كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي
( الْفَرْقُ السَّابِعَ عَشَرَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَدِلَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْحِجَاجِ ) وَهِيَ أَنَّ الْأَدِلَّةَ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا وَانْقِسَامُهَا إلَى أَدِلَّةِ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْمُجْتَهِدُونَ وَإِلَى أَدِلَّةِ وُقُوعِ أَسْبَابِ الْأَحْكَامِ وَشُرُوطِهَا وَمَوَانِعِهَا وَهِيَ الَّتِي يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا الْمُكَلَّفُونَ كَالزَّوَالِ وَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَنَحْوِهِمَا وَأَمَّا الْحِجَاجُ فَهِيَ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْحُكَّامُ وَيَقْضُونَ بِهِ وَيَتَوَقَّفُ عَلَى نَصْبٍ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ وَالْإِقْرَارُ وَالشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ وَالشَّاهِدُ وَالنُّكُولُ وَالْيَمِينُ وَالنُّكُولُ وَالْمَرْأَتَانِ وَالْيَمِينُ وَالْمَرْأَتَانِ وَالنُّكُولُ وَالْمَرْأَتَانِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَشَهَادَةُ الصِّبْيَانِ وَمُجَرَّدُ التَّحَالُفِ عِنْدَ مَالِكٍ فَيَقْتَسِمَانِ بَعْدَ أَيْمَانِهِمَا عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا عِنْدَ مَالِكٍ فَهَذِهِ نَحْوُ عَشَرَةٍ مِنْ الْحِجَاجِ هِيَ الَّتِي يَقْضِي بِهَا الْحَاكِمُ وَلِذَلِكَ قَالَ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ } وَمِنْهُ فَالْحِجَاجُ أَقَلُّ مِنْ أَدِلَّةِ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَأَدِلَّةُ الْمَشْرُوعِيَّةِ أَقَلُّ مِنْ أَدِلَّةِ الْوُقُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( وَصْلٌ ) فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ مُهِمَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لِلشَّيْخِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ النِّكَاحُ بِوَلِيٍّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ قَرَأَ { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ } بِضَمِّ التَّاءِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ وَدَلَالَةٌ صَحِيحَةٌ ا هـ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) فِي تَكْمِيلِ الدِّيبَاجِ للتنبكتي آخِرَ تَرْجَمَةِ الْعَلَّامَةِ لِلشَّيْخِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدٍ اللَّخْمِيِّ الْغَرْنَاطِيِّ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّهِيرُ بِالشَّاطِبِيِّ مَا نَصُّهُ وَكَانَ صَاحِبُ التَّرْجَمَةِ مِمَّنْ يَرَى جَوَازَ ضَرْبِ الْخَرَاجِ عَلَى النَّاسِ عِنْدَ ضَعْفِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ لِضَعْفِ بَيْتِ الْمَالِ عَنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ النَّاسِ كَمَا وَقَعَ لِلشَّيْخِ الْمَالِقِيِّ فِي كِتَابِ الْوَرَعِ قَالَ : تَوْظِيفُ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَلَا شَكَّ عِنْدَنَا فِي جَوَازِهِ وَظُهُورِ مَصْلَحَتِهِ فِي بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ فِي زَمَانِنَا الْآنَ لِكَثْرَةِ الْحَاجَةِ لِمَا يَأْخُذُهُ الْعَدُوُّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِوَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ وَضَعْفِ بَيْتِ الْمَالِ الْآنَ عَنْهُ فَهَذَا يَقْطَعُ بِجَوَازِهِ الْآنَ فِي الْأَنْدَلُسِ وَإِنَّمَا النَّظَرُ فِي الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى الْإِمَامِ ثُمَّ قَالَ أَثْنَاءَ كَلَامِهِ : وَلَعَلَّك تَقُولُ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ لِمَنْ أَجَازَ شُرْبَ الْعَصِيرِ بَعْدَ كَثْرَةِ طَبْخِهِ وَصَارَ رُبًّا أَحْلَلْتُهَا وَاَللَّهِ يَا عُمَرُ يَعْنِي هَذَا الْقَائِلُ أَحْلَلْت الْخَمْرَ بِالِاسْتِجْرَارِ إلَى نَقْصِ الطَّبْخِ حَتَّى تُحِلَّ الْخَمْرَ بِمَقَالِك فَإِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ : عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَاَللَّهِ لَا أَحِلُّ شَيْئًا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا أُحَرِّمُ شَيْئًا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَإِنَّ الْحَقَّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ .
وَكَانَ خَرَاجُ بِنَاءِ السُّوَرِ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِ الْأَنْدَلُسِ فِي زَمَانِهِ مُوَظَّفًا عَلَى أَهْلِ الْمَوْضِعِ فَسُئِلَ عَنْهُ إمَامُ الْوَقْتِ فِي الْفُتْيَا بِالْأَنْدَلُسِ الْأُسْتَاذُ الشَّهِيرُ أَبُو سَعِيدٍ بْنِ لُبٍّ فَأَفْتَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يَسُوغُ وَأَفْتَى صَاحِبُ التَّرْجَمَةِ بِسَوْغِهِ مُسْتَنِدًا فِيهِ إلَى الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ مُعْتَمِدًا فِي ذَلِكَ إلَى قِيَامِ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي إنْ لَمْ يَقُمْ بِهَا النَّاسُ
فَيُعْطُونَهَا مِنْ عِنْدِهِمْ ضَاعَتْ وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ فَاسْتَوْفَى وَوَقَعَ لِابْنِ الْفَرَّاءِ فِي ذَلِكَ مَعَ سُلْطَانِ وَقْتِهِ وَفُقَهَائِهِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ لَا نُطِيلُ بِهِ ا هـ بِلَفْظِهِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) فِي تَكْمِيلِ الدِّيبَاجِ أَيْضًا عَقِبَ تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِي مَا نَصُّهُ وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنَّهُ قَالَ : سَأَلَنِي السُّلْطَانُ أَبُو عَنَانٍ عَمَّنْ لَزِمَتْهُ يَمِينٌ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ فَحَلَفَ جَهْلًا عَلَى الْبَتِّ هَلْ يُعِيدُ أَمْ لَا فَأَجَبْتُهُ بِإِعَادَتِهَا وَقَدْ أَفْتَاهُ مَنْ حَضَرَ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِأَنْ لَا تُعَادَ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَكْثَرَ مِمَّا أُمِرَ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُهُ فَقُلْت لَهُ الْيَمِينُ عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ غَمُوسٌ قَالَ ابْنُ يُونُسَ : وَالْغَمُوسُ الْحَلِفُ عَلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ أَوْ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَمُوسَ مُحَرَّمَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالنَّهْيُ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ وَمَعْنَاهُ فِي الْعُقُودِ عَدَمُ تَرَتُّبِ أَثَرِهِ فَلَا أَثَرَ لِهَذِهِ الْيَمِينِ فَوَجَبَ أَنْ تُعَادَ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ إذْنُهَا السُّكُوتُ فَتَكَلَّمَتْ هَلْ يُجْتَزَأُ بِذَلِكَ وَالْإِجْزَاءُ هُنَا أَقْرَبُ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالصَّمْتُ رُخْصَةٌ لِغَلَبَةِ الْحَيَاءِ فَإِنْ قُلْت : الْبَتُّ أَصْلٌ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ نَفْيُ الْعِلْمِ إذَا تَعَذَّرَ قُلْت : لَيْسَ رُخْصَةً كَالصُّمَاتِ ا هـ بِلَفْظِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الثَّامِنَ عَشَرَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْوَى قُرْبَةً وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْوَى قُرْبَةً ) أَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْوَى قُرْبَةً فَقِسْمَانِ : أَحَدُهُمَا النَّظَرُ الْأَوَّلُ الْمُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِثُبُوتِ صَانِعِ الْعَالَمِ فَإِنَّ هَذَا النَّظَرَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْوَى التَّقَرُّبُ بِهِ فَإِنَّ قَصْدَ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْفِعْلِ فَرْعُ اعْتِقَادِ وُجُودِهِ وَهُوَ قَبْلَ النَّظَرِ الْمُوَصِّلِ لِذَلِكَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْقَصْدُ لِلتَّقَرُّبِ وَهُوَ كَمَنْ لَيْسَ لَهُ شُعُورٌ بِحُصُولِ ضَيْفٍ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى إكْرَامِهِ فَالنَّظَرُ الْأَوَّلُ يَسْتَحِيلُ فِيهِ قَصْدُ التَّقَرُّبِ وَثَانِيهِمَا فِعْلُ الْغَيْرِ تَمْتَنِعُ النِّيَّةُ فِيهِ فَإِنَّ النِّيَّةَ مُخَصِّصَةٌ لِلْفِعْلِ بِبَعْضِ جِهَاتِهِ مِنْ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ رُتَبِ الْعِبَادَاتِ وَذَلِكَ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي فِعْلِ غَيْرِهِ بَلْ إنَّمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ مِنْهُ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ تُمْكِنُ نِيَّتُهُ ثُمَّ الَّذِي تُمْكِنُ نِيَّتُهُ مِنْهُ مَا شُرِعَتْ فِيهِ النِّيَّةُ وَمِنْهُ مَا لَمْ تُشْرَعْ فِيهِ النِّيَّةُ ثُمَّ انْقَسَمَتْ الشَّرْعِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَطْلُوبٍ وَغَيْرِ مَطْلُوبٍ فَغَيْرُ الْمَطْلُوبِ لَا يُنْوَى مِنْ حَيْثُ هُوَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ بَلْ يُقْصَدُ بِالْمُبَاحِ التَّقَوِّي عَلَى مَطْلُوبٍ كَمَا يُقْصَدُ بِالنَّوْمِ التَّقَوِّي عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تُشْرَعُ نِيَّتُهُ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَالْمَطْلُوبُ فِي الشَّرِيعَةِ قِسْمَانِ نَوَاهٍ وَأَوَامِرَ فَالنَّوَاهِي لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى النِّيَّةِ شَرْعًا بَلْ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنْ عُهْدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرُ بِهِ فَضْلًا عَنْ الْقَصْدِ إلَيْهِ نَعَمْ إنْ نَوَى بِتَرْكِهَا وَجْهَ اللَّهِ الْعَظِيمِ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ وَصَارَ التَّرْكُ قُرْبَةً .
وَأَمَّا الْأَوَامِرُ فَقِسْمَانِ أَيْضًا .
مِنْهَا : مَا
تَكُونُ صُوَرُ أَفْعَالِهَا كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ كَدَفْعِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَعَلَفِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا الْقِسْمُ مُسْتَغْنٍ عَنْ النِّيَّةِ شَرْعًا فَمَنْ دَفَعَ دَيْنَهُ غَافِلًا عَنْ قَصْدِ التَّقَرُّبِ بِهِ أَجْزَأَ عَنْهُ وَلَا يُفْتَقَرُ إلَى إعَادَتِهِ مَرَّةً أُخْرَى نَعَمْ إنْ قَصَدَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ وَإِلَّا فَلَا .
الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا تَكُونُ صُورَةُ فِعْلِهِ كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ فَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ كَالْعِبَادَاتِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ شُرِعَتْ لِتَعْظِيمِ الرَّبِّ تَعَالَى وَإِجْلَالِهِ وَالتَّعْظِيمُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْقَصْدِ أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ صَنَعَتْ ضِيَافَةً لِإِنْسَانٍ فَأَكَلَهَا غَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِك لَكُنْت مُعَظِّمًا لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي بِسَبَبِ قَصْدِك فَمَا لَا قَصْدَ فِيهِ لَا تَعْظِيمَ فِيهِ فَيَلْزَمُ أَنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَصْدُ لِأَنَّهَا إنَّمَا شُرِعَتْ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا ضَابِطُ مَا تُمْكِنُ فِيهِ النِّيَّةُ وَمَا لَا تُمْكِنُ فِيهِ النِّيَّةُ وَضَابِطُ مَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ مِمَّا يُمْكِنُ وَمَا لَا يَحْتَاجُ شَرْعًا وَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ مُسْتَوْعَبَةٌ فِي كِتَابِ الْأُمْنِيَةِ فِي إدْرَاكِ النِّيَّةِ وَمَبْسُوطَةٌ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَهُنَاكَ مَسَائِلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَهَا أَنَا أُذَيِّلُ هَذَا الْفَرْقَ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ : ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْوِي إلَّا فِعْلَ نَفْسِهِ وَمَا هُوَ مُكْتَسَبٌ لَهُ وَذَلِكَ .
يُشْكِلُ بِأَنَّنَا نَنْوِي الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ مَعَ أَنَّ فَرْضِيَّةَ الظُّهْرِ مَثَلًا وَنَفْلِيَّةَ الضُّحَى لَيْسَتَا مِنْ فِعْلِنَا وَلَا مِنْ كَسْبِنَا بَلْ حُكْمَانِ شَرْعِيَّانِ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامُهُ لَيْسَتْ مُفَوَّضَةً لِلْعِبَادِ فَكَيْفَ صَحَّتْ النِّيَّةُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْجَوَابُ
عَنْهُ أَنَّ النِّيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْمُكْتَسَبِ تَبَعًا لِلْمُكْتَسَبِ أَمَّا اسْتِقْلَالًا فَلَا وَبِهَذَا نُجِيبُ عَنْ سُؤَالٍ صَعْبٍ وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْوِي الْإِمَامَةَ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْإِمَامِ مُسَاوٍ لِفِعْلِ الْمُنْفَرِدِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْإِمَامَةُ فِعْلًا زَائِدًا فَهَذِهِ نِيَّةٌ بِلَا مَنْوِيٍّ فَلَا تُتَصَوَّرُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ النِّيَّةِ كَوْنُهُ مُقْتَدًى بِهِ وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ لَكِنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ تَبَعًا لِمَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ .
قَالَ : ( الْفَرْقُ الثَّامِنَ عَشَرَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْوَى قُرْبَةً وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْوَى قُرْبَةً أَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْوَى قُرْبَةً فَقِسْمَانِ : أَحَدُهُمَا النَّظَرُ الْأَوَّلُ إلَى قَوْلِهِ فَالنَّظَرُ الْأَوَّلُ يَسْتَحِيلُ فِيهِ الْقَصْدُ إلَى الْقُرْبَةِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ قَالَ : ( وَثَانِيهِمَا فِعْلُ الْغَيْرِ تَمْتَنِعُ النِّيَّةُ فِيهِ إلَى قَوْلِهِ بَلْ إنَّمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ مِنْهُ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ ) قُلْتُ : لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ أَنَّ نِيَّةَ فِعْلِ الْغَيْرِ تَمْتَنِعُ عَقْلًا أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا أَمَّا عَقْلًا أَوْ عَادَةً فَلَا وَجْهَ لِلِامْتِنَاعِ وَأَمَّا شَرْعًا فَالظَّاهِرُ مِنْ جَوَازِ إحْجَاجِ الصَّبِيِّ أَنَّ الْوَلِيَّ يَنْوِي عَنْهُ وَكَذَلِكَ فِي جَوَازِ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ نَائِبًا عَنْ الْمُسْلِمِ .
قَالَ : ( وَمَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ تُمْكِنُ نِيَّتُهُ ثُمَّ الَّذِي تُمْكِنُ نِيَّتُهُ مِنْهُ مَا شُرِعَتْ فِيهِ النِّيَّةُ وَمِنْهُ مَا لَمْ تُشْرَعْ فِيهِ النِّيَّةُ إلَى قَوْلِهِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُبَاحٌ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَالْمَطْلُوبُ فِي الشَّرِيعَةِ إلَى قَوْلِهِ وَصَارَ التَّرْكُ قُرْبَةً .
قَالَ : ( وَأَمَّا الْأَوَامِرُ فَقِسْمَانِ أَيْضًا مِنْهَا مَا تَكُونُ صُوَرُ أَفْعَالِهَا كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ مَصَالِحِهَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ كَدَفْعِ الدُّيُونِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ ) قُلْتُ : قَوْلُهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا عُرِّيَ عَنْ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ مَعَ أَنَّهُ نَوَى أَدَاءَ دَيْنِهِ كَفَاهُ ذَلِكَ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ وَلَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ الطَّلَبُ بِهِ بَعْدُ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ لَكِنَّهُ لَا يُثَابُ حَتَّى يَنْوِيَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَدَاءِ دَيْنِهِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ : عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُثَابَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَيَكْفِيهِ مِنْ النِّيَّةِ كَوْنُهُ قَصَدَ أَدَاءَ دَيْنِهِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَمَا قَالَهُ : فِي الْقِسْمِ الثَّانِي صَحِيحٌ .
قَالَ : ( وَهَا أَنَا أُذَيِّلُ هَذَا الْفَرْقَ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْوِي إلَّا فِعْلَ نَفْسِهِ وَمَا هُوَ مُكْتَسَبٌ لَهُ وَذَلِكَ .
يُشْكِلُ بِأَنَّا نَنْوِي الْفَرْضَ وَالنَّفَلَ مَعَ أَنَّ فَرْضِيَّةَ الظُّهْرِ مَثَلًا وَنَفْلِيَّةَ الضُّحَى لَيْسَتَا مِنْ فِعْلِنَا وَلَا مِنْ كَسْبِنَا بَلْ حُكْمَانِ شَرْعِيَّانِ وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَكَلَامُهُ لَيْسَتْ مُفَوَّضَةً لِلْعِبَادِ فَكَيْفَ صَحَّتْ النِّيَّةُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ النِّيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْمُكْتَسَبِ تَبَعًا لِلْمُكْتَسَبِ أَمَّا اسْتِقْلَالًا فَلَا ) قُلْتُ : مَاذَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ أَنَّا نَنْوِي لِلْفَرْضِ وَالنَّفَلِ أَيُرِيدُ أَنَّا نَقْصِدُ جَعْلَ الْفَرْضِ فَرْضًا وَالنَّفَلِ نَفْلًا أَمْ يُرِيدُ أَنَّا نَقْصِدُ إيقَاعَ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ أَوْ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ نَفْلٌ فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ فَذَلِكَ لَيْسَ لَنَا وَلَا أُمِرْنَا بِأَنْ نَنْوِيَهُ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَا بِحُكْمِ التَّبَعِ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّا نَقْصِدُ إيقَاعَ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ أَوْ نَفْلٌ فَلَيْسَ فِي هَذَا تَعَلُّقُ نِيَّتِنَا بِالْفَرْضِيَّةِ وَالنَّفْلِيَّةِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِالصَّلَاةِ الَّتِي مِنْ صِفَتِهَا الْفَرْضِيَّةُ أَوْ النَّفْلِيَّةُ وَذَلِكَ الَّذِي هُوَ مِنْ فِعْلِنَا وَأَمْرِنَا بِأَنْ نَنْوِيَهُ .
قَالَ : ( وَبِهَذَا نُجِيبُ عَنْ سُؤَالٍ صَعْبٍ وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْوِي الْإِمَامَةَ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْإِمَامِ مُسَاوٍ لِفِعْلِ الْمُنْفَرِدِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْإِمَامَةُ فِعْلًا زَائِدًا فَهَذِهِ نِيَّةٌ بِلَا مَنْوِيٍّ فَلَا تُتَصَوَّرُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ النِّيَّةِ كَوْنُهُ مُقْتَدًى بِهِ وَهَذَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ لَكِنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ تَبَعًا لِمَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ ) قُلْتُ : أَلَيْسَ تَعْيِينُهُ نَفْسَهُ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ وَتَقَدُّمُهُ لِذَلِكَ
مِنْ فِعْلِهِ فَذَلِكَ هُوَ مُتَعَلِّقُ نِيَّتِهِ وَسَهُلَتْ الصُّعُوبَةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
( الْفَرْقُ الثَّامِنَ عَشَرَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْوَى قُرْبَةً وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْوَى قُرْبَةً ) وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْوَى قُرْبَةً مُنْحَصِرًا إجْمَاعًا فِي النَّظَرِ الْأَوَّلِ الْمُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِثُبُوتِ صَانِعِ الْعَالَمِ إذْ يَسْتَحِيلُ فِيهِ قَصْدُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ قَصْدَ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ فَرْعُ اعْتِقَادِ وُجُودِهِ وَاعْتِقَادُ وُجُودِهِ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْلَ النَّظَرِ الْمُوصِلِ إلَيْهِ إذْ هُوَ كَمَنْ لَيْسَ لَهُ شُعُورٌ بِحُصُولِ ضَيْفٍ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى إكْرَامِهِ فَافْهَمْ وَمَا عَدَا ذَلِكَ النَّظَرَ الْأَوَّلَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْوَى قُرْبَةً لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ فِعْلَ نَفْسِهِ أَوْ فِعْلَ غَيْرِهِ أَمَّا فِعْلُ نَفْسِهِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا فِعْلُ غَيْرِهِ فَهُوَ وَإِنْ قِيلَ : تَمْتَنِعُ النِّيَّةُ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلِامْتِنَاعِ عَقْلًا أَوْ عَادَةً وَأَمَّا شَرْعًا فَالظَّاهِرُ مِنْ جَوَازِ إحْجَاجِ الصَّبِيِّ أَنَّ الْوَلِيَّ يَنْوِي عَنْهُ وَكَذَلِكَ فِي جَوَازِ ذَبِيحَةِ .
الْكِتَابِيِّ نَائِبًا عَنْ الْمُسْلِمِ ثُمَّ الَّذِي تُمْكِنُ نِيَّتُهُ قِسْمَانِ : مَا شُرِعَتْ فِيهِ النِّيَّةُ وَمَا لَمْ تُشْرَعْ فِيهِ النِّيَّةُ وَالْأَوَّلُ قِسْمَانِ : مَطْلُوبٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَغَيْرُ مَطْلُوبٍ فِيهَا فَأَمَّا غَيْرُ الْمَطْلُوبِ كَالْمُبَاحِ فَلَا يُنْوَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُبَاحٌ بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ بِهِ التَّقَوِّي عَلَى مَطْلُوبٍ كَمَا يُقْصَدُ بِالنَّوْمِ التَّقَوِّي عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ .
وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ فَقِسْمَانِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ النَّوَاهِي وَلَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى النِّيَّةِ شَرْعًا بَلْ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ مِنْ عُهْدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ فَضْلًا عَنْ الْقَصْدِ إلَيْهِ نَعَمْ إنْ نَوَى بِتَرْكِهَا وَجْهَ اللَّهِ الْعَظِيمِ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ وَصَارَ التَّرْكُ قُرْبَةً وَالْقِسْمُ الثَّانِي الْأَوَامِرُ ، وَهِيَ قِسْمَانِ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَا تَكُونُ صُورَةُ فِعْلِهِ بِقَصْدِ مُجَرَّدِ الْأَدَاءِ كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ
مَصْلَحَتِهِ وَفِي خُرُوجِ الْمُكَلَّفِ بِذَلِكَ مِنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ بِحَيْثُ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الطَّلَبُ بِهِ بَعْدُ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَإِنْ عُرِّيَ عَنْ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَدَاءِ كَدَفْعِ الدُّيُونِ وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَعَلَفِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُثَابَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَعَ عَدَمِ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ إذْ يَكْفِيهِ مِنْ النِّيَّةِ كَوْنُهُ قَصَدَ مُجَرَّدَ الْأَدَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا يَشْهَدُ لَهُ سِعَةُ بَابِ الثَّوَابِ خِلَافًا لِلْأَصْلِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا تَكُونُ صُورَةُ فِعْلِهِ كَافِيَةً فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ تَحْصِيلُ مَصْلَحَتِهِ وَالْخُرُوجُ مِنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ بِهِ عَلَى نِيَّةِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَدَائِهِ كَالْعِبَادَاتِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ شُرِعَتْ لِتَعْظِيمِ الرَّبِّ تَعَالَى وَإِجْلَالِهِ وَالتَّعْظِيمُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْقَصْدِ أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ صَنَعْت ضِيَافَةً لِإِنْسَانٍ فَأَكَلَهَا غَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِكَ لَكُنْت مُعَظِّمًا لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي بِسَبَبِ قَصْدِك فَمَا لَا قَصْدَ فِيهِ وَلَا تَعْظِيمَ فِيهِ فَكُلُّ عِبَادَةٍ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَصْدُ لِأَنَّهَا إنَّمَا شُرِعَتْ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى فَظَهَرَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ضَابِطُ مَا تُمْكِنُ فِيهِ النِّيَّةُ وَمَا لَا تُمْكِنُ فِيهِ النِّيَّةُ وَضَابِطُ مَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا مِمَّا تُمْكِنُ فِيهِ اُنْظُرْ كِتَابَ الْأَمْنِيَّةِ فِي إدْرَاكِ النِّيَّةِ لِلْأَصْلِ .
( وَصْلٌ ) فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَرْقِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مُتَعَلِّقُ النِّيَّةِ فِي مُطْلَقِ الصَّلَاةِ إنَّمَا هُوَ إيقَاعُنَا الصَّلَاةَ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ أَوْ نَفْلٌ وَهِيَ مِنْ فِعْلِنَا وَأُمِرْنَا بِأَنْ نَنْوِيَهُ لَا أَنَّ مُتَعَلِّقَهَا الْفَرْضِيَّةُ أَوْ النَّفْلِيَّةُ بِأَنْ نَقْصِدَ جَعْلَ الْفَرْضِ فَرْضًا وَالنَّفَلِ نَفْلًا إذْ لَيْسَ لَنَا ذَلِكَ وَلَا أُمِرْنَا بِأَنْ نَنْوِيَهُ بَلْ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَا بِحُكْمِ التَّبَعِ لِلْمُكْتَسَبِ لَنَا وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ خِلَافًا لِلْأَصْلِ وَكَذَلِكَ مُتَعَلِّقُ نِيَّةِ الْإِمَامِ فِي الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا هُوَ تَعْيِينُهُ نَفْسَهُ لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ وَتَقَدُّمُهُ لِذَلِكَ وَهُوَ مِنْ فِعْلِهِ لَا الْإِمَامَةِ حَتَّى يُقَالَ : لَمْ تَكُنْ فِعْلًا زَائِدًا عَلَى فِعْلِ الْمُنْفَرِدِ بَلْ فِعْلُ الْإِمَامِ مُسَاوٍ لِفِعْلِ الْمُنْفَرِدِ وَكَيْفَ تُتَصَوَّرُ نِيَّةٌ بِلَا مَنْوِيٍّ وَلَا دَاعِي لِلْجَوَابِ عَنْهُ بِأَنَّ مُتَعَلِّقَهَا كَوْنُهُ مُقْتَدًى بِهِ وَصَحَّتْ نِيَّتُهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ تَبَعًا لِمَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ فَافْهَمْ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَعْتَقِدُ أَنَّ الَّذِي نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ وَشَكَّ فِي عَيْنِهَا فَإِنَّهُ يُصَلِّي خَمْسًا فَيَقُولُ هَذَا مُتَرَدِّدٌ فِي نِيَّتِهِ وَلَا تَصِحُّ النِّيَّةُ فِي التَّرَدُّدِ فَتَكُونُ هَذِهِ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْقَاعِدَةِ وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا بَلْ الشَّكُّ نَصَبَهُ الشَّارِعُ سَبَبًا لِإِيجَابِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَهُوَ جَازِمٌ بِوُجُوبِ الْخَمْسِ عَلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبِهَا الَّذِي هُوَ الشَّكُّ .
قَالَ : ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَعْتَقِدُ أَنَّ الَّذِي نَسِيَ صَلَاةً مِنْ خَمْسٍ وَذَلِكَ فِي عَيْنِهَا إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ : فِيهَا صَحِيحٌ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) الشَّكُّ الْوَاقِعُ مِمَّنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ وَشَكَّ فِي عَيْنِهَا نَصَبَهُ الشَّارِعُ سَبَبًا لِإِيجَابِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ فَإِذَا صَلَّى الْخَمْسَ فَهُوَ جَازِمٌ بِوُجُوبِ الْخَمْسِ عَلَيْهِ لِوُجُودِ سَبَبِهَا الَّذِي هُوَ الشَّكُّ لَا مُتَرَدِّدٍ فِي نِيَّتِهِ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ قَاعِدَةِ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَصِحُّ فِي التَّرَدُّدِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) النِّيَّةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ لِئَلَّا يَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ التَّسَلْسُلُ وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْلِيلِ بِالتَّسَلْسُلِ بَلْ النِّيَّةُ مِنْ الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ أَنَّ صُورَتَهَا كَافِيَةٌ فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهَا لِأَنَّ مَصْلَحَتَهَا التَّمْيِيزُ وَهُوَ حَاصِلٌ بِهَا سَوَاءً قَصَدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ فَاسْتَغْنَتْ عَنْ النِّيَّةِ
قَالَ : ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : النِّيَّةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُضَلَاءِ : لِئَلَّا يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى إيقَاعَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَنْوِيَ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إيقَاعِ الصَّلَاةِ مَنْوِيَّةً فَإِنَّ النِّيَّةَ فِي الصَّلَاةِ مَشْرُوعَةٌ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا وَلَمْ يُشْرَعْ لَهُ أَنْ يَنْوِيَ نِيَّةَ الِامْتِثَالِ حَتَّى يَلْزَمَ التَّسَلْسُلُ وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَصِحُّ قَوْلُهُ هُوَ إنَّ النِّيَّةَ لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الْمَشْرُوعُ فِي نِيَّةِ الْعِبَادَةِ أَنْ يَنْوِيَ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي إيقَاعِ الصَّلَاةِ مَنْوِيَّةً مَثَلًا فَإِنَّ النِّيَّةَ فِي الصَّلَاةِ مَشْرُوعَةٌ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا وَلَيْسَ الْمَشْرُوعُ أَنْ يَنْوِيَ نِيَّةَ الِامْتِثَالِ حَتَّى يَلْزَمَ التَّسَلْسُلُ وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّ النِّيَّةَ لَا تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ مَا صُورَةُ فِعْلِهِ كَافِيَةٌ فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهَا التَّمْيِيزُ وَهُوَ حَاصِلٌ بِهَا وَلَوْ لَمْ يُقْصَدْ فَافْهَمْ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إذَا قَصَدَ الْإِنْسَانُ صَلَاةَ الظُّهْرِ مَثَلًا فَإِذَا قَالَ فِي نَفْسِهِ نَوَيْت فَرْضَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا خَرَجَتْ سُنَنُ صَلَاةِ الظُّهْرِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَنْوِيَّةً فَلَا يُثَابُ عَلَيْهَا وَمَا قَالَهُ أَحَدٌ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَقْصِدَ لِمَا فِي الظُّهْرِ مِنْ فَرْضٍ فَيَنْوِيَهُ وَإِلَى مَا فِيهِ مِنْ سُنَّةٍ فَيَنْوِيَهُ حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ بِالْأَوَّلِ وَيُثَابَ بِالثَّانِي وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِاشْتِرَاطِ نِيَّتَيْنِ فَمَا الْجَوَابُ عَنْهُ وَالْجَوَابُ أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوْ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَتَكْفِي هَذِهِ النِّيَّةُ الْمُجْمَلَةُ فِي انْسِحَابِهَا عَلَى فَرَوْضِ الصَّلَاةِ وَسُنَنِهَا فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّفْصِيلَ فِي النِّيَّةِ وَلِذَلِكَ إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ عَدَدَ السَّجَدَاتِ وَغَيْرَهَا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ بَلْ يَكْفِي بِانْسِحَابِ النِّيَّةِ عَلَى ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ .
قَالَ : ( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِيهَا صَحِيحٌ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) بِمَا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّفْصِيلَ فِي النِّيَّةِ بَلْ اكْتَفَى مِنْ الْإِنْسَانِ إذَا قَصَدَ صَلَاةَ الظُّهْرِ مَثَلًا أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوْ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَتَنْسَحِبُ هَذِهِ النِّيَّةُ الْمُجْمَلَةُ عَلَى فَرَوْضِ الصَّلَاةِ وَسُنَنِهَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَى الْإِنْسَانِ حِينَئِذٍ أَنْ يَقْصِدَ لِمَا فِي الظُّهْرِ مِنْ فَرْضٍ فَيَنْوِيَهُ وَلِمَا فِيهِ مِنْ سُنَّةٍ فَيَنْوِيَهُ حَتَّى تَبْرَأَ ذِمَّتُهُ بِالْأَوَّلِ وَيُثَابَ بِالثَّانِي كَمَا لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ عَدَدَ السَّجَدَاتِ وَغَيْرَهَا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ بَلْ يَكْتَفِي بِانْسِحَابِ النِّيَّةِ عَلَى ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ التَّاسِعَ عَشَرَ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ مَا تُشْرَعُ فِيهِ الْبَسْمَلَةُ وَمَا لَا تُشْرَعُ فِيهِ الْبَسْمَلَةُ ) أَفْعَالُ الْعِبَادِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مِنْهَا مَا شُرِعَتْ فِيهِ الْبَسْمَلَةُ وَمِنْهَا مَا لَا تُشْرَعُ فِيهِ الْبَسْمَلَةُ وَمِنْهَا مَا تُكْرَهُ فِيهِ فَالْأَوَّلُ كَالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ عَلَى الْخِلَافِ وَذَبْحِ النُّسُكِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمِنْهُ مُبَاحَاتٌ لَيْسَتْ بِعِبَادَاتٍ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَالثَّانِي كَالصَّلَوَاتِ وَالْآذَانِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَكَالْأَذْكَارِ وَالدُّعَاءِ وَالثَّالِثُ كَالْمُحَرَّمَاتِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ التَّسْمِيَةِ حُصُولُ الْبَرَكَةِ فِي الْفِعْلِ الْمُبَسْمَلِ عَلَيْهِ وَالْحَرَامُ لَا يُرَادُ تَكْبِيرُهُ وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ تَتَحَصَّلُ مِنْ تَفَارِيعِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ فِي الْمَذْهَبِ فَأَمَّا ضَابِطُ مَا تُشْرَعُ فِيهِ التَّسْمِيَةُ مِنْ الْقُرُبَاتِ وَمَا لَمْ تُشْرَعْ فِيهِ فَقَدْ وَقَعَ الْبَحْثُ فِيهِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَعَسُرَ تَحْرِيرُ ذَلِكَ وَضَبْطُهُ وَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ قَالَ : إنَّهَا لَمْ تُشْرَعْ فِي الْأَذْكَارِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا لِأَنَّهَا بَرَكَةٌ فِي نَفْسِهَا فَوَرَدَ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَالْبَرَكَاتِ مَعَ أَنَّهَا شُرِعَتْ فِيهِ فَالْقَصْدُ مِنْ هَذَا الْفَرْقِ بَيَانُ عُسْرِهِ وَالتَّنْبِيهُ عَلَى طَلَبِ الْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا لَا إشْكَالَ فِيهِ فَإِذَا نُبِّهَ عَلَى الْإِشْكَالِ اسْتَفَادَهُ وَحَثَّهُ ذَلِكَ عَلَى طَلَبِ جَوَابِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَّاقٌ عَلَى الدَّوَامِ يَهَبُ فَضْلَهُ لِمَنْ يَشَاءُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ
قَالَ : ( الْفَرْقُ التَّاسِعَ عَشَرَ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِيهِ صَحِيحٌ .
( الْفَرْقُ التَّاسِعَ عَشَرَ بَيْنَ قَاعِدَتَيْ مَا تُشْرَعُ فِيهِ الْبَسْمَلَةُ وَمَا لَا تُشْرَعُ فِيهِ ) أَمَّا مَا شُرِعَتْ فِيهِ فَضَبَطَهُ شَيْخُ وَالِدِي الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ الْبَاجُورِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى السُّنُوسِيَّةِ بِأَنَّ كُلَّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ أَيْ ذِي حَالٍ يُهْتَمُّ بِهِ شَرْعًا بِحَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ الشَّارِعُ لَهُ مَبْدَأً غَيْرَ الْبَسْمَلَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذِكْرًا مَحْضًا وَلَا مِنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ أَيْ الْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ وَلَا مُحَرَّمًا لِذَاتِهِ وَلَا مَكْرُوهًا لِذَاتِهِ فَقَوْلُهُ بِحَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ الشَّارِعُ لَهُ مَبْدَأً غَيْرَ الْبَسْمَلَةِ .
قَالَ : الأنبابي فِي تَقْرِيرَاتِهِ عَلَيْهِ : هُوَ صَادِقٌ بِصُورَتَيْنِ مَا إذَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَبْدَأً أَصْلًا أَوْ جَعَلَ مَبْدَأَهُ الْبَسْمَلَةَ وَالصُّورَةُ الْأُولَى غَيْرُ مُرَادَةٍ لِأَنَّهَا لَا تُوجَدُ إلَّا فِي الذِّكْرِ الْمَحْضِ أَوْ الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ أَوْ الْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ أَوْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ وَقَدْ أَخْرَجَ مَا ذُكِرَ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَكُنْ ذِكْرًا مَحْضًا إلَخْ ا هـ أَيْ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ ذِكْرًا أَصْلًا بَلْ كَانَ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ عَلَى الْخِلَافِ وَذَبْحِ النُّسُكِ أَوْ مِنْ الْمُبَاحَاتِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ وَكَانَ ذِكْرًا غَيْرَ مَحْضٍ كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ وَالْبَرَكَاتِ إلَّا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ذِكْرًا مَحْضًا كَمَا لَا يَخْفَى فَلِذَا شُرِعَتْ فِيهَا الْبَسْمَلَةُ .
وَأَمَّا مَا لَا تُشْرَعُ فِيهِ فَسِتَّةُ أَنْوَاعٍ كَمَا يُفِيدُهُ الضَّابِطُ الْمَذْكُورُ : الْأَوَّلُ مَا جَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ مَبْدَأً غَيْرَ الْبَسْمَلَةِ كَالصَّلَوَاتِ وَالْأَذَانِ فَإِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ مَبْدَأَهُمَا التَّكْبِيرَ وَكَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ جَعَلَ مَبْدَأَهُمَا التَّلْبِيَةَ وَالثَّانِي مَا كَانَ ذِكْرًا مَحْضًا كَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ .
وَالثَّالِثُ مَا كَانَ مِنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ وَالرَّابِعُ مَا كَانَ مُحَرَّمًا لِذَاتِهِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ
الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالْخَامِسُ مَا كَانَ مَكْرُوهًا لِذَاتِهِ كَأَكْلِ الْبَصَلِ النِّيءِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الأنبابي عَنْ الْعَلَّامَةِ الشَّرْقَاوِيِّ فِي حَاشِيَةِ التَّحْرِيرِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ مِنْ أَنَّهُ بِالْقَيْدِ الْمَذْكُورِ تَلْزَمُهُ الْكَرَاهَةُ لِذَلِكَ خِلَافًا لِمَنْ جَعَلَهُ مِنْ الْمَكْرُوهِ لِعَارِضٍ وَالسَّادِسُ نَحْوُ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فَمَا أُبِيحَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ وَلَا مِنْ ذَوَاتِ الْبَالِ فَلَمْ تُشْرَعْ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ بَدْؤُهُ بِغَيْرِهَا وَلَا فِي الثَّانِي لِاتِّحَادِ النَّوْعِ فَكَمَا لَا تَبْدَأُ الْبَسْمَلَةُ بِالْبَسْمَلَةِ لِأَنَّهَا تُزَكِّي نَفْسَهَا وَغَيْرَهَا كَالشَّاةِ مِنْ الْأَرْبَعِينَ كَذَلِكَ لَا يَبْدَأُ الذِّكْرُ الْمَحْضُ بِهَا لِمَا ذُكِرَ فِيهَا لَا سِيَّمَا وَقَدْ رُوِيَ { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ } فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ وَلَا فِي الثَّالِثِ لِأَنَّ الْأَوْلَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ تَرْكُهَا تَعْظِيمًا لِاسْمِهِ تَعَالَى نَعَمْ إنْ قَصَدَ بِهَا عِنْدَ مُحَقَّرٍ كَامْتِخَاطِهِ التَّحَصُّنَ وَالتَّبَرُّكَ لِنَفْسِهِ بِأَنْ يُقَدِّرَ الْمُتَعَلِّقَ بِسْمِ اللَّهِ أَتَحَصَّنُ مِنْ ضَرَرِ هَذَا الْفِعْلِ أَوْ أَسَتَنْزِلُ الْبَرَكَةَ عَلَيَّ لَامْتَخَطَ يَرْجِعُ لِذَوَاتِ الْبَالِ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَجْمُوعِ وَضَوْءِ الشُّمُوعِ وَلَا فِي الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ لِقَوْلِ الشَّيْخِ الْبَاجُورِيِّ فَتَحْرُمُ عَلَى الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ وَتُكْرَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ الأنبابي عَلَيْهِ : هَذَا أَحَدُ أَقْوَالٍ حَاصِلُهَا أَنَّهُ قِيلَ : تُكْرَهُ التَّسْمِيَةُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ وَلَوْ لِعَارِضٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُرَاغَمَةِ الشَّارِعِ بِجَعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَحَلًّا لِلْبَرَكَةِ وَقِيلَ : تَحْرُمُ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِمَا إذْ الْمُرَاغَمَةُ تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ كُفْرٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلًّا مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ يَقُولُ بِتَفَاوُتِ مَا قَالَ بِهِ مِنْ الْكَرَاهَةِ أَوْ الْحُرْمَةِ
وَقِيلَ : تُكْرَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَتَحْرُمُ عَلَى الْمُحَرَّمِ مُطْلَقًا وَقِيلَ : وَهُوَ الرَّاجِحُ تُكْرَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ وَتَحْرُمُ عَلَى الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ إذْ الْمُرَاغَمَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ حِينَئِذٍ دُونَ مَا إذَا كَانَ لِعَارِضٍ لِأَنَّ الْعَارِضَ إنَّمَا يَتَسَبَّبُ عَنْهُ مَنْعُ الِاسْتِعْمَالِ فَقَطْ وَلَا يَمْنَعُ التَّسْمِيَةَ إذْ الْمَحَلُّ فِي ذَاتِهِ قَابِلٌ لَهَا فَلَا مُرَاغَمَةَ كَذَا فِي حَوَاشِي الْبَهْجَةِ نَقْلًا عَنْ الْعُبَابِ وَغَيْرِهِ وَأَخَذَ مِنْ هَذَا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَشْيَاخِنَا أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ الْإِبَاحَةُ لِمَا نُهِيَ عَنْهُ لِذَاتِهِ كَأَنْ اضْطَرَّ لِأَكْلِ الْمَيِّتَةِ أَوْ شُرْبِ جَرْعَةِ خَمْرٍ لِإِسَاغَةِ مَا غَصَّ بِهِ أَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُرِيدُ الْأَدَمَ سِوَى الْبَصَلِ النِّيءِ تَبْقَى التَّسْمِيَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ إذْ الْمَحَلُّ فِي ذَاتِهِ غَيْرُ قَابِلٍ لَهَا وَالضَّرُورَةُ لَا دَخْلَ لَهَا فِي التَّسْمِيَةِ فَتَدَبَّرْ ا هـ وَقَالَ : الْأَمِيرُ فِي شَرْحِ مَجْمُوعِهِ وَحَاشِيَتِهِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْأَظْهَرَ تَحْرِيمُهَا فِي الْمُحَرَّمِ مُطْلَقًا لِمَا وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ يَذْكُرُ عَبْدَهُ بِمِثْلِ مَا ذَكَرَهُ وَحَالُ التَّحْرِيمِ يُمَاثِلُهُ مِنْهُ الْعِقَابُ جَزَاءً وِفَاقًا وَذَلِكَ أَنَّ حَالَ التَّحْرِيمِ إعْرَاضٌ عَنْ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى وَمُلَابَسَةٌ لِمَا يَكْرَهُهُ وَالْعِقَابُ إبْعَادٌ لِلْعَبْدِ وَإِيصَالُ مَا يَكْرَهُهُ إلَيْهِ .
وَقَدْ رُوِيَ { يَا دَاوُد قُلْ لِلظَّالِمَيْنِ لَا يَذْكُرُونِي فَإِنَّهُمْ إنْ ذَكَرُونِي ذَكَرْتُهُمْ وَإِذَا ذَكَرْتُهُمْ مَقَتُّهُمْ } نَعَمْ الْقَوْلُ بِكَرَاهَتِهَا فِيهِ وَجِيهٌ فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ الْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ لَا الْعَكْسُ يَعْنِي الْغَالِبُ قُوَّةُ نَامُوسِ حَسَنَةٍ عَلَى السَّيِّئَةِ بِدَلِيلِ كَثْرَةِ الْكَفَّارَاتِ مِنْ الطَّاعَاتِ لِلذُّنُوبِ .
وَلِذَا كَانَتْ الْحَسَنَةُ بِعَشْرٍ وَالسَّيِّئَةُ بِوَاحِدَةٍ وَنَاهِيكَ بِحَدِيثِ بِطَاقَةِ التَّوْحِيدِ حَيْثُ تَرْجَحُ فِي الْمِيزَانِ عَلَى سِجِلَّاتٍ كَثِيرَةٍ وَالْبَسْمَلَةُ حَسَنَةٌ لِأَنَّهَا فِي ذَاتِهَا ذِكْرٌ فَلَا يَتَسَلَّطُ
عَلَيْهَا نَامُوسُ السَّيِّئَةِ حَتَّى تَنْحَطَّ لِرُتْبَةِ التَّحْرِيمِ قُصَارَى الْأَمْرِ الْكَرَاهَةُ لِلْمُجَاوَرَةِ وَقَدْ رَجَّحَ الْكَرَاهَةَ شَيْخُنَا فِي حَاشِيَةِ الْكَرْشِيِّ فِي مَبْحَثِ تَسْمِيَةِ الْوُضُوءِ تَبَعًا لِلشَّبْرَخِيتِيِّ وَغَيْرِهِ وَلَمْ نَتْبَعْهُ لِقَوْلِ الْخَادِمِيِّ فِي بَسْمَلَتِهِ إنْ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ إلَخْ عِنْدَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ يَكْفُرْ عَلَى مَا فِي الْخُلَاصَةِ لِأَنَّ التَّبَرُّكَ وَالِاسْتِعَانَةَ بِذِكْرِهِ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا فِيمَا أَذِنَهُ وَرَضَاهُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي آخِرِ صَيْدِ الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَرَأَيْت بِخَطِّ ثِقَةٍ سَرَقَ شَاةً فَذَبَحَهَا بِتَسْمِيَةٍ فَوَجَدَ صَاحِبَهَا هَلْ تُؤْكَلُ ؟ الْأَصَحُّ لَا لِكُفْرِهِ بِتَسْمِيَةٍ عَلَى الْحَرَامِ الْقَطْعِيِّ بِلَا تَمَلُّكٍ وَلَا إذْنٍ ا هـ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُنَا الْأَكْلَ وَمَنْعَ عِلَّةِ التَّكْفِيرِ إذْ لَمْ يَتَهَاوَنْ وَلَمْ يَسْتَحِلَّ فَإِنَّهُ الْمُعِينُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ عَلَى أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ وَالتَّبَرُّكَ بِهِ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا فِيمَا فِيهِ إذْنُهُ وَرَضَاهُ فَهُوَ أَمْرٌ لَمْ يَقْصِدْهُ وَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ لِمَا فَعَلَهُ وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ إذَا لَمْ يَكُنْ اللُّزُومُ بَيِّنًا كَمَا هُنَا خُصُوصًا فِي مِثْلِ كُفْرِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْكُفْرِ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ تَرْجِيحَ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ وَإِنْ كَانَ وَجِيهًا نَعَمْ رُبَّمَا خَفَّ الْأَمْرُ فِي الْحَرَامِ الْعَارِضِ كَالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ ا هـ قُلْتُ : وَلَا يُعَارِضُ قَاعِدَةَ قُوَّةِ نَامُوسِ الْحَسَنَةِ عَلَى السَّيِّئَةِ حَدِيثُ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } إلَخْ لِقَوْلِ الْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى عَبْدِ السَّلَامِ إنَّ الْمَنْفِيَّ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ الْمُصَاحِبُ لِلْمُرَاقَبَةِ إذْ لَوْلَا حِجَابُ الْغَفْلَةِ مَا عَصَى أَوْ أَنَّهُ إنْ اسْتَحَلَّهُ وَمَا يُقَالُ إنَّ الْإِيمَانَ يُرْفَعُ ثُمَّ يَرْجِعُ لَهُ يَلْزَمُهُ عَدَمُ إيمَانِهِ إنْ مَاتَ فِي تِلْكَ
الْحَالَةِ وَمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشَرْحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِرَفْعِهِ يُحْمَلُ عَلَى رَفْعِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ ا هـ وَمِمَّا يَشْهَدُ لِكَوْنِ الْمَنْفِيِّ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ الْإِيمَانَ الْكَامِلَ مَا حُكِيَ لِي أَنَّ امْرَأَةً جَمِيلَةً ذَاتَ عِفَّةٍ وَدِيَانَةٍ جَاعَتْ وَطَلَبَتْ مِنْ جَارِهَا مَا تَتَقَوَّتُ بِهِ فَأَبَى إلَّا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا فَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ وَصَبَرَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى اشْتَدَّ جُوعُهَا فَأَتَتْهُ وَقَالَتْ لَهُ : قَوِّتْنِي وَافْعَلْ مَا تُرِيدُ فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهَا هَمَّ لِغَلْقِ الطَّاقَةِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَرَاهُ جَارُهُ فَقَالَتْ لَهُ : مَا تُرِيدُ ؟ فَأَخْبَرَهَا بِذَلِكَ فَقَالَتْ لَهُ : يَا مَجْنُونُ تَخْشَى الْجَارَ وَلَا تَخْشَى الْجَبَّارَ الَّذِي لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ وَأَثَّرَ كَلَامُهَا فِي قَلْبِهِ وَتَرَكَ الزِّنَا بِهَا وَأَعْطَاهَا مَطْلُوبَهَا وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الصَّفْتِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ ابْنِ تُرْكِيٍّ عَلَى الْعَشْمَاوِيَّةِ : وَالنَّدْبُ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الشَّامِلِ لِلسُّنَّةِ وَالْمُسْتَحَبُّ هُوَ حُكْمُ الْبَسْمَلَةِ الْأَصْلِيِّ لِأَنَّهَا ذِكْرٌ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ عِنْدَ عَدَمِ مُنَافِي التَّعْظِيمِ النَّدْبُ فَتُسَنُّ عَيْنًا كَمَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَمَا اعْتَمَدَهُ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْعَدَوِيُّ فِي حَاشِيَةِ الْخَرَشِيِّ وَارْتَضَاهُ شَيْخُنَا الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ عُبَادَةَ .
وَقِيلَ : تُسَنُّ كِفَايَةً فِي الْأَكْلِ وَتُسْتَحَبُّ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيُطْلَبُ الْإِتْيَانُ بِهَا فِي غَالِبِ الْأُمُورِ ذَوَاتِ الْبَالِ وَلَوْ شِعْرًا إذَا كَانَ مُحْتَوِيًا عَلَى عِلْمٍ أَوْ وَعْظٍ لَا إنْ كَانَ شِعْرًا حَرَامًا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ فِيهِ كَمَا أَفَادَهُ الْحَطَّابُ وَغَيْرُهُ وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْوُجُوبُ بِالنَّذْرِ كَمَا إذَا قُلْتَ : نَذْرٌ عَلَيَّ أَنْ أُبَسْمِلَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مَثَلًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْوُجُوبُ أَصَالَةً أَبَدًا إلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْهُ
الْقَائِلِ بِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَوْ عَلَى قَوْلِ ابْنِ نَافِعٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا بِوُجُوبِهَا فِي الصَّلَاةِ وَالْوَاجِبُ فِي الذَّبْحِ بِقَيْدِ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ مُطْلَقُ ذِكْرٍ لَا خُصُوصُ الْبَسْمَلَةِ كَمَا فِي شُرَّاحِ الْمُخْتَصَرِ وَكَلَامُنَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا بِخُصُوصِهَا وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يُقْتَصَرُ فِي الذَّبْحِ عَلَى بِسْمِ اللَّهِ فَقَطْ وَلَا يَزِيدُ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ وَالْأَكْلِ لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ لِلْحَيَوَانِ وَكَوْنُ الْأَكْلِ فِيهِ تَعْذِيبٌ لِلُّقْمَةِ بِالْمَضْغِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ أَوْ اسْتِعْمَالَهُ بِالْوُضُوءِ فِيهِ حَتْفٌ لَهُ وَلَا وَجْهَ لَهُ وَنَذْرُهَا فِي صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَا نَصَّ فِي الْمَذْهَبِ عَلَى لُزُومِهِ كَمَا قَالُوا بِهِ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ رَابِعِ النَّحْرِ مَعَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ أَوْ عَدَمُ لُزُومِهِ لِكَرَاهَتِهَا فِيهَا وَالنَّذْرُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِهِ مَا نُدِبَ نَعَمْ اسْتَظْهَرَ شَيْخُنَا الْأَمِيرُ أَنَّهَا تَلْزَمُ لِأَنَّهَا عُهِدَ لَهَا طَلَبٌ فِي الْجُمْلَةِ فِيمَا إذَا قَصَدَ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ وَتَتَعَلَّقُ بِهَا الْكَرَاهَةُ فِي الْأُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ كَعِنْدَ شُرْبِ الدُّخَانِ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ عَلَى الْأَظْهَرِ وَكَالْإِتْيَانِ بِهَا فِي الْوَطْءِ الْمَكْرُوهِ كَأَنْ يَطَأَ الْجُنُبُ ثَانِيًا قَبْلَ غَسْلِ فَرْجِهِ كَمَا فِي الْخَرَشِيِّ وَيُكْرَهُ الْإِتْيَانُ بِهَا أَيْضًا فِي الْأَذَانِ وَالذِّكْرِ .
وَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا شَرَفٌ عَظِيمٌ شَرْعًا وَعُرْفًا لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الذِّكْرِ أَوْ هِيَ نَفْسُهَا ذِكْرٌ فَلَا تَحْتَاجُ لِذِكْرٍ آخَرَ فَتَأَمَّلْ وَلَمْ أَرَ نَصًّا فِي الْمَذْهَبِ عَلَى حُكْمِ الْإِتْيَانِ بِهَا فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٍ وَفِي أَثْنَائِهَا إلَّا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ كَمَا أَخْبَرَنِي بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ مِنْ أَشْيَاخِي مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْعَلَّامَةُ الرَّمْلِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ كَرَاهَتِهَا فِي أَوَّلِ بَرَاءَةٍ وَاسْتِحْبَابِهَا فِي
أَثْنَائِهَا خِلَافًا لِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ تَحْرُمُ فِي أَوَّلِهَا وَتُكْرَهُ فِي أَثْنَائِهَا فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ وَتَعْرِضُ لَهَا الْحُرْمَةُ فِي تِلَاوَتِهَا لِلْجُنُبِ عَلَى أَنَّهَا الَّتِي فِي سُورَةِ النَّمْلِ لَا عَلَى أَنَّهُ ذِكْرٌ بِقَصْدِ التَّحَصُّنِ وَفِي ابْتِدَاءِ الْمُحَرَّمَاتِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى الْأَظْهَرِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْإِبَاحَةُ عَلَى الظَّاهِرِ لِأَنَّهَا ذِكْرٌ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ النَّدْبُ نَعَمْ قَالَ الْخَادِمِيُّ : إنَّهَا مُبَاحَةٌ فِي أَوَّلِ الْقُعُودِ وَالْقِيَامِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُطْلَبُ فِي ذِي الْبَالِ دُونَ هَذَا انْتَهَى لَكِنَّهُ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ إنْ أَتَى بِهَا فِي غَيْرِ ذِي الْبَالِ إنْ كَانَ قَصْدُهُ التَّبَرُّكَ أَوْ التَّحَصُّنَ فَيَرْجِعُ لِلذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ التَّهَاوُنَ فَهُوَ كُفْرٌ وَقَوْلُهُمْ تُطْلَبُ فِي ذِي الْبَالِ أَيْ تَتَأَكَّدُ فِيهِ وَأَمَّا الطَّلَبُ الْكُلِّيُّ الَّذِي أَتَى لَهَا مِنْ حَيْثُ الذِّكْرُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ أَيْ فِي غَيْرِ ذِي الْبَالِ عِنْدَ عَدَمِ مُنَافٍ لِلتَّعْظِيمِ كَمَا هُنَا وَطَلَبُهَا لِلْكَنِيفِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِذِي بَالٍ وَمُنَافٍ لِلتَّعْظِيمِ إمَّا لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَحَلٌّ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ يَكُونُ ذَا بَالٍ كَمَا لِلشَّيْخِ مُحَمَّدِ عِبَادَةَ .
وَإِمَّا لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا حِينَئِذٍ التَّحَصُّنُ مِنْ الْجِنِّ وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ يَأْتِي بِهَا عِنْدَ كَبِّ الْمَاءِ وَالتَّفِلَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ التَّحَصُّنَ وَالتَّبَرُّكَ لِنَفْسِهِ لَا لِكَبِّ الْمَاءِ وَلَا لِلتَّفِلَةِ صَوْنًا لِاقْتِرَانِ اسْمِهِ تَعَالَى بِالْمُحَقَّرَاتِ كَمَا لِلْخَادِمِيِّ وَالْمُرَادُ بِالْجَوَازِ فِي قَوْلِ الْمُخْتَصَرِ وَجَازَتْ كَتَعَوُّذِ بِنَفْلِ عَدَمِ تَأَكُّدِ الطَّلَبِ وَنَفْيِ الْكَرَاهَةِ فَلَا يُنَافِي نَدْبُهَا وَكَوْنُ الْإِتْيَانِ بِذِكْرِ اللَّهِ وَلَا ثَوَابَ لَهُ بَعِيدٌ كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا الْأَمِيرُ ا هـ بِتَلْخِيصٍ وَتَوْضِيحِ مَا وَحَذْفٍ وَظَاهِرُهُ كَرَاهَتُهَا فِي الْمَكْرُوهِ مُطْلَقًا وَحُرْمَتُهَا فِي الْمُحَرَّمِ مُطْلَقًا
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْبَسْمَلَةُ شُرِعَتْ فِي غَالِبِ ذَوَاتِ الْبَالِ أَصَالَةً أَوْ لِعَارِضِ قَصْدِ التَّحَصُّنِ وَالتَّبَرُّكِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ مَا عَدَا نَحْوَ الصَّلَوَاتِ مِمَّا جَعَلَ الشَّارِعُ مَبْدَأَهُ بِغَيْرِهَا وَمَا عَدَا الذِّكْرَ الْمَحْضَ وَغَيْرَ ذَوَاتِ الْبَالِ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ مُطْلَقًا أَيْ وَلَوْ كَانَا لِعَارِضٍ وَنَحْوَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ وَلَمْ تُشْرَعْ فِي سِتَّةِ أُمُورٍ : الْأَوَّلُ نَحْوُ الصَّلَوَاتِ مِمَّا جَعَلَ الشَّارِعُ مَبْدَأَهُ بِغَيْرِهَا وَالثَّانِي الذِّكْرُ الْمَحْضُ وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ الْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ وَلَوْ كَانَا لِعَارِضٍ وَالْخَامِسُ الْأُمُورُ الْخَسِيسَةُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا وَعَدَمِ قَصْدِ التَّحَصُّنِ وَالتَّبَرُّكِ لِنَفْسِهِ وَإِلَّا رَجَعَتْ بِذَلِكَ لِذَوَاتِ الْبَالِ وَالسَّادِسُ نَحْوُ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ مِمَّا أُبِيحَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ وَلَا مِنْ ذَوَاتِ الْبَالِ وَحُكْمُهَا فِيمَا شُرِعَتْ فِيهِ مِنْ ذَوَاتِ الْبَالِ تَأَكُّدُ النَّدْبِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ الشَّامِلِ لِلسُّنَّةِ وَالْمُسْتَحَبِّ عَلَى مَا مَرَّ ، وَمِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ لِعَارِضٍ لِمَا عَلِمْت وَفِي نَحْوِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ وَالذِّكْرِ الْمَحْضِ الْكَرَاهَةُ وَفِي الْمُحَرَّمِ مُطْلَقًا عِنْدَنَا أَوْ لِذَاتِهِ فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ أَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ التَّحْرِيمُ عَلَى الْأَظْهَرِ وَفِي الْمَكْرُوهِ مُطْلَقًا عِنْدَنَا أَوْ لِذَاتِهِ فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ أَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ الْكَرَاهَةُ نَعَمْ الْحُرْمَةُ عِنْدَنَا فِي الْمُحَرَّمِ لِعَارِضٍ وَالْكَرَاهَةُ فِي الْمَكْرُوهِ لِعَارِضٍ أَخَفُّ مِنْهُمَا فِي الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ وَالْمَكْرُوهِ فَافْهَمْ وَفِي الْأُمُورِ الْخَسِيسَةِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا خِلَافُ الْأَوْلَى صَوْنًا لِاقْتِرَانِ اسْمِهِ تَعَالَى بِالْمُحْتَقَرَاتِ وَمَعَ قَصْدِ التَّحَصُّنِ وَالتَّبَرُّكِ لِنَفْسِهِ النَّدْبُ لِرُجُوعِهَا لِذَوَاتِ الْبَالِ بِذَلِكَ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى نَحْوُ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَإِنْ لَمْ تُشْرَعْ فِيهِ
لِأَنَّ أَقَلَّ مَرَاتِبِ الذِّكْرِ النَّدْبُ وَإِنْ لَمْ يَتَأَكَّدْ إلَّا فِي ذَوَاتِ الْبَالِ فَافْهَمْ .
وَصْلٌ ) فِي زِيَادَةِ تَحْرِيرِ هَذَا الْفَرْقِ بِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِعَارِضٍ قَالَ الْعَلَّامَةُ الأنبابي فِي تَقْرِيرَاتِهِ عَلَى بَاجُورِيّ السُّنُوسِيَّةِ : يَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ وَالْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهُ وَكَرَاهَتُهُ لِعِلَّةٍ يَدُورُ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا وَالْمُحَرَّمِ لِعَارِضٍ وَالْمَكْرُوهِ لِعَارِضٍ مَا كَانَ تَحْرِيمُهُ وَكَرَاهَتُهُ لِعِلَّةٍ يَدُورُ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا فَالزِّنَا وَشُرْبُ الْخَمْرِ مِنْ قَبِيلِ الْمُحَرَّمِ لِذَاتِهِ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَا لَا يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ الَّتِي هِيَ اخْتِلَاطُ الْأَنْسَابِ وُجُودًا وَعَدَمًا إذْ قَدْ تَنْتِفِي الْعِلَّةُ وَيُوجَدُ التَّحْرِيمُ كَمَا إذَا وَطِئَ رَجُلٌ صَغِيرَةً .
وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ شُرْبِ الْخَمْرِ لَا يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ الَّتِي هِيَ الْإِسْكَارُ إذْ قَدْ يَنْتَفِي الْإِسْكَارُ وَيُوجَدُ التَّحْرِيمُ كَمَا إذَا اعْتَادَ الشَّخْصُ شُرْبَ الْخَمْرِ بِحَيْثُ لَا يُؤَثِّرُ فِي عَقْلِهِ شَيْءٌ أَوْ شَرِبَ قَدْرًا لَا يُسْكِرُ وَالْوُضُوءُ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ مِنْ الْمُحَرَّمِ لِعَارِضٍ لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ الَّتِي هِيَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ عُدْوَانًا وُجُودًا وَعَدَمًا وَالنَّظَرُ لِفَرْجِ الْحَلِيلَةِ مِنْ قَبِيلِ الْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ لِأَنَّ كَرَاهَتَهُ لَا تَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ الَّتِي هِيَ خَوْفُ الطَّمْسِ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إذْ قَدْ تَنْتِفِي الْعِلَّةُ وَتُوجَدُ الْكَرَاهَةُ كَمَا إذَا أَخْبَرَهُ مَعْصُومٌ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ طَمْسٌ إذَا نَظَرَ لِفَرْجِ حَلِيلَتِهِ وَالْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ مِنْ الْمَكْرُوهِ لِعَارِضٍ لِأُنِرَ كَرَاهَتَهُ تَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ الَّتِي هِيَ خَوْفُ الْبَرَصِ وُجُودًا وَعَدَمًا فَإِذَا امْتَنَعَتْ الْعِلَّةُ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ تَشْمِيسُهُ فِي نُحَاسٍ أَوْ كَانَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ الْقُطْرُ حَارًّا انْتَفَتْ الْكَرَاهَةُ وَبِهَذَا انْدَفَعَ مَا يُقَالُ لَا يُعْقَلُ فَرْقٌ بَيْنَ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِمَا وَبَيْنَ
الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِعَارِضٍ لِأَنَّهُ إذَا نُظِرَ لِلشُّرْبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَجَائِزٌ وَإِنْ نُظِرَ لِكَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِالْخَمْرِ فَهُوَ حَرَامٌ كَمَا أَنَّهُ إنْ نُظِرَ لِلْوُضُوءِ فِي ذَاتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ نُظِرَ لِكَوْنِهِ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَكَذَا يُقَالُ فِي الْمَكْرُوهِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِمَا مَا كَانَ تَحْرِيمُهُ وَكَرَاهَتُهُ لَا لِعِلَّةٍ وَلَا لِعَارِضٍ مَا كَانَ مَا ذُكِرَ لَهَا وَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّ لِلْكُلِّ عَدْلًا وَلَا فَرْقَ ا هـ بِتَوْضِيحِ وَتَغْيِيرِ مَا وَتَمْثِيلُهُ لِلْمَكْرُوهِ لِذَاتِهِ بِالنَّظَرِ لِفَرْجِ الْحَلِيلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَمُبَاحٌ فَفِي مَجْمُوعِ الْأَمِيرِ مَعَ شَرْحِهِ وَحَوَاشِيهِ وَحَلَّ بِالْعَقْدِ أَيْ بِشَرْطِ الْإِشْهَادِ غَيْرَ الْإِيلَاجِ بِدُبْرٍ مِنْ نَظَرِ فَرْجٍ وَغَيْرِهِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : نَظَرُ الْفَرْجِ يُورِثُ الْعَمَى نَعَمْ الْأَكْمَلُ خِلَافُهُ كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { وَاَللَّهِ مَا رَأَى مِنِّي وَمَا رَأَيْت مِنْهُ } ا هـ فَالْأَوْلَى التَّمْثِيلُ لِذَلِكَ بِأَكْلِ مَنْ لَمْ يَقْصِدْ دُخُولَ الْمَسْجِدِ نَحْوِ الْبَصَلِ النِّيءِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُ بِهِ رَائِحَتَهُ لِأَنَّ كَرَاهَتَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِهَا تَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ الَّتِي هِيَ تَأَذِّي غَيْرُهُ وَلَوْ مَلَكًا وُجُودًا وَعَدَمًا لِتَحَقُّقِ الْكَرَاهَةِ وَلَوْ لَمْ يَجْتَمِعْ مَعَ أَحَدٍ أَوْ اجْتَمَعَ بِمَنْ ضَعُفَتْ حَاسَّةُ شَمِّهِ قَالَ : الْعَلَّامَةُ الصَّفْتِيُّ مَا حَاصِلُهُ : إنَّ أَكْلَ الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَحَرَامٌ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَحَدٌ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُ بِهِ رَائِحَتَهُ وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَخِلَافُ الْأَوْلَى إنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُ بِهِ رَائِحَتَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُزِيلُ بِهِ رَائِحَتَهُ فَإِنْ قَصَدَ دُخُولَ الْمَسْجِدِ فَحَرَامٌ وَإِلَّا فَقِيلَ بِالْكَرَاهَةِ وَقِيلَ بِالْجَوَازِ وَقِيلَ بِالْحُرْمَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَفَادَهُ
الشَّيْخُ فِي حَاشِيَةِ الْخَرَشِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الصَّوْمِ وَقَاعِدَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ) وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } فَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّشْرِيفِ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مَعَ أَنَّ الْفَتَاوَى عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ .
مِنْهُ وَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ إنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ لِهَذِهِ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ مِنْ فَارِقٍ أَوْجَبَ ذَلِكَ وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيهِ فُرُوقًا أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ نَبَّهَ عَلَى شَرَفِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهِمَا وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ وَأَعْمَالُ الْقُلُوبِ الْحَسَنَةُ كُلُّهَا خَفِيَّةٌ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ تَنَاوَلَهَا بِعُمُومِهِ وَثَانِيهِمَا أَنَّ جَوْفَ الْإِنْسَانِ يَبْقَى خَالِيًا فَيَحْصُلُ لَهُ شِبْهُ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّ الصَّمَدَ هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِيهِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ الِاشْتِغَالُ بِالْعُلُومِ فَإِنَّ الْعِلْمَ مِنْ أَجَلِّ صِفَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى فَمَنْ حَصَّلَهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ شَبَهٌ عَظِيمٌ وَكَذَلِكَ الِانْتِقَامُ مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْظِيمُ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَكُلُّ ذَلِكَ إذَا صَدَرَ مِنْ الْعَبْدِ كَانَ فِيهِ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُفَضَّلٌ عَلَيْهَا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَثَالِثُهَا أَنَّهُ اخْتَصَّ بِتَرْكِ الْإِنْسَانِ لِشَهَوَاتِهِ وَمَلَاذِّهِ فِي فَرْجِهِ وَفَمِهِ وَذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ يُوجِبُ الثَّنَاءَ وَالتَّشْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ
الْمَذْكُورَةِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجِهَادَ أَعْظَمُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِيهِ مُؤْثِرٌ مُهْجَتَهُ وَجَسَدَهُ وَحَيَاتَهُ فَيَذْهَبُ جَمِيعُ الشَّهَوَاتِ تَبَعًا لِذَهَابِ الْحَيَاةِ وَكَذَلِكَ الْحَجُّ يَتْرُكُ فِيهِ الْعَبْدُ الْمَخِيطَ وَالْمُحِيطَ وَالطِّيبَ وَالتَّنْظِيفَ وَيُفَارِقُ الْأَوْطَانَ وَالْأَوْطَارَ وَالْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ وَالْإِخْوَانَ وَيَرْتَكِبُ الْأَخْطَارَ فِي الْأَسْفَارِ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ مُفَضَّلٌ عَلَيْهِ بِعُمُومِ الْحَدِيثِ وَرَابِعُهَا أَنَّ جَمِيعَ الْعِبَادَاتِ وَقَعَ التَّقَرُّبُ بِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لَمْ يُتَقَرَّبْ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ خُصِّصَ بِالْإِضَافَةِ وَوَرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّوْمَ أَيْضًا وَقَعَ التَّقَرُّبُ بِهِ إلَى الْكَوَاكِبِ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ أَرْبَابُ الِاسْتِخْدَامَاتِ لِلْكَوَاكِبِ وَخَامِسُهَا أَنَّ الصَّوْمَ يُوجِبُ تَصْفِيَةَ الْفِكْرِ وَصَفَاءَ الْعَقْلِ وَضَعْفَ الْقُوَى الشَّهْوَانِيَّةِ بِسَبَبِ الْجُوعِ وَقِلَّةِ الْغِذَاءِ وَلِذَلِكَ قَالَ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تَدْخُلُ الْحِكْمَةُ جَوْفًا مُلِئَ طَعَامًا } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { الْبِطْنَةُ تَذْهَبُ بِالْفِطْنَةِ } وَلَا شَكَّ أَنَّ صَفَاءَ الْعَقْلِ وَضَعْفَ الشَّهْوَةِ الْبَهِيمِيَّةِ مِمَّا يُوجِبُ حُصُولَ الْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَهَذِهِ مِزْيَةٌ عَظِيمَةٌ تُوجِبُ التَّشْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّلَاةَ وَمُنَاجَاةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْمُرَاقَبَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَالْتِزَامَ الْأَدَبِ مَعَهُ وَالْخُضُوعِ لَدَيْهِ مِمَّا يُوجِبُ حُصُولَ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمَوَاهِبِ الرَّبَّانِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } { وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ دَالَّةٌ عَلَى سَبَبِ الْمَوَاهِبِ وَالنُّورِ وَالْهِدَايَةِ وَجَزِيلِ الْفَضَائِلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
مُتَرَتِّبًا عَلَى الصَّلَاةِ أَكْثَرَ إذَا وَقَعَتْ مِنْ الْمُكَلَّفِ عَلَى وَجْهِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ { مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت .
إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً } وَالْمُصَلِّي يَتَقَرَّبُ أَكْثَرَ فَيَكُونُ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَعْظَمَ وَذُكِرَ مَعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ وُجُوهٌ أُخَرُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ غَيْرُ سَالِمَةٍ مِنْ النَّقْصِ وَلَمْ أَرَ فِيهِ فَرْقًا تَقَرُّ بِهِ الْعَيْنُ وَيَسْكُنُ إلَيْهِ الْقَلْبُ غَيْرَ أَنِّي أَوْقَفْتُك عَلَى أَكْثَرَ مَا قِيلَ فِيهِ مِمَّا هُوَ قَوِيُّ الْمُنَاسَبَةِ وَمَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْتَ مِنْ وَرَاءِ الْفَحْصِ وَالْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ .
قَالَ : ( الْفَرْقُ الْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الصَّوْمِ وَقَاعِدَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ : فِيهِ ) قُلْتُ : أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ عِنْدِي الْقَوْلُ الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ وَهُوَ أَنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا أُورِدَ عَلَيْهِ مِنْ النَّقْضِ بِالْإِيمَانِ وَسَائِرِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ يُجَابُ عَنْهُ بِحَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَا الْبَاطِنَةُ وَأَنَّ الصَّوْمَ اخْتَصَّ دُونَهَا بِهَذِهِ الْمِزْيَةِ وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ كَوْنُ الصَّلَاةِ أَفْضَلَ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْمِزْيَةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى مَا قَرَّرَ هُوَ بَعْدَ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الصَّوْمِ وَقَاعِدَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ) مِنْ حَيْثُ إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ خَصَّصَ الصَّوْمَ بِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ الْمُوجِبَةِ لِتَشْرِيفِهِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنْهُ كَمَا عَلَيْهِ الْفَتَاوِي وَحَدِيثُ { أَفْضَلُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } وَالْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ إنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ فَاحْتِيجَ إلَى بَيَانِ الْفَارِقِ الَّذِي أَوْجَبَ هَذِهِ الْإِضَافَةَ وَالتَّخْصِيصَ وَاضْطِرَابَ النَّاسِ فِيهِ فَمِنْ قَائِلٍ : إنَّ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ أَمْرًا خَفِيًّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً إلَّا اللَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ عَلَى شَرَفِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهِمَا .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ مَا تَوْضِيحُهُ وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ عِنْدِي وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ } إلَخْ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ فَقَطْ لَا مَا يَشْمَلُ الْبَاطِنَةَ مِنْ الْإِيمَانِ وَسَائِرِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْحَسَنَةِ حَتَّى يُقَالَ : إنَّهَا كَالصَّوْمِ فِي الْخَفَاءِ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ تَخْصِيصِ الصَّوْمِ بِهَذِهِ الْمِزْيَةِ دُونَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ مَعَ كَوْنِ الصَّلَاةِ أَفْضَلَ مِنْهُ إذْ قَدْ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَفْضُولِ مِنْ الْمَزَايَا مَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْفَاضِلِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ بَعْدَ هَذَا ا هـ وَمِنْ قَائِلٍ إنَّ جَوْفَ الْإِنْسَانِ فِي الصَّوْمِ يَبْقَى خَالِيًا فَيَحْصُلُ لَهُ بِهِ شِبْهُ وَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ فَإِنَّ الصَّمَدَ هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فِيهِ وَفِيهِ أَنَّ عُمُومَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ يَقْتَضِي تَفْضِيلَهُ حَتَّى عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالْعُلُومِ وَالِانْتِقَامِ مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْظِيمِ
الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَكُلُّ ذَلِكَ إذَا صَدَرَ مِنْ الْعَبْدِ كَانَ فِيهِ كَالصَّوْمِ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الرَّبِّ وَمِنْ قَائِلٍ : إنَّ الصَّوْمَ اخْتَصَّ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ يُوجِبُ تَشْرِيفَهُ بِالْإِضَافَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهُوَ تَرْكُ الْإِنْسَانِ لِشَهَوَاتِهِ وَمَلَاذِّهِ فِي فَرْجِهِ وَفَمِهِ وَفِيهِ أَنَّ عُمُومَ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي تَفْضِيلَهُ حَتَّى عَلَى الْجِهَادِ وَالْحَجِّ مَعَ أَنَّهُمَا أَعْظَمُ فِي ذَلِكَ مِنْهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْجِهَادِ مُؤْثِرٌ مُهْجَتَهُ وَجَسَدَهُ وَحَيَاتَهُ فَتَذْهَبُ جَمِيعُ الشَّهَوَاتِ تَبَعًا لِذَهَابِ الْحَيَاةِ وَفِي الْحَجِّ يَتْرُكُ الْمَخِيطَ وَالْمُحِيطَ وَالطِّيبَ وَالتَّنْظِيفَ وَيُفَارِقُ الْأَوْطَانَ وَالْأَوْطَارَ وَالْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ وَالْإِخْوَانَ وَيَرْكَبُ الْأَخْطَارَ فِي الْأَسْفَارِ وَمِنْ قَائِلٍ : إنَّ تَخْصِيصَهُ بِالْإِضَافَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَرَّبْ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَفِيهِ أَنَّ الصَّوْمَ أَيْضًا وَقَعَ التَّقَرُّبُ بِهِ إلَى الْكَوَاكِبِ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ أَرْبَابُ الِاسْتِخْدَامَاتِ لِلْكَوَاكِبِ وَمِنْ قَائِلٍ إنَّ الصَّوْمَ يُوجِبُ تَصْفِيَةَ الْفِكْرِ وَصَفَاءَ الْعَقْلِ وَضَعْفَ الْقُوَى الشَّهْوَانِيَّةِ بِسَبَبِ الْجُوعِ وَقِلَّةِ الْغِذَاءِ .
وَكُلُّ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ يُوجِبُ حُصُولَ الْمَعَارِفِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ السُّنِّيَّةِ كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ حَدِيثُ { لَا تَدْخُلُ الْحِكْمَةُ جَوْفًا مُلِئَ طَعَامًا } وَحَدِيثُ { الْبِطْنَةُ تَذْهَبُ بِالْفِطْنَةِ } وَهَذِهِ مِزْيَةٌ عَظِيمَةٌ تُوجِبُ التَّشْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَفِيهِ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ بَلْ الصَّلَاةُ وَمُنَاجَاةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْمُرَاقَبَةُ لَهُ فِي ذَلِكَ وَالْتِزَامُ الْأَدَبِ مَعَهُ وَالْخُضُوعُ لَدَيْهِ مِمَّا يُوجِبُ حُصُولَ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمَوَاهِبِ الرَّبَّانِيَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى { وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ }
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ دَالَّةٌ عَلَى سَبَبِ الْمَوَاهِبِ وَالنُّورِ وَالْهِدَايَةِ وَجَزِيلِ الْفَضَائِلِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُتَرَتِّبُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ إذَا وَقَعَتْ مِنْ الْمُكَلَّفِ عَلَى وَجْهِهَا أَكْثَرَ مِنْ الْمُتَرَتِّبِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الصَّوْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ { مِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً } وَالْمُصَلِّي يَتَقَرَّبُ أَكْثَرَ فَيَكُونُ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَعْظَمَ وَمِنْ قَائِلٍ كَذَا وَمِنْ قَائِلٍ كَذَا وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ غَيْرُ سَالِمَةٍ مِنْ النَّقْضِ وَأَحْسَنُهَا الْأَوَّلُ وَنَقْضُهُ مَدْفُوعٌ كَمَا عَلِمْت وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الْحَادِيَ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْحَمْلِ عَلَى أَوَّلِ جُزْئِيَّاتِ الْمَعْنَى وَقَاعِدَةِ الْحَمْلِ عَلَى أَوَّلِ أَجْزَائِهِ أَوْ الْكُلِّيَّةِ عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا وَهُوَ الْعُمُومُ عَلَى الْخُصُوصِ ) وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ الْتَبَسَ عَلَى جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا الْمَوْضِعُ أَصْلُهُ إطْلَاقٌ وَقَعَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الِاسْمِ هَلْ يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى أَوَّلِهِ أَمْ لَا ؟ قَوْلَانِ فَلَمَّا وَقَعَ هَذَا الْإِطْلَاقُ لِلْأُصُولِيِّينَ عَمِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَخْرِيجِ الْفُرُوعِ عَلَيْهِ عَلَى خِلَافِ مَا تَقْتَضِيهِ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ قَاعِدَتَيْنِ : ( الْقَاعِدَةُ الْأُولَى ) تَحْقِيقُ الْجُزْئِيِّ مَا هُوَ وَلَهُ مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا كُلُّ شَخْصٍ مِنْ نَوْعٍ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَخْصٍ مِنْ نَوْعٍ كَالْفَرَسِ الْمُعَيَّنِ مِنْ نَوْعِ الْفَرَسِ وَالْحَجَرِ الْمُعَيَّنِ مِنْ نَوْعِ الْحِجَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَثَانِيهِمَا مَا انْدَرَجَ تَحْتَ كُلِّيٍّ هُوَ وَغَيْرُهُ وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ بِالْأَشْخَاصِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو لِانْدِرَاجِهِمَا تَحْتَ مَفْهُومِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِمَا وَيَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ الَّتِي لَيْسَتْ بِأَشْخَاصٍ لِانْدِرَاجِهَا تَحْتَ كُلِّيٍّ هِيَ وَغَيْرُهَا فَالْإِنْسَانُ يَنْدَرِجُ تَحْتَ الْحَيَوَانِ مَعَ الْفَرَسِ وَالْحَيَوَانُ مَعَ النَّبَاتِ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ النَّامِي وَالنَّامِي وَالْجَمَادُ مُنْدَرِجَانِ تَحْتَ الْجِسْمِ فَهَذَانِ هُمَا مَعْنَى الْجُزْئِيِّ .
( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ ) بَيَانُ الْجُزْءِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُعْقَلُ إلَّا بِالْقِيَاسِ إلَى كُلٍّ فَالْكُلُّ مُقَابِلٌ لِلْجُزْءِ وَالْكُلِّيُّ مُقَابِلٌ لِلْجُزْئِيِّ فَالْخَمْسَةُ مِنْ الْعَشَرَةِ جُزْءٌ وَالْحَيَوَانُ مِنْ الْإِنْسَانِ جُزْءٌ وَالْإِنْسَانُ كُلٌّ لِتَرَكُّبِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ وَهَاهُنَا قَاعِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى
الْكُلِّ دَالٌّ عَلَى جُزْئِهِ فِي الْأَمْرِ وَخَبَرَ الثُّبُوتِ بِخِلَافِ النَّهْيِ وَخَبَرِ النَّفْيِ فَإِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ أَوْجَبَ رَكْعَةً وَإِذَا قُلْنَا عِنْدَ زَيْدٍ نِصَابٌ فَعِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ أَمَّا إذَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فِي الصُّبْحِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ رَكْعَتَيْنِ وَإِذَا قُلْنَا لَيْسَ عِنْدَهُ نِصَابٌ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ بَلْ تِسْعَةَ عَشَرَ وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ يَعْتَمِدُ إعْدَامَ الْحَقِيقَةِ وَعَدَمُ الْحَقِيقَةِ يَصْدُقُ بِعَدَمِ جُزْءٍ وَاحِدٍ مِنْهَا وَلَا يَتَوَقَّفُ عَدَمُهَا عَلَى عَدَمِ جَمِيعِ أَجْزَائِهَا كَمَا يُعْدَمُ النِّصَابُ بِدِينَارٍ فَكَذَلِكَ خَبَرُ النَّفْيِ أَمَّا ثُبُوتُ الْحَقِيقَةِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ جَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا يَثْبُتُ النِّصَابُ إلَّا بِثُبُوتِ جَمِيعِ عِشْرِينَ دِينَارًا وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِتَحْصِيلِ الْمُرَكَّبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحْصِيلِ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ فَلَا تَحْصُلُ الرَّكْعَتَانِ حَتَّى تَتَحَصَّلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَلِذَلِكَ دَلَّ الْأَمْرُ وَخَبَرُ الثُّبُوتِ عَلَى ثُبُوتِ الْجُزْءِ دُونَ النَّهْيِ وَخَبَرِ النَّفْيِ وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْكُلِّيِّ لَا يَدُلُّ عَلَى جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَلْ إنَّمَا يُفْهَمُ الْجُزْئِيُّ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ غَيْرِ اللَّفْظِ فَإِذَا قُلْنَا : فِي الدَّارِ جِسْمٌ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حَيَوَانٌ .
وَإِذَا قُلْنَا : فِيهَا حَيَوَانٌ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إنْسَانٌ وَإِذَا قُلْنَا : فِيهَا إنْسَانٌ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ وَإِذَا قُلْنَا : فِيهَا مُؤْمِنٌ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ زَيْدٌ إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ ظَهَرَ أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ جُزْئِيَّاتِهِ لَا تَكُونُ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلَفْظِهِ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْجُزْئِيِّ أَمَّا إذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى أَقَلِّ الْأَجْزَاءِ فَقَدْ خَالَفْنَا اللَّفْظَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى
الْجُزْءِ الْآخَرِ وَمَا أَتَيْنَا بِهِ وَمُخَالَفَةُ لَفْظِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَا تَجُوزُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى صُومُوا رَمَضَانَ فَمَنْ عَمَدَ إلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى أَقَلِّ أَجْزَائِهِ فَقَدْ خَالَفَ لَفْظَ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِقُوا رَقَبَةً فَعَمَدْنَا إلَى رَقَبَةٍ تُسَاوِي عَشَرَةً وَتَرَكْنَا الرَّقَبَةَ الَّتِي تُسَاوِي أَلْفًا لَا نَكُونُ مُخَالِفِينَ لِلَفْظِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يُخَرِّجُ الْخِلَافَ فِي غَسْلِ الذَّكَرِ مِنْ الْمَذْيِ هَلْ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الْحَشَفَةِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ جُمْلَتِهِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لِأَنَّ هَذَا اقْتِصَارٌ عَلَى جُزْءٍ لَا جُزْئِيٍّ فَهُوَ كَالِاقْتِصَارِ عَلَى يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَلَا يَصِحُّ وَكَذَلِكَ تَخْرِيجُ الْخِلَافِ فِي التَّيَمُّمِ هَلْ هُوَ إلَى الْكُوعَيْنِ أَوْ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ أَوْ إلَى الْإِبْطَيْنِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا فَإِنَّ الْكُوعَ جُزْءُ الْيَدِ لَا جُزْئِيٌّ مِنْهَا فَكَانَ كَالِاقْتِصَارِ عَلَى يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَكُلُّ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مِنْ التَّخْرِيجِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَتَأَمَّلْهُ فَهُوَ كَثِيرٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَذَاهِبِ وَكَذَلِكَ حَمْلُ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ تَرْكٌ لِظَاهِرِ الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَهُوَ بَاطِلٌ إجْمَاعًا فَيُجْتَنَبُ فِي هَذَا الْبَابِ حَمْلُ الْكُلِّ عَلَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ وَحَمْلُ الْكُلِّيَّةِ عَلَى بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا فَهُوَ حَمْلُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ الْخُصُوصِيَّاتِ فَهَذِهِ كُلُّهَا تَخْرِيجَاتٌ بَاطِلَةٌ بَلْ التَّخْرِيجُ الصَّحِيحُ فِي فُرُوعٍ مِنْهَا فَرْعُ الْحَضَانَةِ هَلْ تَسْتَحِقُّهُ الْأُمُّ إلَى الْإِثْغَارِ أَوْ إلَى الْبُلُوغِ قَوْلَانِ يُنَاسِبُ تَخْرِيجُهُمَا عَلَى الْقَاعِدَةِ بِسَبَبِ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي } كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْأَحَقِّيَّةِ لَهَا إمَّا غَايَةٌ مُعَيَّنَةٌ فَلَمْ يَذْكُرْهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ غَيْرَ
غَايَةٍ تَتَعَلَّقُ بِهَا هِيَ وَبِحَالِهَا وَهِيَ عَدَمُ الزَّوَاجِ إمَّا غَايَةٌ تَتَعَلَّقُ بِحَالِهِ هُوَ فَلَمْ يَذْكُرْهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ بَلْ الْأَحَقِّيَّةُ فَقَطْ وَهِيَ تَصْدُقُ بِطَرَفَيْنِ فَأَدْنَاهُمَا الْإِثْغَارُ وَأَعْلَاهُمَا الْبُلُوغُ فَإِذَا حَمَلْنَا الْحَضَانَةَ عَلَى الْإِثْغَارِ لَا نَكُونُ مُخَالِفِينَ لِمُقْتَضَى لَفْظِ الْأَحَقِّيَّةِ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ فَقَدْ وَفَيْنَا بِالْقَاعِدَةِ مَعَ عَدَمِ مُخَالَفَةِ اللَّفْظِ .
فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ خُولِفَتْ الْغَايَةُ الْمَقُولَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالِهَا هِيَ وَهِيَ عَدَمُ الزَّوَاجِ قُلْت : مُسَلَّمٌ لَكِنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ هِيَ إشَارَةٌ إلَى الْمَانِعِ وَأَنَّ زَوَاجَهَا مَانِعٌ مِنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ وَالْمَانِعُ وَعَدَمُهُ لَا مَدْخَلَ لَهُمَا فِي تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ بَلْ فِي عَدَمِ تَرَتُّبِهَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْمَانِعِ إنَّمَا هُوَ وُجُودُهُ فِي الْعَدَمِ لَا عَدَمُهُ فِي الْوُجُودِ وَالتَّخْرِيجُ إنَّمَا وَقَعَ فِيمَا اقْتَضَاهُ اللَّفْظُ مِنْ مُوجِبِ الْحُكْمِ وَسَبَبِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثُّبُوتُ وَمِنْهَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْأَمَةِ وَوَلَدِهَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ أَيْضًا هَلْ يُمْنَعُ ذَلِكَ إلَى الْبُلُوغِ أَوْ الْإِثْغَارِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ وَتَخْرِيجُهُ عَلَى الْقَاعِدَةِ مُتَيَسِّرٌ أَيْضًا حَسَنٌ بِسَبَبِ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَلَى وَلَدِهَا } عَامٌّ فِي الْوَالِدَاتِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ وَالِدَةً نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ وَوَلَدَهَا اسْمُ جِنْسٍ أُضِيفَ فَيَعُمُّ وَعَامٌّ فِي الزَّمَانِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنْ لَا لِنَفْيِ الِاسْتِقْبَالِ عَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ وَمِنْهُ { لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا } فَإِنَّ ذَلِكَ يَعُمُّ الْأَزْمِنَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ غَيْرَ أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي أَحْوَالِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ .
وَإِذَا كَانَ مُطْلَقًا فِي الْأَحْوَالِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ أَمْرًا كُلِّيًّا يَصْدُقُ فِي رُتْبَةٍ دُنْيَا
وَهِيَ الْإِثْغَارُ وَرُتْبَةٍ عُلْيَا وَهِيَ الْبُلُوغُ فَإِذَا خُرِّجَ الْخِلَافُ عَلَى الْقَاعِدَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اسْتَقَامَ لِأَنَّهُ حَمَلَ اللَّفْظَ عَلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ جُزْئِيَّاتِهِ وَلَا يُخَالِفُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْكُلِّيِّ وَأَمَّا عُمُومُ لَا فَهُوَ رَاجِعٌ إلَيْنَا كَأَنَّهُ قَالَ : حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ مِنْ زَمَنِ هَذَا الْخِطَابِ وَلَيْسَ عُمُومُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمَّهَاتِ وَالْأَوْلَادِ فَلَمْ تَكُنْ فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِعَدَمِ الْعُمُومِ فِي الْوَالِدَاتِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ هَلْ مَحْمَلُهُ عَلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الرُّشْدِ وَهُوَ الرُّشْدُ فِي الْمَالِ خَاصَّةً قَالَهُ : مَالِكٌ أَوْ عَلَى أَعْلَى مَرَاتِبِ الرُّشْدِ وَهُوَ الرُّشْدُ فِي الْمَالِ وَالدِّينِ قَالَهُ : الشَّافِعِيُّ مَعَ أَنَّ الرُّشْدَ ذُكِرَ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى جُزْئِيٍّ خَاصٍّ فَلَيْسَ فِي حَمْلِهِ عَلَى أَدْنَى الرُّتَبِ مُخَالَفَةٌ لِلَّفْظِ أَلْبَتَّةَ وَلَا مِنْ وَجْهٍ مُحْتَمَلٍ بِخِلَافِ الْمِثَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِيهِمَا تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ الَّتِي اُحْتِيجَ لِلِاعْتِذَارِ عَنْهَا وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ الْحَرَامِ إذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى الثَّلَاثِ أَوْ الْوَاحِدَةِ خِلَافٌ يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَرَامٌ مُطْلَقٌ دَالٌّ عَلَى مُطْلَقِ التَّحْرِيمِ الدَّائِرِ بَيْنَ الرُّتَبِ الْمُخْتَلِفَةِ فَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى أَعْلَاهَا أَوْ عَلَى أَدْنَاهَا وَيَلْحَقُ بِمَسْأَلَةِ الْحَرَامِ مَا مَعَهَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ نَحْوُ أَلْبَتَّةَ وَالْبَائِنِ وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك هَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَعْلَى الرُّتَبِ وَهُوَ الثَّلَاثُ أَمْ لَا وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ التَّيَمُّمِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا } فَقَوْلُهُ صَعِيدًا مَدْلُولُهُ أَمْرٌ كُلِّيٌّ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى
أَدْنَى الرُّتَبِ وَهُوَ مُطْلَقُ مَا يُسَمَّى صَعِيدًا تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْ أَعْلَى رُتَبِ الصَّعِيدِ وَهُوَ التُّرَابُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا حَسَنَةُ التَّخْرِيجِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا الْمَعْنَى .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ يُؤَذِّنُ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ } وَالْمِثْلِيَّةُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ تَصْدُقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِأَيِّ وَصْفٍ كَانَ مِنْ غَيْرِ شُمُولٍ فَإِذَا قُلْت : زَيْدٌ مِثْلُ الْأَسَدِ كَفَى فِي ذَلِكَ الشُّجَاعَةُ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَوْصَافِ وَكَذَلِكَ زَيْدٌ مِثْلُ عَمْرٍو يَصْدُقُ ذَلِكَ حَقِيقَةً بِمُشَارَكَتِهِمَا فِي صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْمِثْلُ الْمَذْكُورُ فِي الْأَذَانِ إنْ حُمِلَ عَلَى أَعْلَى الرُّتَبِ قَالَ : مِثْلَ مَا يَقُولُ إلَى آخِرِ الْأَذَانِ أَوْ عَلَى أَدْنَى الرُّتَبِ فَفِي التَّشَهُّدِ خَاصَّةً وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فَهَذِهِ سِتُّ مَسَائِلَ تُنَبِّهُك عَلَى صِحَّةِ التَّخْرِيجِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَالْمَسَائِلُ السَّابِقَةُ تُنَبِّهُك عَلَى التَّخْرِيجِ الْفَاسِدِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ مِنْ بَابِ الْأَجْزَاءِ وَهَذِهِ مِنْ بَابِ الْجُزْئِيَّاتِ فَقَدْ ظَهَرَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَالصَّحِيحُ مِنْ الْفَاسِدِ .
( تَنْبِيهٌ ) لَيْسَ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ فُرُوعِهَا بَلْ فُرُوعُهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ أَجْمَعَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى الْحَمْلِ عَلَى أَعْلَى الرُّتَبِ وَهُوَ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَوَامِرِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَسَلْبِ النَّقَائِصِ وَمَا يُنْسَبُ إلَى الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا فَهَذَا الْقِسْمُ الْأَمْرُ فِيهِ مُتَعَلِّقٌ بِأَقْصَى غَايَتِهِ الْمُمْكِنَةِ لِلْعَبِيدِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك } وَقِسْمٌ أَجْمَعَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى الْحَمْلِ عَلَى أَدْنَى الرُّتَبِ
وَهُوَ الْأَقَارِيرُ فَإِذَا قَالَ : لَهُ عِنْدِي دَنَانِيرُ حُمِلَ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَهُوَ أَدْنَى رُتَبِهَا مَعَ صِدْقِهَا فِي الْآلَافِ لِكَوْنِ الْأَصْلِ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ فَيُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِأَقَلِّ الرُّتَبِ وَلَيْسَ الْأَصْلُ إهْمَالَ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ بَلْ تَعْظِيمُهَا وَالْمُبَالَغَةُ فِي إجْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } .
وَقَالَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ الْغَايَاتِ الَّتِي وَصَلُوا إلَيْهَا دُونَ مَا يَنْبَغِي لَهُ تَعَالَى مِنْ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ فَهَذَا تَلْخِيصُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْتَبِسُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ : ( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْحَمْلِ عَلَى أَوَّلِ جُزْئِيَّاتِ الْمَعْنَى وَقَاعِدَةِ الْحَمْلِ عَلَى أَوَّلِ أَجْزَائِهِ أَوْ الْكُلِّيَّةِ عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا وَهُوَ الْعُمُومُ عَلَى الْخُصُوصِ إلَى قَوْلِهِ : وَالْإِنْسَانُ كُلٌّ لِتَرَكُّبِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّاطِقِ ) قُلْتُ : جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ : ( وَهَاهُنَا قَاعِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْكُلِّ دَالٌّ عَلَى جُزْئِهِ فِي الْأَمْرِ وَخَبَرَ الثُّبُوتِ بِخِلَافِ النَّهْيِ وَخَبَرِ النَّفْيِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْكُلِّ دَالٌّ عَلَى جُزْئِهِ مُطْلَقًا .
قَالَ : ( فَإِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ أَوْجَبَ رَكْعَةً ) قُلْتُ : إنْ أَرَادَ فَقَدْ أَوْجَبَ رَكْعَةً مُنْفَرِدَةً فَمَمْنُوعٌ وَإِنْ أَرَادَ فَقَدْ أَوْجَبَ رَكْعَةً مُقَارِنَةً لِأُخْرَى فَمُسَلَّمٌ قَالَ : ( وَإِذَا قُلْنَا عِنْدَ زَيْدٍ نِصَابٌ فَعِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ) قُلْتُ : إنْ أَرَادَ فَعِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مُنْفَرِدَةً فَمَمْنُوعٌ وَإِنْ أَرَادَ فَعِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مُقْتَرِنَةً بِأُخْرَى فَمُسَلَّمٌ .
قَالَ : ( أَمَّا إذَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فِي الصُّبْحِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ رَكْعَتَيْنِ ) قُلْتُ : إنْ أَرَادَ لَا يَلْزَمُ النَّهْيُ عَنْ رَكْعَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثَةٌ فَمُسَلَّمٌ وَإِنْ أَرَادَ لَا يَلْزَمُ النَّهْيُ عَنْ رَكْعَتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ بِثَالِثَةٍ فَمَمْنُوعٌ .
قَالَ : ( وَإِذَا قُلْنَا : لَيْسَ عِنْدَهُ نِصَابٌ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ بَلْ تِسْعَةَ عَشَرَ ) قُلْتُ : إنْ أَرَادَ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مُنْفَرِدَةً فَمُسَلَّمٌ وَإِنْ أَرَادَ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مَعَ عَشَرَةٍ أُخْرَى فَمَمْنُوعٌ قَالَ : ( وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ يَعْتَمِدُ إعْدَامَ الْحَقِيقَةِ وَعَدَمُ الْحَقِيقَةِ يَصْدُقُ بِعَدَمِ جُزْءٍ وَاحِدٍ مِنْهَا وَلَا
يَتَوَقَّفُ عَدَمُهَا عَلَى عَدَمِ جَمِيعِ أَجْزَائِهَا كَمَا يُعْدَمُ النِّصَابُ بِدِينَارٍ فَكَذَلِكَ خَبَرُ النَّفْيِ ) قُلْتُ : إذَا عُدِمَ مِنْ النِّصَابِ دِينَارٌ لَمْ يَبْقَ نِصَابٌ وَلَا جُزْءُ نِصَابٍ فَإِنَّ الدِّينَارَ لَا يَكُونُ جُزْءَ نِصَابٍ إلَّا مَعَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَا تَكُونُ التِّسْعَةَ عَشَرَ جُزْءَ نِصَابٍ إلَّا مَعَ دِينَارٍ أَمَّا إذَا انْفَرَدَ دِينَارٌ فَلَا يُقَالُ فِيهِ جُزْءُ نِصَابٍ إلَّا بِضَرْبٍ مِنْ الْمَجَازِ وَالتَّوَسُّعِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي التِّسْعَةَ عَشَرَ لِأَنَّ الدِّينَارَ وَالتِّسْعَةَ عَشَرَ اجْتِمَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَعَ الْآخَرِ مُمْكِنٌ فَإِذَا اجْتَمَعَا صَارَ الْمَجْمُوعُ نِصَابًا فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءُ نِصَابٍ حَقِيقَةً وَعِنْدَ الِافْتِرَاقِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءُ نِصَابٍ مَجَازًا فَاللَّازِمُ حَقِيقَةً خِلَافُ قَوْلِهِ وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى عُدِمَ جُزْءٌ عُدِمَ جَمِيعُ الْأَجْزَاءِ أَيْ لَمْ تَتَأَلَّفْ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ وَلَمْ تَكْمُلْ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَتَى انْتَفَتْ الْحَقِيقَةُ انْتَفَى جَمِيعُ أَجْزَائِهَا .
قَالَ : ( أَمَّا ثُبُوتُ الْحَقِيقَةِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ جَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا يَثْبُتُ النِّصَابُ إلَّا بِثُبُوتِ جَمِيعِ عِشْرِينَ دِينَارًا وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِتَحْصِيلِ الْمُرَكَّبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحْصِيلِ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ فَلَا تَحْصُلُ الرَّكْعَتَانِ حَتَّى تَتَحَصَّلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَلِذَلِكَ دَلَّ الْأَمْرُ وَخَبَرُ الثُّبُوتِ عَلَى ثُبُوتِ الْجُزْءِ دُونَ النَّهْيِ وَخَبَرِ النَّفْيِ ) .
قُلْتُ : قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ النَّهْيَ وَخَبَرَ النَّفْيِ يَسْتَلْزِمَانِ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمَنْهِيِّ وَالْمَنْفِيِّ عَنْهُ كَمَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرُ وَخَبَرُ الثُّبُوتِ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمُثْبَتِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ التِّسْعَةَ عَشَرَ الْمَوْجُودَةَ دُونَ الدِّينَارِ لَيْسَتْ جُزْءًا وَلَا أَجْزَاءَ النِّصَابِ حَقِيقَةً بَلْ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ .
قَالَ : ( وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْكُلِّيِّ لَا يَدُلُّ عَلَى جُزْئِيٍّ
مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ إلَى قَوْلِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ زَيْدٌ ) قُلْتُ : مُرَادُهُ جُزْءُ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ : ( إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ ظَهَرَ أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ جُزْئِيَّاتِهِ لَا تَكُونُ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلَفْظِهِ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْجُزْئِيِّ ) قُلْتُ : بَلْ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلَفْظِهِ وَقَوْلُهُ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْجُزْئِيِّ لَا يُفِيدُهُ مَقْصُودُهُ وَكَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْجُزْئِيِّ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا .
( قَالَ : أَمَّا إذَا حَمَلْنَا اللَّفْظَ عَلَى أَقَلِّ الْأَجْزَاءِ فَقَدْ خَالَفْنَا اللَّفْظَ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجُزْءِ الْآخَرِ وَمَا أَتَيْنَا بِهِ إلَى قَوْلِهِ فَقَدْ خَالَفَ لَفْظَ صَاحِبِ الشَّرْعِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ .
قَالَ : ( بِخِلَافِ إذَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : اعْتِقُوا رَقَبَةً فَعَمَدْنَا إلَى رَقَبَةٍ تُسَاوِي عَشَرَةً وَتَرَكْنَا الرَّقَبَةَ الَّتِي تُسَاوِي أَلْفًا لَا نَكُونُ مُخَالِفِينَ لِلَفْظِ صَاحِبِ الشَّرْعِ ) قُلْتُ : قَوْلُهُ فِي الْمِثَالِ الَّذِي أَوْرَدَهُ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِثَالًا لِمَا قَصَدَ فَإِنَّهُ قَصَدَ تَمْثِيلَ الْكُلِّيِّ وَلَيْسَتْ الرَّقَبَةُ الْمُنْكَرَةُ مِنْ الْكُلِّيِّ بَلْ مِنْ الْمُطْلَقِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ بِمِثَالِهِ الَّذِي مَثَّلَ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْكُلِّيِّ الْمُطْلَقَ فَيَكُونُ بِذَلِكَ مُخَالِفًا لِأَهْلِ الْأُصُولِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ .
قَالَ : ( وَبِهَذَا يَظْهَرُ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يُخَرِّجُ الْخِلَافَ فِي غَسْلِ الذَّكَرِ مِنْ الْمَذْيِ هَلْ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الْحَشَفَةِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ جُمْلَتِهِ عَلَى هَذِهِ .
الْقَاعِدَةِ لِأَنَّ هَذَا اقْتِصَارٌ عَلَى جُزْءٍ لَا جُزْئِيٍّ إلَى قَوْلِهِ فَهَذِهِ كُلُّهَا تَخْرِيجَاتٌ بَاطِلَةٌ ) قُلْتُ : مَضْمُونُ قَوْلِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكُلِّ فَلَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ عَلَى جُزْئِهِ وَبَيْنَ الْكُلِّيِّ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَيْهِ عَلَى جُزْأَيْهِ فَأَمَّا قَوْلُهُ
إنَّهُ لَا يُحْمَلُ لَفْظُ الْكُلِّ عَلَى جُزْئِهِ فَهُوَ الصَّحِيحُ وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الْكُلِّيَّ يُحْمَلُ عَلَى جُزْأَيْهِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنْ الْمَرْأَةِ يُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ عَلَى الْجُمْلَةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ هَذَا الْجِنْسِ خَيْرُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ مِنْ جُزْئِيَّاتِ هَذَا الْجِنْسِ وَمَنْ حَمَلَ الْكُلِّيَّ عَلَى جُزْأَيْهِ فِي هَذَا الْمِثَالِ فَقَدْ أَخْطَأَ كَمَنْ حَمَلَ الْكُلَّ عَلَى جُزْئِهِ وَإِنَّمَا حَمَلَ شِهَابَ الدَّيْنِ عَلَى تَسْوِيغِ ذَلِكَ فِي الْكُلِّيِّ دُونَ الْكُلِّ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْمُطْلَقَ هُوَ الْكُلِّيُّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُطْلَقُ جُزْئِيٌّ مُبْهَمٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَلِذَلِكَ جَازَ فِيهِ الْحَمْلُ عَلَى أَيِّ جُزْئِيٍّ كَانَ وَمَا قَالَهُ : مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ اجْتِنَابُ حَمْلِ الْكُلِّيَّةِ عَلَى بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا صَحِيحٌ وَمُرَادُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُخَصَّصًا .
قَالَ : ( بَلْ التَّخْرِيجُ الصَّحِيحُ فِي فُرُوعٍ مِنْهَا فَرْعُ الْحَضَانَةِ هَلْ تَسْتَحِقُّهُ الْأُمُّ إلَى الْإِثْغَارِ أَوْ إلَى الْبُلُوغِ قَوْلَانِ فَنَاسَبَ تَخْرِيجُهُمَا عَلَى الْقَاعِدَةِ بِسَبَبِ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنْتِ أَحَقُّ مَا لَمْ تَنْكِحِي } إلَى آخِرِهِ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ : فِي الْمَسْأَلَةِ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ فَإِذَا حَمَلْنَا الْحَضَانَةَ عَلَى الْإِثْغَارِ لَا نَكُونُ مُخَالِفِينَ لِمُقْتَضَى لَفْظِ الْأَحَقِّيَّةِ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ فَقَدْ وَفَّيْنَا بِالْقَاعِدَةِ مَعَ عَدَمِ مُخَالَفَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْقَاعِدَةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا وَهِيَ حَمْلُ الْكُلِّيِّ عَلَى جُزْأَيْهِ بَلْ هُوَ مِنْ قَاعِدَةِ الْمُطْلَقِ قَالَ : ( وَمِنْهَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْأَمَةِ وَوَلَدِهَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ أَيْضًا هَلْ يُمْنَعُ ذَلِكَ إلَى الْبُلُوغِ أَوْ الْإِثْغَارِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي هَذَا دُونَ الْأَوَّلِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَحِيحٌ
غَيْرَ قَوْلِهِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ أَمْرًا كُلِّيًّا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِكُلِّيٍّ كَيْفَ وَقَدْ نَصَّ هُوَ عَلَى أَنَّهُ مُطْلَقٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فَإِذَا خُرِّجَ الْخِلَافُ عَلَى الْقَاعِدَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اسْتَقَامَ لِأَنَّهُ حَمْلٌ لِلَّفْظِ عَلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ جُزْئِيَّاتِهِ وَلَا يُخَالِفُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْكُلِّيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْكُلِّيِّ الْمَحْمُولِ عَلَى جُزْأَيْهِ بَلْ هُوَ مِنْ الْمُطْلَقِ وَلَوْ كَانَ مِنْ الْكُلِّيِّ لَمْ يَصِحَّ حَمْلُهُ عَلَى جُزْأَيْهِ كَمَا سَبَقَ .
قَالَ : ( وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ مَحْمَلُهُ عَلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الرُّشْدِ وَهُوَ الرُّشْدُ فِي الْمَالِ خَاصَّةً قَالَهُ : مَالِكٌ أَوْ عَلَى أَعْلَى مَرَاتِبِ الرُّشْدِ وَهُوَ الرُّشْدُ فِي الْمَالِ وَالدِّينِ قَالَهُ : الشَّافِعِيُّ مَعَ أَنَّ الرُّشْدَ ذُكِرَ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ : قَوْلُهُ مَعَ أَنَّ الرُّشْدَ ذُكِرَ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ صِيغَةُ التَّنْكِيرِ دَالَّةٌ عَلَى الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ وَالْمُطْلَقُ لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْأَعَمُّ بَلْ هُوَ الْمَعْنَى الْأَخَصُّ الْمُبْهَمُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ .
قَالَ : ( وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ الْحَرَامِ إذَا قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى الثَّلَاثِ أَوْ الْوَاحِدَةِ .
يَصِحُّ تَخْرِيجُهُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ : قَوْلُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَرَامٌ مُطْلَقٌ دَالٌّ عَلَى مُطْلَقِ التَّحْرِيمِ الدَّائِرِ بَيْنَ الرُّتَبِ الْمُخْتَلِفَةِ فَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى أَعْلَاهَا أَوْ عَلَى أَدْنَاهَا صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ شَأْنُ الْمُطَلَّقَاتِ وَلَيْسَتْ مِنْ الْقَاعِدَةِ الَّتِي أَرَادَ لَكِنْ هُنَا أَمْرٌ آخَرُ هُوَ سَبَبُ الْخِلَافِ وَهُوَ الْعُرْفُ فِي لَفْظَةِ حَرَامٍ هَلْ هُوَ الثَّلَاثُ أَوْ الْوَاحِدَةُ .
قَالَ : ( وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ التَّيَمُّمِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا
طَيِّبًا } إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ : جَرَى أَيْضًا عَلَى مُعْتَادِهِ وَفَاسِدِ اعْتِقَادِهِ فِي أَنَّ الْمُطْلَقَ هُوَ الْكُلِّيُّ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
قَالَ : ( وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ يُؤَذِّنُ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ } وَالْمِثْلِيَّةُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ تَصْدُقُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِأَيِّ وَصْفٍ كَانَ مِنْ غَيْرِ شُمُولٍ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ : الْمِثْلِيَّةُ تَقْتَضِي فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الشُّمُولَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ إلَّا مَا خَصَّهُ الْعُرْفُ كَقَوْلِهِمْ زَيْدٌ مِثْلُ الْأَسَدِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَمَا أَرَى مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ فَرَّعَ عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ وَإِنَّمَا رَأَى أَنَّ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ لَيْسَ مِنْ الذِّكْرِ وَإِنَّمَا هُوَ تَحْرِيضٌ وَاسْتِدْعَاءٌ وَالْمَعْهُودُ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابُ مَا هُوَ ذِكْرٌ فَقَيَّدَ مُطْلَقَ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى وَأَخَذَ غَيْرُ مَالِكٍ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ .
: ( فَهَذِهِ سِتُّ مَسَائِلَ تُنَبِّهُكَ عَلَى صِحَّةِ التَّخْرِيجِ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إلَى قَوْلِهِ وَالصَّحِيحُ مِنْ الْفَاسِدِ ) قُلْتُ : قَدْ تَبَيَّنَ الصَّحِيحُ مِنْ الْفَاسِدِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى .
قَالَ : ( تَنْبِيهٌ لَيْسَ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ .
الْقَاعِدَةِ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ فُرُوعِهَا بَلْ فُرُوعُهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ ) قُلْتُ : قَدْ صَرَّحَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ بِسَبَبِ تَخْصِيصِ مَا يَتَعَلَّقُ بِجَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ بِأَعْلَى الرُّتَبِ وَبِسَبَبِ تَخْصِيصِ الْأَقَارِيرِ بِأَدْنَى الرُّتَبِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ إنَّمَا الْخِلَافُ فِيهِ لِأَسْبَابٍ تَخُصُّ مَوَاقِعَ الْخِلَافِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْفَرْقُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْحَمْلِ عَلَى أَوَّلِ جُزْئِيَّاتِ الْمَعْنَى وَقَاعِدَةِ الْحَمْلِ عَلَى أَوَّلِ أَجْزَائِهِ أَوْ الْكُلِّيَّةِ عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا وَهُوَ الْعُمُومُ عَلَى الْخُصُوصِ ) الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْقَوَاعِدِ بَلْ كَمَا لَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْكُلِّ عَلَى جُزْئِهِ الَّذِي قَاعِدَتُهُ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ إلَّا بِالْقِيَاسِ إلَى كُلٍّ فَالنِّصَابُ فِي نَحْوِ قَوْلِنَا عِنْدَ زَيْدٍ نِصَابٌ لَا يُحْمَلُ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مُنْفَرِدَةً كَذَلِكَ لَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْكُلِّيِّ عَلَى جُزْأَيْهِ الَّذِي قَاعِدَتُهُ أَنَّهُ إمَّا حَقِيقِيٌّ وَهُوَ كُلُّ شَخْصٍ مِنْ نَوْعٍ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ وَكَالْفَرَسِ الْمُعَيَّنِ مِنْ نَوْعِ الْفَرَسِ وَكَالْحَجَرِ الْمُعَيَّنِ مِنْ نَوْعِ الْحَجَرِ وَإِمَّا إضَافِيٌّ وَهُوَ مَا انْدَرَجَ مَعَ غَيْرِهِ تَحْتَ كُلِّيٍّ وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى نَحْوِ زَيْدٍ وَعَمْرٍو لِانْدِرَاجِهِمَا تَحْتَ مَفْهُومِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا يَصْدُقُ عَلَى نَحْوِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّامِي لِانْدِرَاجِ الْأَوَّلِ مَعَ الْفَرَسِ تَحْتَ الْحَيَوَانِ وَالثَّانِي مَعَ النَّبَاتِ تَحْتَ النَّامِي وَالثَّالِثِ مَعَ الْجَمَادِ تَحْتَ الْجِسْمِ فَالْكُلِّيُّ مُقَابِلُ الْجُزْئِيِّ وَالْكُلُّ مُقَابِلٌ لِلْجُزْءِ فَالْإِنْسَانُ وَالْحَيَوَانُ فِي نَحْوِ قَوْلِنَا فِي الدَّارِ إنْسَانٌ أَوْ حَيَوَانٌ لَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ فِيهَا خُصُوصَ زَيْدٍ عَلَى الْأَوَّلِ وَلَا خُصُوصَ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى الثَّانِي فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنْ الْمَرْأَةِ أَرَادَ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ عَلَى الْجُمْلَةِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ هَذَا الْجِنْسِ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ هَذَا الْجِنْسِ وَكَذَلِكَ لَا تُحْمَلُ الْكُلِّيَّةُ أَيْ اللَّفْظُ الْعَامُّ عَلَى بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا أَيْ بَعْضِ
الْأَفْرَادِ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُخَصَّصًا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْكُلِّ دَالٌّ عَلَى جُزْئِهِ بِقَيْدِ ضَمِّهِ مَعَ بَاقِي الْأَجْزَاءِ لَا مُنْفَرِدًا عَنْهَا مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ فِي النَّهْيِ وَخَبَرِ النَّفْيِ فَإِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى رَكْعَتَيْنِ فَقَدْ أَوْجَبَ رَكْعَةً مُنْضَمَّةً لِأُخْرَى لَا مُسْتَقِلَّةً .
وَإِذَا قُلْنَا : عِنْدَ زَيْدٍ نِصَابٌ فَعِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مُنْضَمَّةً لِمِثْلِهَا لَا مُنْفَرِدَةً وَإِذَا نَهَى اللَّهُ عَنْ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فِي الصُّبْحِ لَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ رَكْعَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثَةٌ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ النَّهْيُ عَنْهُمَا مُتَّصِلَيْنِ بِثَالِثَةٍ وَإِذَا قُلْنَا : لَيْسَ عِنْدَ زَيْدٍ نِصَابٌ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ مُنْفَرِدَةً وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنَّ عِنْدَهُ عَشَرَةً مُنْضَمَّةً لِعَشَرَةٍ أُخْرَى وَأَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْكُلِّيِّ لَا يَدُلُّ عَلَى جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَلْ إنَّمَا يُفْهَمُ الْجُزْئِيُّ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ غَيْرِ اللَّفْظِ فَإِذَا قُلْنَا فِي الدَّارِ جِسْمٌ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ حَيَوَانٌ وَإِذَا قُلْنَا فِيهَا حَيَوَانٌ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إنْسَانٌ وَإِذَا قُلْنَا فِيهَا إنْسَانٌ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ وَإِذَا قُلْنَا فِيهَا مُؤْمِنٌ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ زَيْدٌ وَلِأَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ الْأَفْرَادِ تَرْكٌ لِظَاهِرِ الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَهُوَ بَاطِلٌ إجْمَاعًا وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَيْ الْكُلِّ وَالْكُلِّيِّ وَالْكُلِّيَّةِ لَا تُحْمَلُ عَلَى مَا ذُكِرَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ جُزْئِيٌّ مُبْهَمٌ كَالنَّكِرَةِ فِي الْإِثْبَاتِ يَجُوزُ فِيهِ الْحَمْلُ عَلَى أَيِّ جُزْئِيٍّ كَانَ غَيْرَ أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : ( الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ) مَا أَجْمَعَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى الْحَمْلِ عَلَى أَعْلَى الرُّتَبِ وَهُوَ مَا وَرَدَ مِنْ
الْأَوَامِرِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ وَسَلْبِ النَّقَائِصِ وَمَا يُنْسَبُ إلَى الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ التَّعْظِيمِ .
وَالْإِجْلَالِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا إذْ لَيْسَ الْأَصْلُ إهْمَالَ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ بَلْ تَعْظِيمَهَا وَالْمُبَالَغَةُ فِي إجْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ الْغَايَاتِ الَّتِي وَصَلُوا إلَيْهَا دُونَ مَا يَنْبَغِي لَهُ تَعَالَى مِنْ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مُتَعَلِّقًا بِأَقْصَى غَايَتِهِ الْمُمْكِنَةِ لِلْعَبِيدِ وَمَعَ ذَلِكَ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا أَجْمَعَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى الْحَمْلِ عَلَى أَدْنَى الرُّتَبِ وَهُوَ الْأَقَارِيرُ فَإِذَا قَالَ : لَهُ عِنْدِي دَنَانِيرُ حُمِلَ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَهُوَ أَدْنَى رُتَبِهَا مَعَ صِدْقِهَا فِي الْآلَافِ إذْ الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلِذَا قُبِلَ فِي هَذَا الْقِسْمِ التَّفْسِيرُ بِأَقَلِّ الرُّتَبِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا اُخْتُلِفَ فِي حَمْلِهِ عَلَى أَعْلَى الرُّتَبِ أَوْ عَلَى أَدْنَاهَا وَلَهُ فُرُوعٌ مِنْهَا فَرْعُ الْحَضَانَةِ هَلْ تَسْتَحِقُّ الْأُمُّ إلَى الْإِثْغَارِ أَوْ إلَى الْبُلُوغِ قَوْلَانِ الْمَشْهُورُ الثَّانِي فَفِي الْمَجْمُوعِ مَعَ شَرْحِهِ وَحَاشِيَتِهِ حَضَانَةُ الذَّكَرِ بِمُجَرَّدِ الْبُلُوغِ فَلَا يُشْتَرَطُ عَقْلٌ وَلَا قُدْرَةٌ عَلَى الْكَسْبِ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلَافًا لِابْنِ شَعْبَانَ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَالْأُنْثَى لِنَفْسِ الدُّخُولِ لَا لِلدُّعَاءِ لَهُ فَلَيْسَتْ كَالنَّفَقَةِ خِلَافًا لِمَا فِي الْأَصْلِ فَالْمُشْكِلُ مَا دَامَ مُشْكِلًا لَا يَخْرُجُ عَنْ الْحَضَانَةِ كَمَا لِعَبِقِ وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أُنُوثَتِهِ وَلَا يُمْكِنُ الدُّخُولُ .
ا هـ .
وَذَلِكَ الْخِلَافُ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ
تَنْكِحِي } كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْأَحَقِّيَّةِ لَهَا فَقَطْ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ وَهِيَ تَصْدُقُ بِطَرَفَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِحَالِهِ هُوَ أَدْنَاهُمَا الْإِثْغَارُ وَأَعْلَاهُمَا الْبُلُوغُ فَإِذَا حَمَلْنَا الْحَضَانَةَ عَلَى الْإِثْغَارِ لَا نَكُونُ مُخَالِفِينَ لِمُقْتَضَى لَفْظِ الْأَحَقِّيَّةِ لِأَنَّ هَذَا التَّخْرِيجَ إنَّمَا وَقَعَ فِيمَا اقْتَضَاهُ اللَّفْظُ فِي مُوجِبِ الْحُكْمِ وَسَبَبِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثُّبُوتُ وَأَمَّا الْغَايَةُ الْمَقُولَةُ فِي الْحَدِيثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالِهَا هِيَ فَهِيَ إشَارَةٌ إلَى الْمَانِعِ وَأَنَّ زَوَاجَهَا مَانِعٌ مِنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى سَبَبِهِ وَالْمَانِعُ وَعَدَمُهُ لَا مَدْخَلَ لَهُمَا فِي تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ بَلْ فِي عَدَمِ تَرَتُّبِهَا لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْمَانِعِ إنَّمَا هُوَ وُجُودُهُ فِي الْعَدَمِ لَا عَدَمُهُ فِي الْوُجُودِ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا فَرْعُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأَمَةِ وَوَلَدِهَا هَلْ يُمْنَعُ ذَلِكَ إلَى الْبُلُوغِ أَوْ إلَى الْإِثْغَارِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ ؟ هُنَا قَوْلَانِ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَلَى وَلَدِهَا } وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي الْوَالِدَاتِ وَالْمَوْلُودِينَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ وَالِدَةَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَتَعُمُّ وَوَلَدُهَا اسْمُ جِنْسٍ أُضِيفَ فَيَعُمُّ وَعَامًّا فِي الزَّمَانِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنْ لَا لِنَفْيِ الِاسْتِقْبَالِ عَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى } غَيْرَ أَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي أَحْوَالِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ الْعَامَّ فِي الْأَشْخَاصِ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ وَإِذَا كَانَ مُطْلَقًا فِي الْأَحْوَالِ فَهُوَ يَصْدُقُ فِي رُتْبَةٍ دُنْيَا وَهِيَ الْإِثْغَارُ وَرُتْبَةٍ عُلْيَا وَهِيَ الْبُلُوغُ فَإِذَا حَلَّ لَفْظُ الْوَلَدِ الْمُطْلَقِ عَلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ جُزْئِيَّاتِهِ اسْتَقَامَ وَلَمْ يُعَارِضْهُ عُمُومٌ لَا لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَيْنَا كَأَنَّهُ قَالَ : حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ مِنْ
زَمَنِ هَذَا الْخِطَابِ وَلَيْسَ عُمُومُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأُمَّهَاتِ وَالْأَوْلَادِ حَتَّى تَكُونَ فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِعَدَمِ الْعُمُومِ فِي الْوَالِدَاتِ وَالْأَوْلَادِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَمِنْهَا فَرْعُ الرُّشْدِ فِي قَوْله تَعَالَى .
{ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ هَلْ مَحْمَلُهُ عَلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الرُّشْدِ وَهُوَ الرُّشْدُ فِي الْمَالِ خَاصَّةً قَالَهُ مَالِكٌ أَوْ عَلَى أَعْلَى مَرَاتِبِ الرُّشْدِ وَهُوَ الرُّشْدُ فِي الْمَالِ وَالدِّينِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الرُّشْدَ ذُكِرَ بِصِيغَةِ التَّنْكِيرِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُطْلَقِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْأَخَصُّ الْمُبْهَمُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فَإِذَا حُمِلَ عَلَى أَدْنَى الرُّتَبِ لَمْ تَكُنْ فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلَّفْظِ أَلْبَتَّةَ وَلَا مِنْ وَجْهٍ مُحْتَمَلٍ فَافْهَمْ وَمِنْهَا فَرْعُ الْحَرَامِ هَلْ يُحْتَمَلُ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ عَلَى الثَّلَاثِ أَوْ الْوَاحِدَةِ خِلَافٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَرَامٌ مُطْلَقٌ دَالٌّ عَلَى مُطْلَقِ التَّحْرِيمِ الدَّائِرِ بَيْنَ الرُّتَبِ الْمُخْتَلِفَةِ فَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى أَعْلَاهَا أَوْ عَلَى أَدْنَاهَا وَيَلْحَقُ بِهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ نَحْوَ الْبَتَّةِ وَالْبَائِنِ وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك هَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَعْلَى الرُّتَبِ وَهُوَ الثَّلَاثُ أَمْ لَا كَذَا قِيلَ وَفِيهِ أَنَّ مَا ذُكِرَ لَيْسَ هُوَ سَبَبُ الْخِلَافِ هُنَا بَلْ سَبَبُهُ هُنَا أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ الْعُرْفُ فِي لَفْظَةِ حَرَامٌ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ هَلْ هُوَ الثَّلَاثُ أَوْ الْوَاحِدَةُ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا فَرْعُ التَّيَمُّمِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا } اُخْتُلِفَ هَلْ يُحْمَلُ فِيهِ لَفْظُ صَعِيدًا عَلَى مُطْلَقِ مَا يُسَمَّى صَعِيدًا تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ عَلَى أَعْلَى رُتَبِ الصَّعِيدِ وَهُوَ التُّرَابُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَيْسَ مِنْهَا فَرْعُ حِكَايَةِ الْأَذَانِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
{ إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ يُؤَذِّنُ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ } حَتَّى يُقَالَ : إنَّ الْمِثْلَ الْمَذْكُورَ فِي الْأَذَانِ إنْ حُمِلَ عَلَى أَعْلَى الرُّتَبِ قَالَ : مِثْلُ مَا يَقُولُ إلَى آخِرِ الْأَذَانِ أَوْ عَلَى أَدْنَى الرُّتَبِ فَفِي التَّشَهُّدِ خَاصَّةً وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ ضَرُورَةُ أَنَّ الْمِثْلِيَّةَ تَقْتَضِي فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الشُّمُولَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ إلَّا مَا خَصَّهُ الْعُرْفُ كَقَوْلِهِمْ زَيْدٌ مِثْلُ الْأَسَدِ وَمَا أَشْبَهَهُ فَلَمْ يُفَرِّعْهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَاعِدَةِ الْمُطْلَقِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنَّمَا رَأَى أَنَّ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ لَيْسَ مِنْ الذِّكْرِ وَإِنَّمَا هُوَ تَحْرِيضٌ وَاسْتِدْعَاءٌ وَالْمَعْهُودُ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابُ مَا هُوَ ذِكْرٌ فَقُيِّدَ مُطْلَقُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى وَأَخَذَ غَيْرُ مَالِكٍ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ وَبِالْجُمْلَةِ فَاسْتِعْمَالُ الْكُلِّ فِي جُزْئِهِ وَالْكُلِّيِّ فِي جُزْأَيْهِ وَالْعَامِّ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ لَمَّا كَانَ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً لَمْ يَجُزْ الْحَمْلُ عَلَيْهِ إلَّا إذَا دَلَّتْ الْقَرِينَةُ عَلَيْهِ وَاسْتِعْمَالُ الْمُطْلَقِ أَيْ الْجُزْئِيِّ الْمُبْهَمِ فِي جُزْئِيٍّ مُعَيَّنٍ لَمَّا كَانَ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا جَازَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ بِلَا تَوَقُّفٍ عَلَى قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ نَعَمْ إذَا اُعْتُبِرَ فِي الْجُزْئِيِّ أَوْ الْفَرْدِ مَاهِيَّتُه الْكُلِّيَّةُ لَا الشَّخْصِيَّةُ كَانَ اسْتِعْمَالُ الْكُلِّيِّ فِي الْأَوَّلِ وَالْعَامِّ فِي الثَّانِي حَقِيقَةً عَلَى الْقَوْلِ الْحَقِّ وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ عَدَمُ تَوَجُّهِ مَا أَوْرَدَهُ الْقَرَافِيُّ فِي تَنْقِيحِهِ عَلَى حَصْرِهِمْ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ الْوَضْعِيَّةَ فِي الْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ كَعَبِيدِي عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَاعِدَةِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ) فَحَقُّ اللَّهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَحَقُّ الْعَبْدِ مَصَالِحُهُ وَالتَّكَالِيفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ كَالْإِيمَانِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَحَقِّ الْعِبَادِ فَقَطْ كَالدُّيُونِ وَالْأَثْمَانِ وَقِسْمٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ أَوْ حَقُّ .
الْعَبْدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَنَعْنِي بِحَقِّ الْعَبْدِ الْمَحْضِ أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ وَإِلَّا فَمَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إلَّا وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فَيُوجَدُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ حَقِّ الْعَبْدِ وَلَا يُوجَدُ حَقُّ الْعَبْدِ إلَّا وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْإِسْقَاطِ فَكُلُّ مَا لِلْعَبْدِ إسْقَاطُهُ فَهُوَ الَّذِي نَعْنِي بِهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ إسْقَاطُهُ فَهُوَ الَّذِي نَعْنِي بِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ يُوجَدُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَا لَيْسَ لِلْعَبْدِ إسْقَاطُهُ وَيَكُونُ مَعَهُ حَقُّ الْعَبْدِ كَتَحْرِيمِهِ تَعَالَى لِعُقُودِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ وَالْجَهَالَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا حَرَّمَهَا صَوْنًا لِمَالِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ وَصَوْنًا لَهُ عَنْ الضَّيَاعِ بِعُقُودِ الْغَرَرِ وَالْجَهْلِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَوْ يَحْصُلُ دَنِيًّا وَنَزْرًا حَقِيرًا فَيَضِيعُ الْمَالُ فَحَجَرَ الرَّبُّ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ فِي تَضْيِيعِ مَالِهِ الَّذِي هُوَ عَوْنُهُ عَلَى أَمْرِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ وَلَوْ رَضِيَ الْعَبْدُ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فِي ذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ رِضَاهُ وَكَذَلِكَ حَجْرُ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ فِي إلْقَاءِ مَالِهِ فِي الْبَحْرِ وَتَضْيِيعِهِ مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ .
وَلَوْ رَضِيَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهُ وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُهُ تَعَالَى عَلَى الْمُسْكِرَاتِ صَوْنًا لِمَصْلَحَةِ عَقْلِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ وَحَرَّمَ السَّرِقَةَ صَوْنًا لِمَالِهِ وَالزِّنَا صَوْنًا لِنَسَبِهِ وَالْقَذْفَ
صَوْنًا لِعِرْضِهِ وَالْقَتْلَ وَالْجُرْحَ صَوْنًا لِمُهْجَتِهِ وَأَعْضَائِهِ وَمَنَافِعِهَا عَلَيْهِ وَلَوْ رَضِيَ الْعَبْدُ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهُ وَلَمْ يَنْفُذْ إسْقَاطُهُ فَهَذِهِ كُلُّهَا وَمَا يَلْحَقُ بِهَا مِنْ نَظَائِرِهَا مِمَّا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَصَالِحِهِمْ وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمْ وَأَكْثَرُ الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَالرِّضَا بِوِلَايَةِ الْفَسَقَةِ وَشَهَادَةِ الْأَرَاذِلِ وَنَحْوِهَا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْتُهُ لَك مِنْ النَّظَائِرِ تَجِدْهُ فَحَجْرُ الرَّبِّ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ لُطْفًا بِهِ وَرَحْمَةً لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
( تَنْبِيهٌ ) : مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ مُشْكِلٌ بِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } فَيَقْتَضِي أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ نَفْسُ الْفِعْلِ لَا الْأَمْرُ بِهِ وَهُوَ خِلَافُ مَا نَقَلْتُهُ قَبْلَ هَذَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُؤَوَّلٌ وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْأَمْرِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ وَبِالْجُمْلَةِ فَظَاهِرُهُ مُعَارِضٌ لِمَا حَرَّرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا الصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَمْرُهُ بِهَا إذْ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا لَمْ يَصْدُقْ أَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَنَجْزِمُ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ نَفْسُ الْأَمْرِ لَا الْفِعْلُ وَمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ مُؤَوَّلٌ .
قَالَ : ( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَاعِدَةِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ ) قُلْتُ : بَلْ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَهُوَ عِبَادَتُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } .
قَالَ : ( وَحَقُّ الْعَبْدِ مَصَالِحُهُ ) قُلْتُ : إنْ أَرَادَ حَقَّهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّمَا ذَلِكَ مَلْزُومُ عِبَادَتِهِ إيَّاهُ وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَيُخَلِّصَهُ مِنْ النَّارِ وَإِنْ أَرَادَ حَقَّهُ عَلَى الْجُمْلَةِ أَيْ الْأَمْرَ الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ فِي أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ فَمَصَالِحُهُ .
قَالَ : ( وَالتَّكَالِيفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ كَالْإِيمَانِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرِ ) قُلْتُ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ عِبَادَتُهُ إيَّاهُ فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَصَحِيحٌ وَإِلَّا فَلَا .
قَالَ : ( وَحَقُّ الْعِبَادِ فَقَطْ كَالدُّيُونِ وَالْأَثْمَانِ ) قُلْتُ : تَمْثِيلُهُ هَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يُرِيدُ حُقُوقَهُمْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَوْلُهُ قَبْلَ حَقِّهِ مَصَالِحُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يُرِيدُ حُقُوقَهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ .
قَالَ : ( وَقِسْمٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقُّ .
الْعَبْدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ وَنَعْنِي بِحَقِّ الْعَبْدِ الْمَحْضِ أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ وَإِلَّا فَمَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إلَّا وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ إلَى قَوْلِهِ فَهُوَ الَّذِي نَعْنِي بِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ) قُلْتُ : بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ قَبْلُ أَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ مَصَالِحُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَصَرَ كَلَامَهُ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ مِنْ التَّفَاصِيلِ وَهُوَ حَقُّ بَعْضِ الْعِبَادِ عَلَى بَعْضٍ وَتَرَكَ الْكَلَامَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
مَصَالِحِ الْعِبَادِ فَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ مُنْتَظِمًا كَمَا يَجِبُ .
قَالَ : ( وَقَدْ يُوجَدُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَا لَيْسَ لِلْعَبْدِ إسْقَاطُهُ وَيَكُونُ مَعَهُ حَقُّ الْعَبْدِ كَتَحْرِيمِهِ تَعَالَى لِعُقُودِ الرِّبَا إلَى قَوْلِهِ وَتَضْيِيعِهِ مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ وَلَوْ رَضِيَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهُ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ : ( وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُهُ تَعَالَى الْمُسْكِرَاتِ صَوْنًا لِمَصْلَحَةِ عَقْلِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ وَحَرَّمَ السَّرِقَةَ صَوْنًا لِمَالِهِ وَالزِّنَى صَوْنًا لِنَسَبِهِ وَالْقَذْفَ صَوْنًا لِعِرْضِهِ وَالْقَتْلَ وَالْجَرْحَ صَوْنًا لِمُهْجَتِهِ وَأَعْضَائِهِ وَمَنَافِعِهَا عَلَيْهِ وَلَوْ رَضِيَ الْعَبْدُ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهُ وَلَمْ يَنْفُذْ إسْقَاطُهُ ) قُلْتُ : أَمَّا فِي الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ فَرِضَاهُ مُعْتَبَرٌ وَإِسْقَاطُهُ نَافِذٌ .
قَالَ : ( فَهَذِهِ كُلُّهَا وَمَا يَلْحَقُ بِهَا مِنْ نَظَائِرِهَا مِمَّا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَصَالِحِهِمْ إلَى قَوْلِهِ .
لُطْفًا بِهِ وَرَحْمَةً لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ) قُلْتُ : قَدْ سَبَقَ أَنَّ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرَ مَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ وَهُوَ الْقَتْلُ وَالْجَرْحُ .
قَالَ : ( تَنْبِيهٌ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ يُشْكِلُ بِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } فَيَقْتَضِي أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ نَفْسُ الْفِعْلِ لَا الْأَمْرُ بِهِ وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَدِيثَ مُؤَوَّلٌ وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْأَمْرِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ وَبِالْجُمْلَةِ فَظَاهِرُهُ مُعَارِضٌ لِمَا حَرَّرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا الصَّلَاةُ حَقُّ اللَّهِ
تَعَالَى إلَّا أَمْرُهُ بِهَا إذْ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا لَمْ يَصْدُقْ أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَنَجْزِمُ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ نَفْسُ الْأَمْرِ لَا الْفِعْلِ وَمَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ مُؤَوَّلٌ ) قُلْتُ : جَمِيعُ مَا قَالَهُ هُنَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَهُوَ نَقِيضُ الْحَقِّ وَخِلَافُ الصَّوَابِ بَلْ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ مَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ عَيْنُ الْعِبَادَةِ لَا الْأَمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا وَمِنْ أَعْجَبِ الْأُمُورِ قَوْلُهُ فَظَاهِرُهُ مُعَارِضٌ لِمَا حَرَّرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَكَيْف يُحَرِّرُ الْعُلَمَاءُ مَا يُخَالِفُ قَوْلَ الصَّادِقِ الْمُصَدَّقِ وَيَا لَيْتَ شِعْرِي مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ .
وَكَيْف يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَالْحَقُّ مَعْنَاهُ اللَّازِمُ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَاللَّازِمُ عَلَى الْعَبْدِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا لَهُمْ وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْكَسْبُ بِأَمْرِهِ وَهُوَ كَلَامُهُ وَهُوَ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ مَنْ لَيْسَ مِنْ التَّحْصِيلِ بِسَبِيلٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هُدَانَا اللَّهُ .
الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ بَيْنَ قَاعِدَةِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَاعِدَةِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ) وَذَلِكَ أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مُتَعَلِّقُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ عِبَادَتِهِ لَا نَفْسُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ الْمُتَعَلِّقِ بِهَا الْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لَيَعْبُدُونَ } وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } الثَّانِي أَنَّ الْحَقَّ مَعْنَاهُ اللَّازِمُ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَاللَّازِمُ عَلَى الْعِبَادِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا لَهُمْ وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْكَسْبُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَهُوَ كَلَامُهُ وَكَلَامُهُ صِفَتُهُ الْقَدِيمَةُ وَحَقُّ الْعَبْدِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ مَلْزُومُ عِبَادَتِهِ إيَّاهُ وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَيُخَلِّصَهُ مِنْ النَّارِ وَالثَّانِي حَقُّهُ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي يَسْتَقِيمُ بِهِ فِي أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ مِنْ مَصَالِحِهِ وَالثَّالِثُ حَقُّهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادِ وَهُوَ مَالَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الذِّمَمِ وَالْمَظَالِمِ وَتَنْقَسِمُ التَّكَالِيفُ بِاعْتِبَارِ حَقِّ اللَّهِ وَالْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْ أَقْسَامِ حَقِّ الْعَبْدِ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ تَكْلِيفٌ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الْمَحْضِ فَلَا يَتَأَتَّى إسْقَاطُهُ أَصْلًا كَالْإِيمَانِ وَتَرْكِ الْكُفْرِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي تَكْلِيفٌ بِحَقِّ الْعِبَادِ الْمَحْضِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَيْ أَمْرُهُ تَعَالَى بِإِيصَالِ ذَلِكَ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ فَالْمُرَادُ بِحَقِّ الْعَبْدِ الْمَحْضِ أَنَّهُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ كَالدُّيُونِ وَالْأَثْمَانِ وَإِلَّا فَمَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إلَّا وَفِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَمْرُهُ بِالْإِيصَالِ الْمَذْكُورِ فَيُوجَدُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ حَقِّ الْعَبْدِ وَلَا يُوجَدُ حَقُّ الْعَبْدِ إلَّا وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ تَكْلِيفٌ
بِالْحَقَّيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مَعًا فَفِي التَّغْلِيبِ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ فَلَا يَسْقُطُ أَوْ لِحَقِّ الْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ فَيَسْقُطُ خِلَافٌ كَحَدِّ الْقَذْفِ شَرَعَهُ اللَّهُ صَوْنًا لِعِرْضِ الْعَبْدِ وَحْدِ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَوْنًا لِمُهْجَةِ الْعَبْدِ وَأَعْضَائِهِ وَمَنَافِعِهَا عَلَيْهِ .
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ تَكْلِيفٌ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ وَحَقِّ الْعَبْدِ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا يَسْتَقِيمُ بِهِ فِي أُولَاهُ وَأُخْرَاهُ مِنْ مَصَالِحِهِ فَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ لِلْعَبْدِ إسْقَاطٌ وَلَوْ لِحَقِّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَجَرَ فِيهِ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى فِي حَقِّ نَفْسِهِ لُطْفًا بِهِ وَرَحْمَةً لَهُ وَأَكْثَرُ الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى حَجَرَ بِرَحْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ فِي تَضْيِيعِ مَالِهِ الَّذِي هُوَ عَوْنُهُ عَلَى أَمْرِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ فَحَرَّمَ عَلَيْهِ عُقُودَ الرِّبَا صَوْنًا لِمَالِهِ عَلَيْهِ وَعُقُودَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَاتِ صَوْنًا لِمَالِهِ عَنْ الضَّيَاعِ فَلَا يُحَصِّلُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَوْ يُحَصِّلُ دَنِيًّا وَنَزْرًا حَقِيرًا فَيَضِيعُ الْمَالُ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ إلْقَاءَ مَالِهِ فِي الْبَحْرِ وَتَضْيِيعَهُ فِي غَيْرِ مَصْلَحَةٍ وَحَرَّمَ السَّرِقَةَ صَوْنًا لِمَالِهِ أَيْضًا وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى حَجَرَ عَلَى عَبْدِهِ فِي تَضْيِيعِ عَقْلِهِ الَّذِي هُوَ عَوْنُهُ عَلَى أَمْرِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ فَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْمُسْكِرَاتِ صَوْنًا لِمَصْلَحَةِ عَقْلِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى حَجَرَ عَلَى عَبْدِهِ تَضْيِيعَ نَسَبِهِ الَّذِي بِهِ عَوْنُهُ عَلَى أَمْرِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ فَحَرَّمَ عَلَيْهِ الزِّنَا صَوْنًا لِنَسَبِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ رِضَا الْعَبْدِ بِإِسْقَاطِهِ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ رِضَاهُ بِوِلَايَةِ الْفَسَقَةِ وَشَهَادَةِ الْأَرَاذِلِ وَنَحْوِهَا فَافْهَمْ .
( الْفَرْقُ الثَّالِثَ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ لِلْآدَمِيِّينَ عَلَى الْآدَمِيِّينَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ لِلْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ خَاصَّةً ) وَهَذَا الْمَوْضِعُ مُشْكِلٌ بِسَبَبِ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ لِلْأَجَانِبِ وَجَبَ لِلْوَالِدَيْنِ وَقَدْ يَجِبُ لِلْوَالِدَيْنِ مَا لَا يَجِبُ لِلْأَجَانِبِ فَمَا ضَابِطُ ذَلِكَ الْحَقُّ الْوَاجِبُ لِلْوَالِدَيْنِ الَّذِي امْتَازُوا بِهِ عَنْ الْأَجَانِبِ هَذَا هُوَ مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ وَأَنَا أُقَرِّبُ ذَلِكَ وَأُلَخِّصُهُ بِذِكْرِ مَسَائِلَ وَفَتَاوَى مَنْقُولَةٍ عَنْ الْعُلَمَاءِ تَخْتَصُّ بِالْوَالِدَيْنِ فَيَظْهَرُ بَعْدَ ذَلِكَ تَقْرِيبُ هَذَا الْمَوْضِعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ بِثَمَانِ مَسَائِلَ : ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قِيلَ لِمَالِكٍ فِي مُخْتَصَرِ الْجَامِعِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لِي وَالِدَةٌ وَأُخْتٌ وَزَوْجَةٌ فَكُلَّمَا رَأَتْ لِي شَيْئًا قَالَتْ : أَعْطِ هَذَا لِأُخْتِك فَإِنْ مَنَعْتُهَا ذَلِكَ سَبَّتْنِي وَدَعَتْ عَلَيَّ قَالَ لَهُ مَالِكٌ مَا أَرَى أَنْ تُغَايِظَهَا وَتَخْلُصَ مِنْهَا بِمَا قَدَرْت عَلَيْهِ أَيْ وَتَخْلُصَ مِنْ سَخَطِهَا بِمَا قَدَرْت عَلَيْهِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) وَقَالَ فِيهِ لِرَجُلٍ قَالَ لَهُ وَالِدِي فِي بَلَدِ السُّودَانِ كَتَبَ إلَيَّ أَنْ أَقْدُمَ عَلَيْهِ وَأُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ : أَطِعْ أَبَاك وَلَا تَعْصِ أُمَّك وَرُوِيَ أَنَّ اللَّيْثَ أَمَرَهُ بِطَاعَةِ الْأُمِّ لِأَنَّ لَهَا ثُلُثَيْ الْبِرِّ كَمَا حَكَى الْبَاجِيَّ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى زَوْجِهَا فَأَفْتَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ابْنَهَا بِأَنْ يَتَوَكَّلَ لَهَا عَلَى أَبِيهِ فَكَانَ يُحَاكِمُهُ وَيُخَاصِمُهُ فِي الْمَجَالِسِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْأُمِّ وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ قَالَ : لِأَنَّهُ عُقُوقٌ لِلْأَبِ وَالْحَدِيثُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ بِرَّهُ أَقَلُّ مِنْ بِرِّ الْأُمِّ لَا أَنَّ الْأَبَ يُعَقُّ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ : فِي الْمَوَّازِيَّةِ إذَا مَنَعَهُ أَبَوَاهُ مِنْ الْحَجِّ لَا يَحُجُّ إلَّا بِإِذْنِهِمَا إلَّا الْفَرِيضَةَ فَنَصَّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِمَا
فِي النَّافِلَةِ وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعَةِ : يُوَافِقُهُمَا فِي حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ وَقَالَ الْأَصْحَابُ : لَا يَعْصِيهِمَا فِي الْخُرُوجِ لِلْغَزْوِ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ بِمُفَاجَأَةِ الْعَدُوِّ أَوْ يُنْذَرَهُ فَيَتَأَخَّرَ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ فَإِنْ أَذِنَا لَهُ وَإِلَّا خَرَجَ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَالَ : الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبَةٌ فِي الشُّبُهَاتِ دُونَ الْحَرَامِ وَإِنْ كَرِهَا انْفِرَادَهُ عَنْهُمَا فِي الطَّعَامِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مُوَافَقَتُهُمَا وَيَأْكُلُ مَعَهُمَا لِأَنَّ تَرْكَ الشُّبْهَةِ مَنْدُوبٌ وَتَرْكَ طَاعَتِهِمَا حَرَامٌ وَالْحَرَامُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَنْدُوبِ وَلَا يُسَافِرُ فِي مُبَاحٍ وَلَا نَافِلَةٍ إلَّا بِإِذْنِهِمَا وَلَا يُبَادِرُ لِحَجِّ الْإِسْلَامِ وَلَا يَخْرُجُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا إلَّا عِلْمٍ هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ مَنْ يُعَلِّمْهُ لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَرُوِيَ فِي الْبُخَارِيِّ قَالَ الْحَسَنُ إذَا مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفَقَةً عَلَيْهِ فَلْيَعْصِهَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ الطُّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ لَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي تَرْكِ سُنَّةٍ رَاتِبَةٍ كَحُضُورِ الْجَمَاعَاتِ وَتَرْكِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْوَتْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا سَأَلَاهُ تَرْكَ ذَلِكَ عَلَى الدَّوَامِ بِخِلَافِ مَا لَوْ دَعَيَاهُ لِأَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُمَا وَإِنْ فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ أَوَّلِ الْوَقْتِ .
قَالَ : ( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ لِلْآدَمِيِّينَ عَلَى الْآدَمِيِّينَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ لِلْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ خَاصَّةً وَهَذَا الْمَوْضِعُ مُشْكِلٌ بِسَبَبِ أَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ لِلْأَجَانِبِ وَجَبَ لِلْوَالِدَيْنِ وَقَدْ يَجِبُ لِلْوَالِدَيْنِ مَا لَا يَجِبُ لِلْأَجَانِبِ فَمَا ضَابِطُ ذَلِكَ .
الْحَقِّ الْوَاجِبِ لِلْوَالِدَيْنِ الَّذِي امْتَازُوا بِهِ عَنْ الْأَجَانِبِ إلَى تَمَامِ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ ) قُلْتُ : أَكْثَرُ ذَلِكَ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ وَمَا فِيهِ مِنْ كَلَامٍ فَهُوَ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ الطُّرْطُوشِيُّ : فَإِنَّهُ لَيْسَتْ كُنْيَتُهُ أَبَا الْوَلِيدِ وَإِنَّمَا كُنْيَتُهُ أَبُو بَكْرٍ .
( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ لِلْآدَمِيِّينَ عَلَى الْآدَمِيِّينَ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ لِلْوَالِدَيْنِ عَلَى الْأَوْلَادِ خَاصَّةً وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ لِذَوِي الْأَرْحَامِ غَيْرَ الْأَبَوَيْنِ عَلَى قَرِيبِهِمْ خَاصَّةً ) .
وَذَلِكَ أَنَّ ضَابِطَ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوَالِدَيْنِ دُونَ الْأَجَانِبِ أُمُورٌ : أَحَدُهَا أَنَّ نَدْبَ طَاعَتِهِمْ وَبِرِّهِمْ مُطْلَقًا أَقْوَى مِنْ نَدْبِ بِرِّ الْأَجَانِبِ مُطْلَقًا الثَّانِي وُجُوبُ اجْتِنَابِ مُطْلَقِ الْأَذَى كَيْفَ كَانَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الِابْنِ الثَّالِثُ وُجُوبُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِلِ الرَّابِعُ وُجُوبُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ تَعْجِيلِ الْفُرُوضِ الْمُوَسِّعَةِ الْخَامِسُ وُجُوبُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ فَرَوْضِ الْكِفَايَةِ إذَا كَانَ ثَمَّ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَأَمَّا ضَابِطُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْأَجَانِبُ دُونَ الْأَبَوَيْنِ فَهُوَ أَنَّ نَدْبَ بِرِّهِمْ مُطْلَقًا يَضْعُفُ عَنْ نَدْبِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَأَنَّ طَاعَتَهُمْ فِي تَرْكِ النَّوَافِلِ مَكْرُوهَةٌ تَنْزِيهًا قُلْت : وَالظَّاهِرُ أَنَّ طَاعَتَهُمْ فِي تَرْكِ تَعْجِيلِ الْفُرُوضِ الْمُوَسَّعَةِ وَتَرْكِ فَرَوْضِ الْكِفَايَةِ كَذَلِكَ وَأَنَّ اجْتِنَابَ مُطْلَقِ الْأَذَى غَيْرُ وَاجِبٍ فِي حَقِّهِمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ بَلْ الْوَاجِبُ فِي حَقِّهِمْ اجْتِنَابُ أَذًى مَخْصُوصٌ كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْحَسَدِ وَإِفْسَادِ الْحَلِيلَةِ وَالْوَلَدِ وَالْخَادِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا عَدَّهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي زَوَاجِرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَكُلُّ وَاجِبٍ لِلْأَجَانِبِ وَاجِبٌ لِلْأَبَوَيْنِ وَلَا عَكْسَ لُغَوِيًّا قَالَ : الْأَصْلُ وَأَمَّا مَا يَجِبُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ فَلَمْ أَظْفَرْ فِيهِ بِتَفْصِيلٍ كَمَا وَجَدْتُ الْمَسَائِلَ الْآتِي بَيَانُهَا فِي الْأَبَوَيْنِ بَلْ أَصْلُ الْوُجُوبِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ا هـ قُلْت لَكِنْ فِي الزَّوَاجِرِ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الَّذِي يُتَّجَهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعُقُوقِ وَقَطْعِ الرَّحِمِ هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُقُوقِ الَّذِي هُوَ
كَبِيرَةٌ أَنْ يَحْصُلَ مِنْ الْوَلَدِ .
لَهَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا إيذَاءٌ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ عُرْفًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا لَوْ فُعِلَ مَعَ الْغَيْرِ كَأَنْ يَلْقَاهُ فَيَقْطِبَ فِي وَجْهِهِ أَوْ يَقْدُمَ عَلَيْهِ فِي مَلَأٍ فَلَا يَقُومُ لَهُ وَلَا يَعْبَأُ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَقْضِي أَهْلُ الْعَقْلِ .
وَالْمُرُوءَةِ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ بِأَنَّهُ مُؤْذٍ تَأَذِّيًا عَظِيمًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْمُتَأَذِّي لَكِنْ لَوْ كَانَ فِي غَايَةِ الْحُمْقِ أَوْ سَفَاهَةِ الْعَقْلِ فَأَمَرَ أَوْ نَهَى وَلَدَهُ بِمَا لَا يُعَدُّ مُخَالَفَتُهُ فِيهِ فِي الْعُرْفِ عُقُوقًا لَا يَفْسُقُ وَلَدُهُ بِمُخَالَفَتِهِ حِينَئِذٍ لِعُذْرِهِ وَعَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ مُتَزَوِّجًا بِمَنْ يُحِبُّهَا فَأَمَرَهُ بِطَلَاقِهَا وَلَوْ لِعَدَمِ عِفَّتِهَا فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْهُ وَصَحَّحَهُ أَنَّ { رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ : إنَّ لِي امْرَأَةً وَإِنَّ أُمِّيَ تَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَإِنْ شِئْت فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ أَوْ احْفَظْهُ } وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ وَرُبَّمَا قَالَ : سُفْيَانُ إنَّ أُمِّيَ وَرُبَّمَا قَالَ : إنَّ أَبِي وَفِيمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ أَنَّ { رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ : إنَّ أَبِي لَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى زَوَّجَنِي وَإِنَّهُ الْآنَ يَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا قَالَ : مَا أَنَا بِاَلَّذِي آمُرُك أَنْ تَعُقَّ وَالِدَيْك وَلَا بِاَلَّذِي آمُرُك أَنْ تُطَلِّقَ زَوْجَتَك غَيْرَ أَنَّك إنْ شِئْت حَدَّثْتُك بِمَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْته يَقُولُ : الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَحَافِظِ عَلَى ذَلِكَ إنْ شِئْت أَوْ دَعْ } قَالَ : وَأَحْسَبُ عَطَاءً قَالَ : فَطَلَّقَهَا نَعَمْ قَدْ أَشَارَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ طَلَاقُهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ وَالِدِهِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ
السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ .
وَقَالَ : التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ : { كَانَتْ تَحْتِي امْرَأَةٌ أُحِبُّهَا وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُهَا فَقَالَ لِي : طَلِّقْهَا فَأَبَيْت فَأَتَى عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلِّقْهَا } وَكَذَا سَائِرُ أَوَامِرِهِ الَّتِي لَا حَامِلَ عَلَيْهَا إلَّا ضَعْفُ عَقْلِهِ وَسَفَاهَةُ رَأْيِهِ وَلَوْ عُرِضَتْ عَلَى أَرْبَابِ الْعُقُولِ لَعَدُوُّهَا أُمُورًا مُتَسَاهَلًا فِيهَا وَلَرَأَوْا أَنَّهُ لَا إيذَاءَ لِمُخَالَفَتِهَا هَذَا هُوَ الَّذِي يُتَّجَهُ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ الْحَدِّ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَطْعِ الرَّحِمِ الَّذِي هُوَ كَبِيرَةٌ أَنْ يَقْطَعَ الْمُكَلَّفُ مَا أَلِفَ قَرِيبُهُ مِنْهُ مِنْ سَابِقِ الْوَصْلَةِ وَالْإِحْسَانِ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ لِأَنَّ قَطْعَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إيحَاشِ الْقُلُوبِ وَنَفْرَتِهَا وَتَأَذِّيهَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ قَطَعَ وَصْلَةَ رَحِمِهِ وَمَا يَنْبَغِي لَهَا مِنْ عَظِيمِ الرِّعَايَةِ فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ قَرِيبَهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ مِنْهُ إحْسَانٌ وَلَا إسَاءَةٌ قَطُّ لَمْ يَفْسُقْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ إذَا فُرِضَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْعَلَ مَعَهُمَا مَا يَقْتَضِي التَّأَذِّي الْعَظِيمَ لِغِنَاهُمَا مَثَلًا لَمْ يَكُنْ كَبِيرَةً فَأَوْلَى بَقِيَّةُ الْأَقَارِبِ وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمْ يَقْطَعْ عَنْ قَرِيبِهِ مَا أَلِفَهُ مِنْ الْإِحْسَانِ لَكِنَّهُ فَعَلَ مَعَهُ مُحَرَّمًا صَغِيرَةً أَوْ قَطَّبَ فِي وَجْهِهِ أَوْ لَمْ يَقُمْ إلَيْهِ فِي مَلَأٍ وَلَا عَبَأَ بِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِسْقًا بِخِلَافِهِ مَعَ أَحَدِ الْوَالِدَيْنِ لِأَنَّ تَأَكُّدَ حَقِّهِمَا اقْتَضَى أَنْ يَتَمَيَّزَا عَلَى بَقِيَّةِ الْأَقَارِبِ بِمَا لَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ فِيهِمْ وَعَلَى هَذَا الضَّابِطِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْإِحْسَانُ الَّذِي أَلِفَهُ مِنْهُ قَرِيبٌ مَالًا أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُرَاسَلَةً أَوْ زِيَادَةً أَوْ
غَيْرَ ذَلِكَ فَقَطْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ بَعْدَ فِعْلِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ كَبِيرَةٌ وَالْمُرَادُ بِالْعُذْرِ فِي الْمَالِ فَقْدُ مَا كَانَ يَصِلُهُ بِهِ أَوْ تَجَدُّدُ احْتِيَاجِهِ إلَيْهِ وَأَنْ يَنْدُبَهُ الشَّارِعُ إلَى تَقْدِيمِ غَيْرِ الْقَرِيبِ عَلَيْهِ لِكَوْنِ الْأَجْنَبِيِّ أَحْوَجَ وَأَصْلَحَ فَعَدَمُ الْإِحْسَانِ إلَيْهِ أَوْ تَقْدِيمُ الْأَجْنَبِيِّ عَلَيْهِ لِهَذَا الْقَدْرِ يَرْفَعُ عَنْهُ الْفِسْقَ .
وَبِهِ انْقَطَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا أَلِفَهُ مِنْهُ الْقَرِيبُ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَاعَى أَمْرَ الشَّارِعِ بِتَقْدِيمِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْقَرِيبِ وَوَاضِحٌ أَنَّ الْقَرِيبَ لَوْ أَلِفَ مِنْهُ قَدْرًا مُعَيَّنًا مِنْ الْمَالِ يُعْطِيهِ إيَّاهُ كُلَّ سَنَةٍ مَثَلًا فَنَقَصَهُ لَا يَفْسُقُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَطَعَهُ مِنْ أَصْلِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَبِمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى تَمَامِ الْقَدْرِ الَّذِي أَلِفَهُ مِنْهُ بَلْ اللَّازِمُ لَهُ أَنْ لَا يَقْطَعَ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ وَغَالِبُ النَّاسِ يَحْمِلُهُمْ شَفَقَةُ الْقَرَابَةِ وَرِعَايَةُ الرَّحِمِ عَلَى وَصْلَتِهَا لَمْ يَكُنْ فِي أَمْرِهِمْ بِمُدَاوَمَتِهِمْ عَلَى أَصْلِ مَا أَلِفُوهُ مِنْهُمْ تَنْفِيرٌ عَنْ فِعْلِهِ بَلْ حَثٌّ عَلَى دَوَامِ أَصْلِهِ كَمَا لَا يَخْفَى وَالْمُرَادُ بِعُذْرِ تَرْكِ الْمُكَاتَبَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي أَدَاءِ مَا يُرْسِلُهُ مَعَهُ وَأَمَّا عُذْرُ الزِّيَارَةِ فَيَنْبَغِي ضَبْطُهُ بِعُذْرِ الْجُمُعَةِ بِجَامِعٍ أَنَّ كُلًّا فَرْضُ عَيْنٍ وَتَرْكَهُ كَبِيرَةٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الزِّيَارَةَ الَّتِي أُلِفَتْ مِنْهُ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ لِعُذْرٍ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَأَمَّلْ جَمِيعَ مَا قَرَّرْتُهُ وَاسْتَفِدْهُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ وَكَثْرَةِ الِاحْتِيَاجِ إلَى ضَبْطِهِ وَظَاهِرٌ أَنَّ الْأَوْلَادَ وَالْأَعْمَامَ مِنْ الْأَرْحَامِ وَكَذَا الْخَالَةُ فَيَأْتِي فِيهِمْ وَفِيهَا مَا تَقَرَّرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ قَطْعِهِمْ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَالَةَ بِمَنْزِلَةِ
الْأُمِّ وَأَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ إذْ يَكْفِي تَشَابُهُهُمَا فِي أَمْرٍ مَا كَالْحَضَانَةِ تَثْبُتُ لِلْخَالَةِ كَمَا ثَبَتَ لِلْأُمِّ .
وَكَذَا الْمَحْرَمِيَّةُ وَتَأَكُّدُ الرِّعَايَةِ وَكَالْإِكْرَامِ فِي الْعَمِّ وَالْمَحْرَمِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا ذَكَرُوا وَأَمَّا إلْحَاقُهُمَا بِهِمَا فَإِنَّ عُقُوقَهُمَا كَعُقُوقِهِمَا فَهُوَ وَإِنْ قَالَ بِهِ الزَّرْكَشِيُّ إلَّا أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِهِ فِي الْحَدِيثِ مُنَافٍ لِكَلَامِ أَئِمَّتِنَا فَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ بَلْ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ اخْتَصَّا مِنْ الرِّعَايَةِ وَالِاحْتِرَامِ وَالطَّوْعِيَّةِ وَالْإِحْسَانِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ جِدًّا وَغَايَةٍ رَفِيعَةٍ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَقَارِبِ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي عُقُوقِهِمَا وَكَوْنِهِ فِسْقًا بِمَا لَا يُكْتَفَى بِهِ فِي عُقُوقِ غَيْرِهِمَا انْتَهَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَطْعَ الْمُكَلَّفِ مَا أَلِفَهُ الْأَجْنَبِيُّ مِنْهُ مِمَّا ذُكِرَ بِلَا عُذْرٍ لَا يَكُونُ كَبِيرَةً فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَأَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ لِلْأَجْنَبِيِّ وَجَبَ لِذَوِي الرَّحِمِ وَكُلَّ مَا وَجَبَ لِذَوِي الرَّحِمِ مِنْ غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ وَجَبَ لِلْأَبَوَيْنِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ لُغَوِيٍّ فِيهِمَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى .
( وَصْلٌ ) فِي تَحْقِيقِ فِقْهِ هَذَا الْفَرْقِ بِعَشْرِ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) فِي مُخْتَصَرِ الْجَامِعِ قِيلَ لِمَالِكٍ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لِي وَالِدَةٌ وَأُخْتٌ وَزَوْجَةٌ فَكُلَّمَا رَأَتْ لِي شَيْئًا قَالَتْ أَعْطِ هَذَا لِأُخْتِك فَإِنْ مَنَعْتُهَا ذَلِكَ سَبَّتْنِي وَدَعَتْ عَلَيَّ قَالَ لَهُ مَالِكٌ مَا أَرَى أَنْ تُغَايِظَهَا وَتَخْلُصَ مِنْهَا أَيْ مِنْ سَخَطِهَا بِمَا قَدَرْت عَلَيْهِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) فِي مُخْتَصَرِ الْجَامِعِ أَيْضًا قَالَ : رَجُلٌ لِمَالِكٍ وَالِدِي فِي بَلَدِ السُّودَانِ كَتَبَ إلَيَّ أَنْ أَقْدُمَ عَلَيْهِ وَأُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ أَطِعْ أَبَاك وَلَا تَعْصِ أُمَّك يَعْنِي أَنَّهُ يُبَالِغُ فِي رِضَا أُمِّهِ بِسَفَرِهِ لِوَالِدِهِ وَلَوْ بِأَخْذِهَا مَعَهُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ طَاعَةِ أَبِيهِ وَعَدَمِ عِصْيَانِ أُمِّهِ وَرُوِيَ أَنَّ اللَّيْثَ أَمَرَهُ بِإِطَاعَةِ الْأُمِّ لِأَنَّ لَهَا ثُلُثَيْ الْبِرِّ كَمَا حَكَى الْبَاجِيَّ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ لَهَا حَقٌّ عَلَى زَوْجِهَا فَأَفْتَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ابْنَهَا بِأَنْ يَتَوَكَّلَ لَهَا عَلَى أَبِيهِ فَكَانَ يُحَاكِمُهُ وَيُخَاصِمُهُ فِي الْمَجَالِسِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْأُمِّ وَمَنَعَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ قَالَ : لِأَنَّهُ عُقُوقٌ لِلْأَبِ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ بِرَّهُ أَقَلُّ مِنْ بِرِّ الْأُمِّ لَا أَنَّ الْأَبَ يُعَقُّ وَذَلِكَ الْحَدِيثُ هُوَ أَنَّ { رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ : أُمُّك قَالَ ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أُمُّك قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أُمُّك قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أَبُوك ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ } وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ الْمَسَائِلِ فَتَرَقَّبْ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) قَالَ : فِي الْمَوَّازِيَّةِ إذَا مَنَعَهُ أَبَوَاهُ مِنْ الْحَجِّ لَا يَحُجُّ إلَّا بِإِذْنِهِمَا إلَّا الْفَرِيضَةَ فَنَصَّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِي النَّافِلَةِ وَقَالَ : فِي الْمَجْمُوعَةِ يُوَافِقُهُمَا فِي حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ أَيْ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّرَاخِي وَقَالَ الْأَصْحَابُ : لَا يَعْصِيهِمَا فِي الْخُرُوجِ لِلْغَزْوِ وَإِلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ بِمُفَاجَأَةِ الْعَدُوِّ أَوْ يُنْذِرَهُ فَيُؤَخِّرَ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ فَإِنْ أَذِنَا لَهُ وَإِلَّا خَرَجَ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَالَ : الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ : أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ طَاعَةَ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبَةٌ فِي الشُّبُهَاتِ دُونَ الْحَرَامِ لِأَنَّ تَرْكَ الشُّبْهَةِ مَنْدُوبٌ وَتَرْكَ طَاعَتِهِمَا حَرَامٌ وَالْحَرَامُ أَيْ تَرْكُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَنْدُوبِ أَيْ فِعْلِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُمَا إنْ كَرِهَا انْفِرَادَهُ عَنْهُمَا أَيْ وَإِنْ كَانَ أَكْلُهُ مَعَهُمَا شُبْهَةً لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا بَعْدَ قَوْله تَعَالَى { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } يُرِيدُ الْبِرَّ بِهِمَا مَعَ اللُّطْفِ وَلِينِ الْجَانِبِ فَلَا يُغْلِظُ لَهُمَا فِي الْجَوَابِ وَلَا يُحِدُّ النَّظَرَ إلَيْهِمَا وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَيْهِمَا بَلْ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِمَا مِثْلَ الْعَبْدِ بَيْنَ يَدَيْ السَّيِّدِ تَذَلُّلًا لَهُمَا ا هـ وَلَا يُسَافِرُ فِي مُبَاحٍ وَلَا نَافِلَةٍ إلَّا بِإِذْنِهِمَا وَلَا يُبَادِرُ لِحَجِّ الْإِسْلَامِ وَلَا يَخْرُجُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا إلَّا عِلْمًا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنٌ وَلَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِهِ مَنْ يُعَلِّمُهُ لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَرُوِيَ فِي الْبُخَارِيِّ قَالَ الْحَسَنُ : إذَا مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفَقَةً عَلَيْهِ فَلْيَعْصِهَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ لَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي تَرْكِ سُنَّةٍ رَاتِبَةٍ كَحُضُورِ الْجَمَاعَاتِ وَتَرْكِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالْوَتْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا سَأَلَاهُ تَرْكَ ذَلِكَ عَلَى الدَّوَامِ بِخِلَافِ مَا لَوْ دَعَيَاهُ لِأَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَجَبَتْ طَاعَتُهُمَا وَإِنْ فَاتَتْهُ فَضِيلَةُ أَوَّلِ الْوَقْتِ .
( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَادَتْ امْرَأَةٌ ابْنَهَا وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ يُصَلِّي قَالَتْ يَا جُرَيْجُ فَقَالَ : اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي قَالَ : فَقَالَتْ : يَا جُرَيْجُ .
قَالَ : اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَقَالَتْ : اللَّهُمَّ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وَجْهِ الْمَيامِيسِ وَكَانَتْ تَأْتِي إلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ فَوَلَدَتْ فَقِيلَ لَهَا : مِمَّنْ هَذَا الْوَلَدُ ؟ فَقَالَتْ : مِنْ جُرَيْجٍ نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَوَاقَعَنِي } وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الْأُمِّ فِي قَطْعِ النَّافِلَةِ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا تَكُونَ وَاجِبَةً بِالشُّرُوعِ أَوْ يُقَالُ مَا وَجَبَ بِالشُّرُوعِ يُقْطَعُ لِلْأَبَوَيْنِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ بِالْأَصَالَةِ مَعَ أَنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ نَظَرًا وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دُعَاءَهَا فِيهِ وَاسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ لِوُجُوبِ حَقِّ الدَّاعِي وَأَنَّهُ مَظْلُومٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي كِتَابِ الْمُنْجِيَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ فِي فِقْهِ الْأَدْعِيَةِ أَنَّ دُعَاءَ الظَّالِمِ قَدْ يُسْتَجَابُ فِي الْمَظْلُومِ وَيَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ سَبَبًا لِضَرَرٍ يَحْصُلُ لِلْمَظْلُومِ لِأَجْلِ ذَنْبٍ تَقَدَّمَ مِنْ الْمَظْلُومِ وَعِصْيَانِهِ لِلَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ طَرِيقِ هَذَا الدَّاعِي كَمَا أَنَّ ظُلْمَ هَذَا الظَّالِمِ ابْتِدَاءً يَكُونُ بِسَبَبِ ذُنُوبٍ تَقَدَّمَتْ لِلْمَظْلُومِ وَيَكُونُ الظَّالِمُ سَبَبَ وُصُولِ الْعُقُوبَةِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ سَبَبَ نِقْمَتِهِ كَمَا جَعَلَ يَدَهُ وَلِسَانَهُ سَبَبَيْ نِقْمَتِهِ وَالْكُلُّ بِذُنُوبٍ سَالِفَةٍ لِلْمَظْلُومِ فَلَا يُسْتَبْعَدُ اسْتِجَابَةُ دُعَاءِ الظَّالِمِ فِي الْمَظْلُومِ وَإِنَّمَا كَانَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ دُعَاؤُهُ إنَّمَا يُسْتَجَابُ بِسَبَبِ حَقِّ الظَّالِمِ وَالظَّالِمُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فَلَا يُسْتَجَابُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يُسْتَجَابُ بِسَبَبِ حُقُوقٍ لِغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } .
وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ ضَعْفُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا اسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ طَاعَتِهِمَا عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ مَا فِي مُسْلِمٍ أَنَّ { رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ قَالَ : هَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ ؟ قَالَ : نَعَمْ كِلَاهُمَا قَالَ : فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَارْجِعْ إلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا } فَجَعَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكَوْنَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ أَفْضَلَ مِنْ الْكَوْنِ مَعَهُ وَجَعَلَ خِدْمَتَهُمَا أَفْضَلَ مِنْ الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا سِيَّمَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَمَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا مَنَعَاهُ بَلْ هُمَا مَوْجُودَانِ فَقَطْ فَأَمَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَفْضَلِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْكَوْنُ مَعَهُمَا وَفَرْضُ الْجِهَادِ فَرْضُ كِفَايَةٍ يَحْمِلُهُ الْحَاضِرُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ وَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ غَسْلُ الْمَوْتَى وَمُوَارَاتِهِمْ وَجَمِيعُ فَرَوْضِ الْكِفَايَةِ إذَا وُجِدَ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَهَذَا الْحَدِيثُ أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَبْلَغُ فِي أَمْرِ الْوَالِدَيْنِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَتَّبَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى مُجَرَّدِ وَصْفِ الْأُبُوَّةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أَمْرِهِمَا وَعِصْيَانِهِمَا وَحَاجَتِهِمَا لِلْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِبِرِّهِمَا بَلْ مُجَرَّدُ وَصْفِ الْأُبُوَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَإِذَا نَصَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى تَقْدِيمِ صُحْبَتِهِمَا عَلَى صُحْبَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَمَا بَقِيَ بَعْدَ هَذِهِ الْغَايَةِ غَايَةٌ وَإِذَا قَدَّمَ خِدْمَتَهُمَا عَلَى فِعْلِ فَرَوْضِ الْكِفَايَةِ فَعَلَى النَّفْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى بَلْ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ الْمُتَأَكِّدَةِ وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ
الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ كَانَ جُرَيْجٌ فَقِيهًا لَعَلِمَ أَنَّ إجَابَةَ أُمِّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ } لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحًا كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ شَرْعِنَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ وَيَكُونُ جُرَيْجٌ عَصَى بِتَرْكِ طَاعَتِهِمَا فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ أَوْ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ وَهُوَ الصَّمْتُ حِينَئِذٍ .
فَوَائِدُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ : الْمَيامِيسُ الزَّوَانِي جَمْعُ زَانِيَةٍ وَوَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّهُ لَمَّا مَنَعَ أُمَّهُ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ مُحْتَجًّا بِالصَّلَاةِ دَعَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى وُجُوهِ الزَّوَانِي عُقُوبَةً عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا وَيَدُلُّ الْحَدِيثُ أَيْضًا عَلَى مَنْعِ السَّفَرِ الْمُبَاحِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا فَإِنَّ غَيْبَةَ الْوَجْهِ فِيهِ أَعْظَمُ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ طَاعَتِهِمَا فِي النَّوَافِلِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْعُقُوقَ يُؤَاخَذُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَإِنْ عَظُمَ قَدْرُهُ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ لِأَنَّ جُرَيْجًا كَانَ مِنْ أَعْبَدْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَخُرِقَتْ لَهُ الْعَادَاتُ وَظَهَرَتْ لَهُ الْكَرَامَاتُ فَمَا ظَنُّك بِغَيْرِهِ إذَا عَقَّ أَبَوَيْهِ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَصْلِ الْعُقُوقِ قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَإِذَا حَرُمَ هَذَا الْقَوْلُ حَرُمَ مَا فَوْقَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَيَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِمَا فِي الْوَاجِبَاتِ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } وَفِي الْآيَةِ فَائِدَتَانِ : الْفَائِدَةُ الْأُولَى أَنَّ الْأَبَوَيْنِ يَجِبُ بِرُّهُمَا وَيَحْرُمُ عُقُوقُهُمَا وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالشِّرْكِ إلَّا كَافِرٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَتْ الْآيَةُ بِوُجُوبِ بِرِّهِمَا الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ مُخَالَفَتَهُمَا وَاجِبَةٌ فِي أَمْرِهِمَا بِالْمَعَاصِي وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ
الْخَالِقِ } .
قَالَ : ( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَادَتْ امْرَأَةٌ ابْنَهَا وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ } إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ : جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ نَقْلٍ وَغَيْرِهِ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ وَإِذَا قَدَّمَ خِدْمَتَهَا عَلَى فَرَوْضِ الْكِفَايَاتِ فَعَلَى النَّقْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَيْسَ ذَلِكَ فِي النَّفْلِ أَوْلَى لِأَنَّ تَرْكَهُ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مَعَ قِيَامِ غَيْرِهِ بِهِ لَا تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةٌ وَتَرْكَ النَّفْلِ تَفُوتُ بِهِ مَصْلَحَةُ ذَلِكَ النَّفْلِ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ مَصْلَحَةَ النَّفْلِ إنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ الثَّوَابِ وَكَذَلِكَ مَصْلَحَةُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ زَائِدٌ فِي الْعَدَدِ عَلَى مَنْ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْفَرْضِ لَكِنَّ ثَوَابَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ أَعْظَمُ فَتَتَحَقَّقُ الْأَوْلَوِيَّةُ .
( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) أَعْظَمُ دَلِيلٍ وَأَبْلَغُهُ فِي أَمْرِ الْوَالِدَيْنِ مَا فِي مُسْلِمٍ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ قَالَ : هَلْ مِنْ وَالِدَيْك أَحَدٌ حَيٌّ ؟ قَالَ : نَعَمْ كِلَاهُمَا قَالَ : فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَارْجِعْ إلَى وَالِدَيْك فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا } فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَهُ بِالْأَفْضَلِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْكَوْنُ مَعَهُمَا رَتَّبَهُ عَلَى مُجَرَّدِ وَصْفِ الْأُبُوَّةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ أَمْرِهِمَا وَعِصْيَانِهِمَا وَحَاجَتِهِمَا لِلْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِبِرِّهِمَا بَلْ قَدَّمَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُحْبَتَهُمَا مَعَ مُجَرَّدِ وَصْفِ الْأُبُوَّةِ عَلَى صُحْبَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَخِدْمَتَهُمَا مَعَ ذَلِكَ عَلَى الْجِهَادِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا سِيَّمَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ نَظَرًا لِكَوْنِ الْجِهَادِ فَرْضَ كِفَايَةٍ يَحْمِلُهُ الْحَاضِرُونَ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فَيَنْدَرِجُ فِي هَذَا الْمَسْلَكِ غَسْلُ الْمَوْتَى وَمُوَارَاتُهُمْ وَجَمِيعُ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ إذَا وُجِدَ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَيَكُونُ تَقْدِيمُ خِدْمَتِهِمَا عَلَى النَّفْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَإِنْ لَمْ تَفُتْ بِتَرْكِهِ فَرْضُ الْكِفَايَةِ مَعَ قِيَامِ غَيْرِهِ بِهِ مَصْلَحَةً وَمَصْلَحَةُ ذَلِكَ النَّفْلِ تَفُوتُ بِتَرْكِهِ نَظَرًا لِكَوْنِ مَصْلَحَةِ النَّفْلِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ إلَّا مُجَرَّدَ الثَّوَابِ وَكَذَا مَصْلَحَةُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ زَائِدٌ فِي الْعَدَدِ عَلَى مَنْ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ ثَوَابَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ أَعْظَمُ فَتَتَحَقَّقُ الْأَوْلَوِيَّةُ بَلْ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ الْمُتَأَكِّدَةِ نَعَمْ هَذَا حَيْثُ لَمْ يُشْرَعْ فِي النَّافِلَةِ وَالْمَنْدُوبَاتِ الْمُتَأَكِّدَةِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فَلَا تَجِبُ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ فِي قَطْعِ ذَلِكَ .
إذْ النَّافِلَةُ
وَالْمَنْدُوبَاتُ الْمُتَأَكِّدَةُ مِمَّا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ السَّادَةِ الْأَحْنَافِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ وَكَذَا فَرْضُ الْكِفَايَةِ يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ بِالشُّرُوعِ فِيهِ عَلَى الْأَصَحِّ حَتَّى طَلَبِ الْعِلْمِ لِمَنْ ظَهَرَتْ فِيهِ قَابِلِيَّةٌ مِنْ نَجَابَةٍ قَالَهُ سَحْنُونٌ خِلَافُ مَا عِنْدَ الْمَحَلِّيِّ كَمَا فِي حَاشِيَةِ ابْنِ حَمْدُونٍ عَلَى شَرْحِ مَيَّارَةَ الصَّغِيرِ عَلَى ابْنِ عَاشِرٍ وَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَادَتْ امْرَأَةٌ ابْنَهَا وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ يُصَلِّي قَالَتْ : يَا جُرَيْجُ فَقَالَ : اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي قَالَ : فَقَالَتْ يَا جُرَيْجُ قَالَ : اللَّهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَقَالَتْ اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ فِي وَجْهِ الْمَيامِيسِ وَكَانَتْ تَأْتِي إلَى صَوْمَعَتِهِ رَاعِيَةٌ تَرْعَى الْغَنَمَ فَوَلَدَتْ فَقِيلَ لَهَا : مِمَّنْ هَذَا الْوَلَدُ ؟ فَقَالَتْ : مِنْ جُرَيْجٍ نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَوَاقَعَنِي } وَسَاقَ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الْأُمِّ فِي قَطْعِ النَّافِلَةِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا تَكُونَ وَاجِبَةً بِالشُّرُوعِ أَوْ يُقَالُ مَا وَجَبَ بِالشُّرُوعِ يُقْطَعُ لِلْأَبَوَيْنِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ بِالْأَصَالَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ كَانَ مُبَاحًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ شَرْعِنَا وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ جُرَيْجٌ قَدْ عَصَى بِتَرْكِ طَاعَتِهَا فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ أَوْ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ وَهُوَ الصَّمْتُ حِينَئِذٍ فَلِذَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ كَانَ جُرَيْجٌ فَقِيهًا لَعَلِمَ أَنَّ إجَابَةَ أُمِّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ } عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرًا إذْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ دُعَاءَهَا فِيهِ وَاسْتِجَابَةُ الدُّعَاءِ لَا يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ لِوُجُوبِ حَقِّ الدَّاعِي وَأَنَّهُ مَظْلُومٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي كِتَابِ الْمُنْجِيَاتِ وَالْمُوبِقَاتِ فِي فِقْهِ الْأَدْعِيَةِ أَنَّ دُعَاءَ الظَّالِمِ قَدْ
يُسْتَجَابُ فِي الْمَظْلُومِ وَيَجْعَلُ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ سَبَبًا لِضَرَرٍ يَحْصُلُ لِلْمَظْلُومِ لِأَجْلِ ذَنْبٍ تَقَدَّمَ مِنْ الْمَظْلُومِ وَعِصْيَانِهِ لِلَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ طَرِيقِ هَذَا الدَّاعِي كَمَا أَنَّ ظُلْمَ هَذَا الظَّالِمِ ابْتِدَاءً يَكُونُ بِسَبَبِ ذُنُوبٍ تَقَدَّمَتْ لِلْمَظْلُومِ وَيَكُونُ الظَّالِمُ سَبَبَ وُصُولِ الْعُقُوبَةِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ دُعَاءَهُ سَبَبَ نِقْمَتِهِ وَجَعَلَ يَدَهُ وَلِسَانَهُ سَبَبَيْ نِقْمَتِهِ وَالْكُلُّ بِذُنُوبٍ سَالِفَةٍ لِلْمَظْلُومِ فَلَا يُسْتَبْعَدُ إجَابَةُ دُعَاءِ الظَّالِمِ فِي الْمَظْلُومِ .
وَإِنَّمَا كَانَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ دُعَاؤُهُ إنَّمَا يُسْتَجَابُ بِسَبَبِ حَقِّ الظَّالِمِ وَالظَّالِمُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فَلَا يُسْتَجَابُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يُسْتَجَابُ بِسَبَبِ حُقُوقٍ لِغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } نَعَمْ يَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أُمُورٍ : الْأَوَّلُ مَنْعُ السَّفَرِ الْمُبَاحِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا وَذَلِكَ أَنَّ الْمَيامِيسَ الزَّوَانِي جَمْعُ زَانِيَةٍ فَلَمَّا مَنَعَ أُمَّهُ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ مُحْتَجًّا بِالصَّلَاةِ دَعَتْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى وُجُوهِ الزَّوَانِي عُقُوبَةً عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا وَلَا شَكَّ أَنَّ غَيْبَةَ الْوَجْهِ فِي السَّفَرِ أَعْظَمُ .
الثَّانِي وُجُوبُ طَاعَتِهِمَا فِي النَّوَافِلِ .
الثَّالِثُ أَنَّ الْعُقُوقَ يُؤَاخَذُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَإِنْ عَظُمَ قَدْرُهُ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ لِأَنَّ جُرَيْجًا كَانَ مِنْ أَعْبَدْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَخُرِقَتْ لَهُ الْعَادَاتُ وَظَهَرَتْ لَهُ الْكَرَامَاتُ فَمَا ظَنُّك بِغَيْرِهِ إذَا عَقَّ وَالِدَيْهِ .
( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَصْلِ الْعُقُوقِ فَإِنَّهُ إذَا حَرُمَ هَذَا الْقَوْلُ حَرُمَ مَا فَوْقَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وقَوْله تَعَالَى { وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ أَحَدُهَا مُخَالَفَتُهُمَا فِي الْوَاجِبَاتِ وَالثَّانِي وُجُوبُ بِرِّهِمَا وَحُرْمَةُ عُقُوقِهِمَا وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالشِّرْكِ إلَّا كَافِرٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَتْ الْآيَةُ بِوُجُوبِ بِرِّهِمَا وَالثَّالِثُ أَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِهِمَا بِالْمَعَاصِي وَاجِبَةٌ وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ } .
( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الطُّرْطُوشِيُّ : أَمَّا مُخَالَفَتُهُمَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِهِ يَجِدُ مُدَارَسَةَ الْمَسَائِلِ وَالتَّفَقُّهَ عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَحِفْظِ نُصُوصِ الْعُلَمَاءِ فَأَرَادَ أَنْ يَظْعَنَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَيَتَفَقَّهَ فِيهِ عَلَى مِثْلِ طَرِيقَتِهِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِهِمَا لِأَنَّ خُرُوجَهُ إذَايَةُ لَهُمَا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ وَإِنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلتَّفَقُّهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَعْرِفَةِ الْإِجْمَاعِ وَمَوَاضِعِ الْخِلَافِ وَمَرَاتِبِ الْقِيَاسِ فَإِنْ وُجِدَ فِي بَلَدِهِ ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ إلَّا بِإِذْنِهِمَا وَإِلَّا خَرَجَ وَلَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي مَنْعِهِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ دَرَجَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ قَالَ سَحْنُونٌ : مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ وَتَقْلِيدِ الْعُلُومِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَمَنْ لَا يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ كَيْفَ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ لَا يَعْرِفُ الْمُنْكَرَ كَيْفَ يَنْهَى عَنْهُ قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُخَالَفَتَهُمَا فِي الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ لَا تَجُوزُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الَّذِي رَدَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبَوَيْهِ عَنْ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ مَعَهُ لِأَنَّ الْحَاضِرَ يَقُومُ مَقَامَهُ وَهَذِهِ الْفَتْوَى تَقْتَضِي أَنَّهُ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُمَا فِي فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَبَيْنَهُمَا تُعَارَضُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ نَقُولَ : الْعِلْمُ وَضَبْطُ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ غَيْرَ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ لَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ وَهِيَ مَنْ جَادَ حِفْظُهُمْ وَرَقَّ فَهْمُهُمْ وَحَسُنَتْ سِيرَتُهُمْ وَطَابَتْ سَرِيرَتُهُمْ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ الِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ عَدِيمَ الْحِفْظِ أَوْ قَلِيلَهُ أَوْ سَيِّئَ الْفَهْمِ لَا يَصْلُحُ لِضَبْطِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ سَاءَتْ سِيرَتُهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْوُثُوقُ لِلْعَامَّةِ فَلَا تَحْصُلُ بِهِ
مَصْلَحَةُ التَّقْلِيدِ فَتَضِيعُ أَحْوَالُ النَّاسِ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مُتَعَيِّنَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ تَعَيَّنَتْ بِصِفَاتِهَا وَصَارَ طَلَبُ الْعِلْمِ عَلَيْهَا فَرْضَ عَيْنٍ فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى كَلَامِ سَحْنُونٍ وَأَبِي الْوَلِيدِ وَالْجِهَادُ يَصْلُحُ لَهُ عُمُومُ النَّاسِ فَأَمْرُهُ سَهْلٌ وَلَيْسَ الرَّمْيُ بِالْحَجَرِ وَالضَّرْبُ بِالسَّيْفِ كَضَبْطِ الْعُلُومِ فَكُلُّ بَلِيدٍ أَوْ ذَكِيٍّ يَصْلُحُ لِلْأَوَّلِ وَلَا يَصْلُحُ لِلثَّانِي إلَّا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَافْهَمْ ذَلِكَ .
قَالَ : ( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الطُّرْطُوشِيُّ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ فَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كُنْيَتَهُ أَبُو بَكْرٍ .
( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيِّ أَمَّا مُخَالَفَتُهُمَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِهِ يَجِدُ مُدَارَسَةَ الْمَسَائِلِ وَالتَّفَقُّهَ عَلَى طَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَحِفْظَ نُصُوصِ الْعُلَمَاءِ فَأَرَادَ أَنْ يَظْعَنَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَيَتَفَقَّهُ فِيهِ عَلَى مِثْلِ طَرِيقَتِهِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِهِمَا لِأَنَّ خُرُوجَهُ إذَايَةُ لَهُمَا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ وَإِنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلتَّفَقُّهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَعْرِفَةِ الْإِجْمَاعِ وَمَوَاضِعِ الْخِلَافِ وَمَرَاتِبِ الْقِيَاسِ فَإِنْ وَجَدَ فِي بَلَدِهِ ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ إلَّا بِإِذْنِهِمَا وَإِلَّا خَرَجَ وَلَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي مَنْعِهِ لِأَنَّ تَحْصِيلَ دَرَجَةِ الْمُجْتَهِدِينَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ قَالَ : سَحْنُونٌ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ وَتَقْلِيدِ الْعُلُومِ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَمَنْ لَا يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ كَيْف يَأْمُرُ بِهِ أَوْ لَا يَعْرِفُ الْمُنْكَرَ كَيْف يَنْهَى عَنْهُ .
ا هـ .
لَا يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ مُخَالَفَتِهِمَا فِي الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ ضَرُورَةُ أَنَّ الْعِلْمَ وَضَبْطَ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ كَانَ فَرْضَ كِفَايَةٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ لَهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ وَهُمْ مَنْ جَادَ حِفْظُهُمْ وَرَقَّ فَهْمُهُمْ وَحَسُنَتْ سِيرَتُهُمْ وَطَابَتْ سَرِيرَتُهُمْ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ الِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ عَدِيمَ الْحِفْظِ أَوْ قَلِيلَهُ وَسَيِّئَ الْفَهْمِ لَا يَصْلُحُ لِضَبْطِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ سَاءَتْ سَرِيرَتُهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْوُثُوقُ لِلْعَامَّةِ فَلَا تَحْصُلُ بِهِ مَصْلَحَةُ التَّقْلِيدِ فَتَضِيعُ أَحْوَالُ النَّاسِ وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ مُتَعَيِّنَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ صَارَ طَلَبُ الْعِلْمِ عَلَيْهَا فَرْضَ عَيْنٍ لَا فَرْضَ كِفَايَةٍ إذْ لَا يَصْلُحُ لَهُ غَيْرُهَا بِخِلَافِ الْجِهَادِ
الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الرَّمْيِ بِالْحَجَرِ وَالضَّرْبِ بِالسَّيْفِ فَإِنَّ كُلَّ بَلِيدٍ أَوْ زَكِيٍّ يَصْلُحُ لَهُ لِسُهُولَةِ أَمْرِهِ وَصُعُوبَةِ ضَبْطِ الْعُلُومِ فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى كَلَامِ سَحْنُونٍ وَأَبِي بَكْرٍ .
( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ : إنْ أَرَادَ سَفَرًا لِلتِّجَارَةِ يَرْجُو بِهِ مَا يَحْصُلُ لَهُ فِي الْإِقَامَةِ فَلَا يَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِهِمَا وَإِنْ رَجَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ فِي كَفَافٍ وَإِنَّمَا يَطْلُبُ ذَلِكَ تَكَاثُرًا فَهَذَا لَوْ أَذِنَا لَهُ لَنَهَيْنَاهُ لِأَنَّهُ غَرَضٌ فَاسِدٌ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ دَفْعَ حَاجَاتِ نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَهُ تَأَذَّى بِتَرْكِهِ كَانَ لَهُ مُخَالَفَتُهُمَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } وَكَمَا نَمْنَعُهُ مِنْ إذَايَتِهِمَا نَمْنَعُهُمَا مِنْ إَذايَتِهِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ إنْ لَمْ يَأْكُلْهُ هَلَكَ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلَاهُ هَلَكَا قُدِّمَتْ ضَرُورَتُهُ عَلَيْهِمَا قَالَ : فَإِنْ قُلْت قَدْ قَالَ مَالِكٌ : إذَا احْتَلَمَ الْغُلَامُ ذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ وَلَيْسَ لِأَبَوَيْهِ مَنْعُهُ قَالَ : قُلْت هَذَا فِي الْحَضَانَةِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ كَانَ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ كَافِلِهِ فَإِذَا بَلَغَ ذَهَبَ حَجَرُ الْحَضَانَةِ وَتَجَدَّدَ حَجْرُ الْبِرِّ وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الَّذِي دَعَاهُ أَبُوهُ مِنْ السُّودَانِ وَمَنَعَتْهُ أُمُّهُ فَمَنَعَهُ مَالِكٌ مِنْ الْخُرُوجِ بِغَيْرِ إذْنِ الْأُمِّ وَقَالَ لَهُ : أَطِعْ أَبَاك وَلَا تَعْصِ أُمَّك فَهُوَ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَمْشِي فِي الْبَلَدِ حَيْثُ شَاءَ دُونَ السَّفَرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رِيبَةٍ وَهُمَا يَتَأَذَّيَانِ بِهِ فَيَمْنَعَانِهِ مُطْلَقًا .
قَالَ : ( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَالَ : أَبُو الْوَلِيدِ إلَى آخِرِهَا ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ فَإِنَّهُ أَبُو بَكْرٍ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ ) قَوْلُ مَالِكٍ إذَا احْتَلَمَ الْغُلَامُ ذَهَبَ حَيْثُ شَاءَ وَلَيْسَ لِأَبَوَيْهِ مَنْعُهُ ا هـ خَاصٌّ بِمُجَرَّدِ الْحَضَانَةِ فَلَا يُنَافِي تَجَدُّدَ حَجْرِ الْبِرِّ الَّذِي فِي قَوْلِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيِّ إنْ أَرَادَ سَفَرًا لِلتِّجَارَةِ يَرْجُو بِهِ مَا يَحْصُلُ لَهُ فِي الْإِقَامَةِ فَلَا يَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِهِمَا وَإِنْ رَجَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ فِي كَفَافٍ وَإِنَّمَا يَطْلُبُ ذَلِكَ تَكَاثُرًا فَهَذَا لَوْ أَذِنَا لَهُ لَنَهَيْنَاهُ لِأَنَّهُ غَرَضٌ فَاسِدٌ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ دَفْعَ حَاجَاتِ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ بِحَيْثُ لَوْ تَرَكَهُ تَأَذَّى بِتَرْكِهِ كَانَ لَهُ مُخَالَفَتُهُمَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } وَكَمَا نَمْنَعُهُ مِنْ إذَايَتِهِمَا نَمْنَعُهُمَا مِنْ إَذايَتِهِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ إنْ لَمْ يَأْكُلْهُ هَلَكَ وَإِنْ لَمْ يَأْكُلَاهُ هَلَكَا قُدِّمَتْ ضَرُورَتُهُ عَلَيْهِمَا ا هـ فَالْغُلَامُ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَمْشِي فِي الْبَلَدِ حَيْثُ شَاءَ دُونَ السَّفَرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رِيبَةٍ وَهُمَا يَتَأَذَّيَانِ بِهِ فَيَمْنَعَانِهِ مُطْلَقًا كَمَا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ لِمَنْ دَعَاهُ أَبُوهُ مِنْ السُّودَانِ وَمَنَعَتْهُ أُمُّهُ أَطِعْ أَبَاك وَلَا تَعْصِ أُمَّك .
( سُؤَالٌ ) قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } وَالنِّكَاحُ مُبَاحٌ وَقَدْ نُهِيَ الْأَبُ عَنْ مَنْعِ ابْنَتِهِ فَلَا تَجِبُ طَاعَتُهُ فِي تَرْكِ الْمُبَاحِ وَلَا فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
( جَوَابُهُ ) أَنَّ الْبِنْتَ لَهَا حَقٌّ فِي الْإِعْفَافِ وَالتَّصَوُّنِ وَدَفْعِ ضَرَرِ مُوَاقَعَةِ الشَّهْوَةِ وَسَدِّ ذَرَائِعِ الشَّيْطَانِ عَنْهَا بِالتَّزْوِيجِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لَهَا وَأَدَاءُ الْحُقُوقِ وَاجِبٌ عَلَى الْأَبَاءِ لِلْأَبْنَاءِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ لِلْأَبْنَاءِ جَوَازُ إذَايَةُ الْآبَاءِ بِاسْتِيفَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَالِكًا فِي الْمُدَوَّنَةِ مَنَعَ مِنْ تَحْلِيفِ الْأَبِ فِي حَقٍّ لَهُ وَقَالَ : إنْ حَلَّفَهُ كَانَ جُرْحَةً فِي حَقِّ الْوَلَدِ فَالْآيَةُ مَا دَلَّتْ إلَّا عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى الْآبَاءِ لَا عَلَى إبَاحَةِ إذَايَتِهِمْ بِالْمُخَالَفَةِ .
( الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ ) قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ حَقِّ الْبِنْتِ فِي الْإِعْفَافِ وَالتَّصَوُّنِ وَدَفْعِ ضَرَرِ مُوَاقَعَةِ الشَّهْوَةِ وَسَدِّ ذَرَائِعِ الشَّيْطَانِ عَنْهَا بِالتَّزْوِيجِ عَلَى الْآبَاءِ لَا عَلَى إبَاحَةِ إذَايَةُ الْآبَاءِ بِالْمُخَالَفَةِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِمْ لِلْأَبْنَاءِ جَوَازُ إذَايَةُ الْآبَاءِ بِاسْتِيفَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَالِكًا فِي الْمُدَوَّنَةِ مَنَعَ مِنْ تَحْلِيفِ الْأَبِ فِي حَقٍّ لَهُ وَقَالَ : إنْ حَلَّفَهُ كَانَ جُرْحُهُ فِي حَقِّ الْوَلَدِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ ) فِي بَيَانِ الْوَاجِبِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ قَالَ الشَّيْخُ الطُّرْطُوشِيُّ : قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّمَا تَجِبُ صِلَةُ الرَّحِمِ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَحْرَمِيَّةٌ وَهُمَا كُلُّ شَخْصَيْنِ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى لَمْ يَتَنَاكَحَا كَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْا وَالْأَوْلَادِ وَأَوْلَادِهِمْ وَإِنْ سَفُلُوا وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ فَأَمَّا أَوْلَادُ هَؤُلَاءِ فَلَيْسَتْ الصِّلَةُ بَيْنَهُمْ وَاجِبَةً لِجَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَالْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَتَرْكُ الْحَرَامِ وَاجِبٌ وَبِرُّهُمَا وَتَرْكُ إذَايَتِهِمَا وَاجِبَةٌ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ بِنْتَيْ الْعَمِّ وَبِنْتَيْ الْخَالِ وَإِنْ كُنَّ يَتَغَايَرْنَ وَيَتَقَاطَعْنَ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً ، وَقَدْ لَاحَظَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّرَاجُعِ فَقَالَ : يَحْرُمُ التَّرَاجُعُ فِي الْهِبَةِ بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ .
قَالَ : ( الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ فِي بَيَانِ الْوَاجِبِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْأَجْوِبَةِ وَغَيْرِهَا صَحِيحٌ غَيْرَ قَوْلِهِ وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَتَّضِحُ لَك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ اطَّلَعَ عَلَى الْغَيْبِ لَذَهَبَتْ عَنْهُ جَهَالَاتٌ كَثِيرَةٌ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُسْتَنْكَرٌ مُسْتَقْبَحٌ يَجِبُ تَجَنُّبُ مِثْلِهِ وَيَمْتَنِعُ إطْلَاقُهُ فِي جَانِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي جَانِبِ سَائِرِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ ) فِي بَيَانِ الْوَاجِبِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ قَالَ الشَّيْخُ الطُّرْطُوشِيُّ : قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا تَجِبُ صِلَةُ الرَّحِمِ إذَا كَانَ هُنَاكَ مَحْرَمِيَّةٌ وَهُمَا كُلُّ شَخْصٍ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى لَمْ يَتَنَاكَحَا كَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْا وَالْأَوْلَادِ وَأَوْلَادِهِمْ وَإِنْ سَفُلُوا وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ فَأَمَّا أَوْلَادُ هَؤُلَاءِ فَلَيْسَتْ الصِّلَةُ بَيْنَهُمَا وَاجِبَةً كَجَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ تَحْرِيمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَالْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَتَرْكُ الْحَرَامِ وَاجِبٌ وَبِرُّهُمَا وَتَرْكُ إذَايَتِهِمَا وَاجِبَةٌ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ بِنْتَيْ الْعَمِّ وَبِنْتَيْ الْخَالِ وَإِنْ كُنَّ يَتَغَايَرْنَ وَيَتَقَاطَعْنَ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَقَدْ لَاحَظَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّرَاجُعِ فِي الْهِبَةِ فَقَالَ بِتَحْرِيمِهِ بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ .
( سُؤَالٌ ) مَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ سَرَّهُ السَّعَةُ فِي الرِّزْقِ وَالنَّسَاءُ فِي الْأَجَلِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ } مَعَ أَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ وَقَدْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ الْمُمْكِنَاتِ مَا وُجِدَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْأَزَلِ فَتَعَلَّقَتْ إرَادَتُهُ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ بِوُجُودِ كُلِّ مُمْكِنٍ أَرَادَ وُجُودَهُ وَبِعَدَمِ كُلِّ مُمْكِنٍ أَرَادَ بَقَاءَهُ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ أَوْ أَرَادَ عَدَمَهُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَجَمِيعُ الْجَائِزَاتِ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا قَدْ نَفَذَتْ فِيهَا مَشِيئَتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَكَيْفَ بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَيْسِيرِ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ .
( جَوَابُهُ ) مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : إنَّمَا ذَلِكَ بِزِيَادَةِ الْبَرَكَةِ فِيمَا قُدِّرَ فِي الْأَزَلِ مِنْ الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ .
وَأَمَّا نَفْسُ الْأَجَلِ وَالرِّزْقِ الْمُقَدَّرَيْنِ فَلَا يَقْبَلَانِ الزِّيَادَةَ قُلْت : وَهَذَا الْجَوَابُ عِنْدِي ضَعِيفٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْبَرَكَةَ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَدَّرَاتِ فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ مَانِعًا مِنْ الزِّيَادَةِ فَلْيَمْنَعْ مِنْ الْبَرَكَةِ فِي الْعُمْرِ وَالرِّزْقِ كَمَا مَنَعَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهِمَا بَلْ هَذَا الْجَوَابُ يَلْزَمُ مِنْهُ مَفْسَدَتَانِ : أَحَدُهُمَا إيهَامُ أَنَّ الْبَرَكَةَ خَرَجَتْ عَنْ الْقَدَرِ فَإِنَّ الْمُجِيبَ قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْقَدَرِ مَانِعٌ فَحَيْثُ لَا مَانِعَ لَا قَدَرَ وَهَذَا رَدِيءٌ جِدًّا وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ يُقِلُّ الرَّغْبَةَ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ بِالنِّسْبَةِ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ فَإِنَّا إذَا قُلْنَا لِزَيْدٍ إنْ وَصَلْت رَحِمَك زَادَك اللَّهُ تَعَالَى فِي عُمُرِك عِشْرِينَ سَنَةً فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ الْوَقْعِ لِذَلِكَ مَا لَا يَجِدُهُ مِنْ قَوْلِنَا إنَّهُ لَا يَزِيدُك اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ يَوْمًا وَاحِدًا بَلْ يُبَارَكُ لَك فِي عُمُرِك فَقَطْ فَيَخْتَلُّ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُبَالَغَةِ
فِي الْحَثِّ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا بَلْ الْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لَهُ سِتِّينَ سَنَةً مُرَتَّبَةً عَلَى الْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ مِنْ الْغِذَاءِ وَالتَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ وَرَتَّبَ لَهُ عِشْرِينَ سَنَةً أُخْرَى مُرَتَّبَةً عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ .
وَإِذَا جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى سَبَبًا أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ حَقِيقَةً كَمَا نَقُولُ الْإِيمَانُ يُدْخِلُ الْجَنَّةَ وَالْكُفْرُ يُدْخِلُ النَّارَ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ لَا بِالِاقْتِضَاءِ الْعَقْلِيِّ وَمَتَى عَلِمَ الْمُكَلَّفُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ صِلَةَ الرَّحِمِ سَبَبًا لِزِيَادَةِ النَّسَاءِ فِي الْعُمْرِ بَادَرَ إلَى ذَلِكَ كَمَا يُبَادِرُ لِاسْتِعْمَالِ الْغِذَاءِ وَتَنَاوُلِ الدَّوَاءِ وَالْإِيمَانِ رَغْبَةً فِي الْجِنَانِ وَيَفِرُّ مِنْ الْكُفْرِ رَهْبَةً مِنْ النِّيرَانِ وَبَقِيَ الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ يُخِلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الرِّزْقِ حَرْفًا بِحَرْفٍ وَكَذَلِكَ نَقُولُ الدُّعَاءُ يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ وَالرِّزْقِ وَيَدْفَعُ الْأَمْرَاضَ وَيُؤَخِّرُ الْآجَالَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا شُرِعَ فِيهِ الدُّعَاءُ فَهُوَ مِنْ الْقَدَرِ وَلَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْقَدَرِ بَلْ مَا رَتَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَقْدُورًا إلَّا عَلَى سَبَبٍ عَادِيٍّ وَلَوْ شَاءَ لَمَا رَبَطَهُ بِهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْجَوَابُ عَنْ سُؤَالٍ صَعْبٍ وَرَدَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَوْ كُنْت أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْت مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } فَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : هُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا عَلِمَ الْغَيْبَ وَاَلَّذِي فِي الْغَيْبِ هُوَ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ الْخَيْرِ فَكَيْفَ يَسْتَكْثِرُ مِنْ الْخَيْرِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ بَلْ لَوْ قَدَرَ الِاطِّلَاعَ عَلَى الْغَيْبِ لَبَقِيَ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَعَلَ لِكُلِّ مَقْدُورٍ سَبَبًا
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَيَرْتَبِطُ بِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الْأَسْبَابُ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا مِنْ الْعُلُومِ وَالْجَهَالَاتِ فَالْجَهْلُ سَبَبٌ عَظِيمٌ فِي الْعَالَمِ لِمَفَاسِدَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفَوَاتِ الْمَصَالِحِ وَالْعِلْمُ سَبَبٌ عَظِيمٌ لِتَحْصِيلِ مَصَالِحَ وَدَرْءِ مَفَاسِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَالْمَلِكُ الَّذِي دُفِعَ لَهُ السُّمُّ فَأَكَلَهُ فَمَاتَ مِنْهُ كَيْدًا مِنْ أَعْدَائِهِ إنَّمَا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَمُوتَ بِالسُّمِّ مَعَ جَهْلِهِ بِتَنَاوُلِهِ أَمَّا لَوْ عَلِمَهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ .
وَكَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا كَانَ قَدْ قَدَّرَ نَجَاتَهُ مِنْهُ قَدَّرَ اطِّلَاعَهُ عَلَيْهِ فَيَسْلَمُ فَيَكُونُ سَبَبُ سَلَامَتِهِ عِلْمُهُ بِهِ فَالْمُقَدَّرُ عَلَى تَقْدِيرِ الْجَهْلِ نَحْنُ نَمْنَعُ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ عَلَى تَقْدِيرِهِ الْعِلْمَ بَلْ الْمُقَدَّرُ عَلَى تَقْدِيرِ الْعِلْمِ ضِدُّهُ فَالرِّزْقُ الْحَقِيرُ إنَّمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ جَهْلِهِمْ بِالْكُنُوزِ وَعَمَلِ الْكِيمْيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ أَمَّا مَعَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْعَظِيمَةِ الْمُوجِبَةِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ سَعَةَ الرِّزْقِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ ضِيقَ الرِّزْقِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَمَا نَقُولُ مَا قَدَّرَ اللَّهُ مِنْ دُخُولِ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ الْإِيمَانِ أَمَّا مَعَ عَدَمِهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لَهُمْ الْجَنَّةَ وَمَا قَدَّرَ لِلْكُفَّارِ النَّارَ إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ جَهْلِهِمْ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِمْ بِهِ تَعَالَى فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَدَّرَ لَهُمْ النَّارَ وَعَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَتَّضِحُ لَك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ اطَّلَعَ عَلَى الْغَيْبِ لَذَهَبَتْ عَنْهُ جَهَالَاتٌ كَثِيرَةٌ كَثُرَ عِنْدَهُ مِنْ الْخَيْرِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الْآنَ وَمَا مَسَّهُ السُّوءُ وَلَقَدْ نَجْزِمُ أَنَّ الْمِحْنَةَ فِي أُحُدٍ وَقَتْلَ حَمْزَةَ وَغَيْرِهِ إنَّمَا قَدَّرَهَا
اللَّهُ تَعَالَى بِسَبَبِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِأُمُورٍ وَعَوَاقِبِهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَوْ قُدِّرَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِعَوَاقِبِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ كَثُرَتْ لَك النَّظَائِرُ لِتَسْتَيْقِظَ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَسِرِّ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَيَنْدَفِعُ السُّؤَالُ وَهُوَ مَوْضِعٌ حَسَنٌ .
( فَائِدَتَانِ ) : الْأُولَى مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صِلَةُ الرَّحِمِ تُزِيدُ فِي الْعُمْرِ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ سَرَّهُ السَّعَةُ فِي الرِّزْقِ وَالنَّسَأُ فِي الْأَجَلِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ } هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ صِلَةَ الرَّحِمِ سَبَبًا بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ لَا بِالْقَضَاءِ الْعَقْلِيِّ لِزِيَادَةِ النَّسَإِ فِي الْعُمْرِ وَلِسَعَةِ الرِّزْقِ كَمَا نَصَبَ بِهَذَا الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ الْإِيمَانَ سَبَبًا فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالْكُفْرَ سَبَبًا فِي دُخُولِ النَّارِ وَنَصَبَ بِالْوَضْعِ الْعَادِيِّ لَا بِالِاقْتِضَاءِ الْعَقْلِيِّ الْأَسْبَابَ الْعَادِيَّةَ مِنْ الْغِذَاءِ وَالتَّنَفُّسِ فِي الْهَوَاءِ وَالْأَدْوِيَةِ وَجَعَلَهَا أَسْبَابًا فِي الْحَيَاةِ وَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ صِلَةَ الرَّحِمِ سَبَبًا لِذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهَا تُزِيدُ فِي الْعُمْرِ وَتُوَسِّعُ فِي الرِّزْقِ حَقِيقَةً كَمَا نَقُولُ : الْإِيمَانُ يُدْخِلُ الْجَنَّةَ وَالْكُفْرُ يُدْخِلُ النَّارَ وَمَتَى عَلِمَ الْمُكَلَّفُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ صِلَةَ الرَّحِمِ سَبَبًا لِذَلِكَ بَادَرَ إلَيْهَا رَغْبَةً فِي زِيَادَةِ الْعُمْرِ وَسِعَةِ الرِّزْقِ كَمَا يُبَادِرُ لِاسْتِعْمَالِ الْغِذَاءِ وَتَنَاوُلِ الدَّوَاءِ رَغْبَةً فِي الْحَيَاةِ وَلِلْإِيمَانِ رَغْبَةً فِي الْجِنَانِ وَيَفِرُّ مِنْ الْكُفْرِ رَهْبَةً مِنْ النِّيرَانِ وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُنَا الدُّعَاءُ يُزِيدُ فِي الْعُمْرِ وَالرِّزْقِ وَيَدْفَعُ الْأَمْرَاضَ وَيُؤَخِّرُ الْآجَالَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا شُرِعَ فِيهِ الدُّعَاءُ فَهُوَ مِنْ الْقَدَرِ وَلَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْقَدَرِ بَلْ مَا رَتَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَقْدُورًا إلَّا عَلَى سَبَبٍ عَادِيٍّ وَلَوْ شَاءَ لَمَا رَبَطَهُ بِهِ فَانْدَفَعَ مَا .
قِيلَ : إنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ وَقَدْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ الْمُمْكِنَاتِ مَا وُجِدَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْأَزَلِ فَتَعَلَّقَتْ إرَادَتُهُ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ بِوُجُودِ كُلِّ مُمْكِنٍ أَرَادَ وُجُودَهُ وَبِعَدَمِ كُلِّ مُمْكِنٍ أَرَادَ بَقَاءَهُ عَلَى
الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ أَوْ أَرَادَ عَدَمَهُ بَعْدَ وُجُودِهِ فَجَمِيعُ الْجَائِزَاتِ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا قَدْ نَفَذَتْ فِيهَا مَشِيئَتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَكَيْفَ بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَيَسُّرِ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِزِيَادَةِ الْبَرَكَةِ فِيمَا قُدِّرَ فِي الْأَزَلِ مِنْ الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ وَأَمَّا نَفْسُ الْأَجَلِ وَالرِّزْقِ الْمُقَدَّرَيْنِ فَلَا يَقْبَلَانِ الزِّيَادَةَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ أَوَّلًا ضَعِيفٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْبَرَكَةَ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَدَّرَاتِ فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ مَانِعًا مِنْ الزِّيَادَةِ فَلْيَمْنَعْ مِنْ الْبَرَكَةِ فِي الْعُمْرِ وَالرِّزْقِ كَمَا مَنَعَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهِمَا وَثَانِيًا يَلْزَمُ مِنْهُ مَفْسَدَتَانِ : إحْدَاهُمَا إيهَامُ أَنَّ الْبَرَكَةَ خَرَجَتْ عَنْ الْقَدَرِ لِتَصْرِيحِ الْمُجِيبِ بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْقَدَرِ مَانِعٌ فَحَيْثُ لَا مَانِعَ لَا قَدْرَ وَهَذَا رَدِيءٌ جِدًّا وَثَانِيَتُهُمَا اخْتِلَالُ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحَثِّ عَلَى صِلَةِ الرَّحِمِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا إذْ عَلَيْهِ تَكُونُ الرَّغْبَةُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ بِالنِّسْبَةِ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ فَإِنَّا إذَا قُلْنَا لِزَيْدٍ : إنْ وَصَلْت رَحِمَك زَادَك اللَّهُ تَعَالَى فِي عُمُرِك عِشْرِينَ سَنَةً فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ الْوُقُوعِ لِذَلِكَ مَا لَا يَجِدُهُ مِنْ قَوْلِنَا إنَّهُ لَا يَزِيدُك اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ يَوْمًا وَاحِدًا بَلْ يُبَارِكُ لَك فِي عُمُرِك فَقَطْ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَاعِدَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَعَلَ لِكُلِّ مُقَدَّرٍ سَبَبًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَيَرْتَبِطُ بِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا مِنْ الْعُلُومِ وَالْجَهَالَاتِ .
فَالْجَهْلُ سَبَبٌ عَظِيمٌ فِي الْعَالَمِ لِمَفَاسِدَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَفَوَاتِ الْمَصَالِحِ وَالْعِلْمُ سَبَبٌ عَظِيمٌ لِتَحْصِيلِ مَصَالِحَ وَدَرْءِ مَفَاسِدَ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ مَثَلًا الْمَلِكُ الَّذِي دَفَعَ لَهُ أَعْدَاؤُهُ السُّمَّ فَأَكَلَهُ فَمَاتَ مِنْهُ كَيْدًا مِنْهُمْ لَمَّا قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَمُوتَ بِهِ رَبَطَهُ بِسَبَبِ جَهْلِهِ بِتَنَاوُلِهِ وَقَدَّرَ ذَلِكَ السَّبَبَ فَلَوْ قَدَّرَ نَجَاتَهُ مِنْهُ لَقَدَّرَ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ فَيَسْلَمُ فَيَكُونُ سَبَبُ سَلَامَتِهِ عِلْمَهُ بِهِ فَلَيْسَ الْمُقَدَّرُ عَلَى تَقْدِيرِ الْعِلْمِ هُوَ عَيْنُ الْمُقَدَّرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْجَهْلِ بَلْ ضِدُّهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّزْقَ الْحَقِيرَ إنَّمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ جَهْلِهِمْ بِالْكُنُوزِ وَعَمَلِ الْكِيمْيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ .
أَمَّا مَعَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْعَظِيمَةِ الْمُوجِبَةِ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ سِعَةَ الرِّزْقِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ ضِيقَ الرِّزْقِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَعْنِي تَقْدِيرَ الْعِلْمِ بِنَحْوِ الْكُنُوزِ وَعَمَلِ الْكِيمْيَاءِ أَيْضًا كَمَا نَقُولُ مَا قَدَّرَ اللَّهُ دُخُولَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ الْإِيمَانِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لَهُمْ مَعَ عَدَمِهِ الْجَنَّةَ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ : اللَّهُ تَعَالَى وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَا قَدَّرَ لِلْكُفَّارِ النَّارَ إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ جَهْلِهِمْ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَهَا لَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِمْ بِهِ فَظَهَرَ أَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَوْ كُنْت أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْت مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُدِّرَ حُصُولُ الْعِلْمِ لَهُ بِعَوَاقِبَ يَوْمِ أُحُدٍ مَثَلًا لَكَثُرَ عِنْدَهُ مِنْ الْخَيْرِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الْآنَ وَمَا مَسَّهُ السُّوءُ أَيْ الْمِحْنَةُ فِيهِ وَقَتْلُ حَمْزَةُ وَانْدَفَعَ قَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا عَلِمَ الْغَيْبَ وَاَلَّذِي فِي الْغَيْبِ هُوَ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ
مِنْ الْخَيْرِ فَكَيْفَ يَسْتَكْثِرُ مِنْ الْخَيْرِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ بَلْ لَوْ قُدِّرَ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْغَيْبِ لَبَقِيَ عَلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ قُلْت : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِعِلْمِ عَوَاقِبِ يَوْمِ أُحُدٍ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِلْمُ التَّفْصِيلِيُّ لَا الْإِجْمَالِيُّ لِحُصُولِهِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَشْهَدُ مَا فِي حَيَاةِ الْحَيَوَانِ لِلدَّمِيرِيِّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ خُرُوجِهِ لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بِأُحُدٍ إنِّي رَأَيْت فِي مَنَامِي بَقَرًا فَأَوَّلْتُهَا خَيْرًا تُذْبَحُ وَرَأَيْت فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا فَأَوَّلْتُهَا هَزِيمَةً وَرَأَيْت أَنِّي أَدْخَلْت يَدَيَّ فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةُ فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ فَافْعَلُوا } .
ا هـ .
الْمُرَادُ فَتَأَمَّلْ وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ رِضَاخَانْ الْبِرُّ يَلْوِي فِي كِتَابِهِ الدَّوْلَةُ الْمَكِّيَّةُ بِالْمَادَّةِ الْغَيْبِيَّةِ مِمَّا حَاصِلُهُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ الْعِلْمُ الْمُطْلَقُ التَّفْصِيلِيُّ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ أَعْنِي الْعِلْمَ الْمُطْلَقَ الْإِجْمَالِيَّ وَمُطْلَقَ الْعِلْمِ الْإِجْمَالِيِّ وَالتَّفْصِيلِيِّ فَغَيْرُ مُخْتَصَّاتٍ بِهِ تَعَالَى أَمَّا الْمُطْلَقُ الْإِجْمَالِيُّ فَحُصُولُهُ لِلْعِبَادِ بَدِيهِيٌّ عَقْلًا وَضَرُورِيٌّ دِينًا فَإِنَّا آمَنَّا أَنَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَاحَظْنَا بِقَوْلِنَا كُلُّ شَيْءٍ جَمِيعَ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَعَلِمْنَاهَا جَمِيعًا عِلْمًا إجْمَالِيًّا وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِثُبُوتِ الْعِلْمِ الْمُطْلَقِ الْإِجْمَالِيِّ ثُبُوتَ مُطْلَقِ الْعِلْمِ الْإِجْمَالِيِّ بَلْ وَكَذَلِكَ التَّفْصِيلِيُّ مِنْهُ فَإِنَّا آمَنَّا بِالْقِيَامَةِ وَبِالْجَنَّةِ وَبِالنَّارِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
وَبِالْأُمَّهَاتِ السَّبْعِ مِنْ صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْبٌ وَقَدْ عِلْمنَا كُلًّا بِحِيَالِهِ مُمْتَازًا عَنْ غَيْرِهِ فَوَجَبَ حُصُولُ مُطْلَقِ الْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ بِالْغُيُوبِ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ فَضْلًا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالْعِلْمُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى لَيْسَ إلَّا الْعِلْمُ الذَّاتِيُّ وَالْعِلْمُ الْمُطْلَقُ التَّفْصِيلِيُّ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ الْإِلَهِيَّةِ بِالِاسْتِغْرَاقِ الْحَقِيقِيِّ فَهُمَا الْمُرَادُ أَنَّ فِي آيَاتِ النَّفْيِ وَالْعِلْمِ الَّذِي يَصِحُّ إثْبَاتُهُ لِلْعِبَادِ هُوَ الْعِلْمُ الْعَطَائِيُّ سَوَاءً كَانَ الْعِلْمَ الْمُطْلَقَ الْإِجْمَالِيَّ أَوْ مُطْلَقَ الْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ وَالتَّمَدُّحُ إنَّمَا يَقَعُ بِهَذَا فَهُوَ الْمُرَادُ فِي آيَاتِ الْإِثْبَاتِ قَالَ : تَعَالَى { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } وَقَالَ : تَعَالَى { وَعَلَّمَك مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْك عَظِيمًا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ا هـ الْمُرَادُ فَانْظُرْهُ إنْ شِئْت .
( فَائِدَةٌ ) أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلَ بِأَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَيْ الْبِرِّ لِقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا { قَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ : أُمُّك قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أُمُّك قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أُمُّك قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أَبُوك } وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ وَرُوِيَ ثَلَاثًا فَعَلَى رِوَايَةِ مَرَّتَيْنِ قَالُوا : يَكُونُ لَهَا ثُلُثُ الْبِرِّ وَعَلَى رِوَايَةِ ثَلَاثَةٍ يَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْبِرِّ لِأَنَّ الْأَبَ جَاءَ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ وَهَذَا يُعْتَقَدُ أَنَّهُ سَهْلٌ وَلَيْسَ بِالسَّهْلِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ السَّائِلِ أَيُّ النَّاسِ أَحَقُّ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ أَعْلَى الرُّتَبِ فَلَمَّا أُجِيبَ عَنْهَا عَرَفَهَا الرُّتْبَةَ الْعَالِيَةَ فَأَخَذَ يَسْأَلُ عَنْ الرُّتْبَةِ الَّتِي تَلِيهَا بِصِيغَةِ ثُمَّ الَّتِي لِلتَّرَاخِي الدَّالَّةِ عَلَى تَرَاخِي رُتْبَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي عَنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فِي الْبِرِّ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ : أُمُّك فَلَا يَكُونُ هَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقًا حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ أَخْفَضَ رُتْبَةً مِنْ الْأُولَى وَكَذَلِكَ الْأَجْوِبَةُ الَّتِي بَعْدَهَا بِتِلْكَ الرُّتَبِ الْمُجَابِ بِهَا وَكَمَا وَجَبَ نُقْصَانُ الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى وَجَبَ أَيْضًا نُقْصَانُ الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ الثَّانِيَةِ عَمَلًا بِثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَاخِي وَالنُّقْصَانِ ثُمَّ رُتْبَةُ الْأَبِ تَكُونُ أَخْفَضَ الرُّتَبِ وَأَقَلِّهَا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ رُتْبَةُ الْأَبِ مُشْتَمِلَةً عَلَى ثُلُثِ الْبِرِّ إذْ لَوْ اشْتَمَلَتْ لَكَانَتْ الرُّتَبُ مُسْتَوِيَةً .
وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ وَأَنَّ الْأَخِيرَةَ أَقَلُّ مِمَّا هُوَ أَقَلُّ وَأَنَّهُ يَجِبُ نُقْصَانُ كُلِّ رُتْبَةٍ فَضْلًا عَمَّا قَبْلَهَا فَيَتَعَيَّنُ نُقْصَانُ الرُّتْبَةِ الْأَخِيرَةِ بِمَقَادِيرَ عَدِيدَةٍ عَنْ الرُّتْبَةِ الْأُولَى بَعْدَ تَعَدُّدِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ فَيَكُونُ نَصِيبُ الْأَبِ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ
بِمِقْدَارَيْنِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَثَلَاثِ مَقَادِيرَ عَلَى رِوَايَةِ الثَّلَاثِ فَيَكُونُ نَصِيبُ الْأَبِ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ وَأَقَلَّ مِنْ الرُّبُعِ قَطْعًا فَيَبْطُلُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ ثُلُثُ الْبِرِّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ الْبِرِّ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بَلْ أَقَلُّ بِكَثِيرٍ وَكَمَا وَجَبَ نُقْصَانُ الْأَبِ عَنْ الرُّبُعِ أَوْ الثُّلُثِ وَجَبَ أَيْضًا أَنْ لَا يُقَالَ : لِلْأُمِّ ثُلُثَا الْبِرِّ أَوْ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ الْمَضْمُومَةَ إلَيْهَا مُخْتَلِفَةُ الْمَقَادِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَا قَالُوا أَنْ لَوْ كَانَتْ الْمَقَادِيرُ مُسْتَوِيَةً فَإِنْ قُلْت : فَهَلْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بَعْدَ تَسْلِيمِ بُطْلَانِ الْمِقْدَارِ الْمَذْكُورِ ؟ قُلْت : ذَلِكَ عَسِيرٌ عَلَيَّ وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَيَسَّرُ لِي إيرَادُ السُّؤَالِ أَمَّا تَحْرِيرُ الْمِقْدَارِ فَلَا أَعْلَمُ إلَّا أَنَّ ثُمَّ اقْتَضَتْ أَصْلَ النُّقْصَانِ مَعَ زِيَادَةٍ فِي النُّقْصَانِ يَحْصُلُ بِهَا التَّرَاخِي بِثُمَّ أَمَّا مَا مِقْدَارُ ذَلِكَ الَّذِي بِهِ حَصَلَ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِي بَلْ جَزَمْت بِالتَّفَاوُتِ فَقَطْ فَإِنْ تَيَسَّرَ الضَّبْطُ فِي ذَلِكَ فَاضْبِطْهُ .
فَإِنْ قُلْت : ثُمَّ حَرْفُ عَطْفٍ تَقْتَضِي مَعْطُوفًا وَمَعْطُوفًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ مَعَنَا قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا إلَّا كَلَامٌ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى نَفْسِهَا فِي الرُّتْبَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالْقَاعِدَةُ الْعَرَبِيَّةُ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ قُلْت أَيْضًا : هَذَا سُؤَالٌ مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ وَتَحْرِيرٍ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ إنَّ السَّائِلَ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ غَيْرِ الْأُمِّ وَالتَّرَاخِي عَنْهَا فِي الرُّتْبَةِ فَكَيْفَ أُجِيبَ بِالْأُمِّ وَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ التَّرَاخِيَ عَنْ الْأُمِّ فِي الْبِرِّ هُوَ لِلْأُمِّ حَتَّى يَحْصُلَ الْجَوَابُ بِهِ وَهَذَا أَيْضًا إشْكَالٌ آخَرُ وَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ : هَذَا عَطْفٌ وَكَلَامٌ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى كَأَنَّ السَّائِلَ لَمَّا قِيلَ لَهُ : أَحَقُّ النَّاسِ
وَأَوْلَاهُمْ أُمُّك قَالَ : فَلِمَنْ أَتَوَجَّهُ بِالْبِرِّ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَشْتَغِلُ بِهِ قِيلَ لَهُ أَيْضًا لِأُمِّكَ فَقُوبِلَ مَا فُهِمَ مِنْهُ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْأُمِّ بِالْأَمْرِ بِالْمُلَازَمَةِ إظْهَارًا لِتَأْكِيدِ حَقِّهَا فَقَالَ : إذَا تَوَجَّهْت أَيْضًا إلَيْهَا وَفَرَغْت فَلِمَنْ أَتَوَجَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا فَقِيلَ لَهُ : أُمُّك فَقُوبِلَ أَيْضًا مَا فُهِمَ مِنْهُ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْأُمِّ بِالْبِرِّ وَالْمُلَازَمَةِ إظْهَارًا لِتَأْكِيدِ حَقِّهَا فَصَارَتْ الْأُمُّ مَعْطُوفَةً عَلَى نَفْسِهَا بِنِسْبَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ إلَى رُتْبَتَيْنِ مُتَبَايِنَتَيْنِ فَهِيَ بِقَيْدِ الرُّتْبَةِ الدُّنْيَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى نَفْسِهَا بِقَيْدِ الرُّتْبَةِ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ إذَا أُخِذَ مَعَ وَصْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ صَارَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَمَا تَقُولُ : زَيْدٌ ابْنٌ وَأَخٌ وَفَقِيهٌ وَتَاجِرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَاحِدٌ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا أُخِذَ مَعَ الْمُخْتَلِفَاتِ صَارَ مُخْتَلِفًا فَهَذَا السِّرُّ هُوَ الْمُحْسِنُ لِلْعِطْفِ وَإِعَادَةِ الْأُمِّ فِي الرُّتَبِ وَهَذَا الْحَدِيثُ كَمَا تَرَى فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الْقَلِقِ وَالْإِشْكَالِ مَعَ أَنَّهُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ ظَاهِرًا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ فَإِذَا اُخْتُبِرَ خَرَجَ مِنْهُ غَرَائِبُ .
( فَصْلٌ ) إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ وَهَذِهِ الْمَبَاحِثُ ظَهَرَ لَك الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ لِلْأَجَانِبِ وَالْوَاجِبِ لِلْوَالِدَيْنِ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَجِبُ لِلْأَجَانِبِ يَجِبُ لِلْوَالِدَيْنِ وَضَابِطُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوَالِدَانِ دُونَ الْأَجَانِبِ هُوَ اجْتِنَابُ مُطْلَقِ الْأَذَى كَيْفَ كَانَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الِابْنِ وَوُجُوبُ طَاعَتِهِمَا فِي تَرْكِ النَّوَافِلِ وَتَعْجِيلِ الْفُرُوضِ الْمُوَسَّعَةِ وَتَرْكِ فَرَوْضِ الْكِفَايَةِ إذَا كَانَ ثَمَّ مَنْ يَقُومُ بِهَا وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيهِ وَإِنْ نُدِبَ إلَى طَاعَتِهِمْ وَبِرِّهِمْ مُطْلَقًا وَكَذَلِكَ الْأَجَانِبُ يُنْدَبُ بِرُّهُمْ مُطْلَقًا غَيْرَ أَنَّ النَّدْبَ
فِي الْأَبَوَيْنِ أَقْوَى فِي غَيْرِ الْقُرَبِ وَالنَّوَافِلِ وَلَا نَدْبَ فِي طَاعَةِ الْأَجَانِبِ فِي تَرْكِ النَّوَافِلِ بَلْ الْكَرَاهَةُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ وَأَمَّا مَا يَجِبُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ مِنْ غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ فَلَمْ أَظْفَرْ فِيهِ بِتَفْصِيلٍ كَمَا وَجَدْتُ تِلْكَ الْمَسَائِلَ فِي الْأَبَوَيْنِ بَلْ أَصْلُ الْوُجُوبِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَدَرْت عَلَيْهِ فِي هَذَا الْفَرْقِ وَقَدْ رَأَيْتُ جَمْعًا عَظِيمًا عَلَى طُولِ الْأَيَّامِ يَعْسُرُ عَلَيْهِمْ تَحْرِيرُ ذَلِكَ .
( الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ بَعْضُهُمْ حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا { قَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ : أُمُّك قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أُمُّك ؟ قَالَ : ثُمَّ مَنْ قَالَ : أُمُّك قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : أَبُوك } رُوِيَ ثَلَاثًا وَرُوِيَ مَرَّتَيْنِ فَعَلَى رِوَايَةِ مَرَّتَيْنِ يَكُونُ لَهَا ثُلُثَا الْبِرِّ وَعَلَى رِوَايَةِ ثَلَاثَةٍ يَكُونُ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ ا هـ وَهُوَ بَاطِلٌ إذْ الْوَاجِبُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ مَقَادِيرِ الْأَنْصِبَاءِ الْمَضْمُومَةِ إلَيْهَا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَطْفِ بِثُمَّ أَنْ يَكُونَ لِلْأُمِّ عَلَى رِوَايَةِ مَرَّتَيْنِ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْ الْبِرِّ بِكَثِيرٍ كَمَا يَجِبُ نُقْصَانُ الْأَبِ عَنْ الثُّلُثِ وَأَنْ يَكُونَ لَهَا عَلَى رِوَايَةِ ثَلَاثَةٍ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ بِكَثِيرٍ كَمَا يَجِبُ نُقْصَانُ الْأَبِ عَنْ الرُّبُعِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ السَّائِلِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ سُؤَالٌ عَنْ أَعْلَى الرُّتَبِ فَلَمَّا .
أُجِيبَ عَنْهَا عُرِفَ أَنَّهَا الرُّتْبَةُ الْعَالِيَةُ وَقَوْلُهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مَنْ بِصِيغَةِ ثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى تَرَاخِي رُتْبَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي عَنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فِي الْبِرِّ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ : أُمُّك فَلَا يَكُونُ هَذَا الْجَوَابُ مُطَابِقًا حَتَّى تَكُونَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ أَخْفَضَ رُتْبَةً مِنْ الْأُولَى وَكَذَلِكَ الْأَجْوِبَةُ الَّتِي بَعْدَهَا بِتِلْكَ الرُّتَبِ الْمُجَابِ بِهَا فَكَمَا وَجَبَ نُقْصَانُ الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى كَذَلِكَ يَجِبُ نُقْصَانُ الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ عَنْ الثَّالِثَةِ عَمَلًا بِثُمَّ الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَاخِي وَالنُّقْصَانِ فَيَكُونُ نَصِيبُ الْأَبِ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ بِمِقْدَارَيْنِ عَلَى رِوَايَةِ الْأُمِّ مَرَّتَيْنِ وَبِثَلَاثِ مَقَادِيرَ عَلَى رِوَايَةِ الثَّلَاثِ فَتَفَاوُتُ الرُّتَبِ مُتَحَقِّقٌ جَزْمًا إلَّا أَنَّ ضَبْطَ مِقْدَارِهِ لَمْ يَتَيَسَّرْ حَتَّى الْآنَ فَإِنْ تَيَسَّرَ لَك
ضَبْطُهُ فَاضْبِطْهُ وَعَطْفُ الْأُمِّ بِثُمَّ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ وَالثَّانِيَةِ عَلَى الْأُمِّ نَفْسِهَا فِي الْمَرْتَبَةِ الَّتِي قَبْلُ وَإِنْ خَالَفَ فِي الظَّاهِرِ الْقَاعِدَةَ الْعَرَبِيَّةَ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ الْأُمَّ بِقَيْدِ الرُّتْبَةِ الدُّنْيَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى نَفْسِهَا بِقَيْدِ الرُّتْبَةِ الْعُلْيَا وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَعَ غَيْرِهِ غَيْرُهُ فِي نَفْسِهِ فَالْعَطْفُ هُنَا عَلَى حَدِّ الْعَطْفِ فِي قَوْلِك زَيْدٌ ابْنٌ وَأَخٌ وَفَقِيهٌ وَتَاجِرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ .
( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالَاتُ وَالْغَرَرُ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ ) وَرَدَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَجْهُولِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّمَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ فَمَنَعَ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ وَهُوَ مَالِكٌ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ وَهُوَ بَابُ الْمُمَاكَسَاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِتَنْمِيَةِ الْأَمْوَالِ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُهَا وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ وَهُوَ مَا لَا يَقْصِد لِذَلِكَ وَانْقَسَمَتْ التَّصَرُّفَاتُ عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ فَالطَّرَفَانِ : أَحَدُهُمَا مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ فَيُجْتَنَبُ فِيهَا ذَلِكَ إلَّا مَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ عَادَةً كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْجَهَالَاتِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ فَكَذَلِكَ الْغَرَرُ وَالْمَشَقَّةُ وَثَانِيهِمَا مَا هُوَ إحْسَانٌ صِرْفٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَالِ كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ فَإِنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا يُقْصَدُ بِهَا تَنْمِيَةُ الْمَالِ بَلْ إنْ فَاتَتْ عَلَى مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ بِهَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا بِخِلَافِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إذَا فَاتَ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَاتِ ضَاعَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ مَنْعَ الْجَهَالَةِ فِيهِ أَمَّا الْإِحْسَانُ الصِّرْفُ فَلَا ضَرَرَ فِيهِ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحَثُّهُ عَلَى الْإِحْسَانِ التَّوْسِعَةَ فِيهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ قَطْعًا وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى تَقْلِيلِهِ فَإِذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدَهُ الْآبِقَ جَازَ أَنْ يَجِدَهُ فَيَحْصُلَ لَهُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَجِدْهُ
لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا وَهَذَا فِقْهٌ جَمِيلٌ ثُمَّ إنَّ الْأَحَادِيثَ لَمْ يَرِدْ فِيهَا مَا يَعُمُّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ حَتَّى نَقُولَ يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ نُصُوصِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَلْ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ النِّكَاحُ فَهُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَالَ فِيهِ لَيْسَ مَقْصُودًا .
وَإِنَّمَا مَقْصِدُهُ الْمَوَدَّةُ وَالْأُلْفَةُ وَالسُّكُونُ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ مُطْلَقًا وَمِنْ جِهَةِ أَنْ صَاحِبَ الشَّرْعِ اشْتَرَطَ فِيهِ الْمَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِيهِ فَلَوْ وُجِدَ الشَّبَهَيْنِ تَوَسَّطَ مَالِكٌ فَجَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْقَلِيلَ دُونَ الْكَثِيرِ نَحْوَ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَشُورَةِ بَيْتٍ وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْوَسَطِ الْمُتَعَارَفِ وَالثَّانِي لَيْسَ لَهُ ضَابِطٌ فَامْتَنَعَ وَأَلْحَقَ الْخُلْعَ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِيهِ الْغَرَرُ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْعِصْمَةَ وَإِطْلَاقَهَا لَيْسَ مِنْ بَابِ مَا يُقْصَدُ لِلْمُعَاوَضَةِ بَلْ شَأْنُ الطَّلَاقِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَهُوَ كَالْهِبَةِ فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَالضَّابِطُ لِلْبَابَيْنِ وَالْفِقْهُ مَعَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ .
قَالَ : ( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالَاتُ وَالْغَرَرُ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ : فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ .
الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ مَا تُؤَثِّرُ فِيهِ الْجَهَالَاتُ وَالْغَرَرُ وَقَاعِدَةِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ ) قَسَّمَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّصَرُّفَاتِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا مُعَاوَضَةٌ صِرْفَةٌ يُقْصَدُ بِهَا تَنْمِيَةُ الْمَالِ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ أَنْ يُجْتَنَبَ فِيهَا مِنْ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ مَا إذَا فَاتَ الْمَبِيعُ بِهِ ضَاعَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ فِي مُقَابَلَتِهِ إلَّا مَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ عَادَةً وَذَلِكَ أَنَّ الْغَرَرَ وَالْجَهَالَةَ كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا مَرَّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا مَا لَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَصْلًا وَالثَّانِي مَا يَحْصُلُ مَعَهُ ذَلِكَ دَنِيًّا وَنَزْرًا وَالثَّالِثُ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ غَالِبُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيُجْتَنَبُ الْأَوَّلَانِ وَيُغْتَفَرُ الثَّالِثُ .
وَقَسَّمَ أَبُو الْوَلِيدِ الْغَرَرَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ كَثِيرٍ وَقَلِيلٍ وَوَسَطٍ وَجَعَلَ الْكَثِيرَ عِبَارَةً عَنْ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ فَقَالَ فِي بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ : الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْغَرَرَ الْكَثِيرَ فِي الْمَبِيعَاتِ لَا يَجُوزُ وَأَنَّ الْقَلِيلَ يَجُوزُ وَيَخْتَلِفُونَ فِي أَشْيَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ مِثْلُ مَا إذَا قَالَ لَهُ : أَبِيعُكَ أَحَدُ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ أَوْ الْعَبْدَيْنِ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ وَقَدْ لَزِمَهُ أَحَدُهُمَا أَيُّهُمَا اخْتَارَ وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْخِيَارِ فَلِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْغَرَرِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بَعْضُهُمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ يُلْحِقُهَا بِالْغَرَرِ الْكَثِيرِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَلَى بَيْعٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ وَبَعْضُهُمْ كَمَالِكٍ فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا يُلْحِقُهَا بِالْغَرَرِ الْقَلِيلِ فَيُجِيزُ الْبَيْعَ الْمَذْكُورَ لِأَنَّهُ يُجِيزُ الْخِيَارَ بَعْدَ عَقْدِ الْبَيْعِ فِي الْأَصْنَافِ الْمُسْتَوِيَةِ لِقِلَّةِ الْغَرَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ عَلَى
مَذْهَبِ مَالِكٍ فَقَبَضَ الثَّوْبَيْنِ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَخْتَارَ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا أَوْ أَصَابَهُ عَيْبٌ مِمَّا يُصِيبُهُ فَقِيلَ : تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بَيْنَهُمَا وَقِيلَ بَلْ يَضْمَنُهُ كُلَّهُ لِلْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَلَاكِهِ وَقِيلَ يَضْمَنُ فِيمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ كَالثِّيَابِ وَلَا يَضْمَنُ فِيمَا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ وَأَمَّا أَخْذُ الْبَاقِي فَقِيلَ : يَلْزَمُ وَقِيلَ : لَا يَلْزَمُ ا هـ وَقَالَ قَبْلُ : وَالْغَرَرُ يُوجَدُ فِي الْمَبِيعَاتِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ وَالْجَهْلُ عَلَى أَوْجُهٍ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الْجَهْلُ بِتَعْيِينِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ الْعَقْدِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي الْجَهْلُ بِوَصْفِ الثَّمَنِ وَالْمَثْمُونِ الْمَبِيعِ أَوْ بِقَدْرِهِ أَوْ بِأَجَلِهِ إنْ كَانَ هُنَالِكَ أَجَلٌ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ الْجَهْلُ بِوُجُودِهِ أَوْ تَعَذُّرُ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ الْجَهْلُ بِسَلَامَتِهِ أَعْنِي بَقَاءَهُ .
ا هـ .
الْمُرَادُ بِتَغْيِيرِ قُلْت : وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَهْلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إمَّا كَثِيرٌ لَا يُغْتَفَرُ وَإِمَّا قَلِيلٌ يُغْتَفَرُ وَإِمَّا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا فَيَجْرِي الْخِلَافُ فِي اغْتِفَارِهِ وَعَدَمِهِ الْقِسْمُ الثَّانِي مَا هُوَ إحْسَانٌ صِرْفٌ لَا يُقْصَدُ بِهِ تَنْمِيَةُ الْمَالِ كَالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحَثُّهُ عَلَى الْإِحْسَانِ التَّوْسِعَةَ فِيهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ قَطْعًا وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى تَقْلِيلِهِ مَعَ أَنَّهُ إذَا وَهَبَ لَهُ عَبْدَهُ الْآبِقَ وَلَمْ يَجِدْهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْذُلْ شَيْئًا وَأَلْحَقَ مَالِكٌ بِهَذَا الْقِسْمِ الْخُلْعَ نَظَرًا لِكَوْنِ الْعِصْمَةِ وَإِطْلَاقِهَا لَيْسَ مِنْ بَابِ مَا يُقْصَدُ بِالْمُعَاوَضَةِ بَلْ شَأْنُ الطَّلَاقِ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَالْهِبَةِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا لَمْ يَكُنْ مُعَاوَضَةً صِرْفَةً وَلَا إحْسَانًا صِرْفًا كَالنِّكَاحِ فَهُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَالَ
فِيهِ لَيْسَ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَوَدَّةُ وَالْأُلْفَةُ وَالسُّكُونُ يَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْجَهَالَةُ وَالْغَرَرُ مُطْلَقًا وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اشْتَرَطَ فِيهِ الْمَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْجَهَالَةِ وَالْغَرَرِ فِيهِ فَلِوُجُودِ الشَّبَهَيْنِ فِيهِ تَوَسَّطَ مَالِكٌ فَجَوَّزَ فِيهِ الْغَرَرَ الْقَلِيلَ نَحْوَ عَبْدٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَشُورَةِ بَيْتٍ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ لِلْوَسَطِ الْمُتَعَارَفِ وَلَمْ يَجُزْ فِيهِ الْغَرَرُ الْكَثِيرُ نَحْوُ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ لَهُ وَعَمَّمَ الشَّافِعِيُّ الْمَنْعَ مِنْ الْجَهَالَةِ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ .
وَلَوْ كَانَتْ إحْسَانًا صِرْفًا كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ إلَّا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ الْمَجْهُولِ لَمَّا لَمْ يَرِدْ فِيهَا مَا يَعُمُّ هَذِهِ الْأَقْسَامَ حَتَّى نَقُولَ يَلْزَمُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ مُخَالَفَةُ نُصُوصِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَلْ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ كَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِقْهًا جَمِيلًا بِخِلَافِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ قُلْت : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَرَرِ الْقَلِيلِ الْمُغْتَفَرِ فِي النِّكَاحِ هُوَ مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي نَحْوِ الْبَيْعِ وَهُوَ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ دَيْنًا نُذِرَ إلَّا مَا يُغْتَفَرُ فِيهِ أَيْضًا وَهُوَ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ غَالِبُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ ) هَذَا الْفَرْقُ جَلِيلٌ عَظِيمٌ دَقِيقُ النَّظَرِ خَطِيرُ النَّفْعِ لَا يُحَقِّقُهُ إلَّا فَحَوْلُ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ فَاسْتَقْبِلْهُ بِعَقْلٍ سَلِيمٍ وَفِكْرٍ مُسْتَقِيمٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُشْتَرَكَ هُوَ الْحَقِيقَةُ الْكُلِّيَّةُ الْمَوْجُودَةُ فِي أَفْرَادٍ عَدِيدَةٍ كَالرَّقَبَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْرَادِ الرِّقَابِ وَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَمُطْلَقِ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَشْخَاصِهِ وَكُلُّ مُطْلَقٍ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَمَدْلُولُ كُلِّ نَكِرَةٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ مُشْتَرَكَةٌ وَضَابِطُهُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَعْقُولِ مَا لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ مَا ذَكَرْتُهُ وَإِذَا عَرَفْت حَقِيقَتَهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُشْتَرَكِ نَفْيُ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ فَإِنَّهُ إذَا انْتَفَى مُطْلَقُ الْحَيَوَانِ مِنْ الدَّارِ فَقَدْ انْتَفَى جَمِيعُ أَفْرَادِهِ مِنْ الدَّارِ وَإِذَا انْتَفَى مُطْلَقُ الْإِنْسَانِ مِنْ الدَّارِ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو وَلَا فَرْدٌ مِنْ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَرْبَابِ الْمَعْقُولِ : يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَعَمِّ نَفْيُ الْأَخَصِّ وَإِذَا تَصَوَّرْت ذَلِكَ فِي النَّفْيِ فَتَصَوَّرْهُ فِي النَّهْيِ فَإِنَّ مَعْنَى النَّهْيِ الْأَمْرُ بِإِعْدَامِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَأَنْ لَا نَدْخُلَ فِي الْوُجُودِ أَلْبَتَّةَ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَدْخُلَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهَا الْوُجُودَ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فَرْدٌ لَدَخَلَتْ هِيَ فِي ضِمْنِهِ فَصَارَ النَّهْيُ وَالنَّفْيُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْأَمْرُ وَالثُّبُوتُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ يَكْفِي فِيهِ فَرْدٌ وَاحِدٌ فَمَتَى كَانَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ كَانَ مُطْلَقُ الْإِنْسَانِ فِي الدَّارِ وَمُطْلَقُ الْحَيَوَانِ وَجَمِيعُ أَجْنَاسِهِ وَفُصُولِهِ تَحْصُلُ مُطْلَقًا فِيهِ .
وَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ
آمِرٌ بِالْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ نَحْوِ الْأَمْرِ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ وَإِخْرَاجِ شَاةٍ مُعَيَّنَةٍ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ فِي ضِمْنِهِ وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النَّهْيَ وَالنَّفْيَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَالْأَمْرَ وَالثُّبُوتَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُصَدَّقُ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَاقِعٌ وَحَاصِلٌ فِي جِنْسِ الْحَيَوَانِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَجْنَاسِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَعُمَّ الْإِنْسَانُ جَمِيعَ صُوَرِ الْحَيَوَانِ بَلْ نَقُولُ : زَيْدٌ حَاصِلٌ فِي جِنْسِ الْحَيَوَانِ وَلَمْ يَتَعَدَّ فَرْدًا مِنْهَا وَلِذَلِكَ نَقُولُ : الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ وَاقِعَةٌ فِي الْأَفْعَالِ الْمُكْتَسَبَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَجْنَاسِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا تَعُمُّ الْأَفْعَالَ الْمُكْتَسَبَةَ فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْعُجْمَ أَفْعَالُهَا مُكْتَسَبَةٌ وَلَا حُكْمَ فِيهَا بَلْ نَقُولُ الْوُجُوبُ وَحْدَهُ خَاصٌّ بِالْأَفْعَالِ الْمُكْتَسَبَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَهُوَ لَمْ يَعُمَّهَا فَعَلِمْنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ لَا يَقْتَضِي تَعْمِيمَ صُوَرِهِ بَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ فَرْدٌ وَاحِدٌ يَصْدُقُ بِسَبَبِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ فَظَهَرَ حِينَئِذٍ الْفَرْقُ بَيْنَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ وَمِنْهُ نَفْيُ الْمُشْتَرَكِ .
قَالَ : ( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ إلَى قَوْلِهِ وَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ : ( وَمُطْلَقِ الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَشْخَاصِهِ وَكُلُّ مُطْلَقٍ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ) قُلْتُ : إنْ أَرَادَ بِمُطْلَقِ الْإِنْسَانِ الْحَقِيقَةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ فَقَوْلُهُ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَلَا قَالَ : ( وَمَدْلُولُ كُلِّ نَكِرَةٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ مُشْتَرَكَةٌ ) قُلْتُ : هَذَا الْإِطْلَاقُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ الصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ فَإِنَّ النَّكِرَةَ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى ضَرْبَيْنِ : الْأَوَّلُ نَكِرَةٌ يُرَادُ بِهَا الْحَقِيقَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ وَهَذَا الضَّرْبُ قَلِيلٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ ، الثَّانِي نَكِرَةٌ يُرَادُ بِهَا فَرْدٌ مُبْهَمٌ مِنْ الْأَشْخَاصِ الَّتِي فِيهَا الْحَقِيقَةُ كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ اشْتَرِ ثَوْبًا وَهَذَا الضَّرْبُ يَكْثُرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ فَمُرَادُهُ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَلَا .
قَالَ : ( وَضَابِطُهُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَعْقُولِ مَا لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ ) قُلْتُ : ذَلِكَ صَحِيحٌ فِي تَحْرِيرِ الْحَقِيقَةِ الْمُشْتَرَكَةِ قَالَ : ( وَمُرَادُهُمْ بِذَلِكَ مَا ذَكَرْتُهُ ) .
قُلْتُ : ذَلِكَ صَحِيحٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالنَّكِرَةِ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ لَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الضَّرْبَ الثَّانِي .
قَالَ : ( وَإِذَا عَرَفْت حَقِيقَتَهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُشْتَرَكِ نَفْيُ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ إلَى قَوْلِهِ فَصَارَ النَّهْيُ وَالنَّفْيُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ) قُلْتُ : بَلْ يُرَادُ بِمُطْلَقِ الْحَيَوَانِ حَقِيقَةُ الْحَيَوَانِ وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَهَذَا الْخِلَافُ مُرَادُهُ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ قَبْلَ هَذَا فَإِنَّهُ .
قَالَ : إنَّهُ يَصِحُّ قَوْلُنَا مُطْلَقُ الْبَيْعِ حَلَالٌ إجْمَاعًا وَلَوْ
كَانَ الْمُرَادُ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ مَا أُرِيدَ بِمُطْلَقِ الْحَيَوَانِ أَيْ حَقِيقَتُهُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ بَيْعٍ حَلَالًا .
قَالَ : ( فَيَكُونُ الثُّبُوتُ وَالْأَمْرُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ يَكْفِي فِيهِ فَرْدٌ وَاحِدٌ فَمَتَى كَانَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ كَانَ مُطْلَقُ الْإِنْسَانِ فِي الدَّارِ وَمُطْلَقُ الْحَيَوَانِ وَجَمِيعُ أَجْنَاسِهِ وَفُصُولِهِ تَحَصَّلَ مُطْلَقًا فِيهِ ) قُلْتُ : قَدْ عَادَ هُنَا إلَى اسْتِعْمَالِ مُطْلَقِ الْحَيَوَانِ بِغَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ قَبْلُ حَيْثُ تَكَلَّمَ عَلَى النَّفْيِ وَالنَّهْيِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا الِاضْطِرَابِ غَفْلَتُهُ عَنْ مَعْنَى الْمُطْلَقِ وَأَنَّهُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ الْوَاحِدُ الْمُبْهَمُ وَلَوْ تَفَطَّنَ لَهُ لَمْ يَضْطَرِبْ قَوْلُهُ .
قَالَ : ( وَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ آمِرٌ بِالْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ نَحْوُ الْأَمْرِ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ وَإِخْرَاجِ شَاةٍ مُعَيَّنَةٍ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ فِي ضِمْنِهِ ) قُلْتُ : الْأَمْرُ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مَا أُمِرَ فِيهَا قَطُّ بِالْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ الْأَمْرُ بِهَا إلَّا عَلَى سَبِيلِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَكَيْفَ يَسُوغُ ذَلِكَ وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ أَنْ لَا وُجُودَ لَهَا فِي غَيْرِ الْأَذْهَانِ عِنْدَ مُحَقِّقِي الْمُثْبِتِينَ لَهَا بَلْ أَمَرَ الْآمِرُ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ لِشَخْصٍ مُبْهَمٍ لَا مُعَيَّنٍ وَضَرُورَةُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِمَا أُمِرَ بِهِ تُعَيِّنُهُ .
قَالَ : ( وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ النَّهْيَ وَالنَّفْيَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَالْأَمْرَ وَالثُّبُوتَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَصْدُقُ أَنَّ الْإِنْسَانَ وَاقِعٌ وَحَاصِلٌ فِي جِنْسِ الْحَيَوَانِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَجْنَاسِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَعُمَّ الْإِنْسَانُ جَمِيعَ صُوَرِ الْحَيَوَانِ بَلْ نَقُولُ : زَيْدٌ حَاصِلٌ فِي جِنْسِ الْحَيَوَانِ وَلَمْ يَتَعَدَّ فَرْدًا مِنْهَا وَكَذَلِكَ نَقُولُ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ وَاقِعَةٌ فِي الْأَفْعَالِ
الْمُكْتَسَبَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَجْنَاسِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا تَعُمُّ الْأَفْعَالَ الْمُكْتَسَبَةَ فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الْعُجْمَ أَفْعَالُهَا مُكْتَسَبَةٌ وَلَا حُكْمَ فِيهَا بَلْ نَقُولُ : الْوُجُوبُ وَحْدَهُ خَاصٌّ بِالْأَفْعَالِ الْمُكْتَسَبَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَهُوَ لَمْ يَعُمَّهَا فَعَلِمْنَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ لَا يَقْتَضِي تَعْمِيمَ صُوَرِهِ بَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ فَرْدٌ وَاحِدٌ يَصْدُقُ بِسَبَبِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ فَظَهَرَ حِينَئِذٍ الْفَرْقُ بَيْنَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ ) قُلْتُ : لَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْمُشْتَرَكِ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ لَمَا خَلَا عَنْهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ كَالْحَيَوَانِ الْمَحْكُومِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَقِيقَتُهُ أَنَّهُ جِسْمٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ وَكُلُّ شَخْصٍ مِنْ أَشْخَاصِهِ جِسْمًا وَلَكِنْ ثَبَتَ الْحُكْمُ الَّذِي مُثِّلَ بِهِ فِي الْمُشْتَرَكِ لَا مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَخُصُّ مِنْ حَقِيقَتِهِ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَمْ تَثْبُتْ لِلْأَفْعَالِ الْمُكْتَسَبَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ أَفْعَالٌ .
مُكْتَسَبَةٌ فَقَطْ بَلْ مِنْ حَيْثُ هِيَ أَفْعَالٌ مُكْتَسَبَةٌ لِمَنْ يَتَّصِفُ بِالْعَقْلِ فَعَلَى ذَلِكَ لَا يَصِحُّ الْفَرْقُ وَمَتَى ثَبَتَ الْحُكْمُ لِلْمُشْتَرَكِ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ عَمَّ أَنْوَاعَهُ وَأَشْخَاصَهُ وَمَتَى انْتَفَى الْحُكْمُ عَنْ الْمُشْتَرَكِ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ عَمَّ أَيْضًا أَنْوَاعَهُ وَأَشْخَاصَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ فِي النَّهْيِ نَظِيرُ الْمُشْتَرَكِ فِي النَّفْيِ فَكَمَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْمُشْتَرَكِ نَفْيُ جَمِيعِ أَفْرَادِهِ لِقَوْلِ أَرْبَابِ الْمَعْقُولِ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَعَمِّ نَفْيُ الْأَخَصِّ كَذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ الْوُجُودَ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فَرْدٌ لَدَخَلَ هُوَ فِي ضِمْنِهِ فَإِنَّ مَعْنَى النَّهْيِ الْأَمْرُ بِإِعْدَامِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَأَنْ لَا تَدْخُلَ فِي الْوُجُودِ أَلْبَتَّةَ وَأَنَّ الْأَمْرَ بِإِجْرَاءِ حُكْمٍ فِي الْمُشْتَرَكِ نَظِيرُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهِ فَكَمَا أَنَّ الْآمِرَ أَمَرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ إخْرَاجِ شَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ يَقْتَضِي عِتْقَ شَخْصٍ مُبْهَمٍ وَإِخْرَاجَ شَاةٍ مُبْهَمَةٍ مِنْ الْأَرْبَعِينَ وَإِنْ كَانَتْ ضَرُورَةُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِمَا أُمِرَ بِهِ تُعَيِّنُهُ إذْ لَا يُمْكِنُ الْأَمْرُ بِنَفْسِ الْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَكَيْفَ يَسُوغُ ذَلِكَ .
وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحَقِيقَةِ الْكُلِّيَّةِ أَنْ لَا وُجُودَ لَهَا فِي غَيْرِ الْأَذْهَانِ عِنْدَ مُحَقِّقِي الْمُثْبِتِينَ لَهَا كَذَلِكَ قَوْلُك إنْسَانٌ فِي الدَّارِ يَكْفِي فِي صِدْقِهِ فَرْدٌ وَاحِدٌ مُبْهَمٌ فِيهِ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ ذَلِكَ الْفَرْدُ فِيهِ كَانَ مُطْلَقُ الْإِنْسَانِ فِيهِ وَمُطْلَقُ الْحَيَوَانِ وَجَمِيعُ أَجْنَاسِهِ وَفُصُولِهِ تَحْصُلُ مُطْلَقًا فِيهِ فَالْمُشْتَرَكُ فِي النَّهْيِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاهِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْمَاهِيَّةُ بِشَرْطِ لَا شَيْءَ وَالْعَامُّ الْمُعَرِّفُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ الْمُتَحَقِّقَةِ فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقُهَا فِي جَمِيعِهَا وَالْكُلِّيُّ الْمُعَرِّفُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَعْقُولِ بِمَا لَا يَمْنَعُ نَفْسَ تَصَوُّرِهِ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ كَالرَّقَبَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْرَادِ الرِّقَابِ وَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ
إلَى جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَشْخَاصِهِ وَكَذَلِكَ النَّكِرَةُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ وَهُوَ الْقَلِيلُ فِي اسْتِعْمَالِ النَّكِرَةِ وَالْمُشْتَرَكُ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الْمَاهِيَّةِ وَالْمَاهِيَّةُ لَا بِشَرْطِ شَيْءٍ وَالْمُطْلَقُ الْمُعَرَّفُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِالْوَاحِدِ الْمُبْهَمِ كَالنَّكِرَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ اشْتَرِ ثَوْبًا يُرِيدُ فَرْدًا مُبْهَمًا مِنْ الْأَشْخَاصِ الَّتِي فِيهَا حَقِيقَةُ الثَّوْبِ وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ الْكَثِيرُ فِي النَّكِرَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا هُوَ عَيْنُ الْفَرْقِ الْمَارِّ بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَمُطْلَقِ الْمَاهِيَّةِ .
وَعَيْنُ مَا فَرَّقَ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ قَالَ الْعَلَّامَةُ الأنبابي عَلَى بَيَانِيَّةِ الصَّبَّانِ : فَعُمُومُ الْعَامِّ شُمُولٌ بِخِلَافِ عُمُومِ الْمُطْلَقِ نَحْوُ رَجُلٍ وَأَسَدٍ وَإِنْسَانٍ فَإِنَّهُ بَدَلِيٌّ حَتَّى إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ النَّفْيِ أَوْ أَلْ الِاسْتِغْرَاقِيَّة صَارَ عَامًّا فَلَيْسَ مَاصَدَق الْمُطْلَقُ وَالْعَامُّ وَاحِدًا كَمَا تَوَهَّمَ بَلْ مَاصَدَق الْأَوَّلُ أَلْفَاظُ عُمُومِهَا بَدَلِيٌّ وَمَاصَدَقَ الثَّانِي أَلْفَاظُ عُمُومِهَا شُمُولِيٌّ قَالَ : الزَّرْكَشِيُّ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ فِي مَبْحَثِ الْعَامِّ الْعُمُومُ يَقَعُ عَلَى مُسَمَّى عُمُومِ الشُّمُولِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا وَعَلَى عُمُومِ الصَّلَاحِيَّةِ وَيُقَالُ لَهُ عُمُومُ الْبَدَلِ وَهُوَ فِي الْمُطْلَقِ وَتَسْمِيَتُهُ عَامًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَوَارِدَهُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ عَامٌّ ا هـ يَعْنِي أَنَّ تَسْمِيَتَهُ عَامًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَفْرَادَهُ الَّتِي يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْهَا عَلَى الْبَدَلِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ وَإِلَّا فَهُوَ لَيْسَ مِنْ الْعَامِّ إذْ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعَامِّ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَعْرِيفِهِ الْعُمُومُ الشُّمُولِيُّ بِحَيْثُ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظُ جَمِيعَ الْأَفْرَادِ دَفْعَةً وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْمُطْلَقِ وَقَدْ صَرَّحَ غَيْرُهُ بِأَنَّ الشُّمُولِيَّ هُوَ مَعْنَى
الْعُمُومِ فَتَنَبَّهْ ا هـ بِلَفْظِهِ فَمِنْ هُنَا قَالَ قَبْلَ هَذَا مُسَايَرَةً لِغَيْرِهِ : وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ كَعَبِيدِي عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ فَرْدًا أَيْ كَدَلَالَةِ نَحْوِ عَبِيدِي عَلَى ثَلَاثَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ تَضَمُّنِيَّةٌ إذْ الْمَقْصُودُ بِالْأَفْرَادِ الْأَبْعَاضُ فَكُلُّ فَرْدٍ مِنْهَا جُزْءٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي حَالِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ ا هـ لَكِنَّهُ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ مَعَ كَوْنِ الْمَقْصُودِ الْحُكْمَ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ لَا عَلَى الْمَجْمُوعِ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِيمَا عَلَّقْنَاهُ عَلَى شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ .
ا هـ .
يَعْنِي وَمُقْتَضَى كَوْنِ الْمَقْصُودِ الْحُكْمَ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ لَفْظِ الْعَامِّ كَعَبِيدِي عَلَى الْفَرْدِ كَثَلَاثَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ فِي حَالِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقُ الْحَقِيقَةِ فِيهِ مُطَابَقِيَّة وَعَلَى وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ تَضَمُّنِيَّةً وَأَمَّا عَلَى ثَلَاثَةٍ مُعَيَّنِينَ أَوْ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ فَخَارِجَةٌ عَنْ أَنْوَاعِ الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ الْوَضْعِيَّةِ مَا لَمْ تُلَاحَظْ عَلَاقَةٌ وَقَرِينَةٌ وَإِلَّا كَانَ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً اتِّفَاقًا وَلَا تَكُونُ دَلَالَةُ لَفْظِ الْعَامِّ عَلَى فَرْدِهِ الْمَذْكُورِ فِي حَالِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ تَضَمُّنِيَّةً كَمَا قِيلَ إلَّا إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْحُكْمُ عَلَى الْمَجْمُوعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قُلْت : وَعَلَيْهِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَامِّ يَدُلُّ عَلَى فَرْدِهِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مُطَابَقَةً وَالْمُطْلَقُ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْدِ الْمُبْهَمِ مُطَابَقَةً أَيْضًا هُوَ أَنَّ الْعَامَّ يَدُلُّ عَلَى فَرْدِهِ الْمَذْكُورِ مُطَابَقَةً مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقُ الْمَوْضُوعِ لَهُ الَّذِي هُوَ الْحَقِيقَةُ الْكُلِّيَّةُ فِيهِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَالْمُطْلَقُ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْدِ الْمُبْهَمِ مُطَابَقَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ لَا مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقُ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِيهِ فَافْهَمْ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلَ لِغُلَامِهِ إذَا قَالَ :
أَلْزَمْتُك النَّهْيَ أَوْ النَّفْيَ وَاقِعٌ فِي الدَّارِ إنْ أَرَادَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي النَّهْيِ وَالنَّفْيِ الْعَهْدُ فِي الشَّخْصِ أَيْ فِي نَهْيٍ مُعَيَّنٍ وَنَفْيٍ مُعَيَّنٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَكُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَوْ الْمَنْفِيُّ عَنْهُ وَهُوَ الْمَدْلُولُ الْتِزَامًا مُعَيَّنًا وَإِنْ أَرَادَ بِهَا فِيهِمَا الْعَهْدُ فِي الْجِنْسِ أَيْ فِي نَهْيٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَفِي نَفْيٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُولُ الِالْتِزَامِيُّ وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَوْ الْمَنْفِيُّ عَنْهُ كَذَلِكَ أَيْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُعَيَّنًا .
وَإِذَا كَانَ مُعَيَّنًا لَزِمَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَهُوَ النَّهْيُ أَوْ النَّفْيُ وَقَدْ فُرِضَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا فِيهَا الْعُمُومَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعُمُومِ فِي الْمُتَعَلِّقِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَدْلُولِ الْمُشْتَرَكِ مُطَابَقَةً فِي النَّهْيِ وَالنَّفْيِ وَمَدْلُولِهِ الْتِزَامًا فِيهِمَا وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَحَنِثَ بِأَنْ قَالَ : عَلَيَّ الطَّلَاقُ أَوْ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَلَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَإِذَا جُعِلَتْ الْأَلْفُ وَاللَّامُ فِي الطَّلَاقِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ لِلْعَهْدِ فِي الْجِنْسِ كَانَ الطَّلَاقُ مُطْلَقًا فِي أَفْرَادِهِ مُطَابَقَةً فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا فِي الزَّوْجَاتِ الْتِزَامًا أَوْ لِلْعُمُومِ كَانَ الطَّلَاقُ عَامًّا فِي أَفْرَادِهِ مُطَابَقَةً فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي الزَّوْجَاتِ وَفِي أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ مِنْ الثَّلَاثِ وَغَيْرِهَا الْتِزَامًا إلَّا أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي إفْرَادِ الطَّلَاقِ بِحَسَبِ عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالنَّاسِ وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا أَلْزَمَ بِهِ غَيْرَ طَلْقَةٍ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَلَا شَكَّ هَلْ طَلَّقَ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعُمَّهُنَّ الطَّلَاقُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ بَلْ يُخَيِّرَ فِي التَّعْيِينِ أَوْ يَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ لِأَنَّ بَعْضَهُنَّ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ
الْآخَرِ إلَّا أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَجَمَاعَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالُوا بِعُمُومِ الطَّلَاقِ فِيهِنَّ احْتِيَاطًا لِلزَّوْجِ وَصَوْنًا لَهَا عَنْ مُوَاقَعَةِ الزِّنَا فَإِنَّ الطَّلَاقَ قَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ عَلَيَّ الطَّلَاقُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَوَقَعَ الشَّكُّ وَالِاحْتِمَالُ فِي عُمُومِهِ لِمُحَالِهِ أَوْ خُصُوصِهِ فَحُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ فِيهَا احْتِيَاطًا كَمَا فِيمَا إذَا طَلَّقَ وَشَكَّ هَلْ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا يُحْمَلُ عَلَى الثَّلَاثِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَكَّ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ اسْتِصْحَابًا بِالْأَصْلِ الْعِصْمَةُ كَمَا مَرَّ وَلَا يَلْزَمُ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يُخَيِّرُوهُ إذَا قَالَ : يَلْزَمُنِي الطَّلَاقُ وَإِنْ خَيَّرُوهُ فِي إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ فِي قَوْلِهِ إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ بَيِّنٌ لِتَعْلِيقِهِ الطَّلَاقَ بِوَاحِدَةٍ أَمَّا حَيْثُ لَمْ يُعَلِّقْ الطَّلَاقَ بِوَاحِدَةٍ فَلَيْسَ التَّخْيِيرُ بِالْبَيِّنِ فَإِنْ نَوَى بِالطَّلَاقِ بَعْضَهُنَّ ذَاهِلًا عَنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ إلَّا فِي الْبَعْضِ الَّذِي نَوَاهُ وَحْدَهُ كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحِنْثُ فِيمَا عَدَا مَا نَوَاهُ إذَا أَتَى بِصِيغَةِ عُمُومٍ نَحْوِ لَا أَلْبَسُ ثَوْبًا لِأَنَّ النِّيَّةَ أَوَّلُ مُعْتَبَرٍ فِي الْحَالِفِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فَاحْفَظْهُ .
تَنْبِيهٌ جَلِيلٌ ) اعْلَمْ أَنَّ نَفْيَ الْمُشْتَرَكِ وَالنَّهْيَ عَنْهُ إنَّمَا يَعُمُّ كَمَا تَقَدَّمَ إذَا كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِالْمُطَابَقَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِثَالُهُ أَمَّا إذَا كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِطَرِيقَةِ الِالْتِزَامِ فَلَا يَلْزَمُ الْعُمُومُ فِي نَفْيِ الْأَفْرَادِ وَلَا فِي النَّهْيِ عَنْهَا فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ لِغُلَامِهِ : أَلْزَمْتُك النَّهْيَ أَوْ النَّفْيُ وَاقِعٌ فِي الدَّارِ لَا يَفْهَمُ مِنْهُ السَّامِعُ إلَّا أَنَّ النَّهْيَ حَاصِلٌ فِي مَنْهِيٍّ لَمْ يُعَيِّنْهُ السَّيِّدُ وَأَنَّ النَّفْيَ وَاقِعٌ فِي الدَّارِ بِاعْتِبَارِ مَنْفِيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ عِنْدَ السَّامِعِ فَإِذَا عَيَّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّهْيِ أَوْ النَّفْيِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَفْسِيرًا يَجْرِي مَجْرَى التَّقْيِيدِ لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُخَصَّصًا بِعُمُومٍ وَلَا مُعَارَضًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ظَاهِرِ لَفْظِهِ بِخِلَافِ الْمَدْلُولِ مُطَابَقَةً وَلَوْ قَالَ : نَهَيْتُك عَنْ مُطْلَقِ الْخَمْرِ أَوْ نَفَيْت مُطْلَقَ الْخَمْرِ مِنْ الدَّارِ ثُمَّ بَيَّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَمْرٍ مَخْصُوصٍ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْهُ مِنْ الْعُمُومِ فِي لَفْظِ الْخَمْرِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ فَظَهَرَ بِذَلِكَ حِينَئِذٍ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ مُطَابَقَةً وَبَيْنَ الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا وَتَظْهَرُ لَك فَائِدَةُ الْفَرْقِ فِي قَاعِدَتَيْنِ فِقْهِيَّتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَحَنِثَ وَلَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَعُمُّهُنَّ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ وَإِلَّا يَلْزَمْ التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ قَالَهُ : مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ثُمَّ حَنِثَ فَإِنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا هُوَ عَامٌّ فِي أَفْرَادِ الطَّلَاقِ مُطْلَقٌ فِي الزَّوْجَاتِ فَلَوْ حَنِثَ عَمَّهُنَّ الطَّلَاقُ فَرْعٌ حَسَنٌ فَعَلَى هَذَا إنْ قَصَدَ فِي نِيَّتِهِ بَعْضَهُنَّ ذَاهِلًا عَنْ بَعْضٍ وَقَصَدَ ذَلِكَ
الْبَعْضَ بِالْيَمِينِ لَزِمَهُ فِيهِ وَحْدَهُ وَالْقَاعِدَةُ الْأُخْرَى إذَا أَتَى بِصِيغَةِ عُمُومٍ نَحْوُ لَا أَلْبَسُ ثَوْبًا وَقَصَدَ بِهِ بَعْضَ الثِّيَابِ ذَاهِلًا عَنْ بَعْضٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ لِأَنَّك سَتَقِفُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّيَّةِ الْمُؤَكِّدَةِ وَالنِّيَّةِ الْمُخَصِّصَةِ وَهَذَا عَامٌّ يَحْتَاجُ لِلتَّخْصِيصِ بِالْمُخَصِّصِ الْمُخْرِجِ الْمُنَافِي فَإِذَا فُقِدَ جَرَى اللَّفْظُ عَلَى عُمُومِهِ لِسَلَامَتِهِ عَنْ مُعَارَضَةِ الْمُخَصِّصِ وَهَاهُنَا لَا عُمُومَ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا بَلْ حَصَلَ الْعُمُومُ لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ فَقَطْ فَإِذَا وُجِدَ الْمُرَجِّحُ بِنِيَّةٍ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْبَاقِي لِوُجُودِ الْمُرَجِّحِ وَلَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ يَتَقَاضَاهُ بَلْ الْمُدْرَكُ عَدَمُ الْمُرَجِّحِ وَقَدْ زَالَ هَذَا الْعَدَمُ بِوُجُودِ الْمُرَجِّحِ فَلَزِمَ مِنْ وُجُودِ النِّيَّةِ فِي الْبَعْضِ .
وَعَدَمِهَا فِي الْبَعْضِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّرْجِيحِ وَهُنَاكَ إذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ أُعْمِلَ اللَّفْظُ الْعَامُّ فِي بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِخْرَاجِهِ فَإِذَا قَالَ فِي صُورَةِ الِالْتِزَامِ : نَوَيْت الْبَعْضَ وَذَهِلْت عَنْ الْبَاقِي كَفَاهُ وَلَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمَنْوِيَّةِ وَإِذَا قَالَ : نَوَيْت الْبَعْضَ وَذَهِلْت عَنْ الْبَاقِي فِي صُورَةِ الْعُمُومِ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَفُرُوعُ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ كَثِيرَةٌ فَتَأَمَّلْهَا وَيَكْمُلُ لَك الْكَشْفُ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمُطَالَعَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ النِّيَّةِ الْمُخَصِّصَةِ وَالْمُؤَكِّدَةِ وَهُوَ بَعْدَ هَذَا وَقَوْلِي الطَّلَاقُ عَامٌّ فِي أَفْرَادِ الطَّلَاقِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ غَيْرَ أَنَّهُ صَارَ مُطْلَقًا لَا عُمُومَ فِيهِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالنَّاسِ وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا أَلْزَمَ بِهِ غَيْرَ طَلْقَةٍ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَيَلْزَمُ الشَّافِعِيَّةُ أَنْ يُخَيِّرُوهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ كَمَا خَيَّرُوهُ فِي إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ بَلْ هَاهُنَا أَوْلَى لِعَدَمِ ذِكْرِ الزَّوْجَاتِ وَأُحَقِّقُ فِقْهَ هَذَا الْفَرْقِ
بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ : ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } أَثْبَتَ الْوُجُوبَ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الرِّقَابِ فَلَمْ يَعُمَّ ذَلِكَ جَمِيعَ صُوَرِ الرِّقَابِ بَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) لَوْ قَالَ صَاحِبُ الشَّرْعِ : حَرَّمْت عَلَيْكُمْ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ جَمِيعِ الْخَنَازِيرِ حَرُمَ كُلُّ خِنْزِيرٍ .
قَالَ : ( تَنْبِيهٌ جَلِيلٌ اعْلَمْ أَنَّ نَفِيَ الْمُشْتَرَكِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُشْتَرَكِ إنَّمَا يَعُمُّ كَمَا تَقَدَّمَ إذَا كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِالْمُطَابَقَةِ كَمَا تَقَدَّمَ مِثَالُهُ أَمَّا إذَا كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ فَلَا يَلْزَمُ الْعُمُومُ فِي نَفْيِ الْأَفْرَادِ وَلَا فِي النَّهْيِ عَنْهَا فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ لِغُلَامِهِ : أَلْزَمْتُك النَّهْيَ أَوْ النَّفْيُ وَاقِعٌ فِي الدَّارِ لَا يَفْهَمُ مِنْهُ السَّامِعُ إلَّا أَنَّ النَّهْيَ حَاصِلٌ فِي مَنْهِيٍّ لَمْ يُعَيِّنْهُ السَّيِّدُ وَأَنَّ النَّفْيَ وَاقِعٌ فِي الدَّارِ بِاعْتِبَارِ مَنْفِيٍّ غَيْرِ مُعَيَّنٍ عِنْدَ السَّامِعِ فَإِذَا عَيَّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي النَّهْيِ أَوْ النَّفْيِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَفْسِيرًا يَجْرِي مَجْرَى التَّقْيِيدِ لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُخَصِّصًا لِعُمُومٍ وَلَا مُعَارِضًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ظَاهِرِ لَفْظِهِ بِخِلَافِ الْمَدْلُولِ مُطَابَقَةً وَلَوْ قَالَ : نَهَيْتُك عَنْ مُطْلَقِ الْخَمْرِ أَوْ نَفَيْت مُطْلَقَ الْخَمْرِ مِنْ الدَّارِ ثُمَّ بَيَّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَمْرٍ مَخْصُوصٍ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْهُ مِنْ الْعُمُومِ فِي لَفْظِ الْخَمْرِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ ) .
قُلْتُ : مَا قَالَهُ لَيْسَ بِوَاضِحٍ فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : أَلْزَمْتُك النَّهْيَ أَوْ النَّفْيُ وَاقِعٌ فِي الدَّارِ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي النَّهْيِ وَالنَّفْيِ الْعَهْدَ فِي الشَّخْصِ أَوْ الْعَهْدَ فِي الْجِنْسِ أَوْ الْعُمُومَ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ فِيهِمَا فَإِنْ أَرَادَ الْعَهْدَ فِي نَهْيٍ مُعَيَّنٍ وَنَفْيٍ مُعَيَّنٍ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَوْ الْمَنْفِيُّ وَهُوَ الْمَدْلُولُ الْتِزَامًا مُعَيَّنًا وَإِنْ أَرَادَ بِهِمَا الْعَهْدَ فِي الْجِنْسِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُولُ الِالْتِزَامِيُّ كَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُعَيَّنًا وَإِذَا كَانَ مُعَيَّنًا لَزِمَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَهُوَ النَّهْيُ أَوْ النَّفْيُ وَقَدْ
فَرَضَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَإِنْ أَرَادَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْعُمُومَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعُمُومِ فِي الْمُتَعَلِّقِ فَعَلَى هَذَا لَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَدْلُولِ مُطَابَقَةً وَالْمَدْلُولِ الْتِزَامًا .
قَالَ : ( وَتَظْهَرُ لَك فَائِدَةُ الْفَرْقِ فِي قَاعِدَتَيْنِ فِقْهِيَّتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَنَّهُ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَحَنِثَ وَلَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَعُمُّهُنَّ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ) قُلْتُ : كَانَ يَنْبَغِي عَلَى مَا قَرَّرَهُ مِنْ أَنَّ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ الْتِزَامًا مُطْلَقٌ أَنْ لَا يَعُمَّهُنَّ الطَّلَاقُ وَيُخَيَّرَ فِي التَّعْيِينِ أَوْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ وَلَمْ يَقُلْ الْعُلَمَاءُ بِعُمُومِ الطَّلَاقِ فِيهِنَّ إلَّا احْتِيَاطًا لِلْفُرُوجِ وَصَوْنًا لَهَا عَنْ مُوَاقَعَةِ الزِّنَا فَإِنَّ الطَّلَاقَ قَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ عَلَيَّ الطَّلَاقُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَوَقَعَ الشَّكُّ وَالِاحْتِمَالُ فِي عُمُومِهِ لِمُحَالِهِ أَوْ خُصُوصِهِ فَحُمِلَ عَلَى الْعُمُومِ فِيهَا احْتِيَاطًا كَمَا فِيمَا إذَا طَلَّقَ وَشَكَّ هَلْ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا يُحْمَلُ عَلَى الثَّلَاثِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَكَّ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ اسْتِصْحَابًا لِأَصْلِ الْعِصْمَةِ .
قَالَ : ( وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي ثُمَّ حَنِثَ فَإِنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا هُوَ عَامٌّ فِي أَفْرَادِ الطَّلَاقِ مُطْلَقٌ فِي الزَّوْجَاتِ ) قُلْتُ : إذَا كَانَ عَامًّا فِي أَفْرَادِ الطَّلَاقِ لَزِمَ أَنْ يَعُمَّ فِي الزَّوْجَاتِ وَفِي أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي فِي مَعْنَى كُلُّ طَلَاقٍ أَمْلِكُهُ يَلْزَمُنِي وَطَلَاقُ كُلٍّ وَاحِدَةٍ مِمَّا يَمْلِكُهُ وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الطَّلَاقِ مِنْ الثَّلَاثِ وَغَيْرِهَا فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَلْزَمَهُ الثَّلَاثُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَقَوْلُهُ هَذَا إنْ قَصَدَ فِي نِيَّتِهِ بَعْضَهُنَّ ذَاهِلًا عَنْ بَعْضٍ وَقَصَدَ ذَلِكَ الْبَعْضَ بِالْيَمِينِ
لَزِمَهُ فِيهِ وَحْدَهُ صَحِيحٌ كَمَا ذَكَرَ .
قَالَ : ( وَالْقَاعِدَةُ الْأُخْرَى إذَا أَتَى بِصِيغَةِ عُمُومٍ نَحْوِ لَا أَلْبَسُ ثَوْبًا وَقَصَدَ بَعْضَ الثِّيَابِ ذَاهِلًا عَنْ بَعْضٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ لِأَنَّك سَتَقِفُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ قَاعِدَةِ النِّيَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ وَالنِّيَّةِ الْمُخَصَّصَةِ وَهَذَا عَامٌّ يَحْتَاجُ إلَى التَّخْصِيصِ بِالْمُخَصِّصِ الْمُخْرِجِ الْمُنَافِي فَإِذَا فُقِدَ جَرَى عَلَى عُمُومِهِ لِسَلَامَتِهِ عَنْ مُعَارِضَةِ الْمُخَصِّصِ وَهَاهُنَا لَا عُمُومَ فِي الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا بَلْ حَصَلَ الْعُمُومُ لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ فَقَطْ فَإِذَا وُجِدَ الْمُرَجِّحُ بِنِيَّةٍ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْبَاقِي لِوُجُودِ الْمُرَجِّحِ وَلَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ يَتَقَاضَاهُ بَلْ الْمُدْرَكُ عَدَمُ الْمُرَجِّحِ وَقَدْ زَالَ هَذَا الْعَامُّ بِوُجُودِ الْمُرَجِّحِ فَلَزِمَهُ مِنْ وُجُودِ النِّيَّةِ فِي الْبَعْضِ وَعَدَمِهَا فِي الْبَعْضِ حُصُولُ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّرْجِيحِ وَهُنَاكَ إذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ أُعْمِلَ اللَّفْظُ الْعَامُّ فِي بَقِيَّةِ الْأَفْرَادِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِخْرَاجِهِ فَإِذَا قَالَ فِي صُورَةِ الِالْتِزَامِ : نَوَيْت الْبَعْضَ وَذَهِلْتُ عَنْ الْبَاقِي كَفَاهُ وَلَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمَنْوِيَّةِ وَإِذَا قَالَ : نَوَيْت الْبَعْضَ وَذَهِلْت عَنْ الْبَاقِي فِي صُورَةِ الْعُمُومِ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَفُرُوعُ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ كَثِيرَةٌ فَتَأَمَّلْهَا وَيَكْمُلُ لَك الْكَشْفُ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ بِمُطَالَعَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ النِّيَّةِ الْمُخَصِّصَةِ وَالْمُؤَكِّدَةِ وَهُوَ بَعْدَ هَذَا ) قُلْتُ : قَدْ سَبَقَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي أَنَّهُ إنْ كَانَ لِلْعُمُومِ فَهُوَ فِي مَعْنَى كُلُّ طَلَاقٍ أَمْلِكُهُ يَلْزَمُنِي فَيَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ طَلَاقُ جَمِيعِ الزَّوْجَاتِ وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ جَمِيعُ الطَّلْقَاتِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْفَرْقِ الَّذِي أَحَالَ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ : ( وَقَوْلِي الطَّلَاقُ عَامٌّ فِي أَفْرَادِ الطَّلَاقِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ غَيْرَ أَنَّهُ صَارَ
مُطْلَقًا لَا عُمُومَ فِيهِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ وَالنَّاسِ وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا أَلْزَمَ بِهِ غَيْرَ طَلْقَةٍ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ) قُلْتُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ بِعَامٍّ بِحَسَبِ اللُّغَةِ .
قَالَ : ( وَيَلْزَمُ الشَّافِعِيَّةَ أَنْ يُخَيِّرُوهُ فِي الصُّورَةِ كَمَا خَيَّرُوهُ فِي إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ بَلْ هُنَا أَوْلَى لِعَدَمِ ذِكْرِ الزَّوْجَاتِ ) قُلْتُ : الْعَكْسُ أَصْوَبُ وَهُوَ أَنَّ التَّخْيِيرَ فِي قَوْلِهِ إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ بَيِّنٌ لِتَعْلِيقِهِ الطَّلَاقَ بِوَاحِدَةٍ أَمَّا حَيْثُ لَمْ يُعَلِّقْ الطَّلَاقَ بِوَاحِدَةٍ فَلَيْسَ بِالْبَيِّنِ .
قَالَ : ( وَحُقِّقَ فِقْهُ هَذَا الْفَرْقِ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } أَثْبَتَ الْوُجُوبَ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الرِّقَابِ فَلَمْ يَعُمَّ ذَلِكَ جَمِيعَ صُوَرِ الرِّقَابِ بَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ) قُلْتُ : لَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ أَثْبَتَهُ فِي رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فَلَا يَعُمُّ بَلْ تَكْفِي صُورَةٌ وَاحِدَةٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعُ تَابِعٌ لِلنَّصِّ .
قَالَ : ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ لَوْ قَالَ صَاحِبُ الشَّرْعِ : حَرَّمْت عَلَيْكُمْ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ جَمِيعِ الْخَنَازِيرِ حَرُمَ كُلُّ خِنْزِيرٍ ) قُلْتُ : ذَلِكَ صَحِيحٌ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْأَعَمِّ يَلْزَمُ مِنْهُ تَعْلِيقُهُ بِالْأَخَصِّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ .
( وَصْلٌ ) فِي تَحْقِيقِ فِقْهِ هَذَا الْفَرْقِ بِأَرْبَعِ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } أَثْبَتَ الْوُجُوبَ فِي رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فَلَا يَعُمُّ بَلْ تَكْفِي رَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ بِالنَّصِّ وَبِذَلِكَ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ تَبَعًا لِلنَّصِّ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) لَوْ قَالَ صَاحِبُ الشَّرْعِ حَرَّمْت عَلَيْكُمْ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ جَمِيعِ الْخَنَازِيرِ حَرُمَ كُلُّ خِنْزِيرٍ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْأَعَمِّ يَلْزَمُ مِنْهُ تَعْلِيقُهُ بِالْأَخَصِّ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) فَإِذَا قَالَ لِنِسَائِهِ : إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ حَرُمْنَ عَلَيْهِ كُلُّهُنَّ بِالطَّلَاقِ بِنَاءً عَلَى ثَلَاثِ قَوَاعِدَ : الْقَاعِدَةُ الْأُولَى أَنَّ مَفْهُومَ أَحَدِ الْأُمُورِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا لِصِدْقِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَالصَّادِقُ عَلَى عَدَدٍ وَأَفْرَادٍ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَفْرَادِ الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الطَّلَاقَ تَحْرِيمٌ لِأَنَّهُ رَافِعٌ لِمُوجِبِ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ لِلْإِبَاحَةِ وَرَافِعُ الْإِبَاحَةِ مُحَرَّمٌ فَالطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمُشْتَرَكِ يَلْزَمُ مِنْهُ تَحْرِيمُ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَحْرُمْنَ كُلُّهُنَّ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَبِهَذِهِ الْقَوَاعِدِ أَجَبْت قَاضِيَ الْقُضَاةِ صَدْرَ الدِّينِ فَقِيهِ الْحَنَفِيَّةِ وَقَاضِيهَا لَمَّا قَالَ مَذْهَبُ مَالِكٍ يَلْزَمُ مِنْهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ إحْدَى الْخِصَالِ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ فَنَقُولُ : إضَافَةُ الْحُكْمِ لِأَحَدِ الْأُمُورِ إمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ التَّعْمِيمَ أَوْ لَا يَقْتَضِيَ فَإِنْ اقْتَضَى التَّعْمِيمَ لُغَةً وَجَبَ أَنْ يَعُمَّ الْوُجُوبُ خِصَالَ الْكَفَّارَةِ فَيَجِبُ الْجَمِيعُ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ لَمْ يَقْتَضِ الْعُمُومَ وَجَبَ أَنْ لَا يَعُمَّ فِي النِّسْوَةِ لِأَنَّهُ لَوْ عَمَّ لَعَمَّ بِغَيْرِ مُقْتَضٍ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ .
اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَالْكَلَامُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مُقْتَضٍ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَعُلِمَ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ يَلْزَمُ مِنْهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَأَجَبْتُهُ بِأَنْ قُلْت : إيجَابُ إحْدَى الْخِصَالِ إيجَابٌ لِلْمُشْتَرَكِ وَوُجُوبُ الْمُشْتَرَكِ يُخْرِجُ الْمُكَلَّفَ عَنْ عُهْدَتِهِ بِفَرْدٍ إجْمَاعًا وَأَمَّا الطَّلَاقُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَهُوَ تَحْرِيمٌ لِمُشْتَرَكٍ فَيَعُمُّ أَفْرَادَهُ وَأَفْرَادُهُ هُمْ النِّسْوَةُ فَيَعُمُّهُنَّ الطَّلَاقُ وَقَرَّرْت لَهُ جَمِيعَ الْقَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَانْدَفَعَ السُّؤَالُ وَهُوَ مِنْ
الْأَسْئِلَةِ الْجَلِيلَةِ الْحَسَنَةِ فَتَأَمَّلْهُ فَلَقَدْ أَوْرَدَهُ عَلَى أَكَابِرَ فَلَمْ يُجِيبُوا عَنْهُ إلَّا بِقَوْلِهِمْ إنَّمَا عَمَّ الطَّلَاقُ احْتِيَاطًا لِلْفُرُوجِ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : مَا الدَّلِيلُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الِاحْتِيَاطِ فِي الشَّرْعِ لَمْ يَجِدُوهُ وَأَمَّا مَعَ ذِكْرِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ فَتَصِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ضَرُورِيَّةً بِحَيْثُ يَتَعَيَّنُ الْحَقُّ فِيهَا تَعَيُّنًا ضَرُورِيًّا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
قَالَ : ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إذَا قَالَ لِنِسَائِهِ : إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ حَرُمْنَ عَلَيْهِ كُلُّهُنَّ بِالطَّلَاقِ بِنَاءً عَلَى ثَلَاثِ قَوَاعِدَ : الْقَاعِدَةُ الْأُولَى أَنَّ مَفْهُومَ أَحَدِ الْأُمُورِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا لِصِدْقِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَالصَّادِقُ عَلَى عَدَدٍ وَأَفْرَادٍ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَفْرَادِ ) قُلْتُ : لَيْسَ الْأُمُورُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَلْ أَحَدُ الْأُمُورِ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْهَا وَلِذَلِكَ صَدَقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَقَوْلُهُ وَالصَّادِقُ عَلَى عَدَدٍ وَأَفْرَادٍ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْن تِلْكَ الْأَفْرَادِ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْحَقِيقَةَ الْكُلِّيَّةَ فَلَيْسَ أَحَدُ الْأُمُورِ هُوَ الْحَقِيقَةُ الْكُلِّيَّةُ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ لَفْظَ أَحَدِ الْأُمُورِ يَخْتَصُّ بِهِ مُعَيَّنٌ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَلَا يُحَصِّلُ ذَلِكَ مَقْصُودَهُ .
قَالَ : ( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الطَّلَاقَ تَحْرِيمٌ لِأَنَّهُ رَافِعٌ لِمُوجِبِ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ لِلْإِبَاحَةِ وَرَافِعُ الْإِبَاحَةِ مُحَرَّمٌ فَالطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ ) قُلْتُ : ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ : ( الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمُشْتَرَكِ يَلْزَمُ مِنْهُ تَحْرِيمُ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَحْرُمْنَ كُلُّهُنَّ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ) قُلْتُ : الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ أَيْضًا صَحِيحَةٌ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَحْرُمْنَ كُلُّهُنَّ لِمَا سَبَقَ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الْقَاعِدَةِ الْأُولَى .
قَالَ : ( وَبِهَذِهِ الْقَوَاعِدِ أَجَبْت قَاضِيَ الْقُضَاةِ صَدْرَ الدِّينِ فَقِيهَ الْحَنَفِيَّةِ وَقَاضِيَهَا لَمَّا قَالَ : مَذْهَبُ مَالِكٍ يَلْزَمُ مِنْهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ إحْدَى الْخِصَالِ فِي كَفَّارَةِ الْحِنْثِ فَنَقُولُ : إضَافَةُ الْحُكْمِ لِأَحَدِ الْأُمُورِ إمَّا أَنْ يَقْتَضِيَ التَّعْمِيمَ أَوْ لَا يَقْتَضِيَ فَإِنْ اقْتَضَى التَّعْمِيمَ لُغَةً وَجَبَ أَنْ يَعُمَّ الْوُجُوبُ خِصَالَ الْكَفَّارَةِ فَيَجِبُ الْجَمِيعُ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ يَقْتَضِ الْعُمُومَ وَجَبَ أَنْ لَا يَعُمَّ فِي
النِّسْوَةِ لِأَنَّهُ لَوْ عَمَّ لَعَمَّ بِغَيْرِ مُقْتَضٍ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَالْكَلَامَ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مُقْتَضٍ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَعُلِمَ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ يَلْزَمُ مِنْهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَأَجَبْتُهُ بِأَنْ قُلْتُ : إيجَابُ إحْدَى الْخِصَالِ إيجَابٌ لِلْمُشْتَرَكِ وَوُجُوبُ الْمُشْتَرَكِ يُخْرِجُ الْمُكَلَّفَ عَنْ عُهْدَتِهِ بِفَرْدٍ إجْمَاعًا .
وَأَمَّا الطَّلَاقُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَهُوَ تَحْرِيمٌ لِمُشْتَرَكٍ فَيَعُمُّ أَفْرَادَهُ وَأَفْرَادُهُ هُمْ النِّسْوَةُ فَيَعُمُّهُنَّ الطَّلَاقُ وَقَرَّرْت لَهُ جَمِيعَ الْقَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ وَانْدَفَعَ السُّؤَالُ وَهُوَ مِنْ الْأَسْئِلَةِ الْجَلِيلَةِ الْحَسَنَةِ فَتَأَمَّلْهُ فَلَقَدْ أَوْرَدَهُ عَلَى أَكَابِرَ فَلَمْ يُجِيبُوا عَنْهُ إلَّا بِقَوْلِهِمْ إنَّمَا عَمَّ الطَّلَاقُ احْتِيَاطًا لِلْفُرُوجِ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَا الدَّلِيلُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الِاحْتِيَاطِ فِي الشَّرْعِ لَمْ يَجِدُوهُ وَأَمَّا مَعَ ذِكْرِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ فَتَصِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِحَيْثُ يَتَعَيَّنُ الْحَقُّ فِيهَا تَعَيُّنًا ضَرُورِيًّا فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ) قُلْتُ : صَارَ الصَّدْرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرَ صَدْرٍ لِتَسْلِيمِهِ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى وَهِيَ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ وَلَا صَحِيحَةٍ فَكَذَلِكَ مَا بَنِي عَلَيْهَا وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ مَا أَجَابَ بِهِ الْأَكَابِرُ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا عَمَّ احْتِيَاطًا لِلْفُرُوجِ وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الِاحْتِيَاطُ كُلُّ دَلِيلٍ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَوَقِّي الشُّبُهَاتِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) إذَا قَالَ : لِنِسَائِهِ : إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ حَرُمَتْ عَلَيْهِ كُلُّهُنَّ بِالطَّلَاقِ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْأُمُورِ عِبَارَةً عَنْ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْهَا فَلَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ وَالْكَلَامُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مُقْتَضٍ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ نَظَرًا لِلِاحْتِيَاطِ لِلْفُرُوجِ كَمَا أَجَابَ بِهِ الْأَكَابِرُ وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الِاحْتِيَاطِ كُلُّ دَلِيلٍ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَوَقِّي الشُّبُهَاتِ وَلَا يَتِمُّ جَوَابُ الْأَصْلِ بِبِنَائِهِ عَلَى ثَلَاثِ قَوَاعِدَ : الْأُولَى أَنَّ مَفْهُومَ أَحَدِ الْأُمُورِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا لِصِدْقِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَالصَّادِقُ عَلَى عَدَدٍ وَأَفْرَادٍ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّ الطَّلَاقَ تَحْرِيمٌ لِأَنَّهُ رَافِعٌ لِمُوجِبِ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ لِلْإِبَاحَةِ وَرَافِعُ الْإِبَاحَةِ مُحَرَّمٌ فَالطَّلَاقُ مُحَرَّمٌ الثَّالِثَةُ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمُشْتَرَكِ يَلْزَمُ مِنْهُ تَحْرِيمُ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَحْرُمْنَ كُلُّهُنَّ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْقَاعِدَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ صَحِيحًا إلَّا أَنَّ الْقَاعِدَةَ الْأُولَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ إذْ لَيْسَ أَحُطُّ الْأُمُورِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَلْ هُوَ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْهَا وَلِذَلِكَ صَدَقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ الْكُلِّيَّةُ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ وَالصَّادِقُ عَلَى عَدَدٍ وَأَفْرَادٍ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ تِلْكَ الْأَفْرَادِ فَافْهَمْ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَالَ مَالِكٌ : إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبِيدِهِ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَيُعَيِّنَهُ لِلْعِتْقِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ مَعَ أَنَّهُ فِي الصُّورَتَيْنِ أَضَافَ الْحُكْمَ لِلْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَكَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ مُحَرِّمٌ لِلْوَطْءِ فَالْعِتْقُ أَيْضًا مُحَرِّمٌ لِلْوَطْءِ وَأَخْذِ الْمَنَافِعِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ وَالْفَرْقُ حِينَئِذٍ عَسِيرٌ وَالْجَوَابُ أَنَّ الطَّلَاقَ تَحْرِيمٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا الْعِتْقُ فَهُوَ قُرْبَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأُمَمِ .
فَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَقَدْ أَثْبَتَ التَّقَرُّبَ بِالْعِتْقِ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الرِّقَابِ وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ إجْمَاعًا وَلَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى رَقَبَةً فِي الْكَفَّارَةِ كَفَتْ رَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِذَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّقَرُّبِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَلِلثُّبُوتِ فِي الْمُشْتَرَكِ الَّذِي يَكْفِي فِيهِ فَرْدٌ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ تَحْرِيمٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ } وَالْبِغْضَةُ إنَّمَا تَصْدُقُ مَعَ النَّهْيِ دُونَ الْأَمْرِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَعُمَّ فِي الْعِتْقِ وَعَمَّ فِي الطَّلَاقِ بِنَاءً عَلَى الْقَوَاعِدِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمَسَائِلِ الْمَفْرُوضَةِ وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْوَطْءِ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْعِتْقِ وَأَصْلُهُ التَّقَرُّبُ وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تَثْبُتُ لِلْأَلْفَاظِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مُطَابَقَةً دُونَ مَا تَقْتَضِيهِ الْتِزَامًا فَمَا مِنْ أَمْرٍ إلَّا وَيَلْزَمُ النَّهْيُ عَنْ تَرْكِهِ وَالْخَبَرُ عَنْ الْعِقَابِ فِيهِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُقَالُ فِيهِ هُوَ لِلتَّكْرَارِ بِنَاءً عَلَى النَّهْيِ وَلَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ بِنَاءً عَلَى الْخَبَرِ اللَّازِمِ بَلْ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ مُطَابَقَةً فَقَطْ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ يَلْزَمُهُ الْأَمْرُ بِتَرْكِهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْعِقَابِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ وَلَا
يُقَالُ هُوَ لِلْوُجُوبِ وَالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ بِنَاءً عَلَى الْأَمْرِ وَلَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ بِنَاءً عَلَى الْخَبَرِ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ الطَّلَاقُ تَحْرِيمٌ وَيَلْزَمُهُ وُجُوبُ التَّرْكِ وَالْعِتْقُ قُرْبَةٌ وَيَلْزَمُهُ التَّحْرِيمُ فَلَا تُعْتَبَرُ اللَّوَازِمُ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْحَقَائِقُ مِنْ حَيْثُ هِيَ فَتَأَمَّلْ الْفَرْقَ وَبِهَذِهِ الْمَسَائِلِ وَالْمَبَاحِثِ يُتَّجَهُ الْفَرْقُ بَيْنَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ وَعَلَيْهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَتَأَمَّلْهُ فِي مَوَاطِنِهِ وَلَا أُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا بَلْ يَكْفِي مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
قَالَ : ( شِهَابُ الدِّينِ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ : مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبِيدِهِ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَيُعَيِّنُهُ لِلْعِتْقِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي الطَّلَاقِ مَعَ أَنَّهُ فِي الصُّورَتَيْنِ أَضَافَ الْحُكْمَ لِلْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ ) قُلْتُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَضَافَ الْحُكْمَ لِلْمُشْتَرَكِ بَلْ أَضَافَهُ لِفَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ .
قَالَ : ( وَكَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ مُحَرِّمٌ لِلْوَطْءِ فَالْعِتْقُ أَيْضًا مُحَرِّمٌ لِلْوَطْءِ وَأَخْذِ الْمَنَافِعِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ وَالْفَرْقُ حِينَئِذٍ عَسِيرٌ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ : ( وَالْجَوَابُ أَنَّ الطَّلَاقَ تَحْرِيمُ مَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا الْعِتْقُ فَهُوَ قُرْبَةٌ ) قُلْتُ : عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الطَّلَاقَ تَحْرِيمٌ وَالْعِتْقُ قُرْبَةٌ فَكَوْنُ الْعِتْقِ قُرْبَةً لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمًا بَلْ هُوَ تَحْرِيمٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَمْلُوكِ فَلَا فَرْقَ .
قَالَ : ( فَلَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَقَدْ أَثْبَتَ التَّقَرُّبَ بِالْعِتْقِ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الرِّقَابِ ) قُلْتُ : لَمْ يَثْبُتْ التَّقَرُّبُ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بِالْعِتْقِ بَلْ أَثْبَتَهُ فِي فَرْدٍ مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ فَإِنْ أَرَادَ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَاحِدًا مِمَّا فِيهِ الْحَقِيقَةُ فَمُرَادُهُ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَلَا .
قَالَ : ( وَيَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِرَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ إجْمَاعًا وَلَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى رَقَبَةً فِي الْكَفَّارَةِ كَفَتْ رَقَبَةٌ وَاحِدَةٌ ) قُلْتُ : يَحِقُّ أَنْ يُخْرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِرَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ إلَّا وَاحِدَةً وَلَوْ عَلَّقَ الْوُجُوبَ بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ لَمَا سَاغَ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ إلَّا بِجَمِيعِ مَا فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ الْأَفْرَادِ .
قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّقَرُّبِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ وَالثُّبُوتِ فِي الْمُشْتَرَكِ الَّذِي يَكْفِي فِيهِ فَرْدٌ ) قُلْتُ : لَمْ يَكْفِ فِيهِ فَرْدٌ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ
الْأَمْرِ لَكِنْ كَفَى فِيهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ الْمُعَلَّقِ بِمُطْلَقٍ وَهُوَ الْفَرْدُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ .
قَالَ : ( بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ تَحْرِيمٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَبْغَضُ الْمُبَاحِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ } وَالْبُغْضَةُ إنَّمَا تَصْدُقُ مَعَ النَّهْيِ دُونَ الْأَمْرِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَعُمَّ فِي الْعِتْقِ وَعَمَّ فِي الطَّلَاقِ بِنَاءً عَلَى الْقَوَاعِدِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمَسَائِلِ الْمَفْرُوضَةِ ) قُلْتُ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعِتْقَ أَيْضًا تَحْرِيمٌ وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَبْغَضُ الْمُبَاحِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ } لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِبَاحَةِ الطَّلَاقِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا وَقَوْلُهُ إنَّ الْبُغْضَةَ إنَّمَا تَصْدُقُ مَعَ النَّهْيِ دُونَ الْأَمْرِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ تَصْدُقُ مَعَ الْأَمْرِ وَتُحْمَلُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَرْجُوحِيَّةِ الْأَمْرِ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الْبُغْضَةَ وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ الْقَوَاعِدِ قَدْ تَبَيَّنَ إبْطَالُ بَعْضِهَا فَلَا يَصِحُّ مَا بَنَى عَلَيْهَا .
قَالَ : ( وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْوَطْءِ فَهُوَ تَابِعٌ لِلْعِتْقِ وَأَصْلُهُ التَّقَرُّبُ ) قُلْتُ : وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ فِي الزَّوْجَةِ تَابِعٌ لِلطَّلَاقِ الَّذِي أَصْلُهُ الْإِبَاحَةُ بِنَصِّ الشَّارِعِ قَالَ : ( وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تَثْبُتُ لِلْأَلْفَاظِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مُطَابِقَةً دُونَ مَا تَقْتَضِيهِ الْتِزَامًا ) قُلْتُ : ذَلِكَ مُسَلَّمٌ وَمُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ .
قَالَ : ( فَمَا مِنْ أَمْرٍ إلَّا وَيَلْزَمُهُ النَّهْيُ عَنْ تَرْكِهِ وَالْخَبَرُ عَنْ الْعِقَابِ فِيهِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُقَالُ فِيهِ هُوَ .
لِلتَّكْرَارِ بِنَاءً عَلَى النَّهْيِ وَلَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ بِنَاءً عَلَى الْخَبَرِ اللَّازِمِ بَلْ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ مُطَابَقَةً فَقَطْ وَكَذَلِكَ النَّهْيُ يَلْزَمُهُ الْأَمْرُ بِتَرْكِهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْعِقَابِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ
وَلَا يُقَالُ هُوَ لِلْوُجُوبِ وَالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ بِنَاءً عَلَى الْأَمْرِ وَلَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ بِنَاءً عَلَى الْخَبَرِ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ الطَّلَاقُ تَحْرِيمٌ وَيَلْزَمُهُ وُجُوبُ التَّرْكِ وَالْعِتْقُ قُرْبَةٌ وَيَلْزَمُهُ التَّحْرِيمُ فَلَا تُعْتَبَرُ اللَّوَازِمُ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْحَقَائِقُ مِنْ حَيْثُ هِيَ فَتَأَمَّلْ الْفَرْقَ وَبِهَذِهِ الْمَسَائِلِ وَالْمَبَاحِثِ يَتَّجِهُ الْفَرْقُ بَيْنَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ وَعَلَيْهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَتَأَمَّلْهُ فِي مَوَاطِنِهِ وَلَا أُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا بَلْ يَكْفِي مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ) قُلْتُ : أَمَّا قَوْلُهُ مَا مِنْ أَمْرٍ إلَّا وَيَلْزَمُهُ النَّهْيُ عَنْ تَرْكِهِ فَمُسَلَّمٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالْخَبَرُ عَنْ الْعِقَابِ فِيهِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِالتَّقْدِيرِ مَا يَرْجِعُ إلَى الْبَارِي تَعَالَى أَوْ مَا يَرْجِعُ إلَيْنَا فَإِنْ أَرَادَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ تَقْدِيرُ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُقَالُ ذَلِكَ فِي حَقِّنَا بَلْ لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ إلَّا الْعِلْمُ بِوُجُودِ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَوْ بِعَدَمِهِ وَإِنْ أَرَادَ الثَّانِي فَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ إذَا كَانَ سَبَبُ قِيَامِ ذَلِكَ الْخَبَرِ بِذَاتِهِ تَعَالَى تَقْدِيرَنَا نَحْنُ ذَلِكَ الْأَمْرَ وَتَقْدِيرُنَا حَادِثٌ فَيَلْزَمُ حُدُوثُ ذَلِكَ الْخَبَرِ لِضَرُورَةِ سَبْقِ السَّبَبِ لِلْمُسَبِّبِ أَوْ مَعِيَّتِه .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتْقُ الطَّلَاقُ تَحْرِيمٌ وَيَلْزَمُهُ وُجُوبُ التَّرْكِ وَالْعِتْقُ قُرْبَةٌ وَيَلْزَمُهُ التَّحْرِيمُ فَلَا تُعْتَبَرُ اللَّوَازِمُ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْحَقَائِقُ مِنْ حَيْثُ هِيَ قُلْتُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَيْسَ الطَّلَاقُ تَحْرِيمًا أَمَّا طَلَاقُ السُّنَّةِ فَلَيْسَ تَحْرِيمًا وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا هُوَ الْمُؤَبَّدُ أَمَّا غَيْرُ الْمُؤَبَّدِ فَلَا وَنَقُولُ : لَيْسَ الطَّلَاقُ