كتاب : أنوار البروق في أنواع الفروق
المؤلف : أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي الشهير بالقرافي
غَيْرُهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ كَمَا قَالَهُ الْمُجِيبُ .
وَجَوَابُهُ لِلْمُجِيبِ بِأَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ هُوَ الْمُحَرَّمُ لَا لَفْظُهُ بِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ ثَلَاثًا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ غَيْرَ ذَلِكَ اللَّفْظِ ، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الطَّلْقَاتِ إلَّا بِهِ ، وَلَا يُتَّجَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الطَّلْقَاتِ إلَّا بِاللَّفْظِ أَمَّا بِغَيْرِهِ فَلَا يُتَّجَهُ ، وَلَا يَتَأَتَّى بَلْ يَكُونُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَلْزَمُهُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَقَوْلُهُ وَأَمَّا تَحْرِيمُ الظِّهَارِ فَلِأَجْلِ اللَّفْظِ قُلْت هَذِهِ دَعْوَى ، وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ إلَّا كَوْنُهُ كَذِبًا قُلْت هَذِهِ أَيْضًا أُخْرَى وَقَوْلُهُ : لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ غَيْرِهِ قُلْت هَذَا مَمْنُوعٌ وَلَا يَصِحُّ إلَّا عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ خَبَرٌ وَهُوَ غَيْرُ الْمَذْهَبِ فَكَيْفَ يَنْبَنِي عَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
قَالَ ( وَثَالِثُهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ ، وَأَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ زَاجِرَةً مَاحِيَةً لِلذَّنْبِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى التَّحْرِيمِ ، وَإِنَّمَا سَبَبُ التَّحْرِيمِ إذَا كَانَ كَذِبًا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَقِيَّةِ التَّقْرِيرِ قُلْت عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ زَاجِرَةٌ مَاحِيَةٌ لَا يَلْزَمُ أَنَّ الذَّنْبَ كَوْنُهُ كَذِبًا ، وَبَاقِي كَلَامِهِ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ ، قَالَ وَرَابِعُهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } وَالْوَعْظُ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَإِذَا جُعِلَتْ الْكَفَّارَةُ وَعْظًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا زَاجِرَةٌ لَا سَاتِرَةٌ ، وَأَنَّهُ حَصَلَ هُنَالِكَ مَا يَقْتَضِي الْوَعْظَ وَمَا ذَلِكَ إلَّا الظِّهَارُ الْمُحَرَّمُ فَيَكُونُ مُحَرَّمًا لِكَوْنِهِ كَذِبًا فَيَكُونُ خَبَرًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّقْرِيرِ .
قُلْت هَذَا أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ ادِّعَاءِ تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِكَوْنِهِ كَذِبًا قَالَ وَخَامِسُهَا قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ { وَإِنَّ اللَّهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } وَالْعَفْوُ وَالْمَغْفِرَةُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَعَاصِي فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ ، وَلَا مُدْرَكَ لِلْمَعْصِيَةِ إلَّا كَوْنُهُ كَذِبًا ، وَالْكَذِبُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْخَبَرِ فَيَكُونُ خَبَرًا ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
قُلْت وَهَذَا أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى تِلْكَ الدَّعْوَى فَإِنْ قُلْت بَلْ هُوَ إنْشَاءٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ كُتُبَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِسْلَامِ تَحْرِيمًا تُحِلُّهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا تُحِلُّ الرَّجْعَةُ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ ) قُلْتُ جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْوَجْهِ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَثَانِيهَا أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي حَدِّ الْإِنْشَاءِ إلَى آخِرِهِ ) قُلْتُ وَهَذَا الْوَجْهُ أَيْضًا ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَثَالِثُهَا أَنَّهُ لَفْظٌ يُسْتَتْبَعُ إلَى آخِرِهِ ) قُلْتُ وَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ إلَى قَوْلِهِ عِنْدَ كَذِبٍ خَاصٍّ ) قُلْتُ : ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لَكِنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ .
قَالَ ( وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ إلَى آخِرِ الْجَوَابِ ) قُلْتُ جَمِيعُ مَا قَالَهُ ظَاهِرٌ مُتَّجَهٌ وَجَوَابُهُ عَنْ الْوَارِدِ حَسَنٌ ، قَالَ وَعَنْ الثَّانِي إنَّ تَرَتُّبَ التَّحْرِيمِ عَلَى الظِّهَارِ مَمْنُوعٌ إلَى آخِرِ مَا قَالَهُ فِيهِ قُلْتُ جَمِيعُ مَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ ظَاهِرٌ .
قَالَ وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّهُ قَالَ إنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْأَسْبَابِ إلَى قَوْلِهِ تَأَمَّلْ ذَلِكَ قُلْتُ مَا قَالَهُ أَيْضًا ظَاهِرٌ مُتَّجَهٌ وَمَآلُ الْأَمْرِ فِيهِ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ لَهُ حُجَّةٌ سِوَاهُ .
قَالَ ( فَإِنْ قُلْت فَقَدْ قَالُوا إنَّ صَرِيحَ الظِّهَارِ وَكِنَايَتَهُ يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ بِخِلَافِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِهِ ) إلَى آخِرِ كَلَامِهِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ قُلْت جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ مُسْتَقِيمٌ غَيْرَ أَنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْمُتَبَادِرَ إلَى الْفَهْمِ عُرْفًا أَنَّهُ إنْشَاءٌ فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْعُرْفُ عَنْ السَّلَفِ
أَعْنِي الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَانْتَهَى الْأَمْرُ فِيهِ إلَى الْقَطْعِ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ وَإِلَّا بَقِيَتْ الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.
( فَصْلٌ ) فِي سِتِّ مَسَائِلَ حَسَنَةٍ فِي بَابِهَا تُوَضِّحُ الْإِنْشَاءَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : يَعْتَقِدُ الْفُقَهَاءُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْشَاءٌ لِلظِّهَارِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْشَاءٌ لِلطَّلَاقِ مُحْتَجِّينَ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا : أَنَّ كُتُبَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِسْلَامِ تَحْرِيمًا تُحِلُّهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا تُحِلُّ الرَّجْعَةُ تَحْرِيمَ الطَّلَاقِ كَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي دَاوُد ، وَهُوَ أَنَّ { خُوَيْلَةَ بِنْتَ شَرِيكٍ قَالَتْ : ظَاهَرَ مِنِّي زَوْجِي أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْكُو إلَيْهِ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُجَادِلُنِي فِيهِ وَيَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهُ ابْنُ عَمِّكِ فَمَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } الْآيَةَ فَقَالَ لِيُعْتِقْ رَقَبَةً قَالَتْ لَا يَجِدُ قَالَ فَيَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ قَالَ فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَتْ مَا عِنْدَهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَصَدَّقُ بِهِ قَالَ فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِفَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا سَأُعِينُهُ بِفَرَقٍ آخَرَ قَالَ أَحْسَنْتِ فَاذْهَبِي وَأَطْعِمِي عَنْهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَارْجِعِي إلَى ابْنِ عَمِّكِ } لِاقْتِضَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَالَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ ، وَهَذَا هُوَ الطَّلَاقُ الْمُؤَبَّدُ ، وَالطَّلَاقُ إنْشَاءٌ فَيَكُونُ الظِّهَارُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُمْ طَلَاقًا ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ النَّقْلِ وَالتَّغْيِيرِ وَمَنْ ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَثَانِيهَا أَنَّهُ لَفْظٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِمَدْلُولِهِ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ ، وَكُلُّ مَا كَانَ سَبَبًا لِمَدْلُولِهِ فَهُوَ
إنْشَاءٌ فَيَكُونُ إنْشَاءً كَالطَّلَاقِ .
وَثَالِثُهَا أَنَّ خُرُوجَ هَذَا اللَّفْظِ عَنْ صَنِيعِ الْإِنْشَاءِ بَعِيدًا جِدًّا ؛ لِأَنَّ اسْتِتْبَاعَهُ أَحْكَامًا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ التَّحْرِيمِ وَالْكَفَّارَةِ وَغَيْرِهِمَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إنْشَاءً مِثْلَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ صِيَغِ الْإِنْشَاءِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهُ صَرِيحًا وَكِنَايَةً كَالطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ خَبَرٌ لَا إنْشَاءٌ ؛ لِأَنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْشَاءِ عَدَمُ قَبُولِهِ لِلتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ، وَقَدْ كَذَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُظَاهِرِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا } فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ : الْأَوَّلُ بِنَفْيِ مَا أَثْبَتُوهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ مَا هِيَ مُطَلَّقَةٌ ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ عَنْ تَقَدُّمِ طَلَاقِهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا طَلَاقٌ .
وَالثَّانِي بِجَعْلِ قَوْلِهِمْ مُنْكَرًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ } وَالْإِنْشَاءُ لِلتَّحْرِيمِ لَا يَكُونُ مُنْكَرًا بِدَلِيلِ الطَّلَاقِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُنْكَرًا إذَا جَعَلْنَاهُ خَبَرًا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ كَذِبٌ وَالْكَذِبُ مُنْكَرٌ .
وَالثَّالِثُ بِجَعْلِ قَوْلِهِمْ زُورًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَزُورًا وَالزُّورُ هُوَ الْخَبَرُ الْكَذِبُ فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ كَذِبًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِذَا كَذَّبَهُمْ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ خَبَرٌ لَا إنْشَاءٌ ( وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ ) فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَقْتَضِي إلَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَزُولُ عِنْدَ النُّطْقِ بِهِ وَزَوَالُهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ كَمَا قُلْتُمْ أَوْ لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَجَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنَّ مَنْ
أَخْبَرَ بِهَذَا الْخَبَرِ الْكَذِبِ لَا تَبْقَى امْرَأَتُهُ فِي عِصْمَتِهِ مَتَى الْتَزَمَ بِجَاهِلِيَّتِهِمْ ، وَلَيْسَ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ بَلْ لَعَلَّهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ الْتَزَمُوا أَنَّ النَّاقَةَ إذَا جَاءَتْ بِعَشَرَةٍ مِنْ الْوَلَدِ تَصِيرُ سَائِبَةً فَجَازَ أَنْ يَلْتَزِمُوا ذَهَابَ الْعِصْمَةِ عِنْدَ كَذِبٍ خَاصٍّ ، وَالِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ قَرِيبًا إلَّا أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ يُقَوِّي الِاحْتِمَالَ الثَّانِيَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } الْآيَةَ فَإِنَّ التَّكْذِيبَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ خَصَائِصِ الْخَبَرِ فَيَكُونُ ظِهَارُهُمْ خَبَرًا كَذِبًا الْتَزَمُوا عَقِيبَهُ ذَهَابَ الْعِصْمَةِ كَسَائِرِ مُلْتَزَمَاتِهِمْ الْبَاطِلَةِ ، وَقَدْ عَدَّهَا الْعُلَمَاءُ نَحْوَ عِشْرِينَ نَوْعًا مِنْ التَّحْرِيمَاتِ الْتَزَمُوهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهَا مِنْ جِهَةِ الشَّرَائِعِ ، وَهِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ فِيهَا مُضَارِعًا لَا مَاضِيًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ نُزُولِهَا أَوْ حَالَ نُزُولِهَا لِأُمُورٍ .
( أَحَدُهَا ) أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَسْتَعْمِلُ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ لِلْحَالَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ كَقَوْلِهِمْ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَصِلُ وَيَقْطَعُ تُرِيدُ هَذَا شَأْنُهُ أَبَدًا فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ ، وَمِنْهُ { قَوْلُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ لَنْ يُخْزِيَكَ أَبَدًا إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ } أَيْ هَذَا شَأْنُكَ وَسَجِيَّتُكَ فِي جَمِيعِ عُمُرِكَ وَعَلَى هَذَا تَنْتَظِمُ الْآيَةُ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِمَ تَنَاوُلَ الْآيَةِ لِلْمُظَاهَرَةِ الْمَاضِيَةِ أَيْضًا ، وَأَدْخَلَ الْمُظَاهَرَةَ الْمَاضِيَةَ فِي عُمُومِهَا مِنْ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَإِلَّا لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
( وَالثَّالِثُ ) أَنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا فَأَقَرَّ تَحْرِيمًا تُحِلُّهُ الْكَفَّارَةُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ عَيْنُ مَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا بَابٌ آخَرُ تَجَدَّدَ فِي الشَّرِيعَةِ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ كَمَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى فَرْضِ تَسْلِيمِ مَا ذُكِرَ فَافْهَمْ ( وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ أَيْضًا ) فِي الْوَجْهِ الثَّانِي .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ تَرَتُّبَ التَّحْرِيمِ عَلَى الظِّهَارِ إذْ الَّذِي فِي الْآيَةِ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْوَطْءِ كَتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ عَلَى الصَّلَاةِ فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ تَطَهَّرْ قَبْلَ أَنْ تُصَلِّيَ لَا يُقَالُ الصَّلَاةُ مُحَرَّمَةٌ بَلْ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ التَّرْتِيبِ كَتَقْدِيمِ الْإِيمَانِ عَلَى الْفُرُوعِ وَتَقْدِيمِ الْإِيمَانِ بِالصَّانِعِ عَلَى تَصْدِيقِ الرُّسُلِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ التَّرْتِيبَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّحْرِيمَ اقْتِضَاءُ لَفْظِ الظِّهَارِ بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ كَالطَّلَاقِ مَعَ تَحْرِيمِ الْوَطْءِ حَتَّى يَكُونَ إنْشَاءً لِجَوَازِ أَنْ يَقْتَضِيَ لَفْظُ الظِّهَارِ التَّحْرِيمَ وَالْكَفَّارَةَ لَا بِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ بَلْ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ أَيْ جَعْلُهُ شَرْعًا سَبَبَ ذَلِكَ عُقُوبَةً كَمَا تَرَتَّبَ تَحْرِيمُ الْإِرْثِ عَلَى الْقَاتِلِ عَمْدًا ، وَلَيْسَ الْقَتْلُ إنْشَاءً لِتَحْرِيمِ الْإِرْثِ ، وَكَمَا تَرَتَّبَ التَّعْزِيرُ وَإِسْقَاطُ الْعَدَالَةِ وَالْعَزْلُ مِنْ الْوِلَايَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى الْخَبَرِ الْكَذِبِ فَلَا يَكُونُ إنْشَاءً إذْ الْإِنْشَاءُ إنَّمَا هُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اللَّفْظُ وُضِعَ لِذَلِكَ التَّحْرِيمِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَصِيَغِ الْعُقُودِ وَبِالْجُمْلَةِ فَكَوْنُهُ سَبَبًا بِالْقَوْلِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا بِالْإِنْشَاءِ بِدَلِيلِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِخْبَارَاتِ الْكَاذِبَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّارِعَ نَصَبَهَا أَسْبَابًا لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ ، وَالْأَعَمُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ فَلَا يُسْتَدَلُّ بِمُطْلَقِ السَّبَبِيَّةِ عَنْ الْإِنْشَاءِ ، وَلَا يُقَاسَ تَرَتُّبُ
التَّحْرِيمِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى الظِّهَارِ عَلَى تَرَتُّبِ التَّحْرِيمِ عَلَى الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْأَوَّلِ الْعُقُوبَةُ عَلَى الْكَذِبِ وَجِهَةَ الثَّانِي دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ فَافْهَمْ ( وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ أَيْضًا ) فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْأَسْبَابِ فَلَا يَصِحُّ وَعَلَى صِحَّتِهِ فَهُوَ قِيَاسٌ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ الصَّرِيحِ مِنْ الْقُرْآنِ الْمُخْبِرِ عَنْ كَوْنِهِ كَذِبًا ، وَالْكَذِبُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَكُونُ فِي الْإِنْشَاءِ وَإِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ لَا يُسْمَعُ نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْمُتَبَادِرَ إلَى الْفَهْمِ عُرْفًا أَنَّهُ إنْشَاءٌ فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْفَرْقُ عَلَى السَّلَفِ أَعْنِي الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَانْتَهَى الْأَمْرُ فِيهِ إلَى الْقَطْعِ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ وَإِلَّا بَقِيَتْ الْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةً .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ لِلظَّاهِرِ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ لَيْسَ بِمُسَاوٍ لِقَوْلِهِمْ إنَّ لِلطَّلَاقِ صَرِيحًا وَكِنَايَةً فِي الرُّجُوعِ إلَى تَفَاوُتِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي الْبَابَيْنِ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ إنْشَاءٌ بَلْ الْأَوَّلُ إشَارَةٌ إلَى تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ الْكَذِبِ فَالصَّرِيحُ مِنْهُ أَقْبَحُ وَأَشْنَعُ فَيَكُونُ أَوْلَى بِتَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى تَفَاوُتِ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ فَالْبَابَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَهُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ إنْشَاءً أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَذْفَ فِيهِ الصَّرِيحُ كَقَوْلِهِ أَنْتَ زَنَيْتَ بِفُلَانَةَ وَهُوَ لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ خَبَرٌ صِرْفٌ إجْمَاعًا إمَّا كَاذِبٌ أَوْ صَادِقٌ ، وَفِيهِ الْكِنَايَةُ كَالتَّعْرِيضِ مِثْلَ قَوْلِهِ مَا أَنَا بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَفْظُ الظِّهَارِ مِنْهُ مَا هُوَ صَرِيحٌ وَهُوَ مَا جَمَعَ بَيْنَ ظَهْرٍ وَمُؤَبَّدٍ تَحْرِيمُهَا كَقَوْلِهِ أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي مِمَّا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ التَّشْبِيهِ الَّذِي نَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَهُ كَذِبًا وَزُورًا
وَمِنْهُ مَا هُوَ كِنَايَةٌ يُشِيرُ إلَى هَذَا التَّشْبِيهِ وَهُوَ مَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الظَّهْرِ وَمُؤَبَّدَةِ التَّحْرِيمِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ كَأُمِّي أَوْ كَظَهْرِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَدَعْوَى أَنَّ قَوْلَهُمْ يَنْصَرِفُ صَرِيحُ الظِّهَارِ وَكِنَايَتُهُ لِلطَّلَاقِ ، وَلَا يَنْصَرِفُ صَرِيحُ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتُهُ لِلظِّهَارِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلظِّهَارِ أَصْلًا يَنْصَرِفُ عَنْهُ لِلطَّلَاقِ ، وَمَا ذَلِكَ الْأَصْلُ إلَّا نَقْلُ الْعُرْفِ الظِّهَارَ مِنْ الْإِخْبَارِ إلَى الْإِنْشَاءِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ عَلَى أَنَّ انْصِرَافَ صَرِيحِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ وَكِنَايَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ وَعَدَمَ انْصِرَافِهِمَا لَيْسَ بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِمَا فَقَدْ قَالَ خَلِيلٌ فِي صَرِيحِ الظِّهَارِ وَلَا يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ وَهَلْ يُؤْخَذُ بِالطَّلَاقِ إنْ نَوَاهُ مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ كَأَنْتِ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي تَأْوِيلَانِ .
ا هـ الْبُنَانِيُّ وَالْأَحْسَنُ مَا أَصْلَحَ بِهِ ابْنُ عَاشِرٍ عِبَارَتَهُ بِقَوْلِهِ : وَلَا يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ وَتُؤُوِّلَتْ بِالِانْصِرَافِ لَكِنْ يُؤْخَذُ بِهِمَا فِي الْقَضَاءِ .
ا هـ لِإِفَادَتِهِ أَنَّ عَدَمَ الِانْصِرَافِ مُطْلَقًا أَرْجَحُ وَقَدْ نُقِلَ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ الْمَازِرِيِّ أَنَّ الْمَشْهُورَ وَكَذَا قَالَ أَبُو إبْرَاهِيمَ الْأَعْرَجُ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ صَرِيحَ الظِّهَارِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى الطَّلَاقِ ، وَأَنَّ كُلَّ كَلَامٍ لَهُ حُكْمٌ فِي نَفْسِهِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُضْمَرَ بِهِ غَيْرُهُ كَالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَوْ أُضْمِرَ بِهِ غَيْرُهُ لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ عَنْ الطَّلَاقِ .
ا هـ وَنَقَلَهُ هَكَذَا أَبُو الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ مُحْرِزٍ وَزَادَ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ وَقَالَ أَرَدْت بِذَلِكَ طَلَاقًا أَوْ ظِهَارًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَا حَلَفَ بِهِ ، وَهُوَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ا هـ بِلَفْظِهِ ا هـ .
وَقَوْلُهُ وَإِنَّ كُلَّ كَلَامٍ إلَخْ إشَارَةٌ إلَى الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي بَابٍ لَا يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِهِ بِالنِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ
أَثَرُهَا إنَّمَا هُوَ تَخْصِيصُ الْعُمُومَاتِ أَوْ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقَاتِ فَهِيَ إنَّمَا تَدْخُلُ فِي الْمُحْتَمَلَاتِ وَإِذَا نُقِلَتْ صَرِيحًا عَنْ بَابِهِ فَهُوَ نَسْخٌ وَإِبْطَالٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ وَلَا يُتَّجَهُ قَوْلُ ابْنِ يُونُسَ وَقَدْ قَصَدَ النَّاسُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ الطَّلَاقَ فَصَرَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الظِّهَارِ بِإِنْزَالِ الْآيَةِ ا هـ .
لِأَنَّ ذَلِكَ ابْتِدَاءُ شَرْعٍ وَلَمْ يَكُنْ تَصَرُّفًا فِي مَشْرُوعٍ إذْ الْمُتَقَدِّمُ لَيْسَ شَرْعًا إنَّمَا هُوَ اعْتِقَادُ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِي صَرِيحٍ شَرْعِيٍّ يُصْرَفُ عَنْ بَابِهِ بَعْدَ مَشْرُوعِيَّتِهِ وَلَمَّا قَصَدَ أُولَئِكَ الطَّلَاقَ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمَشْرُوعٍ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِنُزُولِ الْآيَةِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ قَالَ الْأَمِيرُ فِي شَرْحِ مَجْمُوعِهِ وَعَلَى تَأْوِيلِ عَدَمِ الِانْصِرَافِ يُخَصَّصُ بِهِ قَوْلُهُمْ فِي الطَّلَاقِ وَإِنْ نَوَاهُ بِأَيِّ كَلَامٍ لَزِمَ ا هـ .
وَقَالَ فِي ضَوْءِ شُمُوعِهِ وَالتَّأْوِيلُ بِالِانْصِرَافِ نُظِرَ إلَى أَنَّ قَاعِدَةَ مَا كَانَ صَرِيحًا فِي بَابٍ إلَخْ لَيْسَتْ كُلِّيَّةً وَلَا مُتَّفَقًا عَلَيْهَا فَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْبَاقِي إلَّا مَا نَصُّوا عَلَيْهِ أَيْ مِنْ إعْمَالِ صَرِيحِ الْعِتْقِ بِالطَّلَاقِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَكْثَرَ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ أَغْلَبِيَّةٌ ا هـ مِنْ مَوْضِعَيْنِ بِتَصَرُّفٍ مَا وَتَوْضِيحٍ .
وَقَالَ عَبْدُ الْبَاقِي فِي صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَتِهِ عِنْدَ قَوْلِ خَلِيلٍ فِي بَابِ الظِّهَارِ وَلَزِمَ أَيْ الظِّهَارُ بِأَيِّ كَلَامٍ نَوَاهُ بِهِ مَا نَصُّهُ قَالَ أَحْمَد الْمُصَنِّفُ شَامِلٌ لِمَا إذَا أَرَادَهُ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ أَوْ كِنَايَتِهِ الظَّاهِرَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالْكِنَايَةِ الظَّاهِرَةِ ا هـ .
وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ بِهَا فَأَجْرَى الصَّرِيحَ كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ بِصَرِيحِ الظِّهَارِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ا هـ أَيْ فِي قَوْلِهِ وَهَلْ يُؤْخَذُ بِالطَّلَاقِ مَعَهُ إلَخْ ا هـ الْبُنَانِيُّ وَمُرَادُ أَحْمَدَ بِبَعْضِ مَنْ
تَكَلَّمَ عَلَى الْمُدَوَّنَةِ هُوَ الْوَانُّوغِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَيْهَا جَعَلَ الْكِنَايَةَ كَالصَّرِيحِ نَقَلَهُ عَنْهُ فِي تَكْمِيلِ التَّقْيِيدِ ، وَسَلَّمَهُ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِهِ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ إلَخْ عَنْ أَبِي إبْرَاهِيمَ وَذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّ مَذْهَبَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَقَالَ أَرَدْتُ بِذَلِكَ الظِّهَارَ أُلْزِمَ الظِّهَارُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ نِيَّتِهِ ، وَالطَّلَاقُ بِمَا ظَهَرَ مِنْ لَفْظِهِ ا هـ نَقَلَهُ الْحَطَّابُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَلَا يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ ا هـ .
قُلْتُ فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ انْصِرَافِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ لَهُ نَظَرٌ لِلْقَاعِدَةِ وَعَلَيْهِ فَيُخَصَّصُ بِهِ قَوْلُهُمْ فِي الظِّهَارِ وَإِنْ نَوَاهُ بِأَيِّ كَلَامٍ لَزِمَ ، وَالْقَوْلُ بِالِانْصِرَافِ نَظَرَ إلَى كَوْنِهَا أَغْلَبِيَّةً لَا كُلِّيَّةً فَاسْتَثْنَاهُ مِنْهَا وَيَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِانْصِرَافِ كِنَايَةِ الطَّلَاقِ الظَّاهِرَةِ لَهُ بِالْأَوْلَى وَقَوْلُ الْوَانُّوغِيِّ بِعَدَمِ انْصِرَافِهَا لَهُ نَظَرٌ إلَى أَنَّهَا بِالظُّهُورِ قَرُبَتْ مِنْ الصَّرَاحَةِ فَتَنَبَّهْ وَقَالَ أَبُو الظَّاهِرِ فِي كِنَايَةِ الظِّهَارِ إنْ عَرِيَ لَفْظُ الظِّهَارِ عَنْ النِّيَّةِ جَرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي انْعِقَادِ الْيَمِينِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ أَمَّا إنْ شُبِّهَ بِمُحَرَّمَةٍ لَا عَلَى التَّأْبِيدِ وَذِكْرِ الظَّهْرِ فَهَلْ يَكُونُ الطَّلَاقُ قَصْرًا لِلظِّهَارِ عَلَى مَوْرِدِهِ أَوْ ظِهَارًا قِيَاسًا عَلَى ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ قَوْلَانِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الظَّهْرَ فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ ظِهَارٌ وَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ وَعَكْسَهُ ، وَظِهَارٌ إلَّا إنْ أُرِيدَ الطَّلَاقُ فَيَكُونُ طَلَاقًا وَعَكْسُهُ ا هـ .
وَمُرَادُهُ بِالنِّيَّةِ فِي قَوْلِهِ إنْ عَرِيَ إلَخْ الْكَلَامُ النَّفْسَانِيُّ أَيْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِهِ النَّفْسَانِيِّ فِي نَفْسِهِ كَمَا يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِهِ ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ الظَّهْرَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ بِنَاءً عَلَى قُرْبِهِ مِنْ
الصَّرَاحَةِ فَلَا يَنْصَرِفُ لِلطَّلَاقِ وَعَكْسِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ شَأْنُ الْأَجْنَبِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالطَّلَاقِ وَهَذِهِ الْمُلَاحَظَةُ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدَّمَ النِّيَّةَ عَلَى اللَّفْظِ لِضَعْفِ اللَّفْظِ بِعَدَمِ ذِكْرِ الظَّهْرِ فَعُدِمَتْ الصَّرَاحَةُ فَعَمِلَتْ النِّيَّةُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا نِيَّةَ لَهُ الْمُتَبَادِرُ إلَى الْإِفْهَامِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ ، وَأَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ يُفِيدُ الطَّلَاقَ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بِخِلَافِ الْكِنَايَاتِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا يُفِيدُ ذَلِكَ بِالْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ ، وَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا وُضِعَ لُغَةً لِلْخَبَرِ عَنْ كَوْنِهَا طَالِقًا وَهُوَ لَوْ أَخْبَرَ عَنْ كَوْنِهَا طَالِقًا لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقٌ قَصَدَ الْكَذِبَ أَوْ الصِّدْقَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ طَلَاقُهَا فَسَأَلَ عَنْهَا هَلْ هِيَ مُطَلَّقَةٌ أَوْ بَاقِيَةٌ فِي الْعِصْمَةِ فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ جَوَابًا لِهَذَا السُّؤَالِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً فِي الْعِدَّةِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ بِالْإِنْشَاءِ الَّذِي هُوَ وَضْعٌ عُرْفِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ الطَّاءُ وَاللَّامُ وَالْقَافُ مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِإِزَالَةِ مُطْلَقِ الْقَيْدِ ، يُقَالُ لَفْظٌ مُطْلَقٌ وَوَجْهٌ طَلْقٌ وَحَلَالٌ طَلْقٌ وَأُطْلِقَ فُلَانٌ مِنْ الْحَبْسِ وَانْطَلَقَتْ بَطْنُهُ وَإِزَالَةُ قَيْدِ الْعِصْمَةِ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْقَيْدِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي إذَا أَتَى اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى إزَالَةِ الْقَيْدِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ أَنْ يَزُولَ الْخَاصُّ كَمَا إذَا زَالَ الْحَيَوَانُ زَالَ الْإِنْسَانُ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ مُنْطَلِقَةٌ ، وَأَلْزَمُوا بِالْأَوَّلِ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، وَلَمْ يُلْزِمُوا بِالثَّانِي إلَّا بِالنِّيَّةِ وَلَمْ يَكْتَفُوا بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ لَفْظَ طَالِقٍ نُقِلَ لِلْإِنْشَاءِ وَلَمْ يُنْقَلْ مُنْطَلِقَةٌ لَهُ ، فَلَوْ اتَّفَقَ زَمَانٌ يَنْعَكِسُ الْحَالُ فِيهِ وَيَصِيرُ مُنْطَلِقَةٌ مَوْضُوعًا لِلْإِنْشَاءِ وَطَالِقٌ مَهْجُورًا لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا عَلَى النُّدْرَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ بِطَالِقٍ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَأَلْزَمْنَاهُ
بِمُنْطَلِقَةٍ بِغَيْرِ نِيَّةٍ عَكْسُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فَعَلِمْنَا أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ لَمْ يُوجِبْ إزَالَةَ الْعِصْمَةِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بَلْ بِالْعُرْفِ الْإِنْشَائِيِّ ( فَإِنْ قُلْت ) لَيْسَ الطَّلَاقُ وَإِزَالَةُ الْعِصْمَةِ أَمْرًا اخْتَصَّ بِهِ بِالشَّرِيعَةِ بَلْ الْعَرَبُ كَانَتْ تَنْكِحُ وَتُطَلِّقُ ، وَقَدْ كَانَتْ تُطَلِّقُ بِالظِّهَارِ وَلَفْظُ الطَّلَاقِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَتَكُونُ إزَالَةُ الْعِصْمَةِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ السَّابِقِ عَلَى الشَّرِيعَةِ لَا بِأَمْرٍ يَتَجَدَّدُ بَعْدَ الشَّرِيعَةِ .
( قُلْت ) مُسَلَّمٌ أَنَّ الطَّلَاقَ وَإِزَالَةَ الْعِصْمَةِ كَانَا مَعْلُومَيْنِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِ ، وَالْإِنْشَاءَاتُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَيْضًا تَتَقَدَّمُ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَتَكُونُ عُرْفِيَّةً أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّوَايَةَ وَالْبَحْرَ وَالْغَائِطَ وَالْخَلَا أَلْفَاظٌ كَانَتْ الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلهَا قَبْلَ الْبَعْثَةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَصَّ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهَا مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ وَحَقَائِقُ عُرْفِيَّةٌ فَإِنَّ الْعَوَائِدَ قَدْ تَحْدُثُ مَعَ طُولِ الْأَيَّامِ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّنَا أَمْ لَا فَالْجَاهِلِيَّةُ تَحْدُثُ لَهَا عَوَائِدُ كَمَا تَحْدُثُ لَنَا وَمِنْ هَذَا عُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ كَانُوا يَتَدَاوَلُونَهَا إنْشَاءَاتٌ وَأَلْفَاظٌ عُرْفِيَّةٌ مَنْقُولَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ الْقِسْمِ إنْشَاءٌ عُرْفِيٌّ وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ قَوْلِنَا الطَّلَاقُ إنْشَاءٌ عُرْفِيٌّ وَبَيْنَ كَوْنِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ إنَّمَا أَزَالَ الْعِصْمَةَ بِغَيْرِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بَلْ بِالْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ عَنْ اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةٌ ، وَفَائِدَةُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ زَوَالَ الْعِصْمَةِ بِالْعُرْفِ وَالْعَوَائِدِ ، وَأَنَّهَا مُدْرَكُ إفَادَتِهِ كَذَلِكَ لِتَنَقُّلِنَا مَعَهَا كَيْفَ تَنَقَّلَتْ ؛ لِأَنَّهَا الْمُدْرَكُ ، وَإِذَا كَانَ الْمُوجِبُ هُوَ الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ وَجَبَ
الثُّبُوتُ مَعَهُ وَإِلْزَامُ الطَّلَاقِ بِهِ حَتَّى تَطْرَأَ عَادَةٌ نَاسِخَةٌ لِاقْتِضَاءِ ذَلِكَ فَيَكُونُ اللُّزُومُ هُوَ الْأَصْلُ حَتَّى يَطْرَأَ النَّاسِخُ الْمُبْطِلُ ، وَإِذَا قُلْنَا إنَّهَا تُوجِبُ بِالْعَادَةِ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ عَدَمُ اللُّزُومِ مِنْ قِبَلِ اللُّغَةِ حَتَّى يَثْبُتَ اللُّزُومُ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ كَمَا فِي مُنْطَلِقَةٍ لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ اللُّغَةِ فَلَا جَرَمَ لَا يَزَالُ يُنْفَى عَنْهُ اللُّزُومُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ النَّقْلُ الْعُرْفِيُّ ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الْفَرْقِ فِيمَا يُتَنَازَعُ فِيهِ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً ، فَيَكُونُ الْحَقُّ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ هُوَ عَدَمُ اللُّزُومِ حَتَّى يُثْبِتَهُ النَّقْلُ الْعُرْفِيُّ فَلَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْنَا بِاللُّغَةِ كَانَ الْحَقُّ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هُوَ اللُّزُومُ حَتَّى يَثْبُتَ النَّاسِخُ ، وَهَذَا فَرْقٌ عَظِيمٌ وَأَثَرٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْفَقِيهُ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَا نِيَّةَ لَهُ الْمُتَبَادِرُ إلَى الْفَهْمِ فِي بَادِي الرَّأْيِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ ، وَأَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ يُفِيدُ الطَّلَاقَ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بِخِلَافِ الْكِنَايَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا يُفِيدُ ذَلِكَ بِالْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ ، وَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا وُضِعَ لُغَةً لِلْخَبَرِ عَنْ كَوْنِهَا طَالِقًا ، وَهُوَ إذَا أَخْبَرَ عَنْ كَوْنِهَا طَالِقًا لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقٌ قَصَدَ الْكَذِبَ أَوْ الصِّدْقَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ طَلَاقُهَا فَسَأَلَ عَنْهَا هَلْ هِيَ مُطَلَّقَةٌ أَوْ بَاقِيَةٌ فِي الْعِصْمَةِ فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ جَوَابًا لِهَذَا السُّؤَالِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهِ طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً فِي الْعِدَّةِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ بِالْإِنْشَاءِ الَّذِي هُوَ وَضْعٌ عُرْفِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ الطَّاءُ وَاللَّامُ وَالْقَافُ مَوْضُوعَةٌ فِي اللُّغَةِ لِإِزَالَةِ مُطْلَقِ الْقَيْدِ ، يُقَالُ لَفْظٌ مُطْلَقٌ وَوَجْهٌ طَلْقٌ وَحَلَالٌ طَلْقٌ وَأُطْلِقَ فُلَانٌ مِنْ الْحَبْسِ وَانْطَلَقَ بَطْنُهُ وَإِزَالَةُ قَيْدِ الْعِصْمَةِ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْقَيْدِ فَكَانَ يَنْبَغِي إذَا أَتَى اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى إزَالَةِ الْقَيْدِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ أَنْ يَزُولَ الْخَاصُّ كَمَا إذَا زَالَ الْحَيَوَانُ زَالَ الْإِنْسَانُ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ مُنْطَلِقَةٌ فَأَلْزَمُوا بِالْأَوَّلِ الطَّلَاقَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، وَلَمْ يُلْزِمُوا بِالثَّانِي إلَّا بِالنِّيَّةِ وَلَمْ يَكْتَفُوا بِالْوَضْعِ ) .
قُلْت : لَا نُسَلِّمُ لَهُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عِبَارَةٌ عَنْ إزَالَةِ مُطْلَقِ الْقَيْدِ بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ اللُّغَةِ أَنَّهُ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ فِيهَا لِإِزَالَةِ قَيْدِ عِصْمَةِ النِّكَاحِ أَوْ لِلْإِخْبَارِ عَنْ ذَلِكَ ، وَمَا اُسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ لَفْظَ الطَّاءِ وَاللَّامِ وَالْقَافِ مَوْضُوعَةٌ
فِي اللُّغَةِ لِإِزَالَةِ مُطْلَقِ الْقَيْدِ لَا يَسْلَمُ أَيْضًا ، وَهُوَ دَعْوَى ذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ النُّحَاةِ بِالِاشْتِقَاقِ الْكَبِيرِ ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ لَفْظَ أَنْتِ طَالِقٌ دَلَالَتُهُ عَلَى إنْشَاءِ إزَالَةِ قَيْدِ الْعِصْمَةِ عُرْفِيَّةٌ لَا لُغَوِيَّةٌ يُتَّجَهُ لِرُجْحَانِ دَعْوَى الْمَجَازِ عَلَى دَعْوَى الِاشْتِرَاكِ قَالَ ( وَمَا ذَلِكَ إلَّا أَنَّ لَفْظَ طَالِقٌ نَقْلٌ لِلْإِنْشَاءِ وَلَمْ يَنْقُلْ مُنْطَلِقَةً لَهُ فَلَوْ اتَّفَقَ زَمَانٌ يَنْعَكِسُ الْحَالُ فِيهِ وَتَصِيرُ مُنْطَلِقَةً مَوْضُوعَةً لِلْإِنْشَاءِ ، وَطَالِقٌ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا عَلَى النُّدْرَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ الطَّلَاقُ بِطَالِقٍ إلَّا بِالنِّيَّةِ ، وَأَلْزَمْنَاهُ بِمُنْطَلِقَةٍ بِغَيْرِ نِيَّةٍ عَكْسُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ ، فَعَلِمْنَا أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ لَمْ يُوجِبْ إزَالَةَ الْعِصْمَةِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بَلْ بِالْعُرْفِ الْإِنْشَائِيِّ ) .
قُلْت كَلَامُهُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى دَعْوَى اتِّحَادِ مَعْنَى كُلِّ لَفْظٍ تَصَرَّفَ مِنْ الطَّاءِ وَاللَّامِ وَالْقَافِ ، وَهِيَ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ كَمَا سَبَقَ قَالَ فَإِنْ قُلْت إلَى قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْجَوَابِ وَأَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةٌ قُلْت جَمِيعُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ وَمَا قَالَهُ فِي أَثْنَاءِ الْفَصْلِ مِنْ أَنَّ أَلْفَاظَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ عُرْفِيَّةٌ مَنْقُولُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى رُجْحَانِ الْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ كَمَا سَبَقَ .
قَالَ ( وَفَائِدَةُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إذَا كَانَ يُفِيدُ إزَالَةَ قَيْدِ الْعِصْمَةِ بِالْعُرْفِ وَالْعَوَائِدِ ، وَأَنَّهَا مُدْرَكٌ أَفَادَتْهُ كَذَلِكَ بِتَنَقُّلِهَا مَعَهَا كَيْفَ تَنَقَّلَتْ لِأَنَّهَا الْمُدْرَكُ ، وَإِذَا كَانَ الْمُوجِبُ هُوَ الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ وَجَبَ الثُّبُوتُ مَعَهُ وَإِلْزَامُ الطَّلَاقِ بِهِ حَتَّى يَطْرَأَ النَّاسِخُ الْمُبْطِلُ ) قُلْت مَا قَالَهُ هُنَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ كَمَا يَتَبَدَّلُ الْعُرْفُ مِنْ الْعُرْفِ كَذَلِكَ يَتَبَدَّلُ الْعُرْفُ مِنْ اللُّغَةِ ، وَإِلْزَامُ الْعُقُودِ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ مَبْنِيٌّ
عَلَى نِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ عَلَى عُرْفِهِ لَا عَلَى اللُّغَةِ وَلَا عَلَى عُرْفِ غَيْرِهِ هَذَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْفَتْوَى .
وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ فَأَمْرٌ آخَرُ لِمُنَازَعَةِ غَيْرِهِ لَهُ فَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِعُرْفِهِ لَا بِنِيَّتِهِ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ النِّيَّةِ فَالْحُكْمُ مُتَرَتَّبٌ عَلَى الْعُرْفِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعُرْفُ نَاقِلًا عَنْ اللُّغَةِ أَمْ عَنْ عُرْفٍ سَابِقٍ عَلَيْهِ نَاقِلٍ عَنْ اللُّغَةِ ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالِاعْتِبَارُ بِالِاسْتِعْمَالِ الْجَارِي فِي زَمَنِ وُقُوعِ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ لُغَةً جَرَى الْحُكْمُ بِحَسَبِهِ ، وَإِنْ كَانَ عُرْفًا نَاسِخًا لَهَا أَوْ لِعُرْفٍ نَاسِخٍ لَهَا فَكَذَلِكَ هَذَا إنْ لَمْ يُرِدْ مَا رَأَيْتُهُ فَإِنَّ لَفْظَةَ فِيهِ احْتِمَالٌ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( وَإِذَا قُلْنَا إنَّهَا تُوجِبُ بِالْعَادَةِ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ عَدَمُ اللُّزُومِ مِنْ قِبَلِ اللُّغَةِ حَتَّى يَثْبُتَ اللُّزُومُ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ كَمَا فِي مُنْطَلِقَةٍ لَيْسَ فِيهَا إلَّا مُجَرَّدُ اللُّغَةِ فَلَا جَرَمَ لَا يَزَالُ يَنْفِي عَنْهُ اللُّزُومَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ النَّقْلُ الْعُرْفِيُّ ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا الْفَرْقِ فِيمَا يُتَنَازَعُ فِيهِ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ صَرِيحًا أَوْ كِنَايَةً ، فَيَكُونُ الْحَقُّ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ هُوَ عَدَمُ اللُّزُومِ حَتَّى يُثْبِتَهُ النَّقْلُ الْعُرْفِيُّ فَلَا يَلْزَمُ طَلَاقٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قُلْنَا بِاللُّغَةِ كَانَ الْحَقُّ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هُوَ اللُّزُومُ حَتَّى يَثْبُتَ النَّاسِخُ ، وَهَذَا فَرْقٌ عَظِيمٌ وَأَثَرٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْفَقِيهُ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ ) .
قُلْت قَوْلُهُ ذَلِكَ وَتَمْثِيلُهُ بِقَوْلِهِ كَمَا فِي مُنْطَلِقَةٍ لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ اللُّغَةِ كُلُّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى دَعْوَاهُ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ تَصَرَّفَ مِنْ مَادَّةِ الطَّاءِ وَاللَّامِ وَالْقَافِ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى إزَالَةِ مُطْلَقِ الْقَيْدِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسَلَّمٍ وَلَا صَحِيحٍ بَلْ لَفْظَةُ " طَالِقٌ " وَإِنْ كَانَتْ مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى إزَالَةِ عِصْمَةِ
النِّكَاحِ لُغَةً ، وَلَفْظَةُ " مُنْطَلِقَةٌ " وَإِنْ كَانَتْ مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ أَيْضًا فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْمَسِيرِ ، وَهُمَا مَعْنَيَانِ مُتَغَايِرَانِ فَلَمْ يَنْتَفِ لُزُومُ الطَّلَاقِ عَنْ لَفْظَةِ " مُنْطَلِقَةٌ " لِأَنَّهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا مُجَرَّدُ اللُّغَةِ ، بَلْ انْتَفَى لِمُغَايَرَةِ حَقِيقَةِ الطَّلَاقِ لِحَقِيقَةِ الِانْطِلَاقِ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : أَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ إمَّا إخْبَارٌ عَنْ زَوَالِ الْعِصْمَةِ أَوْ إنْشَاءٌ لَهُ ، وَإِذَا قَالَ : أَنْتِ مُنْطَلِقَةٌ فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ الْمَسِيرِ ، وَيَسُوغُ اسْتِعْمَالُهُ إنْشَاءً لِلْأَمْرِ بِهِ إنْ قُلْنَا بِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْأَلْفَاظِ الْخَبَرِيَّةِ فِي الْإِنْشَاءِ قِيَاسٌ ، وَإِلَّا فَيَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى السَّمَاعِ
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) صَرِيحُ الطَّلَاقِ لَفْظُهُ وَمَا اُشْتُقَّ مِنْهُ كَطَلَّقْت وَطَالِقٌ أَوْ مُطَلَّقَةٌ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَاللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ لَا مَا كَانَ فِيهِ الْحُرُوفُ الثَّلَاثَةُ الطَّاءُ وَاللَّامُ وَالْقَافُ ، وَإِنْ اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ لِشُمُولِهِ الِانْطِلَاقَ وَمَا اُشْتُقَّ مِنْهُ كَمُنْطَلِقَةٍ وَمَطْلُوقَةٍ وَهِيَ مُشْكِلٌ كَمَا فِي التَّوْضِيحِ عَنْ الْقَرَافِيِّ ؛ لِأَنَّ الِانْطِلَاقَ وَإِنْ وَافَقَ لَفْظَ الطَّلَاقِ فِي تِلْكَ الْمَادَّةِ إلَّا أَنَّهُ لُغَةً بِمَعْنَى السَّيْرِ لَا بِمَعْنَى إزَالَةِ عِصْمَةِ النِّكَاحِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَلُزُومُ الطَّلَاقِ مُنْتَفٍ عَنْ الِانْطِلَاقِ لِمُغَايَرَةِ حَقِيقَةِ الطَّلَاقِ لِحَقِيقَةِ الِانْطِلَاقِ ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ أَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ إمَّا إخْبَارٌ عَنْ زَوَالِ الْعِصْمَةِ أَوْ إنْشَاءٌ لَهُ ، وَإِذَا قَالَ أَنْتِ مُنْطَلِقَةٌ فَهُوَ إخْبَارٌ عَنْ الْمَسِيرِ وَيَسُوغُ اسْتِعْمَالُهُ إنْشَاءً لِلْأَمْرِ بِهِ إنْ قُلْنَا إنَّ اسْتِعْمَالَ الْأَلْفَاظِ الْخَبَرِيَّةِ فِي الْإِنْشَاءِ قِيَاسٌ ، وَإِلَّا فَيَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى السَّمَاعِ وَالْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ هَذَا الصَّرِيحَ يُفِيدُ الطَّلَاقَ بِالْوَضْعِ بِخِلَافِ الْكِنَايَةِ ، وَهُوَ وَإِنْ أَمْكَنَ تَوَجُّهُهُ بِأَنَّ الطَّلَاقَ وَإِزَالَةَ الْعِصْمَةِ لَيْسَ أَمْرًا مُخْتَصًّا بِالشَّرِيعَةِ بَلْ الْعَرَبُ كَانَتْ تَنْكِحُ وَتُطَلِّقُ وَقَدْ كَانَتْ تُطَلِّقُ بِالظِّهَارِ ، وَلَفْظُ الطَّلَاقِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَتَكُونُ إزَالَةُ الْعِصْمَةِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ السَّابِقِ عَلَى الشَّرِيعَةِ لَا بِأَمْرٍ يَتَجَدَّدُ بَعْدَ الشَّرِيعَةِ إلَّا أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ يُفِيدُ ذَلِكَ بِالْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ لِوُجُوهٍ : .
( الْوَجْهُ الْأَوَّلُ ) رُجْحَانُ دَعْوَى الْمَجَازِ عَلَى دَعْوَى الِاشْتِرَاكِ .
( الْوَجْهُ الثَّانِي ) أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا وُضِعَ لُغَةً لِلْخَبَرِ عَنْ كَوْنِهَا طَالِقًا وَهُوَ إذَا أَخْبَرَ عَنْ كَوْنِهَا طَالِقًا لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقٌ قَصَدَ الْكَذِبَ أَوْ الصِّدْقَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
لَوْ تَقَدَّمَ طَلَاقُهَا فَسَأَلَ عَنْهَا هَلْ هِيَ مُطَلَّقَةٌ أَوْ بَاقِيَةٌ فِي الْعِصْمَةِ فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ جَوَابًا لِهَذَا السُّؤَالِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهِ طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ .
وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً فِي الْعِدَّةِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ بِالْإِنْشَاءِ الَّذِي هُوَ وَضْعٌ عُرْفِيٌّ لَا لُغَوِيٌّ .
( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ وَإِزَالَةَ الْعِصْمَةِ كَانَا مَعْلُومَيْنِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِ إلَّا أَنَّا نَقُولُ الْإِنْشَاءَاتُ عِنْدَ الْعَرَبِ أَيْضًا تَتَقَدَّمُ عَلَى الشَّرِيعَةِ ، وَتَكُونُ عُرْفِيَّةً أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْعَوَائِدَ قَدْ تَحْدُثُ مَعَ طُولِ الْأَيَّامِ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّنَا أَمْ لَا فَالْجَاهِلِيَّةُ تَحْدُثُ لَهَا عَوَائِدُ كَمَا تَحْدُثُ لَنَا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَسْتَعْمِلُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الرَّاوِيَةَ وَالْبَحْرَ وَالْغَائِطَ وَالْخَلَا وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ نَصَّ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهَا مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ وَحَقَائِقُ عُرْفِيَّةٌ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ قَوْلِنَا الطَّلَاقُ إنْشَاءٌ عُرْفِيٌّ وَبَيْنَ كَوْنِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ لَفْظَ الطَّلَاقِ إنَّمَا أَزَالَ الْعِصْمَةَ بِغَيْرِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بَلْ بِالْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ عَنْ اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةٌ وَمِنْ قَبِيلِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فِي كَوْنِهِ مَجَازًا عَنْ اللُّغَةِ لَا حَقِيقَةً بِنَاءً عَلَى رُجْحَانِ الْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَالْقَسَمُ كَانَتْ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَدَاوَلُونَهَا إنْشَاءَاتٍ وَأَلْفَاظًا عُرْفِيَّةً مَنْقُولَةً .
فَالْعُرْفُ يَتَبَدَّلُ مِنْ اللُّغَةِ كَمَا يَتَبَدَّلُ مِنْ عُرْفٍ آخَرَ قَبْلَهُ ، وَإِلْزَامُ الْعُقُودِ مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ يَنْبَنِي فِي الْفَتْوَى عَلَى نِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ عَلَى عُرْفِهِ لَا عَلَى اللُّغَةِ وَلَا عَلَى عُرْفٍ غَيْرِهِ وَفِي الْقَضَاءِ لِمُنَازَعَةِ غَيْرِهِ لَهُ إنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى عُرْفِهِ لَا عَلَى
نِيَّتِهِ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ النِّيَّةِ فَالْحُكْمُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْعُرْفِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعُرْفُ نَاقِلًا عَنْ اللُّغَةِ أَمْ عَنْ عُرْفٍ سَابِقٍ عَلَيْهِ نَاقِلٍ عَنْ اللُّغَةِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالِاعْتِبَارُ بِالِاسْتِعْمَالِ الْجَارِي فِي زَمَنِ وُقُوعِ الْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ لُغَةً جَرَى الْحُكْمُ بِحَسَبِهِ وَإِنْ كَانَ عُرْفًا نَاسِخًا لَهَا أَوْ لِعُرْفٍ نَاسِخٍ لَهَا فَكَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) وَقَعَ فِي الْمَذْهَبِ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِأَصْحَابِهِ فِي كِتَابِ التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ حَبْلُك عَلَى غَارِبِكِ قَالَ فِيهَا مَالِكٌ يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَلَا تُقْبَلُ نِيَّتُهُ إنْ أَرَادَ أَقَلَّ مِنْهَا وَخَلِيَّةٌ وَبَرِيَّةٌ وَبَائِنَةٌ قَالَ مِنِّي أَوْ مِنْكِ أَوْ لَمْ يَقُلْ أَوْ أَبَنْتُكِ أَوْ رَدَدْتُكِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثَلَاثٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَلَا يَنْوِي فِي أَقَلَّ مِنْهَا ، وَيَنْوِي فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي طَلْقَةٍ فَأَكْثَرَ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَثَلَاثٌ .
وَقَالَ رَبِيعَةُ الْخَلِيَّةُ وَالْبَرِيَّةُ وَالْبَائِنُ ثَلَاثٌ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَوَاحِدَةٌ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَا مِنْكِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ مِنِّي بَائِنَةٌ فَلَا يَنْوِي قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَا بَعْدَهُ بَلْ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ ، وَإِذَا قَالَ فِي الْخَلِيَّةِ وَالْبَرِّيَّةِ وَالْبَائِنِ لَمْ أُرِدْ طَلَاقًا فَإِنْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِ مَا يَكُونُ هَذَا جَوَابًا لَهُ صَدَقَ ، وَإِلَّا فَلَا فَهَذَا كُلُّهُ نَقْلُ التَّهْذِيبِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ النِّيَّةُ نَافِعَةٌ فِيمَا يَنْوِيهِ مَنْ تَعَدُّدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ نَوَى الثَّلَاثَ لَزِمَهُ الثَّلَاثُ أَوْ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ، وَكَذَلِكَ قَوْلَاهُمَا فِي حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ .
وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَالْبَائِنِ وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ وَالْبَتَّةَ وَالْبَتْلَةَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِشُهْرَتِهَا ، وَيَلْزَمُ بِالْخَلِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَالْحَرَامِ وَالْحَقِي بِأَهْلِكِ وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ وَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَاذْهَبِي فَتَزَوَّجِي وَغَطِّي شَعْرَكِ وَأَنْتِ حُرَّةٌ الثَّلَاثُ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الْقَبَسِ لَهُ الصَّحِيحُ أَنَّ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ وَالْبَائِنَ وَالْخَلِيَّةَ وَالْبَرِيَّةَ وَالْبَتْلَةَ وَالْبَتَّةَ
وَاحِدَةٌ وَلَا تَزِيدُ عَلَى قَوْلِكَ أَنْتِ طَالِقٌ ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ كِنَانَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ { أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَلْبَتَّةَ فَقَالَ مَا أَرَدْتَ فَقُلْتُ وَاحِدَةً فَقَالَ هِيَ مَا أَرَدْتَ فَرَدَّهَا إلَيْهِ } ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنْ قَالَ وَهَبْتُ لَكِ صَدَاقَكِ يَلْزَمُهُ أَلْبَتَّةَ وَلَا يَنْوِي .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْكِتَابِ إذَا قَالَ بَائِنٌ مِنِّي أَوْ بَرِيءٌ أَوْ خَلِيَّةٌ لَا يُصَدَّقُ فِي عَدَمِ إرَادَتِهِ الطَّلَاقَ إلَّا بِقَرِينَةٍ تُصَدِّقُهُ ، وَإِذَا قَالَ كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أَزْوَاجُهُ نَوَاهُنَّ أَمْ لَا إلَّا أَنْ يُخْرِجَهُنَّ بِنِيَّتِهِ أَوْ بِلَفْظِهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ ، قَالَ ابْنُ يُونُسَ قَالَ أَصْبَغُ الْحَلَالُ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ حَرَامٌ عَلَيَّ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ أَوْ كُلُّ مَا انْقَلَبَ إلَيْهِ حَرَامٌ كُلُّهُ تَحْرِيمٌ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي حَرَامٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يُرِيدُونَ بِهِ الطَّلَاقَ ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ حَرَامٌ الْكَذِبَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ كَوْنِهَا حَرَامًا وَهِيَ حَلَالٌ حَرُمَتْ وَلَا يَنْوِي .
قَالَ صَاحِبُ الِاسْتِذْكَارِ فِي الْحَرَامِ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا قَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَيَنْوِي فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ حَتَّى يَنْوِيَ وَاحِدَةً فَتَكُونُ رَجْعِيَّةً .
وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَا يَكُونُ مُوَلِّيًا ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ وَهُوَ مُوَلٍّ ، وَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَقَالَ سُفْيَانُ إنْ نَوَى وَاحِدَةً فَبَائِنَةٌ أَوْ الثَّلَاثَ فَالثَّلَاثُ أَوْ يَمِينًا فَيَمِينٌ وَلَا فُرْقَةَ وَلَا يَمِينَ بِكَذْبَةٍ لَا شَيْءَ فِيهَا .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَهُ مَا نَوَى وَإِلَّا فَيَمِينٌ تُكَفَّرُ وَقَالَ إِسْحَاقُ : كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ ، وَقِيلَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } إلَى قَوْلِهِ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } { وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ حَرَّمَ سُرِّيَّتَهُ مَارِيَةَ } وَقَالَ الشَّعْبِيُّ تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ كَتَحْرِيمِ الْمَالِ لَا شَيْءَ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } وَقِيلَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عِتْقُ رَقَبَةٍ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ وَفِي الْجَوَاهِرِ الْمَشْهُورُ لُزُومُ الثَّلَاثِ وَيَنْوِي فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا .
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَا يَنْوِي وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يَنْوِي وَاحِدَةً فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَعَنْ مَالِكٍ وَاحِدَةً بَائِنَةً وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا .
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ : وَأَصْلُ اخْتِلَافِ الْأَصْحَابِ فِي الْأَلْفَاظِ أَنَّ اللَّفْظَ إنْ تَضَمَّنَ الْبَيْنُونَةَ وَالْعَدَدَ نَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَزِمَ الثَّلَاثُ وَلَا يَنْوِي اتِّفَاقًا فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا ، أَوْ يَدُلُّ عَلَى الْبَيْنُونَةِ فَقَطْ فَيُنْظَرُ هَلْ تُمْكِنُ الْبَيْنُونَةُ بِالْوَاحِدَةِ أَوْ تَتَوَقَّفُ عَلَى الثَّلَاثِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُعَارَضَةً فِيهِ خِلَافٌ أَوْ يَدُلُّ عَلَى عَدَدٍ غَالِبًا ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ نَادِرًا فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ وَعَلَى النَّادِرِ مَعَ وُجُودِهَا فِي الْفَتْوَى وَإِنْ تَسَاوَى الِاسْتِعْمَالُ أَوْ تَقَارَبَ قُبِلَتْ نِيَّتُهُ فِي الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ فَإِنْ عُدِمَتْ النِّيَّةُ فَقِيلَ يُحْمَلُ عَلَى الْأَقَلِّ اسْتِصْحَابًا لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَقِيلَ عَلَى الْأَكْثَرِ احْتِيَاطًا ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْحَرَامِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْبَيْنُونَةِ ، وَأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ فِي
الْمَدْخُولِ بِهَا إلَّا بِالثَّلَاثِ وَفِي غَيْرِهَا بِالْوَاحِدَةِ وَلِكَوْنِهَا غَالِبَةً فِي الثَّلَاثِ حُمِلَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى الثَّلَاثِ وَيَنْوِي فِي الْأَقَلِّ ، وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ الْبَيْنُونَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِهَا وَوَضْعِهَا لِلثَّلَاثِ فِي الْعُرْفِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، وَالْقَوْلُ بِالْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ ، وَأَنَّهَا لَا تُفِيدُ عَدَدًا .
وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْلَمَةَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كَالطَّلَاقِ قَالَ وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَتَخَرَّجُ الْفَتَاوَى فِي الْأَلْفَاظِ قُلْت مَعْنَى التَّحْرِيمِ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ فَقَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِهَا مَمْنُوعَةً فَهُوَ كَذِبٌ لَا يَلْزَمُ فِيهِ إلَّا التَّوْبَةُ فِي الْبَاطِنِ وَالتَّعْزِيرُ فِي الظَّاهِرِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ لَيْسَ فِي مُقْتَضَاهَا لُغَةً إلَّا ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ خَلِيَّةٌ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْإِخْبَارُ عَنْ الْخَلَاءِ ، وَأَنَّهَا فَارِغَةٌ وَأَمَّا مِمَّ هِيَ فَارِغَةٌ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ اللَّفْظُ لَهُ ، وَكَذَلِكَ بَائِنٌ مَعْنَاهُ لُغَةً الْمُفَارَقَةُ فِي الزَّمَانِ أَوَالْمَكَان ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِزَوَالِ الْعِصْمَةِ فَهِيَ إخْبَارَاتٌ صِرْفَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَعَرُّضٌ لِلطَّلَاقِ أَلْبَتَّةَ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَهِيَ إمَّا كَاذِبَةٌ وَهُوَ الْغَالِبُ وَإِمَّا صَادِقَةٌ إنْ كَانَتْ مُفَارِقَةً لَهُ فِي الْمَكَانِ ، وَلَا يَلْزَمُ بِذَلِكَ طَلَاقٌ كَمَا لَوْ صَرَّحَ وَقَالَ لَهَا أَنْتِ فِي مَكَان غَيْرِ مَكَانِي ، وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِهَا حَبْلُهَا عَلَى كَتِفِهَا ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ يَرْعَى بَقَرَةً وَقَصَدَ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهَا فِي الْمَرْعَى تَرَكَ حَبْلَهَا مِنْ يَدِهِ وَوَضَعَهُ عَلَى غَارِبِهَا وَهُوَ كَتِفُهَا فَتَنْتَقِلُ فِي الْمَرْعَى كَيْفَ شَاءَتْ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ نِيَّةً كَانَ إخْبَارُهُ عَنْ كَوْنِ الْمَرْأَةِ كَذَلِكَ كَذِبًا وَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِعَارَةَ
وَالْمَجَازَ وَالتَّشْبِيهَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَقَرَةِ فِي أَنَّهَا تَصِيرُ مُطْلَقَةَ التَّصَرُّفِ لَا حَجْرَ عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ الْأَزْوَاجِ بِسَبَبِ زَوَالِ الْعِصْمَةِ كَمَا تَبْقَى الْبَقَرَةُ فِي مَرْعَاهَا كَذَلِكَ فَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مَعَ النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْمَجَازَاتِ إذَا فُقِدَتْ فِيهَا النِّيَّةُ كَانَ اللَّفْظُ مُنْصَرِفًا بِالْوَضْعِ لِلْحَقِيقَةِ فَيَصِيرُ كَذِبًا .
وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ فَحِينَئِذٍ إنَّمَا تَصِيرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُوجِبَةً لِمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَقْلِ الْعُرْفِ لَهَا فِي رُتَبٍ أَحَدُهَا أَنْ يَنْقُلَهَا الْعُرْفُ عَنْ الْإِخْبَارِ إلَى الْإِنْشَاءِ .
وَثَانِيهَا أَنْ يَنْقُلَهَا لِرُتْبَةٍ أُخْرَى وَهِيَ زَوَالُ الْعِصْمَةِ بِالْإِنْشَاءِ الَّذِي هُوَ إنْشَاءٌ خَاصٌّ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْإِنْشَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَقْلِهَا لِلْإِنْشَاءِ أَنْ تُفِيدَ زَوَالَ الْعِصْمَةِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِنْشَاءِ أَعَمُّ مِنْ زَوَالِ الْعِصْمَةِ فَقَدْ يَصْدُقُ بِإِنْشَاءِ الْبَيْعِ أَوْ الْعِتْقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْأَخَصِّ فَلَا تَدُلُّ بِنَقْلِهَا إلَى أَصْلِ الْإِنْشَاءِ عَلَى زَوَالِ الْعِصْمَةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِهَا إلَى خُصُوصِهِ فَتُفِيدُ زَوَالَ الْعِصْمَةِ حِينَئِذٍ ، وَثَالِثُهَا أَنْ يَنْقُلَهَا الْعُرْفُ إلَى الرُّتْبَةِ الْخَاصَّةِ مِنْ الْعَدَدِ ، وَهِيَ الثَّلَاثُ فَإِنَّ زَوَالَ الْعِصْمَةِ أَعَمُّ مِنْ زَوَالِهَا بِالْعَدَدِ الثَّالِثِ فَهَذِهِ رُتَبٌ ثَلَاثٌ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ الْعُرْفِ اللَّفْظَ إلَيْهَا حَتَّى يُفِيدَ اللَّفْظُ الثَّلَاثَ فَهَذِهِ الرُّتَبُ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ يُفِيدُ الْبَيْنُونَةَ أَوْ الْبَيْنُونَةَ مَعَ الْعَدَدِ أَوْ أَصْلَ الطَّلَاقِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا أَغْوَارٌ لَمْ يُفْصِحْ بِهَا ، وَهُوَ يُرِيدُهَا وَهِيَ أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عُرْفِيَّةٌ لَا
لُغَوِيَّةٌ ، وَأَنَّهَا تُفِيدُ بِالنَّقْلِ الْعُرْفِيِّ لَا بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ ، وَثَانِيهَا أَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَكَرُّرٍ لَا يَكْفِي فِي النَّقْلِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَكَرُّرِ الِاسْتِعْمَالِ إلَى غَايَةٍ يَصِيرُ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ يُفْهَمُ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ .
وَيَكُونُ هُوَ السَّابِقُ إلَى الْفَهْمِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَجَازُ الرَّاجِحُ فَقَدْ يَتَكَرَّرُ اللَّفْظُ فِي مَجَازِهِ وَلَا يَكُونُ مَنْقُولًا وَلَا مَجَازًا رَاجِحًا أَلْبَتَّةَ كَاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَالْبَحْرِ فِي الْعَالِمِ أَوْ السَّخِيِّ وَالضُّحَى أَوْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْغَزَالِ فِي جَمِيلِ الصُّورَةِ ، وَذَلِكَ يَتَكَرَّرُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ تَكْرَارًا كَثِيرًا ، وَمَعَ ذَلِكَ التَّكْرَارِ الَّذِي لَا يُحْصَى عَدَدُهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَارَتْ مَنْقُولَةً بَلْ لَا تُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا عَلَى الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا أُرِيدَ بِهَا هَذِهِ الْمَجَازَاتُ ، وَلَا بُدَّ فِي كُلِّ مَجَازٍ مِنْهَا مِنْ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ إلَى اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيهِ فَعَلِمْنَا حِينَئِذٍ أَنَّ النَّقْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِتَكَرُّرِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ إلَى حَدٍّ يَصِيرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ لِلذِّهْنِ وَالْفَهْمِ هُوَ الْمَجَازُ الرَّاجِحُ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ دُونَ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فَهَذَا ضَابِطٌ فِي النَّقْلِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَإِذَا أَحَطْتَ بِهِ عِلْمًا ظَهَرَ لَك الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ، وَهُوَ أَنَّا لَا نَجِدُ أَحَدًا فِي زَمَانِنَا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ عِنْدَ إرَادَةِ تَطْلِيقِهَا حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ وَلَا أَنْتِ بَرِيَّةٌ وَلَا وَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ هَذَا لَمْ نَسْمَعْهُ قَطُّ مِنْ الْمُطَلِّقِينَ وَلَوْ سَمِعْنَاهُ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى سَمْعِنَا لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مَنْقُولَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ ، وَأَمَّا لَفْظُ الْحَرَامِ فَقَدْ اُشْتُهِرَ فِي زَمَانِنَا فِي أَصْلِ إزَالَةِ الْعِصْمَةِ فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ أَنْتِ
عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ الْحَرَامُ يَلْزَمُنِي أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَمَّا أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّا لَا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ ذَلِكَ فِي الِاسْتِعْمَالِ هَذَا قَوْلُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ .
فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ بَلَدٌ آخَرُ تَكَرَّرَ الِاسْتِعْمَالُ عِنْدَهُمْ فِي الْحَرَامِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثِ حَتَّى صَارَ هَذَا الْعَدَدُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ اللَّفْظِ ، فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ إلْزَامُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ إنَّا لَا نَفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ ؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَهُ أَوْ لِأَنَّهُ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَهْمُ حَاصِلًا لَكَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ كَمَا يَحْصُلُ لِسَائِرِ الْعَوَامّ كَمَا فِي لَفْظِ الدَّابَّةِ وَالْبَحْرِ وَالرِّوَايَةِ فَالْفَقِيهُ وَالْعَامِّيُّ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ سَوَاءٌ فِي الْفَهْمِ لَا يَسْبِقُ إلَى إفْهَامِهِمْ إلَّا الْمَعَانِي الْمَنْقُولُ إلَيْهَا فَهَذَا هُوَ الضَّابِطُ لَا فَهْمُ ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ فَإِنَّ النَّقْلَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاسْتِعْمَالِ النَّاسِ لَا بِتَسْطِيرِ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ بَلْ الْمُسَطَّرُ فِي الْكُتُبِ تَابِعٌ لِاسْتِعْمَالِ النَّاسِ فَافْهَمْ ذَلِكَ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ مَالِكًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا أَفْتَى فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ زَمَانَهُمْ كَانَ فِيهِ عَوَائِدُ اقْتَضَتْ نَقْلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لِلْمَعَانِي الَّتِي أَفْتَوْا بِهَا فِيهَا صَوْنًا لَهُمْ عَنْ الزَّلَلِ ، وَثَانِيهَا أَنَّا إذَا وَجَدْنَا زَمَانَنَا عَرِيًّا عَنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ لَا نُفْتِيَ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ؛ لِأَنَّ انْتِقَالَ الْعَوَائِدِ يُوجِبُ انْتِقَالَ الْأَحْكَامِ كَمَا نَقُولُ فِي النُّقُودِ وَفِي غَيْرِهَا فَإِنَّا نُفْتِي فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ تَلْزَمُهُ سِكَّةٌ مُعَيَّنَةٌ مِنْ النُّقُودِ
عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ السِّكَّةَ هِيَ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْمُعَامَلَةِ بِهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فَإِذَا وَجَدْنَا بَلَدًا آخَرَ وَزَمَانًا آخَرَ يَقَعُ التَّعَامُلُ فِيهِ بِغَيْرِ تِلْكَ السِّكَّةِ تَغَيَّرَتْ الْفُتْيَا إلَى السِّكَّةِ الثَّانِيَةِ ، وَحَرُمَتْ الْفُتْيَا بِالْأُولَى لِأَجْلِ تَغَيُّرِ الْعَادَةِ .
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْأَقَارِبِ وَكِسْوَتِهِمْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْعَوَائِدِ ، وَتَنْتَقِلُ الْفَتْوَى فِيهَا وَتَحْرُمُ الْفَتْوَى بِغَيْرِ الْعَادَةِ الْحَاضِرَةِ ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَوَارِيِّ بِالْعَوَائِدِ وَقَبْضُ الصَّدَقَاتِ عِنْدَ الدُّخُولِ أَوْ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فِي عَادَةٍ نُفْتِي أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْإِقْبَاضِ ؛ لِأَنَّهُ الْعَادَةُ وَتَارَةً بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي عَدَمِ الْقَبْضِ إذَا تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ أَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ بَلَدٍ ذَلِكَ عَادَتُهُمْ ، وَتَحْرُمُ الْفُتْيَا لَهُمْ بِغَيْرِ عَادَتِهِمْ وَمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ فَإِنَّ الْفُتْيَا بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهَا ، وَكَذَلِكَ التَّلَوُّمُ لِلْخُصُومِ فِي تَحْصِيلِ الدُّيُونِ لِلْغُرَمَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَوَائِدِ مِمَّا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ مَتَى تَغَيَّرَتْ فِيهِ الْعَادَةُ تَغَيَّرَ الْحُكْمُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَحَرُمَتْ الْفُتْيَا بِالْأَوَّلِ وَإِذَا وَضَحَ لَكَ ذَلِكَ اتَّضَحَ لَكَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْفُتْيَا مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ، وَأَنَّ مَنْ تَوَقَّفَ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُجْرِ الْمَسْطُورَاتِ فِي الْكُتُبِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بَلْ لَاحَظَ تَنَقُّلَ الْعَوَائِدِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى الصَّوَابِ سَالِمٌ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ الْعَظِيمَةِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَمِنْ الْأَغْوَارِ الَّتِي لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهَا الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيُّ أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا جَاءَهُ رَجُلٌ يَسْتَفْتِيهِ عَنْ لَفْظَةٍ مِنْ
هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَعُرْفُ بَلَدِ الْمُفْتِي فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يُفْتِيهِ بِحُكْمِ بَلَدِهِ بَلْ يَسْأَلُهُ هَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ بَلَدِ الْمُفْتِي فَيُفْتِيهِ حِينَئِذٍ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْبَلَدِ .
أَوْ هُوَ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ فَيَسْأَلُهُ حِينَئِذٍ عَنْ الْمُشْتَهَرِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَيُفْتِيهِ بِهِ ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَهُ بِحُكْمِ بَلَدِهِ كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّعَامُلُ بِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْحَاكِمِ حَرُمَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِيَ بِسِكَّةِ بَلَدِهِ بَلْ بِسِكَّةِ بَلَدِ الْمُشْتَرِي إنْ اخْتَلَفَتْ السِّكَّتَانِ فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ لَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَتِهَا وَبِالْإِحَاطَةِ بِهَا يَظْهَرُ لَكَ غَلَطُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُفْتِينَ فَإِنَّهُمْ يُجْرُونَ الْمَسْطُورَاتِ فِي كُتُبِ أَئِمَّتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَهُمْ عُصَاةٌ آثِمُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَعْذُورِينَ بِالْجَهْلِ لِدُخُولِهِمْ فِي الْفَتْوَى وَلَيْسُوا أَهْلًا لَهَا وَلَا عَالِمِينَ بِمَدَارِك الْفَتَاوَى وَشُرُوطِهَا وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا ، فَالْحَقُّ حِينَئِذٍ أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ ، وَأَنَّهَا كِنَايَاتٌ خَفِيَّةٌ لَا يَلْزَمُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَا غَيْرُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَحْصُلَ فِيهَا نَقْلٌ عُرْفِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ ذَلِكَ النَّقْلِ عَلَى حَسَبِ مَا نُقِلَ اللَّفْظُ إلَيْهِ مِنْ بَيْنُونَةٍ أَوْ عَدَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ دِينُ اللَّهِ تَعَالَى الْحَقُّ الصَّرِيحُ وَالْفِقْهُ الصَّحِيحُ .
( قَاعِدَةٌ ) الْمَجَازُ لَا يَدْخُلُ فِي النُّصُوصِ بَلْ فِي الظَّوَاهِرِ فَقَطْ فَمَنْ أَطْلَقَ الْعَشَرَةَ وَأَرَادَ السَّبْعَةَ فَهُوَ مُخْطِئٌ لُغَةً وَمَنْ أَطْلَقَ صِيَغَ الْعُمُومِ وَأَرَادَ الْخُصُوصَ فَهُوَ مُصِيبٌ لُغَةً ؛ لِأَنَّهَا ظَوَاهِرُ وَأَسْمَاءُ الْأَعْدَادِ عِنْدَهُمْ نُصُوصٌ لَا يَجُوزُ دُخُولُ
الْمَجَازِ فِيهَا أَلْبَتَّةَ .
( قَاعِدَةٌ ) كُلُّ لَفْظٍ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهِ لَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي صَرْفِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تَصْرِفُ اللَّفْظَ إلَى مَعْنًى إلَّا إذَا كَانَ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِ لُغَةً هَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَالْأُولَى قَاعِدَةٌ لُغَوِيَّةٌ فَبُنِيَتْ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ وَهِيَ الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ وَعَلَى هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ تَرَتَّبَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْقَائِلَ أَنْتِ حَرَامٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا يَنْوِي فِي أَقَلَّ مِنْ الثَّلَاثِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ نُقِلَ إلَى الْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ الثَّلَاثُ فَصَارَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ وَأَسْمَاءُ الْأَعْدَادِ لَا يَدْخُلُهَا الْمَجَازُ فَلَا تُسْمَعُ فِيهَا النِّيَّةُ لِلْقَاعِدَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ .
وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ، وَيُرِيدُ اثْنَتَيْنِ لَا تُسْمَعُ نِيَّتُهُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِي الْفَتْوَى أَوْ يُرِيدُ أَنَّهَا طَلُقَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ الْوَلَدِ فَتُسْمَعُ نِيَّتُهُ فِي الْفُتْيَا دُونَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَدْخَلَ النِّيَّةَ فِي لَفْظِ الْعَدَدِ فَامْتَنَعَ ، وَالثَّانِيَ أَدْخَلَ النِّيَّةَ فِي اسْمِ جِنْسِ الطَّلَاقِ فَحَوَّلَهُ لِطَلْقِ الْوَلَدِ وَبَقِيَ الْعَدَدُ فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ الَّذِي تَحَوَّلَ إلَيْهِ اللَّفْظُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِالنِّيَّةِ فَدَخَلَ الْمَجَازُ فِي اسْمِ الْجِنْسِ لَا فِي الْعَدَدِ ، وَالْمَجَازُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ جَائِزٌ بِخِلَافِ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ فَقُبِلَتْ النِّيَّةُ فِي رَفْعِ الطَّلَاقِ بِجُمْلَتِهِ لِتَحْوِيلِهِ لِجِنْسٍ آخَرَ ، وَلَمْ تُقْبَلْ فِي رَفْعِ بَعْضِهِ .
وَهَذَا يَظْهَرُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ بُطْلَانُهُ ، وَأَنَّ النِّيَّةَ إذَا قُبِلَتْ فِي رَفْعِ الْكُلِّ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ فِي رَفْعِ الْبَعْضِ وَالسِّرُّ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ .
فَإِنْ قُلْتَ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ الْحَقِّ مُتَعَيَّنٌ اتِّبَاعُهُ فَمَا سَبَبُ
اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَيْفَ سَاغَ الْخِلَافُ مَعَ وُضُوحِ هَذَا الْمُدْرَكِ وَقُلْت سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ هَلْ وُجِدَ فَيُتَّبَعُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ فَيُتَّبَعُ مُوجَبُ اللُّغَةِ ، وَإِذَا وُجِدَ النَّقْلُ فَهَلْ وُجِدَ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ فَقَطْ أَوْ فِيهِ مَعَ الْبَيْنُونَةِ أَوْ مَعَ الْعَدَدِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ نَقْلٌ عُرْفِيٌّ وَبَقِيَ مُوجَبُ اللُّغَةِ فَهَلْ يُلَاحَظُ نُصُوصٌ اقْتَضَتْ الْكَفَّارَةُ فِي مِثْلِ هَذَا أَمْ لَا أَوْ الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَيَكُونُ الْمُدْرَكُ هُوَ الْقِيَاسُ لَا النَّصُّ فَهَذَا هُوَ سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْمَدَارِكِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَّضِحْ وُجُودُهَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ ، وَاتَّضَحَ عِنْدَ الْبَعْضِ الْآخَرِ .
وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى وُجُودِهَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْحُكْمِ وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ صِحَّةِ هَذِهِ الْمَدَارِكِ وَبَيْنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُودِهَا وَتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا فَإِنْ قُلْت فَلَعَلَّ مُدْرَكَ مَالِكٍ نَصٌّ أَوْ قِيَاسٌ فَتَسْتَمِرُّ فَتَاوِيهِ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ وَلَا يَلْزَمُ تَغْيِيرُهَا بِتَغَيُّرِ الْعَوَائِدِ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَلْزَمُ فِيمَا مُدْرَكُهُ الْعَوَائِدُ أَمَّا مَا هُوَ بِالنُّصُوصِ أَوْ الْأَقْيِسَةِ فَيَتَأَبَّدُ فَيَكُونُ الْمُفْتِي بِمُوجِبَاتِ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْكُتُبِ مُصِيبًا لَا مُخْطِئًا ، وَلَا يَجْتَمِعُ بِمَالِكٍ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَمَّا فِي نَفْسِهِ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا تَتَعَيَّنُ التَّخْطِئَةُ .
وَيَجِبُ اتِّبَاعُ مُوجَبِ الْمَنْقُولَاتِ عَنْ الْأَئِمَّةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ ؛ لِأَنَّا مُقَلِّدُونَ لَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا مُعْتَرِضُونَ عَلَيْهِمْ وَمَتَى وَجَدْنَا فَتَاوِيَهُمْ وَجَهِلْنَا مُدْرَكَهَا نَقَلْنَاهَا كَمَا وَجَدْنَاهَا لِمَنْ يَسْأَلُنَا عَنْ الْمَذْهَبِ فَإِنَّا
مُقَلِّدُونَ لَا مُجْتَهِدُونَ .
قُلْتُ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ الِاسْتِقْرَاءُ فَإِنَّا لَسْنَا جَاهِلِينَ بِاللُّغَةِ إلَى حَدٍّ لَا نَعْلَمُ مَدْلُولَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لُغَةً مَعَ أَنَّهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَشْهُورَةِ لَا مِنْ الْحُوشِيَّةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللُّغَةَ إنَّمَا تَقْتَضِي الْخَبَرَ لَا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْإِنْشَاءِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُدْرَكُهُمْ الْقِيَاسَ فَإِنَّا نَعْلَمُ مَسَائِلَ الطَّلَاقِ وَشَرَائِطَ الْقِيَاسِ ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي الْقِيَاسَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ وَلَيْسَ فِيهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابٍ تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِمَّا قَالَهُ الْقَائِلُونَ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا آيَةُ التَّحْرِيمِ ، وَالْأَحَادِيثُ لَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ رَوَى فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ حَدِيثًا .
وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَبَيْنَ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ رَوَى عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعَوَائِدِ الثَّانِي أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيَّ إمَامَ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَحَافِظَ مُتْقَنِ الْعِلْمِ الْحَدِيثِ وَفُنُونِهِ ، وَلَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ وَالرُّتْبَةُ الْعَالِيَةُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْقَوَاعِدِ ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ فِيهَا نَقْلُ الْعَوَائِدِ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فَكَفَى بِهِ قُدْوَةً فِي مُدْرَكِ هَذِهِ الشُّرُوعِ وَمُعْتَمَدًا فِي ضَوَابِطِهَا وَتَلْخِيصِهَا ، وَقَدْ تَابَعَهُ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَالْمُصَنِّفِينَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ مُخَالِفًا فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ فَالتَّشْكِيكُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُدْرَكِ إنَّمَا هُوَ طَلَبٌ لِلْجَهْلِ وَسَبِيلٌ لِغَوَايَةِ التَّضْلِيلِ .
الثَّالِثُ أَنَّ قَاعِدَةَ الْفُقَهَاءِ وَعَوَائِدَ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُمْ إذَا ظَفِرُوا لِلنَّوْعِ بِمُدْرَكٍ مُنَاسِبٍ وَفَقَدُوا غَيْرَهُ جَعَلُوهُ مُعْتَمَدًا لِذَلِكَ الْفَرْعِ فِي
حَقِّ الْإِمَامِ الْمُجْتَهِدِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَفْتَى بِذَلِكَ الْفَرْعِ وَفِي حَقِّهِمْ أَيْضًا فِي الْفُتْيَا وَالتَّخْرِيجِ وَاسْتِقْرَاءِ أَحْوَالِ الْفُقَهَاءِ فِي مَسْلَكِ النَّظَرِ .
وَتَحْرِيرُ الْفُرُوعِ يَقْتَضِي الْجَزْمَ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ يَجِبُ هَاهُنَا ، وَنَحْنُ اسْتَقْرَيْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فَلَمْ نَجِدْ لَهَا مُدْرَكًا مُنَاسِبًا إلَّا الْعَوَائِدَ فَوَجَبَ جَعْلُهَا مُدْرَكَ الْأَئِمَّةِ إفْتَاءً وَتَخْرِيجًا ، وَالْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ الْتِزَامٌ لِلْجَهَالَةِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى مُنَاسِبٍ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّا فِي كَلَامِ الشَّرْعِ إذَا ظَفِرْنَا بِالْمُنَاسَبَةِ جَزَمْنَا بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ عَقْلًا لَكِنْ الِاسْتِقْرَاءُ أَوْجَبَ لَنَا ذَلِكَ ، وَلَا نُعَرِّجُ عَلَى غَيْرِ مَا وَجَدْنَاهُ وَلَا نَلْتَزِمُ التَّعَبُّدَ مَعَ وُجُودِ الْمُنَاسِبِ هَذَا مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْقَيَّاسُونَ وَأَهْلُ النَّظَرِ وَالرَّأْيِ وَالِاعْتِبَارِ فَأَوْلَى أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ غَيْرِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ بَلْ نَحْمِلُ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمُنَاسِبِ لِتِلْكَ الْفَتَاوَى السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ نَعَمْ إذَا وَجَدْنَا مُنَاسِبَيْنِ تَعَارَضَا أَوْ مُدْرَكَيْنِ تَقَابَلَا فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ التَّوَقُّفُ وَهَذَا تَقْرِيرٌ ظَاهِرٌ فِي دَفْعِ هَذَا السُّؤْلِ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) وَقَعَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَذْهَبِ وَلِأَصْحَابِهِ فِي كِتَابِ التَّهْذِيبِ وَغَيْرِهِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِ الْإِمَامِ وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَتَخَرَّجُ الْفَتَاوَى فِي الْأَلْفَاظِ .
( قُلْت ) جَمِيعُ ذَلِكَ نَقْلٌ لَا كَلَامَ فِيهِ قَالَ قُلْت مَعْنَى التَّحْرِيمِ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ فَقَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِهَا مَمْنُوعَةً فَهُوَ كَذِبٌ لَا يَلْزَمُهُ فِيهِ إلَّا التَّوْبَةُ فِي الْبَاطِنِ وَالتَّعْزِيرُ فِي الظَّاهِرِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ ، لَيْسَ فِي مُقْتَضَاهَا لُغَةً إلَّا ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ خَلِيَّةٌ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْإِخْبَارُ عَنْ الْخَلَاءِ ، وَأَنَّهَا فَارِغَةٌ ، وَأَمَّا مِمَّ هِيَ فَارِغَةٌ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ اللَّفْظُ ، وَكَذَلِكَ بَائِنٌ مَعْنَاهُ الْمُفَارَقَةُ فِي الزَّمَانِ أَوْ الْمَكَانِ ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِزَوَالِ الْعِصْمَةِ فَهِيَ إخْبَارَاتٌ صِرْفَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَعَرُّضٌ لِلطَّلَاقِ أَلْبَتَّةَ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ ، فَهِيَ إمَّا كَاذِبَةٌ وَهُوَ الْغَالِبُ ، وَإِمَّا صَادِقَةٌ إنْ كَانَتْ مُفَارِقَةً لَهُ فِي الْمَكَانِ وَلَا يَلْزَمُ بِذَلِكَ طَلَاقٌ كَمَا لَوْ صَرَّحَ .
وَقَالَ لَهَا أَنْتِ فِي مَكَان غَيْرِ مَكَانِي وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِهَا حَبْلَهَا عَلَى كَتِفِهَا ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا كَانَ يَرْعَى بَقَرَةً وَقَصَدَ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهَا فِي الْمَرْعَى تَرَكَ حَبْلَهَا مِنْ يَدِهِ وَوَضَعَهُ عَلَى كَتِفِهَا فَتَنْتَقِلُ فِي الْمَرْعَى كَيْفَ شَاءَتْ ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ نِيَّةٌ كَانَ إخْبَارُهُ عَنْ كَوْنِ الْمَرْأَةِ كَذَلِكَ كَذِبًا ) .
قُلْت الْأَصْلُ وَالْقَاعِدَةُ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا إنَّمَا هُوَ النِّيَّةُ وَالْقَصْدُ مَعَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِذَلِكَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ مِنْ إشَارَةٍ وَشَبَهِهَا ، ثُمَّ اللَّفْظُ إمَّا أَنْ يُشْعِرَ بِالْقَصْدِ لُغَةً أَوْ عُرْفًا وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا
يُشْعِرُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ دُونَ تَنْوِيَةٍ وَفِي الْفَتْوَى هُمَا ، وَإِمَّا مَا لَا يُشْعِرُ بِالْمَقْصُودِ لُغَةً وَلَا عُرْفًا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْوِيَةِ فِي الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ مَعًا ، وَبَعْدَ تَقْرِيرِ ذَلِكَ لَا تَخْلُو الْأَلْفَاظُ الْمَذْكُورَةُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مُطْلَقُ الطَّلَاقِ أَوْ مُقَيَّدُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ إرَادَةُ ذَلِكَ بِهَا بِاللُّغَةِ أَوْ بِعُرْفِ اللُّغَةِ أَوْ بِعُرْفِ الشَّرْعِ أَوْ بِعُرْفٍ حَادِثٍ بَعْدُ ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ لُغَوِيَّةً وَضْعًا أَوْ عُرْفًا أَوْ شَرْعِيَّةً فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَبِكُلِّ مَكَان ، وَمُسْتَنَدُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ وَرَدَ عَلَيْنَا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ فَإِنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى عُرْفِهِ أَوْ عَلَى اللُّغَةِ أَوْ عُرْفِهَا ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ عُرْفِيَّةً بِعُرْفٍ حَادِثٍ فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ بِهَا بِانْتِقَالِ الْعُرْفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَإِنْ قَصَدَ الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازَ وَالتَّشْبِيهَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَقَرَةِ فِي أَنَّهَا تَصِيرُ مُطْلَقَةَ التَّصَرُّفِ لَا حَجْرَ عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ الْأَزْوَاجِ بِسَبَبِ زَوَالِ الْعِصْمَةِ كَمَا تَبْقَى الْبَقَرَةُ فِي مَرْعَاهَا كَذَلِكَ ، فَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مَعَ النِّيَّةِ كَسَائِرِ الْمَجَازَاتِ إلَى قَوْلِهِ : وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ ) قُلْت قَوْلُهُ هَذَا صَحِيحٌ مُسْتَقِيمٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ لَمْ تَصِرْ عُرْفًا قَالَ فَحِينَئِذٍ إنَّمَا تَصِيرُ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُوجِبَةً لِمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَقْلِ الْعُرْفِ لَهَا فِي رُتَبِ أَحَدِهَا أَنْ يَنْقُلَهَا الْعُرْفُ عَنْ الْإِخْبَارِ إلَى الْإِنْشَاءِ ، وَثَانِيهَا أَنْ يَنْقُلَهَا لِرُتْبَةٍ أُخْرَى وَهِيَ إنْشَاءُ زَوَالِ الْعِصْمَةِ الَّذِي هُوَ إنْشَاءٌ خَاصٌّ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْإِنْشَاءِ ؛ لِأَنَّهَا لَا يَلْزَمُ مِنْ نَقْلِهَا لِلْإِنْشَاءِ أَنْ تُفِيدَ زَوَالَ الْعِصْمَةِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِنْشَاءِ أَعَمُّ مِنْ زَوَالِ الْعِصْمَةِ فَقَدْ يَصْدُقُ
بِإِنْشَاءِ الْبَيْعِ أَوْ الْعِتْقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْأَعَمِّ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى الْأَخَصِّ فَلَا تَدُلُّ بِنَقْلِهَا إلَى أَصْلِ الْإِنْشَاءِ عَلَى زَوَالِ الْعِصْمَةِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِهَا إلَى خُصُوصِهِ فَتُفِيدُ زَوَالَ الْعِصْمَةِ حِينَئِذٍ .
قُلْتُ كَلَامُهُ هَذَا يُوهِمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يَتَأَتَّى أَنْ تَدُلَّ عَلَى مُطْلَقِ الْإِنْشَاءِ دُونَ خُصُوصِهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَّجَهٍ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَدُلَّ عَلَى إنْشَاءٍ خَاصٍّ فَالنَّقْلُ إذًا لَيْسَ لَهُ رُتَبٌ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ نَقْلُهُ لِغَيْرِ زَوَالِ الْعِصْمَةِ أَوْ لِزَوَالِهَا .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( وَثَالِثُهَا أَنْ يَنْقُلَهَا الْعُرْفُ إلَى الرُّتْبَةِ الْخَاصَّةِ مِنْ الْعَدَدِ إلَى قَوْلِهِ أَوْ أَصْلِ الطَّلَاقِ ) .
قُلْتُ وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ ( غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ فِي الْقَاعِدَةِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا أَغْوَارٌ لَمْ يُفْصِحْ بِهَا وَهُوَ يُرِيدُهَا ، وَهِيَ أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنَّ هَذِهِ الْإِفَادَةَ عُرْفِيَّةٌ إلَى قَوْلِهِ فَهَذَا ضَابِطٌ فِي النَّقْلِ لَا بُدَّ مِنْهُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ قَالَ ( فَإِذَا أَحَطْتَ بِهِ عِلْمًا ظَهَرَ لَكَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَى قَوْلِهِ فَحِينَئِذٍ يُحْسِنُ إلْزَامُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ ) قُلْتُ وَمَا قَالَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا صَحِيحٌ قَالَ : ( وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ إنَّا لَا نَفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ ؛ لِأَنَّ مَالِكًا قَالَهُ أَوْ لِأَنَّهُ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَهْمُ حَاصِلًا لَكَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعَادَةِ كَمَا يَحْصُلُ لِسَائِرِ الْعَوَامّ إلَى قَوْلِهِ : بَلْ الْمُسَطَّرُ فِي الْكُتُبِ تَابِعٌ لِاسْتِعْمَالِ النَّاسِ فَافْهَمْ ذَلِكَ ) قُلْتُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي قَاعِدَةِ الْعُقُودِ كُلِّهَا الْقَصْدُ إلَيْهَا مَعَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِهَا ، وَإِشْعَارُ اللَّفْظِ لُغَوِيٌّ أَصْلِيٌّ أَوْ لُغَوِيٌّ عُرْفِيٌّ أَوْ شَرْعِيٌّ
أَوْ عُرْفِيٌّ حَادِثٌ وَقْتِيٌّ فَفِي الْفَتْوَى الْمُعْتَبَرُ النِّيَّةُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَالْوَقْتِيُّ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَالشَّرْعِيُّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاللُّغَوِيُّ الْعُرْفِيُّ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاللُّغَوِيُّ الْأَصْلِيُّ ، فَإِنْ اجْتَمَعَ فِي اللَّفْظِ الْأَصْلِيُّ وَالْعُرْفِيُّ وَالشَّرْعِيُّ وَالْوَقْتِيُّ فَالْمُعْتَبَرُ الْوَقْتِيُّ ، وَفِي الْحُكْمِ لَا تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ وَيُعْتَبَرُ عَلَى مَا عَدَاهَا عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا أُمُورٌ أَحَدُهَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ مَالِكًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا أَفْتَى فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ إلَى قَوْلِهِ : تَغَيَّرَ الْحُكْمُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرُمَتْ الْفُتْيَا بِالْأُولَى ) قُلْتُ مَا قَالَهُ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( وَإِذَا وَضَحَ لَكَ ذَلِكَ اتَّضَحَ لَكَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ الْفُتْيَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ إلَى قَوْلِهِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ ) قُلْتُ الْمُسْتَعْمِلُ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ إيَّاهَا وَفِيهَا عُرْفٌ وَقْتِيٌّ لَزِمَ حَمْلُهَا عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَعَلَى الشَّرْعِيِّ وَإِلَّا فَعَلَى الْعُرْفِيِّ وَإِلَّا فَعَلَى اللُّغَوِيِّ ، فَإِنْ أَفْتَى الْفَقِيهُ الْوَقْتِيُّ بِهَذَا التَّرْتِيبِ عِنْدَ وُجُودِ الْعُرْفِيِّ الْوَقْتِيِّ فَهُوَ مُصِيبٌ ، وَإِنْ أَفْتَى عِنْدَ وُجُودِ الْعُرْفِيِّ الْوَقْتِيِّ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ أَوْ اللُّغَوِيِّ الْعُرْفِيِّ أَوْ اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ وَأَلْغَى الْعُرْفَ الْوَقْتِيَّ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( وَمِنْ الْأَغْوَارِ الَّتِي لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهَا الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إلَى قَوْلِهِ إنْ اخْتَلَفَتْ السِّكَّتَانِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ : ( فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ لَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَتِهَا وَبِالْإِحَاطَةِ بِهَا يَظْهَرُ لَكَ غَلَطُ كَثِيرٍ مِنْ
الْفُقَهَاءِ الْمُفْتِينَ فَإِنَّهُمْ يُجْرُونَ الْمَسْطُورَاتِ فِي كُتُبِ أَئِمَّتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ إلَى قَوْلِهِ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا ) قُلْتُ إنْ كَانُوا فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ عُرْفٍ وَقْتِيٍّ فَفِعْلُهُمْ خَطَأٌ كَمَا قَالَ ، وَإِنْ كَانُوا فَعَلُوهُ مَعَ عَدَمِ الْعُرْفِ الْوَقْتِيِّ فَلَيْسَ بِخَطَأٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( فَالْحَقُّ حِينَئِذٍ أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا الْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ ، وَإِنَّهَا كِنَايَاتٌ خَفِيَّةٌ لَا يَلْزَمُ بِهَا طَلَاقٌ وَلَا غَيْرُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ إلَى قَوْلِهِ فَهَذَا هُوَ دِينُ اللَّهِ تَعَالَى الْحَقُّ الصَّرِيحُ وَالْفِقْهُ الصَّحِيحُ ) .
قُلْتُ لَيْسَ الْأَمْرُ فِي تِلْكَ الْأَلْفَاظِ كَمَا قَالَ بَلْ فِيهَا عُرْفٌ شَرْعِيٌّ أَوْ لُغَوِيٌّ فَيَلْزَمُ بِهَا الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ تَنْوِيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( قَاعِدَةُ الْمَجَازِ لَا يَدْخُلُ فِي النُّصُوصِ إلَى قَوْلِهِ وَأَسْمَاءُ الْأَعْدَادِ نُصُوصٌ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهَا أَلْبَتَّةَ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ .
قَالَ ( قَاعِدَةُ " كُلُّ لَفْظٍ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهِ لَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي صَرْفِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ " إلَى قَوْلِهِ وَهِيَ قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ مُحَمَّدِيَّةٌ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ أَيْضًا صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَعَلَى هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ تَرَتَّبَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْقَائِلَ : أَنْتِ حَرَامٌ أَوْ أَلْبَتَّةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا يَنْوِي فِي أَقَلَّ مِنْ الثَّلَاثِ إلَى قَوْلِهِ لِلْقَاعِدَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ وَيَلْزَمُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ أَنْتِ حَرَامٌ وَطَالِقٌ أَلْبَتَّةَ ثَبَتَ فِيهَا عُرْفٌ إمَّا شَرْعِيٌّ أَوْ لُغَوِيٌّ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ قَبْلُ .
قَالَ ( وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَيُرِيدُ اثْنَتَيْنِ لَا تُسْمَعُ نِيَّتُهُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا
فِي الْفُتْيَا ، أَوْ يُرِيدُ أَنَّهَا طَلُقَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ الْوَلَدِ فَتُسْمَعُ نِيَّتُهُ فِي الْفُتْيَا دُونَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَدْخَلَ النِّيَّةَ فِي لَفْظِ الْعَدَدِ فَامْتَنَعَ ، وَالثَّانِيَ أَدْخَلَ النِّيَّةَ فِي اسْمِ جِنْسِ الطَّلَاقِ فَحَوَّلَهُ لِطَلْقِ الْوَلَدِ ، وَبَقِيَ الْعَدَدُ فِي ذَلِكَ الْجِنْسِ الَّذِي تَحَوَّلَ إلَيْهِ اللَّفْظُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِالنِّيَّةِ إلَى قَوْلِهِ وَالسِّرُّ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ هُنَا صَحِيحٌ أَيْضًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( فَإِنْ قُلْتَ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ الْحَقِّ مُتَعَيَّنٌ اتِّبَاعُهُ فَمَا سَبَبُ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَى قَوْلِهِ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ صِحَّةِ هَذِهِ الْمَدَارِكِ وَبَيْنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُودِهَا وَتَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ هُنَا مُتَّجَهٌ وَمُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ سَبَبَ اخْتِلَافِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( فَإِنْ قُلْتَ فَلَعَلَّ مُدْرَكَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ نَصٌّ أَوْ قِيَاسٌ فَتَسْتَمِرُّ فَتَاوِيهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ وَالْأَمْصَارِ إلَى آخِرِ الْجَوَابِ ) قُلْتُ قَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ ، وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْعُرْفُ الْوَقْتِيُّ إنْ كَانَ وَإِلَّا فَالشَّرْعِيُّ وَإِلَّا فَاللُّغَوِيُّ وَإِلَّا فَالْأَصْلِيُّ فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الْأَصْلُ وَالْقَاعِدَةُ الْمُعْتَمَدَةُ فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا إنَّمَا هِيَ النِّيَّةُ وَالْقَصْدُ مَعَ اللَّفْظِ الْمُشْعِرِ بِذَلِكَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ إشَارَةٍ وَشَبَهِهَا ، ثُمَّ اللَّفْظُ إمَّا أَنْ لَا يُشْعِرَ بِالْمَقْصُودِ لُغَةً وَلَا عُرْفًا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْوِيهِ فِي الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ مَعًا ، وَإِمَّا أَنْ يُشْعِرَ بِالْمَقْصُودِ لُغَةً أَوْ عُرْفًا وَالْعُرْفُ لُغَوِيٌّ وَشَرْعِيٌّ وَوَقْتِيٌّ حَادِثٌ فَيُحْمَلُ فِي الْقَضَاءِ دُونَ تَنْوِيهٍ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ مِنْ عُرْفِيٍّ وَقْتِيٍّ فَشَرْعِيٍّ فَعُرْفِيٍّ لُغَوِيٍّ فَلُغَوِيٍّ أَصْلِيٍّ وَفِي الْفَتْوَى عَلَى التَّنْوِيهِ فَالْعُرْفُ الْوَقْتِيُّ فَالشَّرْعِيُّ فَالْعُرْفِيُّ اللُّغَوِيُّ فَاللُّغَوِيُّ الْأَصْلِيُّ فَإِنْ اجْتَمَعَ فِي اللَّفْظِ الْأَصْلِيِّ وَالْعُرْفِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَالْوَقْتِيِّ فَالْمُعْتَبَرُ الْوَقْتِيُّ فِي الْقَضَاءِ وَالْفَتْوَى فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مُطْلَقَ الطَّلَاقِ أَوْ مُقَيَّدُهُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ إرَادَةُ ذَلِكَ بِهَا بِاللُّغَةِ أَوْ بِعُرْفِ اللُّغَةِ أَوْ بِعُرْفِ الشَّرْعِ أَوْ بِعُرْفٍ حَادِثٍ بَعْدُ ، فَإِنْ كَانَتْ لُغَوِيَّةً وَضْعًا أَوْ عُرْفًا أَوْ شَرْعِيَّةً فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَبِكُلِّ مَكَان وَمُسْتَنَدُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ وَرَدَ عَلَيْنَا مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ فَإِنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى عُرْفِهِ أَوْ عَلَى اللُّغَةِ أَوْ عُرْفِهَا .
وَإِنْ كَانَتْ عُرْفِيَّةً بِعُرْفٍ حَادِثٍ فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ بِهَا بِانْتِقَالِ الْعُرْفِ كَبَتَّةٍ وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ .
قَالَ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَلْزَمُ الْقَائِلَ ذَلِكَ الثَّلَاثُ وَلَا يَنْوِي دَخَلَ أَوْ لَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ نَقَلَهُ عُرْفُ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى الْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ الثَّلَاثُ حَتَّى صَارَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ .
وَالْمَجَازُ لَا يَدْخُلُ فِي النُّصُوصِ كَأَسْمَاءِ الْعَدَدِ بَلْ فِي
الظَّوَاهِرِ كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَصِيَغِ الْعُمُومِ وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ لُغَوِيَّةٌ وَكُلُّ لَفْظٍ لَا يَجُوزُ دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهِ لَا تُؤَثِّرُ النِّيَّةُ فِي صَرْفِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ مُحَمَّدِيَّةٌ بُنِيَتْ عَلَى الْأُولَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ إنْ نَوَى الثَّلَاثَ لَزِمَهُ الثَّلَاثُ أَوْ وَاحِدَةً فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ .
وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالْبَتَّةِ وَالْبَتْلَةِ وَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِشُهْرَتِهَا ، وَيَلْزَمُ بِحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِك الثَّلَاثُ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الْقَبَسِ لَهُ الصَّحِيحُ أَنَّ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ وَالْبَائِنَ وَالْخَلِيَّ وَالْبَرِيَّةَ وَالْبَتْلَةَ وَالْبَتَّةَ وَاحِدَةٌ لَا تَزِيدُ عَلَى قَوْلِكَ أَنْتِ طَالِقٌ وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ { ابْنِ كِنَانَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي أَلْبَتَّةَ فَقَالَ مَا أَرَدْتَ فَقُلْتُ وَاحِدَةً فَقَالَ هِيَ مَا أَرَدْتَ فَرَدَّهَا إلَيَّ } .
( قُلْتُ ) قَالَ الْأَمِيرُ فِي ضَوْءِ الشُّمُوعِ وَقَدْ تَعَارَفَ الْآنَ حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ فِي مُطْلَقِ الْإِهْمَالِ حَتَّى يُخَاطِبَ الرَّجُلُ ابْنَهُ مَثَلًا انْتَهَى أَيْ فَعَلَيْهِ يَكُونُ كَالْكِنَايَةِ الْخَفِيَّةِ يَجْرِي عَلَى قَوْلِهِمْ وَإِنْ قَصَدَهُ بِأَيِّ كَلَامٍ لَزِمَ كَاسْقِنِي فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ الْآنَ أَنْ يُفْتِيَ فِيهِ بِالطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ إلَّا إذَا تَجَدَّدَ بِذَلِكَ عُرْفٌ وَكَحَرَامٍ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا شَيْءَ عَلَى قَائِلِهِ إذَا كَانَ فِي بَلَدٍ لَا يُرِيدُونَ بِهِ الطَّلَاقَ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ حَرَامٌ الْكَذِبَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ كَوْنِهَا حَرَامًا وَهِيَ حَلَالٌ حَرُمَتْ وَلَا يَنْوِي قَالَ صَاحِبُ الِاسْتِذْكَارِ فِي الْحَرَامِ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا قَالَ مَالِكٌ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَيَنْوِي فِي غَيْرِهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا
يَلْزَمُهُ شَيْءٌ حَتَّى يَنْوِيَ وَاحِدَةً فَتَكُونَ رَجْعِيَّةً .
وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَلَا يَكُونُ مُوَلِّيًا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ .
وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَكَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَهُوَ مُوَلٍّ وَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَقَالَ سُفْيَانُ إنْ نَوَى وَاحِدَةً فَبَائِنَةٌ أَوْ الثَّلَاثَ فَالثَّلَاثُ أَوْ يَمِينًا فَيَمِينٌ وَلَا فُرْقَةَ وَلَا يَمِينَ بِكَذِبَةٍ لَا شَيْءَ فِيهَا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَهُ مَا نَوَى وَإِلَّا فَيَمِينٌ تُكَفَّرُ وَقَالَ إِسْحَاقُ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ وَقِيلَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } إلَى قَوْلِهِ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ حَرَّمَ سُرِّيَّتَهُ مَارِيَةَ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ تَحْرِيمُ الْمَرْأَةِ كَتَحْرِيمِ الْمَالِ لَا شَيْءَ فِيهِ أَيْ إلَّا الِاسْتِغْفَارُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } وَقِيلَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عِتْقُ رَقَبَةٍ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَمِينٌ مُغَلَّظَةٌ ا هـ .
( قُلْت ) وَقَالَ الْأَمِيرُ فِي شَرْحِ الْمَجْمُوعِ وَضَوْءِ الشُّمُوعِ شَيْخُنَا سَمِعْتُ مِنْ الْمَشَايِخِ وَرَأَيْتُ فِي الْمَنْقُولِ مِنْ الْكُتُبِ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَغْرِبِ جَرَى فِي الْحَرَامِ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ ، وَقَدْ نَقَلَهُ الْبُنَانِيُّ وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي نَظْمِ الْعَمَلِ الْفَاسِيُّ كَمَا فِي كَنُونٍ بِقَوْلِهِ وَطَلْقَةٌ بَائِنَةٌ فِي التَّحْرِيمِ وَحَلِفٌ بِهِ لِعُرْفِ الْإِقْلِيمِ لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَالَفَ عُرْفَ مِصْرَ فَإِنَّهُ شَاعَ فِي أَلْسِنَتِهِمْ الْحَرَامُ مَجْمَعُ الثَّلَاثِ .
( وَهُنَا مُهِمَّةٌ ) وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ عَلَى الشَّخْصِ الْحَرَامُ فَيُرَاجِعُهَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا
فَيُفْتِيهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِعَدَمِ لُزُومِ الثَّلَاثِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَرَامَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ ، وَالْبَائِنُ لَا يُرْتَدَفُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ فَيُجَدَّدُ لَهُ عَلَيْهَا عَقْدٌ وَهَذَا خَطَأٌ فَإِنَّهُ لَمَّا رَاجَعَهَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ صَارَ مَعَهَا فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ .
وَالطَّلَاقُ يَلْحَقُ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَلْ وَلَوْ لَمْ يُرَاجِعْهَا وَعَاشَرَهَا مُعَاشَرَةَ الْأَزْوَاجِ فَالْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي لُحُوقَ الطَّلَاقِ مُرَاعَاةً لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَجْعِيٌّ مَعَ قَوْلِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ كَالْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْجِمَاعَ يَكُونُ رَجْعَةً مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الرَّجْعَةِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَنَا أَيْضًا كَيْفَ وَهُنَاكَ مَنْ يَقُولُ الْحَرَامُ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ عِصْمَتِهِ غَايَتُهُ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِقَّةِ الدِّينِ ا هـ .
بِزِيَادَةٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَأَصْلُ اخْتِلَافِ الْأَصْحَابِ فِي أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ كَمَا قَالَ الْمَازِرِيُّ أَنَّ اللَّفْظَ إنْ تَضَمَّنَ الْبَيْنُونَةَ وَالْعَدَدَ نَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَزِمَ الثَّلَاثُ وَلَا يَنْوِي اتِّفَاقًا فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا أَيْ لَا يُصَدَّقُ فِي أَنَّهُ قَصَدَ أَقَلَّ مِنْ الثَّلَاثِ فِيهِمَا لَا فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِي الْفَتْوَى نَعَمْ يُصَدَّقُ قَوْلُهُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا طَلُقَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ الْوَلَدِ فِي الْفَتْوَى دُونَ الْقَضَاءِ نَظَرًا لِلْقَاعِدَتَيْنِ اللُّغَوِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ السَّابِقَتَيْنِ فَقَبِلُوا النِّيَّةَ فِي رَفْعِ الطَّلَاقِ بِجُمْلَتِهِ لِتَحْوِيلِهِ لِجِنْسٍ آخَرَ نَظَرًا لِجَوَازِ دُخُولِ الْمَجَازِ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الظَّوَاهِرِ وَلَمْ يَقْبَلُوهَا فِي رَفْعِ بَعْضِ الطَّلَاقِ نَظَرًا لِكَوْنِ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ نُصُوصًا لَا يَدْخُلُ فِيهَا الْمَجَازُ ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ بُطْلَانَ ذَلِكَ وَأَنَّ النِّيَّةَ إذَا قُبِلَتْ فِي رَفْعِ الْكُلِّ فَأَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ فِي رَفْعِ الْبَعْضِ ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ إلَّا عَلَى الْبَيْنُونَةِ نُظِرَ
هَلْ تُمْكِنُ الْبَيْنُونَةُ بِالْوَاحِدَةِ أَوْ تَتَوَقَّفُ عَلَى الثَّلَاثِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُعَارَضَةٌ فِيهِ خِلَافٌ أَوْ يَدُلُّ عَلَى عَدَدٍ غَالِبًا .
وَيُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ نَادِرًا فَيُحْمَلُ عَلَى الْغَالِبِ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ وَعَلَى النَّادِرِ مَعَ وُجُودِهَا فِي الْفَتْوَى وَإِنْ تَسَاوَى الِاسْتِعْمَالُ أَوْ تَقَارَبَ قُبِلَتْ نِيَّتُهُ مَعَ الْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ فَإِنْ عُدِمَتْ النِّيَّةُ فَقِيلَ يُحْمَلُ عَلَى الْأَقَلِّ اسْتِصْحَابًا لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَقِيلَ عَلَى الْأَكْثَرِ احْتِيَاطًا وَالْمَشْهُورُ فِي الْحَرَامِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْبَيْنُونَةِ ، وَأَنَّهَا لَا تَحْصُلُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا إلَّا بِالثَّلَاثِ وَفِي غَيْرِهَا بِالْوَاحِدَةِ وَلِكَوْنِهَا غَالِبَةً فِي الثَّلَاثِ حُمِلَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى الثَّلَاثِ وَيَنْوِي فِي الْأَقَلِّ .
وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ الْبَيْنُونَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِهَا وَوَضْعِهَا لِلثَّلَاثِ فِي الْعُرْفِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَالْقَوْلُ بِالْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا ، وَأَنَّهَا لَا تُفِيدُ عَدَدًا أَوْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْلَمَةَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا كَالطَّلَاقِ قَالَ وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ تَتَخَرَّجُ الْفَتَاوَى فِي الْأَلْفَاظِ ا هـ وَهُوَ يُشِيرُ إلَى أُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّ نَحْوَ الْحَرَامِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَمْ تُسْتَعْمَلْ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَا فِي عُرْفِهَا وَلَا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ فِي إزَالَةِ الْعِصْمَةِ إمَّا أَنْ يَنْقُلَهُ الْعُرْفُ الْحَادِثُ الْوَقْتِيُّ مِنْ مَوْضُوعِهِ إلَى الْبَيْنُونَةِ فَقَطْ أَوْ مَعَ الْعَدَدِ أَوْ أَصْلِ الطَّلَاقِ فَتَكُونُ إفَادَتُهَا ذَلِكَ بِالْعُرْفِ لَا بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ .
وَثَانِيهَا أَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَكَرُّرٍ لَا يَكْفِي فِي النَّقْلِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَكَرُّرِ الِاسْتِعْمَالِ بِحَيْثُ يُفْهَمُ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَرِينَةٍ ، وَيَكُونُ هُوَ السَّابِقُ إلَى الْفَهْمِ دُونَ غَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمَجَازُ الرَّاجِحُ
فَقَدْ يَتَكَرَّرُ اللَّفْظُ فِي مَجَازِهِ وَلَا يَكُونُ مَنْقُولًا وَلَا مَجَازًا رَاجِحًا أَلْبَتَّةَ كَاسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ وَالْبَحْرِ فِي الْعَالِمِ أَوْ السَّخِيِّ وَالضُّحَى أَوْ الشَّمْسِ أَوْ الْقَمَرِ أَوْ الْغَزَالِ فِي جَمِيلِ الصُّورَةِ .
وَذَلِكَ يَتَكَرَّرُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ تَكْرَارًا كَثِيرًا ، وَمَعَ ذَلِكَ التَّكْرَارِ الَّذِي لَا يُحْصَى عَدَدُهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَارَتْ مَنْقُولَةً بَلْ لَا تُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا عَلَى الْحَقَائِقِ اللُّغَوِيَّةِ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا أُرِيدَ بِهَا هَذِهِ الْمَجَازَاتُ وَلَا بُدَّ فِي كُلِّ مَجَازٍ مِنْهَا مِنْ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ إلَى اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيهِ ، فَهَذَا ضَابِطٌ فِي النَّقْلِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَإِذَا أَحَطْتَ بِهِ عِلْمًا ظَهَرَ لَكَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ .
وَهُوَ أَنَّا لَا نَجِدُ أَحَدًا فِي زَمَانِنَا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ عِنْدَ إرَادَةِ تَطْلِيقِهَا حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ وَلَا أَنْتِ بَرِيئَةٌ وَلَا وَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ بَلْ هَذَا لَمْ نَسْمَعْهُ قَطُّ مِنْ الْمُطَلِّقِينَ ، وَلَوْ سَمِعْنَاهُ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى سَمْعِنَا لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ مَنْقُولَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ ، فَالْمُسْتَعْمِلُ لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ إيَّاهَا وَلَيْسَ فِيهَا عُرْفٌ وَقْتِيٌّ بَلْ كَانَتْ لُغَوِيَّةً وَضْعًا أَوْ عُرْفًا أَوْ شَرْعِيَّةً لَزِمَ حَمْلُهَا عَلَى مُقْتَضَاهَا الشَّرْعِيِّ فَاللُّغَوِيِّ الْعُرْفِيِّ فَالْأَصْلِيِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَبِكُلِّ مَكَان إنْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ إيَّاهَا وَفِيهَا عُرْفٌ وَقْتِيٌّ لَزِمَ حَمْلُهَا عَلَيْهِ إنْ كَانَ عُرْفًا لِلْمُسْتَعْمِلِ ، وَإِلَّا فَالشَّرْعِيُّ وَإِلَّا فَاللُّغَوِيُّ الْعُرْفِيُّ وَإِلَّا فَاللُّغَوِيُّ الْأَصْلِيُّ فَإِنْ أَفْتَى الْفَقِيهُ عِنْدَ وُجُودِ الْعُرْفِ الْوَقْتِيِّ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ أَوْ اللُّغَوِيِّ الْعُرْفِيِّ أَوْ اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ وَأَلْغَى الْعُرْفَ الْوَقْتِيَّ فَهُوَ مُخْطِئٌ ، وَإِنْ أَفْتَى
بِالتَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ وُجُودِ الْعُرْفِ الْوَقْتِيِّ فَهُوَ مُصِيبٌ .
وَثَالِثُهَا أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا جَاءَهُ رَجُلٌ يَسْتَفْتِيهِ عَنْ لَفْظَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ، وَكَانَ عُرْفُ بَلَدِ الْمُفْتِي فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يُفْتِيهِ بِحُكْمِ بَلَدِهِ بَلْ يَسْأَلُهُ هَلْ هُوَ مِنْ بَلَدِ أَهْلِ الْمُفْتِي فَيُفْتِيهِ حِينَئِذٍ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْبَلَدِ أَوْ هُوَ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ فَيَسْأَلُهُ حِينَئِذٍ عَنْ الْمُشْتَهَرِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَيُفْتِيهِ بِهِ .
وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتِيَهُ بِحُكْمِ بَلَدِهِ كَمَا لَوْ وَقَعَ التَّعَامُلُ بِبَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِ الْحَاكِمِ حَرُمَ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِيَ بِسِكَّةِ بَلَدِهِ بَلْ بِسِكَّةِ بَلَدِ الْمُشْتَرِي إنْ اخْتَلَفَ السِّكَّتَانِ فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ لَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَتِهَا وَبِالْإِحَاطَةِ بِهَا يَظْهَرُ لَكَ أَنَّ إجْرَاءَ الْفُقَهَاءِ الْمُفْتِينَ لِلْمَسْطُورَاتِ فِي كُتُبِ أَئِمَّتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ إنْ كَانُوا فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ عُرْفٍ وَقْتِيٍّ فَفِعْلُهُمْ خَطَأٌ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَهُمْ عُصَاةٌ آثِمُونَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَعْذُورِينَ بِالْجَهْلِ لِدُخُولِهِمْ فِي الْفَتْوَى وَلَيْسُوا أَهْلًا لَهَا وَلَا عَالِمِينَ بِمَدَارِكِهَا وَشُرُوطِهَا وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا ، وَإِنْ كَانُوا فَعَلُوهُ مَعَ عَدَمِ الْعُرْفِ الْوَقْتِيِّ فَلَيْسَ بِخَطَأٍ وَسَبَبُ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ هُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِ النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ هَلْ وُجِدَ فَيُتَّبَعُ أَمْ لَمْ يُوجَدْ فَيُتَّبَعُ مُوجَبُ اللُّغَةِ وَإِذَا وُجِدَ النَّقْلُ فَهَلْ وُجِدَ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ فَقَطْ أَوْ فِيهِ مَعَ الْبَيْنُونَةِ أَوْ مَعَ الْعَدَدِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ نَقْلٌ عُرْفِيٌّ وَبَقِيَ مُوجَبُ اللُّغَةِ فَهَلْ يُلَاحَظُ نُصُوصٌ اقْتَضَتْ الْكَفَّارَةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ أَوْ لَا أَوْ الْقِيَاسُ عَلَى بَعْضِ
الْأَحْكَامِ فَيَكُونُ الْمُدْرَكُ هُوَ الْقِيَاسُ لَا النَّصُّ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى هَذِهِ الْمَدَارِكِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَّضِحْ وُجُودُهَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ ، وَاتَّضَحَ عِنْدَ الْبَعْضِ الْآخَرِ وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْحُكْمِ فَلَوْ وَقَعَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى وُجُودِهَا لَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْحُكْمِ ، وَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فَلَا تَنَافِي بَيْنَ صِحَّةِ هَذِهِ الْمَدَارِكِ وَبَيْنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُودِهَا ، وَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ مُدْرَكُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَالْإِمَامِ مَالِكٍ وَسَائِرِ الْأَئِمَّةِ ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ الْوَقْتِيِّ إنْ كَانَ وَإِلَّا فَالشَّرْعِيُّ وَإِلَّا فَاللُّغَوِيُّ وَإِلَّا فَالْأَصْلِيُّ لَا الْقِيَاسُ وَلَا النَّصُّ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَالْإِجْمَاعِ .
أَمَّا الِاسْتِقْرَاءُ فَلَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُدْرَكُهُمْ فِي حَمْلِهِمْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْإِنْشَاءِ لَا عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ مِنْ الْخَبَرِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ أَوْ النَّصُّ فَإِنَّا نَعْلَمُ مَسَائِلَ الطَّلَاقِ وَشَرَائِطَ الْقِيَاسِ ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي الْقِيَاسَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ وَلَا فِيهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى تَقْتَضِي أَكْثَرَ مِمَّا قَالَهُ الْقَائِلُونَ بِالْكَفَّارَةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا آيَةُ التَّحْرِيمِ ، وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ رَوَى فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ حَدِيثًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَيْنَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِلَا شُبْهَةٍ .
وَثَانِيهِمَا أَنَّ قَاعِدَةَ الْفُقَهَاءِ وَعَوَائِدَ الْفُضَلَاءِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا ظَفِرُوا بِهِ وَفَقَدُوا غَيْرَهُ مِنْ الْمُدْرَكِ الْمُنَاسِبِ لِلْفَرْعِ مُعْتَمِدًا لِذَلِكَ الْفَرْعِ فِي حَقِّ الْإِمَامِ الْمُجْتَهِدِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَفْتَى بِذَلِكَ الْفَرْعِ وَفِي حَقِّهِمْ أَيْضًا فِي الْفُتْيَا وَالتَّخْرِيجِ ، وَنَحْنُ قَدْ اسْتَقْرَأْنَا هَذِهِ الْمَسَائِلَ فَلَمْ نَجِدْ لَهَا مُدْرَكًا مُنَاسِبًا
إلَّا اعْتِبَارَ الْعُرْفِيِّ الْوَقْتِيِّ إلَخْ فَوَجَبَ جَعْلُ ذَلِكَ مُدْرَكَ الْأَئِمَّةِ إفْتَاءً وَتَخْرِيجًا وَعَدَمَ الْعُدُولِ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يَشْهَدُ لِذَلِكَ أَنَّ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْقَيَّاسُونَ وَأَهْلُ النَّظَرِ وَالرَّأْيِ وَالِاعْتِبَارِ أَنَّا فِي كَلَامِ الشَّرْعِ إذَا ظَفِرْنَا بِالْمُنَاسَبَةِ جَزَمْنَا بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا مَعَ تَجْوِيزِ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ عَقْلًا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ أَوْجَبَ لَنَا أَنْ لَا نَعْرُجَ عَلَى غَيْرِ مَا وَجَدْنَاهُ وَلَا نَلْتَزِمَ التَّعَبُّدَ مَعَ وُجُودِ الْمُنَاسِبِ فَأَوْلَى أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ غَيْرِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ بَلْ نَحْمِلُ كَلَامَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمُنَاسِبِ لِتِلْكَ الْفَتَاوَى السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ نَعَمْ إذَا وَجَدْنَا مُنَاسَبَيْنِ تَعَارَضَا أَوْ مُدْرَكَيْنِ تَقَابَلَا فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ التَّوَقُّفُ .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ قَدَّمْنَا لَك كَلَامَ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيِّ إمَامِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَحَافِظٍ مُتْقِنٍ لِعِلْمِ الْحَدِيثِ وَفُنُونِهِ وَلَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ وَالرُّتْبَةُ الْعَالِيَةُ الْمُفِيدُ أَنَّ سَبَبَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذُكِرَ فَكَفَى بِهِ قُدْوَةً فِي مُدْرَكِ هَذِهِ الْفُرُوعِ وَمُتَعَمَّدًا فِي ضَوَابِطِهَا وَتَلْخِيصِهَا وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَالْمُصَنِّفِينَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ مُخَالِفًا فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ ، فَالتَّشْكِيكُ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ طَلَبٌ لِلْجَهْلِ الْوَبِيلِ وَسَبِيلٌ لِغِوَايَةِ التَّضْلِيلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) إنَّ الْإِنْشَاءَ كَمَا يَكُونُ بِالْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ يَكُونُ بِالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ وَلِذَلِكَ صُوَرٌ : ( الصُّورَةُ الْأُولَى ) أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْشَأَ السَّبَبِيَّةَ فِي زَوَالِ الشَّمْسِ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ ، وَأَنْزَلَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ دَالًّا عَلَى مَا قَامَ بِذَاتِهِ مِنْ هَذَا الْإِنْشَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } فَإِنَّ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ عِنْدَنَا أَدِلَّةُ الْأَحْكَامِ لَا نَفْسُ الْأَحْكَامِ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ اتِّحَادُ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعَ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الشُّرُوطِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ وَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ الْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ كَالْكُفْرِ مِنْ الْمِيرَاثِ وَالْحَدَثِ مِنْ الصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَانِعِ ، وَمَا وَرَدَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَدِلَّةٌ عَلَى مَا قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ الْوُجُوب وَالنَّدْبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ كُلُّهَا قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ إنَّمَا هِيَ أَدِلَّةٌ عَلَى مَا قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنَّا إذَا قَالَ لِغُلَامِهِ اُسْرُجْ الدَّابَّةَ فَقَدْ أَنْشَأَ فِي نَفْسِهِ إيجَابًا وَطَلَبًا لِلْإِسْرَاجِ قَبْلَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ ، وَكَذَلِكَ النَّهْيُ وَغَيْرُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ إنْشَاءَ الْخَلْقِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَادِثٌ وَفِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمٌ فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْإِنْشَاءُ الْقَدِيمُ وَلَيْسَ فِي الْأَزَلِ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلِأَنَّك قَرَّرْتَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ أَنَّ الْإِنْشَاءَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ طَارِئًا عَلَى الْخَبَرِ ، وَوَصْفُ الطُّرُوءِ يَأْبَى الْأَزَلِيَّةَ .
( قُلْتُ ) الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يُوجِبُ فِي الْأَزَلِ عَلَى زَيْدٍ الْمُعَيَّنِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ مُجْتَمِعَ الشَّرَائِطِ مُزَالَ الْمَوَانِعِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ كَمَا يَجِدُ أَحَدُنَا فِي نَفْسِهِ طَلَبَ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْفَضَائِلِ مِنْ وِلْدَانِ رِزْقِهِ وَهُوَ الْآنَ لَا وَلَدَ لَهُ فَيَتَقَدَّمُ مِنَّا الطَّلَبُ عَلَى وُجُودِ الْمَطْلُوبِ ، وَتَقَدُّمُ الطَّلَبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ لَا غَرْوَ فِيهِ ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ الْفَرْقَ إنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ اللُّغَوِيَّيْنِ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ ، أَمَّا فِي الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ فَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا بَلْ هُمَا نَوْعَانِ لِمُطْلَقِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَإِنَّهُ وَاحِدٌ ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقَاتِهِ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَحَدِ النَّقِيضَيْنِ الْوُجُودِ أَوْ الْعَدَمِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ فَهُوَ الْخَبَرُ ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى وَجْهِ التَّرْجِيحِ فَإِنْ كَانَ فِي طَرَفِ الْوُجُودِ فَهُوَ الْإِيجَابُ أَوْ الْعَدَمِ فَهُوَ التَّحْرِيمُ أَوْ تَعَلَّقَ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فَهُوَ الْإِبَاحَةُ وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ بَلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَصْلِ الْكَلَامِ رُتْبَةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا زَمَانِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَقْضِي بِتَقْدِيمِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ بِالرُّتْبَةِ تَقْدِيمًا عَقْلِيًّا لَا زَمَانِيًّا فَلَا تَلْزَمُ مُنَافَاةُ الْأَزَلِ لِلْإِنْشَاءِ النَّفْسَانِيِّ وَلَا الْحُدُوثُ فَإِنْ قُلْتَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُمُورُ إخْبَارَاتٍ عَنْ إرَادَةِ وُقُوعِ الْعِقَابِ عَلَى مَنْ خَالَفَ وَعَصَى وَلَا تَكُونُ إنْشَاءَاتٍ .
( قُلْتُ ) ذَلِكَ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ الْخَبَرَ يَقْبَلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تَحْتَمِلُهَا فَهِيَ إنْشَاءَاتٌ ، وَثَانِيهَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إخْبَارَاتٍ لَلَزِمَ الْخُلْفُ فِيهَا لِحُصُولِ الْعَفْوِ عَنْ الْعُصَاةِ إمَّا تَفَضُّلًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مِنْ الْمُكَلَّفِ أَوْ بِسَبَبٍ هُوَ التَّوْبَةُ لَكِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ خَبَرًا عَنْ
ذَلِكَ ، وَثَالِثُهَا أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ أَنَّ إرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبَةُ النُّفُوذِ فَلَوْ كَانَتْ إخْبَارَاتٍ عَنْ إرَادَةِ الْعِقَابِ لَوَجَبَ عِقَابُ كُلِّ عَاصٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي لَا تُحْصَى ، وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { النَّدَمُ تَوْبَةٌ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ } ، الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْحُكْمُ فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَلَا اجْتِهَادَ فِي مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ سَعْيٌ فِي تَخْطِئَةِ الْمُجْمِعِينَ فَيَكُونُ الْعَامُّ مَخْصُوصًا بِصُوَرِ الْإِجْمَاعِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّصُّ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الصَّيْدِ إنَّمَا هُوَ الْقِيمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْفَاصِلِ الشَّاهِدِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ أَحَدُهَا قَوْله تَعَالَى { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } فَجَعَلَ الْجَزَاءَ لِلْمِثْلِ لَا لِلصَّيْدِ نَفْسِهِ ، فَالنَّعَمُ وَاجِبَةٌ فِي الْمِثْلِ الَّذِي هُوَ الْقِيمَةُ لَا لِلصَّيْدِ نَفْسِهِ ، وَثَانِيهَا أَنَّهُ لَوْ حُمِلَ الْجَزَاءُ عَلَى الصَّيْدِ نَفْسِهِ لَزِمَ التَّخْصِيصُ وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا لَا يَلْزَمُ التَّخْصِيصُ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّيْدِ فَلَوْ حُمِلَ الْجَزَاءُ عَلَى الصَّيْدِ خَرَجَ مِنْهُ مَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ كَالْعَصَافِيرِ وَالنَّمْلِ وَغَيْرِهَا ، وَإِذَا قُلْنَا بِالْقِيمَةِ وَجَبَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْقِيمَةُ فَلَا تَخْصِيصَ وَهُوَ أَوْلَى فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ، وَثَالِثُهَا
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اشْتَرَطَ الْحَكَمَيْنِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَأَتَّى إذَا قُلْنَا بِالْقِيمَةِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى تَقْوِيمِ صَيْدٍ أَنْ لَا نُقَوِّمَهُ نَحْنُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ أَفْرَادَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ تَخْتَلِفُ قِيمَتُهَا وَلَا يُغْنِي تَقْوِيمٌ عَنْ تَقْوِيمٍ فَيَبْقَى الْعُمُومُ عَلَى عُمُومِهِ فِي الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَمَّا لَوْ جَعَلْنَا فِي الصَّيْدِ الْجَزَاءَ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ فِي الضَّبُعِ شَاةً وَفِي الْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ بَقَرَةً وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي يُفْرَضُ حُصُولُ الْإِجْمَاعِ فِيهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ وَلَا يَبْقَى لِلْحُكْمِ مِنَّا وَالِاجْتِهَادِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعْنًى أَلْبَتَّةَ إلَّا فِي الصُّوَرِ الَّتِي لَمْ يَقَعْ فِيهَا إجْمَاعٌ كَالْفِيلِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَفْرَادِ الصَّيْدِ فَيَلْزَمُ التَّخْصِيصُ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، وَرَابِعُهَا أَنَّهُ مُتْلَفٌ مِنْ الْمُتْلَفَاتِ فَتَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْوَاجِبُ فِي الصَّيْدِ مِثْلُهُ مِنْ النَّعَمِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ثُمَّ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ وَيَقَعُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمِثْلِ وَالْإِطْعَامِ وَالصَّوْمِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .
وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ وَبَيْنَ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ إنْشَاءٌ لِنَفْسِ ذَلِكَ الْإِلْزَامِ إنْ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ أَوْ لِنَفْسِ تِلْكَ الْإِبَاحَةِ وَالْإِطْلَاقِ إنْ كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَحُكْمِ الْحَاكِمِ بِأَنَّ الْمَوَاتَ إذَا بَطَلَ إحْيَاؤُهُ صَارَ مُبَاحًا لِجَمِيعِ النَّاسِ ، وَالْفَتْوَى بِذَلِكَ إخْبَارٌ صِرْفٌ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَأَنَّ الْحَاكِمَ مُلْزِمٌ وَالْمُفْتِي مُخْبِرٌ ، وَأَنَّ نِسْبَتَهُمَا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ كَنِسْبَةِ نَائِبِ الْحَاكِمِ وَالْمُتَرْجِمِ عَنْهُ فَنَائِبُهُ يُنْشِئُ أَحْكَامًا لَمْ تَتَقَرَّرْ عِنْدَ مُسْتَنِيبِهِ
بَلْ يُنْشِئُهَا عَلَى قَوَاعِدِهِ كَمَا يُنْشِئُهَا الْأَصْلُ ، وَلَا يَحْسُنُ مِنْ مُسْتَنِيبِهِ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ وَلَا يُكَذِّبُهُ بَلْ يُخَطِّئُهُ أَوْ يُصَوِّبُهُ بِاعْتِبَارِ الْمُدْرَكِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ ، وَالْمُتَرْجِمُ يُخْبِرُ عَمَّا قَالَهُ الْحَاكِمُ لِمَنْ لَا يَعْرِفُ كَلَامَ الْحَاكِمِ لِعُجْمَةٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَانِعِ الْفَهْمِ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُصَدِّقَهُ إنْ صَدَقَ ، وَيُكَذِّبَهُ إنْ كَذَبَ ، وَهَذَا الْمُتَرْجِمُ لَا يُنْشِئُ حُكْمًا بَلْ يُخْبِرُ عَنْ الْحَاكِمِ فَقَطْ وَقَدْ وَضَعْتُ فِي هَذَا الْفَرْقِ كِتَابًا سَمَّيْته بِالْأَحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ وَتَصَرُّفِ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ وَفِيهِ أَرْبَعُونَ مَسْأَلَةً تَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ هَذَا الْفَرْقِ وَهُوَ كِتَابٌ نَفِيسٌ إذَا تَقَرَّرَ مَعْنَى الْحُكْمِ ، فَالْحَكَمَانِ فِي زَمَانِنَا يُنْشِئَانِ الْإِلْزَامَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ فَإِنْ كَانَتْ الصُّورَةُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا كَانَ الْإِجْمَاعُ مُدْرَكًا لَهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُمْ مُنْشِئُونَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إجْمَاعٌ فَهُوَ أَظْهَرُ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى النُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّخْصِيصِ بَلْ يَبْقَى النَّصُّ عَلَى عُمُومِهِ ، وَالْحُكْمُ فِي زَمَانِنَا عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ ، وَالْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنَّ الْآيَةَ قُرِئَتْ { فَجَزَاءٌ } بِالتَّنْوِينِ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ لِلصَّيْدِ وَ ( { مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } ) نَعْتٌ لَهُ .
وَيَكُونُ الْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلَ مِنْ النَّعَمِ وَالْقِرَاءَتَانِ مُنَزَّلَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ أَنَّ قِرَاءَةَ التَّنْوِينِ صَرِيحَةٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَقِرَاءَةَ الْإِضَافَةِ مُحْتَمِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِمَا ذَكَرْتُمُوهُ فَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعًا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ التَّعَارُضِ ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ } يُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ وَيَبْقَى الظَّاهِرُ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ } خَاصٌّ
بِالرَّشِيدَاتِ وَالْمُطَلَّقَاتِ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } خَاصٌّ بِالرَّجْعِيَّاتِ مَعَ بَقَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ عَلَى عُمُومِهِ وَعَنْ الثَّالِثِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ يُنْشِئَانِ الْإِلْزَامَ ، وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي حُكْمَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ حُكْمُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَدًّا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَكَمَ فِي الضَّبُعِ بِشَاةٍ وَقَدْ حَكَمَ فِيهَا الصَّحَابَةُ أَيْضًا فَلَوْلَا مَا ذَكَرْنَاهُ لَامْتَنَعَ حُكْمُهُمْ ، وَعَنْ الرَّابِعِ أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْجَوَابِرِ بَلْ مِنْ بَابِ الْكَفَّارَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } فَسَمَّاهُ كَفَّارَةً فَبَطَلَ الْقِيَاسُ إذَا تَقَرَّرَتْ الْمَذَاهِبُ وَالْمَدَارِكُ وَأَجْوِبَتُهَا ، وَتَعَيَّنَ فِيهَا الْحَقُّ وَأَنَّهُ إنْشَاءٌ فِي الْجَمِيعِ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الْإِنْشَاءِ فَتَفَطَّنْ لَهَا فَهِيَ مُشْكِلَةٌ جِدًّا ، وَمَنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِحَقِيقَةِ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَيَعْلَمُ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُفْتِي عِلْمًا وَاضِحًا أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ السَّابِقِ وَالْحُكْمِ اللَّاحِقِ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ كَمَا يَكُونُ بِالْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ يَكُونُ بِالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ ، وَلِذَلِكَ صُورُ الْأُولَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْشَأَ السَّبَبَ فِي زَوَالِ الشَّمْسِ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ ، وَأَنْزَلَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ دَالًّا عَلَى مَا قَامَ بِذَاتِهِ مِنْ هَذَا الْإِنْشَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } إلَى قَوْلِهِ وَفِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمٌ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ الْإِنْشَاءُ الْقَدِيمُ ، وَلَيْسَ فِي الْأَزَلِ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ إلَى آخِرِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ ) قُلْتُ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ إنْ أَرَادَ بِتَقْدِيرِ الْوُجُودِ الِاحْتِمَالَ الَّذِي يَلْزَمُهُ التَّرَدُّدُ كَمَا فِي حَقِّنَا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ ، وَإِنْ أَرَادَ مُجَرَّدَ الْإِمْكَانِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَالْمُرَادُ أَنَّ التَّكْلِيفَ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَنْ يُمْكِنُ وُجُودُهُ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَتَحَقَّقَ وُجُودُهُ وَحِينَئِذٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّكْلِيفُ .
قَالَ ( وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ الْفَرْقَ إنَّمَا هُوَ فِي الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ اللُّغَوِيَّيْنِ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ إلَى قَوْلِهِ فَلَا تَلْزَمُ مُنَافَاةُ الْأَزَلِ لِلْإِنْشَاءِ النَّفْسَانِيِّ وَلَا الْحُدُوثُ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ صَحِيحٌ .
قَالَ ( فَإِنْ قُلْتَ لِمَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُمُورُ إخْبَارَاتٍ عَنْ إرَادَةِ وُقُوعِ الْعِقَابِ إلَى آخِرِ جَوَابِهِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ وَاضِحٌ قَالَ : ( الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي تَرْجِيحِ الْمَذْهَبِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ وَتَخْرِيجِ الْجَوَابِ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) يَكُونُ الْإِنْشَاءُ بِالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ كَمَا يَكُونُ بِالْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ وَلِذَلِكَ ثَلَاثُ صُوَرٍ : الصُّورَةُ الْأُولَى الْأَسْبَابُ وَالشُّرُوطُ وَالْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إفْرَادِهَا وَمَا وَرَدَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ أَدِلَّةٌ عَلَى مَا قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْإِنْشَاءَاتِ لَا نَفْسِهَا وَإِلَّا يَلْزَمُ اتِّحَادُ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ فَأَنْشَأَ تَعَالَى السَّبَبِيَّةَ فِي زَوَالِ الشَّمْسِ لِوُجُوبِ الظُّهْرِ وَأَنْزَلَ قَوْله تَعَالَى { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } دَالًّا عَلَى مَا قَامَ بِذَاتِهِ مِنْ هَذَا الْإِنْشَاءِ ، وَكَذَلِكَ إنْشَاءُ الشَّرْطِيَّةِ فِي الزَّكَاةِ وَفِي الْحَوْلِ وَفِي الصَّلَاةِ فِي الطَّهَارَةِ وَالْمَانِعِيَّةِ مِنْ الْمِيرَاثِ فِي الْكُفْرِ وَمِنْ الصَّلَاةِ فِي الْحَدَثِ وَجُعِلَ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ دَالًّا عَلَى مَا قَامَ بِذَاتِهِ مِنْ هَذِهِ الْإِنْشَاءَاتِ .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِبَاحَةُ كُلُّهَا قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ إنَّمَا هِيَ أَدِلَّةٌ عَلَى مَا قَامَ بِذَاتِهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ مِنَّا إذَا قَالَ لِغُلَامِهِ اسْقِنِي فَقَدْ أَنْشَأَ فِي نَفْسِهِ إيجَابًا وَطَلَبًا لِلْمَاءِ قَبْلَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ .
وَكَذَلِكَ النَّهْيُ وَغَيْرُ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ إنْشَاءَ الْخَلْقِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ حَادِثٌ وَفِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمٌ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ يُوجِبُ مَثَلًا عَلَى مَنْ يُمْكِنُ وُجُودُهُ مُجْتَمِعَ الشَّرَائِطِ مُزَالَ الْمَوَانِعِ فَيَتَقَدَّمُ مِنْهُ تَعَالَى الطَّلَبُ عَلَى وُجُودِ الْمَطْلُوبِ كَمَا أَنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ طَلَبَ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْفَضَائِلِ مِنْ وِلْدَانِ رِزْقِهِ وَهُوَ الْآنَ لَا وَلَدَ لَهُ ، فَيَتَقَدَّمُ مِنَّا الطَّلَبُ عَلَى وُجُودِ
الْمَطْلُوبِ وَكَوْنُ الْإِنْشَاءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ طَارِئًا عَلَى الْخَبَرِ كَمَا مَرَّ إنَّمَا هُوَ فِي الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ اللُّغَوِيَّيْنِ أَمَّا الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ فَوَاحِدٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُتَعَلِّقَاتِهِ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَحَدِ النَّقِيضَيْنِ الْوُجُودِ أَوْ الْعَدَمِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ فَهُوَ الْخَبَرُ ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى وَجْهِ التَّرْجِيحِ فَإِنْ كَانَ طَرَفُ الْوُجُودِ فَهُوَ الْإِيجَابُ أَوْ فِي طَرَفِ الْعَدَمِ فَهُوَ التَّحْرِيمُ أَوْ تَعَلَّقَ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فَهُوَ الْإِبَاحَةُ وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ بَلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَصْلِ الْكَلَامِ رُتْبَةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا زَمَانِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ يَقْضِي بِتَقْدِيمِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ بِالرُّتْبَةِ تَقْدِيمًا عَقْلِيًّا لَا زَمَانِيًّا فَلَا تَلْزَمُ مُنَافَاةُ الْأَزَلِ لِلْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ وَلَا الْحُدُوثِ ، وَكَوْنُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ إنْشَاءَاتٍ لَا إخْبَارَاتٍ عَنْ إرَادَةِ وُقُوعِ الْعِقَابِ عَلَى مَنْ خَالَفَ وَعَصَى يَتَّضِحُ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ .
وَثَانِيهِمَا أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ إخْبَارَاتٍ عَنْ إرَادَةِ الْعِقَابِ لَلَزِمَ إمَّا وُجُوبُ عِقَابِ كُلِّ عَاصٍ ، وَإِمَّا الْخُلْفُ ، وَالثَّانِي مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى حُصُولِ الْعَفْوِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلِلنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { النَّدَمُ تَوْبَةٌ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ } وَلِلصُّورَةِ الثَّالِثَةِ اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ فِي قَوْله تَعَالَى جَزَاءِ الصَّيْدِ { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْوَاجِبُ فِي الصَّيْدِ مِثْلُهُ مِنْ النِّعَمِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ، ثُمَّ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ وَيَقَعُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمِثْلِ
وَالْإِطْعَامِ وَالصَّوْمِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْحُكْمُ فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ ، وَالِاجْتِهَادُ مِنْ مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ سَعْيٌ فِي تَخْطِئَةِ الْمُجْمِعِينَ فَيَكُونُ الْعَامُّ مَخْصُوصًا بِصُوَرِ الْإِجْمَاعِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ فِي زَمَانِنَا يُنْشِئَانِ الْإِلْزَامَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ ، وَيَكُونُ مُدْرَكُهُمَا فِي ذَلِكَ هُوَ الْإِجْمَاعُ فِي الصُّورَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا ، وَالنُّصُوصُ وَالْأَقْيِسَةُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهَا فَالْحُكْمُ فِي زَمَانِنَا عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ ، وَالنَّصُّ بَاقٍ عَلَى الْعُمُومِ وَلَا حَاجَةَ لِتَخْصِيصِهِ ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا تَقَرَّرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ وَبَيْنَ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ إنْشَاءٌ لِنَفْسِ ذَلِكَ الْإِلْزَامِ إنْ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ أَوْ لِنَفْسِ تِلْكَ الْإِبَاحَةِ وَالْإِطْلَاقِ إنْ كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَحُكْمِ الْحَاكِمِ بِأَنَّ الْمَوَاتَ إذَا بَطَلَ إحْيَاؤُهُ صَارَ مُبَاحًا لِجَمِيعِ النَّاسِ وَالْفَتْوَى بِذَلِكَ إخْبَارٌ صِرْفٌ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ ، وَأَنَّ الْحَاكِمَ مُلْزِمٌ وَالْمُفْتِيَ مُخْبِرٌ ، وَأَنَّ نِسْبَتَهُمَا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ كَنِسْبَةِ نَائِبِ الْأَحْكَامِ وَالْمُتَرْجِمِ عَنْهُ فَنَائِبُهُ يُنْشِئُ أَحْكَامًا لَمْ تُقَرَّرْ عِنْدَ مُسْتَنِيبِهِ بَلْ يُنْشِئُهَا عَلَى قَوَاعِدِهِ كَمَا يُنْشِئُهَا الْأَصْلُ .
وَلَا يَحْسُنُ مِنْ مُسْتَنِيبِهِ أَنْ يُصَدِّقَهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ وَلَا يُكَذِّبَهُ بَلْ يُخَطِّئُهُ أَوْ يُصَوِّبُهُ بِاعْتِبَارِ الْمُدْرَكِ الَّذِي اعْتَمَدَهُ ، وَالْمُتَرْجِمُ يُخْبِرُ عَمَّا قَالَهُ الْحَاكِمُ لِمَنْ لَا يَعْرِفُ كَلَامَ الْحَاكِمِ لِعُجْمَتِهِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَانِعِ الْفَهْمِ فَلِلْحَاكِمِ أَنْ يُصَدِّقَهُ إنْ صَدَقَ ، وَيُكَذِّبَهُ إنْ كَذَبَ وَقَدْ وَضَعَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْفَرْقِ كِتَابًا نَفِيسًا فِيهِ
أَرْبَعُونَ مَسْأَلَةً تَتَعَلَّقُ بِتَحَقُّقِهِ سَمَّاهُ بِالْأَحْكَامِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ وَتَصَرُّفِ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ النَّصُّ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الصَّيْدِ إنَّمَا هُوَ الْقِيمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْفَاصِلِ الشَّاهِدِ مُسْتَدِلًّا بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْجَزَاءَ جَعَلَهُ قَوْله تَعَالَى { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } لَلْمِثْلِ لَا لِلصَّيْدِ نَفْسِهِ فَالنَّعَمُ وَاجِبَةٌ فِي الْمِثْلِ الَّذِي هُوَ الْقِيمَةُ لَا لِلصَّيْدِ نَفْسِهِ وَثَانِيهَا أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى جَعْلِ الْجَزَاءِ لِلْمِثْلِ لَا لِلصَّيْدِ أَنْ قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّيْدِ لَا خَاصٌّ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ النَّعَمِ كَالْعَصَافِيرِ وَالنَّمْلِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ جَعْلِ الْجَزَاءِ لِلصَّيْدِ لَا لِلْمِثْلِ ، وَعَدَمُ التَّخْصِيصِ أَوْلَى .
وَثَالِثُهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اشْتَرَطَ الْحَكَمَيْنِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَأَتَّى بَاقِيًا عَلَى عُمُومِهِ إذَا جَعَلْنَا الْجَزَاءَ لِلْمِثْلِ لَا إذَا جَعَلْنَاهُ لِلصَّيْدِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ عَلَى تَقْوِيمِ صَيْدٍ أَنْ لَا نُقَوِّمَهُ نَحْنُ بَعْدَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْقِيمَةِ فِي أَفْرَادِ النَّوْعِ الْوَاحِدِ وَلَا يُغْنِي تَقْوِيمٌ عَنْ تَقْوِيمٍ فَيَبْقَى الْعُمُومُ عَلَى عُمُومِهِ فِي الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
وَيَلْزَمُ بَعْدَ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ فِي الضَّبُعِ شَاةً وَفِي الْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ بَقَرَةً وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي يُفْرَضُ حُصُولُ الِاجْتِمَاعِ فِيهَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ وَلَا يَبْقَى لِلْحُكْمِ مِنَّا وَالِاجْتِهَادِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعْنًى أَلْبَتَّةَ إلَّا فِي الصُّوَرِ الَّتِي لَمْ يُجْمِعْ فِيهَا الصَّحَابَةُ كَالْفِيلِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَفْرَادِ الصَّيْدِ فَيَلْزَمُ التَّخْصِيصُ ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَرَابِعُهَا أَنَّ الصَّيْدَ مُتْلَفٌ
يَوْمَ الْمُتْلَفَاتِ فَتَجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ فَجَوَابُهُ عَنْ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْآيَةَ كَمَا قُرِئَتْ ( فَجَزَاءُ مِثْلِ ) بِالْإِضَافَةِ فَصَارَتْ مُحْتَمِلَةً لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِمَا ذَكَرْتُمُوهُ ، كَذَلِكَ قُرِئَتْ { فَجَزَاءٌ } بِالتَّنْوِينِ وَ { مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } نَعْتٌ لَهُ فَتَكُونُ صَرِيحَةً فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْجَزَاءِ لِلصَّيْدِ لِلْمِثْلِ فَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعًا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ .
وَهُوَ أَوْلَى مِنْ التَّعَارُضِ وَعَنْ الْأَمْرِ الثَّانِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ } يُحْمَلُ عَلَى الْخُصُوصِ وَيَبْقَى الظَّاهِرُ وَهُوَ مَرْجِعُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } عَلَى عُمُومِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إلَّا أَنْ يَعْفُونَ } خَاصٌّ بِالرَّشِيدَاتِ وَالْمُطَلَّقَاتِ مَرْجِعُهُ عَلَى عُمُومِهِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } خَاصٌّ بِالرَّجْعِيَّاتِ مَعَ بَقَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ مَرْجِعُهُ عَلَى عُمُومِهِ وَعَنْ الْأَمْرِ الثَّالِثِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَيْنِ يُنْشِئَانِ الْإِلْزَامَ ، وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي حُكْمَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ إذْ لَوْ نَافَاهُ وَكَانَ رَدًّا لِحُكْمِهِمْ لَكَانَ حُكْمُهُمْ أَيْضًا رَدًّا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حَكَمَ فِي الضَّبُعِ بِشَاةٍ } أَيْضًا ، وَعَنْ الْأَمْرِ الرَّابِعِ أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْجَوَابِرِ بَلْ مِنْ بَابِ الْكَفَّارَاتِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ كَفَّارَةً فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } فَبَطَلَ الْقِيَاسُ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا كُلُّهُ ، وَثَبَتَ أَنَّ حُكْمَ ذَوِي الْعَدْلِ مِنْكُمْ فِي الصَّيْدِ مِنْ مَسَائِلِ الْإِنْشَاءِ لَا الْخَبَرِ لَمْ يَبْقَ إشْكَالٌ بَيْنَ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ السَّابِقِ وَالْحُكْمِ اللَّاحِقِ فَتَفَطَّنْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الطَّلَاقِ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ ، وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ فِي الطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ قَوْلَانِ وَهُمْ الْجُمْهُورُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اعْتَقَدَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ بِلِسَانِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ وَهَذِهِ عِبَارَةُ صَاحِبِ الْجَلَّابِ وَالْعِبَارَتَانِ غَيْرُ مُفْصِحَتَيْنِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ مَنْ نَوَى طَلَاقَ امْرَأَتِهِ ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ وَصَمَّمَ ثُمَّ بَدَا لَهُ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ إجْمَاعًا فَقَوْلُهُمْ فِي الطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ قَوْلَانِ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ إجْمَاعًا ، وَكَذَلِكَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ امْرَأَتَهُ مُطَلَّقَةٌ ، وَجَزَمَ بِذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقٌ إجْمَاعًا ، وَإِنَّمَا الْعِبَارَةُ الْحَسَنَةُ مَا أَتَى بِهَا صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ ، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ الْكَلَامُ النَّفْسَانِيُّ وَمَعْنَاهُ إذَا أَنْشَأَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ بِكَلَامِهِ النَّفْسَانِيِّ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ، وَكَذَلِكَ أَشَارَ إلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ وَقَالَ إنَّهُمَا إنْ اجْتَمَعَا أَعْنِي النَّفْسَانِيَّ وَاللِّسَانِيَّ لَزِمَ الطَّلَاقُ .
فَإِنْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَقَوْلَانِ فَصَارَتْ النِّيَّةُ لَفْظًا مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي اصْطِلَاحِ أَرْبَابِ الْمَذْهَبِ ، يُطْلَقُ عَلَى الْقَصْدِ وَالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ فَيَقُولُونَ صَرِيحُ الطَّلَاقِ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ إجْمَاعًا ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ إجْمَاعًا وَفِي احْتِيَاجِهِ إلَى النِّيَّةِ قَوْلَانِ ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ لَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالْأَوَّلِ قَصْدَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَوْضُوعِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْكِنَايَةِ دُونَ الصَّرِيحِ ، وَيُرِيدُونَ بِالثَّانِي الْقَصْدَ لِلنُّطْقِ بِصِيغَةِ الصَّرِيحِ احْتِرَازًا عَنْ النَّائِمِ وَمَنْ يَسْبِقُهُ لِسَانُهُ ، وَيُرِيدُونَ بِالثَّالِثِ الْكَلَامَ النَّفْسَانِيَّ وَقَدْ بَسَطْتُ هَذِهِ
الْمَبَاحِثَ فِي كِتَابِ الْأُمْنِيَةِ فِي إدْرَاكِ النِّيَّةِ إذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الطَّلَاقَ يَنْشَأُ بِالْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الْإِنْشَاءِ فِي كَلَامِ النَّفْسِ ، وَكَذَلِكَ الْيَمِينُ أَيْضًا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا هَلْ تَنْعَقِدُ بِإِنْشَاءِ كَلَامِ النَّفْسِ وَحْدَهُ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ اللَّفْظِ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ فَسَادُ قِيَاسِ مَنْ قَاسَ لُزُومَ الطَّلَاقِ بِكَلَامِ النَّفْسِ عَنْ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِمَا كَلَامُ النَّفْسِ ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْجَلَّابِ وَغَيْرِهِ .
وَوَجْهُ الْفَسَادِ أَنَّ هَذَا إنْشَاءٌ ، وَالْكُفْرُ لَا يَقَعُ بِالْإِنْشَاءِ وَإِنَّمَا يَقَعُ بِالْإِخْبَارِ وَالِاعْتِقَادِ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالِاعْتِقَادُ مِنْ بَابِ الْعُلُومِ وَالظُّنُونِ لَا مِنْ بَابِ الْكَلَامِ وَهُمَا بَابَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا يُقَاسُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ هُوَ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي الْإِيمَانِ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الِاعْتِقَادِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ النُّطْقِ بِاللِّسَانِ مَعَ الْإِمْكَانِ عَلَى مَشْهُورِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ وَغَيْرِهِ فَيَنْعَكِسُ هَذَا الْقِيَاسُ عَلَى قَائِسِهِ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ ، وَيَقُولُ وَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ إلَى اللَّفْظِ قِيَاسًا عَلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى إنْ سُلِّمَ لَهُ أَنَّ الْبَابَيْنِ وَاحِدٌ ، فَكَيْفَ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يَجْرِي فِي الْمُتَمَاثِلَاتِ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الطَّلَاقِ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ .
( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الطَّلَاقِ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ فِيهِ وَالْعِبَارَةُ الْحَسَنَةُ مَا فِي الْجَوَاهِرِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا أَنْشَأَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ بِكَلَامِهِ النَّفْسَانِيِّ ، وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ لَا مَا فِي عِبَارَةِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي الطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ قَوْلَيْنِ وَمَا فِي عِبَارَةِ الْجَلَّابِ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ بِلِسَانِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ فَإِنَّ مَنْ نَوَى طَلَاقَ امْرَأَتِهِ وَعَزَمَ عَلَيْهِ وَصَمَّمَ ثُمَّ بَدَا لَهُ لَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ إجْمَاعًا ، وَكَذَلِكَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ امْرَأَتَهُ مُطَلَّقَةً وَجَزَمَ بِذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ خِلَافُ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقٌ إجْمَاعًا .
( قُلْتُ ) فَمِنْ هُنَا نَقَلَ الْبُنَانِيُّ عَنْ التَّوْضِيحِ مَا نَصُّهُ الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ إذَا أَنْشَأَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِهِ بِكَلَامِهِ النَّفْسَانِيِّ ، وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ اللُّزُومِ لِمَالِكٍ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَهُوَ الَّذِي يَنْصُرُهُ أَهْلُ الْمَذْهَبِ الْقَرَافِيِّ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَالْقَوْلُ بِاللُّزُومِ لِمَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ قَالَ فِي الْبَيَانِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ هُوَ الْأَشْهَرُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ حَلٌّ لِلْعِصْمَةِ الْمُنْعَقِدَةِ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَلُّهَا كَذَلِكَ إنَّمَا يُكْتَفَى بِالنِّيَّةِ فِي التَّكَالِيفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقَلْبِ لَا فِيمَا بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ .
ا هـ وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَى الْأَوَّلِ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي مَجْمُوعِهِ حَيْثُ قَالَ لَا بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ عَلَى الرَّاجِحِ ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ إنْ اجْتَمَعَ النَّفْسَانِيُّ وَاللِّسَانِيُّ لَزِمَ الطَّلَاقُ فَإِنْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَقَوْلَانِ ا هـ
فَالنِّيَّةُ فِي اصْطِلَاحِ أَرْبَابِ الْمَذْهَبِ تُطْلَقُ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ عَلَى الْقَصْدِ وَعَلَى الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ صَرِيحُ الطَّلَاقِ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ إجْمَاعًا ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ إجْمَاعًا وَفِي احْتِيَاجِهِ إلَى النِّيَّةِ قَوْلَانِ وَظَاهِرُهُ التَّنَاقُضُ لَكِنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالْأَوَّلِ قَصْدَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَوْضِعِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا فِي الْكِنَايَةِ دُونَ التَّصْرِيحِ ، وَيُرِيدُونَ بِالثَّانِي الْقَصْدَ لِلنُّطْقِ بِصِيغَةِ التَّصْرِيحِ احْتِرَازًا عَنْ النَّائِمِ وَمَنْ يَسْبِقُهُ لِسَانُهُ .
وَيُرِيدُونَ بِالثَّالِثِ الْكَلَامَ النَّفْسَانِيَّ وَكَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي انْعِقَادِ الطَّلَاقِ بِإِنْشَاءِ كَلَامِ النَّفْسِ وَحْدَهُ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ اللَّفْظِ كَذَلِكَ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْيَمِينِ ، وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ أَنَّ مَا فِي الْجَلَّابِ وَغَيْرِهِ مِنْ قِيَاسِ لُزُومِ الطَّلَاقِ بِكَلَامِ النَّفْسِ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِمَا كَلَامُ النَّفْسِ فَاسِدٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ الطَّلَاقَ إنْشَاءٌ وَهُمَا لَا يَقَعَانِ إلَّا بِالْإِخْبَارِ وَالِاعْتِقَادِ .
وَثَانِيهَا أَنَّ الِاعْتِقَادَ مِنْ بَابِ الْعُلُومِ وَالظُّنُونِ لَا مِنْ بَابِ الْكَلَامِ وَالْبَابَانِ مُخْتَلِفَانِ فَلَا يُقَاسُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ .
وَثَالِثُهَا أَنَّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ الِاعْتِقَادِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ النُّطْقِ بِاللِّسَانِ مَعَ الْإِمْكَانِ عَلَى مَشْهُورِ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ وَغَيْرُهُ كَانَ اللَّازِمُ أَنْ يُقَالَ فِي الْقِيَاسِ عَلَى فَرْضِ تَسْلِيمِ أَنَّ الْبَابَيْنِ وَاحِدٌ يَجِبُ أَنْ يُفْتَقَرَ الطَّلَاقُ إلَى اللَّفْظِ قِيَاسًا عَلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّيَغِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْإِنْشَاءِ الْوَاقِعُ الْيَوْمَ فِي الْعَادَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ تَصِحُّ بِالْمُضَارِعِ دُونَ الْمَاضِي وَاسْمِ الْفَاعِلِ فَيَقُولُ الشَّاهِدُ أَشْهَدُ بِكَذَا عِنْدَك أَيَّدَكَ اللَّهُ وَلَوْ قَالَ شَهِدْتُ بِكَذَا ، أَوْ أَنَا شَاهِدٌ بِكَذَا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، وَالْبَيْعُ يَصِحُّ بِالْمَاضِي دُونَ الْمُضَارِعِ عَكْسُ الشَّهَادَةِ فَلَوْ قَالَ : أَبِيعُكَ بِكَذَا أَوْ قَالَ أُبَايِعُكَ بِكَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ عِنْدَ مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَلْفَاظِ كَالشَّافِعِيِّ ، وَمَنْ لَا يَعْتَبِرُهَا لَا كَلَامَ مَعَهُ ، وَإِنْشَاءُ الطَّلَاقِ يَقَعُ بِالْمَاضِي نَحْوَ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا وَاسْمِ الْفَاعِلِ نَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا دُونَ الْمُضَارِعِ نَحْوَ أُطَلِّقُكِ ثَلَاثًا ، وَسَبَبُ هَذِهِ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْأَبْوَابِ النَّقْلُ الْعُرْفِيُّ مِنْ الْخَبَرِ إلَى الْإِنْشَاءِ فَأَيُّ شَيْءٍ نَقَلَتْهُ الْعَادَةُ لِمَعْنًى صَارَ صَرِيحًا فِي الْعَادَةِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ فَيَعْتَمِدُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لِصَرَاحَتِهِ وَيَسْتَغْنِي الْمُفْتِي عَنْ طَلَبِ النِّيَّةِ مَعَهُ لِصَرَاحَتِهِ أَيْضًا وَمَا هُوَ لَمْ تَنْقُلْهُ الْعَادَةُ لِإِنْشَاءِ ذَلِكَ الْمَعْنَى يَتَعَذَّرُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ ، فَنَقَلَتْ الْعَادَةُ فِي الشَّهَادَةِ الْمُضَارِعَ وَحْدَهُ وَفِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ اسْمَ الْفَاعِلِ وَالْمَاضِيَ فَإِنْ اتَّفَقَ وَقْتٌ آخَرُ تَحْدُثُ فِيهِ عَادَةٌ أُخْرَى تَقْتَضِي نَسْخَ هَذِهِ الْعَادَةِ وَتَجَدُّدَ عَادَةٍ أُخْرَى اتَّبَعْنَا الثَّانِيَةَ وَتَرَكْنَا الْأُولَى وَيَصِيرُ الْمَاضِي فِي الْبَيْعِ وَالْمُضَارِعُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى حَسَبِ مَا تُجَدِّدُهُ الْعَادَةُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ وَاضْبُطْهُ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْحَقَائِقَ الْعُرْفِيَّةَ وَأَحْكَامَهَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ الْفَرْقُ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَظْهَرُ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمُدْرَكَ هُوَ تَجَدُّدُ
الْعَادَةِ غَيْرَ أَنَّ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَقُولُوا إنَّ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ وُجُودُ اللَّفْظِ الْمَنْقُولِ أَمَّا مُجَرَّدُ الْفِعْلِ وَالْمُعَاطَاةِ الَّذِي يَقْصِدُهُ مَالِكٌ فَمَمْنُوعٌ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّيَغِ الَّتِي يَقَعُ بِهَا الْإِنْشَاءِ الْوَاقِعُ الْيَوْمَ فِي الْعَادَةِ إنَّ الشَّهَادَةَ تَصِحُّ بِالْمُضَارِعِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اعْتِبَارِ مُعَيَّنَاتِ الْأَلْفَاظِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَشْتَرِطُهَا كَمَا قَالَ فَيَصِحُّ تَنَقُّلُ الْعَادَاتِ فِيهَا بِحَسَبِ الْعُرْفِ الْحَادِثِ كَمَا ذَكَرَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ تَصِحُّ بِالْمُضَارِعِ دُونَ الْمَاضِي وَاسْمِ الْفَاعِلِ ، فَيُقْبَلُ قَوْلُ الشَّاهِدِ أَشْهَدُ بِكَذَا دُونَ قَوْلِهِ شَهِدْتُ بِكَذَا وَأَنَا شَاهِدٌ بِكَذَا ، وَبَيْنَ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ يَنْعَقِدُ الْأَوَّلُ بِالْمَاضِي كَبِعْتُكَ بِكَذَا وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْمُضَارِعِ كَأَبِيعُكَ بِكَذَا أَوْ أُبَايِعُكَ بِكَذَا عِنْدَ مَنْ يَعْتَمِدُ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَلْفَاظِ كَالشَّافِعِيِّ لَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِانْعِقَادِ الْبَيْعِ بِمُجَرَّدِ الْمُعَاطَاةِ ، وَيَقَعُ إنْشَاءُ الثَّانِي بِالْمَاضِي نَحْوَ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثًا وَاسْمِ الْفَاعِلِ نَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا دُونَ الْمُضَارِعِ نَحْوَ أُطَلِّقُكِ ثَلَاثًا سَبَبُهُ النَّقْلُ الْعُرْفِيُّ مِنْ الْخَبَرِ إلَى الْإِنْشَاءِ ، فَأَيُّ شَيْءٍ نَقَلَتْهُ الْعَادَةُ لِمَعْنًى صَارَ صَرِيحًا فِي الْعَادَةِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ الْعُرْفِيِّ فَيَعْتَمِدُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ كَمَا يُسْتَفْتَى الْمُفْتِي عَنْ طَلَبِ النِّيَّةِ مَعَهُ لِصَرَاحَتِهِ ، وَمَا لَمْ تَنْقُلْهُ الْعَادَةُ لِإِنْشَاءِ ذَلِكَ الْمَعْنَى يَتَعَذَّرُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ فَنَقَلَتْ الْعَادَةُ فِي الشَّهَادَةِ الْمُضَارِعَ وَحْدَهُ وَفِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ اسْمَ الْفَاعِلِ وَالْمَاضِيَ ، فَإِنْ اتَّفَقَ تَجَدُّدُ عَادَةٍ أُخْرَى فِي وَقْتٍ آخَرَ تَقْتَضِي نَسْخَ هَذِهِ الْعَادَةِ اتَّبَعْنَا الثَّانِيَةَ ، وَتَرَكْنَا الْأُولَى وَيَصِيرُ الْمَاضِي فِي الْبَيْعِ وَالْمُضَارِعُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى حَسَبِ مَا تُجَدِّدُهُ الْعَادَةُ ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ نُظِرَ إلَى أَنَّ الْمُدْرَكَ هُوَ تَجَدُّدُ الْعَادَةِ نَعَمْ لِلشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَقُولُوا إنَّ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ وُجُودُ اللَّفْظِ الْمَنْقُولِ أَمَّا مُجَرَّدُ الْفِعْلِ وَالْمُعَاطَاةِ الَّذِي يَقْصِدُهُ مَالِكٌ فَمَمْنُوعٌ
( فَصْلٌ ) : قَدْ تَقَدَّمَ تَذْيِيلُ الْإِنْشَاءِ بِمَسَائِلَ تُوَضِّحُهُ وَهِيَ حَسَنَةٌ فِي بَابِهَا فَنُذَيِّلُ الْخَبَرَ أَيْضًا بِثَمَانِ مَسَائِلَ غَرِيبَةٍ مُسْتَحْسَنَةٍ فِي بَابِهَا تَكُونُ طُرْفَةً لِلْوَاقِفِ .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى إذَا قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ كَذِبٌ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ قِيلَ هَذَا الْقَوْلُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ مُحَالَانِ عَقْلًا : أَحَدُهُمَا ارْتِفَاعُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عَنْ الْخَبَرِ وَهُمَا خَصِيصَةٌ مِنْ خَصَائِصِهِ ، وَارْتِفَاعُ خَصِيصَةِ الشَّيْءِ عَنْهُ مَعَ بَقَائِهِ مُحَالٌ بَيَانُهُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا يَكُونُ صِدْقًا ؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ هُوَ الْخَبَرُ الْمُطَابِقُ ، وَالْمُطَابَقَةُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ خَبَرٌ آخَرُ حَتَّى تَقَعَ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْخَبَرِ فَلَا يَكُونُ صِدْقًا .
وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ فَلِأَنَّ الْكَذِبَ هُوَ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ ، وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَرْعُ تَقَرُّرِهِمَا .
وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِي هَذَا الْبَيْتِ خَبَرُ صِدْقٍ حَتَّى يَكُونَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَذِبٌ كَذِبًا فَلَا يَكُونُ هَذَا الْخَبَرُ صِدْقًا وَلَا كَذِبًا وَهُوَ مُحَالٌ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا ، وَالْمُحَالُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ ارْتِفَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَارْتِفَاعُهُمَا مُحَالٌ عَقْلًا لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا ، بَيَانُهُ أَنَّ الصِّدْقَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُطَابَقَةِ ، وَالْكَذِبَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ ، وَالْمُطَابَقَةُ وَعَدَمُهَا نَقِيضَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ فَيَكُونُ النَّقِيضَانِ قَدْ ارْتَفَعَا عَنْهُ وَهُوَ مُحَالٌ ، وَهَذَا الْإِشْكَالُ مِنْ الْأَسْئِلَةِ الصَّعْبَةِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ الْجَوَابُ عَنْهَا إلَى فِكْرٍ دَقِيقٍ وَنَظَرٍ عَوِيصٍ .
وَالْجَوَابُ أَنْ نَخْتَارَ
أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ كَذِبٌ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ يُصَدَّقُ بِطَرِيقَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُوجَدَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْخَبَرِ كَمَنْ قَالَ زَيْدٌ قَائِمٌ وَهُوَ لَيْسَ بِقَائِمٍ فَهَذَا كَذِبٌ ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ ، وَثَانِيهِمَا أَنْ لَا يُوجَدَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ فَيُصَدَّقُ أَيْضًا عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ لِعَدَمِ مَا يُطَابِقُهُ الْخَبَرُ لَا لِمُخَالَفَتِهِ لِمَا وُجِدَ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ خَلَقَ زَيْدًا وَحْدَهُ فِي الْعَالَمِ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ أَحَدًا فِي مُعْتَقَدِهِ .
وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ أَحَدًا فِي مُعْتَقَدِهِ فَإِنَّ الْمُوَافَقَةَ وَالْمُخَالَفَةَ لِلْغَيْرِ فَرْعُ وُجُودِ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْغَيْرُ انْتَفَتْ الْمُوَافَقَةُ لَهُ وَالْمُخَالَفَةُ كَذَلِكَ نَقُولُ هَاهُنَا لَمَّا لَمْ يُوجَدْ خَبَرٌ آخَرُ فِي هَذَا الْبَيْتِ صَدَقَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ : كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ كَذِبٌ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِانْتِفَاءِ مَا تَقَعُ الْمُطَابَقَةُ مَعَهُ فَهُوَ كَذِبٌ جَزْمًا ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْهَمَ مِنْ قَوْلِنَا أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقِ هَذَا الْمَعْنَى الْعَامَّ الَّذِي يُصَدَّقُ بِطَرِيقَيْنِ وُجِدَ شَيْءٌ يُخَالِفُهُ الْخَبَرُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ غَيْرَ أَنَّ غَالِبَ الِاسْتِعْمَالِ هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ، وَالْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْعَامِّ ، وَكَذَلِكَ نُجِيبُ عَنْ ارْتِفَاعِ النَّقِيضَيْنِ بِأَنْ نَقُولَ الْوَاقِعُ مِنْهُمَا عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بِالتَّفْسِيرِ الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ ، ذِكْرُهُ وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ قَوْلُهُ كُلُّ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِي كَذِبٌ ، وَكَانَ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ فَهَذَا الْخَبَرُ كَذِبٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْأَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي عُمْرِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ ؛ لِأَنَّهَا
كَانَتْ صِدْقًا وَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْأَخِيرَ وَحْدَهُ فَهُوَ لَيْسَ بِصِدْقٍ لِعَدَمِ خَبَرٍ آخَرَ يُطَابِقُهُ ، وَهُوَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُخْبِرٌ أَنَّ خَبَرَهُ هَذَا الْأَخِيرَ خَبَرَانِ : أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْآخَرِ وَهُوَ لَيْسَ خَبَرَيْنِ فَيَكُونُ كَذِبًا قَطْعًا سَوَاءٌ أَرَادَ الْأَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ أَوْ أَرَادَ هَذَا الْخَبَرَ هَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ وَاَلَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ الْخَبَرَ الْأَخِيرَ وَحْدَهُ وَيَكُونُ عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ لِعَدَمِ مَا تُمْكِنُ الْمُطَابَقَةُ مَعَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُطَابَقٍ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ .
فَقَوْلُهُ إنَّهُ كَذِبٌ صَدَقَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَلَا يُقْطَعُ بِكَذِبِ هَذَا الْخَبَرِ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ فَإِنْ كَذَبَ فِي جُمْلَةِ عُمْرِهِ أَوْ فِي جَمِيعِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ ، ثُمَّ قَالَ كُلُّ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ فِي عُمْرِي صِدْقٌ أَوْ جَمِيعُ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ صِدْقٌ فَإِنْ أَرَادَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ قَبْلَ هَذَا الْخَبَرِ فَهُوَ كَاذِبٌ ، وَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْخَبَرَ فَهُوَ كَاذِبٌ أَيْضًا فَإِنَّ الصِّدْقَ مُطَابَقَةُ الْخَبَرِ لِغَيْرِهِ ، وَالْخَبَرُ عَنْ الْخَبَرِ بِأَنَّهُ صِدْقٌ يَقْتَضِي تَقَدُّمَ رُتْبَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَنْ الْخَبَرِ ، وَتَأَخُّرُ الشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ بِالرُّتْبَةِ مُحَالٌ ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَجْمُوعَ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهَذَا الْخَبَرَ فَالْمُطَابَقَةُ لَمْ تَحْصُلْ أَيْضًا فِي الْجَمِيعِ فَهُوَ كَذِبٌ أَيْضًا ، وَكَذِبٌ وَلَمْ يَتَأَتَّ هُنَا فِي الْخَبَرِ الْأَخِيرِ مَا تَأَتَّى لَنَا فِيهِ إذَا قَالَ : أَنَا كَاذِبٌ فِيهِ لِأَنَّ الصِّدْقَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُطَابَقَةُ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى شَيْئَيْنِ حَتَّى تَحْصُلَ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَهُمَا أَمَّا إذَا قَالَ أَنَا كَاذِبٌ فِيهِ فَقَدْ ادَّعَى عَدَمَ الْمُطَابَقَةِ وَهِيَ تُصَدَّقُ بِطَرِيقَيْنِ إمَّا بِمُخْبَرٍ عَنْهُ غَيْرِ مُطَابِقٍ ، وَإِمَّا بِعَدَمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ
بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فَلَا جَرَمَ أَمْكَنَنَا أَنْ نَجْعَلَ الْخَبَرَ الْوَاحِدَ كَذِبًا وَلَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نَجْعَلَهُ صِدْقًا فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَرْقَ وَلَاحِظْ فِيهِ أَنَّ الْكَذِبَ أَعَمُّ ، وَالْأَعَمُّ قَدْ يُوجَدُ حَيْثُ لَا يُوجَدُ الْأَخَصُّ ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ الْبَابَيْنِ وَقَصَرَ الْكَذِبَ فِي عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ عَلَى أَحَدِ قِسْمَيْهِ وَقَالَ إذَا قَالَ أَنَا كَاذِبٌ فِي الْخَبَرِ الْأَخِيرِ هُوَ كَاذِبٌ لَتَأَخَّرَ الْخَبَرُ عَنْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ بِالرُّتْبَةِ ، وَتَأَخُّرُ الشَّيْءِ عَنْ نَفْسِهِ مُحَالٌ لَكِنْ الْكَذِبُ أَعَمُّ مِمَّا ادَّعَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَهُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( فَصْلٌ قَدْ تَقَدَّمَ تَذْيِيلُ الْإِنْشَاءِ بِمَسَائِلَ تُوَضِّحُهُ وَهِيَ حَسَنَةٌ فِي بَابِهَا فَنُذَيِّلُ الْخَبَرَ أَيْضًا بِثَمَانِ مَسَائِلَ غَرِيبَةٍ مُسْتَحْسَنَةٍ فِي بَابِهَا تَكُونُ طُرْفَةً لِلْوَاقِفِ .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى إذَا قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ كَذِبٌ ، وَلَمْ يَكُنْ قَالَ شَيْئًا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ قِيلَ هَذَا الْقَوْلُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ مُحَالَانِ عَقْلًا أَحَدُهُمَا ارْتِفَاعُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عَنْ الْخَبَرِ ، وَهُمَا خَصِيصَةٌ مِنْ خَصَائِصِهِ ، وَارْتِفَاعُ خَصِيصَةِ الشَّيْءِ عَنْهُ مَعَ بَقَائِهِ مُحَالٌ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ بِتَقْرِيرِ الْإِشْكَالِ ) قُلْتُ مَا قَالَهُ مِنْ لُزُومِ ارْتِفَاعِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ ظَاهِرٌ .
قَالَ ( وَالْجَوَابُ أَنَّا نَخْتَارُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ كَذِبٌ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَيْسَ بِمُطَابِقٍ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ ، وَكَذَلِكَ نُجِيبُ عَنْ ارْتِفَاعِ النَّقِيضَيْنِ بِأَنْ نَقُولَ الْوَاقِعُ مِنْهُمَا عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بِالتَّفْسِيرِ الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ ) قُلْتُ : هُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى إشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ كَذِبٌ ، ثُمَّ قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ صِدْقٌ فَإِنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ خَبَرَانِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِهِمَا عَنْ مُخْبَرٍ وَاحِدٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَصْدُقَ أَحَدُ خَبَرَيْهِ وَيَكْذِبَ الْآخَرُ ، وَإِلَّا أَدَّى ذَلِكَ إلَى اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ وَقِيَاسُ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَهُوَ صِدْقٌ أَنَّ خَبَرَهُ ذَلِكَ كَذِبٌ إذَا كَانَ لَمْ يَقُلْ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ شَيْئًا فَلَازِمُ ذَلِكَ أَنَّ إخْبَارَهُ عَمَّا قَالَهُ فِي الْبَيْتِ بِأَنَّهُ صِدْقٌ ، وَبِأَنَّهُ كَذِبٌ إخْبَارُ كَذِبٍ فَقَدْ اجْتَمَعَ الضِّدَّانِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّ الضِّدَّيْنِ لَمْ يَجْتَمِعَا فِي ثُبُوتٍ ، وَذَلِكَ هُوَ الِاجْتِمَاعُ الْمُمْتَنِعُ ،
وَأَمَّا الِاجْتِمَاعُ فِي النَّفْيِ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ ، وَكَوْنُ كِلَا الْخَبَرَيْنِ كَذِبًا نَفْيٌ لَكِنْ يَبْقَى أَنْ يُقَالَ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ فِي الِانْتِفَاءِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ إذَا كَانَا غَيْرَ مُنْحَصِرَيْنِ بَلْ يَكُونُ لَهُمَا ضِدٌّ ثَالِثٌ ، أَمَّا إذَا كَانَا مُنْحَصِرَيْنِ فَهُمَا كَالنَّقِيضَيْنِ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي ثُبُوتٍ وَلَا انْتِفَاءٍ ، وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ مُنْحَصِرَانِ فَلَا يَصِحُّ ثُبُوتُهُمَا لِخَبَرٍ وَاحِدٍ وَلَا انْتِفَاؤُهُمَا مَعًا وَبِالْجُمْلَةِ الْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الْخَبَرِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا ، أَمَّا إذَا قَالَ قَائِلٌ يَكُونُ فِي الْإِخْبَارِ مَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ كَذِبٌ ، أَوْ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ صِدْقٌ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِي تَعَرَّى عَنْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلَا يَلْزَمُ عَلَى مُقْتَضَيْ قَوْلِهِ إشْكَالٌ ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ صِدْقٌ وَكَذِبٌ وَلَا صِدْقَ وَلَا كَذِبَ ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَبَرَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ مُخْبِرِهِ لَا بِالْوُقُوعِ وَلَا بِعَدَمِ الْوُقُوعِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْوُقُوعِ أَوْ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ مُخْبِرِهِ لَا بِالْوُقُوعِ وَلَا بِعَدَمِ الْوُقُوعِ فَهَذَا الْخَبَرُ لَا يَتَّصِفُ لَا بِالصِّدْقِ وَلَا بِالْكَذِبِ ، وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ مُخْبِرِهِ بِالْوُقُوعِ أَوْ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ فَإِمَّا أَنْ يُطَابِقَ أَوْ لَا يُطَابِقَ فَإِنْ طَابَقَ فَهُوَ الصِّدْقُ .
وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ فَهُوَ الْكَذِبُ وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ تَصِحُّ الْقِسْمَةُ الْمُنْحَصِرَةُ ، وَيَبْطُلُ حِينَئِذٍ حَدُّ الْخَبَرِ أَوْ رَسْمُهُ بِأَنَّهُ الْقَوْلُ الَّذِي يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ ، وَيُحَدُّ أَوْ يُرْسَمُ بِأَنَّهُ الْقَوْلُ الَّذِي يَقْصِدُ قَائِلُهُ بِهِ تَعْرِيفَ الْمُخَاطَبِ بِأَمْرٍ إمَّا هَذَا أَوْ مَا يُشْبِهُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ فَإِنْ قِيلَ التَّعْرِيفُ هُوَ الْإِخْبَارُ فَفِيهِ حَدُّ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الرُّسُومَ تَقْرِيبٌ لَا
تَحْقِيقٌ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخَبَرَ مَعْرُوفٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِنْشَاءِ مَعْرُوفٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( وَمِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ قَوْلُهُ كُلُّ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِي كَذِبٌ وَكَانَ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ فَهَذَا الْخَبَرُ كَذِبٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْأَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ فِي عُمْرِهِ فَهُوَ كَاذِبٌ لِأَنَّهَا كَانَتْ صِدْقًا ) قُلْت مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ .
قَالَ ( وَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْخَبَرَ الْأَخِيرَ وَحْدَهُ فَهُوَ لَيْسَ بِصِدْقٍ لِعَدَمِ خَبَرٍ آخَرَ يُطَابِقُهُ ) قُلْتُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ احْتِمَالِ إرَادَةِ هَذَا الْخَبَرِ بَعِيدٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ كُلُّ مَا لِلْعُمُومِ وَهِيَ نَصٌّ فِيهِ لَا سِيَّمَا مَعَ اقْتِرَانِهَا بِقَوْلِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِي ، وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ إنْ أَرَادَ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ مَا عَدَا هَذَا الْخَبَرَ فَهُوَ كَاذِبٌ لِصِدْقِهِ فِيمَا قَالَ ، وَإِنْ أَرَادَ حَتَّى هَذَا الْخَبَرُ فَهُوَ كَاذِبٌ أَيْضًا لَا لِعَدَمِ خَبَرٍ يُطَابِقُهُ هَذَا الْخَبَرُ بَلْ لِإِخْبَارِهِ بِقَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تَقْتَضِي شُمُولَ الْكَذِبِ جَمِيعَ أَقْوَالِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ ، وَقَدْ فُرِضَ صَادِقًا فِيمَا عَدَا هَذَا الْخَبَرَ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( وَهُوَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُخْبِرٌ أَنَّ خَبَرَهُ هَذَا الْأَخِيرَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْآخَرِ وَهُوَ لَيْسَ خَبَرَيْنِ فَيَكُونُ كَذِبًا قَطْعًا سَوَاءٌ أَرَادَ الْأَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمَةَ ، أَوْ أَرَادَ هَذَا الْأَخِيرَ هَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ ) قُلْتُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إخْبَارِهِ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ مُخْبِرًا أَنَّ خَبَرَهُ هَذَا خَبَرَانِ قَالَ : ( وَاَلَّذِي أَعْتَقِدُهُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ لَا يُقْطَعُ بِكَذِبِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ الْخَبَرَ الْأَخِيرَ وَحْدَهُ ، وَيَكُونُ عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ لِعَدَمِ مَا تُمْكِنُ الْمُطَابَقَةُ مَعَهُ فَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ ، فَقَوْلُهُ إنَّهُ
كَذِبٌ صَدَقَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَلَا يُقْطَعُ بِكَذِبِ هَذَا الْخَبَرِ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ ) قُلْتُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ كَالْمُمْتَنِعِ مَعَ أَنَّ فِيهِ أَمْرًا آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ بِعَيْنِهِ صِدْقٌ وَكَذِبٌ مَعًا ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَصْلًا وَمَا سَبَبُ هَذَا الِارْتِبَاكِ وَالتَّخَبُّطِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ إلَّا الْتِزَامُ أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَخْلُو عَنْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، أَمَّا إذَا قُلْنَا يَخْلُو عَنْهُمَا ارْتَفَعَ الْإِشْكَالُ لَا مَحَالَةَ .
قَالَ ( فَإِنْ كَذَبَ فِي جُمْلَةِ عُمْرِهِ أَوْ فِي جَمِيعِ مَا قَالَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ ، ثُمَّ قَالَ كُلُّ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ فِي عُمْرِي صِدْقٌ أَوْ جَمِيعُ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ صِدْقٌ إلَى مُنْتَهَى قَوْلِهِ أَمْكَنَنَا أَنْ نَجْعَلَ الْخَبَرَ الْوَاحِدَ كَذِبًا وَلَمْ يُمْكِنَّا أَنْ نَجْعَلَهُ صِدْقًا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ وَمَبْنِيٌّ عَلَى الْفَرْقِ الَّذِي قَرَّرَهُ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، وَأَنَّ الصِّدْقَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمُطَابَقَةِ فَيَلْزَمُ سَبْقُ مُخْبَرٍ عَنْهُ بِخِلَافِ الْكَذِبِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بَلْ ذَلِكَ أَوْ عَدَمُ مَخْبَرٍ عَنْهُ أَلْبَتَّةَ .
قَالَ ( فَتَأَمَّلْ هَذَا الْفَرْقَ وَلَاحِظْ فِيهِ أَنَّ الْكَذِبَ أَعَمُّ ، وَالْأَعَمُّ قَدْ يُوجَدُ حَيْثُ لَا يُوجَدُ الْأَخَصُّ فَأَمَّا الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ فَقَدْ سَوَّى بَيْنَ الْبَابَيْنِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ الْأَصَحُّ مَا قَالَهُ الْفَخْرُ وَغَيْرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَتَتَّضِحُ الْمَسْأَلَةُ بِالتَّقْسِيمِ الْحَاضِرِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو قَائِلُ كُلُّ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِي كَذِبٌ أَنْ يَكُونَ تَكَلَّمَ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ ، أَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ فَإِنْ تَكَلَّمَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ تَكَلَّمَ بِكَذِبٍ أَوْ بِصِدْقٍ وَكَذِبٍ فَإِنْ كَانَ تَكَلَّمَ بِكَذِبٍ لَا غَيْرُ فَكَلَامُهُ هَذَا صَادِقٌ ، وَإِنْ كَانَ تَكَلَّمَ بِصِدْقٍ لَا غَيْرُ أَوْ بِصِدْقٍ وَكَذِبٍ فَكَلَامُهُ هَذَا كَذِبٌ ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ فَكَلَامُهُ هَذَا
كَذِبٌ عَلَى مَا سَلَكَ الشِّهَابُ وَلَا صَدَقَ وَلَا كَذَبَ عَلَى مَا سَلَكَ غَيْرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ فِي ثَمَانِ مَسَائِلَ مُسْتَحْسَنَةٍ فِي بَابِهَا تُوَضِّحُ الْخَبَرَ ) ( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصِّدْقَ مُطَابَقَةُ النِّسْبَةِ الْكَلَامِيَّةِ لِلنِّسْبَةِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْكَذِبَ عَدَمُهَا ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْمُرَادِ بِعَدَمِهَا فَذَهَبَ الْأَصْلُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يُوجَدَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى خِلَافِ مَا فِي الْخَبَرِ كَمَنْ قَالَ : زَيْدٌ قَائِمٌ وَهُوَ لَيْسَ بِقَائِمٍ أَوْ بِالْقُوَّةِ بِأَنْ لَا يُوجَدَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَلْبَتَّةَ فَيَصْدُقُ أَيْضًا عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ لَكِنْ لَا لِمُخَالَفَتِهِ لِمَا وُجِدَ كَمَا فِي الْأَوَّلِ بَلْ لِعَدَمِ مَا يُطَابِقُهُ الْخَبَرُ نَظَرًا إلَى أَنَّ السَّالِبَةَ تَصْدُقُ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْمَوْضُوعِ فَافْهَمْ ، وَذَهَبَ الْفَخْرُ الرَّازِيّ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ بِالْفِعْلِ قَالَ ابْنُ الشَّاطِّ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ أَنَّ مَنْ قَالَ كُلُّ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِي كَذِبٌ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ تَكَلَّمَ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ أَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ فَإِنْ تَكَلَّمَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ تَكَلَّمَ بِكَذِبٍ فَقَطْ أَوْ بِصِدْقٍ فَقَطْ أَوْ بِصِدْقٍ وَكَذِبٍ مَعًا فَإِنْ كَانَ تَكَلَّمَ بِكَذِبٍ فَقَطْ فَكَلَامُهُ هَذَا صَادِقٌ قَطْعًا ، وَإِنْ كَانَ تَكَلَّمَ بِصِدْقٍ فَقَطْ أَوْ بِصِدْقٍ وَكَذِبٍ مَعًا فَكَلَامُهُ هَذَا كَاذِبٌ قَطْعًا سَوَاءٌ أَرَادَ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ مَا عَدَا هَذَا الْخَبَرَ وَهُوَ ظَاهِرٌ أَوْ أَرَادَ حَتَّى هَذَا الْخَبَرُ لِإِخْبَارِهِ بِقَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ تَقْتَضِي شُمُولَ الْكَذِبِ جَمِيعَ أَقْوَالِهِ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ .
وَهُوَ قَدْ فُرِضَ صَادِقًا فَقَطْ فِيمَا عَدَا هَذَا الْخَبَرَ أَوْ صَادِقًا وَكَاذِبًا مَعًا لَا كَاذِبًا فَقَطْ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ قَبْلَ هَذَا الْكَلَامِ فَكَلَامُهُ هَذَا كَذِبٌ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَلَا صِدْقَ وَلَا كَذِبَ عَلَى الثَّانِي ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ كَذِبٌ وَلَمْ يَقُلْ
شَيْئًا فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ كَلَامُهُ هَذَا كَذِبًا عَلَى الْأَوَّلِ وَلَا صِدْقًا وَلَا كَذِبًا عَلَى الثَّانِي ، فَعَلَى الثَّانِي تَثْبُتُ الْوَاسِطَةُ وَيَكُونُ فِي الْإِخْبَارِ مَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ وَيَبْطُلُ حِينَئِذٍ حَدُّ الْخَبَرِ أَوْ رَسْمُهُ بِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ الْقَوْلُ الَّذِي يَلْزَمُهُ الصِّدْقُ أَوْ الْكَذِبُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ لِعَدَمِ شُمُولِهِ الْوَاسِطَةَ فَيُرْسَمُ بِنَحْوِ الْقَوْلِ الَّذِي يَقْصِدُ قَائِلُهُ تَعْرِيفَ الْمُخَاطَبِ بِأَمْرٍ مَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ حَدُّ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ هُوَ الْإِخْبَارُ نَظَرًا لِكَوْنِ هَذِهِ الرُّسُومِ تَقْرِيبًا لَا تَحْقِيقًا إذْ التَّحْقِيقُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ مَعْرُوفٌ لَا يَحْتَاجُ لِتَعْرِيفٍ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا تَثْبُتُ الْوَاسِطَةُ وَيَكُونُ حَدُّ الْخَبَرِ أَوْ رَسْمُهُ بِمَا مَرَّ جَامِعًا مَانِعًا ، نَعَمْ قَدْ يُقَالُ بِثُبُوتِ الْوَاسِطَةِ عَلَى الْأَوَّلِ إذَا قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ كَذِبٌ ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فِي هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ ، ثُمَّ قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ صِدْقٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا قَالَ كُلُّ مَا قُلْتُهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ صِدْقٌ يَكُونُ خَبَرُهُ ذَلِكَ كَاذِبًا إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ شَيْئًا ، وَيُلْزِمُ ذَلِكَ أَنَّ إخْبَارَهُ عَمَّا قَالَهُ فِي الْبَيْتِ بِأَنَّهُ صِدْقٌ وَبِأَنَّهُ كَذِبٌ إخْبَارُ كَذِبٍ مَعَ أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ خَبَرَانِ ، وَقَدْ أُخْبِرَ بِهِمَا عَنْ مُخْبَرٍ وَاحِدٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصَدَّقَ أَحَدُ خَبَرَيْهِ وَيُكَذَّبَ الْآخَرُ وَإِلَّا أَدَّى ذَلِكَ إلَى اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ .
وَلَا يَتَأَتَّى الْجَوَابُ بِأَنَّ إجْمَاعَهُمَا هُنَا لَمْ يَكُنْ فِي ثُبُوتٍ حَتَّى يَمْتَنِع بَلْ فِي نَفْيٍ ، وَالِاجْتِمَاعُ فِي النَّفْيِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْوَاسِطَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الضِّدَّيْنِ الْمُنْحَصِرَيْنِ كَالنَّقِيضَيْنِ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي ثُبُوتٍ وَلَا انْتِفَاءٍ .
ا هـ كَلَامُ
ابْنِ الشَّاطِّ فَتَأَمَّلْهُ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الِاكْتِفَاءِ فِي حَقِيقَةِ الْكَذِبِ بِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ فِي كِلَا الْقَوْلَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ، وَذَهَبَ الْجَاحِظُ وَغَيْرُهُ إلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْكَذِبِ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْقَصْدُ إلَيْهِ وَعَدَمُ الْمُطَابَقَةِ ، فَالْخَبَرُ عَلَى رَأْيِ هَؤُلَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ صِدْقٌ وَهُوَ الْمُطَابَقَةُ وَكَذِبٌ وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابَقَةِ الَّذِي قَصَدَ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ وَوَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ غَيْرُ الْمُطَابِقِ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ إلَى عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ ، وَهَذَا الْقِسْمُ لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَهُمْ صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ فَلَا يَشْمَلُهُ تَعْرِيفُ الْخَبَرِ السَّابِقِ لَنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْمَسْأَلَةِ الظَّنُّ .
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ } فَدَلَّ جَعْلُهُ كَاذِبًا إذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُطَابِقٍ فِي الْغَالِبِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى يَقْصِدَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ فِي الْكَذِبِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } فَدَلَّ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّ مَنْ كَذَبَ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ لَا يَسْتَحِقُّ النَّارَ عَلَى تَصَوُّرِ حَقِيقَةِ الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْقَطْعُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ } فَإِنَّ الْكُفَّارَ قَسَّمُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى نَوْعَيْ الْكَذِبِ وَهُمَا الْمُفْتَرَى الَّذِي اخْتَرَعَهُ الْكَاذِبُ مِنْ نَفْسِهِ وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ غَيْرِهِ وَغَيْرِ الْمُفْتَرَى الَّذِي تَبِعَ فِيهِ غَيْرَهُ لَا أَنَّهُمْ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى كَذِبٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى يَحْصُلَ مَقْصُودُ الْخَصْمِ نَعَمْ نِسْبَةُ الْجُنُونِ إلَى مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَهُ فِي
قَوْلِهِ الْكَاذِبِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَافْهَمْ قُلْتُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ جِئْتُكَ أَلْفَ أَلْفَ مَرَّةٍ كَذِبٌ وَلَوْ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ إنْ قَصَدَ بِهَا ظَاهِرَ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُطَابِقْ الْوَاقِعَ وَصِدْقٌ إنْ قَصَدَ بِهَا الْمُبَالَغَةَ فِي الْكَثْرَةِ أَوْ اسْتَعْمَلَ لَفْظَهَا فِي مُطْلَقِ الْكَثْرَةِ مَجَازًا لِعَلَاقَةِ الْخُصُوصِيَّةِ أَمَّا عَلَى الثَّانِي فَظَاهِرٌ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ وَضْعِ الْمَجَازِ لِمَعْنَاهُ ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الصِّدْقَ مُطَابَقَةُ حُكْمِ الْخَبَرِ الَّذِي تَضْمَنَّهُ الْمَعْنَى الْمُرَادُ لِلْوَاقِعِ لَا خُصُوصُ الْمَعْنَى الْوَضْعِيِّ فَتَدَبَّرْ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) وَعْدُ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدُهُ وَقَعَ لِابْنِ نَبَاتَةَ فِي خُطْبَةٍ " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي إذَا وَعَدَ وَفَى وَإِذَا أَوْعَدَ تَجَاوَزَ وَعَفَا " وَحَسُنَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مَا جَرَتْ الْعَوَائِدُ بِهِ مِنْ التَّمَدُّحِ بِالْوَفَاءِ فِي الْوَعْدِ وَالْعَفْوِ فِي الْوَعِيدِ .
قَالَ الشَّاعِرُ : وَإِنِّي إذَا أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ لَمُخْلِفُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي تَمَدَّحَ بِهِمَا ، وَقَدْ أَنْكَرَ الْعُلَمَاءُ عَلَى ابْنِ نَبَاتَةَ ذَلِكَ ، وَتَقْرِيرُ الْإِنْكَارِ أَنَّ كَلَامَهُ هَذَا يُشْعِرُ بِثُبُوتِ الْفَرْقِ بَيْنَ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مُحَالٌ عَقْلًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ صُورَةَ اللَّفْظِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ مِنْ الْعُمُومِ فَإِنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي جَوَازِ دُخُولِ التَّخْصِيصِ فِيهِمَا ، فَكَمَا دَخَلَ التَّخْصِيصُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } بِمَنْ عُفِيَ عَنْهُ تَفَضُّلًا أَوْ بِالتَّوْبَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَ شَرًّا مَعَ عَمَلِهِ لَهُ فَكَذَلِكَ دَخَلَ التَّخْصِيصُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } بِمَنْ حَبِطَ عَمَلُهُ بِرِدَّتِهِ وَسُوءِ خَاتِمَتِهِ أَوْ أُخِذَتْ أَعْمَالُهُ فِي الظُّلَامَاتِ بِالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ ، فَلَمْ يَرَ خَيْرًا مَعَ أَنَّهُ عَمِلَهُ ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ إخْبَارَاتِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ لَمْ يُرِدْ بِاللَّفْظِ وَيَبْقَى الْمُرَادُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَنْ أُرِيدَ بِالْخِطَابِ وَمَنْ قَصَدَ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالنَّعِيمِ أَوْ الْعِقَابِ فَيَسْتَحِيلُ أَنَّ مَنْ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْخَبَرِ أَنْ لَا يَقَعَ مُخْبَرُهُ .
وَإِلَّا لَحَصَلَ الْخُلْفُ الْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ يَجِبُ حُصُولُ النَّعِيمِ لِمَنْ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِخْبَارِ عَنْ نَعِيمِهِ وَحُصُولِ الْعِقَابِ لِمَنْ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِخْبَارِ عَنْ عِقَابِهِ لِئَلَّا
يَلْزَمَ الْخُلْفُ فَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا فَإِنَّ قُلْتَ إنْ أُرِيدَ بِالْوَعِيدِ صُورَةُ الْعُمُومِ وَهُوَ قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ وَبِالْوَعْدِ مَنْ أُرِيدَ بِالْخِطَابِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْمَوْعُودِ يَنْدَفِعُ الْمُحَالُ ، وَتَصِحُّ هَذِهِ الْعِبَارَةُ قُلْتُ هَذَا يُمْكِنُ غَيْرَ أَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْفُو عَمَّنْ أُرِيدَ بِالْوَعِيدِ وَلَا يَقْتَصِرُ الْمَفْهُومُ عَلَى التَّخْصِيصِ فَقَطْ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ التَّمَدُّحِ بِالْعَفْوِ وَإِنْ أَكْذَبَ أَحَدُنَا نَفْسَهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : فَإِنَّ الْكَذِبَ جَائِزٌ عَلَيْنَا وَنَمْدَحُ بِهِ وَيَحْسُنُ مِنَّا فِي مَوَاطِنَ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا أَوْهَمَ مِثْلَ هَذَا حَرُمَ إطْلَاقُهُ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ مَا يُوهِمُ مُحَالًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حَرَامٌ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) إذَا فَرَضْنَا رَجُلًا صَادِقًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ زَيْدٌ فَقُلْنَا زَيْدٌ وَمُسَيْلِمَةُ الْحَنَفِيُّ صَادِقَانِ أَوْ كَاذِبَانِ اسْتَحَالَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا ، وَإِلَّا لَصَدَقَ مُسَيْلِمَةُ فِي قَوْلِنَا هُمَا صَادِقَانِ أَوْ لَكَذَبَ زَيْدٌ فِي قَوْلِنَا هُمَا كَاذِبَانِ .
وَيَسْتَحِيلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ كَاذِبًا لِلُزُومِ صِدْقِ مُسَيْلِمَةَ فِي قَوْلِنَا هُمَا كَاذِبَانِ أَوْ كَذِبِ زَيْدٍ فِي قَوْلِنَا هُمَا صَادِقَانِ ، لَكِنْ كَذِبُ زَيْدٍ مُحَالٌ لِأَنَّ الْفَرْضَ خِلَافُهُ وَإِذَا ارْتَفَعَ عَنْهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ لَزِمَ ارْتِفَاعُ النَّقِيضَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ قَبْلَ هَذَا فِيمَنْ قَالَ : أَنَا كَاذِبٌ فِي بَيْتٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ إلَّا بِهَذَا الْكَلَامِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَبْسُوطًا ، وَيَلْزَمُ أَيْضًا وُجُودُ الْخَبَرِ بِدُونِ خِصِّيصَتِهِ وَهُوَ قَبُولُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا .
وَالْجَوَابُ قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي بَابِ الْإِخْبَارِ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ فِي قُوَّةِ خَبَرَيْنِ فَإِذَا قُلْنَا زَيْدٌ وَمُسَيْلِمَةُ صَادِقَانِ فَتَقْدِيرُهُ زَيْدٌ صَادِقٌ وَمُسَيْلِمَةُ صَادِقٌ وَالْأَوَّلُ خَبَرٌ
صَادِقٌ وَالثَّانِي خَبَرٌ كَاذِبٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا كَاذِبَانِ صَدَقَ مَفْهُومُ الْكَذِبِ فِي مُسَيْلِمَةَ وَكَذَبَ فِي زَيْدٍ ، وَهَذَا الْجَوَابُ يَبْطُلُ بِتَضْيِيقِ الْفَرْضِ بِأَنْ نَقُولَ الْمَجْمُوعُ صَادِقٌ أَوْ كَاذِبٌ وَنَجْعَلُ الْخَبَرَ عَنْ الْمَجْمُوعِ ، وَهُوَ مُفْرَدٌ فِي اللَّفْظِ أَوْ يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُ أَرَدْتُ الْمَجْمُوعَ وَالْإِخْبَارَ عَنْهُ ، وَلَمْ أُرِدْ الْإِخْبَارَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَبْطُلُ هَذَا الْجَوَابُ .
وَالْجَوَابُ الْحَقُّ أَنْ نَلْتَزِمَ فِي قَوْلِنَا هُمَا صَادِقَانِ أَنَّهُ كَذِبٌ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَذِبَ نَقِيضُ الصِّدْقِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فَإِنَّهُ عَدَمُ الْمُطَابَقَةِ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْمُطَابَقَةِ ، وَالْمُتَكَلِّمُ أَخْبَرَ عَنْ حُصُولِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمَجْمُوعِ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهَا فَتَنْتَفِي الْمُطَابَقَةُ فِي الْمَجْمُوعِ بِنَفْيِهَا فِي أَحَدِهِمَا وَلَا نَشُكُّ أَنَّهَا مَنْفِيَّةٌ فِي أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ الْحَقُّ نَفْيَ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمَجْمُوعِ فَيَكُونُ الْخَبَرُ كَذِبًا ، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا هُمَا كَاذِبَانِ فَإِنَّا أَخْبَرْنَا عَنْ ثُبُوتِ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ الْعَدَمُ يَشْمَلُ زَيْدًا وَعَمْرًا كَذَّبَ خَبَرَهُ هَذَا بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ مَجْمُوعَ الْعَدَمَيْنِ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ كَمَا يَنْتَفِي مَجْمُوعُ الثُّبُوتِ ، وَقَدْ أَشَارَ فَخْرُ الدِّينِ إلَى أَنَّ الْخَبَرَ يَكُونُ كَذِبًا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْسُطْ تَقْرِيرَهُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَعْدُ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدُهُ وَقَعَ لِابْنِ نَبَاتَةَ فِي خُطْبَةٍ " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي إذَا وَعَدَ وَفَى ، وَإِذَا أَوْعَدَ تَجَاوَزَ وَعَفَا إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ : جَزَمَ الشِّهَابُ بِخَطَأِ ابْنِ نَبَاتَةَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُخَرَّجَ لِكَلَامِهِ وَجْهٌ ، وَهُوَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخَصِّصُهُ إلَّا الرِّدَّةُ لَا غَيْرُ وَوَعِيدُهُ يُخَصِّصُهُ الْإِيمَانُ ، وَهُوَ نَظِيرُ الرِّدَّةِ وَالتَّوْبَةِ وَالشَّفَاعَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَلَا مُقَابِلَ لَهَا فِي جِهَةِ الْوَعْدِ فَلَمَّا كَانَ الْوَعْدُ مُخَصِّصَاتُهُ أَقَلُّ مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْوَعِيدِ صَحَّ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ إيهَامِ الْعَفْوِ عَمَّنْ أُرِيدَ بِالْوَعِيدِ لَيْسَ مِنْ الْإِيهَامِ الْمَمْنُوعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إذَا فَرَضْنَا رَجُلًا صَادِقًا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ زَيْدٌ فَقُلْنَا زَيْدٌ وَمُسَيْلِمَةُ صَادِقَانِ أَوْ كَاذِبَانِ اسْتَحَالَ ذَلِكَ إلَى آخِرِ تَقْرِيرِ الْإِشْكَالِ ، ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابَ الْفَخْرِ بِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ خَبَرَيْنِ أَحَدُهُمَا صَادِقٌ وَالْآخَرُ كَاذِبٌ وَرَدَّ الْجَوَابَ بِتَضْيِيقِ الْفَرْضِ فِي السُّؤَالِ عَنْ الْمَجْمُوعِ ، أَوْ يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُ أَرَدْتُ الْمَجْمُوعَ .
وَأَجَابَ بِأَنَّهُ خَبَرٌ كَاذِبٌ ، وَأَنَّهُ إنْ أَرَادَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ خَبَرٌ كَاذِبٌ ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَجْمُوعَ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْكُلِّيَّةَ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهَا ) قُلْتُ مَا قَالَهُ جَوَابٌ حَسَنٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْهُمَا فَلَا إشْكَالَ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ) قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي بَابِ الْإِخْبَارِ إنَّ قَوْلَكَ إذَا فَرَضْتَ صِدْقَ زَيْدٍ مَثَلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ زَيْدٌ وَمُسَيْلِمَةُ الْحَنَفِيُّ صَادِقَانِ أَوْ كَاذِبَانِ فِي قُوَّةِ خَبَرَيْنِ تَقْدِيرُهُمَا عَلَى الْأَوَّلِ زَيْدٌ صَادِقٌ وَمُسَيْلِمَةُ صَادِقٌ ، وَعَلَى الثَّانِي زَيْدٌ كَاذِبٌ وَمُسَيْلِمَةُ كَاذِبٌ فَيَصْدُقُ مَفْهُومُ الْكَذِبِ فِي مُسَيْلِمَةَ وَيَكْذِبُ فِي زَيْدٍ ، وَمَفْهُومُ الصِّدْقِ بِالْعَكْسِ لَا خَبَرٌ وَاحِدٌ حَتَّى يَلْزَمَهُ ارْتِفَاعُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا ، وَإِلَّا لَصَدَقَ مُسَيْلِمَةُ فِي قَوْلِك هُمَا صَادِقَانِ أَوْ لَكَذَبَ زَيْدٌ فِي قَوْلِك هُمَا كَاذِبَانِ ، وَأَنْ يَكُونُ كَاذِبًا وَإِلَّا لَصَدَقَ مُسَيْلِمَةُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ لَكَذَبَ زَيْدٌ عَلَى الثَّانِي .
ا هـ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَبْطُلُ بِتَضْيِيقِ الْفَرْضِ بِأَنْ نَقُولَ الْمَجْمُوعُ صَادِقٌ أَوْ كَاذِبٌ وَنَجْعَلُ الْخَبَرَ عَنْ الْمَجْمُوعِ وَهُوَ مُفْرَدٌ فِي اللَّفْظِ ، أَوْ يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُ أَرَدْتُ الْمَجْمُوعَ وَالْإِخْبَارَ عَنْهُ وَلَمْ أُرِدْ الْإِخْبَارَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْحَقُّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْفَخْرُ أَنْ نَلْتَزِمَ فِي هُمَا صَادِقَانِ أَوْ هُمَا كَاذِبَانِ أَنَّ الْخَبَرَ كَذِبٌ ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَخْبَرَ فِي الْأَوَّلِ عَنْ حُصُولِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمَجْمُوعِ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَفِي الثَّانِي عَنْ ثُبُوتِ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمَجْمُوعِ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِانْتِفَاءِ حَقِيقَةِ كُلٍّ مِنْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِانْتِفَاءِ جُزْئِهَا فَتَنْتَفِي الْمُطَابَقَةُ فِي الْمَجْمُوعِ بِنَفْيِهَا فِي أَحَدِهِمَا ، وَكَذَلِكَ يَنْتَفِي ثُبُوتُ عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ فِي الْمَجْمُوعِ بِنَفْيِهِ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا شَكَّ فِي انْتِفَاءِ الْمُطَابَقَةِ أَوْ ثُبُوتِ عَدَمِهَا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ الْحَقُّ نَفْيَ ذَلِكَ فِي الْمَجْمُوعِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَجْمُوعِ الْوُجُودَيْنِ وَمَجْمُوعِ الْعَدَمَيْنِ فِي قَوْلِكَ : الْوُجُودُ يَشْمَلُ زَيْدًا
وَعَمْرًا ، وَقَوْلِكَ : الْعَمْدُ يَشْمَلُ زَيْدًا وَعَمْرًا فِي كَوْنِ كُلٍّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ بِأَنْ يُعْدَمَ أَحَدُهُمَا فِي الْأَوَّلِ وَيُوجَدَ فِي الثَّانِي فَيَكُونُ الْخَبَرُ كَذِبًا فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ) الْفَرْقُ بَيْنَ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ مُحَالٌ عَقْلًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِمَا صُورَةُ اللَّفْظِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ اللُّغَوِيِّ مِنْ الْعُمُومِ ، أَوْ أُرِيدَ بِهِمَا مَنْ أُرِيدَ بِالْخِطَابِ وَمَنْ قُصِدَ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالنَّعِيمِ أَوْ الْعِقَابِ أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي جَوَازِ دُخُولِ التَّخْصِيصِ فِيهَا فَجَمِيعُ إخْبَارَاتِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ لَمْ يُرَدْ بِاللَّفْظِ .
وَيَبْقَى الْمُرَادُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا دَخَلَ التَّخْصِيصُ فِي وَعِيدِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } بِمَنْ عُفِيَ عَنْهُ تَفَضُّلًا أَوْ بِالتَّوْبَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَمْ يَرَ شَرًّا مَعَ عَمَلِهِ لَهُ ، كَذَلِكَ دَخَلَ التَّخْصِيصُ فِي وَعْدِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } بِمَنْ حَبِطَ عَمَلُهُ بِرِدَّتِهِ وَسُوءِ خَاتِمَتِهِ أَوْ أُخِذَتْ أَعْمَالُهُ فِي الظُّلَامَاتِ بِالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ فَلَمْ يَرَ خَيْرًا مَعَ أَنَّهُ عَمَلُهُ .
وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَقَعَ مُخْبَرُهُ تَعَالَى مِنْ وَعِيدٍ أَوْ وَعْدٍ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ تَعَالَى بِخَبَرِهِ وَإِلَّا لَحَصَلَ الْخُلْفُ الْمُسْتَحِيلُ عَقْلًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ يَجِبُ حُصُولُ النَّعِيمِ أَوْ الْعَذَابِ لِمَنْ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِخْبَارِ عَنْ نَعِيمِهِ أَوْ عِقَابِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْخُلْفُ نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْوَعِيدِ صُورَةُ الْعُمُومِ فَيَكُونُ قَابِلًا لِلتَّخْصِيصِ وَبِالْوَعْدِ مَنْ أُرِيدَ بِالْخِطَابِ فَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الْوَفَاءُ بِذَلِكَ الْمَوْعُودِ ، وَعَلَيْهِ يَنْدَفِعُ الْمُحَالُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَيَصِحُّ مَا وَقَعَ لِابْنِ نَبَاتَةَ فِي خُطْبَةٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي إذَا
وَعَدَ وَفَى وَإِذَا أَوْعَدَ تَجَاوَزَ وَعَفَا نَظَرًا لِمَا جَرَتْ الْعَوَائِدُ بِهِ مِنْ التَّمَدُّحِ بِالْوَفَاءِ فِي الْوَعْدِ وَالْعَفْوِ فِي الْوَعِيدِ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ : وَإِنِّي إذَا أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ لَمُخْلِفُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُخَرَّجَ لِكَلَامِهِ وَجْهٌ ، وَهُوَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخَصِّصُهُ إلَّا الرِّدَّةُ لَا غَيْرُ وَوَعِيدَهُ يُخَصِّصُهُ الْإِيمَانُ وَهُوَ نَظِيرُ الرِّدَّةِ وَالتَّوْبَةُ وَالشَّفَاعَةُ وَالْمَغْفِرَةُ وَلَا مُقَابِلَ لَهَا فِي جِهَةِ الْوَعْدِ ، فَلَمَّا كَانَتْ مُخَصِّصَاتُ الْوَعْدِ أَقَلَّ مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْوَعِيدِ صَحَّ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا ذُكِرَ ، وَلَيْسَ مِنْ الْإِيهَامِ الْمَمْنُوعِ إيهَامٌ مِثْلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْفُو عَمَّنْ أُرِيدَ بِالْوَعِيدِ وَلَا يَقْتَصِرُ الْمَفْهُومُ عَلَى التَّخْصِيصِ فَقَطْ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ التَّمَدُّحِ بِالْعَفْوِ ، وَإِنْ أَكْذَبَ أَحَدُنَا نَفْسَهُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : لَمُخْلِفُ إيعَادِي فَإِنَّ الْكَذِبَ جَائِزٌ عَلَيْنَا وَنَمْدَحُ بِهِ وَيَحْسُنُ مِنَّا فِي مَوَاطِنَ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَبَطَلَتْ كُلِّيَّتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ شَرْطُ إنْتَاجِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ فِي الْقِيَاسِ الْقَائِلِ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ نَبَاتَةَ الْمَذْكُورِ إطْلَاقٌ لِمَا يُوهِمُ مُحَالًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِطْلَاقُ مَا يُوهِمُ مُحَالًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حَرَامٌ ، فَمِثْلُ قَوْلِ ابْنِ نَبَاتَةَ الْمَذْكُورِ حَرَامٌ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) إذَا قُلْنَا الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ نَاطِقٌ وَكُلُّ نَاطِقٍ حَيَوَانٌ فَإِنَّهُ يَنْتِجُ الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ حَيَوَانٌ ، وَهَذَا خَبَرٌ كَاذِبٌ مَعَ أَنَّ مُتَقَدِّمَاتِهِ صَحِيحَةٌ فَكَيْفَ يُنْتِجُ الصَّادِقُ الْخَبَرَ الْكَاذِبَ ، وَذَلِكَ إنْ جَوَّزْنَاهُ يَبْطُلُ عَلَيْنَا بَابُ الِاسْتِدْلَالِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْفَسَادَ إنَّمَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى هِيَ مُقَدِّمَتَانِ الْتَفَّتْ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى إحْدَاهُمَا سَالِبَةٌ وَالْأُخْرَى مُوجَبَةٌ فَإِنَّ قَوْلَنَا الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ نَاطِقٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ نَاطِقٌ وَغَيْرَهُ غَيْرُ نَاطِقٍ هَذَا هُوَ مَدْلُولُ وَحْدَهُ لُغَةً فَإِنْ جَعَلْنَا مُقَدِّمَةَ الدَّلِيلِ هِيَ الْمُوجِبَةُ وَحْدَهَا صَحَّ الْكَلَامُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ الْإِنْسَانُ نَاطِقًا ، وَكُلُّ نَاطِقٍ حَيَوَانٌ فَيَنْتِجُ كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَلَا مُحَالَ فِي هَذَا .
وَإِنْ جَعَلْنَا مُقَدِّمَةَ الْقِيَاسِ هِيَ السَّالِبَةُ لَمْ يَصِحَّ الْإِنْتَاجُ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ وَهُوَ أَنَّ الشَّكْلَ الْأَوَّلَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ تَكُونَ صُغْرَاهُ مُوجَبَةً وَهَذِهِ سَالِبَةٌ فَلَا يَصِحُّ أَلَا تَرَى أَنَّكَ إذَا قُلْتَ لَا شَيْءَ مِنْ الْإِنْسَانِ بِحَجَرٍ ، وَكُلُّ حَجَرٍ جِسْمٌ كَانَتْ النَّتِيجَةُ لَا شَيْءَ مِنْ الْإِنْسَانِ بِجِسْمٍ وَهُوَ بَاطِلٌ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُقَدِّمَةُ الْقِيَاسِ فِي هَذَا الشَّكْلِ مُوجَبَةً إذَا كَانَتْ صُغْرَى وَهَذَا الْكَلَامُ قَدْ جُعِلَتْ فِيهِ سَالِبَةً فَلِذَلِكَ حَصَلَ فِيهِ أَمْرٌ مُحَالٌ ، وَإِنْ جَعَلْنَا مَجْمُوعَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ مُقَدِّمَةً وَاحِدَةً امْتَنَعَ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَا قِيَاسَ عَنْ ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ ، وَيَلْزَمُ الْفَسَادُ مِنْ كَوْنِ إحْدَاهُمَا سَالِبَةً كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) إذَا قُلْنَا الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ نَاطِقٌ ، وَكُلُّ نَاطِقٍ حَيَوَانٌ فَإِنَّهُ يَنْتِجُ الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ حَيَوَانٌ وَهَذَا كَذِبٌ قُلْتُ أَجَابَ بِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ نَاطِقٌ فِي قُوَّةِ مُقَدِّمَتَيْنِ مُوجَبَةٍ وَسَالِبَةٍ ، وَأَكْمَلَ جَوَابَهُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ وَلِقَائِلٍ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى لَمَّا قُيِّدَ مَوْضُوعُهَا بِوَحْدِهِ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَذْكُرَ الْمَوْضُوعَ فِي الثَّانِيَةِ مُقَيَّدًا بِقَيْدِهِ وَلَوْ ذُكِرَ كَذَلِكَ لَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ إذْ لَيْسَ الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ حَيَوَانًا بَلْ هُوَ وَغَيْرُهُ ، فَفَسَادُ النَّتِيجَةِ لِفَسَادِ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ ، وَهَذَا الْجَوَابُ مُغْنٍ عَنْ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ مَعَ أَنَّهُ حَسَنٌ .
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ) إنَّمَا كَذَبَتْ نَتِيجَةُ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الصَّادِقَتَيْنِ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ الْمُنْتَظِمِ بِنَحْوِ قَوْلِكَ الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ نَاطِقٌ ، وَكُلُّ نَاطِقٍ حَيَوَانٌ يَنْتِجُ الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ حَيَوَانٌ وَهَذَا خَبَرٌ كَاذِبٌ إذْ لَيْسَ الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ حَيَوَانًا بَلْ هُوَ وَغَيْرُهُ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى فِي الشَّكْلِ الْمَذْكُورِ مُقَدِّمَتَانِ مُوجِبَةٌ وَهِيَ الْإِنْسَانُ نَاطِقٌ وَسَالِبَةٌ وَهِيَ مَدْلُولُ وَحْدَهُ لُغَةً وَهِيَ غَيْرُ الْإِنْسَانِ غَيْرُ نَاطِقٍ فَبِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَالسَّالِبَةِ فَقَطْ فِي صُغْرَى الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ صَارَ كَذِبُ النَّتِيجَةِ لِعَدَمِ إيجَابِ الصُّغْرَى الَّذِي هُوَ مِنْ شَرْطِ إنْتَاجِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ ، أَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ السَّالِبَةِ فَقَطْ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ فَلِأَنَّ الْإِيجَابَ مَعَ النَّفْيِ غَيْرُ الْإِيجَابِ وَحْدَهُ إذْ الشَّيْءُ مَعَ غَيْرِهِ فِي نَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا قِيَاسَ عَنْ ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ ، وَاعْتِبَارُ الْمُوجِبَةِ فَقَطْ يَقْتَضِي عَدَمَ ذِكْرِ وَحْدَهُ فِي النَّتِيجَةِ فَافْهَمْ الْأَمْرُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى لَمَّا قُيِّدَ مَوْضُوعُهَا بِوَحْدَهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَيَّدَ مَوْضُوعُ الثَّانِيَةِ بِقَيْدِ مَوْضُوعِ الْأُولَى أَيْضًا ، وَلَوْ قُيِّدَ كَذَلِكَ لَظَهَرَ فَسَادُ الثَّانِيَةِ إذْ لَيْسَ الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ حَيَوَانًا بَلْ هُوَ وَغَيْرُهُ فَفَسَادُ النَّتِيجَةِ لِفَسَادِ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ قُلْتُ وَهَذَا الْأَمْرُ الثَّانِي أَوْلَى مِنْ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ إذْ رُبَّمَا قِيلَ عَلَى الْأَوَّلِ بِعَدَمِ تَسْلِيمِ كَوْنِ مَدْلُولِ وَحْدَهُ لُغَةً الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْإِنْسَانِ غَيْرُ نَاطِقٍ قَضِيَّةً سَالِبَةً بَلْ هِيَ مُوجَبَةٌ مَعْدُولَةُ الطَّرَفَيْنِ فَافْهَمْ
( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) نَقُولُ الْفُولُ يَغْذُو الْحَمَامَ وَالْحَمَامُ يَغْذُو الْبَازِيَ فَالْفُولُ يَغْذُو الْبَازِيَ الْمُقَدِّمَتَانِ صَادِقَتَانِ وَالْخَبَرُ الَّذِي أَنْتَجَتَاهُ كَاذِبٌ وَهُوَ قَوْلُنَا الْفُولُ يَغْذُو الْبَازِيَ فَإِنَّهُ لَا يَأْكُلُ إلَّا اللَّحْمَ فَكَيْفَ يُنْتِجُ الصَّادِقُ الْكَاذِبَ ؟ وَذَلِكَ يُخِلُّ بِنِظَامِ الِاسْتِدْلَالِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْفَسَادَ جَاءَ مِنْ جِهَةِ عَدَمِ اتِّحَادِ الْوَسَطِ فَإِنْ قُلْنَا الْفُولُ يَغْذُو الْحَمَامَ الْأَصْلُ أَنْ نَقُولَ وَكُلُّ مَا يَغْذُو الْحَمَامَ يَغْذُو الْبَازِيَ وَلَمْ نَأْخُذْهُ بَلْ أَخَذْنَا مَفْعُولَ الْمَحْمُولِ وَضَابِطُ اتِّحَادِ الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْإِنْتَاجِ أَنْ تَأْخُذَ عَيْنَ الْخَبَرِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى فَنَجْعَلُهُ مُبْتَدَأً فِي الثَّانِيَةِ ، وَهُنَا لَمْ تَأْخُذْهُ بَلْ أَخَذْتَ مَفْعُولَهُ وَجَعَلْتَهُ مُبْتَدَأً فِي الثَّانِيَةِ فَلَمْ يَتَّحِدْ الْوَسَطُ وَإِذَا لَمْ يَتَّحِدْ الْوَسَطُ لَمْ يَحْصُلْ الْإِنْتَاجُ ، وَنَظِيرُهُ أَنْ تَقُولَ زَيْدٌ مُكْرِمٌ خَالِدًا وَخَالِدٌ مُكْرِمٌ عَمْرًا يَنْتِجُ زَيْدٌ مُكْرِمٌ عَمْرًا ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ عَدُوًّا لِعَمْرٍو فَلَمْ يُكْرِمْهُ ، وَعَلَى هَذَا السُّؤَالِ مَتَى أَخَذْتَ مَفْعُولَ الْوَسَطِ بَطَلَ الْإِنْتَاجُ ، وَمَتَى أَخَذْتَهُ نَفْسَهُ فَهُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِنْتَاجُ ، وَيَصْدُقُ مَعَهُ الْخَبَرُ فَتَأَمَّلْ
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ ( الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) تَقُولُ الْفُولُ يَغْذُو الْحَمَامَ ، وَالْحَمَامُ يَغْذُو الْبَازِيَ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ قُلْتُ : جَوَابُهُ ظَاهِرٌ صَحِيحٌ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ) كَذِبُ نَتِيجَةِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الصَّادِقَتَيْنِ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ الْمُنْتَظِمِ بِنَحْوِ قَوْلِكَ الْفُولُ يَغْذُو الْحَمَامَ وَالْحَمَامُ يَغْذُو الْبَازِيَ يَنْتِجُ الْفُولُ يَغْذُو الْبَازِيَ وَهَذَا خَبَرٌ كَاذِبٌ إذْ الْبَازِي لَا يَأْكُلُ إلَّا اللَّحْمَ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ فَوَاتِ شَرْطِ الْإِنْتَاجِ الَّذِي هُوَ اتِّحَادُ الْوَسَطِ فَإِنَّ ضَابِطَ اتِّحَادِهِ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ أَنْ تَأْخُذَ عَيْنَ خَبَرِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى فَتَجْعَلَهُ مُبْتَدَأً فِي الثَّانِيَةِ ، وَهُنَا لَمْ تَأْخُذْهُ بَلْ أَخَذْتَ مَفْعُولَهُ وَجَعَلْتَهُ مُبْتَدَأً فِي الثَّانِيَةِ ، وَنَظِيرُهُ أَنْ تَقُولَ زَيْدٌ مُكْرِمٌ خَالِدًا وَخَالِدٌ مُكْرِمٌ عَمْرًا يَنْتِجُ زَيْدٌ مُكْرِمٌ عَمْرًا ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ زَيْدٌ عَدُوًّا لِعَمْرٍو فَلَمْ يُكْرِمْهُ فَظَهَرَ أَنَّهُ مَتَى أَخَذْتَ مَفْعُولَ الْوَسَطِ بَطَلَ الْإِنْتَاجُ ، وَمَتَى أَخَذْتَهُ نَفْسَهُ فَهُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِنْتَاجُ وَيَصْدُقُ مَعَهُ الْخَبَرُ النَّاشِئُ مِنْ الْقِيَاسِ .
( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) تَقُولُ كُلُّ زَوْجٍ عَدَدٌ وَالْعَدَدُ إمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ يَنْتِجُ الزَّوْجُ إمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ الزَّوْجِ مُنْقَسِمًا إلَى الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ كَاذِبٌ فَإِنَّ الْمُنْقَسِمَ إلَى شَيْئَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَالزَّوْجُ لَيْسَ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ فَالْمُقَدِّمَاتُ صَادِقَةٌ وَالْخَبَرُ الَّذِي أَنْتَجَتْهُ كَاذِبٌ فَيَلْزَمُ الْمُحَالُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُحَالَ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ فِي هَذَا الشَّكْلِ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ كُلِّيَّةً ، وَقَوْلُنَا الْعَدَدُ إمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ قَضِيَّةٌ مُنْفَصِلَةٌ نَصَّ أَرْبَابُ الْمَنْطِقِ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّةً بِأَزْمَانِهَا وَأَوْضَاعِهَا فَإِنْ لَمْ تَقَعْ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ ثَابِتٌ لِذَلِكَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ كُلِّيَّةً إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُولُ مَا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ الْعَدَدُ إمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ تُرِيدُ الْعَدَدَ فِي أَيِّ حَالَةٍ كَانَ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَإِنْ أَرَدْتَ الْأَوَّلَ كَانَ مَعْنَى كَلَامِكَ الْعَدَدُ فِي حَالَةِ كَوْنِهِ زَوْجًا هُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ ، وَذَلِكَ كَاذِبٌ وَإِنْ وَقَعَ حَالَةَ كَوْنِهِ فَرْدًا انْقَسَمَ إلَيْهِمَا أَيْضًا ، وَذَلِكَ كَاذِبٌ أَيْضًا فَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ كَاذِبَةٌ ضَرُورَةً عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَإِنْ أَرَدْتَ بِالْعَدَدِ الْعَدَدَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ يَنْقَسِمُ إلَى أَنْوَاعٍ ، وَذَلِكَ صَادِقٌ غَيْرَ أَنَّهَا إذَا صَدَقَتْ الْمُقَدِّمَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَانَتْ جُزْئِيَّةً فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ يَكْفِي فِي تَحَقُّقِهِ صُورَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِذَا كَانَتْ جُزْئِيَّةً بَطَلَ شَرْطُ الْإِنْتَاجِ وَهُوَ كَوْنُ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ كُلِّيَّةً فَظَهَرَ حِينَئِذٍ أَنَّ هَذِهِ
الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ إمَّا كَاذِبَةٌ أَوْ فَاتَ فِيهَا شَرْطُ الْإِنْتَاجِ ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا تَصِحُّ النَّتِيجَةُ وَلَا يَوْثُقُ بِالْخَبَرِ النَّاشِئِ مِنْ هَذَا التَّرْكِيبِ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) تَقُولُ كُلُّ زَوْجٍ عَدَدٌ وَالْعَدَدُ إمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ قُلْتُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْجَوَابِ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ
( الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ ) كَذِبُ نَتِيجَةِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الصَّادِقَتَيْنِ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ الْمُنْتَظِمِ بِنَحْوِ قَوْلِكَ كُلُّ زَوْجٍ عَدَدٌ ، وَالْعَدَدُ إمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ يَنْتِجُ الزَّوْجُ إمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ ، وَهَذَا خَبَرٌ كَاذِبٌ إذْ الشَّيْءُ لَا يَنْقَسِمُ إلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّكَ إنْ أَرَدْتَ بِلَفْظِ الْعَدَدِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ الْعَدَدَ فِي أَيِّ حَالَةٍ كَانَ مَعْنَى كَلَامِكَ الْعَدَدُ حَالَةَ كَوْنِهِ زَوْجًا أَوْ حَالَةَ كَوْنِهِ فَرْدًا هُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَنْقَسِمُ إلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ كَاذِبَةٌ ضَرُورَةً عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ، وَإِنْ أَرَدْتَ بِلَفْظِ الْعَدَدِ الْعَدَدَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ كَانَ إشَارَةً إلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ ، وَانْقِسَامُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ إلَى أَنْوَاعٍ صَادِقٌ فَصَدَقَتْ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إلَّا أَنَّهَا جُزْئِيَّةٌ فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ يَكْفِي فِي تَحَقُّقِهِ صُورَةً وَاحِدَةً ، وَلِأَنَّ كُلِّيَّةَ الْمُنْفَصِلَةِ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ أَرْبَابِ الْمَنْطِقِ إذَا سُوِّرَتْ بِمَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ ثَابِتٌ لِذَلِكَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ ، وَشَرْطُ الْإِنْتَاجِ كُلِّيَّةُ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ فَظَهَرَ أَنَّ كَذِبَ النَّتِيجَةِ إمَّا لِكَذِبِ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ ، وَإِمَّا لِفَوَاتِ شَرْطِ الْإِنْتَاجِ الَّذِي هُوَ كُلِّيَّتُهَا
( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) تَقُولُ الْوَتَدُ فِي الْحَائِطِ وَالْحَائِطُ فِي الْأَرْضِ يَنْتِجُ قَوْلُهُ الْوَتَدُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ خَبَرٌ كَاذِبٌ ، فَإِنَّ الْوَتَدَ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ فَقَدْ أَنْتَجَ الصَّادِقُ الْكَاذِبَ فَيَلْزَمُ الْمُحَالُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ تَوَسُّعٌ وَهُوَ قَوْلُكَ الْحَائِطُ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ بِجُمْلَتِهِ فِي الْأَرْضِ بَلْ أَبْعَاضُهُ فَهُوَ مَجَازٌ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ فَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً ، وَأَنَّ جُمْلَةَ الْحَائِطُ فِي الْأَرْضِ كَانَ الْوَتَدُ فِي الْأَرْضِ خَبَرًا ، وَكَانَ الْخَبَرُ حَقًّا كَقَوْلِنَا الْمَالُ فِي الْكِيسِ وَالْكِيسُ فِي الصُّنْدُوقِ فَالْمَالُ فِي الصُّنْدُوقِ وَهَذَا خَبَرٌ حَقٌّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَوَسُّعٌ بِخِلَافِ الْحَائِطُ فِي الْأَرْضِ فَإِنْ قُلْتَ ظَرْفُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْإِحَاطَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } وَالْمُرَادُ مَا عَلَى ظَهْرِهِمَا وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ } وَهُوَ إنَّمَا يُعْبَدُ فَوْقَ ظَهْرِهِمَا فَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ وَكَذَلِكَ إذَا قُلْنَا زَيْدٌ عِنْدَكَ حَقِيقَةٌ وَإِنْ لَمْ يَغِبْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ زَيْدٌ فِي الزَّمَانِ لَيْسَ مَعْنَاهُ الْإِحَاطَةَ لِأَنَّ مَعْنَى الزَّمَانِ هُوَ اقْتِرَانُ حَادِثٍ بِحَادِثٍ وَالِاقْتِرَانُ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ لَمْ تُحِطْ بِزَيْدٍ كَإِحَاطَةِ ثَوْبِهِ إنَّمَا هِيَ فِي تَيْنِكَ الْحَادِثَيْنِ لَا يَتَعَدَّاهُمَا ، وَكَذَلِكَ إذَا فَسَّرْنَا الزَّمَانَ بِحَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ فَإِنَّ الْحَرَكَةَ قَائِمَةٌ فِي الْفَلَكِ لَمْ تُحِطْ بِزَيْدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَوَادِثِ الْأَرْضِ بَلْ الْمُحِيطُ هُوَ الْفَلَكُ وَحْدَهُ فَظَهَرَ حِينَئِذٍ أَنَّ تَسْمِيَةَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ظَرْفَيْنِ لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ الْغَيْبَةَ فِيهِمَا وَإِحَاطَتَهُمَا بِالْمَظْرُوفِ فَبَطَلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ التَّوَسُّعِ ، وَبَطَلَ أَيْضًا مَا يَعْتَقِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ مِنْ
الظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ قُلْتُ إذَا أَلْزَمْتَ هَذَا أَقُولُ الْوَتَدُ فِي الْأَرْضِ حَقِيقَةٌ ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ صَادِقًا وَلَا مُحَالَ حِينَئِذٍ ، وَالسُّؤَالُ وَالْإِشْكَالُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْوَتَدَ لَيْسَ مَغِيبًا فِي الْأَرْضِ ، أَمَّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَلْزَمُ إشْكَالٌ وَلَا يَضُرُّنَا إلْزَامُ مَا ذَكَرْتَهُ فَالسُّؤَالُ ذَاهِبٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) تَقُولُ الْوَتَدُ فِي الْحَائِطِ وَالْحَائِطُ فِي الْأَرْضِ فَالْوَتَدُ فِي الْأَرْضِ ( إلَخْ ) قُلْتُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ أَيْضًا صَحِيحٌ ظَاهِرُ الْأَقْوِلَةِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ } وَهُوَ إنَّمَا يُعْبَدُ فَوْقَ ظَهْرِهِمَا فَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ فَإِنَّ الْفَوْقِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ تَقْتَضِي الِاسْتِقْرَارَ ، وَالِاسْتِقْرَارُ يَقْتَضِي الْمُمَاسَّةَ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ ظَاهِرَ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَهُوَ خَطَأٌ .
( الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ) إذَا قُلْنَا إنَّ مَعْنَى تَسْمِيَةِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ظَرْفَيْنِ لَيْسَ هُوَ غَيْبَةَ الْمَظْرُوفِ فِيهِمَا وَإِحَاطَتَهُمَا بِهِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مَا يَعْتَقِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ مِنْ الظَّرْفِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ نَظَرًا إلَى أَنَّ مَعْنَى الزَّمَانِ إمَّا اقْتِرَانُ حَادِثٍ بِحَادِثٍ ، وَالِاقْتِرَانُ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ لَمْ تُحِطْ بِزَيْدٍ كَإِحَاطَةِ ثَوْبِهِ إنَّمَا هِيَ فِي ذَيْنِكَ الْحَادِثَيْنِ لَا تَتَعَدَّاهُمَا ، وَإِمَّا حَرَكَاتُ الْأَفْلَاكِ وَالْحَرَكَةُ قَائِمَةٌ فِي الْفَلَكِ لَمْ تُحِطْ بِزَيْدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَوَادِثِ الْأَرْضِ بَلْ الْمُحِيطُ هُوَ الْفَلَكُ وَحْدَهُ ، وَأَنَّ نَحْوَ زَيْدٌ عِنْدَك حَقِيقَةٌ وَإِنْ لَمْ يَغِبْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } لَهُ مَا عَلَى ظَهْرِهِمَا كَانَ الْخَبَرُ النَّاشِئُ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ الْوَتَدُ فِي الْحَائِطِ وَالْحَائِطُ فِي الْأَرْضِ يَنْتِجُ الْوَتَدُ فِي الْأَرْضِ صَادِقًا لَا إشْكَالَ فِيهِ وَإِنْ قُلْنَا مَعْنَى ذَلِكَ غَيْبَةُ الْمَظْرُوفِ فِيهِمَا وَإِحَاطَتُهُمَا بِهِ كَمَا يَقْتَضِيهِ الظَّرْفِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ كَانَ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ كَاذِبًا فَإِنَّ الْوَتَدَ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ إلَّا أَنَّ كَذِبَهُ مِنْ جِهَةِ فَوَاتِ شَرْطِ الْإِنْتَاجِ الَّذِي هُوَ اتِّحَادُ الْوَسَطِ فَإِنَّكَ هُنَا لَمْ تَأْخُذْ عَيْنَ خَبَرِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى فَتَجْعَلُهُ مُبْتَدَأً فِي الثَّانِيَةِ كَمَا هُوَ ضَابِطُ الِاتِّحَادِ بَلْ مَفْعُولُهُ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ وَجَعَلْتَهُ مُبْتَدَأً فِي الثَّانِيَةِ عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ كَذِبَ الْخَبَرِ النَّاشِئِ عَنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بَلْ هُوَ صَادِقٌ ؛ لِأَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ الْحَائِطُ فِي الْأَرْضِ إنْ كَانَتْ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ جُمْلَةُ الْحَائِطُ فِي الْأَرْضِ كَانَ الْوَتَدُ فِي الْأَرْضِ خَبَرًا حَقًّا كَقَوْلِنَا الْمَالُ فِي الصُّنْدُوقِ النَّاشِئِ عَنْ قَوْلِكَ الْمَالُ فِي الْكِيسِ وَالْكِيسُ
فِي الصُّنْدُوقِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَجَازًا مِنْ بَابِ إطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَائِطَ لَمْ يَغِبْ بِجُمْلَتِهِ فِي الْأَرْضِ بَلْ أَبْعَاضُهُ كَانَ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الْوَتَدُ فِي الْأَرْضِ مَجَازًا أَيْضًا لِعَلَاقَةِ الْمُجَاوَرَةِ فَافْهَمْ
( الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ ) قَوْلُنَا هَذَا الْجَبَلُ ذَهَبٌ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ ذَهَبٌ قَالَ إنَّهُ جِسْمٌ وَكُلَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ جِسْمٌ صَادِقٌ يَنْتِجُ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ ذَهَبٌ صَادِقٌ ، وَهَذَا الْخَبَرُ كَاذِبٌ مَعَ صِدْقِ الْمُقَدِّمَاتِ وَبِهَذَا النَّمَطِ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ ذَهَبٌ وَيَاقُوتٌ وَحَيَوَانٌ وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْمُحَالَاتِ تَقْرِيرُهَا بِهَذَا الدَّلِيلِ ، وَهَذِهِ مَغْلَطَةٌ عَظِيمَةٌ .
وَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ إنَّ هَذَا الْجَبَلَ ذَهَبٌ مُحَالٌ وَكَذِبُ الْمُحَالِ يَلْزَمُهُ الْمُحَالُ فَيَكُونُ الْمُحَالُ فِي النَّتِيجَةِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ هَذَا الْمُحَالِ فَنَحْنُ نَلْتَزِمُ أَنَّهُ ذَهَبٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْمُحَالِ وَلَا مَحْذُورَ ، وَإِنَّمَا الْمَحْذُورُ كَوْنُهُ ذَهَبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَثَانِيهَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَقُولُ إنَّهُ جِسْمٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ هُوَ ذَهَبٌ مُحَالٌ وَالْمُحَالُ يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْمُحَالُ وَهُوَ كَوْنُ الذَّهَبِ لَيْسَ بِجِسْمٍ فَتَبْطُلُ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَلَا تَلْزَمُ النَّتِيجَةُ ، وَثَالِثُهَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الْمُقَدِّمَاتِ ، وَنُسَلِّمُ أَنَّهُ صَادِقٌ لَكِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ إنَّهُ ذَهَبٌ وَالْآخَرُ قَوْلُهُ إنَّهُ جِسْمٌ فَهُوَ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ إنَّهُ جِسْمٌ لَا فِي قَوْلِهِ إنَّهُ ذَهَبٌ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ لِلسَّائِلِ وَلَا سِيَّمَا ، وَقَوْلُنَا صَادِقٌ لَفْظٌ مُطْلَقٌ يَصْدُقُ بِفَرْدٍ وَصُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ فَهَذِهِ نَبْذَةٌ مِنْ الْأَخْبَارِ مُشْكِلَةٌ لَا يَتَحَدَّثُ فِيهَا إلَّا الْفُضَلَاءُ النُّبَلَاءُ لِتَوَقُّفِ سُؤَالِهَا وَجَوَابِهَا عَلَى دَقَائِقَ مِنْ الْعُلُومِ ، وَقَدْ تُذْكَرُ فِي سِيَاقِ الْمُغَلَّطَاتِ فَيَعْسُرُ الْجَوَابُ عَنْهَا ، وَقَدْ اتَّضَحَ مِنْهَا جُمْلَةٌ هَاهُنَا تُوجِبُ الْإِعَانَةَ عَلَى فَهْمِ غَيْرِهَا وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ .
قَالَ ( الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَوْلُنَا هَذَا الْجَبَلُ ذَهَبٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ ذَهَبٌ قَالَ إنَّهُ جِسْمٌ ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ إنَّهُ جِسْمٌ صَادِقٌ يُنْتَجُ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ ذَهَبٌ صَادِقٌ إلَى آخِرِ أَجْوِبَتِهِ ) قُلْتُ أَجْوِبَتُهُ صَحِيحَةٌ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ الْأَوْلَى الْجَوَابُ بِأَنَّ شَرْطَ الْإِنْتَاجِ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَهُوَ اشْتِرَاكُ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِي الْوَسَطِ ، وَلَمْ يَشْتَرِكَا فِي هَذَا الْقَوْلِ فِي الْوَسَطِ فَفَاتَ شَرْطُ الْإِنْتَاجِ وَلَزِمَهُ بِفَوْتِهِ الْخَطَأَ وَالْكَذِبَ .
( الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ ) : بِغِيَابِ شَرْطِ الْإِنْتَاجِ الَّذِي هُوَ اشْتِرَاكُ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِي الْوَسَطِ لَزِمَ كَذِبَ النَّتِيجَةِ مَعَ صِدْقِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ ذَهَبٌ وَيَاقُوتٌ وَحَيَوَانٌ ، وَكَذَا عَلَى قَوْلِنَا هَذَا الْجَبَلُ ذَهَبٌ بِنَحْوِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ ذَهَبٌ قَالَ إنَّهُ جِسْمٌ ، وَكُلَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ جِسْمٌ صَادِقٌ يَنْتِجُ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ ذَهَبٌ صَادِقٌ ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِكَذِبِهَا الْمُحَالُ ، وَهُوَ إنْتَاجُ الصَّادِقِ الْخَبَرَ الْكَاذِبَ الْمُؤَدِّيَ لِبُطْلَانِ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّا لَوْ قُلْنَا فِي الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّهُ ذَهَبٌ قَائِلٌ بِأَنَّهُ جِسْمٌ صَادِقٌ يَنْتِجُ أَنَّ كُلَّ قَائِلٍ بِأَنَّهُ ذَهَبٌ صَادِقٌ وَسَلَّمْنَا عَدَمَ فَوَاتِ شَرْطِ الْإِنْتَاجِ الْمَذْكُورِ حِينَئِذٍ ، أُجِيبُ بِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا أَنَّ الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقْدِيرِ لَا عَلَى نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا مَحْذُورَ فِي الْتِزَامِ أَنَّ الْجَبَلَ ذَهَبٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَلَا فِي كَوْنِ الْمُحَالِ فِي النَّتِيجَةِ نَشَأَ عَنْهُ وَثَانِيهَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّهُ ذَهَبٌ قَائِلٌ بِأَنَّهُ جِسْمٌ إذْ يَجُوزُ فِي الْمُحَالِ أَنْ يَلْزَمَهُ الْمُحَالُ ، وَهُوَ كَوْنُ الذَّهَبِ لَيْسَ بِجِسْمٍ فَتَبْطُلُ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فَلَا تَلْزَمُ النَّتِيجَةُ .
وَثَالِثُهَا أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ صَادِقٌ إلَّا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الْمُقَدِّمَاتِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَادِقٍ فِي كُلٍّ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهُ ذَهَبٌ وَقَوْلِهِ أَنَّهُ جِسْمٌ بَلْ هُوَ صَادِقٌ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ السَّائِلِ مِنْ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ إنَّهُ ذَهَبٌ لَا سِيَّمَا ، وَقَوْلُنَا صَادِقٌ لَفْظٌ مُطْلَقٌ يَصْدُقُ بِفَرْدٍ وَصُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ إنَّهُ جِسْمٌ فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَم .
( الْفَرْقُ الثَّالِثُ بَيْنَ الشَّرْطِ اللُّغَوِيِّ وَغَيْرِهِ ) مِنْ الشُّرُوطِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْكُلَّ مَعْنًى وَاحِدٌ وَأَنَّ اللَّفْظَ مَقُولٌ عَلَيْهَا بِالتَّوَاطُؤِ وَأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لِلشُّرُوطِ اللُّغَوِيَّةِ قَاعِدَةٌ مُبَايِنَةٌ لِقَاعِدَةِ الشُّرُوطِ الْأُخَرِ وَلَا يُظْهِرُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ إلَّا بَيَانُ حَقِيقَةِ الشَّرْطِ وَالسَّبَبِ وَالْمَانِعِ أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ أَمَّا الْقَيْدُ الْأَوَّلُ فَاحْتِرَازٌ مِنْ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ شَيْءٌ إنَّمَا يُؤَثِّرُ عَدَمُهُ فِي الْعَدَمِ وَالْقَيْدُ الثَّانِي احْتِرَازٌ مِنْ الْمَانِعِ فَإِنَّ الْمَانِعَ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ شَيْءٌ إنَّمَا يُؤَثِّرُ وُجُودُهُ فِي الْعَدَمِ وَالْقَيْدُ الثَّالِثُ احْتِرَازٌ مِنْ مُقَارَنَةِ وُجُودِ السَّبَبِ عَدَمَ الشَّرْطِ أَوْ وَجَوْدَ الْمَانِعِ فَلَا يَلْزَمُ الْوُجُودُ أَوْ إخْلَافُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ حَالَةَ عَدَمِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْعَدَمُ وَأَمَّا الشَّرْطُ فَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ وَلَا يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ فِي ذَاتِهِ بَلْ فِي غَيْرِهِ فَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ احْتِرَازٌ مِنْ الْمَانِعِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ شَيْءٌ وَالْقَيْدُ الثَّانِي احْتِرَازٌ مِنْ السَّبَبِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَالْقَيْدُ الثَّالِثُ احْتِرَازٌ مِنْ مُقَارَنَةِ وُجُودِهِ لِوُجُودِ السَّبَبِ فَيَلْزَمُ الْوُجُودُ وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ لِذَاتِهِ بَلْ لِأَجْلِ السَّبَبِ أَوْ قِيَامِ الْمَانِعِ فَيَلْزَمُ الْعَدَمُ لِأَجْلِ الْمَانِعِ لَا لِذَاتِ الشَّرْطِ وَالْقَيْدُ الرَّابِعُ احْتِرَازٌ مِنْ جُزْءِ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ غَيْرَ أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى جُزْءِ الْمُنَاسَبَةِ فَإِنَّ جُزْءَ الْمُنَاسِبِ مُنَاسَبَةٌ .
وَأَمَّا
الْمَانِعُ فَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ فَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ احْتِرَازٌ مِنْ السَّبَبِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَالْقَيْدُ الثَّانِي احْتِرَازٌ مِنْ الشَّرْطِ وَالْقَيْدُ الثَّالِثُ احْتِرَازٌ مِنْ مُقَارَنَةِ عَدَمِهِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ فَيَلْزَمُ الْعَدَمُ أَوْ وُجُودُ السَّبَبِ فَيَلْزَمُ الْوُجُودُ لَكِنْ بِالنَّظَرِ لِذَاتِهِ لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنْ الْمَانِعِ وُجُودُهُ وَمِنْ الشَّرْطِ عَدَمُهُ وَمِنْ السَّبَبِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ وَالثَّلَاثَةُ تَصْلُحُ الزَّكَاةُ مِثَالًا لَهَا فَالسَّبَبُ النِّصَابُ وَالْحَوْلُ شَرْطٌ وَالدَّيْنُ مَانِعٌ إذَا ظَهَرَتْ حَقِيقَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ وَالْمَانِعِ يُظْهِرُ أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الشُّرُوطِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْحَيَاةِ مَعَ الْعِلْمِ أَوْ الشَّرْعِيَّةِ كَالطَّهَارَةِ مَعَ الصَّلَاةِ أَوْ الْعَادِيَّةِ كَالسُّلَّمِ مَعَ صُعُودِ السَّطْحِ فَإِنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهَا الْعَدَمُ فِي الْمَشْرُوطِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ فَقَدْ يُوجَدُ الْمَشْرُوطُ عِنْدَ وُجُودِهَا كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ دَوْرَانِ الْحَوْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ وَقَدْ يُعْدَمُ لِمُقَارَنَةِ الدَّيْنِ لَدَوْرَانِ الْحَوْلِ مَعَ وُجُودِ النِّصَابِ .
وَأَمَّا الشُّرُوطُ اللُّغَوِيَّةُ الَّتِي هِيَ التَّعَالِيقُ كَقَوْلِنَا إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَلْزَمُ مِنْ الدُّخُولِ الطَّلَاقُ وَمِنْ عَدَمِ الدُّخُولِ عَدَمُ الطَّلَاقِ إلَّا أَنْ يَخْلُفَهُ سَبَبٌ آخَرُ كَالْإِنْشَاءِ بَعْدَ التَّعْلِيقِ وَهَذَا هُوَ شَأْنُ السَّبَبِ أَنْ يَلْزَمَ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ إلَّا أَنْ يَخْلُفَهُ سَبَبٌ آخَرُ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ دُونَ غَيْرِهَا فَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَى الْقَاعِدَتَيْنِ أَمْكَنُ أَنْ يُقَالَ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِمَا وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ وَأَمْكَنُ أَنْ يُقَالَ
بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فِي أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْمَجَازَ أَرْجَحُ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَأَمْكَنُ أَنْ يُقَالَ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ بِاعْتِبَارِ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا وَهُوَ تَوَقُّفُ الْوُجُودِ عَلَى الْوُجُودِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَشْرُوطَ الْعَقْلِيَّ وَغَيْرَهُ يَتَوَقَّفُ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَوُجُودُ شَرْطِهِ لَا يَقْتَضِيهِ وَالْمَشْرُوطُ اللُّغَوِيُّ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَوُجُودُ شَرْطِهِ يَقْتَضِيهِ ثُمَّ إنَّ الشَّرْطَ اللُّغَوِيَّ يُمْكِنُ التَّعْوِيضُ عَنْهُ وَالْإِخْلَافُ وَالْبَدَلُ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ يَقُولُ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَيَقَعُ الثَّلَاثُ بِالْإِنْشَاءِ بَدَلًا عَنْ الثَّلَاثِ الْمُعَلَّقَةِ وَكَقَوْلِهِ : إنْ أَتَيْتَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَكَ هَذَا الدِّينَارُ وَلَك أَنْ تُعْطِيَهُ إيَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْعَبْدِ هِبَةً فَتَخْلُفُ الْهِبَةُ اسْتِحْقَاقَهُ إيَّاهُ بِالْإِتْيَانِ بِالْعَبْدِ وَيُمْكِنُ إبْطَالُ شَرْطِيَّتِهِ كَمَا إذْ أُنْجِزَ الطَّلَاقُ فَإِنَّ التَّنْجِيزَ إبْطَالٌ لِلتَّعْلِيقِ وَكَمَا إذَا اتَّفَقْنَا عَلَى فَسْخِ الْجَعَالَةِ وَالشُّرُوطُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَقْتَضِي وُجُودُهَا وُجُودًا وَلَا تَقْبَلُ الْبَدَلَ وَالْإِخْلَافَ وَلَا تَقْبَلُ إبْطَالَ الشَّرْطِيَّةِ إلَّا الشَّرْعِيَّةَ خَاصَّةً فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ يُبْطِلُ شَرْطِيَّةَ الطَّهَارَةِ وَالسِّتَارَةِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ التَّعَذُّرِ أَوْ غَيْرِهِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُرُوقٍ اقْتِضَاءُ الْوُجُودِ وَالْبَدَلِ وَالْإِبْطَالِ إذَا تَخَلَّصَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَتَمَيَّزَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَنْ الْأُخْرَى فَنُوَشِّحُ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَسَائِلَ مِنْ الشُّرُوطِ اللُّغَوِيَّةِ فِيهَا مَبَاحِثُ دَقِيقَةٌ وَأُمُورٌ غَامِضَةٌ وَإِشَارَاتٌ شَرِيفَةٌ تَكُونُ الْإِحَاطَةُ بِهَا حِلْيَةً لِلْفُضَلَاءِ وَجَمَالًا لِلْعُلَمَاءِ وَلِنَقْتَصِرْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى ثَمَانِ مَسَائِلَ .
.
قَالَ : شِهَابُ الدِّينِ ( الْفَرْقُ الثَّالِثُ بَيْنَ الشَّرْطِ اللُّغَوِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوطِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالْعَادِيَّةِ ) قُلْتُ : كَانَ حَقُّهُ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الشَّرْطِ اللُّغَوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ سَائِرِ الشُّرُوطِ فَإِنَّ الشَّرْطَ الْعَقْلِيَّ ارْتِبَاطُهُ بِالْمَشْرُوطِ عَقْلِيٌّ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مِنْ حَقِيقَةِ الْمَشْرُوطِ ارْتِبَاطَ ذَلِكَ الشَّرْطِ بِهِ وَالشَّرْطُ الشَّرْعِيُّ ارْتِبَاطُهُ بِالْمَشْرُوطِ شَرْعِيٌّ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبَطَ هَذَا الشَّرْطَ وَمَشْرُوطَهُ بِكَلَامِهِ الَّذِي نُسَمِّيهِ خِطَابَ الْوَضْعِ وَالشَّرْطُ الْعَادِي ارْتِبَاطُهُ بِالْمَشْرُوطِ عَادِيٌّ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبَطَ هَذَا الشَّرْطَ بِمَشْرُوطِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَالشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ رَبَطَهُ بِمَشْرُوطِهِ وَاضِعُ اللُّغَةِ أَيْ جَعَلَ هَذَا الرَّبْطَ اللَّفْظِيَّ دَالًّا عَلَى ارْتِبَاطِ مَعْنَى اللَّفْظِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ هَذِهِ فُرُوقٌ بَيْنَ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَاضِحَةٌ وَأَمَّا الْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ فَمَبْنِيٌّ عَلَى اصْطِلَاحٍ أُصُولِيٍّ وَلِذَلِكَ احْتَاجَ فِي بَيَانِهِ إلَى ذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالسَّبَبِ وَالْمَانِعِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِ فَقَدْ ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ إلَى خِلَافِهِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ رُسُومِ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ وَالْمَانِعِ لَا بَأْسَ بِهِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ فَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ احْتِمَالِ تَسْمِيَةِ جَمِيعِ تِلْكَ الشُّرُوطِ شُرُوطًا بِاعْتِبَارِ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا وَهُوَ تَوَقُّفُ الْوُجُودِ عَلَى الْوُجُودِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ صَحِيحٌ ظَاهِرٌ قَالَ : ( ثُمَّ إنَّ الشَّرْطَ اللُّغَوِيَّ يُمْكِنُ التَّعْوِيضُ عَنْهُ وَالْإِخْلَافُ وَالْبَدَلُ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ أَيْضًا قَالَ : ( وَالشُّرُوطُ الْعَقْلِيَّةُ لَا يَقْتَضِي وُجُودُهَا وُجُودًا وَلَا تَقْبَلُ الْبَدَلَ وَالْإِخْلَافَ ) قُلْتُ : مَا قَالَهُ
صَحِيحٌ أَيْضًا .
قَالَ : ( وَلَا تَقْبَلُ إبْطَالَ الشَّرْطِيَّةِ إلَّا الشَّرْعِيَّةُ خَاصَّةً ) قُلْتُ : جَمِيعُ الشُّرُوطِ تَقْبَلُ الْإِبْدَالَ وَالْإِخْلَافَ وَالْإِبْطَالَ مَا عَدَا الْعَقْلِيَّةَ خَاصَّةً فَإِنَّ مَا عَدَا الْعَقْلِيَّ مِنْ الشُّرُوطِ رَبَطَهُ بِالْوَضْعِ فَلَا يَمْتَنِعُ رَفْعُ ذَلِكَ الرَّبْطِ .
قَالَ شِهَابُ الدِّينِ : ( إذَا تَخَلَّصَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ وَتَمَيَّزَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَنْ الْأُخْرَى فَنُوَشَّحُ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَسَائِلَ مِنْ الشُّرُوطِ اللُّغَوِيَّةِ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ) قُلْتُ : مَا ذَكَرَهُ فِي ذَلِكَ وَفِي الْمَسْأَلَةِ بِجُمْلَتِهَا صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( الْفَرْقُ الثَّالِثُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الشُّرُوطِ اللُّغَوِيَّةِ وَقَاعِدَةِ غَيْرِهَا ) مِنْ الشُّرُوطِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ وَالْعَادِيَةِ وَبَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَعَ الْآخَرِ مِنْهَا فَالْمَقْصُودُ هُنَا جِهَتَانِ : الْجِهَةُ الْأُولَى الْفَرْقُ بَيْنَ سَائِرِ الشُّرُوطِ وَهُوَ أَنَّ ارْتِبَاطَ الشَّرْطِ بِالْمَشْرُوطِ إنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مِنْ حَقِيقَةِ الْمَشْرُوطِ ارْتِبَاطُ ذَلِكَ الشَّرْطِ بِهِ فَهُوَ الشَّرْطُ الْعَقْلِيُّ كَالْحَيَاةِ مَعَ الْعِلْمِ أَوْ أَنَّ اللَّهَ رَبَطَ هَذَا الشَّرْطَ وَمَشْرُوطَهُ بِكَلَامِهِ الَّذِي نُسَمِّيهِ خِطَابَ الْوَضْعِ فَهُوَ الشَّرْطُ الشَّرْعِيُّ كَالطَّهَارَةِ مَعَ الصَّلَاةِ أَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبَطَ هَذَا الشَّرْطَ بِمَشْرُوطِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَهُوَ الشَّرْطُ الْعَادِي كَالسُّلَّمِ مَعَ صُعُودِ السَّطْحِ أَوْ أَنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ رَبَطَ هَذَا الشَّرْطَ بِمَشْرُوطِهِ أَيْ جَعَلَ هَذَا الرَّبْطَ اللَّفْظِيَّ دَالًّا عَلَى ارْتِبَاطِ مَعْنَى اللَّفْظِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ فَهُوَ الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ كَالدُّخُولِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ فِي نَحْوِ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاعِدَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ الْمَبْنِيِّ عَلَى اصْطِلَاحٍ أُصُولِيٍّ يَفْتَقِرُ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالسَّبَبِ وَالْمَانِعِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِ فَقَدْ ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ إلَى خِلَافِهِ فَالسَّبَبُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ فَخَرَجَ بِقَيْدِ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ الشَّرْطُ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ شَيْءٌ وَبِقَيْدِ وَمِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ الْمَانِعُ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ شَيْءٌ وَبِقَيْدِ لِذَاتِهِ السَّبَبُ الْمُقَارِنُ وُجُودُهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ أَوْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ فَلَا يَلْزَمُ الْوُجُودُ أَوْ الَّذِي أَخْلَفَهُ حَالَ عَدَمِ سَبَبٍ آخَرَ فَلَا يَلْزَمُ الْعَدَمُ وَالشَّرْطُ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ
لِذَاتِهِ وَلَا يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ فِي ذَاتِهِ بَلْ فِي غَيْرِهِ فَخَرَجَ بِقَيْدِ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ الْمَانِعُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ شَيْءٌ وَبِقَيْدِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ إلَخْ السَّبَبُ إذْ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَبِقَيْدِ لِذَاتِهِ الشَّرْطُ الْمُقَارِنُ وُجُودُهُ لِوُجُودِ السَّبَبِ فَيَلْزَمُ الْوُجُودُ لِأَجْلِ السَّبَبِ لَا لِذَاتِ الشَّرْطِ أَوْ لِقِيَامِ الْمَانِعِ فَيَلْزَمُ الْعَدَمُ لِأَجْلِ الْمَانِعِ لَا لِذَاتِ الشَّرْطِ وَبِقَيْدِ وَلَا يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ إلَخْ جُزْءُ الْعِلَّةِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى جُزْءِ الْمُنَاسَبَةِ فَإِنَّ جُزْءَ الْمُنَاسِبِ مُنَاسِبٌ وَالْمَانِعُ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودُهُ وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ فَخَرَجَ بِقَيْدِ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ بِسَبَبٍ وَبِقَيْدِ وَلَا يَلْزَمُ إلَخْ الشَّرْطُ وَبِقَيْدِ لِذَاتِهِ الْمَانِعُ الْمُقَارِنُ عَدَمُهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ فَيَلْزَمُ الْعَدَمُ أَوْ الْوُجُودُ السَّبَبَ فَيَلْزَمُ الْوُجُودُ وَلَا يَلْزَمُهُ لِذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَالْمُعْتَبَرُ مِنْ الْمَانِعِ وُجُودُهُ وَمِنْ الشَّرْطِ عَدَمُهُ وَمِنْ السَّبَبِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ وَالزَّكَاةُ تَصْلُحُ مِثَالًا لِلثَّلَاثَةِ فَالنِّصَابُ سَبَبٌ وَالْحَوْلُ شَرْطٌ وَالدَّيْنُ مَانِعٌ وَبِظُهُورِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الثَّلَاثَةِ يَظْهَرُ أَنَّ قَاعِدَةَ الشَّرْطِ اللُّغَوِيَّةَ الَّتِي هِيَ التَّعَالِيقُ كَقَوْلِنَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ طَالِقٌ أَنَّهَا أَسْبَابٌ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا كَالدُّخُولِ فِي الْمِثَالِ وُجُودُ مَشْرُوطِهَا كَالطَّلَاقِ وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهَا عَدَمُ الْمَشْرُوطِ أَيْ مِنْ عَدَمِ الدُّخُولِ عَدَمُ الطَّلَاقِ إلَّا أَنْ يَخْلُفَهُ سَبَبٌ آخَرُ كَالْإِنْشَاءِ بَعْدَ التَّعْلِيقِ كَمَا هُوَ شَأْنُ السَّبَبِ وَقَاعِدَةُ كُلٍّ مِنْ الشُّرُوطِ الْعَقْلِيَّةِ كَالْحَيَاةِ مَعَ الْعِلْمِ وَالشَّرْعِيَّةِ كَالطَّهَارَةِ مَعَ الصَّلَاةِ
وَالْعَادِيَةِ كَالسُّلَّمِ مَعَ صُعُودِ السَّطْحِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهَا عَدَمُ مَشْرُوطِهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ لِمَشْرُوطِهَا فَقَدْ يُوجَدُ مَشْرُوطُهَا عِنْدَ وُجُودِهَا كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ دَوْرَانِ الْحَوْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ وَقَدْ يُعْلَمُ لِمُقَارَنَةِ الدَّيْنِ لَدَوْرَانِ الْحَوْلِ مَعَ وُجُودِ النِّصَابِ فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الشَّرْطِ عَلَى مَا عَدَا اللُّغَوِيَّةِ حَقِيقَةٌ قَطْعًا وَعَلَى اللُّغَوِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ حَقِيقَةٌ أَيْضًا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ وَأَنْ يُقَالَ مَجَازًا لِأَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَأَنْ يُقَالَ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ بِأَنْ يَدَّعِيَ وَضْعَهُ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْجَمِيعِ وَهُوَ تَوَقُّفُ الْوُجُودِ عَلَى الْوُجُودِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْمَشْرُوطِ الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَالْعَادِي يَتَوَقَّفُ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَوُجُودُ شَرْطِهِ لَا يَقْتَضِيهِ الْمِشْرَطُ اللُّغَوِيُّ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَوُجُودُ شَرْطِهِ يَقْتَضِيهِ ثُمَّ إنَّ مَا عَدَا الْعَقْلِيَّ مِنْ الشُّرُوطِ مِنْ حَيْثُ إنَّ رَبْطَهَا بِمَشْرُوطِهَا بِالْوَضْعِ تَقْبَلُ الْإِبْدَالَ وَالْإِخْلَافَ وَالْإِبْطَالَ إذْ لَا يَمْتَنِعُ رَفْعُ ذَلِكَ الرَّبْطِ فَمِثَالُ الْإِبْدَالِ وَالْإِخْلَافِ فِي الشَّرْطِ اللُّغَوِيِّ أَنْ يَقُولَ لِزَوْجَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَقُولُ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَتَقَعُ الثَّلَاثُ بِالْإِنْشَاءِ بَدَلًا عَنْ الثَّلَاثِ الْمُعَلَّقَةِ أَوْ تَقُولُ لِشَخْصٍ : إنْ أَتَيْتَنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَكَ هَذَا الدِّينَارُ ثُمَّ تُعْطِيهِ الدِّينَارَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِالْعَبْدِ هِبَةً فَتَخْلُفُ الْهِبَةُ اسْتِحْقَاقَهُ إيَّاهُ بِالْإِتْيَانِ بِالْعَبْدِ وَمِثَالُ الْإِبْطَالِ فِيهِ أَنْ يُنَجِّزَ الطَّلَاقَ إبْطَالًا لِلتَّعْلِيقِ أَنْ يَتَّفِقَ الْجَاعِلُ وَالْمَجْعُولُ لَهُ عَلَى فَسْخِ الْجَعَالَةِ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ الْعَادِيَّ وَالشَّرْعِيَّ فَإِنَّ كُلًّا
مِنْ الْعَادَةِ وَالشَّرْعِ قَدْ يُبْطِلُ الشَّرْطِيَّةَ فِي نَحْوِ السُّلَّمِ وَالطَّهَارَةِ وَالسِّتَارَةِ عِنْدَ مُعَارَضَةِ التَّعَذُّرِ أَوْ غَيْرِهِ وَقَدْ أَخْلَفَ الشَّرْعُ الطَّهَارَةَ الْمَائِيَّةَ بِالتُّرَابِيَّةِ وَأَخْلَفَتْ الْعَادَةُ السُّلَّمَ بِرَفْعِ الشَّخْصِ فِي التَّابُوتِ بِآلَةِ جَذْبِ الْأَثْقَالِ وَالشَّرْطُ الْعَقْلِيُّ مِنْ حَيْثُ إنَّ رَبْطَهُ بِمَشْرُوطِهِ ذَاتِيٌّ لَا بِالْوَضْعِ لَا يَقْبَلُ الْبَدَلَ وَالْإِخْلَافَ وَلَا إبْطَالَ الشَّرْطِيَّةِ كَمَا لَا يَقْتَضِي وُجُودُهُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ بِخِلَافِ اللُّغَوِيِّ فَالْفَرْقُ بَيْنَ اللُّغَوِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الشُّرُوطِ ثَلَاثَةٌ اقْتِضَاؤُهُ الْوُجُودَ وَالْبَدَلَ وَالْإِبْطَالَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَقْتَضِي الثَّلَاثَةَ وَقَدْ لَا يَقْتَضِي الْوُجُودَ وَإِنْ اقْتَضَى الْبَدَلَ وَالْإِبْطَالَ فَافْهَمْ .
( الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ) أَنْشَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مَا يَقُولُ الْفَقِيهُ أَيَّدَهُ اللَّهُ : وَلَا زَالَ عِنْدَهُ إحْسَانٌ فِي فَتًى عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَهْرٍ قَبْلَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ نَوَادِرِ الْأَبْيَاتِ وَأَشْرَفِهَا مَعْنًى وَأَدَقِّهَا فَهْمًا وَأَغْرَبِهَا اسْتِنْبَاطًا لَا يُدْرِكُ مَعْنَاهُ إلَّا الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ وَالْأَفْهَامُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَالْفِكَرُ الدَّقِيقَةُ مِنْ أَفْرَادِ الْأَذْكِيَاءِ وَآحَادِ الْفُضَلَاءِ وَالنُّبَلَاءِ بِسَبَبِ أَنَّهُ بَيْتٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَعَ صُعُوبَةِ مَعْنَاهُ وَدِقَّةِ مَغْزَاهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَبْيَاتٍ فِي الْإِنْشَادِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِشَرْطِ اسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ فِي حَقَائِقِهَا دُونَ مُجَازَاتِهَا مَعَ الْتِزَامِ صِحَّةِ الْوَزْنِ عَلَى الْقَانُونِ اللُّغَوِيِّ وَكُلُّ بَيْتٍ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ مِنْ الْفِقْهِ فِي التَّعَالِيقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ وَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ صَعْبَةُ الْمَغْزَى .
وَعِرَةُ الْمُرْتَقَى وَمُشْتَمِلٌ عَلَى سَبْعِمِائَةِ مَسْأَلَةٍ وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ وَالتَّعَالِيقِ اللُّغَوِيَّةِ بِشَرْطِ الْتِزَامِ الْمَجَازِ فِي الْأَلْفَاظِ وَإِطْرَاحِ الْحَقَائِقِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ ضَابِطِ الْوَزْنِ وَقَانُونِ الشِّعْرِ بِأَنْ يَطُولَ الْبَيْتُ نَحْوًا مِنْ ضِعْفِهِ وَيَحْصُلُ هَذَا الْعَدَدُ الْعَظِيمُ مِنْ هَذِهِ اللَّفَظَاتِ الثَّلَاثِ وَتَبْدِيلِهَا بِأَضْدَادِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا فِي مَجَازَاتِهَا وَتَنَقُّلِهَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مُفْتَرِقَةً وَمُجْتَمِعَةً عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْبَيْتُ لِشَيْخِنَا الْإِمَامِ الصَّدْرِ الْعَالِمِ جَمَالِ الْفُضَلَاءِ رَئِيسِ زَمَانِهِ فِي الْعُلُومِ وَسَيِّدِ وَقْتِهِ فِي التَّحْصِيلِ وَالْمَفْهُومِ جَمَالِ الدِّينِ الشَّيْخِ أَبِي عَمْرٍو بِأَرْضِ الشَّامِ وَأَفْتَى فِيهِ وَتَفَنَّنَ وَأَبْدَعَ فِيهِ وَنَوَّعَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدَّسَ رُوحَهُ الْكَرِيمَةَ وَهَا أَنَا قَائِلٌ لَك لَفْظَهُ الَّذِي وَقَعَ
لِي بِفَصِّهِ وَنَصِّهِ ثُمَّ أَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِي مِنْ فَضْلِهِ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْبَيْتُ مِنْ الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ أَحَدٌ وَقَدْ سُئِلَتْ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمِصْرَ وَأَجَبْت بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ثُمَّ سُئِلَتْ عَنْهَا بِدِمَشْقَ فَقُلْت : هَذَا الْبَيْتُ يُنْشَدُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ لِأَنَّ مَا بَعْدَ قَبْلَ الْأَوَّلِ قَدْ يَكُونُ قَبْلَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ بَعْدَيْنِ .
وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَلِفَيْنِ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ كُلٌّ مِنْهَا قَدْ يَكُونُ قَبْلُهُ قَبْلَ وَقَدْ يَكُونُ قَبْلُهُ بَعْدَ صَارَتْ ثَمَانِيَةً فَاذْكُرْ قَاعِدَةً يَنْبَنِي عَلَيْهَا تَفْسِيرُ الْجَمِيعِ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ قَبْلُ وَبَعْدُ فَأَلْغِهِمَا لِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ حَاصِلٌ بَعْدَ مَا هُوَ قَبْلَهُ وَحَاصِلٌ قَبْلُ مَا هُوَ بَعْدَهُ فَلَا يَبْقَى حِينَئِذٍ إلَّا بَعْدَهُ رَمَضَانُ فَيَكُونُ شَعْبَانَ أَوْ قَبْلَهُ رَمَضَانُ فَيَكُونُ شَوَّالًا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَا جَمِيعُهُ قَبْلُ أَوْ جَمِيعُهُ بَعْدُ فَالْأَوَّلُ هُوَ الشَّهْرُ الرَّابِعُ مِنْ رَمَضَانَ لِأَنَّ مَعْنَى مَا قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ شَهْرٌ تَقَدَّمَ رَمَضَانَ قَبْلَ شَهْرَيْنِ قَبْلَهُ وَذَلِكَ ذُو الْحِجَّةِ وَالثَّانِي هُوَ الرَّابِعُ أَيْضًا وَلَكِنْ عَلَى الْعَكْسِ لِأَنَّ مَعْنَى بَعْدَ مَا بَعْدَ بَعْدِهِ رَمَضَانُ شَهْرٌ تَأَخَّرَ رَمَضَانُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ بَعْدَهُ وَذَلِكَ جُمَادَى الْأَخِيرَةُ فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَقَبْلَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ ذُو الْحِجَّةِ وَقِيلَ مَا بَعْدَ بَعْدَهُ رَمَضَانُ شَعْبَانُ لِأَنَّ الْمَعْنَى بَعْدَهُ رَمَضَانُ وَذَلِكَ شَعْبَانُ وَبَعْدَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ شَوَّالُ لِأَنَّ الْمَعْنَى قَبْلَهُ رَمَضَانُ وَذَلِكَ شَوَّالٌ وَقَبْلَ مَا بَعْدَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ شَوَّالٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَيْضًا قَبْلَهُ رَمَضَانُ وَذَلِكَ شَوَّالٌ فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ ثُمَّ اجْرِ الْأَرْبَعَةَ الْأُخَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ بَعْدَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ شَوَّالٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى
قَبْلَهُ رَمَضَانُ وَذَلِكَ شَوَّالٌ وَبَعْدَ مَا بَعْدَ بَعْدِهِ رَمَضَانُ وَذَلِكَ جُمَادَى الْأَخِيرَةُ لِأَنَّ مَا بَعْدَ بَعْدِهِ شَعْبَانُ وَبَعْدَهُ رَمَضَانُ فَهُوَ جُمَادَى الْأَخِيرَةُ وَبَعْدَ مَا قَبْلَ بَعْدِهِ رَمَضَانُ شَعْبَانُ لِأَنَّ الْمَعْنَى بَعْدَهُ رَمَضَانُ وَذَلِكَ شَعْبَانُ وَبَعْدَ مَا بَعْدَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ شَعْبَانُ لِأَنَّ الْمَعْنَى بَعْدَهُ رَمَضَانُ وَذَلِكَ شَعْبَانُ قُلْت : هَذَا نَصُّ مَا وَجَدْتُهُ مَكْتُوبًا عَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَعْلِيقٍ عُلِّقَ عَنْهُ فِي مَسَائِلِهِ النَّادِرَةِ الَّتِي سُئِلَ عَنْهَا .
وَبَقِيَتْ أُمُورٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَنْبَغِي زِيَادَتُهَا وَإِيضَاحُهَا لِيَتَكَمَّلَ بِذَلِكَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدُهَا زِيَادَةُ إيضَاحِ كَوْنِ الْبَيْتِ ثَمَانِيَةً فِي التَّصْوِيرِ فَإِنَّهُ لِلْبَيْتِ أَصْلٌ وَفَرْعٌ فَأَصْلُهُ اجْتِمَاعُ ثَلَاثِ قَبْلَاتٍ وَتَفَرَّعَ سَبْعَةٌ أُخْرَى : أَحَدُهَا أَنْ يُبَدَّلَ الْجَمِيعُ بِالْبَعْدَاتِ نَحْوَ بَعْدَ مَا بَعْدَ بَعْدِهِ فَهَذِهِ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ .
الثَّالِثَةُ أَنْ يُبَدَّلَ مِنْ قَبْلُ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ نَحْوَ قَبْلَ مَا قَبْلَ بَعْدِهِ .
الرَّابِعَةُ أَنْ يُبَدَّلَ مِنْ الثَّانِي وَالثَّالِثِ دُونَ الْأَوَّلِ نَحْوَ قَبْلَ مَا بَعْدَ بَعْدِهِ .
الْخَامِسَةُ أَنْ يُوَسَّطَ الْبَعْدُ بَيْنَ قَبْلَيْنِ .
السَّادِسَةُ أَنْ يُعْمَدَ إلَى الْبَعْدَاتِ الثَّلَاثَةِ فَيُعْمَلُ فِيهَا كَمَا عَمِلْنَا فِي الْقَبْلَاتِ فَنَقُولُ بَعْدَ مَا بَعْدَ قَبْلِهِ .
السَّابِعَةُ أَنْ يُبَدَّلَ مِنْ الْبَعْدَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ دُونَ الْأَوَّلِ نَحْوَ بَعْدَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ .
الثَّامِنَةُ أَنْ يُوَسَّطَ الْقَبْلُ بَيْنَ الْبَعْدَيْنِ كَمَا وَسَّطْنَا الْبَعْدَ بَيْنَ الْقَبْلَيْنِ فَيَكُونُ بَعْدَ مَا قَبْلَ بَعْدِهِ فَحَدَثَ لَنَا عَنْ الْقَبْلَاتِ الثَّلَاثِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ وَعَنْ الْبَعْدَاتِ الثَّلَاثِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ بِالْإِبْدَالِ عَلَى التَّدْرِيجِ وَالتَّوَسُّطِ كَمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ .
وَثَانِيهَا أَنَّ مَا فِي الْبَيْتِ لَمْ يَتَحَدَّثْ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا
وَلَا عَلَى إعْرَابِهَا وَهَلْ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْفَتَاوَى مَعَ بَعْضِ التَّقَادِيرِ فِيهَا أَمْ لَا ؟ فَأَقُولُ إنَّ مَا يَصِحُّ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً ، وَمَوْصُولَةً ، وَنَكِرَةً مَوْصُوفَةً ، وَلَا تَخْتَلِفُ الْفَتَاوَى مَعَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَلْ تَبْقَى الْأَحْكَامُ عَلَى حَالِهَا فَالزَّائِدَةُ نَحْوَ قَوْلِنَا قَبْلَ قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا أَصْلًا وَتَبْقَى الْفَتَاوَى كَمَا تَقَدَّمَ وَالْمَوْصُولَةُ تَقْدِيرُهَا قَبْلَ الَّذِي اسْتَقَرَّ قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ فَيَكُونُ الِاسْتِقْرَارُ الْعَامِلُ فِي قَبْلُ الَّذِي بَعْدَ مَا هُوَ صِلَتُهَا وَالْفَتَاوَى عَلَى حَالِهَا وَتَقْدِيرُ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ قَبْلَ شَيْءٍ اسْتَقَرَّ قَبْلَ قَبْلَهُ رَمَضَانُ فَيَكُونُ الِاسْتِقْرَارُ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ الْكَائِنِ بَعْدَ مَا هُوَ صِفَةٌ لَهَا وَهِيَ نَكِرَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِشَيْءٍ فَهَذَا تَقْدِيرُ مَا فِي الْبَيْتِ وَإِعْرَابُهَا .
وَثَالِثُهَا أَنَّ هَذِهِ الْقَبْلَاتِ وَالْبَعْدَاتِ ظُرُوفُ زَمَانٍ وَمَظْرُوفَاتُهَا الشُّهُور هَاهُنَا فَفِي كُلٍّ قَبْلُ أَوْ بَعْدُ شَهْرٌ هُوَ الْمُسْتَقِرُّ فِيهِ مَعَ أَنَّ اللُّغَةَ تَقْبَلُ غَيْرَ هَذِهِ الْمَظْرُوفَاتِ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّا إذَا قُلْنَا قَبْلَهُ رَمَضَانُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ شَوَّالًا فَإِنَّ رَمَضَانَ قَبْلَهُ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ شَوَّالٍ فَإِنَّ رَمَضَانَ قَبْلَهُ فَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ : رَمَضَانُ قَبْلَ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ لَصَدَقَ ذَلِكَ وَكَانَ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً لَا مَجَازًا لَكِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلَ بُنِيَتْ عَلَى أَنَّ الْمَظْرُوفَ شَهْرٌ تَامٌّ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ وَلِضَرُورَةِ الضَّمِيرِ فِي قَبْلِهِ الْعَائِدِ عَلَى الشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَإِذَا كَانَ شَوَّالًا وَهُوَ قَدْ قَالَ قَبْلَهُ رَمَضَانُ تَعَذَّرَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى بَعْضِ الشَّهْرِ إلَّا عَلَى الْمَجَازِ فَإِنَّ بَعْضَ الشَّهْرِ أَوْ يَوْمَ الْفِطْرِ وَحْدَهُ لَيْسَ هُوَ شَوَّالًا بَلْ بَعْضَ شَوَّالٍ فَيَلْزَمُ الْمَجَازُ لَكِنَّ الْفَتَاوَى فِي هَذَا الْبَيْتِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ هَذَا تَقْرِيرُ
قَبْلِهِ الْأَخِيرِ الَّذِي صَحِبَهُ الضَّمِيرُ وَأَمَّا قَبْلَ الْمُتَوَسِّطُ فَلَيْسَ مَعَهُ ضَمِيرٌ يَضْطَرُّنَا إلَى ذَلِكَ بَلْ عَلِمْنَا أَنَّ مَظْرُوفَهُ شَهْرٌ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ رَمَضَانَ إذَا كَانَ قَبْلَ قَبْلَ الشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَتَعَيَّنَ أَنَّ أَحَدَ الْقَبْلَيْنِ وَهُوَ الَّذِي أُضِيفَ إلَى الضَّمِيرِ مَظْرُوفُهُ شَهْرٌ تَعَيَّنَ أَنَّ مَظْرُوفَ الْقَبْلِ الْمُتَوَسِّطِ شَهْرٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ شَهْرَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الشُّهُورِ أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَبْلَ شَهْرٍ وَبَعْدَ شَهْرٍ بَلْ لَا يُوجَدُ بَيْنَ شَهْرَيْنِ عَرَبِيَّيْنِ إلَّا شَهْرٌ فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ مَظْرُوفَ هَذِهِ الظُّرُوفِ شُهُورٌ تَامَّةٌ وَقَوْلِي عَرَبِيَّيْنِ احْتِرَازٌ مِنْ الْقِبْطِيَّةِ فَإِنَّ أَيَّامَ النَّسِيءِ تَتَوَسَّطُ بَيْنَ مِسْرَى وَتُوتٍ وَرَابِعُهَا أَنَّ قَاعِدَةَ الْعَرَبِ أَنَّ الْإِضَافَةَ يَكْفِي فِيهَا أَدْنَى مُلَابَسَةٍ كَقَوْلِ أَحَدِ حَامِلَيْ الْخَشَبَةِ مِثْلَ طَرَفَك فَجَعَلَ طَرَفَ الْخَشَبَةِ طَرَفًا لَهُ لِأَجْلِ الْمُلَابَسَةِ قَالَهُ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ وَأَنْشَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى : إذَا كَوْكَبُ الْخَرْقَاءِ لَاحَ بِسِحْرِهِ فَأَضَافَ الْكَوْكَبُ إلَيْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ لِعَمَلِهَا عِنْدَ طُلُوعِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْإِضَافَاتِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } أُضِيفَ الشَّهَادَةُ إلَيْهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَعَهَا لَا لِأَنَّهُ شَاهِدٌ وَلَا مَشْهُودَ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ دِينُ اللَّهِ وَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } فَالْإِضَافَةُ فِي الْجَمِيعِ مُخْتَلِفَةُ الْمَعَانِي وَهِيَ حَقِيقِيَّةٌ فِي الْجَمِيعِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى عَامٍّ وَهُوَ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَهَذِهِ الْقَبْلَاتُ وَالْبَعْدَاتُ الْمُضَافُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ تَحْتَمِلُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ ظَرْفٍ أُضِيفَ لِمُجَاوِرِهِ أَوْ لِمُجَاوِرِ مُجَاوِرِهِ أَوْ لِمُجَاوِرِ مُجَاوِرِ مُجَاوِرِهِ عَلَى رُتَبٍ ثَلَاثٍ أَوْ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ الشَّهْرُ الَّذِي قَبْلَ رَمَضَانَ هُوَ رَبِيعٌ فَإِنَّ رَبِيعًا قَبْلَ رَمَضَانَ بِالضَّرُورَةِ وَيَوْمَنَا هَذَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ كُلُّهُ حَقِيقَةٌ غَيْرَ أَنَّ الظُّرُوفَ الَّتِي فِي الْبَيْتِ حُمِلَتْ عَلَى الْمُجَاوِرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ الْأَسْبَقُ إلَى الْفَهْمِ مَعَ أَنَّ غَيْرَهُ حَقِيقَةٌ أَيْضًا فَهَذِهِ الْمُلَاحَظَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْفَتَاوَى وَخَامِسُهَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّك إذَا قُلْت قَبْلَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ فَالْقَبْلُ الْأَوَّلُ هُوَ عَيْنُ رَمَضَانَ لِأَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي ذَلِكَ الظَّرْفِ وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا بَعْدَ بَعْدَهُ رَمَضَانُ فَالْبَعْدُ الْأَوَّلُ هُوَ رَمَضَانُ لِأَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِيهِ وَمَتَى كَانَ الْقَبْلُ الْأَوَّلُ هُوَ رَمَضَانُ فَالْقَبْلَانِ الْكَائِنَانِ بَعْدَهُ شَهْرَانِ آخَرَانِ يَتَقَدَّمَانِ عَلَى الشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ فِي بَعْدَ مَا بَعْدَ بَعْدِهِ رَمَضَانُ الْبَعْدَانِ الْأَخِيرَانِ شَهْرَانِ آخَرَانِ يَتَأَخَّرَانِ عَنْ الشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَالرُّتَبُ دَائِمًا فِي الْبَيْتِ أَرْبَعٌ الشَّهْرُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ وَثَلَاثَةُ ظُرُوفٍ لِغَيْرِهِ هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ ثُمَّ هَا هُنَا نَظَرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّا إذَا قُلْنَا : قَبْلَ مَا بَعْدَ بَعْدَهُ رَمَضَانُ فَهَلْ نَجْعَلُ هَذِهِ الظُّرُوفَ مُتَجَاوِرَةً عَلَى مَا نُطِقَ بِهَا فِي اللَّفْظِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ هُوَ رَمَضَانُ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فُرِضَ لَهُ أَبْعَادٌ كَثِيرَةٌ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ فَهُوَ قَبْلَ جَمِيعِهَا فَرَمَضَانُ قَبْلَ بَعْدَهُ وَبَعْدَ بَعْدَهُ وَجَمِيعُ مَا يُفْرَضُ مِنْ ذَلِكَ إلَى الْأَبَدِ فَهُوَ قَبْلَ تِلْكَ الظُّرُوفِ كُلِّهَا الْمَوْصُوفَةِ بِبَعْدُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ وَكَذَلِكَ يَصْدُقُ أَيْضًا أَنَّهُ بَعْدَ قَبْلِهِ وَقَبْلَ قَبْلِهِ إلَى الْأَزَلِ وَمَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْقَبْلَاتِ فَيَكُونُ رَمَضَانُ أَيْضًا وَيَبْطُلُ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ عَيَّنَ فِي الْأَوَّلِ شَوَّالًا وَفِي الثَّانِي شَعْبَانَ وَمُقْتَضَى مَا
ذَكَرْتُهُ لَك مِنْ النَّظَرِ أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ هُوَ رَمَضَانُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ أَوْ نَقُولُ مُقْتَضَى اللُّغَةِ خِلَافُ هَذَا التَّقْرِيرِ وَأَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الظُّرُوفُ الْمَنْطُوقُ بِهَا مُرَتَّبَةً عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ بَلْ قَوْلُنَا مَا بَعْدَ بَعْدَهُ فَبَعْدَ الْأُولَى الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ قَبْلَ وَبَعْدَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْمَعْنَى وَقَبْلَ الْمُتَقَدِّمَةُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْبَعْدَيْنِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى بَعْدَ الْأَخِيرَةِ .
وَتَكُونُ بَعْدَ الْأَخِيرَةُ بَعْدَ وَقَبْلَ مَعًا وَلَيْسَ ذَلِكَ مُحَالًا لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَهْرَيْنِ وَاعْتِبَارَيْنِ وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ إذَا قَالَتْ : غُلَامُ غُلَامِ غُلَامِي فَهَؤُلَاءِ الْأَرِقَّاءُ مُنْعَكِسُونَ فِي الْمَعْنَى فَالْغُلَامُ الْأَوَّلُ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ هُوَ الْغُلَامُ الْأَخِيرُ الَّذِي مَلَكَهُ عَبْدُ عَبْدِ عَبْدِك لَا أَنَّهُ عَبْدُك وَالْغُلَامُ الْأَخِيرُ هُوَ عَبْدُك الْأَوَّلُ الَّذِي مَلَكْتَهُ فَمَلَكَ هُوَ عَبْدًا آخَرَ مَلَكَ ذَلِكَ الْعَبْدُ الْآخَرُ الْعَبْدَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت : صَاحِبُ صَاحِبِ صَاحِبِي فَالْمَبْدُوءُ بِهِ هُوَ أَبْعَدُ الثَّلَاثَةِ عَنْك وَالْأَقْرَبُ إلَيْك هُوَ الْأَخِيرُ وَالْمُتَوَسِّطُ مُتَوَسِّطٌ هَذَا هُوَ مَفْهُومُ اللُّغَةِ فِي هَذِهِ الْإِضَافَاتِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ إذَا عَرَفْت هَذَا فَنَقُولُ : قَوْلُنَا قَبْلَ مَا بَعْدَ بَعْدَهُ رَمَضَانُ هُوَ شَعْبَانُ وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ شَعْبَانَ بَعْدَهُ رَمَضَانُ وَبَعْدَ بَعْدَهُ شَوَّالٌ فَقَوْلُنَا قَبْلُ مُجَاوِرٌ لِبَعْدِهِ الْأَخِيرَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ قَبْلَ بَعْدِهِ بَلْ قَبْلَ بَعْدَ بَعْدِهِ فَجَعَلَ قَبْلَ مُضَافًا فِي الْمَعْنَى لِبَعْدِ وَمُتَأَخِّرًا عَنْ بَعْدَ وَهُوَ الْبَعْدُ الثَّانِي فَيَكُونُ رَمَضَانُ قَبْلَ الْبَعْدِ الثَّانِي وَالْبَعْدُ الثَّانِي هُوَ شَوَّالٌ فَالْوَاقِعُ قَبْلَهُ رَمَضَانُ وَلَيْسَ لَنَا شَهْرٌ بَعْدَهُ بَعْدَانِ رَمَضَانُ قَبْلَ الْبَعْدِ الْأَخِيرِ إلَّا شَعْبَانَ فَإِنْ قُلْت فَرَمَضَانُ حِينَئِذٍ هُوَ قَبْلَ الْبَعْدِ
الْأَخِيرِ وَهُوَ شَوَّالٌ بِاعْتِبَارِ الْبَعْدِ الْأَوَّلِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وَبَعْدَ وَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ الْقَبْلَ وَالْبَعْدَ ضِدَّانِ وَاجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مُحَالٌ قُلْت : مُسَلَّمٌ أَنَّهُمَا ضِدَّانِ وَأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ رَمَضَانُ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ إضَافَتَيْنِ فَيَكُونُ رَمَضَانُ قَبْلَ بِاعْتِبَارِ شَوَّالٍ وَبَعْدَ بِاعْتِبَارِ شَعْبَانَ كَمَا يَكُونُ الْمُسْلِمُ صَدِيقًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَدُوًّا لِلْكَافِرِينَ فَتَجْتَمِعُ فِيهِ الصَّدَاقَةُ وَالْعَدَاوَةُ بِاعْتِبَارِ فَرِيقَيْنِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ وَلَيْسَ بِمُحَالٍ إنَّمَا الْمُحَالُ لَوْ اتَّحَدَتْ الْإِضَافَةُ وَلَمْ تَتَّحِدْ إذَا تَقَرَّرَ لَك هَذَا فَتَيَقَّنْ أَنْ لَوْ زِدْنَا فِي لَفْظِ بَعْدَ لَفْظَةً أُخْرَى مِنْهُ فَقُلْنَا : قَبْلَ مَا بَعْدَ بَعْدَ بَعْدِهِ رَمَضَانُ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ رَجَبًا وَإِنْ جَعَلْنَا الْبَعْدَاتِ أَرْبَعَةً تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ جُمَادَى الْأَخِيرَةَ أَوْ خَمْسَةً تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ جُمَادَى الْأُولَى ، أَوْ سِتَّةً تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ رَبِيعًا الْآخَرَ .
وَكَذَلِكَ كُلَّمَا زِدْت بَعْدَ انْتَقَلْت إلَى شَهْرٍ قَبْلُ فَإِنَّ هَذِهِ الظُّرُوفَ شُهُورٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فَيَخْرُجُ لَك عَلَى هَذَا الضَّابِطِ مَسَائِلُ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ غَيْرَ الْمَسَائِلِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ وَإِذَا وَصَلْت إلَى أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ ظَرْفًا فَقَدْ دَارَتْ السَّنَةُ مَعَك فَرُبَّمَا عُدْت إلَى عَيْنِ الشَّهْرِ الَّذِي كُنْت قُلْتَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَكِنْ مِنْ سَنَةٍ أُخْرَى وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْحَالُ فِي السِّنِينَ إذَا كَثُرَتْ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ هَذَا كُلُّهُ إذَا قُلْنَا : قَبْلَ مَا بَعْدَ بَعْدَهُ رَمَضَانُ فَإِنْ عَكَسْنَا وَقُلْنَا : بَعْدَ مَا قَبْلَ قَبْلَهُ رَمَضَانُ فَمُقْتَضَى جَعْلِنَا الظُّرُوفَ مُتَجَاوِرَةً عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ يَكُونُ الشَّهْرُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ رَمَضَانُ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَ جَمِيعِ مَا هُوَ قَبْلَهُ وَبَعْدَ قَبْلَاتِهِ وَإِنْ كَثُرَتْ
وَالشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ قَالَ : أَنَّهُ شَوَّالٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنَّ الْقَبْلَ الْأَوَّلَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْبَعْدِ الْأَوَّلِ وَالْبَعْدُ الْأَوَّلُ مُتَوَسِّطٌ مُضَافٌ لِلْبَعْدِ الْأَخِيرِ الْمُضَافِ لِلضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَنَفْرِضُ شَهْرًا وَهُوَ شَوَّالٌ فَقَبْلَهُ رَمَضَانُ وَقَبْلَ رَمَضَانَ شَعْبَانُ وَالسَّائِلُ قَدْ قَالَ : إنَّ رَمَضَانَ بَعْدَ أَحَدِ الْقَبْلَيْنِ وَالْقَبْلُ الْآخَرُ بَعْدَهُ وَلَيْسَ لَنَا شَهْرٌ قَبْلَهُ شَهْرَانِ الثَّانِي مِنْهُمَا رَمَضَانُ إلَّا شَوَّالًا فَيَتَعَيَّنُ وَيَكُونُ رَمَضَانُ مَوْصُوفًا بِأَنَّهُ بَعْدُ بِاعْتِبَارِ شَعْبَانَ وَبِأَنَّهُ قَبْلُ بِاعْتِبَارِ شَوَّالٍ وَلَا تَضَادَّ كَمَا تَقَدَّمَ جَوَابُهُ فَإِنْ زِدْنَا فِي لَفْظَةِ قَبْلَ لَفْظَةً أُخْرَى فَقُلْنَا : بَعْدَ مَا قَبْلَ قَبْلَهُ رَمَضَانُ كَانَ الشَّهْرُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ هُوَ ذُو الْقَعْدَةِ فَإِنَّ رَمَضَانَ أُضِيفَ لِقَبْلُ قَبْلَ قَبْلَيْنِ وَهُمَا شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ فَإِنْ جَعَلْنَا لَفْظَ قَبْلَ أَرْبَعًا كَانَ ذَا الْحِجَّةِ ، أَوْ خَمْسًا كَانَ الْمُحَرَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي لَفْظِ بَعْدَ ، غَيْرَ أَنَّك تَنْتَقِلُ فِي لَفْظِ بَعْدَ تَقَدُّمًا ، وَفِي لَفْظِ قَبْلَ تَأَخُّرًا ، فَإِنَّ بَعْدَ لِلِاسْتِقْبَالِ .
فَكُلَّمَا كَثُرَتْ كَثُرَ الِاسْتِقْبَالُ ، وَرَمَضَانُ هُوَ مُضَافٌ لِلْآخَرِ مِنْهُ فَيَتَعَيَّنُ بَعْدَ الشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فِي الْمَاضِي حَتَّى يَتَأَخَّرَ رَمَضَانُ فِي الِاسْتِقْبَالِ فَيُضَافُ لِلْبَعْدِ الْأَخِيرِ وَيَنْتَقِلُ فِي لَفْظِ قَبْلَ إذَا كَثُرَ مُتَأَخِّرًا لِأَنَّ قَبْلَ لِلْمَاضِي وَرَمَضَانُ مُضَافٌ لِلْقَبْلِ الْمُجَاوِرِ لَهُ دُونَ الشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَيَكُونُ لِلشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ قَبْلَاتٌ كَثِيرَةُ رَمَضَانُ بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَبَقِيَّةُ الْقَبْلَاتِ بَيْنَ رَمَضَانَ وَالشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَيَتَعَيَّنُ الِانْتِقَالُ لِلِاسْتِقْبَالِ بِحَسَبِ كَثْرَةِ لَفَظَاتِ قَبْلَ وَإِذَا قُلْنَا بَعْدَ مَا بَعْدَ بَعْدَهُ رَمَضَانُ يَتَعَيَّنُ جُمَادَى الْآخِرَةُ لِأَنَّ
السَّائِلَ قَدْ نَطَقَ بِثَلَاثِ بَعْدَاتٍ غَيْرِ الشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَرَجَبٌ الْبَعْدُ الْأَوَّلُ وَشَعْبَانُ الْبَعْدُ الثَّانِي وَرَمَضَانُ الْبَعْدُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ هُوَ الشَّهْرُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ جُمَادَى الْآخِرَةُ وَإِذَا قُلْنَا : قَبْلَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ تَعَيَّنَ ذُو الْحِجَّةِ لِأَنَّ السَّائِلَ قَدْ نَطَقَ بِثَلَاثٍ مِنْ لَفْظِ قَبْلَ فَقَبْلَ ذِي الْحِجَّةِ ذُو الْقَعْدَةِ وَقَبْلَ ذِي الْقَعْدَةِ شَوَّالٌ وَقَبْلَ شَوَّالٍ رَمَضَانُ وَهُوَ مَا قَالَهُ السَّائِلُ وَأَمَّا قَبْلَ مَا بَعْدَ بَعْدِهِ أَوْ بَعْدَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ قَبْلَ مَا هُوَ بَعْدَهُ وَبَعْدَ مَا هُوَ قَبْلَهُ وَإِذَا اتَّحَدَ الْعَيْنُ صَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ بَعْدَهُ رَمَضَانُ أَوْ قَبْلَهُ رَمَضَانُ فَيَكُونُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ شَعْبَانُ فِي الْأَوَّلِ وَشَوَّالٌ فِي الثَّانِي ، وَسَادِسُهَا فِي تَقْرِيبِ أَجْوِبَةِ الْمَسَائِلِ اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْأَجْوِبَةِ الثَّانِيَةِ مُنْحَصِرَةً فِي أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ فَالطَّرَفَانِ جُمَادَى الْأَخِيرَةُ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْوَسَطُ شَوَّالٌ وَشَعْبَانُ ، وَتَقْرِيبُ ضَبْطِهَا أَنَّ جَمِيعَ الْبَيْتِ إنْ كَانَ قَبْلَ فَالْجَوَابُ بِذِي الْحِجَّةِ ، أَوْ بَعْدَ فَالْجَوَابُ جُمَادَى الْأَخِيرَةُ .
أَوْ تَرَكَّبَ مِنْ قَبْلَ وَبَعْدَ فَمَتَى وَجَدْت فِي الْآخَرِ قَبْلَ بَعْدَهُ أَوْ بَعْدَ قَبْلَهُ فَالشَّهْرُ مُجَاوِرٌ لِرَمَضَانَ ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ قَبْلَ بَعْدَهُ وَبَعْدَ قَبْلَهُ ، فَالْكَلِمَةُ الْأُولَى إنْ كَانَتْ حِينَئِذٍ قَبْلَ فَهُوَ شَوَّالٌ لِأَنَّ الْمَعْنَى قَبْلَهُ رَمَضَانُ أَوْ بَعْدَ فَهُوَ شَعْبَانُ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بَعْدَهُ رَمَضَانُ هَذَا إنْ اجْتَمَعَ آخِرُ الْبَيْتِ قَبْلَ وَبَعْدَ فَإِنْ اجْتَمَعَ قَبْلَانِ أَوْ بَعْدَانِ وَقَبْلَهُمَا مُخَالِفٌ لَهُمَا فَفِي الْبَعْدَيْنِ شَعْبَانُ وَفِي الْقَبْلَيْنِ شَوَّالٌ ، فَشَوَّالٌ ثَلَاثَةٌ وَشَعْبَانُ ثَلَاثَةٌ هَذِهِ السِّتَّةُ هِيَ الْوَاسِطَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ جُمَادَى وَذِي الْحِجَّةِ .
( فَصْلٌ ) هَذَا
تَقْرِيرُ الْبَيْتِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مِنْ الْتِزَامِ الْحَقِيقَةِ وَالْوَزْنِ ، وَأَمَّا عَلَى خِلَافِهِمَا مِنْ الْتِزَامِ الْمَجَازِ وَعَدَمِ النَّظْمِ بَلْ يَكُونُ الْكَلَامُ نَثْرًا فَتَصِيرُ الْمَسَائِلُ وَالْأَجْوِبَةُ سَبْعَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةٍ ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ بِتَقْدِيمِ بَيْتٍ مِنْ الشِّعْرِ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ بَيْتٍ مِنْ الشِّعْرِ وَثَلَاثِمِائَةِ بَيْتٍ وَعِشْرِينَ بَيْتًا مِنْ الشِّعْرِ نَظَمَهُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ الْمُتْقِنُ الْعَلَّامَةُ زَيْنُ الدِّينِ الْمَغْرِبِيُّ وَنَبَّهَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ وَلَخَّصَ حِسَابَ عَدَدِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : بِقَلْبِي حَبِيبٌ مَلِيحٌ ظَرِيفٌ بَدِيعٌ جَمِيلٌ رَشِيقٌ لَطِيفٌ وَهُوَ مِنْ بَحْرِ الْمُتَقَارِبِ ثَمَانِيَةُ أَجْزَاءٍ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا فِي كَلِمَةٍ يُمْكِنُ أَنْ يُنْطَقَ بِهَا مَكَانَ صَاحِبَتِهَا فَتُجْعَلُ كُلُّ كَلِمَةٍ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْبَيْتِ فَالْكَلِمَتَانِ الْأَوَّلِيَّانِ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمَا صُورَتَانِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ .
ثُمَّ تَأْخُذُ الثَّالِثَةَ فَتَحْدُثُ مِنْهَا مَعَ الْأَوَّلِيَّيْنِ سِتَّةُ أَشْكَالٍ بِأَنْ تُعْمِلَهَا قَبْلَ الْأَوَّلِيَّيْنِ وَبَعْدَهُمَا ثُمَّ تَقْلِبُهُمَا وَتُعْمِلُهَا قَبْلَهُمَا وَبَعْدَهُمَا ثُمَّ تُعْمِلُهَا بَيْنَهُمَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَتَحْدُثُ السِّتَّةُ فَيَكُونُ السِّرُّ فِيهِ أَنَّا ضَرَبْنَا الِاثْنَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي مَخْرَجِ الثَّالِثِ وَاثْنَانِ فِي ثَلَاثَةٍ بِسِتَّةِ ثُمَّ تَأْخُذُ الرَّابِعَ وَتُورِدُهُ عَلَى هَذِهِ السِّتَّةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ فَيَحْصُلُ مِنْ كُلِّ صُورَةٍ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ بِأَنْ تُعْمِلَ الرَّابِعَ قَبْلَ كُلِّ ثَلَاثَةٍ وَبَعْدَ أَوَّلِهَا وَبَعْدَ ثَانِيهَا وَبَعْدَ ثَالِثِهَا فَتَصِيرُ السِّتَّةُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ بِالْخَامِسِ وَالسَّادِسِ إلَى الثَّامِنِ ، وَمَتَى حَدَثَتْ صُورَةٌ أَضَفْنَا إلَيْهَا بَقِيَّةَ الْبَيْتِ فَتَبْقَى الْأُولَى ثَمَانِيَةً وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ الصُّوَرِ فَيَأْتِي الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ مِنْ الْآلَافِ بُيُوتًا تَامَّةً كُلُّ بَيْتٍ مِنْهَا
ثَمَانِيَةٌ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنْ تَضْرِبَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فِي مَخْرَجِ الْخَامِسِ وَهُوَ خَمْسَةٌ تَكُونُ مِائَةً وَعِشْرِينَ تَضْرِبُهَا فِي مَخْرَجِ السَّادِسِ وَهُوَ سِتَّةٌ تَكُونُ سَبْعَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ تَضْرِبُهَا فِي مَخْرَجِ السَّابِعِ وَهُوَ سَبْعَةٌ تَكُونُ خَمْسَةَ آلَافٍ وَأَرْبَعِينَ تَضْرِبُهَا فِي مَخْرَجِ الثَّامِنِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ تَكُونُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ بَيْتًا مِنْ الشِّعْرِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
( فَصْلٌ ) فِي ثَمَانِيَةِ مَسَائِلَ مِنْ الشُّرُوطِ اللُّغَوِيَّةِ فِيهَا مَبَاحِثُ دَقِيقَةٌ وَأُمُورٌ غَامِضَةٌ وَإِشَارَاتٌ شَرِيفَةٌ تَتَّضِحُ بِهَا قَاعِدَةُ الشُّرُوطِ اللُّغَوِيَّةِ تَمَامَ الِاتِّضَاحِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَنْشَدَ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ : مَا يَقُولُ الْفَقِيهُ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَلَا زَالَ عِنْدَهُ إحْسَانٌ فِي فَتًى عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَهْرٍ قَبْلَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ وَالْبَيْتُ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ بَيْتًا وَاحِدًا إلَّا أَنَّهُ مِنْ نَوَادِرِ الْأَبْيَاتِ فَإِنَّهُ مَعَ صُعُوبَةِ مَعْنَاهُ وَدِقَّةِ مَغْزَاهُ إمَّا أَنْ يُلْتَزَمُ فِيهِ صِحَّةُ الْوَزْنِ عَلَى الْقَانُونِ اللُّغَوِيِّ وَاسْتِعْمَالِ أَلْفَاظِهِ فِي حَقَائِقِهَا دُونَ مُجَازَاتِهَا فَيَكُونُ مُشْتَمِلًا عَلَى ثَمَانِيَةِ أَبْيَاتٍ فِي الْإِنْشَادِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كُلُّ بَيْتٍ مِنْهَا يَشْتَمِلُ عَلَى مَسْأَلَةٍ مِنْ الْفِقْهِ فِي التَّعَالِيقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ وَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ صَعْبَةُ الْمَغْزَى وَعِرَةُ الْمُرْتَقَى وَأَمَّا أَنْ يَلْتَزِمَ الْمَجَازَ فِي أَلْفَاظِهِ دُونَ الْحَقَائِقِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ ضَابِطِ الْوَزْنِ وَقَانُونِ الشِّعْرِ بِأَنْ يَطُولَ الْبَيْتُ نَحْوًا مِنْ ضِعْفِهِ فَيَكُونُ مُشْتَمِلًا عَلَى سَبْعِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ .
وَالتَّعَالِيقُ اللُّغَوِيَّةُ تَحْصُلُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثِ وَتَبْدِيلِهَا بِأَضْدَادِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا فِي مَجَازَاتِهَا وَتَنَقُّلِهَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ مُفْتَرِقَةً وَمُجْتَمِعَةً عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَاحْتَاجَ بَيَانُهُ إلَى مَقَاصِدَ ( الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ ) فِي تَقْرِيرِ الْبَيْتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْتِزَامِ اسْتِعْمَالِ أَلْفَاظِهِ فِي حَقَائِقِهَا مَعَ صِحَّةِ الْوَزْنِ عَلَى الْقَانُونِ اللُّغَوِيِّ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَبَاحِثَ .
( الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ ) هَذَا الْبَيْتُ ثَمَانِيَةُ أَبْيَاتٍ فِي التَّصْوِيرِ : أَحَدُهَا أَصْلٌ وَهُوَ اجْتِمَاعُ ثَلَاثِ قَبْلَاتٍ وَسَبْعٍ تَتَفَرَّعُ عَنْهُ بِأَنْ يُبَدِّلَ الْجَمِيعَ
بِالْبَعْدَاتِ نَحْوَ مَا بَعْدَ بَعْدِهِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ أَوْ يُبَدِّلَ مِنْ قَبْلِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ نَحْوَ قَبْلَ مَا قَبْلَ بَعْدِهِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ أَوْ يُبَدِّلَ مِنْ الثَّانِي وَالثَّالِثِ دُونَ الْأَوَّلِ نَحْوَ قَبْلَ مَا بَعْدَ بَعْدِهِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ أَوْ يُبَدِّلَ مِنْ الثَّانِي فَقَطْ دُونَ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ نَحْوَ قَبْلَ مَا بَعْدَهُ قَبْلَهُ وَهَذِهِ الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ أَوْ يُبَدِّلَ مِنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي دُونَ الثَّالِثِ نَحْوَ بَعْدَ مَا بَعْدَ قَبْلِهِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ السَّادِسَةُ أَوْ يُبَدِّلَ مِنْ الْأَوَّلِ فَقَطْ دُونَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ نَحْوَ بَعْدَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ السَّابِعَةُ أَوْ يُبَدِّلَ مِنْ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ دُونَ الثَّانِي نَحْوَ بَعْدَ مَا قَبْلَ بَعْدِهِ .
وَهَذِهِ الصُّورَةُ الثَّامِنَةُ الْمَبْحَثُ الثَّانِي يَنْبَنِي تَفْسِيرُ الشَّهْرِ الْمُرَادِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ الَّذِي أَفْتَى بِهِ شَيْخُ الْقَرَافِيِّ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ وَلَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ بِمِصْرَ ثُمَّ بِدِمَشْقَ عَلَى أُمُورٍ أَحَدُهَا مَا مَرَّ مِنْ الْتِزَامِ اسْتِعْمَالِ أَلْفَاظِ الْبَيْتِ فِي حَقَائِقِهَا لَا فِي مَجَازَاتِهَا الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْقَبْلَاتِ وَالْبَعْدَاتِ وَإِنْ كَانَتْ ظُرُوفًا زَمَانِيَّةً .
وَالْقَاعِدَةُ تَقْتَضِي أَنَّ مَظْرُوفَهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ شَهْرًا تَامًّا وَأَنْ يَكُونَ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ الشَّهْرِ الْمُرَادِ إذْ يَصْدُقُ عَلَى رَمَضَانَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ لَا الْمَجَازِ اللُّغَوِيِّ أَنَّهُ قَبْلَ شَوَّالٍ وَأَنَّهُ قَبْلَ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ إلَّا أَنَّ الْمَظْرُوفَ هَا هُنَا شَهْرٌ تَامٌّ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ بَلْ ذَلِكَ ضَرُورِيٌّ هَا هُنَا أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَا صَحِبَهُ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ الشَّهْرُ شَوَّالًا لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْمَظْرُوفِ عَلَى بَعْضِهِ كَيَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ وَحْدَهُ إلَّا عَلَى الْمَجَازِ وَالتَّفَاسِيرِ الْمُفْتَى بِهَا فِي صُوَرِ هَذَا الْبَيْتِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى
الْحَقِيقَةِ كَمَا عَلِمْت وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِمَا لَمْ يَصْحَبْهُ ضَمِيرُ الشَّهْرِ كَقَبْلِ الْمُتَوَسِّطِ فَلِأَنَّ رَمَضَانَ إذَا كَانَ قَبْلَ قَبْلِ الشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَتَعَيَّنَ أَنَّ مَظْرُوفَ أَحَدِ الْقَبْلَيْنِ وَهُوَ الْمُضَافُ إلَى الضَّمِيرِ شَهْرٌ تَعَيَّنَ أَنَّ مَظْرُوفَ الْقَبْلِ الْمُتَوَسِّطِ شَهْرٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ شَهْرَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الشُّهُورِ أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَبْلَ شَهْرٍ وَبَعْدَ شَهْرٍ بَلْ لَا يُوجَدُ بَيْنَ شَهْرَيْنِ عَرَبِيِّينَ إلَّا شَهْرٌ فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَظْرُوفَ هَذِهِ الظُّرُوفِ شُهُورٌ تَامَّةٌ وَأَمَّا الْأَشْهُرُ الْقِبْطِيَّةُ فَإِنَّ أَيَّامَ النَّسِيءِ تَتَوَسَّطُ بَيْنَ مِسْرَى وَتُوتٍ .
الْأَمْرُ الثَّالِثُ أَنَّ قَاعِدَةَ الْإِضَافَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي فِيهَا أَدْنَى مُلَابَسَةٍ كَقَوْلِ أَحَدِ حَامِلِي الْخَشَبَةِ خُذْ طَرَفَك فَجَعَلَ طَرَفَ الْخَشَبَةِ طَرَفًا لَهُ لِأَجْلِ الْمُلَابَسَةِ .
وَأُضِيفَ الْكَوْكَبُ لِلْخَرْقَاءِ فِي قَوْلِهِ ( : إذَا كَوْكَبُ الْخَرْقَاءِ لَاحَ بِسِحْرِهِ ) لِأَنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ لِعَمَلِهَا عِنْدَ طُلُوعِهِ وَاحْتَمَلَتْ هَذِهِ الْقَبْلَاتُ وَالْبَعْدَاتُ الْمُضَافُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ ظَرْفٍ أُضِيفَ لِمُجَاوِرِهِ أَوْ لِمُجَاوِرِ مُجَاوِرِهِ أَوْ لِمُجَاوِرِ مُجَاوِرِ مُجَاوِرِهِ عَلَى رُتَبٍ ثَلَاثٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ الشَّهْرُ الَّذِي قَبْلَ رَمَضَانَ هُوَ رَبِيعٌ فَإِنْ رَبِيعًا قَبْلَ رَمَضَانَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ بِالضَّرُورَةِ إلَّا أَنَّ الظُّرُوفَ الَّتِي فِي الْبَيْتِ حُمِلَتْ عَلَى الْمُجَاوِرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ الْأَسْبَقُ إلَى الْفَهْمِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ حَقِيقَةً أَيْضًا فَهَذِهِ الْمُلَاحَظَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْبَيْتِ الْمُفْتَى بِهَا .
الْأَمْرُ الرَّابِعُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّك إذَا قُلْتُ : قَبْلَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ أَوْ بَعْدَ مَا بَعْدَ بَعْدِهِ رَمَضَانُ فَالْقَبْلُ الْأَوَّلُ وَالْبَعْدُ الْأَوَّلُ هُوَ رَمَضَانُ لِأَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي ذَلِكَ الظَّرْفِ
وَمَتَى كَانَ الْقَبْلُ الْأَوَّلُ وَالْبُعْدُ الْأَوَّلُ هُوَ رَمَضَانُ فَالْقَبْلَانِ الْكَائِنَانِ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَبْلُ الَّذِي هُوَ رَمَضَانُ شَهْرَانِ آخَرَانِ يَتَقَدَّمَانِ عَلَى الشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَالْبَعْدَانِ الْأَخِيرَانِ شَهْرَانِ آخَرَانِ يَتَأَخَّرَانِ عَنْ الشَّهْرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَالرُّتَبُ دَائِمًا فِي الْبَيْتِ أَرْبَعٌ الشَّهْرُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ وَثَلَاثَةُ ظُرُوفٍ لِغَيْرِهِ هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ .
الْأَمْرُ الْخَامِسُ أَنَّهُ وَإِنْ احْتَمَلَ فِيمَا إذَا قُلْنَا قَبْلَ مَا بَعْدَ بَعْدِهِ رَمَضَانُ أَوْ قُلْنَا بَعْدَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الظُّرُوفُ الْمَنْطُوقُ بِهَا مُرَتَّبَةً عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ هُوَ رَمَضَانُ لَا أَنَّهُ فِي الْأُولَى شَوَّالٌ وَفِي الثَّانِيَةِ شَعْبَانُ كَمَا فِي تَفَاسِيرِ صُوَرِ الْبَيْتِ الْآتِيَةِ الْمُفْتَى بِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَرْضٌ لَهُ أَبْعَادٌ كَثِيرَةٌ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ فَهُوَ قَبْلَ جَمِيعِهَا وَكُلُّ شَيْءٍ فَرْضٌ لَهُ قَبْلَاتٌ كَثِيرَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ عَنْهُ فَهُوَ بَعْدَ جَمِيعِهَا فَرَمَضَانُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَبْلَ بَعْدِهِ وَبَعْدَ بَعْدِهِ وَجَمِيعُ مَا يُفْرَضُ مِنْ ذَلِكَ إلَى الْأَبَدِ فَهُوَ قَبْلَ تِلْكَ الظُّرُوفِ كُلِّهَا وَيَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَعْدَ قَبْلِهِ وَقَبْلَ قَبْلِهِ وَجَمِيعُ مَا يُفْرَضُ مِنْ ذَلِكَ إلَى الْأَبَدِ فَهُوَ بَعْدَ تِلْكَ الظُّرُوفِ كُلِّهَا .
لَكِنْ بِاعْتِبَارِ إضَافَتَيْنِ لَا إضَافَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يُقَالَ : اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مُحَالٌ فَهُوَ قَبْلُ بِاعْتِبَارِ شَوَّالٍ وَبَعْدُ بِاعْتِبَارِ شَعْبَانَ إلَّا أَنَّ مُقْتَضَى اللُّغَةِ خِلَافُ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَهُوَ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الظُّرُوفُ الْمَنْطُوقُ بِهَا مُرَتَّبَةً عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي اللَّفْظِ بَلْ تَكُونُ بَعْدَ الْأُولَى الْمُتَوَسِّطَةِ بَيْنَ قَبْلُ وَبَعْدُ فِي قَوْلِنَا قَبْلَ مَا بَعْدِ بَعْدِهِ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْمَعْنَى وَقَبْلَ الْمُتَقَدِّمَةُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ
الْبَعْدَيْنِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى بَعْدُ الْأَخِيرَةِ الَّتِي هِيَ الْأُولَى وَتَكُونُ بَعْدُ الْأَخِيرَةِ بَعْدُ وَقَبْلُ مَعًا بِالنِّسْبَةِ إلَى شَهْرَيْنِ وَاعْتِبَارَيْنِ كَمَا عَلِمْت وَيَكُونُ الشَّهْرُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ فِي قَوْلِنَا الْمَذْكُورِ شَعْبَانَ كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّفْسِيرِ الْمُفْتَى بِهِ لِأَنَّ شَعْبَانَ بَعْدَهُ رَمَضَانُ وَبَعْدَ بَعْدِهِ شَوَّالٌ وَقَبْلَ مُضَافٌ إلَى الْمَعْنَى لِلْبَعْدِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ شَوَّالٌ وَمُتَأَخِّرٌ عَنْهُ وَكُلٌّ مِنْ قَبْلُ وَبَعْدُ الْأَخِيرَةِ الَّتِي هِيَ الْأَوْلَى يَصْدُقَانِ عَلَى رَمَضَانَ وَمُنْطَبِقَانِ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ لِلشَّهْرَيْنِ شَوَّالٍ وَشَعْبَانَ وَلَيْسَ لَنَا شَهْرٌ بَعْدَهُ بَعْدَ أَنَّ رَمَضَانَ قَبْلَ الْبَعْدِ الثَّانِي وَعَيَّنَ الْبَعْدَ الْأَوَّلَ إلَّا شَعْبَانَ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ إذَا قَالَتْ : غُلَامُ غُلَامِ غُلَامِي أَوْ صَاحِبُ صَاحِبِ صَاحِبِي فَالْمَبْدُوءُ بِهِ هُوَ أَبْعَدُ الثَّلَاثَةِ عَنْك وَالْأَقْرَبُ إلَيْك هُوَ الْأَخِيرُ وَالْمُتَوَسِّطُ مُتَوَسِّطٌ فَالْغُلَامُ الْأَخِيرُ هُوَ عَبْدُك الْأَوَّلُ الَّذِي مَلَكْتَهُ فَمَلَكَ هُوَ عَبْدًا آخَرَ وَهُوَ الْمُتَوَسِّطُ وَمَلَكَ الْمُتَوَسِّطُ الْعَبْدَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَالْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ هُوَ الَّذِي مَلَكَهُ عَبْدُ عَبْدِ عَبْدِك لَا أَنَّهُ عَبْدُك وَقِسْ الْأَمْرَ السَّادِسَ مِمَّا يَنْبَنِي عَلَيْهَا تَفْسِيرُ جَمِيعِ صُوَرِ الْبَيْتِ الْمُفْتَى بِهِ .
قَاعِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ قَبْلُ وَبَعْدُ فَالْغِهِمَا لِأَنَّ كُلَّ شَهْرٍ حَاصِلٌ بَعْدَ مَا هُوَ قَبْلَهُ وَقَبْلَ مَا هُوَ بَعْدَهُ فَلَا يَبْقَى حِينَئِذٍ إلَّا بَعْدَهُ رَمَضَانُ فَيَكُونُ شَعْبَانُ أَوْ قَبْلَهُ رَمَضَانُ فَيَكُونُ شَوَّالٌ وَأَمَّا مَا جَمِيعُهُ قَبْلُ أَوْ جَمِيعُهُ بَعْدُ .
فَالْجَوَابُ فِي الْأَوَّلِ هُوَ الرَّابِعُ الَّذِي هُوَ ذُو الْحِجَّةِ لِأَنَّ مَعْنَى قَبْلَ مَا قَبْلَ قَبْلِهِ رَمَضَانُ شَهْرٌ تَقَدَّمَ رَمَضَانَ قَبْلَ شَهْرَيْنِ قَبْلَهُ وَفِي الثَّانِي هُوَ الرَّابِعُ أَيْضًا لَكِنْ عَلَى الْعَكْسِ وَهُوَ جُمَادَى الْآخِرَةُ لِأَنَّ مَعْنَى بَعْدَ مَا بَعْدَ