كتاب : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني
( واختر لنفسك أمرا أنت آمره ... كأنني لم أكن يوما ولم تكن )
ودخل السلطان أبو الحسن سجلماسة عنوة على أخيه السلطان أبي علي عمر سنة 734 وجاء به في الكبل لفاس ثم قتله بالفصد والخنق في ربيع الأول من السنة وكان القبض عليه في المحرم رحمه الله تعالى
ومما وجد مكتوبا على قصر بعض السلاطين
( قد كان صاحب هذا القصر مغتبطا ... في ظل عيش يخاف الناس من باسه )
( فبينما هو مسرور بلذته ... في مجلس اللهو مغبوط بجلاسة )
( إذ جاءه بغتة ما لا مرد له ... فخر ميتا وزال التاج عن راسه )
رجع إلى أخبار لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى قلت وقد زرت قبره مرارا رحمه الله تعالى بفاس المحروسة فوق باب المدينة الذي يقال له باب الشريعة وهو يسمى الآن باب المحروق وشاهدت موضع دفنه غير مستو مع الأرض بل ينزل إليه بانحدار كثير ويزعم الجل من عوام فاس أن الباب المذكور إنما سمي بباب المحروق لأجل ما وقع من حرق لسان الدين به حين أخرجه بعض أعدائه من حفرته كما مر وليس كذلك وإنما سمي باب المحروق في دولة الموحدين قبل أن يوجد لسان الدين ولا أبوه بسبب ثائر ثار على الدولة فأمسك وأحرق ذلك المحل والله غالب على أمره وحصل لي من الخشوع والحزن زيارة قبره رحمه الله تعالى ما لا مزيد عليه جعل الله له تلك المحن كفارة وطهره فإنه كان آية الله علما وجلالة وحكمة وشهرة
رسالة في العزاء بأبي جعفر ابن جبير
وقد تذكرت عند كتبي هذا المحل رسالة كتبها بعض أئمة المغرب في عزاء الوزير الشهير أبي جعفر ابن جبير الأندلسي رحمه الله تعالى إلى بنيه وهي مما يصلح أن يوصف بمثلها لسان الدين رحمه الله تعالى وفيها عزاء بمن مضى ونصها
عزاء يا كواكب الهدى في بدركم الذي تحيفه الردى وفجع به الفضل والندى فقل لشهب أن تنكدر على فراقه وللصبح أن يخبو نور إشراقه وللريح أن تمزق صدارا وللأهلة أن لا تعرف إبدارا ولليل أن يشتمل خميصة الحزن وللسماء أن تبكيه بأدمع المزن وللرعد أن ينتحب لوفاته وللبرق أن يحكي برجفاته أفئدة عفاته وللثريا ينفصم سوارها وللشمس أن تنكسف أنوارها وللنثرة تنثر كواكبها وللجوزاء أن تنفض مناكبها وللنيرات أن ترفض مواكبها وللرامح أن يبيت أعزلا وللبدر أن لا يألف منزلا وللمجرة أن يفيض دمعا نهرها وللغميصاء أن يطرد بكاؤها وسهرها وللروض أن يفارق إمراعه وللأوراق أن يهتف بما راعه وللغصون أن تنهصر لهتفه وتتقصف أسفا على حتفه
ولكن هو الحمام يختل ويختر ولا يحفل بمن يتر يعدم ما أوجده الكون ويذيل من أكنفه الصون وأين بنا عن مكافح لا نقاتله ورام أرواحنا مقاتله لا يد به ناصرة وعزمته قاصرة للقياصرة ويمينه كاسرة للأكاسرة لم يبق من رسم لطسم ولا من إحسان لغسان ولا من أياد لإياد ولا من سلطان لقحطان ولا من نجيب لتجيب ولاشرف ضخم للخم لم يكن له عن اليمنيين إقصار ومنهم الأنصار وهم أسماع للنبي وأبصار وعمد إلى المصابيح من مضر يطفيها هذا والوحي يتنزل فيها ولم يصخ في الصديق إلىالتصديق وأصمى الفاروق برداه وحكم فيه أبا لؤلؤة ومداه وأمكن صرف الأقدار من شهيد الدار ولم يرع من علي بالبسالة والذبل العسالة ولا أبقى سبطيه وقد تفقأت عنهما بيضة الرسالة وأذهب الزبير حواري الرسول وحنظلة وهو بأيدي الملائكة مغسول وأفات ابن معاذ ولم
يحفل بفوته على أنه اهتز العرش لموته وأودى بحمزة ومقعده من النبوة مقعد الأبوة وشفى من عمار صدور الأسل وأردى مالكا بشربة من عسل ولم يعبأ بمضاء عمرو ولا بحلم معاوية ودهاء عمرو
فيا له من خطب مود بكل يابس ورطب يشرب ماء الأعمار ويجعل الأحداث منازل الأقمار ويلوك السوقة والأملاك ولا يبالي أيه لاك لا يقبل شفيعا ولا يغادر منحطا ولا رفيعا ها هو اعتمد نور علا فكسفه وطود حلم فنسفه وأعلق المجد في حباله وأقصد الفضل بنباله وفجع كنانة بسهم لم ينثل مثله من كنانة فيا طارق الأعين لقد بؤت بأنفس الأعلاق ويا ناعيه لقد نعيت باسق الأخلاق رويدا أسائلك عمن لم تضع لديه وسائلك أين سماحه وطلاقته أين كلفه بالحمد وعلاقته ما الذي ثنى عطفه من الارتياح أم أين عافيه من ذلك الإمتياح أم من يؤلف أمنية كما ألفت السحب أيدي الرياح
فيا هبة الحمد اطوي عرفك فما تنشق ويا ربة المجد أقصري طرفك فما تعشق ويا معشر عفاته كيف حييتم وقد علمتم بوفاته ويا زمر أماله صفرت أيديكم من إجماله ويا أخاير صحابه أين مواقع سحابه ويا بني ولائه من يتبوأ مقام علائه ويا منافسي شيمه من يجود بمثل ديمه ويا منازعي كرمه من يطيف المعتفين بمثل حرمه ويا حاسدي هممه من له كحفاظه وذممه
سيدي لقد أضاءت مساعيك وأشرقت وأغصت الحاسدين طرا وأشرقت وحسبهم أن لم ينتبهوا إلا إذا نمت ولا نطقوا إلا حين مت وليهن ملاك وصحبك أن أحيتك صنائعك وقد قضيت نحبك وإن حم فناؤك فقد أبقى الحياة الخالدة ثناؤك
( ردت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور )
( والناس مأتمهم عليه واحد ... في كل دار أنه وزفير )
سيدي أما تجيب صرخة لهفان أم عداك عن الجواب أنك فان سيدي من لآملك ببسط أناملك من للمرملات الضرائك بإرشادك من لقربائك بصلتك وحبائك من لأخيك بمواثق أواخيك لأبنائك بلطف أحبائك انفض شملهم وكان جميعا ونادوك لو نادوا منك سميعا هذاكبيرهم يدعوك فلا تجيبه وقد فت الأضلاع وجيبه يبكي عند تلك الرجام بأدمع سجام وقد ألهبت الزفرات حشاه وألح الدمع بجفنه حتى أعشاه والأصاغر ما لهم بعدك مفزع ورضيعهم تسلب به الأنفس رحمة وتنزع لا يدري ما جزع عليك فيجزع لشد ما أذابتهم وقدة الأوار حين عدموا منك كرم النجوى والجوار أف لدهر رماهم بالأجوار وتركهم أنجما مسلوبة الأنوار لا جرم أن يحزنوا عليك ويكترثوا فلقد تسلوا عنك ببعض ما ورثوا وما ورثتهم غير الحزن والبث وأمل في الحياة كالهباء المنبث كما تتلى محاسنك فاسمع طفقت عليك شؤون عيني تدمع أيا ضريحة كيف وجدت ريحه لقد أرج بك ذلك المعفر حتى ما ينافحه المسك الأذفر وكما ظفرت بوجوده فجد كل قبر بجوده ففيه سماء ثرة وغمام ونور انضم عليه منك كمام ولو علمت بمن بين جنبيك راقد لعلوت حتى تلوح في ذراك الفراقد ويا دافنيه كيف هلتم عليه الرغام أولم تنكروا على الشمس أن تغام هيهات لقد سمحتم بإقبار عف الشمائل طيب الأخبار وإلحاد من لا نزاع في فضله ولا إلحاد أي نفس تخذتم له التراب مستودعا فأضحى عرنين المكارم مجدعا
( فتى مثل نصب السيف من حيث جئته ... لنائبة نابتك فهو مضارب )
( فتى همه حمد على النأي رابح ... وإن بات عنه ماله وهو عازب )
أما وإن ازدحمت بمهلكه الأوصاب وفدح الرزء وجل المصاب حتى لا نألف التأساء فلقد سر الموت من حيث ساء خلفنا بدهر ما فيه غير مصائب ولا يبالي من أقصد سهمه الصائب فيا فقيد الندى ما كان أجدرك بالخلود وأخلقك ويا جواد عمره ما كان أقصر طلقك ثوى حين استوى وتوارى إذ ملأ الأفق أنوارا وكسف حين بلغ الكمال فكان كالغصن عندما اعتدل مال أو كالشهاب عندما استقام حار
( وكذاك عمر كواكب الأسحار ... )
هذه اليراعة التحفت بعده الضنى والصحف تطوي على جهالة وتحني وعهدي به إن امتطى راحته اليراع راع أو دبج الأوراق راق أو استدر طبعه السلسال سال وأي روض أراد راد ومتى أراغ الإنشاء أحسن إن شاء فحق للفؤاد أن يستعر بوقده وللمدامع أن تسيل دما على فقده بيد أنه الموت لا بد أن نرد مشرعه ونسيغ على شرق به جرعه فإنا زرع يحصده الذي ازدرعه وصبرا يا ذوي أرحامه وبنيه ومن مر في غلواء الوجد فالسلوان يثنيه وشحا على أجركم لا يذهب به الجزع ويفنيه والله يزلف الفقيد من رحمته ويدنيه ويقطفه زهر رضوانه ويجنيه وييسر لكم العزاء الأجمل برحمته ويسنيه والسلام انتهت
قطع زهدية
ويرحم الله القائل( كل جمع إلى الشتات يصير ... أي صفو ما شابه تكدير )
( أنت في اللهو والأماني مقيم ... والمنايا في كل وقت تسير )
( والذي غره بلوغ الأماني ... بسراب وخلب مغرور )
( ويك يا نفس أخلصي إن ربي ... بالذي أخفت الصدور بصير )
ولا خفاء على ذوي الأحلام من الأعلام أن الدنيا أضغاث أحلام
( يندم المرء على ما فاته ... من لبانات إذا لم يقضها )
( وتراه فرحا مستبشرا ... بالتي أمضى كأن لم يمضها )
( إنها عندي كأحلام الكرى ... لقريب بعضها من بعضها )
وقال أبو منصور أسعد النحوي
( يجمع المرء ثم يترك ما يجمع ... من كسبه لغير شكور )
( ليس يحظى إلا بذكر جميل ... أو بعلم من بعده مأثور )
شيء من مواعظ ابن الجوزي
وقال الإمام الشهير أبوالفرج ابن الجوزي( يا ساكن الدنيا تأهب ... وانتظر يوم الفراق )
( وأعد زادا للرحيل ... فسوف يحدى بالرفاق )
( وابك الذنوب بأدمع ... تنهل من سحب المآق )
( يا من أضاع زمانه ... أرضيت ما يفنى بباق )
وكان ابن الجوزي المذكور آية الله في كثرة التأليف والكتابة والوعظ
والحفظ وأقل من كان يحضر مجلسه عشرة آلاف وربما حضر عنده مائة ألف وقال في آخر عمره على المنبر كتبت بإصبعي هاتين ألفي مجلدة وتاب على يدي مائة ألف وأسلم علىيدي عشرون ألف يهودي ونصراني وأسمع رحمه الله تعالى الناس أكثر من أربعين سنة وحدث بمصنفاته مرارا
وقال الحافظ الذهبي في حقه الحافظ الكبير الواعظ المفتن صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة في العلوم المتعددة وعظ من صغره وفاق فيه الأقران ونظم الشعر المليح وكتب بخطه ما لا يوصف ورأى من القبول والإحترام ما لا مزيد عليه وحزر مجلسه غير مرة بمائة ألف وحضر مجلسه المستضيء مرارا من وراء الستر انتهى
ومن كلامه في بعض مجالسه والله ما اجتمع لأحد أمله إلا وسعى في تفريقه أجله وعقارب المنايا تلسع الناس وخدران جسم الأمل يمنع الإحساس
وقال في قوله أعمار أمتي من الستين إلى السبعين إنما طالت أعمار القدماء لطول البادية فلما شارفت الركب بلد الإقامة قيل حثوا المطي
وقال في الذين عبدوا العجل لو أن الله خار لهم ما خار لهم
وقال يوما وقد طرب أهل المجلس فهمتم فهمتم
وقال في خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد أن ذكر أحاديث تدل على خلافته كقوله مروا أبا بكر فليصل بالناس وغيره ما صورته فهذه أحاديث تجري مجرى النص فهمها الخصوص غير أن الرافضة في إخفائها كاللصوص فقال السائل لما قال أقيلوني ما سمعنا مثل جواب علي رضي الله عنه والله لا أقلناك فقال لما غاب علي عن البيعة في الأول أخلف ما فات بالمدح في المستقبل ليعلم السامع والرائي أن بيعة أبي بكر وإن كانت من ورائي فهي رائي ومثل ذلك الصدر لا يرائي
وقال في قول فرعون ( أليس لي ملك مصر ) الزخرف 51 يفتخر
بما أجراه ما أجراه
وتواجد رجل في مجلسه فقل عجبا كلنا في إنشاد الضالة سوا فلم وجدت وحدك ألم الجوى وأنشد
( قد كتمت الحب حتى شفني ... وإذا ما كتم الداء قتل )
( بين عينيك علالات الكرى ... فدع النوم لربات الحجل )
ونظر يوما إلى أقوام يبكون في مجلسه ويتواجدون فأنشد
( ولو لم يهجني الظاعنون لهاجني ... حمائم ورق في الديار وقوع )
( تداعين فاستبكين من كان ذا هوى ... نوائح لم تقطر لهن دموع )
( وكيف أطيق العاذلين وذكرهم ... يؤرقني والعاذلون هجوع )
وقام رجل وتواجد فأنشد
( وما زال يشكو الشوق حتى كأنما ... تنفس من أحشائه وتكلما )
( ويبكي فأبكى رحمة لبكائه ... إذا ما بكى دمعا بكيت له دما )
وأعجبه يوما كلامه فأنشد
( تزدحم الألفاظ والمعاني ... على فؤادي وعلى لساني )
( تجري بي الأفكار في ميدان ... أزاحم النجم على مكان )
ووعظ المستضيء يوما فقال يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك وإن سكت خفت عليك فأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك لمحبتي لدوام أيامك وإن قول القائل اتق الله خير من قول القائل أنتم أهل بيت معفور لكم وقال الحسن البصري لأن تصحب أقواما يخوفونك حتى تبلغ المأمن
خير لك من ان تصحب أقواما يؤمنونك حتى تبلغ المخاوف وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول إذا بلغني عن عامل ظالم أنه قد ظلم الرعية ولم أغيره فأنا الظالم يا أمير المؤمنين كان يوسف عليه السلام لا يشبع في زمان القحط لئلا ينسى الجياع وكان عمر رضي الله عنه يصر بطنه عام الرمادة فيقول قرقري إن شئت أو لا تقرقري فوالله لا شبعت والمسلمون جياع فتصدق الخليفة المستضيء بصدقات كثيرة وأطلق من في السجن
وقال رحمه الله تعالى لبعض الولاة اذكر عدل الله فيك وعند العقوبة قدرة الله عليك وإياك أن تشفي غيظك بسقم دينك
وقال الطاعة تبسط اللسان والمعاصي تذل الإنسان
وقال له قائل ما نمت البارحة من شوقي إلى المجلس فقال نعم لأنك تريد أن تتفرج وإنما ينبغي أن لا تنام الليلة لأجل ما سمعت فيه
وقيل له إن فلان أوصى عند الموت فقال طين سطوحه في كانون
وقال له قائل أسبح أم أستغفر فقال الثياب الوسخة أحوج إلى الصابون من البخور
وسأله سائل ما الذي وقر في قلب أبي بكر رضي الله عنه فقال قوله ليلة المعراج إن كان قال فلقد صدق فله السبق
ولما قال له بعضهم سيف علي نزل من السماء فسعفة أبي بكر أين أجابه بقوله إن سعفة هزت يوم الردة فأثمرت سبيا جاء منه مثل ابن الحنفية لأمضى من سيوف الهند ثم قال يا عجبا للروافض إذا مات لهم ميت تركوا معه سعفة من أين ذا المصطلح
وسئل عن معنى قوله من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى أبي بكر فقال الميت يقسم ماله ويكفن وأبو بكر أخرج ماله كله وتخلل بالعباء
وقال في قوله تعالى ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا ) الأعراف 43
قال علي إني والله لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم ثم قال أبو الفرج إذا اصطلح أهل الحرب فما بال النظارة
وقال قال جبريل لرسول الله سلم على عائشة ولم يواجهها بالخطاب احتراما لزوجها وواجه مريم لأنها لم يكن لها زوج فمن يحترمها جبريل كيف يجوز في حقها الأباطيل
قال أبو شامة وكان ابن الجوزي رحمه الله تعالى مبتلى بالكلام في مثل هذه الأشياء لكثرة الروافض ببغداد وتعنتهم بالسؤالات فيها فكان بصيرا بالخروج منها لحسن إشارته
وانقطع القراء يوما عن مجلسه فأنشد
( وما الحلي إلا زينة لنقيصة ... يثمم من حسن إذا الحسن قصرا )
( وأما إذا كان الجمال موفرا ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا )
وقيل له لم تعلل موسى عليه السلام بسوف تراني فأنشد
( إن لم يكن وصل لديك لنا ... يشفي الصبابة فليكن وعد )
ولما ذكر أن بلالا رضي الله عنه لما منع الطواف بالبيت كان يقف من بعيد وينظر إليه ويبكي أنشد
( أمر على منازلهم وإني ... بمن أضحى بها صب مشرق )
( وأومي بالتحية من بعيد ... كما يومي بإصبعه الغريق )
ومن شعر أبي الفرج رحمه الله تعالى
( لعبت ومثلك لا يلعب ... وقد ذهب الأطيب الأطيب )
( وقد كنت في ظلمات الشباب ... فلما أضاء انجلى الغيهب )
( ألا أين أقرانك الراحلون ... لقد لاح إذ ذهبوا المذهب )
ولنقتصر على هذا المقدار ونرجع إلى أحوال لسان الدين رحمه الله تعالى وارتحاله والاعتبار بحاله فنقول
ومما يناسب أن نذكره في هذا المحل ونثبته فيه ما حكاه العالم العلامة بلدينا سيدي أبو الفضل ابن الإمام التلمساني رحمه الله تعالى جدي الإمام قاضي القضاة سيدي أبي عبد الله المقري التلمساني رحمه الله تعالى أحد أشياخ لسان الدين كما يأتي إن شاء الله ذلك في محله قال كنت مع ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الخطيب في جامع إلبيرة من الأندلس إذ مر بنا الاعتبار في تلك الآثار فأنشد ابن الخطيب ارتجالا
( أقمنا برهة ثم ارتحلنا ... كذاك الدهر حال بعد حال )
( وكل بداية فإلى انتهاء ... وكل إقامة فإلى ارتحال )
( ومن سام الزمان دوام حال ... فقد وقف الرجاء على المحال ) انتهى
وحكى لسان الدين في الإحاطة عن نفسه أنه خطط هذه الأبيات في مرحلة نزلها رحمه الله تعالى حسبما يأتي ذلك في شعره
وما أحسن قوله رحمه الله تعالى
( لبسنا فلم نبل الزمان وابلانا ... يتابع أخرانا على الغي أولانا )
( ونغتر بالآمال والعمر ينقضي ... فما كان بالرجعي إلىالله أولانا )
( وماذا عسى أن ينظر الدهر من عسا ... فما انقاد للزجر الحثيث ولا لانا )
( جزينا صنيع الله شر جزائه ... فلم نرع ما من سابق الفضل أولانا )
( فيا رب عاملنا بما أنت أهله ... من العفو واجبر صدعنا أنت مولانا )
وقد حكى غير واحد أنه رحمه الله تعالى ريء بعد موته في المنام فقال له الرائي ما فعل الله بك فقال غفر لي ببيتين قلتهما وهما
( يا مصطفى من قبل نشأة آدم ... والكون لم تفتح له أغلاق )
( أيروم مخلوق ثناءك بعدما ... أثنى على أخلاقك الخلاق )
وقد كرر رحمه الله تعالى هذا المعنى في قصيدة في حقه وشرف وكرم ومجد وعظم وبارك وأنعم وهو قوله
( مدحتك آيات الكتاب فما عسى ... يثني على علياك نظم مديحي )
( وإذا كتاب الله أثنى مفصحا ... كان القصور قصار كل فصيح )
وستأتي هذه القصيدة في نظمه إن شاء الله تعالى
وقد رأيت بالمغرب تخميسا للبيتين الأولين منسوبا للأديب الشهير الذكر بالمغرب أبي عبد الله محمد بن جابر الغساني المكناسي رحمه الله تعالى ولا بأس أن نورده هنا وهو قوله رحمه الله تعالى
( يا سائلا لضريح خير العالم ... ينهي إليه مقام صب هائم )
( بالله ناد وقل مقالة عالم ... يا مصطفى من قبل نشأة آدم )
( والكون لم تفتح له أغلاق ... )
( بثناك قد شهدت ملائكة السما ... والله قد صلى عليك وسلما )
( يا مجتبى ومعظما ومكرما ... أيروم مخلوق ثناءك بعدما )
( أثنى على أخلاقك الخلاق ... )
وما احسن قول لسان الدين رحمه الله تعالى بعدما عرف بنفسه وسلفه وكأني بالحي ممن ذكر قد التحق بالميت وبالقبر قد استبدل من البيت
وقال رحمه الله تعالى بعد إيراد جملة من نظمه ما صورته وقلت والبقاء لله وحده وبه يختم الهدر
( عد عن كيت وكيت ... ما عليها غير ميت )
( كيف ترجى حالة البقيا ... لمصباح وزيت )
وسيأتي ذلك ولقد صدق رحمه الله تعالى ورقى درجته في الجنة
تحقيق في نسبة بيتين
وأما البيتان الشائعان على ألسنة أهل المشرق والمغرب وأنهما قيلا في لسان الدين رحمه الله تعالى وبعضهم ينسبهما له نفسه فالصحيح خلاف ذلك كما سيأتي وهما( قف كي ترى مغرب شمس والضحى ... بين صلاة العصر والمغرب )
( واسترحم الله قتيلا بها ... كان إمام العصر في المغرب )
وشرح بعضم البيتين فقال إن قوله قتيلا بها من باب الاستخدام أي قتيلا بشمس الضحى التي هي المنغزل فيها
قد رأيت وأنا بالمغرب بخط الشيخ الأغصاوي أنهما لم يعن بهما قائلهما لسان الدين ابن الخطيب وإنما هما مقولان في غيره ونسبهما ونسيت الآن ذلك لطول العهد والله أعلم
ويدل على ذلك أنه رحمه الله تعالى لم يقتل بين صلاة العصر والمغرب
وإنما قتل في جوف الليل كما علم في محله على أنه يمكن بتكليف تأويل ذلك بأنه قامت لقائلهما قرينة على أنه بصدد الموت في ذلك الوقت وهذا لو ثبت أنهما قيلا فيه وقد علمت أن الأغصاوي نفى ذلك فالله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك
ثم رأيت في كتاب إسماعيل بن الأحمر في ترجمة بعض العلماء ما نصه فمن قوله يرثي الأمراء بالمغرب وقد حل رمسه بين صلاة العصر والمغرب
( قف كي ترى مغرب شمس العلا ... بين صلاة العصر والمغرب )
( واسترحم الله دفينا به ... كان مليك العصر في المغرب )
وهذا مما يبعد أنهما في لسان الدين من وجوه لا تخفى على المتأمل منها قوله كان مليك العصر فإن لسان الدين لم يكن كذلك وقد تقدم آنفا كان إمام العصر في المغرب وهو أحسن لما فيه من التورية البديعة والله أعلم
ثلاث قصائد لابن زمرك
رجع إلى أخبار لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى وقد عرض عدوه الرئيس ابن زمرك في بعض قصائده التي مدح بها سلطانه الغني بالله أبا عبد الله ابن نصر بما تسنى له من الظفر بابن الخطيب ومن حماه منه وهو الوزير ابن الكاس على يد من عينه لملك المغرب وأعانه بجند وعضده كما تقدم وهو السلطان أحمد المريني فقال من قصيدة عيدية( يهني زمانك أعياد مجددة ... من الفتوح مع الأيام تغشاه )
( غضبت للدين والدنيا بحقهما ... يا حبذا غضب في الله أرضاه )
( فوقت للغرب سهما راشه قدر ... وسدد الله للأعداء مرماه )
( سهم أصاب وراميه بذي سلم ... لقد رمى الغرض الأقصى فأصماه )
( من كان بندك يا مولاي يقدمه ... فليس يخلفه فتح ترجاه )
( من كان جندك جند الله ينصره ... أناله الله ما يرجو وسناه )
( ملكته غربه خلدت من ملك ... للغرب والشرق منه ما تمناه )
( وسام أعداءك الأشقين ما كسبوا ... ومن تردى رداء الغدر أرداه )
( قل للذي رمدت جهلا بصيرته ... فلم تر الشمس شمس الهدى عيناه )
( غطى الهوى عقله حتى إذا ظهرت ... له المراشد أعشاه وأعماه )
( هل عنده وذنوب الغدر توبقه ... أن الذي قد كساه العز أعراه )
( لو كان يشكر ما أوليت من نعم ... ما زلت ملجأه الأحمى ومنجاه )
( سل السعود وخل البيض مغمدة ... فالسيف مهما مضى فالسعد أقصاه )
( واشرع من البرق نصلا راع مصلته ... وارفع من الصبح بندا راق مجلاه )
( فالعدوتان وما قد ضم ملكهما ... أنصار ملكك صان الله علياه )
( لا أوحش الله قطرا أنت مالكه ... وآنس الله بالألطاف مغناه )
( لا أظلم الله أفقا أنت نيره ... لا أهمل الله سرحا أنت ترعاه )
( واهنأ بشهر صيام جاء زائره ... مستنزلا من إله العرش رحماه )
( أهل بالسعد فانهلت به منن ... وأوسع الصنع إجمالا ووفاه )
( أما ترى بركات الأرض شاملة ... وأنعم الله قد عمت براياه )
( وعادك العيد تستحلي موارده ... ويجزل الأجر والرحمى مصلاه )
( جهزت جيش دعاء فيه ترفعه ... لذي المعارج والإخلاص رقاه )
( أفضت فيه من النعماء أجزلها ... وأشرف البر بالإحسان زكاه )
( واليت للخلق ما أوليت من نعم ... والى لك الله ما أولى ووالاه )
وأول هذه القصيدة
( هذي العوالم لفظ أنت معناه ... كل يقول إذا استنطقته الله )
( بحر الوجود وفلك الكون جارية ... وباسمك الله مجراه ومرساه )
( من نور وجهك ضاء الكون أجمعه ... حتى تشيد بالأفلاك مبناه )
( عرش وفرش وأملاك مسخرة ... وكلها ساجد لله مولاه )
( سبحان من أوجد الأشياء من عدم ... وأوسع الكون قبل الكون نعماه )
( من ينسب النور للأفلاك قلت له ... من أين أطلعت الأنوار لولاه )
( مولاي مولاي بحر الجود أغرقني ... والخلق أجمع في ذا البحر قد تاهوا )
( فالفلك تجري كما الأفلاك جارية ... بحر السماء وبحر الأرض أشباه )
( وكلهم نعم للخلق شاملة ... تبارك الله لا تحصى عطاياه )
( يا فاتق الرتق من هذا الوجود كما ... في سابق العلم قد خطت قضاياه )
( كن لي كماكنت لي إذ كنت لا عمل ... أرجو ولا ذنب قد أذنبت أخشاه )
( وأنت في حضرات القدس تنقلني ... حتى استقر بهذا الكون مثواه )
( ما أقبح العبد أن ينسى وتذكره ... وأنت باللطف والإحسان ترعاه )
( غفرانك الله من جهل بليت به ... فمن أفاد وجودي كيف أنساه )
( مني علي حجاب لست أرفعه ... إلا بتوفيق هدى منك ترضاه )
( فعد علي بما عودت من كرم ... فأنت أكرم من أملت رحماه )
( ثم الصلاة صلاة الله دائمة ... على الذي باسمه في الذكر سماه )
( المجتبي وزناد النور ما قدحت ... ولا ذكا من نسيم الروض مسراه )
( والمصطفى وكمام الكون ما فتقت ... عن زهر زهر يروق العين مرآه )
( ولا تفجر نهر للنهار على ... در الدراري فغطاه وأخفاه )
( يا فاتح الرسل أو يا ختمها شرفا ... والله قدس في الحالين معناه )
( لم أدخر غير حب فيك أرفعه ... وسيلة لكريم يوم ألقاه )
( صلى عليك إله أنت صفوته ... ما طيبت بلذيذ الذكر أفواه )
( وعم بالروح والريحان صحبته ... وجادهم من نمير العفو أصفاه )
( وخص أنصاره الأعلين صفوته ... وأسكنوا من جوار الله أعلاه )
( أنصار ملته أعلام بيعته ... مناقب شرفت أثنى بها الله )
( وأيد الله من أحيا جهادهم ... وواصل الفخر أخراه بأولاه )
( المنتقى من صميم الفخر جوهره ... ما بين نصر وأنصار تهاداه )
( العلم والحلم والإفضال شيمته ... والبأس والجود بعض من سجاياه ) وهي طويلة ولنقتصر منها على ما ذكر
وقد صرح ابن زمرك المذكور في قصيدة أخرى مدح بها سلطانه الغني بالله وهنأه بفتح المغرب على يد السلطان أحمد وذكر فيها ظفره بالوزير ابن الكاس وهو أعني ابن الكاس كان القائم بنصرة لسان الدين والمانع له والمجير له منهم حين طلبوه منه فلما لم يخفر ذمته تمكنت كما سبق أسباب العداوة وجر ذلك أن أغرى السلطان أحمد على تملك فاس واشترطوا عليه كما مر القبض على لسان الدين وإرساله إليهم وقد نقلت أنا هذه القصيدة من تأليف لحفيد السلطان الغني بالله ونص محل الحاجة منه ومن ذلك أيضا قوله يعني ابن زمرك هناء لمولانا الجد رحمه الله تعالى بالفتح المغربي للسلطان أبي العباس ابن السلطان أبي سالم المريني
( هي نفحة هبت من الأنصار ... أهدتك فتح ممالك الأمصار )
( في بشرها وبشارة الدنيا بها ... مستمتع الأسماع والأبصار )
( هبت على قطر الجهاد فروضت ... أرجاءه بالنفحة المعطار )
( وسرت وأمر الله طي برودها ... يهدي البرية صنع لطف الباري )
( مرت بأدواح المنابر فانبرت ... خطباؤها مفتنة الأطيار )
( حنت معارجها إلى أعشارها ... لما سمعن بها حنين عشار )
( لو أنصفتك لكللت أدواحها ... تلك البشائر يانع الأزهار )
( فتح الفتوح أتاك في حلل الرضى ... بعجائب الأزمان والأعصار )
( فتح الفتوح جنيت من أفنانه ... ما شئت من نصر ومن أنصار )
( كم آية لك في السعود جلية ... خلدت منها عبرة استبصار )
( كم حكمة لك في النفوس خفية ... خفيت مداركها عن الأفكار )
( كم من أمير أم بابك فانثنى ... يدعى الخليفة دعوة الإكبار )
( أعطيت أحمد راية منصورة ... بركاتها تسري من الأنصار )
( أركبته في المنشآت كأنما ... جهزته في وجهه لمزار )
( من كل خافقة الشراع مصفق ... منها الجناح تطير كل مطار )
( ألقت بأيدي الريح فضل عنانها ... فتكاد تسبق لمحة الأبصار )
( مثل الجياد تدافعت وتسابقت ... من طافح الأمواج في مضمار )
( لله منها في المجاز سوابح ... وقفت عليك الفخر وهي جواري )
( لما قصدت بها مراسي سبتة ... عطفت على الأسوار عطف سوار )
( لما رأت من صبح عزمك غرة ... محقوقة بأشعة الأنوار )
( ورأت جبينا دونه شمس الضحى ... لبتك بالإجلال والإكبار )
( فأفضت فيها من نداك مواهبا ... حسنت مواقعها على التكرار )
( ورأيت أهل الغرب عزم مغرب ... قد ساعدته غرائب الأقدار )
( وخطبت من فاس الجديد عقيلة ... لبتك طوع تسرع وبدار )
( ما صدقوا متن الحديث بفتحها ... حتى رأوه في متون شفار )
( وتسمعوا الأخبار باستفتاحها ... والخبر قد أغنى عن الأخبار )
( قولوا لقرد في الوزارة غره ... حلم مننت به على مقدار )
( أسكنته من فاس جنة ملكها ... متنعما منها بدار قرار )
( حتى إذا كفر الصنيعة وازدرى ... بحقوقها ألحقته بالنار )
( جرعت نجل الكأس كأسا مرة ... دست إليه الحتف في الإسكار )
( كفر الذي أوليته من نعمة ... لا تأنس النعماء بالكفار )
( فطرحته طرح النواة فلم يفز ... من عز مغربه بغير فرار )
( لم يتفق لخليفة مثل الذي ... أعطى الإله خليفة الأنصار )
( لم أدر والأيام ذات عجائب ... تردادها يحلو على التذكار )
( ألواء صبح في ثنية مشرق ... أم راية في جحفل جرار )
( وشهاب أفق أم سنان لامع ... ينقض نجما في سماء غبار )
( ومناقب المولى الإمام محمد ... قد أشرقت أم هن زهر دراري )
( فاق الملوك بهمة علوية ... من دونها نجم السماء الساري )
( لو صافح الكف الخضيب بكفه ... فخرت بنهر للمجرة جاري )
( والشهب تطمع في مطالع أفقها ... لو أحرزت منه منيع جوار )
( سل بالمشارق صحبها عن وجهه ... يفتر منه عن جبين نهار )
( سل بالغمائم صوبها عن كفه ... تنبيك عن بحر بها زخار )
( سل بالبروق صفاحها عن عزمه ... تخبرك عن أمضى شبا وغرار )
( قد أحرز الشيم الخطيرة عندما ... أمطى العزائم صهوة الأخطار )
( إن يلق ذو الإجرام صفحة صفحة ... فسح القبول له خطا الأعمار )
( يا من إذا هبت نواسم حمده ... أزرت بعرف الروضة المعطار )
( يا من إذا افترت مباسم بشره ... وهب النفوس وعاث في الإقتار )
( يا من إذا طلعت شموس سعوده ... تعشي أشعتها قوى الأبصار )
( قسما بوجهك في الضياء وإنه ... شمس تمد الشمس بالأنوار )
( قسما بعزمك في المضاء فإنه ... سيف تجرده يد الأقدار )
( لسماح كفك كلما استوهبته ... يزري بغيث الديمة المدرار )
( لله حضرتك العلية لم تزل ... يلقي الغريب بها عصا التسيار )
( كم من طريد نازح قذفت به ... أيدي النوى في القفر رهن سفار )
( بلغته ما شاء من آماله ... فسلا عن الأوطان بالأوطار )
( صيرت بالإحسان دارك داره ... متعت بالحسنى وعقبى الدار )
( والخلق تعلم أنك الغوث الذي ... يضفي عليها وافي الأستار )
( كم دعوة لك في المحول مجابة ... أغرت جفون المزن باستعبار )
( جادت مجاري الدمع من قطر الندى ... فرعى الربيع لها حقوق الجار )
( فأعاد وجه الأرض طلقا مشرقا ... متضاحكا بمباسم النوار )
( يا من مآثره وفضل جهاده ... تحدى القطار بها إلى الأقطار )
( حطت البلاد ومن حوته ثغورها ... وكفى بسعدك حاميا لذمار )
( فلرب بكر للفتوح خطبتها ... بالمشرفية والقنا الخطار )
( وعقيلة للكفر لما رعتها ... أخرست من ناقوسها المهذار )
( أذهبت من صفح الوجود كيانها ... ومحوتها إلا من التذكار )
( عمروا بها جنات عدن زخرفت ... ثم انثنوا عنها ديار بوار )
( صبحت منها روضة مطلولة ... فأعدتها للحين موقد نار )
( واسود وجه الكفر من خزي متى ... ما احمر وجه الأبيض البتار )
( ولرب روض للقنا متأود ... ناب الصهيل به عن الأطيار )
( مهما حكت زهر الأسنة زهره ... حكت السيوف معاطف الأنهار )
( متوقد لهب الحديد بجوه ... تصلى به الأعداء لفح أوار )
( فبكل ملتفت صقال مشهر ... قداح زند للحفيظة واري )
( في كف أروع فوق نهد سابح ... متموج الأعطاف في الإحضار )
( من كل منخفر بلمحة بارق ... حمل السلاح به على طيار )
( من أشهب كالصبح يطلع غرة ... في مستهل العسكر الجرار )
( أو أدهم كالليل إلا انه ... لم يرض بالجوزاء حلي عذار )
( أو أحمر كالجمر يذكي شعلة ... وقد ارتمى من بأسه بشرار )
( أو أشقر حلي الجمال أديمه ... وكساه من زهو جلال نضار )
( أو أشعل راق العيون كأنه ... غلس يخالط سدفة بنهار )
( شهب وشقر في الطراد كأنها ... روض تفتح عن شقيق بهار )
( عودتها أن ليس تقرب منهلا ... حتى يخالط بالدم الموار )
( يا أيها الملك الذي أيامه ... غرر تلوح بأوجه الأعصار )
( يهني لواءك أن جدك زاحف ... بلواء خير الخلق للكفار )
( لا غرو أن فقت الملوك سيادة ... إذ كان جدك سيد الأنصار )
( السابقون الأولون إلى الهدى ... والمصطفون لنصرة المختار )
( متهللون إذا النزيل عراهم ... سفروا له عن أوجه الأقمار )
( من كل وضاح الجبين إذا احتبى ... تلقاه معصوبا بتاج فخار )
( قد لاث صبحا فوق بدر بعدما ... لبس المكارم وارتدى بوقار )
( فاسأل ببدر عن مواقف بأسهم ... فهم تلافوا أمره ببدار )
( لهم العوالي عن معالي فخرها ... نقل الرواة عوالي الأخبار )
( وإذا كتاب الله يتلو حمدهم ... أودى القصور بمنة الأشعار )
( يا ابن الذين إذا تذوكر فخرهم ... فخروا بطيب أرومة ونجار )
( حقا لقد أوضحت من آثارهم ... لما أخذت لدينهم بالثار )
( أصبحت وارث مجدهم وفخارهم ... ومشرف الأعصار والأمصار )
( يا صادرا في الفتح عن ورد المنى ... رد ناجح الإيراد والإصدار )
( واهنأ بفتح جاء يشتمل الرضى ... جذلان يرفل في حلى استبشار )
( وإليكها ملء العيون وسامة ... حيتك بالأبكار من أفكاري )
( تجري حداة العيس طيب حديثها ... يتعللون به عل الأكوار )
( إن مسهم لفح الهجير أبلهم ... منه نسيم ثنائك المعطار )
( وتميل من اصغى لها فكأنني ... عاطيته منها كؤوس عقار )
( قذفت بحور الفكر منها جوهرا ... لما وصفت أناملا ببحار )
( لا زلت للإسلام سترا كلما ... أم الحجيج البيت ذا الأستار )
( وبقيت يا بدر الهدى تجري بما ... شاءت علاك سوابق الأقدار )
انتهت
ولابن زمرك السابق قصيدة أخرى قالها بعد موت لسان الدين ابن الخطيب وخلع السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم الذي قتل ابن الخطيب في دولته وكان سلطان الأندلس موئلا للسلطان أحمد المذكور ولذلك امتعض لرده لملكه فقال ابن زمرك وزير صاحب الأندلس بعد ابن الخطيب هذه القصيدة يمدح بها سلطانه أثناء وجهته لتجديد الدولة الأحمدية المذكورة صدر عام تسعة وثمانين وسبعمائة
( هب النسيم على الرياض مع السحر ... فاستيقظت في الدوح أجفان الزهر )
( ورمى القضيب دراهما من نوره ... فاعتاض من طل الغمام بها درر )
( نثر الأزاهر بعدما نظم الندى ... يا حسن ما نظم النسيم وما نثر )
( قم هاتها والجو أزهر باسم ... شمسا تحل من الزجاجة في قمر )
( إن شجها بالماء كف مديرها ... ترميه من شهب الحباب بها شرر )
( نارية نورية من ضوئها ... يقد السراج لنا إذا الليل اعتكر )
( لم يبق منها الدهر إلا صبغة ... قد أرعشت في الكأس من ضعف الكبر )
( من عهد كسرى لم يفض ختامها ... إذ كان يدخر كنزها فيما دخر )
( كانت مذاب التبر فيما قد مضى ... فأحالها ذوب اللجين لمن نظر )
( جدد بها عرس الصبوح فإنها ... بكر تحييها الكرام مع البكر )
( وابلل بها رمق الأصيل عشية ... والشمس من وعد الغروب على خطر )
( محمرة مصفرة قد أظهرت ... خجل المريب يشوبه وجل الحذر )
( من كف شفاف تجسد نوره ... من جوهر لألاء بهجته بهر )
( تهوي البدور كماله وتود أن ... لو أوتيت منه المحاسن والغرر )
( قد خط نون عذاره في خده ... قلمان من آس هنالك ومن شعر )
( والى عليك بها الكؤوس وربما ... يسقيك من كأس الفتور إذا فتر )
( سكر الندامى من يديه ولحظه ... متعاقب مهما سقى وإذا نظر )
( حيث الهديل مع الهدير تناغيا ... فالطير تنشد في الغصون بلا وتر )
( والقضب مالت للعناق كأنها ... وفد الأحبة قادمين من السفر )
( متلاعبات في الحلي ينوب في ... وجناتهن الوردحسنا عن خفر )
( والنرجس المطلول يرنو نحوها ... بلواحظ دمع الندى مهما انهمر )
( والنهر مصقول الحسام متى يرد ... درع الغدير مصفقا فيه صدر )
( يجري على الحصباء وهي جواهر ... متكسرا من فوقها مهما عثر )
( هل هذه أم روضة البشرى التي ... فيها لأرباب البصائر معتبر )
( لم أدر من شغف بها وبهذه ... من منهما فتن القلوب ومن سحر )
( جاءت بها الأجفان ملء ضلوعها ... ملء الخواطر والمسامع والبصر )
( ومسافر في البحر ملء عنانه ... وافى مع الفتح المبين على قدر )
( قادته نحوك بالحطام كأنه ... جمل يساق إلى القياد وقد نفر )
( وأراه دين الله عزة أهله ... بك يا أعف القادرين إذا قدر )
( يا فخر أندلس وعصمة أهلها ... للناس سر في اختصاصك قد ظهر )
( كم معضل من دائها عالجته ... فشفيت منه بالبدار وبالبدر )
( ماذا عسى يصف البليغ خليفة ... والله ما أيامه إلا غرر )
( ورثت هذا الفخر يا ملك الهدى ... من كل من آوى النبي ومن نصر )
( من شاء يعرف فخرهم وكمالهم ... فليتل وحي الله فيهم والسير )
( أبناؤهم أبناء نصر بعدهم ... بسيوفهم دين الإله قد انتصر )
( مولاي سعدك والصباح تشابها ... وكلاهما في الخافقين قد اشتهر )
( هذا وزير الغرب عبد آبق ... لم يلف غيرك في الشدائد من وزر )
( كفر الذي أوليته من نعمة ... والله قد حتم العذاب لمن كفر )
( إن لم يمت بالسيف مات بغيظه ... وصلى سعيرا للتأسف والفكر )
( ركب الفرار مطيه ينجو بها ... فجرت به حتى استقر على سقر )
( وكذا أبوه وكان منه حمامه ... قد حم وهو من الحياة على غرر )
( بلغته والله أكبر شاهد ... ما شاء من وطن يعز ومن وطر )
( حتى إذا جحد الذي أوليته ... لم تبق منه الحادثات ولم تذر )
( في حاله والله أعظم عبرة ... لله عبد في القضاء قد اعتبر )
( فاصبر تنل أمثالها في مثله ... إن العواقب في الأمور لمن صبر )
( رد حيث شئت مسوغا ورد المنى ... فالله حسبك في الورود وفي الصدر )
( لا زلت محروسا بعين كلاءة ... ما دام عين الشمس تعشي من نظر )
ومنها وقد أضاف إليه من التغزل طوع بداره وحجة اقتداره فقال
( والعود في كف النديم بسر ما ... تلقي لنا منه الأنامل قد جهر )
( غنى عليه الطير وهو بدوحه ... والآن غنى فوقه ظبي أغر )
( عود ثوى حجر القضيب رعى له ... أيام كانا في الرياض مع الشجر )
( لا سيما لما رأى من ثغره ... زهرا وأين الزهر من تلك الدرر )
( ويظن أن عذاره من آسه ... ويظن تفاح الخدود من الثمر )
( يسبي القلوب بلفظه وبلحظه ... وافتنتي بين التكلم والنظر )
( قد قيدته لأنسنا أوتاره ... كالظبي قيد في الكناس إذا نفر )
( لم يبل قلبي قبل سمع غنائه ... بمعذر سلب العقول وما اعتذر )
( جس القلوب بجسه أوتاره ... حتى كأن قلوبنا بين الوتر )
( نمت لنا ألحانه بجميع ما ... قد أودعت فيه القلوب من الفكر )
( يا صامتا والعود تحت بنانه ... يغنيك نطق الخبر فيه عن الخبر )
( أغنى غناؤك عن مدامك يا ترى ... هل من لحاظك أم بنانك ذا السكر )
( باحت أناملك اللدان بكل ما ... كان المتيم في هواه قد ستر )
( ومقاتل ما سل غير لحاظه ... والرمح هز من القوام إذا خطر )
( دانت له منا القلوب بطاعة ... والسيف يملك ربه مهما قهر )
وسنلم إن شاء الله تعالى بترجمة ابن زمرك هذا في باب التلامذة ونشير هناك إلى كثير من أحواله وكيفية قتله مع أولاده وخدمه بمرأى ومسمع من أهله فكان الجزاء من جنس العمل وخاب منه الأمل إذ لسان الدين قتل غيلة بليل غاسق على يد مختلس في السجن فاسق وأما ابن زمرك فقتل بالسيف جهارا وتناوشته سيوف مخدومه بين بناته إبداء للتشفي وإظهارا وقتل معه من وجد من خدمه وأبناه وأبعده الدهر وطالما أدناه وهكذا الحال في خدام الدول وذوي الملك أنهم أقرب شيء من الهلك ويرحم الله من قال إياك وخدمة الملوك فإنهم يستقلون في العقاب ضرب الرقاب ويستكثرون في الثواب رد الجواب انتهى
رجع إلى ما كنا فيه من أحوال لسان الدين ابن الخطيب وكان رحمه الله تعالى قبيل موته لما توفي السلطان أبو فارس عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن المريني بتلمسان وتغلب على الأمر الوزير أبو بكر ابن غازي بن الكاس مبايعا لابن صغير السن من أولاد السلطان عبد العزيز ألف كتابه المسمى بأعمال الأعلام بمن بويع من ملوك الإسلام قبل الاحتلام ومراده بذلك تثبيت دولة الوزير الذي أبى أن يخفر عهده وذمته وامتنع أن يمكن منه أهل الأندلس فأكثروا
القالة في الوزير بسبب مبايعته للصبي وبنوا ظاهر الأمر على أن ذلك لا يجوز بالشرع وأبدأوا وأعادوا في ذلك وأسروا ما كان من أمرهم حسوا في ارتغاء ومن جملة كلام لسان الدين ابن الخطيب في ذلك الكتاب قوله فمتى نبس أهل الأندلس بإنكار بيعة صبي أو نيابة صاحب أو وزير فقد عموا وصموا بربع الإنصاف فأعرضوا وما ألموا وبما سنوه لغيرهم ذموا انتهى
وكان رحمه الله تعالى ألف للسلطان عبد العزيز حين انحيازه إليه المباخر الطيبية في المفاخر الخطيبية يذكر فيه نباهة سلفه وما لهم من المجد وقصده الرد على أهل الأندلس المجاهرين له بالعداوة القادحين في فخر سلفه ثم ألف للسلطان المذكور كتاب خلع الرسن في التعريف بأحوال ابن الحسن لكونه تولى كبر الحط منه والسعي في هلاكه كما مر وقال في حق هذا الكتاب إنه لا شيء فوقه في الظرف والاستطراف يسلي التكالي ونستغفر الله تعالى انتهى
ومع هذا كله لما أنشبت المنية أظفارها لم تنفعه مما كتب تميمة ونال ما أمل فيه أهل السعاية والنميمة وسجلوا عليه المقالات الذميمة وقد صار الجميع إلى حكم عدل قادر يحيى من العظم رميمه وينصف المظلوم من الظالم ويجازي الجاهل والعالم ويساوي بين المأمور والآمر والشريف والمشروف والعزيز والحقير والمنكر والمعروف وعفوه سبحانه مؤمل بعد وهو لا يخلف الوعد ومن سبقت له العناية لم تضره الجناية
وقد كان لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى محبا في العفو حتى إنه كان إذا جرى لديه ذكر عقوبة الملوك لأتباعهم تشمئز نفسه من ذلك ويقول ما معناه ما ضرهم لو عفوا ورأيت له رحمه الله تعالى في بعض مؤلفاته وقد أجرى ذكر استعطاف ذي الوزارتين أبي بكر ابن عمار للسلطان المعتمد بن عباد حين قبض عليه بقوله
( سجاياك إن عافيت أندى واسمح ... وعذرك إن عاقبت أولى وأوضح )
( وإن كان بين الخطتين مزية ... فأنت من الأدنى إلى الله أجنح )
( وماذا عسى الأعداء أن يتزيدوا ... سوى أن ذنبي ثابت ومصحح )
( وإن رجائي أن عندك غير ما ... يخوض عدوي اليوم فيه ويمرح )
( أقلني بما بيني وبينك من رضى ... له نحو روح الله باب مفتح )
( ولا تلتفت قول الوشاة وزورهم ... فكل إناء بالذي فيه يرشح )
( وقالوا سيجزيه فلان بذنبه ... فقلت وقد يعفو فلان ويصفح )
( ألا إن بطشا للمؤيد يرتمي ... ولكن حلما للمؤيد يرجح )
( وبين ضلوعي من هواه تميمة ... ستشفع لو أن الحمام يجلح )
( سلام عليه كيف دار به الهوى ... إلي فيدنو أو علي فينزح )
( ويهنيه إن رمت السلو فإنني ... أموت ولي شوق إليه مبرح )
ما نصه ولابن عمار كلمات شهيرة تعالج بمراهمها جراح القلوب وتعفي عن هضبات الذنوب لولا ما فرغ عنه من القدر المكتوب والأجل المحسوب إلى أن قال وما كان أجمل بالمعتمد أن يبقي على جان من عبيده قد مكنه الله من عنقه لا يؤمل الحصول على أمره ولا يحذر تعصب قبيله ولا يزيده العفو عنه إلا ترفعا وعزة وجلالة وهمة وذكرا جميلا وأجرا جزيلا فلا شيء أمحى للسيئة من الحسنة ولا أقتل للشر من الخير ورحم الله الشاعر إذ يقول
( وطعنتهم بالمكرمات وباللها ... في حيث لو طعن القنا لتكسرا )
وقد تذكرت هنا قول الأديب أبي عبد الله محمد بن أحمد التجاني رحمه الله تعالى ورضي عنه
( أتعجب أن حطت يد الدهر فاضلا ... عن الرتبة العليا فأصبح تحتها )
( أما هذه الأشجار تحمل أكلها ... وتسقط منه كل ما طاب وانتهى )
نكبة أبي جعفر ابن عطية
وحكى غير واحد من مؤرخي الأندلس أن الكاتب الشهير الوزير أبا جعفر ابن عطية القضاعي لما تغير له عبد المؤمن وتذاكر مع بعض من أهل العلم أبيات ابن عمار السابقة قال ما كان المعتمد إلا قاسي القلب حيث لم تعطفه هذه الأبيات إلى العفو ووقع لابن عطية المذكور مثل قضية ابن عمار واستعطف فما نفع ذلك وقتل رحمه الله تعالى ولنلم بذلك فنقولكان أبو جعفر هذا من أهل مراكش وأصله القديم من طرطوشة ثم بعد من دانية وهو ممن كتب عن علي بن يوسف بن تاشفين أمير لمتونة وعن ابنيه تاشفين واسحاق ثم استخلصه لنفسه سالب ملكهم عبد المؤمن بن علي وأسند إليه وزارته فنهض بأعبائها وتحبب إلى الناس بإجمال السعي والإحسان فعمت صنائعه وفشا معروفه وكان محمود السيرة مبخت المحاولات ناجح المساعي سعيد المآخذ ميسر المآرب وكانت وزارته زينا للوقت وكمالا للدولة وفي أيام توجهه للأندلس وجد حساده السبيل إلى التدبير عليه والسعي به حتى أوغروا صدر الخليفة عبد المؤمن عليه فاستوزر عبد السلام بن محمد الكومي وانبرى لمطالبة ابن عطية وجد في التماس عورارته وتشنيع سقطاته وطرحت بمجلس السلطان أبيات منها
( قل للإمام أطال الله مدته ... قولا تبين لذي لب حقائقه )
( إن الزراجين قوم قد وترتهم ... وطالب الثأر لم تؤمن بوائقه )
وللوزير إلى آرائهم ميل ... لذاك ما كثرت فيهم علائقه )
( فبادر الحزم في إطفاء نارهم ... فربما عاق عن أمر عوائقه )
( هم العدو ومن والاهم كهم ... فاحذر عدوك واحذر من يصادفه )
( الله يعلم أني ناصح لكم ... والحق أبلج لا تخفى طرائفه )
قالوا ولما وقف عبد المؤمن على هذه الأبيات البليغة في معناها وغر صدره على وزيره أبي جعفر وأسر له في نفسه تغيرا فكان من أقوى الأسباب نكبته
وقيل أفضى إليه بسر فأفشاه وانتهى ذلك كله إلى أبي جعفر وهو بالأندلس فقلق وعجل الانصراف إلى مراكش فحجب عند قدومه ثم قيد إلى المسجد في اليوم بعده حاسر العمامة واستحضر الناس على طبقاتهم وقرروا على ما يعلمون من أمره وما صار إليه منهم فأجاب كل بما اقتضاه هواه وأمر بسجنه ولف معه أخوه أبو عقيل عطية وتوجه في إثر ذلك عبد المؤمن إلى زيارة تربة المهدي محمد بن تومرت فاستصحبهما منكوبين بحال ثقاف وصدرت عن أبي جعفر في هذه الحركة من لطائف الأدب نظما ونثرا في سبيل التوسل بتربة إمامهم المهدي عجائب لم تجد شيئا مع نفوذ قدر الله تعالى فيه ولما انصرف من وجهته أعادهما معه قافلا إلى مراكش فلما حاذى تاقمرت أنفذ الأمر بقتلهما بالشعراء المتصلة بالحصن على مقربة من الملاحة هنالك فمضيا لسبيلهما رحمهما الله تعالى
ومما خاطب به الخليفة عبد المؤمن مستعطفا له من رسالة تغالى فيه فغالته المنية ولم ينل الأمنية وهذه سنة الله تعالى فيمن لم يحترم جناب الألوهية ولم يحرس لسانه من الوقوع فيما يخدش في وجه فضل الأنبياء على غيرهم وعصمتهم قوله سامحه الله
تالله لو أحاطت بي كل خطيئة ولم تنفك نفسي عن الخيرات بطيئة حتى سخرت بمن في الوجود وأنفت لآدم من السجود وقلت إن الله تعالى
لم يوح في الفلك لنوح وبريت لقدار ثمود نبلا وأبرمت لحطب نار الخليل حبلا وحططت عن يونس شجرة اليقطين وأوقدت مع هامان على الطين وقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وافتريت على العذراء البتول فقذفتها وكتبت صحيفة القطيعة بدار الندوة وظاهرت الأحزاب بالقصوى من العدوة وذممت كل قريش وأكرمت لأجل وحشي كل حبشي وقلت إن بيعة السقيفة لا توجب إمامة خليفة وشحذت شفرة غلام المغيرة بن شعبة واعتلقت من حصار الدار وقتل أشمطها بشعبة وقلت تقاتلوا رغبة في الأبيض والأصفر وسفكوا الدماء على الثريد الأعفر وغادرت الوجه من الهامة خضيبا وناولت من قرع سن الحسين قضيبا ثم أتيت حضرة المعلوم لائذا وبقبر الإمام المهدي عائذا لقد آن لمقالتي أن تسمع وتغفر لي هذه الخطيئات أجمع مع أني مقترف وبالذنب معترف
( فعفوا أمير المؤمنين فمن لنا ... برد قلوب هدها الخفقان )
وكتب مع ابن له صغير آخره
( عطفا علينا أمير المؤمنين فقد ... بان العزاء لفرط البث والحزن )
( قد أغرقتنا ذنوب كلها لجج ... وعطفة منكم أنجى من السفن )
( وصادفتنا سهام كلها غرض ... ورحمة منكم أوقى من الجنن )
( هيهات للخطب أن تسطو حوادثه ... بمن أجارته رحماكم من المحن )
( من جاء عندكم يسعى على ثقة ... بنصره لم يخف بطشا من الزمن )
( فالثوب يطهر عند الغسل من درن ... والطرف ينهض بعد الركض في سنن )
( أنتم بذلتم حياة الخلق كلهم ... من دون من عليهم لا ولا ثمن )
( ونحن من بعض من أحيت مكارمكم ... كلتا الحياتين من نفس ومن بدن )
( وصبية كفراخ الورق من صغر ... لم يألفوا النوح في فرع ولا فنن )
( قد أوجدتهم أياد منك سابقة ... والكل لولاك لم يوجد ولم يكن )
فوقع عبد المؤمن على هذه القصيدة ( الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) يونس91
ومما كتب به من السجن
( أنوح على نفسي أم أنتظر الصفحا ... فقد آن أن تنسى الذنوب وأن تمحى )
( فها أنا في ليل من السخط حائر ... ولاأهتدي حتى أرى للرضى صبحا )
وامتحن عبد المؤمن الشعراء بهجو ابن عطية فلما أسمعوه ما قالوا أعرض عنهم وقال ذهب ابن عطية الأدب معه
وكان لأبي جعفر أخ اسمه عطية قتل معه ولعطية هذا ابن أديب كاتب وهو أبو طالب عقيل ابن عطية ومن نظمه في رجل تعشق قينة كانت ورثت من مولاها مالا فكانت تنفق عليه منه فلما فرغ المال ملها
( لا تلحه أن مل من حبها ... فلم يكن ذلك من ود )
( لما رآها قد صفا مالها ... قال صفا الوجد مع الوجد )
وكان أبو جعفر ابن عطية من أبلغ أهل زمانه وقد حكى أنه مر مع الخليفة عبد المؤمن ببعض طرق مراكش فأطلت من شباك جارية بارعة الجمال فقال عبد المؤمن
( قدت فؤادي من الشباك إذ نظرت ... )
فقال الوزير ابن عطية مجيزا له
( حوراء ترنو إلى العشاق بالمقل ... )
فقال عبد المؤمن
( كأنما لحظها في قلب عاشقها ... )
فقال ابن عطية
( سيف المؤيد عبد المؤمن بن علي ... )
ولا خفاء أن هذه طبقة عالية
ومن فصول رسالته التي كتب بها عن أبي حفص وهي التي أورثته الرتبة العلية السنية والوزارة الموحدية المؤمنية قوله
كتابنا هذا من وادي ماسة بعد ما تجدد من امر الله الكريم ونصر الله تعالى المعهود المعلوم ( وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) آل عمران 126 فتح بهر الأنوار إشراقا وأحدق بنفوس المؤمنين إحداقا ونبه للأماني النائمة جفونا وأحداقا واستغرق غاية الشكر استغراقا فلا تطيق الألسن لكنه إدراكا ولا لحاقا جمع أشتات الطلب والأرب وتقلب في النعم أكرم وملأ دلاء الأمل إلى عقد الكرب
( فتح تفتح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أثوابها القشب )
وتقدمت بشارتنا به جملة حين لم تعط الحال بشرحه مهلة كان أولئك الضالون المرتدون قد بطروا عدوانا وظلما واقتطعوا الكفر معنى واسما وأملى لهم الله تعالى ليزدادوا إثما وكان مقدمهم الشقي قد استمال النفوس بخزعبلاته واستهوى القلوب بمهولاته ونصب له الشيطان من حبالاته فأتته المخاطبات من بعد وكثب ونسلت إليه الرسل من كل حدب واعتقدته الخواطر أعجب عجب وكان الذي قادهم إلى ذلك وأوردهم تلك المهالك وصول من كان بتلك السواحل ممن ارتسم برسم الانقطاع عن الناس فيما سلف من الأعوام واشتغل على زعمه بالقيام والصيام آناء الليالي والأيام لبسوا الناموس أثوابا وتدرعوا الرياء جلبابا فلم يفتح الله تعالى لهم للتوفيق بابا
ومنها في ذكر صاحبهم الماسي المدعي للهداية فصرع بحمد الله تعالى لحينه وبادرت إليه بوادر منونه وأتته وافدات الخطيئات عن يساره ويمينه وقد كان يدعي أنه بشر بأن المنية في هذه الأعوام لا تصيبه والنوائب لا تنوبه ويقول في سواه قولا كثيرا ويختلق على الله تعالى إفكا وزورا فلما رأوا هيئة اضطجاعه وما خطته الأسنة في أعضائه وأضلاعه ونفذ فيه من أمر الله تعالى ما لم يقدروا على استرجاعه هزم من كان لهم من الأحزاب وتساقطوا على وجوههم تساقط الذباب وأعطوا عن بكرة أبيهم صفحات الرقاب ولم تقطر كلومهم إلا على الأعقاب فامتلأت تلك الجهات بأجسادهم وآذنت الآجال بانقراض آمادهم وأخذهم الله تعالى بكفرهم وفسادهم فلم يعاين منهم إلا من خر صريعا وسقى الأرض نجيعا ولقي من أمر الهنديات فظيعا ودعت الضرورة باقيهم إلى الترامي في الوادي فمن كان يؤمل الفرار ويرتجيه ويسح طامعا في الخروج إلى ما ينجيه اختطفته الأسنة اختطافا وأذاقته موتا ذعافا ومن لج في الترامي على لججه ورام البقاء في ثبجه قضى عليه شرقه وألوى بذقنه غرقه ودخل الموحدون إلى البقية الكائنة فيه ينتاولون قتالهم طعنا وضربا ويلقونهم بأمر الله تعالى هولا عظيما وكربا حتى انبسطت مراقات الدماء على صفحات الماء وحكت حمرتها على زرقته حمرة الشفق على زرقة السماء وجرت العبرة للمعتبر في جري ذلك الدم جري الأبحر
وبالجملة فالرجل كان نسيج وحده رحمه الله تعالى وسامحه وقضية لسان الدين تشبه قضيته وكلاهما قد ذاق من الذل بعد العز غصته وبدل الدهر نصيبه من الوزارة وحصته بعد أن اقتعد ذروة الأمر ومنصته رحم الله تعالى الجميع إنه مجيب سميع
الباب الثالث
في ذكر مشايخه الجلة هداة الناس ونجوم الملة وما يتعلق بذلك من الأخبار الشافية من العلة والمواعظ المنجية من الأهواء المضلة والمناسبات الواضحة البراهين والأدلةأقول لا خفاء أن الشيخ لسان الدين رحمه الله تعالى أخذ عن جماعة من أهل العدوة والأندلس عدة فنون وحدث عنهم ما يصدق الأقوال ويحقق الظنون
1 - فمن أشياخه رحمه الله تعالى الفقيه الجليل الشريف النبيه الشهير رئيس العلوم اللسانية بالأندلس قاضي الجماعة أبو القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني السبتي رحمه الله تعالى كان هذا الشريف آية الله الباهرة في العربية والبيان والأدب ويكفيه فضلا أنه شرح الخزرجية وافترع هضاب مشكلاتها بفهمه من غير أن يسبقه أحد إلى استخراج كنوزها وإيضاح رموزها وشرح مقصورة أديب المغرب الإمام أبي الحسن حازم بن محمد القرطاجني الأندلسي التي مدح بها أمير المؤمنين المستنصر بالله أبا عبد الله محمدا الحفصي وسمى هذا الشرح برفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة وهذا
الشرح في مجلدين كبيرين وفيه من الفوائد ما لا مزيد عليه رأيته بالمغرب واستفدت منه كثيرا
ومن فوائد الشريف المذكور أنه قال فيما جاء من الحديث في صفة وضوء رسول الله فأقبل بهما وأدبر إن أحسن الوجوه في تأوليه أن يكون قدم الإقبال تفاؤلا ثم فسر بعد ذلك على معنى أدبر وأقبل قال والعرب تقدم في كلامها ألفاظا على ألفاظ أخرى وتلتزمه في بعض المواضع كقولهم قام وقعد ولا تقول قعد وقام وكذلك أكل وشرب ودخل وخرج وعلى هذا النمط كلام العرب فتكون هذه المسألة من هذا قال ويؤيد ما قلناه وهو موضع النكتة تفسيره لأقبل وأدبر في باقي الحديث على معنى أدبر ثم أقبل ولو كان اللفظ على ظاهره لم يحتج إلى تفسير انتهى
وحدث رحمه الله تعالى عن جده لأمه قال كنت بالمشرق فدخلت على بعض القرائين فألفيت الطلبة يعربون عليه قول امرئ القيس
( كأن أبانا في أفانين ودقه ... كبير أناس في بجاد مزمل )
فأنشد ولا أدري هل هي له أو لغيره
( إذا ما الليالي جاورتك بساقط ... وقدرك مرفوع فعنه ترحل )
( ألم تر ما لاقاه في جنب جاره ... كبير أناس في بجاد مزمل )
وكان بعض الناس ينشد في هذا المقصد قول الآخر
( عليك بأرباب الصدور فمن غدا ... مضافا لأرباب الصدور تصدرا )
( وإياك أن ترضى بصحبة ساقط ... فتنحط قدرا من علاك وتحقرا )
( فرفع أبو من ثم خفض مزمل ... يبين قولي مغريا ومحذرا )
وهذا معنى قول الشاعر
( إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى )
وما أحسن قول أبي بحر صفوان بن إدريس المرسي رحمه الله تعالى
( إنا إلى الله من أناس ... قد خلعوا لبسة الوقار )
( جاورتهم فانخفضت هونا ... يا رب خفض على الجوار )
ومن نظم الشريف رحمه الله تعالى
( وأحور زان خديه عذار ... سبى الألباب منظره العجاب )
( أقول لهم وقد عابوا غرامي ... به إذ لاح للدمع انسكاب )
( أبعد كتاب عارضه يرجى ... خلاص لي وقد سبق الكتاب )
ومن الغريب في توارد الخواطر ما وجد بخط الأديب البارع المحدث الكاتب أبي عبد الله محمد ابن الشيخ الكبير أبي القاسم ابن جزي الكلبي رحمهما الله تعالى وسيأتيان ما معناه قلت هذه القطعة
( ومعسول اللمى عادت عذابا ... على قلبي ثناياه العذاب )
( وقد كتب العذار بوجنتيه ... كتابا حظ قارئه اكتئاب )
( وقالوا لو سلوت فقلت خيرا ... وأنى لي وقد سبق الكتاب )
ثم عرضتها على شيخنا القاضي أبي القاسم الشريف بعد نظمها بمدة يسيرة فقال لي قد نظمت هذا المعنى بالعروض والقافية في هذه الأيام اليسيرة وأنشدني
( وأحور زان خديه عذار ... ) الأبيات السابقة
وهذا يقع كثيرا ومنه ما وقع لابن الرقام حيث قال من شعر عمي قوله
( جل في البلاد تنل عزا وتكرمة ... في أي أرض فكن تبلغ مناك بها )
( جل الفوائد بالأسفار مكتسب ... والله قد قال ( فامشوا في مناكبها ) )
فقال له الفقيه ابن حذلم مثل هذا وقع لأبي حيان إذ قال
( يا نفس ما لك تهوين الإقامة في ... أرض تعذر كل من مناك بها )
( أما تلوت وعجز المرء منقصة ... في محكم الوحي ( فامشوا في مناكبها ) )
فحصل العجب من هذا الاتفاق الغريب
ونقلت ممن نقل من خط الفقيه محمد بن علي بن الصباغ العقيلي ما صورته كان الشريف الغرناطي رحمه الله تعالى آية زمانه وأزمة البيان طوع بنانه له شرح المقصود القرطاجنية أغرب ما تتحلى به الآذان وأبدع ما ينشرح له الجنان إلى العقل الذي لا يدرك والفضل الذي حمد منه المسلك حدثني بنادرة جرت بينه وبين مولاي الوالد من أثق به من طلبة الأندلس وأعلامها قال دخل والدك يوما لأداء الشهادة عنده فوجد بين يديه جماعة من الغزاة يؤدون شهادة فسمع القاضي منهم وقال لهم هل ثم من يعرفكم فقالوا نعم يعرفنا علي الصباغ فقال القاضي أتعرفهم يا أبا الحسن فقال له نعم يا سيدي معرفة محمد بن يزيد فما أنكر عليه شيئا بل قال لهم عرف الفقيه أبو الحسن ما عنده فانظروا من يعرف معه رسم حالكم فانصرفوا راضين ولم يرتهن والدي في شيء من حالهم ولا كشف القاضي لهم ستر القضية
قال محمد بن علي بن الصباغ أما قول والدي معرفة محمد بن يزيد فإشارة إلى قول الشاعر
( أسائل عن ثمالة كل حي ... فكلهم يقول وما ثماله )
( فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا الآن زدت بهم جهالة )
فتفطن القاضي رحمه الله تعالى لجودة ذكائه إلىأنه لم يرتهن في شيء من معرفتهم ممتنعا من إظهار ذلك بلفظه الصريح فكنى واكتفى بذكاء القاضي الصحيح رحمهما الله تعالى انتهى
ومن فوائد الشريف ما حكاه عنه تلميذه الإمام النظار أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى ونصه قال لي الشيخ القاضي الكبير الشهير أبو القاسم الحسني يوما وقد جرى ذكر حتى التي للابتداء وأن معناها التي يقع بعدها الكلام سواء كان ذلك متعلقا بما قبلها لم يتم دونه أو لا بل لا يكون الأمر إلا كذلك قال وقد حدثني بعض الأصحاب أنه سمع رجلا يصلي أشفاع رمضان فقرأ من سورة الكهف إلى قوله تعالى ( ثم أتبع سببا ) الكهف 89 فوقف هنالك وركع وسجد قال فظننت أنه نسي ما بعد ثم ركع وسجد حتى يتذكر بعد ذلك ويعيد أول الكلام فلما قام من السجود ابتدأ القراءة بقوله ( حتى إذا بلغ ) الكهف 90 فلما أتم الصلاة قلت له في ذلك فقال أليست حتى الإبتدائية قال القاضي الشريف المذكور فيجب أن يفهم أن الاصطلاح في حتى وفي غيرها من حروف الابتداء ما ذكر انتهى
وقال الشاطبي أنشدني أبو محمد ابن حذلم لنفسه
( شأن المحبين في أشجانهم عجب ... وحالتي بينهم في الحب أعجبها )
( قد كنت أبعث من ريح الصبا رسلا ... تأتي فتطفىء أشواقي فتذهبها )
( والآن أرسل دمعي إثرها ديما ... فتلتظى نار وجدي حين أسكبها )
( فاعجب لنار اشتياق في الحشا وقفت ... ألريح تذهبها والماء يلهبها )
ثم قال الشاطبي ما نصه أخذ هذا المعنى فتممه من قطعة أنشدناها شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف رحمة الله تعالى عليه أذكر الآن آخر بيت منها وهو
( يا من رأى النار إن تطفأ مخالفة ... فبالرياح وإن توقد فبالماء )
وأخذ عن الشريف المذكور رحمه الله تعالى جماعة غير لسان الدين من أشهرهم العلامة النظار أبو إسحاق الشاطبي والوزير الكاتب أبو عبد الله ابن زمرك
قال حفيد السلطان الغني بالله بن الأحمر رحمه الله تعالى في حق ابن زمرك إنه كان يتردد في الأعوام العديدة إلى قاضي الجماعة أبي القاسم الشريف فأحسن الإصغاء وبذ الأئمة البلغاء بما أوجب أن رثاه عند الوقوف على قبره بالقصيدة الفريدة التي أولها
( أغرى سراة الحي بالإطراق ... )
وقال في موضع آخر ومما بذ به يعني ابن زمرك سبقا وتبريزا وعرضه على نقدة البيان فرأت منه كل مذهبة خلصت إبريزا مرثيته للقاضي المعظم الشريف أبي القاسم الحسني من شيوخه وهي
( أغرى سراة الحي بالإطراق ... نبأ أصم مسامع الآفاق )
( أمسى به ليل الحوادث داجيا ... والصبح أصبح كاسف الإشراق )
( فجمع الجميع بواحد جمعت له ... شتى العلا ومكارم الأخلاق )
( هبوا لحكمكم الرصين فإنه ... صرف القضاء فما له من واق )
( نقش الزمان بصرفه في صفحة ... كل اجتماع مؤذن بفراق )
( ماذا ترجى من زمانك بعدما ... علق الفناء بأنفس الأعلاق )
( من تحسد السبع الطباق علاءه ... عالوا عليه من الثرى بطباق )
( إن المنايا للبرايا غاية ... سبق الكرام لخصلها بسباق )
( لما حسبنا أن تحول أبؤسا ... كشفت عوان حروبها عن ساق )
( ما كان إلا البدر طال سراره ... حتى رمته يد الردى بمحاق )
( أنف المقام مع الفناء نزاهة ... فنوى الرحيل إلى مقام باق )
( عدم الموافق في مرافقة الدنا ... فنضى الركاب إلى الرفيق الباقي )
( أسفا على ذاك الجلال تقلصت ... أفياؤه وعهدن خير رواق )
( يا آمري بالصبر عيل تصبري ... دعني عدتك لواعج الأشواق )
( وذر اليراع تشي بدمع مدادها ... وشي القريض يروق في الأوراق )
( واحسرتا للعلم أقفر ربعه ... والعدل جرد أجمل الأطواق )
( ركدت رياح المعلوات لفقدها ... كسدت به الآداب بعد نفاق )
( كم من غوامض قد صدعت بفهمها ... خفيت مداركها على الحذاق )
( كم قاعد في البيد بعد قعوده ... قعدت به الآمال دون لحاق )
( لمن الركائب بعد بعدك تنتضي ... ما بين شام ترتمي وعراق )
( تفلى الفلا بمناسم مفلولة ... تسم الحصى بنجيعها الرقراق )
( كانت إذا اشتكت الوجى وتوقفت ... يهفو نسيم ثنائك الخفاق )
( فإذا تنسمت الثناء أمامها ... مدت لها الأعناق في الإعناق )
( يا مزجي البدن القلاص خوافقا ... رفقا بها فالسعي في إخفاق )
( مات الذي ورث العلا عن معشر ... ورثوا تراث المجد باستحقاق )
( رفعت لهم رايات كل جلالة ... فتميزوا في حلبة السباق )
( علم الهداة وقطب أعلام النهى ... حرم العفاة المجتنى الأرزاق )
( رقت سجاياه وراقت مجتلى ... كالشمس في بعد وفي إشراق )
( كالزهر في لألائه والبدر في ... عليائه والزهر في الإبراق )
( مهما مدحت سواه قيد وصفه ... وصفاته حمد على الإطلاق )
( يا وارثا نسب النبوة جامعا ... في العلم والأخلاق والأعراق )
( يا ابن الرسول وإنها لوسيلة ... يرقى بها أوج المصاعد راقي )
( ورد الكتاب بفضلكم وكمالكم ... فكفى ثناء الواحد الخلاق )
( مولاي إني في علاك مقصر ... قد ضاق عن حصر النجوم نطاقي )
( ومن الذي يحصي مناقب مجدكم ... عد الحصى والرمل غير مطاق )
( يهني قبورا زرتها فلقد ثوت ... منا مصون جوانح وحداق )
( خط الردى منها سطورا نصها ... لا بد أنك للفناء ملاق )
( ولحقت ترجمة الكتاب وصدره ... وفوائد المكتوب في الإلحاق )
( كم من سراة في القبور كأنهم ... في بطنها در ثوى بحقاق )
( قل للسحاب اسحب ذيولك نحوه ... والعب بصارم برقك الخفاق )
( أودى الذي غيث العباد بكفه ... يزري بواكف غيثك الغيداق )
( إن كان صوبك بالمياه فدرها ... در يروض ماحل الإملاق )
( بشر كثير قد نعوا لما نعى ... قاضي القضاة وغاب في الأطباق )
( ألبستهم ثوب الكرامة ضافيا ... وأرحت من كد ومن إرهاق )
( يتفيأون ظلال جاهك كلما ... لفحت سموم الخطب بالإحراق )
( عدموا المرافق في فراقك وانطوى ... عنهم بساط الرفق والإرفاق )
( رفعوا سريرك خافضين رؤوسهم ... مامنهم إلا حليف سياق )
( لكن مصيرك للنعيم مخلدا ... كان الذي أبقى على الأرماق )
( ومن العجائب أن يرى بحر الندى ... طود الهدى يسري في الأعناق )
( إن يحملوك على الكواهل طالما ... قد كنت محمولا على الأحداق )
( أو يرفعوك على العواتق طالما ... رفعت ظهر منابر وعتاق )
( ولئن رحلت إلى الجنان فإننا ... نصلى بنار الوجد والأشواق )
( لو كنت تشهد حزن من خلفته ... لثنى عنانك كثرة الإشفاق )
( إن جن ليل جن من فرط الأسى ... وسوى كلامك ما له من راق )
( فابعث خيالك في الكرى يبعث به ... ميت السرور لثاكل مشتاق )
( أغليت يا رزء التصبر مثلما ... أرخصت در الدمع في الآماق )
( إن يخلف الأرض الغمام فإنني ... أسقي الضريح بدمعي المهراق )
وكانت وفاة الشريف المذكور سنة إحدى وستين وسبعمائة
قال ابن الخطيب القسمطيني في وفياته وفي هذه السنة يعني سنة 761 توفي شيخنا قاضي الجماعة بغرناطة حرسها الله تعالى أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسني وكتب لي بالإجازة العامة بعد التمتع بمجلسه وله شعر مدون سماه جهد المقل وله الشرح على الخزرجية في العروض وأقدم عليها بعد أن عجز الناس عن فكها وكان إماما في الحديث والفقه والنحو وهو على
الجملة ممن يحصل الفخر بلقائه ولم يكن أحد بعده مثله بالندلس انتهى
وقال في الإحاطة إن مولد الشريف كان سنة سبع وتسعين وستمائة وإن وفاته سنة ستين وسبعمائة وفي وفاته مخالفة لما تقدم والله أعلم
وما أحسن قول الشريف أبي القاسم المترجم به
( حدائق أنبتت فيها الغوادي ... ضروب النور رائقة البهاء )
( فما يبدو بها النعمان إلا ... نسبناه إلى ماء السماء )
ابنا الشريف
وكان للشريف أبي القاسم المذكور ابنان نجيبان أحدهما قاضي الجماعة أبو المعالي والآخر أبو العباس أحمد قال الراعي في كتابه الفتح المنير في بعض ما يحتاج إليه الفقير ما نصه حكاية تتعلق بالانقطاع نسأل الله تعالىالعافية وقع للسيد الشريف قاضي الجماعة بغرناطة أبي المعالي ابن السيد الشريف أبي القاسم الحسني شارح الخزرجية ومقصورة حازم نفع الله تعالى بسلفهم الكريم وكانت أم السيد أبي المعالي حسينية فكان شريفا من الجهتين أنه كان قد ترك كبار الوظائف والرياسات وتجرد للعبادة ولبس المرقعة وسلك طريق القوم وكان من الدين والعلم والتعظيم في قلوب أهل الدنيا وأهل الآخرة على جانب عظيم يشار إليه بالأصابع وكان أخوه شيخي وأستاذي أبو العباس أحمد قاضيا بشرقي الأندلس فكان أخوه أبو المعالي المذكور لا يأكل في بيت شقيقه شيئا لأجل ذلك ولعيشه من خدم السلطان وكان إذا احتاج إلى الطعام وهو في بيت أخيه أعطاني درهما من عنده أشتري له به ما يأكل وأقام على هذا الحالة الحسنة سنين كثيرة ثم إنه دخل يوما على الفقراء بزاوية المحروق من ظاهر غرناطة وكان شيخ الفقراء بها في ذلك الوقت الشيخ أبا جعفر أحمد المحدود فقال لهم يا سادتي إنه كان معي قنديل أستضيء به فقدته في هذه الأيام وما بقيت أبصر شيئا فقال لهم شيخهم المذكور يا شريف أول رجل يدخل علينا في هذا المجلس يجيبك عن مسألتك فدخل عليهم رجل من خيارهم من أهل البادية فسلم وجلس فقال له الشيخ إن الشريف سأل الجماعة فقلت له أول رجل يدخل علينا يجيبك فوفقت أنت فأجبه عن مسألته فقال له ما سؤالك يا شريف فقال إنه كان لي قنديل أستضيء به ففقدته وما بقيت أبصر شيئا فقال له الفقير هذا لا يصدر إلا عن سوء أدب أخبرنا بما وقع منك فقال له الشريف ما أعلم أنه وقع مني شيء غير أن المباشر فلانا طلبه السلطان للمصادرة فاستخفى منه فمررت ببابه يوما فناداني من شقة الباب يا سيدي اجعل خاطرك معي لله تعالى فقلت له اذكر الذكر الفلاني قلت وأنا أظن أنه أمره بذكر اسمه تعالى اللطيف فإنه سريع الإجابة في تفريج الشدائد والكرب نص عليه البوني في منتخبه وهو مجرب في ذلك وقد رواه لي عن بعض مشايخه السيد الشريف أحمد أخوه فقال له الفقير هل كان أذن لك في تلقينه قال لا قال له الفقير لا يعود إليك نورك أبدا لأنك قد أسأت الأدب فكان كما قال فانقطع وولي بعده قضاء الجماعة وعزل عن سخط وخدم الملوك وأكل طعامهم وحالته أولا وآخرا بغرناطة نسأل الله تعالى أن لا يجعلنا من المطرودين عن باب رحمته وكرمه انتهى كلام الراعي رحمه الله تعالى
رجع إلى مشايخ لسان الدين رحمه الله تعالى ورضي عنه وسامحه فنقول
2 - ومن مشايخ لسان الدين الإمام الرحال شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن جابر الوادي آشي ولد بتونس وهو محمد ابن الإمام المحدث معين الدين جابر بن محمد بن قاسم بن أحمد القيسي شيخ ممتع نبيل رحال متقن
قال الخطيب ابن مرزوق وعاشرته كثيرا سفرا وحضرا وسمعت بقراءته وسمع بقراءتي وقرأت عليه الكثير وقيدت من فوائده وأنشدني الكثير فأول ما قرأت عليه بالقاهرة بمسجد ( . . . ) وقرأت عليه بمدينة فاس وبظاهر قسنطينة وبمدينة بجاية وبظاهر المهدية وبمنزلي من تلمسان وقرأت عليه أحاديث عوالي من تخريج الدمياطي وفيها الحديث المسلسل بالأولية وسلسلته عنه من غير رواية الدمياطي بشرطه ثم قرأت عليه أكثر كتاب الموطإ رواية يحيى وأعجله السفر فأتممته عليه في غير القاهرة وحدثني به عن جماعة ومعوله على الشيخين قاضي القضاة أبي العباس ابن الغماز الخزرجي وهو أحمد بن محمد بن حسن والشيخ أبي محمد ابن هارون وهو عبد الله بن محمد القرطبي الطائي الكاتب المعمر الأديب بحق سماعه لأكثره على الأول وقراءته بأجمعه على الثاني قال الأول أخبرنا أبو الربيع ابن سالم بجميع طرقه فيه منها عن ابن مرزوق وأبي عبد الله ابن أبي عبد الله الخولاني عن أبي عمرو عثمان بن أحمد المعافري عن أبي عيسى بسنده وقال الثاني أخبرنا أبو القاسم ابن بقي بقرطبة أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الحق عن محمد بن فرج مولى الطلاع عن يونس بتمام سنده
قال شيخنا وفي هذا السند غريبتان إحداهما أنه ليس فيه إجازة والثانية أن شيوخه كلهم قرطبيون
قال ابن مرزوق قلت ولا غرابة في اتصال سماع الموطإ وقراءته فقد
وقع لي على قلة التحصيل متصلا من طرق ولله الحمد وقد رويته عن قرطبي وهو أبو العباس ابن العشا ثم قرأت عليه كتاب الشفاء لعياض وحدثني به عن أبي القاسم عن أبي عبد الله ابن أبي القاسم الأنصاري المالقي نزيل سبتة ويعرف بها بابن حكم وبابن أخت أبي صالح عن أبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الخزرجي عن أبي جعفر أحمد بن حكم عن المؤلف وحدثني به أيضا عن قاضي الجماعة ابن أبي الربيع ابن سالم عن أبي جعفر ابن حكم
ثم قال ابن مرزوق بعد كلام ما صورته رويت عنه وأنشدني لأبي محمد ابن هارون
( لا تطمعن في نفع آلك إنه ... ضرر وقل النفع عند الآل )
( أقصر رويدك إن ما أعلقته ... بالآل من اهل كمثل الآل )
ولابن هارون المذكور
( أقل زيارة الأحباب ... تزدد عندهم قربا )
( فإن المصطفى قد قال ... زر غبا تزد حبا )
ولابن هارون أيضا
( رماني بالنوى زمني ... فشمل الأنس مفترق )
( وليلي كله فكر ... فقلبي منه محترق )
( وللآداب أبناء ... ببحر الفقر قد غرقوا )
( وكل منهم وجل ... بما يلقاه أو فرق )
( يغص بريقه منه ... كما في النطق أو شرق )
( وقد صفرت أكفهم ... فلا ورق ولا ورق )
( ولطف الله مرتقب ... به العادات تنخرق )
قال ابن مرزوق وشعره الفائق لا يحصر وهو عندي في مجلد كبير وولد ابن جابر سنة 67 وسمع بمصر على جماعة وكتب بخطه كثيرا وله معرفة بالحديث والنحو واللغة والشعر وله نظم حسن وتوفي بتونس سنة 779 وأخذ القراءات عن ابن الزيات وغيره وترجمة الحافظ ابن جابر رحمه الله تعالى واسعة مشهورة وقد ذكرناه في غير هذا الكتاب بما جمعناه
أشعار لبعض شيوخ لسان الدين
ومما أنشده لسان الدين رحمه الله تعالى لبعض المتصوفة من شيوخه ولم يسمه قوله( هل تعلمون مصارع العشاق ... عند الوداع بلوعة الأشواق )
( والبين يكتب من نجيع دمائهم ... إن الشهيد بكم توى بفراق )
( لو كنت شاهد حالهم يوم النوى ... لرأيت ما يلقون غير مطاق )
( منهم كثيب لا يمل بكاءه ... قد أحرقته مدامع الآماق )
( ومحرق الأحشاء أشعل نارها ... طول الوجيب بقلبه الخفاق )
( وموله لا يستطيع كلامه ... مما يقاسي في الهوى ويلاقي )
( خرس اللسان فما يطيق عبارة ... ألم ألم وما له من راق )
( ما للمحب من المنون وقاية ... إن لم يجد محبوبه بتلاق )
( مولاي عبدك ذاهب بغرامه ... أدرك بفضلك من ذماه الباقي )
( إني إليك بذلتي متوسل ... فاعطف بلطف منك أو إشفاق )
وهذه الأبيات أوردها رحمه الله تعالى في الروضة في العشق بعد أن حده وتكلم عليه ثم أورد عدة مقطوعات ثم ذكر منها هذه الأبيات كما ذكر
وأنشد لسان الدين رحمه الله تعالى لبعض أشياخه وسماه وأنسيته أنا الآن
( بما بيننا من خلوة معنوية ... أرق من النجوى وأحلى من السلوى )
( قفي ساعة في ساحة الدار وانظري ... إلى عاشق لا يستفيق من البلوى )
( وكم قد سألت الريح شوقا إليكم ... فما حن مسراها علي ولا ألوى )
وقوله أيضا
( أنست بوحدتي حتى لو أني ... أتاني الأنس لاستوحشت منه )
( ولم تدع التجارب لي صديقا ... أميل إليه إلا ملت عنه )
وقوله رحمه الله تعالى
( عليك بالعزلة إن الفتى ... من طاب بالقلة في العزلة )
( لا يرتجي عزلة وال ولا ... يخشى من الذلة في العزلة )
3 - ومن أكابر شيوخ ابن الخطيب رحمه الله تعالى جدي الإمام العلامة قاضي القضاة بحضرة الخلافة فاس المحروسة أبو عبد الله
قال في الإحاطة محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي القرشي المقري يكنى أبا عبد الله قاضي الجماعة بفاس تلمساني
أوليته نقلت من خطه قال وكان الذي اتخذها من سلفنا قرارا بعد أن كانت لمن قبله مزارا عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي المقري صاحب الشيخ
أبي مدين الذي دعا له ولذريته بما ظهر فيهم قبوله وتبين وهو أبي الخامس فأنا محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحيى بن عبد الرحمن وكان هذا الشيخ عروي الصلاة حتى إنه ربما امتحن بغير شيء فلم يؤنس منه التفات ولا استشعر منه شعور ويقال إن هذا الحضور مما أدركه من مقامات شيخه أبي مدين
هل المقري الجد قرشي
وكتب بعض المغاربة على هامش هذا المحل من الإحاطة ما صورته القرشي وهم انتهى فكتب تحته الشيخ الإمام أبو الفضل ابن الإمام التلمساني رحمه الله تعالى ما نصه بل صحيح نطقت به الألسن والمكاتبات والإجازات وأعربت عنه الخلال الكريمة إلا أن البلدية يا سيدي أبا عبد الله والمنافسة تجعل القرشية في إمام المغرب أبي عبد الله المقري وهما والحمد لله انتهىقلت وممن صرح بالقرشية في حق الجد المذكور ابن خلدون في تاريخه وابن الأحمر في نثير الجمان وفي شرح البردة عند قوله
( لعل رحمة ربي حين ينشرها ... )
والشيخ ابن غازي والولي الصالح سيدي أحمد رزوق والشيخ العلامة علامة زمانه سيدي أحمد الونشريسي وغير واحد وكفى بلسان الدين شاهدا مزكى
وقد ألف عالم الدنيا ابن مرزوق تأليفا استوفى فيه التعريف بمولاي الجد سماه النور البدري في التعريف بالفقيه المقري وهذا بناء منه على مذهبه أنه
بفتح الميم وسكون القاف كما صرح بذلك في شرح الألفية عند قوله
( ووضعوا لبعض الأجناس علم ... )
وضبطه غيرهم وهم الأكثرون بفتح الميم وتشديد القاف وعلى ذلك عول أكثر المتأخرين وهما لغتان في البلدة التي نسب إليها وهي مقرة من قرى زاب إفريقية وانتقل منها جده إلى تلمسان صحبة شيخه ولي الله سيدي أبي مدين رضي الله عنه
رجع إلى تكملة كلام مولاي الجد في حق أوليته
قال رحمه الله تعالى بعد الكلام السابق في حق جده عبد الرحمن ما صورته ثم اشتهرت ذريته على ما ذكر من طبقاتهم بالتجارة فمهدوا طريق الصحراء بحفر الآبار وتأمين التجار واتخذوا طبلا للرحيل وراية تقدم عند المسير وكان ولد يحيى الذين أحدهم أبو بكر خمسة رجال فعقدوا الشركة بينهم في جميع ما ملكوه أو يملكونه على السواء بينهم والاعتدال فكان أبو بكر ومحمد وهما أرومتا نسبي من جميع جهات أمي وأبي بتلمسان وعبد الرحمن وهو شقيقهما الأكبر بسجلماسة وعبد الواحد وعلي وهما شقيقاهم الصغيران بإيوالاتن فاتخذوا بهذه الأقطار الحوائط والديار وتزوجوا النساء واستولدوا الإماء وكان التلمساني يبعث إلى الصحراوي بما يرسم له من السلع ويبعث إليه الصحراوي بالجلد والعاج والجوز والتبر والسجلماسي كلسان الميزان يعرفهما بقدر الخسران والرجحان ويكاتبهما باحوال التجار وأخبار البلدان حتى اتسعت أموالهم وارتفعت في الضخامة أحوالهم ولما فتح التكرور كورة إيوالاتن وأعمالها أصيبت أموالهم فيما أصيب من أموالها بعد أن جمع من كان بها منهم إلى نفسه الرجال ونصب دونها ودون مالهم القتال ثم اتصل بملكهم فأكرم مثواه
ومكنه من التجارة بجميع بلاده وخاطبه بالصديق الأحب والخلاصة الأقرب ثم صار يكاتب من بتلمسان يستقضي منهم مآربه فيخاطبه بمثل تلك المخاطبة وعندي من كتبه وكتب ملوك المغرب ما ينبئ عن ذلك فلما استوثقوا من الملوك تذللت لهم الأرض للسلوك فخرجت أموالهم عن الحد وكادت تفوت الحصر والعد لأن بلاد الصحراء قبل أن يدخلها أهل مصر كان يجلب إليها من المغرب ما لا بال له من السلع فتعاوض عنه بما له بال من الثمن أي مدبر دنيا ضم جنبا أبي حمو وشمل ثوباه كان يقول لولا الشناعة لم أزل في بلادي تاجرا من غير تجار الصحراء الذين يذهبون بخبيث السلع ويأتون بالتبر الذي كل أمر الدنيا له تبع ومن سواهم يحمل منها الذهب ويأتي إليها بما يضمحل عن قريب ويذهب ومنه ما يغير من العوائد ويجر السفهاء إلى المفاسد ولما درج هؤلاء الأشياخ جعل أبناؤهم ينفقون مما تركوا لهم ولم يقوموا بأمر التثمير قيامهم وصادفوا توالي الفتن ولم يسلموا من جور السلاطين فلم يزل حالهم في نقصان إلى هذا الزمن فها أنا ذا لم أدرك من ذلك إلا أثر نعمة اتخذنا فضوله عيشا وأصوله حرمة ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب وأسباب كثيرة تعين على الطلب فتفرغت بحول الله عز و جل للقراءة فاستوعبت أهل البلد لقاء وأخذت عن بعضهم عرضا وإلقاء سواء المقيم القاطن والوارد والظاعن انتهى كلامه في أوليته وقد نقله لسان الدين في الإحاطة
وقال مولاي الجد رحمه الله تعالى كان مولدي بتلمسان أيام أبي حمو موسى عثمان بن يغمراسن بن زيان وقد وقفت على تاريخ ذلك ولكني
رأيت الصفح عنه لأن أبا الحسن ابن مؤمن سأل أبا طاهر السلفي عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت أبا الفتح ابن زيان عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت علي بن محمد اللبان عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت أبا القاسم حمزة بن يوسف السهمي عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت أبا بكر محمد بن عدي المنقري عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت أبا إسماعيل الترمذي عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنه فقال أقبل على شانك فإني سألت الشافعي عن سنه فقال أقبل على شانك سألت مالك بن أنس عن سنه فقال أقبل على شانك من المروءة للرجل أن يخبر بسنه انتهى
قلت ولما تذاكرت مع مولاي العم الإمام صب الله تعالى على مضجعه من الرحمة الغمام هذا المعنى الذي ساقه مولاي الجد رحمه الله تعالى أنشدني لبعضهم
( احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ... سن ومال ما استطعت ومذهب )
( فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة ... بمكفر وبحاسد ومكذب )
قال الونشريسي في حق الجد ما نصه القاضي الشهير الإمام العالم أبو عبد الله محمد بن محمد المقري التلمساني المولد والمنشأ الفاسي المسكن كان رحمه الله تعالى عالما عاملا ظريفا نبيها ذكيا نبيلا فهما متيقظا جزلا محصلا انتهى
وقد وقفت له بالمغرب على مؤلف عرف فيه بمولاي الجد وذكر جملة من أحواله وذلك أنه طلبه بعض أهل عصره في تأليف أخبار الجد فألف فيه ما ذكر
وقال في الإحاطة في ترجمة مولاي الجد بعد ذكره أوليته ما صورته حاله هذا الرجل مشار إليه بالعدوة الغربية اجتهادا ودؤوبا وحفظا وعناية واطلاعا ونقلا ونزاهة سليم الصدر قريب الغور صادق القول مسلوب التصنع كثير الهشة مفرط الخفة ظاهر السذاجة ذاهب أقصى مذاهب التخلق محافظ على العمل مثابر على الإنقطاع حريص على العبادة مضايق في العقد والتوجه يكابد من تحصيل النية بالوجه واليدين مشقة ثم يغافص الوقت فيها ويوقعها دفعة متبعا إياها زعقة التكبير برجفة ينبو عنها سمع من لم تؤنسه بها العادة بما هو دليل على حسن المعاملة وإرسال السجية قديم النعمة متصل الخيرية مكب على النظر والدرس والقراءة معلوم الصيانة والعدالة منصف في المذاكرة حاسر للذراع عند المباحثة راحب عن الصدر في وطيس المناقشة غير مختار للقرن ولا ضان بالفائدة كثير الالتفات متقلب الحدقة جهير بالحجة بعيد عن المراء والمباهتة قائل بفضل أولي الفضل من الطلبة يقول أتم القيام على العربية والفقه والتفسير ويحفظ الحديث ويتهجر بحفظ التاريخ والأخبار والآداب ويشارك مشاركة فاضلة في الأصلين والجدل والمنطق ويكتب ويشعر مصيبا غرض الإجادة ويتكلم في طريقة الصوفية كلام أرباب المقال ويعتني بالتدوين فيها شرق وحج ولقي جلة واضطبن رحلة مفيدة ثم عاد إلى بلده فأقرأ به وانقطع إلى خدمة العلم فلما ولي ملك المغرب السلطان محالف الصنع ونشيدة الملك وأثير الله من بين القرابة والأخوة أمير المؤمنين أبو عنان اجتذبه وخلطه بنفسه واشتمل عليه وولاه قضاء الجماعة بمدينة فاس فاستقل بذلك أعظم الاستقلال وأنفذ الحق وألان الكلمة وآثر التسديد وحمل الكل وخفض الجناح
فحسنت عنه القالة وأحبته الخاصة والعامة حضرت بعض مجالسه للحكم فرأيت من صبره على اللدد وتأنيه للحجج ورفقه بالخصوم ما قضيت منه العجب
دخوله غرناطة ثم لما أخر عن القضاء استعمل بعد لأي في الرسالة فوصل الأندلس أوائل جمادى الثانية من عام سبعة وخمسين وسبعمائة فلما قضى غرض رسالته وأبرم عقد وجهته واحتل مالقة في منصرفه بدا له في نبذ الكلفة واطراح وظيفة الخدمة وحل التقيد إلى ملازمة الإمرة فتقاعد وشهر غرضه وبت في الانتقال طمع من كان صحبته وأقبل على شأنه فخلي بينه وبين همه وترك وما انتحله من الانقطاع إلى ربه وطار الخبر إلى مرسله فأنف من تخصيص إيالته بالهجرة والعدول عنها بقصد التخلي والعبادة وأنكر ما حقه الإنكار من إبطال عمل الرسالة والانقباض قبل الخروج عن العهدة فوغر صدره على صاحب الأمر ولم يبعد حمله على الظنة والمواطأة على النفرة وتجهزت جملة من الخدام المجلين في مأزق الشبهة المضطلعين بإقامة الحجة مولين خطة الملام مخيرين بين سحائب عاد من إسلامه مظنة إعلاق النقمة وإيقاع العقوبة أو الإشادة بسبب إجارته بالقطيعة والمنابذة وقد كان المترجم به لحق بغرناطة فتذمم بمسجدها وجأر بالانقطاع إلى الله وتوعد من يجبره بنكير من يجير ولا يجار عليه سبحانه فأهم أمره وشغلت القلوب آبدته وأمسك الرسل بخلال ما صدرت شفاعة اقتضى له فيها رفع التبعة وتركه إلى تلك الوجهة ولما تحصل ما تيسر من ذلك انصرف محفوفا بعالمي القطر قاضي الجماعة أبي القاسم الحسني المذكور قبله والشيخ الخطيب أبي البركات ابن الحاج مسلمين لوروده
مشافهين بالشفاعة في غرضه فانقشعت الغمة وتنفست الكربة واستصحبا من المخاطبة السلطانية في أمره من إملائي ما يذكر حسبما ثبت في الكتاب المسمى بكناسة الدكان بعد انتقال السكان المجموع بسلا ما صورته
المقام الذي يحب الشفاعة ويرعى الوسيلة وينجز العدة ويتمم الفضيلة ويضفي مجده المنن الجزيلة ويعيي حمده الممادح العريضة الطويلة مقام محل والدنا الذي كرم مجده ووضع سعده وصح في الله تعالى عقده وخلص في الأعمال الصالحة قصده وأعجز الألسنة حمده السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله سبحانه لوسيلة يرعاها وشفاعة يكرم مسعاها وأخلاق جميلة تجيب دعوة الطبع الكريم إذا دعاها معظم سلطانه الكبير وممجد مقامه الشهير المتشيع لأبوته الرفيعة قولا باللسان واعتقادا بالضمير المعتمد منه بعد الله على الملجإ الأحمى والولي النصير فلان سلام كريم طيب بر عميم يخص مقامكم الأعلى وأبوتكم الفضلى ورحمة الله وبركاته
أما بعد حمد الله الذي جعل الخلق الحميد دليلا على عنايته بمن حلاه حلاها وميز بها النفوس النفيسة التي اختصها بكرامته وتولاها حمدا يكون كفؤا للنعم التي أولاها وأعادها ووالاها والصلاة على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله المترقي من درجات الاختصاص أرفعها وأعلاها الممتاز من أنوار الهداية بأوضحها واجلاها مطلع آيات السعادة يروق مجتلاها والرضى عن آله وصحبه الذين خبر صدق ضمائرهم لما ابتلاها وعسل ذكرهم في الأفواه فما أعذب أوصافهم على الألسن وأحلاها والدعاء لمقام أبوتكم حرس الله تعالى علاها بالسعادة التي يقول الفتح أنا طلاع الثنايا وابن جلاها والصنائع
التي تخترق المفاوز بركائبها المبشرات فتفلي فلاها فإنا كتبنا إليكم كتب الله تعالى لكم عزة مشيدة البناء وحشد على أعلام صنائعكم الكرام جيوش الثناء وقلدكم من قلائد مكارم الأخلاق ما يشهد لذاتكم منه بسابقة الاعتناء من حمراء غرناطة حرسها الله والود باهر السنا ظاهر السناء مجدد على الآناء والتشيع رحب الدسيعة والفناء
وإلى هذا وصل الله تعالى سعدكم وحرس مجدكم فإننا خاطبنا مقامكم الكريم في شأن الشيخ الفقيه الحافظ الصالح أبي عبد الله المقري خار الله تعالى لنا وله وبلغ الجميع من فضله العميم أمله جوابا عما صدر عن مثابتكم فيه من الإشارة الممتثلة والمآرب المعملة والقضايا غير المهملة نصادركم بالشفاعة التي مثلها بأبوابكم لا يرد وظمآها عن منهل قبولكم لا تحلأ ولا تصد حسبما سنه الأب الكريم والجد والقبيل الذي وضح منه في المكارم الرسم والحد ولم نصدر الخطاب حتى ظهر لنا من أحواله صدق المخيلة وتبلج صبح الزهادة والفضيلة وجود النفس الشحيحة بالعرض الأدنى البخيلة وظهر تخليه عن هذه الدار واختلاطه باللفيف والغمار وإقباله على ما يعني مثله من صلة الأوراد ومداومة الاستغفار وكنا لما تعرفنا إقامته بمالقة لهذا الغرض الذي شهره والفضل الذي أبرزه للعيان وأظهره أمرنا أن يعتني بأحواله ويعان على فراغ باله ويجري عليه سيب من ديوان الأعشار الشرعية وصريح ماله وقلنا ما أتاك من غير مسألة مستند صحيح لاستدلاله ففر من مالقة على ما تعرفنا لهذا السبب وقعد بحضرتنا مستور المنتمى والمنتسب وسكن بالمدرسة بعض الأماكن المعدة لسكنى المتسمين بالخير والمحترفين ببضاعة الطلب بحيث لم يتعرف وروده ووصوله إلى ممن لا يؤبه بتعريفه ولم تتحقق زوائده وأصوله لقلة تصريفه
ثم تلاحق إرسالكم الجلة فوجبت حينئذ الشفاعة وعرضت على سوق الحلم والفضل من الاستلطاف والاستعطاف البضاعة وقررنا ما تحققناه من أمره
وانقباضه عن زيد الخلق وعمره واستقباله الوجهة التي من ولى وجهه شطرها فقد آثر أثيرا ومن ابتاعها بمتاع الدنيا فقد نال فضلا كبيرا وخيرا كثيرا وسألنا منكم أن تبيحوا له ذلك الغرض الذي رماه بعزمه وقصر عليه أقصى همه فما أخلق مقامكم أن يفوز منه طالب الدنيا بسهمه ويحصل منه طالب الآخرة على حظه الباقي وقسمه ويتوسل الزاهد بزهده والعالم بعلمه ويعول البرئ على فضله ويثق المذنب بحلمه فوصل الجواب الكريم بمجرد الأمان وهو أرب من آراب وفائدة من جراب ووجه من وجوه إعراب فرأينا أن المطل بعد جفاء والإعادة ليس يثقلها خفاء ولمجدكم بما ضمنا عنه وفاء وبادرنا الآن إلى العزم عليه في ارتحاله وأن يكون الانتقال عن رضى منه من صفة حاله وأن يقتضي له ثمرة المقصد ويبلغ طية الإسعاف في الطريق الأقصد إذ كان الأمان لمثله ممن تعلق بجناب الله مثلكم حاصلا والدين المتين بين نفسه وبين المخافة فاصلا وطالب كيمياء السعادة بإعانتكم واصلا ولما مدت اليد في تسويغ حالة هديكم عليها أبدا يحرض وعلمكم يصرح بمزيتها فلا يعرض فكملوا أبقاكم الله ما لم تسعنا فيه مشاحة الكتاب وألحقوا بالأصل حديث هذه الإباحة فهو أصح حديث في الباب ووفوا غرضنا من مجدكم وخلوا بينه وبين مراده من ترك الأسباب وقصد غافر الذنب وقابل التوب بإخلاص المتاب والتشمير ليوم العرض وموقف الحساب وأظهروا عليه عناية الجناب الذي تعلق به أعلق الله به يدكم من جناب ومعاذ الله أن تعود شفاعتنا من لدنكم غير مكملة الاراب
وقد بعثنا من ينوب عنا في مشافهتكم بها أحمد المناب ويقتضي خلاصها بالرغبة لا بالغلاب وهما فلان وفلان ولولا الأعذار لكان في هذا الغرض إعمال الركاب يسبق أعلام الكتاب وأنتم تولون هذا القصد من مكارمكم ما يوفر الثناء الجميل ويربي على التأميل ويكتب على الود الصريح العقد وثيقة التسجيل وهو سبحانه يبقيكم لتأييد المجد الأثيل وإنالة الرفد الجزيل والسلام
الكريم يخص مقامكم الأعلى ومثابتكم الفضلى ورحمة الله تعالى وبركاته في الحادي والعشرين لجمادى الآخرة من عام سبعة وخمسين وسبعمائة انتهى كلام ابن الخطيب في الإحاطة
وذكر في الريحانة أنه كتب في هذا الغرض ما نصه
وإلى هذا فإننا وقفنا على كتابكم الكريم في شأن الشيخ الصالح الفقيه الفاضل أبي عبد الله المقري وفقنا الله وإياه لما يزلف لديه وهدانا لما يقرب إليه وما بلغكم يتقاعده بمالقة وما أشرتم به في أمره فاستوفينا جميع ما قررتم واستوعبنا ما أجملتم في ذلك وفسرتم واعلموا يا محل والدنا أمتعنا الله ببقائكم الذي في ضمنه اتصال السعادة وتعرف النعم المعادة أننا لما انصرف عن بابنا هو ومن رافقه عن انشراح صدور وتكييف جذل بما تفضلتم به وسرور تعرفنا أنه تقاعد بمالقة عن صحبه وأظهر الاشتغال بما يخلصه عنه ربه وصرف الوجه إلى التخلي مشفقا من ذنبه واحتج بأن قصده ليس له سبب ولا تعين له في الدنيا أرب وأنه عرض عليكم أن تسمحوا له فيما ذهب إليه وتقروه عليه فيعجل البدار ويمهد تحت إيالتكم القرار فلما بلغنا هذا الخبر لم يخلق الله عندنا به مبالاة تعتبر ولا أعددناه فيما يذكر فكيف فيما ينكر وقطعنا أن الأمر فيه هين وأن مثل هذا الغرض لا تلتفت إليه عين فإن بابكم غني من طبقات أولي الكمال ملي بتسويغ الآمال موفور الرجال معمور بالفقهاء العارفين بأحكام الحرام والحلال والصلحاء أولي المقامات والأحوال والأدباء فرسان الروية والارتجال ولم ينقص بفقدان الحصى أعداد الرمال ولا يستكثر بالقطرة جيش العارض المنثال مع ما علم من إعانتكم على مثل هذه الأعمال واستمساككم بإسعاف غرض من صرف وجهه إلى ذي الجلال ولو علمنا أن شيئا يهجس في الخاطر من أمر مقامه لقابلناه بعلاج سقامه
ثم لم ينشب أن تلاحق بحضرتنا بارزا في طور التقلل والتخفيف خالطا
نفسه باللفيف قد صار نكرة بعد العلمية والتعريف وسكن بعض مواضع المدرسة منقبضا عن الناس لا يظهر إلا لصلاة يشهد جماعتها ودعوة للعباد يخاف إضاعتها ثم تلاحق إرسالكم الجلة الذي تحق لمثلهم التجلة فحضروا لدينا وأدوا المخاطبة الكريمة كما ذكر إلينا وتكلمنا معهم في القضية وتنخلنا في الوجوه المرضية فلم نجد وجها أخلص من هذا الغرض ولا علاجا يتكفل ببرء المرض من إن كلفناهم الإقامة التي يتبرك بيمن جوارها ويعمل على إيثارها بخلاف ما نخاطب مقامكم بهذا الكتاب الذي مضمنه شفاعة يضمن حباؤكم احتسابها ويرعى انتماءها إلى الخلوص وانتسابها ويعيدها وقد أعملت الحظوة أثوابها ونقصدكم ومثلكم من يقصد في المهمة فأنتم المثل الذائع في عموم الحلم وعلو الهمة في أن تصدروا له مكتوبا مكمل الفصول مقرر الأصول يذهب الوجل ويرفع الخجل ويسوغ من مآربه لديكم الأمل ويخلص النية ويرتب العمل حتى يظهر ما لنا عند أبوتكم من تكميل المقاصد جريا على ما بذلتم من جميل العوائد وإذا تحصل ذلك كان بفضل الله إيابه وأناخت بعقوة وعدكم الوفي ركابه ويحصل لمقامكم عزه ومجده وثوابه وأنتم ممن يرعى أمور المجد حق الرعاية ويجري في معاملة الله تعالى على ما أسس من فضل البداية وتحقق الظنون فيما لديه من المدافعة عن حوزة الإسلام والحماية هذا ما عندنا أعجلنا به الإعلام وأعملنا فيه الأقلام بعد ان أجهدنا الاختيار وتنخلنا الكلام وجوابكم بالخير كفيل ونظركم لنا وللمسلمين جميل والله تعالى يصل سعدكم ويحرس مجدكم والسلام انتهى
قلت هذه آفة مخالطة الملوك فإن مولاي الجد المذكور كان نزل عن القضاء وغيره فلما أراد التخلي إلى ربه لم يتركه السلطان أبو عنان كما رأيت
شيوخ المقري الجد
وقد ذكر لسان الدين رحمه الله تعالى في الإحاطة شيوخ مولانا الجد فلنذكرهم من جزء الجد الذي سماه نظم اللآلي في سلوك الأمالي ومنه اختصر لسان الدين ما في الإحاطة في ترجمة مشيخته فنقول قال مولاي الجد رحمه الله تعالى1 2 - فممن أخذت عنه واستفدت منه علماها يعني تلمسان الشامخان وعالماها الراسخان أبو زيد عبد الرحمن وأبو موسى عيسى ابنا محمد بن عبد الله ابن الإمام وكانا قد رحلا في شبابهما من بلدهما برشك إلى تونس فأخذا بها عن ابن جماعة وابن العطار واليفرني وتلك الحلبة وأدركا المرجاني وطبقته من إعجاز المائة السابعة ثم وردا في أول المائة الثامنة تلمسان على أمير المسلمين أبي يعقوب وهو محاصر لها وفقيه حضرته يومئذ أبو الحسن علي بن يخلف التنسي وكان قد خرج إليه برسالة من صاحب تلمسان المحصورة فلم يعد وارتفع شأنه عند أبي يعقوب حتى إنه شهد جنازته ولم يشهد جنازة أحد قبله وقام على قبره وقال نعم الصاحب فقدنا اليوم حدثني الحاج الشيخ بعباد تلمسان أبو عبد الله محمد بن محمد بن مرزوق العجيسي أن أبا يعقوب طلع إلى جنازة التنسي في الخيل حوالي روضة الشيخ ابي مدين فقال كيف تتركون الخيل تصل إلى ضريح الشيخ هلا عرضتم هنالك وأشار إلى حيث المعراض الآن خشبة ففعلنا فلما قتل أبو يعقوب وخرج المحصوران أنكرا ذلك فأخبرتهما فأما أبو زيان وكان السلطان يومئذ فنزل وطأطأ رأسه ودخل
وأما أبو حمو وكان أميرا فوثب وخلفها ولما رجع الملك إلى هذين الرجلين اختصا ابني الإمام وكان أبو حمو أشد اعتناء بهما ثم بعده ابنه أبو تاشفين ثم زادت حظوتهما عند أمير المسلمين أبي الحسن إلى أن توفي أبو زيد في العشر الأوسط من رمضان عام أحد وأربعين وسبعمائة بعد وقعة طريف بأشهر فزادت مرتبة أبي موسى عند السلطان إلى أن كان من أمر السلطان بإفريقية ما كان في أول عام تسعة وأربعين وكان أبو موسى قد صدر عنه قبل الوقعة فتوجه صحبة ابنه أمير المسلمين أبي عنان إلى فاس ثم رده إلى تلمسان وقد استولى عليها عثمان بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن بن زيان فكان عنده إلى أن مات الفقيه عقب الطاعون العام
قال لي خطيب الحضرة الفاسية أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن عبد الله الرندي لما أزمع الفقيه ومن أطلق معه على القفول إلى تلمسان بت على تشييعهم فرأيتني كأنني نظمت هذا البيت في المنام
( وعند وداع القوم ودعت سلوتي ... وقلت لها بيني فأنت المودع )
فانتهبت وهو في في فحاولت قريحتي بالزيادة عليه فلم يتيسر لي مثله
ولما استحكم ملك أبي تاشفين واستوثق رحل الفقيهان إلى المشرق في حدود العشرين وسبعمائة فلقيا علاء الدين القونوي وكان بحيث إني لما رحلت فلقيت أبا علي حسين بن حسين ببجاية قال لي إن قدرت أن لا يفوتك شيء من كلام القونوي حتى تكتب جميعه فافعل فإنه لا نظير له ولقيا أيضا جلال الدين القزويني صاحب البيان وسمعا صحيح البخاري على الحجار وقد سمعته أنا عليهما وناظرا تقي الدين بن تيمية وظهرا عليه وكان ذلك من أسباب محنته وكانت له مقالات فيما يذكر وكان شديد الإنكار على الإمام فخر الدين حدثني
شيخي العلامة أبو عبد الله الآبلي أن عبد الله بن إبراهيم الزموري أخبره أنه سمع ابن تيمة ينشد لنفسه
( محصل في أصول الدين حاصله ... من بعد تحصيله علم بلا دين )
( أصل الضلالة والإفك المبين فما ... فيه فأكثره وحي الشياطين )
قال وكان في يده قضيب فقال والله لو رأيته لضربته بهذا القضيب هكذا ثم رفعه ووضعه
وبحسبك مما طار لهذين الرجلين من الصيت بالمشرق أني لما حللت بيت المقدس وعرف به مكاني من الطلب وذلك أني قصدت قاضيه شمس الدين بن سالم ليضع لي يده على رسم أستوجب به هنالك حقا فلما أطللت عليه عرفه بي بعض من معه فقال إلي حتى جلست ثم سألني بعض الطلبة بحضرته فقال لي إنكم معشر المالكية تبيحون للشامي يمر بالمدينة أن يتعدى ميقاتها إلى الجحفة وقد قال رسول الله بعد ان عين المواقيت لأهل الآفاق هن لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن وهذا قد مر علي ذي الحليفة وليس من أهله فيكون له فقلت له إن النبي قال من غير أهلهن أي من غير أهل المواقيت وهذا سلب كلي وإنه غير صادق على هذا الفرد ضرورة صدق نقيضه وهو الإيجاب الجزئي عليه لأنه من بعض أهل المواقيت قطعا فلما لم يتناوله النص رجعنا إلى القياس ولا شك أنه لا يلزم أحدا أن يحرم قبل ميقاته وهو يمر به لكن من ليس من أهل الجحفة لا يمر بميقاته إذا مر بالمدينة فوجب عليه الإحرام من ميقاتها بخلاف أهل الجحفة فإنها بين أيديهم وهم يمرون عليها فوقعت من نفوس أهل البلد بسبب ذلك فلما عرفت أتاني آت من أهل المغرب فقال لي تعلم أن مكانك في
نفوس أهل هذا البلد مكين وقدرك عندهم رفيع وأنا أعلم انقباضك عن ابني الإمام فإن سئلت فانتسب لهما فقد سمعت منهما وأخذت عنهما ولا تظهر العدول عنهما إلى غيرهما فتضع من قدرك فإنما أنت عند هؤلاء الناس خليفتهما ووارث علمهما وأن لا أحد فوقهما
( وليس لما تبني يد الله هادم ... )
وشهدت مجلسا بين يدي السلطان أبي تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو ذكر فيه أبو زيد ابن الإمام أن ابن القاسم مقلد مقيد النظر بأصول مالك ونازعه أبو موسى عمران بن موسى المشدالي وادعى أنه مطلق الاجتهاد واحتج له بمخالفته لبعض ما يرويه ويبلغه عنه لما ليس من قوله واتى من ذلك بنظائر كثيرة قال فلو تقيد بمذهبه لم يخالفه لغيره فاستظهر أبو زيد بنص لشرف الدين التلمساني مثل فيه الاجتهاد المخصوص باجتهاد ابن القاسم بالنظر إلى مذهب مالك والمزني إلى الشافعي فقال عمران هذا مثال والمثال لا تلزم صحته فصاح به أبو موسى ابن الإمام وقال لأبي عبد الله ابن أبي عمرو تكلم فقال لا أعرف ما قال هذا الفقيه الذي أذكره من كلام أهل العلم أنه لا يلزم من فساد المثال فساد الممثل فقال أبو موسى للسلطان هذا كلام أصولي محقق فقلت لهما وأنا يومئذ حديث السن ما أنصفتما الرجل فإن المثل كما تؤخذ على جهة التحقيق كذلك تؤخذ على طريق التقريب ومن ثم جاء ما قاله هذا الشيخ أعني ابن أبي عمرو وكيف لا وهذا سيبويه يقول وهذا مثال ولا يتكلم به فإذا صح أن المثال قد يكون تقريبا فلا يلزم صحة المثال ولا فساد الممثل لفساده فهذان القولان من أصل واحد
وشهدت مجلسا آخر عند هذا السلطان قرئ فيه على أبي زيد ابن الإمام حديث لقنوا موتاكم لا إله إلا الله في صحيح مسلم فقال له الأستاذ أبو إسحاق ابن حكم السلوي هذا الملقن محتضر حقيقة ميت مجازا فما وجه ترك محتضريكم إلى موتاكم والأصل الحقيقة فأجابه أبو زيد بجواب لم يقنعه وكنت قد قرأت على الأستاذ بعض التنقيح فقلت زعم القرافي أن المشتق إنما يكون حقيقة في الحال مجازا في الاستقبال مختلفا فيه في الماضي إذا كان محكوما به أما إذا كان متعلق الحكم كما هنا فهو في حقيقة مطلقا إجماعا وعلى هذا التقرير لا مجاز فلا سؤال لا يقال إنه احتج على ذلك بما فيه نظر لأنا نقول أنه نقل الإجماع وهو أحد الأربعة التي لا يطالب مدعيها بالدليل كما ذكر أيضا بل نقول إنه أساء حيث احتج في موضع الوفاق كما أساء اللخمي وغيره في الاحتجاج على وجوب الطهارة ونحوها بل هذا أشنع لكونه مما علم من الدين بالضرورة ثم إنا لو سلمنا نفي الإجماع فلنا أن نقول إن ذلك إشارة إلى ظهور العلامات التي يعقبها الموت عادة لأن تلقينه قبل ذلك إن لم يدهش فقد يوحش فهو تنبيه على وقت التلقين أي لقنوا من تحكمون بأنه ميت أو نقول إنما عدل عن الاحتضار لما فيه من الإبهام ألا ترى اختلافهم فيه هل أخذ من حضور الملائكة أو حضور الأجل أو حضور الجلاس ولا شك أن هذه حالة خفية يحتاج في نصبها دليلا على الحكم إلى وصف ظاهر يضبطها وهو ما ذكرناه أو من حضور الموت وهو أيضا مما لا يعرف بنفسه بل بالعلامات فما وجب اعتبارها وجب كون تلك التسمية إشارة إليها والله تعالى أعلم
كان أبو زيد يقول فيما جاء من الأحاديث من معنى قول ابن أبي زيد وإذا سلم الإمام فلا يثبت بعد سلامه ولينصرف إن ذلك بعد أن ينتظر بقدر ما يسلم من خلفه لئلا يمر بين يدي أحد وقد ارتفع عنه حكمه فيكون كالداخل مع المسبوق جمعا بين الأدلة قلت وهذا من ملح الفقيه
اعترض عند أبي زيد قول ابن الحاجب ولبن الآدمي والمباح طاهر بأنه إنما يقال في الآدمي لبان فأجاب بالمنع واحتج بقول النبي اللبن للفحل وأجيب بأن قول ذلك لتشريكه المباح معه في الحكم لأن اللبان خاص به وليس موضع تغليب لأن اللبان ليس بعاقل ولا حجة على تغليب ما يختص بالعاقل
تكلم أبو زيد يوما في مجلس تدريسه في الجلوس على الحرير فاحتج إبراهيم السلوي للمنع بقول أنس فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فمنع أبو زيد أن يكون إنما أراد باللباس الافتراش فحسب لاحتمال أن يكون إنما أراد التغطية معه أو وحدها وذكر حديثا فيه تغطية الحصير فقلت كلا الأمرين يسمى لباسا قال الله عز و جل ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) البقرة 187 وفيه بحث
كان أبو زيد يصحف قول الخونجي في الجمل والمقارنات التي يمكن اجتماعه معها فيقول والمفارقات ولعله في هذا كما قال أبو عمرو ابن العلاء لللأصمعي لما قرأ عليه
( وغررتني وزعمت أنك لابن بالصيف تامر ... )
فقال
( وغررتني وزعمت أنك لا تني بالضيف تامر ... )
فقال أنت في تصحيفك أشعر من الحطيئة أو كما حكي عمن صلى بالخليفية في رمضان ولم يكن يومئذ يحفظ القرآن فكان ينظر في المصحف فصحف آيات صنعة الله أصيب بها من أساء إنما المشركون نحس وعدها
أباه تقية الله خير لكم هذا أن دعوا للرحمن ولدا لكل امرئ منهم يومئذ شأن يعنيه
سمعت أبا زيد يقول إن أبا العباس الغماري التونسي أول من أدخل معالم الإمام فخر الدين للمغرب وبسبب ما قفل به من الفوائد رحل أبو القاسم ابن زيتون
وسمعته يقول إن ابن الحاجب ألف كتابه الفقهي من ستين ديوانا وحفظت من وجادة أنه ذكر عند أبي عبد الله ابن قطرال المراكشي أن ابن الحاجب اختصر الجواهر فقال ذكر هذا لأبي عمرو حين فرغ منه فقال بل ابن شاس اختصر كتابي قال ابن قطرال وهو أعلم بصناعة التأليف من ابن شاس والإنصاف أنه لا يخرج عنه وعن ابن بشير إلا في الشيء اليسير فهما أصلاه ومعتمداه ولا شك أن له زيادات وتصرفات تنبئ عن رسوخ قدمه وبعد مداه
وكان أبو زيد من العلماء الذين يخشون الله حدثني أمير المؤمنين المتوكل أبو عنان أن والده أمير المسلمين أبا الحسن ندب الناس إلى الإعانة بأموالهم على الجهاد فقال له أبو زيد لا يصح لك هذا حتى تكنس بيت المال وتصلي ركعتين كما فعل علي ابن أبي طالب وسأله أبو الفضل ابن أبي مدين الكاتب ذات يوم عن حاله وهو قاعد ينتظر خروج السلطان فقال له أما الآن فأنا مشرك فقال أعيذك من ذلك فقال لم أرد الشرك في التوحيد لكن في التعظيم والمراقبة وإلا فأي شيء جلوسي ههنا
والشيء بالشيء يذكر قمت ذات يوم على باب السلطان بمراكش فيمن
ينتظر خروجه فقام إلى جانبي شيخ من الطلبة وأنشدني لأبي بكر ابن الخطاب رحمه الله تعالى
( أبصرت أبواب الملوك تغص بالراجين ... إدراك العلا والجاه )
( مترقبين لها فمهما فتحت ... خروا لأذقان لهم وجباه )
( فأنفت من ذاك الزحام وأشفقت ... نفسي على إنضاء جسمي الواهي )
( ورأيت باب الله ليس عليه من ... متزاحم فقصدت باب الله )
( وجعلته من دونهم لي عدة ... وأنفت من غيي وطول سفاهي )
يقول جامع هذا المؤلف رأيت بخط عالم الدنيا ابن مرزوق على هذا المحل من كلام مولاي الجد مقابل قوله ورأيت باب الله ما صورته قلت ذلك لسعته أو لقلة أهله
( إن الكرام كثير في البلاد وإن ... قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا ) ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ) الآية المائدة 100 انتهى
رجع إلى كلام مولاي الجد قال رحمه الله تعالى ورضي عنه وحدثني شيخ من أهل تلمسان أنه كان عند أبي زيد مرة فذكر القيامة وأهوالها فبكى فقلت لا بأس علينا وأنتم أمامنا فصاح صيحة واسود وجهه وكاد يتفجر دما فلما سري عنه رفع يديه وطرفه إلى السماء وقال اللهم لا تفضحنا مع هذا الرجل وأخباره كثيرة
وأما شقيقه أبو موسى فسمعت عليه كتاب مسلم واستفدت منه كثيرا
فمما سألته عنه قول ابن الحاجب في الاستلحاق وإذا استلحق مجهول النسب إلى قوله أو الشرع بشهرة نسبه كيف يصح هذا القسم مع فرضه مجهول النسب فقال يمكن أن يكون مجهول النسب في حال الاستلحاق ثم يشتهر بعد ذلك فيبطل الاستلحاق فكأنه يقول ألحقه ابتداء ودواما ما لم يكذبه أحد هذه هي إحدى الحالتين إلا أن هذا إنما يتصور في الدوام فقط ومما سألته عنه أن الموثقين يكتبون الصحة والجواز والطوع على ما يوهم القطع وكثيرا ما ينكشف الأمر بخلافه ولو كتبوا مثلا ظاهر الصحة والجواز والطوع لبرئوا من ذلك فقال لي لما كان مبنى الشهادة وأصلها العلم لم يجمل ذكر الظن ولا ما في معناه احتمال فإذا أمكن العلم بمضمونها لم يجز أن يحمل على غيره فإذا تعذر كما ها هنا بني باطن أمرها على غاية ما يسعه فيه الإمكان عادة وأجري ظاهره على ما ينافي أصلها صيانة لرونقها ورعاية لما كان ينبغي أن تكون عليه لولا الضرورة قلت ولذلك عقد ابن فتوح وغيره عقود الجوائح على ما يوهم العلم بالتقدير مع ان ذلك إنما يدرك بما غايته الظن في الحزر والتخمين وكانا معا يذهبان إلى الإختيار وترك التقليد
3 - وممن أخذت عنه أيضا حافظها ومدرسها ومفتيها أبو موسى عمران ابن موسى بن يوسف المشدالي صهر شيخ المدرسين أبي علي ناصر الدين على ابنته وكان قد فر من حصار بجاية فنزل الجزائر فبعث فيه أبو تاشفين وأنزله من التقريب والإحسان بالمحل المكين فدرس بتلمسان الحديث والفقه والأصلين والنحو والمنطق والجدل والفرائض وكان كثيرا الاتساع في الفقه والجدل مديد الباع فيما سواهم مما ذكر سألته عن قول ابن الحاجب في
السهو فإن أخال الإعراض فمبطل عمده فقال معناه أخال غيره أنه معرض فحذف المفعول لجوازه وأقام المصدر مقام المفعولين كما يقوم مقامه ما في معناه من أن وأن قال الله العظيم ( الم أحسب الناس أن يتركوا ) العنكبوت 1 - 2 قلت وأقوى من هذا أن يكون المصدر هو المفعول الثاني وحذف الثالث اختصارا لدلالة المعنى عليه أي فإن أخال الإعراض كائنا قالوا خلت ذلك وقد أعربت الآية بالوجهين وهذا عندي أقرب ومن هذا الباب ما يكتب به القضاة من قولهم أعلم باستقلاله فلان أي أعلم فلان من يقف عليه بأن الرسم مستقل فحذفوا الأول وصاغوا ما بعده المصدر
سئل عمران وأنا عنده عما صبغ من الثياب بالدم فكانت حمرته منه فقال يغسل فإن لم يخرج شيء من ذلك في الماء فهو طاهر لأن المتعلق به على هذا التقدير ليس إلا لون النجاسة وإذا عسر قلعه بالماء فهو عفو وإلا وجب غسله إلى أن لا يخرج منه شيء قلت في البخاري قال معمر رأيت الزهري يصلي فيما صبغ بالبول من ثياب اليمن وتفسيره على ما ذكره عمران وكان قد صاهر لقاضي الجماعة أبي عبد الله بن هربة على ابنته فلم تزل عنده إلى أن توفي عنها
4 - ومنهم مشكاة الأنوار الذي يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن حكم السلوي رحمه الله تعالى ورد تلمسان بعد العشرين ثم لم يزل بها إلى أن قتل يوم دخلت على بني عبد الواد وذلك في الثامن والعشرين من شهر رمضان عام سبعة وثلاثين وسبعمائة
قال لي الشيخ ابن مرزوق ابتدأ أمر بني عبد الواد بقتلهم لأبي الحسن السعيد وكان أسمر لأم ولد تسمى العنبر وختم بقتل أبي الحسن ابن عثمان إياهم وهو بصفته المذكورة حذوك النعل بالنعل فسبحان من دقت حكمته في كل شيء
ولما وقف الرفيقان أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري ومحمد بن عبد الرحمن بن الحكيم الرندي في رحلتهما على قبر السعيد بعباد تلمسان تناول ابن الحكيم فحمة ثم كتب بها على جدار هناك
( انظر ففي إليك اليوم معتبر ... إن كنت ممن بعين الفكر قد لحظا )
( بالأمس أدعى سعيدا والورى خولي ... واليوم يدعى سعيدا من بي اتعظا )
قال ابن حكم كان أول اتصالي بالأستاذ أبي عبد الله ابن آجروم أني دخلت عليه وقد حفظت بعض كتاب المفصل فوجدت الطلبة يعربون بين يديه هذا البيت
( عهدي به الحي الجميع وفيهم ... قبل التفرق ميسر وندام )
وقد عمي عليهم خبر عهدي فقلت له قد سدت الحال وهي الجملة بعده مسده فقال لي بعض الطلبة وهل يكون هذا في الجملة كما كان في قولك ضربي زيدا قائما فقلت له نعم قال رسول الله أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
ذكر أبو زيد ابن الإمام يوما في مجلسه أنه سئل بالمشرق عن هاتين الشرطيتين ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) الأنفال 23 فإنهما تستلزمان بحكم الإنتاج لو علم الله فيهم خيرا لتولوا وهو محال ثم أراد أن يرى ما عند الحاضرين فقال ابن حكم قال الخونجي والإهمال بإطلاق لفظ لو وإن في المتصلة فهاتان القضيتان على هذا مهملتان والمهملة في قوة الجزئية ولا قياس عن جزئيتين فلما اجتمعت ببجاية بأبي علي حسين بن حسين وأخبرته بهذا وبما أجاب به الزمخشري وغيره مما يرجع إلى انتفاء تكرر الوسط قال لي الجوابان به في المعنى سواء لأن القياس على
الجزئيتين إنما امتنع لانتفاء أمر تكرر الوسط فأخبرت بذلك شيخنا الآبلي فقال إنما يقوم القياس على الوسط ثم يشترط فيه بعد ذلك أن لا يكون من جزئيتين ولا سالبتين إلى سائر ما يشترط فقلت ما المانع من كون هذه الشروط تفصيلا لمجمل ما ينبني عليه من الوسط وغيره وإلا فلا مانع غير ما قاله ابن حسين قال الآبلي وقد أجبت بجواب السلوى ثم رجعت إلى ما قاله الناس لوجوب كون مهملات القرآن كلية لأن الشرطية لا تنتج جزئية فقلت هذا فيما يساق منها للحجة مثل ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) الأنبياء 22 أما في مثل هذا فلا
ولما ورد تلمسان الشيخ الأديب أبو الحسن ابن فرحون نزيل طيبة على تربتها السلام سأل ابن حكم عن معنى هذين البيتين
( رأيت قمر السماء فأذكرتني ... ليالي وصلها بالرقمتين )
( كلانا ناظر قمرا ولكن ... رأيت بعينها ورأت بعيني )
ففكر ثم قال لعل هذا الرجل كان ينظر إليها وهي تنظر إلى قمر السماء فهي تنظر إلى القمر حقيقة وهو لإفراط الاستحسان يرى أنها الحقيقة فقد رأى بعينها لأنها ناظرة الحقيقة وأيضا فهو ينظر إلى قمر مجازا وهو لإفراط الاستحسان لها يرى أن قمر السماء هو المجاز فقد رأت بعينه لأنها ناظرة المجاز
قلت ومن ههنا تعلم وجه الفاء في قوله فأذكرتني لأنه لما صارت رؤيتها رؤيته وصار القمر حقيقة إياها كان قوله رأت قمر السماء فأذكرتني بمثابة قولك أذكرتني فتأمله فإن بعض من لا يفهم كلام الأستاذ حق الفهم ينشده وأذكرتني فالفاء في البيت الأول مبنية على معنى البيت الثاني لأنها
مبنية عليه وهذا النحو يسمى الإيذان في علم البيان
ولما اجتمعنا بأبي الوليد ابن هانىء مقدمه علينا من غرناطة سأل ابن حكم عن تكرار من في قوله تعالى ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ) الرعد 10 دون ما بعدها فقال لولا تكررها أولا لتوهم التضاد بتوهم اتحاد الزمان فارتفع بتكرار الموضوع أما الآخر فقد تكرر الزمان فارتفع توهم التضاد فلم يحتج إلى زائد على ذلك فقلت فهلا اكتفى بسواء عن تكرار الموضوع لأن التسوية لا تقع إلا بين أمرين وإنما الجواب عندي أنها تكررت أولا على الأصل لأنهما صنفان يستدعيها كل واحد منهما أن تقع عليه ثم اختصرت ثانيا لفهم المراد من التفصيل بالأول مع أمن اللبس وقد أجاب الزمخشري بغير هذين فانظره
سألني ابن حكم المذكور عن نسب المجيب في هذا البيت
( ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب ... فأجاب ما قتل المحب حرام )
ففكرت ثم قلت أراه تميميا لإلغائه ما النافية فاستحسنه مني لصغر سني يومئذ
تذاكرت يوما مع ابن حكم في تكملة البدر بن محمد بن مالك لشرح التسهيل لأبيه ففضلت عليه كلام أبيه ونازعني الأستاذ فقلت
( عهود من الآبا توارثها الأبنا ... )
فمارأيت بأسرع من أن قال
( بنوا مجدها لكن بنوهم لها أبنى ... )
فبهت من العجب
وتوفي الشيخ ابن مالك سنة اثنتين وسبعين وستمائة وفيها ولد شيخنا عبد المهيمن الحضرمي فقيل مات فيها إمام نحو وولد فيها إمام نحو
سألت ابن حكم عن قول فخر الدين في أول المحصل وعندي أن شيئا منها غير مكتسب بمعنى لا شيء ولا واحد هل له أصل في العربية أو هو كما قيل من بقايا عجمته فقال لي بل له أصل وقد حكى ابن مالك مثله عن العرب فلم يتفق أن استوقفه عليه ثم لم أزل أستكشف عنه كل من أظن أن لديه شيئا منه فلم أجد من عنده أثارة منه حتى مر بي في باب الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر الداخل عليها كان من شرح التسهيل قوله فإن تقدم على الاستفهام أحد المفعولين نحو علمت زيدا أبو من هو اختير نصبه لأن الفعل مسلط عليه فلا مانع ويجوز رفعه لأنه والذي بعد الاستفهام شيء واحد في المعنى فكأه في حيز الاستفهام والاستفهام مشتمل عليه وهو نظير قوله إن أحد إلا يقول ذلك وأحد هذا لا يقع إلا بعد نفي ولكن لما كان هنا والضمير المرفوع بالقول شيئا واحدا في المعنى تنزل منزلة واقع بعد نفي فعلمت أنه نحا إلى هذا لأن شيئا ههنا والضمير المرفوع بمكتسب المنفي في المعنى شيء واحد فكان شيئا كأنه وقع بعد غير أي بعد النفي
سأل ابن فرحون ابن حكم هل تجد في التنزيل ست فاءات مرتبة ترتيبها في هذا البيت
( رأى فحب فرام الوصل فامتنعت ... فسام صبرا فأعيا نيله فقضى )
ففكر ثم قال نعم ( فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون إلى آخره ) القلم 19 فمنعت له البناء في فتنادوا فقال لابن فرحون فهل عندك غيره فقال نعم ( فقال لهم رسول الله ) إلى آخر السورة فمنع له
بناء الآخرة لقراءة الواو فقلت امنع ولا تسند فيقال لك إن المعاني قد تختلف باختلاف الحروف وإن كان السند لا يسمع الكلام عليه وأكثر ما وجدت الفاء تنتهي في كلامهم إلى هذا العدد سواء بهذا الشرط وبدونه كقوله نوح عليه السلام ( فعلى الله توكلت ) الآية يونس 71 وكقول امرئ القيس
( غشيت ديار الحي بالبكرات )
البيتين لا يقال فالجب سابع لأنا نقول إنه عطف على عاقل المجرد منها ولعل حكمة الستة أنها أول الأعداد التامة كما قيل في حكمة خلق السموات والأرض فيها وشأن اللسان عجيب
وقوله في هذا البيت فحب لغة قليلة جرى عليها محبوب كثيرا حتى استغنى به عن محب فلا تكاد تجده إلا في قول عنترة
( ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم )
ونظيره محسوس من حس والأكثر أحس ولا تكاد تجد محسا وهذا التوجيه أحسن من قول القرافي في شرح التنقيح إنهم أجروا محسوسات مجرى معلومات لأن الحس أحد طرق العلم
سمعت ابن حكم يقول بعث بعض أدباء فاس إلى صاحب له
( ابعث إلي بشيء ... مدار فاس عليه )
( وليس عندك شيء ... مما أشير إليه )
فبعث إليه ببطة من مري يشير بذلك إلى الرياء
وحدثت أن قاضيها أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الملجوم حضر وليمة وكان كثير البلغم فوضع بين يديه صهره أبو العباس ابن الأشقر غضارا من اللون المطبوخ بالمري لمناسبته لمزاجه فخاف أن يكون قد عرض له بالرياء
وكان ابن الأشقر يذكر بالوقوع في الناس فناوله القاضي غضار المقروض فاستحسن الحاضرون فطنته
5 - ومنهم عالم الصلحاء وصالح العلماء وجليس التنزيل وحليف البكاء والعويل أبو محمد عبد الله بن عبد الواحد بن إبراهيم بن الناصر المجاصي خطيب جامع القصر الجديد وجامع خطتي التحديث والتجويد ويسميه أهل مكة البكاء ولما قدم أبو الحسن علي بن موسى البحيري سأل عنه فقيل له لو علم بك أتاك فقال أنا آتي من سمعت سيدي أبا زيد الهزميري يقول له لأول ما رآه ولم يكن يعرفه قبل ذلك مرحبا بالفتى الخاشع أسمعنا من قراءتك الحسنة
دخلت عليه بالفقيه أبي عبد الله السطي في أيام عيد فقدم لنا طعاما فقلت لو أكلت معنا فرجونا بذلك ما يرفع من حديث من أكل مع مغفور له غفر له فتبسم وقال لي دخلت على سيدي أبي عبدالله الفاسي بالإسكندرية فقدم طعاما فسألته عن هذا الحديث فقال وقع في نفسي منه شيء فرأيت النبي في المنام فسألته عنه فقال لي لم أقله وأرجو أن يكون كذلك
وصافحته بمصافحته الشيخ أبا عبد الله زيان بمصافحته أبا سعيد عثمان بن عطية الصعيدي بمصافحته أبا العباس أحمد الملثم بمصافحته المعمر بمصافحته رسول الله
وسمعته يحدث عن شيخه أبي محمد الدلاصي أنه كان للملك العادل مملوك اسمه محمد فكان يخصه لدينه وعقله بالنداء باسمه وإنما كان ينعق بمماليكه يا ساقي يا طباخ يا مزين فنادى به ذات يوم يا فراش فظن ذلك لموجدة عليه فلما لم ير أثر ذلك وتصورت له به خلوة سأله عن مخالفته لعادته معه فقال لا عليك كنت حينئذ جنبا فكرهت ذكر رسول الله في تلك الحالة
ومما نقلته من خط المجاصي ثم قرأته عليه فحدثني به قال حدثني القاضي أبو زكريا يحيى بن محمد بن يحيى بن أبي بكر ابن عصفور قال حدثني جدي يحيى المذكور أخبرنا محمد بن عبد الرحمن التجيبي المقرىء بتلمسان حدثنا الحافظ أبو محمد يعني والله أعلم عبد الحق الإشبيلي أخبرنا أبو غالب أحمد ابن الحسن المستعمل أخبرنا أبو الفتوح عبد الغافر بن الحسين بن أبي الحسن ابن خلف الألمعي أخبرنا أبو نصر أحمد بن إسحاق النيسابوري أملى علينا أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أخبرنا محمد بن علي بن الحسين العلوي أخبرنا عبد الله بن إسحاق اللغوي وأنا سألته أخبرنا إبراهيم بن الهيثم البلدي أخبرنا عبد الله بن نافع بن عيسى بن يونس عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله قال لي جبريل ألا أعلمك الكلمات التي قالهن موسى حين انفلق له البحر قلت بلى قال قل اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وبك المستغاث وأنت المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله قال ابن مسعود فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله ثم تسلسل الحديث على ذلك كل أحد من رجاله يقول ما تركتهن منذ سمعتهن من فلان لشيخه وقد سمعت المجاصي
يكررها كثيرا وما تركتهن منذ سمعتهن منه
وانشدني المجاصي قال أنشدني نجم الدين الواسطي أنشدني شرف الدين الدمياطي أنشدني تاج الدين الأرموي مؤلف الحاصل قال أنشدني الإمام فخر الدين لنفسه
( نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال )
( وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال )
( ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا )
( وكم من رجال قد رأينا ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا )
( وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فماتوا والجبال جبال )
وتوفي المجاصي في العشر الأخر من شهر ربيع الأول عام أحد وأربعين وسبعمائة
6 - ومنهم الشيخ الشريف القاضي الرحلة المعمر أبو علي حسن بن يوسف ابن يحيى الحسيني السبتي
أدرك أبا الحسين ابن أبي الربيع وأبا القاسم العزفي واختص بابن عبيدة وابن الشاط ثم رحل إلى المشرق فلقي ابن دقيق العيد وحلبته ثم قفل فاستوطن تلمسان إلى أن مات بها سنة أربع وخمسين أوثلاث وخمسين وسبعمائة قرأ علينا حديث الرحمة وهو أول حديث سمعته منه حدثنا الحسن بن علي بن عيسى ابن الحسن اللخمي وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا علي بن المظفر بن القاسم الدمشقي وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو الفرج محمد بن عبد الرحمن بن أبي العز الواسطي وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو العز
عبد المغيث بن زهير وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا زاهر بن طاهر بن محمد الشحامي وهو أول حديث سمعته منه ( ح ) قال الحسن بن علي وحدثنا أيضا عاليا الحسن بن محمد البكري وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو الفتوح محمد بن محمد بن محمد بن الجنيد الصوفي وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا زاهر بن طاهر وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي الفضائل عبد الوهاب بن صالح عرف بابن المغرم إمام جامع همذان بها وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو منصور عبد الكريم بن محمد بن حامد المعروف بابن الخيام وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك وهو أول حديث سمعته منه حفظا أخبرنا أبو الطاهر محمد بن محمد بن مخمش الزيادي وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن هلال البزار وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم وهو أول حديث سمعته منه أخبرنا سفيان بن عيينة وهو أول حديث سمعته منه عن عمرو ابن دينار عن أبي قابوس مولى لعبد الله بن عمرو بن العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
( ح ) وحدثني الشريف أيضا كذلك بطريقة عن السلفي بأحاديثه المشهورة فيه وهذا الحديث أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
قال لي الشريف قال لي القاضي أبو العباس الرندي لما قدم أبو العباس ابن الغماز من بلنسية نزل بجاية فجلس بها في الشهود مع عبد الحق بن ربيع
حذف
فجاء عبد الحق يوما وعليه برنس أبيض وقد حسنت شارته وكملت هيأته فلما نظر إليه ابن الغماز أنشده
( لبس البرنس الفقيه فباهى ... ورأى أنه المليح فتاها )
( لو زليخا رأته حين تبدى ... لتمنته أن يكون فتاها )
وبه أن ابن الغماز جلس لارتقاب الهلال بجامع الزيتونة فنزل الشهود من المئذنة وأخبروا أنهم لم يهلوه وجاء حفيد له صغير فأخبره أنه أهله فردهم معه فأراهم إياه فقال ما أشبه الليلة بالبارحة وقع لنا مثل هذا مع أبي الربيع ابن سالم فأنشدنا فيه
( توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... وأرخى حجاب الغيم دون محياه )
( فلما تصدى لارتقاب شقيقه ... تبدى له دون الأنام فحياه )
سمعت الشريف يقول أول زجل عمل في الدنيا
( بالله يا طير مدلل ... مر بي وسط القفار )
( إياك تجدد لعاده ... ترمي حجيرة في داري )
7 - ومنهم قاضي جماعتها وكاتب خلافتها وخطيب جامعها أبو عبد الله محمد بن منصور بن علي بن هدية القرشي من ولد عقبة بن نافع الفهري نزلها سلفه قديما وخلفه بها إلى الآن توفي في أواسط سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وشهد جنازته سلطانها يومئذ أبو تاشفين وولى ابنه أبا علي منصورا مكانه يومئذ ولما ثقل لسانه دعا ابنه هذا فقال له اكتب هذين البيتين فإني نظمتهما على هذه الحالة فكتب
( إلهي مضت للعمر سبعون حجة ... جنيت بها لما جنيت الدواهيا )
( وعبدك قد أمسى عليل ذنوبه ... فجد لي برحمى منك نعم الدواهيا )
ولما ورد الأديب أبو عبد الله محمد بن محمد المكودي من المغرب رفع إليه قصيدة أولها
( سرت والدجى لم يبق إلا يسيرها ... نسيم صبا يحيي القلوب مسيرها )
وفيها الأبيات العجاب التي سارت سير الأمثال وهي قوله
( وفي الكلة الحمراء حمراء لو بدت ... لثكلى لولى ثكلها وثبورها )
( فما يستوي مثوى لها من سوى القنا ... خيام ومن بيض الصفاح ستورها )
( وما بسوى صدق الغرام أرومها ... ولا بسوى زور الخيال أزورها )
فأحسن إليه وكلم السلطان حتى أرسل جرايته عليه وقد شهدت المكودي وهذه القصيدة تقرأ عليه
8 - ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن احمد بن علي بن أبي عمرو التميمي
أدرك ابن زيتون وأخذ عن أبي الطاهر ابن سرور وحلبته وعنه أخذت شرح المعالم له وولي القضاء بتلمسان مرات فلم تستفزه الدنيا ولا باع الفقر بالغنى
9 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد النور
قاضي الجماعة بعد ابن أبي عمرو وكانت له رحلة إلى المشرق لقي بها
جلال الدين القزويني وحلبته وتوفي بتونس في الوباء العام في حدود الخمسين وسبعمائة
10 - ومنهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسين البروني
قدم عليها من الأندلس فأقام إلى أن مات سمعته يقول البقر العدوية كالإبل المهملة في الصحراء لا يجوز أن تباع بالنظر إليها لكن بعد أن تمسك ويستولى عليها 11 - ومنهم أبو عمران موسى المصمودي الشهير بالبخاري
سمعت البروني يقول كان الشيخ أبو عمران يدرس صحيح البخاري ورفيق له يدرس صحيح مسلم فكانا يعرفان بالبخاري ومسلم فشهدا عنه قاض فطلب المشهود عليه الإعذار فيهما فقال له أبو عمران أتمكنه من الإعذار في الصحيحين فضحك القاضي وأصلح بين الخصمين
سألته عما ضربه ابن هدية عليه من إباحة الاستياك في رمضان بقشر الجوز فقال لي نعم ويبلع ريقه تأول رحمه الله تعالى أن الخصال المذكورة في السواك إنما تجتمع في الجوز فكان يحمل كل ما روى فيه عليه وهذا غلط فاحش لأن العرب لا تكاد تعرفه ونظر إلى ما في البخاري من قوله بعد أن ذكر جواز السواك للصائم ولا بأس أن يبتلع ريقه يعني الصائم في الجملة فحمله على المستاك بالجوز وكان رحمه الله تعالى قليل الإصابة في الفتيا كثير المصيبات عليها
12 - ومنهم نادرة الأعصار أبو عبد الله محمد بن يحيى بن علي بن النجار
قال لي العلامة الآبلي ما قرأ أحد علي حتى قلت له لم أبق عندي ما أقول لك غير ابن النجار
سمعت ابن النجار يقول مر عمل الموقتين على تساوي فضلتي ما بين المغرب والعشاء والفجر والشمس فيؤذنون بالعشاء لذهاب ثماني عشرة درجة وبالفجر لبقائها والجاري على مذهب مالك أن الشفق الحمرة وأن تكون فضلة ما بين العشاءين أقصر لأن الحمرة ثانية الغوارب والطوالع فتزيد فضلة الفجر بمقدار ما بين ابتداء طلوع الحمرة والشمس فعرضت كلامه هذا على المزوار أبي زيد عبد الرحمن بن سليمان اللجائي فصوبه
وذكرت يوما حكاية ابن رشد الاتفاق في الخمر إذا تخللت بنفسها أنها تطهر واعترضته بما في الإكمال عن ابن وضاح أنها لا تطهر فقال لي لا معتبر بقول ابن وضاح هذا لأنه يلزم عليه تحريم الخل لأن العنب لا يصير خلا حتى يكون خمرا وفيه بحث
وذكرت يوما قول ابن الحاجب فيما يحرم من النساء بالقرابة وهي أصول وفصول وفصول أول أصوله وأول فصل من كل أصل وإن علا فقال إن تركب لفظ التسمية العرفية من الطرفين حلت وإلا حرمت فتأملته فوجدته كما قال لأن أقسام هذا الضابط أربعة التركب من الطرفين كابن العم وابنة العم مقابله كالأب والبنت التركب من قبل الرجل كابنة الأخ والعم مقابله كابن الأخت والخالة
وأنشدت يوما عنده على زيادة اللام
( باعد أم العمر من أسيرها ... )
فقال لي وما يدريك أنه أراد العمر الذي أراده المعري بقوله
( وعمر هند كأن الله صوره ... عمرو بن هند يعني الناس تعنيتا )
وأضاف اللام إليه كما قالوا أم الحليس قلت ولا يندفع هذا بثبوت كون المعنية أم عمرو لأن ذلك لا يمنع إرادة المعنى الأخر فتكون أم عمرو وأم العمر
قال ابن النجار بعثت بهذه الأبيات من نظمي إلى القاضي أبي عبد الله ابن هدية فأخرج لغزها
( إن حروف اسم من كلفت به ... خفت على كل ناطق بفم )
( سائغة سهلة مخارجها ... من أجل هذا تزداد في الكلم )
( صحفه ثم اقلبن مصحفه ... فعل ذكي مهذب فهم )
( واطلبه في الشعر جد مطلبه ... تجده كالصبح لاح في الظلم )
( فإن تأملت بت منه على ... علم وإلا فأنت عنه عمي )
واللغز سلمان وموضعه تأملت بت وتوفي رحمه الله تعالى بتونس أيام الوباء العام
13 - ومنهم الأستاذ المقرىء الراوية الرحلة أبو الحسن علي بن أبي بكر ابن سبع بن مزاحم المكناسي
ورد علينا من المشرق فأقام معنا أعواما ثم رحل إلى فاس فتوفي بها في الوباء العام جمعت عليه السبع وقرأت عليه البخاري والشاطبيتين وغير
ذلك فأما البخاري فحدثني به قراءة منه على أحمد بن الشحنة الحجار سنة ثلاثين وسبعمائة وكان الحجار قد سمعه على ابن الزبيدي سنة ثلاثين وستمائة وهذا ما لا يعرف له نظير في الإسلام وقد قال عبد الغني الحافظ لا نعرف في الإسلام من وازاه غير عبد الله بن محمد البغوي في قدم السماع فإنه توفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة قال ابن خلاد سمعناه يقول أخبرنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني سنة خمس وعشرين ومائتين وسمعه ابن الزبيدي على أبي الوقت بسنده قال لي ابن مزاحم هذا طريق كله سماع واما الشاطبيتان فحدثني بهما قراءة عليه لجميعهما عن بدر الدين ابن جماعة بقراءتهما عليه عن أبي الفضل هبة الله بن الأزرق بقراءتهما عليه عن المؤلف كذلك وحدثني بتسهيل الفوائد عن ابن جماعة عن المؤلف ابن مالك وغير ذلك
14 - وممن ورد عليها لا يريد الإقامة بها شيخي وبركتي وقدوتي أبو عبد الله محمد بن حسين القرشي الزبيدي التونسي
حدثني بالصحيحين قراءة لبعضهما ومناولة لجميعهما عن أبي اليمن ابن عساكر لقيه بمكة سنة إحدى وثمانين وستمائة بسنده المشهور وحدثني أيضا أن أبا منصور العجمي حدثه بمحضر الشيخين والده حسين وعمه حسن وأثنى عليه دينا وفضلا أنه أدخل ببعض بلاد المشرق على المعمر أدخله عليه بعض ولد ولده فألفاه ملفوفا في قطن وسمع له دويا كدوي النحل فقيل له ألقيت رسول الله ورأيته قال نعم قلت ليس في هذا ما يستراب منه إلا الشيخ المعمر فإنا لا نعرف حاله فإن صح فحديثنا عنه
ثلاثي وقد تركت سنة خمس وأربعين بمصر رجلا يسمى بعثمان معه تسعون حديثا يزعم أنه سمعها من المعمر وقد أخذت عنه وكتبت منه فهذا ثنائي وأمر المعمر غريب والنفس أميل إلي نفيه
15 - ومنهم إمام الحديث والعربية وكاتب الخلافة العثمانية والعلوية أبو محمد عبد المهيمن بن محمد الحضرمي السبتي
جمع فأوعى واستوهب أكثر المشاهير وما سعى فهو المقيم الظاعن الضارب القاطن سألني عن الفرق بين علم الجنس واسم الجنس فقلت له زعم الخسر وشاهي أنه ليس بالديار المصرية من يعرفه غيره وأنا أقول ليس في الدنيا عالم إلا وهو يعلمه غيره لأنه حكم لفظي أوجب تقديره المحافظة على ضبط القوانين كعدل عمر ونحوه فاستحسن ذلك
وكان ينكر إضافة الحول إلى الله عز و جل فلا يجيز أن يقال بحول الله وقوته قال لأنه لم يرد إطلاقه والمعنى يقتضي امتناعه لأن الحول كالحيلة أو قريب منها
وتوفي بتونس أيام الوباء العام
16 - ومنهم الفقيه المحقق الفرضي المدقق أبو عبد الله محمد بن سليمان بن
علي السطي قرأت عليه كتاب الحوفي علما وعملا قال لي في قول ابن الحاجب والثمن والثلث والسدس من أربعة وعشرين هذا لا يصح إذ لا يجتمع والثمن في فريضة وقد سبقه إلى هذا الوهم صاحب المقدمات وسألت ابن النجار فقال لي إنما أراد المقام لأنه يجتمع مع الثلثين والإنصاف أنه لا يحسن التعبير بما لا تصح إرادة نفسه عن غيره فكان الوجه أن يقول والثلثان أو ومقام الثلث ونحو ذلك لأن الثلث إنما يدخل هنا تقديرا لا تحقيقا كما في الجواهر وانظر باب المدبر من كتاب الحوفي فإن فيه موافقة السبعة لعدد لا توافقه فهو من باب الفرض وعليه ينبغي أن يحمل كلام ابن الحاجب
17 - 19 - ومنهم الأستاذ أبو عبد الله الرندي والقاضي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرزاق الجزولي والقاضي أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي يحيى في كثير من الخلق فلنضرب عن هذا
20 - ومن شيوخي الصلحاء الذين لقيت بها خطيبها الشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي الخياط أدرك أبا إسحاق الطيار وقد صافحته وأنا صغير لأنه توفي سنة تسع وعشرين بمصافحته أباه بمصافحته الشيخ أبا تميم بمصافحته أبا مدين بمصافحته أبا الحسن ابن حرزهم بمصافحته ابن العربي بمصافحته الغزالي بمصافحته أبا المعالي بمصافحته أبا طالب المكي بمصافحته أبا محمد الجريري بمصافحته الجنيد بمصافحته سريا بمصافحته معروفا بمصافحته داود الطائي بمصافحته حبيبا العجمي بمصافحته الحسن البصري بمصافحته علي بن أبي طالب بمصافحته رسول الله
21 - ومنهم خطيبها المصقع أبو عبد الله محمد بن علي بن الجمال أدرك محمد بن رشيد البغدادي صاحب الزهر والوتريات على حروف المعجم المذهبة وغيرها حدثني عنه أنه تاب بين يديه لأول مجلس جلسه بتلمسان سبعون رجلا
22 23 - ومنهم الشقيقان الحاجان الفاضلان أبو عبد الله محمد وابو العباس أحمد ابنا ولي الله أبي عبد الله محمد بن محمد بن أبي بكر ابن مرزوق العجيسي
كساني محمد خرقة التصوف بيده كما كساه إياها الشيخ بلال بن عبد الله الحبشي خادم الشيخ أبي مدين كما كساه أبو مدين قال محمد بن مرزوق وكان مولد بلال سنة تسع وخمسين وخمسمائة أبا مدين نحوا من خمسة عشر عاما إلى أن توفي في عام تسعين وخمسمائة عاش بعده أكثر من مائة سنة ولبس أبو مدين من يد ابن حرزهم ولبس ابن حرزهم من يد ابن العربي واتصل اللباس اتصال المصافحة
24 - ومنهم أبو زيد عبد الرحمن بن يعقوب بن الصنهاجي المكتب حديثا عن قاضيها أبي زيد عبد الرحمن بن علي الدكالي أنه اختصم عنده رجلان في شاة ادعى أحدهما أنه أودعها الآخر وادعى الآخر أنها ضاعت منه فأوجب اليمين على المودع عنده انها ضاعت من غير تضييع فقال كيف أضيع وقد شغلتني حراستها عن الصلاة حتى خرج وقتها فحكم عليه بالغرم فقيل له في
ذلك فقال تأولت قول عمر ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع
25 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد الغزموني مكتبي الأول ووسيلتي إلى الله عز و جل قرأ على الشيخين أبي عبد الله القصري وأبي حريث وحج حجات وكان عقد بقلبه أنه كلما ملك مائة دينار عيونا سافر إلى الحج وكان بصيرا بتعبير الرؤيا فمن عجائب شأنه فيه أنه كان في سجن أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق فيمن كان فيه من أهل تلمسان أيام محاصرته لها فرأى أبو جمعة ابن علي التلالسي الجرائحي منهم كأنه قائم على سانية دائرة وجميع قواديسها يصب في نقير في وسطها فجاء ليشرب فلما اغترف الماء إذا فيه فرث ودم فأرسله ثم اغترف فإذا هو كذلك ثلاثا أو أكثر فعدل عنه فرأى خصمه ماء وشرب منها ثم استيقظ وهو النهار فأخبره فقال إن صدقت رؤياك فنحن عما قليل خارجون من هذا المكان قال كيف قال السانية الزمان والنقير السلطان وأنت جرائحي تدخل يدك في جوفه فينالها الفرث والدم وهذا ما لا تحتاج معه فلم يكن إلا ضحوة الغد وإذا النداء عليه فأخرج فوجد السلطان مطعونا بخنجر فأدخل يده فنالها الفرث والدم فخاط جراحته ثم خرج فرأى خصة ماء فغسل يديه وشرب ثم لم يلبث السلطان أن توفي وسرحوا
وتعداد أهل هذه الصفة يكثر فلنصفح عنهم ولنختم فصل من لقيته
بتلمسان بذكر رجلين هما بقيد الحياة أحدهما عالم الدنيا والآخر نادرتها
26 - أما العالم فشيخنا ومعلمنا العلامة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الآبلي التلمساني سمع جده لأمه أبا الحسين ابن غلبون المرسي القاضي بتلمسان وأخذ عن فقهائها أبي الحسين التنسي وابني الإمام ورحل في آخر لالمائة السابعة فدخل مصر والشام والحجاز والعراق ثم قفل إلى المغرب فأقام بتلمسان مدة ثم فر أيام أبي حمو موسى بن عثمان إلى المغرب
حدثني أنه لقي أبا العباس أحمد بن إبراهيم الخياط شقيق شيخنا أبي عثمان المتقدم ذكره فشكا له ما يتوقعه من شر أبي حمو فقال له عليك بالجبل فلم يدر ما قال حتى تعرض له رجل من غمارة فعرض عليه الهروب به قال فخفت أن يكون أبو حمو قد دسه علي فتنكرت له فقال لي إنما أسير بك على الجبل فتذكرت قول أبي إسحاق فواطأته وكان خلاصي على يده قال ولقد وجدت العطش في بعض مسيري به حتى غلظ لساني واضطربت ركبتاي فقال لي إن جلست قتلتك لئلا أفتضح بك فكنت أقوي نفسي فمر على بالي في تلك الحالة استسقاء عمر بالعباس وتوسله به فوالله ما قلت شيئا حتى رفع لي غدير ماء فأريته إياه فشربنا ونهضنا
ولما دخل المغرب ادرك أبا العباس ابن البناء فأخذ عنه وشافه كثيرا من علمائه قال لي قلت لأبي الحسن الصغير ما قولك في المهدي فقال عالم سلطان فقلت له قد أبنت عن مرادي ثم سكن جبال الموحدين ثم رجع إلى فاس فلما افتتحت تلمسان لقيته بها فأخذت عنه فقال لي الآبلي
كنت يوما مع القاسم بن محمد الصنهاجي فوردت عليه طومارة من قبل القاضي أبي الحجاج الطرطوشي فيها
( خيرات ما تحويه مبذولة ... ومطلبي تصحيف مقلوبها )
فقال لي ما مطلبه فقلت نارنج
دخل على الآبلي وأنا عنده بتلمسان الشيخ أبو عبد الله الدباغ المالقي المتطبب فأخبرنا أن أديبا استجدى وزيرا بهذا الشطر
( ثم حبيب قلما ينصف ... )
فأخذته فكتبته ثم قلبته وصحفته فإذا هو قصبتا ملف شحمي
ومر الدباغ علينا يوما بفاس فدعاه الشيخ فلباه فقال حدثنا بحديث اللظافة فقال نعم حدثني أبو زكريا ابن السراج الكاتب بسجلماسة أن أبا إسحاق التلمساني وصهره مالك بن المرحل وكان ابن السراج قد لقيهما اصطحبا في مسير فآواهما الليل إلى مجشر فسألا عن طالبه فدلا فاستضافاه فأضافهما فبسط قطيفة بيضاء ثم عطف عليهما بخبز ولبن وقال لهما استعملا من هذه اللظافة حتى يحضر عشاؤكما وانصرف فتحاور في اسم اللظافة لأي شيء هو منهما حتى ناما فلم يرع أبا إسحاق إلا مالك يوقظه ويقول قد وجدت اللظاظة قال كيف قال أبعدت في طلبها حتى وقعت بما لم يمر قط على مسمع هذا البدوي فضلا عن أن يراه ثم رجعت القهقرى حتى وقعت على قول النابغة
( بمخضب رخص كأن بنانه ... عنم يكاد من اللطافة يعقد )
فسنح لبالي انه وجد اللطافة وعليها مكتوب بالخط الرقيق اللين فجعل
إحدى النقطتين للطاء فصارت اللطافة اللظافة واللين واللبن وإن كان قد صحف عنم بغنم وظن أن يعقد جبن فقد قوي عنده الوهم فقال أبو إسحاق ما خرجت عن صوبه فلما جاء سألاه فأخبر أنها اللبن واستشهد بالبيت كما قال مالك
ولا تعجب من مالك فقد ورد فاسا شيخنا أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي عرف بابن المسفر رسولا عن صاحب بجاية فزاره الطلبة فكان فيما حدثهم أنهم كانوا على زمان ناصر الدين يستشكلون كلاما وقع في تفسير سورة الفاتحة من كتاب فخر الدين ويستشكله الشيخ معهم وهذا نصه ثبت في بعض العلوم العقلية أن المركب مثل البسيط في الجنس والبسيط مثل المركب في الفصل وأن الجنس أقوى من الفصل فرجعوا به إلى الشيخ الآبلي فتأمله ثم قال هذا كلام مصحف وأصله أن المركب قبل البسيط في الحس والبسيط قبل المركب في العقل وأن الحس أقوى من العقل فأخبروا ابن المسفر فلج فقال لهم الشيخ التمسوا النسخ فوجدوه في بعضها كما قال الشيخ والله يؤتي فضله من يشاء
قال لي الأبلي لما نزلت تازي بت مع أبي الحسن ابن بري وأبي عبد الله الترجالي فاحتجت إلى النوم وكرهت قطعهما عن الكلام فاستكشفتهما عن معنى هذا البيت للمعري
( أقول لعبد الله لما سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم )
فجعلا يفكران فيه فنمت حتى أصبحا ولم يجداه فسألاني عنه فقلت معناه أقول لعبد الله لما وهى سقاؤنا ونحن بوادي عبد شمس شم لنا برقا
قلت وفي جواز مثل هذا نظر
سمعت الآبلي يقول دخل قطب الدين الشيرازي والدبيران على أفضل الدين الخونجي ببلده وقد تزيا بزي القونوية فسأله أحدهما عن مسألة فأجابه فتعايا عن الفهم وقرب التقرير فتعايا فقال الخونجي متمثلا
( علي نحت المعاني من معادنها ... وما علي لكم أن تفهم البقر )
فقال له ضم التاء يا مولانا فعرفهما فحملهما إلى بيته
قلت سمعت الشيخ شمس الدين الأصبهاني بخانقاه قوصون بمصر يقول إن شيخه القطب توفي عام أحد عشر وسبعمائة وله سبع وسبعون سنة وهذا يضعف هذه الحكاية عندي
سمعت الآبلي يقول إن الخونجي ولي قضاء مصر بعد عز الدين بن عبد السلام فقدم شاهدا كان عز الدين أخره فعذله في ذلك فقال إن مولان لم يذكر السبب الذي رفع يده من أجله وهو الآن غير متمكن من ذكره
سمعت الشيخ الآبلي يحدث عن قطب الدين القسطلاني أنه ظهر في المائة السابعة من المفاسد العظام ثلاث مذهب ابن سبعين وتملك الططر للعراق واستعمال الحشيشة
سمعت الآبلي يقول قال أبو المطرف ابن عميرة
( فضل الجمال على الكمال بوجهه ... فالحق لا يخفى على من وسطه )
( وبطرفه سقم وسحر قد أتى ... مستظهرا بهما على ما استنبطه )
( عجبا له برهانه بشروطه ... معه فما مقصوده بالسفسطه )
قال فأجابه أبو القاسم ابن الشاط فقال
( علم التباين في النفوس وأنها ... منها مغلطة وغير مغلطة )
( فئة رأت وجه الدليل وفرقة ... وأصغت إلى الشبهات فهي مورطة )
( فأراد جمعهما معا في ملكه ... هذي بمنتجة وذي بمغلطة )
يعني قولهم في التام هو ما تحمل فيه البرهان الفصل
وأخبار الآبلي وأسمعتي منه تحتمل كتابا فلنقف على هذا القدر منها
27 - وأما النادرة فأبو عبد الله محمد بن أحمد بن شاطر الجمحي المراكشي صحب أبا زيد الهزميري كثيرا وأبا عبد الله ابن تجلات وأبا العباس ابن البناء وأضرابه من المراكشيين ومن جاورهم ورزق بصحبة الصالحين حلاوة القبول فلا تكاد تجد من يستثقله وربما سئل عن نفسه فيقول ولي مفسود
قلت له يوما كيف أنت فقال محبوس في الروح وقال الليل والنهار حرسيان أحدهما أسود والآخر أبيض وقد أخذا بمجامع الخلق يجرانهم إلى يوم القيامة وإن مردنا إلى الله تعالى
وسمعته يقول المؤذنون يدعون أولياء الله إلى بيته لعبادته فلا يصدهم عن دعائهم ظلمة ولا شتاء ولا طين ويصرفونهم عن الاشتغال بما لم يبين لهم فيخرجونهم ويغلقون الأبواب دونهم
ووجدته ذات يوم في المسجد ذاكرا فقلت له كيف أنت فقال ( فهم في روضة يحبرون ) الروم 15 فهممت بالانصراف فقال أين تذهب من روضة من رياض الجنة يقام بها على رأسك بهذا التاج وأشار إلى المنار مملوءا الله أكبر
مر ابن شاطر يوما على أبي العباس أحمد بن شعيب الكاتب وهو جالس
في جامع الجزيرة طهره الله تعالى وقد ذهبت به الكفرة فصاح به فلما رفع رأسه إليه قال له انظر إلى مركب عزرائيل هذا وأشار إلى نعش هنالك قد رفع شراعه ونودي عليه الطلوع يا غزي
وأكل يوما مع أبي القاسم عبد الله بن رضوان الكاتب جلجلانا فقال له أبو القاسم إن في هذا الجلجلان لضربا من طعم اللوز فقال ابن شاطر وهل الجلجلان إلا لوزة دقة
وسئل عن العلة في نضارة الحداثة فقال قرب عهدها بالله فقيل له فمم تغير الشيوخ فقال من بعد العهد من الله وطول الصحبة مع الشياطين فقيل له فبخر أفواههم فقال من كثرة ما تفل الشياطين فيها
وكان يسمى الصغير فأر المصطكي قال لي ابن شاطر لقيت عمي ميمونا المعروف بدبير لقرب موته وقد اصفر وجهه وتغيرت حالته فقلت له ما بالك وكان قد خدم الصالحين ورزق بذلك القبول فقال انسدت الزربطانة فطلع يعني العذرة يشير إلى الاحتقان للطبيعة
أنشدني ابن شاطر قال أنشدني أبو العباس ابن البناء لنفسه ( قصدت إلى الوجازة في كلامي ... )
الأبيات
وأخبار ابن شاطر عندي تحتمل كراسة فلنقنع منها بهذا القدر
فصل ولما دخلت تلمسان على بني عدب الواد تهيأ لي السفر منها فرحلت
إلى بجاية فلقيت بها أعلاما درجوا فأمست بعدهم خلاء بلقعا
28 - فمنهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي عرف بابن المسفر باحثته واستفدت منه وسألني عن اسم كتاب الجوهري فقلت له من الناس من يقول الصحاح بالكسر ومنهم من يفتح فقال إنما هو بالفتح بمعنى الصحيح كما ذكره في باب صح قلت ويحتمل أن يكون مصدر صح كحنان
وكتب إلى بعض أصحابه بجواب رسالة صدره بهذين البيتين
( وصلت صحيفتكم فهزت معطفي ... فكأنما أهدت كؤوس القرقف )
( وكأنها نيل الأمان لخائف ... أو وصل محبوب لصب مدنف )
29 - ومنهم قاضيها أبو عبد الله محمد ابن الشيخ أبي يوسف يعقوب الزواوي فقيه ابن فقيه كان يقول من عرف ابن الحاجب اقرأ به المدونة قال وأنا أقرأ به المدونة
30 - ومنهم أبو علي حسين بن حسين إمام المعقولات بعد ناصر الدين
31 - ومنهم خطيبها أبو العباس أحمد بن عمران وكان قد ورد تلمسان وأورد بها على قول ابن الحاجب في حد العلم صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض الخاصة إلا أن يزاد في الحد لمن قامت به لأنها إنما توجب فيه تميزا لا تمييزا وهذا حسن
32 - 33 - ومنهم الشيخان أبو عزيز وأبو موسى ابن فرحان وغيرهم من أهل عصرهم
34 - ثم رحلت إلى تونس فلقيت بها قاضي الجماعة وفقيهها أبا عبد الله ابن عبد السلام فحضرت تدريسه وأكثرت مباحثته ولما نزلت بظاهر فسمطينة تلقاني رجل من الطلبة فسألني عن هذه الآية ( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) المائدة 67 فإن ظاهرها أن الجزاء هو الشرط أي وإن لم تبلغ فما بلغت وذلك غير مفيد فقلت بل هو مفيد أي وإن لم تبلغ في المستقبل لم ينفعك تبليغك في الماضي لارتباط أول الرسالة بآخرها كالصلاة ونحوها بدليل قصة يونس فعبر بانتفاء ماهية التبليغ عن انتفاء المقصود منه إذ كان إنما يطلب ولا يعتبر بدونه كقوله عليه الصلاة و السلام لا صلاة إلا بطهور ثم اجتمعت بابن عبد السلام بجامع بوقير من تونس فسألته عن ذلك فلم يزد على أن قال هذا مثل قوله عليه الصلاة و السلام فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله وقد علمتم ما قال الشيخ تقي الدين فيه قلت كلام تقي الدين لا يعطي الجواب عن الآية فتأمله
35 - 41 - وقالضي المناكح أبا محمد الأجمي وهو حافظ فقهائها في وقته والفقيه أبا عبد الله ابن هارون شارح ابن الحاجب في الفقه والأصول والخطيب أبا عبد الله ابن عبد الستار وحضرت تدريسه بمدرسة المعرض والعلامة أبا عبد الله ابن الجياب الكاتب والفقيه أبا عبد الله ابن سلمة والشيخ الصالح أبا الحسن المنتصر وارث طريقة الشيخ أبي محمد المرجاني آخر المذكورين بإفريقية ورأيت ابن الشيخ المرجاني فحدثني أبو موسى ابن الإمام أنه أشبه به من الغراب بالغراب وسيدي أبا عبد الله الزبيدي المتقدم ذكره وأوقفني على خطإ في كتاب الصحاح وذلك أنه زعم أن السالم جلدة ما بين العين والأنف قال وفيه يقول ابن عمر في ابنه السالم
( يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين الأنف والعين سالم )
قال وهذا أراد عبد الملك حيث كتب إلى الحجاج أنت مني كسالم وهذا خطا فاحش وكان يلزمه أن يسميها بالعمارة أيضا لقوله عليه السلام عمارة جلدة ما بين عيني وأنفي وإنما يراد بمثل هذا القرب والتحمد
ولقيت بتونس غير واحد من العلماء والصلحاء يطول ذكرهم ثم قفلت إلى المغرب يسايرني رجل من أهل قسنطينة يعرف بمنصور الحلبي فما لقيت رجلا أكثر أخبارا ولا أظرف نوادر منه فمما حفظته من حديثه أن رجلا من الأدباء مر برجل من الغرباء وقد قام بين ستة أطفال جعل ثلاثة عن يمينه وثلاثة عن شماله وأخذ ينشد
( ما كنت أحسب أن أبقى كذا أبدا ... أعيش والدهر في أطرافه حتف )
( ساس بستة أطفال توسطهم ... شخصي كأحرف ساس وسطها ألف )
قال فتقدمت إليه وقلت فأين تعريقة السين فقال طالب ورب الكعبة ثم قال الآخر من جهة يمينه قم فقام يجر رجله كأنه مبطول فقال هذا تمام تعريقة السين
41 - 53 ثم رحلت من تلمسان إلى المغرب فلقيت بفاس الشيخ الفقيه الحاج أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحيم اليزناسي والشيخ الفقيه أبا محمد عبد المؤمن الجاناتي والشيخ الفقيه الصالح أبا زرهون عبد العزيز بن محمد القيرواني والفقيه أبا الضياء مصباح بن عبد الله اليالصوني وكان حافظ وقته والفقيه أبا عبد الله ابن عبد الكريم وشيخ الشيوخ أبا زيد عبد الرحمن بن عفان الجزولي والأستاذ أبا العباس المكناسي وكنت لقيت الأستاذ أبا العباس ابن
حزب الله والأستاذ أبا عبد الله ابن القصار بتلمسان ولقيت غير هؤلاء ممن يكثر عددهم وكنت قد لقيت بتازي الفقيه أبا عبد الله ابن عطية والأستاذ أبا عبد الله المجاصي والشيخ أبا الحسين الجيار وغيرهم
53 - 67 - ثم بلغت بالرحلة إلى أغمات ثم وصلت إلى سبتة فاستوعبت بلاد المغرب ولقيت بكل بلد من لا بد من لقائه من علمائه وصلحائه ثم قفلت إلى تلمسان فأقمت بها ما شاء الله تعالى ثم أعملت الرحلة إلى الحجاز فلقيت بمصر الأستاذ أثير الدين أبا حيان الغرناطي فرويت عنه واستفدت منه وشمس الدين الأصبهاني الآخر وشمس الدين بن عدلان وقرأ علي بعض شروحه لكتب المزني وناولني إياه وشمس الدين بن اللبان آخر المذكورين بها والشيخ الصالح أبا محمد المنوفي فقيه المالكية بها وتاج الدين التبريزي الأصم وغيرهم ممن يطول ذكرهم
ثم حججت فلقيت بمكة إمام الوقت أبا عبد الله ابن عبد الرحمن التوزري المعروف بخليل وسألته يوم النحر حين وقف بالمشعر الحرام عن بطن محسر لأحرك فيه على الجمل فقال لي تمالأ الناس على ترك هذه السنة حتى نسي بتركها محلها والأقرب أنه هذا وأشار إلى ما يلي الجابية التي على يسار المار من المشعر إلى منى من الطريق من أول ما يحاذيها إلى أن يأخذ صاعدا إلى منى وما رأيت أعلم بالمناسك منه والإمام أبا العباس ابن رضي الدين الشافعي وغير واحد من الزائرين والمجاورين وأهل البلد
وبالمدينة أعجوبة الدنيا أبا محمد عبد الوهاب الجبرتي وغيره
ثم أخذت على الشام فلقيت بدمشق شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب الفقيه ابن تيمية وصدر الدين الغماري المالكي وأبا القاسم ابن محمد اليماني الشافعي وغيرهم وببيت المقدس الأستاذ أبا عبد الله ابن مثبت والقاضي شمس الدين بن سالم والفقيه المذكر أبا عبد الله ابن عثمان وغيرهم
ثم رجعت إلى المغرب فدخلت سجلماسة ودرعة ثم قطعت إلى الأندلس فدخلت الجبل وأصطبونة ومربلة ومالقة وبلش والحامة وانتهت بي الرحلة إلى غرناطة وفي علم الله تعالى ما لا علم وهو المسؤول أن يحملنا على الصراط الأقوم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم انتهى كلام جدي رحمه الله تعالى في الجزء الذي ألفه في مشيخته وقد لخصه لسان الدين في الإحاطة
ترجمة المقري بقلم ابن خلدون
ولنذكر هنا زيادات لا بأس بها فنقول ولما ألم ولي الدين ابن خلدون بذكر مولاي الجد في تاريخه الكبير عند تعريفه بنفسه وصفه بأنه كبير علماء المغرب ونص محل الحاجة من تاريخه لما رحلت من تونس منتصف شعبان من سنة أربع وثمانين أقمنا في البحر نحوا من أربعين ليلة ثم وافينا مرسى الإسكندرية يوم الفطر ولعشر ليال من جلوس الملك الظاهر على التخت واقتعاد كرسي الملك دون أهله بني قلاوون وكنا على ترقب ذلك لما كان يؤثر بقاصية البلادمن سموه لذلك وتمهيده له وأقمت بإسكندرية شهرا لتهيئة أسباب الحج ولم يقدر عامئذ فانتقلت إلى القاهرة أول ذي القعدة فرأيت حضرة الدنيا وبستان العالم ومحشر الأمم ومدرج الذر من البشر وإيوان الإسلام وكرسي الملك تلوح القصور والأواوين في أوجه وتزهو الخوانق والمدارس بآفاقه وتضيء البدور والكواكب من علمائه وقد مثل بشاطئ بحر النيل نهر الجنة ومدفع مياه السماء يسقيهم النهل والعلل سيحه ويجبي إليهم الثمرات والخيرات ثبجه ومررت في سكك المدينة تغص بزحام المارة وأسواقها تزخر بالنعم وما زلنا نحدث عن هذا البلد وبعد مداه في العمران واتساع الأحوال ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجهم وتاجرهم بالحديث عنه سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقري فقلت له كيف هي القاهرة فقال من لم يرها لم يعرف عز الإسلام وسألت شيخنا أبا العباس ابن إدريس كبير العلماء ببجاية مثل ذلك فقال كأنما انطلق أهله من الحساب يشير إلى كثرة أممه وأمنهم العواقب وحضرت صاحبنا قاضي العسكر بفاس الفقيه الكاتب أبا القاسم البرجي بمجلس السلطان أبي عنان منصرفه من السفارة عنه إلى ملوك مصر وتأدية رسالته النبوية إلى الضريح الكريم سنة خمس وخمسين وسأله عن القاهرة فقال أقول في العبارة عنها على سبيل الاختصار إن الذي يتخيله الإنسان فإن ما يراه دون الصورة التي تخيلها لاتساع الخيال على كل محسوس إلا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يتخيل
فيها فأعجب السلطان والحاضرون بذلك انتهى كلام ابن خلدون ولا يخلو عن فائدة زائدة
فوائد عن المقري الجد
ولا بأس أن نورد من فوائد مولاي الجد ما حضرني الآن فمن ذلك ما حكاه ابن عبد الرزاق عن ابن قطران قال سمع يهودي بالحديث المأثور نعم الإدام الخل فأنكر ذلك حتى كاد يصرح بالقدح فبلغ ذلك بعض العلماء فأشار على الملك أن يقطع عن اليهود الخل وأسبابه سنة قال فما تمت حتى ظهر فيهم الجذامومنها أنه قال أنشدني الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد قال أنشدني الشيخ التقي ابن دقيق العيد لنفسه في معنى لطيف حجازي
( إذا كنت في نجد وطيب نعيمه ... تذكرت أهلي باللوى فمحسر )
( وإن كنت فيهم زدت شوقا ولوعة ... إلى ساكني نجد وعيل تصبري )
( فقد طال ما بين الفريقين موقفي ... فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري )
ومنها ما حكاه عن عبد الله بن عبد الحق عن ابن قطرال قال كنت بالمدينة على ساكنها الصلاة والسلام إذ أقبل رافضي بفحمة في يده فكتب بها على جدار هناك
( من كان يعلم أن الله خالقه ... فلا يحب أبا بكر ولا عمرا )
وانصرف فألقى علي من الفطنة وحسن البديهة ما لم أعهد مثله من نفسي قبل فجعلت مكان يحب يسب ورجعت إلى مجلسي فجاء فوجده كما أصلحته فجعل يلتفت يمينا وشمالا كأنه يطلب من صنع ذلك ولم يتهمني فلما أعياه الأمر انصرف
ومنها أنه قال حدثت أن الزاهد أبا عمرة ابن غالب المرسي نزيل تلمسان وقد لقيت غير واحد من أصحابه سأله بعض أن يشهد عقد ابنته فتعذر عليه فلم يزل به حتى أجاب بعد جهد فحضر العقد وطعم الوليمة ثم لما حضرت ليلة الزفاف استحضره في ركوبها إلى دار زوجها على عادة أهل تلمسان فأجابه مسرعا فقيل له أين هذا التيسري من ذاك التعسير فقال من أكل طعام الناس مشى في خدمتهم أو كما قال
ومنها أنه قال حدثت أن الفقيه أبا عبد الله ابن العواد العدل بتونس التقى يوما مع القاضي أبي علي ابن قداح وكان ابن العواد شيخا فقال له أبو علي كبرت أبا عبد الله فصرت تمشي كل شبر بدينار يوري بكثرة الفائدة في مشيه إلى الشهادة فقال له كنت إذ كنت في سنك أخرج رزقي من الحجر يعرض لابن قداح بأنه جيار وكذلك كان هو وأبوه رحمهم الله تعالى جميعا وهذا من مزاج الأشراف كما جرى بين معاوية والأحنف انظر صدر أدب الكتاب
ومنها أنه قال قال لي الحاج أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الواحد الرباطي كنا عند الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد ففقد أحدنا نعليه فقال الشيخ كنا عند العلم التبريزي فدخل عليه رجل يدعى بشيرا فكلمه ثم خرج فلم يجد نعليه فرجع إلى العلم وأنشده
( دخلت إليك يا أملي بشيرا ... فلما أن خرجت خرجت بشرا )
( أعد يائي التي سقطت من اسمي ... فيائي في الحساب تعد عشرا )
وقال رحمه الله تعالى لما سعى أولاد الشيخ أبي شعيب بالقاضي أبي الحجاج الطرطوشي إلى السلطان وأمر بإشخاصه وكثر إرجاف المتشيعين فيهم من بعده وخرج الأمر على خلاف ما أملوا منه قال في ذلك
( حمدت الله في قوم أثاروا ... شرورا فاستحالت لي سرورا )
( وقالوا النار قد شبت فلما ... دنوت لها وجدت النار نورا )
ومنها أنه حكى أن الشيخ أبا القاسم ابن محمد اليمني مدرس دمشق ومفتيها حكى له بدمشق أنه قال له شيخ صالح برباط الخليل عليه السلام نزل بي مغربي فمرض حتى طال علي أمره فدعوت الله أن يفرج عني وعنه بموت أو صحة فرأيت النبي في المنام فقال أطعمه الكسكسون قال يقوله هكذا بالنون فصنعته له فكأنما جعلت له فيه الشفاء وكان أبو القاسم يقول فيه كذلك ويخالف الناس في حذف النون من هذا الاسم ويقول لا أعدل عن لفظ رسول الله ثم قال قلت ووجه هذا من الطب أن هذا الطعام مما يعتاده المغاربة ويشتهونه على كثرة استعمالهم له فربما نبه منه شهوة أو رده إلى عادة
وقال الجد رحمه الله تعالى رأيت بجامع الفسطاط من مصر فقيرا عليه قميص إلى جانبه دفاسة قائمة وبين يديه قلنسوة فذكر لي هنالك أنهما محشوتان بالبرادة وأن زنة الدفاسة أربعمائة رطل مصرية وهي ثلاثمائة وخمسون مغربية وزنة القلنسوة مائتا رطل مصرية وهي مائة وخمسة وسبعون مغربية فعمدت إلى الدفاسة فأخذتها من طوقها أنا ورجل آخر فأملناها بالجهد ثم أقمناها ولم نصل بها إلى الأرض وعدت إلى القلنسوة فأخذتها من إصبع كان
في رأسها فلم أطق حملها فتركتها وكان يوم جمعة فلما قضيت الصلاة مررنا في جملة من أصحابنا بالفقير فوجدناه لابسا تلك الدفاسة في عنقه واضعا تلك القلنسوة على رأسه فقام إلينا وإلى غيرنا ومشى بهما كما يمشي أحدنا بثيابه فجعلنا نتعجب ويشهد بعضنا بعضا على ما رأى من ذلك ولم يكن بالعظيم الخلقة
وقال رحمه الله تعالى كان الأستاذ ابن حكم قد بعث إلي بمحرر لأبعث به إلى من يعرضه للبيع ثم بلغه أن أحمالا من المتاع التونسي قد وصلت إلى البلد فكتب إلي الحمد لله الذي أمر عند كل مسجد بأخذ الزينة وصلواته الطيبة وبركاته الصيبة على من ختم به شريعته وأكمل دينه وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه والذين يتبعونه وبعد فما تعلق به الإعلام أن تعوضوا المحرر بإحرام لا يخفى على مثلكم جنسه ومجانسه ومن كلام العرب كل ثوب ولابسه وإن أربى على ثمن الأول ثمن الثاني فلست عن الزيادة والحمد لله بالواني
ومن فوائده أنه قال كتب في صدر رسالة إلى صاحبنا الشيخ الناسك أبي علي منصور ابن شيخ عصره وفريد دهره ناصر الدين المشدالي الشيخ الخاشع صاحبنا أبو الحسن علي بن موسى البحيري يذكره شوقه إلىلقائه لما كان يبلغه عنه حتى قدر باجتماعهما بوهران أيام قضاء البحيري بها
( أوحشتني ولو اطلعت على الذي ... لك في فؤادي لم تكن لي موحشا )
( يا محرقا بالنار قلب محبه ... أنسيت أنك مستكن في الحشا )
وقال رحمه الله تعالى أنشدني محمد البلفيقي قال أنشدني ابن رشيد قال أنشدني أبو حفص ابن الخيمي المصري لنفسه
( لو رأى وجه جبيبي عاذلي ... لتفاصلنا على وجه جميل )
وقال رحمه الله تعالى قال لي محمد بن داود بن المكتب قال لي بلال الحبشي خادم الشيخ أبي مدين كان الشيخ كثيرا ما ينشد هذا البيت
( الله قل وذر الوجود وما حوى ... إن كنت مرتادا بصدق مراد )
وقال رحمه الله تعالى دخلت على عبد الرحمن بن عفان الجزولي وهو يجود بنفسه وكنت قد رأيته قبل ذلك معافى فسألته عن السبب فأخبرني أنه خرج إلى لقاء السلطان فسقط عن دابته فتداعت أركانه فقلت ما حملك أن تتكلف مثل هذا في ارتفاع سنك فقال حب الرياسة آخر ما يخرج من قلوب الصديقين
وقال رحمه الله تعالى قال لي محمد بن مرزوق قال لي بعض أصحاب أبي إسحاق الطيار دفين عباد تلمسان إن أبا إسحاق أقام خمسا وعشرين سنة لا ينام إلا قاعدا فسألت ابن مرزوق لم لقب بالطيار فحدثني عن بعض أصحابه أنه نشر ذات يوم ثوبه في الشمس على بعض السطوح ثم قعد هنالك فمر به رجل فقال له طر فقال أعن أمرك قال نعم فطار حتى وقع على الأرض وما به من باس فقال الجد رحمه الله تعالى بعد هذا ما نصه فقلت إذا ما صار الحق للعبد سمعا وبصرا فسمع به وأبصر أصاخ إلى الأحوال واجتلى المعاني فيرى من غير مبصر ويسمع من غير ناطق كما قال الشيخ أبو عبد الله الشوذي الحلوي دفين تلمسان
( إذا نطق الوجود أصاخ قوم ... بآذان إلى نطق الوجود )
( وذاك النطق ليس به انعجام ... ولكن دق عن فهم البليد )
( فكن فطنا تنادى من قريب ... ولا تك من ينادى من بعيد )
وقال رحمه الله تعالى حدثت بمصر أن الشيخ سيدي عمر بن الفارض ولع بجمل فكان يستأجره من صاحبه ليتأنس به فقيل له لو اشتريته فقال المحبوب لا يملك فسألت في أي حال كان هذا منه فقيل لي في ابتداء أمره فقلت وجد اعتبار ( أفلا ينظرون إلى الإبل ) الغاشية 17 فوقفت به رؤية المعنى فيه عليه فأحبه مدلا وطلب مجلا
وقال رضي الله عنه حفظت من خط أبي زيد والد صاحبنا أبي الحسن قيل للغزالي ما تقول في الحلاج فقال وما عسى أن أقول فيمن شرب بكأس الصفاء على بساط الوفاء فسكر وعربد فاستوجب من الله الحد فكان حده شهادته ثم قال بعد هذا قلت عربد الحلاج في الحضرة لما نسي بسكره أوامره فانتصر الظاهر لنفسه لصحة تعلق اسمه وسدل الباطن على عذره حجاب الغيرة من إفشاء سره
( على سمة الأسماء تجري أمورهم ... وحكمة وصف الذات للحكم أجرت )
وقال رحمه الله تعالى سمعت شيخنا ببيت المقدس يقول تجلى الله على المسجد الأقصى بالجمال وعلىالمسجد الحرام بالجلال وعلى مسجد الرسول بالكمال قلت فذلك يوقف النواظر وذاك يملأ الخواطر وهذا يفتح البصائر
وقال رحمه الله تعالى أخبرني أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عنان فارس
نصره الله أن جده أمير المسلمين أبا سعيد سأل كاتبه عبد المهيمن الحضرمي عن تهادي أهل الحب التفاح دون الخوخ وكلاهما حسن المنظر طيب المخبر شديد شبه بأخيه سديد تشبيه الوجنات به لمتوخيه فقال ما عند مولانا فقال أرى ذلك لاشتمال التفاح على الحب الذي يذكر بالحب والهوى والخوخ على النوى الذي يذكر اسمه صفرة الجوى
وقال رحمه الله تعالى قال لي أبو حيان بالقاهرة قال لي عمر بن الخيمي تجاذبت أنا ونجم الدين بن إسرائيل هذا البيت
( يا بارقا بأعالي الرقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب )
فتحاكمنا إلى ابن الفارض فأشار بأن ننظم قصيدة نضمنها البيت فنظم ونظمت
( يا مطلبا ليس لي في غيره أرب ... إليك آلى التقضي وانتهى الطلب )
فقضى به لي
وقال رحمه الله تعالى حدثت أن أبا زيد الهزميري بعث إلى أبي عمران التسولي وكان كثير الصلاة أنه لم يبق بينك وبين الله حجاب إلا الركيعات فرجع إليه ما معناه إن الاتصال كان منها فلا كان يوم الانفصال عنها يعني من رزق من باب فليلزمه
وقال رحمه الله تعالى كنت بجامع تلمسان وإلى جانبي رجل ينتمي إلى طريقة العرفان فجعل سائل يشكو الجوع والألم فتصدق ذلك الرجل عليه بدرهم وقال إياك أن تشكو الرحمن إلى من لا يرحم فقلت أمره أن
يسأل عزيزا بمولاه ونهاه أن يشكو ذليلا إلى سواه
وكان الفارابي كثيرا ما يقول يا رب إليك المشتكى حتى إنه يوجد أثناء كلامه في غير موضعه فيعجب منه من لا علم عنده بمنزعه
وقال رحمه الله تعالى حدثت أن الفخر مر ببعض شيوخ الصوفية فقيل للشيخ هذا يقيم على الصانع ألف دليل فلو قمت إليه فقال وعزته لو عرفه ما استدل عليه فبلغ ذلك الإمام فقال نحن نعلم من وراء الحجاب وهم ينظرون من غير حجاب
وقال رحمه الله تعالى حدثت أن رجلا كان يجلس إلى أبي الحسن الحرالي وكان يشرب الخمر فسكر ذات يوم فسقط على زجاجة فشج وجهه فاختفى إلى أن برئ ثم عاد إلى مجالسة الشيخ فلما رآه أنشد
( أجريح كاسات أرقت نجيعها ... طلب الترات يعز منه خلاص )
( لا تسفكن دم الزجاجة بعدها ... إن الجروح كما علمت قصاص )
ففهمها الشاب فتاب
وقال رحمه الله تعالى كثيرا ما كنت أسمع أبا محمد المجاصي ينشد هذا البيت
( هم الرجال وعيب أن يقال لمن ... لم يتصف بمعاني وصفهم رجل )
ثم يبكي وكان أهل البلد يسمونه البكاء وبعضهم الخاشع
ووجدت بخط مولاي الجد على ظهر كتابه القواعد ما نصه الحمد لله تعالى جده قرأت صدر كتاب زهرة البساتين للقاسم بن الطيلسان ثم سمعت ثلاثة أحاديث من أوله بل حديثا وأثرا وإنشادا من في الشيخ الخطيب الصالح أبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عياش الأنصاري ثم تناولت منه جميع الكتاب المذكور وأجازنيه بحق سماعه لبعضه وتناوله لجميعه من جده
محمد المذكور بحق أخذه له عن مؤلفه صهره القاسم المذكور وذلك بالمسجد الجامع من مالقة المحروسة قال ذلك وكتبه محمد بن محمد بن أحمد المقري في متم عشرين لشهر ربيع الآخر من عام سبعة وخمسين وسبعمائة
وبخطه رحمه الله تعالى حيث ذكر ما نصه الحمد لله مخالفة القواعد الشرعية للعوائد العرفية كإنكار الحشر وفتنة القبر ونحوهما من الأمر بالمعروف للركون إلى المشهور المألوف أو كالتقليد مع الدليل الذي ذمه الشرع في محكم التنزيل
وبخطه أيضا الحمد لله قد تتابع صفات العام حتى يصير كأنه أشير به إلى شخص بعينه فيختص ومن ثم قيل في قول الله عز و جل ( ولا تطع كل حلاف مهين ) القلم 10 إنه الأخنس بن شريق وفي قوله تعالى ( ويل لكل همزة لمزة ) الهمزة 1 إنه أميه ابن خلف وفي قوله تعالى ( ذرني ومن خلقت وحيدا ) المدثر 11 إنه الوليد بن المغيرة انتهى
ووجدت بخطه أيضا رحمه الله تعالى ما نصه الحمد لله قال لي المتوكل على الله أبو عنان أمير المؤمنين فارس بن علي كان جدنا أبو يوسف يعقوب ابن عبد الحق يقول الولايات ست ثلاث وقفتها على اختياري الحجابة والقصبة والشرطة وثلاث موكولة إليكم القضاء والإمامة والحسبة ثم قال رحمه الله تعالى وهذا تدبير حسن
ومن فوائده حدثني العدل أبو عبد الله محمد بن أبي زرع عن القاضي أبي عبدالله ابن أبي الصبر أنه أمر الوالي بفاس أن يبني فندق الشماعين وكان قد خرب فتوقف حتى يأذن السلطان فقال له أسلفني ما أبنيه به فإن أجاز ذلك السلطان وإلا رددته عليك ففعل فلما طولب ذكر ما قال له القاضي
فغضب السلطان وبعث فيه فجعل المبعوثون يأتونه واحدا بعد واحد وهو متمهل في وضوئه وإصلاح بزته ومركوبه ثم جعل يمشي الهوينا فلقيه ابنه فقال له أسرع فقد أكثر السلطان من التوجيه إليك وهو واجد عليك فقال له مسكين أبو يحيى خاف وثبت على حاله فلما كان في الطريق لقي بعض العلماء فتعرض إليه فقال قل بخفي لطفك بلطيف صنعك بجميل سترك دخلت في كنفك تشفعت بنبيك فحفظه ثم طلبه فلم يجده فجعل يقول ذلك فلما رآه السلطان سكن ما به ثم سأله عن ذلك برفق فقال له القاضي كرهت الخراب بقرب القرويين وبالشماعين الذي هو عين فاس فسألت الوالي ذلك على أني أغرم إن لم تجز وقلت له المرجو من السلطان أن يجعله حبسا فقال قد فعلت ثم بعث إلى الشهود وحبسه على الجامع وشكر للقاضي صنيعه وصرفه مغبوطا
وهذا السلطان هو أبو يعقوب يوسف بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني وتوفي محاصرا لتلمسان في ذي القعدة من عام ستة وسبعمائة وكان ابتداء حصاره إياها سنة ثمان وتسعين وستمائة وكان جملة الحصار فيما حدثت ألف شهر انتهى
ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله تعالى ما حكاه تلميذه أبو إسحاق الشاطبي في كتاب الإنشادات والإفادات ونصه إفادة حضرت يوما مجلسا في المسجد الجامع بغرناطة مقدم الأستاذ القاضي أبي عبد الله المقري في أواخر ربيع الأول عام سبعة وخمسين وسبعمائة وقد جمع ذلك المجلس القاضي أبا عبد الله والقاضي أبا القاسم الشريف شيخنا والأستاذ أبا سعيد ابن لب والأستاذ أبا عبد الله البلنسي وذا الوزارتين أبا عبد الله ابن الخطيب وجماعة من الطلبة
فكان من جملة ما جرى أن قال القاضي أبو عبد الله المقري سئلت في مسألة في الأصول لم أجد لأحد فيها نصا وهي تخصيص العام المؤكد بمنفصل فأجبت بالجواز محتجا بقول الله عز و جل ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) الأعراف 33 فهذا عام مؤكد وقد قال رسول الله لم يحل الله من الفواحش إلا مسألة الناسي انتهى
ومن الكتاب المذكور ما نصه إفادة حدثني الشيخ الفقيه القاضي الجليل الشهير الخطير أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري رحمه الله تعالى وأملاه علينا عن العالم الكبير أبي حيان ابن يوسف بن حيان أنه قال ورد كتاب من الأستاذ أبي عبد الله ابن مثبت الغرناطي إلى صاحب له يسمى حمزة وفيه سئل الشيخ قال أبو حيان يعني وجدت على ظهر نسخة من المفصل بخط عتيق سئل ابن الأخضر بمحضر ابن الأبرش علام انتصب قوله
( مقالة أن قد قلت سوف أناله ... ) فقال
( ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى ... )
فقال سألتك عن إعراب كلمة فأجبتني بشطر بيت فقال ابن الأبرش قد أجابك لو كنت تفهم قال أبو حيان فوقعت عليه للحين إن هذا الشطر من قول النابغة
( أتاني أبيت اللعن أنك لمتني ... وتلك التي تصطك منها المسامع )
( مقالة أن قد قلت سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع )
يروى مقالة بالرفع على أنه بدل من أنك لمتني الفاعل وبالفتح على ذلك إلا أنه بناه لما أضافه إلى مبني
ومنه إفادة حدثني الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى قال سئل أبو العباس ابن البناء رحمه الله تعالى وكان رجلا صالحا في قوله تعالى ( قالوا إن هذان لساحران ) طه 63 لم لم تعمل إن في هذان فقال لما لم يؤثر القول في المقول لم يؤثر العامل في المعمول فقال له يا سيدي هذا لا ينهض جوابا فإنه لا يلزم من بطلان قولهم بطلان عمل إن فقال له إن هذا الجواب نوارة لا تحتمل أن تحك بين الأكف انتهى
ومنه إفادة قال لنا الشيخ الأستاذ القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى إن أهل المنطق وغيره يزعمون أن الأسماء المعدولة لا تكاد توجد في كلام العرب وهي موجودة في القرآن وذلك قوله ( ولا فارض ولا بكر ولا عوان بين ذلك ) البقرة 68 فإن زعم زاعم أن ذلك على حذف المبتدأ ودخلت لا على الجملة وتقديره لا هي فارض ولا هي بكر قيل له إن كان يسوغ لك ذلك في هذا الموضع فلا يسوغ في قوله تعالى ( لا شرقية ولا غربية ) النور 35 فصح أن الاسم المعدول موجود فصيح في كلام العرب
ومنه إفادة حدثنا الأستاذ أبو عبد الله المقري قال سئل عن قوله تعالى ( وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ) الأنبياء 33 لم عاد ضمير من يعقل إلى ما لا يعقل فقال بعضهم لما اشرك مع من يعقل في السباحة وهي العوم عومل لذلك معاملته قال وهذا لا ينهض جوابا فإن السباحة لما لا يعقل كالحوت وإنما لمن يعقل العوم لا السباحة وأيضا فإلحاقه بما العوم له لازم كالحوت أولى من إلحاقه بما هو غير لازم له قال وأجاب الأستاذ أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي السبتي بأن الشيء المعظم عند العرب تعامله معاملة العاقل وإن لم يكن عاقلا لعظمه عندهم وأجبت أنا بأنه لما عوملت في غير هذا الموضع معاملة من يعقل في نحو قوله تعالى ( والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) يوسف 4 لصدور أفعال العقلاء عنها أجرى عليها هنا ذلك الحكم للأنس به في موضعه
ومنه إفادة لقمني الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى لقمة بيده المباركة وقال لقمني الشيخ أبو عبد الله المسفر قال لقمني أبو زكريا المحياوي قال لقمني أبو محمد صالح قال لقمني الشيخ أبو مدين قال لقمني أبو الحسن ابن حرزهم قال لقمني ابن العربي قال لقمني الغزالي قال لقمني أبو المعالي قال لقمني أبو طالب المكي قال لقمني أبو محمد الجريري قال لقمني الجنيد قال لقمني قال لقمني معروف الكرخي قال لقمني داود الطائي قال لقمني العجمي قال لقمني الحسن البصري قال لقمني علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال لقمني رسول الله قلت وبهذا السند صافحته أيضا رضي الله تعالى عنه انتهى
وللمحدثين في هذا السند كلام مشهور وانتصر بعضهم للسادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم
ومنه إنشادة أنشدني الشريشي الفقيه أبو عبد الله قال أنشدني القاضي المقري قال أنشدني الرباطي قال أنشدني ابن دقيق العيد لنفسه من صدر رسالة كتب بها لبعض إخوانه بالحجاز
( يهيم قلبي طربا عندما ... أستلمح البرق الحجازيا )
( ويستميل الوجد قلبي وقد ... أصبح لي ثوب الحجي زيا )
( يا هل أقضي من منى حاجتي ... فأنحر البدن المهاريا )
( وأوتوي من زمزم فهي لي ... ألذ من ريق المها ريا )
ومنه إفادة حدثنا الأستاذ القاضي أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى قال رأيت لبعض من ألف على كتاب الكشاف للزمخشري فائدة لم أرها لغيره في قوله تعالى ( والراسخون في العلم ) إذ الناس يختلفون في هذا الموضع اختلافا كثيرا فقال قوم الراسخون في العلم يعلمون تأوليه والوقوف عند قوله ( والراسخون في العلم ) وقال قوم إن الراسخين لا يعلمون تأويله وإنما يوقف عند قوله ( وما يعلم تأويله إلا الله ) فقال هذا القائل إن الآية من باب الجمع والتفريق والتقسيم من أنواع البيان وذلك لأن قوله تعالى ( هو الذي نزل عليك الكتاب ) هو جمع وقوله ( منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) تفريق وقوله تعالى ( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) إلى قوله تعالى ( وابتغاء تأويه ) أحد طرفي التقسيم وقوله تعالى ( والراسخون في العلم ) الطرف الثاني وتقديره وأما الراسخون في العلم فيقولون آمنا به وجاء قوله تعالى ( وما يعلم تأويله إلا الله ) آل عمران 7 اعتراضا بين طرفي التقسيم قال وهذا مثل قوله تعالى ( وأنا منا المسلمون - الآية ) الجن 14 فقوله ( وأنا ) جمع وقوله ( منا مسلمون ومنا القاسطون ) تفريق وقوله ( فمن أسلم ) ( وأما القاسطون ) تقسيم وهو من بديع التفسير قلت ومثله أيضا قوله تعالى ( يوم يأت لا تكلم نفس إلا بأذنه - الآيات ) هود 105 انتهى
ومنه إنشادة أنشدنا الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله المقري في القول بالموجب لبعض العلماء في وديعة
( إن قال قد ضاعت فصدق أنها ... ضاعت ولكن منك يعني لو تعي )
( أو قال قد وقعت فصدق أنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع )
ومنه إنشادة أيضا من القول بالموجب لبعض الحنابلة
( يحجون بالمال الذي يجمعونه ... حراما إلى البيت العتيق المحرم )
( ويزعم كل أن تحط ذنوبهم ... تحط ولكن فوقهم في جهنم )
ومنه إفادة كتب لي بخطه شيخنا الفقيه القاضي الجليل أبو عبد الله المقري رحمه الله تعالى على ظهر التسهيل لابن مالك الذي كتبه بخطي بعدما كتب لي بخطه روايته فيه عن أبي الحسن ابن مزاحم عن بدر الدين ابن جماعة عن المؤلف فكتب بعد ذلك ما نصه قال محمد بن محمد المقري بدر الدين ابن جماعة المذكور يدعى بقاضي القضاة على ما جرت به عوائد أهل المشرق في تسمية وأنا أكره هذا الإسم محتجا بقول النبي صلى الله عليه و سلم إن أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى الملوك لا ملك إلا الله انتهى ما انتقيته من كتاب الإنشادات والإفادات للشاطبي فيما يتعلق بجدي رحمه الله تعالى
ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله مما لم يذكر فيما سبق أنه حكي أن ابن أمجوط الموله دخل في حلقة أبي عبد الله ابن رشيد بجامع القرويين وبين رجليه قصبة كأنها فرس وبيده اخرى كأنها رمح فانتهره رجل فضربه برمحه على رأسه وقال له اسكت يا ميت فأبهت الناس لكلامه فقال له الشيخ يا فقير أنت في حال ونحن في مقال وشأن أرباب الأحوال التسليم لأصحاب المقال فنظر إليه الموله وانصرف ثم لم ينشب المنتهر أن توفي بعد ذلك بأيام قلائل
أخبار للمقري عن ابن شاطر
ومنها قلت لابن شاطر يوما كيف حالك فقال محبوس في الروح وصدق لأن الدنيا سجن المؤمن ولا مخلص له من حبسه إلا بمفارقة نفسه
وقال سألت ابن شاطر عن معنى قول ابن الفارض
( فلم أله باللاهوت عن حكم مظهري ... ولم أنس بالناسوت موضع حكمتي )
فقال يقول ما أنا بالحلاج ولا ببلعام ثم قال مولاي الجد بعد هذا الكلام ما صورته قلت وهذا هو الإنسان على الكمال والتمام ولقد سمعته يقول في الحلاج نصف إنسان يشير إلى البيت
وقال أيضا رحمه الله تعالى سمع ابن شاطر إنسانا يقول الجنة رخيصة فقال كيف تكون رخيصة والله عز و جل يقول ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) التوبة 111 انتهى ثم قال مولاي الجد بأثر هذا الكلام قلت ما الأنفس والأموال في جنب ما فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لا سيما وفوق هذه الحسنى زيادة الإكرام بالنظر والرضى
وقال أيضا قيل لابن شاطر صف لنا الدنيا فقال ( كسراب بقيعة ) النور 39 الآيتين فبلغ ذلك أبا زيد ابن الإمام فأنكر عائبا لاستحسان سامعه تاليا ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) المائدة 13 ولقد أصيب المتعسف بأدهى منها وأمر فإنه أفحم يوما ببعض أهل النظر فتلا عليه ( فبهت الذي كفر ) البقرة 58 على أن له أن يقول لم أخرج الآية عن مرادها فالبهت من انقطاع المعاند والكفر من جحد الجاحد ولنا أن نقول التحريف المذموم هو التحويل للإبطال وليس هذا في قصد الممثل الأول بالمثال انتهى
وهذا كله على مذهب جمهور المالكية في منع الاقتباس وللكلام على ذلك موضع غير هذا فليراجع في كتب البيان وغيرها
وقال رحمه الله تعالى حدثت أن المتوكل على الله أبا عنان رحمه الله تعالى أعطى ابن شاطر ألف دينار ليحج بها فمر بها إلى تلمسان يدفع منها شيئا فشيئا للمتفرجين بغدير الوريط شرقي عباد تلمسان إلى أن نفدت فلما ورد السلطان أبو عنان تلمسان لقيه بسوق العطارين من منشر الجلد فقال له ياسيدي أبا عبد الله حج مبرور فقال له إذا جهلت أصل المال فانظر مصارفه ويأبى الله إلا أن ينفق الخبيث في مثله فضحك السلطان وانصرف انتهى
وكان لابن شاطر هذا عجائب ولم يكن مخلا بشيء من الحقوق الشرعية وكان معتقدا عند اهل وقته وكان السلطان أبو عنان على فقهه يعظمه ويصله ويسلم له وبات عنده ليلة بقصره وكان يدخل القصر ولا تحتجب منه الجواري فاحتاج إلى البول فبال في قبة القصر عظيمة فانتهرته إحدى الجواري وقالت له أتبول في قبة مولانا فقال لها إن قبة مولانا الخضراء أعظم من هذه وأنا أفعل تحتها ما هو أفظع من البول وما انتهرني قط فذكرت ذلك الجارية للسلطان فضحك وعلم أنه يريد السماء وكان يكتب القرآن والعمدة ولا يغلق حرفا مجوفا فإذا غلب على ذلك أصلحه حتى حكي أنه سافر لإصلاح حرف مجوف أغلقه سهوا من نسخة كان باعها ولم يتذكر ذلك حتى سافر مشتريها فما رجع حتى جدده
وحكى الشيخ أبو القاسم ابن داود الفخار السلوي أن الشيخ أبا عبد الله الشريف التلمساني صاحب المفتاح في أصول الفقه وشارح الجمل الخونجية المتوفي عام اثنين وسبعين وسبعمائة دفين المدرسة اليعقوبية من تلمسان المحروسة افتتح شرح العمدة بما نصه اللهم احمد نفسك عمن أمرته أن يتخذك وكيلا حمدا عائدا منك إليك متحديا بك دائما بدوام ملكك لا منقطعا ولا مفصولا
قال فقال لي أبو عبد الله ابن شاطر ما هو انفصال عالم الملك فقلت له بالضرورية الوقتية فقال لي ما أجهلك وأجهل سيدك أبا عبد الله وأجهل ابن سودكين الذي اخذ من كتابه هذا الحمد إذ قال لا منقطعا ولا مفصولا بعد قوله بدوام ملكك وهو بالضرورية الوقتية وهي منقطعة فهلا قال دائما بدوام قيوميتك وعظيم قدرك ومجدك الأعلى وسبحات وجهك الأكرم لا منقطعا ولا مفصولا فبلغ لذلك أبا عبد الله الشريف فبدله انتهى
واخبار ابن شاطر كثيرة وقد مر ذكره في كلام مولاي الجد رحمه الله تعالى وسيأتي ما ذكره لسان الدين به في الإحاطة
تتمة الفوائد عن المقري
ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله تعالى ما قاله إثر قول الرازي في التفسير الحس أقوى من العقل ونصه هذا على ما حكاه في المحصل من أن المعقولات فرع المحسوسات قال ولذلك من فقد حسا فقد فقد علما كالأكمه والعنين ومذهب جمهور الفلاسفة أن اليقينيات هي المعقولات لا المحسوسات انظر المحصل انتهىومن فوائده رحمه الله تعالى أنه قال أنشدت يوما الآبلي قول ابن الرومي
( أفنى وأعمى ذا الطبيب بطبه ... وبكحله الأحياء والبصراء )
( فإذا مررت رأيت من عميانه ... أمما على أمواته قراء )
فاستعادني حتى عجبت منه مع ما أعرف من عدم ميله إلى الشعر وانفعاله له وظننت أنه أعجب بما تضمنه البيت الأول من غريب اللف والنشر المكرر الذي لا أعرف له ثانيا فيه فقال أظننت أني أستحسنت الشعر فقلت مثلك
يستحسن مثل هذا الشعر فقال إنما تعرفت منه كون العميان كانوا في ذلك الزمان يقرؤون على المقابر فإنني كنت أرى ذلك حديث العهد فاستفدت التاريخ
وقال مولاي الجد رحمه الله تعالى حدثني الآبلي أن أبا عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن أبي العيش الخزرجي الخطيب بتلمسان كان يقول في خطبته من يطع الله ورسوله فقد رشد بالكسر وكان الطلبة ينكرون عليه ذلك فلما ورد عليهم الراوية الرحلة أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري سمعه يقول ذلك فأنكر عليه في جملتهم وبلغ الخطيب ذلك فلم يرجع فلما قفل ابن رشيد من وجهته تلك دخل على الأستاذ أبي الحسن ابن أبي الربيع بسبتة فهنأه بالقدوم وقال له فيما قال رشدت يا ابن رشيد ورشدت لغتان صحيحتان حكاهما يعقوب في الإصلاح ثم قال مولاي الجد قلت هذه كرامة للرجلين أو للثلاثة
وقال رحمه الله تعالى قال طالب لشيخنا الآبلي يوما مفهوم اللقب صحيح فقال له الشيخ قل زيد موجود فقال زيد موجود فقال له الشيخ أما أنا فلا أقول شيئا فعرف الطالب ما وقع فيه فخجل
وهذا الآبلي تقدم في كلام مولاي الجد رحمه الله تعالى أنه عالم الدنيا وهو تلمساني كما تقدم قال تلميذه أبو القاسم السلوي الفخار دخل علي شيخنا الآبلي يوما وأنا أعجن طين الفخارة فقال لي ما علامة قبول هذه المادة أكمل صورة ترد عليها فقلت أن تدفع عن نفسها ما هو من غير جنسها من حجر أو زبل أو غيره فأدركه وجد عظيم حتى إنه صاح وقام وقعد وبقي هنية مطرقا برأسه مفكرا ثم قال هكذا هي النفوس البشرية
قال وقال لي يوما وقد وجد الصبيان يصوتون بقصب رقاق على الذباب فإذا خرج قتلوه الغلط الداخل عليه من أي أنواع المغلطات هو فقلت له من إيهام العكس لما كان كل ذباب مصوتا ظن أن كل مصوت ذباب فاستحسن ذلك
قلت وحدثني مولاي العم الإمام شيخ الإسلام سيدي سعيد بن أحمد المقري رحمه الله تعالى عن شيخه ابن جلال مفتي حضرتي فاس وتلمسان أنه كان يحكي أن الغلط جاءه من عدم كلية الكبرى في الشكل الأول لأنه ركبه هكذا هذا مصوت وكل مصوت ذباب وقد علمت أنها هنا إنما تصدق جزئية لا كلية وإذا كانت جزئية بطل الإنتاج لأن ذلك من الضروب العقيمة انتهى
ومن فوائد مولاي الجد رحمه الله تعالى أنه قال سمعت شيخنا الآبلي يقول ما في الأمة المحمدية أشعر من ابن الفارض
وقال أيضا رحمه الله تعالى سمعت شيخنا الآبلي يقول إنما أفسد العلم كثرة التواليف وإنما أذهبه بنيان المدارس وكان ينتصف له من المؤلفين والبانين وإنه لكما قال غير أن في شرح ذلك طولا وذلك أن التأليف نسخ الرحلة التي هي أصل جمع العلم فكان الرجل ينفق فيها المال الكثير وقد لا يحصل له من العلم إلا النزر اليسير لأن عنايته على قدر مشقته في طلبه ثم صار يشتري أكبر ديوان بأبخس ثمن فلا يقع منه أكثر من موقع ما عوض عنه فلم يزل الأمر كذلك حتى نسي الأول بالآخر وأفضى الأمر إلى ما يسخر منه الساخر وأما البناء فلأنه يجذب الطلبة إلى ما يرتب فيه من الجرايات فيقبل بها على من
يعينه أهل الرياسة للأجراء والإقراء منهم أو ممن يرضى لنفسه الدخول في حكمهم ويصرفونها عن أهل العلم حقيقة الذين لا يدعون إلى ذلك وإن دعوا لم يجيبوا وإن أجابوا لم يوفوا لهم بما يطلبون من غيرهم ثم قال مولاي الجد رحمه الله تعالى ولقد استباح الناس النقل من المختصرات الغريبة أربابها ونسبوا ظواهر ما فيها إلى أمهاتها وقد نبه عبد الحق في تعقيب التهذيب على ما يمنع من ذلك لو كان من يسمع وذيلت كتابه بمثل عدد مسائله أجمع ثم تركوا الرواية فكثر التصحيف وانقطعت سلسلة الإتصال فصارت الفتاوي تنقل من كتب من لا يدري ما زيد فيها مما نقص منها لعدم تصحيحها وقلة الكشف عنها ولقد كان أهل المائة السادسة وصدر السابعة لا يسوغون الفتوى من تبصرة الشيخ أبي الحسن اللخمي لكونه لم يصحح على مؤلفه ولم يؤخذ عنه وأكثر ما يعتمد اليوم ما كان من هذا النمط ثم انضاف إلى ذلك عدم الاعتبار بالناقلين فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كما يؤخذ من كتب المرضيين بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين ولم يكن هذا فيمن قبلنا فلقد تركوا كتب البراذعي على نبلها ولم يستعمل منها على كره من كثير منهم غير التهذيب الذي هو المدونة اليوم لشهرة مسائله وموافقته في أكثر ما خالف فيه المدونة لأبي محمد ثم كل أهل هذه المائة عن حال من قبلهم من حفظ المختصرات وشق الشروح والأصول والكبار فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه ونزر حظه وأفنوا أعمارهم في فهم رموزه وحل لغوزه ولم يصلوا إلى رد ما فيه إلى أصوله بالتصحيح فضلا عن معرفة الضعيف من ذلك والصحيح بل هو حل مقفل وفهم أمر مجمل ومطالعة تقييدات
زعموا أنها تستنهض النفوس فبينا نحن نستكبر العدول عن كتب الأئمة إلى كتب الشيوخ أتيحت لنا تقييدات للجهلة بل مسودات المسوخ فإنا لله وإنا إليه راجعون فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم وتريك ما غفل الناس عنه انتهى
ولنصلها بخاتمة تشير إلى حال العلماء أيضا اعلم أن شر العلماء علماء السلاطين وللعلماء معهم أحوال فكان الصدر الأول يفرون منهم وهم يطلبونهم فإذا حضر واحد منهم أفرغوا عليه الدنيا إفراغا ليقتنصوا بذلك غيره ثم جاء أهل العصر الثاني فطمحت أنفسهم إلى دنيا من حصل لهم ومنعهم قرب العهد بالخير عن إتيانهم فكانوا لا يأتونهم فإن دعوهم أجابوهم إلا القليل فانتقصوا مما كان لغيرهم بقدر ما نقصوا من منابذتهم ثم كان فيمن بعدهم من يأتيهم بلا دعوة وأكثرهم إن دعى اجاب فانتقصوا بقدر ذلك أيضا ثم تطارح جمهور من بعدهم عليهم فاستغنوا بهم عن دعاء غيرهم لا على جهة الفضل أو محبة المدحة منهم فلم يبقوا عليهم من ذلك إلا النزر اليسير وصرفوهم في أنواع السخر والخدم إلا القليل وهم ينتظرون صرفهم والتصريح بالاستغناء عنهم وعدم الحاجة إليهم ولا تستعظم هذا فلعله سبب إعادة الحال جذعة عجب الله من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل وهذا كله ليظهر لك سر قول النبي لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه خلفهم قيل اليهود والنصارى قال فمن وقد قص علينا القرآن والأخبار من أمرهم ما شاهدنا أكثره او أكثر منه فينا سمعت العلامة الآبلي يقول لولا انقطاع الوحي لنزل فينا أكثر مما نزل فيهم لأنا أتينا أكثر مما اتوا يشير
إلى افتراق هذه الأمة على أكثر مما افترقت عليه بنو إسرائيل واشتهار بأسهم بينهم إلى يوم القيامة حتى ضعفوا بذلك عن عدوهم وتعدد ملوكهم لاتساع أقطارهم واختلاف أنسابهم وعوائدهم حتى غلبوا بذلك على الخلافة فنزعت من أيديهم وساروا في الملك بسير من قبلهم مع غلبة الهوى واندراس معالم التقوى لكنا آخر الأمم أطلعنا الله من غيرنا على أقل مما ستر منا وهو المرجو أن يتم نعمته علينا ولا يرفع ستره الجميل عنا فمن أشد ذلك إتلافا لغرضنا تحريف الكلم عن مواضعه الصحيحة أن ذلك لم يكن بتبديل اللفظ إذ لا يمكن ذلك في المشهورات من كتب العلماء المستعملة فكيف في الكتب الإلهية وإنما كان ذلك بالتأويل كما قال ابن عباس وغيره وأنت تبصر ما اشتملت عليه كتب التفسير من الخلاف وما حملت الآي والأخبار من التأويلات الضعاف قيل لمالك لم اختلف الناس في تفسير القرآن فقال قالوا بآرائهم فاختلفوا أين هذه من قول الصديق أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله عز و جل برأيي كيف وبعض ذلك قد انحرف عن سبيل العدل إلى بعض الميل وأقرب ما يحمل عليه جمهور اختلافهم أن يكون بعضهم قد علم بقصد إلى تحقيق نزول الآية من سبب أو حكم أو غيرهما وآخرون لم يعلموا ذلك على التعيين فلما طال بحثهم وظنوا عجزهم ارادوا تصوير الآية بما يسكن النفوس إلى فهمها في الجملة ليخرجوا عن حد الإبهام المطلق فذكروا ما ذكروه على جهة التمثيل لا على سبيل القطع بالتعيين بل منه ما لا يعلم أنه أريد لا عموما ولا خصوصا لكنه يجوز أن يكون المراد فإن لم يكن إياه فهو قريب من معناه ومنه أنه مراد لكن بحسب الشركة والخصوصية مع جواز أن يكون هو المراد بحسب الخصوصية ثم اختلط الأمران والحق أن تفسير القرأن من أصعب الأمور فالإقدام عليه جراءة وقد قال الحسن
لابن سيرين تعبر الرؤيا كأنك من آل يعقوب فقال له تفسر القرآن كأنك شهدت التنزيل وقد صح أن رسول الله لم يكن يفسر من القرآن إلا آيات معدودة وكذلك أصحابه والتابعون بعدهم وتكلم أهل النقل في صحة التفسير المنسوب لابن عباس إليه إلى غير ذلك ولا رخصة في تعيين الأسباب والناسخ والمنسوخ إلا بنقل صحيح أو برهان صريح وإنما الرخصة في تفهيم ما تفهمه العرب بطباعها من لغة وإعراب وبلاغة لبيان إعجاز ونحوها انتهى
ترجمة المقري من نيل الابتهاج
ولنرجع إلى بقية أنباء مولاي الجد رحمه الله فنقول قال صاحب نيل الابتهاج بتطريز الديباج ما صورته محمد بن محمد بن احمد القرشي التلمساني الشهير بالمقري بفتح الميم وتشديد القاف المفتوحة كذا ضبطه الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في كتابه العلوم الفاخرة وضبطه ابن الأحمر في فهرسته وسيدي أحمد زروق بفتح الميم وسكون القاف الإمام العلامة النظار المحقق القدوة الحجة الجليل الرحلة أحد فحول أكابر علماء المذهب المتأخرين الأثبات قاضي الجماعة بفاس ذكره ابن فرحون في الأصل يعني الديباج وأثنى عليه انتهىوقال الخطيب ابن مرزوق كان صاحبنا المقري معلوم القدر مشهور الذكر بالخير تبعه بعد موته من حسن الثناء وصالح الدعاء ما يرجى له النفع به يوم اللقاء وعوارفه معلومة عند الفقهاء ومشهورة بين الدهماء انتهى
وقال أبو العباس الونشريسي في بعض فوائده ومقره بفتح الميم بعدها قاف مفتوحة مشددة قرية من قرى بلاد الزاب من أعمال إفريقية سكنها سلفه ثم تحولوا إلى تلمسان وبها ولد الفقيه المذكور وبها نشأ وقرأ وأقرأ إلى أن خرج منها صحبة الركاب المتوكلي العناني أمير المؤمنين فارس عام تسعة وأربعين وسبعمائة إلى مدينة فاس المحروسة فولاه القضاء فنهض بأعبائه علما وعملا وحمدت سيرته ولم تأخذه في الله لومة لائم إلى أن توفي بها إثر قدومه من بلاد الأندلس في غرض الرسالة لأبي عنان عام تسعة وخمسين وسبعمائة ثم نقل إلى مسقط رأسه تلمسان
وقال في موضع آخر إنه توفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى عام تسعة وخمسين وسبعمائة بمدينة فاس المحروسة ثم نقل إلى تلمسان محل ولادته ومقر أسلافه ودفن بها في البستان الملاصق لقبلي داره الكائنة بباب الصرف من البلد المذكور وهو الآن على ملك بعض ورثة الشيخ أبي يحيى الشريف انتهى
ومن أخبار مولاي الجد رحمه الله تعالى أنه قال شهدت الوقفة سنة أربع وأربعين وسبعمائة وكانت جمعة الخطيب في سابع ذي الحجة في الناس بالمسجد الحرام وقال إن جمعة هذه خاتمة مائة جمعة وقف بها من الجمعة التي وقف فيها رسول الله في حجة الوداع آخر عشر من الهجرة وشاع ذلك في الناس وذاع وكان علم ذلك مما تواتر عندهم والله أعلم وهم يزعمون أن الجمعة تدور على خمس سنين وهذا مناف لذلك ولكن كثير منهم ينكر اطراد هذا ويقول إنها قد تكون على خلاف ذلك فلا أدري
ومنها أنه قال شهدت شمس الدين بن قيم الجوزية قيم الحنابلة بدمشق وقد سأله رجل عن قوله عليه الصلاة و السلام من مات له ثلاثة من الولد كانوا له حجابا من النار كيف إن أتى بعد ذلك بكبيرة فقال موت الولد حجاب والكبيرة خرق لذلك الحجاب وإنما يكون الحجاب حجابا ما لم يخرق فإذا خرق فقد زال عن أن يكون حجابا ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة و السلام الصوم جنة ما لم يخرقها ثم قال وهذا الرجل أكبر أصحاب تقي الدين ابن تيمية
ومن أخبار مولاي الجد الدالة على صرامته ما حكاه ابن الأزرق عنه أنه كان يحضر مجلس السلطان أبي عنان لبث العلم وكان نقيب الشرفاء بفاس إذا دخل مجلس السلطان يقوم له السلطان وجميع من في المجلس إجلالا له إلا الشيخ المقري فإنه كان لا يقوم في جملتهم فأحس النقيب من ذلك وشكاه إلى السلطان فقال له السلطان هذا رجل وارد علينا على حاله إلى أن ينصرف فدخل النقيب في بعض الأيام على عادته فقام له السلطان على العادة وأهل المجلس فنظر إلى المقري وقال له أيها الفقيه ما لك لا تقوم كما يفعل السلطان نصره الله وأهل مجلسه إكراما لجدي ولشرفي ومن أنت حتى لا تقوم لي فنظر إليه المقري وقال له أما شرفي فمحقق بالعلم الذي أنا أبثه ولا يرتاب فيه أحد وأما شرفك فمظنون ومن لنا بصحته منذ أزيد من سبعمائة سنة ولو علمنا شرفك قطعا لأقمنا هذا من هنا وأشار إلى السلطان أبي عنان وأجلسناك مجلسه فسكت انتهى
قال ابن الأزرق وعلى اعتذاره ذلك بأن الشرف الآن مظنون فمن معنى ذلك أيضا ما يحكى عنه أنه كان يقرأ بين يدي السلطان أبي عنان المذكور صحيح مسلم بحضرة أكابر فقهاء فاس وخاصتهم فلما وصل إلى أحاديث الأئمة من قريش قال الناس إن قال الشيخ الأئمة من قريش وأفصح بذلك استوغر قلب السلطان وإن ورى وقع في محظور فجعلوا يتوقعون له ذلك فلما وصل إلى الأحاديث قال بحضرة السلطان والجمهور أن الأئمة من قريش ثلاثا ويقول بعد كل كلمة وغيرهم متغلب ثم نظر إلى السلطان وقال له لا عليك فإن القرشي اليوم مظنون أنت أهل للخلافة إذ بعض الشروط قد توفرت فيك والحمد لله فلما انصرف إلى منزله بعث له السلطان بألف دينار انتهى
قال أبو عبد الله ابن الأزرق قلت ويلزم أيضا من اعتذاره أن قيام السلطان لذي الشرف المحقق بالعلم أولى بالمحافظة على تعظيم حرمات الله وقد روي عن بعض الأمراء أنه تكبر على ذلك واستخف بمنزلة من عظم به غيره فسلبه الله ملكه وملك بنيه من بعده انتهى
ومن أجوبة مولاي الجد رحمه الله تعالى قوله سألني السلطان عمن لزمته يمين على نفي العلم فحلف جهلا على البت هل يعيد أم لا فأجبته بإعادتها وقد كان من حضر من الفقهاء أفتوا بأن لا تعاد لأنه أتى بأكثر مما أمر به على وجه يتضمنه فقلت له اليمين على وجه الشك غموس قال ابن يونس والغموس الحلف على تعمد الكذب أو علىغير يقين ولا شك أن الغموس محرمة منهي عنها والنهي يدل على الفساد ومعناه في العقود عدم ترتب أثره فلا أثر لهذه اليمين ويجب أن تعاد وقد يكون من هذا اختلافهم فيمن إذنها
السكوت فتكلمت هل يجتزأ بذلك والإجزاء هنا أقرب لأنه الأصل والصمات رخصة لغلبة الحياء فإن قلت البت أصل ونفي العلم إنما يعتبر عند تعذره قلت ليس رخصة كالصمات
ومنها أنه قال سألني بعض الفقراء عن السبب في سوء بخت المسلمين في ملوكهم إذ لم يل امرهم من يسلك بهم الجادة ويحملهم على الواضحة بل من يغتر في مصلحة دنياه غافلا عن عاقبة أخراه فلا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة ولا يراعي عهدا ولا حرمة فأجبته بأن ذاك لأن الملك ليس في شريعتنا وذلك أنه كان فيمن كان قبلنا شرعا قال الله تعالى ممتنا على بني إسرائيل ( وجعلكم ملوكا ) المائدة 20 ولم يكن ذلك في هذه الأمة بل جعل لهم خلافة قال الله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم والذين عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض - الآية ) النور 55 وقال تعالى ( وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ) البقرة 247 وقال سليمان ( رب اغفر لي وهب لي ملكا ) ص 35 فجعلهم الله تعالى ملوكا ولم يجعل في شرعنا إلا الخلفاء فكان أبو بكر خليفة رسول الله وإن لم يستخلفه نصا لكن فهم الناس ذلك فهما وأجمعوا على تسميته بذلك ثم استخلف أبو بكر عمر فخرج بها عن سبيل الملك الذي يرثه الولد عن الوالد إلى سبيل الخلافة الذي هو النظر والإختيار ونص في ذلك على عهده ثم اتفق أهل الشورى على عثمان فإخراج عمر لها عن بنيه إلى الشورى دليل على أنها ليست ملكا ثم تعين علي بعد ذلك إذ لم يبق مثله فبايعه من آثر الحق على الهوى واصطفى الآخرة على الدنيا ثم الحسن كذلك ثم كان معاوية أول من حول الخلافة ملكا والخشونة
لينا ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم فجعلها ميراثا فلما خرج بها عن وضعها لم يستقيم ملك فيها ألا ترى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان خليفة لا ملكا لأن سليمان رحمه الله تعالى رغب عن بني أمية إيثارا لحق المسلمين ولئلا يتقلدها حيا وميتا وكان يعلم اجتماع الناس عليه فلم يسلك طريق الاستقامة بالناس قط إلا خليفة وأما الملوك فعلى ما ذكرت إلا من قل وغالب أفعاله غير مرضية انتهى
وفوائد مولاي الجد وتحفه وطرفه ولطائفه ودقائقه يستدعي استقصاؤها مجلدات فلنكتف بما قدمناه
( وفي الإشارة ما يغني عن الكلم ... )
مؤلفات المقري الجد
وأما تآليفه فكثيرة منها كتاب القواعد اشتمل على ألف قاعدة ومائتي قاعدة قال العلامة الونشريسي في حقه إنه كتاب غزي العلم كثير الفوائد لم يسبق إلى مثله بيد أنه يفتقر إلى عالم فتاح انتهىوقد أشار فيه إلى مأخذ الأربعة وهو قليل بهذه الديار المشرقية ولم أر منه بمصر إلا نسخة عند بعض الأصحاب وذكر أنها من أوقاف رواق المغاربة بالأزهر المعمور وأما قول لسان الدين في الإحاطة عند تعرضه لذكر تآليف مولاي الجد ما صورته ألف كتابا يشتمل على أزيد من مائة مسألة فقهية ضمنها كل أصل من الرأي والمباحثة فهو غير القواعد بلا مرية
ومنها كتاب الطرف والتحف غاية في الحسن والظرف قاله الونشريسي وقد وقفت على بعضه فرأيت العجب العجاب
ومنها اختصار المحصل ولم يكمله وشرحه لجمل الخونجي كذلك ومنها كتاب عمل من طب لمن حب وهو بديع في بابه مشتمل على أنواع الأول فيه أحاديث حكمية كأحاديث الشهاب وسراج المهتدين لابن العربي والنوع الثاني منه الكليات الفقهية على جملة أبواب الفقيه في غاية الإفادة والثالث في قواعد وأصول والرابع في اصطلاحات وألفاظ قال الونشريسي وقد أطلعني الفقيه أبو محمد عبد الله بن عبد الخالق على نسخة من هذا الكتاب فتلطفت في استنساخها فلم يسمح به انتهى
قلت وقد رأيت هذا الكتاب بحضرة فاس عند بعض أولاد ملوك تلمسان وهو فوق ما يوصف وفيه يقول مولاي الجد رحمه الله تعالى
( هذا كتاب بديع في محاسنه ... ضمنته كل شيء خلته حسنا )
( فكل ما فيه إن مر اللبيب به ... ولم يشم عبيرا شام منه سنا )
( فخذه واشدد به كف الضنين وذذ ... حتى تحصله عن جفنك الوسنا )
وهذه الأبيات كافية في وصف هذا الكتاب إذ صاحب البيت أدرى بالذي فيه
تقول من كتاب المحاضرات للمقري الجد
ومنها كتاب المحاضرات وفيه من الفوائد والحكايات والإشارات كثير وقد ملكت منه بالمغرب نسختين فلنذكر منه بعض الفوائد فنقول قال رحمه الله تعالى قيل لصوفي لم تقول الله الله ولا تقول لا إله إلا الله فقال نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب وهذا إن لم يكن في هذه الكلمة لأنها أفضل ما قالته الأنبياء فهو في كثير من التنزيه الذي يطلقه المتكلمون وغيرهم حتى قال الشاشي عنهم إنهم يتمندلون بأسماء الله عز و جل ما عرفه من كيفه ولا وحده من مثله ولا عبده من شبهه المشبه أعشى والمعطل أعمى المشبه متلوث بفرث التجسيم والمعطل نجس بدم الجحود ونصيب المحق لبن خالص وهو التنزيه انزل من علو التشبيه ولا تعل قلل أباطيل التعطيل فالوادي المقدس بين الجبلين
أبو المعالي من اطمأن إلى موجود انتهى إليه فكره فهو مشبه ومن سكن إلى النفي المحض فهو معطل ومن قطع بموجود واعترف بالعجز عن إدراكه فهو موحد
( جل رب الأعراض والأجسام ... عن صفات الأعراض والأجسام )
( جل ربي عن كل ما اكتنفته ... لحظات الأفكار والأوهام )
( برىء الله من هشام وممن ... قال في الله مثل قول هشام )
الدقاق المريد صاحب وله لأن المراد بلا شبه وقيل مثله الأعلى ( ليس كمثله شيء )
الجنيد أشرف كلمة في التوحيد قول الصديق الحمد لله الذي لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته
القشيري يعني أن العارف عاجز عن معرفته والمعرفة موجودة فيه غيره ما عرف الله سوى الله لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
( كل ما ترتقي إليه بوهم ... من جلال وقدرة وسناء )
( فالذي أبدع البرية أعلى ... منه سبحان مبدع الأشياء )
سأل المريسي الشافعي عن التوحيد بحضرة الرشيد فقال أن لا تتوهمه ولا تتهمه فأبهت بشر
الشبلي من توهم أنه واصل فليس له حاصل ومن رأى أنه قريب فهو بعيد ومن تواجد فهو فاقد ومن أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو غافل ومن سكت عنه فهو جاهل ما أرادت همة سالك أن تقف عندما كشف لها إلا نادته هواتف الحقيقة الذي تطلب أمامك وما تبرجت ظواهر المكونات إلا نادتك حقائقها إنما نحن فتنة فلا تكفر
( ما ينتهي نظري منهم إلى رتب ... في الحسن إلا ولاحت فوقها رتب )
الجريري ليس لعلم التوحيد إلا لسان التوحيد
الحسن العجز عن درك الإدراك إدراك
( تبارك الله وارت غيبه حجب ... فليس يعرف إلا الله ما الله )
دعا نبي إلى الله عز و جل بحقيقة التوحيد فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد فعجب من ذلك فأوحى الله عز و جل إليه تريد أن تستجيب لك العقول قال نعم قال احجبني عنها قال كيف أحجبك وأنا أدعو إليك قال تكلم في الأسباب وفي أسباب الأسباب فدعا الخلق من هذا الطريق فاستجاب له الجم الغفير
ومنه سمع أعرابي اختلاف المتكلمين بمسجد البصرة في الإنسان وانتزاع كل واحد منهم الحجة على رأيه فخرج وهو يقول
( إن كنت أدرى فعلي بدنه ... من كثرة التخليط في من أنه )
ومن عجز عن أقرب الأشياء نسبة منه فكيف يقدر على أبعد الأمور حقيقة عنه من عرف نفسه عرف ربه
ومنه دع ما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره
لما احتضر الوليد ابن أبان قال لبنيه هل تعلمون أحدا هو أعلم بالكلام مني قالوا لا قال فإني أوصيكم بما عليه أهل الحديث فإني رأيت الحق معهم وعن أبي المعالي نحوه
ومنه هجر أحمد المحاسبي لما صنف في علم الكلام فقال إنما قصدت إلى نصر السنة فقال ألست تذكر البدعة وشبهة البدعة قلت من تحقق كلام فخر الدين الرازي وجده في تقرير الشبه أشد منه في الانفصال عنها وفي هذا ما لا يخفى
ومنه من آمن بالنظر إلى ظاهر الثعبان كفر بالاستماع إلى خوار العجل ومن شاهد مجاوزة القدرة الإلهية وسع القوة البشرية لم يكترث بوعيد الدنيا ولم يؤثر الهوى على الهدى والتقوى
ومنه علي بن الحسين من عرف الله بالأخبار دون شواهد الاستبصار والاعتبار اعتمد على ما تلحقه التهم
ومنه قيل لطبيب بم عرفت ربك قال بالإهليلج يجفف الحلق ويلين البطن وقيل لأديب بم عرفت ربك قال بنحلة في أحد طرفيها عسل وفي الآخر لسع والعسل مقلوب اللسع وسأل الدهرية الشافعي عن دليل الصانع فقال ورقة الفرصاد تأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم والنحل فيكون منها العسل والظباء فينعقد في نوافجها المسك والشاء فيكون منها البعر فآمنوا كلهم وكانوا سبعة عشر
قيل لأعرابي بم عرفت ربك فقال البعرة تدل على البعير والروث يدل على الحمير وآثار الأقدام تدل على المسير فسماء ذات أبراج وبحار ذات أمواج أما يدل ذلك على العليم القدير
( قد يستدل بظاهر عن باطن ... حيث الدخان يكون موقد نار )
قيل لأعرابي بم عرفت الله قال بنقض عزائم الصدور وسوق الاختيار إلى حبائل المقدور
ومنه الدقاق لو كان إبليس بالحق عارفا ما كان لنفسه بالإضلال والإغواء واصفا
ومنه التوحيد محو آثار البشرية وتجديد صفات الألوهية الحق واحد في ذاته لا ينقسم واحد في صفاته لا يماثل واحد في أفعاله لا يشارك لو كان موجودا عن عدم ما كان موصوفا بالقدم الحياة شرط القدرة دلت على ذلك الفطرة لو لم يكن حيا لاستحال أن يوجد شيئا لو لم يكن باقيا لكان للألوهية منافيا لو كان جسما ما استحق الإلهية اسما لو كان الباري جوهرا لكان للحيز مفتقرا العرض لا يبقى والقديم لا يتغير ولا يفنى لو لم يكن بصفة القدرة موصوفا لكان بسمة العجز معروفا لو لم يكن عالما قادرا لاستحال كونه خالقا فاطرا دلت الفطرة والعبرة أن الحوادث لا تحصل إلا من ذى قدرة لو لم يكن بالإرادة قاصدا ما كان العقل بذلك شاهدا من تنوع إيجاده دل ذلك على أن الفعل مراده لو لم يكن بالسمع والبصر موصوفا لكان لضديهما مألوفا لو جاز سامع سمع له لجاز صانع لا صنع له لو كان سمعه بأذن لافتقرت إلى ركن من صدرت عنه الشرائع والأحكام كان موصوفا بالكلام ليس في الصفات
السبع ما لايتعلق إلا الحياة ولا ما يؤثر إلا القدرة وإلارادة كما جاز أن يأمر بما لا يريد جاز أن يريد ما لايحب لا يسأل عما يفعل الواحد كاف وما زاد عليه متكاف ليس مع الله تعالى موجودات لأن الموجودات كلها كالظل من نور القدرة له رتبة التبعية لا رتبة المعية
( إن من أشرك بالله ... جهول بالمعاني )
( أحول العقل لهذا ... ظن للواحد ثاني )
قال جعفر بن محمد لو كان على شيء لكان محمولا ولو كان في شيء لكان محصورا ولو كان من شيء لكان محدثا
قيل لثمامة بن الأشرس متى كان الله فقال ومتى لم يكن فقيل فلم كفر الكافر فقال الجواب عليه
قال خادم أبي عثمان قال لي مولاي يا محمد لو قيل لك أين معبودك ما كنت تجيب قال أقول بحيث لم يزل قال فإن قيل لك فأين كان في الأزل فقال أقول بحيث هو الآن فنزع قميصه وأعطانيه
قيل لصوفي أين هو فقال محقك الله أيطلب من العين أين
ومنه سمعت شيخنا يقول نقصنا صفة كمال له فينا يعني إذا وجب له كل الكمال وجب لنا كل النقص وهذا على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان وفيه كلام
ومنه بلغ أحمد أن أبا ثور قال في الحديث خلق الله آدم على صورته إن الضمير لآدم فهجره فأتاه أبو ثور فقال احمد أي صورة كانت لآدم يخلقه عليها كيف تصنع بقوله خلق الله آدم على صورة الرحمن فاعتذر إليه وتاب بين يديه
ومنه أتى يهودي المسجد فقال أيكم وصي محمد فأشاروا إلى الصديق فقال إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي
نبي قال سل قال فأخبرني عما ليس لله وعما ليس عند الله وعما لا يعلمه الله فقال هذه مسائل الزنادقة وهم بقتله فقال ابن عباس ما أنصفتموه إما أن تجيبوه وإما أن تصرفوه إلى من يجيبه فإني سمعت رسول الله يقول لعلي اللهم اهد قلبه وثبت لسانه فقال أبو بكر قم معه إلى علي فقال له أما ما لا يعلمه الله فقولكم في عزيز إنه ابن الله والله عز و جل لا يعلم له ولدا قال في التنزيل ( ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله - الآية ) يونس 18 وأما ما ليس عند الله فالظلم وأما ما ليس له فالشريك فأسلم اليهودي فقبل أبو بكر رأس علي وقال له يا مفرج الكربات ووردت مثل هذه المسائل عن الصحابة فالله تعالى أعلم
وقال العتابي لأبي قرة النصراني عند المأمون ما تقول في المسيح قال من الله قال البعض من الكل على سبيل التجزيء والوالد من الوالد على طريق التناسل والخل من الخمر على وجه الاستحالة والخلق من الخالق على جهة الصنعة فهل من معنى خامس قال لا ولكن لو قلت بواحد منها ما كنت تقول قال الباري لا يتجزأ ولو جاز عليه ولد جاز له ثان وثالث وهلم جرا ولو استحال فسد والرابع مذهبنا وهو الحق
ومنه أول ما تكلم به عيسى في المهد أن قال ( إني عبد الله ) مريم 30 وهو حجة على الغالين فيه يقال لهم إن صدق فقد كذبتم وإلا فمن عبدتم ولمن ادعيتم
قال القاضي ابن الطيب للقسيس لما وجهه عضد الدولة إلى ملك الروم لم اتحد اللاهوت بالناسوت فقال أراد أن ينجي الناس من الهلاك قال
فهل درى أنه يقتل ويصلب أولا لم يدر لم يجز أن يكون إلها ولا ابنا وإن درى فالحكمة تمنع من التعرض لمثل ما قلتم إنه جرى
سأل القاضي هذا البطرك عن أهله وولده فأنكر ذلك النصارى فقال تبرئون هذا مما تثبتونه لربكم سوأة لهذا الرأي فانكسروا
ابن العربي سمعت الفقراء ببغداد يقولون إن عيسى عليه السلام كان إذا خلق من الطين كهيئة الطير طار شيئا ثم سقط ميتا لأنه كان يخلق ولا يرزق ولو رزق لم يبق أحد إلا قال هو الله إلا من أوتي هداه
سأل ابن شاهين الجنيد عن معنى مع فقال مع الأنبياء بالنظر والكلاءة ( إنني معكما ) طه46 ومع العامة بالعلم والإحاطة ( إلا وهو معهم ) المجادلة 7 فقال مثلك يصلح دليلا على الله
ومنه سأل قدري عليا رضي الله عنه عن القدر فأعرض عنه فألح عليه فقال أخلقك كيف شئت كيف شاء فأمسك فقال أترونه يقول كيف شئت والله أقتله فقال كيف شاء قال أيحييك كيف تشاء أو كيف يشاء قال كيف يشاء قال فيدخلك حيث تشاء أو حيث يشاء قال حيث يشاء قال اذهب فليس لك من الأمر شيء
أبو سليمان أدخلهم الجنة قبل أن يطيعوه وأدخلهم النار قبل أن يعصوه جل حكم الأزل ان يضاف إلى العلل سبق قضاؤه فعله ( إني جاعل في الأرض خليفة ) البقرة 30 وأوقفت مشيئته أمره ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ) يونس 99
قال الشاذلي أهبط آدم إلى الأرض قبل أن يخلقه لأنه قال ( في الأرض ) ولم يقل في السماء ولا في الجنة
الأوزاعي قضى بما نهى وحال دون ما أمر واضطر إلى ما حرم
( ألقاه في اليم مكتوفا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء )
قال الأوزاعي لغيلان مشيئتك مع مشيئة الله عز و جل أو دونها فلم يجب فقال هشام بن عبد الملك فلو اختار واحدة فقال إن قال معها فقد زعم أنه شريك وإن قال وحدها فقد تفرد بالربوبية قال لله درك أبا عمرو
من بيان عظمته ( رفيع الدرجات ) غافر 15 من آثار قدرته ( بديع السموات ) الرعد 2 توقيع أمره ( يأمر بالعدل والإحسان ) واقع زجره ( وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) النحل 90 تنفيذ حكمه ( فعال لما يريد ) البروج 16 دستور ملكه ( لا يسأل عما يفعل ) الأنبياء 23
إياس بن معاوية ما خاصمت أحدا بعقلي كله إلا القدرية قلت لقدري ما الظلم فقال أخذ ما ليس لك قلت فإن الله له كل شيء
الواسطي ادعى فرعون الربوبية على الكشف وادعت المعتزلة الربوبية على الستر تقول ما شئت فعلت
ومنه من أقصته السوابق لم تدنه الوسائل إذا كان القدر حقا فالحرص باطل إذا كان الله عز و جل عدلا في قضائه فمصيبات الخلق بما كسبت أيديهم
( ما عذر معتزلي موسر منعت ... كفاه معتزليا معسرا صفدا )
( أيزعم القدر المحتوم ثبطه ... إن قال ذاك فقد حل الذي عقدا )
ومنه دخل محمد بن واسع على بلال بن فروة فقال ما تقول في القدر قال تفكر في جيرانك أهل القبور فإن فيهم شغلا عن القدر
( وكل من أغرق في نعته ... أصبح منسوبا إلى العي )
المقادير تبطل التقدير وتنقض التدبير
قال معتزلي لسني لو أراد ثبوت أحد على الكفر لم يقل ( ليخرجكم من الظلمات إلى النور ) الأحزاب 43 فقال السني لو لم يكن الإيمان من
فعله لم يقل ( ليخرجكم من الظلمات إلى النور )
قال نقفور طاغية النصاري لأبي الحسن الشلباني أنت تقول إن الخير والشر من الله وذلك لأن النصارى كلهم على مذهب القدرية في الاستطاعة قال نعم قال كيف يعذب عليه هل كان حقا عليه أن يخلق فقال لم يضطره إلى ما خلق مضطر
قيل نزلت ( وما أضلنا إلا المجرمون ) الشعراء 99 في القدرية لأنهم أضافوا الحول والقوة في الشر إلى البشر فأشركوهم في الخلق أما ترى قوله تعالى ( إن المجرمين في ضلال وسعر ) القمر 47 إلى قوله تعالى ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) القمر 49
( كنت دهرا أقول بالاستطاعة ... وأرى الجبر ضلة وشناعة )
( ففقدت استطاعتي في هوى ظبي ... فسمعا لمن أحب وطاعة )
غيره
( ما لا يكون فلا يكون بحيلة ... أبدا وما هو كائن سيكون )
غيره
( تريد النفس أن تعطي مناها ... ويأبى الله إلا ما يشاء )
شفاء الصدور في التسليم للمقدور
( إذا لم يكن إلا الأسنة مركب ... فلا رأي للمضطر إلا ارتكابها )
غيره
( أي يومي من الموت أفر ... يوم لا يقدر أم يوم قدر )
إذا كان الداء من السماء بطل الدواء
قال الحائط للوتد لم تشقني قال سل من يدقني
( الناس يلحون الطبيب وإنما ... غلط الطبيب إصابة المقدور )
قيل لحكيم أخرج الهم من قلبك فقال ليس بإذني دخل
( نفسي تنازعني فقلت لها قري ... موت يريحك أو صعود المنبر )
( ما قد قضي سيكون فاصطبري له ... ولك الأمان من الذي لم يقدر )
( ولتعلمي أن المقدر كائن ... لا بد منه صبرت أو لم تصبري )
ومنه الهارب من المقدور كالمتقلب في كف الطالب من كان السلطان يطلبه ضاق عليه مذهبه ( وما أنتم بمعجزين ) الأنعام 134 يونس53 هود23 أسلى آية في التنزيل ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم - إلى قوله تعالى بما أتاكم ) الحديد 22
ومنه أخل رجل بخدمة صاحب الإسكندرية فتغيب ثم ظفر به عرفاؤه فقادوه فانساب منهم ورمى بنفسه في بئر وتحت الإسكندرية أسراب يسير فيها القائم من أول البلد إلى آخره فلم يزل يمشي حتى وجد بئرا صاعدة فتعلق بها فإذا هي في دار السلطان فأخذه فأدبه فانظر كيف فر من قودة السلطان مكرها وأتاه برجله طائعا
( ذهب القضاء بحيلة العقلاء ... )
ومنه قال يزيد بن المهلب لموسى بن نصير أنت أدهى الناس وأعلمهم
فكيف طرحت نفسك في يد سليمان فقال إن الهدهد يهتدي للماء في الأرض الفيفاء وينصب له الصبي الفخ بالدودة او الحبة فيقع فيه
( ولوجرت الأمور على قياس ... لوقي شرها الفطن اللبيب )
الواسطي اختيار ما جرى لك في الأزل خير من معارضة الوقت
ابن معاذ عجبت من ثلاثة رجل يريد تناول رزقه بتدبيره ورجل شغله غده وعالم مفتون يعيب على زاهد مغبوط
ومنه شكي لبعض الأنبياء امرأة كانت تؤذي أهل زمانها فأوحى الله إليه أن فر من قدامها حتى تنقضي أيامها
ومنه ابن المعتز كرم الله عز و جل لا ينقض حكمته ولذلك لا تقع الإجابة في كل دعوة ( ولو اتبع الحق أهواءهم ) المؤمنون 71
( أريد فلا أعطى وأعطى ولم أرد ... وقصر علمي أن أنال المغيبا )
ومنه كان ابن مجاهد ينشد لبعضهم
( أيها المغتدي ليطلب علما ... كل علم عبد لعلم الكلام )
( تطلب الفقه كي تصحح حكما ... ثم أغفلت منزل الأحكام )
ومنه قال الأحدب البغدادي للقاضي الباقلاني هل لله عز و جل أن يكلف الخلق ما لا يطيقونه فقال إن أردتم بالتكليف القول المجرد فقد وجد ( قل كونوا حجارة ) الإسراء 50 ( أنبئوني بأسماء هؤلاء ) البقرة 31 ( ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) القلم 42 وإن أردتم به ما يصح فعله وتركه فالكلام متناقض وهذا هو الذي نعرفه لأن التكليف اقتضاء فعل ما فيه مشقة وما لا يطاق لا يفعل البتة فقال سئلت عن كلام مفهوم فطرحته في الاحتمالات فقال إني بينت الوجوه المحتملة فإن كان معك شيء فهاته
فقال عضد الدولة قد صدق وما جمعتكم إلا للفائدة لا للمهاترة ثم قال لقاضيه بشر بن الحسن المعتزلي تكلم فقال ما لا يطاق على ضربين أحدهما ما لا يطاق للإشتغال بضده وهذا سبيل الكافر لا يطيق الإيمان للإشتغال بالكفر وأما العاجز فما ورد في الشريعة تكليفه ولو ورد لكان جائزا وقد أثنى الله عز و جل على من سأله أن لا يكلفه ما لا يطيقه فقال ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) البقرة 268 لأن الله له أن يفعل في ملكه ما يريد
ومنه خرج عمر بن عبد العزيز في سفر ليلا فقال له رجل انظر إلى القمر ما أحسنه فنظر فقال قد علمت أنك أردت نزوله بالدبران ونحن لا نتطير بذلك ولا نعتقده
( إذا عقد القضاء عليك أمرا ... فليس يحله إلا القضاء )
( يدبر بالنجوم وليس يدري ... ورب النجم يفعل ما يشاء )
وقال آخر
( ليس للنجم إلى ضر ... ولا نفع سبيل )
( إنما النجم على الأوقات ... والسمت دليل )
غيره
( من كان يخشى زحلا ... أو كان يرجو المشتري )
( فإنني منه وإن ... كان أخي الأدنى بري )
لما وجه عضد الدولة القاضي ابن الطيب إلى ملك الروم قال له الوزير
أخذت الطالع لخروجك فسأله القاضي عن ذلك ففسره له فقال السعد والنحس بيد الله ليس للكواكب فيه تأثير وإنما وضعت كتب النجوم ليتمعش بها العامة ولا حقيقة لها فاستحضر الوزير ابن الصوفي ودعاه إلى مناظرة القاضي فقال لا أقوم على المناظرة وإنما أقول إذا كان من النجوم كذا كان كذا وأما التعليل فمن علم المنطق والذي يتولى المناظرة عليه أبو سليمان المنطقي فأحضر وأمر فقال هذا القاضي يقول إذا ركب عشرة أنفس في ذلك المركب الذي في دجلة فالله تعالى قادر على أن يزيد فيهم آخر في ذلك الوقت فإن قلت له لا يقدر قطعتم لساني فأي معنى لمناظرتي فقال القاضي للوزير ليس كلامنا في القدرة لكن في تأثير الكواكب فانتقل هذا إلى ما ترى لعجزه وأنا إن قلت إن الله تعالى قادر على ذلك فلا أقول إنه يخرق العادة الآن ولا يجوز عندنا ذلك فهو فرار من الزحف فقال المنطقي المناظرة دربة وأنا لا أعرف مناظرة هؤلاء القوم وهم لا يعرفون مواضعاتنا فقال الوزير قد قبلنا اعتذارك والحق أبلج
رأس الدين صحة اليقين من سابق القدر عثر
( وإذا خشيت من الأمور مقدرا ... وفررت منه فنحوه تتوجه )
قيل لما وقع الوباء بالكوفة فر ابن أبي ليلى على حمار فسمع منشدا ينشده
( لن يسبق الله على حمار ... ولا على ذي منسر طيار )
( أو يأتي الحتف على مقدار ... قد يصبح الله أمام الساري ) فقال إذا كان الله أمام الساري فلا مهرب ورجع
ومنه شكا بعض الصالحين إلى الخليفة ضرر الأتراك فقال أنتم تعتقدون أن هذا من قضاء الله وقدره فكيف أرده فقال إن صاحب القضاء قال ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) البقرة 251 فردهم عنهم
القدر والطلب كالعدلين على ظهر الدابة كل واحد منهما معين لصاحبه فالقدر بالطلب والطلب بالقدر
قيل لعارف إن كنت متوكلا فألق بنفسك من هذا الحائط فلن يصيبك إلا ما كتب الله لك فقال إنما خلق الله الخلق ليجربهم لا ليجربوه
الجوهري كف الله النار عن يد موسى لئلا تقول النار طبعي واحترق لسانه لئلا يقوم الكليم مكاني وقال غيره لو لم يقل لنار إبراهيم سلاما لهلك من برد النار
قيل للجنيد أنطلب الرزق قال إن علمتم أين هو فاطلبوه قيل فنسأل الله قال إن خشيتم أن ينساكم فذكروه قيل فنلزم البيوت قال التجربة منك شك قيل فما الحيلة قال ترك الحيلة يقول ليكن تصرفك بإذنه لا بشهوتك فقد قيل ترك الطلب يضعف الهمة ويذل النفس ويورث سوء الظن
الطرطوشي القدر والطلب كأعمى ومقعد في قرية يحمل الأعمى المقعد ويدل المقعد الأعمى
قال رجل لبشر إني أريد السفر إلى الشام وليس عندي زاد فقال اخرج لما قصدت إليه فإنه إن لم يعطك ما ليس لك لم يمنعك ما لك
الناس في هذا الباب ثلاثة فرقة عاملت الله عز و جل على مقتضى شمول قدرته للشر والخير وأعرضوا عن الأسباب فأدركوا التوكل وفاتهم الأدب وهم بعض الصوفية وقد قيل اجعل أدبك دقيقا وعلمك ملحا وهذا
إبليس لم تنفعه كثرة علمه لما دفعته قلة أدبه وفرقة عاملته على ذلك مع الجريان على عوائد مملكته والتصرف بإذنه على مقتضى حكمته وهم الأنبياء وخواص العلماء فأصابوا الأدب وما أخطأوا التوكل والفرقة الثالثة وهم الجمهور أقبلوا على الأسباب ونسوا المسبب ففاتهم الأمران فهلكوا
ومنه جل الواحد المعروف قبل الحدود والحروف
( لقد ظهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أكمه لا يعرف القمرا )
( كما بطنت بما أبديت من حجب ... وكيف يبصر من بالعزة استترا )
سئل النصيبي عن الرؤية بمجلس عضد الدولة فأنكرها محتجا بأن كل شيء يرى بالعين فهو في مقابلتها فقال له القاضي ابن الطيب لا يرى بالعين قال له الملك فبماذا يرى قال بالإدراك الذي يحدثه الله في العين وهو البصر ولو أدرك المرئي بالعين لوجب أن يدرك بكل عين قائمة وهذا الأجهر عينه قائمة ولا يرى بها شيئا
ومنه ابن العربي للصوفية في إطلاق لفظ العشق على الحق تجاوز عظيم واعتداء كبير ولولا إطلاقه للمحبة ما أطلقناها فكيف أن نتعداها
الدقاق العشق مجاوزة الحد في الحب ولما كان الحق لا يوصف بالحد لم يوصف بالمحدود إذ لو جمع محاب الخلق كلهم لشخص واحد لم يبلغ ما يستحقه قدر الحق من الحب
خمسة أبهمت فلم تعين لعظم أمرها الاسم الأعظم وساعة الجمعة وليلة القدر والصلاة الوسطى والكبائر لأن اجتنابها يكفر غيرها يعني على أحد الأقوال في المسألة
ومنه قيل في التسعة والتسعين اسما إنها تابعة لاسم الله وهو تمام المائة فهي عدد درج الجنة لما في الصحيح من أن درجها مائة بين كل درجتين مسيرة مائة عام ولذلك قيل من أحصاها دخل الجنة وهذه الأسماء مفضلة على غيرها مما لا يحصى ألا ترى قوله عليه السلام في الصحيح بأسمائه الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم
ذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعا منه فلم يشر في شيء منها إلى خلقه وذكر الإنسان في ثمانية عشر موضعا ثلث ذلك العدد فصرح في جميعها بخلقه قال ابن عطية وهذا يدل على أنه غير مخلوق
أبو علي ابن أبي اللحم بت ليلة جمعة بمصر في أيام أبي حريش وكان يقول بخلق القرآن وأبي خلف المعافري وكان يقول القرآن كلام الله ليس بمخلوق أفكر عن أيهما آخذ فلما نمت أتاني آت فقال لي قم فقمت قال قل فقلت ما أقول فقال
( لا والذي رفع السماء ... بلا عماد للنظر )
( فتزينت بالساطعات ... اللامعات وبالقمر )
( والمالىء السبع الطباق ... بكل مختلف الصور )
( ما قال خلق في القران ... بخلقه إلا كفر )
( لكن كلام منزل ... من عند خلاق البشر )
ثم قال اكتبها فأخذت كتابا من كتبي وكتبتها فيه فلما أصبحت وجدت ذلك بخطي على كتاب من كتبي فجلست في البيت إلى الزوال ثم خرجت فسألني إنسان عما رأيت البارحة فقلت ما أخبرت أحدا فقال قد شاعت رؤياك في الناس
الخواص انتهيت إلى رجل مصروع فجعلت أؤذن في أذنه فناداني الشيطان من جوفه دعني أقتله فإنه يقول بخلق القرآن
عمرو بن دينار أدركت سبعة من الصحابة يقولون من قال القرآن مخلوق فهو كافر قلت قال مالك يستتاب
ومنه كان عضد الدولة يحب العلم والعلماء فكان مجلسه يحتوي على عدد منهم أكثرهم الفقهاء والمتكلمون وكان يعقد لهم مجالس للمناظرة فقال لقاضيه بشر بن الحسن إن مجلسنا خال عن عاقل من أهل الإثبات ينصر مذهبه فقال إنما هم عامة يرون الخير وضده ويعتقدونهما جميعا وإنما أراد ذم القوم ثم أقبل يمدح المعتزلة فقال عضد الدولة محال أن يخلو مذهب طبق الأرض من ناصر فانظر قال بلغني أن بالبصرة شيخا يعرف بأبي الحسن الباهلي وفي رواية بأبي بكر ابن مجاهد وشابا بابن الباقلاني فكتب إليهما فلما وصل الكتاب قال الشيخ قوم كفرة لأن الديلم كانوا روافض لا يحل لنا أن نطأ بساطهم فقال الشاب كذا قال ابن كلاب والمحاسبي ومن في عصرهم إن المأمون فاسق لا يحضر مجلسه حتى ساق أحمد بن حنبل إلى طرسوس وجرى عليه ما عرف ولو ناظروه لكفوه عن هذا الأمر وتبين له ما هم عليه بالحجة وأنت أيضا أيها الشيخ تسلك سبيلهم حتى يجري على الفقهاء ما جرى على أحمد ويقولون بخلق القرآن ونفي الرؤية وها أنا خارج إن لم تخرج قال الشيخ إن شرح الله صدرك لهذا فاخرج فرد الله به الكرة
حفظ من كلام النبي المنتقى والمرسل أمثال المنزل ثم انتقي من ذلك صحة وفصاحة ما يبلغ حجم المصحف أو يربى عليه فهل وجدت فيه ما يشبهه او ينزع إليه أشهد أنه من عند الله تنزيل من لدنه
أول إعجاز القرآن الجهل بنوعه من جنس الكلام فإنه لا يدخل في مضمار الشعر ولا ينخرط في سلك الخطب ولا المواعظ والمقامات والكتب ولا في شيء مما يؤلف التخاطب به وتعرف فيه طبقات أهل مذهبه فإن
لم يتبين ما رسمت لك فاعرض كلامك في كل صنف من هذه الأصناف تجد لنفسك مع فحوله حالة القصور أوالمماثلة أو الزيادة ولا تجد لكلامك نسبة إلى القرآن بل لا تدري ما تقول إن طلب منك البيان إلا أن تسلب العقل كمسيلمة وأمثاله ممن ابتلى بالهذيان وقد تفطن للدلالة كافر غلبت عليه الجهالة انظر السيرة
الزمخشري ما أعجب شأن الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر وقد رضوا للإلهية بحجر
سأل القاضي أبا بكر ملك الروم حين وجهه عضد الدولة إليه عن انشقاق القمر كيف لم يره جميع الناس فقال لأنهم لم يكونوا على أهبة ووعد قال فما النسبة التي بينكم وبين القمر حتى لم يره غيركم من الروم وغيرهم قال النسبة التي بينكم وبين المائدة حتى رأيتموها دون اليهود والمجوس فدعا القسيس فأقر للقاضي فقال له القاضي أتقول إن الكسوف يراه جميع أهل الأرض أم أهل الإقليم الذي في محاذاته قال لا يراه إلا من في محاذاته قال فما تنكر من لا يرى انشقاق القمر إلا في تلك الناحية ممن تأهب لذلك قال هذا صحيح إلا أن الشأن في مثله أن لا ينقل آحادا لكن تواترا بحيث يصل العلم الضروري به إلينا وإلى غيرنا وانتفاء ذلك يدل على افتعال الخبر فقال الملك للقاضي الجواب فقال يلزمه في نزول المائدة ما ألزمنا في انشقاق القمر فبهت الذي كفر
قال ملك الروم للقاضي ابن الطيب في هذه الرسالة ما تقول في المسيح قال روح الله وكلمته وعبده قال تقولون المسيح عبد قال بذلك ندين قال ولا تقولون إنه ابن الله قال ما اتخذ الله من ولد قال العبد يخلق ويحيي ويبرىء قال ما فعل المسيح ذلك قط قال هذا مشهور في الخلق
قال لا قال ما قال أحد من أهل المعرفة إن الأنبياء يفعلون المعجزات لكن الله تعالى يفعلها على أيديهم تصديقا لهم قال إن ذلك في كتابكم قال في كتابنا أن ذلك كله بإذن الله تعالى ولو جاز أن يكون ذلك فعل المسيح لجاز أن يقال إن موسى قلب العصا وأخرج يده بيضاء وفلق البحر قل إن الأنبياء من لدن آدم كانوا يتضرعون للمسيح حتى يفعل ما يطلبون قال أفي لسان اليهود عظم لا يقولون معه إن المسيح كان يتضرع لموسى وكذلك أمة كل نبي لا فرق بين الموضين في الدعوى
الجوزي في قوله عليه السلام يوشك ان ينزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم وإنما كان الإمام منا لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه لا نبي بعدي
كان بالبصرة يهودي يقرر المتكلمين على نبوة موسى فإذا اقروا جحد نبوة محمد وقال نحن على ما اتفقنا عليه إلى أن نتفق على غيره فسأل أبا الهذيل عن ذلك فقال إن كان موسى هذا الذي أخبر بمحمد وأقر بشرفه وأمر باتباعه فأنا أقر بنبوته وإن كان غيره فأنا لا أعرفه فتحير اليهودي ثم سأله عن التوراة فقال إن كانت التي نزلت على موسى المذكور فهي حق وإلا فهي عندي باطل
ومنه قيل للحسن الملائكة أفضل أم الأنبياء فقال أين أنت من هذه الآية ( ولا أقول إني ملك ) هود 31
ومنه وعن عمر وعلي رضي الله عنهما أن الخضر لقيهما وعلمهما هذا الدعاء وذكر فيه خيرا كثيرا لمن قاله إثر كل صلاة يا من لا يشغله سمع عن سمع ويا من لا تغلطه المسائل ومن لا يتبرم على إلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة مغفرتك
ومنه سمع إياس يهوديا يقول ما أحمق المسلمين يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون فقال أوكل ما تأكله تحدثه قال لا لأن الله تعالى يجعل أكثره غذاء قال فما تنكر أن يجعل
جميع ما يأكل أهل الجنة غذاء
الرزية كل الرزية تضييع أمر المرأة الرندية وذلك أنه وردت على تلمسان في العشرة الخامسة من المائة الثامنة امرأة من رندة لا تأكل ولا تشرب ولا تبول ولا تتغوط وتحيض فلما اشتهر هذا من أمرها أنكره الفقيه أبو موسى ابن الإمام وتلا ( كانا يأكلان الطعام ) المائدة 75 فأخذ الناس يبث ون ثقات نسائهم ودهاتهن إليها فكشفن عنها بكل وجه يمكنهن فلم يقفن على غير ما ذكر وسئلت هل تشتهين الطعام فقالت هل تشتهون التبن بين يدي الدواب وسئلت هل يأتيها شيء فأخبرت أنها صامت ذات يوم فأدركها الجوع والعطش فنامت فأتاها آت في النوم بطعام وشراب فأكلت وشربت فلما أفاقت وجدت نفسها قد استغنت فهي على تلك الحال تؤتى في المنام بالطعام والشراب إلى الآن ولقد جعلها السلطان في موضع بقصره وحفظها بالعدول ومن يكشف عما عسى تجيء أمها به إذا أتت إليها أربعين يوما فلم بوقف لها على أمر بيد أني أردت أن يزاد في عدد العدول ويجمع إليهم الأطباء ومن يخوض في المعقولات من علماء الملل المسلمين وغيرهم ويوكل من نساء الفرق من يبالغ في كشف من يدخل إليها ولا يترك أحد يخلو بها وبالجملة يبالغ في ذلك ويستدام رعيها عليه سنة لاحتمال أن يغلب عليها طبع فتستغني في فصل دون فصل ثم يكتب هذا في العقود ويشاع أمره في العالم وذلك لأنه يهدم حكم الطبيعة الذي هو أضر الأحكام على الشريعة ويبين كيفية غذاء أهل الجنة وأن الحيض ليس من فضلات الغذاء ويبطل التأثير والتوليد ويوجب أن الاقترانات بالعادات لا باللزوم وعند الأسباب لا بها إلى غير ذلك إلا أني لما أشرت بهذا انقسم من أشرت عليه بتبليغه إلى من لم يفهم ما قلت ومن لم يرفع به رأسا لإيثار الدنيا على الدين فإنا لله وإنا إليه راجعون
وقد ذكر أن امرأة أخرى كانت معها على تلك الحالة وحدثني غير واحد
من الثقات ممن أدرك عائشة الجزيرية أنها كانت كذلك وأن عائشة بنت أبي يحيى اختبرتها أربعين يوما أيضا وكم من آية أضيعت وحجة نسيت هذا مما لم يعرف مثله قبل المائة الثامنة وكذلك الوباء العام القريب فروطه يوشك أن يطول أمره فينسي ذكره ويكذب المحدث به إذا انقضى عصره وكم فيه أيضا من أدلة على أصول الملة
ومنه قال شيخ صالحي الفقهاء في عصرنا بفاس أو زرهون عبد العزيز ابن محمد القيرواني رحمه الله تعالى مات فقير عندنا بالمئذنة فوجدوا عنده ربطة من دراهم فوضعوها عند المؤذن فلما نزل ليلحده سقطت من جيبه في القبر ولم يشعر حتى واراه فكشف عنه فإذا الدراهم قد لصقت ببدنه درهما إلى درهم كالنجوم فحاول قلع واحد منها فقامت معه قطعة من لحمه وتبعها من ذلك المحل ريح منتنة قال الشيخ فاطلعت على ذلك وشاهدته ثم ردوا الترب عليه وانصرفوا
قال عبد الله بن إدريس لغيلان الممرور متى تقوم الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل غير أنه من مات فقد قامت قيامته قال فالمصلوب يعذب عذاب القبر قال إن حقت عليه الكلمة وما تدري لعل جسده في عذاب لا تدركه أبصارنا ولا أسماعنا فإن لله لطفا لا يدرك وانظر الحديث فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم ما أسمع من عذاب القبر
ومنه المازري مسألة التكفير بالمال مشكلة وقد اضطرب فيها قول مالك وهو إمام الفقهاء والقاضي أبي بكر وهو إمام المتكلمين
الغزالي لا يقطع بتكفير الفلاسفة إلا في ثلاث مسائل قدم العالم ونفي العلم بالجزيئات وإنكار المعاد البدني وتوابعه القطعية
أصل الفلاسفة اعتقاد المحسوسات معقولات والمعتزلة اعتقاد المشهورات قطعيات ومن ثم قيل لهم مخنثة الفلاسفة
لا يكفي التقليد في عقائد التوحيد لا فرق بين إنسان ينقاد وبهيمة تقاد
ومنه كان أبو هاشم من أفسق الناس فجلس ذات يوم يعيب الإرجاء وكان في المجلس مرجىء فأنشد
( يعيب القول بالإرجاء حتى ... يرى بعض الرجاء من الجرائر )
( وأعظم من ذوي الإرجاء ذنبا ... وعيدي يصر على الكبائر )
كان مالك ينشد كثيرا
( وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع )
ابن عقيل يشبه أن يكون واضع الإرجاء زنديقا فإن صلاح العالم في إثبات الوعيد واعتقاد الجزاء فلما لم يمكن هذا المائن جحد الصانع لمخالفة العقل أسقط فائدة الإثبات وهي الخشية والمراقبة وهدم سياسة الشريعة فهم شر طائفة على الإسلام
سئل مالك عن أشر الطوائف فقال الروافض
بينا ابن المعلم شيخ الرافضة في بعض مجالس المناظرة مع أصحابه أقبل ابن الطيب فقال جاءكم الشيطان فسمعه على بعد فلما جلس إليهم تلا عليهم ( ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا ) مريم 83
مالك أهل السنة من لا لقب له لا خارجي ولا قدري ولا رافضي
البديع
( يقولون لي ما تحب الوصي ... فقلت الثرى بفم الكاذب )
( أحب النبي وآل النبي ... وأختص آل أبي طالب )
( وأعطي الصحابة حق الولاء ... وأجري على السنن الواجب )
( فإن كان نصبا ولاء الجميع ... فإني كما زعموا ناصبي )
( وإن كان رفضا ولاء الجميع ... فلا برح الرفض من جانبي )
( أحب النبي وأصحابه ... فما المرء إلا مع الصاحب )
( أيرجو الشفاعة من سبهم ... بل المثل السوء للضارب )
( يوقى المكاره قلب الجبان ... وفي الشبهات يد الحاطب )
أخذ البيت الخامس من قول الشافعي
( إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي )
ومنه أبو حنيفة لقيت عطاء فقال لي ممن أنت فقلت من أهل الكوفة فقال من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا قلت نعم قال فممن أنت منهم قلت ممن يؤمن بالقدر ولا يسب السلف ولا يكفر بالذنب قال عرفت فالزم
ومنه الإرادة تطلق على المحبة وعلى قصد أحد الجائزين بالتخصيص وكل واحد من المعنيين يوجد بدون الآخر أما الأول فكقوله ( تريد النفس أن تعطى مناها ... )
وهو ظاهر وأما الثاني فكقصد المتوعد بالإهلاك إلى أمر عبده الذي أمره بأمر لينظر امتثاله ولدقة الفرق بينهما ضل المعتزلة في أمرهما فقالوا إن الله عز و جل لا يريد المعاصي لأنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر قال عمار بن ياسر يوم صفين
( صدق الله وهو للصدق أهل ... وتعالى ربي وكان جليلا )
( رب عجل شهادة لي بقتل ... في الذي قد أحب قتلا جميلا )
ومنه العبدري قتل الحسين دعا إلى حرب وأخذ بثأره كذاب ثقيف ونوه باسمه أعداء ملة جده بنو عبيد ليقتص من قضية بمثلها فيقرأ الفهم سورة تلك الصور ويتهجى اللبيب حروف تلك الحروب فيعلم أن الكل آلات مستعملات حسبما اقتضاه العلم القديم
ومنه أبو العباس الأبياني ثلاث لو كتبت على ظفر لوسعهن وفيهم خير الدنيا والآخرة اتبع لا تبتدع اتضع لا ترتفع اتزع لا تتسع
ومنه كانت سكينة بني إسرائيل في التابوت فغلبوا عليها وسكينة هذه الأمة في القلوب فغلبوا بها استحفظوا كتابهم فحرفوا من أحكامه ووصفه وحفظ كتابنا فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
ومنه في الصحيح كان أبو ذر يقسم قسما أن ( هذان خصمان اختصموا في ربهم ) الحج 19 نزلت في الذين برزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة وعتبة وشيبة والوليد قلت ففي الآية شهادة من الله تعالى لعلي بالجنة والشهادة أما الجنة فبنصها وأما الشهادة فلأنه وصاحبيه استشهدوا وخصمهم قتلوا فهي رادة على الخوارج قطعا
ومنه جاز أبو بكر ابن نافع بالكرخ أيام الديلم وقوة الرفض فقالت له امرأة سيدي أبا بكر فقال لبيك يا عائشة فقالت له متى كان اسمي عائشة فقال أيقتلونني وتخلصين
وفي آخر هذا الكتاب ما صورته فهذه جملة تراجم وفيها مقنع لمن أراد المحاضرة أو تنميق مجالس المناظرة وكان الفراغ من جمعها في آخر
يوم من شعبان المكرم من عام سبعة وخمسين وسبعمائة انتهى ما تعلق به الغرض من بعض كلام مولاي الجد رحمه الله تعالى في كتابه المحاضرات
ولنرجع إلى سرد بقية تواليفه رحمه الله تعالى فنقول ومنها شرح لغة قصائد المغربي الخطيب ومقالة في الطلعة المملكة وشرح التسهيل والنظائر وكتاب المحرك لدعاوي الشر من أبي عنان وإقامة المريد ورحلة المتبتل وحاشية بديعة جدا على مختصر ابن الحاجب الفقهي فيها أبحاث وتدقيقات لا توجد في غيرها وقد وقفت عليها بالمغرب ومن أشهر كتبه في التصوف كتاب الحقائق والرقائق وهو من الحسن بمكان لا يلحق وقد شرحه الشيخ الصالح شيخ شيوخ شيوخنا سيدي أحمد زروق رضي الله عنه ونفعنا به
نقول من كتاب الحقائق والرقائق للمقري
وقد سنح لي أن أسرد هنا شيئا من هذا الكتاب الفذ في بابه فنقولقال فيه مولاي الجد رحمه الله تعالى هذا كتاب شفعت فيه الحقائق بالرقائق ومزجت المعنى الفائق باللفظ الرائق فهو زبدة التذكير وخلاصة المعرفة وصفوة العلم ونقاوة العمل فاحتفظ بما يوحيه إليك فهو الدليل وعلى الله قصد السبيل
حقيقة عمل قوم على السوابق وقوم على اللواحق والصوفي من لا ماضي له ولا مستقبل فإن كان زجاجيا فبخ بخ
رقيقة من لم يجد ألم البعد لم يجد لذة القرب فإن اللذة هي التخلص من الألم
حقيقة لما انطبعت الصور في مرآة الخيال قال العقل أنا الملك المكوكب فقالت الرياضة الزمني وتعرف قدرك فإذا العقل عقال
رقيقة من ضحك في نوم الغفلة بكي عند الانتباه فإن الأضغاث أضداد
حقيقة أثر الزهد عقل دن سقراط على سراج غوطة أبي نصر فقيل فأين اعتبار ( أفلا ينظرون ) فقال ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) الذاريات 21
رقيقة طالب الدنيا يخاف الفوت وصاحبها يترقب الزوال ولو بالموت فإذا حمي الوطيس وحج الرئيس أنشأ الزاهد بينهما ينشد
( عزيز النفس لا ولد يموت ... ولا أنس يحاذره يفوت )
حقيقة العابد طالب رياسة وحرمة والزاهد صاحب نفاسة وهمة والمعنى للعارف يعادي في الله تعالى ويوالي ويرضى الله ولا يبالي
رقيقة من سابق سبق ومن رافق ارتفق ومن لاحق التحق والعجز والكسل مقدمتا الخيبة و
( على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... )
حقيقة العمل دواء القلب وإذا كان الدواء لا يصلح إلا إذا كان على حمية البدن فكذلك العمل لا ينجح إلا بعد صوم النفس فارق نفسك وتعال
رقيقة مثل دواعي الخير والشر في الإنسان كمثل الخلط الفاعل والقوة الدافعة في العليل تغلب القوة فيسكن الخلط فيجد الراحة وعن قليل يتحرك فيجد الألم
حقيقة العمل على السلامة مسالمة وعلى الغنيمة وعلى الأمر قرض فيضاعف له أضعافا كثيرة
رقيقة تطهر من أدناس هواك وتزين بلباس تقواك وقم لمسجد انقطاعك
على قدم شكواك وأحرم بتوجيه قلبك إلى قبلة نجواك تجد الحق عندك وليس بسواك
حقيقة وجد العارف فجاد بنفسه فوجد الله عنده وتواجد المريد فحاكى ومن لم يبك تباكى
رقيقة زك نفسك لقلبك تزك عند ربك بعها منه رخيصة فهي على ثمنها لديه حريصة ( إن الله اشترى ) التوبة 111
حقيقة الزوال وقت المناجاة فطهر قلبك قبله من الحاجات وإياك والحظ فذهاب نقطته أسرع من اللحظ
رقيقة الزاد لك وهو مكتوب والزائد عليك وهو مسلوب فأجمل في طلب المضمون ولا تلزم نفسك صفقة المغبون
حقيقة أمر بالتوكل لتقصر الطرف عليه وإذن في التسبب لتنصرف منه إليه فذاك مخبر بحقيقة التفرد وهذا مظهر لحكمة التعبد
رقيقة الملك أبو الدينا وهو مع ذلك محبوس فيها تبهم عليه الأبواب ويستدعي الحراس والحجاب فإذا خرج حدقت إليه الألحاظ وأحدقت بجهاته الحفاظ أي حظ حظ من فقد نعمة ( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ) الملك 15
حقيقة قال صاحب الزهر الأنيق علامات الحبة أربع الإفلاس والاستئناس والأنفاس والوسواس قلت الإفلاس التجرد إلا عنه كالخليل والاستئناس التوحش إلا منه كالكليم والأنفاس والوسواس صلة الاسم وعائده
رقيقة ذكر مذكر بمالقة فقام الخطيب الشيخ الولي أبو عبد الله الساحلي بهذا البيت
( ليت شعري أفي زمام رضاكم ... كتب اسمي أم في زمام الهوان )
وكنت يوما مع السلطان والجند يعرضون عليه وكان يسقط ويثبت وأنا أتفكر في البيت حتى خفت أن أفتضح فقلت واهماه من هذا الإبهام ثم كدت أخلد بقبح العمل إلى الأرض فينشلني حسن الظن بالله عز و جل فإنهض
( إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم )
حقيقة إذا قابل إبرة القلب مغناطيس الحسن صبا فانجذب فإذا اتصل عشق فانقطع فإذا انجذ فني فبقي حاشا الصوفي أن يموت
رقيقة افتخر الغراب بإقامة قرآن الفجر فقيل حتى تغسل بول الشيطان من أذنك فطرب الديك فرحا بالفوز وندب العصفور ترحا على الفوت
حقيقة الخلوة بيت الاعتبار وفي بيته يؤتى الحكم وباب هذا البيت العلم ( وائتوا البيوت من أبوابها ) البقرة 189
رقيقة واقع فقير هناه ثم دخل خلوته فبدت له نفسه بوجه مومسة فقال ما أنت قالت أم الحياة فقال ما أجمل أن تبدل هاؤك همزة فقالت إذن لم تصنع ما شئت فانتبه لقرع العتاب فتاب
حقيقة القلب إيوان الملك ويسعني وعز الملك يأنف عن ذل المزاحمة أنا أغني الشركاء عن الشرك
رقيقة لما وضع البسطامي أوزار حوبه فك طابع الصحيفة عن قلبه فلم يجد بها غير الطفرى فصاح بنفسه لك البشرى انزل طيفور عما تريد ليس في الدار أبو يزيد
حقيقة قال شيخنا أبو هادي يوما لأصحابه بماذا يرتقي العبد عن مقامه إلى
مقام أعلى منه قالوا بفضل الله ورحمته فقال إنما سألتكم عن السبب الخاص بهذا الأمر قالوا ما عند الشيخ قال يخلق الله له همة فيرتقي بها إلى رتبة أسمى من رتبته
ومن هذا الكتاب
حقيقة التفت إلى مواهب الملوك تجدهم إنما يوسعون فيما قد يسترجعون فأما العلماء وكل من يعطي بحق فإنما يعطون بقصد ( ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ) طه 131 واصبر نفسك فعن قريب تنصرف عنهم
رقيقة قلت لقلبي كيف تجدك فقال أما من أمارتك ففي عناء الجهاد وأما من لوامتك فعلى جمر الصبر قلت فمتى الراحة قال إذا اطمأنت النفس فاضمحل الوهم وغاب الحس
حقيقة قطع السوي طهارة المنيب ولا يقبل الله صلاة بغير طهور وكتابه النحيب والمكاتب عبد ما بقي عليه وبابه الدخول على الحبيب
نظر رجل إلى امرأة عفيفة فقالت يا هذا غض بصرك عما ليس لك تنفتح بصيرتك فترى ما هو لك
رقيقا لما حنكت الطينة بتمر الجنة وغذيت بلبانها قطرت على محبتها انظروا إلى حب الأنصار التمر فلم تطق الفطام عنها ( وتأبى الطباع على الناقل ... )
فذاك ما تجد من الحنين إلى التلاق والأنين على الفراق والشغف بمدح العابر وذم الغابر وفي ذلك
( كم أردنا ذاك الزمان بمدح ... فشغلنا بذم هذا الزمان )
وإن لم تعرف عصرا خاليا ولا خلا نائيا لم يمر عليك مما تشتهيه أطيب مما أنت فيه
( كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل )
ومنه
حقيقة قيل عرض الكليم بطلب القوت في رحلة الهجرة ( إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) القصص 24 فحمل على كاهل ( إن أبي يدعوك ) القصص 25 وصرح في سفر التأديب ( لو شئت لاتخذت عليه أجرا ) الكهف 77 فحمل على كاهل ( هذا فرق بيني وبينك ) الكهف 78 قلت لما تمحض الطلب له اكتفى فلما تعلق حق الغير به وفى ولذلك قضى أبا المرأتين الأجلين
رقيقة كان خرق السفينة إراءة لكرامة ( فاقذفيه في اليم ) طه 39 في مرآة ( وكان وراءهم ملك ) الكهف 79
( وربما صحت الأجسام بالعلل ... )
وقتل الغلام إشارة إلى اشتمال قتله ( فقضى عليه ) القصص 15 على رحمة ( فنجيناك من الغم ) طه 40 برمز ( فخشينا أن يرهقهما ) الكهف 80 والمحن الصم حبائل المنح وإقامة الجدار إثارة لفتوة ( فسقى لهما ) ليخفض له جناح ( إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) القصص 24 فيستظل من حر ( لو شئت لاتخذت عليه ) الكهف 77 في نية ( هذا فراق بيني وبينك ) الكهف 78
حقيقة قيل لمحمد بن حسن الزبيدي التونسي وأنا عنده بها كيف لم يصبر الكليم وقد ناط الصبر بالمشيئة ( ستجدني إن شاء الله صابرا ) الكهف 69 وقد جاء في الصحيح في قصة سليمان عليه السلام لو قال إن شاء الله لكان كما قال والمقام الموسوي أجل ( واصطنعتك لنفسي ) طه 41 وطلابه أفضل ما جميع أعمال البر والجهاد في طلب العلم إلا كبصقة في بحر فقال كان موسى على علم من علم الله وهو علم المعاملة لا يعلمه الخضر وكان الخضر على علم من علم الله لا يعلمه موسى فلم يظن أن ما لم يحط به خبرا يأباه حكم الظاهر وإلا كيف يلتزم الصبر عليه وقد أمر بصرف الإنكار إليه ( ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ) طه 92 بل لم يعتد مثله من ملاقاة المشاق فيما كان عليه الخضر من اختراق الآفاق وركوب الطباق فما علقه بقوله فقد صدقه بفعله وما لم يستطع عليه صبرا فلم يدخل في التزامه اعتقادا ولا ذكرا
رقيقة قال لي عبد الرحمن بن يعقوب المكتب كان عندنا بالساحل سائح هجيراه إلهي بسطت لي أملي وأحصيت علي عملي وغيبت عني أجلي ولا أدري إلى أي الدارين يذهب بي لقد أوقفتني موقف المحزونين ما أبقيتني
حقيقة تنازع القلب والنفس الخلق فقسمها بينهما قاضي العقل فمن باع منهما حظه فلا شفعة لصاحبه عليه
ومنه
حقيقة الحجب ثلاثة فحجاب الغيرة منع وحجاب الحيرة دفع وحجاب الغفلة قطع ( أولئك كالأنعام بل هم أضل ) الأعراف 179
رقيقة اللحم أيام التشريق مكروه وكل لذة عند أرباب الدنيا كاللحم عندك أيام الأضحى فلا ترينك الغفلة عن سرك زيادة النعمة عندك
حقيقة الفقر إلى الله الاستغناء به عما سواه وهوية الرضى بالله أن لا يخطر بالبال إلاه
ومنه
حقيقة التلون مجون تارة طربا وطورا شجون والتمكن معرفة وأين الحال من الصفة
رقيقة قال لي محمد بن عبد الواحد الرباطي قال لي محمد بن عبد السيد الطرابلسي دخلت على أبي الحسن الحرالي فقلت له كيف أصبحت فأنشد
( أصبحت ألطف من مر النسيم سرى ... على الرياض يكاد الوهم يؤلمني )
( من كل معنى لطيف أحتسي قدحا ... وكل ناطقة في الكون تطربني )
حقيقة قال الطالب الوقت سيف وقال الواصل بل مقت فتلا العارف ( قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) الأنعام 91
رقيقة لصاحب الوقت يومان
( يوم بأرواح يباع ويشترى ... وأخوه ليس يسام فيه بدرهم )
وفصل الفضل بينهما
( وما تفضل الأيام أخرى بذاتها ... ولكن أيام الملاح ملاح )
ومنه
حقيقة قال لي الشيخ أبو عبد الله محمد بن مرزوق العجيسي بعباد تلمسان قال لي أبو عبد الله ابن حيون إنه وجد على ظهر كتاب بخط عتيق قال أبو يزيد البسطامي يظهر في آخر الزمان رجل يسمى شعيبا لا تدرك له نهاية قالا وهو أبو مدين قلت وقف بظاهره مع الشريعة وذهب بباطنه مع الحقيقة فما انقطع لصحة البداية ولا رجع لعدم الغاية
رقيقة قمت ببعض الأسحار على قدم الاستغفار وقد استشعرت الصبابة واستدثرت الكآبة فأملى الجنان على اللسان بما نفث في روعه روح الإحسان
( منكسر القلب بالجنايا ... يدعوك يا مانح العطايا )
( أقعده الذنب عن رفيق ... حثوا لرضوانك المطايا )
ومنه إثر حقيقة في شأن الحلاج ما نصه ثم قلت
( ولرب داع للجمال أطعته ... وأبى الجلال علي أن أتقدما )
( فأطعت بالعصيان أمرهما معا ... وجنحت للتسليم كيما أسلما )
ومنه
حقيقة قلت للسر ما لك تحس من خلف الموانع فقال خرق شعاعي سور العوائق ثم انعكس إلي بصور الحقائق فأصبحت كما قيل
( كأن مرآة عين الدهر في يده ... يرى بها غائب الأشيا فلم يغب )
رقيقة الليل رداء الرهبة تهاب الجبان فيه الأبطال وتتقي الحواس دونه الخيال ( إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا ) المزمل 6
حقيقة النهار معاش النفس فهو استعداد ( إن لك في النهار سبحا طويلا ) المزمل 7 والليل رياش الأنس فهو معاد ( واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا ) المزمل 8 فهذا جمع وذلك فرق والحال أسرع ذهابا من البرق
ومنه
حقيقة إن أكبرت النفس حالها فذكرها أصلها ومآلها فإنها تصغر عند ذلك وتستقيم بك على أرض المسالك احثوا التراب في وجوه المداحين ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ) طه 55
رقيقة إنما يتعاظم من يجد الحقارة من نفسه ويتوهم المهانة عند أبناء جنسه فلذلك تراه مغمزا للعيون مهمزا للظنون من أسر سريرة حسنة كساه الله رداءها
رقيقة رأيت الملوك لا يشمتون ولا يدعى لهم إلا بما يتعلق بأغراض الدنيا وأكثر ذلك مما تحيل عقوده العوائد فعلمت أن الدنيا ضد الآخرة
حقيقة من لم يفر خور وذلك الجبن من خاف أدلج ورجا من لم يكر تمن وتلك الزمانة ( يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ) النساء 72
رقيقة سمعت أبا محمد المجاصي يقول رويت بالسند الصحيح أن عابدا رابط ببعض الثغور مدة فكان كلما طلع الفجر يسمع من ينشد دون أن يرى شيئا
( لولا رجال لهم سرد يصومونا ... وآخرون لهم ورد يقومونا )
( لزلزلت أرضكم من تحتكم غضبا ... فإنكم فوم سوء لا تبالونا )
حقيقة ما حمد الله حق حمده إلا من عرفه حق معرفته وذلك مما لا ينبغي لغيره لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
رقيقة قلت
( أشيم البرق من بين الثنايا ... وأشتم العبير من الثناء )
( فأبدو تارة وأغيب أخرى ... مثار الشوق مثني الحياء )
حقيقة تحقق الحامد بكمال الذات فغاب عن حسه في بحار العظمة وتعلق الشاكر بجمال الفعل فوقف مع نفسه بسوق النعمة فهذا تاجر ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) إبراهيم 7 وذاك ذاكر ( وما بكم من ) النحل 53
ومنه
حقيقة الصبر مطية المريد والرضى سجية المراد فهذا يقوم للأمر وذاك يسعى للأجر
رقيقة الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف والصبر بغير حساب والرضى بالرضى وذلك سدرة المنتهى
حقيقة النفس الأمارة آبدة لا تملك إلا بلطائف الحيل والمطمئنة ذلول لا تنفلت إلا ممن غفل ( وأخاف أن يأكله الذئب ) يوسف 13
رقيقة الدنيا معشوق الطالب عاشق الهارب هذا يستخدمها وذاك يخدمها يبني الخادم المسجد ليقال ويعمره المخدوم لينال فعلى الخادم السعي من غير جدوى
( وليس لرحل حطه الله حامل ... )
وللمخدوم الجدوى بغير سعي
( وليس لما تبني يد الله هادم ... إن السعادة أصلها التخصيص )
حقيقة الجمال رياش والحسن صورة والملاحة روح فذلك ستره عليك وهذا سره فيك ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) الحجر 29
رقيقة أعطي يوسف شطر الحسن يعني حسن آدم لأنه إن لم يكن في الإمكان أبدع مما كان فقد خلقه الحق بيده في أحسن تقويم ثم نفخ فيه من روحه لتتم علة الأمر بسجود التحية والتكريم فكان كما قال من أنزل عليه الفرقان خلق الله آدم على صورة الرحمن فآدم إذا كمال الحسن وإلا فهو المراد لأن الشطر يقتضي الحصر والنصف ينزع عن الوصف وأعطي محمد كمال الجمال فما أبصره أحد إلا هابه وتمام الملاحة فما عرفه شخص إلا أحبه مع أنباء نوره في الآباء بأن أبوه المعنى لسيد نجباء الأبناء كما قال العارف عمر
( وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي )
حقيقة لا يثنينك الخوف عن قرع الباب فتيأس فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ولا يدنينك الرجاء من الفترة فتأمن فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون فإن لم تستطع بعد الحرص أن تعدل فلا تمل كل الميل مع النفس ( إن النفس لأمارة بالسوء ) يوسف 53
رقيقة ارفع قصتك في رقعة الإقبال على كف الرجاء خافضا من طرف الحياء وصوت الإدلال عاكفا في زاوية الإنكماش من وراء ستر الخوف يخرج عليك حاجب القدر من باب الكرم بتوقيع ( فاستجبنا له ) الأنبياء 848890
ومنه
حقيقة صدق مجاهدة الفاروق أيقظ الوسنان وطرد الشيطان وأرضى الرحمن ففاز بسلامة ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك وحقق مشاهدة الصديق أسمع من ناجى فحاز غنيمة لو كشف الغطاء ما ازداد يقينا
رقيقة ذهب أبو بكر في السابقين ولحق عمر بأهل اليقين فما أدرك الصديق أداء التصلية حتى استدرك الفاروق قضاء التقفية
( ولو كنت في أهل اليمين منعما ... بكيت على ما فات من زمن الصبا )
حقيقة النص سلاح والنظر مطية والإتباع جنة والورع نجاة والخلاف فتنة والبدع مهالك وخير الأمور أوساطها
ومنه
حقيقة تخير المساعد واختبر المصاعد وليكن همك في سفرك منك معرفتك كيف ترجع إليك فلن يحقق صفة الربوبية من لم يتحقق نعت العبودية
رقيقة حدثت أن سيدي أبا الحسن الشاذلي لما أزمع على التحول من طيبة على من بها الصلاة والسلام أوقف فعله على إذن رسول الله له فرآه في منامه فقال توحشنا يا علي فأخذ يعتل فأذن له وقال إذا جئت مصر فاقرأ عز الدين بن عبد السلام مني السلام قال فلما التقينا بلغته المالكة سرا فلم تظهر نفسه لذلك فلما قام المزمزم قال
( صدق المحدث والحديث كما جرى ... وحديث أهل الحب ما لا يفترى )
فاستغفر الشيخ ثم كذب نفسه ثم حط للتسليم رأسه
حقيقة الوهم شيطان القلب يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وسائر الجهات لمراقبة ( قل هو القادر ) الأنعام 65 فمن ثم كان أشد تقلبا من المرجل على النار فإذا ذكر الله سكن ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) الرعد 28
رقيقة فرق القلب من ذكر الله خوف ( وجلت قلوبهم ) الحج 35 ثم سكن لذكره رجاء ( وتطمئن قلوبهم ) الرعد 28 فعاد داء تقشعر منه دواء ( ثم تلين ) فنعق بلائمه
( دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... )
ثم هتف بمنادمه
( وداوني بالتي كانت هي الداء ... )
حقيقة العبودية صفة نفسك لأنها حال أحد العبيد والعبودة صفة قلبك لأنها ملكة واحد العباد والعبادة قصد وجهك لأنها نعت الفردوس من العباد
ومنه
حقيقة إنما تزيد في الدنيا بقدر ما تنقص من الآخرة فإن تشييد الجدار على قدر انتقاص الجبل
رقيقة من جر لنفسه جار على قلبه فلا تجوز شهادته عند ربه لأن العدل من ترك العدول والميل
حقيقة لا تقدمن إلا بدليل وإذن واحذر ما لا ينفع ما استطعت فقد تم انظر فلا حرج إن جهلت ما لم تكلف علمه وأخاف عليك سوء عاقبة الهجوم
رقيقة إذا اهتز العرش بالسحر لدعاء أهل ( تتجافى جنوبهم ) السجدة 16 انبعث من نسيمه ما أغشاهم طيبه الراحة ( أمنة منه ) الأنفال 11 وأهب المستغفر من نومه لإدراك فضل ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) المائدة 119 والمجادلة 22 والبينة 8
حقيقة دع الغريب وما يريب واركب الجادة ولا تسلك بنيات الطريق ( فتفرق بكم عن سبيله ) الأنعام 153
ومنه
حقيقة سفر المريد تجارة وسفر العارف عمارة فهذا يرحل للإقامة عند الحقيقة وذاك يطلب الاستقامة على الطريقة
رقيقة إياك أيها المصلي لنا أن تلتفت إلى غيرنا وأقبل علينا بصدق نيتك وناجنا بخلوص سريرتك فقد قمنا بينك وبين قبلتك وناجيناك بلسان تلاوتك فإن غبت عنا فلست منا
حقيقة الشطح كناية والكرامة عناية والاعتراض جناية فإياك ولم فإن عرفت فاتبع وإن جهلت فسلم