كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي
حَدُّهُمْ الْأَدَاءَ وَالْقَضَاءَ فِي كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ فِيهَا وَلَيْسَ مُطْلَقًا عَلَى مَا زَعَمُوا بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْأَدَاءُ فِي كُتُبِهِمْ إيقَاعُ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا الِاخْتِيَارِيِّ وَالْقَضَاءُ إيقَاعُ الْعِبَادَةِ خَارِجَ وَقْتِهَا الِاخْتِيَارِيِّ أَصْلٌ لَكِنَّهُمْ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ لَمْ يَصْنَعُوا ذَلِكَ .
قَالَ ( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَدَاءِ الَّذِي يَثْبُتُ مَعَهُ الْإِثْمُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَدَاءِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْإِثْمُ إلَى قَوْلِهِ فَيَأْثَمُ الْأَوَّلُ بِتَعَدِّيهَا إلَى غَيْرِ وَقْتِهَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ اصْطِلَاحَ الْفُقَهَاءِ مُوَافِقٌ لِتَحْدِيدِهِ الْأَدَاءَ وَإِلَّا فَهُوَ اصْطِلَاحٌ اخْتَرَعَهُ وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ أَيْضًا عَلَى تَسْلِيمِ اصْطِلَاحِهِ وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ .
قَالَ ( أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَامَةَ وَقْتَ أَدَاءً بِلَا خِلَافٍ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ طَائِفَةٍ أَنَّهَا لَا تَعِيشُ إلَى آخِرِ الْقَامَةِ بَلْ لِنِصْفِهَا جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ نِصْفَ الْقَامَةِ وَقْتًا لِهَؤُلَاءِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ وَالنِّصْفَ الْآخَرَ مِنْ الْقَامَةِ لَيْسَ وَقْتًا لَهُمْ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ نِصْفَ الْقَامَةِ وَقْتًا لِمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إلَى نِصْفِهَا بَاطِلٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَإِنْ كَانَ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ فَهُوَ مَذْهَبٌ ذَاهِبٌ وَدَعْوَى لَا حُجَّةَ عَلَيْهَا أَلْبَتَّةَ وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ أَوْ لَا ، فَإِنْ وَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْقَعَ الصَّلَاةَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْقَعَهَا فَقَدْ أَوْقَعَ الْوَاجِبَ وَفَازَ بِأَجْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْقَعَهَا فَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ فَلَا يُعَدُّ مُفَرِّطًا بِوَجْهٍ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُوقِعَ الصَّلَاةَ فِي بَقِيَّةِ الْقَامَةِ أَوْ لَا ، فَإِنْ أَوْقَعَهَا فَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَلَمْ تَلْحَقْهُ مُؤَاخَذَةٌ وَلَمْ يُعَدَّ مُفَرِّطًا وَإِنْ لَمْ يُوقِعْهَا إلَّا بَعْدَ الْقَامَةِ فَهُوَ مُفَرِّطٌ أَثِمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ
بِقِطْعَةٍ مِنْ الْوَقْتِ فَتَعَدَّاهَا لِنَصِيبِ غَيْرِهِ مِنْهُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ صَحِيحٌ عَلَى تَسْلِيمِ اصْطِلَاحِهِ وَتَصْحِيحِ حَدِّهِ بِخِلَافِ مَا نَظَرَ بِهِ وَمِنْ مَسْأَلَةِ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إلَى تَمَامِ الْوَقْتِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ تَحْدِيدَ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ بِالْقَامَةِ ثَابِتٌ مِنْ الشَّرْعِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَتَحْدِيدَ الْوَقْتِ بِالظَّنِّ الْمَذْكُورِ غَيْرُ ثَابِتٍ مِنْ الشَّرْعِ وَلَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ وَلَا قَطْعِيٍّ بِوَجْهٍ .
قَالَ ( وَإِنَّمَا كَانَ يَلْزَمُ الْإِشْكَالُ إلَى قَوْلِهِ فَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ اجْتِمَاعُهُمَا وَمَذْهَبُ غَيْرِهِ عَدَمُ اجْتِمَاعِهِمَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَلْزَمُ الْإِشْكَالُ لَوْ كَانَ حَدُّ الْأَدَاءِ إيقَاعَ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ الِاخْتِيَارِيِّ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ كُتُبَ الْأُصُولِ مُجْمِعَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَمُصَرِّحَةٌ بِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّهَا مُجْمِعَةٌ عَلَى إطْلَاقِ لَفْظِ أَنَّ الْإِجْزَاءَ فِعْلُ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ هَكَذَا فَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ كُتُبَ الْأُصُولِ مُصَرِّحَةٌ بِلَفْظِ الْإِطْلَاقِ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَثَلًا لِأَدَاءِ فِعْلِ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ مُطْلَقًا أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا أَعْرِفُ أَنِّي وَقَفْتُ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ مَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيقَاعِ الْفِعْلِ آخِرَ الْقَامَةِ فَقَدْرَ تَمَكُّنِهِ وَصَلَّى مَدًّا آثِمٌ إجْمَاعًا غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ لِبَعْضِ النَّاسِ وَهُوَ بَاطِلٌ لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ .
قَالَ ( فَعَلَى هَذَا يَجْتَمِعُ الْأَدَاءُ وَالْإِثْمُ فِي حَقِّ فَرِيقَيْنِ مِنْ النَّاسِ أَحَدُهُمَا الْمُخْتَارُونَ الَّذِينَ لَا عُذْرَ لَهُمْ إذَا أَخَّرُوا إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ بَعْدَ الْقَامَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ إلَى آخِرِ قَوْلِهِ وَهَلْ تُؤَخَّرُ الْمَغْرِبُ إلَى الشَّفَقِ أَمْ لَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى تَسْلِيمِ الِاصْطِلَاحِ
الْمُتَقَدِّمِ وَتَصْحِيحِ حَدِّهِ .
قَالَ ( وَثَانِيهِمَا الْفَرِيقُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِمْ عَدَمُ الْمُكْنَةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ الِاخْتِيَارِيِّ فَيُؤَخِّرُونَ إلَى آخِرِهِ فَإِنَّهُمْ آثِمُونَ مَعَ الْأَدَاءِ إذَا فَعَلُوا آخِرَ الْوَقْتِ الِاخْتِيَارِيِّ فِي الْقَامَةِ لِلظُّهْرِ مَثَلًا وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ ) قُلْتُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ .
قَالَ ( وَتَحَرَّرَ بِهَذَا الْفَرْقِ زَوَالُ مَا اسْتَشْكَلَهُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَيْنَا مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْإِثْمِ فَإِنَّهُمْ قَائِلُونَ بِهِ فِي الْفَرِيقِ الثَّانِي فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُمْ فِي الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ ) قُلْتُ يَلْزَمُ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ لِمَنْ .
قَالَ بِهِ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَذَلِكَ إذَا قَالَ : إنَّهُ أَدَاءٌ أَمَّا إذَا قَالَ : إنَّهُ قَضَاءٌ فَلَا يَلْزَمُهُ .
قَالَ ( وَيَتَّضِحُ مَذْهَبُنَا اتِّضَاحًا جَيِّدًا فَإِنَّا لَمْ نُخَالِفْ قَاعِدَةً بَلْ مَشَيْنَا عَلَى الْقَوَاعِدِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى مَا قُرِّرَ .
قَالَ ( وَيَلْزَمُ الشَّافِعِيَّةَ إشْكَالٌ لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُمْ الْأَدَاءَ وَالْقَضَاءَ فِي كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ بَاطِلًا فَإِنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ فِيهَا إلَى قَوْلِهِ لَكِنَّهُمْ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ لَمْ يَصْنَعُوا ذَلِكَ ) قُلْتُ وَلَا صَنَعَهُ غَيْرُهُمْ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا عَلِمْتُ وَلَيْسَ بِنَكِيرٍ أَنْ يُطْلَقَ الْقَوْلُ وَالْمُرَادُ التَّقْيِيدُ وَغَايَتُهُ أَنْ تَقُولَ تَجَنُّبُ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ أَكِيدٌ .
( الْفَرْقُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَدَاءِ الَّذِي يَثْبُتُ مَعَهُ الْإِثْمُ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْأَدَاءِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ مَعَهُ الْإِثْمُ ) وَذَلِكَ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ حَدِّ الْأَدَاءِ وَحَدِّ الْقَضَاءِ لَمَّا لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِمَا لِأَحْوَالِ الْمُكَلَّفِ بَلْ لِلْعِبَادَةِ فَقَطْ وَكَانَ حَدُّ الْأَدَاءِ يَصْدُقُ عَلَى أَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ الظُّهْرِ مِنْ أَوَّلِ الزَّوَالِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ أَدَاءِ الْمَغْرِبِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ بِسَبَبِ أَنَّ أَرْبَابَ الْأَعْذَارِ يُدْرِكُونَ الظُّهْرَيْنِ بِزَوَالِ عُذْرِهِمْ فِي مِقْدَارِ مَا يَسَعُ خَمْسَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَيُدْرِكُونَ صَلَاتَيْ اللَّيْلِ بِزَوَالِهِ فِي مِقْدَارِ مَا يَسَعُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ لَا يَلْزَمُ أَرْبَابَ الْأَعْذَارِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يَلْزَمُهُمْ صَلَاةُ النَّهَارِ إذَا لَمْ يَزُلْ عُذْرُهُمْ إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَا صَلَاةُ اللَّيْلِ إذَا لَمْ يَزُلْ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا مَنَعَ الْمُكَلَّفَ الَّذِي لَا عُذْرَ لَهُ مِنْ تَأْخِيرِ الْعِبَادَاتِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ مُطْلَقًا وَحَدُّ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ فِي الظُّهْرِ بِآخِرِ الْقَامَةِ وَفِي الْعَصْرِ بِالِاصْفِرَارِ وَفِي الْمَغْرِبِ عَلَى زَاوِيَةِ اتِّحَادِهِ .
قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ : وَهِيَ الْأَشْهَرُ وَقَالَ فِي الِاسْتِذْكَارِ الِاتِّحَادُ هُوَ الْمَشْهُورُ بِقَدْرِ مَا يَسَعُ فِعْلُهَا بَعْدَ شُرُوطِهَا وَعَلَى رِوَايَةِ امْتِدَادِهِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي عَارِضَتِهِ الْقَوْلُ بِالِامْتِدَادِ هُوَ الصَّحِيحُ وَقَالَ فِي أَحْكَامِهِ إنَّهُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَوْلُهُ الَّذِي فِي مُوَطَّئِهِ الَّذِي قَرَأَهُ طُولَ عُمْرِهِ وَأَمْلَاهُ حَيَاتَهُ ا هـ .
بِغِيَابِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ كَمَا فِي الْحَطَّابِ عَلَى خَلِيلٍ ، وَفِي الْعِشَاءِ أَمَّا بِثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا بِنِصْفِهِ عَلَى الْخِلَافِ وَحَدُّ وَقْتِ الِاضْطِرَارِ فِي الظُّهْرِ مِنْ بَعْدِ
الْقَامَةِ وَالْعَصْرِ مِنْ بَعْدِ الِاصْفِرَارِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فِيهِمَا وَفِي الْمَغْرِبِ إمَّا مِنْ بَعْدِ مَا يَسَعُهَا بِشُرُوطِهَا أَوْ مِنْ بَعْدِ غِيَابِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي الْعِشَاءِ إمَّا مِنْ بَعْدِ الثُّلُثِ أَوْ النِّصْفِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فِيهِمَا بِحَيْثُ إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ حَجَرَ عَلَى الْمُخْتَارِينَ مِنْ إيقَاعِ الظُّهْرِ مَثَلًا فِيمَا بَعْدَ الْقَامَةِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَمِنْ إيقَاعِ الْمَغْرِبِ مَثَلًا فِيمَا بَعْدَ مَا يَسَعُهَا بِشُرُوطِهَا أَوْ فِيمَا بَعْدَ غِيَابِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَدَاءِ الْمَارِّ كَانَ إيقَاعُ الْمُخْتَارِينَ الظُّهْرَ بَعْدَ الْقَامَةِ وَالْعَصْرَ بَعْدَ الِاصْفِرَارِ وَالْمَغْرِبَ بَعْدَ مَا يَسَعُهَا بِشُرُوطِهَا أَوْ بَعْدَ غِيَابِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ وَالْعِشَاءَ بَعْدَ الثُّلُثِ أَوْ النِّصْفِ أَدَاءً مَعَهُ الْإِثْمُ لِتَعَدِّيهِمْ مَا حَدَّدَهُ لَهُمْ صَاحِبُ الشَّرْعِ وَإِيقَاعِهِمْ الظُّهْرَ فِي الْقَامَةِ وَالْمَغْرِبَ فِيمَا يَسَعُهَا بِشُرُوطِهَا أَدَاءً لَيْسَ مَعَهُ إثْمٌ لِعَدَمِ تَعَدِّيهِمْ مَا حَدَّدَهُ لَهُمْ صَاحِبُ الشَّرْعِ إذْ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ أَنْ يُحَدِّدَ لِلْعِبَادَةِ وَقْتًا وَيَجْعَلَ نِصْفَهُ الْأَوَّلَ لِطَائِفَةٍ وَنِصْفَهُ الْآخَرَ لِطَائِفَةٍ أُخْرَى فَتَأْثَمُ الْأُولَى بِتَعَدِّيهَا لِغَيْرِ وَقْتِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَامَةَ وَقْتُ أَدَاءً بِلَا خِلَافٍ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ طَائِفَةٍ أَنَّهَا لَا تَعِيشُ إلَى آخِرِ الْقَامَةِ بَلْ لِنِصْفِهَا لَجَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ نِصْفَ الْقَامَةِ وَقْتًا لِهَؤُلَاءِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مِنْ الْقَامَةِ لَيْسَ وَقْتًا لَهُمْ ، فَكَذَلِكَ هَا هُنَا جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ وَقْتَ الظُّهْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ الْمَغْرِبِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَحَجَرَ عَلَى الْمُخْتَارِينَ الْوُصُولَ إلَيْهِ وَجَعَلَهُمْ بِتَعَدِّي الْقَامَةِ وَغِيَابِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ مُؤَدِّينَ
آثِمِينَ وَجَعَلَ لِأَرْبَابِ الْأَعْذَارِ إدْرَاكَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَدَاءً بِلَا إثْمٍ فِيمَا يَسَعُ خَمْسَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَإِدْرَاكُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ أَدَاءً بِلَا إثْمٍ فِيمَا يَسَعُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الْفَجْرِ .
فَظَهَرَ بِهَذَا تَحْرِيرُ الْفَرْقِ وَزَالَ مَا اسْتَشْكَلَهُ الشَّافِعِيَّةُ عَلَيْنَا مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْإِثْمِ عَلَى أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِهِ فِيمَنْ ظَنَّ مَا ذَكَرَ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِهِ فِي الْمُخْتَارِينَ بِالْأَوْلَى هَذَا خُلَاصَةُ مَا قَالَهُ الْأَصْلُ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ اصْطِلَاحَ الْفُقَهَاءِ مُوَافِقٌ لِتَحْدِيدِهِ الْأَدَاءَ أَوْ عَلَى تَسْلِيمِ اصْطِلَاحِهِ وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ ، وَتَصْحِيحُ تَحْدِيدِهِ إلَّا أَنَّ دَعْوَاهُ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ نِصْفَ الْقَامَةِ وَقْتًا لِمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إلَى نِصْفِهَا بَاطِلَةٌ بِلَا شَكٍّ وَإِنْ كَانَ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ فَهُوَ مَذْهَبٌ ذَاهِبٌ وَدَعْوَى لَا حُجَّةَ عَلَيْهَا أَلْبَتَّةَ فَلَا يَصِحُّ التَّنْظِيرُ بِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ تَحْدِيدَ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ بِالْقَامَةِ مَثَلًا ثَابِتٌ مِنْ الشَّرْعِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَتَحْدِيدُ الْوَقْتِ بِالظَّنِّ الْمَذْكُورِ غَيْرُ ثَابِتٍ مِنْ الشَّرْعِ وَلَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ وَلَا قَطْعِيٍّ بِوَجْهٍ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ إنْ وَقَعَ الْأَمْرُ لِمَا ظَنَّهُ فَأَمَّا أَنْ يُوقِعَ الصَّلَاةَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَيَكُونُ قَدْ أَوْقَعَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَفَازَ بِأَجْرِهِ .
وَأَمَّا أَنْ لَا يُوقِعَهَا فَلَا يُؤَاخَذُ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ فَلَا يُعَدُّ مُفَرِّطًا بِوَجْهٍ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ فَأَمَّا أَنْ يُوقِعَ الصَّلَاةَ فِي بَقِيَّةِ الْقَامَةِ فَيَكُونُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فَلَا يَلْحَقُهُ مُؤَاخَذَةٌ وَلَا يُعَدُّ مُفَرِّطًا ، وَأَمَّا أَنْ لَا يُوقِعَهَا إلَّا بَعْدَ الْقَامَةِ فَيَكُونُ مُفَرِّطًا آثِمًا وَأَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ بِالْجَمْعِ
بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالْإِثْمِ فِي حَقِّ مَنْ ظَنَّ مَا ذَكَرَ إذَا صَلَّى فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ الْقَامَةِ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ بِهِ فِي الْمُخْتَارِينَ بِالْأَوْلَى إلَّا إذَا قَالَ : إنَّهُ أَدَاءٌ هُوَ إنَّمَا قَالَ أَنَّهُ قَضَاءٌ ا هـ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا قِيلَ بِهِ مِنْ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ ) قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّوْمِ وَلَوْ أَوْقَعَتْهُ حِينَئِذٍ وَعَلَى أَنَّهَا آثِمَةٌ إذَا فَعَلَتْ فَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَوَافَقَهُ جَمَاعَةٌ إنَّ الْحَيْضَ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّوْمِ دُونَ وُجُوبِهِ وَيَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَوُجُوبِهَا وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ يَجِبُ عَلَيْهَا الصَّوْمُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا يُشِيرُونَ بِهَذِهِ التَّوْسِعَةِ إلَى عَدَمِ تَحَتُّمِ الصَّوْمِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ حَتَّى لَا يَجْتَمِعَ الْوُجُوبُ وَالْإِثْمُ فِي الْفِعْلِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ لَا يُمْنَعُ وَهَذِهِ تُمْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهَا وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهَا بِوُجُوهٍ أَحَدُهَا قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَهِيَ شَهِدَتْ الشَّهْرَ فَيَلْزَمُهَا الصَّوْمُ لِعُمُومِ النَّصِّ وَثَانِيهَا أَنَّهَا تَنْوِي رَمَضَانَ وَلَوْلَا تَقَدُّمُ الْوُجُوبِ لَمَا كَانَ لِهَذَا الصَّوْمِ بِرَمَضَانَ تَعَلُّقٌ وَثَالِثُهَا أَنَّ الْقَضَاءَ يُقَدَّرُ بِقَدَرِ الْأَدَاءِ الْفَائِتِ فَأَشْبَهَ قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الْأَعْيَانِ الْمُتْلَفَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا الْقَضَاءُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَاجِبِ الَّذِي فَاتَ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مُتَقَدِّمٌ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ يَقُومُ هَذَا الْقَضَاءُ مَقَامَهُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ عُمُومَ النَّصِّ يَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِالدَّلِيلِ الضَّرُورِيِّ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْوَاجِبِ مَا لَا يُمْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ وَهَذِهِ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْفِعْلِ وَلَمَّا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْ ذَلِكَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا بِالضَّرُورَةِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَوْجَبَ عَلَى مُكَلَّفٍ شَيْئًا وَيُعَاقِبُهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْهُ
وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يُعَاقِبُهُ إذَا فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ .
وَهَذَا لَمْ يُعْهَدْ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلًا وَنَحْنُ وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فَنَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَرِدْ بِهَذَا الْجَائِزِ بَلْ بِالرَّحْمَةِ وَتَرْكِ الْمَشَاقِّ وَالتَّيْسِيرِ وَالْإِحْسَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ } وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومَ النَّفْيِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ فَيُتَخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الْآيَةِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِهَا وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهَا إنَّمَا تَنْوِي رَمَضَانَ بِسَبَبِ أَنَّ هَذَا الصَّوْمَ لَيْسَ تَطَوُّعًا وَلَا وَاجِبًا ابْتِدَاءً وَلَا بِسَبَبٍ حَدَثَ الْآنَ وَلَا نَذْرًا وَلَا كَفَّارَةً بَلْ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ الصَّوْمِ غَيْرِ الْأَنْوَاعِ الْمَعْهُودَةِ فِي الشَّرِيعَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ تُمَيِّزُهُ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا شُرِعَتْ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ عَنْ الْعَادَاتِ وَلِتَمْيِيزِ مَرَاتِبِ الْعِبَادَاتِ وَسَبَبُ هَذَا الصَّوْمِ هُوَ التَّرْكُ فِي رَمَضَانَ فَأُضِيفَ لِسَبَبِهِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ لَا ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ تَقَدَّمَ بَلْ جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ رُؤْيَةَ هِلَالِ رَمَضَانَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُخْتَارِينَ الَّذِينَ لَا مَانِعَ فِي حَقِّهِمْ وَسَبَبًا لِجَعْلِ تَرْكِ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبًا لِوُجُوبِ فِعْلِ يَوْمٍ آخَرَ بَعْدَ رَمَضَانَ فَرُؤْيَةُ الْهِلَالِ سَبَبٌ لِسَبَبِيَّةِ تَرْكِ الصَّوْمِ وَنَصْبُ التَّرْكِ سَبَبًا لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِيقَاعِ فِيهِ بَلْ لَوْ صَرَّحَ الشَّارِعُ هَكَذَا .
وَقَالَ جَعَلْتُ تَرْكَ رَمَضَانَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ سَبَبًا لِوُجُوبِ مِثْلِهِ خَارِجَ رَمَضَانِ وَلَا يَجِبُ الْفِعْلُ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُتَنَاقِضًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ إذَا تُرِكَ إخْرَاجُ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي زَمَنِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ يَكُونُ ذَلِكَ التَّرْكُ
سَبَبًا لِوُجُوبِ دَفْعِ الْقِيَمِ بَعْدَ زَوَالِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ وَيُكَلَّفُونَ ح بِالْغَرَامَاتِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي ذِمَمِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِمْ وُجُوبٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَصَارَ التَّرْكُ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ كَذَلِكَ هَاهُنَا جُعِلَ التَّرْكُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ مَعَ عَدَمِ التَّكْلِيفِ فِي زَمَانِ التَّرْكِ وَيُضَافُ هَذَا الصَّوْمُ لِذَلِكَ التَّرْكِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا تُضَافُ الْقِيمَةُ لِلْإِتْلَافِ فِي زَمَانِ الصِّبَا أَوْ الْجُنُونِ لِيَتَمَيَّزَ هَذَا الْمَالُ الْمَدْفُوعُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ وَالْوَاجِبَاتِ وَمِنْ النَّفَقَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُتَنَوِّعَةِ فِي الدَّفْعِ وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا قُدِّرَ بِقَدْرِ الْمَتْرُوكِ مِنْ الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ تَرْكَ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ يَوْمٍ بَعْدَ رَمَضَانَ كَمَا قُدِّرَتْ قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِزَوَالِ الْجُنُونِ بِحَسَبِ قَدْرِ الْمُتْلَفَاتِ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ فِي زَمَانِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ ، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ شَيْءٌ مِنْ الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ رُتَبِ الْوَاجِبِ أَنْ يُؤْذَنَ فِي فِعْلِهِ وَهَذَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهَا فِي فِعْلِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهَا فِيهِ ، وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ إنَّهُ وَاجِبٌ مُوَسَّعٌ فَهُوَ فِي بَادِي الرَّأْيِ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ مَحْذُورٌ لِعَدَمِ التَّضْيِيقِ وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ يَبْطُلُ مَا قَالُوهُ بِسَبَبِ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ مِنْ شَرْطِهِ إمْكَانُ وُقُوعِهِ فِي أَوَّلِ أَزْمِنَةِ التَّوْسِعَةِ وَهَذِهِ مَمْنُوعَةٌ إجْمَاعًا إلَى زَمَنِ الطُّهْرِ فِي جَمِيعِ زَمَنِ الْحَيْضِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّهَا أَنَّهُ وَاجِبٌ مُوَسَّعٌ .
وَلَوْ صَحَّ مَا قَالُوهُ لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ إنَّ الظُّهْرَ يَجِبُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا فَإِنَّهَا تُفْعَلُ بَعْدَ الزَّوَالِ كَمَا تَفْعَلُ فِي الصَّوْمِ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ
وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ رَمَضَانَ يَجِبُ مِنْ رَجَبٍ وُجُوبًا مُوَسَّعًا وَيُفْعَلُ بَعْدَ انْسِلَاخِ شَعْبَانَ كَمَا يُفْعَلُ الصَّوْمُ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ وَلَكِنْ هَذَا كُلُّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَلَا يَصِحُّ مَا قَالُوهُ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ وَيَتَّضِحُ حِينَئِذٍ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ وَبَيْنَ صَوْمِ الْحَائِضِ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ يُمْكِنُ فِعْلُهُ فِي أَوَّلِ أَزْمِنَةِ التَّوْسِعَةِ وَهَذِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَفْعَلَ فِي أَوَّلِ زَمَنِ الْحَيْضِ وَلَا يَكُونُ زَمَنُ الْحَيْضِ مِنْ أَزْمِنَةِ التَّوْسِعَةِ لَهَا فَإِنْ أَرَادُوا بِأَنَّهُ وَاجِبٌ وُجُوبًا مُوَسَّعًا إنَّهُ يَجِبُ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ فَقَطْ فَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَلَا يُصَرِّحُونَ بِالْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَيَقُولُونَ إنَّ هَذَا مَذْهَبٌ يَخْتَصُّونَ بِهِ فَظَهَرَ الْحَقُّ وَاتَّضَحَ الْفَرْقُ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا قِيلَ فِيهِ مِنْ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ إلَى قَوْلِهِ وَيَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَوُجُوبِهَا ) قُلْتُ لَيْسَ مُرَادُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ أَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ بِإِيقَاعِ الصَّوْمِ فِي حَالِ الْحَيْضِ كَيْفَ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ إنْ أَوْقَعَتْهُ وَعَلَى أَنَّهَا آثِمَةٌ بِذَلِكَ وَلَكِنْ مُرَادُهُمْ أَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ بِالتَّعْوِيضِ وَمِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ الَّتِي هِيَ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ أَنَّ تَكْلِيفَهَا بِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ بَلْ فِي أَيَّامِ التَّعْوِيضِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُونَ زَمَنُ التَّكْلِيفِ غَيْرَ زَمَنِ إيقَاعِ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَلَوْ لَزِمَ ذَلِكَ لَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مُكَلَّفًا بِجُمْلَةِ عِبَادَةٍ مُتَرَتِّبَةِ الْأَجْزَاءِ بَلْ بِكُلِّ جُزْءٍ زَمَنَهُ وَذَلِكَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ قَطْعًا وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ تَقْرِيرٌ أَنَّ زَمَنَ التَّكْلِيفِ يَكُونُ غَيْرَ زَمَنِ إيقَاعِ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ فِي الْفَرْقِ الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ وَمِنْ لُزُومِ تَقَدُّمِ زَمَنِ التَّكْلِيفِ عَلَى زَمَنِ إيقَاعِ الْفِعْلِ فِي الْعِبَادَاتِ ذَوَاتِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَرَتِّبَةِ ظَهَرَتْ صِحَّةُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَرَتُّبِ الْعِبَادَاتِ فِي الذِّمَمِ كَالدُّيُونِ وَظَهَرَ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ تَرَتُّبِهَا فِي الذِّمَمِ بِخِلَافِ الدُّيُونِ .
قَالَ ( وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ يَجِبُ عَلَيْهَا الصَّوْمُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا يُشِيرُونَ بِهَذِهِ التَّوَسُّعَةِ إلَى عَدَمِ تَحَتُّمِ الصَّوْمِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ حَتَّى لَا يَجْتَمِعَ عَلَيْهَا الْوُجُوبُ وَالْإِثْمُ فِي الْفِعْلِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ لَا يُمْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ وَهَذِهِ تُمْنَعُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّهَا ) قُلْتُ إنْ سَلَّمَ الْحَنَفِيَّةُ مَنْعَهَا مِنْ الصَّوْمِ فَكَيْفَ يَقُولُونَ بِوُجُوبِهِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ إلَّا أَنْ يَعْنُوا بِذَلِكَ أَنَّ التَّعْوِيضَ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ
مُوَسَّعُ الْوَقْتِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ أَمَّا أَنْ يَعْنُوا بِذَلِكَ التَّوْسِعَةَ فِي إيقَاعِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ أَوْ غَيْرِهَا فَذَلِكَ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ .
قَالَ : ( وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهَا بِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَهِيَ شَهِدَتْ الشَّهْرَ فَيَلْزَمُهَا الصَّوْمُ لِعُمُومِ النَّصِّ ، وَثَانِيهَا : أَنَّهَا تَنْوِي رَمَضَانَ وَلَوْلَا تَقَدُّمُ الْوُجُوبِ لَمَا كَانَ لِهَذَا الصَّوْمِ بِرَمَضَانَ تَعَلُّقٌ وَثَالِثُهَا أَنَّ الْقَضَاءَ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْأَدَاءِ الْفَائِتِ فَأَشْبَهَ قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الْأَعْيَانِ الْمُتْلَفَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا الْقَضَاءُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَاجِبِ الَّذِي فَاتَ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مُتَقَدِّمٌ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ يَقُومُ هَذَا الْقَضَاءُ مَقَامَهُ ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ عُمُومَ النَّصِّ يَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِالدَّلِيلِ الضَّرُورِيِّ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْوَاجِبِ مَا لَا يُمْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ وَهَذِهِ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْفِعْلِ إلَى قَوْلِهِ فَيُتَخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الْآيَةِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَسْتَقِيمُ التَّمَسُّكُ بِهَا ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّ حَقِيقَةَ الْوَاجِبِ مَا لَا يُمْنَعُ مِنْ فِعْلِهِ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ مُنِعَ عَلَى وَجْهٍ مَا فَذَلِكَ مُسَلَّمٌ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ فَإِنَّهَا لَمْ تَمْنَعْ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ فَقَطْ وَإِنْ أَرَادَ مَا لَا يُمْنَعُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَذَلِكَ مَمْنُوعٌ .
قَالَ ( وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهَا إنَّمَا نَوَتْ رَمَضَانَ بِسَبَبِ أَنَّ هَذَا الصَّوْمَ لَيْسَ تَطَوُّعًا وَلَا وَاجِبًا ابْتِدَاءً وَلَا بِسَبَبٍ حَدَثَ الْآنَ وَلَا نَذْرًا وَلَا كَفَّارَةً بَلْ هُوَ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ الصَّوْمِ غَيْرُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْمَعْهُودَةِ ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ بِالْأَنْوَاعِ الْمَعْهُودَةِ الْأَنْوَاعَ الَّتِي سَمَّاهَا فَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ وَلَا فَائِدَةَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الصَّوْمِ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ
فَذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ صَوْمٌ مَعْهُودٌ فِي الشَّرْعِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِهِ .
قَالَ ( فَيَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ تُمَيِّزُهُ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَنْوَاعِ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا شُرِعَتْ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ عَنْ الْعَادَاتِ وَلِتَمْيِيزِ مَرَاتِبِ الْعِبَادَاتِ ) قُلْتُ لَمْ تُشْرَعْ النِّيَّاتُ لِذَلِكَ وَلَكِنْ شُرِعَتْ لِلتَّقَرُّبِ بِالْعِبَادَاتِ لِمَنْ أُمِرَ بِالْعِبَادَاتِ وَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ وَمِنْ لَازِمِ التَّقَرُّبِ بِهَا لِلْمَعْبُودِ الْوَاجِبِ الطَّاعَةِ أَنْ يُتَقَرَّبَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ وَلِلسَّبَبِ الَّذِي نَصَبَ فَالتَّمْيِيزُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِشَرْعِ النِّيَّاتِ بَلْ هُوَ لَازِمٌ لِمَا شُرِعَتْ لَهُ النِّيَّاتُ .
قَالَ ( وَسَبَبُ هَذَا الصَّوْمِ هُوَ التَّرْكُ فِي رَمَضَانَ فَأُضِيفَ لِسَبَبِهِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ لَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ تَقَدَّمَ ) قُلْتُ وَلِمَ كَانَ تَرْكُهَا لِلصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ سَبَبًا فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ فِي غَيْرِهِ بِنِيَّةِ التَّعْوِيضِ مِنْهُ وَكَيْفَ يَجِبُ التَّعْوِيضُ مِنْ غَيْرِ وَاجِبٍ هَذَا مِمَّا لَا خَفَاءَ بِبُطْلَانِهِ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهَا فِي رَمَضَانَ لَكِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا فِعْلُ هَذَا الْوَاجِبِ تَعَذُّرًا شَرْعِيًّا وَحُكْمُ الْعُذْرِ الشَّرْعِيِّ كَحُكْمِ الْعُذْرِ الْحِسِّيِّ أَمَّا الْحِسِّيُّ فَكَالنَّوْمِ الْمُسْتَغْرِقِ لِوَقْتِ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ فَكَمُزَاحَمَةِ وَاجِبٍ تَفُوتُ مَصْلَحَتُهُ إنْ أُخِّرَ كَمَا فِي إنْقَاذِ غَرِيقٍ يَسْتَغْرِقُ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَكِلَا الْمُكَلَّفَيْنِ بِذَلِكَ يَقْضِيَانِ بَعْدَ الْوَقْتِ وَقَدْ كَانَ الْوُجُوبُ تَعَلَّقَ بِهِمَا عِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَاسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِمَا إلَى حِينِ الْقَضَاءِ وَلَيْسَ يُشْكِلُ وُجُوبُ وَاجِبٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي وَقْتٍ يَمْتَنِعُ إيقَاعُهُ فِيهِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَرَى تَرَتُّبَ الْعِبَادَاتِ فِي الذِّمَمِ كَالدُّيُونِ وَإِنَّمَا يُشْكِلُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالدُّيُونِ .
قَالَ ( بَلْ جَعَلَ صَاحِبُ الشَّرْعِ رُؤْيَةَ الْهِلَالِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمُخْتَارِينَ الَّذِينَ لَا مَانِعَ
فِي حَقِّهِمْ وَسَبَبًا لِجَعْلِ تَرْكِ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبًا لِوُجُوبِ فِعْلِ يَوْمٍ آخَرَ بَعْدَ رَمَضَانَ فَرُؤْيَةُ الْهِلَالِ سَبَبٌ لِسَبَبِيَّةِ تَرْكِ الْيَوْمِ وَنَصْبُ التَّرْكِ سَبَبًا لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِيقَاعِ فِيهِ ) قُلْتُ إيقَاعُ صَوْمِهَا فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ مُسَلَّمٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ وَجَعْلُ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ سَبَبًا لِسَبَبِيَّةِ التَّرْكِ دَعْوَى ، وَقَوْلُهُ إنَّ نَصْبَ التَّرْكِ سَبَبًا لَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِيقَاعِ فِي الْيَوْمِ الْمَتْرُوكِ دَعْوَى أَيْضًا وَبِالْجُمْلَةِ لَا حَاجَةَ إلَى هَذِهِ الدَّعَاوَى الَّتِي لَا حُجَّةَ عَلَيْهَا .
قَالَ ( بَلْ لَوْ صَرَّحَ الشَّارِعُ هَكَذَا وَقَالَ جَعَلْتُ تَرْكَ رَمَضَانَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ سَبَبًا لِوُجُوبِ مِثْلِهِ خَارِجَ رَمَضَانَ وَلَا يَجِبُ الْفِعْلُ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُتَنَاقِضًا أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ إذَا تُرِكَ إخْرَاجُ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي زَمَنِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ يَكُونُ ذَلِكَ التَّرْكُ سَبَبًا لِوُجُوبِ دَفْعِ الْقِيَمِ بِعُذْرِ زَوَالِ الصِّبَا وَالْجُنُونِ وَيُكَلَّفُونَ ح بِالْغَرَامَاتِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي ذِمَمِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِمْ وُجُوبٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَصَارَ التَّرْكُ سَبَبًا لِلتَّكْلِيفِ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ كَذَلِكَ هَاهُنَا جُعِلَ التَّرْكُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ مَعَ عَدَمِ التَّكْلِيفِ فِي زَمَنِ التَّرْكِ وَيُضَافُ هَذَا الصَّوْمُ لِذَلِكَ التَّرْكِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا تُضَافُ الْقِيَمُ لِلْإِتْلَافِ فِي زَمَنِ الصِّبَا أَوْ الْجُنُونِ لِيَتَمَيَّزَ هَذَا الْمَالُ الْمَدْفُوعُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ وَالْوَاجِبَاتِ مِنْ النَّفَقَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُتَنَوِّعَةِ فِي الدَّفْعِ ) قُلْتُ إضَافَةُ وُجُوبِ الصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ إلَى تَرْكِهِ فِي رَمَضَانَ مُشْعِرٌ بِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْمُكَلَّفَةِ بِذَلِكَ فِي رَمَضَانَ وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِتِلْكَ الْإِضَافَةِ ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ إنَّمَا تَرَكَتْ غَيْرَ وَاجِبٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَهَلْ عُهِدَ
فِي الشَّرْعِ أَنَّ تَرْكَ غَيْرِ الْوَاجِبِ يَكُونُ سَبَبًا فِي الْوُجُوبِ وَمَا سَبَبُ هَذَا الِارْتِبَاكِ الْمُوجِبِ لِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الْوَاضِحِ الضَّعْفِ إلَّا الْغَفْلَةُ عَنْ تَقَرُّرِ الْعِبَادَاتِ فِي الذِّمَمِ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا كَالدُّيُونِ وَالْغَرَامَاتِ أَوْ التَّغَافُلِ عَنْ ذَلِكَ وَالصَّبِيُّ وَالْحَائِضُ وَإِنْ كَانَ حَالُهُمَا مُسْتَوِيًا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تُكَلَّفُ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ رَمَضَانُ بِإِيقَاعِ الصَّوْمِ فِيهِ وَالصَّبِيُّ أَيْضًا لَا يُطْلَبُ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْإِتْلَافُ بِإِيقَاعِ الْغَرَامَةِ يَوْمَ الْإِتْلَافِ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّبِيَّ خَالٍ عَنْ شَرْطِ التَّكْلِيفِ بِخِلَافِهَا فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهَا إنَّهَا مُكَلَّفَةٌ بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهَا بِشَرْطِ التَّكْلِيفِ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ إنَّهُ مُكَلَّفٌ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَيَصِحُّ فِيهِمَا مَعًا أَنْ يُقَالَ تَرَتُّبُ الْعِوَضِ فِي ذِمَّتِهِمَا يَوْمَ وُجُودِ السَّبَبِ وَالْمُوجِبُ لِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِتَرَتُّبِ الْعِوَضِ فِي ذِمَّتِهِمَا وَصِحَّةِ الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِهَا دُونَهُ أَنَّ لَفْظَ التَّكْلِيفِ وَلَفْظَ التَّرْتِيبِ فِي الذِّمَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ اخْتِلَافُ عِبَارَاتٍ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارَاتٍ وَالِاعْتِبَارَاتُ أُمُورٌ وَضْعِيَّةٌ تَتْبَعُ الْمَقَاصِدَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا قُدِّرَ بِقَدْرِ الْمَتْرُوكِ مِنْ الصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ تَرْكَ يَوْمٍ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ يَوْمٍ بَعْدَ رَمَضَانَ إلَى قَوْلِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهَا فِيهِ ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ أَنَّهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا إيقَاعُ الصَّوْمِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَقَدْ حَكَى هُوَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنَّ الْوُجُوبَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِمَّتِهَا عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ رَمَضَانُ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ لُزُومِ تَقَرُّرِ الْعِبَادَاتِ فِي الذِّمَمِ بِدَلِيلِ أَوَائِلِ إجْزَاءِ الْعِبَادَاتِ ذَوَاتِ الْأَجْزَاءِ
الْمُرَتَّبَةِ مَعَ أَوَاخِرِ أَجْزَائِهَا فَإِنَّهُ لَا قَائِلَ بِأَنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا تَوَجَّهَ عَلَى الْمُكَلَّفِ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعِبَادَاتِ بِأَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهَا دُونَ سَائِرِ أَجْزَائِهَا ثُمَّ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ تَوَجَّهَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ بِالْجُزْءِ الثَّانِي ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى آخِرِ الْأَجْزَاءِ .
قَالَ ( وَأَمَّا قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ إنَّهُ وَاجِبٌ مُوَسَّعٌ فَهُوَ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ مَحْذُورٌ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
( الْفَرْقُ الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ مَا قِيلَ بِهِ مِنْ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ ) وَذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ لِقَضَاءِ رَمَضَانَ يَجِبُ مُوَسَّعًا مِنْ شَوَّالٍ إلَى آخِرِ شَعْبَانَ مِنْ السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ شَرْطُهُ أَنْ يُمْكِنَ فِعْلُهُ فِي أَوَّلِ أَزْمِنَةِ التَّوْسِعَةِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ الصَّوْمُ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ فَقَطْ بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّوْمِ لَوْ أَوْقَعَتْهُ زَمَنَ الْحَيْضِ وَعَلَى أَنَّهَا آثِمَةٌ إذَا فَعَلَتْ فَمُرَادُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَكُلِّ مَنْ قَالَ : إنَّ الْحَيْضَ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّوْمِ دُونَ وُجُوبِهِ وَيَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَوُجُوبَهَا أَنَّ الْحَائِضَ مُكَلَّفَةٌ زَمَنَ الْحَيْضِ بِالتَّعْوِيضِ مِنْ أَيَّامِ الْحَيْضِ الَّتِي هِيَ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّ تَكْلِيفَهَا بِذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ بَلْ فِي أَيَّامِ التَّعْوِيضِ إذْ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ زَمَنُ التَّكْلِيفِ غَيْرَ زَمَنِ إيقَاعِ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَإِلَّا لَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ مُكَلَّفًا بِجُمْلَةِ عِبَادَةٍ مُتَرَتِّبَةِ الْأَجْزَاءِ بَلْ بِكُلِّ جُزْءٍ فِي زَمَنِهِ وَذَلِكَ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ .
وَقَدْ مَرَّ فِي الْفَرْقِ الْحَادِي وَالْأَرْبَعِينَ أَنَّ زَمَنَ التَّكْلِيفِ يَكُونُ غَيْرَ زَمَنِ إيقَاعِ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ فَظَهَرَ لُزُومُ تَقَدُّمِ زَمَنِ التَّكْلِيفِ عَلَى زَمَنِ الْإِيقَاعِ فِي الْعِبَادَاتِ ذَوَاتِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَرَتِّبَةِ وَمِنْهُ تَظْهَرُ صِحَّةُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَرَتُّبِ الْعِبَادَاتِ فِي الذِّمَمِ كَالدُّيُونِ وَبُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ تَرَتُّبِهَا فِي الذِّمَمِ بِخِلَافِ الدُّيُونِ ، وَأَمَّا قَوْلُ الْأَحْنَافِ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمْ يَجِبُ عَلَيْهَا الصَّوْمُ وُجُوبًا مُوَسَّعًا مُحْتَجِّينَ بِثَلَاثَةِ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
وَهِيَ شَهِدَتْ الشَّهْرَ فَيَلْزَمُهَا الصَّوْمُ لِعُمُومِ النَّصِّ .
وَثَانِيهَا : أَنَّهَا تَنْوِي رَمَضَانَ وَلَوْلَا تَقَدُّمُ الْوُجُوبِ لَمَا كَانَ لِهَذَا الصَّوْمِ بِرَمَضَانَ تَعَلُّقٌ .
وَثَالِثُهَا : الْقَضَاءُ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْأَدَاءِ الْفَائِتِ فَأَشْبَهَ قِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الْأَعْيَانِ الْمُتْلَفَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا الْقَضَاءُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَاجِبِ الَّذِي فَاتَ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مُتَقَدِّمٌ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ يَقُومُ هَذَا الْقَضَاءُ مَقَامَهُ فَيَتَعَيَّنُ حَيْثُ سَلَّمَ الْأَحْنَافُ مَنْعَهَا مِنْ الصَّوْمِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ التَّعْوِيضَ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ مُوَسَّعُ الْوَقْتِ لَا أَنَّ التَّوْسِعَةَ فِي إيقَاعِ الصَّوْمِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ أَوْ غَيْرِهَا لِعَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ بِوَجْهٍ إذْ كَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُمْ بِأَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ بِإِيقَاعِ الصَّوْمِ فِي حَالِ الْحَيْضِ وَهُمْ يَقُولُونَ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ إنْ أَوْقَعَتْهُ وَبِأَنَّهَا آثِمَةٌ بِذَلِكَ وَهَلْ يُجَامِعُ الْوُجُوبُ الْإِثْمَ وَالْوَاجِبُ لَا يَمْتَنِعُ إذْ لَمْ يُعْهَدْ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ يُعَاتِبُ الْمُكَلَّفَ إذَا فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّا وَإِنْ جَوَّزْنَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ إلَّا أَنَّا نَقْطَعُ بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَرِدْ بِهَذَا الْجَائِزِ بَلْ بِالرَّحْمَةِ وَتَرْكِ الْمَشَاقِّ وَالتَّيْسِيرِ وَالْإِحْسَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ } وَحِينَئِذٍ فَيَرْجِعُ خِلَافُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيًّا بَلْ لَا وَجْهَ لِتَصْرِيحِهِمْ بِالْخِلَافِ فِيهَا وَاحْتِجَاجِهِمْ لِمَا قَالُوهُ بِتِلْكَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ فَلَا دَاعِيَ إلَى الْإِطَالَةِ بِالْجَوَابِ عَنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ بِتَكَلُّفِ الدَّعَاوَى الَّتِي لَا حُجَّةَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ الْكُلِّيِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْكُلِّيِّ الْوَاجِبِ فِيهِ وَبِهِ وَعَلَيْهِ وَعِنْدَهُ وَمِنْهُ وَمِثْلُهُ وَإِلَيْهِ ) فَهَذِهِ عَشْرُ قَوَاعِدَ فِي الْكُلِّيِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ خَاصَّةً وَهِيَ عَشْرُ قَوَاعِدَ كُلُّهَا يَتَعَلَّقُ فِيهَا الْوُجُوبُ بِالْكُلِّيِّ دُونَ الْجُزْئِيِّ وَهِيَ مُتَبَايِنَةُ الْحَقَائِقِ مُخْتَلِفَةُ الْمُثُلِ وَالْأَحْكَامِ فَأَذْكُرُ كُلَّ قَاعِدَةٍ عَلَى حِيَالِهَا لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا .
اعْلَمْ أَنَّ خِطَابَ الشَّرْعِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِجُزْئِيٍّ كَوُجُوبِ التَّوَجُّهِ إلَى خُصُوصِ الْكَعْبَةِ الْحَرَامِ وَالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ الْمُعَيَّنِ وَالتَّصْدِيقِ بِالرِّسَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ كَالْقُرْآنِ وَقَدْ لَا يُعَيَّنُ مُتَعَلِّقُ التَّكْلِيفِ بَلْ يَجْعَلُهُ دَائِرًا بَيْنَ أَفْرَادِ جِنْسٍ وَيَكُونُ مُتَعَلِّقُ الْخِطَابِ هُوَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْجِنْسِ دُونَ خُصُوصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَفْرَادِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْفَرْقِ وَهُوَ الْمُنْقَسِمُ إلَى عَشْرَةِ أَجْنَاسٍ كَمَا يَأْتِي إنْ بَيَانَهُ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى : الْوَاجِبُ الْكُلِّيُّ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ وَحَيْثُ قِيلَ بِهِ فَالْوَاجِبُ هُوَ أَحَدُ الْخِصَالِ وَهُوَ مَفْهُومٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا لِصِدْقِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالصَّادِقُ عَلَى أَشْيَاءَ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا وَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ مُتَعَلِّقُ خَمْسَةِ أَحْكَامٍ : الْحُكْمُ الْأَوَّلُ : الْوُجُوبُ فَلَا وُجُوبَ إلَّا فِيهِ وَالْخُصُوصَاتُ الَّتِي هِيَ الْعِتْقُ وَالْكِسْوَةُ وَالْإِطْعَامُ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ وَالْمُشْتَرَكُ هُوَ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ وَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ فَلَمْ يُخَيِّرْ اللَّهُ الْمُكَلَّفَ بَيْنَ فِعْلِ أَحَدِهَا وَبَيْنَ تَرْكِ هَذَا الْمَفْهُومِ ، فَإِنَّ تَرْكَ هَذَا الْمَفْهُومِ إنَّمَا هُوَ بِتَرْكِ جَمِيعِهَا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بَلْ مَفْهُومُ أَحَدِهَا الَّذِي هُوَ
قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا مُتَعَيِّنٌ لِلْفِعْلِ مُتَحَتِّمُ الْإِيقَاعِ فَالْمُشْتَرَكُ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ وَلَا تَخْيِيرَ فِيهِ وَالْخُصُوصَاتُ مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ وَلَا وُجُوبَ فِيهَا فَالْوَاجِبُ وَاجِبٌ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ وَالْمُخَيَّرُ فِيهِ مُخَيَّرٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إيجَابِ الْحُكْمِ الثَّانِي الْمُتَعَلِّقِ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الثَّوَابُ عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ فَإِذَا فَعَلَ الْجَمِيعَ أَوْ بَعْضَهُ لَا يُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ إلَّا عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَمَا وَقَعَ مَعَهُ يُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَ النَّدْبِ أَوْ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا يَخْتَارُهُ إنْ اخْتَارَ أَفْضَلَهَا حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ النَّدْبِ عَلَى ذَلِكَ الْخُصُوصِ .
وَإِنْ اخْتَارَ أَدْنَاهَا إنْ كَانَ بَيْنَهَا تَفَاوُتٌ أَوْ إحْدَاهَا وَلَيْسَ بَيْنَهَا تَفَاوُتٌ فَلَا ثَوَابَ فِي الْخُصُوصِ أَمَّا ثَوَابُ الْوُجُوبِ فَلَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمُشْتَرَكِ خَاصَّةً فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ وَمُتَعَلِّقَ ثَوَابِهِ يَجِبُ أَنْ يَتَّحِدَا أَمَّا إنَّهُ يَجِبُ شَيْءٌ وَيُفْعَلُ وَيُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا الْحُكْمُ الثَّالِثُ الْعِقَابُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا فَإِذَا تَرَكَهُ فَقَدْ تَرَكَ الْجَمِيعَ وَتَرْكُهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِتَرْكِ الْجَمِيعِ فَإِنَّهُ إذَا تَرَكَ الْبَعْضَ وَفَعَلَ الْبَعْضَ فَقَدْ فَعَلَ الْمُشْتَرَكَ وَهُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي ضِمْنِ الْمُعَيَّنِ فَيَسْتَحِقُّ حِينَئِذٍ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ إذَا تَرَكَهُ تَرَكَ الْجَمِيعَ ؛ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقَ الْعِقَابِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ وَمُتَعَلِّقُ الثَّوَابِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ وَلَا وَجْهَ لِمَنْ قَالَ إنَّهُ إذَا فَعَلَ الْجَمِيعَ أُثِيبَ ثَوَابَ الْوَاجِبِ عَلَى أَكْثَرِهَا ثَوَابًا وَإِذَا تَرَكَ الْجَمِيعَ عُوقِبَ عَلَى تَرْكِ أَدْوَنِهَا عِقَابًا فَإِنَّ أَكْثَرَهَا ثَوَابًا لَوْ أُثِيبَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ لَكَانَ هُوَ الْوَاجِبَ وَلَتَعَيَّنَ الْوَاجِبُ
وَلَمْ يَكُنْ الْوَاجِبُ أَحَدَهَا لَا بِعَيْنِهِ فَكَانَ يُبْطِلُ مَعْنَى التَّخْيِيرِ وَالتَّقْدِيرُ ثُبُوتُهُ .
وَأَمَّا أَدْوَنُهَا عِقَابًا فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِنَا إنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ ؛ لِأَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ الْمُشْتَرَكِ وَلَكِنْ تَشْخِيصُهُ فِي خَصْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَهُ فَيُقَالُ هَذَا أَقَلُّهَا عِقَابًا لَهُ وَهِيَ مُتَعَلِّقُ الْعِقَابِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ يَقْتَضِي أَنَّهَا هِيَ بِعَيْنِهَا مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ فَيَبْطُلُ مَعْنَى التَّخْيِيرِ وَالتَّقْدِيرُ ثُبُوتُهُ هَذَا خَلْفٌ بَلْ التَّصْرِيحُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِي ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ الْحُكْمُ الرَّابِعُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا تَبْرَأُ إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا فَإِذَا فَعَلَ الْجَمِيعَ أَوْ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْهَا إنَّمَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ سَبَبُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ الْوَاجِبِ إذَا وَقَعَ بِعَيْنِهِ وَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ مِنْ الْوَاجِبِ بِشَيْءٍ غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ وَلِذَلِكَ نَقُولُ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ إنَّمَا بَرَأَتْ ذِمَّتُهُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ صَلَاتِهِ هَذِهِ وَجَمِيعِ صَلَوَاتِ النَّاسِ وَهُوَ مَفْهُومُ الظُّهْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ظُهْرٌ أَمَّا خُصُوصُ هَذَا الظُّهْرِ وَهُوَ كَوْنُهُ وَاقِعًا فِي الْبُقْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَعَلَى الْهَيْئَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوُجُوبِ وَكَذَلِكَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إنَّمَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ بِمَا فِي صَوْمِهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ صَوْمِهِ هَذَا وَبَيْنَ صَوْمِ عَامَّةِ النَّاسِ وَهُوَ مَفْهُومُ شَهْرِ رَمَضَانَ .
أَمَّا خُصُوصُ هَذَا الشَّهْرِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْبَرَاءَةِ كَمَا أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْوُجُوبِ فَكَوْنُهُ صَامَهُ الْمُكَلَّفُ فِي الْبَلَدِ الْمُعَيَّنِ أَوْ وَهُوَ يَأْكُلُ الْغِذَاءَ الْمُعَيَّنَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ خُصُوصَاتٍ سَاقِطٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ فِي الْبَرَاءَةِ
وَالْوُجُوبِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ هَذَا الْبَابِ إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ .
الْحُكْمُ الْخَامِسُ : النِّيَّةُ فَلَا يَنْوِي الْمُكَلَّفُ إيقَاعَهُ بِنِيَّةِ الْوُجُوبِ وَأَدَاءِ الْفَرْضِ إلَّا الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ فَهُوَ الْمَنْوِيُّ فَقَطْ دُونَ الْخُصُوصَاتِ فَإِذَا أَعْتَقَ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ لَا يَنْوِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ وَلَا فِعْلَ الْوَاجِبِ بِالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِتْقٌ بَلْ لِكَوْنِ الْعِتْقِ أَحَدَ الْخِصَالِ فَقَطْ ، وَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ لَا يَنْوِي فِعْلَ الْوَاجِبِ إلَّا بِمَا فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْخِصَالِ دُونَ الْخُصُوصِيَّاتِ وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ وَاجِبًا مُطْلَقًا فِي ضِمْنِ مُعَيَّنٍ إنَّمَا يَنْوِي ذَلِكَ الْمُطْلَقَ الَّذِي هُوَ فِي ضِمْنِ الْمُعَيَّنِ فَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ مَثَلًا يَنْوِي مَفْهُومَ صَلَاةِ الظُّهْرِ الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ صَلَاتِهِ وَصَلَاةِ غَيْرِهِ فِيهِ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ دُونَ الْخُصُوصَاتِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِهِ جَمِيعُ الشُّكُوكِ وَالْأَسْئِلَةُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
فَإِنْ قُلْتَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ كُلِّيٌّ وَالْكُلِّيُّ لَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ إنَّمَا يَقَعُ الْكُلِّيُّ فِي الذِّهْنِ دُونَ الْخَارِجِ وَجَمِيعُ مَا يَقَعُ فِي الْخَارِجِ إنَّمَا هُوَ جُزْئِيٌّ أَمَّا الْكُلِّيُّ فَلَا يُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَمَا لَا يَقَعُ فِي الْخَارِجِ لَا يَجِبُ فِعْلُهُ فِي الْخَارِجِ وَإِلَّا لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاق وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ بَطَلَ كَوْنُهُ مُتَعَلِّقَ الثَّوَابِ أَوْ الْعِقَابِ أَوْ الْبَرَاءَةِ أَوْ النِّيَّةِ قُلْتُ الْمُشْتَرَكَاتُ وَالْكُلِّيَّاتُ لَا تَقَعُ فِي الْأَعْيَانِ مُجَرَّدَةً عَنْ الْمُشَخَّصَاتِ وَالْمُعَيَّنَاتِ بَلْ ذَلِكَ إنَّمَا يُوجَدُ فِي الْأَذْهَانِ .
وَأَمَّا
وُقُوعُهَا فِي ضِمْنِ الْمُعَيَّنَاتِ فَحَقٌّ فَمَنْ أَعْتَقَ الرَّقَبَةَ الْمُعَيَّنَةَ فَقَدْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُطْلَقَةً وَمَنْ أَخْرَجَ الشَّاةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي الزَّكَاةِ فَقَدْ أَخْرَجَ شَاةً مُطْلَقَةً فِي ضِمْنِ تِلْكَ الْمُعَيَّنَةِ وَيَدُلُّ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ عَلَى وُجُودِ الْمُطْلَقَاتِ فِي الْخَارِجِ فِي ضِمْنِ الْمُعَيَّنَاتِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ مَفْهُومَ الْإِنْسَانِ بِالضَّرُورَةِ فِي الْخَارِجِ فَهُوَ فِي الْخَارِجِ إمَّا وَحْدَهُ فَقَدْ وُجِدَ مُطْلَقُ الْإِنْسَانِ فِي الْخَارِجِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ مَعَ قَيْدٍ وَمَتَى وُجِدَ مَعَ قَيْدٍ فَقَدْ وُجِدَ ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مَعَ غَيْرِهِ مَوْجُودٌ بِالضَّرُورَةِ فَمُطْلَقُ الْإِنْسَانِ فِي الْخَارِجِ بِالضَّرُورَةِ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ الَّتِي نَجْزِمُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهَا وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا خَلَقَ الْأَجْنَاسَ مِنْ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فَقَدْ خَالَفَ الضَّرُورَةَ وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ زَيْدٌ إنْسَانٌ فِي الْخَارِجِ بِالضَّرُورَةِ وَنَجِدُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ وَبَيْنَ قَوْلِنَا زَيْدٌ فِي الْخَارِجِ بِالضَّرُورَةِ وَأَنَّ الْأَوَّلَ مُفِيدٌ دُونَ الثَّانِي وَكَذَلِكَ نَقُولُ هَذَا السَّوَادُ الْمُعَيَّنُ سَوَادٌ وَنُدْرِكُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِنَا الْمُعَيَّنُ مُعَيَّنٌ وَيُدْرِكُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ مَفْهُومُ الْجِسْمِ وَمَفْهُومُ الْحَيَوَانِ وَمَفْهُومُ الْإِنْسَانِ وَمَفْهُومُ الْمُمْكِنِ وَمَفْهُومُ الْمَخْلُوقِ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ الْمُشْتَرَكَةِ يَجْزِمُ كُلُّ عَاقِلٍ بِثُبُوتِهَا لَهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَجَحْدُ كَوْنِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْمُشْتَرَكَاتِ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ فِي ضِمْنِ الْمُعَيَّنَاتِ خِلَافُ الضَّرُورَةِ فَهَذَا هُوَ تَلْخِيصُ قَاعِدَةِ الْكُلِّيِّ الْوَاجِبِ وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ .
قَالَ ( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ الْكُلِّيِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْكُلِّيِّ الْوَاجِبِ فِيهِ وَبِهِ وَعَلَيْهِ وَعِنْدَهُ وَمِنْهُ وَعَنْهُ وَمِثْلُهُ وَإِلَيْهِ إلَى آخَرِ قَوْلِهِ فَاذْكُرْ كُلَّ قَاعِدَةٍ عَلَى حِيَالِهَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّيِّ لَا بِالْجُزْئِيِّ إنْ أَرَادَ ظَاهِرَ لَفْظِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ وَكَيْفَ يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ بِالْكُلِّيِّ وَهُوَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ وَالتَّكْلِيفُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّيِّ أَيْ بِإِيقَاعِ مَا فِيهِ الْكُلِّيُّ بِمَعْنَى مَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْكُلِّيِّ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِتَعْيِينِ مَا وَقَعَ بِهِ التَّكْلِيفُ فَذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( اعْلَمْ أَنَّ خِطَابَ الشَّرْعِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِجُزْئِيٍّ كَوُجُوبِ التَّوَجُّهِ إلَى خُصُوصِ الْكَعْبَةِ إلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْمُنْقَسِمُ إلَى عَشَرَةِ أَجْنَاسٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) قُلْتُ قَوْلُهُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْفَصْلِ قَدْ لَا يُعَيَّنُ مُتَعَلَّقُ التَّكْلِيفِ بَلْ يَجْعَلُهُ دَائِرًا بَيْنَ أَفْرَادِ جِنْسٍ يُشْعِرُ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْكُلِّيِّ أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِهِ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلِّيٌّ بَلْ مِنْ حَيْثُ يَكُونُ الْفِعْلُ الْمُوقَعُ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ .
قَالَ ( الْقَاعِدَةُ الْأُولَى الْوَاجِبُ الْكُلِّيُّ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ إلَى قَوْلِهِ وَالصَّادِقُ عَلَى أَشْيَاءَ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا ) قُلْتُ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ تَعَلُّقَ التَّكْلِيفِ بِالْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ التَّكْلِيفَ تَعَلَّقَ بِإِيقَاعِ شَيْءٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ الْكُلِّيُّ لَا بِالْكُلِّيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ كُلِّيٌّ .
قَالَ ( وَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ مُتَعَلِّقُ خَمْسَةِ أَحْكَامٍ إلَى قَوْلِهِ فَالْوَاجِبُ وَاجِبٌ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ وَالْمُخَيَّرُ فِيهِ مُخَيَّرٌ
فِيهِ مِنْ غَيْرِ إيجَابٍ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ غَيْرُ قَوْلِهِ بَلْ مَفْهُومُ أَحَدِهَا الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ عِنْدَهُ هُوَ الْكُلِّيُّ وَاحِدُ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ هُوَ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي هُوَ الْكُلِّيُّ لِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ بَلْ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ وَاحِدٌ مِنْهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْ الْآحَادِ الصَّادِقِ عَلَيْهَا ذَلِكَ الْمُشْتَرَكُ وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا .
قَالَ ( الْحُكْمُ الثَّانِي الْمُتَعَلِّقُ بِهَذَا الْمُشْتَرَكِ الثَّوَابُ عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ فَإِذَا فَعَلَ الْجَمِيعَ أَوْ بَعْضَهُ لَا يُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ إلَّا عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَمَا وَقَعَ مَعَهُ يُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَ النَّدْبِ أَوْ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يُثَابُ إلَّا عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الثَّوَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي وَقَعَ مِنْ الْمُكَلَّفِ وَهَذَا لَمْ يُوقِعْ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ إيقَاعُهُ وَإِنَّمَا أَوْقَعَ مَا كُلِّفَ أَنْ يُوقِعَهُ وَيَصِحُّ مِنْهُ إيقَاعُهُ وَهُوَ فَرْدٌ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُشْتَرَكِ وَتَعَلُّقُ التَّكْلِيفِ بِهِ عَلَى الْإِبْهَامِ وَلَكِنْ الْوُجُودُ عَيَّنَهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْوُجُودُ إلَّا فِي الْمُعَيَّنِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ مَا أَوْقَعَهُ مَعَ ذَلِكَ يُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَ النَّدْبِ أَوْ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ فَإِنَّهُ دَعْوَى لَمْ يَأْتِ عَلَيْهَا بِحُجَّةٍ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ يُثَابُ عَلَى الزَّائِدِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ اسْتِظْهَارًا وَتَأْكِيدًا لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فَإِنْ اتَّفَقَ أَنْ يَفْعَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ الْقَصْدِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُثَابَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْهُ لِذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْهُ لِوَجْهٍ مَشْرُوعٍ وَمَا لَمْ يُفْعَلْ لِوَجْهٍ مَشْرُوعٍ فَلَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَبِحَسَبِ مَا يَخْتَارُهُ إنْ اخْتَارَ أَفْضَلَهَا حَصَلَ لَهُ
ثَوَابُ النَّدْبِ عَلَى ذَلِكَ الْخُصُوصِ وَإِنْ اخْتَارَ أَدْنَاهَا إنْ كَانَ بَيْنَهَا تَفَاوُتٌ أَوْ إحْدَاهَا وَلَيْسَ بَيْنَهَا تَفَاوُتٌ فَلَا ثَوَابَ فِي الْخُصُوصِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ إنَّمَا يُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ لَا ثَوَابَ النَّدْبِ بَعْدَ اخْتِيَارِ أَفْضَلِهَا أَوْ أَدْنَاهَا وَلَكِنْ يَكُونُ ثَوَابُ أَفْضَلِهَا ثَوَابَ وَاجِبٍ أَفْضَلَ وَثَوَابُ أَدْنَاهَا ثَوَابَ وَاجِبٍ أَدْوَنَ وَلَا وَجْهَ لِدُخُولِ النَّدْبِ هُنَا وَقَوْلُهُ فَلَا ثَوَابَ فِي الْخُصُوصِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الثَّوَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَا أَوْقَعَ وَلَمْ يُوقِعْ إلَّا الْخُصُوصَ .
قَالَ ( أَمَّا ثَوَابُ الْوُجُوبِ فَلَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمُشْتَرَكِ خَاصَّةً فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ وَمُتَعَلِّقَ ثَوَابِهِ يَجِبُ أَنْ يَتَّحِدَا أَمَّا أَنَّهُ يَجِبُ شَيْءٌ وَيَفْعَلُ وَيُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ ثَوَابَ الْوُجُوبِ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمُشْتَرَكِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ وَمَا قَالَهُ مِنْ لُزُومِ تَوَارُدِ الْوُجُوبِ وَثَوَابِهِ عَلَى شَيْءٍ مُتَّحِدٍ صَحِيحٌ لَكِنْ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي أَوْقَعَهُ وَلَيْسَ هُوَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ وَلَا تَعَلُّقَ الْوُجُوبِ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ بِفَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ وَالْإِيقَاعُ إفَادَةُ التَّعْيِينِ .
قَالَ ( الْحُكْمُ الثَّالِثُ الْعِقَابُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا ) قُلْتُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ لَيْسَ مَفْهُومَ أَحَدِهَا .
قَالَ ( فَإِذَا تَرَكَهُ فَقَدْ تَرَكَ الْجَمِيعَ وَتَرْكُهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِتَرْكِ الْجَمِيعِ فَإِنَّهُ إذَا تَرَكَ الْبَعْضَ وَفَعَلَ الْبَعْضَ فَقَدْ فَعَلَ الْمُشْتَرَكَ وَهُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي ضِمْنِ الْمُعَيَّنِ فَيَسْتَحِقُّ حِينَئِذٍ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ إذَا تَرَكَهُ بِتَرْكِ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ
مُتَعَلِّقَ الْعِقَابِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ وَمُتَعَلِّقُ الثَّوَابِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِتَرْكِ الْجَمِيعِ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ إذَا فَعَلَ الْبَعْضَ فَقَدْ فَعَلَ الْمُشْتَرَكَ إنَّمَا يَعْنِي فِعْلَ مَا فِيهِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ لَا الْكُلِّيُّ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ مَفْهُومُ أَحَدِهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ وَأَنَّهُ إنْ كَانَ يَعْنِي مَا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ أَوْ يَحْوِيهِ الْمُشْتَرَكُ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَلَا وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ حِينَئِذٍ عَلَى تَرْكِهِ إذَا تَرَكَهُ بِتَرْكِ الْجَمِيعِ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقَ الْعِقَابِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ وَمُتَعَلِّقُ الثَّوَابِ عَلَى تَقْدِيرِ الْفِعْلِ لَيْسَ كَمَا .
قَالَ فَإِنَّ مُتَعَلِّقَ الثَّوَابِ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ فِعْلُ إحْدَى الْخِصَالِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا وَمُتَعَلِّقُ الْعِقَابِ تَرْكُ جَمِيعِهَا فَلَيْسَ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ هُوَ بِعَيْنِهِ مُتَعَلِّقَ الثَّوَابِ وَمُتَعَلِّقَ الْعِقَابِ مَعًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ هُوَ مُتَعَلِّقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَلِذَلِكَ وَجْهٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ وَلَا وَجْهَ لِمَنْ قَالَ إنَّهُ إذَا فَعَلَ الْجَمِيعَ أُثِيبَ ثَوَابَ الْوَاجِبِ عَلَى أَكْثَرِهَا ثَوَابًا وَإِذَا تَرَكَ الْجَمِيعَ عُوقِبَ عَلَى تَرْكِ أَدْوَنِهَا عِقَابًا ) قُلْتُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بَلْ لِقَوْلِ قَائِلِ ذَلِكَ وَجْهٌ ثَبَتَ تَقْدِيرُهُ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ سَعَةِ بَابِ الثَّوَابِ بِدَلِيلِ تَضْعِيفِ الْحَسَنَاتِ وَضِيقِ الْعِقَابِ بِدَلِيلِ عَدَمِ تَضْعِيفِ السَّيِّئَاتِ فَالثَّوَابُ عَنْ الْأَكْثَرِ ثَوَابًا وَالْعِقَابُ عَلَى الْأَدْوَنِ عِقَابًا مُنَاسِبٌ لِتِلْكَ الْقَاعِدَةِ .
قَالَ ( فَإِنَّ أَكْثَرَهَا ثَوَابًا لَوْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ لَكَانَ هُوَ الْوَاجِبَ وَلَتَعَيَّنَ الْوَاجِبُ وَلَمْ يَكُنْ الْوَاجِبُ أَحَدَهَا لَا بِعَيْنِهِ فَكَانَ يُبْطِلُ مَعْنَى التَّخْيِيرِ
وَالتَّقْدِيرُ ثُبُوتُهُ ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَلَتَعَيَّنَ الْوَاجِبُ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ فَذَلِكَ مَمْنُوعٌ وَكَيْفَ يَتَعَيَّنُ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ وَقَدْ فُرِضَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ هَذَا مَا لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ وَإِنْ أَرَادَ وَلَتَعَيَّنَ الْوَاجِبُ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ فَذَلِكَ مُسَلَّمٌ وَلَا بُدَّ مِنْهُ فَإِنَّ الْوُجُودَ يَسْتَلْزِمُ التَّعْيِينَ بِخِلَافِ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُوبَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ وَالْوُجُودُ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ أَمْرَانِ حَقِيقَانِ لَا يَتَرَتَّبَانِ إلَّا عَلَى الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ فَهُمَا يَسْتَلْزِمَانِ مَا يَتَرَتَّبَانِ عَلَيْهِ وَتَعْيِينَهُ وَإِنَّمَا أَوْقَعَ شِهَابُ الدِّينِ فِي هَذَا الْإِشْكَالِ ذَهَابُ وَهْمِهِ إلَى أَنَّ التَّعْيِينَ فِي الْوُجُودِ يَسْتَلْزِمُ التَّعْيِينَ فِي الْوُجُوبِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنْته آنِفًا .
قَالَ ( وَأَمَّا أَدْوَنُهَا عِقَابًا فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِنَا إنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ ؛ لِأَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ الْمُشْتَرَكِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى أَدْوَنِهَا عِقَابًا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ إنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ ؛ لِأَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ الَّذِي هُوَ الْكُلِّيُّ لَا يَلْحَقُهُ وَصْفُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ وَلَا مَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ الْأَوْصَافِ .
قَالَ ( وَلَكِنْ تَشْخِيصُهُ فِي خَصْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَهُ فَيُقَالُ هَذِهِ أَقَلُّهَا عِقَابًا وَهِيَ مُتَعَلِّقُ الْعِقَابِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ يَقْتَضِي أَنَّهَا هِيَ بِعَيْنِهَا مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ فَيَبْطُلُ مَعْنَى التَّخْيِيرِ وَالتَّقْدِيرُ ثُبُوتُهُ هَذَا خُلْفٌ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ تَشْخِيصَهُ خَصْلَةً يُقَالُ إنَّهَا أَقَلُّهَا عِقَابًا يَقْتَضِي أَنَّهَا بِعَيْنِهَا مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ لَا يَقْتَضِي تَشْخِيصَهَا ذَلِكَ وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ .
قَالَ ( بَلْ التَّصْرِيحُ بِالْقَدْرِ
الْمُشْتَرَكِ فِي ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ ) قُلْتُ لَيْسَ مَا صَوَّبَهُ بِصَوَابٍ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ قَالَ ( الْحُكْمُ الرَّابِعُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا تَبْرَأُ إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ أَحَدِهَا ) قُلْتُ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ لَيْسَ مَفْهُومَ أَحَدِهَا مِرَارًا عَدِيدَةً .
قَالَ ( فَإِذَا فَعَلَ الْجَمِيعَ أَوْ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْهَا فَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ ) قُلْتُ لَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيقَاعُهُ وَلَا دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَإِنَّمَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِمَا أَوْقَعَهُ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ أَيْ قِسْطٌ مِنْهُ عَلَى مَا قَرَّرَهُ أَهْلُ هَذَا الْعِلْمِ .
قَالَ ( لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ سَبَبُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْوَاجِبِ إذَا وَقَعَ بِعَيْنِهِ وَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ مِنْ الْوَاجِبِ بِشَيْءٍ غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إذَا وَقَعَ بِعَيْنِهِ إذَا وَقَعَ وَتَعَيَّنَ بِالْوُقُوعِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إذَا وَقَعَ بِعَيْنِهِ إذَا وَقَعَ عَلَى حَسَبِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ فَذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْوُجُوبِ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ وَلَيْسَ تَعَلُّقُ الْوُجُودِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بَلْ عَلَى التَّعْيِينِ .
قَالَ ( وَلِذَلِكَ تَقُولُ فِيمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ إنَّمَا بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ صَلَاتِهِ هَذِهِ وَجَمِيعِ صَلَوَاتِ النَّاسِ وَهُوَ مَفْهُومُ الظُّهْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ظُهْرٌ ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ ظَاهِرَ لَفْظِهِ وَهُوَ أَنَّ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ مُصَلِّي الظُّهْرِ إنَّمَا تَقَعُ بِصَلَاتِهِ وَصَلَاةِ غَيْرِهِ فَذَلِكَ وَاضِحُ الْبُطْلَانِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَا تَبْرَأَ ذِمَّةُ زَيْدٍ حَتَّى يُصَلِّيَ عَمْرٌو وَغَيْرُهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ مُصَلِّي الظُّهْرِ إنَّمَا تَقَعُ بِالْكُلِّيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ
كُلِّيٌّ فَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْمُصَلِّي إنَّمَا تَقَعُ بِصَلَاتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ خُصُوصِهَا بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْمُشْتَرَكِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَلَكِنْ هَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ مِنْ لَفْظِهِ وَمَسَاقُ كَلَامِهِ .
قَالَ ( أَمَّا خُصُوصُ هَذَا الظُّهْرِ وَهُوَ كَوْنُهُ وَاقِعًا فِي الْبُقْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَعَلَى الْهَيْئَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوُجُوبِ ) قُلْتُ كَوْنُ الصَّلَاةِ وَاقِعَةً فِي بُقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَعَلَى هَيْئَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْوُجُوبِ أَيْ لَمْ تُشْتَرَطْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ وَلَا تِلْكَ الْهَيْئَةُ فِي الْوُجُوبِ فَلَمْ تَقَعْ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ إلَّا بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الْمُقَيَّدَةِ بِتِلْكَ الْقُيُودِ وَذَلِكَ لِتَعْيِينِ الْوُجُودِ لَا لِتَعْيِينِ الْوُجُوبِ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إنَّمَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ بِمَا فِي صَوْمِهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ صَوْمِهِ هَذَا وَبَيْنَ صَوْمِ عَامَّةِ النَّاسِ وَهُوَ مَفْهُومُ شَهْرِ رَمَضَانَ أَمَّا خُصُوصُ هَذَا الشَّهْرِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْبَرَاءَةِ كَمَا أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْوُجُوبِ ) قُلْتُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ بِمَا فِي صَوْمِهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ كَانَ كَلَامُهُ كَافِيًا صَحِيحًا لَكِنَّهُ زَادَ مَا أَفْسَدَهُ بِهِ وَهُوَ بَاقِي كَلَامُهُ وَقَوْلُهُ أَمَّا خُصُوصُ هَذَا الشَّهْرِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْبَرَاءَةِ كَمَا أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْوُجُوبِ مِنْ أَشَدِّ الْكَلَامِ فَسَادًا وَأَوْضَحِهِ بُطْلَانًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَنْهُ أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ الْمُعَيَّنَ مِنْ السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِصَوْمِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَطْعًا .
قَالَ ( فَكَوْنُهُ صَامَهُ الْمُكَلَّفُ فِي الْبَلَدِ الْمُعَيَّنِ أَوْ وَهُوَ يَأْكُلُ الْغِذَاءَ الْمُعَيَّنَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ خُصُوصَاتٍ سَاقِطٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ فِي الْبَرَاءَةِ وَالْوُجُوبِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ وَكَذَلِكَ
جَمِيعُ هَذَا الْبَابِ إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْخُصُوصَاتِ سَاقِطَةٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ لَمْ تَقَعْ بِالْمُقَيَّدِ بِتِلْكَ الْخُصُوصَاتِ وَكَذَلِكَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ لِكَوْنِ الْوُجُوبِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمُقَيَّدِ بِهَا فَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ لَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنْهَا مُرَتَّبًا عَلَى الْوَاجِبِ الْمَفْعُولِ أَوْ الْمَتْرُوكِ مَشْرُوطًا بِتِلْكَ الْخُصُوصَاتِ بَلْ مُرَتَّبٌ عَلَى مَا عَرَضَ لَهُ مِنْ جِهَةِ ضَرُورَةِ الْوُجُودِ مِنْ تِلْكَ الْخُصُوصَاتِ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ اشْتِرَاطُهَا فَذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( الْحُكْمُ الْخَامِسُ النِّيَّةُ فَلَا يَنْوِي الْمُكَلَّفُ إيقَاعَهُ بِنِيَّةِ الْوُجُوبِ وَأَدَاءِ الْفَرْضِ إلَّا الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ فَهُوَ الْمَنْوِيُّ فَقَطْ دُونَ الْخُصُوصَاتِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ تَعَلُّقِ النِّيَّةِ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِالْخُصُوصِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي يَخْتَارُ إيقَاعَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُشْتَرَكِ أَوْ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمُشْتَرَكِ لَا بِخُصُوصِهِ .
قَالَ ( فَإِذَا أَعْتَقَ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ لَا يَنْوِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ وَلَا فِعْلَ الْوَاجِبِ بِالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِتْقٌ بَلْ لِكَوْنِ الْعِتْقِ أَحَدَ الْخِصَالِ فَقَطْ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ لَا يَنْوِي فَهَلْ الْوَاجِبُ إلَّا بِمَا فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْخِصَالِ دُونَ الْخُصُوصَاتِ ) قُلْتُ وَمَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ أَيْضًا غَيْرُ قَوْلِهِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْخِصَالِ فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ لَيْسَ أَحَدَ الْخِصَالِ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ وَاجِبًا مُطْلَقًا فِي ضِمْنِ مُعَيَّنٍ إنَّمَا يَنْوِي ذَلِكَ الْمُطْلَقَ الَّذِي هُوَ فِي ضِمْنِ الْمُعَيَّنِ ) قُلْتُ هَذَا هُوَ سَبَبُ ارْتِبَاكِهِ وَاخْتِلَالِ أَقْوَالِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَشَبَهِهَا وَهُوَ
اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْمُطْلَقَ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ وَذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ هُوَ الْحَقِيقَةُ الْكُلِّيَّةُ وَالْمُطْلَقُ هُوَ الْوَاحِدُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ مِمَّا فِيهِ الْحَقِيقَةُ قَالَ ( فَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ مَثَلًا يَنْوِي مَفْهُومَ صَلَاةِ الظُّهْرِ الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ صَلَاتِهِ وَصَلَاةِ غَيْرِهِ فَبِهِ تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ وَهُوَ الَّذِي تَعَيَّنَ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ إلَى آخَرِ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ ظَاهِرَ لَفْظِهِ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ إيقَاعَ الْمُشْتَرَكِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُشْتَرَكٌ فَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْوِيَ إيقَاعَ الْمُعَيَّنِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُشْتَرَكِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( فَإِنْ قُلْتَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ كُلِّيٌّ وَالْكُلِّيُّ لَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ إلَى قَوْلِهِ وَأَمَّا وُقُوعُهَا فِي ضِمْنِ الْمُعَيَّنَاتِ فَحَقٌّ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ وُقُوعَهُ ضِمْنَ الْمُعَيَّنَاتِ حَقٌّ وَإِنْ أَرَادَ وُقُوعَهَا كُلِّيَّاتٍ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنْ أَرَادَ وُقُوعَ مَا فِيهِ قِسْطٌ مِنْ الْكُلِّيِّ أَوَمَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْكُلِّيِّ فَذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( فَمَنْ أَعْتَقَ الرَّقَبَةَ الْمُعَيَّنَةَ فَقَدْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُطْلَقَةً وَمَنْ أَخْرَجَ الشَّاةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي الزَّكَاةِ فَقَدْ أَخْرَجَ شَاةً مُطْلَقَةً فَمَنْ ضَمِنَ تِلْكَ الْمُعَيَّنَةَ ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ أَعْتَقَ الرَّقَبَةَ الْمُطْلَقَةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُطْلَقَةً فَذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْإِطْلَاقَ هُوَ الْإِبْهَامُ وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِلتَّعْيِينِ فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ النَّقِيضَانِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ أَعْتَقَ الرَّقَبَةَ الْمُعَيَّنَةَ فَحَصَلَ بِهَا مُقْتَضَى التَّكْلِيفِ بِالْمُطْلَقَةِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( وَيَدُلُّ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ عَلَى وُجُودِ الْمُطْلَقَاتِ فِي الْخَارِجِ فِي ضِمْنِ الْمُعَيَّنَاتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ مَفْهُومَ الْإِنْسَانِ بِالضَّرُورَةِ فِي الْخَارِجِ ) قُلْتُ قَوْلُهُ هَذَا جَارٍ عَلَى فَاسِدِ اعْتِقَادِهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يَرُدُّهُ
وَهُوَ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ هِيَ الْمُطْلَقَاتُ وَقَدْ وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا وَقَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ مَفْهُومَ الْإِنْسَانِ بِالضَّرُورَةِ فِي الْخَارِجِ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ جُمْهُورِ مُثْبِتِي الْكُلِّيِّ وَصَحِيحٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْقَائِلِينَ بِالْكُلِّيِّ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَقَدْ نَوَّعَ بَعْضُهُمْ الْكُلِّيَّ إلَى مَنْطِقِيٍّ وَعَقْلِيٍّ وَطَبِيعِيٍّ وَجَزَمَ بِأَنَّ الْمَنْطِقِيَّ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَأَنَّ الطَّبِيعِيَّ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَأَنَّ الْعَقْلِيَّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
قَالَ ( فَهُوَ فِي الْخَارِجِ إمَّا وَحْدَهُ فَقَدْ وُجِدَ مُطْلَقُ الْإِنْسَانِ فِي الْخَارِجِ وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ مَعَ قَيْدٍ وَمَتَى وُجِدَ مَعَ قَيْدٍ فَقَدْ وُجِدَ ) قُلْتُ لَا كَلَامَ أَشَدَّ فَسَادًا مِنْ هَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّهُ إنْ حُمِلَ قَوْلُهُ بِأَنَّ الْمُطْلَقَ مَوْجُودٌ فِي الْمُقَيَّدِ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ الْمُطْلَقَ حَقِيقَةً وَالْمُقَيَّدَ حَقِيقَةً فَذَلِكَ بَيِّنُ الْبُطْلَانِ وَالْفَسَادِ فَإِنَّهُ كَيْفَ يَجْتَمِعَانِ مَعًا فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَهُمَا نَقِيضَانِ وَإِنْ حُمِلَ قَوْلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْمُطْلَقِ الْكُلِّيَّ فَذَلِكَ بَاطِلٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ كَيْفَ يَجْتَمِعُ الْكُلِّيُّ بِمَا هُوَ كُلِّيٌّ وَالْجُزْئِيُّ بِمَا هُوَ جُزْئِيٌّ مَعًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَهُمَا نَقِيضَانِ أَيْضًا هَذَا كُلُّهُ كَلَامُ مَنْ لَمْ يُحَصِّلْ هَذِهِ الْعُلُومَ وَلَا أَشْرَفَ عَلَى هَذِهِ الْمَبَاحِثِ بِوَجْهٍ أَصْلًا .
قَالَ ( لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مَعَ غَيْرِهِ مَوْجُودٌ بِالضَّرُورَةِ ) قُلْتُ ذَلِكَ صَحِيحٌ لَكِنْ وُجُودُ الْمُطْلَقِ بِمَا هُوَ مُطْلَقٌ مَعَ الْمُقَيَّدِ وَوُجُودُ الْكُلِّيِّ بِمَا هُوَ كُلِّيٌّ مَعَ الْجُزْئِيِّ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ مُمْتَنِعٌ فَدَلِيلُهُ لَا يَتَنَاوَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ .
قَالَ ( فَمُطْلَقُ الْإِنْسَانِ فِي الْخَارِجِ بِالضَّرُورَةِ ) قُلْتُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ دَلِيلَهُ لَمْ يُنْتِجْ مَقْصُودَهُ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي
جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ الَّتِي تَجْزِمُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهَا وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا خَلَقَ الْأَجْنَاسَ مِنْ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ فَقَدْ خَالَفَ الضَّرُورَةَ ) قُلْتُ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فَمَنْ أَنْكَرَ الْكُلِّيَّاتِ أَنْكَرَ تِلْكَ الضَّرُورَةَ وَكَذَلِكَ مَنْ أَثْبَتَهَا فِي الْخَارِجِ أَيْضًا قَالَ ( وَكَذَلِكَ يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إنَّ زَيْدًا إنْسَانٌ فِي الْخَارِجِ بِالضَّرُورَةِ وَنَجِدُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ وَبَيْنَ قَوْلِنَا زَيْدٌ فِي الْخَارِجِ بِالضَّرُورَةِ وَأَنَّ الْأَوَّلَ مُفِيدٌ دُونَ الثَّانِي ) قُلْتُ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ هُمَا مُفِيدَانِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَفَادَ مَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ وَلَا صِدْقٍ وَالثَّانِي أَفَادَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ وَصِدْقٌ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ نَقُولُ هَذَا السَّوَادُ الْمُعَيَّنُ سَوَادٌ وَنُدْرِكُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِنَا الْمُعَيَّنُ مُعَيَّنٌ ) قُلْتُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي عَدَمِ الْفَائِدَةِ .
قَالَ ( وَيُدْرِكُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ مَفْهُومُ الْجِسْمِ وَمَفْهُومُ الْحَيَوَانِ وَمَفْهُومُ الْإِنْسَانِ وَمَفْهُومُ الْمُمْكِنِ وَمَفْهُومُ الْمَخْلُوقِ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ الْمُشْتَرَكَةِ يَجْزِمُ كُلُّ عَاقِلٍ بِثُبُوتِهَا لَهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ ) قُلْتُ لَمْ يَجْزِمْ كُلُّ عَاقِلٍ بِذَلِكَ بَلْ مِنْ الْعُقَلَاءِ مَنْ جَزَمَ بِنَفْيِهَا جُمْلَةً عَنْ الْوُجُودَيْنِ مَعًا وَزَعَمَ أَنَّ الشَّرِكَةَ لَمْ تَقَعْ إلَّا فِي مُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ لَا فِي الْمَعَانِي وَمِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ بِإِثْبَاتِهَا فِي الْأَذْهَانِ وَهُمْ جُمْهُورُ الْمُثْبِتِينَ وَمُحَقِّقُوهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا فِي الْأَعْيَانِ وَقَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ إنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا الْعَاقِلَ الَّذِي جَزَمَ بِثُبُوتِ هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ لَهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا فَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ خِلَافُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ فَرَضَ ثَابِتًا وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ كُلِّ جُزْئِيٍّ فِي الْإِمْكَانِ لِكُلِّ كُلِّيٍّ وَيَكُونُ ثُبُوتُهُ فِي
الْخَارِجِ أَيْ لَا يَلْزَمُ حُصُولُ جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ فِي الْوُجُودِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( فَجَحْدُ كَوْنِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْمُشْتَرَكَاتِ مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ فِي ضِمْنِ الْمُعَيَّنَاتِ خِلَافُ الضَّرُورَةِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ) قُلْتُ قَدْ تَبَيَّنَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخِلَافِ وَتَبَيَّنَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِإِثْبَاتِ الْكُلِّيَّاتِ فِي الْأَذْهَانِ أَنَّ وُجُودَهَا فِي الْجُزْئِيَّاتِ لَيْسَ عَلَى أَنَّهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنْ كَوْنِهَا كُلِّيَّةً بَلْ عَلَى أَنَّ فِي الْجُزْئِيَّاتِ قِسْطًا مِنْ الْكُلِّيَّاتِ يَخْتَصُّ كُلُّ جُزْئِيٍّ بِقِسْطٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ جُزْئِيٌّ سِوَاهُ .
( الْفَرْقُ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْوَاجِبِ الْكُلِّيِّ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْكُلِّيِّ الْوَاجِبِ فِيهِ وَبِهِ وَعَلَيْهِ وَعِنْدَهُ وَمِنْهُ وَعَنْهُ وَمِثْلُهُ وَإِلَيْهِ ) اعْلَمْ أَنَّ مُتَعَلِّقَ خِطَابِ الشَّرْعِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : جُزْئِيٌّ مُعَيَّنٌ كَوُجُوبِ التَّوَجُّهِ إلَى خُصُوصِ الْكَعْبَةِ الْحَرَامِ وَالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ الْمُعَيَّنِ وَالتَّصْدِيقِ بِالرِّسَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ كَالْقُرْآنِ .
وَثَانِيهِمَا : جُزْئِيٌّ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ فَيَتَعَلَّقُ حِينَئِذٍ الْخِطَابُ بِالْكُلِّيِّ لَكِنْ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كُلِّيٌّ ضَرُورَةَ أَنَّ التَّكْلِيفَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَالْكُلِّيُّ لَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْفِعْلَ الْمُوقَعَ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْفَرْقِ وَهُوَ الْمُنْقَسِمُ إلَى عَشَرَةِ أَجْنَاسٍ مُتَبَايِنَةِ الْحَقَائِقِ مُخْتَلِفَةِ الْمِثْلِ وَالْأَحْكَامِ يَذْكُرُ كُلُّ جِنْسٍ مِنْهَا قَاعِدَةً عَلَى حِيَالِهَا لِيَظْهَرَ الْفَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا .
( الْقَاعِدَةُ الْأُولَى ) الْوَاجِبُ الْكُلِّيُّ هُوَ الْوَاجِبُ الْمُخَيَّرُ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا مِنْ حَيْثُ صِدْقُهُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا غَيْرِ مُعَيَّنٍ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ خَمْسَةِ أَحْكَامٍ .
الْحُكْمُ الْأَوَّلُ : الْوُجُوبُ فَلَا وُجُوبَ إلَّا فِي ذَلِكَ الْوَاحِدِ الْمُبْهَمِ مِنْهَا فَمَفْهُومُ أَحَدِهَا مُتَعَيَّنٌ لِلْفِعْلِ مُتَحَتِّمُ الْإِيقَاعِ لَا تَخْيِيرَ فِيهِ وَإِنَّمَا مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ الْخُصُوصِيَّاتُ الَّتِي هِيَ الْعِتْقُ وَالْكِسْوَةُ وَالْإِطْعَامُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِخُصُوصِهِ لَا إيجَابَ فِيهِ نَعَمْ لَمَّا كَانَ وُجُودُ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ الَّذِي هُوَ الْوَاحِدُ الْمُبْهَمُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي مُعَيَّنٍ كَانَ تَعَلُّقُ التَّكْلِيفِ بِهِ لَكِنْ عَلَى الْإِبْهَامِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ
الَّذِي اقْتَضَاهُ تَحَقُّقُ الْوُجُودِ فَلَمْ يَكُنْ التَّعْيِينُ الزَّائِدُ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقَ التَّخْيِيرِ وَاجِبًا فَافْهَمْ .
الْحُكْمُ الثَّانِي : ثَوَابُ الْوَاجِبِ فَلَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ لَكِنْ لَمَّا كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُهُ إلَّا فِي الْمُعَيَّنِ كَانَ ثَوَابُ الْوَاجِبِ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ الْمُعَيَّنِ عَلَى الْإِبْهَامِ لَا عَلَى تَعْيِينِهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ تَحَقُّقُ الْوُجُودِ لِكَوْنِهِ زَائِدًا عَلَى الْإِبْهَامِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ وَثَوَابُهُ .
نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : يُثَابُ عَلَى التَّعْيِينِ الزَّائِدِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُهُ اسْتِظْهَارًا وَتَأْكِيدًا لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَاجِبِ حَتَّى إنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَفْضَلَ الْخِصَالِ أُثِيبَ ثَوَابَ وَاجِبٍ أَفْضَلَ أَوْ أَدْنَاهَا أُثِيبَ ثَوَابَ وَاجِبٍ أَدْوَنَ ، فَإِنْ اتَّفَقَ أَنْ يَفْعَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ الْقَصْدِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُثَابَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْهُ لِذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْهُ لِوَجْهٍ مَشْرُوعٍ فَلَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ فَافْهَمْ .
الْحُكْمُ الثَّالِثُ : الْعِقَابُ عَلَى تَقْدِيرِ تَرْكِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ مُبْهَمٌ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِتَرْكِ الْجَمِيعِ إذْ بِفِعْلِ الْبَعْضِ يَتَحَقَّقُ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ وَثَوَابُهُ الَّذِي هُوَ الْوَاحِدُ الْمُبْهَمُ فِي ضِمْنِ الْمُعَيَّنِ ، فَإِذَا تَرَكَ الْجَمِيعَ عُوقِبَ عَلَى تَرْكِ أَدْوَنِهَا عِقَابًا بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ الْجَمِيعَ فَإِنَّهُ يُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ عَلَى أَكْثَرِهَا ثَوَابًا نَظَرًا لِقَاعِدَةِ سَعَةِ الثَّوَابِ بِدَلِيلِ تَضْعِيفِ الْحَسَنَاتِ وَقَاعِدَةِ ضِيقِ بَابِ الْعِقَابِ بِدَلِيلِ عَدَمِ تَضْعِيفِ السَّيِّئَاتِ فَالثَّوَابُ عَلَى الْأَكْثَرِ ثَوَابًا وَالْعِقَابُ عَلَى الْأَدْوَنِ عِقَابًا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَاعِدَتَيْهِمَا الْمَذْكُورَتَيْنِ فَافْهَمْ .
الْحُكْمُ الرَّابِعُ : بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ الْوَاجِبِ الَّذِي
مُتَعَلِّقُهُ وَاحِدٌ مُبْهَمٌ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ فَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِمَا أَوْقَعَهُ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوقَعُ جَمِيعَ الْخِصَالِ أَوْ شَيْئًا مِنْهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَاحِدَ الْمُبْهَمَ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ مُتَحَقِّقٌ بِهِ لَا مِنْ حَيْثُ تَعَيُّنُهُ ؛ إذْ لَا مَدْخَلَ لِلْمُعَيَّنِ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ الْوَاجِبِ إلَّا مِنْ حَيْثُ إنَّ بِهِ تَعْيِينَ وُجُودِ الْوَاجِبِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ بِهِ تَعْيِينَ الْوُجُوبِ فَافْهَمْ .
الْحُكْمُ الْخَامِسُ النِّيَّةُ فَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يَخْتَارُ إيقَاعَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ بِهِ يَحْصُلُ مُقْتَضَى التَّكْلِيفِ بِالْمُطْلَقِ الَّذِي هُوَ الْوَاحِدُ الْمُبْهَمُ لَا مِنْ حَيْثُ خُصُوصُهُ فَإِذَا أَعْتَقَ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ لَا يَنْوِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ وَلَا فِعْلَ الْوَاجِبِ بِالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِتْقٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعِتْقَ أَحَدُ خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَقَطْ وَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ لَا يَنْوِي بِالْمَجْمُوعِ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ وَلَا فِعْلَ الْوَاجِبِ إلَّا مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي الْمَجْمُوعِ أَحَدَ الْخِصَالِ لَا مِنْ حَيْثُ الْخُصُوصِيَّاتُ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُطْلَقِ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ مُبْهَمٌ مِنْ خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَا نَفْسُ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ كَمَا قِيلَ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْإِطْلَاقُ عِبَارَةً عَنْ الْإِبْهَامِ وَالْإِبْهَامُ لَا يَتَأَتَّى تَحَقُّقُهُ فِي الْخَارِجِ بَلْ إنَّمَا يَتَأَتَّى فِيهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ إطْعَامُ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ أَوْ إعْطَاءُ كِسْوَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَانَ حُصُولُ الْوَاجِبِ وَالثَّوَابِ عَلَيْهِ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْهُ بِنِيَّةِ فِعْلِ ذَلِكَ الْخَاصِّ مِنْ حَيْثُ حُصُولُ مُقْتَضَى التَّكْلِيفِ بِالْمُطْلَقَةِ بِهِ لَا مِنْ حَيْثُ تَحَقُّقُ الْإِطْلَاقِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ كَمَا قِيلَ .
إذْ كَيْفَ يَجْتَمِعُ الْإِبْهَامُ وَالتَّعْيِينُ فِيهِ وَهُمَا نَقِيضَانِ ؟ وَلَيْسَتْ الْمُطْلَقَاتُ هِيَ
الْكُلِّيَّاتِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ الْمَنَاطِقَةَ قَدْ نَوَّعُوا الْكُلِّيَّ إلَى مَنْطِقِيٍّ وَعَقْلِيٍّ وَطَبِيعِيٍّ وَقَالُوا الْمَنْطِقِيُّ هُوَ مَفْهُومُ الْكُلِّيِّ أَعْنِي مَا لَا يَمْنَعُ نَفْسَ تَصَوُّرِهِ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ وَالطَّبِيعِيُّ هُوَ مَعْرُوضُهُ كَمَفْهُومِ الْإِنْسَانِ أَيْ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَالْعَقْلِيُّ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُرَكَّبِ مِنْ هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ وَاتَّفَقَ الْمُتَقَدِّمُونَ وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْمَاهِيَّةَ مَعَ اتِّصَافِهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَاعْتِبَارُ عُرُوضِهَا لَهَا لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ ، قَالَ الشَّيْخُ ابْنُ سِينَا إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُودِهَا فِيهِ بَلْ بَدِيهِيَّةُ الْعَقْلِ حَاكِمَةٌ بِأَنَّ الْكُلِّيَّةَ تُنَافِي الْوُجُودَ الْخَارِجِيَّ ا هـ .
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُوجَدُ الْكُلِّيُّ الطَّبِيعِيُّ خَارِجًا بِوُجُودِ أَشْخَاصِهِ حَيْثُ كَانَ مِنْ غَيْرِ مُمْتَنِعِ الْوُجُودِ فِي الْخَارِجِ كَشَرِيكِ الْبَارِي وَمِنْ غَيْرِ الْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ كَالْعَنْقَاءِ أَوْ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الِانْتِزَاعِيَّةِ وَتَحَقُّقُهُ فِي الْفَرْدِ بِالذِّهْنِ فَقَطْ وَالثَّانِي لِلْمُتَأَخِّرِينَ وَالْأَوَّلُ لِلْمُتَقَدِّمِينَ وَهُوَ الْحَقُّ ضَرُورَةَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ مَثَلًا حَالَ اقْتِرَانِ الْعَوَارِضِ الَّتِي هِيَ خَارِجَةٌ عَنْهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ فَتَكُونُ تِلْكَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ وَذَاتِيَّاتُهَا الَّتِي هِيَ مُتَّحِدَةٌ مَعَهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَا بِشَرْطِ شَيْءٍ لَيْسَتْ مُعَيَّنَةً فِي حَدِّ ذَاتِهَا ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَهَا لَيْسَ عَيْنَهَا وَلَا جُزْأَهَا بَلْ يُمْكِنُ أَنْ نُلَاحِظَهَا بِشَرْطِ لَا شَيْءَ فَتَعْرِضُ لَهَا الْكُلِّيَّةُ وَيَكُونُ كُلِّيًّا طَبِيعِيًّا وَيُمْكِنُ أَنْ تُلَاحِظَهَا بِشَرْطِ شَيْءٍ فَتَعْرِضُ لَهَا الْجُزْئِيَّةُ وَيَكُونُ فَرْدًا وَحِصَّةً فَالْمَاهِيَّةُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْأَعْرَاضِ الْمَخْصُوصَةِ مَوْجُودَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَحْسُوسَةٍ اُنْظُرْ رِسَالَتِي السَّوَانِحِ الْجَازِمَةِ فِي التَّعَارِيفِ اللَّازِمَةِ عَلَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ نَظِيرُ
الْكُلِّيَّةِ فِي كَوْنِ بَدِيهِيَّةِ الْعَقْلِ حَاكِمَةٌ بِمُنَافَاتِهَا لِلْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ فَافْهَمْ .
( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ ) الْوَاجِبُ فِيهِ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ فَإِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الظُّهْرَ مِنْ أَوَّلِ الْقَامَةِ إلَى آخِرِهَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى سَبْعَةِ مَذَاهِبَ وَتَحْرِيرُهَا أَنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ قَائِلٌ بِالْوُجُوبِ الْمُوَسَّعِ وَقَائِلٌ بِجَحْدِهِ وَالْأَوَّلُونَ لَهُمْ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى الْعَزْمِ إذَا تَأَخَّرَ وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ وَلَا يَجِبُ الْعَزْمُ فَهَذَانِ قَوْلَانِ وَالْقَائِلُونَ بِجَحْدِهِ مِنْهُمْ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ مُعْتَمِدًا عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ مَعَ جَوَازِ التَّأْخِيرِ مُتَنَافِيَانِ وَالْأَصْلُ تَرَتُّبُ الْمُسَبَّبِ عَلَى سَبَبِهِ وَالزَّوَالُ سَبَبٌ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ الَّذِي هُوَ مُسَبَّبُهُ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَمَا يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ قَضَاءٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الْأَدَاءِ فَهَذَا مُسْتَنَدُهُ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِذْنَ فِي تَفْوِيتِ الْأَدَاءِ لِفِعْلِ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ خِلَافُ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ نَعَمْ يَجُوزُ الْإِذْنُ فِي تَفْوِيتِ الْأَدَاءِ لِفِعْلِ الْقَضَاءِ لِضَرُورَةِ السَّفَرِ أَوْ الْمَرَضِ كَمَا فِي رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَجُوزُ تَرْكُ أَدَائِهَا لِلْقَضَاءِ لِأَجْلِ الْعُذْرِ أَمَّا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَغَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرِيعَةِ وَأَخْفَقَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ فَهَذَا مُسْتَنَدُ هَذَا الْمَذْهَبِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْقَوْلِ الْمَذْهَبُ الثَّانِي لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَمُسْتَنَدُهُ أَنَّا نَسْتَدِلُّ بِثُبُوتِ خَصِيصَةِ الشَّيْءِ عَلَى ثُبُوتِهِ وَبِعَدَمِ خَصِيصَةِ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِهِ .
وَمِنْ خَصَائِصِ الْوُجُوبِ الْعِقَابُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ وَوَجَدْنَا هَذِهِ الْخِصِّيصَةَ مُنْتَفِيَةً فِي غَيْرِ آخِرِ الْوَقْتِ فَقُلْنَا بِنَفْيِ الْوُجُوبِ فِي غَيْرِ آخِرِ الْوَقْتِ وَوَجَدْنَاهَا آخِرَ الْوَقْتِ فَقُلْنَا بِالْوُجُوبِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَإِنْ وَقَعَ الْفِعْلُ قَبْلَ ذَلِكَ
كَانَ نَفْلًا يَسُدُّ مَسَدَّ الْفَرْضِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ إجْزَاءَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْفِعْلَ مَوْقُوفٌ إذَا عَجَّلَهُ الْمُكَلَّفُ فَإِنْ جَاءَ آخِرُ الْوَقْتِ وَفَاعِلُهُ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ كَانَ فِعْلُهُ هَذَا وَاجِبًا فَمَا أَجْزَأَ عَنْ الْوَاجِبِ إلَّا وَاجِبٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ كَانَ نَفْلًا ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ وَقْتِ الْوُجُوبِ وَسَبَبُ هَذَا الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ أَنَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ يَقُولُ يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَرَأَى مَا وَرَدَ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ مِنْ إجْزَاءِ النَّفْلِ عَنْ الْفَرْضِ فَاخْتَارَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ حَالَةَ الْإِيقَاعِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا وَلَا تَتَعَيَّنُ فِيهِ نِيَّةٌ لِأَحَدِهِمَا خِلَافُ الْمَعْهُودِ فِي الْقَوَاعِدِ .
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ الْمُكَلَّفَ إنْ عَجَّلَ الْفِعْلَ مَنَعَ تَعْجِيلَهُ مِنْ تَعْلِيقِ الْوُجُوبِ بِآخِرِ الْوَقْتِ فَلَا يُجْزِئُ نَفْلٌ عَنْ فَرْضٍ وَلَا يَكُونُ مَوْقُوفًا بَلْ يَنْوِي بِهِ النَّفَلَ وَإِنْ لَمْ يُعَجِّلْهُ كَانَ آخِرُ الْوَقْتِ وَاجِبًا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْوُجُوبِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَلَى الْكَرْخِيِّ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُطِيعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِصَلَاةٍ وَاجِبَةٍ وَلَا أُثِيبُوا ثَوَابَ الْوَاجِبِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا وَذَلِكَ حَظٌّ عَظِيمٌ يَفُوتُ عَلَيْهِمْ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ { مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدٌ أَوْ أَحَدٌ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ فَثَوَابُ الْوَاجِبَاتِ هُوَ أَفْضَلُ الْمَثُوبَاتِ فَالْقَوْلُ بِفَوَاتِهِ عَلَيْهِمْ مَحْذُورٌ كَبِيرٌ .
الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ حَكَاهُ سَيْفُ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ
بِوَقْتِ الْإِيقَاعِ أَيَّ وَقْتٍ كَانَ أَوَّلُهُ أَوْ وَسَطُهُ أَوْ آخِرُهُ فَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ الْإِشْكَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ شَأْنَ الْوُجُوبِ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْفِعْلِ وَيَكُونَ الْفِعْلُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْوُجُوبِ وَتَابِعًا ، أَمَّا كَوْنُ الْوُجُوبِ تَابِعًا لِلْفِعْلِ فَغَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرِيعَةِ وَعِنْدَهُ الْوُجُوبُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَتَحَتُّمُ الْإِيقَاعِ فِيهِ تَابِعٌ لِلْفِعْلِ فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ فَهَذَا هُوَ مُسْتَنَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ لِلْقَوَاعِدِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَوْلَانِ اللَّذَانِ فِي التَّوْسِعَةِ وَالْقَوْلُ فِيهِمَا أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْخَارِجِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَامَةِ الْكَائِنَةِ بَيْنَ طَرَفَيْ الْقَامَةِ كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَالَ صَلِّ إمَّا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ فَالْوَاجِبُ الصَّلَاةُ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمُوَسَّعِ هُوَ أَحَدُ الْخِصَالِ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ مُرَتَّبًا عَلَى الزَّوَالِ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَيَجُوزُ التَّأْخِيرُ لِبَقَاءِ الْمُشْتَرَكِ وَيَبْرَأُ بِالْفِعْلِ أَوَّلَ الْوَقْتِ لِوُجُودِ الْمُشْتَرَكِ فِيهِ وَأَيُّ وَقْتٍ فَعَلَ فِيهِ صَادَفَ الْمُشْتَرَكَ فَلَا يَلْزَمُ تَأْخِيرُ الْمُسَبَّبِ عَنْ سَبَبِهِ وَلَا أَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ أَوَّلِ الْوَقْتِ قَضَاءٌ وَأَوَّلُهُ نَفْلٌ يَنُوبُ مَنَابَ الْفَرْضِ وَلَا يَلْزَمُ مُخَالَفَةُ قَاعِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي لَزِمَتْ الْأَقْوَالَ الْأُوَلَ بَلْ تَجْتَمِعُ أَسْبَابُ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ كُلِّهَا .
وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ غَيْرَ أَنَّ أَرْبَابَ هَذَا الْمَذْهَبِ اخْتَلَفُوا إذَا قُصِدَ التَّأْخِيرُ لِوَسَطِ الْوَقْتِ أَوْ آخِرِهِ هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ بَدَلٍ هُوَ الْعَزْمُ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مَا دَلَّ إلَّا عَلَى الصَّلَاةِ ، أَمَّا هَذَا الْعَزْمُ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَوَجَبَ نَفْيُهُ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ
الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فِي بَقِيَّةِ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْفِعْلِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ يُعَدُّ مُعْرِضًا عَنْ أَمْرِ سَيِّدِهِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَمْرِ حَرَامٌ وَمَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْحَرَامُ وَاجِبٌ فَالْعَزْمُ وَاجِبٌ وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ طَرِيقَةً وُسْطَى وَهِيَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْغَافِلِ عَنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَزْمُ وَبَيْنَ مَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ فَهَذَا إنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْفِعْلِ عَزَمَ عَلَى التَّرْكِ بِالضَّرُورَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ وَهِيَ طَرِيقَةٌ حَسَنَةٌ .
( فَرْعٌ ) مُرَتَّبٌ إذَا قُلْنَا بِالتَّوْسِعَةِ فَهَلْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْفِعْلِ فَقَدْ أَخَّرَ مُخْتَارًا يَأْثَمُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ أَوْ لَا يَأْثَمُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَذِنَ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ فَهُوَ فَعَلَ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ وَفِعْلُ الْمَأْذُونِ فِيهِ لَا إثْمَ فِيهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ فَهَذَا هُوَ قَاعِدَةُ الْوَاجِبِ فِيهِ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ كُلِّيٌّ لَا جُزْئِيٌّ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ .
قَالَ ( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ الْوَاجِبُ فِيهِ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ إلَى آخِرِ مَا قَالَ فِيهِ ) .
قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ حِكَايَةِ الْمَذَاهِبِ وَرَدِّ مَا رَدَّهُ مِنْهَا صَحِيحٌ وَمَا مَالَ إلَى تَحْسِينِهِ مِنْ قَوْلِ الْغَزَالِيِّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إنَّمَا الصَّحِيحُ أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى بَدَلٍ أَصْلًا وَمَا قَالَهُ مِنْ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ إنْ أَرَادَ الْكُلِّيَّ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ وَإِنْ أَرَادَ تَعَلُّقَ الْوُجُوبِ بِفَرْدٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَمَا اخْتَارَهُ وَصَحَّحَهُ وَنَسَبَهُ إلَى الْمَالِكِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُؤَخِّرِ الَّذِي يَمُوتُ قَبْلَ الْفِعْلِ صَحِيحٌ .
( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ ) الْوَاجِبُ فِيهِ هُوَ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ كَإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى الظُّهْرَ مِنْ أَوَّلِ الْقَامَةِ إلَى آخِرِهَا وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَوْلِ بِهِ وَبِجَحْدِهِ وَعَلَى الْأَوَّلِ إذَا قَصَدَ التَّأْخِيرَ لِوَسَطِ الْوَقْتِ أَوْ آخِرِهِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ بَدَلٍ هُوَ الْعَزْمُ لِعَدَمِ دَلِيلٍ عَلَيْهِ ؛ إذْ الدَّلِيلُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الصَّلَاةِ فَوَجَبَ نَفْيُهُ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فِي بَقِيَّةِ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَمَرَهُ سَيِّدُهُ فَلَمْ يَفْعَلْ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْفِعْلِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ يُعَدُّ مُعْرِضًا عَنْ أَمْرِ سَيِّدِهِ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَمْرِ حَرَامٌ وَمَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْحَرَامُ وَاجِبٌ فَالْعَزْمُ وَاجِبٌ قَوْلَانِ ثَالِثُهَا لِلْغَزَالِيِّ وُجُوبُ الْعَزْمِ عَلَى مَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْفِعْلِ عَزَمَ عَلَى التَّرْكِ بِالضَّرُورَةِ بِخِلَافِ الْغَافِلِ عَنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَالصَّحِيحُ أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى بَدَلٍ أَصْلًا وَعَلَى الثَّانِي فَفِي مُتَعَلِّقِ الْوُجُوبِ خَمْسَةُ مَذَاهِبَ : ( الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ ) لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ أَوَّلُ الْوَقْتِ مُسْتَنِدًا إلَى أَنَّ الْوُجُوبَ يُنَافِي جَوَازَ التَّأْخِيرِ وَأَنَّ الزَّوَالَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَالْأَصْلُ تَرَتُّبُ الْمُسَبَّبِ عَلَى سَبَبِهِ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَمَا يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ قَضَاءٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الْأَدَاءِ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِذْنَ فِي تَفْوِيتِ الْأَدَاءِ لِفِعْلِ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ خِلَافُ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا الْمَعْهُودُ فِي قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْإِذْنَ فِي ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِأَجْلِ الْعُذْرِ كَضَرُورَةِ السَّفَرِ أَوْ الْمَرَضِ فِي رَمَضَانَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ .
( الْمَذْهَبُ الثَّانِي ) لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ آخِرُ الْوَقْتِ مُسْتَنِدٌ إلَى أَنَّ ثُبُوتَ خِصِّيصَةِ الشَّيْءِ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِهِ وَعَدَمُ
خِصِّيصَتِهِ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى عَدَمِهِ وَالْعِقَابُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ مِنْ خَصَائِصِ الْوُجُوبِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي غَيْرِ آخِرِ الْوَقْتِ وَثَابِتٌ فِي آخِرِهِ فَيُسْتَدَلُّ بِثُبُوتِهِ آخِرَ الْوَقْتِ عَلَى ثُبُوتِ الْوُجُوبِ آخِرَ الْوَقْتِ وَبِنَفْيِهِ فِي غَيْرِ آخِرِ الْوَقْتِ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ فِي غَيْرِ آخِرِ الْوَقْتِ ، فَإِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ نَفْلًا يَسُدُّ مَسَدَّ الْفَرْضِ وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ إجْرَاءَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَنْ الْوَاجِبِ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ .
( الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ ) لِلْكَرْخِيِّ أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ آخِرُ الْوَقْتِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا عَجَّلَ الْفِعْلَ فَإِنْ جَاءَ آخِرُ الْوَقْتِ وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ كَانَ فِعْلُهُ وَاجِبًا فَمَا أَجْزَأَ عَنْ الْوَاجِبِ إلَّا وَاجِبٌ وَإِنْ جَاءَ آخِرُ الْوَقْتِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِهَا كَانَ نَفْلًا ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ وَقْتِ الْوُجُوبِ وَسَبَبُ اخْتِيَارِهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الْخُرُوجُ مِنْ عُهْدَةِ مَا أَوْرَدَ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِآخِرِ الْوَقْتِ مِنْ إجْزَاءِ النَّفْلِ عَنْ الْفَرْضِ كَمَا عَلِمْتَ مَعَ أَنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ حَالَةَ الْإِيقَاعِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا وَلَا تَتَعَيَّنُ فِيهِ نِيَّةٌ لِأَحَدِهِمَا خِلَافُ الْمَعْهُودِ فِي الْقَوَاعِدِ .
( الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ ) لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ آخِرُ الْوَقْتِ حَيْثُ لَمْ يُعَجِّلْ الْمُكَلَّفُ الْفِعْلَ بَعْدَ فِعْلِهِ آخِرَ الْوَقْتِ فَصَارَ آخِرُ الْوَقْتِ مَوْصُوفًا بِالْوُجُوبِ فَإِنْ عَجَّلَ الْمُكَلَّفُ الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ آخِرُ الْوَقْتِ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْوُجُوبِ فَالتَّعْجِيلُ مَانِعٌ مِنْ تَعْلِيقِ الْوُجُوبِ بِآخِرِ الْوَقْتِ فَلَمْ يُجْزِ نَفْلٌ عَنْ فَرْضٍ وَلَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ الْمُعَجَّلُ مَوْقُوفًا بَلْ يَنْوِي بِهِ النَّفَلَ نَعَمْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُطِيعُوا
اللَّهَ تَعَالَى بِصَلَاةٍ وَاجِبَةٍ وَلَا أَثِيبُوا ثَوَابَ الْوَاجِبِ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا وَذَلِكَ حَظٌّ عَظِيمٌ يَفُوتُ عَلَيْهِمْ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ { مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدٌ أَوْ أَحَدٌ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ وَبِالْجُمْلَةِ فَثَوَابُ الْوَاجِبَاتِ هُوَ أَفْضَلُ الْمَثُوبَاتِ وَالْقَوْلُ بِفَوَاتِهِ عَلَيْهِمْ مَحْذُورٌ كَبِيرٌ .
( الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ ) حَكَاهُ سَيْفُ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ وَقْتُ الْإِيقَاعِ أَيُّ وَقْتٍ كَانَ أَوَّلُهُ أَوْ وَسَطُهُ أَوْ آخِرُهُ فَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ الْإِشْكَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَوَاعِدَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ وَتَابِعًا لَهُ وَهَذَا الْمَذْهَبُ جَعَلَ تَحَتُّمَ الْإِيقَاعِ فِي الْوَقْتِ تَابِعًا لِلْفِعْلِ عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ فَظَهَرَ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْ الْأَقْوَالِ الْخَمْسَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى جَحْدِ التَّوْسِعَةِ مُخَالِفَاتٍ لِلْقَوَاعِدِ وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَاعِدَةٍ مَا بَلْ تَجْتَمِعُ أَسْبَابُ الْقَوَاعِدِ كُلِّهَا فِيهِ إلَّا الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَأَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُطْلَقِ أَعْنِي جُزْءًا مُبْهَمًا مِنْ الْأَجْزَاءِ الْكَائِنَةِ بَيْنَ طَرَفَيْ الْقَامَةِ كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ قَالَ : صَلِّ إمَّا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ فِي وَسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ فَالْوَاجِبُ الصَّلَاةُ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ هُوَ أَحَدُ الْخِصَالِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ مُرَتَّبًا عَلَى الزَّوَالِ فِي جُزْءٍ مُبْهَمٍ مِمَّا بَيْنَ طَرَفَيْ الْقَامَةِ فَأَيُّ جُزْءٍ صَلَّى فِيهِ صَادَفَ الْمُطْلَقَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ وَلَمْ يَلْزَمْ تَأْخِيرُ الْمُسَبَّبِ عَنْ سَبَبِهِ وَلَا أَنَّ
الْفِعْلَ بَعْدَ أَوَّلِ الْوَقْتِ قَضَاءً وَلَا أَنَّهُ فِي أَوَّلِهِ نَفْلٌ يَنُوبُ مَنَابَ الْفَرْضِ حَتَّى يَكُونَ مُخَالِفًا لِقَاعِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي لَزِمَتْ مُخَالَفَتُهَا لِلْأَقْوَالِ الْخَمْسَةِ الْمَارَّةِ فَالْقَوْلُ بِالتَّوْسِعَةِ هُوَ الْحَقُّ وَقَدْ مَرَّ عَنْ ابْنِ الشَّاطِّ أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيمَا إذَا قَصَدَ الْمُكَلَّفُ التَّأْخِيرَ لِوَسَطِ الْوَقْتِ أَوْ آخِرِهِ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى بَدَلٍ أَصْلًا وَبَقِيَ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّوْسِعَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ سَلَامَةُ الْعَاقِبَةِ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَقَدْ أَخَّرَ مُخْتَارًا يَأْثَمُ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ سَلَامَةُ الْعَاقِبَةِ فَلَا يَأْثَمُ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَقَدْ أَخَّرَ مُخْتَارًا قَوْلَانِ الْأَوَّلُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ أَذِنَ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ وَقَدْ فَعَلَ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ وَفِعْلُ الْمَأْذُونِ فِيهِ لَا إثْمَ فِيهِ وَالْأَصْلُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ .
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ الْوَاجِبُ بِهِ وَهُوَ سَبَبٌ وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُطْلَقَ زَوَالِ الشَّمْسِ سَبَبَ وُجُوبِ الظُّهْرِ مَتَى وُجِدَ فِي أَيِّ يَوْمٍ كَانَ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَجَعَلَ مُطْلَقَ الْإِتْلَافِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَمُطْلَقَ مِلْكِ النِّصَابِ مُوجِبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ أَمَّا خُصُوصُ كَوْنِهَا هَذِهِ الدَّنَانِيرَ أَوْ تِلْكَ الدَّنَانِيرَ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، فَلَوْ قُدِّرَ نِصَابٌ مَكَانَ نِصَابٍ فِي مِلْكِ الْمُزَكِّي لَمْ يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ وَكَذَلِكَ إتْلَافٌ بَدَلَ إتْلَافٍ فَالْمَنْصُوبُ سَبَبًا إنَّمَا هُوَ الْمُطْلَقُ الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النُّصُبِ وَالْخُصُوصَاتِ سَاقِطَةٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ سَبَبٍ يَقْتَضِي ثُبُوتُهُ الثُّبُوتَ فَهَذَا كُلُّهُ مُشْتَرَكٌ وَهُوَ وَاجِبٌ بِهِ أَيْ بِسَبَبِهِ .
قَالَ ( الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ الْوَاجِبُ بِهِ وَهُوَ سَبَبٌ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ زَوَالَ الشَّمْسِ سَبَبًا لِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَجَعَلَ مُطْلَقَ الْإِتْلَافِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَمُطْلَقَ النِّصَابِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمُطْلَقَ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَقَدْ سَبَقَ لَهُ هَذَا مِرَارًا عَدِيدَةً وَقَدْ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمُشْتَرَكُ وَأَنَّ مُرَادَهُ بِالْمُطْلَقِ ذَلِكَ أَيْضًا لَوْلَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَقَعَ لَهُ فِيهَا ذَلِكَ الْقَوْلُ يُصَرِّحُ فِيهَا بِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ هُوَ الْكُلِّيُّ وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ تَأْوِيلِ كَلَامِهِ بِذَلِكَ .
( الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ ) الْوَاجِبُ بِهِ أَيْ بِسَبَبِهِ كَمُطْلَقِ زَوَالِ الشَّمْسِ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَبَبَ وُجُوبِ الظُّهْرِ مَتَى وُجِدَ فِي أَيِّ يَوْمٍ كَانَ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَكَمُطْلَقِ الْإِتْلَافِ جُعِلَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَكَمُطْلَقِ مِلْكِ النِّصَابِ جُعِلَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَلَا مَدْخَلَ لِخُصُوصِ كَوْنِهَا هَذِهِ الدَّنَانِيرَ أَوْ تِلْكَ الدَّنَانِيرَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَلَوْ قُدِّرَ نِصَابٌ مَكَانَ نِصَابٍ فِي مِلْكِ الْمُزَكِّي لَمْ يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ إذْ الْمَنْصُوبُ سَبَبًا إنَّمَا هُوَ الْمُطْلَقُ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ مُبْهَمٌ مِنْ أَفْرَادِ النُّصُبِ وَكَذَلِكَ كُلُّ سَبَبِ وُجُوبٍ يَقْتَضِي بِثُبُوتِهِ الثُّبُوتَ إنَّمَا هُوَ الْمُطْلَقُ أَيْ فَرْدٌ مُبْهَمٌ مِنْ أَفْرَادِهِ وَخُصُوصَاتُ أَفْرَادِهِ سَاقِطَةٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ فِي ذَلِكَ الْوُجُوبِ فَلَوْ قُدِّرَ إتْلَافُ بَدَلَ إتْلَافٍ لَمْ يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ .
الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالْوَاجِبُ بِهِ وَهُوَ أَدَاةٌ يُفْعَلُ بِهَا فَإِنَّ الْبَاءَ كَمَا تَكُونُ سَبَبِيَّةً تَكُونُ لِلِاسْتِعَانَةِ نَحْوُ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ وَنَجَرْتُ بِالْقُدُومِ فَالْوَاجِبُ بِهِ الَّذِي هُوَ أَدَاةٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَهُ مِثْلٌ أَحَدُهَا الْمَاءُ الَّذِي يُتَوَضَّأُ بِهِ وَيُغْتَسَلُ فَإِنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ بَلْ هُوَ أَدَاةٌ يُعْمَلُ بِهَا الْفِعْلُ وَسَبَبُ الطَّهَارَةِ إنَّمَا هُوَ الْحَدَثُ ، وَكَذَلِكَ التُّرَابُ فِي التَّيَمُّمِ أَدَاةٌ وَلَيْسَ سَبَبًا وَثَانِيهَا الثَّوْبُ لِلسُّتْرَةِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى السُّتْرَةَ بِثَوْبٍ مُعَيَّنٍ بَلْ بِمُطْلَقِ الثَّوْبِ الَّذِي هُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ الثِّيَابِ كَمَا لَمْ يُوجِبْ الطَّهَارَةَ بِمَاءٍ مُعَيَّنٍ بَلْ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمِيَاهِ وَكَذَلِكَ نُجِيبُ عَنْ مَغْلَطَةٍ عَادَتُهَا تُلْقَى عَلَى الطَّلَبَةِ فَيُقَالُ الْوُضُوءُ وَاجِبٌ وَمِنْ هَذِهِ الْفَسْقِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ لَا يَجِبُ مِنْ غَيْرِهَا بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَتْ هِيَ وَإِلَّا لَبَطَلَ الْوُجُوبُ وَكَذَلِكَ يُقَالُ السُّتْرَةُ وَاجِبَةٌ بِهَذَا الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ ؛ لِأَنَّ السُّتْرَةَ وَاجِبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهِيَ لَا تَجِبُ بِغَيْرِ هَذَا الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ بِالْإِجْمَاعِ لِجَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ فَتَعَيَّنَ هَذَا الثَّوْبُ .
وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ تُورَدُ هَذِهِ الشُّبُهَاتُ وَالْجَوَابُ عَنْهَا وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الْوُجُوبَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ هَذِهِ الْفَسْقِيَّةِ وَغَيْرِهَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهَا وَاجِبًا بِالْإِجْمَاعِ لَا تَتَعَيَّنُ هِيَ بَلْ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا لَا هِيَ وَلَا غَيْرُهَا وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ تَجِبْ السُّتْرَةُ بِغَيْرِ هَذَا الثَّوْبِ لَا يَتَعَيَّنُ هَذَا الثَّوْبُ بَلْ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ بَلْ الْخُصُوصَاتُ كُلُّهَا سَاقِطَةٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ ، وَثَالِثُهَا : الْجِمَارُ فِي النُّسُكِ
أَدَاةٌ يُعْمَلُ بِهَا الْوَاجِبُ لَا أَنَّهَا سَبَبُ الْوُجُوبِ بَلْ سَبَبُ الْوُجُوبِ هُوَ تَعْظِيمُ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } وَلِتَذَكُّرِ قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ وَفِدَائِهِ بِالْكَبْشِ وَأَنَّهُ هَرَبَ مِنْهُ فَلَحِقَهُ وَرَمَاهُ بِالْحِجَارَةِ هُنَاكَ فَشُرِعَ رَمْيُ الْجِمَارِ لِتَذَكُّرِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ السُّنِّيَّةِ وَالطَّوَاعِيَةِ التَّامَّةِ وَالْإِنَابَةِ الْجَمِيلَةِ لِيُقْتَدَى بِهِمَا فِي ذَلِكَ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْجِمَارُ لَيْسَتْ سَبَبًا بَلْ أَدَاةً يُفْعَلُ بِهَا الْوَاجِبُ وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا شَيْئًا مُعَيَّنًا بَلْ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهَا فَأَيُّ حَصَاةٍ أَخَذَهَا أَجْزَأَتْ وَسَدَّتْ الْمَسَدَّ وَخُصُوصُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا سَاقِطٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ وَالْوُجُوبُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا دُونَ خُصُوصَاتِهَا ، وَرَابِعُهَا : الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا أَدَوَاتٌ يُفْعَلُ بِهَا الْوَاجِبُ وَسَبَبُ الْوُجُوبِ هُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ فِي الضَّحَايَا وَالتَّمَتُّعِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْهَدْيِ .
وَأَمَّا هَذِهِ الْأَنْعَامُ فَلَيْسَتْ أَسْبَابًا لِلْوُجُوبِ بَلْ أَدَوَاتٌ يُفْعَلُ بِهَا الْوَاجِبُ وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى خُصُوصَ بَدَنَةٍ دُونَ أُخْرَى بَلْ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ فَأَيُّهَا فَعَلَ سَدَّ الْمَسَدَّ وَلَا يَفُوتُ بِفَوَاتِ الْخُصُوصِ مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الصِّفَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الثَّوَابِ وَالْمَاءِ حَرْفًا بِحَرْفٍ ، وَخَامِسُهَا : الرِّقَابُ فِي الْعِتْقِ لَيْسَتْ أَسْبَابًا لِلْحُكْمِ بَلْ السَّبَبُ الظِّهَارُ مَثَلًا أَوْ الْيَمِينُ أَوْ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ عَمْدًا أَوْ الْقَتْلُ فَهَذِهِ هِيَ الْأَسْبَابُ ، وَأَمَّا الرِّقَابُ فَهِيَ أَدَوَاتٌ يُفْعَلُ بِهَا الْوَاجِبُ كَالْمَاءِ وَالسُّتْرَةِ وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى خُصُوصَ رَقَبَةٍ دُونَ أُخْرَى مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الصِّفَاتِ بَلْ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا هُوَ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ وَهُوَ وَاجِبٌ بِهِ أَدَاةً لَا وَاجِبٌ
بِهِ سَبَبًا .
قَالَ ( الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ الْوَاجِبُ بِهِ وَهُوَ أَدَاةٌ يَفْعَلُ بِهَا فَإِنَّ الْبَاءَ كَمَا تَكُونُ سَبَبِيَّةً تَكُونُ لِلِاسْتِعَانَةِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي الْقَاعِدَةِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِيهَا صَحِيحٌ غَيْرُ مَا فِي قَوْلِهِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ عَلَى مَا سَبَقَ .
( الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ ) الْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ أَدَاةٌ يُفْعَلُ بِهَا الْوَاجِبُ لَا سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ فَإِنَّ الْبَاءَ كَمَا تَكُونُ سَبَبِيَّةً كَذَلِكَ تَكُونُ لِلِاسْتِعَانَةِ كَكَتَبْتُ بِالْقَلَمِ وَنَجَرْتُ بِالْقَدُومِ وَلِهَذَا الْوَاجِبُ مُثُلٌ : أَحَدُهَا : مُطْلَقُ الْمَاءِ الطَّهُورِ فِي الطَّهَارَةِ وُضُوءً كَانَتْ أَوْ غُسْلًا أَدَاةٌ يُعْمَلُ بِهَا الطَّهَارَةُ لَا سَبَبٌ لِلطَّهَارَةِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا إنَّمَا هُوَ الْحَدَثُ وَكَذَلِكَ التُّرَابُ فِي التَّيَمُّمِ أَدَاةٌ وَلَيْسَ سَبَبًا وَلَا مَدْخَلَ لِعَيْنِ الْمَاءِ فِي وُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَلَا لِتَعَيُّنِ التُّرَابِ فِي وُجُوبِ التَّيَمُّمِ إذْ لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى الطَّهَارَةَ بِمَاءٍ مُعَيَّنٍ بَلْ بِفَرْدٍ مُبْهَمٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَاءِ وَلَا التَّيَمُّمَ بِتُرَابٍ مُعَيَّنٍ بَلْ بِفَرْدٍ مُبْهَمٍ مِنْ أَفْرَادِ التُّرَابِ .
وَثَانِيهَا : مُطْلَقُ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ فَرْدٌ مُبْهَمٌ مِنْ أَفْرَادِ الثِّيَابِ أَدَاةٌ لِلسُّتْرَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا مَدْخَلَ لِلثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ فِي وُجُوبِ السُّتْرَةِ إذْ لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى السُّتْرَةَ بِثَوْبٍ مُعَيَّنٍ بَلْ بِمُطْلَقِ الثَّوْبِ الَّذِي هُوَ فَرْدٌ مُبْهَمٌ مِنْ أَفْرَادِ الثِّيَابِ وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ لَكَ جَوَابُ الْمُغَالَطَةِ الَّتِي تُلْقَى عَادَةً عَلَى الطَّلَبَةِ فَيُقَالُ السُّتْرَةُ وَاجِبَةٌ بِهَذَا الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ ؛ لِأَنَّ السُّتْرَةَ وَاجِبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهِيَ لَا تَجِبُ بِغَيْرِ هَذَا الثَّوْبِ بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ هُوَ وَإِلَّا لَبَطَلَ الْوُجُوبُ أَوْ يُقَالُ الْوُضُوءُ وَاجِبٌ مِنْ هَذِهِ الْفَسْقِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ لَا يَجِبُ مِنْ غَيْرِهَا بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَتْ هِيَ وَإِلَّا لَبَطَلَ الْوُجُوبُ ، وَهَكَذَا إذَا أُورِدَتْ هَذِهِ الشُّبُهَاتُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ كَانَ الْجَوَابُ عَنْهَا وَاحِدًا وَهُوَ أَنَّ الْوُجُوبَ لِكُلٍّ مِنْ الْوُضُوءِ وَالسُّتْرَةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِفَرْدٍ مُبْهَمٍ دَاخِلٍ تَحْتَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ هَذِهِ الْفَسْقِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَبَيْنَ
هَذَا الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهَا وَلَا غَيْرُهُ وَاجِبًا بِالْإِجْمَاعِ لَا تَتَعَيَّنُ هِيَ وَلَا هُوَ فَالْخُصُوصَاتُ كُلُّهَا سَاقِطَةٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ .
وَثَالِثُهَا : مُطْلَقُ الْجِمَارِ فِي النُّسُكِ أَدَاةٌ يُعْمَلُ بِهَا الْوَاجِبُ لَا سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ بَلْ سَبَبُ الْوُجُوبِ إمَّا تَعْظِيمُ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } وَإِمَّا تَذَكُّرُ قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَبْحِ ابْنِهِ وَفِدَائِهِ بِالْكَبْشِ قِيلَ ؛ لِأَنَّ مِنْهَا أَنَّهُ هَرَبَ مِنْهُ فَلَحِقَهُ وَرَمَاهُ بِالْحِجَارَةِ هُنَاكَ قُلْتُ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ } فَالصَّوَابُ مَا فِي حَاشِيَةِ شَيْخِنَا عَلَى تَوْضِيحِ الْمَنَاسِكِ أَنَّ فِي الْقِصَّةِ هُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ تَعَرَّضَ لِلذَّبِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَهَبَ مَعَ أَبِيهِ لِلذَّبْحِ وَقَالَ لَهُ إنَّ أَبَاك يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَكَ فَأَمَرَهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَرْجُمَهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ا هـ فَشُرِعَ رَمْيُ الْجِمَارِ لِتَذَكُّرِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَالطَّوَاعِيَةِ التَّامَّةِ وَالْإِنَابَةِ الْجَمِيلَةِ لِيُقْتَدَى بِهِمَا فِي ذَلِكَ وَلَا مَدْخَلَ لِتَعَيُّنِ الْجِمَارِ فِي وُجُوبِ الرَّمْيِ بَلْ أَيَّ حَصَاةٍ أَخَذَهَا أَجْزَأَتْ وَسَدَّتْ الْمَسَدَّ وَخُصُوصُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا سَاقِطٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ .
وَرَابِعُهَا : مُطْلَقُ الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا أَدَوَاتٌ يُفْعَلُ بِهَا الْوَاجِبُ لَا سَبَبَ لِلْوُجُوبِ بَلْ سَبَبُهُ فِي الضَّحَايَا أَيَّامُ النَّحْرِ وَفِي الْهَدَايَا التَّمَتُّعُ وَنَحْوُهُ مِنْ أَسْبَابِ الْهَدْيِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْبَدَنَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الْوُجُوبِ ؛ إذْ لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى خُصُوصَ بَدَنَةٍ دُونَ أُخْرَى بَلْ الْمَطْلُوبُ فَرْدٌ مُبْهَمٌ مِنْ أَفْرَادِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ هَذِهِ الْبَدَنَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْبَدَنِ فَأَيُّهَا فَعَلَ سَدَّ الْمَسَدَّ وَلَا يَفُوتُ بِفَوَاتِ
الْخُصُوصِ مَقْصِدٌ شَرْعِيٌّ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الصِّفَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الثَّوْبِ وَالْمَاءِ حَرْفًا بِحَرْفٍ .
وَخَامِسُهَا : مُطْلَقُ الرِّقَابِ فِي الْعِتْقِ أَدَوَاتٌ يُفْعَلُ بِهَا الْوَاجِبُ لَا أَسْبَابٌ لِلْوُجُوبِ بَلْ السَّبَبُ الظِّهَارُ أَوْ الْيَمِينُ أَوْ إفْسَادُ صَوْمِ رَمَضَانَ عَمْدًا أَوْ الْقَتْلُ وَلَا مَدْخَلَ لِتَعَيُّنِ الرَّقَبَةِ فِي الْوُجُوبِ ؛ إذْ لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى خُصُوصَ رَقَبَةٍ دُونَ أُخْرَى مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي الصِّفَاتِ بَلْ فَرْدٌ مُبْهَمٌ مِنْ أَفْرَادِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ هَذِهِ الرَّقَبَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَغَيْرِهَا فَأَيَّ رَقَبَةٍ عَتَقَهَا سَدَّتْ الْمَسَدَّ كَمَا عَلِمْت .
الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ : الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ فَإِنَّ مُقْتَضَى الْخِطَابِ فِيهِ التَّعَلُّقُ بِطَائِفَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ بَلْ هُوَ بِمُطْلَقِ الطَّائِفَةِ الصَّالِحَةِ لَا إيقَاعُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِالْكُلِّ حَتَّى لَا يَضِيعَ الْوَاجِبُ وَإِلَّا فَالْمَقْصُودُ إنَّمَا هُوَ طَائِفَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ وَأَيُّ طَائِفَةٍ فَعَلَتْ سَدَّتْ الْمَسَدَّ كَالثَّوْبِ فِي السُّتْرَةِ وَالْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ فِي الطَّوَائِفِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُكَلَّفُ وَالْمُكَلَّفُ يَجِبُ عَلَيْهِ لَا بِهِ وَلَا فِيهِ ، فَإِذَا فَعَلَتْ طَائِفَةٌ سَقَطَ عَنْ الْبَقِيَّةِ لِتَحَقُّقِ الْفِعْلِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَإِذَا تَرَكَ الْجَمِيعُ أَثِمُوا لِتَعْطِيلِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا عَنْ الْفِعْلِ ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ إلَّا مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ الْوَاجِبِ تَعَيَّنَ الْفِعْلُ عَيْنًا لِانْحِصَارِ الْمُشْتَرَكِ فِيهِ كَآخِرِ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ وَتَعَذُّرِ غَيْرِ الثَّوْبِ الْمَوْجُودِ فِي السُّتْرَةِ حَرْفًا بِحَرْفٍ .
قَالَ ( الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِيهَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ غَيْرُ مَا قَالَهُ مِنْ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْكُلِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ
الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ : الْوَاجِبُ عَلَيْهِ هُوَ الْمُكَلَّفُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ فَإِنَّ مُقْتَضَى الْخِطَابِ فِيهِ التَّعَلُّقُ بِطَائِفَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ أَيْ بِمُطْلَقِ طَائِفَةٍ صَالِحَةٍ لِإِيقَاعِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ فَأَيُّ طَائِفَةٍ مِنْ الطَّوَائِفِ الصَّالِحَةِ لِإِيقَاعِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ الشَّرْعِيِّ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا هِيَ الْمُكَلَّفَةُ وَالْمُكَلَّفُ يَجِبُ عَلَيْهِ لَا بِهِ وَلَا فِيهِ فَإِذَا فَعَلَتْ سَدَّتْ الْمَسَدَّ كَالثَّوْبِ فِي السُّتْرَةِ وَالْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ وَسَقَطَ بِفِعْلِهَا الطَّلَبُ عَنْ بَقِيَّةِ الطَّوَائِفِ لِتَحَقُّقِ الْفِعْلِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا وَإِذَا تَرَكَ الْجَمِيعُ أَثِمُوا لِتَعْطِيلِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا عَنْ الْفِعْلِ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ إلَّا مَنْ يَقُومُ بِذَلِكَ الْوَاجِبِ تَعَيَّنَ الْفِعْلُ عَلَيْهِ عَيْنًا لِانْحِصَارِ الْمُشْتَرَكِ فِيهِ كَآخِرِ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ وَتَعَذُّرِ غَيْرِ الثَّوْبِ الْمَوْجُودِ فِي السُّتْرَةِ حَرْفًا بِحَرْفٍ .
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ : الْوَاجِبُ عِنْدَهُ وَلَهُ مِثْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَحَدُهَا الشَّرْطُ فَإِنَّ الْحَوْلَ إذَا دَارَ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ لَا بِالشَّرْطِ الَّذِي هُوَ دَوَرَانُ الْحَوْلِ بَلْ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ النِّصَابِ وَلَكِنْ أَثَرُ السَّبَبِ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ دَوَرَانِ الْحَوْلِ فَدَوَرَانُ الْحَوْلِ وَاجِبٌ عِنْدَهُ لَا بِهِ وَلَمْ يَخْتَصَّ حَوْلٌ مُعَيَّنٌ بِالْوُجُوبِ عِنْدَهُ بَلْ مُطْلَقُ الْحَوْلِ وَهَذِهِ هِيَ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ مِنْ الْحَوْلِ فَمَتَى وُجِدَتْ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ حَصَلَ الْوُجُوبُ عِنْدَهَا لَا بِهَا لَا لِخُصُوصِ ذَلِكَ الْحَوْلِ بَلْ لِمُطْلَقِ الْحَوْلِ الْمُوجِبِ لِحُصُولِ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّنْمِيَةِ فِي النِّصَابِ فَالْمُحَصِّلُ لِمَقْصُودِ الشَّرْعِ هُوَ مُطْلَقُ الْحَوْلِ لَا خُصُوصُ هَذَا الْحَوْلِ فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَهُ كَمَا أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ النُّصُبِ هُوَ الْوَاجِبُ بِهِ وَثَانِيهَا عَدَمُ الْمَانِعِ نَحْوُ عَدَمِ الدَّيْنِ فِي الزَّكَاةِ وَالْحَيْضِ فِي الصَّلَاةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ النِّصَابِ أَوْ زَوَالُ الشَّمْسِ فِي الصَّلَاةِ لَا لِعَدَمِ الدَّيْنِ وَلَا لِعَدَمِ الْحَيْضِ فَعَدَمُ الدَّيْنِ وَالْحَيْضِ وَاجِبٌ عِنْدَهُ وَلَمْ يَعْتَبِرْ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَدَمَ خُصُوصِ دَيْنٍ دُونَ دَيْنٍ وَلَا خُصُوصِ حَيْضٍ دُونَ حَيْضٍ بَلْ مُطْلَقُ الدَّيْنِ وَمُطْلَقُ الْحَيْضِ فَهَذَا الْمُشْتَرَكُ وَاجِبٌ عِنْدَهُ ، وَثَالِثُهَا : وُجُوبُ التَّيَمُّمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَإِنَّ عَدَمَ الْمَاءِ يَجِبُ عِنْدَهُ التَّيَمُّمُ وَلَيْسَ هُوَ سَبَبُ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لِلصَّلَاةِ أَوْقَاتُهَا وَأَسْبَابُ الطَّهَارَاتِ الْأَحْدَاثُ أَمَّا عَدَمُ الْمَاءِ فَلَيْسَ سَبَبًا لِوُجُوبِ التَّيَمُّمِ بَلْ الْحَدَثُ اقْتَضَى إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ عَلَى التَّرْتِيبِ فَإِنْ عُدِمَتْ طَهَارَةُ الْمَاءِ تَعَيَّنَتْ طَهَارَةُ التُّرَابِ فَعَدَمُ الْمَاءِ وَاجِبٌ عِنْدَهُ لَا بِهِ وَلَمْ يُلَاحِظْ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَدَمَ
مَاءٍ مُعَيَّنٍ بَلْ عَدَمُ الْمَاءِ الطَّهُورِ الْكَافِي لِلطَّهَارَةِ دُونَ خُصُوصِ مَاءٍ فَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هَاهُنَا وَاجِبٌ عِنْدَهُ .
وَرَابِعُهَا : وُجُوبُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّعَامِ الْمُبَاحِ إذَا خَافَ الْهَلَاكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ لَا لِأَنَّ السَّبَبَ عَدَمُ الطَّعَامِ الْمُبَاحِ بَلْ السَّبَبُ إحْيَاءُ النَّفْسِ وَعَدَمُ الطَّعَامِ الْمُبَاحِ وَاجِبٌ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ إحْيَاءَ النَّفْسِ اقْتَضَى أَحَدَ الْغِذَاءَيْنِ إمَّا الْمُبَاحَ أَوْ الْمَيْتَةَ عَلَى التَّرْتِيبِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْمُبَاحُ تَعَيَّنَتْ الْمَيْتَةُ كَاقْتِضَاءِ الْحَدَثِ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ وَلَمْ يُلَاحِظْ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَدَمَ طَعَامٍ مُبَاحٍ بِعَيْنِهِ بَلْ مُطْلَقَ الطَّعَامِ الْمُبَاحِ الَّذِي يَصْلُحُ لِإِقَامَةِ الْبِنْيَةِ ، وَخَامِسُهَا : عَدَمُ الْخَصْلَةِ الْأُولَى مِنْ الْخِصَالِ الْمُرَتَّبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ نَحْوُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَإِنَّ تَعَذُّرَ الْعِتْقِ يُوجِبُ الصِّيَامَ وَعَدَمُ الْعِتْقِ لَيْسَ هُوَ سَبَبَ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الظِّهَارُ وَعَدَمُ الْعِتْقِ وَاجِبٌ عِنْدَهُ لَا بِهِ وَلَمْ يُلَاحِظْ الشَّرْعُ عَدَمَ رَقَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ عَدَمُ مُطْلَقِ الرَّقَبَةِ الصَّالِحَةِ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ الظِّهَارِ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ كُلُّهَا كُلِّيٌّ مُشْتَرَكٌ لَيْسَ بِجُزْئِيٍّ وَالْوُجُوبُ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ أَفْرَادِهِ وَهُوَ كُلُّهُ وَاجِبٌ عِنْدَهُ .
قَالَ ( الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ الْوَاجِبُ عِنْدَهُ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِيهَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ غَيْرُ مَا قَالَهُ مِنْ تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِالْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَا سَبَقَ .
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ : الْوَاجِبُ عِنْدَهُ لَهُ أَمْثِلَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ : أَحَدُهَا : الشَّرْطُ كَدَوَرَانِ مُطْلَقِ الْحَوْلِ تَجِبُ عِنْدَهُ الزَّكَاةُ بِسَبَبِهَا الَّذِي هُوَ مِلْكُ النِّصَابِ فَأَثَرُ السَّبَبِ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ دَوَرَانِ مُطْلَقِ الْحَوْلِ الْمُوجِبِ لِحُصُولِ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّنْمِيَةِ فِي النِّصَابِ فَمُطْلَقُ الْحَوْلِ هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ الْمُحَصِّلُ لِمَقْصُودِ الشَّرْعِ وَلَا مَدْخَلَ لِخُصُوصِ الْحَوْلِ الْمُعَيَّنِ فِي حُصُولِ مَقْصُودِ الشَّرْعِ كَمَا أَنَّ مُطْلَقَ نِصَابٍ دَاخِلٌ تَحْتَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ النُّصُبِ هُوَ الْوَاجِبُ بِهِ لَا خُصُوصُ النِّصَابِ الْمُعَيَّنِ .
وَثَانِيهَا : عَدَمُ الْمَانِعِ كَعَدَمِ مُطْلَقِ الدَّيْنِ فِي الزَّكَاةِ وَعَدَمِ مُطْلَقِ الْحَيْضِ فِي الصَّلَاةِ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَ عَدَمِ مُطْلَقِ الدَّيْنِ بِسَبَبِهَا الَّذِي هُوَ مِلْكُ النِّصَابِ وَالصَّلَاةُ عِنْدَ عَدَمِ مُطْلَقِ الْحَيْضِ بِسَبَبِهَا الَّذِي هُوَ زَوَالُ الشَّمْسِ مَثَلًا وَلَمْ يَعْتَبِرْ صَاحِبُ الشَّرْعِ فِي الْوُجُوبِ عِنْدَهُ عَدَمَ خُصُوصِ دَيْنٍ دُونَ دَيْنٍ وَلَا عَدَمَ خُصُوصِ حَيْضٍ دُونَ حَيْضٍ .
وَثَالِثُهَا : عَدَمُ مُطْلَقِ الْمَاءِ الطَّهُورِ يَجِبُ التَّيَمُّمُ عِنْدَهُ لَا بِهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لِلصَّلَاةِ أَوْقَاتُهَا وَأَسْبَابُ الطَّهَارَاتِ الْأَحْدَاثُ فَالْحَدَثُ اقْتَضَى إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ عَلَى التَّرْتِيبِ فَإِنْ عُدِمَتْ طَهَارَةُ الْمَاءِ تَعَيَّنَتْ طَهَارَةُ التُّرَابِ فَعَدَمُ مُطْلَقِ الْمَاءِ الطَّهُورِ الْكَافِي لِلطَّهَارَةِ هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَهُ التَّيَمُّمُ لَا عَدَمُ خُصُوصِ مَاءٍ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ لَمْ يُلَاحِظْ عَدَمَ مَاءٍ مُعَيَّنٍ .
وَرَابِعُهَا : عَدَمُ مُطْلَقِ الطَّعَامِ الْمُبَاحِ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ عِنْدَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ إذَا خَافَ الْهَلَاكَ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِهِ بَلْ بِخَوْفِ الْهَلَاكِ لِوُجُوبِ إحْيَاءِ النَّفْسِ بِدَلِيلِ { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } فَإِحْيَاءُ النَّفْسِ اقْتَضَى أَحَدَ الْغِذَاءَيْنِ إمَّا الْمُبَاحَ وَإِمَّا الْمَيْتَةَ عَلَى
التَّرْتِيبِ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْمُبَاحُ تَعَيَّنَتْ الْمَيْتَةُ كَاقْتِضَاءِ الْحَدَثِ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ بِلَا فَرْقٍ وَلَمْ يُلَاحِظْ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَدَمَ طَعَامٍ مُبَاحٍ بِعَيْنِهِ بَلْ مُطْلَقُ الطَّعَامِ الْمُبَاحِ الَّذِي يَصْلُحُ لِإِقَامَةِ الْبِنْيَةِ وَخَامِسُهَا عَدَمُ الْخَصْلَةِ الْأُولَى مِنْ الْخِصَالِ الْمُرَتَّبَةِ فِي نَحْوِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ كَعَدَمِ مُطْلَقِ الرَّقَبَةِ الصَّالِحَةِ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ يَجِبُ عِنْدَهُ الصِّيَامُ لَا بِهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ الظِّهَارُ ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ اقْتَضَى أَحَدَ الْخِصَالِ عَلَى التَّرْتِيبِ فَإِذَا تَعَذَّرَتْ الْأُولَى تَعَيَّنَتْ الثَّانِيَةُ نَظِيرَ مَا مَرَّ وَلَمْ يُلَاحِظْ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَدَمَ رَقَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ .
الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ الْكُلِّيُّ الْمُشْتَرَكُ الْوَاجِبُ مِنْهُ وَلَهُ مِثْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَحَدُهَا الْجِنْسُ الْمُخْرَجُ مِنْهُ زَكَاةُ الْإِبِلِ غَنَمًا فِي الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ إبِلًا فِيمَا فَوْقَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ جِنْسٌ كُلِّيٌّ يَجِبُ الْإِخْرَاجُ مِنْهُ وَلَمْ يُلَاحِظْ الشَّرْعُ شَاةً مُعَيَّنَةً وَلَا حِقَّةً مُعَيَّنَةً مَعَ اسْتِوَاءِ الصِّفَاتِ فِي الْجِنْسِ الْمُجْزِئِ بَلْ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الْكُلِّيُّ هُوَ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ فَقَطْ وَثَانِيهَا الْجِنْسُ الْمُخْرَجُ مِنْهُ زَكَاةُ النَّقْدَيْنِ ، وَهُوَ النَّقْدَانِ أَيْضًا يَجِبُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُمَا مِقْدَارَ رُبْعِ الْعُشْرِ زَكَاةً عَمَّا يَمْلِكُهُ وَلَمْ يُلَاحِظْ الشَّرْعُ خُصُوصَ دِينَارٍ وَلَا دِرْهَمٍ ، وَثَالِثُهَا : الْجِنْسُ الْمُخْرَجُ مِنْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَهُوَ الْحَبُّ الَّذِي غَالِبُ قُوتِ أَهْلِ الْبَلَدِ مِنْهُ يَجِبُ أَنْ يُخْرَجَ مِنْهُ صَاعٌ عَنْ كُلِّ آدَمِيٍّ إلَّا مَنْ اُسْتُثْنِيَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، وَرَابِعُهَا : الْجِنْسُ الْمُخْرَجُ مِنْهُ الْكَفَّارَاتُ فِي الْإِطْعَامِ وَهُوَ الْجِنْسُ الَّذِي تُخْرَجُ مِنْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ بِعَيْنِهِ ، وَخَامِسُهَا : الْجِنْسُ الْمُخْرَجُ مِنْهُ زَكَاةُ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ يَجِبُ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ مِمَّا فِي الْمِلْكِ أَوْ غَيْرِهِ بِأَنْ يُحَصِّلَهُ بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيُخْرِجُ مِنْهُ الْعُشْرَ عَمَّا مَلَكَهُ مِنْ الْحَبِّ أَوَ الثَّمَنِ فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ كُلُّهَا أَجْنَاسٌ كُلِّيَّةٌ لَيْسَتْ مُعَيَّنَةً يَجِبُ الْإِخْرَاجُ مِنْهَا وَلَمْ يُلَاحِظْ الشَّارِعُ فِيهَا مُعَيَّنًا بَلْ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ تِلْكَ الْمُعَيَّنَاتِ .
.
قَالَ ( الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ الْكُلِّيُّ الْمُشْتَرَكُ الْوَاجِبُ مِنْهُ إلَى آخَرِ مَا قَالَهُ فِيهَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ غَيْرُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْحُكْمِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الْكُلِّيُّ وَكَذَلِكَ مَا قَالَ فِي الْقَاعِدَةِ الثَّامِنَةِ وَالتَّاسِعَةِ وَالْعَاشِرَةِ غَيْرُ مَا يُشْعِرُ كَلَامُهُ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْحُكْمِ بِالْكُلِّيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِرَارًا بَلْ الصَّحِيحُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِفَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمُعَيَّنُ الْمُشْتَرَكُ فَإِنْ عَنَى ذَلِكَ فَمُرَادُهُ صَحِيحٌ .
الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ الْوَاجِبُ مِنْهُ لَهُ أَمْثِلَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ : أَحَدُهَا : الْجِنْسُ الْمُخْرَجُ مِنْهُ زَكَاةُ الْإِبِلِ كَانَتْ غَنَمًا كَمَا فِي الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ أَوْ إبِلًا مُطْلَقًا كَمَا فِيمَا فَوْقَهَا يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الْإِخْرَاجِ مِنْهُ بِمُطْلَقِ شَاةٍ مِنْ الْغَنَمِ فِي الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جِنْسِ الْإِبِلِ وَمُطْلَقُ حَقِّهِ فِيمَا فَوْقَ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جِنْسِ الْإِبِلِ ؛ إذْ لَمْ يُلَاحِظْ الشَّرْعُ شَاةً مُعَيَّنَةً وَلَا حِقَّةً مُعَيَّنَةً مَعَ اسْتِوَاءِ الصِّفَاتِ فِي الْجِنْسِ الْمُجْزِئِ فَافْهَمْ .
وَثَانِيهَا : الْجِنْسُ الْمُخْرَجُ مِنْهُ زَكَاةُ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ النَّقْدَيْنِ بِشَرْطِهِ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الْإِخْرَاجِ مِنْهُ بِمُطْلَقِ النَّقْدِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً ؛ إذْ لَمْ يُلَاحِظْ الشَّرْعُ خُصُوصَ دِينَارٍ لَا دِرْهَمٍ .
وَثَالِثُهَا : الْجِنْسُ الْمُخْرَجُ مِنْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ وَهُوَ مَا كَانَ غَالِبَ قُوتِ أَهْلِ الْبَلَدِ مِنْهُ كَالْحَبِّ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الْإِخْرَاجِ مِنْهُ بِمُطْلَقِ مَكِيلِ صَاعٍ عَنْ كُلِّ آدَمِيٍّ إلَّا مَنْ اُسْتُثْنِيَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَرَابِعُهَا الْجِنْسُ الْمُخْرَجُ مِنْهُ الْكَفَّارَاتُ فِي الْإِطْعَامِ وَهُوَ مَا تُخْرَجُ مِنْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ بِعَيْنِهِ وَخَامِسُهَا الْجِنْسُ الْمُخْرَجُ مِنْهُ زَكَاةُ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُ الْإِخْرَاجِ مِنْهُ بِمُطْلَقِ عُشْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا فِي مِلْكِهِ أَوْ مِمَّا يُحَصِّلُهُ بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ .
الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ الْوَاجِبُ عَنْهُ وَهُوَ جِنْسُ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يُخْرَجَ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُ صَاعٌ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَلَمْ يُلَاحِظْ الشَّارِعُ خُصُوصَ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ بَلْ مَفْهُومُ الْإِنْسَانِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لِأَجْلِهَا تَجِبُ عَنْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ كَانَ ذَلِكَ الْمُخْرَجُ عَنْهُ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِوَصِيَّةٍ أَوْ حَاكِمٍ أَوْ وَلِيٍّ بِقَرَابَةٍ أَوْ زَوْجِيَّةٍ أَوْ رَقِيقٍ فَتَعَلُّقُ الْحُكْمِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ دُونَ خُصُوصِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ أَوْ زَوْجَةٍ مُعَيَّنَةٍ .
الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ الْوَاجِبُ عَنْهُ هُوَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يُخْرَجَ صَاعٌ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ مُبْهَمٍ دَاخِلٍ تَحْتَ مَفْهُومِ الْإِنْسَانِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لِأَجْلِهَا تَجِبُ عَنْهُ زَكَاةُ الْفِطْرِ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِوَصِيَّةٍ أَوْ حَاكِمٍ أَوْ وَلِيٍّ بِقَرَابَةٍ أَوْ زَوْجِيَّةٍ أَوْ رِقٍّ فَمُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ هُوَ الْفَرْدُ الْمُبْهَمُ مِنْ أَفْرَادِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ دُونَ خُصُوصِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ أَوْ زَوْجَةٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُلَاحِظْ خُصُوصَ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ .
الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ الْوَاجِبُ مِثْلُهُ وَلَهُ مِثَالَانِ : أَحَدُهُمَا جَزَاءُ الصَّيْدِ فِي الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ إخْرَاجُ مِثْلِ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ الْحَرَمِ وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مُطْلَقُ الْغَزَالِ وَمُطْلَقُ بَقَرِ الْوَحْشِ دُونَ خُصُوصِ ظَبْيٍ مُعَيَّنٍ أَوْ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ الْوَاجِبُ مَنُوطٌ بِمُطْلَقِ ذَلِكَ الْجِنْسِ الْكُلِّيِّ وَخُصُوصِ كُلِّ صَيْدٍ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ سَاقِطٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ فِي الْجَزَاءِ فَهَذَا الْجِنْسُ الْكُلِّيُّ هُوَ الْوَاجِبُ مِثْلُهُ ، وَثَانِيهِمَا : الْمُتْلَفُ الْمِثْلِيُّ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ تَجِبُ غَرَامَةُ مِثْلِهِ كَمَنْ أَتْلَفَ قَفِيزَ قَمْحٍ يَجِبُ عَلَيْهِ غَرَامَةُ قَفِيزٍ مِثْلِهِ أَوْ رِطْلَ زَيْتٍ يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ رِطْلِ زَيْتٍ مِثْلِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خُصُوصِ ذَلِكَ الرِّطْلِ الزَّيْتِ وَتَعَيُّنِهِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ كَوْنُهُ زَيْتًا مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ هِيَ مُتَعَلِّقُ الْأَغْرَاضِ نَحْوُ كَوْنِهِ زَيْتًا اتِّفَاقًا وَزَيْتَ بِزْرِ كَتَّانٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ إخْرَاجِ مِثْلِهِ حَتَّى إنَّ أَفْرَادَ الْأَرْطَالِ مِنْ الْغَلَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الزَّيْتِ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ وَالْمُعْتَبَرُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا دُونَ خُصُوصِ رِطْلٍ دُونَ رِطْلٍ ، وَكَذَلِكَ الْمِثْلِيَّاتُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ أَجْنَاسُهَا وَصِفَاتُهَا الْعَامَّةُ دُونَ خُصُوصِ الْمُعَيَّنَاتِ ، فَهَذَا جِنْسٌ كُلِّيٌّ هُوَ الْوَاجِبُ مِثْلُهُ .
الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ الْوَاجِبُ مِثْلُهُ لَهُ مِثَالَانِ فِي الشَّرِيعَةِ : أَحَدُهُمَا : جَزَاءُ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ فِي الْإِحْرَامِ أَوْ الْحَرَمِ أَيْ جَزَاءُ مُطْلَقِ الْغَزَالِ وَمُطْلَقِ بَقَرِ الْوَحْشِ دُونَ خُصُوصِ ظَبْيٍ مُعَيَّنٍ أَوْ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَالْوَاجِبُ مِثْلُهُ مَنُوطٌ بِمُطْلَقِ ذَلِكَ الْجِنْسِ الْكُلِّيِّ وَخُصُوصُ كُلِّ صَيْدٍ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ سَاقِطٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ فِي الْجَزَاءِ .
وَثَانِيهِمَا : غَرَامَةُ مِثْلِ مُطْلَقِ الْمُتْلَفِ الْمِثْلِيِّ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ فَمَنْ أَتْلَفَ قَفِيزَ قَمْحٍ وَجَبَ عَلَيْهِ غَرَامَةُ قَفِيزٍ مِثْلِهِ مِنْ مُطْلَقِ قَمْحٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ هِيَ مُتَعَلِّقُ الْأَغْرَاضِ وَمَنْ أَتْلَفَ رِطْلَ زَيْتٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إخْرَاجُ رِطْلٍ مِنْ مُطْلَقِ زَيْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ هِيَ مُتَعَلِّقُ الْأَغْرَاضِ كَكَوْنِهِ زَيْتًا اتِّفَاقًا وَزَيْتُ بِزْرِ الْكَتَّانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ أَفْرَادَ الْأَرْطَالِ مِنْ الْغَلَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الزَّيْتِ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ وَالْمُعْتَبَرُ الْفَرْدُ الْمُبْهَمُ الدَّاخِلُ تَحْتَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ سَائِرِ الْأَفْرَادِ دُونَ خُصُوصِ رِطْلٍ دُونَ رِطْلٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ فَرْدٌ مُبْهَمٌ مِنْ أَجْنَاسِ الْمِثْلِيَّاتِ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِهَا الْعَامَّةِ دُونَ خُصُوصِ الْمُعَيَّنَاتِ .
الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ الْوَاجِبُ إلَيْهِ وَلَهُ مِثْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَحَدُهَا غُرُوبُ الشَّمْسِ فِي الصَّوْمِ يَجِبُ الصَّوْمُ إلَيْهِ وَالْمُعْتَبَرُ مِنْ ذَلِكَ جِنْسُ الْغُرُوبِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ أَمَّا كَوْنُهُ غُرُوبَ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَسَاقِطٌ عَنْ الِاعْتِبَارِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ بَلْ مَتَى تَحَقَّقَ الْغُرُوبُ فِي أَيِّ يَوْمٍ كَأَنْ سَقَطَ وُجُوبُ الصَّوْمِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَانْتَقَلَ الْمُكَلَّفُ إلَى تَحْرِيمِ الصَّوْمِ لِوُجُودِ مَفْهُومِ الْغُرُوبِ فِي أَيِّ يَوْمٍ كَانَ وَلَا عِبْرَةَ بِخُصُوصِ الْأَيَّامِ فَهَذَا جِنْسٌ عَامٌّ كُلِّيٌّ يَجِبُ الْفِعْلُ إلَيْهِ وَهُوَ مُلَابَسَةٌ ضِدُّ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ .
وَثَانِيهَا : هِلَالُ شَوَّالٍ يَجِبُ تَتَابُعُ الصَّوْمِ فِي الْأَيَّامِ إلَيْهِ كَمَا يَجِبُ إيصَالُ الصَّوْمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَمُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ هُوَ كَوْنُهُ هِلَالَ شَوَّالٍ أَمَّا كَوْنُهُ هَذَا الْهِلَالَ أَوْ ذَلِكَ أَوْ كَوْنُهُ مِنْ سَنَةِ سِتِّينَ أَوْ مِنْ سَنَةِ سَبْعِينَ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَلْ مُطْلَقُ هِلَالِ شَوَّالٍ كَيْفَ كَانَ مِنْ أَيِّ سَنَةٍ كَانَ .
وَثَالِثُهَا : أَوَاخِرُ الْعِدَّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ وَالْإِحْدَادِ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ يَجِبُ إيصَالُ الْعِدَّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ إلَى تِلْكَ الْغَايَاتِ ، وَكَذَلِكَ الْإِحْدَادُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ تِلْكَ الْغَايَةِ مِنْ سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ كَوْنُهُ كَمَالَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَوْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ هَذَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ وَمَا عَدَاهُ لَغْوٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ فَهَذِهِ أَجْنَاسٌ عَشَرَةٌ اشْتَرَكَتْ كُلُّهَا فِي تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِمَعْنًى كُلِّيٍّ وَاخْتَصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِخُصُوصٍ كَمَا تَقَدَّمَ كَكَوْنِهِ فِيهِ وَبِهِ وَعَنْهُ وَمِنْهُ وَإِلَيْهِ وَعَلَيْهِ وَعِنْدَهُ وَبِهِ نُجِيبُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْأَبْوَابِ كُلِّهَا مُتَعَلِّقًا بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَلْيَكُنْ الْكُلُّ وَاجِبًا مُخَيَّرًا فَلِمَ اخْتَلَفَتْ
الْأَسْمَاءُ ؟ فَنُجِيبُ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ الْعَامَّ الَّذِي هُوَ تَعَلَّقَ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ قَدْ حَصَلَ تَحْتَهُ أَيْضًا أَجْنَاسٌ كُلِّيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ أَفْرَادِهَا وَلِكُلِّ جِنْسٍ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ خُصُوصٌ عَامٌّ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْجِنْسِ ، وَالْأَصْلُ إذَا اخْتَلَفَتْ الْحَقَائِقُ الْكُلِّيَّةُ أَوْ الْجُزْئِيَّةُ أَنْ تَخْتَلِفَ الْأَسْمَاءُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا حَتَّى تَحْصُلَ فَائِدَةُ التَّعْبِيرِ عَنْ خُصُوصِ كُلِّ حَقِيقَةٍ كَانَتْ جِنْسًا أَوْ شَخْصًا فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ قَوَاعِدِهِ الْعَشَرَةِ .
الْقَاعِدَةُ الْعَاشِرَةُ الْوَاجِبُ إلَيْهِ لَهُ ثَلَاثَةُ أَمْثِلَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ : أَحَدُهَا : غُرُوبُ الشَّمْسِ فِي الصَّوْمِ يَجِبُ الصَّوْمُ إلَى فَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ أَفْرَادِ الْغُرُوبِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ فَمَتَى تَحَقَّقَ الْغُرُوبُ فِي أَيِّ يَوْمٍ كَانَ سَقَطَ وُجُوبُ الصَّوْمِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ وَانْتَقَلَ الْمُكَلَّفُ إلَى تَحْرِيمِ الصَّوْمِ لِوُجُودِ مَفْهُومِ الْغُرُوبِ فِي أَيِّ يَوْمٍ كَانَ وَلَا عِبْرَةَ بِخُصُوصِ الْأَيَّامِ فِي الْغُرُوبِ كَكَوْنِهِ غُرُوبَ شَمْسِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ .
وَثَانِيهَا : مُطْلَقُ هِلَالِ شَوَّالٍ كَيْفَ كَانَ يَجِبُ تَتَابُعُ الصَّوْمِ فِي أَيَّامِ رَمَضَانَ إلَيْهِ كَمَا يَجِبُ إيصَالُ الصَّوْمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَا دَخْلَ لِلْحُكْمِ فِي كَوْنِهِ خُصُوصَ هَذَا الْهِلَالِ أَوْ ذَلِكَ أَوْ كَوْنِهِ مِنْ سَنَةِ سِتِّينَ أَوْ مِنْ سَنَةِ تِسْعِينَ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ .
وَثَالِثُهَا : مُطْلَقُ غَايَاتِ الْعِدَّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ وَالْإِحْدَادِ الْمَوْصُوفِ بِالصِّفَةِ الْعَامَّةِ كَكَوْنِهِ كَمَالَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَوْ كَمَالَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرِيعَةِ لِوُجُوبِ إيصَالِ الْعِدَّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ وَالْإِحْدَادِ إلَيْهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ تِلْكَ الْغَايَةِ مِنْ سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَهَذِهِ أَجْنَاسٌ عَشَرَةٌ تَشْتَرِكُ كُلُّهَا فِي تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِفَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الْمُشْتَرَكُ وَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِخُصُوصٍ كَكَوْنِهِ فِيهِ وَبِهِ وَعَنْهُ وَمِنْهُ وَعَلَيْهِ وَعِنْدَهُ وَإِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَبِهَذَا الِاخْتِصَاصِ نُجِيبُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : إذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي أَبْوَابِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الْعَشَرَةِ كُلِّهَا مُتَعَلِّقًا بِفَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ فَلِيَكُنْ الْكُلُّ وَاجِبًا مُخَيَّرًا فَلِمَ اخْتَلَفَتْ الْأَسْمَاءُ ؟ فَنَقُولُ : إنَّ هَذَا الْقَدْرَ الْعَامَّ
الَّذِي هُوَ التَّعَلُّقُ بِفَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِمَّا فِيهِ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ قَدْ حَصَلَ تَحْتَهُ أَيْضًا أَجْنَاسٌ كُلِّيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَالْأَصْلُ اخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا إذَا اخْتَلَفَتْ الْحَقَائِقُ الْكُلِّيَّةُ أَوْ الْجُزْئِيَّةُ لِتَحْصُلَ فَائِدَةُ التَّعْبِيرِ عَنْ خُصُوصِ كُلِّ حَقِيقَةٍ كَانَتْ جِنْسًا أَوْ شَخْصًا فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ قَوَاعِدِهِ الْعَشَرَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ السَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْفَسَادَ فِي نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْفَسَادَ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهَا ) هَذَا الْفَرْقُ بَالَغَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي اعْتِبَارِهِ حَتَّى أَثْبَتَ عُقُودَ الرِّبَا وَإِفَادَتَهَا الْمِلْكَ فِي أَصْلِ الْمَالِ الرِّبَوِيِّ وَرَدِّ الزَّائِدِ فَإِذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْجَبَ الْعَقْدُ دِرْهَمًا مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ وَيُرَدُّ الدِّرْهَمُ الزَّائِدُ وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الرِّبَوِيَّاتِ وَبَالَغَ قُبَالَتَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إلْغَاءِ هَذَا الْفَرْقِ حَتَّى أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ وَالْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الْمَسْرُوقِ وَالذَّبْحَ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ وَسَوَّى فِيهِ بَيْنَ مَوَارِدِ النَّهْيِ وَتَوَسَّطَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فَأَوْجَبَا الْفَسَادَ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ دُونَ بَعْضٍ ، وَأَنَا أَذْكُرُ حُجَجَ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ أُذَيِّلُ بِمَسَائِلَ تُوَضِّحُ الْفَرْقَ .
احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّ النَّهْيَ إذَا كَانَ فِي نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ فِي نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ وَالْمُتَضَمِّنُ لِلْمُفْسِدَةِ فَاسِدٌ فَإِنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَبَيْعِ السَّفِيهِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ أَرْكَانَ الْعَقْدِ أَرْبَعَةٌ : عِوَضَانِ وَعَاقِدَانِ فَمَتَى وُجِدَتْ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ سَالِمَةً عَنْ النَّهْيِ فَقَدْ وُجِدَتْ الْمَاهِيَّةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا سَالِمَةً عَنْ النَّهْيِ فَيَكُونُ النَّهْيُ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهَا وَمَتَى انْخَرَمَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ فَقَدْ عُدِمَتْ الْمَاهِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْمُرَكَّبَةَ كَمَا تُعْدَمُ لِعَدَمِ كُلِّ أَجْزَائِهَا تُعْدَمُ لِعَدَمِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا فَإِذَا بَاعَ سَفِيهٌ مِنْ سَفِيهٍ خَمْرًا بِخِنْزِيرٍ فَجَمِيعُ الْأَرْكَانِ مَعْدُومَةٌ فَالْمَاهِيَّةُ مَعْدُومَةٌ وَالنَّهْيُ وَالْفَسَادُ فِي نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ وَإِذَا بَاعَ
رَشِيدٌ مِنْ رَشِيدٍ ثَوْبًا بِخِنْزِيرٍ فَقَدْ فُقِدَ رُكْنٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ وَهُوَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فَتَكُونُ الْمَاهِيَّةُ مَعْدُومَةً شَرْعًا وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ .
فَإِذَا بَاعَ رَشِيدٌ مِنْ رَشِيدٍ فِضَّةً بِفِضَّةٍ فَالْأَرْكَانُ الْأَرْبَعَةُ مَوْجُودَةٌ سَالِمَةٌ عَنْ النَّهْيِ الشَّرْعِيِّ فَإِذَا كَانَتْ إحْدَى الْفِضَّتَيْنِ أَكْثَرَ فَالْكَثْرَةُ وَصْفٌ حَصَلَ لِأَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فَالْوَصْفُ مُتَعَلِّقُ النَّهْيِ دُونَ الْمَاهِيَّةِ فَهَذَا هُوَ تَحْرِيرُ كَوْنِ النَّهْيِ فِي الْمَاهِيَّةِ أَوْ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهَا وَخَرَجَ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ عُقُودِ الرِّبَا وَجَمِيعُ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الضَّابِطِ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ فِي الْمِثَالِ فَمَتَى وُجِدَتْ الْأَرْكَانُ كُلُّهَا وَأَجْزَاءُ الْمَاهِيَّةِ فَالنَّهْيُ فِي الْخَارِجِ وَمَتَى كَانَ النَّهْيُ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَاهِيَّةِ أَوْ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَالنَّهْيُ فِي الْمَاهِيَّةِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلُ الْمَاهِيَّةِ سَالِمٌ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَالنَّهْيُ إنَّمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ عَنْهَا فَلَوْ قُلْنَا بِالْفَسَادِ مُطْلَقًا لَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ الْمُتَضَمَّنَةِ لِلْفَسَادِ وَبَيْنَ السَّالِمَةِ عَنْ الْفَسَادِ ، وَلَوْ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا لَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ السَّالِمَةِ فِي ذَاتِهَا وَصِفَاتِهَا وَبَيْنَ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْفَسَادِ فِي صِفَاتِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَوَاطِنِ الْفَسَادِ وَبَيْنَ السَّالِمِ عَنْ الْفَسَادِ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ فَتَعَيَّنَ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَابَلَ الْأَصْلُ بِالْأَصْلِ وَالْوَصْفُ بِالْوَصْفِ فَنَقُولُ أَصْلُ الْمَاهِيَّةِ سَالِمٌ عَنْ النَّهْيِ .
وَالْأَصْلُ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَعُقُودِهِمْ الصِّحَّةُ حَتَّى يَرِدَ نَهْيٌ فَيَثْبُتُ لِأَصْلِ الْمَاهِيَّةِ الْأَصْلُ الَّذِي هُوَ الصِّحَّةُ وَيَثْبُتُ لِلْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمَفْسَدَةِ الْوَصْفُ الْعَارِضُ وَهُوَ النَّهْيُ فَيَفْسُدُ الْوَصْفُ دُونَ الْأَصْلِ وَهُوَ
الْمَطْلُوبُ وَهُوَ فِقْهٌ حَسَنٌ وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ النَّهْيَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ وَمَتَى وَرَدَ نَهْيٌ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ الْعَقْدَ وَذَلِكَ التَّصَرُّفَ بِجُمْلَتِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ إنَّمَا اقْتَضَى تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ بِذَلِكَ الْوَصْفِ أَمَّا بِدُونِهِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ غَيْرَ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ فَيُرَدُّ مِنْ يَدِ قَابِضِهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ ، وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ مَعْدُومٌ شَرْعًا وَالْمَعْدُومُ شَرْعًا كَالْمَعْدُومِ حِسًّا وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ حِسًّا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ ، فَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ بَاطِلَةٌ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ وَالذَّبْحُ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَسْرُوقَةِ فَهِيَ كُلُّهَا مَعْدُومَةٌ شَرْعًا فَتَكُونُ مَعْدُومَةً حِسًّا وَمَنْ فَرَى الْأَوْدَاجَ بِغَيْرِ أَدَاةٍ حِسًّا لَمْ تُؤْكَلْ ذَبِيحَتُهُ فَكَذَلِكَ ذَبِيحَةُ الذَّابِحِ بِسِكِّينٍ مَغْصُوبَةٍ وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ .
وَأَمَّا نَحْنُ فَتَوَسَّطْنَا بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ فَقُلْنَا بِالْفَسَادِ لِأَجْلِ النَّهْيِ عَنْ الْوَصْفِ فِي مَسَائِلَ دُونَ مَسَائِلَ وَلْنَذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ قُلْنَا نَحْنُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ بِصِحَّتِهَا وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ بِبُطْلَانِهَا فَنَحْنُ نُلَاحِظُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْأَمْرِ قَدْ وُجِدَ فِيهَا بِكَمَالِهِ مَعَ مُتَعَلِّقِ النَّهْيِ فَالصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ حَاصِلَةٌ غَيْرَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ جَنَى عَلَى حَقِّ صَاحِبِ الدَّارِ فَالنَّهْيُ فِي الْمُجَاوِرِ وَالْحَنَابِلَةُ مَشَوْا عَلَى أَصْلِهِمْ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) غَاصِبُ الْخُفِّ إذَا مَسَحَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا صَحَّتْ طَهَارَتُهُ وَصَلَاتُهُ وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَبْطُلُ وَالْمُدْرَكُ عِنْدَنَا أَنَّهُ مُحَصِّلٌ لِلطَّهَارَةِ بِكَمَالِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا وَإِنَّمَا هُوَ
جَانٍ عَلَى حَقِّ صَاحِبِ الْخُفِّ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَبِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْفَرْعِ وَبَيْنَ الْمُحْرِمِ إذَا مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ أَنَّ الْمُحْرِمَ مُخَاطَبٌ فِي طَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَمْ تَحْصُلْ بِهِ حَقِيقَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِكَمَالِهِ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ حَصَّلَ حَقِيقَةَ الْمَأْمُورِ بِهِ بِكَمَالِهِ مَعَ حَقِيقَةِ النَّهْيِ فَكَانَ النَّهْيُ فِي الْمُجَاوِرِ ، وَكَثِيرًا مَا يُسْأَلُ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأُمُورٍ وَعِبَارَاتٍ لَيْسَ فِيهَا إبَانَةٌ عَنْ الْمَقْصُودِ وَسِرُّ الْفَرْقِ مَا ذَكَرْتُهُ لَكَ مِنْ وُجُودِ كَمَالِ حَقِيقَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْغَاصِبِ وَعَدَمُ وُجُودِهَا فِي الْمُحْرِمِ فَفِي صُورَةِ الْغَاصِبِ نَهْيٌ عَنْ مُجَاوِرٍ وَفِي صُورَةِ الْمُحْرِمِ عَدَمُ الْمَأْمُورِ بِهِ فَبَقِيَتْ الذِّمَّةُ مَشْغُولَةً بِالْمَأْمُورِ فَالْبَابَانِ مُخْتَلِفَانِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَاصٍ بِاللُّبْسِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الَّذِي يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ مَغْصُوبٍ أَوْ يَتَوَضَّأُ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ أَوْ يَحُجُّ بِمَالٍ حَرَامٍ كُلُّ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ فِي الصِّحَّةِ خِلَافًا لِأَحْمَدَ وَالْعِلَّةُ وَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْحَجِّ وَالسُّتْرَةِ وَصُورَةِ التَّطَهُّرِ قَدْ وُجِدَتْ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْإِذْنُ الشَّرْعِيُّ وَإِذَا حَصَلَتْ حَقِيقَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةُ كَانَ النَّهْيُ مُجَاوِرًا وَهِيَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْغَيْرِ كَمَا فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنْ قُلْتَ لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ حَقِيقَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَرْعًا كَالْمَعْدُومِ حِسًّا فَتَكُونُ السُّتْرَةُ مَعْدُومَةً حِسًّا مَعَ الْعَمْدِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ بِعَيْنِ هَذَا التَّقْرِيرِ وَلَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ فَإِنَّ النَّفَقَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْحَجِّ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ رُكْنًا وَلَا صُرِفَتْ
فِي رُكْنٍ بَلْ نَفَقَةُ الطَّرِيقِ لِحِفْظِ حَيَاةِ الْمُسَافِرِ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ هَاهُنَا صُرِفَ فِيمَا هُوَ شَرْطٌ فَكَانَ الشَّرْطُ مَعْدُومًا قُلْتُ نَمْنَعُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّهَارَةِ وَالسُّتْرَةِ وَاشْتَرَطَ فِيهِمَا أَنْ تَكُونَ الْأَدَاةُ مُبَاحَةً بَلْ حَرَّمَ الْغَصْبَ مُطْلَقًا وَأَوْجَبَ الطَّهَارَةَ مُطْلَقًا وَلَمْ يُقَيِّدْ وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْبَتَّةَ فَكَمَا يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ وَإِنْ قَارَنَ مَأْمُورًا يَتَحَقَّقُ الْمَأْمُورُ وَإِنْ قَارَنَ تَحْرِيمًا فَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا بِالصَّلَاةِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهَا بُقْعَةً مُبَاحَةً بَلْ أَوْجَبَ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا وَحَرَّمَ الْغَصْبَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ عَدَمُهُ شَرْطًا كَمَا أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ فِي صَلَاتِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ عَزَمَ فِي صَلَاتِهِ عَلَى قَتْلِ إنْسَانٍ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ مَعَ مُقَارَنَةِ الْمُحَرَّمِ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ فَإِنْ قُلْتَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَبَيْنَ مَسَائِلِ الرِّبَا وَلِمَ لَا وَافَقْتَ الْحَنَفِيَّةَ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فِيهَا كَمَا صَحَّتْ الْعِبَادَةُ مَعَ ثُبُوتِ النَّهْيِ فِي الْوَصْفِ وَفِي الْجَمِيعِ النَّهْيُ فِي الْوَصْفِ دُونَ الْأَصْلِ وَالْحَنَفِيَّةُ طَرَدَتْ أَصْلهَا وَأَنْتَ لَمْ تَطْرُدْ أَصْلَكَ ، وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ قُلْتُ السِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْحَقَائِقَ مُتَعَلِّقَاتُ الْعُقُودِ وَالرِّضَا لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِمُقَابَلَةِ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ فَلَوْ صَحَّحْنَا الْعَقْدَ فِي الْبَعْضِ لَنَقَلْنَا مِلْكَ الْبَائِعِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ } وَهَذَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ إلَّا بِمَا تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِهِ فَكَانَ الدِّرْهَمُ الْبَاقِي بَعْدَ إسْقَاطِ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ بَاذِلِهِ لِعَدَمِ تَنَاوُلِ الْعَقْدِ مُقَابَلَتَهُ بِمِثْلِهِ بَلْ بِمِثْلَيْهِ ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ حَيْثُ قُلْتُ بِالصِّحَّةِ فَالْمَوْجُودُ كَمَالُ
مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ فَقُلْتُ بِالصِّحَّةِ لِكَمَالِ وُجُودِ الْمُتَعَلِّقِ وَهُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ كَمَالُ الْمُتَعَلِّقِ وَهَذَا فَرْقٌ جَلِيٌّ جَلِيلٌ فَإِنْ قُلْتَ مَنْ رَضِيَ بِأَنْ يَكُونَ دِرْهَمَانِ مِنْ عِنْدِهِ بِإِزَاءِ دِرْهَمٍ فَقَدْ رَضِيَ بِأَنْ يَكُونَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ مِنْ قِبَلِهِ بِإِزَاءِ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَقَوْلُهُ لَمْ يَحْصُلْ الرِّضَا مَمْنُوعٌ بَلْ الرِّضَا حَاصِلٌ .
قُلْتُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ هَبْ أَنَّ بَاذِلَ الدِّرْهَمَيْنِ رَاضٍ فَبَاذِلُ الدِّرْهَمِ غَيْرُ رَاضٍ بِبَذْلِهِ بِإِزَاءِ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا رَضِيَ بِبَذْلِهِ بِإِزَاءِ دِرْهَمَيْنِ سَلَّمْنَا حُصُولَ الرِّضَا لَكِنْ الرِّضَا لَا يَكْفِي وَحْدَهُ فِي نَقْلِ الْأَمْلَاكِ فَإِنَّهُ لَوْ رَضِيَ بِنَقْلِ مِلْكِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ وَلَمْ يَنْتَقِلْ مِلْكُهُ فِيمَا عَلِمْته إجْمَاعًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عَقْدٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، أَمَّا الرِّضَا وَحْدَهُ فَلَيْسَ هُوَ سَبَبًا شَرْعِيًّا بَلْ السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ هُوَ الدَّالُّ عَلَى الرِّضَا وَهَذَا السَّبَبُ لَهُ مُتَعَلِّقٌ وَلَمْ يُوجَدْ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْضَى بِاللُّزُومِ حِينَئِذٍ فَهَذَا هُوَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّبَوِيَّاتِ وَالْعِبَادَاتِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَهُوَ حَسَنٌ
قَالَ ( شِهَابُ الدِّينِ الْفَرْقُ السَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْفَسَادَ فِي نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْفَسَادَ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ إلَى قَوْلِهِ وَهَذَا فِقْهٌ حَسَنٌ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ حِكَايَةُ مَذْهَبٍ وَتَقْرِيرُهُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ غَيْرُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْمُرَكَّبَةَ كَمَا تَعْدَمُ لِعَدَمِ كُلِّ أَجْزَائِهَا تَعْدَمُ بِعَدَمِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ إذَا عَدِمَ بَعْضَ الْأَجْزَاءُ لَمْ تَتَرَكَّبْ تِلْكَ الْمَاهِيَّةُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْجُزْءُ الْمَعْدُومُ جُزْءًا مِنْهَا إلَّا بِالتَّوَهُّمِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا فِي غَيْرِ هَذَا الْفَرْضِ أَمَّا فِي هَذَا فَلَا وَغَيْرُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي قَرَّرَهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِقْهٌ حَسَنٌ وَهُوَ قَوْلُهُ .
( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلُ الْمَاهِيَّةِ سَالِمٌ عَنْ الْمَفْسَدَةِ وَالنَّهْيُ إنَّمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ عَنْهَا فَلَوْ قُلْنَا بِالْفَسَادِ مُطْلَقًا لَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْفَسَادِ وَبَيْنَ السَّالِمَةِ عَنْ الْفَسَادِ وَلَوْ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا لَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ السَّالِمَةِ فِي ذَاتِهَا وَصِفَاتِهَا وَبَيْنَ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْفَسَادِ فِي صِفَاتِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَوَاطِنِ الْفَسَادِ وَبَيْنَ السَّالِمِ عَنْ الْفَسَادِ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ فَتَعَيَّنَ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَابَلَ الْأَصْلُ بِالْأَصْلِ وَالْوَصْفُ بِالْوَصْفِ فَنَقُولُ أَصْلُ الْمَاهِيَّةِ سَالِمٌ عَنْ النَّهْيِ وَالْأَصْلُ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَعُقُودِهِمْ الصِّحَّةُ حَتَّى يَرِدَ نَهْيٌ فَيُثْبِتَ لِأَصْلِ الْمَاهِيَّةِ الْأَصْلَ الَّذِي هُوَ الصِّحَّةُ وَيُثْبِتَ لِلْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمَفْسَدَةِ الْوَصْفَ الْعَارِضَ وَهُوَ النَّهْيُ فَيَفْسُدُ الْوَصْفُ دُونَ الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ) قُلْتُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْوَصْفَ إذَا نَهَى عَنْهُ سَرَى النَّهْيُ إلَى الْمَوْصُوفِ ؛ لِأَنَّ
الْوَصْفَ لَا وُجُودَ لَهُ مُفَارِقًا لِلْمَوْصُوفِ فَيَئُولُ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ النَّهْيَ يَتَسَلَّطُ عَلَى الْمَاهِيَّةِ الْمَوْصُوفَةِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَتَكُونُ الْمَاهِيَّةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ عَارٍ عَنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ فَلَا يَتَسَلَّطُ النَّهْيُ عَلَيْهِ وَمُتَّصِفٌ بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَيَتَسَلَّطُ النَّهْيُ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّ النَّهْيَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ إلَى قَوْلِهِ وَلِنَذْكُرَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَسَائِلَ ) قُلْتُ فِيمَا قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَمِنْ تَسْوِيَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الرِّبَا نَظَرٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَمْ يَتَسَلَّطْ النَّهْيُ فِيهَا عَلَى الْمَاهِيَّةِ وَلَا عَلَى وَصْفِهَا بَلْ تَسَلَّطَ عَلَى الْغَصْبِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضِ لِكَوْنِهِ فِي وُضُوءٍ أَوْ غَيْرِ وُضُوءٍ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الرِّبَا فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ فِي الْآيَةِ ظَاهِرُهُ التَّسَلُّطُ عَلَى الرِّبَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِكَوْنِهِ فِي الْبَيْعِ أَوْ لَا فَإِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ } فَسَلَّطَ النَّهْيَ عَلَى الْبَيْعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الزِّيَادَةِ وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ .
قَالَ لَا تَتَوَضَّأْ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ فَبَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ فَرْقٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا خَفَاءَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ إلَى آخِرِهَا ) قُلْتُ لَمْ يَزِدْ عَلَى حِكَايَةِ الْمَذَاهِبِ وَمُسْتَنِدِهَا وَلَا كَلَامَ فِي ذَلِكَ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ غَاصِبُ الْخُفِّ إذَا مَسَحَ عَلَيْهِ صَحَّتْ طَهَارَتُهُ وَصَلَاتُهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ تَبْطُلُ إلَى آخِرِهَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ إلَى مُنْتَهَى الْمَسْأَلَةِ .
( الْفَرْقُ السَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْفَسَادَ فِي نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْفَسَادَ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهَا ) مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النَّهْيَ إذَا كَانَ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ مَاهِيَّةِ الْبَيْعِ مَثَلًا الَّتِي هِيَ الْعَاقِدَانِ وَالْعِوَضَانِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَبَيْعِ السَّفِيهِ وَتَحْرِيرِهِ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ فِي نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ وَالْمُتَضَمِّنُ لِلْمَفْسَدَةِ فَاسِدٌ وَإِذَا كَانَ أَيْ النَّهْيُ إنَّمَا هُوَ فِي خَارِجٍ عَنْهَا كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ نَقْدٍ بِنَقْدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فَإِنَّ مُتَعَلِّقَ النَّهْيِ وَصْفُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ بِالْكَثْرَةِ لَا نَفْسُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ كَانَ أَصْلُ الْمَاهِيَّةِ سَالِمًا عَنْ الْمَفْسَدَةِ النَّهْيُ إنَّمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ عَنْهَا فَلَا يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَاهِيَّةِ كَمَا اقْتَضَاهُ تَعَلُّقُ النَّهْيِ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا الْأَرْبَعَةِ قَالَ : إذْ لَوْ قُلْنَا بِالْفَسَادِ مُطْلَقًا لَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْفَسَادِ وَبَيْنَ السَّالِمَةِ عَنْ الْفَسَادِ كَمَا أَنَّا لَوْ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا لَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْمَاهِيَّةِ السَّالِمَةِ فِي ذَاتِهَا وَصِفَاتِهَا وَبَيْنَ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْفَسَادِ فِي صِفَاتِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَإِنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ مَوَاطِنِ الْفَسَادِ وَبَيْنَ السَّالِمِ عَنْ الْفَسَادِ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ فَتَعَيَّنَ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَابَلَ الْأَصْلُ بِالْأَصْلِ وَالْوَصْفُ بِالْوَصْفِ فَنَقُولُ أَصْلُ الْمَاهِيَّةِ سَالِمٌ عَنْ النَّهْيِ وَالْأَصْلُ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَعُقُودِهِمْ الصِّحَّةُ حَتَّى يَرِدَ نَهْيٌ فَيَثْبُتُ لِأَصْلِ الْمَاهِيَّةِ الْأَصْلُ الَّذِي هُوَ الصِّحَّةُ وَيَثْبُتُ لِلْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْمَفْسَدَةِ الْوَصْفُ الْعَارِضُ وَهُوَ النَّهْيُ فَيَفْسُدُ الْوَصْفُ دُونَ الْأَصْلِ وَهُوَ
الْمَطْلُوبُ ا هـ .
قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْوَصْفَ إذَا نُهِيَ عَنْهُ سَرَى النَّهْيُ إلَى الْمَوْصُوفِ ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا وُجُودَ لَهُ مُفَارِقًا لِلْمَوْصُوفِ فَيَئُولُ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ النَّهْيَ يَتَسَلَّطُ عَلَى الْمَاهِيَّةِ الْمَوْصُوفَةِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَتَكُونُ الْمَاهِيَّةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ عَارٍ عَنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ فَلَا يَتَسَلَّطُ النَّهْيُ عَلَيْهِ وَمُتَّصِفُ بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَيَتَسَلَّطُ النَّهْيُ عَلَيْهِ ا هـ .
وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِ النَّهْيِ حَتَّى أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ وَالْوُضُوءَ بِالْمَاءِ الْمَسْرُوقِ وَالذَّبْحَ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ مُحْتَجًّا بِأَنَّ النَّهْيَ يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ وَمَتَى وَرَدَ نَهْيٌ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ الْعَقْدَ وَذَلِكَ التَّصَرُّفَ بِجُمْلَتِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ إنَّمَا اقْتَضَى تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ بِذَلِكَ الْوَصْفِ أَمَّا بِدُونِهِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ غَيْرَ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ فَيُرَدُّ مِنْ يَدِ قَابِضِهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ .
وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ مَعْدُومٌ شَرْعًا وَالْمَعْدُومُ شَرْعًا كَالْمَعْدُومِ حِسًّا وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ حِسًّا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ فَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ بَاطِلَةٌ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَسْرُوقِ وَالذَّبْحِ بِالسِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمَسْرُوقَةِ فَهِيَ كُلُّهَا مَعْدُومَةٌ شَرْعًا فَتَكُونُ مَعْدُومَةٌ حِسًّا وَمَنْ فَرَى الْأَوْدَاجَ بِغَيْرِ أَدَاةٍ حِسًّا لَمْ تُؤْكَلْ ذَبِيحَتُهُ فَكَذَلِكَ ذَبِيحَةُ الذَّابِحِ بِسِكِّينٍ مَغْصُوبَةٍ وَعَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَفِي تَسْوِيَتِهِ بَيْنَ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ وَمَا أَشْبَهَهُ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الرِّبَا نَظَرٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَمْ يَتَسَلَّطْ النَّهْيُ فِيهَا عَلَى الْمَاهِيَّةِ وَلَا عَلَى وَصْفِهَا بَلْ الْغَصْبُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ
لِكَوْنِهِ فِي وُضُوءٍ أَوْ غَيْرِ وُضُوءٍ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الرِّبَا فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ فِي الْآيَةِ ظَاهِرُهُ التَّسَلُّطُ عَلَى الرِّبَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِكَوْنِهِ فِي الْبَيْعِ أَوْ لَا فَإِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ } فَسَلَّطَ النَّهْيَ عَلَى الْبَيْعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الزِّيَادَةِ وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَتَوَضَّأْ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ فَبَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ فَرْقٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا خَفَاءَ فِيهِ ا هـ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُبَالَغَةُ فِي اعْتِبَارِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ حَتَّى أَثْبَتَ عُقُودَ الرِّبَا وَإِفَادَتَهَا الْمِلْكَ فِي أَصْلِ الْمَالِ الرِّبَوِيِّ وَرَدِّ الزَّائِدِ ، فَإِذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ أَوْجَبَ الْعَقْدُ دِرْهَمًا مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ وَيُرَدُّ الدِّرْهَمُ الزَّائِدُ ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الرِّبَوِيَّاتِ وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الْمُبَالَغَةُ فِي إلْغَاءِ هَذَا الْفَرْقِ حَتَّى أَبْطَلَ الصَّلَاةَ بِالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا نَظَرٌ قَدْ عَلِمْته وَتَوَسَّطَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَخُلَاصَةُ مَا فَرَقَّا بِهِ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّهْيَ إذَا كَانَ فِي حَقِيقَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِأَنْ كَانَ فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَيْ فِي نَفْسِ الرُّكْنِ أَوْ صِفَتِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْخِنْزِيرِ وَكَالنَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْخُفِّ فِي الْإِحْرَامِ وَكَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ كَانَ مُقْتَضِيًا لِفَسَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ حُصُولِ الْحَقِيقَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِكَمَالِهِ حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ الْمَفَاسِدَ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا يَعْتَمِدُ الْمَصَالِحَ .
وَإِذَا كَانَ أَيْ النَّهْيُ لَا فِي حَقِيقَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَلْ فِي الْمُجَاوِرِ كَالنَّهْيِ عَنْ الْغَصْبِ
وَالسَّرِقَةِ كَانَ مُقْتَضِيًا لِفَسَادِ الْمُجَاوِرِ لَا لِفَسَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَطَهَارَةُ غَاصِبِ الْخُفِّ إذَا مَسَحَ عَلَيْهِ مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الْغَصْبِ فَإِنَّ طَهَارَتَهُ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا لِكَوْنِهِ مُحَصِّلًا لَهَا بِكَمَالِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا وَإِنَّمَا هُوَ جَانٍ عَلَى حَقِّ صَاحِبِ الْخُفِّ بِخِلَافِ طَهَارَةِ الْمُحْرِمِ إذَا مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ فَإِنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْهَا بِكَمَالِهَا مَعَ نَهْيِهِ عَنْ لُبْسِ الْخُفِّ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا فِي طَهَارَتِهِ بِالْغُسْلِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَمْ تَحْصُلْ حَقِيقَةُ الطَّهَارَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا بِكَمَالِهَا مَعَ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْخُفِّ لِكَوْنِهِ فِي نَفْسِ الْحَقِيقَةِ لَا فِي مُجَاوِرِهَا فَبِكُلٍّ مِنْ الْغَاصِبِ وَالْمُحْرِمِ وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي الْعِصْيَانِ بِلُبْسِ الْخُفِّ بِسَبَبِ نَهْيِهِ عَنْهُ إلَّا أَنَّ النَّهْيَ فِي الْغَاصِبِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالْمُجَاوِرِ لِلْمَأْمُورِ بِهِ لَا بِنَفْسِ حَقِيقَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ اقْتَضَى فَسَادَ الْمُجَاوِرِ لَا فَسَادَ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَمْ تَبْقَ الذِّمَّةُ مَشْغُولَةً بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَالنَّهْيُ فِي الْمُحْرِمِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِنَفْسِ حَقِيقَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا بِمُجَاوِرِهِ اقْتَضَى فَسَادَ الْمَأْمُورِ بِهِ فَبَقِيَتْ الذِّمَّةُ مَشْغُولَةً بِالْمَأْمُورِ بِهِ .
( وَصْلٌ ) فِي زِيَادَةِ تَوْضِيحِ الْمَقَامِ بِمَسْأَلَتَيْنِ : ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ أَوْ فِي ثَوْبٍ مَغْصُوبٍ وَالْوُضُوءُ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ وَالْحَجُّ بِمَالٍ حَرَامٍ سَوَاءٌ فِي الصِّحَّةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِأَحْمَدَ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّا نُلَاحِظُ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَدْ وُجِدَ فِيهَا بِكَمَالِهِ مَعَ مُتَعَلِّقِ النَّهْيِ فَحَقِيقَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْمَكَانِ الطَّاهِرِ وَالسُّتْرَةِ الْكَامِلَةِ وَصُورَةُ التَّطْهِيرِ وَالْحَجُّ قَدْ وُجِدَتْ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْإِذْنُ الشَّرْعِيُّ وَإِذَا حَصَلَتْ حَقِيقَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَصْلَحَةُ كَانَ النَّهْيُ فِي
مُجَاوِرٍ وَهِيَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْغَيْرِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مَشَى عَلَى أَصْلِهِ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ نَظَرًا لِعَدَمِ وُجُودِ حَقِيقَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ الْمَكَانِ وَالسُّتْرَةِ وَصُورَةِ التَّطَهُّرِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ شَرْعًا كَالْمَعْدُومِ حِسًّا فَيَكُونُ الْمَكَانُ وَالسُّتْرَةُ وَصُورَةُ التَّطْهِيرِ مَعْدُومَةً حِسًّا مَعَ الْعَمْدِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَلَا يَخْفَاك أَنَّ هَذَا النَّظَرَ إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّهَارَةِ وَالسُّتْرَةِ وَالْمَكَانِ الطَّاهِرِ وَاشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْأَدَاةُ مُبَاحَةً وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بَلْ نَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الصَّلَاةَ مُطْلَقًا وَحَرَّمَ الْغَصْبَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ عَدَمُهُ شَرْطًا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ فِي صَلَاتِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ مَعَ مُقَارَنَةِ الْمُحَرَّمِ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّظَرُ لَا يَتَأَتَّى فِي الْحَجِّ فَإِنَّ النَّفَقَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْحَجِّ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ رُكْنًا وَلَا صُرِفَتْ فِي رُكْنٍ بَلْ نَفَقَةُ الطَّرِيقِ لِحِفْظِ حَيَاةِ الْمُسَافِرِ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ فِي مَسْأَلَةِ الْمَكَانِ وَالسُّتْرَةِ وَصُورَةِ التَّطْهِيرِ فَإِنَّهُ صُرِفَ فِيمَا هُوَ شَرْطٌ فَكَانَ الشَّرْطُ مَعْدُومًا فَافْهَمْ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَنَحْوُهُ مِنْ الرِّبَوِيَّاتِ وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الزِّيَادَةُ لَا بِنَفْسِ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْمَكَانِ وَالسُّتْرَةِ وَصُورَةِ التَّطْهِيرِ وَالْحَجِّ إلَّا أَنَّ الْوَصْفَ هُنَا أَيْ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ لَمَّا كَانَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّ رِضَا الْبَائِعِ لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِمُقَابَلَةِ الْوَاحِدِ بِالِاثْنَيْنِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ }
وَهَذَا الْبَائِعُ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ إلَّا بِمَا تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِهِ لَمْ تَحْصُلْ حَقِيقَةُ الْعَقْدِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِكَمَالِهِ بَلْ كَانَ الدِّرْهَمُ الْبَاقِي بَعْدَ إسْقَاطِ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ بَاذِلِهِ .
وَأَمَّا الْوَصْفُ فِي مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ الْمَارَّةِ فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْمَأْمُورِ بِهِ بِحَيْثُ تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى صِحَّتِهِ كَانَ مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ مَوْجُودًا بِكَمَالِهِ ، فَقَوْلُنَا بِالصِّحَّةِ فِي مَسَائِلِ الْعِبَادَاتِ وَعَدَمِهَا فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ لِكَمَالِ وُجُودِ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ بَاذِلُ الدِّرْهَمَيْنِ مِنْ عِنْدِهِ بِإِزَاءِ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَإِنْ رَضِيَ بِمُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ بِمِثْلِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى إلَّا أَنَّ بَاذِلَ الدِّرْهَمِ غَيْرُ رَاضٍ بِبَذْلِهِ بِإِزَاءِ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَرْضَى بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ مِنْ بَذْلِهِ بِإِزَاءِ دِرْهَمَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَضِيَ بِذَلِكَ أَيْضًا لَا يَكْفِي حُصُولُ الرِّضَا وَحْدَهُ فِي نَقْلِ الْأَمْلَاكِ فَإِنَّهُ لَوْ رَضِيَ بِنَقْلِ مِلْكِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ لَمْ يَنْتَقِلْ مِلْكُهُ إجْمَاعًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عَقْدٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا ؛ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ لَا الرِّضَا وَحْدَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقْضِيَ بِاللُّزُومِ حِينَئِذٍ هَذَا هُوَ سِرُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّبَوِيَّاتِ وَالْعِبَادَاتِ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ حَسَنٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ حِكَايَةُ الْحَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ سَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال وَبَيْنَ قَاعِدَةِ حِكَايَةُ الْحَالِ إذَا تُرِكَ فِيهَا الِاسْتِفْصَالُ تَقُومُ مَقَامَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ وَيَحْسُنُ بِهَا الِاسْتِدْلَال ) هَذَا مَوْضِعٌ نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِيهِ هَذَانِ الْأَمْرَانِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَاخْتَلَفَتْ أَجْوِبَةُ الْفُضَلَاءِ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا مُشْكِلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَاَلَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّهُمَا لَيْسَتَا قَاعِدَةً وَاحِدَةً فِيهَا قَوْلَانِ بَلْ هُمَا قَاعِدَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَلَا تَنَاقُضَ وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا يَنْبَنِي عَلَى قَوَاعِدَ : الْقَاعِدَةُ الْأُولَى أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ لَا يَقْدَحُ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَإِلَّا لَسَقَطَتْ دَلَالَةُ الْعُمُومَاتِ كُلُّهَا لِتَطَرُّقِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ إلَيْهَا بَلْ تَسْقُطُ دَلَالَةُ جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ لِتَطَرُّقِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ إلَى جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ حِينَئِذٍ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الَّذِي يُوجِبُ الْإِجْمَالَ إنَّمَا هُوَ الِاحْتِمَالُ الْمُسَاوِي أَوْ الْمُقَارِبُ أَمَّا الْمَرْجُوحُ فَلَا .
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا احْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ صَارَ مُجْمَلًا وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ أَنَّ لَفْظَ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذَا كَانَ ظَاهِرًا أَوْ نَصًّا فِي جِنْسٍ وَذَلِكَ الْجِنْسُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْوَاعِهِ وَأَفْرَادِهِ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي الدَّلَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } اللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِي إعْتَاقِ جِنْسِ الرَّقَبَةِ وَهِيَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالطَّوِيلَةِ وَالْقَصِيرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى إيجَابِ الرَّقَبَةِ وَكَذَلِكَ
الْأَمْرُ بِجَمِيعِ الْمُطْلَقَاتِ الْكُلِّيَّاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا عَشْرَةٌ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي شَيْءٍ مِنْ مِثْلِهَا قَدْحٌ وَلَا إجْمَالٌ إذَا تَحَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ فَنَقُولُ الِاحْتِمَالَاتُ تَارَةً تَكُونُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَى السَّوَاءِ فَتَقْدَحُ وَتَارَةً تَكُونُ فِي مَحَلِّ مَدْلُولِ اللَّفْظِ فَلَا تَقْدَحُ فَحَيْثُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ سَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال مُرَادُهُ إذَا اسْتَوَتْ الِاحْتِمَالَاتُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَمُرَادُهُ أَنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ إذَا تُرِكَ فِيهَا الِاسْتِفْصَالُ قَامَتْ مَقَامَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ إذَا كَانَتْ الِاحْتِمَالَاتُ فِي مَحَلِّ الْمَدْلُولِ دُونَ الدَّلِيلِ
قَالَ ( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ حِكَايَةِ الْحَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ سَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال وَبَيْنَ قَاعِدَةِ حِكَايَةِ الْحَالِ إذَا تُرِكَ فِيهَا الِاسْتِفْصَالُ تَقُومُ مَقَامَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ وَيَحْسُنُ بِهَا الِاسْتِدْلَال إلَى قَوْلِهِ وَتَحْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا يَنْبَنِي عَلَى قَوَاعِدَ ) قُلْت قَوْلُهُ بَلْ هُمَا قَاعِدَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ فَلَيْسَ قَوْلُهُ بِصَحِيحٍ وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَتَانِ فِي كَوْنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا قَاعِدَةً مُسْتَقِلَّةً مُسَاوِيَةً لِلْأُخْرَى فِي الِاسْتِقْلَالِ فَقَوْلُهُ صَحِيحٌ .
قَالَ ( الْقَاعِدَةُ الْأُولَى أَنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَرْجُوحَ لَا يَقْدَحُ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَإِلَّا لَسَقَطَتْ دَلَالَةُ الْعُمُومَاتِ كُلِّهَا لِتَطَرُّقِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ إلَيْهَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( بَلْ تَسْقُطُ دَلَالَةُ جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ لِتَطَرُّقِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ إلَى جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا لَا يَلْحَقُهُ ذَلِكَ وَقَدْ سَبَقَ لَهُ مِنْ هَذَا أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْدَادِ لَا يَدْخُلُهَا الْمَجَازُ .
قَالَ ( لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ حِينَئِذٍ أَنَّ الِاحْتِمَالَ الَّذِي يُوجِبُ الْإِجْمَالَ إنَّمَا هُوَ الِاحْتِمَالُ الْمُسَاوِي أَوْ الْمُقَارِبُ أَمَّا الْمَرْجُوحُ فَلَا ) قُلْتُ إيجَابُ الِاحْتِمَالِ الْمُسَاوِي الْإِجْمَالَ مُسَلَّمٌ وَأَمَّا إيجَابُ الْمُقَارِبِ فَلَا فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُتَحَقِّقَ الْمُقَارَبَةِ فَهُوَ مُتَحَقِّقُ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ وَإِنْ كَانَ مُتَحَقِّقَ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ فَهُوَ مُتَحَقِّقُ الْمَرْجُوحِيَّةِ فَلَا إجْمَالَ .
قَالَ ( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ إنَّ كَلَامَ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا احْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ صَارَ مُجْمَلًا وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ إنَّ
لَفْظَ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذَا كَانَ ظَاهِرًا أَوْ نَصًّا فِي جِنْسٍ وَذَلِكَ الْجِنْسُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْوَاعِهِ وَأَفْرَادِهِ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي الدَّلَالَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } إلَى قَوْلِهِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي شَيْءٍ مِنْ مِثْلِهَا قَدْحٌ وَلَا إجْمَالٌ ) قُلْتُ لَيْسَ مَا مَثَّلَ بِهِ الْجِنْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَفْظُ رَقَبَةٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ جِنْسًا وَلَكِنَّهُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْ الْجِنْسِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِجَمِيعِ الْمُطْلَقَاتِ الْكُلِّيَّاتِ فَإِنَّ الْمُطْلَقَاتِ لَيْسَتْ الْكُلِّيَّاتُ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا .
قَالَ ( إذَا تَحَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَوَاعِدُ فَنَقُولُ الِاحْتِمَالَاتُ تَارَةً تَكُونُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَى السَّوَاءِ فَتَقْدَحُ وَتَارَةً تَكُونُ فِي مَحَلِّ مَدْلُولِ اللَّفْظِ فَلَا تَقْدَحُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ .
قَالَ ( فَحَيْثُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ حِكَايَةَ الْأَحْوَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ سَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال مُرَادُهُ إذَا اسْتَوَتْ الِاحْتِمَالَاتُ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ ) قُلْتُ الْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُرَادَهُ وَإِنَّ مُرَادَهُ أَنَّ قَضَايَا الْأَعْيَانِ إذَا نُقِلَتْ إلَيْنَا وَنُقِلَ حُكْمُ الشَّارِعِ فِيهَا وَاحْتَمَلَ عِنْدَنَا وُقُوعُهَا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ أَوْ وُجُوهٍ وَلَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا عَلَى أَيِّ الْوَجْهَيْنِ أَوْ الْوُجُوهِ وَقَعَ الْأَمْرُ فِيهَا فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا يَثْبُتُ فِيهِ الْإِجْمَالُ وَيَسْقُطُ بِهِ الِاسْتِدْلَال وَدَلِيلُ ظُهُورِ مَا قُلْته دُونَ مَا قَالَهُ أَنَّ مَا قُلْته يُطْلَقُ عَلَيْهِ حِكَايَةُ حَالٍ حَقِيقَةً وَمَا قَالَهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ حِكَايَةُ حَالٍ مَجَازًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَمُرَادُهُ أَنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ إذَا تُرِكَ فِيهَا الِاسْتِفْصَالُ قَامَتْ مَقَامَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ إذَا كَانَتْ الِاحْتِمَالَاتُ فِي مَحَلِّ الْمَدْلُولِ دُونَ الدَّلِيلِ ) قُلْتُ إنْ أَرَادَ بِمَحَلِّ الْمَدْلُولِ أَنَّ قَضَايَا الْأَعْيَانِ إذَا عُرِضَتْ عَلَى الشَّارِعِ
وَهِيَ مُحْتَمِلَةُ الْوُقُوعِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ أَوْ وُجُوهٍ وَتُرِكَ الِاسْتِفْصَالُ فِيهَا فَتَرْكُهُ الِاسْتِفْصَالَ فِيهَا دَلِيلٌ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مُتَّحِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ أَوْ الْوُجُوهِ فَقَوْلُهُ فِيهَا صَحِيحٌ وَهُوَ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِلَا شَكٍّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( الْفَرْقُ الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ حِكَايَةِ الْحَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ سَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال وَبَيْنَ قَاعِدَةِ حِكَايَةِ الْحَالِ إذَا تُرِكَ فِيهَا الِاسْتِفْصَالُ تَقُومُ مَقَامَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ وَيَحْسُنُ بِهَا الِاسْتِدْلَال ) هَاتَانِ قَاعِدَتَانِ مُتَبَايِنَتَانِ نُقِلَتَا عَنْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا قَاعِدَةٌ وَاحِدَةٌ فِيهَا قَوْلَانِ لَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَخْ أَنَّ الدَّلِيلَ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذَا اسْتَوَتْ فِيهِ الِاحْتِمَالَاتُ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهَا سَقَطَ بِهِ الِاسْتِدْلَال لِقَاعِدَتَيْنِ ( الْقَاعِدَةُ الْأُولَى ) أَنَّ الِاحْتِمَالَ الَّذِي يُوجِبُ الْإِجْمَالَ إنَّمَا هُوَ الِاحْتِمَالُ الْمُسَاوِي أَمَّا الْمَرْجُوحُ فَلَا وَإِلَّا لَسَقَطَتْ دَلَالَةُ الْعُمُومَاتِ كُلُّهَا لِتَطَرُّقِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ إلَيْهَا وَذَلِكَ بَاطِلٌ ( الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ ) أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ الشَّرْعِ إذَا كَانَ مُحْتَمِلًا احْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ صَارَ مُجْمَلًا وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَإِنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ إذَا تُرِكَ فِيهَا إلَخْ أَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ إذَا كَانَتْ فِي مَحَلِّ مَدْلُولِ اللَّفْظِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ دُونَ الدَّلِيلِ تَقُومُ مَقَامَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ وَيَحْسُنُ بِهَا الِاسْتِدْلَال بِمَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ إذَا تَرَكَ الِاسْتِفْصَالَ فِي قَضَايَا الْأَعْيَانِ وَهِيَ مُحْتَمَلَةُ الْوُقُوعِ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ أَوْ وُجُوهٍ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مُتَّحِدٌ فِي الْوَجْهَيْنِ أَوْ الْوُجُوهِ .
( قَاعِدَةٌ ) وَهِيَ أَنَّ لَفْظَ صَاحِبِ الشَّرْعِ لَا يَقْدَحُ الِاسْتِدْلَال بِهِ إذَا كَانَ ظَاهِرًا أَوْ نَصًّا فِي فَرْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } فَإِنَّ اللَّفْظَ ظَاهِرٌ فِي إعْتَاقِ مُطْلَقِ رَقَبَةٍ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالطَّوِيلَةِ
وَالْقَصِيرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى إيجَابِ الرَّقَبَةِ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِجَمِيعِ الْمُطْلَقَاتِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْفَرْقِ التَّاسِعِ وَالسِّتِّينَ أَنَّهَا عَشْرَةٌ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي شَيْءٍ مِنْ مِثْلِهَا قَدْحٌ وَلَا إجْمَالٌ وَصَلَ فِي تَوْضِيحِ هَذَا الْفَرْقِ بِثَلَاثِ مَسَائِلَ .
وَلْنُوَضِّحْ ذَلِكَ بِذِكْرِ ثَمَانِ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ قَالَ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ إلَّا أَنَّ التَّمْرَةَ طَاهِرَةٌ طَيِّبَةٌ وَالْمَاءُ طَهُورٌ فَيَبْقَى إذَا جَمَعَ بَيْنَ التَّمْرَةِ وَالْمَاءِ الطَّهُورِ كَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ هَلْ يُسْلَبُ الطَّهُورِيَّةُ أَمْ لَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَقِيَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ وَصْفِهِ فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمَا بِمَا كَانَا عَلَيْهِ قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا تَغَيَّرَا عَنْ حَالَتِهِمَا الْأُولَى فَتَفَتَّتَتْ التَّمْرَةُ وَاحْمَرَّ الْمَاءُ وَحَلَا وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمَاءُ طَهُورٌ عَلَى حَالِهِ وَهُوَ مُرَادُ الْحَنَفِيَّةِ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ إشْعَارٌ بِالتَّفَتُّتِ وَلَا بِعَدَمِهِ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ } لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي ذَلِكَ لِمَا قَبْلَ التَّغَيُّرِ وَلَا لِمَا بَعْدَهُ فَإِنْ قُلْت لَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا بَعْدَ التَّغَيُّرِ لَمْ يَكُنْ الْجَوَابُ حَاصِلًا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّمَا سُئِلَ عَنْهُمَا بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا قُلْتُ مُسَلَّمٌ إنَّهُ سُئِلَ عَنْهُمَا بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ لِلسَّائِلِ تَوَضَّأْ وَلَا لَا تَتَوَضَّأْ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ وَصْفَيْ الْمُجْتَمِعَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّغَيُّرِ وَلَا لِعَدَمِهِ فَلَا جَرَمَ لَمَّا تَسَاوَتْ الِاحْتِمَالَاتُ فِي ذَلِكَ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَ التَّغَيُّرِ فَإِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْأَخَصِّ وَحَالَةُ التَّغَيُّرِ أَخَصُّ مِمَّا فُهِمَ مِنْ اللَّفْظِ مِنْ وَصْفَيْ الْمُجْتَمِعَيْنِ
قَالَ ( وَلْنُوَضِّحْ ذَلِكَ بِذِكْرِ ثَمَانِ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ قَالَ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ } لَيْسَ فِي اللَّفْظِ إلَّا أَنَّ التَّمْرَةَ طَاهِرَةٌ طَيِّبَةٌ وَالْمَاءُ طَهُورٌ فَيَبْقَى إذَا جَمَعَ بَيْنَ التَّمْرَةِ وَالْمَاءِ الطَّهُورِ كَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ هَلْ يُسْلَبُ الطَّهُورِيَّةُ أَمْ لَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَقِيَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ وَصْفِهِ فَلِذَلِكَ وَصَفَهُمَا بِمَا كَانَا عَلَيْهِ قَبْلَ الِاجْتِمَاعِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا تَغَيَّرَا عَنْ حَالَتِهِمَا الْأُولَى فَتَفَتَّتَتْ التَّمْرَةُ وَاحْمَرَّ الْمَاءُ وَحَلَا وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمَاءُ طَهُورٌ عَلَى حَالِهِ وَهُوَ مُرَادُ الْحَنَفِيَّةِ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ إشْعَارٌ بِالتَّفَتُّتِ وَلَا بِعَدَمِهِ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي ذَلِكَ لِمَا قَبْلَ التَّغَيُّرِ وَلَا لِمَا بَعْدَهُ ) قُلْتُ لَا يَجُوزُ عَلَى الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ لَا يُجِيبُ عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا سُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَالنَّبِيذُ اسْمُ الْمَاءِ الْمُسْتَنْقَعِ فِيهِ التَّمْرُ حَتَّى يَتَغَيَّرَ حَقِيقَةً أَمَّا قَبْلَ التَّغَيُّرِ فَلَا يُسَمَّى بِنَبِيذٍ إلَّا مَجَازًا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَئُولُ إلَى ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَصْلَ النَّبِيذِ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ وَأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ الطِّيبِ وَالطَّهُورِيَّةِ .
قَالَ ( فَإِنْ قُلْت لَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا قَبْلَ التَّغَيُّرِ لَمْ يَكُنْ الْجَوَابُ حَاصِلًا فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا سُئِلَ عَنْهُمَا بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا قُلْتُ مُسَلَّمٌ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُمَا بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ لِلسَّائِلِ
تَوَضَّأْ وَلَا لَا تَتَوَضَّأْ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ وَصْفَيْ الْمُجْتَمِعَيْنِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّغَيُّرِ وَلَا لِعَدَمِهِ فَلَا جَرَمَ لَمَّا تَسَاوَتْ الِاحْتِمَالَاتُ فِي ذَلِكَ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَ التَّغَيُّرِ فَإِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْأَخَصِّ وَحَالَةُ التَّغَيُّرِ أَخَصُّ مِمَّا فُهِمَ مِنْ اللَّفْظِ مِنْ وَصْفَيْ الْمُجْتَمِعَيْنِ ) قُلْتُ السُّؤَالُ وَارِدٌ لَازِمٌ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ لِلسَّائِلِ تَوَضَّأْ وَلَا لَا تَوَضَّأْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ قَالَ تَوَضَّأْ لَكِنْ لَا بِاللَّفْظِ وَلَكِنْ بِاقْتِضَاءِ الْمُسَاقِ وَضَرُورَةِ حَمْلِ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْفَائِدَةِ وَعَلَى الْجَوَابِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ وَصْفَيْ الْمُجْتَمِعَيْنِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَمْ يَقْتَصِرْ لِضَرُورَةِ الْمُسَاقِ وَحَمْلِ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجَوَابِ وَعَلَى الْفَائِدَةِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّغَيُّرِ وَلَا لِعَدَمِهِ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ عَنْ النَّبِيذِ سُئِلَ وَهُوَ الْمُتَغَيِّرُ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا تَسَاوَتْ الِاحْتِمَالَاتُ سَقَطَ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْجَوَازِ بَعْدَ التَّغَيُّرِ لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ لَمْ تَتَسَاوَ الِاحْتِمَالَاتُ وَلَا سَقَطَ الِاسْتِدْلَال وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْأَخَصِّ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ صَحِيحٌ لَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ ذَلِكَ بَلْ مِنْ الدَّالِّ عَلَى الْأَخَصِّ بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ إنَّمَا سُئِلَ عَنْ النَّبِيذِ وَلَيْسَ النَّبِيذُ إلَّا الْمُتَغَيِّرَ .
.
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) اسْتَدَلَّتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ الشَّرَّ مِنْ الْعَبْدِ لَا مِنْ اللَّهِ { بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَجِّ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك } وَهَذَا سَلْبٌ عَامٌّ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْأَشْعَرِيَّةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ إلَيْك هَذَا الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَامِلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَالْمُعْتَزِلَةُ يُقَدِّرُونَهُ وَالشَّرُّ لَيْسَ مَنْسُوبًا إلَيْك حَتَّى يَكُونَ مِنْ الْعَبْدِ عَلَى زَعْمِهِمْ وَنَحْنُ نُقَدِّرُهُ وَالشَّرُّ لَيْسَ قُرْبَةً إلَيْك لِأَنَّ الْمُلُوكَ كُلَّهُمْ يُتَقَرَّبُ إلَيْهِمْ بِالشَّرِّ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ إلَّا بِالْخَيْرِ وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ جَمِيلٌ يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ هَذَا يَكُونُ لَفْظُ صَاحِبِ الشَّرْعِ مُحْتَمِلًا لِمَا قُلْنَاهُ وَلِمَا قَالُوهُ وَلَيْسَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي أَحَدِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ بَلْ الِاحْتِمَالَانِ مُسْتَوِيَانِ فَيَسْقُطُ اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهِ لِحُصُولِ الْإِجْمَالِ فِيهِ
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اسْتَدَلَّتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ الشَّرَّ مِنْ الْعَبْدِ لَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى { بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْحَجِّ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدِك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك } إلَى آخِرِهِ مَا قَالَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ الْأَظْهَرُ أَنَّ مَا قَدَّرَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ أَظْهَرُ وَلَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ مَعَ أَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ الْقَطْعِيَّ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الشَّرَّ بِقُدْرَتِهِ كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ كَذَلِكَ فَبَطَلَ مُقْتَضَى ذَلِكَ الظَّاهِرِ وَتَعَيَّنَ التَّأْوِيلُ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) { قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ لَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } هَذِهِ وَاقِعَةُ عَيْنٍ فِي هَذَا الْمُحْرِمِ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ لِكُلِّ مُحْرِمٍ أَوْ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَإِذَا تَسَاوَتْ الِاحْتِمَالَاتُ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَقِيَّةِ الْمُحْرِمِينَ سَقَطَ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيَّةِ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا مَاتَ لَا يُغَسَّلُ وَلَمْ يَقُلْ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُحْرِمُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ عُمُومٌ وَلَا رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى وَصْفٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ عِلَّةٌ لَهُ فَيَعُمُّ جَمِيعَ الصُّوَرِ لِعُمُومِ عِلَّتِهِ بَلْ عِلَلُ حُكْمِ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ فَقَطْ فَكَانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ وَلَوْ أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّرْتِيبَ عَلَى الْوَصْفِ لَقَالَ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا وَلَمْ يَقُلْ فَإِنَّهُ وَلَقَالَ لَا تَقْرَبُوا الْمُحْرِمَ و لَمْ يَقُلْ لَا تَقْرَبُوهُ فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ إلَى الضَّمَائِرِ الْجَامِدَةِ دَلَّ ذَلِكَ ظَاهِرًا عَلَى عَدَمِ إرَادَتِهِ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ فَبَقِيَتْ الِاحْتِمَالَاتُ مُسْتَوِيَةً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيَّةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ { لَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا مَاتَ لَا يُغَسَّلُ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرَتِّبْ الْحُكْمَ عَلَى وَصْفٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ عِلَّةٌ لَهُ فَيَعُمُّ جَمِيعَ الصُّوَرِ لِعُمُومِ عِلَّتِهِ بَلْ عِلَلُ حُكْمِ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ فَقَطْ وَلَوْ أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّرْتِيبَ عَلَى الْوَصْفِ لَقَالَ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا وَلَمْ يَقُلْ فَإِنَّهُ وَلَقَالَ لَا تَمَسُّوا الْمُحْرِمَ وَلَمْ يَقُلْ لَا تَمَسُّوهُ فَلَمَّا عَدَلَ فِيهِمَا عَنْ الْوَصْفِ إلَى الضَّمِيرِ الْجَامِدِ دَلَّ ذَلِكَ ظَاهِرًا عَلَى عَدَمِ إرَادَتِهِ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ فَبَقِيَتْ الِاحْتِمَالَاتُ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَقِيَّةِ الْمُحْرِمِينَ مُسْتَوِيَةً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) قَالَ الْحَنَفِيَّةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوتِرَ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ بِثَلَاثٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ الْبَتْرَاءِ وَهِيَ الرَّكْعَةُ الْمُنْفَرِدَةُ قُلْنَا لَيْسَ فِي لَفْظِ الْبَتْرَاءِ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ بَلْ الْأَبْتَرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الَّذِي لَا ذَنَبَ وَلَا عَقِبَ لَهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } أَيْ لَا عَقِبَ لَهُ فَالْبَتْرَاءُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا رَكْعَةً لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا رَكْعَةً مُنْفَرِدَةً وَالِاحْتِمَالَانِ مُتَقَارِبَانِ فَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ الْمُنْفَرِدَةَ لَا تُجْزِي نَعَمْ لَوْ كَانَ الْأَبْتَرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُنْفَرِدُ وَحْدَهُ صَحَّ ذَلِكَ بَلْ هُوَ الَّذِي لَا يَتْبَعُهُ غَيْرُهُ وَيُضَافُ إلَيْهِ مِنْ ذَنَبٍ أَوْ عَقِبٍ وَنَحْنُ نَقُولُ الرَّكْعَتَانِ مُتَقَدِّمَتَانِ تَابِعَتَانِ لِلْوِتْرِ وَتَوْطِئَةٌ لَهُ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ كُلُّهَا الِاحْتِمَالَاتُ فِيهَا فِي نَفْسِ الدَّلِيلِ وَقَدْ تَقَارَبَتْ فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَال بِهَا فَمَتَى وَقَعَتْ وَاقِعَةُ عَيْنٍ وَوَقَعَ فِيهَا مِثْلُ هَذَا سَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال وَهِيَ الَّتِي أَفْتَى فِيهَا الشَّافِعِيُّ بِالْإِجْمَالِ وَعَدَمِ الدَّلَالَةِ وَأَشْرَعُ الْآنَ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَجْرِي مَجْرَى الْعُمُومِ بِسَبَبِ عَدَمِ الِاسْتِفْصَالِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) لَا يَحْصُلُ بِنَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْبَتْرَاءِ اسْتِدْلَالٌ لِلْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ الْمُنْفَرِدَةَ لَا تُجْزِئُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوتِرَ بِرَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ بِثَلَاثٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ إذْ لَيْسَ الْأَبْتَرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمُنْفَرِدُ وَحْدَهُ حَتَّى يَحْصُلَ الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ بَلْ الْأَبْتَرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الَّذِي لَا يَتْبَعُهُ غَيْرُهُ وَيُضَافُ إلَيْهِ مِنْ ذَنَبٍ أَوْ عَقِبٍ وَحِينَئِذٍ فَالْبَتْرَاءُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا رَكْعَةً لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا رَكْعَةً مُنْفَرِدَةً وَالِاحْتِمَالَانِ مُسْتَوِيَانِ وَنَحْنُ نَقُولُ الرَّكْعَتَانِ مُتَقَدِّمَتَانِ تَابِعَتَانِ لِلْوِتْرِ وَتَوْطِئَةٌ لَهُ فَلَا حُجَّةَ لِلْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَالُوا فَالِاحْتِمَالَاتُ وَقَعَتْ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي نَفْسِ الدَّلِيلَيْنِ وَتَسَاوَتْ فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَال بِهِمَا وَكَذَا يَسْقُطُ فِي كُلِّ وَاقِعَةِ عَيْنٍ وَقَعَ فِيهَا مِثْلُ هَذَا وَهِيَ الَّتِي أَفْتَى فِيهَا الشَّافِعِيُّ بِالْإِجْمَالِ وَعَدَمِ الدَّلَالَةِ .
( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) { قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِغَيْلَانَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ } قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ عُقُودًا مُرَتَّبَةً عَقْدًا بَعْدَ عَقْدٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ الْمُؤَخَّرَاتِ لِفَسَادِ عُقُودِهِنَّ بَعْدَ أَرْبَعِ عُقُودٍ فَإِنَّ الْخَامِسَةَ وَمَا فَوْقَهَا بَاطِلٌ وَالْخِيَارُ فِي الْبَاطِلِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ عَقْدًا وَاحِدًا جَازَ أَنْ يَخْتَارَ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُنَّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ فَكَانَ ذَلِكَ كَالتَّصْرِيحِ بِالْعُمُومِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَيَجُوزُ التَّخْيِيرُ مُطْلَقًا وَلَوْ أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَاسْتَفْصَلَ غَيْلَانُ عَنْ ذَلِكَ وَحَيْثُ لَمْ يَسْتَفْصِلْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّسْوِيَةِ فِي الْحُكْمِ فَإِنْ قِيلَ لَعَلَّهُ عَلَى أَنَّ الْوَاقِعَ اتِّحَادُ الْعَقْدِ فَلِذَلِكَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ قُلْت الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِحَالَةِ غَيْلَانَ الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَقْرِيرِ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَمِثْلُ هَذَا شَأْنُهُ الْبَيَانُ وَالْإِيضَاحُ فَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِلْمٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ وَحَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْهُ وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ فَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ إجْمَالٌ وَالِاحْتِمَالَاتُ مُسْتَوِيَةٌ بَلْ اللَّفْظُ ظَاهِرٌ ظُهُورًا قَوِيًّا فِي الْإِذْنِ وَالتَّخْيِيرِ وَإِنَّمَا الِاحْتِمَالَاتُ الْمُسْتَوِيَةُ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ وَهَذِهِ النِّسْوَةُ وَعُقُودُهُنَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا وَاحِدًا أَوْ عُقُودًا وَالِاحْتِمَالَاتُ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ لَا تَقْدَحُ
وَإِنَّمَا يَقْدَحُ فِي الدَّلَالَةِ الِاسْتِوَاءُ فِي الِاحْتِمَالَاتِ فِي الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى الْحُكْمِ أَمَّا إذَا كَانَ الدَّلِيلُ ظَاهِرًا وَمَحَلُّ الْحُكْمِ فِيهِ احْتِمَالَاتٌ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) اللَّفْظُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغَيْلَانَ لَمَّا أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ { أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ } ظَاهِرٌ ظُهُورًا قَوِيًّا فِي الْإِذْنِ وَالتَّخْيِيرِ فِي الْحَالَيْنِ حَالَ مَا إذَا عَقَدَ عَلَيْهِنَّ عُقُودًا مُرَتَّبَةً عَقْدًا بَعْدَ عَقْدٍ وَحَالَ مَا إذَا عَقَدَ عَلَيْهِنَّ عَقْدًا وَاحِدًا فَالِاحْتِمَالَاتُ الْمُسْتَوِيَةُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ لَيْسَتْ فِي الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى الْحُكْمِ حَتَّى يَقْدَحَ فِي الدَّلَالَةِ بَلْ هِيَ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ وَالِاحْتِمَالَاتُ الْمُسْتَوِيَةُ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ لَا تَقْدَحُ فِي الدَّلَالَةِ فَمِنْ هُنَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَهُ الْخِيَارُ فِي الْحَالَيْنِ بِلَا فَرْقٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى مِنْ الْمُؤَخَّرَاتِ لِفَسَادِ عُقُودِهِنَّ بَعْدَ أَرْبَعِ عُقُودٍ فَإِنَّ عَقْدَ الْخَامِسَةِ وَمَا فَوْقَهَا بَاطِلٌ وَالْخِيَارُ فِي الْبَاطِلِ لَا يَجُوزُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ أَرَادَ أَحَدَ الْحَالَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى لَاسْتَفْصَلَ غَيْلَانُ عَنْ ذَلِكَ وَحَيْثُ لَمْ يَسْتَفْصِلْ وَالْأَصْلُ عَدَمُ عِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالَةِ غَيْلَانَ وَهُوَ فِي مَقَامِ تَقْرِيرِ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَمَنْ كَانَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ شَأْنُهُ الْبَيَانُ وَالْإِيضَاحُ كَانَ أَبَيْنَ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ .
( تَنْبِيهَاتٌ ) الْأَوَّلُ لَيْسَ فِي جَوَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ فَقَالَ { تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ } احْتِمَالُ مَا فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ بَلْ وَلَا فِيهِ احْتِمَالَاتٌ مُتَسَاوِيَةٌ كَمَا قِيلَ فِي نَفْسِ الدَّلِيلِ حَتَّى يَدَّعِيَ سُقُوطَ اسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيَّةُ بِهِ عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ بَعْدَ تَغَيُّرِهِ بِالتَّمْرِ إذْ لَا شَكَّ كَمَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَصْلَ النَّبِيذِ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ وَأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ الطِّيبِ وَالطَّهُورِيَّةِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا سُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَالنَّبِيذُ اسْمٌ لِلْمَاءِ الْمُسْتَنْقَعِ فِيهِ التَّمْرُ حَتَّى يَتَغَيَّرَ حَقِيقَةً أَمَّا قَبْلَ التَّغَيُّرِ فَلَا يُسَمَّى نَبِيذًا إلَّا مَجَازًا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَئُولُ إلَى ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ عَلَى الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ لَا يُجِيبَ عَنْهُ وَلَا أَنْ يُخْبِرَ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَوَضَّأْ بِالنَّبِيذِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ إلَّا الْمُتَغَيِّرُ لَكِنْ لَا بِاللَّفْظِ بَلْ بِاقْتِضَاءِ الْمُسَاقِ وَضَرُورَةِ حَمْلِ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْفَائِدَةِ وَعَلَى جَوَابٍ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قِيلَ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلتَّغَيُّرِ وَلَا لِعَدَمِهِ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ وَصْفَيْ الْمُجْتَمِعَيْنِ ا هـ .
( التَّنْبِيهُ الثَّانِي ) لَيْسَ الِاحْتِمَالَانِ فِي تَقْدِيرِ مُتَعَلِّقِ إلَيْك فِي { قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجِّ الْخَيْرُ كُلُّهُ بِيَدَيْك وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك } أَعْنِي تَقْدِيرَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّرُّ لَيْسَ مَنْسُوبًا إلَيْك وَتَقْدِيرَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالشَّرُّ لَيْسَ قُرْبَةً إلَيْك بِمُسْتَوِيَيْنِ حَتَّى يُقَالَ بِسُقُوطِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهِ عَلَى زَعْمِهِمْ مِنْ أَنَّ الشَّرَّ مِنْ الْعَبْدِ لِحُصُولِ الْإِجْمَالِ فِي نَفْسِ الدَّلِيلِ بَلْ مَا قَدَّرَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ هُوَ الْأَظْهَرُ وَلَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِالظَّوَاهِرِ مَعَ أَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ الْقَطْعِيَّ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الشَّرَّ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ كَذَلِكَ فَبَطَلَ مُقْتَضَى ذَلِكَ الظَّاهِرِ وَتَعَيَّنَ التَّأْوِيلُ قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ .
( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) { قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْمُفْطِرِ فِي رَمَضَانَ أَعْتِقْ رَقَبَةً } ظَاهِرٌ فِي وُجُوبِ الْإِعْتَاقِ لَا إجْمَالَ فِيهِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الرَّقَبَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا سَوْدَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ أَوْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى أَوْ طَوِيلَةً أَوْ قَصِيرَةً وَمِنْ هَذَا التَّنْوِيعِ كَثِيرٌ فِي الرَّقَبَةِ وَلَا تَقْدَحُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ وَإِنْ اسْتَوَتْ فِي دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ إعْتَاقِ رَقَبَةٍ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ لَا فِي دَلِيلِهِ
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) { قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُفْطِرِ فِي رَمَضَانَ أَعْتِقْ رَقَبَةً } إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَرْقِ قُلْتُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَالْمَسْأَلَتَانِ بَعْدَهَا لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُمُومِ لِتَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ بَلْ هِيَ مَسَائِلُ الْإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي تَخْيِيرَ الْمُكَلَّفِ فِي مُخْتَلِفَاتِ الْأَشْخَاصِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ فَلَيْسَ مَا أَوْرَدَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ لِمَا وَقَعَ تَصْدِيقُ الْكَلَامِ بِهِ بِمِثَالٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ وَمَا قَالَهُ فِي الْفَرْقِ الثَّانِي وَالسَّبْعِينَ أَكْثَرُهُ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ .
( التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ ) { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُفْطِرِ فِي رَمَضَانَ أَعْتِقْ رَقَبَةً } وَإِنْ احْتَمَلَ عَلَى السَّوَاءِ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ لَا فِي دَلِيلِهِ أَنْ تَكُونُ الرَّقَبَةُ سَوْدَاءَ أَوْ بَيْضَاءَ أَوْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى أَوْ طَوِيلَةً أَوْ قَصِيرَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ .
( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا شَهِدَ عَدْلَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا وَانْسُكُوا } لَفْظٌ ظَاهِرٌ فِي رَبْطِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِشَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْعَدْلَانِ عَرَبِيَّيْنِ أَوْ عَجَمِيَّيْنِ شَيْخَيْنِ أَوْ كَهْلَيْنِ أَبْيَضَيْنِ أَوْ أَسْوَدَيْنِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَعُمُّ الْحُكْمُ الْجَمِيعَ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ لَا فِي دَلِيلِهِ وَنَقُولُ جَمِيعُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ تَنْدَرِجُ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا شَهِدَ عَدْلَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا وَانْسُكُوا } وَإِنْ احْتَمَلَ عَلَى السَّوَاءِ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ لَا فِي دَلِيلِهِ أَنْ يَكُونَ الْعَدْلَانِ عَرَبِيَّيْنِ أَوْ عَجَمِيَّيْنِ شَيْخَيْنِ أَوْ كَهْلَيْنِ أَبْيَضَيْنِ أَوْ أَسْوَدَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ ) قَوْله تَعَالَى { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } اللَّفْظُ نَصٌّ قَطْعِيٌّ فِي السَّبْعَةِ وَالثَّلَاثَةِ لَا احْتِمَالَ فِي الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَصْلًا وَالِاحْتِمَالَاتُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَرْبًا أَوْ شَرْقًا أَوْ شَمَالًا أَوْ جَنُوبًا أَوْ مَدِينَةً أَوْ بَرِّيَّةً أَوْ قَرْيَةً وَجَمِيعُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يَعُمَّ الْحُكْمُ جَمِيعَهَا وَيَسْتَوِيَ فِيمَا حَكَمَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ فَهَذَا مِثَالُ الدَّلِيلِ يَكُونُ نَصًّا وَالِاحْتِمَالَاتُ مُسْتَوِيَةٌ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ الْمُسْتَوِيَةُ فِي الدَّلِيلِ سَقَطَ بِهِ الِاسْتِدْلَال وَصَارَ مُجْمَلًا كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْقَوَاعِدِ وَهَذِهِ الْمَسَائِلِ الْفَرْقُ بَيْنَ حِكَايَةِ الْحَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ كَسَاهَا ثَوْبَ الْإِجْمَالِ وَسَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال وَبَيْنَ قَاعِدَةِ إنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ فِي حِكَايَةِ الْحَالِ تَقُومُ مَقَامَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ وَلَمْ يَتَنَاقَضْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا اخْتَلَفَ بَلْ كُلُّ قَوْلٍ لَهُ مَوْضِعٌ يَخُصُّهُ
وقَوْله تَعَالَى { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } وَإِنْ احْتَمَلَ عَلَى السَّوَاءِ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ لَا فِي دَلِيلِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ غَرْبًا أَوْ شَرْقًا أَوْ شَمَالًا أَوْ جَنُوبًا أَوْ مَدِينَةً أَوْ بَرِّيَّةً أَوْ قَرْيَةً لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْعُمُومِ لِتَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ كَمَا قِيلَ بَلْ هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِطْلَاقِ الْمُقْتَضِي تَخْيِيرَ الْمُكَلَّفِ فِي مُخْتَلِفَاتِ الْأَشْخَاصِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ فَافْهَمْ قَالَهُ ابْنُ الشَّاطِّ فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ حِكَايَةُ الْحَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ كَسَاهَا ثَوْبَ الْإِجْمَالِ وَسَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال إنَّمَا هُوَ فِي الِاحْتِمَالَاتِ الثَّابِتَةِ فِي نَفْسِ دَلِيلِ الْحُكْمِ لَا فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ عَكْسُ قَوْلِهِ إنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْصَالِ فِي حِكَايَةِ الْحَالِ تَقُومُ مَقَامَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ فَإِنَّهُ فِي الِاحْتِمَالَاتِ الثَّابِتَةِ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ لَا فِي دَلِيلِهِ فَكِلَا قَوْلَيْهِ لَمْ يَتَنَاقَضَا وَلَمْ يَخْتَلِفَا بَلْ كُلُّ قَوْلٍ لَهُ مَوْضِعٌ يَخُصُّهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ فِي الْأَيْمَانِ ) اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ هَذِهِ قَاعِدَتُهُ فِي الْأَقَارِيرِ وَقَاعِدَتُهُ فِي الْأَيْمَانِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ فَمِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ أَنَّ الْجَمِيعَ إثْبَاتٌ فِي الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَنَا وَيَظْهَرُ ذَلِكَ بِذِكْرِ ثَلَاثِ مَسَائِلَ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا إلَّا كَتَّانًا فِي هَذَا الْيَوْمِ وَقَعَدَ عُرْيَانًا فَالْكَتَّانُ قَدْ اُسْتُثْنِيَ مِنْ النَّفْيِ السَّابِقِ فَيَكُونُ إثْبَاتًا فَيَكُونُ كَلَامُهُ جُمْلَتَيْنِ جُمْلَةٌ سَلْبِيَّةٌ وَجُمْلَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ وَقَبْلَهُ وَقَدْ دَخَلَ الْقَسَمُ عَلَيْهِمَا فَيَحْنَثُ إذَا قَعَدَ عُرْيَانًا نُحْنِثُهُ فِي الْجُمْلَةِ الثُّبُوتِيَّةِ وَيَكُونُ قَدْ حَلَفَ أَنْ لَا يَلْبَسَ غَيْرَ الْكَتَّانِ وَلْيَلْبَسْ الْكَتَّانَ وَمَا لَبِسَ الْكَتَّانَ فَيَحْنَثُ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ اللُّغَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَالشَّافِعِيَّةُ مَشَوْا عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَحَنَّثُوهُ ، وَوَافَقُونَا فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ فَلَمْ يُحْنِثُوهُ لَنَا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ أَنَّ إلَّا تُسْتَعْمَلُ لِلْإِخْرَاجِ وَتُسْتَعْمَلُ صِفَةً وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ غَيْرُ اللَّهِ لَفَسَدَتَا وَلَوْ أَرَادَ الِاسْتِثْنَاءَ بِهِ لَنَصَبَ فَقَالَ إلَّا اللَّهَ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مُوجِبٍ وَهِيَ فِي الْعُرْفِ قَدْ جَعَلُوهَا فِي الْأَيْمَانِ بِمَعْنَى غَيْرٍ فَلَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ وَاَللَّهِ لَا لَبِسْت ثَوْبًا إلَّا الْكَتَّانَ أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى لُبْسِ الْكَتَّانِ بَلْ يُفْهَمُ لَا لَبِسْت ثَوْبًا غَيْرَ
الْكَتَّانِ وَأَنَّ غَيْرَ الْكَتَّانِ هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَمَّا الْكَتَّانُ فَلَا يَفْهَمُ أَهْلُ الْعُرْفِ ذَلِكَ فِيهِ وَإِذَا كَانَ الْكَتَّانُ غَيْرَ مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ إذَا قَعَدَ عُرْيَانًا الثَّانِي سَلَّمْنَا أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ لَمْ يَنْقُلُوهَا لِمَعْنَى غَيْرِ وَسِوَى وَلَكِنَّ الْقَسَمَ يَحْتَاجُ فِي جَوَابِهِ إلَى جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ جَوَابَهُ حَصَلَ بِقَوْلِهِ لَا لَبِسْت ثَوْبًا وَإِنَّهُ لَوْ سَكَتَ هُنَالِكَ كَانَ كَلَامًا عَرَبِيًّا وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَعَلُّقِهِ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي بَعْدَ إلَّا وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْقَسَمُ كَانَ لُبْسُ الْكَتَّانِ غَيْرَ مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ إذَا جَلَسَ عُرْيَانًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَنَاوَلَ الْجُمْلَتَيْنِ لَكِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عِنْدَنَا مِنْ إثْبَاتٍ فَيَكُونُ نَفْيًا بَيَانُ أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ جَمِيعَ الثِّيَابِ مَحْلُوفٌ عَلَيْهَا إلَّا الْكَتَّانَ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَحْلِفُ عَلَى عَدَمِ لُبْسِ كُلِّ ثَوْبٍ إلَّا الْكَتَّانَ فَلَا أَحْلِفُ عَلَيْهِ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَهُ مِنْ الْحَلِفِ الَّذِي هُوَ ثُبُوتِيٌّ وَإِذَا كَانَ الْكَتَّانُ غَيْرَ مُقْسَمٍ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ بِتَرْكِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ هِيَ الْفُرُوقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْأَيْمَانِ .
( الْفَرْقُ الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ فِي الْأَيْمَانِ ) مَذْهَبُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ جَرْيًا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ كَمَا أَنَّهُ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ مَذْهَبُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ جَرْيًا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْأُصُولِيَّةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ كَمَا أَنَّهُ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ فِي الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ قَاعِدَةَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ إنَّمَا هِيَ فِي غَيْرِ الْأَيْمَانِ كَالْأَقَارِيرِ .
وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْأَيْمَانِ فَقَاعِدَتُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ لَا إثْبَاتٍ أَيْضًا كَمَا فِي الْأُصُولِ لِوُجُوهٍ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ إلَّا كَمَا تُسْتَعْمَلُ لِلْإِخْرَاجِ كَذَلِكَ تُسْتَعْمَلُ صِفَةً وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ وَإِلَّا لَوَجَبَ النَّصْبُ اسْتِثْنَاءً مِنْ مُوجَبٍ بَلْ مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ غَيْرُ اللَّهِ لَفَسَدَتَا وَالْأَيْمَانُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَأَهْلُ الْعُرْفِ قَدْ جَعَلُوا إلَّا فِي الْأَيْمَانِ بِمَعْنَى غَيْرِ صِفَةً لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَا لِلْإِخْرَاجِ الْوَجْهُ الثَّانِي سَلَّمْنَا أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ لَمْ يَنْقُلُوهَا عَنْ الْإِخْرَاجِ لِمَعْنَى غَيْرٍ وَسِوَى وَهُوَ الْوَصْفِيَّةُ لَكِنَّ الْقَسَمَ إنَّمَا يَحْتَاجُ فِي جَوَابِهِ إلَى جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا إلَى جُمْلَتَيْنِ وَلِذَا قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ فِي نَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ وَاَللَّهِ لَا لَبِسْت ثَوْبًا إلَّا الْكَتَّانَ عَلَى أَنَّ جَوَابَهُ حَصَلَ بِقَوْلِهِ لَا لَبِسْت ثَوْبًا وَإِنَّهُ لَوْ سَكَتَ هُنَالِكَ كَانَ كَلَامًا عَرَبِيًّا وَالْأَصْلُ عَدَمُ
تَعَلُّقِهِ بِالْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي بَعْدَ إلَّا وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا الْقَسَمُ كَانَ لُبْسُ الْكَتَّانِ غَيْرَ مَحْلُوفٍ عَلَيْهِ فَلَا يَحْنَثُ إذَا جَلَسَ عُرْيَانًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ سَلَّمْنَا أَنَّ الْقَسَمَ تَنَاوَلَ الْجُمْلَتَيْنِ لَكِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَنَا مِنْ الْحَلِفِ الَّذِي هُوَ ثُبُوتِيٌّ فَكَأَنَّهُ قَالَ احْلِفْ عَلَى عَدَمِ لُبْسِ كُلِّ ثَوْبٍ إلَّا الْكَتَّانَ وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ جَمِيعَ الثِّيَابِ أَحْلِفُ عَلَيْهَا إلَّا الْكَتَّانَ فَلَا أَحْلِفُ عَلَيْهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَإِذَا كَانَ الْكَتَّانُ غَيْرَ مُقْسَمٍ عَلَيْهِ لَا يَحْنَثُ بِتَرْكِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ( وَصْلٌ ) فِي زِيَادَةِ تَوْضِيحِ الْخِلَافِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ وَعَدَمِهِ بِثَلَاثِ مَسَائِلَ ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) إذَا حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا إلَّا كَتَّانًا فِي هَذَا الْيَوْمِ وَقَعَدَ عُرْيَانًا فَإِنْ جُعِلَتْ إلَّا لِاسْتِثْنَاءِ الْكَتَّانِ مِنْ النَّفْيِ السَّابِقِ وَيَكُونُ قَدْ حَلَفَ أَنْ لَا يَلْبَسَ غَيْرَ الْكَتَّانِ وَلْيَلْبَسْ الْكَتَّانَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ اللُّغَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ حَنِثَ بِقُعُودِهِ عُرْيَانًا لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْ الْكَتَّانَ وَمَشَى عَلَى هَذَا بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَإِنْ جُعِلَتْ إلَّا لِاسْتِثْنَاءِ الْكَتَّانِ مِنْ الْحَلِفِ الَّذِي هُوَ ثُبُوتِيٌّ لَا مِنْ النَّفْيِ السَّابِقِ وَيَكُونُ قَدْ حَلَفَ عَلَى عَدَمِ لُبْسِ كُلِّ ثَوْبٍ إلَّا الْكَتَّانَ أَوْ جُعِلَتْ أَيْ إلَّا لِاسْتِثْنَاءِ الْكَتَّانِ مِنْ النَّفْيِ السَّابِقِ إلَّا أَنَّ الْحَلِفَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَلْ بِمَا قَبْلَهُ وَيَكُونُ قَدْ حَلَفَ عَلَى عَدَمِ لُبْسِ كُلِّ ثَوْبٍ فَقَطْ أَوْ جُعِلَتْ أَيْ إلَّا بِمَعْنَى غَيْرِ عُرِفَ صِفَةً لِلثَّوْبِ لَا لِلِاسْتِثْنَاءِ أَصْلًا وَيَكُونُ قَدْ حَلَفَ عَلَى عَدَمِ لُبْسِ ثَوْبٍ غَيْرِ كَتَّانٍ لَمْ يَحْنَثْ بِقُعُودِهِ عُرْيَانًا فِي الْجَمِيعِ كَمَا مَرَّ
تَوْضِيحُهُ وَمَشَى عَلَى هَذَا الْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) حَكَى صَاحِبُ الْقَبَسِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ جَلَسَ رَجُلَانِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ يَلْعَبَانِ بِالشِّطْرَنْجِ فَتَعَارَضَا فِي الْكَلَامِ فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا لَا لَعِبَ مَعَ صَاحِبِهِ غَيْرَ هَذَا الدُّسَتِ فَجَاءَ رَجُلٌ وَنَقَضَ الرُّقْعَةَ وَخَلَطَهَا وَجَهِلَ تَرْتِيبَهَا كَيْفَ كَانَ وَامْتَنَعَ تَكْمِيلُ ذَلِكَ الدُّسَتِ فَسَأَلَ الْفُقَهَاءَ عَنْ تَحْنِيثِهِ بِذَلِكَ فَاخْتَلَفُوا فِي تَحْنِيثِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ قَالَ ثُمَّ اجْتَمَعْت بِشَيْخِنَا أَبِي الْوَلِيدِ الطُّرْطُوشِيِّ فَأَخْبَرْتُهُ بِالْمَسْأَلَةِ فَاخْتَارَ عَدَمَ الْحِنْثِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) حَكَى صَاحِبُ الْقَبَسِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ جَلَسَ رَجُلَانِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ يَلْعَبَانِ بِالشِّطْرَنْجِ فَتَعَارَضَا فِي الْكَلَامِ فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا لَا لَعِبَ مَعَ صَاحِبِهِ غَيْرَ هَذَا الدُّسَتِ فَجَاءَ رَجُلٌ وَنَقَضَ الرُّقْعَةَ وَخَلَطَهَا وَجَهِلَ تَرْتِيبَهَا كَيْفَ كَانَ وَامْتَنَعَ تَكْمِيلُ ذَلِكَ الدُّسَتِ فَسَأَلَ الْفُقَهَاءَ عَنْ تَحْنِيثِهِ بِذَلِكَ فَاخْتَلَفُوا فِي تَحْنِيثِهِ وَعَدَمِ تَحْنِيثِهِ أَيْ بِنَاءً عَلَى جَعْلِ غَيْرٍ لِاسْتِثْنَاءِ هَذَا الدُّسَتِ مِنْ النَّفْيِ السَّابِقِ وَالْحَلِفُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وَبِالْمُسْتَثْنَى مَعًا أَوْ بِالنَّفْيِ السَّابِقِ فَقَطْ أَوْ مِنْ الْحَلِفِ الَّذِي هُوَ ثُبُوتٌ أَوْ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ قَالَ ثُمَّ اجْتَمَعْت بِشَيْخِنَا أَبِي بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيِّ فَأَخْبَرْتُهُ بِالْمَسْأَلَةِ فَاخْتَارَ عَدَمَ الْحِنْثِ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْهَمًا مِنْ دَيْنِك إلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَأَعْطَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَعَ سَائِرِ الْأَيَّامِ فَإِنَّ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ يَجْرِي فِيهِ وَإِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنْ إثْبَاتٍ لِأَنَّ إلَّا بِمَعْنَى سِوَى فِي الْأَيْمَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ وَلَا يَفْهَمُونَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الْإِعْطَاءِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَلْ اسْتِثْنَاءُ تَوْسِعَةٍ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى فِيهِ لَمْ يَضُرَّ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ الْيَمِينِ أَنْ لَا يُخِلَّ بِالْإِعْطَاءِ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَغَيْرُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْيَمِينِ لَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَأُعْطِيَنَّكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْهَمًا مِنْ دَيْنِك إلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَأَعْطَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مَعَ سَائِرِ الْأَيَّامِ جَرَى الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ أَيْضًا فِي تَحْنِيثِهِ وَعَمْدِ تَحْنِيثِهِ وَإِنْ كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنْ إثْبَاتٍ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لِأَنَّ إلَّا إنْ جُعِلَتْ لِلْإِخْرَاجِ عَلَى الْأَصْلِ كَانَ الْكَلَامُ مُفْهِمًا الْحَلِفَ عَلَى مَنْعِ نَفْسِهِ مِنْ الْإِعْطَاءِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مَعَ عَدَمِ الْإِخْلَالِ بِالْإِعْطَاءِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ فَيَحْنَثُ وَإِنْ جُعِلَتْ بِمَعْنَى سِوَى نَظَرًا لِكَوْنِ أَهْلِ الْعُرْفِ نَقَلُوهَا مِنْ الْإِخْرَاجِ إلَيْهِ فِي الْأَيْمَانِ حَتَّى لَا يَفْهَمُونَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ ذَلِكَ أَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ الْإِعْطَاءِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَلْ إنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْيَمِينِ إنَّمَا هُوَ غَيْرُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْإِعْطَاءِ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَإِنَّ اسْتِثْنَاءَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اسْتِثْنَاءُ تَوْسِعَةٌ لَوْ أَعْطَى فِيهِ لَمْ يَضُرَّ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفُقَهَاءُ خَالَفُوا مَا فِي الْأُصُولِ مِنْ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَلَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ وَالسَّبَبُ مَا عَلِمْته وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُفْرَدُ الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ نَحْوُ { أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الطَّلَاقِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ ) فَلَوْ قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَمْ يَلْزَمْهُ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَمُقْتَضَى اللُّغَةِ أَنْ يَلْزَمَهُ الثَّلَاثُ لِأَنَّ قَاعِدَةَ الْمُعَرَّفِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ دَخَلَ عَلَى مَفْهُومِ الطَّلَاقِ فَيَعُمُّ أَفْرَادَهُ إلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَلْزَمَهُ مِنْ الطَّلَاقِ عَدَدٌ غَيْرُ مُتَنَاهٍ إلَّا أَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَقْبَلُ إلَّا ثَلَاثًا فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مِائَةً فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ فَقَطْ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ الْيَوْمَ عَلَى خِلَافِهِ وَلَا يُلْزِمُونَ بِهِ إلَّا وَاحِدَةً بِسَبَبِ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ نَحْوُ { أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَلِلْمَعْهُودِ مِنْ الْجِنْسِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } فَهَذِهِ اللَّامُ لِلْمَعْهُودِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَلِحَقِيقَةِ الْجِنْسِ كَقَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ اذْهَبْ إلَى السُّوقِ فَاشْتَرِ لَنَا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ يُرِيدُ إثْبَاتَ هَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ وَلَا يُرِيدُ الْعُمُومَ بِأَنْ يَأْتِيَ بِجَمِيعِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ الْكَلَامُ إلَيْهِ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ حَقِيقَةُ الْجِنْسِ أَيْ الْمَاهِيَةُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي تَصْدُقُ بِفَرْدٍ إذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ تُسْتَعْمَلُ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ قَدْ نَقَلُوهَا وَخَصَّصُوهَا بِحَقِيقَةِ الْجِنْسِ دُونَ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ فَيَصِيرُ
مَعْنَى كَلَامِ الْمُطَلِّقِ أَنَّ حَقِيقَةَ جِنْسِ الطَّلَاقِ يَلْزَمُنِي وَإِذَا لَزِمَتْهُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ وَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ تَصْدُقُ بِفَرْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا فَرْدٌ وَهُوَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ فَإِذَا حَدَثَ عُرْفٌ بَعْدَ اللُّغَةِ قُدِّمَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لَهَا وَالنَّاسِخُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَنْسُوخِ وَهَاتَانِ قَاعِدَتَانِ فِي الْأُصُولِ خَالَفَهُمَا الْفُقَهَاءُ فِي الْفُرُوعِ وَهُمَا قَاعِدَةُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَلَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ فِي الْأَيْمَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ وَقَاعِدَةُ الْمُعَرَّفِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ قَالُوا بِأَنَّهُ لِلْعُمُومِ وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ فِي الطَّلَاقِ وَالسَّبَبُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
قَالَ ( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُفْرَدُ الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ نَحْوُ { أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } ، { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } .
وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الطَّلَاقِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ فَلَوْ قَالَ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَمْ يَلْزَمْهُ مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ إلَّا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ وَمُقْتَضَى اللُّغَةِ أَنْ يَلْزَمَهُ الثَّلَاثُ إلَى قَوْلِهِ فَهَذِهِ اللَّامُ لِلْمَعْهُودِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ إلَّا فِي قَوْلِهِ { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ } إنَّهُ لِلْجِنْسِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ يَعْنِي الْحَقِيقَةَ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ يَعْنِي أَنَّهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَلَا .
قَالَ ( وَلِحَقِيقَةِ الْجِنْسِ كَقَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ اذْهَبْ إلَى السُّوقِ فَاشْتَرِ لَنَا الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ يُرِيدُ إثْبَاتَ هَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ وَلَا يُرِيدُ الْعُمُومَ إلَى قَوْلِهِ أَيْ الْمَاهِيَةُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي تَصْدُقُ بِفَرْدٍ ) قُلْتُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ اشْتَرِ الْخُبْزَ وَمَا أَشْبَهَهُ الْمَاهِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُحَالِ عِنْدَ مُثْبِتِيهَا وُجُودُهَا فِي الْخَارِجِ وَمَا اشْتَرَى لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ .
قَالَ ( إذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ تُسْتَعْمَلُ فِي أَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ قَدْ نَقَلُوهَا وَخَصَّصُوهَا بِحَقِيقَةِ الْجِنْسِ دُونَ اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ ) قُلْتُ إذَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ حَقِيقَةُ الْجِنْسِ فَلَا نَقْلَ أَمَّا التَّخْصِيصُ فَنَعَمْ .
قَالَ ( فَيَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِ الْمُطْلَقِ أَنَّ حَقِيقَةَ جِنْسِ الطَّلَاقِ يَلْزَمُنِي وَإِذَا لَزِمَتْهُ هَذِهِ الْحَقِيقَةُ وَهَذِهِ الْحَقِيقَةُ تَصْدُقُ بِفَرْدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا فَرْدٌ وَهُوَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ إلَى قَوْلِهِ وَالنَّاسِخُ مُقَدَّمٌ عَلَى
الْمَنْسُوخِ ) قُلْتُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْكُلِّيَّةَ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمَقْصُودَةَ فِي قَوْلِهِ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ الِاسْتِغْرَاقَ أَوْ الْعَهْدَ فَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَلْزَمَهُ الثَّلَاثُ احْتِيَاطًا كَمَنْ طَلَّقَ وَلَا يَدْرِي أَوَاحِدَةً أَمْ ثَلَاثًا تَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ احْتِيَاطًا وَلَكِنْ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَلْزَمَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ فَهُوَ عُرْفٌ فِي مُطْلَقِ الطَّلَاقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَمَا قَالَهُ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ ظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ الْفَرْقُ بَعْدَهُ .
( الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُفْرَدُ الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ نَحْوُ { أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الْمُعَرَّفُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الطَّلَاقِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ ) اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي رَجَّحَهُ السَّيِّدُ الصَّفَوِيُّ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمَعْهُودِ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ خَارِجًا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } وَنَحْوُ { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى } وَنَحْوُ { الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ } أَوْ لِلْجِنْسِ أَمَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ أَيْ لِلْمَاهِيَةِ مِنْ حَيْثُ حُضُورُهَا الذِّهْنِيُّ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْأَفْرَادِ فَتُسَمَّى لَامَ الْحَقِيقَةِ نَحْوُ الرَّجُلُ خَيْرٌ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ وَالْحَيَوَانُ جِنْسٌ وَالنَّاطِقُ فَصْلٌ .
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ وُجُودُهُ فِي بَعْضٍ مُبْهَمٍ مَعَ قَرِينَةِ ذَلِكَ الْبَعْضِ فَتُسَمَّى لَامَ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ سَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ } لِعَهْدِيَّةِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي لِذَلِكَ الْبَعْضِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مُبْهَمًا فَمَدْخُولُهَا وَإِنْ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمَعَارِفِ بِالنَّظَرِ لِوَضْعِهِ لِلْحَقِيقَةِ الْمُعَيَّنَةِ ذِهْنًا فَيَجِيءُ مُبْتَدَأً وَذَا حَالٍ بِلَا مُسَوِّغٍ وَوَصْفًا لِلْمَعْرِفَةِ إلَّا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ نَظَرًا لِقَرِينَةِ ذَلِكَ الْبَعْضِ الْمُبْهَمِ كَالْأَكْلِ فِي الْآيَةِ .
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ وُجُودُهُ فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ فَتُسَمَّى لَامَ الِاسْتِغْرَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } إذْ لَا عَهْدَ مَعَ تَحَقُّقِ قَرِينَةِ إرَادَةِ الْفَرْدِ دُونَ الْبَعْضِيَّةِ الْمُبْهَمَةِ وَدُونَ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ فِي الْآيَةِ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ
الشَّرْعِيِّ الْمُقْتَضِي لِلْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ وَلَا وُجُودَ لِلْحَقِيقَةِ فِي الْخَارِجِ وَقَاعِدَةُ الْمُعَرَّفِ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ فِي الْأُصُولِ حِينَئِذٍ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكُلِّيَّةِ فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قَرِينَةُ الْكُلِّيَّةِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ الشَّخْصُ الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي مَعَ عَدَمِ النِّيَّةِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ الِاسْتِغْرَاقَ أَوْ الْعَهْدَ وَعَلَى قَاعِدَةِ الِاحْتِيَاطِ فِي الْفُرُوجِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَلْزَمَهُ الثَّلَاثُ كَمَنْ طَلَّقَ وَلَا يَدْرِي أَوَاحِدَةً أَمْ ثَلَاثًا تَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ احْتِيَاطًا وَذَلِكَ أَنَّ مُقْتَضَى اللُّغَةِ وَالِاحْتِيَاطَ أَنْ يَلْزَمَهُ مِنْ الطَّلَاقِ عَدَدٌ غَيْرُ مُتَنَاهٍ إلَّا أَنَّ الْمَحَلَّ لَا يَقْبَلُ إلَّا ثَلَاثًا فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مِائَةً فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ فَقَطْ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ خَالَفُوا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْأُصُولِيَّةَ فِي الطَّلَاقِ كَمَا خَالَفُوا قَاعِدَةَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ فِي الْأَيْمَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ بِسَبَبِ أَنَّ مَبْنَى الطَّلَاقِ وَالْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعُرْفُ صَرْفُ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِمُطْلَقِ الطَّلَاقِ أَيْ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنْ أَفْرَادِهِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَلْزَمَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ فَهُوَ عُرْفٌ فِي مُطْلَقِ الطَّلَاقِ ا هـ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الشُّرُوطِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ فِي الشُّرُوطِ خَاصَّةً دُونَ بَقِيَّةِ أَبْوَابِ الِاسْتِثْنَاءِ ) هَذَا الْفَرْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ السَّبَبَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَالشَّرْطُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ وَالْمَانِعُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ وَتَحْرِيرُهَا وَتَعْلِيلُهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا فَلَا حَاجَةَ لِإِعَادَتِهَا غَيْرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هَا هُنَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الشَّرْطَ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ شَيْءٌ إنَّمَا الْمُؤَثِّرُ عَدَمُهُ فَإِذَا قُلْنَا الْحَيَاةُ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْحَيَاةِ عَدَمُ الْعِلْمِ بِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْحَيَاةِ الْعِلْمُ بِهِ وَلَا عَدَمُ الْعِلْمِ بِهِ فَكَمْ مِنْ حَيٍّ لَا يَعْلَمُ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الطَّهَارَةِ الْجَزْمُ بِعَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الطَّهَارَةِ الْجَزْمُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ أَوْ يُصَلِّيَ وَلَكِنْ بِغَيْرِ نِيَّةٍ أَوْ سِتَارَةٍ أَوْ رُكُوعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَكَذَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْحَوْلِ عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ أَمَّا إذَا دَارَ الْحَوْلُ فَقَدْ تَجِبُ الزَّكَاةُ .
وَقَدْ لَا تَجِبُ لِكَوْنِهِ فَقِيرًا أَوْ مِدْيَانًا فَوُجُودُ الشَّرْطِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ إنَّمَا اللُّزُومُ عِنْدَ عَدَمِهِ إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً إلَّا بِطَهُورٍ } لَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَضَاءِ قَبْلُ إلَّا بِعَدَمِ الْقَبُولِ لِعَدَمِ الطَّهَارَةِ الْقَضَاءُ بِالْقَبُولِ بَعْدُ إلَّا لِوُجُودِ الطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } لَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَضَاءِ بِنَفْيِ النِّكَاحِ قَبْلُ إلَّا لِأَجْلِ عَدَمِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْوَلِيُّ الْقَضَاءُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بَعْدُ إلَّا لِأَجْلِ وُجُودِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْوَلِيُّ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الشَّرْطِ شَيْءٌ إنَّمَا الْمُؤَثِّرُ عَدَمُهُ لَا وُجُودُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ تَحْصُلُ لَهُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ أَوْ الْفَضِيلَةُ إذَا صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ لِجَوَازِ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي الْمَسْجِدِ وَتَكُونَ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً وَالسِّرُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ شَيْءٌ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا مُطَّرِدًا فِيمَا عَدَا الشَّرْطَ وَتَكُونُ الشُّرُوطُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ إطْلَاقِ الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَإِنَّ مُرَادَهُمْ غَيْرُ الشُّرُوطِ .
وَأَمَّا الشُّرُوطُ فَلَا وَهَذَا التَّخْصِيصُ مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ غَرِيبٌ قَلَّ مَنْ يَتَفَطَّنُ لَهُ وَبِسَبَبِ التَّفَطُّنِ لَهُ يَبْطُلُ مَا يُورِدُهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَيْنَا فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فَيَقُولُونَ لَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا لَلَزِمَ الْقَضَاءُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الطَّهُورِ وَبِصِحَّةِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْوَلِيِّ الْوَارِدِ فِي الْأَحَادِيثِ وَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ وَإِلَّا لَزِمَ تَخَلُّفُ الْمَدْلُولِ عَنْ الدَّلِيلِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَنُجِيبُ بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِثْنَاءَاتِ مِنْ بَابِ الشُّرُوطِ وَنَحْنُ إنَّمَا نَدَّعِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ الشُّرُوطِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْنَا الشُّرُوطُ فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ فَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ فَتَأَمَّلْهُ وَخَرَجَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْوَاقِعَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ وَالْحَالِفِينَ وَغَيْرِهِمْ
( الْفَرْقُ الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الشُّرُوطِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ فِي الشُّرُوطِ خَاصَّةً دُونَ بَقِيَّةِ أَبْوَابِ الِاسْتِثْنَاءِ ) وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّرُوطَ لَمَّا كَانَ وُجُودُهَا غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِي وُجُودِ الْمَشْرُوطِ وَلَا فِي عَدَمِهِ وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ عَدَمُهَا فِي عَدَمِهِ لِأَنَّ الشَّرْطَ كَمَا مَرَّ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ كَانَ مِنْ الضَّرُورِيِّ اسْتِثْنَاءُ الشُّرُوطِ مِنْ إطْلَاقِ الْعُلَمَاءِ قَاعِدَةَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَإِلَّا لَاتَّجَهَ مَا يُورِدُهُ الْحَنَفِيَّةُ عَلَيْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ لَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا لَلَزِمَ الْقَضَاءُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الطَّهُورِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً إلَّا بِطَهُورٍ } وَالْقَضَاءُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْوَلِيِّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ ضَرُورَةَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الطَّهُورِ وَالْوَلِيِّ شَرْطٌ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ شَيْءٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْقَضَاءِ بِعَدَمِ قَبُولِ الصَّلَاةِ قَبْلَ إلَّا وَلَا مِنْ الْقَضَاءِ بِنَفْيِ النِّكَاحِ قَبْلَ إلَّا لِأَجْلِ عَدَمِ الشَّرْطِ فِيهِمَا الْقَضَاءُ بِالْقَبُولِ لِلصَّلَاةِ بَعْدَ إلَّا لِوُجُودِ الطَّهَارَةِ وَالْقَضَاءُ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بَعْدَ إلَّا لِوُجُودِ الْوَلِيِّ وَلَمَّا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ وَإِلَّا لَزِمَ تَخَلُّفُ الْمَدْلُولِ عَنْ الدَّلِيلِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَزِمَ أَنْ نَقُولَ فِي دَفْعِهِ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ الْوَارِدَ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ بَابِ الشُّرُوطِ وَنَحْنُ إنَّمَا نَدَّعِي أَنَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الشُّرُوطِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْنَا الشُّرُوطُ هَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فَتَأَمَّلْهُ
وَخَرَجَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْوَاقِعَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ وَالْحَالِفِينَ وَغَيْرِهِمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ إنْ وَقَاعِدَةِ إذَا وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا لِلشَّرْطِ ) لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا إنْ تَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ بِالِالْتِزَامِ وَعَلَى الشَّرْطِ بِالْمُطَابَقَةِ وَإِذَا عَلَى الْعَكْسِ فِي ذَلِكَ .
فَإِذَا قُلْت إنْ جَاءَ زَيْدٌ فَأَكْرِمْهُ فَلَفْظُك يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إنْ شَرْطٌ وَالْإِكْرَامُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَجِيءِ مُطَابَقَةً وَيَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّ الْمَجِيءَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِ وَإِذَا قُلْت إذَا جَاءَ زَيْدٌ فَأَكْرِمْهُ فَإِذَا تَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ بِالْمُطَابَقَةِ وَعَلَى الشَّرْطِ بِالِالْتِزَامِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَإِنَّهَا قَدْ يَلْزَمُهَا الشَّرْطُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ نَحْوُ { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ { فَسَبِّحْ } وَقَدْ لَا يَلْزَمُهَا وَتَكُونُ ظَرْفًا مَحْضًا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى } أَيْ أُقْسِمُ بِاللَّيْلِ فِي حَالَةِ غَشَيَانِهِ وَبِالنَّهَارِ فِي حَالِ تَجَلِّيهِ لِأَنَّهُمَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْقَسَمُ تَعْظِيمٌ وَالتَّعْظِيمُ يُنَاسِبُ أَعْظَمَ الْأَحْوَالِ فَإِذَا فِي مِثْلِ هَذَا ظَرْفٌ مَحْضٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ فَصَارَتْ إذَا الظَّرْفِيَّةُ قَدْ يَلْزَمُهَا الشَّرْطُ فَتَدُلُّ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَقَدْ لَا يَلْزَمُهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْتِزَامًا وَثَانِيهَا أَنَّ إنْ وَإِذَا وَإِنْ كَانَا مُطْلَقَيْنِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ لَا عُمُومَ فِيهِمَا غَيْرَ أَنَّ إنْ لَا تَوْسِعَةَ فِيهَا وَإِذَا ظَرْفٌ وَالظَّرْفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ .
وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ إنْ مِتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إذَا مِتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا طَلَاقَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَيَلْزَمُهُ فِي الثَّانِي لِأَنَّ الظَّرْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ فَظَرْفُ الْمَوْتِ يَحْتَمِلُ دُخُولَ زَمَنٍ مِنْ أَزْمِنَةِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَيَقَعُ
فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ الطَّلَاقُ فِي زَمَنِ الْحَيَاةِ فَيَلْزَمُهُ وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى مُلَاحَظَةِ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْفُرُوقِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظَّرْفَ قَدْ يَكُونُ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ أَنْ تَقُولَ وُلِدَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَامَ الْفِيلِ وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ سِتِّينَ مِنْ عَامِ الْفِيلِ وَهُوَ لَمْ يُولَدْ فِي جُمْلَةِ عَامِ الْفِيلِ بَلْ فِي جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ مَعَ أَنَّك جَعَلْته بِجُمْلَتِهِ ظَرْفًا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الظَّرْفُ أَوْسَعَ مِنْ مَظْرُوفِهِ الَّذِي هُوَ الْوِلَادَةُ وَكَذَلِكَ جُعِلَتْ جُمْلَةُ سَنَةَ سِتِّينَ ظَرْفًا لِلْمَوْتِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ بَلْ فِي جُزْءٍ مِنْهَا فَيَكُونُ هَذَا الظَّرْفُ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت } .
أَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِيهِ سُؤَالًا فَقَالَ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ إذَا جُعِلَ الشَّرْطُ ظَرْفًا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَا مَعًا وَاقِعَيْنِ فِيهِ نَحْوُ إذَا جَاءَ زَيْدٌ فَأَكْرِمْهُ فَالْمَجِيءُ وَالْإِكْرَامُ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِإِذَا وَكَذَلِكَ { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } إلَى قَوْلِهِ { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك } الْآيَةُ كِلَاهُمَا وَاقِعٌ فِي إذَا الْمَجِيءُ وَالتَّسْبِيحُ وَلِذَلِكَ جَوَّزُوا أَنْ يَعْمَلَ فِي إذَا كِلَا الْفِعْلَيْنِ وَاخْتَارُوا فِعْلَ الْجَوَابِ لِلْعَمَلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُضَافًا إلَيْهِ بِخِلَافِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ مُضَافٌ إلَى مَخْفُوضٍ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمُضَافِ وَإِذَا جَوَّزُوا عَمَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ فِي هَذَا الظَّرْفِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِهِمَا فِيهِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَامِلِ فِي الظَّرْفِ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا فِيهِ حَتَّى يَصِيرَ مَظْرُوفَهُ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالذِّكْرُ ضِدُّ النِّسْيَانِ وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى وُقُوعِهِمَا فِي إذَا وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَكَيْفَ أَمَرَ بِالذِّكْرِ فِي زَمَنِ النِّسْيَانِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ هَذِهِ
الْقَاعِدَةِ أَنَّ الظَّرْفَ قَدْ يَكُونُ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ فَيَفْضُلُ مِنْ زَمَانِ إذَا زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ نِسْيَانٌ يَقَعُ فِيهِ الذِّكْرُ فَلَا يَجْتَمِعُ الضِّدَّانِ وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْإِشْكَالُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } فَإِعْرَابُ الْيَوْمَ ظَرْفٌ وَإِذْ ظَرْفٌ أَيْضًا وَهُوَ بَدَلٌ مِنْ الْيَوْمِ وَالْبَدَلُ هُنَا غَيْرُ الْمُبْدَلِ مِنْهُ فَيَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ عَيْنُ زَمَنِ الظُّلْمِ لَكِنَّ زَمَنَ الظُّلْمِ فِي الدُّنْيَا وَالدُّنْيَا لَيْسَتْ هِيَ عَيْنَ الْآخِرَةِ وَلَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَكَيْفَ صَحَّتْ الْبَدَلِيَّةُ أَوْرَدَ ابْنُ جِنِّي هَذَا السُّؤَالَ فَقَالَ الظَّرْفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ وَزَمَنُ الظُّلْمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْسَعَ مِنْهُ حَتَّى يَمْتَدَّ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ وَيَقْبَلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الِامْتِدَادُ حَتَّى يُطْلَقَ عَلَى يَوْمِ الظُّلْمِ فَيَتَّحِدَانِ فَتَحْسُنُ الْبَدَلِيَّةُ .
وَهَذَا الْمَوْضِعُ فِي الِاتِّسَاعِ أَبْعَدُ مِنْ آيَةِ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانُ بِطُولِ الْبُعْدِ وَإِفْرَاطِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ أَكْثَرِ الِاسْتِعْمَالَاتِ وَبِالْجُمْلَةِ قَدْ ظَهَرَ لَك بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَهَذَا التَّقْرِيرُ أَنَّ الظَّرْفَ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَقْبَلُ السَّعَةَ أَكْثَرَ مِنْ مَظْرُوفِهِ فَيَكُونُ أَوْسَعَ مِنْهُ وَقَدْ لَا يَسَعُ أَكْثَرَ مِنْهُ نَحْوَ صُمْت رَمَضَانَ وَصُمْت يَوْمَ الْخَمِيسِ فَإِنَّ الظَّرْفَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ مُسَاوٍ لِلْمَظْرُوفِ فَتَلَخَّصَ الْفَرْقُ أَيْضًا بَيْنَ إنْ وَإِذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَثَالِثُهَا أَنَّ إنْ لَا يُعَلَّقُ عَلَيْهَا إلَّا مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا تَقُولُ إنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَأْتِ وَإِذَا تَقْبَلُ الْمَعْلُومَ وَالْمَشْكُوكَ فِيهِ فَتَقُولُ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَأْتِ وَإِذَا دَخَلَ الْعَبْدُ الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ فَهَذِهِ فُرُوقٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعَانِي وَأَمَّا الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ فَإِنَّ إنْ حَرْفٌ وَإِذَا اسْمٌ وَظَرْفٌ وَإِنْ لَا يُخْفَضُ مَا بَعْدَهَا بَلْ يَكُونُ مَا بَعْدَهَا
فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ بِالشَّرْطِ وَإِذَا مَا بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بِالظَّرْفِ .
وَإِذَا عَرَضَ لَهَا الْبِنَاءُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ فِي الْأَسْمَاءِ عَارِضٌ وَالْبِنَاءُ فِي إنْ أَصْلٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحُرُوفِ الْبِنَاءُ فَكُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوقِ النَّحْوِيَّةِ الَّتِي لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا
قَالَ ( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ إنْ وَقَاعِدَةِ إذَا وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا لِلشَّرْطِ إلَى قَوْلِهِ وَقَدْ لَا يَلْزَمُهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْتِزَامًا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ إلَّا قَوْلَهُ فِي إنْ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ الْتِزَامًا فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ الْتِزَامًا بِنَفْسِهَا وَعَلَى مَا شَرَطُوهُ فِي دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ مِنْ أَنَّهَا يَسْبِقُ ذَلِكَ فَهْمُ السَّامِعِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ الْتِزَامًا بِمَعْنَى أَنَّهَا مِنْ الْحُرُوفِ الَّتِي تُلَازِمُ الدُّخُولَ عَلَى الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ الْتِزَامًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( وَثَانِيهَا أَنَّ إنْ وَإِذَا وَإِنْ كَانَا مُطْلَقَيْنِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَانِ لَا عُمُومَ فِيهِمَا غَيْرَ أَنَّ إنْ لَا تَوْسِعَةَ فِيهَا وَإِذَا ظَرْفٌ وَالظَّرْفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ إنْ مِتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إذَا مِتَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ إلَى قَوْلِهِ فَيَكُونُ هَذَا الظَّرْفُ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ الظَّرْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُجَاءُ بِلَفْظِ الْيَوْمِ مَثَلًا فَيُقَالُ أَكَلْت يَوْمَ الْخَمِيسِ وَإِنْ كَانَ الْأَكْلُ لَمْ يَقَعْ فِي جَمِيعِهِ بَلْ فِي بَعْضِهِ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ ظَرْفٍ كَذَلِكَ وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ ظَرْفٍ كَذَلِكَ فَالصَّحِيحُ فِي إذَا أَنَّهَا لَا تَخْلُو أَنْ تَدْخُلَ عَلَى شَرْطٍ وَمَشْرُوطٍ أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ عَلَى شَرْطٍ وَمَشْرُوطٍ فَلَا إشْكَالَ وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى شَرْطٍ وَمَشْرُوطٍ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْمَشْرُوطِ بَعْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ مُمْكِنًا أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا كَقَوْلِهِ إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَإِنْ
كَانَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْمَشْرُوطِ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ كَقَوْلِهِ إذَا مِتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ قَوْلَهُ إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَيْسَ مَعْنَاهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الدُّخُولِ بِعَيْنِهِ بَلْ مَعْنَاهُ إيقَاعُهُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يَلِي زَمَنَ الدُّخُولِ لِضَرُورَةِ مُقْتَضَى الْفَاءِ فَإِنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ وَيَلْزَمُ عَنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ إذَا يُرَادُ بِهَا ظَرْفُ الدُّخُولِ لَا ظَرْفُ الطَّلَاقِ وَظَرْفُ الطَّلَاقِ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ وَيَلْزَمُ عَنْ ذَلِكَ تَعَلُّقُ إذَا بِدَخَلْت الَّذِي هُوَ فِعْلُ الشَّرْطِ وَلَا يُعْتَرَضُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ الْمُضَافُ إلَيْهِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمُضَافِ لِأَنَّهَا قَاعِدَةٌ لَا يُسَلَّمُ فِيهَا الْإِطْلَاقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ } إلَى آخِرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ ) قُلْتُ إنَّمَا يَلْزَمُ السُّؤَالُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ظَرْفُ النِّسْيَانِ هُوَ بِعَيْنِهِ ظَرْفُ الذِّكْرِ أَمَّا إذَا قُلْنَا إنَّ ظَرْفَ الذِّكْرِ غَيْرُ ظَرْفِ النِّسْيَانِ لَكِنَّهُ يَعْقُبُهُ فَتَكُونُ إذَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ } ظَرْفًا لِلنِّسْيَانِ خَاصَّةً فَظَرْفُ الذِّكْرِ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ السُّؤَالُ وَجَوَابُهُ بِأَنَّ الظَّرْفَ يَكُونُ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ فَيَفْضُلُ مِنْ إذَا زَمَنٌ لَا نِسْيَانَ فِيهِ وَهُوَ جَوَابٌ رَافِعٌ لِلسُّؤَالِ مِنْ أَصْلِهِ لَا جَوَابٌ مُتَرَتِّبٌ عَلَى صِحَّةِ السُّؤَالِ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ وَقَعَ الْإِشْكَالُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } إلَى قَوْلِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ أَكْثَرِ الِاسْتِعْمَالَاتِ ) قُلْتُ إنَّمَا وَقَعَ الْإِشْكَالُ فِي الْآيَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إذْ بَدَلٌ مِنْ الْيَوْمِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ بِلَا إشْكَالٍ وَمَا الْمَانِعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ الْيَوْمَ اشْتِرَاكُكُمْ فِي الْعَذَابِ بِسَبَبِ ظُلْمِكُمْ إذْ ظَلَمْتُمْ هَذَا لَا مَانِعَ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ .
قَالَ (
وَبِالْجُمْلَةِ قَدْ ظَهَرَ لَك بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الظَّرْفَ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَقْبَلُ السَّعَةَ أَكْثَرَ مِنْ مَظْرُوفِهِ فَيَكُونُ أَوْسَعَ إلَى قَوْلِهِ فَتَلَخَّصَ الْفَرْقُ أَيْضًا بَيْنَ إنْ وَإِذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ) قُلْتُ لَمْ يَظْهَرْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ بِوَجْهٍ وَلَا يَصِحُّ تَقْرِيرُ مَا قَرَّرَهُ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الظَّرْفُ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا مَعْنَى كَوْنِ الظَّرْفِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ أَنَّهُ يُطْلَقُ لَفْظُ الْيَوْمِ مَثَلًا فِي فِعْلٍ يَقَعُ فِي بَعْضِهِ لَا فِي جَمِيعِهِ وَذَلِكَ الْإِطْلَاقُ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ لِلْإِطْرَادِ وَلَيْسَ ذَلِكَ حَقِيقَةً مَعْنَوِيَّةً بِمَعْنَى أَنَّ ظَرْفَ الْفِعْلِ يَكُونُ أَوْسَعَ مِنْهُ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ وَلَمْ يَزَلْ الْإِشْكَالُ يَقَعُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْحَقَائِقِ اللَّفْظِيَّةِ فَيَظُنُّهَا شَيْئًا وَاحِدًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ .
قَالَ ( وَثَالِثُهَا أَنَّ إنْ لَا يُعَلَّقُ عَلَيْهَا إلَّا مَشْكُوكٌ إلَى قَوْلِهِ فَهَذِهِ فُرُوقٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعَانِي ) قُلْتُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ دُخُولُ إنْ عَلَى الْمَشْكُوكِ وَأَنَّهَا لِمُطْلَقِ الرَّبْطِ فَقَطْ .
قَالَ ( وَأَمَّا الْفَرْقُ مِنْ جِهَةِ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ إلَى آخِرِ الْفَرْقِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ قَالَ .
( الْفَرْقُ الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ بَيْنَ قَاعِدَةِ إنْ وَقَاعِدَةِ إذَا وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي كَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلشَّرْطِ أَيْ لِمُطْلَقِ الرَّبْطِ بَيْنَ جُمْلَتَيْنِ وَفِي الدَّلَالَةِ عَلَى مُطْلَقِ الزَّمَانِ أَيْ زَمَنٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَا عُمُومِ الْأَزْمَانِ ) لَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ وَجْهَيْنِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ إنْ تَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ الْتِزَامًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مِنْ الْحُرُوفِ الَّتِي تُلَازِمُ الدُّخُولَ عَلَى الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الزَّمَانِ وَعَلَى الشَّرْطِ بِالْمُطَابَقَةِ بِعَكْسِ إذَا فَفِي قَوْلِك إنْ جَاءَ زَيْدٌ فَأَكْرِمْهُ تَدُلُّ عَلَى إنْ بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى أَنَّ الْإِكْرَامَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَجِيءِ وَبِالِالْتِزَامِ مِنْ الْجِهَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّ الْمَجِيءَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانٍ فَافْهَمْ وَفِي نَحْوِ قَوْلِك إذَا جَاءَ زَيْدٌ فَأَكْرِمْهُ تَدُلُّ إذَا بِالْمُطَابَقَةِ عَلَى الزَّمَانِ وَبِالِالْتِزَامِ عَلَى الشَّرْطِ أَيْ تَوَقُّفُ الْإِكْرَامِ عَلَى الْمَجِيءِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ فَسَبِّحْ وَقَدْ تَكُونُ ظَرْفًا مَحْضًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى } أَيْ أُقْسِمُ بِاللَّيْلِ فِي حَالَةِ غَشَيَانِهِ وَبِالنَّهَارِ فِي حَالَةِ تَجَلِّيهِ لِأَنَّهُمَا أَكْمَلُ أَحْوَالِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْقَسَمُ تَعْظِيمٌ وَالتَّعْظِيمُ يُنَاسِبُ أَعْظَمَ الْأَحْوَالِ فَلَا تَدُلُّ إذَا الظَّرْفِيَّةُ عَلَى الشَّرْطِ الْتِزَامًا إلَّا فِي بَعْضِ صُوَرِهَا وَهُوَ مَا إذَا دَخَلَتْ عَلَى شَرْطٍ وَمَشْرُوطٍ بِخِلَافِ إنْ فَلَا تُفَارِقُ الدَّلَالَةَ عَلَى الشَّرْطِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ إنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الزَّمَانِ بِالْجِهَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ فَإِذَا قَالَ إنْ مِتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقٌ قَطْعًا إذْ لَا طَلَاقَ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَأَمَّا إذَا فَالصَّحِيحُ كَمَا قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ أَنَّهَا إنْ لَمْ تَدْخُلْ عَلَى شَرْطٍ وَمَشْرُوطٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَمَانُهَا
أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ إذْ لَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الظَّرْفَ يَجُوزُ فِيهِ ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُجَاءُ بِلَفْظِ الْيَوْمِ مَثَلًا فَيُقَالُ أَكَلْت يَوْمَ الْخَمِيسِ وَإِنْ كَانَ الْأَكْلُ لَمْ يَقَعْ فِي جَمِيعِهِ كَمَا يُقَالُ وُلِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفِيلِ وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَةَ سِتِّينَ مِنْ عَامِ الْفِيلِ وَهُوَ لَمْ يُولَدْ إلَّا فِي جُزْءٍ مِنْ عَامِ الْفِيلِ وَلَمْ يَقَعْ مَوْتُهُ إلَّا فِي جُزْءٍ مِنْ السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ دَخَلَتْ عَلَى شَرْطٍ وَمَشْرُوطٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ ذَلِكَ الْمَشْرُوطِ بَعْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ مُمْكِنًا أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمْكِنٍ كَقَوْلِهِ إذَا مِتَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ إذْ لَيْسَ مَعْنَاهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْمَوْتِ بِعَيْنِهِ حَتَّى يُقَالَ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ لِأَنَّ ظَرْفَ الْمَوْتِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْسَعَ مِنْ الْمَظْرُوفِ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ فَيَدْخُلُ فِيهِ زَمَنٌ مِنْ أَزْمِنَةِ الْحَيَاةِ يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ فَيَلْزَمُهُ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مَبْنِيٍّ عَلَى مُلَاحَظَةِ هَذَا الْوَجْهِ بَلْ مَعْنَاهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يَلِي زَمَنَ الْمَوْتِ لِمَا سَيَتَّضِحُ وَلَا طَلَاقَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا كَقَوْلِهِ إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ إذْ لَيْسَ مَعْنَاهُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الدُّخُولِ بِعَيْنِهِ بَلْ مَعْنَاهُ إيقَاعُهُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يَلِي زَمَنَ الدُّخُولِ لِضَرُورَةِ مُقْتَضَى الْفَاءِ الَّتِي لِلتَّعْقِيبِ وَإِنْ لَزِمَ عَنْ ذَلِكَ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ إذَا ظَرْفٌ لِلدُّخُولِ لَا ظَرْفٌ لِلطَّلَاقِ بَلْ ظَرْفُ الطَّلَاقِ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ وَالثَّانِي تَعَلُّقُهَا بِدَخَلْت الَّذِي هُوَ فِعْلُ الشَّرْطِ لَا بِطَالِقٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ الْمُضَافُ إلَيْهِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمُضَافِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ هَذَا قَاعِدَةٌ لَا يُسَلَّمُ فِيهَا الْإِطْلَاقُ ا هـ كَلَامُ ابْنِ الشَّاطِّ بِتَصَرُّفٍ وَتَوْضِيحٍ .
(
قُلْتُ ) وَيُقَرُّ بِهِ قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ الْعَامِلُ فِي أَسْمَاءِ الشُّرُوطِ فِعْلُ الشَّرْطِ لَا الْجَوَابُ لِأَنَّ رُتْبَةَ الْجَوَابِ مَعَ مُتَعَلِّقَاتِهِ التَّأْخِيرُ عَنْ الشَّرْطِ فَلَا يَعْمَلُ فِي مُتَقَدِّمٍ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَقْتَرِنُ بِالْفَاءِ وَإِذَا الْفُجَائِيَّةِ وَمَا بَعْدَهُمَا لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُمَا وَهَاتَانِ الْعِلَّتَانِ مُتَحَقِّقَتَانِ أَيْضًا فِي إذَا وَالْعِلَّةُ تَدُورُ مَعَ الْمَعْلُولِ فَلِذَا اُضْطُرُّوا فِي إذَا وَنَحْوِهَا عَلَى تَسْلِيمِ إطْلَاقِ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ إلَى تَكَلُّفَاتٍ مِنْهَا أَنَّ عَامِلَهَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ لَا الْجَوَابُ لِمَا عَلِمْت وَمِنْهَا أَنَّ عَامِلَهَا هُوَ الْجَوَابُ وَتَقْيِيدُ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَعْنِي قَاعِدَةَ مَا رُتْبَتُهُ لَا يَعْمَلُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ وَقَاعِدَةُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ وَإِذَا الْفُجَائِيَّةِ إلَخْ بِغَيْرِ الظُّرُوفِ لِتَوَسُّعِهِمْ فِي الظُّرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَسْتَحِقَّ التَّصْدِيرَ فَمَا ظَنُّك بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَمِنْهَا قَوْلُ الْعَلَّامَةِ الْخُضَرِيِّ عَلَى ابْنِ عَقِيلٍ عَلَى الْأَلْفِيَّةِ وَمَنْ جَعَلَ شَرْطَهَا هُوَ الْعَامِلُ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ قَالَ إنَّهَا غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَيْهِ مِثْلُهَا كَمَا يَقُولُ الْجَمِيعُ فِيهَا إذَا جَزَمَتْ كَمَا فِي الْمُغْنِي وَحِينَئِذٍ فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ( إذْ وَحَيْثُ ) أَنَّهَا يَحْصُلُ الرَّبْطُ فِيهَا بَيْنَ جُمْلَتَيْ الْجَوَابِ وَالشَّرْطِ بِكَوْنِهَا شَرْطًا كَمَا فِي أَيْنَ وَمَتَى وَأَمَّا إذْ وَحَيْثُ فَلَوْلَا الْإِضَافَةُ مَا حَصَلَ بِهِمَا رَبْطٌ وَعِنْدَ تَجَرُّدِهَا عَنْ الشَّرْطِ تَكُونُ مُضَافَةً لِلْجُمْلَةِ بَعْدَهَا بِلَا خِلَافٍ فِيمَا يَظْهَرُ لِيَحْصُلَ بِهَا الرَّبْطُ فَتَدَبَّرْ ا هـ .
وَمِنْهَا قَوْلُ الْعَلَّامَةِ الْأَمِيرِ عَلَى الْمُغْنِي كُلُّ كَلِمَتَيْنِ فَأَكْثَرَ كَانَتَا بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَعْنَى وُقُوعِهِمَا مَعًا جُزْءُ كَلَامٍ يَجُوزُ أَنْ تَعْمَلَ أُولَاهُمَا فِي الثَّانِيَةِ كَالْمُضَافِ إلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ الْعَكْسُ إذْ لَمْ تُعْهَدْ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ بَعْضُ أَجْزَائِهَا مُقَدَّمٌ
مِنْ وَجْهٍ مُؤَخَّرٌ مِنْ آخَرَ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْمَعْنَى فَمِنْ ثَمَّ لَمْ تَعْمَلْ صِلَةٌ فِي مَوْصُولٍ وَلَا تَابِعٌ فِي مَتْبُوعٍ وَلَا مُضَافٌ إلَيْهِ فِي مُضَافٍ .
وَأَمَّا كَلِمَةُ الشَّرْطِ وَالشَّرْطِ فَلَيْسَتَا كَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ إذْ لَا يَقَعَانِ مَوْقِعَ الْمُفْرَدِ كَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَالْمُبْتَدَأِ فَيَجُوزُ عَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ نَحْوُ مَتَى تَذْهَبْ أَذْهَبْ وَ { أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } نَعَمْ إنْ لَمْ يَعْمَلْ الشَّرْطُ فِي كَلِمَتِهِ نَحْوُ مَنْ قَامَ قُمْت جَازَ وُقُوعُهَا مَوْقِعَ الْمُبْتَدَأِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِهِمْ ا هـ .
قَالَ الشَّيْخُ الْأَبْيَارِيُّ فِي الْقَصْرِ الْمَبْنِيِّ أَيْ فَإِنَّ مَنْ هُنَا غَيْرُ ظَرْفٍ فَهِيَ تَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ وَهُوَ لَا يَعْمَلُ فِيهَا لَكِنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ ضَعِيفٌ ا هـ إذْ لَا مَعْنَى لِجَعْلِ كَلِمَةِ إذَا مَعَ الشَّرْطِ إذَا جَزَمَتْ كَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَعْلُهَا مَعَهُ إذَا لَمْ تَجْزِمْ لَيْسَتْ كَكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ قَدْ جَعَلُوهُمَا كَسَائِرِ كَلِمَاتِ الشَّرْطِ مَعَ شُرُوطِهَا مُطْلَقًا قَيْدًا لِجُمْلَةِ الْجَزَاءِ .
وَأَمَّا عَدَمُ تَسْلِيمِ إطْلَاقِ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا لِابْنِ الشَّاطِّ فَلَا يَحْتَاجُونَ لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ فَتَأَمَّلْ بِإِنْصَافٍ بَلْ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْجَزْمِ بِعَدَمِ تَسْلِيمِ إطْلَاقِهَا وَجَعَلَ إذَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَاذْكُرْ رَبَّك إذَا نَسِيت } ظَرْفًا لِلنِّسْيَانِ .
وَلَمْ يُصَرِّحْ بِظَرْفِ الذِّكْرِ يَنْدَفِعُ مِنْ أَصْلِهِ مَا أَوْرَدَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى جَعْلِ إذَا ظَرْفًا لَا ذُكِرْ الَّذِي هُوَ الْجَوَابُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُضَافًا إلَيْهِ لَا لَنَسِيت الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ وَإِنْ جَازَ بِالنَّظَرِ لِذَاتِهِ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إلَيْهِ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ لَا يَعْمَلُ فِي الْمُضَافِ مِنْ أَنَّ الذِّكْرَ ضِدُّ النِّسْيَانِ وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى وُقُوعِهِمَا فِي إذَا وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَكَيْفَ أَمَرَ بِالذِّكْرِ فِي زَمَنِ