وَأَقَلُّهُ التَّحْرِيمُ وَبِمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ كَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْكَعْبَةِ وَالْآبَاءِ مَكْرُوهٌ ا هـ .
وَقَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْأَيْمَانَ الْمُبَاحَةَ هِيَ الْأَيْمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى اتَّفَقُوا عَلَى إبَاحَةِ الْأَيْمَانِ بِأَسْمَائِهِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَيْمَانِ الَّتِي بِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُعَظَّمَةِ بِالشَّرْعِ أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ حَيْثُ حَلَفَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ السَّائِلِ عَمَّا يَجِبُ
عَلَيْهِ { أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إنْ صَدَقَ } فَقَدْ حَلَفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَبِي الْأَعْرَابِيِّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مُعَارِضَانِ لِمَا فِي مُسْلِمٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُت } فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ إمَّا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَرَبِّ النَّجْمِ وَرَبِّ السَّمَاءِ وَالطَّارِقِ .
وَكَذَا الْبَوَاقِي فَمَا وَقَعَ الْحَلِفُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى دُونَ خَلْقِهِ وَإِمَّا أَنَّ إقْسَامَهُ تَعَالَى بِهَا تَنْبِيهٌ لِعِبَادِهِ عَلَى عَظَمَتِهَا عِنْدَهُ فَيُعَظِّمُونَهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحَجْرِ عَلَى الْخَلْقِ فِي شَيْءٍ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ الْحَجْرُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ الْمَلِكُ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَأْمُرُ بِمَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ وَلَا نَكِيرٍ فَيُحَرِّمُ عَلَى عِبَادِهِ مَا يَشَاءُ دُونَ أَنْ يُحَرِّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ إمَّا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ وَإِمَّا أَنَّ لَفْظَةَ وَأَبِيهِ فِيهِ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا الْحَلِفُ بَلْ التَّوْطِئَةُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِمْ قَاتَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا أَشْجَعَهُ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { تَرِبَتْ يَدَاك وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ } فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَرَبَ لَمْ يُرِيدُوا الدُّعَاءَ بِالْقَتْلِ وَلَا بِالْفَقْرِ الَّذِي يَكُنِّي عَنْهُ بِالْإِلْصَاقِ بِالتُّرَابِ تَقُولُ الْعَرَبُ الْتَصَقَتْ يَدُهُ بِالْأَرْضِ وَبِالتُّرَابِ إذَا افْتَقَرَ وَإِنَّمَا أَرَادُوا تَوْطِئَةَ الْكَلَامِ أَوْ إنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْمُوَطَّإِ وَإِنَّمَا فِيهِ أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ فِي رِوَايَتِهِ اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِهَا قَالَ الْأَيْمَانُ الْمُبَاحَةُ هِيَ الْحَلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ الْمَقْصُودُ بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ إنَّمَا هُوَ أَنْ لَا يُعَظِّمَ مَنْ
لَمْ يُعَظِّمْ الشَّرْعُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِيهِ { أَلَا إنَّ اللَّهَ نَهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ } وَأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ أَجَازَ الْحَلِفَ بِكُلِّ مُعَظَّمٍ فِي الشَّرْعِ فِي سَبَبِ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي بِنَاءِ الْآيَةِ وَحَدِيثِ مُسْلِمٍ ا هـ .
وَعَلَى الْجَمْعِ الْأَوَّلِ اقْتَصَرَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ حَيْثُ قَالَ فِي ضَوْءِ الشُّمُوعِ عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْمَجْمُوعِ وَحَرُمَ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ مَا نَصُّهُ وَإِقْسَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّجْمِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ وَبِأَسْرَارِهِ الَّتِي يَعْلَمُهَا فِي أَفْعَالِهِ تَنْبِيهًا عَلَى عَظَمَتِهَا وَلِسَرَيَانِ سِرِّ الْحَقِّ فِيهَا مِنْ غَيْرِ حُلُولٍ وَلَا اتِّحَادٍ فَإِنَّهَا مَظَاهِرُهُ مَعَ تَنَزُّهِهِ كَمَا يُعْلَمُ وَنَحْنُ لِوُقُوفِنَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَحَبْسِنَا مَعَ غَيْرِيَّتِهَا نُهِينَا وَلَمَّا ذَاقَ مَنْ ذَاقَ شَيْئًا مِنْ وَحْدَةِ الْوُجُودِ فَأَطْلَقَ لِسَانَهُ حَصَلَ لَهُ مَا حَصَلَ وَلِذَلِكَ يُشِيرُ { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ سَرَيَانَ سِرِّ الْحَقِّ فِيهَا وَأَنَّهَا مَظَاهِرُهُ وَلَمَّا كَانَ هُوَ الْعَالِمُ بِذَلِكَ أَقْسَمَ تَارَةً بِهَا وَتَارَةً بِفَاعِلِيَّتِهِ لَهَا فَقَالَ { وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } وَتَارَةً جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } .
وَلِلَّهِ دَرُّ الْجُزُولِيِّ حَيْثُ قَالَ فِي الْأَقْسَامِ الاستعطافية فِي دَلَائِلِ الْخَيْرَاتِ وَبِالِاسْمِ الَّذِي وَضَعْته عَلَى اللَّيْلِ فَأَظْلَمَ وَعَلَى النَّهَارِ فَاسْتَنَارَ إلَى مَا آخِرِ مَا قَالَ فَالْوَضْعُ مَعْنَوِيٌّ أَيْ إنَّ هَذِهِ مَظَاهِرُ تَجَلِّيهِ وَنُكْتَةٌ أُخْرَى إنَّمَا نُهِينَا عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي حَلِفِهِمْ بِأَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ وَهَذَا فِي إقْسَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ عَلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَدِّرُ
مُضَافًا أَيْ وَرَبِّ النَّجْمِ وَلِلزَّمَخْشَرِيِ أَنَّ ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ حَقِيقَةِ الْقَسَمِ إلَى مُجَرَّدِ تَوْكِيدِ الْكَلَامِ وَحَمَلَ الْقَرَافِيُّ عَلَى ذَلِكَ { قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَهُ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ لَا أَنْقُصُ وَلَا أَزِيدُ أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ وَأَبِيهِ } نَظِيرُ قَوْلِهِ لِعَائِشَةَ تَرِبَتْ يَمِينُك وَقَوْلِهِمْ قَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَكْرَمَهُ اُنْظُرْ ح ا هـ .
وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَنْعِ الْحَلِفِ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَبِأَفْعَالِهِ فَهُوَ كَمَا فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَنَّهُ هَلْ يُقْتَصَرُ بِحَدِيثِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا جَاءَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ فِيهِ بِالِاسْمِ فَلَا يَتَعَدَّاهُ إلَى الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ أَوْ يَتَعَدَّاهُ إلَيْهِمَا لَكِنْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ فِي الْحَدِيثِ بِالِاسْمِ فَقَطْ جُمُودٌ كَثِيرٌ وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَإِنْ كَانَ مَرْوِيًّا فِي الْمَذْهَبِ حَكَاهُ اللَّخْمِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ فَالْقَوْلُ بِمَنْعِ الْحَلِفِ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَبِأَفْعَالِهِ ضَعِيفٌ وَالْقَوْلُ بِجَوَازِهِ بِصِفَاتِ الْمَعَانِي السَّبْعَةِ كَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ وَلُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا مَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ بَلَى وَعِزَّتِك لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِك ا هـ .
وَأَمَّا الْحَلِفُ بِصِفَاتِ الْأَفْعَالِ فَفِي الْمَجْمُوعِ وَشَرْحِهِ وَحَاشِيَتِهِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْيَمِينَ لَا يَنْعَقِدُ بِنَحْوِ الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُلَاحَظَ الْمَذْهَبُ الْمَاتُرِيدِيُّ وَهُوَ أَنَّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ قَدِيمَةٌ تَرْجِعُ إلَى صِفَةِ التَّكْوِينِ أَوْ يُرِيدُ مَصْدَرَهَا وَمُنْشَأَهَا وَهُوَ الْقُدْرَةُ أَوْ الِاقْتِدَارُ الرَّاجِعُ لِلصِّفَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ أَيْ كَوْنُهُ قَادِرًا إذْ الْمَعْنَوِيَّةُ يَنْعَقِدُ بِهَا جَزْمًا وَلَا عِبْرَةَ بِتَنْظِيرِ ابْنِ
عَرَفَةَ فِيهَا فَقَدْ رَدَّهُ تِلْمِيذُهُ الْأَبِيُّ كَمَا فِي الرَّمَاصِيِّ وَالْبَنَّانِيِّ وَلَا نَظَرَ إلَى كَوْنِهَا لَيْسَتْ مَعَانِيَ مَوْجُودَةً خِلَافًا لِلْبُنَانِيِّ تَبَعًا لِابْنِ عَاشِرٍ فِي عَدَمِ الِانْعِقَادِ بِالسُّلُوبِ لِذَلِكَ فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ بِالصِّفَةِ النَّفْسِيَّةِ وَلَيْسَتْ مَعْنًى مَوْجُودًا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ وُجُودَ صِفَاتِ الْمَعَانِي أَعْنِي كَوْنَهَا مَعْنًى مَوْجُودًا فِيهِ خِلَافٌ طَوِيلٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَرْقِ وَإِنْ قَالَ بِهِ الْمُحَقِّقُونَ نَعَمْ نَظَرَ عج فِي غَيْرِ الْقِدَمِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ مِنْ صِفَاتِ السُّلُوبِ لَكِنْ اسْتَظْهَرَ شَيْخُنَا الِانْعِقَادَ أَيْ لِأَنَّ مَنْ أَنْكَرَهَا يَكْفُرُ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ بِمُخَالَفَتِهِ لِلْحَوَادِثِ لَا بِمُخَالَفَةِ الْحَوَادِثِ لَهُ عَلَى الظَّاهِرِ وَإِنْ تَلَازَمَا لِأَنَّ الْمُلَاحَظَ فِي الْأَوَّلِ ارْتِفَاعُ مَجْدِهِ وَتَقَدُّسِهِ عَنْ مُشَابَهَتِهِمْ وَهُوَ صِفَةٌ لَهُ وَفِي الثَّانِي انْحِطَاطُهُمْ عَنْ مُشَابَهَتِهِ وَقُصُورِهِمْ عَنْهَا وَهُوَ لَيْسَ صِفَةً ا هـ .
وَمَا فِي الْجَوَاهِرِ لِلشَّيْخِ جَلَالِ الدِّينِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِصِفَةِ الْفِعْلِ وَلَا يَجِبُ فِيهِ كَفَّارَةٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ أُمُورٌ اعْتِبَارِيَّةٌ تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْمَقْدُورِ وَأَنَّهَا حَادِثَةٌ كَمَا يَقُولُ الْأَشَاعِرَةُ وَبِالْجُمْلَةِ فَصِفَاتُ اللَّهِ وَأَسْمَاؤُهُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَنْعَقِدُ الْقَسَمُ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إرَادَةٍ وَنَوْعٌ لَا يَنْعَقِدُ الْقَسَمُ بِذَاتِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إرَادَةٍ وَسَيَأْتِي فِي الْفَرْقِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا الْفَرْقِ تَوْضِيحُ النَّوْعَيْنِ فَتَرَقَّبْ .
( وَأَمَّا الْإِقْسَامُ ) أَيْ الْحَلِفُ عَلَيْهِ تَعَالَى بِغَيْرِهِ مِنْ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ بِأَنْ يُقَالَ بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْك أَوْ بِحُرْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ إلَّا غَفَرْت لَنَا أَوْ بِحَقِّ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ إلَّا سَتَرْت عَلَيْنَا أَوْ بِحُرْمَةِ الْبَيْتِ
الْحَرَامِ وَالطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ إلَّا هَدَيْتنَا هَدْيَهُمْ وَسَلَكْت بِنَا سَبِيلَهُمْ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ لِوُرُودِهِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَمَنْعِهِ لِأَنَّهُ قَسَمٌ وَتَعْظِيمٌ بِالْقَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ تَوَقَّفَ فِي هَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَرُجِّحَ عِنْدَهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِهِ وَقَالَ الْكُلُّ قَسَمٌ وَتَعْظِيمٌ قُلْت وَفِي حَاشِيَةِ الشَّيْخِ عَلَيَّ الْعَدَوِيِّ عَلَى الْخَرَشِيِّ فِي بَابِ الْيَمِينِ .
وَأَمَّا التَّوَسُّلُ بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ فَجَائِزَةٌ وَأَمَّا الْإِقْسَامُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ بِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ كَقَوْلِهِ يَعْنِي الدَّاعِي بِحَقِّ مُحَمَّدٍ اغْفِرْ لَنَا فَخَاصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا هـ .
يَعْنِي إذَا لَاحَظَ الدَّاعِي جَعْلَ الْبَاءِ لِلْقَسَمِ وَإِلَّا كَانَ تَوَسُّلًا لَا إقْسَامًا يَشْهَدُ لِذَلِكَ أَمْرَانِ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ وَأَمَّا الْإِقْسَامُ إلَى آخِرِهِ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ عَلَيَّ الْأُجْهُورِيِّ فِي فَتَاوِيهِ مِنْ أَنَّ الْعِزَّ بْنَ عَبْدِ السَّلَامِ قَالَ إنْ صَحَّ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ بَعْضَ النَّاسِ الدُّعَاءَ فَقَالَ لَهُ فِي أَوَّلِهِ قُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أُقْسِمُ عَلَيْك بِنَبِيِّك مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَنْ لَا يُقْسَمَ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِي دَرَجَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا هـ .
وَخَالَفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَاسْتَدَلَّ بِمَا يَدُلُّ لَهُ بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ لِجَوَازِ التَّوَسُّلِ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ غَيْرُ الْإِقْسَامِ وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْحَطَّابُ ا هـ .
كَلَامُ الْأُجْهُورِيِّ وَتَبِعَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي قَوْلِهِ بِجَوَازِ الْإِقْسَامِ بِغَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَلَّامَةَ
ابْنَ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْعُبَابِ كَمَا يُعْلَمُ بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا نُقِلَ عَنْ فُقَهَاءِ الْأَحْنَافِ مِنْ تَحْرِيمِ قَوْلِ الدَّاعِي بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَبِحَقِّ فُلَانٍ ا هـ .
فَمَحْمُولٌ إمَّا عَلَى مُلَاحَظَةِ الدَّاعِي الْإِقْسَامَ أَوْ قَصْدِهِ الْحَقَّ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ تَعْلِيلِهِمْ بِقَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ عَلَى اللَّهِ أَمَّا إذَا لَاحَظَ بِهِ التَّوَسُّلَ أَوْ قَصْدَ الْحَقِّ بِمَعْنَى الرُّتْبَةِ وَالْمَنْزِلَةِ لَدَيْهِ تَعَالَى أَوْ الْحَقَّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ عَلَى الْخَلْقِ وَعَلَيْهِ بِفَضْلِهِ لِلْخَلْقِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ قَالَ فَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَوْلُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي جَوَازِ التَّوَسُّلِ .
وَمَا رَوَاهُ زَرُّوقٌ عَنْ مَالِكٍ مِنْ كَرَاهَةِ التَّوَسُّلِ فَإِنَّمَا يَصِحُّ بِحَمْلِ الْكَرَاهَةِ عَلَى التَّحْرِيمِيَّةِ وَالتَّوَسُّلِ عَلَى الْإِقْسَامِ إذْ لَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى ذَلِكَ لَعَارَضَهُ مَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ جَعْفَرٌ الْمَنْصُورُ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقَبْرِ حِينَ الدُّعَاءِ أَوْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ قَالَ لَهُ وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ قَبْلَك بَلْ اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ بِهِ فَيُشَفِّعُهُ اللَّهُ فِيك قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } الْآيَةَ قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْجَوْهَرِ الْمُنَظَّمِ رِوَايَةُ ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ جَاءَتْ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا مَطْعَنَ فِيهِ وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الزَّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَوَاهِبِ وَرَوَاهَا ابْنُ فَهْدٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَرَوَاهَا الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ لَيْسَ فِي إسْنَادِهَا وَضَّاعٌ وَلَا كَذَّابٌ عَلَى أَنَّهَا قَدْ عُضِّدَتْ بِجَرَيَانِ الْعَمَلِ وَبِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي جَوَازِ التَّوَسُّلِ الَّتِي يُعَضِّدُ بَعْضُهَا
بَعْضًا وَبِظَاهِرِ اسْتِسْقَاءِ عُمَرَ بِالْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَلْ مِمَّا يُعَيِّنُ حَمْلَ رِوَايَةِ زَرُّوقٍ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَا ذَكَرُوا وَبُطْلَانَهَا رَأْسًا أَنَّ زَرُّوقًا نَفْسَهُ فِي شَرْحِهِ لِحِزْبِ الْبَحْرِ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَخْيَارِ اللَّهُمَّ إنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِهِمْ فَإِنَّهُمْ أَحَبُّوك وَمَا أَحَبُّوك حَتَّى أَحْبَبْتهمْ فِيك إيَّاهُمْ وَصَلُوا إلَى حُبِّك وَنَحْنُ لَمْ نَصِلْ إلَى حُبِّهِمْ فِيك فَتَمِّمْ لَنَا ذَلِكَ مَعَ الْعَافِيَةِ الْكَامِلَةِ الشَّامِلَةِ حَتَّى نَلْقَاك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَلَهُ فِي التَّوَسُّلِ قَصِيدَةٌ مَشْهُورَةٌ فَمِنْ هُنَا قَالَ الْعَلَّامَةُ الزَّرْقَانِيُّ عَلَى الْمَوَاهِبِ وَقَوْلُ ابْنِ تَيْمِيَّةَ : وَمَالِكٌ مِنْ أَعْظَمِ الْأَئِمَّةِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ خَطَأٌ قَبِيحٌ فَإِنَّ كُتُبَ الْمَالِكِيَّةِ طَافِحَةٌ بِاسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْقَبْرِ مُسْتَقْبِلًا لَهُ مُسْتَدْبَرًا لِلْقِبْلَةِ وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ فِي مَنْسَكِهِ وَنَقَلَهُ فِي الشِّفَاءِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا يَقِفُ وَوَجْهُهُ إلَى الْقَبْرِ لَا إلَى الْقِبْلَةِ وَيَدْنُو وَيُسَلِّمُ وَلَا يَمَسُّ الْقَبْرَ بِيَدِهِ ا هـ .
فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهَذَا تَحْقِيقُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يَجِبُ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ وَتَوَحُّدُهُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا لَا يَجِبُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا مَدْلُولُهُ قَدِيمٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَيَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا مَدْلُولُهُ حَادِثٌ فَلَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ وَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ انْقَسَمَتْ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَطْلَبِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمٌ عُلِمَ أَنَّ مَدْلُولَهُ قَدِيمٌ كَلَفْظِ اللَّهِ وَنَحْوِهِ وَقِسْمٌ عُلِمَ أَنَّ مَدْلُولَهُ حَادِثٌ كَلَفْظِ الْكَعْبَةِ وَنَحْوِهَا فَهَذَانِ الْقِسْمَانِ لَا يُقْصَدَانِ بِهَذَا الْفَرْقِ لِوُضُوحِهِمَا وَقِسْمٌ مُشْكِلٌ عَلَى أَكْثَرِ الطَّلَبَةِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْفَرْقِ وَهُوَ سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ أَمَانَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ حَلَفَ بِهَا جَازَ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِهَا إذَا حَنِثَ لِأَنَّ أَمَانَتَهُ تَعَالَى تَكْلِيفُهُ وَهُوَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَهُوَ قَدِيمٌ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ } إلَى قَوْلِهِ ظَلُومًا جَهُولًا قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَضَ التَّكَالِيفَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَقَالَ لَهُنَّ إنْ حَمَلْتُنَّ التَّكَالِيفَ وَأَطَعْتُنَّ فَلَكُنَّ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَإِنْ عَصَيْتُنَّ فَعَلَيْكُنَّ الْعَذَابُ الْوَبِيلُ فَقُلْنَ لَا نَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ فَالْتَزَمَ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ جَهُولًا بِالْعَوَاقِبِ فَلَا جَرَمَ هَلَكَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَالْكَلَامُ الْقَدِيمُ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا أَيْضًا يَتْبَعُ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ فَإِذَا جَاءَ عُرْفٌ آخَرُ يُشْتَهَرُ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْأَمَانَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا الَّتِي هِيَ فِعْلُنَا فِي حِفْظِ الْوَدَائِعِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمَانَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا }
وَيَكُونُ ذَلِكَ عُرْفُ قُطْرٍ مِنْ الْأَقْطَارِ الْآنَ فَإِنَّ الْحَلِفَ حِينَئِذٍ بِهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ تَصْرِفُ اللَّفْظَ لِلْأَمَانَةِ الْقَدِيمَةِ لَا يَجُوزُ أَوْ يُكْرَهُ عَلَى الْخِلَافِ .
وَإِذَا كَانَتْ مُشْتَهِرَةً فِي الْقَدِيمِ وَصَرَفَهَا الْحَالِفُ بِالنِّيَّةِ إلَى الْحَادِثِ امْتَنَعَ الْحَلِفُ وَسَقَطَتْ الْكَفَّارَةُ فَهَذَا مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ وَضَابِطُهُ اللَّفْظُ الثَّانِي قَوْلُنَا عَمْرُ اللَّهِ وَلَعَمْرُ اللَّهِ مَعْنَى هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ الْبَقَاءُ فَبَقَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اسْتِمْرَارُ وُجُودِهِ مَعَ الْأَزْمَانِ فَوُجُودُهُ ذَاتُهُ تَعَالَى فَهُوَ قَدِيمٌ يَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ وَتَلْزَمُ بِهِ الْكَفَّارَةُ فَإِنْ قُلْت الْبَقَاءُ وَالْعَمْرُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لِاسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ مَعَ الْأَزْمِنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاسْتِمْرَارُ وُجُودِ الشَّيْءِ مَعَ الْأَزْمِنَةِ نِسْبَةٌ بَيْنَ وُجُودِ الشَّيْءِ وَالزَّمَانِ وَالنِّسْبَةُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ الْحَلِفِ بِعَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ بَقَاؤُهُ وَلُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِهِ لَزِمَنَا أَنْ نَقُولَ بِجَوَازِ الْحَلِفِ بِقِبْلِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبُعْدِيَّتِهِ وَمَعِيَّتِه فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَ كُلِّ حَادِثٍ وَمَعَ كُلِّ حَادِثٍ وَبَعْدَ كُلِّ حَادِثٍ إذَا فَنِيَ ذَلِكَ الْحَادِثُ وَمَا هُوَ قَابِلٌ لِلتَّجَدُّدِ كَالْبَعْدِيَّةِ وَالْمَعِيَّةِ أَوْ الْفِنَاءِ كَالْقَبْلِيَّةِ كَيْفَ يَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ وَكَيْفَ تَلْزَمُ بِهِ كَفَّارَةٌ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي بَقِيَّةِ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ الَّتِي تَعْرِضُ لِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَزُولُ كَالتَّعَلُّقَاتِ فِي الصِّفَاتِ وَغَيْرِهَا قُلْت سُؤَالٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَأَنَا أَقُولُ مَتَى أَرَادَ الْحَالِفُ تِلْكَ النِّسْبَةَ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ لُغَةً امْتَنَعَ وَسَقَطَتْ الْكَفَّارَةُ وَمَتَى نَقَلَهَا الْعُرْفُ إلَى أَمْرٍ وُجُودِيٍّ قَدِيمٍ جَازَ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ .
وَعَلَيْهِ الْعُرْفُ الْيَوْمَ وَهُوَ الَّذِي أَفْتَى بِهِ مَالِكٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَمْرِ وَالْبَقَاءِ الْبَاقِي فَهُوَ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فَإِنْ
تَغَيَّرَ الْعُرْفُ تَغَيَّرَ الْحُكْمُ كَمَا تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا .
قَالَ ( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا مَدْلُولُهُ قَدِيمٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَيَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا مَدْلُولُهُ حَادِثٌ فَلَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ وَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَهَذَانِ الْقِسْمَانِ لَا يُقْصَدَانِ بِهَذَا الْفَرْقِ لِوُضُوحِهِمْ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ ( وَقِسْمٌ مُشْكِلٌ عَلَى أَكْثَرِ الطَّلَبَةِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ وَتَلْزَمُ بِهِ الْكَفَّارَةُ صَحِيحٌ قَالَ ( فَإِنْ قُلْت الْبَقَاءُ وَالْعُمُرُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْأَلْفَاظِ لِاسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ مَعَ الْأَزْمِنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ إلَى آخِرِ مَا أَجَابَ بِهِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ ) قُلْت كَيْفَ يَقُولُ مَتَى أَرَادَ الْحَالِفُ تِلْكَ النِّسْبَةَ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ امْتَنَعَ وَسَقَطَتْ الْكَفَّارَةُ بِنَاءً عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ وَالنِّسْبَةُ عَدَمِيَّةٌ وَقَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ وَفِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ الصِّفَاتِ إنَّ الْوَحْدَانِيَّةَ سَلْبُ الشَّرِيكِ وَاخْتَارَ انْعِقَادَ الْيَمِينِ بِهَا وَكَذَلِكَ اخْتَارَهُ فِي تَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسِهِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِكَوْنِهَا سُلُوبًا قَدِيمَةً فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَلْتَزِمَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْقَبْلِيَّةِ وَالْمَعِيَّةِ وَالْبَعْدِيَّةِ لِكَوْنِهَا أَيْضًا سُلُوبًا قَدِيمَةً لِأَنَّهَا نِسَبٌ وَالنِّسَبُ سُلُوبٌ فَمَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِالْقَوِيِّ عِنْدِي وَلَا بِالصَّحِيحِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمُضَافَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَتَى عُنِيَ بِهَا أَمْرٌ قَدِيمٌ سَوَاءٌ كَانَتْ إثْبَاتًا أَوْ سَلْبًا فَالْيَمِينُ بِهَا مُنْعَقِدَةٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَتَى عُنِيَ بِهَا أَمْرٌ حَادِثٌ فَالْيَمِينُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ بِهَا وَقَصْدُ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ بِهَا هُوَ عُرْفُ الشَّرْعِ وَلَمْ يَحْدُثْ عُرْفٌ يُنَاقِضُهُ فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ لِذَلِكَ .
( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا مَدْلُولُهُ قَدِيمٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَيَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا مَدْلُولُهُ حَادِثٌ فَلَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ وَلَا تَجِبُ بِهِ كَفَّارَةٌ ) الْأَلْفَاظُ بِاعْتِبَارِ جَوَازِ الْحَلِفِ بِهَا وَعَدَمِ جَوَازِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا عُلِمَ أَنَّ مَدْلُولَهُ قَدِيمٌ فَيَجُوزُ وَيَنْعَقِدُ الْقَسَمُ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إرَادَةٍ وَتَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ كَلَفْظِ اللَّهِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى وَإِنْ قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّهَا أَلْفَاظٌ وَهِيَ حَادِثَةٌ وَقَسَّمَهَا الشَّمْسُ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي الصَّحَائِفِ إلَى قَدِيمٍ وَحَادِثٍ وَالْحَادِثُ إلَى مُشْتَقٍّ مِنْ فِعْلِهِ تَعَالَى كَالْخَلَّاقِ الرَّزَّاقِ الْمُحْيِي الْمُمِيتِ وَمُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِنَا كَالْمَعْبُودِ وَالْمَشْكُورِ لِأَنَّ مَعْنَى قِدَمِهَا مَا نَقَلَهُ الْعَلَّامَةُ الْمَلَوِيُّ عَنْ سَيِّدِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيِّ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدِيمِ أَسْمَاءٌ لَهُ هِيَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهَا بِالْقِدَمِ كَمَا أَنَّ مِنْهُ أَمْرًا وَنَهْيًا إلَخْ وَالْمُرَادُ بِالتَّسْمِيَةِ الْقَدِيمَةِ دَلَالَةُ الْكَلَامِ أَزَلًا عَلَى مَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَبْعِيضٍ وَلَا تَجْزِئَةٍ فِي نَفْسِ الْكَلَامِ مَعَ تَفْوِيضِ كُنْهِ ذَلِكَ لَهُ تَعَالَى وَاقْتَصَرُوا فِي أَقْسَامِ الْكَلَامِ الِاعْتِبَارِيَّةِ عَلَى الْأَهَمِّ بِاعْتِبَارِ مَا ظَهَرَ لَهُمْ إذْ ذَاكَ فَلَا يَرِدُ عَدَمُ ذِكْرِهِمْ أَسْمَاءَ مِنْهَا كَيْفَ وَمَدْلُولُهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُصْرِ وَلَيْسَ مَعْنَى الْقِدَمِ هُنَا عَدَمُ الْأَوَّلِيَّةِ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ بَلْ مَعْنَاهُ إنَّهَا مَوْضُوعَةٌ قَبْلَ الْخَلْقِ أَيْ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَهَا لِنَفْسِهِ قَبْلَ إيجَادِنَا ثُمَّ أَلْهَمَهَا لِلنُّورِ الْمُحَمَّدِيِّ ثُمَّ لِلْمَلَائِكَةِ ثُمَّ لِلْخَلْقِ كَمَا فِي الْأَمِيرِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ فَافْهَمْ وَكَالْوُجُودِ وَنَحْوِ الْقُدْرَةِ وَالِاقْتِدَارِ أَيْ
الْكَوْنِ قَادِرًا وَالْقِدَمُ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى النَّفِيسَةِ وَالْمَعَانِي وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ كَمَا مَرَّ عَنْ الْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ ( الْقِسْمُ الثَّانِي ) مَا عُلِمَ أَنَّ مَدْلُولَهُ حَادِثٌ كَلَفْظِ الْكَعْبَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَجُوزُ وَلَا يَنْعَقِدُ الْقَسَمُ بِهِ أَصْلًا قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي ضَوْءِ الشُّمُوعِ .
وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الْأَجْنَبِيَّةُ بِالْمَرَّةِ نَحْوُ وَالْحَيَوَانِ فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَى الصَّحِيحِ وَلَوْ نَوَى بِهِ مَعْنًى قَدِيمًا وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَلَيْسَ كَالطَّلَاقِ إنْ نَوَى بِأَيِّ لَفْظٍ لَزِمَ نَعَمْ إنْ جَعَلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَرَبِّ الْحَيَوَانِ وَلَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِالنِّيَّةِ وَلَا بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ بِالْأَوْلَى مِنْ الطَّلَاقِ ا هـ بِلَفْظِهِ ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) مَا لَمْ يُعْلَمْ قِدَمُ مَدْلُولِهِ وَلَا حُدُوثُهُ فَلَا يَنْعَقِدُ الْحَلِفُ بِذَاتِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِرَادَةِ لِلْمَعْنَى الْقَدِيمِ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَمَا فِي ضَوْءِ الشُّمُوعِ فَافْهَمْ وَهَذَا الْقِسْمُ لِعَدَمِ وُضُوحِهِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْفَرْقِ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْأَصْلُ مِنْ أَلْفَاظِ هَذَا الْقِسْمِ تِسْعَةٌ ( اللَّفْظُ الْأَوَّلُ ) أَمَانَةُ اللَّهِ فَإِنَّهُ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْقَدِيمِ وَهُوَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ الَّذِي هُوَ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ } إلَى قَوْلِهِ ظَلُومًا جَهُولًا قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَضَ التَّكَالِيفَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَقَالَ لَهُنَّ إنْ حَمَلْتُنَّ التَّكَالِيفَ وَأَطَعْتُنَّ فَلَكُنَّ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَإِنْ عَصَيْتُنَّ فَلَكُنَّ الْعَذَابُ الْوَبِيلُ فَقُلْنَ لَا نَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَى الْإِنْسَانِ فَالْتَزَمَ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ جَهُولًا بِالْعَوَاقِبِ فَلَا جَرَمَ هَلَكَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ
وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ وَاحِدٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْحَادِثِ وَهُوَ فِعْلُنَا فِي حِفْظِ الْوَدَائِعِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمَانَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } .
فَيَتْبَعُ الْحَلِفُ بِهِ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ وَقَدْ جَرَى بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْقَدِيمِ الْعُرْفُ فَيَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ وَتَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْحَالِفُ بِهِ الْمَعْنَى الْحَادِثَ فَحِينَئِذٍ يُمْنَعُ الْحَلِفُ بِهِ وَتَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ كَمَا إذَا تَغَيَّرَ الْعُرْفُ وَجَرَى بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْحَادِثِ فِي قُطْرٍ مِنْ الْأَقْطَارِ فَلَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ أَوْ يُكْرَهُ عَلَى الْخِلَافِ وَتَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ الْحَالِفُ الْقَدِيمَ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ الْحَلِفُ بِهِ وَتَلْزَمُ بِالْحِنْثِ الْكَفَّارَةُ وَفِي مَجْمُوعِ الْأَمِيرِ وَشَرْحِهِ انْعِقَادُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ إنْ لَمْ يَنْوِ مَعْنًى حَادِثًا أَيْ مَا جَعَلَهُ بَيْنَ عِبَادِهِ بِأَنْ نَوَى قَدِيمًا أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا ا هـ .
( اللَّفْظُ الثَّانِي ) قَوْلُنَا عَمْرِ اللَّهِ أَوْ لَعَمْرُ اللَّهِ أَفْتَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهِ وَلُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ نَظَرًا لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْقَدِيمِ وَهُوَ بَقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِ السُّلُوبِ الْقَدِيمَةِ فَإِنْ تَغَيَّرَ الْعُرْفُ وَجَرَى بِإِطْلَاقِهِ عَلَى أَمْرٍ حَادِثٍ فِي قُطْرٍ مِنْ الْأَقْطَارِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْيَمِينُ بِهِ بَلْ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي قَبْلِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعِيَّتِه وَبَعْدِيَّته فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبْلَ كُلِّ حَادِثٍ وَمَعَ كُلِّ حَادِثٍ وَبَعْدَ كُلِّ حَادِثٍ إذَا فَنِيَ الْحَادِثُ فَهِيَ نِسَبٌ وَإِضَافَاتٌ وَالنِّسَبُ سُلُوبٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَسْرَارَ الْمُضَافَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَتَى عُنِيَ بِهَا أَمْرٌ قَدِيمٌ سَوَاءٌ كَانَتْ إثْبَاتًا أَوْ سَلْبًا فَالْيَمِينُ بِهَا مُنْعَقِدَةٌ وَمَتَى عُنِيَ بِهَا أَمْرٌ حَادِثٌ
فَالْيَمِينُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ بِهَا وَقَصْدُ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ بِهَا هُوَ عُرْفُ الشَّرْعِ وَلَمْ يَحْدُثْ عُرْفٌ يُنَاقِضُهُ فَيَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قُلْت : وَانْظُرْ قَوْلَهُ وَقَصْدُ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ بِهِ هُوَ عُرْفُ الشَّرْعِ إلَخْ مَعَ مَا سَيَأْتِي لَهُ مِنْ أَنَّ الْعُرْفَ الشَّرْعِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ الْعُرْفُ بِخِلَافِ الْعُرْفِ الزَّمَانِيِّ وَحَرِّرْ .
اللَّفْظُ الثَّالِثُ عَهْدُ اللَّهِ قَالَ مَالِكٌ يَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ وَتَلْزَمُ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَأَصْلُ هَذَا اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ الِالْتِزَامُ وَالْإِلْزَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } مَعْنَاهُ أَوْفُوا بِتَكَالِيفِي أُوفِ لَكُمْ بِثَوَابِي الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَمِنْهُ الْعُهْدَةُ فِي الْبَيْعِ أَيْ مَا يَلْزَمُ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَرَدِّ الثَّمَنِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا } أَيْ بِمَا الْتَزَمُوا وَمِنْهُ عُهْدَةُ الرَّقِيقِ أَيْ مَا يَلْزَمُ فِيهِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي مَوَادِّ الِاسْتِعْمَالِ فَعَهْدُ اللَّهِ تَعَالَى إلْزَامُهُ لِخَلْقِهِ تَكَالِيفَهُ وَإِلْزَامُهُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ كَلَامُهُ الْقَدِيمُ وَكَلَامُهُ الْقَدِيمُ صِفَتُهُ وَصِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ يَجُوزُ الْحَلِفُ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ أُرِيدَ بِعَهْدِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَهْدُ الْحَادِثُ الَّذِي شَرَعَهُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } وَنَحْوِهِ مِنْ الْعُهُودِ الَّتِي بَيْنَ خَلْقِهِ انْدَرَجَ فِي الْحَلِفِ الْمَمْنُوعِ وَسَقَطَتْ الْكَفَّارَةُ .
وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَهَرَ اللَّفْظُ فِيهِ عَادَةً وَعُرْفًا امْتَنَعَ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ حِينَئِذٍ فَإِنْ قُلْت الْإِضَافَةُ تَكْفِي فِيهَا أَدْنَى مُلَابَسَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهَا النُّحَاةُ وَيَكُونُ اللَّفْظُ حَقِيقَةً وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِ أَحَدِ حَامِلِي الْخَشَبَةِ شِلْ طَرَفَك فَجَعَلَ طَرَفَ الْخَشَبَةِ طَرَفًا لِلْحَامِلِ بِسَبَبِ الْمُلَابَسَةِ زَمَنَ الْحَمْلِ وَتَقُولُ حِجُّ الْبَيْتَ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَتَكُونُ الْإِضَافَةُ حَقِيقَةَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَتْ الْإِضَافَةُ حَقِيقِيَّةً وَالْعَهْدُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ صَدَقَتْ فِي قَوْلِنَا عَلَى عَهْدِ اللَّهِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَذَلِكَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ إضَافَةِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَالْعَهْدِ الْحَادِثِ وَالدَّالُّ عَلَى الْأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْأَخَصِّ فَلَا يَدُلُّ قَوْلُنَا عَهْدُ اللَّهِ عَلَى خُصُوصِ
الْقَدِيمِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلْجَوَازِ وَلِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ فَلِمَ قَضَيْتُمْ بِالْجَوَازِ وَلُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِمُجَرَّدِ الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ قُلْت سُؤَالٌ حَسَنٌ قَوِيٌّ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ الْخَاصَّةَ لَمْ نَسْتَفِدْهَا مِنْ مُجَرَّدِ اللُّغَةِ بَلْ بِاشْتِهَارٍ عُرْفِيٍّ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ الْعُرْفُ فِي كُلِّ وَقْتٍ هَلْ هُوَ كَذَلِكَ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ .
وَيَتَحَقَّقُ الْجَوَازُ أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْجَوَازُ وَلَا الْكَفَّارَةُ وَلِأَجْلِ هَذَا التَّرَدُّدِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ الْعَهْدُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ فِي وَاحِدٍ وَتَسْقُطُ فِي اثْنَيْنِ وَيُخْتَلَفُ فِي الرَّابِعِ فَالْأَوَّلُ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَالِاثْنَانِ لَك عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَأُعْطِيك عَهْدَ اللَّهِ وَالرَّابِعُ أُعَاهِدُك اللَّهَ اعْتَبَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَأَسْقَطَهُ ابْنُ شَعْبَانَ قَالَ وَهُوَ أَحْسَنُ وَسَبَبُ هَذَا التَّقْسِيمِ اخْتِلَافُ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَالْأَوَّلُ لَمَّا قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ فَأَشْعَرَتْ لَفْظَةُ عَلَيَّ بِتَكْلِيفِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلْزَامِهِ وَأَنَّ تَكْلِيفَ اللَّهِ تَعَالَى وَاقِعٌ عَلَيْهِ أَوْ مُوَظَّفٌ عَلَيْهِ فَنَاسَبَ اللُّزُومَ كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ الطَّلَاقُ أَيْ يَلْزَمُنِي تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ فَإِنَّ عَلَيَّ مَعْنَاهَا اللُّزُومُ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِشْعَارِ بِالضَّرَرِ وَلِذَلِكَ تَقُولُ شَهِدَ عَلَيْهِ إذَا أَضَرَّ بِهِ وَشَهِدَ لَهُ إذَا نَفَعَهُ وَهَذَا الْقَسَمُ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَأَمَّا لَك عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ فَلَمْ يَلْتَزِمْهُ لِلَّهِ وَلَكِنْ لِلْمَحْلُوفِ لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَأُعْطِيك عَهْدَ اللَّهِ فَهُوَ وَعْدٌ مِنْهُ لِلْمُخَاطَبِ بِأَنَّهُ يُعَاهِدُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَهَذَا الْقَسَمُ أَبْعَدُ عَنْ اللُّزُومِ .
وَأَمَّا الرَّابِعُ وَهُوَ أُعَاهِدُك اللَّهَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَعْنَاهُ
إنْشَاءُ الْمُعَاهَدَةِ وَالْإِلْزَامِ كَإِنْشَاءِ الشَّهَادَةِ بِلَفْظِ الْمُضَارَعَةِ نَحْوُ أَشْهَدُ عِنْدَك بِكَذَا وَإِنْشَاءُ الْقَسَمِ بِالْمُضَارِعِ أَيْضًا نَحْوُ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَعَدَا عَلَى بَابِهِ فَلَا يَلْزَمُ بِهِ شَيْءٌ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ عَنْ الطَّلَاقِ بِغَيْرِ إنْشَاءٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ فَمَنْ لَاحَظَ الْإِنْشَاءَ أَلْزَمَ وَمَنْ لَاحَظَ الْخَبَرَ لَمْ يُلْزِمْ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ وَهُوَ أَحْسَنُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّقْلِ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ .
وَبَقِيَ قِسْمٌ خَامِسٌ لَمْ أَرَهُ لِأَصْحَابِنَا وَهُوَ أَنْ يَقُولَ وَعَهْدِ اللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا بِوَاوِ الْقَسَمِ فَهَذَا قَسَمٌ صَرِيحٌ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْبَغِي أَنْ تَلْزَمَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ قَالَ وَأَمَانَةِ اللَّهِ وَكَفَالَتِهِ وَبَقِيَ فِيهِ إشْكَالُ الْإِضَافَةِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهَلْ الْمُضَافُ الْعَهْدُ الْقَدِيمُ أَوْ الْحَادِثُ فَيَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ عُرْفِيٍّ وَهَذَا الْقِسْمُ عِنْدِي أَصْرَحُ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ فَإِنَّ أَدَاةَ الْقَسَمِ مَفْقُودَةٌ فِيهِ وَإِنَّمَا فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ الْتَزَمَ عَهْدَ اللَّهِ وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُنْذَرُ حَتَّى يَلْتَزِمَ كَقَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ كَذَا وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ الطَّلَاقُ أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي هَلْ هُوَ صَرِيحٌ أَوْ كِنَايَةٌ بِسَبَبِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَلْزَمُ أَحَدًا فَالْإِخْبَارُ عَنْ لُزُومِهِ كَذِبٌ فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا لِلُّزُومِ إلَّا بِإِنْشَاءٍ عُرْفِيٍّ وَنَقْلٍ عَادِيٍّ وَأَمَّا حَرْفُ الْقَسَمِ فَحَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ صَرِيحَةٌ فِي الْقَسَمِ بِقَدِيمٍ أَوْ حَادِثٍ وَإِشْكَالُ الْإِضَافَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ وَامْتَازَ هَذَا بِصَرَاحَةِ الْقَسَمِ
قَالَ ( اللَّفْظُ الثَّالِثُ عَهْدُ اللَّهِ تَعَالَى إلَى قَوْلِهِ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ حِينَئِذٍ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ ( فَإِنْ قُلْت إلَى قَوْلِهِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ ( وَأَمَّا لَك عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّقْلِ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ) قُلْت فِيمَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لَك عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَأُعْطِيك عَهْدُ اللَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجْرِيَ هَذَانِ اللَّفْظَانِ مَجْرَى عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ لِقَرِينَةِ الْحَالِ الْمُشْعِرَةِ بِتَأْكِيدِ الِالْتِزَامِ بِالْيَمِينِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى أُعَاهِدُ اللَّهَ فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ وَتَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي يَقَعُ التَّرَدُّدُ وَأَمَّا الْقَوْلُ بِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِذَيْنِك اللَّفْظَيْنِ فَذَلِكَ ضَعِيفٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ قَالَ ( وَبَقِيَ قِسْمٌ خَامِسٌ لَمْ أَرَهُ لِأَصْحَابِنَا إلَى مُنْتَهَى مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
اللَّفْظُ الثَّالِثُ ) عَهْدُ اللَّهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ الْعَهْدُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ فِي وَاحِدٍ وَهُوَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَسْقُطُ فِي اثْنَيْنِ وَهُمَا لَك عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَأُعْطِيك عَهْدَ اللَّهِ وَيَخْتَلِفُ فِي الرَّابِعِ وَهُوَ أُعَاهِدُك اللَّهَ اعْتَبَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَأَسْقَطَهُ ابْنُ شَعْبَانَ قَالَ وَهُوَ أَحْسَنُ ا هـ .
قَالَ الْأَصْلُ وَبَقِيَ خَامِسٌ وَهُوَ قَوْلُهُ وَعَهْدِ اللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا بِوَاوِ الْقَسَمِ فَهَذَا وَإِنْ لَمْ أَرَهُ لِأَصْحَابِنَا وَكَانَ مُشَارِكًا لِلْأَوَّلِ الَّذِي أَفْتَى مَالِكٌ بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِهِ فِي أَنَّ عَهْدَ اللَّهِ فِيهَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى خُصُوصِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَهُوَ إلْزَامُهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَوْفُوا بِتَكْلِيفِي أُوفِ لَكُمْ بِثَوَابِي الْمَوْعُودِ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَبَيْنَ الْعَهْدِ الْحَادِثِ وَهُوَ الَّذِي شَرَعَهُ لِخَلْقِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا } أَيْ بِمَا الْتَزَمُوهُ وقَوْله تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } وَنَحْوُهُ مِنْ الْعُهُودِ الَّتِي بَيْنَ خَلْقِهِ كَالْعُهْدَةِ فِي الْبَيْعِ أَيْ مَا يَلْزَمُ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَرَدِّ الثَّمَنِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَعُهْدَةِ الرَّقِيقِ أَيْ مَا يَلْزَمُ فِيهِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي مَوْرِدِ الِاسْتِعْمَالِ أُضِيفَ إلَيْهِ تَعَالَى لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَهِيَ مُلَابَسَةُ تَشْرِيعِهِ لِعِبَادِهِ وَقَدْ اتَّفَقَ النُّحَاةُ عَلَى أَنَّهَا إضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ إلَّا أَنَّهُ عِنْدِي قَسَمٌ صَرِيحٌ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَنْبَغِي أَنْ تَلْزَمَ بِهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ قَالَ وَأَمَانَةِ اللَّهِ وَكَفَالَتُهُ بَلْ هَذَا عِنْدِي بِسَبَبِ حَرْفِ الْقَسَمِ
الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ صَرِيحَةٌ فِي إنْشَاءِ الْقَسَمِ ا هـ .
أَصْرَحُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْعَهْدِ الْقَدِيمِ مِنْ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ الَّذِي نَصَّ مَالِكٌ عَلَى لُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِهِ أَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِالْتِزَامِ مَا لَا يُنْذَرُ مِنْ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَالْإِخْبَارُ بِذَلِكَ كَذِبٌ فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ إلَّا بِإِنْشَاءٍ عُرْفِيٍّ وَنَقْلٍ عَادِيٍّ أَلَا تَرَى إلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ الطَّلَاقُ أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي هَلْ هُوَ صَرِيحٌ أَوْ كِنَايَةٌ نَظَرًا لِكَوْنِ الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُ أَحَدًا فَالْإِخْبَارُ عَنْ لُزُومِهِ كَذِبٌ فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا إلَّا بِإِنْشَاءٍ عُرْفِيٍّ وَنَقْلٍ عَادِيٍّ ا هـ مُلَخَّصًا .
وَفِي الْمَجْمُوعِ وَشَرْحِهِ انْعِقَادُ الْيَمِينِ بِعَهْدِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَنْوِ مَعْنًى حَادِثًا أَيْ مَا عَاهَدَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مِنْ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ بِأَنْ نَوَى قَدِيمًا أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَقَوْلُ اللَّخْمِيِّ بِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ لَك عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَأُعْطِيك عَهْدَ اللَّهِ ضَعِيفٌ وَالرَّاجِحُ أَنَّ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَجْرِيَا مَجْرَى عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ لِقَرِينَةِ الْحَالِ الْمُشْعِرَةِ بِتَأْكِيدِ الِالْتِزَامِ بِالْيَمِينِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجْرِيَا مَجْرَى أُعَاهِدُك اللَّهَ فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ وَتَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي يَقَعُ التَّرَدُّدُ ا هـ .
اللَّفْظُ الرَّابِعُ قَوْلُنَا عَلَيَّ ذِمَّةُ اللَّهِ قَالَ مَالِكٌ تَلْزَمُ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَمَعْنَى ذِمَّةِ اللَّهِ تَعَالَى الْتِزَامُهُ لِأَنَّ مَعْنَى الذِّمَّةِ فِي اللُّغَةِ هُوَ هَذَا وَمِنْهُ عَقْدُ الذِّمَّةِ لِلْكُفَّارِ أَيْ الْتِزَامُنَا لَهُمْ عِصْمَةَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَمَا مَعَهَا وَمِنْهُ الذِّمَامُ إذَا وَعَدَهُ وَالْتَزَمَ لَهُ أَنْ لَا يَخْذُلَهُ وَأَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى مَنْ يَقْصِدُهُ بِسُوءٍ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دِينَارٌ وَالْعَقْدُ وَارِدٌ عَلَى الذِّمَّةِ فَإِنَّ الذِّمَّةَ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْنًى مُقَدَّرٌ فِي الْمُكَلَّفِ يَقْبَلُ الْإِلْزَامَ وَالِالْتِزَامَ وَلِذَلِكَ إذَا اتَّصَفَ بَعْدَ الرُّشْدِ بِالسَّفَهِ يُقَالُ خَرِبَتْ ذِمَّتُهُ وَذَهَبَتْ ذِمَّتُهُ وَإِذَا مَاتَ خَرِبَتْ ذِمَّتُهُ أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يُقَدَّرُ لَمْ يَبْقَ مُقَدَّرًا وَتَقُولُ الْعَرَبُ فُلَانٌ يَفِي بِذِمَّتِهِ أَيْ بِمَا الْتَزَمَهُ وَخَفَرَ ذِمَّةَ فُلَانٍ إذَا خَانَهَا وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ لِلْإِخْبَارِ عَنْ الِالْتِزَامِ أَوْ مَعْنَاهُ .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا كَانَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى الْتَزَمَ لَهُ عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ حِفْظَهُ مِنْ الْمَكَارِهِ وَالْتِزَامُ اللَّهِ تَعَالَى رَاجِعٌ إلَى خَبَرِهِ فَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ الْكَلَامِ غَيْرُ نَوْعِ الْعَهْدِ فَإِنَّ الْعَهْدَ يَرْجِعُ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالذِّمَّةُ إلَى الْخَبَرِ وَالْكُلُّ كَلَامٌ نَفْسِيٌّ فَهُمَا نَوْعَانِ مِنْهُ فَافْهَمْ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَسَمُ بِهِ وَذِمَّةِ اللَّهِ بِوَاوِ الْقَسَمِ فَيَكُونُ صَرِيحًا فِي الْقَسَمِ لُغَةً .
وَيَبْقَى إشْكَالُ الْإِضَافَةِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ ذِمَّةَ اللَّهِ تَعَالَى تَصْدُقُ الْمَعْنَى الْقَدِيمَ كَمَا تَقَدَّمَ وَتَصْدُقُ أَيْضًا بِإِضَافَةِ الْمَعْنَى الْمُحْدَثِ إلَيْهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ شَرَعَهُ لِأَنَّ الذِّمَّةَ تَارَةً تَكُونُ مَأْمُورًا بِهَا وُجُوبًا كَعَقْدِ الْجِزْيَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَتَارَةً لَا يُؤْمَرُ بِهَا وُجُوبًا بَلْ نَدْبًا
كَالْتِزَامِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَقَدْ يُخْبِرُنَا فِيهَا مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ وَلَا نَدْبٍ مِنْ قِبَلِهِ كَالْتِزَامِ الْأَثْمَانِ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَةِ فِي الْإِجَارَاتِ وَعَلَى التَّقَادِيرِ الثَّلَاثَةِ فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ مِنْ قِبَلِهِ تَعَالَى فَتُضَافُ إلَيْهِ إضَافَةَ الْمَشْرُوعِيَّةِ كَقَوْلِنَا عِبَادَةُ اللَّهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ وَإِذَا احْتَمَلَتْ الْإِضَافَةُ الْمَعْنَيَيْنِ لَمْ يُقْضَ بِأَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَهَذَا الْإِشْكَالُ قَائِمٌ فِيمَا قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيَّ ذِمَّةُ اللَّهِ مُضَافًا لِعَدَمِ وُجُودِ أَدَاةِ الْقَسَمِ .
وَأَمَّا عَلَيَّ فَإِيجَابُهَا لِلْكَفَّارَةِ مُشْكِلٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ نَقْلٌ عُرْفِيٌّ مِنْ الْإِخْبَارِ إلَى الْقَسَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ عَلَيَّ عِلْمُ اللَّهِ أَوْ عَلَيَّ إرَادَةُ اللَّهِ أَوْ عَلَيَّ بَصَرُ اللَّهِ أَوْ عَلَيَّ سَمْعُ اللَّهِ لَمْ يُتَّجَهْ إيجَابُ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ لَيْسَتْ قَسَمًا وَإِنَّمَا هِيَ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَيْسَ بِقَسَمٍ إجْمَاعًا وَالْإِنْشَاءُ الْعُرْفِيُّ بِغَيْرِ الْقَسَمِ لَا يُوجِبُ كَفَّارَةً فَلَا بُدَّ مِنْ النَّقْلِ عَنْ الْخَبَرِ إلَى إنْشَاءِ الْقَسَمِ وَإِلَّا فَلَا يُتَّجَهُ إلْزَامُ الْكَفَّارَةِ وَاعْتِقَادُ أَنَّ هَذَا يَمِينٌ أَلْبَتَّةَ فَتَأَمَّلْ هَذِهِ التَّنْبِيهَاتِ فَالْفَقِيهُ يَحْتَاجُ إلَيْهَا حَاجَةً شَدِيدَةً فِي الْفِقْهِ وَالْفَتَاوَى وَالْفُرُوقِ وَتَحْرِيرِ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ
قَالَ ( اللَّفْظُ الرَّابِعُ عَلَيَّ ذِمَّةُ اللَّهِ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ ) قُلْت وَالْأَظْهَرُ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَشَبَهِهِ أَنَّهُ إنْشَاءٌ لِلْقَسَمِ عُرْفًا وَلِذَلِكَ رَأَى مَالِكٌ فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
( اللَّفْظُ الرَّابِعُ ) قَوْلُهُ عَلَيَّ ذِمَّةُ اللَّهِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ رَأَى مَالِكٌ فِيهِ الْكَفَّارَةَ نَظَرًا لِكَوْنِهِ وَشَبَهُهُ أَيْ كَعَلَيَّ عِلْمُ اللَّهِ أَوْ عَلَيَّ إرَادَةُ اللَّهِ أَوْ عَلَيَّ بَصَرُ اللَّهِ أَوْ عَلَيَّ سَمْعُ اللَّهِ إنْشَاءٌ لِلْقَسَمِ عُرْفًا ا هـ .
قَالَ الْأَصْلُ وَكَذَا تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ بِقَوْلِهِ وَذِمَّةِ اللَّهِ بِوَاوِ الْقَسَمِ بَلْ هَذَا وَإِنْ شَارَكَ قَوْلَهُ عَلَيَّ ذِمَّةُ اللَّهِ فِي عَدَمِ دَلَالَةِ ذِمَّةِ اللَّهِ فِيهِمَا عَلَى خُصُوصِ الذِّمَّةِ الْقَدِيمَةِ بَلْ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الذِّمَّةِ الْقَدِيمَةِ وَالذِّمَّةِ الْحَادِثَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الذِّمَّةَ لُغَةً الِالْتِزَامُ .
وَالِالْتِزَامُ إمَّا قَدِيمٌ وَهُوَ إخْبَارُهُ تَعَالَى بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ الْقَدِيمِ بِحِفْظِ عَبْدِهِ مِنْ الْمَكَارِهِ الَّذِي عَنَاهُ فِي حَدِيثِ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا كَانَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ الْتَزَمَ لَهُ عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ حِفْظَهُ مِنْ الْمَكَارِهِ فَإِنَّ الْتِزَامَ اللَّهِ تَعَالَى رَاجِعٌ إلَى خَبَرِهِ فَهُوَ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ الْكَلَامِ غَيْرُ نَوْعِ الْعَهْدِ فَإِنَّ الْعَهْدَ يَرْجِعُ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا عَلِمْت وَإِمَّا حَادِثٌ وَهُوَ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِخَلْقِهِ كَعَقْدِ الذِّمَّةِ لِلْكُفَّارِ أَيْ الْتِزَامِنَا لَهُمْ عِصْمَةَ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَمَا مَعَهَا مِمَّا أَمَرَ بِهِ وُجُوبًا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَكَالْتِزَامِ أَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ وُجُوبًا بَلْ نَدْبًا وَكَالْتِزَامِ الْإِنْسَانِ الْأَثْمَانَ فِي الْبِيَاعَاتِ وَالْأَجْرِ فِي الْإِجَارَاتِ مِمَّا يَرْجِعُ لِلْإِخْبَارِ عَنْ الِالْتِزَامِ أَوْ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ فِيهِ وَلَا نَدْبٍ وَمِنْهُ الذِّمَامُ إذَا وَعَدَهُ وَالْتَزَمَ لَهُ أَنْ لَا يَخْذُلَهُ وَأَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى مَنْ يَقْصِدَهُ بِسُوءٍ وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ دِينَارٌ وَالْعَقْدُ وَارِدٌ عَلَى الذِّمَّةِ فَإِنَّ الذِّمَّةَ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْنًى مُقَدَّرٌ فِي الْمُكَلَّفِ يَقْبَلُ الْإِلْزَامَ وَالِالْتِزَامَ
وَلِذَلِكَ إذَا اتَّصَفَ بَعْدَ الرُّشْدِ بِالسَّفَهِ يُقَالُ خَرِبَتْ ذِمَّتُهُ وَذَهَبَتْ ذِمَّتُهُ وَإِذَا مَاتَ خَرِبَتْ ذِمَّتُهُ أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يُقَدَّرُ لَمْ يَبْقَ مُقَدَّرًا أُضِيفَ إلَيْهِ تَعَالَى لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَهِيَ مُلَابَسَةُ تَشْرِيعِهِ لِعِبَادِهِ .
وَقَدْ اتَّفَقَ النُّحَاةُ عَلَى أَنَّهَا إضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ إلَّا أَنَّ هَذَا بِسَبَبِ أَدَاةِ الْقَسَمِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ صَرِيحَةٌ فِي إنْشَاءِ الْقَسَمِ أَصْرَحُ عِنْدِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى إنْشَاءِ الْقَسَمِ بِالذِّمَّةِ الْقَدِيمَةِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيَّ ذِمَّةُ اللَّهِ الَّذِي رَأَى مَالِكٌ فِيهِ الْكَفَّارَةَ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِالْتِزَامِ مَا لَا يُنْذَرُ مِنْ الذِّمَّةِ الْقَدِيمَةِ وَالْإِخْبَارُ بِذَلِكَ كَذِبٌ فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ لَوْلَا ثُبُوتُ نَقْلِهِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ نَحْوِ عَلَيَّ عِلْمُ اللَّهِ عُرْفًا مِنْ الْإِخْبَارِ بِالِالْتِزَامِ إلَى إنْشَاءِ الْقَسَمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ لَيْسَتْ قَسَمًا وَإِنَّمَا هِيَ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَيْسَ بِقَسَمٍ إجْمَاعًا وَالْحَمْلُ عَلَى إنْشَاءِ الْقَسَمِ يَتَوَقَّفُ عَلَى نَقْلِ الصِّيغَةِ عَنْ الْخَبَرِ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا يُتَّجَهُ إلْزَامُ الْكَفَّارَةِ وَاعْتِقَادُ أَنَّ هَذَا يَمِينٌ أَلْبَتَّةَ ا هـ .
اللَّفْظُ الْخَامِسُ كَفَالَةُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ مَالِكٌ إذَا قَالَ عَلَيَّ كَفَالَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَحَنِثَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَمَعْنَى الْكَفَالَةِ لُغَةً الْخَبَرُ الدَّالُّ عَلَى الضَّمَانِ وَهِيَ الْقَبَالَةُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { أَوْ تَأْتِيَ بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا } أَيْ ضَامِنًا وَالْحَمَالَةُ وَالْأَذَانَةُ وَالزَّعَامَةُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى عَنْ مُنَادِي يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٌ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } أَيْ ضَامِنٌ وَالصَّبِيرُ قَالَ صَاحِبُ الْمُقَدِّمَاتِ هِيَ سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ مُتَرَادِفَةٍ الْحَمِيلُ وَالزَّعِيمُ وَالْكَفِيلُ وَالْقَبِيلُ وَالْأَذِينُ وَالصَّبِيرُ وَالضَّامِنُ حَمَلَ يَحْمِلُ حَمَالَةً فَهُوَ حَمِيلٌ وَزَعَمَ يَزْعُمُ زَعَامَةً فَهُوَ زَعِيمٌ وَكَفَلَ يَكْفُلُ كَفَالَةً فَهُوَ كَفِيلٌ وَقَبِلَ يَقْبَلُ قَبَالَةً فَهُوَ قَبِيلٌ وَأَذِنَ يَأْذَنُ أَذَانَةً فَهُوَ أَذِينٌ وَصَبَرَ يَصْبِرُ صَبْرًا فَهُوَ صَبِيرٌ وَضَمِنَ يَضْمَنُ ضَمَانَةً فَهُوَ ضَامِنٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا } وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إلَّا الْجِهَادُ وَابْتِغَاءُ مَرْضَاتِهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ يَرُدَّهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ } وَالْأَذَانَةُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّك لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } أَيْ الْتَزَمَ ذَلِكَ { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ } وَأَصْلُ الْأَذَانَةِ وَالْإِذْنِ وَالْأَذِينِ وَالْإِذْنِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْإِعْلَامُ وَالتَّكْفِيلُ مُعْلِمٌ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي جِهَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَمَالَةِ { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ } .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي التَّنْبِيهَاتِ وَمِثْلُ حَمِيلٍ عَذِيرٌ وكدين قَالَ وَأَصْلُ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْحِفْظِ
وَالْحِيَاطَةِ قَالَ وَالْكَفَالَةُ اشْتِقَاقُهَا مِنْ الْكِفْلِ وَهُوَ الْكِسَاءُ الَّذِي يُحَزَّمُ حَوْلَ سَنَامِ الْبَعِيرِ لِيُحْفَظَ بِهِ الرَّاكِبُ وَالْكَفِيلُ حَافِظًا الْتَزَمَهُ وَالضَّامِنُ مِنْ الضِّمْنِ وَهُوَ الْحِرْزُ وَكُلُّ شَيْءٍ أَحْرَزْته فِي شَيْءٍ فَقَدْ ضَمَّنْته إيَّاهُ وَالْقَبَالَةُ الْقُوَّةُ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مَا لِي بِهَذَا الْأَمْرِ قِبَلٌ وَلَا طَاقَةٌ وَالْقَبِيلُ قُوَّةٌ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَالزَّعَامَةُ السِّيَادَةُ فَكَأَنَّهُ لَمَّا تَكَفَّلَ بِهِ صَارَ لَهُ عَلَيْهِ سِيَادَةٌ وَحُكْمٌ عَلَيْهِ وَالصَّبِيرُ مِنْ الصَّبْرِ وَهُوَ الثَّبَاتُ .
وَالْحَبْسُ وَمِنْهُ الْمَصْبُورَةُ وَهِيَ الْمَحْبُوسَةُ الْمَرْمَى بِالسِّهَامِ وَمِنْهُ قَتَلَهُ صَبْرًا أَيْ حَبَسَهُ حَتَّى مَاتَ جُوعًا وَعَطَشًا وَالضَّامِنُ حَبَسَ نَفْسَهُ لِأَدَاءِ الْحَقِّ وَالْكَدِينُ مِنْ كَدَنْت لَك بِكَذَا وَكَذَا وَقَالُوا عَذِيرُك أَيْ كَفِيلُك وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ الْكَفَالَةُ أَصْلُهَا الضَّمُّ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْخَشَبَةُ الَّتِي تُعْمَلُ فِي الْحَائِطِ كِفْلًا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أَيْ ضَمَّهَا لِنَفْسِهِ وَالْكَفَالَةُ هِيَ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى فَصَدَقَ الْمَعْنَى فَتَحَرَّرَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُتَرَادِفَةَ فِي هَذَا الْبَابِ تِسْعَةٌ وَتَكُونُ كَفَالَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَعْدُهُ بِمَا الْتَزَمَهُ وَوَعْدُهُ خَبَرُهُ وَخَبَرُهُ كَلَامُهُ النَّفْسِيُّ فَيَكُونُ الْحَالِفُ قَدْ حَلَفَ بِكَلَامِهِ النَّفْسَانِيِّ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ وَهُنَا أَرْبَعُ تَنْبِيهَاتٍ الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ يُشْعِرُ بِالِالْتِزَامِ وَخَبَرُ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ عَلَيَّ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتُهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ بَعُدَ فِي الْفِقْهِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ بِهَذَا كَفَّارَةٌ وَوَجَبَ أَيْضًا أَنْ يُفْهَمَ لِهَذَا الْكَلَامِ مَعْنًى صَحِيحٌ فَإِنَّ الْتِزَامَ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ كَيْفَ يَصِحُّ وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُ الْإِنْسَانُ فِعْلًا مِنْ كَسْبِهِ وَقُدْرَتِهِ فَإِنْ قُلْت الِالْتِزَامُ
إنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَانِثَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَالْكَفَّارَةُ مَقْدُورَةٌ يُمْكِنُ الْتِزَامُهَا وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا قَالَ عَلَى عَشْرُ كَفَّارَاتٍ أَوْ مَوَاثِيقَ أَوْ نُذُورٌ لَزِمَهُ عَدَدُ مَا ذَكَرَ كَفَّارَاتٍ وَهَذَا الْتِزَامٌ صَحِيحٌ .
قُلْت كَفَّارَةُ الْيَمِينِ غَيْرُ يَمِينٍ وَلَا حِنْثٍ لَا تَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ لِأَنَّ لُزُومَ الْمُسَبَّبِ بِدُونِ سَبَبِهِ غَيْرُ وَاقِعٍ شَرْعًا وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُ هَذِهِ الْكَفَّارَاتُ لَازِمَةً لَهُ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَفَّارَاتٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ هِيَ نُذُورٌ وَكَأَنَّهُ نَذْرٌ وَالْتَزَمَ بِطَرِيقِ النَّذْرِ عَشْرَ كَفَّارَاتٍ فَهَذَا صَحِيحٌ غَيْرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْحَلِفِ وَالْأَيْمَانِ فِي شَيْءٍ وَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ يُعْطِي ذَلِكَ حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْكَفَالَةِ فِيمَا يَلْزَمُ عَنْهَا إذَا حَلَفَ بِهَا وَحَنِثَ مَجَازٌ وَالْمَجَازُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا نِيَّةُ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ عُرْفٌ اقْتَضَى نَقْلًا لِهَذَا الْمَجَازِ فَأَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَ شَيْءٌ بِهَذِهِ الصِّيَغِ وَبِهَذَا اللَّفْظِ وَمَا تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِيهِ قَبْلَ هَذَا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَلَا يَتَحَرَّرُ الَّذِي يَلْزَمُ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا فِي الْكَفَّارَةِ بَلْ يَحْسِبُ مَا يَنْوِيه مِنْ كَفَّارَةٍ أَوْ كَفَّارَاتٍ أَوْ بَعْضِ كَفَّارَةٍ أَوْ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ بَابِ الْمَعْرُوفِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ شَرْعًا مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ الْكَفَالَةِ فِيهِ مَجَازًا فَالْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّازِمَ الْكَفَّارَةُ وَتَعْيِينُ ذَلِكَ اللُّزُومِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ الْقِسْمَ الثَّانِيَ وَهُوَ النَّقْلُ الْعُرْفِيُّ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِهِ فِي زَمَانِنَا شَيْءٌ فَإِنَّا لَا نَجِدُ هَذَا النَّقْلَ فِيهِ فَإِنَّ النَّقْلَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ اللَّفْظُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ .
وَنَحْنُ