كتاب : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني
بن رشيق في الاستدعاء الذي أجازني فيه ولمن ذكر معي
( أجزت لهم أبقاهم الله كل ما ... رويت عن الأشياخ في سالف الدهر )
( وما سمعت أذناي من كل عال ... م وما جاد من نظمي وما راق من نثري )
( على شرط أصحاب الحديث وضبطهم ... بريء عن التصحيف عار عن النكر )
( كتبت لهم خطي واسمي محمد ... أبو القاسم المكنى ما فيه من نكر )
( وجدي رشيق شاع في الغرب ذكره ... وفي الشرق أيضا فادر إن كنت لا تدري )
( ولى مولد من بعد عشرين حجة ... ثمان على الست المئين ابتدا عمري )
( وبالله توفيقي عليه توكلي ... له الحمد في الحالين في العسر واليسر )
ومولد أبي الحجاج المذكور سنة 662 وتوفي سنة 702 رحمه الله تعالى ! انتهى باختصار
165 - وممن ارتحل من الأندلس إلى المشرق شاعر الأندلس يحيى بن الحكم البكري الجياني الملقب بالغزال لجماله وهو في المائة الثالثة من بني بكر بن وائل قال ابن حيان في المقتبس كان الغزال حكيم الأندلس وشاعرها وعرافها عمر أربعا وتسعين سنة ولحق أعصار خمسة من الخلفاء المروانية بالأندلس أولهم عبد الرحمن بن معاوية وآخرهم الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم
ومن شعره
( أدركت بالمصر ملوكا أربعه ... وخامسا هذا الذي نحن معه )
وله على أسلوب ابن أبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب
( خرجت إليك وثوبها مقلوب ... ولقلبها طربا إليك وجيب )
( وكأنها في الدار حين تعرضت ... ظبي تعلل بالفلا مرعوب )
( وتبسمت فأتتك حين تبسمت ... بجمان در لم يشنه ثقوب )
( ودعتك داعية الصبا فتطربت ... نفس إلى داعي الضلال طروب )
( حسبتك في حال الغرام كعهدها ... في الدار إذ غصن الشباب رطيب )
( وعرفت ما في نفسها فضممتها ... فتساقطت بهنانة رعبوب )
( وقبضت ذاك الشيء قبضة شاهن ... فنزا إلي عضنك حلبوب )
( بيدي الشمال وللشمال لطافة ... ليست لأخرى والأديب أريب )
( فأصاب كفي منه حين لمسته ... بلل كماء الورد حين يسيب )
( وتحللت نفسي للذة رشحه ... حتى خشيت على الفؤاد يذوب )
( فتقاعس الملعون عنه وربما ... ناديته خيرا فليس يجيب )
( وأبى فحقق في الإباء كأنه ... جان يقاد إلى الردى مكروب )
( وتغضنت جنباته فكأنه ... كير تقادم عهده مثقوب )
( حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... قبسا وحان من الظلام ذهوب )
( ساءلتها خجلا أما لك حاجة ... عندي فقالت ساخر وحروب )
( قالت حر امك إذ أردت وداعها ... قرن وفيه عوارض وشعوب )
وذكرها ابن دحية بمخالفة لما سردناه قال عتبة التاجر وجهني الأمير الحكم وابنه عبد الرحمن إلى المشرق وعبد الله بن طاهر أمير مصر من قبل المأمون فلقيته بالعراق فسألني عن هذه هل أحفظها للغزال قلت نعم فاستنشدنيها فأنشدته إياها فسر بها وكتبها قال عتبة ونلت بها حظا عنده
والبهنانة المرأة الطيبة النفس والأرج كما في الصحاح وقيل اللينة في منطقها وعملها وقيل الضحاكة المتهللة والرعبوب السبطة البيضاء والسبطة الطويلة وقال سامحه الله تعالى
( سألت في النوم أبي آدما ... فقلت والقلب به وامق )
( ابنك بالله أبو حازم ... صلى عليك المالك الخالق )
( فقال لي إن كان مني ومن ... نسلي فحوا أمكم طالق )
وقال رضي الله تعالى عنه
( أرى أهل اليسار إذا توفوا ... بنوا تلك المقابر بالصخور )
( أبوا إلا مباهاة وفخرا ... على الفقراء حتى في القبور )
( فإن يكن التفاضل في ذراها ... فإن العدل فيها في القعور )
( رضيت بمن تأنق في بناء ... فبالغ فيه تصريف الدهور )
( ألما يبصروا ما خربته الدهور ... من المدائن والقصور )
( لعمر أبيهم لو أبصروهم ... لما عرف الغني من الفقير )
( ولا عرفوا العبيد من الموالي ... ولا عرفوا الإناث من الذكور )
( ولا من كان يلبس ثوب صوف ... من البدن المباشر للحرير )
( إذا أكل الثرى هذا وهذا ... فما فضل الكبير على الحقير )
وقال رضي الله تعالى عنه
( لا ومن أعمل المطايا إليه ... كل من يرتجي إليه نصيبا )
( ما أرى ههنا من الناس إلا ... ثعلبا يطلب الدجاج وذيبا )
( أو شبيها بالقط ألقى بعينيه ... إلى فارة يريد الوثوبا )
وقال رضي الله تعالى عنه
( قالت أحبك قلت كاذبة غري ... بذا من ليس ينتقد )
( هذا كلام لست أقبله ... الشيخ ليس يحبه أحد )
( سيان قولك ذا وقولك إن ... الريح نعقدها فتنعقد )
( أو أن تقولي النار باردة ... أو أن تقولي الماء يتقد )
وحكى أبو الخطاب بن دحية في كتاب المطرب أن الغزال أرسل إلى بلاد المجوس وقد قارب الخمسين وقد وخطه الشيب ولكنه كان مجتمع الأشد فسألته زوجة الملك يوما عن سنه فقال مداعبا لها عشرون سنة فقالت وما هذا الشيب فقال وما تنكرين من هذا ألم تري قط مهرا ينتج وهو أشهب فأعجبت بقوله فقال في ذلك واسم الملكة تود
( كلفت يا قلبي هوى متعبا ... غالبت منه الضيغم الأغلبا )
( إني تعلقت مجوسية ... تأبى لشمس الحسن أن تغربا )
( أقصى بلاد الله في حيث لا ... يلفي إليه ذاهب مذهبا )
( يا تود يا رود الشباب التي ... تطلع من أزرارها الكوكبا )
( يا بأبي الشخص الذي لا أرى ... أحلى على قلبي ولا أعذبا )
( إن قلت يوما إن عيني رأت ... مشبهه لم أعد أن أكذبا )
( قالت أرى فوديه قد نورا ... دعابة توجب أن أدعبا )
( قلت لها ما باله إنه ... قد ينتج المهر كذا أشهبا )
( فاستضحكت عجبا بقولي لها ... وإنما قلت لكي تعجبا )
قال ولما فهمها الترجمان شعر الغزال ضحكت وأمرته بالخضاب فغدا عليها وقد اختضب وقال
( بكرت تحسن لي سواد خضابي ... فكأن ذاك أعادني لشبابي )
( ما الشيب عندي والخضاب لواصف ... إلا كشمس جللت بضباب )
( تخفي قليلا ثم يقشعها الصبا ... فيصير ما سترت به لذهاب )
( لا تنكري وضح المشيب فإنما هو زهرة الأفهام والألباب )
( فلدي ما تهوين من شأن الصبا ... وطلاوة الأخلاق والآداب )
وحكى ابن حيان في المقتبس أن الأمير عبد الرحمن بن الحكم المرواني وجه شاعره الغزال إلى ملك الروم فأعجبه حديثه وخف على قلبه وطلب منه أن ينادمه فامتنع من ذلك واعتذر بتحريم الخمر وكان يوما جالسا عنده وإذا بزوجة الملك قد خرجت وعليها زينتها وهي كالشمس الطالعة حسنا فجعل الغزال لا يميل طرفه عنها وجعل الملك يحدثه وهو لاه عن حديثه فأنكر ذلك عليه وأمر الترجمان بسؤاله فقال له عرفه أني قد بهرني من حسن هذه الملكة ما قطعني عن حديثه فإني لم أر قط
مثلها وأخذ في وصفها والتعجب من جمالها وأنها شوقته إلى الحور العين فلما ذكر الترجمان ذلك للملك تزايدت حظوته عنده وسرت الملكة بقوله وأمرت الترجمان أن يسأله عن السبب الذي دعا المسلمين إلى الختان وتجشم المكروه فيه وتغيير خلق الله مع خلوه من الفائدة فقال للترجمان عرفها أن فيه أكبر فائدة وذلك أن الغصن إذا زبر قوي واشتد وغلظ وما دام لا يفعل به ذلك لا يزال رقيقا ضعيفا فضحكت وفطنت لتعريضه انتهى ومن شعر الغزال قوله
( يا راجيا ود الغواني ضلة ... وفؤاده كلف بهن موكل )
( إن النساء لكالسروج حقيقة ... فالسرج سرجك ريثما لا تنزل )
( فإذا نزلت فإن غيرك نازل ... ذاك المكان وفاعل ما تفعل )
( أو منزل المجتاز أصبح غاديا ... عنه وينزل بعده من ينزل )
( أو كالثمار مباحة أغصانها ... تدنو لأول من يمر فيأكل )
( أعط الشبيبة لا أبا لك حقها ... منها فإن نعيمها متحول )
( وإذا سلبت ثيابها لم تنتفع ... عند النساء بكل ما تستبدل )
وقال
( قال لي يحيى وصرنا ... بين موج كالجبال )
( وتولتنا رياح ... من دبور وشمال )
( شقت القلعين وابنتت ... عدى تلك الحبال )
( وتمطى ملك الموت ... إلينا عن حيال )
( فرأينا الموت رأي العين ... حالا بعد حال )
( لم يكن للقوم فينا ... يا رفيقي رأس مال )
منها
( وسليمى ذات زهد في ... زهيد في وصال )
( كلما قلت صليني ... حاسبتني بالخيال )
( والكرى قد منعته ... مقلتي أخرى الليالي )
( وهي أدرى فلماذا ... دافعتني بمحال )
( أترى أنا اقتضينا ... بعد شيئا من نوال )
وله
( من ظن أن الدهر ليس يصيبه ... بالحادثات فإنه مغرور )
( فالق الزمان مهونا لخطوبه ... وانجر حيث يجرك المقدور )
( وإذا تقلبت الأمور ولم تدم ... فسواء المحزون والمسرور )
وعاش الغزال أربعا وتسعين سنة وتوفي في حدود الخمسين والمائتين سامحه الله تعالى وكان الغزال أقذع في هجاء علي بن نافع المعروف بزرياب فذكر ذلك لعبد الرحمن فأمر بنفيه فدخل العراق وذلك بعد موت أبي نواس بمدة يسيرة فوجدهم يلهجون بذكره ولا يساوون شعر أحد بشعره فجلس يوما مع جماعة منهم فأزروا بأهل الأندلس واستهجنوا أشعارهم فتركهم حتى وقعوا في ذكر أبي نواس فقال لهم من يحفظ منكم قوله
( ولما رأيت الشرب أكدت سماؤهم ... تأبطت زقي واحتبست عنائي )
( فلما أتيت الحان ناديت ربه ... فثاب خفيف الروح نحو ندائي )
( قليل هجوع العين إلا تعلة ... على وجل مني ومن نظرائي )
( فقلت أذقنيها فلما أذاقها ... طرحت عليه ريطتي وردائي )
( وقلت أعرني بذلة أستتر بها ... بذلت له فيها طلاق نسائي )
( فوالله ما برت يميني ولا وفت ... له غير أني ضامن بوفائي )
( فأبت إلى صحبي ولم أك آئبا ... فكل يفديني وحق فدائي )
فأعجبوا بالشعر وذهبوا في مدحهم له فلما أفرطوا قال لهم خفضوا عليكم فإنه لي فأنكروا ذلك فأنشدهم قصيدته التي أولها
( تداركت في شرب النبيذ خطائي ... وفارقت فيه شيمتي وحيائي )
فلما أتم القصيدة بالإنشاد خجلوا وافترقوا عنه
وحكى أن يحيى الغزال أراد أن يعارض سورة ( قل هو الله أحد ) فلما رام ذلك أخذته هيبة وحالة لم يعرفها فأناب إلى الله فعاد إلى حاله
وحكي أن عباس بن ناصح الثقفي قاضي الجزيرة الخضراء كان يفد على قرطبة ويأخذ عنه أدباؤها ومرت عليهم قصيدته التي أولها
( لعمرك ما البلوى بعار ولا العدم ... إذا المرء لم يعدم تقى الله والكرم )
حتى انتهى القارئ إلى قوله
( تجاف عن الدنيا فما لمعجز ... ولا عاجز إلا الذي خط بالقلم )
فقال له الغزال وكان في الحلقة وهو إذ ذاك حدث نظام متأدب ذكي القريحة أيها الشيخ وما الذي يصنع مفعل مع فاعل فقال له كيف تقول فقال كنت أقول فليس لعاجز ولا حازم فقال له عباس والله يا بني لقد طلبها عمك فما وجدها
وأنشد يوما قوله من قصيدة
( بقرت بطون الشعر فاستفرغ الحشا ... بكفي حتى آب خاويه من بقري )
فقال له بكر بن عيسى الشاعر أما والله يا أبا العلاء لئن كنت بقرت الحشا لقد وسخت يديك بفرثه وملأتهما بدمه وخبثت نفسك بنتنه وخشمت أنفك بعرفه فاستحيا عباس وأفحم عن جوابه
166 - ومنهم الشهير بالمغارب والمشارق المحلي بجواهره صدور المهارق أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد العنسي متمم كتاب المغرب في أخبار المغرب قال فيه وأنا اعتذر في إيراد ترجمتي هنا بما اعتذر به ابن الإمام في كتاب سمط الجمان وربما اعتذر به الحجاري في كتاب المسهب وابن القطاع في الدرة الخطيرة وغيرهم من العلماء فمن نظمه عند ما ورد الديار المصرية
( أعترض الوجوه ولا أرى ... ما بينها وجها لمن أدريه )
( عودي على بدئي ضلالا بينهم ... حتى كأني من البقايا التيه )
( ويح الغريب توحشت ألحاظه ... في عالم ليسوا له بشبيه )
( إن عاد لي وطني اعترفت بحقه ... إن التغرب ضاع عمري فيه
وله من قصيدة يمدح ملك إفريقية أبا زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص
( الأفق طلق والنسيم رخاء ... والروض وشت برده الأنداء )
( والنهر قد مالت عليه غصونه ... فكأنما هو مقلة وطفاء )
( وبدا نثار الجلنار بصفحه ... فكأنما هو حية رقطاء )
( والشمس قد رقمت طرازا فوقه ... فكأنما هي حلة زرقاء )
( فأدر كؤوسك كي يتم لك المنى ... واسمع إلى ما قالت الورقاء )
( تدعوك حي على الصبوح فلا تنم ... فعلى المنام لدى الصباح عفاء )
وله
( كم جفاني ورمت أدعو عليه فتوقفت ثم ناديت قائل )
( لا شفى الله لحظه من سقام ... وأراني عذاره وهو سائل ) وله من قصيدة كتب بها إلى ملك سبتة الموفق أبي العباس أحمد بن أبي الفضل السبتي شافعا لشخص رغب في خدمته
( بالعدل قمت وبالسماح فدن وجد ... لا فارقتك كفاية وعطاء )
( ما كل من طلب السعادة نالها ... وطلاب ما يأبى القضاء شقاء )
ومنها
( وقد استطار بأسطري نحو الندى ... من أنهضته لنحوك العلياء )
( طلب النباهة في ذراك فما له ... إلا لديك تأمل ورجاء )
( وهو الذي بعد التجارب أحمدت ... أحواله وجرى عليه ثناء )
( لا يقرب الدنس المريب كواصل ... هجرته خوفا أن يشان الراء )
( قد مارس الحرب الزبون زمانه ... وجرت عليه شدة ورخاء )
( وعلاك تقضي أن يسود بأفقها ... لا غرو أن يعلي الشهاب بهاء )
وقوله من قصيدة
ألف التغرب والتوحش مثل ما ... ألف التوحش والنفور ظباء )
( حجابه ألفوا التهجم والجفا ... فهم لكل أخي هدى أعداء )
( مهما يرم طلب إليه تقربا ... بعدت بذاك البدر عنه سماء )
( لكنني ما زلت أخدع حاجبا ... ومراقبا حتى ألان حباء )
( والأرض لم تظهر محجب نبتها ... حتى حبتها الديمة الوطفاء )
قيل وهذا معنى لم يسمع من غيره وقوله في خسوف البدر
( شان الخسوف البدر بعد جماله ... فكأنه ماء عليه غثاء )
( أو مثل مرآة لخود قد قضت ... نظرا بها فعلا الجلاء غشاء )
وله من قصيدة عتاب يقول فيها
( ولقد كسبت بكم علا لكنها ... صارت بأقوال الوشاة هباء )
( فغدوت ما بين الصحابة أجربا ... كل يحاذر مني الأعداء )
( ولقد أرى أن النجوم تقل لي ... حجبا وأصغر أن أحل سماء )
( فليهجروا هجر الفطيم لدره ... ويساعدوا الزمن الخئون جفاء )
( فلقد شكوت لهم إحالة ودهم ... إذ لم أكن أرضى بهم خدماء )
( إيه فذكرهم أقل وإنما ... أومي إليك فتفهم الإيماء )
( لو لم يكن قين لما فتكت ظبا ... أنت الذي صيرتهم أعداء )
( ولو أنني أرجو ارتجاعك لم أطل ... شكوى ولم أستبعد الإغضاء )
( لكن رأيتك لا تميل سجية ... نحوي ولا تتكلف الإصغاء )
( إن لم يكن عطف فمنوا بالنوى ... إن الكريم إذا أهين تناءى )
وقوله
( ولكم سرينا في متون ضوامر ... تثني أعنتها من الخيلاء )
( من ادهم كالليل حجل بالضحى ... فتشق غرته عن ابن ذكاء )
( أو أشهب يحكي غدائر أشيب ... خلعت عليه الشهب فضل رداء )
( أو أشقر قد نمقته بشعلة ... كالمزج ثار بصفحة الصهباء )
( أو أصفر قد زينته غرة ... حتى بدا كالشمعة الصفراء )
( طارت ولكن لا يهاض جناحها ... هبت ولكن لم تكن برخاء )
وقوله من أبيات في افتضاض بكر
( وخريدة ما إن رأيت مثالها ... حيت من الألحاظ بالإيماء )
( فسألتها سمع الشكاة فأفهمت ... أن الرقيب جهينة الأنباء )
وتبعتها وسألت منها قبلة ... في خلوة من أعين الرقباء )
( فثنت علي قوامها بتعانق ... أحيا فؤادا مات بالبرحاء )
( ووجدتها لما ملكت عنانها ... عذراء مثل الدرة العذراء )
جاءت إلي كوردة حمراء ... فتركتها كعرارة صفراء )
( وسلبتها ما احمر منها صفوه ... فجرى مذابا منجحا لرجائي )
وقوله من أبيات
( أحبابنا عودوا علينا عودة ... ما منكم بعد التفرق مرغب )
( كم ذا أداريكم بنفسي جاهدا ... وكأنما أرضيكم كي تغضبوا ... وأزيد بعدا ما اقتربت إليكم ... كالسهم أبعد ما يرى إذ يقرب )
( وأجوب نحوكم المنازل جاهدا ... ومع اجتهادي فاتني ما أطلب )
( كالبدر أقطع منزلا في منزل ... فإذا انتهيت إلى ذراكم أغرب )
وقوله من أبيات
( سألتك يا من يستلان فيصعب ... ومن يترضى بالحياة فيغضب )
( أما خدك البدر المنير فلم غدت ... تحل به ضد القضية عقرب )
وقوله وقد داعبه أحد الفقهاء وسرق سكينه من حرز
( أيا سارقا ملكا مصونا ولم يجب ... على يده قطع وفيه نصاب )
( ستندبه الأقلام عند عثارها ... ويبكيه إن يعد الصواب كتاب )
وقوله في تفاحة عنبر أهديت للملك الصالح نجم الدين أيوب
( أنا لون الشباب والخال أهديت ... لمن قد كسا الزمان شبابا )
( ملك العالمين نجم بني أيوب ... لا زال في المعالي شهابا )
( جئت ملأى من الثناء عليه ... من شكور إحسانه والثوابا )
( لست ممن له خطاب ولكن ... قد كفاني أريج عرفي خطابا )
وقوله من قصيدة
( فالحمد لله على ساعة ... قد قربتني من علا الصاحب )
( ولعيذر المولى على أنني ... قد كنت من علياه في جانب )
كمن أتى نافلة أولا ... ثم أتى من بعد بالواجب )
وقوله من أبيات
( فإن كنت في أرض التغرب غاربا ... فسوف تراني طالعا فوق غارب )
( فصمصام عمرو حين فارق كفه ... رموه ولا ذنب لعجز المضارب )
( وما عزة الضرغام إلا عرينه ... ومن مكة سادت لؤي بن غالب )
وقوله في فرس أصفر أغر أكحل الحلية
( وأجرد تبري أثرت به الثرى ... وللفخر في خصر الظلام وشاح )
( له لون ذي عشق وحسن معشق ... لذلك فيه دلة ومراح )
( عجبت له وهو الأصيل بعرفه ... ظلام وبين الناظرين صباح )
( يقيد طير اللحظ والوحش عندما ... يطير به نحو النجاح جناح )
وقوله من أبيات
( إذا ما غراب البين صاح فقل له ... ترفق رماك الله يا طير بالبعد )
( لأنت على العشاق أقبح منظرا ... وأكره في الأبصار من ظلمة اللحد )
( تصيح بنوح ثم تعثر ماشيا ... وتبرز في ثوب من الحزن مسود )
( متى لحت صح البين وانقطع الرجا ... كأنك من وشك الفراق على وعد )
وقوله في غلام جميل الصورة أهدى تفاحة
( ناب ما أهديت عن عر ف ... وعن ريق وخد )
( حبذا تفاحة قد ... أشبهت أوصاف مهدي )
( بت منها في سرور ... فكأن قد بت عندي )
وقوله من قصيدة
( هذا الذي يهب الدنيا بأجمعها ... وبعد ذلك يلفى وهو يعتذر )
( إن هزه المدح فالأموال في بدد ... والغصن ما هز إلا بدد الثمر )
( فقلت لما بدا لي حسن منظره ... لكنه زاد إشراقا هو القمر )
( متع لحاظك في وجه بلا ضرر ... إن كان شمسا يداه تحتها مطر )
وقوله من أبيات
( لي جيرة ضنوا علي وجاروا ... فنبت بي الأوطان والأوطار )
( ومن العجائب أنني مع جورهم ... ما قر لي بعد الفراق قرار )
( أنا شاعر أهوى التخلي دون ما ... زوج لكيما تخلص الأفكار )
( لو كنت ذا زوج لكنت منغصا ... في كل حين رزقها أمتار )
( دعني أرح طول التغرب خاطري ... حتى أعود ويستقر قرار )
( كم قائل لي قد ضاع شرخ شبابه ... ما ضيعته بطالة وعقار )
( إذ لم أزل في العلم أجهد دائما ... حتى تأتت هذه الأبكار )
( مهما أرم من دون زوج لم أكن ... كلا ورزقي دائما مدرار )
( وإذا خرجت لفرجة هنيتها ... لا صنعة ضاعت ولا تذكار )
وقوله من قصيدة
( ما كنت أحسب أن أضيع وأنت في الدنيا ... وأن أمسي غريبا معسرا )
( أنا مثل سهم سوف يرجع بعدما ... أقصاه راميه المجيد ليخبرا )
وقوله سامحه الله تعالى
( وافى علي لنا بسيف ... والبين قد حان والوداع )
( فقال شبه فقلت شمس ... قد مد من نورها شعاع )
وقوله من قصيدة في ملك إشبيلية الباجي وقد هزم ابن هود
( لله فرسان غدت راياتهم ... مثل الطيور على عداك تحلق )
( السمر تنقط ما تسطر بيضهم ... والنقع يترب والدماء تخلق )
وقال ارتجالا بمحضر زكي الدين بن أبي الإصبغ وجمال الدين أبي الحسين الجزار المصري الشاعر ونجم الدين بن إسرائيل الدمشقي بظاهر القاهرة وقد مشى أحدهم على بسيط نرجس
( يا واطئ النرجس ما تستحي ... أن تطأ الأعين بالأرجل )
فتهافتوا بهذا البيت وراموا إجازته فقال ابن أبي الإصبع مجيزا
( فقلت دعني لم أزل محرجا ... على لحاظ الرشإ الأكحل )
( وكان أمثل ما حضرهم ثم أبوا أن يجيزه غيره فقال
( قابل جفونا بجفون ولا ... تبتذل الأرفع بالأسفل )
وقوله في الجزيرة الصالحية بمصر وهي الشهيرة الآن بالروضة
( تأمل لحسن الصالحية إذ بدت ... مناظرها مثل النجوم تلالا )
( وللقلعة الغراء كالبدر طالعا ... تفجر صدر الماء عنه هلالا )
( ووافى إليها النيل من بعد غاية ... كما زار مشغوف يروم وصالا )
( وعانقها من فرط شوق بحسنها ... فمد يمينا نحوها وشمالا )
( جرى قادما بالسعد فاخنط حولها ... من السعد إعلاما بذلك دالا )
وقوله من أبيات في ملك إفريقية وقد جهز ولده الأمير أبا يحيى بعسكر
( وقد أرسلته نحو الأعادي ... كما جردت من غمد حساما )
وقوله في قوس
( أنا مثل الهلال في ظلم النقع ... سهامي تنقض مثل النجوم )
( تقصر القضب والقنا عن مجالي ... عند رجمي بها لكل رجيم )
( قد كستها الطيور لما رأتها ... كافلات لها برزق عميم )
وقوله من أبيات
( وأشقر مثل البرق لونا وسرعة ... قصدت عليه عارض الجود فانهمى )
( ولنذكر ترجمته من الإحاطة ملخصة فنقول قال لسان الدين علي بن موسى بن عبد الملك بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر بن كنانة بن قيس بن الحصين العنسي المدلجي من أهل قلعة يحصب غرناطي قلعي سكن تونس أبو الحسن ابن سعيد وهذا الرجل وسطى عقد بيته وعلم أهله ودرة قومه المصنف الأديب الرحالة الطرفة
الأخباري العجيب الشأن في التجول في الأقطار ومداخلة الأعيان والتمتع بالخزائن العلمية وتقييد الفوائد المشرقية والمغربية أخذ من أعلام إشبيلية كأبي علي الشلوبين وأبي الحسن الدباج وابن عصفور وغيرهم وتواليفه كثيرة منها المرقصات والمطربات والمقتطف من ازاهر الطرف والطالع السعيد في تاريخ بني سعيد تاريخ بلده وبيته والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار وهما المغرب في حلى المغرب والمشرق في حلى المشرق وغير ذلك مما لم يتصل إلينا فلقد حدثني الوزير أبو بكر بن الحكيم أنه تخلف كتابا يسمى المرزمة يشتمل على وقر بعير من رزم الكراريس لا يعلم ما فيه من الفوائد الأدبية والأخبارية إلا الله تعالى وتعاطى نظم الشعر في حد من الشبيبة يعجب فيه من مثله فيذكر أنه خرج مع أبيه إلى إشبيلية وفي صحبته سهل بن مالك فجعل سهل بن مالك يباحثه عن نظمه إلى أن أنشده في صفة نهر والنسيم يردده والغصون تميل عليه
( كأنما النهر صفحة كتبت ... أسطرها والنسيم ينشئها )
( لما أبانت عن حسن منظرها ... مالت عليها الغصون تقرؤها )
فطرب وأثنى عليه ثم ناب عن أبيه في أعمال الجزيرة ومازج الأدباء ودون كثيرا من نظمه ودخل القاهرة فصنع له أدباؤها صنيعا في ظاهرها وانتهت بهم الفرجة إلى روض نرجس وكان فيهم أبو الحسين الجزار فجعل يدوس النرجس برجله فقال أبو الحسن
( يا واطىء النرجس ما تستحي ... أن تطأ الأعين بالأرجل )
فتهافتوا بهذا البيت وراموا إجازته فقال ابن أبي الأصبغ
( فقال دعني لم أزل محنقا ... على لحاظ الرشإ الأكحل )
وكان أمثل ما حضرهم ثم أبوا أن يجيزه غيره فقال
( قابل جفونا بجفون ولا ... تبتذل الأرفع بالأسفل )
ثم استدعاه سيف الدين ابن سابق إلى مجلس بضفة النيل مبسوط بالورد وقد قامت حوله شمامات نرجس فقال في ذلك
( من فضل النرجس فهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يرأس )
( أما ترى الورد غدا قاعدا ... وقام في خدمته النرجس )
ووافق ذلك مماليك الترك وقوفا في الخدمة على عادة المشارقة فطرب الحاضرون
ولقي بمصر أيدمر التركي والبهاء زهيرا وجمال الدين بن مطروح وابن يغمور وغيرهم ورحل صحبة كمال الدين بن العديم إلى حلب فدخل على الناصر صاحب حلب فأنشده قصيدة أولها
( جد لي بما ألقي الخيال من الكرى ... لا بد للضيف الملم من القرى )
فقال كمال الدين هذا رجل عارف ورى بمقصوده من أول كلمة وهي قصيدة طويلة فاستجلسه السلطان وسأله عن بلاده ومقصوده برحلته وأخبره أنه جمع كتابا في الحلى البلادية والعلى العبادية المختصة بالمشرق وأخبره أنه سماه المشرق في حلى المشرق وجمع مثله فسماه المغرب في حلى المغرب فقال نعينك بما عندنا من الخزائن ونوصلك إلى ما ليس
عندنا كخزائن الموصل وبغداد وتصنف لنا فخدم على عادتهم وقال أمر مولاي بذلك إنعام وتأنيس ثم قال له السلطان مداعبا إن شعراءنا ملقبون بأسماء الطيور وقد اخترت لك لقبا يليق بحسن صوتك وإيرادك للشعر فإن كنت ترضى به وإلا لم نعلم به أحدا غيرنا وهو البلبل فقال قد رضي المملوك يا خوند فتبسم السلطان وقال له أيضا يداعبه اختر واحدة من ثلاث إما الضيافة التي ذكرتها أول شعرك وإما جائزة القصيدة وإما حق الإسم فقال يا خوند المملوك مما لا يختنق بعشر لقم لأنه مغربي أكول فكيف بثلاث فطرب السلطان وقال هذا مغربي ظريف ثم أتبعه من الدنانير والخلع المملوكية والتواقيع بالأرزاق ما لا يوصف ولقي بحضرته عون الدين العجمي وهو بحر لا تنزفه الدلاء والشهاب التلعفري والتاج ابن شقير وابن نجيم الموصلي والشرف بن سليمان الإربلي وطائفة من بني الصاحب ثم تحول إلى دمشق ودخل الموصل وبغداد ودخل مجلس السلطان المعظم بن الملك الصالح بدمشق وحضر مجلس خلوته وكان ارتحاله إلى بغداد في عقب سنة ثمان وأربعين وستمائة في رحلته الأولى إليها ثم رحل إلى البصرة ودخل أرجان وحج ثم عاد إلى المغرب وقد صنف في رحلته مجموعا سماه بالنفحة المسكية في الرحلة المكية وكان نزوله بساحل مدينة إقليبية من إفريقية في إحدى جمادى سنة اثنتين وخمسين وستمائة واتصل بخدمة الأمير أبي عبد الله المستنصر فنال الدرجة الرفيعة من حظوته
حدثني شيخنا الوزير أبو بكر بن الحكيم أن المستنصر جفاه في آخر عمره وقد أسن لجراء خدمة مالية أسندها إليه وقد كان بلا منه قبل جفوة أعقبها انتشال وعناية فكتب إليه بنظم من جملته
( لا ترعني بالجفا ثانية ... ) فرق له وعاد إلى حسن النظر إليه إلى أن توفي تحت بر وعناية
مولده بغرناطة ليلة الفطر سنة عشر وستمائة ووفاته بتونس في حدود خمسة وثمانين وستمائة انتهى باختصار وذكرت حكاية إجازة بيته في النرجس وإن تقدمت لاتصال الكلام قلت قد كنت وقفت على بعض ديوان شعره المتعدد الأسفار ونقلت منه قوله من قصيدة يهنىء ابن عمه الرئيس أبا عبد الله بن الحسين بقدومه من حركة هوارة
( أما واجب أن لا يحول وجيب ... وقد بعدت دار وخان حبيب )
( وليس أليف غير ذكر وحسرة ... ودمع على من لا يرق صبيب )
( وخفق فؤاد إن هفا البرق خافقا ... وشوق كما شاء الهوى ونحيب )
( ويعذلني من ليس يعرف ما الهوى ... وعذل مشوق في البكاء عجيب )
( ألا تعس اللوام في الحب قد عموا ... وصموا ودائي ليس منه طبيب )
( يرومون أن يثني الملام صبابتي ... وليس إلى داعي الملام أجيب )
( وفائي إذا ما غبت عنكم مجدد ... وغيري ذو غدر أوان يغيب )
( ولو لم يكن مني الوفاء سجية ... لكنت لغير ابن الحسين أنيب )
( سموأل هذا العصر حاتم جوده ... مهلبه إن مارسته حروب )
( فتى سير الأمداح شرقا ومغربا ... أبو دلف من دونه وخصيب )
( إذا رقم القرطاس قلت ابن مقلة ... وإن نظم الأشعار قلت حبيب )
( وإن نثر الأسجاع قلت سميه ... وإن سرد التاريخ قلت عريب )
( وما أحرز الصولي آدابه التي ... إذا ما تلاها لم يجبه أديب )
ومنها
( وأما إذا ما الحرب أخمد نارها ... ففيه تلظي مارج ولهيب )
( فكم قارع الأبطال في كل وجهة ... نحاها وكم لفت عليه حروب )
( وكائن له بالغرب من موقف له ... حديث إذا يتلى تطير قلوب )
( بمراكش سل عنه تعلم غناءه ... وقد ساءهم يوم هناك عصيب )
( إذا ما ثنى الرمح الطويل كأنه ... مدير لغصن الخيزران لعوب )
( وإن جره أبصرت نجما مجررا ... ذؤابته منه الكماة تذوب )
( يهيم به ما إن يزال معانقا له ... راكعات ما تحوز كعوب )
( محمد لا تبد الذي أنت قادر ... عليه وخف عينا علاك تصيب )
( نفوذ سهام العين أودى بمصعب ... وطاح به بعد الشبوب شبيب )
( ألا فهنيئا أن رجعت لتونس ... فأطلعت شمسا والسفار غروب )
( كواكبها تبدو إذا ما تركتها ... وقد جعلت مهما حضرت تغيب )
( إذا سدت في أرض فغيرك تابع ... علاك ومهما ساد فهو مريب )
قراءة المظالم فانفردت بالكتابة للوزير المذكور وفوض إلي جميع أموره وأولاني من التأنيس ما أنساني تلك الوحشة ومن العز ما أنقذني من تلك الذلة
( فرد علي العيش بعد ذهابه ... وآنسني بعد انفرادي من الأهل )
( وقال إذا ما الطويل فاتك فاقتنع ... بما قد تسنى عندك الآن من طل )
( ووالله ما نعماه طل وإنما ... تأدبه غيث بجود على الكل )
( رآني أظمأ في الهجيرة ضاحيا ... فرق وآواني إلى الماء والظل )
ولم أزل عنده في أسر حال ما لها تكدير إلا ما يبلغني من أن ابن عمي لا يزال يسعى في حقي بما أخشى مغبته وخفت أن يطول ذلك فيسمع منه ولا ينفع دفاع الوزير المذكور عني فرغبت له في أن يرفع للملك أني راغب في السراح إلى المشرق برسم الحج
( ومن بله الغيث في بطن واد ... وبات فلا يأمنن السيولا )
فلم يسعفني في ذلك ولامني على تخوفي وقلة ثقتي بحمايته فرفعت له هذه القصيدة
( هل الهجر إلا أن يطول التجنب ... ويبعد من قد كان منه التقرب )
( وتقطع رسل بيننا ورسائل ... ويمنع لقيانا نوى وتحجب )
( ولو أنني أدري لنفسي زلة ... جعلت لكم عذرا ولم أك أعتب )
( ولكنكم لما مللتم هجرت ... م وذنبتم في الحب من ليس يذنب )
( إلى الله أشكو غدركم وملالكم ... وقلبا له ذاك التعذب يعذب )
( فلو أنه يجزيكم بفعالكم ... لكان له عنكم مراد ومذهب )
ومنها
( كفاني أني أستظل بظلكم ... ومن هاب ذاك المجد فهو مهيب )
( فأصلك أصلي والفروع تباينت ... بعيد على من رامه وقريب )
( وحسبي فخرا أن أقول محمد ... نسيب علي جل منه نصيب )
( تركت جميع الأقربين لقصده ... على حين حانت فتنة وخطوب )
( رأيت به جنات عدن فلم أبل ... إذا وصلتنا للخلود شعوب )
( فقبلت كفا لا أعاب بلثمها ... وأيدي الأيادي لثمهن وجوب )
( وكيف وليس الرأس كالرجل فرقت ... شيات لعمري بيننا وضروب )
( ولو كان قدري مثل قدرك في العلا ... لحق بأن يعلو الشباب مشيب )
( ولولا الذي أسمعت من مكر حاسد ... أتاك بقول وهو فيه كذوب )
( لما كنت محتاجا لقولي آنفا ... تخليت من ذنب وجئت أتوب )
( إذا كنت ذا طوع وشكر وغبطة ... فمن أين لي يا ابن الكرام ذنوب )
( لقد كنت معتادا ببشر فما الذي ... تقلدته حتى يزال قطوب )
( أإن رفع السلطان سعيي بقدركم ... أحلأ عن ورد لكم وأخيب )
( فأحسب ذنبي ذنب صحر بدارها ... ألي البر عند الخابرين معيب )
( وحاشاك من جور علي وإنما ... أخاطب من أصفى له فيشوب )
( صحاب هم الداء الدفين فليتني ... ولم أدن منهم للذئاب صحوب )
( كلامهم شهد ولكن فعلهم ... كسم له بين الضلوع دبيب )
( سأرحل عنهم والتجارب لم تدع ... بقلبي لهم شيئا عليه أثيب )
( إذا اغترب الإنسان عمن يسوءه ... فما هو في الإبعاد عنه غريب )
( فدارك برأب منك ما قد خرقته ... ليحسن مني مشهد ومغيب )
( ولا تستمع قول الوشاة فإنما ... عدوهم بين الأنام نجيب )
( فيا ليت أني لم أكن متأدبا ... ولم يك لي أصل هناك رسوب )
( وكنت كبعض الجاهلين محببا ... فما أنا للهم الملم حبيب )
( وما إن ضربت الدهر زيدا بعمره ... ولم يك لي بين الكرام ضريب )
( أأشكوك أم أشكو إليك فما عدت ... عداتي حتى حان منك وثوب )
( سأشكر ما أولى وأصبر للذي ... توالى على أن العزاء سليب )
( فدم في سرور ما بقيت فإنني ... وحقك مذ دب الوشاة كئيب )
قال وكان سبب التغير بيني وبين ابن عمي الرئيس المذكور أن ملك إفريقية استوزر لأشغال الموحدين أبا العلاء إدريس بن علي بن أبي العلاء بن جامع فاشتمل علي وأولاني من البر ما قيدني وأمال قلبي إليه مع تأكيد ما بينه وبين ابن عمي من الصحبة فلم يزل ينهض بي ويرفع أمداحي للملك ويوصل إليه رسائلي منبها على ذلك مرشحا إلى أن قبض الملك على كاتب عسكره وكان يقرأ بين يديه كتب المظالم فاحتيج إلى من يخلفه في ذلك فنبه الوزير علي وارتهن في مع أني كنت من كتاب الملك فقلدني قراءة المظالم المذكورة وسفر لي الوزير عنده في دار الكاتب المؤخر فأنعم بها فوجد الوشاة مكانا متسعا للقول فقالوا وزوروا من الأقاويل المختلفة ما مال بها حيث مالوا وظهر منه مخايل التغيير فجعلت أداريه وأستعطفه فلم ينفع فيه قليل ولا كثير إلى أن يسعى في تأخير والدي عن الكتب للأمير الأسعد أبي يحيى ابن ملك إفريقية ثم سعى في تأخيري فأخرت عن الكتابة وعن
ولكن أبى
( أن لا يحن لغيركم ... وأن لا يرى عنكم مدى الدهر مذهب )
( فهلا رعيتم أنه في ذراكم ... غريب وليس الموت إلا التغرب )
( لزمتك لما أن رأيتك كاملا ... جمالا وإجمالا وذاك يحبب )
( وإني لأخشى أن يطول اشتكاؤه ... لمن إن أتى مكرا فليس يثرب )
( فلم أسع إلا لارتياح وراحة ... وغيري وقد آواه غيرك يتعب )
( فأنت الذي آويتني ورحمتن ... ي وذو الرحم الدنيا لناري يحطب )
( فما مر يوم لا يريد مصيبة ... عليك وبالتدبير منك يخيب )
( وهبه ثبوتا لا تحيل أما ترى ... مجر حبال في الحجارة يرسب )
( وهبه له سدا فكم أنت حاضر ... أحاذر خرقا منه أن يتسببوا )
( وإما إن أرى إلا الفرار مخلصا ... وما راغب في الضيم من عنه يرغب )
( فأنه إلى الأمر العلي شكيتي ... وأن خطوب الدهر نحوي تخطب )
( ولا تطمعوني في الذي لست نائلا ... فلا أنا عرقوب ولا أنا أشعب )
( ألا فلتمنوا بالسراح فإنه ... لراحة من يشقى لديكم وينصب )
( سلوا الكأس عني إذ تدار فإنني ... لأتركها هما ودمعي أشرب )
( ولا أسمع الألحان حين تهزني ... ولو كان نوحا كنت أصغي وأطرب )
( فديتكم كم ذا أهون بأرضكم ... أهذا جزاء للذي يتغرب )
( أبخل علي أن ما سواك يصيخ لي ... فهل لي مما كدر العيش مهرب )
( تقلص عني كل ظل ولم أجد ... كما كنت ألقى من أود وأصحب )
( أذو طمع في العيش يبقى وحوله ... مدى الدهر أفعى لا تزال وعقرب )
( أجزني لأنجو بالفرار فإنه ... وحقك من نعماك عندي يحسب )
( فلا زلت يا خير الكرام مهنأ ... فعيشي منه الموت أشهى وأطيب )
( وصانك من قد صنت في حقه دمي ... وغيرك من ثوب المروءة يسلب )
ولم يزل الوزير - لا أزال الله عنه رضاه يحمى جانبي إلى أن أصابتني فيه العين فأصابه الحين فقلت في ذلك
( وطيب نفسي أنه مات عندما ... تناهى ولم يشمت به كل حاسد )
( ويحكم فيه كل من كان حاكما ... عليه ويعطى الثأر كل معاند )
وقلت أرثيه
( بكت لك حتى الهاطلات السواكب ... وشقت جيوبا فيك حتى السحائب )
( فكيف بمن دافعت عنه ومن به ... أحاطت وقد بوعدت عنه المصائب )
( ألا فانظروا دمعي فأكثره دم ... ولا تذهبوا عني فإني ذاهب )
( وقولوا لمن قد ظل يندب بعده ... وفاؤك لو قامت عليك النوادب )
( لعمرك ما في الأرض واف بذمة ... أيصمت إدريس ومثلي يخاطب )
( دعوتك يا من لا أقوم بشكره ... فهل أنت لي بعد الدعاء مجاوب )
( أيا سيدا قد حال بيني وبينه ... تراب حوت ذكراك منه الترائب )
( لمن أشتكي إن جار بعدك ظالم ... علي وإن نابت جنابي النوائب )
( لمن أرتجي عند الأمير بمنطق ... تحف به حولي المنى والمواهب )
وهي طويلة ومنها قبيل الختم
( وقد كنت أختار الترحل قبل أن ... يصيبك سهم للمنية صائب )
( ولكن قضاء الله من ذا يرده ... فصبرا فقد يرضى الزمان المغاضب )
ومنها هو
آخرها
( وإني لأدري أن في الصبر راحة ... إذا لم تكن فيه علي مثالب )
( وإن لم يؤب من كنت أرجو انتصاره ... عليك فلطف الله نحوي آيب )
قال رحمه الله تعالى ولما قدمت مصر والقاهرة أدركتني فيهما وحشة وأثار لي تذكر ما كنت أعهد بجزيرة الأندلس من المواضع المبهجة التي قطعت بها العيش غضاخصيبا وصحبت بها الزمان غلاما ولبست الشباب قشيبا فقلت
( هذه مصر فأين المغرب ... مذ نأى عني دموعي تسكب )
( فارقته النفس جهلا إنما ... يعرف الشيء إذا ما يذهب )
( أين حمص أين أيامي بها ... بعدها لم ألق شيئا يعجب )
( كم تقضى لي بها من لذة ... حيث للنهر خرير مطرب )
( وحمام الأيك تشدو حولنا ... والمثاني في ذراها تصخب )
( أي عيش قد قطعناه بها ... ذكره من كل نعمى أطيب )
( ولكم بالمرج لي من لذة ... بعدها مالعيش عندي يعذب )
( والنواعير التي تذكارها ... بالنوى عن مهجتي لا تسلب )
( ولكم في شنتبوس من منى ... قد قضيناه ولا من يعتب )
( حيث هاتيك الشراجيب التي ... كم بها من حسن بدر معصب )
( وغناء كل ذي فقر له ... سامع غصبا ولا من يغصب )
( بلدة طابت ورب غافر ... ليتني ما زلت فيها أذنب )
( أي حسن النيل من نهر بها ... كل نغمات لديه تطرب )
( كم به من زورق قد حله ... قمر ساق وعود يضرب )
( لذة الناظر والسمع على ... شم زهر وكؤوس تشرب )
( كم ركبناها فلم تجمح بنا ... ولكم من جامح إذ يركب )
( طوعنا حيث اتجهنا لم نجد ... تعبا منها إذا ما نتعب )
( قد أثارت عثيرا يشبهه ... نثر سلك فوق بسط ينهب )
( كلما رشنا لها أجنحة ... من قلاع ظلت منها تعجب )
( كطيور لم تجد ريا لها ... فبدا للعين منها مشرب )
( بل على الخضراء لا أنفك من زفرة ... في كل حين تلهب )
( حيث للبحر زئير حولها ... تبصر الأغصان منه ترهب )
( كم قطعنا الليل فيها مشرقا ... بحبيب ومدام يسكب )
( وكأن البحر ثوب أزرق ... فيه للبدر طراز مذهب )
( وإلى الحور حنيني دائما ... وعلى شنيل دمعي صيب )
( حيث سل النهر عضبا وانثنت ... فوقه القضب وغنى الربرب )
( وتشفت أعين العشاق من ... حور عين بالمواضي تحجب )
( ملعب للهو مذ فارقته ... ما ثناني نحو لهو ملعب )
( وإلى مالقة يهفو هوى ... قلب صب بالنوى لا يقلب )
( أين أبراج بها قد طالما ... حث كأسي في ذراها كوكب )
( حفت الأشجار عشقا حولنا ... تارة تنأى وطورا تقرب )
( جاءت الريح بها ثم انثنت ... أتراها حذرت من ترقب )
( وعرضك مبذول وعقلك تالف ... وجسمك مسلوب ومالك ينهب )
( فقلت لهم عرضي وعقلي والعلا ... وفخري لا أرضى بها حين يغضب )
( جنون أبى أن لا يلين لعازم ... بسحر بآيات الرقى ليس يذهب )
( فقالوا ألا قد خان عهدك قلت لم ... يخن من إذا قربته يتقرب )
( وكم دونه من صارم ومثقف ... فيا من رأى بدرا بهذين يحجب )
( على أنه يستسهل الصعب عندما ... يزور فلا يجدي حمى وترقب )
( وكم حيلة تترى على إثر حالة ... وذو الود من يحتال أو يتسبب )
( على أنه لو خان عهدي لم أزل ... له راعيا والرعي للصب أوجب )
( فأين زمان لم يخني ساعة ... به وهو مني في التنعم أرغب )
( ولا فيه من بخل ولا بي قناعة ... كلانا بلذات التواصل معجب )
( ويا رب يوم لا أقوم بشكره ... على أنني مازلت أثني وأطنب )
( على نهر شنيل وللقضب حولنا ... منابر مازالت بها الطير تخطب )
( وقد قرعت منه سبائك فضة ... خلال رياض بالأصيل تذهب )
( شربنا عليها قهوة ذهبية ... غدت تشرب الألباب أيان تشرب )
( كأن ياسمينا وسط ورد تفتحت ... أزاهره أيان في الكأس تسكب )
( إذا ما شربناها لنيل مسرة ... تبسم عن در لها فتقطب )
( أتت دونها الأحقاب حتى تخالها ... سرابا بآفاق الزجاجة يلعب )
( نعمنا بها واليوم قد رق برده ... إلى أن رأينا الشمس عنا تغرب )
( فقالوا ألا هاتوا السراج فكل من ... درى قدر ما في الكأس أقبل يعجب )
( وقال ألا تدرون ما في كؤوسكم ... فلا كأس إلا وهو في الليل كوكب )
( كواكب أمست بين شرب ولم نخل ... بأن النجوم الزهر تدنو وتغرب )
( وعلى مرسية أبكي دما ... منزل فيه نعيم معشب )
( مع شمس طلعت في ناظري ثم صارت في فؤادي تغرب )
( هذه حالي وأما حالتي ... في ذرا مصر ففكر متعب )
( سمعت أذني محالا ليتها ... لم تصدق ويحها من يكذب )
( وكذا الشيء إذا غاب انتهوا ... فيه وصفا كي يميل الغيب )
( ها أنا فيها فريد مهمل ... وكلامي ولساني معرب )
( وأرى الألحاظ تنبو عندما ... أكتب الطرس أفيه عقرب )
( وإذا أحسب في الديوان لم ... يدر كتابهم ما أحسب )
( وأنادي مغربيا ليتني ... لم أكن للغرب يوما أنسب )
( نسب يشرك فيه خامل ... ونبيه أين منه المهرب )
( أتراني ليس لي جد له ... شهرة أو ليس يدرى لي أب )
( سوف أثنى راجعا لأ غرني ... بعد ما جربت برق خلب )
وقال بقرمونة متشوقا إلى غرناطة
( أغثني إذا غنى الحمام المطرب ... بكأس بها وسواس فكري ينهب )
( ومل ميلة حتى أعانق أيكة ... وألثم ثغرا فيه للصب مشرب )
( ولم أر مرجانا ودرا خلافه ... يطيف به ورد من الشهد أعذب )
( فديتك من غصن تحمله نقا ... تطلع أعلاه صباح وغيهب )
( وجنته جنات عدن وفي لظى ... فؤادي وما لي من ذنوب تعذب )
( ويعذلني العذال فيه وإنني ... لأعصي عليه من يلوم ويعتب )
( لقد جهلوا هل عن حياتي أنثني ... إذا نمقوا أقوالهم وتألبوا )
( يقولون لي قد صار ذكرك مخلقا ... وأصبح كل في هواه يؤنب )
( ظللنا عليها عاكفين وليلنا ... نهار إلى أن صاح بالأيك مطرب )
( فلم نثن عن دين الصبوح عناننا ... إلى أن غدا من ليس يعرف يندب )
( صرعنا فأمسى يحسب السكر قد قضى ... علينا وذاك السكر أشهى وأعجب )
( وكم ليلة في إثر يوم وعذلي ... وعذل من يصغي لقولي خيب )
( فيا ليت ما ولى معاد نعيمه ... وأي نعيم عند من يتغرب )
قال وقلت بإشبيلية ذاكرا لوادي الطلح وهو بشرق إشبيلية ملتف الأشجار كثير مترنم الأطيار وكان المعتمد بن عباد كثيرا ما ينتابه مع رميكيته وأولي أنسه ومسرته
( سائل بوادي الطلح ريح الصبا ... هل سخرت لي في زمان الصبا )
( كانت رسولا فيه ما بيننا ... لن نأمن الرسل ولن نكتبا )
( يا قاتل الله أناسا إذا ... ما استؤمنوا خانوا فما أعجبا )
( هلا رعوا أنا وثقنا بهم ... وما اتخذنا عنهم مذهبا )
( يا قاتل الله الذي لم يتب ... من غدرهم من بعد ما جربا )
( واليم لا يعرف ما طعمه ... إلا الذي وافى لأن يشربا )
( دعني من ذكر الوشاة الألى ... لما يزل فكري بهم ملهبا )
( واذكر بوادي الطلح عهدا لنا ... لله ما أحلى وما أطيبا )
( بجانب العطف وقد مالت الأغصان ... والزهر يبث الصبا )
( والطير مازت بين ألحانها ... وليس إلا معجبا مطربا )
( وخانني من لا أسميه من ... شح أخاف الدهر أن يسلبا )
( قد أترع الكأس وحيا بها ... وقلت أهلا بالمنى مرحبا )
( أهلا وسهلا بالذي شئته ... يا بدر تم مهديا كوكبا )
( لكنني آليت أسقى بها ... أو تودعنها ثغرك الأشنبا )
( فمج لي في الكأس من ثغره ... ما حبب الشرب وما طيبا )
( فقال ها لثمي نقلا ولا ... تشم إلا عرفي الأطيبا )
( فاقطف بخدي الورد والآس والنسرين ... لا تحفل بزهر الربها )
( أسعفته غصنا غدا مثمرا ... ومن جناه ميسه قربا )
( قد كنت ذا نهي وذا إمرة ... حتى تبدى فحللت الحبا )
( ولم أصن عرضي في حبه ... ولم أطع فيه الذي أنبا )
( حتى إذا ما قال لي حاسدي ... ترجوه والكوكب أن يغربا )
( أرسلت من شعري سحرا له ... ييسر المرغب والمطلبا )
( وقال عرفه بأني سأحتال ... فما أجتنب المكتبا )
( فزاد في شوقي له وعده ... ولم أزل مقتعدا مرقبا )
( أمد طرفي ثم أثنيه من ... خوف أخي التنغيص أن يرقبا )
( أصدق الوعد وطورا أرى ... تكذيبه والحر لن يكذبا )
( أتى ومن سخره بعد ما ... أيأس بطئا كاد أن يغضبا )
( قبلت في الترب ولم أستطع ... من حصر اللقيا سوى مرحبا )
( هنأت ربعي إذ غدا هالة ... وقلت يا من لم يضع أشعبا )
( بالله مل معتنقا لاثما ... فمال كالغصن ثنته الصبا )
( وقال ما ترغب قلت ائتد ... أدركت إذ كلمتني المأربا )
( فقال لا مرغب عن ذكر ما ... ترغبه قلت إذا مركبا )
( فكان ما كان فوالله ما ... ذكرته دهري أو أغلبا )
قال وقلت باقتراح الملك الصالح نور الدين صاحب حمص أن أكتب بالذهب على تفاحة عنبر قدمها لابن عمه الملك الصالح ملك الديار المصرية
( أنا لون الشباب والخال أهديت ... لمن قد كسا الزمان شبابا )
( ملك العالمين نجم بني أيوب ... لا زال في المعالي مهابا )
( جئت ملأى من الثناء عليه ... من شكور إحسانه والثوابا )
( لست ممن له خطاب ولكن ... قد كفاني أريج عرفي خطابا )
قال ولما أنشد أبو عبد الله بن الأبار كاتب ملك إفريقية لنفسه
( لله دولاب يدور كأنه ... فلك ولكن ما ارتقاه كوكب )
( هامت به الأحداق لما نادمت ... منه الحديقة ساقيا لا يشرب )
( نصبته فوق النهر أيد قدرت ... ترويحه الأرواح ساعة ينصب )
( فكأنه وهو الطليق مقيد ... وكأنه وهو الحبيس مسيب )
( للماء فيه تصعد وتحدر ... كالمزن يستسقي البحار ويسكب )
حلف أبو عبد الله بن أبي الحسين ابن عمي أن يصنع في ذلك شيئا فقال
( ومحنية الأضلاع تحنو على الثرى ... وتسقي نبات الترب در الترائب )
( تعد من الأفلاك أن مياهها ... نجوم لرجم المحل ذات ذوائب )
( وأعجبها رقص الغصون ذوابلا ... فدارت بأمثال السيوف القواضب )
( وتحسبها والروض ساق وقينة ... فما برحا ما بين شاد وشارب )
وما خلتها تشكو بتحنانها الصدى ... ومن فوق متنيها اطراد المذانب )
( فخذ من مجاريها ودهمة لونها ... بياض العطايا في سواد المطالب )
ثم كلفت في أن أقول في ذلك وأنا أعتذر بأن هذين لم يتركا لي ما أقول
( وذات حنين لا تزال مطيفة ... تئن وتبكي بالدموع السواكب )
( كأن أليفا بان عنها فأصبحت ... بمربعه كالصب بعد الحبائب )
( إذا ابتسمت فيها الرياض شماتة ... ترعها بأمثال السيوف القواضب )
( فكم رقصت أغصانها فرمت لها ... نثارا كما بددت حلي الكواعب )
( لقد سخطت منها الثغور وأرضت القدود ... ولم تحفل بتثريب عائب )
( شربت على تحنانها ذهبية ... ذخيرة كسرى في العصور الذواهب )
( فهاجت لي الكأس ادكار مغاضب ... فحاكيتها وجدا بذاك المغاضب )
( فلا تدع التبريز في كثرة الهوى ... فلولاي كانت فيه إحدى العجائب )
قال وقلت بغرناطة
( باكر اللهو ومن شاء عتب ... لا يلذ العيش إلا بالطرب )
( ما توانى من رأى الزهر زها ... والصبا تمرح في الروض خبب )
( وشذاه صانه حتى اغتدى ... بين أيدي الريح غصبا ينتهب )
( يا نسيما عطر الأرجاء هل ... بعثوا ضمنك ما يشفي الكرب )
( هم أعلوه وهم يشفونه ... لا شفاه الله من ذاك الوصب )
( خلع الروض عليه زهره ... حين وافى من ذراكم فعل صب )
( فأبى إلا شذاه فانثنى ... حاملا من عرفه ما قد غصب )
( لست ذا نكر لأن يشبهكم ... من بعثتم غير ذا منه العجب )
( غالب الأغصان في بدأته ... ثم لما زاد أعطته الغلب )
( فبكى الطل عليها رحمة ... أو بكى من وعظ طير قد خطب )
( كل هذا قد دعاني للتي ... ملكت رقي على مر الحقب )
( قهوة أبسم من عجب لها ... عندما تبسم عجبا عن حبب )
( حاكت الخمر فلما شعشعت ... قلت ما للخمر بالماء التهب )
( وبدت من كأسها لي فضة ... ملئت إذ جمدت ذوب الذهب )
( اسقينها من يدي مشبهها ... بالذي يحويه طرف وشنب )
( لا جعلت الدهر نقلي غير ما ... لذ لي من ريق ثغر كالضرب )
( لا جعلت الدهر ريحاني سوى ... ما بخديه من الورد انتخب )
( لم أزل أقطع دهري هكذا ... وكذا أقطع منه المرتقب )
( حبذا عيش قطعناه لدى ... معطف الخابور ما فيه نصب )
( مع من لم يدر يوما ما الجفا ... من أراح الصب فيه من تعب )
( كل ما يصدر منه حسن ... لم يذقني في الهوى مر الغضب )
( أي عيش سمح الدهر به ... كل نعمى ذهبت لما ذهب ) قال ودخلت بتونس مع أبي العباس الغساني حماما فنظرنا إلى غلمان في نهاية الحسن ونعومة الأبدان فقلت مخاطبا له
( دخلت حماما وقصدي به ... تنعيم جسم فغدا لي عذاب ) قلت لظى فاعترضت حوره ... وقلت عدن فنهاني التهاب )
( وأنت في الفضل إمام فكن ... في الحكم ممن حاز فصل الخطاب )
فقال
( لا تأمن الحمام في فعله ... فليس ما يأتيه عندي صواب )
( فما أرى أخدع منه ولا ... أكذب إلا أن يكون السراب )
( يبدي لك الغيد كحور الدمى ... ويلبس الشيخ برود الشباب )
( ظن به النار فلا جنة ... للحسن إلا ما حوته الثياب )
نقول من ابن سعيد
1 - بناء الهودج بروضه مصر
ومن فوائده أعني ابن سعيد رحمه الله تعالى - في كتابه المحلى بالأشعار نقلا عن القرطبي قضية بناء الهودج بروضة مصر وهو من منتزهات الخلفاء الفاطميين العظيمة العجيبة البناء البديعة وذلك أنه يقال إن الباني له الخليفة الآمر بأحكام الله للبدوية التي غلب عليه حبها بجوار البستان المختار وكان يتردد إليه كثيرا وقتل وهو متوجه إليه وما زال منتزها للخلفاء من بعده
وقد أكثر الناس في حديث البدوية وابن مياح من بني عمها وما يتعلق بذلك من ذكر الآمر حتى صارت رواياتهم في هذا الشأن كحديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك والاختصار منه أن يقال إن الآمر قد كان بلي بعشق الجواري العربيات وصارت له عيون في البوادي فبلغه أن بالصعيد جارية من أكمل العرب وأظرفهم شاعرة جميلة فيقال إنه تزيا بزي بداة
الأعراب وكان يجول في الأحياء إلى أن انتهى إلى حيها وبات هنالك وتحيل حتى عاينها هناك فما ملك صبره ورجع إلى مقر ملكه وأرسل إلى أهلها يخطبها وتزوجها فلما وصلت إليه صعب عليها مفارقة ما اعتادت وأحبت أن تسرح طرفها في الفضاء ولا تنقبض نفسها تحت حيطان المدينة فبنى لها البناء المشهور في جزيرة الفسطاط المعروف بالهودج وكان غريب الشكل على شط النيل وبقيت متعلقة الخاطر بابن عم لها ربيت معه يعرف بابن مياح فكتبت إليه من قصر الآمر
( يا ابن مياح إليك المشتكى ... مالك من بعدكم قد ملكا )
( كنت في حيي طليقا آمرا ... نائلا ما شئت منكم مدركا )
( فأنا الآن بقصر موصد ... لا أرى إلا حبيسا ممسكا )
( كم تثنينا كأغصان اللوى ... حيث لا نخشى علينا دركا )
فأجابها فقال
( بنت عمي والتي غذيتها ... بالهوى حتى علا واحتبكا )
( بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع منا المشتكى )
( مالك الأمر إليه يشتكى ... هالك وهو الذي قد أهلكا )
قال وللناس في طلب ابن مياح واختفائه أخبار تطول خبر
وكان من عرب طيء في عصر الآمر طراد بن مهلهل فقال وقد بلغته هذه الأبيات
( ألا بلغوا الآمر المصطفى ... مقال طراد ونعم المقال )
( قطعت الأليفين عن ألفة ... بها سمر الحمى حول الرحال )
( كذا كان آباؤك الأكرمون ... سألت فقل لي جواب السؤال )
فقال الخليفة الآمر لما بلغته الأبيات جواب سؤاله قطع لسانه على فضوله فطلب في أحياء العرب فلم يوجد فقيل ما أخسر صفقة طراد باع عدة أبيات بثلاثة أبيات
مكين الدولة ابن حديد وكان بالإسكندرية مكين الدولة أبو طالب أحمد بن عبد المجيد بن أحمد ابن الحسن بن حديد له مروءة عظيمة ويحتذي أفعال البرامكة وللشعراء فيه أمداح كثيرة ومدحه ظافر الحداد وأمية أبو الصلت وغيرهما وكان له بستان يتفرج فيه به جرن كبير من رخام وهو قطعة واحدة ينحدر فيه الماء فيبقى كالبركة من كبره وكان يجد في نفسه برؤيته زيادة على أهل التنعم والمباهاة في عصره فوشى به للبدوية محبوبة الآمر فسألت الآمر في حمل الجرن إليها فأرسل إلى ابن حديد في إحضار الجرن فلم يجد بدا من حمله من البستان فلما صار إلى الآمر أمر بعمله في الهودج وتركيبه هناك فقلق ابن حديد وصارت في قلبه حزازة من أخذ الجرن فأخذ يخدم البدوية وجميع من يلوذ بها بأنواع الخدم العظيمة الخارجة عن الحد في الكثرة حتى قالت البدوية هذا الرجل أخجلنا بكثرة تحفه ولم يكلفنا قط أمرا نقدر عليه عند
الخليفة مولانا فلما قيل له عنها هذا القول قال مالي حاجة بعد الدعاء لله بحفظ مكانها وطول حياتها في عز غير رد السقية التي قلعت من داري التي بنيتها في أيامهم من نعمتهم ترد إلى مكانها فتعجبت من ذلك وردتها عليه فقيل له قد حصلت في حد أن خيرتك البدوية في جميع المطالب فنزلت همتك إلى قطعة حجر فقال أنا أعرف بنفسي ما كان لها أمل سوى أن لا تغلب في أخذ ذلك الحجر من مكانه وقد بلغها الله تعالى أملها
وكان هذا المكين متولي قضاء الإسكندرية ونظرها في أيام الآمر وبلغ من علو همته وعظيم مروءته أن سلطان الملوك حيدرة أخا الوزير المأمون ابن البطائحي لما قلده الآمر ولاية ثغر الإسكندرية سنة سبع عشرة وخمسمائة وأضاف إليها الأعمال البحرية ووصل إلى الثغر - وصف له الطبيب دهن الشمع بحضرة القاضي المذكور فأمر في الحال بعض غلمانه بالمضي إلى داره لإحضار دهن الشمع فما كان أكثر من مسافة الطريق إلا وقد أحضر حقا مختوما فك عنه فوجد فيه منديل لطيف مذهب على مراف بلور فيه ثلاثة بيوت كل بيت عليه قبة ذهب مشبكة مرصعة بياقوت وجوهر بيت دهن ممسك وبيت دهن بكافور وبيت دهن بعنبر طيب ولم يكن فيه شيء مصنوع لوقته فعندما أحضره الرسول تعجب المؤتمن والحاضرون من علو همته فعندما شاهد القاضي ذلك بالغ في شكر إنعامه وحلف بالحرام إن عاد إلى ملكه وكان جواب المؤتمن وقد قبلته منك لا لحاجة إليه ولا نظر في قيمته بل لإظهار هذه الهمة وإذاعتها وذكر أن قيمة هذا المداف وما عليه خمسمائة دينار
فانظر رحمك الله تعالى إلى من يكون دهن الشمع عنده في إناء قيمته خمسمائة دينار ودهن الشمع لا يكاد أكثر الناس يحتاج إليه فماذا تكون ثيابه
وحلي نسائه وفرش داره وغير ذلك من التجملات وهذا إنما هو حال قاضي الإسكندرية ومن قاضي الإسكندرية بالنسبة إلى أعيان الدولة بالحضرة ! وما نسبة أعيان الدولة وإن عظمت أحوالهم إلى أمر الخلافة وأبهتها إلا يسير حقير
وما زال الخليفة الآمر يتردد إلى الهودج المذكور إلى أن ركب يوم الثلاثاء رابع القعدة سنة 524 يريد الهودج وقد كمن له عدة من النزارية على رأس الجسر من ناحية الروضة فوثبوا عليه وأثخنوه بالجراحة وحمل في العشاري إلى اللؤلؤة فمات بها وقيل قبل أن يصل إليه وقد خرب هذا الهودج وجهل مكانه من الروضة ولله عاقبة الأمور نقل ذلك كله الحافظ المقريزي رحمه الله تعالى ! 3 - الشهاب التلعفرى قال النور بن سعيد ومن خطه نقلت لما نزلنا بتلعفر حين خرجنا من سنجار إلى الموصل سألت أحد شيوخنا عن والد شهاب الدين التلعفري فقال أنا أدركته وكان كثير التجول وأنشدني لنفسه في عيد أدركه في غير بلده
( يبتهج الناس إذا عيدوا ... وعند سرائهم أكمد )
( لأنني أبصر أحبابهم ... ومقلتي محبوبها تفقد )
قال وخرج ابنه الشهاب أجول منه شخصا وشعرا وصدق فيما قاله
( وأنشد ابن سعيد للشهاب التلعفري
( لك ثغر كلؤلؤ في عقيق ... ورضاب كالشهد أو كالرحيق )
( وجفون لم يمتشق سيفها إلا ... لمغرى بقدك الممشوق )
( تهت عجبا بكل فن من الحسن ... جليل وكل معنى دقيق )
( وتفردت بالجمال الذي خلاك ... مستوحشا بغير رفيق )
( باللحاظ التي بها لم تزل ترشق ... قلبي بالقوام الرشيق )
( لا تغر بالغوير إذ تتثنى ... فيه أعطاف كل غصن وريق )
( واثن محمر ورد خديك واستره ... وإلا ينشق قلب الشفيق )
قال ابن سعيد وحظي الشهاب التلعفري بمنادمة الملوك وكونهم يقدمونه ويقبلون على شعره وعهدي به لا ينشد أحد قبله في مجلس الملك الناصر على كثرة الشعراء وكثرة من يعتني بهم ولما جمعت للملك الناصر كتاب ملوك الشعر جعلت ملك شعر الشهاب البيت الرابع من المقطوعة المتقدمة فإنه كان كثيرا ما ينشده وينوه به والتشفي من ذكر الشهاب ومحاسن شعره له مكان بكتاب الغرة الطالعة في فضلاء المائة السابعة وهو الآن عند الملك المنصور صاحب حماة قد علت سنه وما فارقه غرامه ودنه انتهى
4 - العادل ابن أيوب
ولما أجرى ابن سعيد في بعض مصنفاته ذكر الملك العادل بن أيوب قال ما نصه وكان من أعظم السلاطين دهاء وحزما وكان يضرب به المثل في إفساد القلوب على أعدائه وإصلاحها له ويحكى أنه بشره شخص بأن أميرا من أمراء الأفضل بن صلاح الدين فسد عليه فأعطاه مالا جزيلا وأرسل مستخفيا إلى المذكور يزيده بصيرة في الانحراف عن الأفضل ويعده بما يفسد الصالح فكيف الفاسد قال وكان يمنع حتى يوصف بالبخل ويجود في مواضع الجود حتى يوصف بالسماح وكان صلاح الدين - وهو السلطان - يأخذ برأيه وقدم له أحد المصنفين كتابا مصورا في مكايد الحروب ومنازلة المدن وهو حينئذ على عكا محاصرا للفرنج فقال له ما نحتاج إلى هذا الكتاب ومعنا أخونا أبو بكر وكان كثير المداراة والحزم ومن حكاياته في ذلك أن أحد الأشياخ من خواصه قال له يوما وهو على سماطه يأكل يا خوند ما وفيت معي ولا رعيت سابق خدمتي وكلمه بدالة السن وقدم الصحبة قبل الملك فقال لمماليكه انظروا وسطه فحبسوا الكمران وقال خذوا الصرة التي فيه فوجدوا صرة فقال افتحوها ففتحوها فإذا فيها ذرور فقال العادل كل من هذا الذرور فتوقف وعلم أنه مطلع على أنه سم فقال كيف نسبتني إلى قلة الوفاء وأنا منذ سنين أعلم أنك تريد أن تسمني بهذا السم وقد جعل لك الملك الفلاني على ذلك عشرة آلاف دينار فلا أنا أمكنتك من نفسي ولا أشعرتك لئلا يكون في ذلك ما لا خفاء به وتركتك على
حالك وأنا مع هذا لا أغير عليك نعمة ثم قال ردوا سمه إلى كمرانه لا أبقى الله تعالى عليه إن قدر وأبقى علي فجعل يقبل الأرض ويقول هكذا والله كان وأنا تائب لله تعالى ثم إن الشيخ جدد توبة واستأنف أدبا آخر وخدمة أخرى وكانت هذه الفعلة من إحدى عجائب العادل قال وكان كثير المصانعات حتى إنه يصوغ الحلي الذي يصلح لنساء الفرنج ويوجه في الخفية إليهن حتى يمسكن أزواجهن عن الحركة وله في ذلك مع ملوك الإسلام ما يطول ذكره ولما خرج ابن أخيه المعز إسماعيل بن طغتكين باليمن وخطب لنفسه بالخلافة وكتب له أن يبايعه ويخطب له في بلاده كان في الجماعة من أشار إلى النظر في توجيه عسكر له في البر والبحر وإنفاق الأموال قبل أن يتفاقم أمره فضحك وقال من يكون عقله هذا العقل لا يحوج خصمه إلى كبير مؤنة أنا أعرف كيف أفسد عليه حاله في بلاده فضلا على أن يتطرق فساده لبلادي ثم إنه وجه في السر لأصحاب دولته بالوعد والوعيد وقال لهم أنتم تعلمون بعقولكم أن هذا لا يسوغ لي فكيف يسوغ له وقد أدخل نفسه في أمر لا يخرج منه إلا بهلاكه فاحذروا أن تهلكوا معه واتعظوا بالآية ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) [ هود 113 ] وما لهذا عقل يدبر به نفسه فكيف يفضل عن تدبير خاصته إليكم ( ولتعلمن نبأه بعد حين ) [ ص 88 ] فعندما وعت أسماعهم هذا وتدبروه بعقولهم قبضوا عليه وقتلوه وعادت البلاد للعادل وقال للمشيرين عليه في أول الأمر بتجهيز العسكر قد كفينا المؤونة بأيسر شيء من المال ولو حاولناه بما أشرتم به لم تقم خزائن ملكنا بالبلوغ إلى غايته
وكان - على ما بلغه من عظمة السلطان واتساع الممالك - يحكي ما جرى له من زمان خلوه من ذلك ويحب الاستماع لنوادر أنذال العالم واشتهر في خدمته مساخر أشهرهم خضير صاحب البستان المشهور عند الربوة بغوطة دمشق ومن نوادره الحارة معه أنه سمعه يوما وهو يقول في وضوئه اللهم حاسبني حسابا يسيرا ولا تحاسبني حسابا عسيرا فقال له يا خوند على أي شيء يحاسبك حسابا عسيرا إذا قال لك أين أموال الخلق التي أخذتها فقل له تراها بأمانتها في الكرك وكان قد صنع بهذا المعقل الحسرات سميت بذلك لأن من رآها يتحسر إذا نظرها ولا يستطيع على شيء منها بحيلة وهي خواب مفروغة من ذهب وفضة تركت بمرأى من الناظرين ليشتهر ذلك في الآفاق وقال العادل مرة وقد جرى ذكر البرامكة وأمثالهم ممن ذكر في كتاب المستجاد في حكايات الأجواد إنما هذا كذب مختلق من الوراقين ومن المؤرخين يقصدون بذلك أن يحركوا همم الملوك والأكابر للسخاء وتبذير الأموال فقال خضير يا خوند ولأي شيء لا يكذبون عليك قال ابن سعيد من وقف على حكايات أبي العيناء مع عبيد الله بن سليمان يجد مثل هذه الحكاية قال ابن سعيد ووجدت الشهاب القوصي قد ذكر السلطان العادل في كتاب تاج المعاجم وابتدأ الكتاب المذكور بمحاسنه والثناء عليه وخرج عنه الحديث النبوي عن الحافظ السلفي وتمثل فيه عند وفاته
( ألام على بكائي خير ملك ... وقل لي بكائي بالنجيع )
( به كان الشباب جميع عمري ... ودهري كله زمن الربيع )
( ففرق بيننا زمن خؤون ... له شغف بتفريق الجميع )
قال ابن سعيد ودفن العادل بالمدرسة العادلية بدمشق وكان أنشأها للشافعية وهي في نهاية الحسن وبها خزانة كتب فيها تاريخ ابن عساكر وذيل هذا التاريخ واختصره أبو شامة سمعت عليه منه هنالك ما تيسر أيام إقامتي بدمشق
وأولاد العادل ملوك البلاد في صدر هذه المائة السابعة منهم الكامل والمعظم والأشرف وهؤلاء الثلاثة شهروا بالفضل وحب الفضلاء وقول الشعراء انتهى
5 - المرزغاني
وقال ابن سعيد في ترجمة الرئيس صفي الدين أحمد بن سعيد المرذغاني وهو من بيت وزارة ورئاسة بدمشق إن من شعره قوله
( كيف طابت نفوسكم بفراقي ... وفراق الأحباب مر المذاق )
( لو علمتم بلوعتي وصبابا تي ... ووجدي وزفرتي واحتراقي )
( لرثيتم للمستهام المعنى ... ووفيتم بالعهد والميثاق )
قال ابن سعيد وقفت على ذكر هذا الرئيس في كتاب تاج المعاجم ووجدت صاحبه الشهاب القوصي قد قال أخبرني بدمشق أنه قد كان عزم على السفر منها إلى مصر لأمر ضاق به صدره فهتف به هاتف في النوم وأنشده
يا أحمد اقنع بالذي أعطيته ... إن كنت لا ترضى لنفسك ذلها )
( ودع التكاثر في الغنى لمعاشر ... أضحوا على جمع الدراهم ولها )
( واعلم بأن الله جل جلاله ... لم يخلق الدنيا لأجلك كلها )
فانثنى عزمه عن الحركة ثم بلغ ما أمله دون سفر
6 - دفترخوان الدمشقي
وقال ابن سعيد في ترجمة المنتجب أحمد بن عبد الكريم الدمشقي المعروف بدفترخوان وهو الذي يقرأ الدفاتر بين أيدي الملوك والأكابر إنه كان يقرأ الدفاتر بين يدي العادل بن أيوب وكان يكتب له بالأشعار في المواسم والفصول فينال من خيره وكتب له مرة وقد أظل الشتاء في دمشق فقال
( مولاي جاء الشتاء ... والكيس منه خلاء )
( لا زال يجري بما تر تضي ... علاك القضاء )
وكل كاف إليه ... يحتاج فيه التواء )
فقال له العادل هذا الضمير الذي في البيت الأول على ماذا يعود قال بحسب مكارم السلطان إن شئت على الدراهم وإن شئت على الدنانير ! فضحك وقال هات كيسك فأخرج له كيسا يسع قدر مائة دينار فملأه
له وقال أظنه كان معدا عندك فقال مثل السلطان من يكون جوده مظنونا وكتب إليه مرة وقد أملق
( انظر إلي بعين جودك مرة ... فلعل محروم المطالب يرزق )
( طير الرجاء على علاك محلق ... وأظنه سيعود وهو مخلق )
فأعطاه جملة دنانير وقال له اشتر بهذه ما تخلق به طير رجائك انتهى
الزناطي وابن الربيب
وأنشد ابن سعيد رحمه الله تعالى لبعض المغاربة وهو أبو الحسن علي بن مروان الزناطي الكاتب
( أنس أخي الفضل كتاب أنيق ... أو صاحب يعنى بود وثيق )
( فإن تعره دون رهن به ... تخسره أو تخسر وداد الصديق )
( وربما تخسر هذا وذا ... فاسمع رعاك الله نصح الشفيق )
قال وأجابه المخاطب بهذه الأبيات وهو ابن الربيب بنثر نصه
مثلك يفيد تجربة قد نفق عليها عمر وضل عن فوائدها غر غمر وقد أنفذت رهنا لا يسمح بإخراجه من اليد إلا ليدك فتفضل بتوجيه الجزء الأول فأنا أعلم أنه عندك مثل والدك قال فوجهه ومعه بطاقة صغيرة فيها يا أخي إن عرضت بولدي فكذلك كنت مع والدي وقد توارثنا العقوق كابرا عن كابر فكن شاكرا فإني صابر
ثم قال ابن سعيد وتفاقم أمر ولده فقيده بقيد حديد وقال فيه
( لي ولد يا ليته ... لم يك عندي يخلق )
( يجهد في كل الذي ... يرغم وهو يعشق )
( وإن أكن قيدته ... دمعي عليه مطلق
وذكر ابن سعيد أن الكاتب أبا الحسن المذكور كان كثيرا ما يستعير الكتب فإذا طلبت منه فكأنها ما كانت فذكر لبعض أصحابه - وهو ابن الربيب المؤرخ - أن عنده نسخة جليلة من تاريخ عريب الذي لخص فيه تاريخ الطبري واستدرك عليه ما هو من شرطه وذيل ما حدث بعده فأرسل إليه في استعارتها فكتب إليه يا أخي سدد الله آراءك وجعل عقلك أمامك لا وراءك ما يلزمني من كونك مضيعا أن أكون كذلك والنسخة التي رمت إعارتها هي مؤنسي إذا أوحشني الناس وكاتم سري إذا خانوني فما أعيرها إلا بشيء أعلم أنك تتأذى بفقده إذا فقد جزء من النسخة وأنا الذي أقول
( أنس أخي الفضل كتاب أنيق ... ) إلى آخره
وأنشد للكاتب أبي الحسن المذكور
( إن ذاك العذار قام بعذري ... وفشا فيه للعواذل سري )
( ما رأينا من قبل ذلك مسكا ... صاغ منه الإله هالة بدر )
( أي آس من حول جنة ورد ... ليس منه آس مدى الدهر يبري )
ولما اشتد مرضه بين تلمسان وفاس قال هذه الأبيات وأوصى أن تكتب على قبره
( ألا رحم الله حيا دعا ... لميت قضى بالفلا نحبه )
( تمر السوافي على قبره ... فتهدي لأحبابه تربه )
( وليس له عمل يرتجى ... ولكنه يرتجي ربه )
رجع إلى نظم ابن سعيد المترجم به فنقول وقال لما سار المعظم من حصن كيفا وآل آمره إلى الملك ثم القتل والهلك
( ليت المعظم لم يسر من حصنه ... يوما ولا وافى إلى أملاكه )
( إن العناصر إذ رأته مكملا ... حسدته فاجتمعت على إهلاكه )
ومما نقلته من ديوانه الذي رتبه على حروف المعجم قوله - رحمه الله تعالى - وقلت بالقاهرة على لسان من كلفني ذلك
( شرف الدين أبن لي ما السبب ... في انقلاب الدهر لي عند الغضب )
( يدعونه بأجل ما ... يدعى به الحر الصراح )
( حتى إذا ما بان كدر ... عيشهم منه انتزاح )
( فعلى مثالهم يباح ... لي المدامع والنواح )
( كرها فقدتهم فما ... لي بعد بعدهم ارتياح )
( لله شوقي إن هفت ... من نحو أرضهم الرياح )
( فهناك قلبي طائر ... لهم ومن شوقي جناح )
قال وقلت بمدينة ابن السليم في وصف كلب صيد أسود في عنقه بياض
( وأدهم دون حلي ظل حالي ... كأن ليلا يقلده صباح )
( يطير وما له ريش ولكن ... متى يهفو فأربعه جناح )
( تكل الطير مهما نازعته ... وتحسده إذا مرق الرياح )
( له الألحاظ مهما جاء سلك ... ومهما سار فهي له وشاح )
قال وقلت في نيل مصر
( يا نيل مصر أين حمص ونهرها ... حيث المناظر أنجم تلتاح )
( في كل شط للنواظر مسرح ... تدعو إليه منازح وبطاح )
( وإذا سبحت فلست أسبح خائفا ... ما فيه تيار ولا تمساح ) قال وقلت وقد حضرت مع إخوان لي بموضع يعرف بالسلطانية على نهر إشبيلية وقد مالت الشمس للغروب
( رق الأصيل فواصل الأقداحا ... واشرب إلى وقت الصباح صباحا )
( انظر لشمس الأفق طائرة وقد ... ألقت على صفح الخليج جناحا )
( فاظفر بصفو الأفق قبل غروبها ... واستنطق المثنى وحث الراحا )
( متع جفونك في الحديقة قبل أن ... يكسو الظلام جمالها أمساحا )
( وقلت بمرسية
( أقلقه وجده فباحا ... وزاد تبريحه فناحا )
( ورام يثني الدموع لما ... جرت فزادت له جماحا )
( يا من جفا فارفقن عليه ... مستعبدا لا يرى السراحا )
( يكابد الموت كل حين ... لو أنه مات لاستراحا )
( ينزو إذا ما الرياح هبت ... كأنه يعشق الرياحا )
( يسألها عن ربوع حمص ... لما نما عرفها وفاحا )
( كم قد بكى للحمام كيما ... يعيره نحوها جناحا )
قال وخرجت مرة مع أبي إسحاق إبراهيم بن سهل الإسرائيلي إلى مرج الفضة بنهر إشبيلية فتشاركنا في هذا الشعر
( غيري يميل إلى كلام اللاحي ... ويمد راحته لغير الراح )
( لا سيما والغصن يزهو زهره ... ويميل عطف الشارب المرتاح )
( وقد استطار القلب ساجع أيكه ... من كل ما أشكوه ليس بصاح )
( قد بان عنه جناحه عجبا له ... من جانح للعجز حلف جناح )
( بين الرياض وقد غدا في مأتم ... وتخاله قد ظل في أفراح )
( الغصن يمرح تحته والنهر في ... قصف تزجيه يد الأرواح )
( وكأنما الأنسام فوق جنانه ... أعلام خز فوق سمر رماح )
( لا غرو أن قامت عليه أسطر ... لما رأته مدرعا لكفاح )
( فإذا تتابع موجه لدفاعه ... مالت عليه فظل حلف صياح )
قال وقلت بمالقة متشوقا إلى الجزيرة الخضراء
( يا نسيما من نحو تلك النواحي ... كيف بالله نور تلك البطاح )
( أسقتها الغمام ريا فلاحت ... في رداء ومئزر ووشاح )
( أم جفته فصيرته هشيما ... تركته تذروه هوج الرياح )
( يا زماني بالحاجبية إني ... لست من سكر ما سقيت بصاحي )
( آه مما لقيت بعدك من هم ... وشوق وغربة وانتزاح )
( أين قوم ألفتهم فيك لما ... قرب الدهر آذنوا بالرواح )
( تركوني أسير وجد وشوق ... ما لقلبي من الجوى من سراح )
( أسلموني للويل حتى تولوا ... وأصاخوا ظلما لقول اللواحي )
( أعرضوا ثم عرضوني لشوق ... ترك القلب مثخنا بجراح )
( أسهر الليل لست أغفى لصبح ... أترى النوم ذاهبا بالصباح )
( قد بدا يظهر النجوم حليا ... وهو من لبسة الصبا في براح )
( مسبلا ستره منعم بال ... وجفوني من سهده في كفاح )
( أيها الليل لاتؤمل خلودا ... عن قريب يمحو ظلامك ماح )
( ويلوح الصباح مشرق نور ... فيه للمستهام بدء نجاح )
( إن يوم الفراق بدد شملي ... طائرا ليته بغير جناح )
( حالك اللون شبه لونك ماعزب ... عن عياني يا شبه طير انتزاح )
( فلتدم غضبان أظفر بالمنى ... ليس لي في غير هذا من أرب )
( إنما ظهرك عندي قبلة ... ووضوئي الدهر من ذاك الشنب ) وأستغفر الله من قول الكذب قال وقلت بإشبيلية
( قد جاء نصر الله والفتح ... والصبح لما رضيت صبح )
( فهنئوني بارتجاع المنى ... لولا الرضى ما برح البرح )
( يا أورقا يا غصنا يانقا ... يا ظبية بالليل يا صبح )
( يصحو جميع الناس من سكرهم ... ولست من سكركم أصحو )
( بلغت فيه غاية لم يبن ... غايتها التفسير والشرح )
( وينصح العذال من لي بأن ... يعذلني عن غيك النصح ) وقلت بإشبيلية
( وضح الصبح فأين القدح ... يعرف اللذات من يصطبح )
( ما ترى الليل كطرف أدهم ... وضياء الفجر فيه وضح )
( والثرى دبجه در الندى ... وعلى الأغصان منه وشح )
( ومدير الراح لم يعد المنى ... كل ما يأتي به مقترح )
( في بطاح المرج قد نادمني ... رشا من سكره ينبطح )
( جعل المسواك سترا للمنى ... فكأن قبل فاه قزح )
( كلما شئت الذي قد شاءه ... فحنى لي كاسه أفتتح )
( ما أبالي أن رآني كاشح ... أم رآني من لديه نصح )
( هكذا العيش ودع عيش الذي ... خاف من نقد إذا يفتضح ) وقلت بشريش
( طاب الشراب لمعشر ... سلبوا المروءة فاستراحوا )
لولا ندى يحيى وتدبيره ... ما برحت تغبر منها النواح )
( لكن يداه سحب كلما ... حلت بأرض حل فيها النجاح ) هذا وقد آمن من حلها ... وحفها من غربة وانتزاح )
( كم شتتوا من قبل تأميره ... وحكمت فيهم عوالي الرماح )
( يا سائرا يرجو بلوغ المنى ... باكر ذرا يحيى وقل لا رواح )
( وحيه بالمدح فهو الذي ... يهتز كالهندي حين امتداح )
( بالشرق والغرب غدا ذكره ... يحث من حمد وشكر جناح )
ساعده السعد وأضحت له الآمال ... لا تجري بغير اقتراح )
( ويسر الله له ملكه ... من غير أن يشهر فيه السلاح )
( وكل من كان على غيره ... ذا منعة أمسى به مستباح )
( وكم جموح عندما قام بالأمر ... رأى القهر فخلى الجماح )
( كف بكف للندى والردى ... بها معان وهي خرس فصاح )
( حتى لقد أحسب من سعده ... تجري على ما يرتضيه الرياح )
( قولوا ليعقوب فماذا جنى ... وابن أبي حمزة ماذا استباح )
( قد أصبحا من فوق جذعين لا ... يؤنسهم غير هبوب الرياح )
( واسأل عن الداعي الدعي الذي ... حاول أمرا كان عنه انضراح )
( أكان من صيره والدا ... بزعمه أمل فيه فلاح )
( شكرا لسعد لم يدع فرقة ... قد صير الملك كضرب القداح )
( راموا بلا جاه ولا محتد ... ما حزت بالحق فكان افتضاح )
( زنانة يهنيكم فعلكم ... عاجلكم ثائركم باجتياح )
( كفر ما قدمتم آخر ... والخير لن يبرح للشر ماح )
( عهدي به في موكب الملك ما ... بينكم نشوان من غير راح )
( يحسب أن الأرض ملك له ... وروحه ملك لسمر الرماح )
( غدا بعز الملك لكنه ... أهون مملوك على الأرض راح )
( جاؤوا به يمرح في عزه ... وهم أزالوا عنه ذاك المراح )
( توقعوا في القرب منه الردى ... من صحبة الأجرب يخشى الصحاح )
( فأسرعوا نحوك يبغون ما ... عودتهم من عطفة والتماح )
( فغادروه جانيا غدره ... لطائر البين عليه نياح )
( فالحمد لله على كل ما ... سنى لك السعد برغم اللواح )
( مثلك لا ينفد ما شاده ... فلست تأتي الدهر إلا صلاح )
( لا زلت في عز وفي مكنة ... وفي سرور دائم وانفساح )
قال وقلت بنيونش موضع الفرجة بسبتة
( اشرب على بنيونش ... بين السواني والبطاح )
( مع فتية مثل النجوم ... لهم إذا مروا جماح )
( ساقيهم متبذل ... لا يمنع الماء القراح )
( كل يمد يمينه ... ما في الذي يأتي جناح )
( هبوا عليه كلما ... هبت على الروض الرياح )
( طوع الأماني كل ما ... يأتي به فهو اقتراح )
( عانقته حتى تركت ... بخصره أثر الوشاح ) وقلت بإشبيلية
( أوجه صبح أم الصباح ... ولحظها أم ظبا الصفاح )
( وثغرها أم نظيم در ... وريقها أم سلاف راح )
( وقدها أم قوام غصن ... وعرفها أم شذا البطاح )
( يا حبذا زورة تأتت ... منها على غفلة اللواح )
( فلم أصدق بها سرورا ... وظلت نشوان دون راح )
( أما منعت السلام دهرا ... ولا رسول سوى الرياح )
( قالت ألا فانس ما تقضى ... فمن يدع ما مضى استراح )
( يا حبذاها وقد تأتت ... من دون وعد ولا اقتراح )
( زارت ومن نورها دليل ... والليل قد أسبل الجناح )
( أخفت سراها فباح نشر ... لها بعرف فشا وفاح )
( وافت فأمسى فمي مداما ... وساعداي لها وشاح )
( كأنما بت بين روض ... والغصن والورد والأقاح )
( فبينما الشمل في انتظام ... إذ سمعت داعي الفلاح )
( فغادرتني فقلت غدرا ... قالت أما 7 تحذر افتضاح )
( ولت وما خلت من صباح ... يبدو على إثره صباح )
قال وقلت بتونس
( لا مرحبا بالتين لما بدا ... يسحب من ليل عليه الوشاح )
( ممزق الجلباب يحكي ضحى ... هامة زنجي عليها جراح )
( وإن تصحفه فلا حبذا ... ما قد أتى تصحيفه بانتزاح )
وقلت بالجزيرة الخضراء وقد كلفت ذلك
( غرامي بأقوال العدا كيف ينسخ ... وعهدي وقد أحكمته كيف يفسخ )
( كلامكم لا يدخل السمع نصحه ... ولكن إذا حرضتم فهو يرسخ )
( وبي بدر تم قد ذللت لحسنه ... فمن ذا الذي فيما أتيت يوبخ )
( إذا خاصموني في هواه خصمتهم ... ويبغون تنقيصي بذاك فأشمخ )
( أرى أن لي فضلا على كل عاشق ... فقصتنا في الدهر مما يؤرخ )
( فما بشر مثل له في جماله ... ووجدي به في العشق ليس له أخ )
وقلت بالإسكندرية وقد تعذر علي الحج عند وصولي إليها سنة تسع وثلاثين وستمائة
( قرب المزار ولا زمان يسعد ... كم ذا أقرب ما أراه يبعد )
( وا رحمة لمتيم ذي غربة ... ومع التغرب فاته ما يقصد )
( قد سار من أقصى المغارب قاصدا ... من لذ فيه مسيره إذ يجهد )
( فلكم بحار مع فقار جبتها ... تلقى بها الصمصام ذعرا يرعد )
( كابدتها عربا وروما ليتني ... إذ جزت صعب صراطها لا أطرد )
( يا سائرين ليثرب بلغتم ... قد عاقني عنها الزمان الأنكد )
( أعلمتم أن طرت دون محلها ... سبقا وها أنا إذ تدانى مقعد )
( يا عاذلي فيما أكابد قل في ... ما أبتغيه صبابة وتسهد )
( لم تلق ما لقيته فعذلتني ... لا يعذر المشتاق إلا مكمد )
( لو كنت تعلم ما أروم دنوه ... ما كنت في هذا الغرام تفند )
( لا طاب عيشي أو أحل بطيبة ... أفق به خير الأنام محمد )
( صلى عليه من براه خيرة ... من خلقه فهو الجميع المفرد )
( يا ليتني بلغت لثم ترابه ... فيزاد سعدا من بنعمى يسعد )
( فهناك لو أعطي مناي محلة ... من دونها حل السها والفرقد )
( عيني شكت رمدا وأنت شفاؤها ... من دائها ذاك الثرى لا الإثمد )
( يا خير خلق الله مهما غبت عن ... عليا مشاهدها فقلبي يشهد )
( ما باختيار القلب يترك جسمه ... غير الزمان له بذلك تشهد )
( يا جنة الخلد التي قد جئتها ... من دون بابك للجحيم توقد )
( صرم التواصل ذبل وصوارم ... ما للجليد على تقحمها يد )
( فلئن حرمت بلوغ ما أملته ... فلدي ذكرى لا تزال تردد )
( فلتنعشوا مني الذماء بذكره ... ما دمت عن تلك المعالم أبعد )
( لولاه ما بقيت حياتي ساعة ... هو لي إذا مت اشتياقا مولد )
( ذكر يليه من الثناء سحائب ... أبدا على مر الزمان يجدد )
( من ذا الذي نرجوه لليوم الذي ... يقصى الظماء به ويحمى المورد )
( يا لهف من وافى هناك وما له ... من حبه ذخر به يتزود )
( ما أرتجي عملا ولكن أرتجي ... ثقتي به ولحسب من يتزود )
( ما صح إيمان خلا من حبه ... أبلا رياش يستعد مهند ! )
( عن ذكره لا حلت عنه لحظة ... ومديحه في كل حفل أسرد )
( يا مادحي يبغي ثوابا زائلا ... فثواب مدحي في الجنان أخلد )
( لولا رسول الله لم ندر الهدى ... وبه غدا نرجو النجاة ونسعد )
( يا رحمة للعالمين بعثت والدنيا ... بجنح الكفر ليل أربد )
( أطلعت صبحا ساطعا فهديت للإيمان ... إلا من يحيد ويجحد
( لم تخش في مولاك لومة لائم ... حتى أقر به الكفور الملحد )
( ونصرت دين الله غير محاذر ... ودعوت في الأخرى الألى قد أصعدوا )
( ولقيت من حرب الأعادي شدة ... لو كابدوها ساعة لتبددوا )
( أيان لا أحد عليهم عاضد ... إلا الإله ولم يخن من يعضد )
( فحماك بالغار الذي هو من أدل ... المعجزات وخاب من يترصد )
( ووقاك من سم الذراع بلطفه ... كيما يغاظ بك العدى والحسد )
( والجذع حن إليك والماء انهمى ... ما بين خمسك والصحابة شهد )
( والذئب أنطق للذي أضحى به ... يهدي إلى سبل النجاح ويرشد )
( وبليلة الإسرا حباك وسمي الصديق ... من أضحى لقولك يسعد )
( وحباك بالخلق العظيم ومعجز الكلم ... الذي يهدي به إذ يورد )
( وبعثت بالقرآن غير معارض ... فيه وأمسى من نحاه )
حمامها تغني أعطافها تميد )
( وبالنسيم شقت ... لنهرها برود )
( فروعه سيوف ... وسوره بنود )
( هناك كم دعتني ... إلى الورود رود )
( فنلت كل سؤل ... يفنى به الحسود )
( قضيت فيه عيشا ... ما بعده مزيد ) أضحي به وأمسي ... مرنحا أميد )
( كأنني يزيد ... كأنني الوليد )
( يجري الزمان طوعي ... بكل ما أريد )
( الخمر ملكتني ... فالخلق لي عبيد )
( يحق لي إذا ما ... أبصرتها تجود )
( فها أنا إذا ما ... فقدتها فقيد )
( يا من يلوم بغيا ... العذل لا يفيد )
( إذا عدمت كأسي ... فليس لي وجود )
( قال وقلت بإشبيلية
( أو ما نظرت إلى الحمامة تنشد ... والغصن من طرب بها يتأود )
( ونثاره ألقاه جائزة لها ... لما يزل بيد النسيم يبدد )
( ألقى عليها الطل بردا سابغا ... فثناؤه طول الزمان يردد )
( أترى الحمامة من محب مخلص ... أولى بشكر حين تغمره يد )
( فلأثنين عليك ما أثني بأعلى ... الغصن حنان الهديل مغرد )
( كم نعمة لي في جنابك 4 كم أكابد ... جهدها أيان برك يجهد
( يعرد فتوالت الأحقاب وهو مبرأ ... من أن يكون له مثال يوجد )
( ولكم بليغ جال فصل خطابه ... والسرج في ضوء الغزالة تمهد )
( زويت لك الأرض التي لا زال حتى ... الحشر ربك في ذراها يعبد )
( ونصرت بالرعب الذي لما يزل ... يترى كأن ما عين شخصك تفقد )
( فمتى تعرض طاعن أو حاد عن ... حرم الهداية فالحسام مجرد )
( يا من تخير من ذؤابة هاشم ... نعم الفخار لها ونعم المحتد )
( لسناك حين بدا بآدم أقبلت ... رعيا لأخراه الملائك تسجد )
( لم أستطع حصرا لما أعطيته ... فذكرت بعضا واعتذاري منشد )
( ماذا أقول إذا وصفت محمدا ... نفد الكلام ووصفه لا ينفد )
( فعليك يا خير الخلائق كلها ... مني التحية والسلام السرمد )
( قال وقلت بإشبيلية
( هل تمنع النهود ... ما أبدت الخدود )
( نعم وكم طعين ... بطعنها شهيد )
( يا ربة المحيا ... حفت به السعود )
( لم تسكر الحميا ... بل ريقك البرود )
( لله يا عذولي ... ما تكتم البرود )
( ما زلت فيه أفن ... ي والوجد مستزيد )
( يا هل ترى زمانا ... مضى لنا يعود )
( لدى العروس سقت ... جنابها العهود )
( حيث الغصون مالت ... كأنها قدود )
( وزهرها نظيم ... كأنه عقود
وقال
( أرى العين مني تحسد الأذن كلما ... جرت مدحة للعلم والفضل والمجد )
( أحقق أنباء ولم أر صورة ... كتحقيقي الأخبار عن جنة الخلد )
( فمن على عيني بلقياك إنني ... أخذت لها أمنا بذاك من السهد )
قال وقلت أمدح ابن عمي وأشكره على ما أذكره
( آه مما تكن فيك الجوانح ... ودموعي على نواك سوافح )
( واشتفاء من العدو ببين ... كدر العيش أي عيش لنازح )
( يا أتم الأنام حسنا أما تحسن ... حتى يتم إطراء مادح )
( يا زمان الوصال عودا فإني ... طوحت بي لما غدرت الطوائح )
( أين عيش العروس إذ يبطح السكر ... حبيبي ما بين تلك الأباطح )
( والأماني تترى ولا أحد ينصح ... إذ لا يصغى إلى قول ناصح )
( وزمان السرور سمح مطيع ... ورسول الحبيب غاد ورائح )
( ولكم ليلة أتاني بلا طيب ... ولكن يزري بأذكى الروائح )
( هو ظبي فليس يحتاج طيبا ... قد كفاه عرف من المسك فائح ) مثل عليا محمد لم تكن كسبا ... وما لا يكون في الطبع فاضح )
( يا كريما أتى من الجود ما لا ... كان يدري فأوجدته المدائح )
( وعلا كل ذي علاء وأضحى ... نحو ما لا يرومه الناس طامح )
( قد أتاني إحسانك الغمر في إثر ... سواه فكنت أكمل مادح )
( فاض بحر النوال منك ولا ساحل ... يبدو ولم أزل فيه سابح )
( حلل مثل ما كسوتك في المدح ... تميت العدا ومال وسامح
( أورد الورد منطقي كل شكر ... حين أضحى طوع البنان مسامح )
( لون خد الحبيب حين كسوه ... حلة الحسن بالعيون اللوامح )
( شفق سال بين عينيه صبح ... حسنه قيد اللحاظ السوارح )
( لم أجد فيه من جماح ولكن ... ثنائي عليك ما زال جامح )
( لك يا ابن الحسين ذكر جميل ... صير الكل نحو بابك جانح )
( قد هدى نحوك الثناء كما يهدي ... إلى الروض باسمات النوافح )
( فاعذر الناس أن أتوا لك أفوا جا ... فكل بقصد فضلك رابح )
( ما هدتهم إليك إلا الأمان ... ي لم تحلهم إلا عليك القرائح )
( قل لذي المفخر الحديث تأخر ... ليس مهر في شأوه مثل قارح )
( أي أصل وأي فرع أقاما ... شرفا ظل للنجوم يناطح )
( قد حوت مذحج من الفجر لما ... كنت منها ما ليس يحويه شارح )
( أفق مجد قد زانه منك بدر ... في ظلام الخطوب ما زال لائح )
( بدر تم حفت به هالة من ... بيت مجد علاؤها الدهر واضح )
( يا سماكا بمسكه القلم الأعلى ... بدا بين أنجم الملك رامح )
( رفع الله للكتابة قدرا ... بعد ما كابدت توالي الفضائح )
( يا أعز الأنام نفسا وأعلا هم ... محلا لا زال أمرك راجح )
( أين أعداؤك الذين رعى سيفك ... فيهم فأشبهوا قوم صالح )
( أفسد الدهر حالهم ليرى حالك ... رغما بمن يناويك صالح )
( دمت في عزة وسعد مدى الدهر ... ولا زال طائر منك سانح )
أبو عبد الله ابن سعيد وابن عمه المذكور قال في حقه في المغرب ما ملخصه
إنه الرئيس الأعلى ذو الفضائل الجمة أبو عبد الله محمد بن الحسين بن أبي الحسين سعيد بن الحسين بن سعيد بن خلف بن سعيد قال واجتماع نسبنا مع هذا الرئيس في سعيد بن خلف وهو الآن قد اشتمل عليه ملك إفريقية اشتمال المقلة على إنسانها وقدمه في مهماته تقديم الصعدة لسنانها وأقام لنفسه مدينة حذاء حضرة تونس واعتزل فيها بعسكر الأندلس الذين صيرهم الملك المنصور إلى نظره وهو كما قال الفتح صاحب القلائد فقد جاء آخرهم فجدد مفاخرهم ومن نظمه وقد نزل على من قدم له مشروبا أسود اللون غليظا وخروبا وزبيبا أسود وزبيبا كثير الغصون جاءت به عجوز في طبق فقال
( يوم نزلنا بعبد العزيز ... فلا قدس الله عبد العزيز )
( سقانا شرابا كلون الهناء ... ونقلنا بقرون العنوز )
( وجاءت عجوز فأهدت لنا ... زبيبا كخيلان خد العجوز )
ونزل السلطان أبو يحيى في بعض حركاته لموضع فيه نهر وعلى شطه نور فقال الرئيس أبو عبد الله بن الحسين يصفه أو أمر بذلك
( ونهر يرف الزهر في جنباته ... ويثني النسيم قضبه فتأطر )
( يسيل كما عن الصباح بأفقه ... وإلا كما شيم الحسام المجوهر )
( عليه ليحيى قبة هل سمعتم ... بقرصه شمس حل فيها غضنفر )
( فإن 14 قلت هذي قبة لعفاتها ... فقل ذلك الوادي الذي سال كوثر )
وقال أبو عمرو أحمد بن مالك بن سيد امير اللخمي النشابي في ذلك
( وأرض من الحصباء بيضاء قد جرت ... جداول ماء فوقها تتفجر
فكتب إلي هذه الأبيات وكان متمرضا وبعث إلي بما يذكر
( أكف الصبا حفت جنى زهر الربى سؤالك عن نضو يسامي بك الزهرا )
( بعثت بمثل الزهر في مثل صفحة ... لذلك ما قلدتها الشذر والدرا )
( معان لها أعنو وأعني بها فكم ... وقفت عليها العين والسمع والفكرا )
( فلو عرضت للبحر لم يلفظ الدرا ... ولو عارضت هاروت لم ينفث السحرا )
( أبا حسن هنئت ما قد منحته ... ضروبا من الآداب تحلي بها الدهرا )
( ودونك بحرا من ودادي تلاطمت ... به زاخرات المد لا يعرف الجزرا )
( فإن خطرت في جانب منك هفوة ... فلا تحسبن أني أضيق بها صدرا )
( يزل الجواد عند ما يبلغ المدى ... ويعثر بالرمث النسيم إذا أسرى )
( فدع ذا وخذها شائبات قرونها ... عروبا لعوبا جائزا حكمها بكرا )
( ولو غادرت أوصافها متردما ... لشنفت من أشعارها أذن الشعرى )
( ألا فاحجبنها عن صديق معمم ... فإن قصارى الغمر أن يبكي العمرا )
( ومن كان ذا حجر ونبل ورقة ... فلا يخلون إلا على الخمرة الحمرا )
( قرنت بها صفراء لم تعرف الهوى ... ولا ألفت وصلا ولا عرفت هجرا )
( ولا ضمخت نضخ العبير وإن غدت ... تؤخره لونا وتفضحه نشرا )
( فإن خلتها بنت الظليم أظلها ... فقد فرش الإذخر من تحتها تبرا )
( لها نسب بين الثريا أو الثرى ... وسل برباها المزن والغصن النضرا )
( فشربا دهاقا وانتشاقا ولا ترم ... عن البيت فترا أو تقيم به شهرا )
وله في الخشكلان
( هو الأهلة لكن ... تدعونه خشكلانا )
( فإن تفاءلت صحف ... تجد حبيبك لانا ) انتهى باختصار
وحظي المذكور جدا عند السلطان ملك إفريقية أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص ولما مات السلطان المذكور وحدثت فتنة بموته واختلاف ثم استقرت الدولة لابنه الشهير الكبير القدر أبي عبد الله المستنصر ممدوح حازم بالمقصورة وقاتل ابن الأبار القضاعي - سخط على الرئيس ابن الحسين المذكور وقبض على دياره وأمواله وصيره كالمحبوس فكتب إليه رقعة يطلب الاجتماع به في مصلحة للدولة فأحضره وسأله فأخبره بأن أباه صنع دارا عظيمة تحت الأرض وأودع فيها من أنواع المال والسلاح ما جعله عدة وذخيرة لسلطانه ولم يترك على وجه الأرض من له علم بهذا الموضع الذي أودعه نفائس أمواله غيري وأوصاني أنه إذا انتقل إلى جوار ربه إذ توقع أن تقع فتنة بين أقاربه أنه إذا انقضت سنة واستقر الأمر لأحد من ولدي أو من يتيقن أنه يصلح لأمور المسلمين فأطلعه على هذه الذخائر فربما فنيت الأموال بالفتنة فلا يجد القائم بالأمر ما يصلح به الدولة إذا تفرغ للتدبير والسياسة ففرح السلطان وبادر إلى تلك الدار فرأى ما ملأ عينه وسر قلبه وخرج الرئيس ابن الحسين والخيل تجنب أمامه وبدر الأموال بين يديه وأعاده إلى أحسن أحواله وجعله وزيرا لديه كما كان أبوه مفوضا أموره إليه وقال السلطان إن من أوجب شكر الله علي أن أفتتح المال بأن أؤدي منه للرعية الذين نهبت دورهم واحترقت في الفتنة التي كانت بيني وبين أقاربي ما خسروه وأمر بالنداء فيهم وأحضرهم وكل من حلف على شيء قبضه وانصرف
ذكر المستنفر الحفصى
وكان السلطان المستنصر المذكور في بعض متصيداته فكتب لأبي عبد الله
الرئيس المذكور يأمره بإحضار الأجناد لأخذ أرزاقهم بقوله
( ليحضر كل ليث ذي منال ... زكا فرعا لإسداء النوال )
( غدا يوم الخميس فما شغلنا ... بأسد الوحش عن أسد الرجال )
( وحكي أن السلطان المذكور عرض مرة أجناده وقيل بل سلم عليه الموحدون يوم عيد بتونس وفيهم شاب مليح وسيم اسم جده النعمان فسأله السلطان عن اسمه وأعجبه حسنه فخجل واحمر وجهه وازداد حسنا فقال السلطان هذا المصراع
( كلمته فكلمت صفحة خده ... )
وسأل من الحاضرين الإجازة فلم يأتوا بشيء فقال السلطان مجيزا شطره
( فتفتحت فيها شقائق جده ... ) وهذا من البدائع مع ما فيه من التورية والتجنيس
ومما نسبه له أبو حيان بسنده إليه
( ما لي عليك سوى الدموع معين ... إن كنت تغدر في الهوى وتخون )
( من منجدي غير الدموع وإنها لمغيثة مهما استغاث حزين )
( الله يعلم أن ما حملتني ... صعب ولكن في رضاك يهون )
وكان للسلطان المذكور سعد يضرب به المثل حتى إنه كتب له صاحب مكة البيعة من إنشاء ابن سبعين المتصوف كما ذكر ذلك ابن خلدون في تاريخه الكبير وسرد نصها وهي من الغرائب
ومن سعده أن الفرنسيس الذي كان أسر بمصر وجعل في دار ابن لقمان والطواشي صبيح يحرسه لما سرح جاء من أمم النصرانية لبلاد المسلمين بما لم يجتمع قط مثله حتى قيل إنهم كانوا ألف ألف فكتب إليه أهل مصر من
نظم ابن مطروح القصيدة المشهورة التي منها
( قل للفرنسيس إذا جئته ... مقالة من ذي لسان فصيح )
إلى أن قال
( دار ابن لقمان على حالها ... ومصر مصر والطواشي صبيح )
والقصيدة مشهورة فلذلك لم أسردها فصرف الفرنسيس جيوشه إلى تونس فكتب إليه بعض أدباء دولة المستنصر
( أفرنسيس تونس أخت مصر ... فتأهب لما إليه تصير
( لك فيها دار ابن لقمان قبر ... وطواشيك منكر ونكير )
فقضى الله سبحانه وتعالى أنه مات في حركته لتونس وغنم المستنصر غنيمة ما سمع بمثلها قط ويقال إنه دس إليه سيفا مسموما من سله أثر فيه سمه وقلده رسولا إليه بعد أن جعل عليه من الجواهر النفيسة ما لم ير مثله عند غيره وقال للرسول إن الفرنسيس رجل كثير الطمع ولولا ذلك ما عاود بلاد المسلمين بعد أسره وإنه سيرى السيف ويكثر النظر إليه فإذا رأيته فعل ذلك فانزعه من عنقك وقبله وقل له هذا هدية مني إليك لأن من آدابنا مع ملوكنا أن كل ما وقع نظر الملك عليه وعاود النظر إليه بالقصد فلا بد أن يكون له ويحرم علينا أن نمسكه لأن ما أحبه المولى على العبيد حرام وتكراره النظر إليه دليل على حبه له ففرح النصراني بذلك وأسرع الرسول العود إلى سلطانه فسل النصراني السيف فتمكن فيه السم بالنظر فمات في الحين وفرج الله تعالى عن المسلمين
رجع إلى أخبار أبي الحسن علي بن سعيد 443 رجع إلى أخبار أبي الحسن علي بن سعيد وشعره رجع إلى أخبار أبي الحسن علي بن قال ابن العديم في تاريخ حلب أنشدني شرف الدين أبو العباس أحمد بن
يوسف التيفاشي بالقاهرة في أبي الحسن علي بن موسى بن سعيد الغرناطي يشير إلى كتاب أبي الحسن الذي جمعه في محاسن المغرب وسماه المغرب
( سعد الغرب وازدهى الشرق عجبا ... وابتهاجا بمغرب ابن سعيد )
( طلعت شمسه من الغرب تجلى ... فأقامت قيامة التقييد )
( لم يدع للمؤرخين مقالا ... لا ولا للرواة بيت نشيد )
( إن تلاه على الحمام تغنت ... ما على ذا في حسنه من مزيد ) وأنشدني أبو العباس التيفاشي لنفسه فيه
( يا طيب الأصل والفرع الزكي كما ... يبدو جنى ثمر من أطيب الشجر )
( ومن خلائقه مثل النسيم إذا ... يهفو على الزهر حول النهر في السحر )
( ومن محياه والله الشهيد إذا ... يبدو إلى بصري أبهى من القمر )
( أثقلت ظهري ببر لا أقوم به ... لو كنت أتلوه قرآنا مع السور )
( أهديت لي الغرب مجموعا بعالمه ... في قاب قوسين بين السمع والبصر )
( كأنني الآن قد شاهدت أجمعه ... بكل من فيه من بدو ومن حضر )
( نعم ولاقيت أهل الفضل كلهم ... في مدتي هذه والأعصر الأخر )
( إن كنت لم أرهم في الصدر من عمري ... فقد رددت علي الصدر من عمري )
( وكنت لي واحدا فيهم جميعهم ... ما يعجز الله جمع الخلق في بشر )
( جزيت أفضل ما يجزى به بشر ... مفيد عمر جديد الفضل مبتكر )
ومن نظم أبي الحسن بن سعيد قوله
( وعشية بلغت بنا أيدي النوى ... منها محاسن جامعات للنخب )
( فحدائق ما بينهن جداول ... وبلابل فوق الغصون لها طرب )
( والنخل أمثال العرائس لبسها ... خز وحليتها قلائد من ذهب )
ومن نظمه رحمه الله تعالى في حلب قوله
( حادي العيس كم تنيخ المطايا ... سق فروحي من بعدهم في سياق )
( حلب إنها مقر غرامي ... ومرامي وقبلة الأشواق )
( لا خلا جوسق ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! وبطياس والسع داء ... من كل وابل غيداق )
( كم بها مرتع لطرف وقلب ... فيه يسقى المنى بكأس دهاق )
( وتغني طيوره لارتياح ... وتثنى غصونه للعناق )
( وعلو الشهباء حيث استدارت ... أنجم الأفق حولها كالنطاق )
وقوله أيضا في حماة
( حمى الله من شطي حماة مناظرا ... وقفت عليها السمع والفكر والطرفا )
( تغنى حمام أو تميل خمائل ... وتزهى مبان تمنح الواصف الوصفا )
( يلومون تغني أن أعصي التصون والنهى ... بها وأطيع الكأس واللهو والقصفا )
( إذا كان فيها النهر عاص فكيف لا ... أحاكيه عصيانا وأشربها صرفا )
( وأشدو لدى تلك النواعير شدوها ... وأغلبها رقصا وأشبهها غرفا )
( تئن وتذري دمعها فكأنها ... تهيم بمرآها وتسألها العطفا )
وقوله في وداع ابن عمه وكتب بهما إليه
( وداع كما ودعت فصل ربيع ... يفض ضلوعي أو يفيض دموعي )
( لئن قيل في بعض يفارق بعضه ... فإني قد فارقت منك جميعي )
قال فأرسل إلي إحسانا واعتذر ولسان الحال ينشد عنه
( أحبك في البتول وفي أبيها ... ولكني أحبك من بعيد ) وقوله وقد أفلت المركب الذي كان فيه من العدو
( انظر إلى مركبنا منقذا ... من العدا من بعد إحراز )
( أفلت منهم فغدا طائرا ... كطائر أفلت من بازي )
وقال رحمه الله تعالى لما خرج من حدود إفريقية
( رفيقي جاوزنا حدود مواطن ... صحبنا بها الأيام طلقا محياها )
( وما إن تركناها لجهل بقدرها ... ولكن ثنت عنا أعنة سقياها )
( فسرنا نحث السير عنها لغيرها ... إلى أن يمن الله يوما بلقياها ) وكان وصوله الإسكندرية في السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع وثلاثين وستمائة وقال رحمه الله تعالى أخذت مع والدي يوما في اختلاف مذاهب الناس وأنهم لا يسلمون لأحد في اختياره فقال متى أردت أن يسلم لك أحد في هذا التأليف - أعني المغرب - ولا تعترض أتعبت نفسك باطلا وطلبت غاية لا تدرك وأنا أضرب لك مثلا يحكى أن رجلا من عقلاء الناس كان له ولد فقال له يوما يا أبي ما للناس ينتقدون عليك أشياء وأنت عاقل ولو سعيت في مجانبتها سلمت من نقدهم فقال يا بني إنك غر لم تجرب الأمور وإن رضى الناس غاية لا تدرك وأنا أوقفك على حقيقة ذلك وكان عنده حمار فقال له اركب هذا الحمار وأنا أتبعك ماشيا فبينما هما كذلك إذ قال رجل
انظر ما أقل هذا الغلام بأدب ! يركب ويمشي أبوه وانظر ما أشد تخلف والده لكونه يتركه لهذا فقال له انزل أركب أنا وامش أنت خلفي فقال شخص آخر انظر هذا الشخص ما أقله بشفقة ! ركب وترك ابنه يمشي فقال له اركب معي فقال شخص أشقاهما الله تعالى ! انظر كيف ركبا على الحمار وكان في واحد منهما كفاية فقال له انزل بنا وقدماه وليس عليه راكب فقال شخص لا خفف الله تعالى عنهما ! انظر كيف تركا الحمار فارغا وجعلا يمشيان خلفه فقال يا بني سمعت كلامهم وعلمت أن أحدا لا يسلم من اعتراض الناس على أي حالة كان انتهى
مقتبسات من خطبة المغرب
وقال في أثناء خطبة المغرب ما نصه والحمد لله الذي جعل الأدب أفضل ما اكتسب وأفضل ما انتخب إذ هو ذخر لا يخاف كساده وكنز لا يخشى انتقاصه وإن كثر مرتاده ولله در القائل
( رأيت جميع الكسب يفقده الفتى ... وتبقى له أخلاقه والتأدب )
( إذا حل في أرض أقام لنفسه ... بآدابه قدرا به يتكسب )
( وأومأ كل نحوه ولعله ... إلى غير أهل للنباهة ينسب )
وقال في أثناء الكلام لبعض المغاربة
( فأثبت في كل المواطن همة ... إلى طلب العلم الذي كان مطرح )
( وصيرت من قد كان بالنظم جاهلا ... يحاوله كيما تجود لك المدح )
وقال أيضا في الخطبة وبعد فهذا كتاب راحة قد تعبت في جمعه الأسماع والأبصار والأفكار وكل عناء سهل إذا أنجح القصد وقد بدأ فيه من سنة ثلاثين وخمسمائة ومنتهاه إلى غرة سنة إحدى وأربعين وستمائة قال وأول
من كان السبب في ابتداء هذا الكتاب جد والدي عبد الملك بن سعيد وهو إذ ذاك صاحب قلعة بني سعيد تحت طاعة علي بن يوسف بن تاشفين أمير المسلمين ملك البربر إلى أن استبد بها سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وقصده سنة ثلاثين وخمسمائة حافظ الأندلس أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن الحجاري وصنف له كتاب المسهب في غرائب المغرب في نحو ستة أسفار وابتدأ فيه من فتح الأندلس إلى التاريخ الذي ابتدأه فيه وهو سنة ثلاثين وخمسمائة ثم ثار في خاطر عبد الملك أن يضيف إليه ما أغفله الحجاري وتولع بمطالعته ابناه أبو جعفر ومحمد وأضافا له ما استفاداه ولم يزل يزيد إلى أن استبد به محمد فاعتنى به أشد اعتناء ثم استبد به والدي - وكان أعلمهم بهذا الشأن - وبلغ من اجتهاده في هذا الكتاب أنني أذكره يوما وقد نوه به ابن هود وهو ملك الأندلس وولاه الجزيرة الخضراء فأعلمه شخص أن عند أحد المنسوبين إلى بيت نباهة كراريس من شعر شعرائها وأخبار رؤسائها الذين تحتوي عليهم دولة بني عبد المؤمن فأرسل إليه راغبا في استعارتها فأبى وقال على يمين أن لا تخرج عن منزلي وقال إن كانت له حاجة يأتي على رأسه وكان جاهلا فلما سمع والدي ضحك وقال سر معي إليه فقلت له ومن يكون هذا حتى نمشي له على هذه الصورة فقال إني لا أمشي له ولكن أمشي للفضلاء الذين تضمنت الكراريس أشعارهم وأخبارهم أتراهم لو كانوا أحياء مجتمعين في موضع أنفت أن أمشي إليهم قلت لا قال فإن الأثر ينوب عن العين فمشينا إلى منزل الرجل فوالله ما أنصفنا في اللقاء فلما قضينا منها الغرض صرفها إليه والدي وشكره وقال هذه فائدة لم أجدها عند غيرك فجزاك الله تعالى خيرا ! ثم انفصل وقال ألم تعلم يا بني أنني سررت بهذه الفائدة أكثر من الولاية وإن هذا والله أول السعادة وعنوان نجاحها
( كما سبحت تبغي الحياة أراقم ... على روضة فيها الأقاح المنور )
( وإلا كما شقت سبائك فضة ... بساطا على حافاته الدر ينثر )
( وقال أبو علي يونس
( انظر إلى منظر يسبيك منظره ... ويزدهيك بإذن الله مخبره )
( ومعجب معجب لا شيء يشبهه ... خرير ماء نمير ثم منهره )
( كأنما فرشت بالدر صفحته ... فالماء ينظمه طورا وينثره )
( كأن خلجانه قدت على قدر ... بمائها قسم يجري مفجره )
( أحل سيدنا الميمون قبته ما بحوزه فغدا يزدان جعفره )
رجع إلى ما كنا فيه من أخبار الرئيس ابن الحسين فنقول رأيت بالمغرب آخر كتاب روح السحر من نسخة ملوكية كتبت له أبياتا علق بحفظي منها الآن ما نصه
( تم روح السحر نسخا فأتى ... مصحبا باليمن والفخر البعيد )
( لأبي عبد الإله المرتقى ... في ذرا المجد الرئيس ابن سعيد )
ولم أحفظ تمام الأبيات
وقال أبو الحسن علي بن سعيد كتبت إليه من أبيات بحضرة تونس وقد نقل إليه بعض الحساد ما أوجب تغيره
( ومن بعد هذا قد أتيت بزلة ... أما حسن أن لا تضيق بها صدرا )
( وعلمك حسبي بالأمور فإنني ... عهدتك تدري سر أمري والجهرا )
( وقد أصلح الله الأمور بسعيكم ... ونيتكم صلحا على البشر والبشرى )
( ولم يبق لي إلا رضاك فإن به ... كتبت ولو حرفا أطبت لى العمرا )
( فبقيت كهفا للجميع وموئلا ... ولا زلت ما دام الزمان لنا سترا
قلعة بني سعيد وأولية والقلعة التي كان بها بنو سعيد تعرف بهم فيقال لها قلعة بني سعيد وكانت تعرف قبل بقلعة أسطلير وهو عين لها وقال الملاحي في تاريخه إنها تعرف بقلعة يحصب قبيل من اليمن نزل بها عند فتح الأندلس وبها كما مر صنف الحجاري كتاب المسهب لصاحبها عبد الملك بن سعيد وفي بني سعيد يقول الحجاري
( قوم لهم في فخرهم ... شرف الحديث مع القديم )
( ورثوا الندى والبأس والعليا ... كريما عن كريم )
( من كل وضاح به ... يجلى دجى الليل البهيم )
أوليه بني سعيد
وكان أول من دخل الأندلس من ولد عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه عبد الله بن سعد بن عمار وقد ذكره ابن حيان في مقتبسه وأخبر أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري صاحب الأندلس آخر دولة بني أمية بالمشرق كتب إليه أن يدافع عبد الرحمن بن معاوية المرواني الداخل للأندلس وكان إذ ذاك أميرا على اليمانية من جند دمشق وإنما ركن إليه في محاربه عبد الرحمن لما بين بني عمار وبين بني أمية من الثأر بسبب قتل عمار بصفين على يد عسكر معاوية رضي الله تعالى عنه وكان عمار من شيعة علي رضي الله تعالى عنهما
شعر لأبي بكر ابن سعيد وقال الحجاري أنشدني أبو بكر محمد بن سعيد صاحب أعمال غرناطة في مدة الملثمين لنفسه فيما يليق بجنسه
( إن لم أكن للعلاء أهلا ... بما تراه فمن يكون )
( وكل ما أبتغيه دوني ... ولي على همتي ديون )
( ومن يرم ما يقل عنه ... فذاك من فعله جنون )
( فرع بأفق السماء سام ... وأصله راسخ مكين )
ومن نظمه قوله أيضا
( الله يعلم أني ... أحب كسب المعالي )
( وإنما أتوانى ... عنها لسوء المآل )
( تحتاج للكد والبذل ... واصطناع الرجال )
( دع كل من شاء يسمو ... لها بكل احتيال )
( فحالهم بانعكاس ... فيها وحالي حالي ) ترجمة ترجمة الغساني من المغرب ولما ذكر ابن سعيد في المغرب ترجمة الكاتب الرئيس المجيد أبي العباس أحمد الغساني كاتب ملك إفريقية قال بماذا أصفه ولو أن النجوم تصير لي نثرا لما كنت أنصفه وكفاك أني اختبرت الفضلاء من البحر المحيط إلى حضرة القاهرة فما رأيت أحسن ولا أفضل عشرة منه ولما فارقته
لم أشعر إلا برسالته قد وافتني بالإسكندرية من تونس وفيها قصيدة فريدة منها
إيه أبا الحسن استمع شدوي ... فقد يصغي الحمام إذا الحمام ترنما )
ثم سرد بعضا من القصيدة وستأتي قريبا إن شاء الله تعالى بزيادة على ما ذكر منها في المغرب
إجازته للتيفاش رواية المغرب رجع - وجد بخطه رحمه الله تعالى آخر الجزء من كتاب المغرب ما نصه أجزت الشيخ القاضي الأجل أبا الفضل أحمد ابن الشيخ القاضي أبي يعقوب التيفاشي أن يروي عنى مصنفي هذا وهو المغرب في محاسن المغرب ويرويه من شاء ثقة بفهمه واستنامة إلى علمه وكذلك أجزت لفتاه النبيه جمال الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن خطلخ الفارسي الأرموي أن يرويه عني ويرويه من شاء وكتبه مصنفه علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد في تاريخ الفراغ من نسخ هذا السفر انتهى
شعر لابن سعيد
وقال في وسيم من أبناء العجم صحبه في الطريق من حلب إلى بغداد فمات وكان ظريفا أديبا
( لهفي على غصن ذوى ... أفقدته لما استوى )
( ريان من ماء الصبا ... ومن المدامع ما ارتوى )
( لا تعذلوني إن نطقت ... الدهر فيه عن الهوى )
( كم ضل صاحبه بسحر ... اللحظ منه وكم غوى )
( أنا لا أفيق الدهر فيه ... من الصبابة والجوى )
( إن الهوى حيا وميتا ... لا يزال به سوى )
( كم قد نويت به التنعيم ... فقدر الله النوى )
( دار السلام حويت من ... كل المحاسن قد حوى )
( مجموع حسن قد ثوى ... في جنة وبها ثوى )
وولد أبو الحسن 1علي بن موسى يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من شهر رمضان عام عشرة وستمائة وهو علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك ابن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه
ترجمة والد ابن سعيد من المغرب
وقال في المغرب لما عرف بوالده الكاتب الشهير أبي عمران موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد ما محصله لولا أنه والدي لأطنبت في ذكره ووفيته من الوصف حق قدره لكن كفاه وصفا ما أثبت له في هذه الترجمة وما مر له ويمر في أثناء هذا الكتاب وكون كل من اشتغل بهذا التأليف نهرا وهو بحر واشتهاره في حفظه التاريخ والاعتناء بالآداب في بلاده بحيث لا يحتاج إلى تنبيه ولا إطناب وله من النظم والنثر ما تضج الأقلام من كثرته ويستمد القطر من درته ومما شاهدت من عجائبه أنه عاش سبعا
وستين سنة ولم أره يوما يخلى مطالعة كتاب أو كتب ما يخلده حتى إن أيام الأعياد لا يخليها من ذلك ولقد دخلت عليه في يوم عيد وهو في جهد عظيم من الكتب فقلت له يا سيدي أفي هذا اليوم لا تستريح فنظر إلي كالمغضب وقال أظنك لا تفلح أبدا أترى الراحة في غير هذا والله لا أحسب راحة تبلغ مبلغها ولوددت أن الله تعالى يضاعف عمري حتى أتم كتاب المغرب على غرضي قال فأثار ذلك في خاطري أن صرت مثله لا ألتذ بنعيم غير ما ألتذ به من هذا الشأن ولولا ذلك ما بلغ هذا التأليف إلى ما تراه وكان أولع الناس بالتجول في البلدان ومشاهدة الفضلاء واستفادة ما يرى وما يسمع وفي تولعه بالتقييد والمطالعة للكتب يقول
( يا مفنيا عمره في الكأس والوتر ... وراعيا في الدجى للأنجم الزهر )
( يبكي حبيبا جفاه أو ينادم من ... يهفو لديه كغصن باسم الزهر )
( منعما بين لذات يمحقها ... ولا يخلد من فحر ولا سير )
( وعاذلا لي فيما ظلت أكتبه ... يبدي التعجب من صبري ومن فكري )
( يقول مالك قد أفنيت عمرك في ... حبر وطرس عن الأغصان والحبر )
( وظلت تسهر طول الليل في تعب ... ولا تني أمد الأيام في ضجر )
( أقصر فإني أدري بالذي طمحت ... لأفقه همتي واسأل عن الأثر )
( واسمع لقول الذي تتلى محاسنه ... من بعد ما صار مثل الترب كالسور )
( جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسير ) انتهى
وولد أبو عمران موسى بن محمد في الخامس من رجب عام ثلاثة وسبعين
وخمسمائة وتوفي بثغر الإسكندرية يوم الاثنين الثامن من شوال عام أربعين وستمائة
محمد بن عبد الملك بن سعيد
وولد أبوه محمد بن عبد الملك صاحب أعمال غرناطة وأعمال إشبيلية عام أربعة عشر وخمسمائة وتوفي بشعبان عام تسعة وثمانين وخمسمائة بغرناطة
وكان محمد بن عبد الملك وزيرا جليلا بعيد الصيت عالي الذكر رفيع الهمة كثير الأموال وذكره ابن صاحب الصلاة في كتابه تاريخ الموحدين ونبه على مكانته منهم في الحظوة والأخذ في أمور الناس وأثنى عليه وذكره السهيلي في شرح السيرة الشريفة حيث ذكر الكتاب الموجه من رسول الله إلى هرقل وأن محمد بن عبد الملك عاينه عند أدفونش مكرما مفتخرا به والقصة مشهورة ومدحه الرصافي بقصيدة أولها
( ذهنا يفيض وخاطرا متوقدا ... ماذا عسى يثنى على علم الندى )
ولما أنشده قصيدته فيه التي أولها
( لمحلك الترفيع والتعظيم ... ولوجهك التقديس والتكريم ) حلف لا يسمعها وقال علي إجازتك ولكن طباعي لا تحمل مثل
هذا فقال له الرصافي ومن مثلك يستحق هذا في الوقت غيرك فقال له دعني من خداعك أنا وما أعلمه من قلبي وأنشد له في الطالع السعيد
( فلا تظهرن ما كان في الصدر كامنا ... ولا تركبن بالغيظ في مركب وعر )
( ولا تبحثن في عذر من جاء تائبا ... فليس كريما من يباحث في العذر ) وولي للموحدين أعمالا كثيرة بمراكش وسلا وإشبيلية وغرناطة واتصلت ولايته على أعمال غرناطة وكان من شيوخها وأعيانها وكتب عليه عقد أن في داره من الحلى وأصنافه ما لا يمكن إلا في دار الملك وأنه إذا ركب في صلاة الصبح شوش نباح الكلاب فأمر المنصور بالقبض عليه وعلى ابن عمه صاحب أعمال إفريقية أبي الحسن سنة 593 ثم رضي عنهما وأمر محمد بن عبد الملك أن يكتب بخطه كل ما أخذ له فصرفه عليه ولم ينقص شيئا وغرم له ما فات منه وهذا مما يدل على قوة سعد محمد بن عبد الملك المذكور ونباهة قدره وحسبه من الفخر مدح أديب الأندلس وشاعرها أبي عبد الله الرصافي له وهو ممن يمدح الخلفاء في ذلك العصر - رحمه الله تعالى -
عبد الملك بن سعيد وولد أبوه عبد الملك بن سعيد عام ستة وتسعين وأربعمائة وتوفي بحضرة
مراكش عام اثنين وستين وخمسمائة قال الحجاري لما مات يحيى بن غانية الملثم ملك الأندلس بحضرة غرناطة وكان وزيره ومدبر دولته عبد الملك بن سعيد بادر الفرار لغرناطة عند ما سمع بموته إلى قلعته وثار بها وطلبه خليفة يحيى بن غانية طلحة بن العنبر فوجده قد فاته
وقد قدمنا أن عبد الملك هذا هو السبب في تأليف كتاب المغرب في أخبار المغرب ثم تممه ابنه محمد بن عبد الملك ثم تمم ما بقي منه ابنه موسى بن محمد ثم أربى على الكل في إتمامه أبو الحسن علي بن موسى الذي قصدناه بالترجمة في هذا الكتاب وقد ذكرنا من أحواله جملة كافية
وصف ابن سعيد للفسطاط ومن فوائد ابن سعيد أبي الحسن ما حكاه عن صاحب كتاب الكمائم وهو فأما فسطاط مصر فإن مبانيها كانت في القديم متصلة بمباني مدينة عين شمس وجاء الإسلام وبها بناء يعرف بالقصر حوله مساكن وهو الذي عليه نزل عمرو بن العاص وضرب فسطاطه حيث المسجد الجامع المنسوب إليه ثم لما فتحها قسم المنازل على القبائل ونسب المدينة إليه فقيل فسطاط عمرو وتداولت عليها بعد ذلك ولاة مصر فاتخذوها سرير السلطنة وتضاعفت عمارتها فأقبل الناس من كل جانب إليها وقصروا أمانيهم عليها إلى أن رسخت بها دولة بني طولون فبنوا إلى جانبها المنازل المعروفة بالقطائع وبها كان مسجد ابن طولون الذي هو الآن إلى جانب القاهرة وهي مدينة
مستطيلة يمر النيل مع طولها وتحط في ساحلها المراكب الآتية من شمال النيل وجنوبه بأنواع الفوائد وبها منتزهات وهي في الإقليم الثالث ولا ينزل فيها المطر إلا في النادر وترابها ينتن الأرجل وهو قبيح اللون تستكدر منه أرجاؤها ويسوء بسببه هواؤها ولها أسواق ضخمة إلا أنها ضيقة ومبانيها بالقصب والطوب طبقة على طبقة ومذ بنيت القاهرة ضعفت مدينة الفسطاط وفرط في الاعتناء بها بعد الإفراط وبينهما نحو ميلين وأنشدت فيها للشريف العقيلي
( أحن إلى الفسطاط شوقا وإنني ... لأدعو لها أن لا يحل بها القطر )
( وهل في الحيا من حاجة لجنابها ... وفي كل قطر من جوانبها نهر )
( تبدت عروسا والمقطم تاجها ... ومن نيلها عقد كما انتظم الدر )
وقال عن كتاب إجار والفسطاط هو قصبة مصر والجبل المقطم شرقيها وهو متصل بجبل الزمرذ وقال عن كتاب ابن حوقل الفسطاط مدينة حسنه ينقسم النيل لديها وهي كبيرة ومقدارها نحو فرسخ على غاية العمارة والطيب واللذة ذات رحاب في محالها وأسواق عظام فيها ضيق
ومتاجر فخام ولها ظاهر أنيق وبساتين نضرة ومنتزهات على ممر الأيام خضرة وفي الفسطاط قبائل وخطط للعرب تنسب إليها كالكوفة والبصرة إلا أنها أقل من ذلك وهي سبخة الأرض غير نقية التربة وتكون الدار بها سبع طبقات وخمسا وستا وربما يسكن في الدار المائتان من الناس ومعظم بنيانهم بالطوب وأسفل دورهم غير مسكون وبها مسجدان للجمعة بنى أحدهما عمرو بن العاص في وسط الفسطاط والآخر على الموقف بناه ابن طولون وكان خارج الفسطاط أبنية بناها أحمد بن طولون ميلا في ميل يسكنها جنده وتعرف بالقطائع كما بنى بنو الأغلب خارج القيروان رقادة وقد خربتا في وقتنا هذا وأخلف الله بدل القطائع بظاهر مدينة الفسطاط القاهرة قال ابن سعيد لما استقررت بالقاهرة تشوفت إلى معاينة الفسطاط فسار معي إليها أحد أصحاب القرية فرأيت عند باب زويلة من الحمير المعدة لركوب من يسير إلى الفسطاط جملة عظيمة لا عهد لي بمثلها في بلد فركب منها حمارا وأشار إلي أن أركب حمارا آخر فأنفت من ذلك جريا على عادة ما خلفته من بلاد المغرب فأخبرني أنه غير معيب على أعيان مصر وعاينت الفقهاء وأصحاب البزة والشارة الظاهرة يركبونها فركبت وعندما استويت راكبا أشار المكاري إلى الحمار فطار بي وأثار من الغبار الأسود ما أعمى عيني ودنس ثيابي وعاينت ما كرهته ولقلة معرفتي بركوب الحمار وشدة عدوه على قانون لم أعهده وقلة رفق المكاري وقعت في تلك الظلمة المثارة من ذلك العجاج فقلت
( لقيت بمصر أشد البوار ... ركوب الحمار وكحل الغبار )
( وخلفي مكار يفوق الرياح ... لا يعرف الرفق مهما استطار )
( أناديه مهلا فلا يرعوي ... إلى أن سجدت سجود العثار )
( وقد مد فوقي رواق الثرى ... وألحد فيها ضياء النهار ) فدفعت إلى المكاري أجرته وقلت له إحسانك أن تتركني أمشي على رجلي ومشيت إلى أن بلغتها وقدرت الطريق بين الفسطاط والقاهرة وحققته بعد ذلك نحو ميلين ولما أقبلت على الفسطاط أدبرت عني المسرة وتأملت أسوارا مثلمة سوداء وآفاقا مغبرة ودخلت من بابها وهو دون غلق يفضي إلى خراب معمور بمبان مشتتة الوضع غير مستقيمة الشوارع قد بنيت من الطوب الأدكن والقصب والنخيل طبقة فوق طبقة وحول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف ويغض طرف الظريف فسرت وأنا معاين لاستصحاب تلك الحال إلى أن صرت في أسواقها الضيقة فقاسيت من ازدحام الناس فيها لحوائج السوق والروايا التي على الجمال ما لا تفي به إلا مشاهدته ومقاساته إلى أن انتهيت إلى المسجد الجامع فعاينت من ضيق الأسواق التي حوله ما ذكرت به ضده في جامع إشبيلية وجامع مراكش ثم دخلت إليه فعاينت جامعا كبيرا قديم البناء غير مزخرف ولا محتفل في حصره التي تدور مع بعض حيطانه وتنبسط فيه وأبصرت العامة رجالا ونساء قد جعلوه معبرا بأوطئة أقدامهم يجوزون فيه من باب إلى باب ليقرب عليهم الطريق والبياعون يبيعون فيه أصناف المكسرات والكعك وما سوى ذلك والناس يأكلون في عدة أمكنة منه غير محتسمين لجري العادة عندهم بذلك وعدة صبيان بأواني ماء يطوفون على كل من يأكل قد جعلوا ما يحصل لهم منه رزقا وفضلات مآكلهم مطروحة في صحن الجامع وفي زواياه العنكبوت قد عظم
نسجه في السقف والأركان والحيطان والصبيان يلعبون في صحنه وحيطانه مكتوبة بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتب فقراء العامة إلا أن مع ذلك على الجامع المذكور من الرونق وحسن القبول وانبساط النفس ما لا تجده في جامع إشبيلية مع زخرفته والبستان الذي في صحنه و ؟ لقد تأملت ما وجدت فيه من الارتياح والأنس دون منظر يوجب ذلك فعلمت أن ذلك سر مودع من وقوف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في ساحته عند بناه واستحسنت ما أبصرته من حلق المتصدرين لإقراء القرآن والفقه والنحو في عدة أماكن وسألت عن مواد أرزاقهم فأخبرت أنها من فروض الزكاة وما أشبه ذلك ثم أخبرت أن اقتضاء ذلك يصعب إلا بالجاه والتعب ثم انفصلنا من هناك إلى ساحل النيل فرأيت ساحلا كدر التربة غير نظيف ولا متسع الساحة ولا مستقيم الاستطالة ولا عليه سور أبيض إلا أنه مع ذلك كثير العمارة بالمراكب وأصناف الأرزاق التي تصل من جميع أقطار النيل ولئن قلت إني لم أبصر على نهر ما أبصرته على ذلك الساحل فإني أقول حقا والنيل هنالك ضيق لكون الجزيرة التي بنى فيها سلطان الديار المصرية الآن قلعته قد توسطت الماء ومالت إلى جهة الفسطاط وبحسن سورها المبيض الشامخ حسن منظر الفرجة ! ! ! ! ! ! ! في ذلك الساحل وقد ذكر ابن حوقل الجسر الذي يكون ممتدا من الفسطاط إلى الجزيرة وهو غير طويل ومن الجانب الآخر إلى البر الغربي المعروف ببر الجيزة جسر آخر من الجزيرة إليه وأكثر جواز الناس بأنفسهم ودوابهم في المراكب لأن هذين الجسرين قد احترما لحصولهما في حيز قلعة السلطان ولا يجوز أحد على الجسر الذي بين الفسطاط والجزيرة راكبا احتراما
لموضع السلطان وبتنا في ليلة ذلك اليوم بطيارة مرتفعة على جانب النيل فقلت 10
( نزلنا من الفسطاط أحسن منزل ... بحيث امتداد النيل قد دار كالعقد )
( وقد جمعت فيه المراكب سحرة ... كسرب قطا أضحى يرف على ورد )
( وأصبح يطفو الموج فيه ويرتمي ... ويطرب أحيانا ويلعب بالنرد )
( حلا ماؤه كالريق ممن أحبه ... فمدت عليه حلة من حلى الخد )
( وقد كان مثل النهر من قبل مده ... فأصبح لما زاده المد كالورد )
وقلت هنا لأني لم أذق في المياه أحلى من مائه وإنه يكون قبل المد الذي يزيد به ويفيض على أقطاره أبيض فإذا كان عباب النيل صار أحمر وأنشدني علم الدين فخر الترك أيدمر عتيق وزير الجزيرة في مدح الفسطاط [ بحر الرمل ]
( حبذا الفسطاط من والدة جنبت أولادها دار الجفا )
يرد النيل إليها كدرا ... فإذا مازج أهليها صفا )
( لطفوا فالمزن لا تألفهم ... خجلا لما رأتهم ألطفا )
ولم أر في أهل البلاد ألطف من أهل الفسطاط حتى إنهم ألطف من أهل القاهرة وبينهما نحو ميلين والحال أن أهل الفسطاط في نهاية من اللطافة واللين في الكلام وتحت ذلك من الملق وقلة المبالاة برعاية قدر الصحبة وكثرة الممازحة والألفة ما يطول ذكره
وأما ما يرد على الفسطاط من متاجر البحر الإسكندراني والبحر الحجازي
فإنه فوق ما يوصف وبها مجمع ذلك لا بالقاهرة ومنها يجهز إلى القاهرة وسائر البلاد
وبالفسطاط مطابخ السكر والصابون ومعظم ما يجري هذا المجرى لأن القاهرة بنيت للاختصاص بالجند كما أن جميع زي الجند بالقاهرة أعظم منه بالفسطاط وكذلك ما ينسج ويصاغ وسائر ما يعمل من الأشياء الرفيعة السلطانية والخراب في الفسطاط كثير والقاهرة أجد وأعمر وأكثر زحمة باعتبار انتقال السلطان إليها وسكنى الأجناد فيها وقد نفخ روح الاعتناء والنمو في مدينة الفسطاط الآن لمجاورتها للجزيرة الصالحية وكثير من الجند قد انتقل إليها للقرب من الخدمة وبنى على سورها جماعة منهم مناظر تبهج الناظر انتهى
قال المقريزي يعني ابن سعيد ما بني على شفة مصر من جهة النيل انتهى
وقال ابن سعيد المذكور في المغرب من حلى المغرب ما ملخصه الروضة أمام الفسطاط فيما بينها وبين مناظر الجيزة وبها مقياس النيل وكانت منتزها لأهل مصر فاختارها الملك الصالح بن الملك الكامل سريرا لسلطنتة وبنى فيها قلعة مسورة بسور ساطع اللون محكم البناء عالي السمك لم تر عيني أحسن منه وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الخليفة الآمر لزوجته البدوية التي هام في حبها والمختار بستان الإخشيد وقصره وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار منها قول أبي الفتح ابن قادوس الدمياطي
( أرى سرج الجزيرة من بعيد ... كأحداق تغازل في المغازل )
( كأن مجرة الجوزاء خطت ... وأثبتت المنازل في المنازل )
قال وكنت أبيت بعض الليالي بالفسطاط فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل مع سور هذه الجزيرة الدري اللون ولم أنفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة بانيها وهو من أعظم السلاطين في البناء وأبصرت بهذه الجزيرة إيوانا لجلوسه لم تر عيني مثاله ولا يقدر ما أنفق عليه وفيه من صحائف الذهب والرخام الآبنوسي والكافوري والمجزع ما يذهل الانكار ويستوقف الأبصار ويفضل عما أحاط به السور أرض طويلة في بعضها حاضر حصر فيه أصناف الوحوش التي يتفرج عليها السلطان وبعدها مروج تنقطع فيها مياه النيل فتنظر فيها أحسن منظر قال وقد تفرجت كثيرا في طرف هذه الجزيرة مما يلي أثر الفسطاط فقطعت به عشيات مذهبات لم تزل لأحزان الغربة مذهبات وإذا زاد النيل فصل برها عن بر الفسطاط من جهة خليج القاهرة ويبقى موضع الجسر تكون فيه المراكب انتهى وأورد الصفدي في تذكرته لابن سعيد المذكور في هذه الجزيرة
( انظر إلى سور الجزيرة في الدجى ... والبدر يلثم منه ثغرا أشنبا )
( تتضاحك الأنوار في جنباته ... فتريك فوق النيل أمرا معجبا )
( بينا تراه مفضضا في جانب
أبصرت منه في سواه مذهبا )
( لله مرأى ما رآه ناظري ... إلا خلعت له المقام تطربا )
وصف القاهرة
وقال في المغرب نقلا عن بعضهم ما صورته وأما مدينة القاهرة فهي الحالية الباهرة التي تفنن فيها الفاطميون وأبدعوا في بنائها واتخذوها
قطبا لخلافتهم ومركزا لأرجائها فنسي الفسطاط وزهد فيه بعد الاغتباط وسميت القاهرة لأنها تقهر من شذ عنها ورام مخالفة أميرها انتهي
قال ابن سعيد هذه المدينة اسمها أعظم منها وكان ينبغي أن تكون في ترتيبها ومبانيها على خلاف ما عاينته لأنها مدينة بناها المعز أعظم خلفاء العبيديين وكان سلطانه قد عم جميع طول المغرب من أول الديار المصرية إلى البحر المحيط
( وسارت مسير الشمس في كل بلدة ... وهبت هبوب الريح في البر والبحر )
لا سيما وقد عاين مباني أبيه المنصور في المدينة المنصورية إلى جانب القيروان وعاين المهدية مدينة جده عبيد الله المهدي لكن الهمة السلطانية ظاهرة على قصور الخلفاء بالقاهرة وهي ناطقة إلى الآن بألسن الآثار ولله در القائل
( همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان )
( إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان ) وتهمم من بعده الخلفاء المصريون في الزيادة في تلك القصور وقد عاينت فيها إيوانا يقولون إنه بني قدر إيوان كسرى الذي بالمدائن وكان يجلس فيها خلفاؤهم ولهم على الخليج الذي بين الفسطاط والقاهرة مبان عظيمة جليلة الآثار وأبصرت في قصورهم حيطانا عليها طاعات عديدة من الكلس والجبس ذكر لي أنهم كانوا يجددون تبييضها في كل سنة والمكان المعروف بالقاهرة بين القصرين هو من الترتيب السلطاني لأن هناك ساحة متسعة للعسكر والمتفرجين ما بين القصرين ولو كانت القاهرة كلها كذلك كانت عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية ولكن ذلك أمد قليل ثم تسير منه إلى أمد ضيق وتمر في ممر كدر خرج بين الدكاكين إذا ازدحمت فيه الخيل مع الرجالة كان مما تضيق به الصدور وتسخن منه العيون ولقد عاينت يوما وزير الدولة وبين يديه الأمراء وهو في موكب جليل وقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل
حجارة وقد سدت جميع الطرق بين يدي الدكاكين ووقف الوزير وعظم الازدحام وكان في موضع طباخين والدخان في وجه الوزير وعلى ثيابه وقد كاد يهلك المشاة وكدت أهلك في جملتهم وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب والأزبال والمباني عليها من قصب وطين مرتفعة قد ضيقت مسلك الهواء والضوء بينها ولم أر في جميع بلاد المغرب أسوأ منها حالا في ذلك ولقد كنت إذا مشيت فيها يضيق صدري وتدركني وحشة عظيمة حتى أخرج إلى بين القصرين
ومن عيوب القاهرة أنها في أرض النيل الأعظم ويموت الإنسان فيها عطشا لبعدها عن مجرى النيل لئلا يصادرها ويأكل ديارها وإذا احتاج الإنسان إلى فرجة في نيلها مشى في مسافة بعيدة بظاهرها بين المباني التي خارج السور إلى موضع يعرف بالمقس وجوها لا يبرح كدرا بما تنثره الأرض من التراب الأسود وقد قلت فيها حين أكثر علي رفاقي من الحض على العود فيها
( يقولون سافر إلى القاهره ومالي بها راحة ظاهره )
( زحام وضيق وكرب وما ... تثير بها أرجل سائره )
وعندما يقبل المسافر عليها يرى سورا أسود كدرا وجوا مغبرا فتنقبض نفسه ويفر أنسه وأحسن موضع في ظواهرها للفرجة أرض الطبالة لا سيما أرض القرط والكتان وقلت
( سقى الله أرضا كلما زرت روضها ... كساها وحلاها بزينته القرط )
( تجلت عروسا والمياه عقودها ... وفي كل قطر من جوانبها قرط ) وفيها خليج لا يزال يضعف بين حضرتها حتى يصير كما قال الرصافي
( ما زالت الأمحال تأخذه ... حتى غدا كذؤابة النجم
وقلت في نور الكتان على جانبي الخليج
انظر إلى النهر والكتان يرمقه ... من جانبيه بأجفان لها حدق )
( رأته سيفا عليه للصبا شطب ... فقابلته بأحداق بها أرق )
( وأصبحت في يد الارواح تنسجها ... حتى غدت حلقا من فوقها حلق )
( فقم فزرها ووجه الأرض مصطبح ... أو عند صفوته إن كنت تغتبق )
وأعجبني في ظاهرها بركة الفيل لأنها دائرة كالبدر والمناظر فوقها كالنجوم وعادة السلطان أن يركب فيها بالليل وتسرج أصحاب المناظر على قدر همتهم وقدرتهم فيكون لها بذلك منظر عجيب وفي ذلك قيل
( انظر إلى بركة الفيل التي اكتنفت ... بها المناظر كالأهداب للبصر )
كأنما هي والأبصار ترمقها ... كواكب قد أداروها على القمر )
ونظرت إليها وقد قابلتها الشمس بالغدو فقلت
( إلى بركة الفيل التي فجرت ... لها الغزالة فجرا من مطالعها )
( وخل طرفك مجنونا ببهجتها ... يهيم وجدا وحبا في بدائعها )
والفسطاط أكثر أرزاقا وأرخص أسعارا من القاهرة لقرب النيل من الفسطاط والمراكب التي تصل بالخيرات تحط هناك ويباع ما يصل فيها بالقرب منها وليس يتفق ذلك في ساحل القاهرة لأنه يبعد عن المدينة والقاهرة هي أكثر عمارة واحتراما وحشمة من الفسطاط لأنها أجل مدارس وأضخم خانات وأعظم ديارا لسكنى الأمراء فيها لأنها المخصوصة بالسلطنة لقرب قلعة الجبل منها فأمور السلطنة كلها فيها أيسر وأكثر وبها الطراز وسائر الأشياء التي يتزين بها الرجال والنساء إلا أن في هذا الوقت لما اعتني
( لئن فاتني منه الأنيس فكل ما ... يحل إلى علياك ليس بفائت )
168 - ومنهم الشيخ الصالح الزاهد أبو الحسن علي بن عبد الله بن يوسف بن حمزة القرطبي الأنصاري المعروف بابن العابد نزيل رباط الصاحب الصفي بن شكر قال بعض المشارقة عنه إنما سميت الخمر بالعجوز لأنها بنت ثمانين يعني عدد حدها وأنشد له
( عذلنا فلانا على فعله ... ولمناه في شربه للعجوز )
( فقال دعوني من أجلها ... أنال أنا وأخي والعجوز )
169 - ومنهم الشيخ الفاضل المتقن أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف بن محمد بن يوسف الأنصاري الشاطبي الأصل البلنسي المولد في أحد ربيعي سنة إحدى وستمائة ولقبه المشارقة برضي الدين وتوفي بالقاهرة في جمادى الأولى سنة 684 رحمه الله تعالى
ومن نظمه لما حضر أجله وقد أمر خادمه أن ينظف له بيته وأن يغلق عليه الباب ويفتقده بعد زمان ففعل ذلك فلما دخل عليه وجده ميتا وقد كتب في رقعة
( حان الرحيل فودع الدار التي ... ما كان ساكنها بها بمخلد )
( واضرع إلى الملك الجواد وقل له ... عبد بباب الجود أصبح يجتدي )
( لم يرض غير الله معبودا ولا ... دينا سوى دين النبي محمد )
ومن نظمه أيضا رحمه الله تعالى
السلطان ببناء قلعة الجزيرة التي أمام الفسطاط وصيرها سرير السلطنة عظمت عمارة الفسطاط وانتقل إليها كثير من الأمراء وضخمت أسواقها وبنى فيها السلطان أمام الجسر الذي للجزيرة قيسارية عظيمة فنقل إليها من القاهرة سوق الأجناد التي يباع فيها الفراء والجوخ وما أشبه
ذلك إلى أن قال وهي الآن عظيمة آهلة يجبى إليها من الشرق والغرب والجنوب والشمال ما لا يحيط بجملته وتفسيره إلا خالق الكل جل وعلا وهي مستحسنة للفقير الذي لا يخاف طلب زكاة ولا ترسيما ولا عذابا ولا يطالب برفيق له إذا مات فيقال له ترك عندك مالا فربما سجن في شأنه أو ضرب أو عصر والفقير المجرد فيها يستريح بجهة رخص الخبز وكثرته ووجود السماع والفرج في ظواهرها ودواخلها وقلة الاعتراض عليه فيما تذهب إليه نفسه يحكم فيها كيف شاء من رقص في وسط السوق أو تجريد أو سكر من حشيشة أو صحبة مردان وما أشبه ذلك بخلاف غيرها من بلاد المغرب وسائر الفقراء لا يتعرضون إليهم بالقبض للأسطول إلا المغاربة فذلك وقف عليهم لمعرفتهم بمعاناة البحر وقد عم ذلك من يعرف معاناة البحر منهم ومن لا يعرف وهم في القدوم عليها بين حالين إن كان المغربي غنيا طولب بالزكاة وضيق عليه وضيقت السعاة وإن كان مجردا فقيرا حمل إلى السجن حتى يحين وقت الأسطول وفي القاهرة أزاهر كثيرة غير منقطعة الاتصال وهذا الشأن في الديار المصرية يفضل كثيرا من البلاد وفي اجتماع النرجس والورد فيها أقول
( من فضل النرجس وهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يرأس )
( أما ترى الورد غدا قاعدا ... وقام في خدمته النرجس )
وأكثر ما فيها من الثمرات والفواكه والرمان والموز أما التفاح والإجاص فقليل غال وكذلك الخوخ وفيها الورد والنرجس والنسرين والنيلوفر والبنفسج والياسمين والليمون الأخضر والأصفر وأما العنب والتين فقليل غال ولكثرة
ما يعصرون العنب في أرياف النيل لا يصل منه إلا القليل ومع هذا فشرابه عندهم في غاية الغلاء وعامتها يشربون المزر الأبيض المتخذ من الحنطة حتى إن الحنطة يطلع سعرها بسببه فينادي المنادي من قبل الوالي بقطعه وكسر أوانيه ولا ينكر فيها إظهار أواني الخمر ولا آلات الطرب ذوات الأوتار ولا تبرج النساء العواهر ولا غير ذلك مما ينكر في غيرها من بلاد المغرب وقد دخلت في الخليج الذي بين القاهرة ومصر وتعظم عمارته فيما يلي القاهرة فرأيت فيه من ذلك العجائب وربما وقع فيه قتل بسبب السكر فيمنع فيه الشرب وذلك في بعض الأحيان وهو ضيق عليه من الجهتين مناظر كثيرة العمارة بمعالم التهكم والطرب والمخالفة حتى إن المحتشمين والرؤساء لا يجيزون العبور به في مركب وللسرج في جانبيه بالليل منظر وكثيرا ما يتفرج فيه أهل الستر في الليل وفي ذلك أقول
( لا تركبن في خليج مصر ... إلا إذا أسدل الظلام )
( فقد علمت الذي عليه ... من عالم كلهم طغام )
( صفان للحرب قد أطلا ... سلاح ما بينهم كلام )
( يا سيدي لا تسر إليه ... إلا إذا هوم النيام )
( والليل ستر على التصاب ... ي عليه من فضله لثام )
( والسرج قد مددت عليه ... منها دنانير لا ترام )
( وهو قد امتد والمباني ... عليه في خدمة قيام )
( لله كم دوحة جنينا ... هناك أثمارها الأثام )
قال المقريزي وفيه تحامل كثير انتهى
ومن نظر بعين الإنصاف علم أن التحامل في نسبة التحامل إليه والله تعالى الموفق
قال ابن سعيد ومعاملة الفسطاط والقاهرة بالدراهم المعروفة السوداء
كل درهم منها ثلاثة من الدرهم الناصري وفي المعاملة بها شدة وخسارة في البيع والشراء ومخاصمة بين الفريقين وكان بها قديما الفلوس فقطعها الملك الكامل فبقيت الآن مقطوعة منها
وهي في الإقليم الثالث وهواؤها رديء لا سيما إذا هب المريسي من جهة القبلة وأيضا فرمد العين فيها كثير والمعايش فيها متعذرة نزرة لا سيما أصناف الفضلاء وجوامك المدارس قليلة كدرة وأكثر ما يتعيش بها اليهود النصارى في كتابة الطب والخراج والنصارى بها يمتازون بالزنار في أوساطهم واليهود بعمائم صفر ويركبون البغال ويلبسون الملابس الجليلة ويأكل أهل القاهرة البطارخ ولا تصنع حلاوة القمح إلا بها وبغيرها من الديار المصرية وفيها جوار طباخات أصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين ولهن في الطبخ صنائع عجيبة ورياسة متقدمة ومطابخ السكر والمواضع التي يصنع بها الورق المنصوري مخصوصة بالفسطاط دون القاهرة انتهى المقصود من هذا الموضع من كلام أبي الحسن النور بن سعيد رحمه الله تعالى
وقال رحمه الله
( كم ذا تقيم بمصر ... معذبا بذويها )
( وكيف ترجو نداهم ... والسحب تبخل فيها )
وقال رحمه الله تعالى
( لابن الزبير مكارم أضحت بها ... طير المدائح في البلاد تغرد )
( إن قيدوه وبالغوا في عصره ... فالكرم يعصر والجواد يقيد )
166 - ولنذكر بعض أخبار والده فإنه ممن رحل إلى المشرق وتوفي بالإسكندرية وقد ذكر ابنه أبو الحسن في المغرب وغيره من
أخباره العجائب
ولا بأس بأن نلم بشيء من ذلك سوى ما تقدم فنقول من أخباره أنه لما اجتاز بمالقة ومشرفها إذ ذاك أبو علي بن مبقي وجه إليه من نقل أسبابه إلى داره وأقبل عليه منشدا
( أكذا يجوز القطر لا يثني على ... أرض توالى جدبها من بعده )
( ألله يعلم أنها ما أنبتت ... زهرا ولا ثمرا بمدة فقده )
( عرج عليها ساعة يا من له ... حسب يفوق العالمين بمجده )
( وانثر عليها من أزاهرك التي ... تشفي المتيم من لواعج وجده )
- ( والله ما ذاكرت فكرك ساعة ... إلا وأقبس خاطري من زنده )
قال موسى فارتجلت للحين
( أنت الذي تعرف كيف العلا ... ا وتبتدي في سبل المجد )
( بدأت بالفضل المنير الذي ... أكمل بدر الشكر )
( والحمد والله ما أبصرتكم ساعة ... إلا بدا لي طالع السعد )
وانصرفت معه إلى منزله
( فلم أزل في كرامه ... ليست كظل غمامه )
ولما كان أبو عمران موسى بن سعيد بالجزيرة الخضراء مقدما على أعمالها من قبل ابن هود وصله كتاب من الفقيه القاضي أبي عبد الله محمد بن عسكر قاضي مالقة مع أحد الأدباء منه
( أفاتح من قلبي يعلياه واثق ... وإن كانت الأبصار لم تنسخ الودا )
( وثقت بما لي من ذمام تشيعي ... بآل سعيد فابتغيت به السعدا )
( وبالحب يدنو كل من أقصت النوى برغم حجاب للنوى بيننا مدا )
يا سيدي الذي حملني ما أمال أسماعي من الثناء عليه أن أهجم على مفاتحته
شافعا في موصلها إليه واثقا بالفرع لعلم الأصل مؤملا للإفضال بتحقق الفضل إن لم تقض باجتماع بيننا الأيام فلا تجزيء من المشافهة بيننا ألسن الأقلام ويوحي بعضنا إلى بعض بسور الوداد والحمد لله الذي أطلعك في ذلك الأفق بدرا وأدناك من هذه الدار فصرنا لقرب من يرد عنك لا نعدم لك ذكرا فكل يثني بالذي علمت سعد ويصف من خلالك ما يقضي ذلك المجد ولما كان إحسانك يبشر به الصادر والوارد ويحرض عليه الغائب والشاهد مد أمله نحوك موصل هذه المفاتحة وليس له وسيلة ولا بضاعة إلا الأدب وهي عند بيتك الكريم رابحة وهو من شئتت خطوب هذا الزمان شمله وأبانت نوائبه صبره وفضله وما طمح ببصره إلا إلى أفقك ولا وجه رجاءه إلا نحو طرقك والرجاء من فضلك أن يعود وقد أثنت حقائبه وأعنقت من الحمد ركائبه دمت غرة في الزمن البهيم مخصوصا بأفضل التحية والتسليم انتهى وابن عسكر المذكور عالم بالتاريخ متبحر في العلوم وله كتاب في أنساب بني سعيد أصحاب هذه الترجمة ومن شعره
أهواك يا بدر وأهوى الذي ... يعذلني فيك وأهوى الرقيب )
( والجار والدار ومن حلها ... وكل من مر بها من قريب )
( وكل مبد شبها منكم ... وكل من يلفظ باسم الحبيب )
وصية بن سعيد الاب لابنه علي الحسن 465
رجع - قال ابنه علي لما أردت النهوض من ثغر الإسكندرية إلى القاهرة أول وصولي إلى الإسكندرية رأى أن يكتب لي وصية أجعلها إماما في الغربة
فبقي فيها أياما إلى أن كتبتها عنه وهي هذه وكفى بها دليلا على ما اختبر وعلم
( أودعك الرحمن في غربتك ... مرتقبا رحماه في أوبتك )
( وما اختياري كان طوع النوى ... لكنني أجري على بغيتك )
( فلا تطل حبل النوى إنني ... والله أشتاق إلى طلعتك )
( من كان مفتونا بأبنائه فإنني أمعنت في خبرتك )
( فاختصر التوديع أخذا فما ... لي ناظر يقوى على فرقتك )
( واجعل وصاتي نصب عين ولا ... تبرح مدى الأيام من فكرتك )
( خلاصة العمر التي حنكت ... في ساعة زفت إلى فطنتك )
( فللتجاريب أمور إذا طالعتها تشحذ من غفلتك )
( فلا تنم عن وعيها ساعة ... فإنها عون إلى يقظتك )
( وكل ما كابدته في النوى ... إياك أن يكسر من همتك )
( فليس يدرى أصل ذي غربة ... وإنما تعرف من شيمتك )
( وكل ما يفضي لعذر فل ... ا تجعله في الغربة من إربتك )
( ولا تجالس من فشا جهله ... واقصد لمن يرغب في صنعتك ) ولا تجادل أبدا حاسدا ... فإنه أدعى إلى هيبتك )
( وامش الهوينا مظهرا عفة ... وابغ رضا الأعين عن هيئتك )
( أفش التحيات إلى أهلها ... ونبه الناس على رتبتك )
( وانطق بحيث العي مستقبح ... واصمت بحيث الخير في سكنتك ) ولا تزل مجتمعا طالبا ... من دهرك الفرصة في وثبتك )
وكلما أبصرتها أمكنت ... ثب واثقا بالله في مكنتك )
( ولج على رزقك من بابه واقصد له ما عشت في بكرتك )
وايأس
( من الود لدى حاسد ضد ... ونافسه على خطتك )
( ووفر الجهد فمن قصده ... قصدك لا تعتبه في بغضتك )
( ووف كلا حقه ولتكن ... تكسر عند الفخر من حدتك )
( ولا تكن تحقر ذا رتبة ... فإنه أنفع في غربتك
( وحيثما خيمت فاقصد إل ... ى صحبة من ترجوه في نصرتك )
( وللرزايا وثبة ما لها ... إلا الذي تذخر من عدتك )
( ولا تقل أسلم لي وحدتي ... فقد تقاسي الذل في وحدتك )
( ولتزن الأحوال وزنا ولا ... ترجع إلى ما قام في شهوتك )
( ولتجعل العقل محكا وخذ ... كلا بما يظهر في نقدتك )
( واعتبر الناس بألفاظهم ... واصحب أخا يرغب في صحبتك )
( بعد اختبار منك يقضي بما ... يحسن في الأخدان من خلطتك )
( كم من صديق مظهر نصحه ... وفكره وقف على عثرتك )
( إياك أن تقربه إنه ... عون مع الدهر على كربتك )
( واقنع إذا ما لم تجد مطمعا ... واطمع إذا نفست من عسرتك )
( وانم نمو النبت قد زاره ... غب الندى واسم إلى قدرتك )
( وإن نبا دهر فوطن له ... جأشك وانظره إلى مدتك )
( فكل ذي أمر له دولة ... فوف ما وافاك في دولتك )
( ولا تضيع زمنا ممكنا ... تذكاره يذكي لظى حسرتك )
( والشر مهما اسطعت لا تأته ... فإنه حوب على مهجتك ) يا بني الذي لا ناصح له مثلي ولا منصوح لي مثله قدمت لك في هذا النظم ما إن أخطرته بخاطرك في كل أوان رجوت لك حسن العاقبة إن شاء الله تعالى وإن أخف منه للحفظ وأعلق بالفكر وأحق بالتقدم
قول الأول
( يزين الغريب إذا ما اغترب ... ثلاث فمنهن حسن الأدب )
( وثانية حسن أخلاقه ... وثالثة اجتناب الريب )
( وإذا اعتبرت هذه الثلاثة ولزمتها في الغربة رأيتها جامعة نافعة لا يلحقك إن شاء الله تعالى مع استعمالها ندم ولا يفارقك بر ولا كرم ولله در القائل
( يعد رفيع القوم من كان عاقلا ... وإن لم يكن في قومه بحسيب )
( إذا حل أرضا عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدة بغريب )
وما قصر القائل حيث قال
( واصبر على خلق من تعاشره ... وداره فاللبيب من دارى واتخذ الناس كلهم سكنا ... ومثل الأرض كلها دارا ) واصغ يا بني إلى البيت الذي هو يتيمة الدهر وسلم الكرم والصبر
( ولو أن أوطان الديار نبت بكم ... لسكنتم الأخلاق والآدابا )
إذ حسن الخلق أكرم نزيل والأدب أرحب منزل ولتكن كما قال أحدهم في أديب متغرب وكان كلما طرأ على ملك فكأنه معه ولد وإليه قصد غير مستريب بدهره ولا منكر شيئا من أمره وإذا دعاك قلبك إلى صحبة من أخذ بمجامع هواه فاجعل التكلف له سلما وهب في روض أخلاقه هبوب النسيم وحل بطرفه محل الوسن وانزل بقلبه نزول المسرة حتى يتمكن لك وداده ويخلص فيك اعتقاده وطهر من الوقوع فيه لسانك وأغلق سمعك ولا ترخص في جانبه لحسود لك منه يريد إبعادك عنه لمنفعته
أو حسود له يغار لتجمله بصحبتك ومع هذا فلا تغتر بطول صحبته ولا تتمهد بدوام رقدته فقد ينبهه الزمان ويغير منه القلب واللسان ولذا قيل إذا أحببت فأحبب هونا ما ففي الممكن أن ينقلب الصديق عدوا والعدو صديقا وإنما العاقل من جعل عقله معيارا وكان كالمرآة يلقى كل وجه بمثاله وجعل نصب ناظره قول أبي الطيب
( ولما صار ود الناس خبا ... جزيت على ابتسام بابتسام )
( وفي أمثال العامة من سبقك بيوم فقد سبقك بعقل فاحتذى مثلة من جرب واستمع إلى ما خلد الماضون بعد جهدهم وتعبهم من الأقوال فإنها خلاصة عمرهم وزبدة تجاربهم ولا تتكل على عقلك فإن النظر فيما تعب فيه الناس طول أعمارهم وابتاعوه غاليا بتجاربهم يربحك ويقع عليك رخيصا وإن رأيت من له مروءة وعقل وتجربة فاستفد منه ولا تضيع فعله ولا قوله فإن فيما تلقاه تلقيحا لعقلك وحثا لك واهتداء وإياك أن تعمل بهذا البيت في كل موضع
( فالحر يخدع بالكلام الطيب ... فقد قال أحدهم ما قيل أضر من هذا البيت على أهل التجمل وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه حتى تتدبره فإن كان موافقا لعقلك مصلحا لحالك قوله ذلك عندك وإلا فانبذه نبذ النواة فليس لكل أحد يتبسم ولا كل شخص يكلم ولا الجود مما يعم به ولا حسن الظن وطيب النفس مما يعامل به كل أحد ولله در القائل
( وما لي لا أوفي البرية قسطها على قدر ما يعطي وعقلي ميزان
وإياك أن تعطى من نفسك إلا بقدر فلا تعامل الدون بمعاملة الكفء الكفء بمعاملة الأعلى ولا تضيع عمرك فيمن يملكك بالمطامع ويثنيك عن مصلحة حاضرة عاجلة بغائبة آجلة واسمع قول الأول
( وبع آجلا منك بالعاجل ...
وأقلل من زيارة الناس ما استطعت ولا تجفهم بالجملة ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منه ملل ولا ضجر ولا جفاء ولا تقل أيضا أقعد في كسر بيتي ولا أرى أحدا وأستريح من الناس فإن ذلك كسل داع إلى الذل والمهانة وإذا علم عدو لك أو صديق منك ذلك عاملاك بحسبه فازدراك الصديق وجسر عليك العدو وإياك أن يغرك صاحب واحد عن أن تذخر غيره للزمان وتطيعه في عداوة سواه ففي الممكن أن يتغير عليك فتطلب إعانة عليه أو استغناء عنه فلا تجد ذخيرة قدمتها وكان هو في أوسع حال وأعلى رأي بما دبره بحيلته في انقطاعك عن غيره فلو اتفق لك أن تصحب من كل صناعة وكل رياسة من يكون لك عدة لكان ذلك أولى وأصوب وسلني فإني خبير طال والله ما صحبت الشخص أكثر عمري لا أعتمد على سواه ولا أعتد إلا إياه منخدعا بسرابه موثوقا في حبائل خطابه إلى أن لا يحصل لي منه غير العض على البنان وقول لو كان ولو كان ولا يحملنك أيضا هذا القول أن تظنه في كل أحد وتعجل المكافأة وليكن حسن الظن بمقدارما واصبر بقدر ما والفطن لا تخفى عليه مخايل الأحوال وفي الوجوه دلالات وعلامات وأصغ إلى القائل
( ليس ذا وجه من يضيف ولا يق ... ولا يدفع الأذى عن حريم )
فمن يكن له وجه مثل هذا الوجه فول وجهك عنه قبلة ترضاها ولتحرص
جهدك على أن لا تصحب أو تخدم إلا رب حشمة ونعمة ومن نشأ في رفاهية ومروءة فإنك تنام معه في مهاد العافية وإن الجياد على أعراقها تجري وأهل الأحساب والمروءات يتركون منافعهم متى كانت عليهم فيها وصمة وقد قيل في مجلس عبد الملك بن مروان أشرب مصعب الخمر فقال عبد الملك وهو عدو له محارب له على الملك لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته ما شربه
( والفضل ما شهدت به الأعداء )
( يا بني و قد علمت أن الدنيا دار مفارقة وتغير وقد قيل اصحب من شئت فإنك مفارقه فمتى فارقت أحدا فعلى حسنى في القول والفعل فإنك لا تدري هل أنت راجع إليه فلذلك قال الأول
( ولما مضى سلم بكيت على سلم ... وإياك والبيت سائر
( وكنت إذا حللت بدار قوم ... رحلت بخزية وتركت عارا )
( واحرص على ما جمع قول القائل ثلاثة تبقي لك الود في صدر أخيك أن تبدأه بالسلام وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب الأسماء إليه واحذر كل ما بينه لك القائل كل ما تغرسه تجنيه إلا ابن آدم فإنك إذا غرسته يقلعك وقول الآخر ابن آدم يتمسكن حتى يتمكن وقول الآخر ابن آدم ذئب مع الضعف أسد مع القوة وإياك أن تثبت على صحبة أحد قبل أن تطيل اختباره فيحكى أن ابن المقفع خطب مع الخليل صحبته فجاوبه
إن الصحبة رق ولا أضع رقي في يدك حتى أعرف كيف ملكتك واستمل من عين من تعاشره وتفقد في فلتات الألسن وصفحات الأوجه ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك أن لا تبينه فإن الكلام سلاح السلم وبالأنين يعرف ألم الجرح واجعل لكل أمر أخذت فيه غاية تجعلها نهاية لك وآكد ما أوصيك به أن تطرح الأفكار وتسلم للأقدار
( واقبل من الدهر ما أتاك به ... من قر عينا بعيشه نفعه )
إذا الأفكار تجلب الهموم وتضاعف الغموم وملازمة القطوب عنوان المصائب والخطوب يستريب به الصاحب ويشمت العدو المجانب ولا تضر بالوساوس إلا نفسك لأنك تنصر بها الدهر عليك ولله در القائل
( إذا ما كنت للأحزان عونا ... عليك مع الزمان فمن تلوم )
مع أنه لا يرد عليك الفائت الحزن ولا يرعوي بطول عتبك الزمن
ولقد شاهدت بغرناطة شخصا قد ألفته الهموم وعشقته الغموم ومن صغره إلى كبره لا تراه أبدا خليا من فكره حتى لقب بصدر الهم ومن أعجب ما رأيته منه أنه يتنكد في الشدة ولا يتعلل بأن يكون بعدها فرج ويتنكد في الرخاء خوفا من أن لا يدوم وينشد
( توقع زوالا إذا قيل تم ... وينشد
( وعند التناهي يقصر المتطاول
وله من الحكايات في هذا الشأن عجائب ومثل هذا عمره مخسور يمر ضياعا ومتى رفعك الزمان إلى قوم يذمون من العلم ما تحسنه حسدا لك وقصدا لتصغير قدرك عندك وتزهيدا لك فيه فلا يحملك ذلك على أن تزهد في علمك وتركن إلى العلم الذي مدحوه فتكون مثل الغراب الذي أعجبه مشي الحجلة فرام أن يتعلمه فصعب عليه ثم أراد أن يرجع إلى مشيه فنسيه فبقي مخبل المشي كما قيل حسد القطا وأراد يمشي مشيها فأصابه ضرب من العقال فأضل مشيته وأخطأ مشيها فلذاك سموه أبا مرقال ولا يفسد خاطرك من جعل يذم الزمان وأهله ويقول ما بقي في الدنيا كريم ولا فاضل ولا مكان يستراح فيه فإن الذين تراهم على هذه الصفة أكثر ما يكونون ممن صحبه الحرمان واستحقت طلعته للهوان وأبرموا على الناس بالسؤال فمقتوهم وعجزوا عن طلب الأمور من وجوهها فاستراحوا إلى الوقوع في الناس وإقامة الأعذار لأنفسهم بقطع أسبابهم وتعذير أمورهم ولا تزل هذين البيتين من فكرك
( لن إذا ما نلت عزا ... فأخو العزيلين )
( فإذا نابك دهر فكما كنت تكون ولا قول الآخر
( ته وارتفع إن قيل اقتر ... وانخفض إن قيل أثرى )
( كالغصن يسفل ما اكتسى ... ثمرا ويعلو ما تعرى )
( ولا قول الآخر
( الخير يبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد )
واعتقد في الناس ما قاله القائل
( ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وتحفظ بما تضمنه قول الآخر
( ومن دعا الناس إلى ذمه ... ذموه بالحق وبالباطل )
ولله در القائل
( ما كل ما فوق البسيطة ... كافيا فإذا اقتنعت فكل شيء كافي ) والأمثال يضربها لذي اللب الحكيم وذو البصر يمشي على الصراط المستقيم والفطن يقنع بالقليل ويستدل باليسير والله سبحانه خليفتي عليك ولا رب سواه نجزت الوصية وتكفيك عنوانا على طبقته في النثر
رسالة ابن سعيد الأب لعبد الواحد الموحدى وله رسالة كتب بها إلى ملك المغرب أبي محمد عبد الواحد بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن مهنئا له بالخلافة حين بويع بها بمراكش وكان إذ ذاك بإشبيلية وكان قبل ذلك كاتبا له ومختصا به الحضرة العلية السامية السنية الطاهرة القدسية حضرة الإمامة وجنة دار الإقامة مد الله على الإسلام ظلالها وأنمى في سماء السعادة تمامها وكمالها وهنأ المؤمنين باستقبال إمارتها وأدام لهم بركة خلافتها عبد أياديها وخديم ناديها المتوسل بقديم الخدمة المتوصل بعميم النعمة وكريم الحرمة المنشد بلسان المسرة حين أطلع الزمان هذه الغرة
( أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها )
( فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها موسى ) بن محمد بن سعيد لا زال هذا الأمر العلي محمودا سعيدا ولا برح يستزيد ترقيا وصعودا
( يا نعمة الله زيدي ... إن كان فيك مزيد ) سلام الله الكريم يخص حضرة الإجلال والتعظيم والتقديس والتفخيم ورحمته وبركاته وبعد حمد الله الذي بلغ الإسلام بهذه الخلافة آماله وحلى بهذه الولاية السعيدة أحواله والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبيه الكريم الذي دحض الله تعالى بنبوته الكفر وضلاله وعلى آله وصحبه الطاهرين الذين سمعوا أقواله وامتثلوا أفعاله والرضى عن الإمام المهدي المعلوم الذي أفاء الله
به على الدين الحنفي ظلاله وأذهب عنه طواغيته وضلاله والدعاء للمقام العالي الكريم بالسعد المتوالي والنصر الجسيم وكتب العبد وقد ملأت هذه البشرى المسرة أفقه ووسعت عليه هذه المرتبة العلية طرقه
( فهذه رتبة ما زلت أرقبها ... فاليوم أبسط آمالي وأحتكم ) ولا أقنع مني إن اقتصرت على السماء دارا والهلال للبشير سوارا والنجوم عقدا والصباح بندا حتى أسر كل أحد بشكله وأقابل كل شخص بمثله
( ومن خدم الأقوام يرجو نوالهم ... فإني لم أخدمك إلا لأخدما )
وما بعد الخلافة رتبة ودون ثبير تنحط كل هضبة فالحمد لله رب العالمين وهنيئا لعباده المؤمنين حيث نظر لهم نظر رحمة فأسبل عليهم ستر هذه النعمة
( ولقد علمت بأن ذلك معصم ... ما كان يتركه بغير سوار )
والله أعلم حيث يجعل رسالاته وإلى من يشير بآياته فلله صباح ذلك اليوم السعيد وليلته ولقد سفر عن وجه من البشرى أضاءت الآفاق شرقا وغربا غرته ولقد اجتمعت آراء السداد حتى أتت الإسلام بالمراد فأخذ القوس باريها وحل بالدار بانيها هنيئا زادك الرحمن خيرا ولا برحت المسرات تسير إليك سيرا وهل يصلح النور إلا للمقل وهل يليق بالحسن إلا الحلل فالآن مهد الله البرين وأفاض العدل على العدوتين وقدم
للنظر من لا يعزب عن حفظه مكان ولا يختص بحفظه إنسان دون إنسان خليفة له النفس العمرية والآراء العمرية والفراسة الإياسية ولا ينبئك مثل خبير فلقد شاهد العبد ما لا يحصره تفسير ولعمري لقد عاد الصباح في إشراق النهار ولم يخف عنا ما زاد الدنيا من البهجة والمسار وشملت الناس هذه البشائر وعمت كل باد وحاضر وأصاخوا لتاليها إصاخة المجدبين لمرتادهم وأهطعوا لها مهللين ومكبرين إهطاع الناس لأعيادهم وأما العبد فقد أخذ بحظه حتى خاف أن يغلب السرور على قلبه ولحظه
( ومن فرح النفس ما يقتل ... ) وهذه نعمة يقصر عنها النثر والنظم ويحسد عليها الهلال والنجم بل يسلمان لما استحقته من المراتب ويخضعان إليها خضوع المفترض الواجب أقر الله بها عيون المسلمين وأفاض سحبها على الناس أجمعين وحفظها بعينه التي لا تنام ووقف على خدمتها الليالي والأيام
من شعر أبي عمران ابن سعيد ولما قدم من الأندلس على تونس مدح سلطانها أبا زكريا بقوله
( بشرى ويسرى قد أنار المظلم ... نجما وقد وضح الصباح المعلم )
( ورنت عيون الأمن وهي قريرة ... وبدت ثغور السعد وهي تبسم )
( فارحل لتونس واعتقد أعلام من ... قوي الضعيف به وأثرى المعدم )
( حيث المعالي والمعاني والندى ... والفضل والقوم الذين هم هم )
( أجروا إلى الغايات ملء عنانهم ... سبقا وبذهم الجواد المنعم )
آكد من السؤال عن الملك الناصر فأخبر بحاله وما جرى له مع التتر حتى قتلوه بعد الأمان ثم ساق في دخول هولاكو حلب فقال بعد كلام كثير وارتكب في أهل حلب التتر والمرتدون ونصارى الأرمن ما تصم عنه الأسماع وكان فيمن قتل بتلك الكائنة البدر بن العديم الذي صدر عنه من الطبقة العالية في الشعر مثل قوله
( واها لعقرب صدغه ... لو لم تكن للماه تحمي )
( ولغفل خط عذاره ... لو بت أعجمه بلثمي ) وابن عمه الافتخار بن العديم الذي وقع له مثل قوله
( والغصن فيه الماء مطرد ... والماء فيه الغصن منعكس ) ثم قال لما ذكر أحوال الناصر بعد استيلاء التتر على بلاد حلب والشام وما يليهما ما نصه قال من دخل على الملك الناصر وقد نزل بميدان دمشق قبلت يده وجعلت أدعو له وأظهر تعزيته على ما جرى من تلك المصائب العظيمة فأضرب عن ذلك وقال لي فيم تتغزل اليوم ثم أنشدني قوله في مملوك فقده في هذه الكائنة
( والله ما أبكي لملك مضى ... ولا لحال ظاعن أو مقيم )
( وإنما أبكي وقد حق لي ... لفقد من كنت به في نعيم )
( يطلع بدرا ينثني بانة ... يمر فيما رمته كالنسيم )
( في خاطري أبصره خاطرا ... فألتوي مثل التواء السقيم )
( يا عاذلي دعني وما حل بي ... فما سوى الله بحالي عليم )
( إن مت من حزن له أسترح ... وإن أعش عشت بهم عظيم
( ساد الإمام الملك يحيى سادة ... أعطى الورى لهم القياد وسلموا )
( إن الإمارة مذ غدا يقتادها ... يقظى وأجفان الحوادث نوم )
( لله منك مبارك ذو فطنة ... بزغت فأحجم عندها من يقدم )
( يقظان لا وان ولا متقاعس ... كالدهر يبني ما يشاء ويهدم )
( إن صال فالليث الهصور المقدم ... أو سال فالغيث المغيث المثجم )
( أعلى منار الحق حين أماله ... قوم تبرأت المنابر منهم )
( أعلى الإله مكانه وزمانه ... والنصر يقدم والسعادة تخدم ) وقال يخاطب ملك المغرب مأمون بنى عبد المؤمن حين أخذ البيعة لنفسه بإشبيلية وكان المذكور بمراكش ولبني سعيد بهذا الملك اختصاص قديم
( الحزم والعزم موجودان والنظر ... واليمن والسعد مضمونان والظفر )
( والنور فاض على أرجاء أندلس ... والزور ليس له عين ولا أثر )
( حث الركاب إلى هذا الجناب فقد ... ضلوا فما تنفع الآيات والنذر )
( واعزم كما عزم المأمون إذ نشزت ... أرض العراق فزال البؤس والضرر ) ولما قدم العادل القائم بمرسية المتولي على مملكة البرين إلى إشبيلية كان في جملة من خرج للقائه ورفع له قصيدة منها
( لقاء به للبر والشكر مجمع ... إلى يومه كنا نخب ونوضع )
( لقد يسر الرحمن صعب مرامه ... فأبصرت أضعاف الذي كنت أسمع )
وله أيضا
( يا منعما قد جاءني بره ... من غير أن أجري له ذكرا )
( إن أحب الخير ما جاءني ... عفوا ولم أغمر به فكرا )
وله في غلام واعظ وهو من حسناته
( وشادن ظل للوعظ ... تاليا لين جمع )
( متعت طرفي بمرآه ... في خفارة سمعي ) وله من أبيات
( ومن عجب أن الليالي تغيرت ... ولكنها ما غيرت مني العهدا ) ومن الفضلاء الذين أدركهم وأخذ عنهم الحافظ أبو بكر بن الجد وأبو بكر بن زهر وغيرهما وحضر حصار طليطلة مع منصور بنى عبد المؤمن وكتب لملك البرين أبي محمد عبد الواحد وكتب أيضا عن مأمون بنى عبد المؤمن وكتب أخيرا عن ملك بجاية والغرب الأوسط الأمير أبي يحيى ابن ملك إفريقية رحم الله تعالى الجميع ! رجع إلى أبي الحسن بن سعيد قال رحمه الله تعالى حضرت ليلة أنس مع كاتب ملك إفريقية أبي العباس أحمد الغساني فاحتاجت الشمعة أن تقط فتناول قطها غلام ببنانه فقلت
( ورخص البنان تصدى لأن ... يقط السراج بمثل العنم ) فقال
( ولم يهب النار في لمسه ... ولا احتاج في قطه للجلم )
فقلت
( وما ذاك إلا لسكناه في ... فؤادي على ما حوى من ضرم ) فقال
( تعود حر لهيب به ... فليس به من أوار ألم ) وأنشد في المغرب للغساني المذكور في خسوف القمر مما قاله ارتجالا
( كأن البدر لما أن علاه ... خسوف لم يكن يعتاد غيره ) سجنجل غادة قلبته لما أراها شبهها حسدا وغيره وخاطبه المذكور برسالة يقول في آخرها وعند حامل هذه الأحرف - سلمه الله تعالى ! - كنه خبري واستيعاب ما قصر عنه قلمي فضاقت بحمله أسطري لتعلم ما أجده وأفقده من تشوقي وتصبري وأني لا أزال أنشد حيث تذكري وتفكري
( يا نائيا قد نأى عني بمصطبري ... وثاويا في سواد القلب والبصر )
( إذا تناسيت عهدا من أخي ثقة ... فاذكر عهودي فما أخليك من فكري )
( واردد علي تحياتي بأحسنها ... تردد علي حياتي آخر العمر ) ولنمسك العنان عن الجري في ميدان أخبار ابن سعيد فإنها لا يشق غبارها ومنها قوله رحمه الله تعالى سمعت كثيرا من السماع المشرقي فلم يهزني مثل قول الشريف الشمس المكي
( مقل بالدمع غرقى ... وفؤاد طار خفقا )
( وتجن وتثن ... شق جيب الصبر شقا )
( يا ثقاتي خبروني ... عن حديث اليوم حقا )
( أكذا كل محب ... فارق الأحباب يشقي )
( لا وعيش قد تقضى ... وغرام قد تبقى )
( ونعيم في ذراكم ... قد صفا دهرا ورقا )
( ونسيم من حماكم ... حمل الوجد فرقا )
( برسالات صبابات ... على المشتاق تلقى )
( وغصون ناعمات ... بمياه الدن تسقى )
( ووجوه فضن حسنا ... فملأن الأرض عشقا )
( لو رضيتم بي عبدا ... ما رضيت الدهر عتقا )
وقال ما سمعت ولا وقفت على شيء أبدع من قول الجزار وقد تردد إلى جمال الدين بن يغمور رئيس الديار المصرية فلم يقدر له الاجتماع به
( أسأل الله أن يديم لك العز ... ويبقيك ما أردت البقاء )
( كل يوم أرجو النعيم بلقياك ... فألقى بالبعد عنك شقاء )
( علم الدهر أنني أشتكيه ... لك إذ نلتقي فعاق اللقاء ) فبعث له بما أصلح حاله من الإحسان وكتب في حقه إلى ولاة الصعيد كتبا أغنته مدة عن شكوى الزمان انتهى
وقال أيضا ولم أسمع في وضع الشيء موضعه أحسن من قول المتنبي
( وأصبح شعري متهما في مكانه ... وفي عنق الحسناء يستحسن العقد ) ولم أسمع في وضع الشيء غير موضعه أحسن من قول أبي الفرج
( مر مدحي ضائعا في لؤمه ... كضياع السيف في كف الجبان )
ومن تأليف النور بن سعيد كتاب عدة المستنجز وعقلة المستوفز وذكر فيه أنه ارتحل من تونس إلى المشرق رحلته الثانية سنة 666 وأورد في هذا الكتاب غرائب وبدائع وذكر فيه أنه لما دخل الإسكندرية لم يكن عنده
قال ثم إنه سار نحو هولاكو فلما مر بحلب ونظر إلى معاهدة على غير ما يعهد قال
( مررت بجرعاء الحمى فتلفتت ... لحاظي إلى الدار التي رحلوا عنها )
( ولو كان عندي ألف عين وقمت في ... عالمها عمري لما شبعت منها ) وصنع في نعيها أشعارا يغني بها المسمعون ثم رحل إلى صحراء يوش في جهة طريق أرمينية فوجد هولاكو هنالك في تلك المروج المشهورة بالخصب فأنزله وأقام يشرب معه إلى أن وصل الخبر بوقعة عين جالوت على التتر للملك المظفر قطز صاحب مصر سنة 658 فقتلوه وخلعوا عظم كتفه وجعلوه في أحد الأعلام على عادته في أكتاف الملوك انتهى باختصار
رجع
167 - ومن الوافدين من الأندلس إلى المشرق الأديب الحسيب عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن سعيد وكان صعب الخلق شديد الأنفة جرى بينه وبين أقاربه ما وجب خروجه إلى أقصى المشرق وفي ذلك يقول وكتب به إليهم
( من لصب يرعى النجوم صبابه ... ضيع السير الهموم شبابه )
( زدت بعدا فزدت فيه اقترابا ... بودادي كذاك حكم القرابه )
( منزلي الآن سمرقند وبالقلعة ... ربع وطئت طفلا ترابه )
( شد ما أبعد الفراق انتزاحي ... هكذا الليث ليس يدري اغترابه )
( لا ولا أرتجي الإياب لأمر ... إن يكن يرتجي غريب إيابه )
وكتب لهم من بخارى
( إذا هبت رياح الغرب طارت ... إليها مهجتي نحو التلاقي )
( وأحسب من تركت به يلاقي ... إذا هبت صباها ما ألاقي )
( فيما ليت التفرق كان عدلا ... فحمل ما يطيق من اشتياقي )
( وليت العمر لم يبرح وصالا ... ولم يحتم علينا بالفراق ) إذا كان الشوق فوق كل صفة فكيف تعبر عنه الشفة لكن العنوان دلالة على بعض ما في الصحيفة والحاجب قد ينوب في بعض الأمور مناب الخليفة وما ظنكم بمشوق طريح في يد الأشواق طليح يقطع مسافات الآفاق يتقلب تقلب الأفياء ويتلون تلون الحرباء حتى كأنه يخبر مساحات الأرض ذات الطول والعرض ويجوب أهوية الأقاليم السبع خارجا بما أدخله فيه اللجاج عن الشرع فكأنه خليفة الإسكندر لكن ما يجيش من هموم الغربة بفكري قائمة مقام الجيش والعسكر جزت إلى بر العدوة من الغرب الأقصى ثم نفسي فطمحت إلى مشاهدة الغرب الأوسط فلاقيت فيما بينهما من المسافة من المشاق ما لا يحصو ثم تشوقت إلى إفريقية درب بلاد الشرق فاستشعرت من هنالك ما بينها وبين بلادي من الفرق واختطفت من عيني تلك الطلاوة وانتزعت من قلبي تلك الحلاوة
( فلله عين لم تر العين مثلها ... ولا تلتقي إلا بجنات رضوان )
ثم نازعتني النفس التواقة إلى الديار المصرية فكابدت في البحر ما لا يفي بوصفه إلا المشافهة إلى أن أبصرت منار الإسكندرية فيالك من استئناف عمر جديد بعد اليأس من الحياة بما لقينا من الهول والتنكيد ثم صعدت إلى القاهرة ! ! ! ! ! ! ! ! ! !
قاعدة الديار المصرية لمعاينة الهرمين وما فيهما من المعالم الأزلية وعاينت القاهرة المعزية وما فيها من الهمم الملوكية غير أني أنكرت مبانيها الواهية على ما حوت من أولي الهمم العالية وكونها حاضرة العسكر الجرار وكرسي الملك العظيم المقدار وقلت أصداف فيها جواهر وشوك محدق بأزاهر ثم ركبت النيل وعاينت تماسيحه وجزت بحر جدة وذقت تباريحه وقضيت الحج والزيارة وملت إلى حاضرة الشام دمشق والنفس بالسوء أمارة فهنالك بعت الزيارة بالأوزار وآلت تلك التجارة إلى ما حكمت به الأقدار إذ هي كما قال أحد من عاينها
( أما دمشق فجنات معجلة ... للطالبين بها الولدان والحور )
فلله ما تضمن داخلها من الحور والولدان وما زين به خارجها من الأنهار والجنان وبالجملة فإنها حمى تتقاصر عن إدراكها أعناق الفصاحة وتقصر عن مناولتها في ميدان الأوصاف كل راحة ولم أزل أسمع عن حلب أنها دار الكرم والأدب فأردت أن يحظى بصري بما حظي به سمعي ورحلت إليها وأقمت جابرا بالمذاكرة والمطايبة صدعي ثم رحلت إلى الموصل فألفيت مدينة عليها رونق الأندلس وفيها لطافة وفي مبانيها طلاوة ترتاح لها الأنفس ثم دخلت إلى مقر الخلافة بغداد فعاينت من العظم والضخامة ما لا يفي به الكتب ولو أن البحر مداد ثم تغلغلت من بلاد العجم بلدا بلدا غير مقتنع بغاية ولا قاصد أمدا إلى أن حللت ببخارى قبة الإسلام ومجمع الأنام فألقيت بها عصا التسيار وعكفت على طلب العلم واصلا في اجتهاده سواد الليل وبياض النهار انتهى
وكتب إليهم أيضا من هذه الرسالة كتبت وقد حصلتني السعادة وحظ
الأمل والإرادة بحضرة بخارى قبة الإسلام
وأجابه أهله من الغرب بكلام من جملته وإن كنت قد تحصنت بقبة الإسلام فقد تعجلت لنا ولك الفقد قبل وقت الحمام وأتبعوا ذلك بما دعاه لأن خاطبهم بشعر منه
( عتبتم على حثي المطي وقلتم ... تعجلت فقدا قبل وقت حمام )
( إذا لم يكن حالي مهما لديكم ... سواء عليكم رحلتي ومقامي ) وقتل المذكور ببخارى حين دخلها التتر وهو عم علي بن سعيد الشهير
وكان لعبد الرحمن المذكور أخ يسمى يحيى قد عانى الجندية فلما بلغه أن أبا القاسم عبد الرحمن قتل ببخارى قال لا إله إلا الله كان أبدا يسفه رأيي في الجندية ويقول لو اتبعت طريق النجاة كما صنعت أنا لكان خيرا لك فها هو رب قلم قد قتل شر قتلة بحيث لا ينتصر وسلب سلاحه وأنا ما زلت أغازي في عباد الصليب وأخلص فما يقدر أحد يحسن لنفسه عاقبة انتهى
قال أبو الحسن علي بن سعيد ثم إن يحيى المذكور بعد خوضه في الحروب صرعه في طريقه غلام كان يخدمه فذبحه على نزر من المال أفلت به فانظر إلى تقلب الأحوال كيف يجري في أنواع الأمور لا على تقدير ولا احتياط انتهى
ومن شعر أبي القاسم عبد الرحمن المذكور ما خاطب به نقيب الأشراف ببخارى وقد أهدى إليه فاختا مع زوجه
( أيا سيد الأشراف لا زلت عاليا ... معاليك تنبو الدهر عن كل ناعت )
( من الفضل إقبال على ما بعثته ... لمغناك من شاد دعوه بفاخت )
( ألا حبذا من فاخت ساد جنسه ... وأصبح مقرونا بست الفواخت )
( أقول لنفسي حين قابلها الردى ... فرامت فرارا منه يسرى إلى يمنى )
( قري تحملي بعض الذي تكرهينه ... فقد طالما اعتدت الفرار إلى الأهنى ) أنشده تلميذه أبو حيان إمام عصره في اللغة
حدث عن ابن المنير وغيره واشتغل الناس عليه بالقاهرة وله تصانيف مفيدة وسمع من الحافظ أبي الربيع بن سالم وكتب على صحاح الجوهري وغيره حواشي في مجلدات وأثنى عليه تلميذه أبو حيان رحم الله تعالى الجميع
ومن فوائده قوله نقلت من خط أبي الوليد بن خيرة الحافظ القرطبي في فهرست أبي بكر بن مفوز قد أدركته بسني ولم آخذ عنه واجتمعت به أنشدني له أبو القاسم بن الأبرش يخاطب بعض أكابر أصحاب أبي محمد بن حزم والإشارة لابن حزم الظاهري
( يا من تعاني أمورا لن تعانيها ... خل التعاني وأعط القوس باريها )
( تروي الأحاديث عن كل مسامحة ... وإنما لمعانيها معانيها )
وقد سبق في ترجمة القاضي أبي الوليد الباجي ذكر هذين البيتين عندما أجرينا ذكر ابن حزم قال وإنما قال هذا الشعر في ذكر رواية ادعيت على قول النبي " إن خالدا قد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله " وصحح رواية من روى أعبده جمع عبد وعلل رواية من روى أعتده بالتاء مثناة باثنتين من فوق جمع عتد وهو الفرس قال ابن خيرة الإحاطة ممتنعة وهذه الرواية قد رواها جماعة من الأثبات والعلماء المحدثين فهو إنكار غير معروف والله تعالى أعلم
1 - ومن فوائده ما نقله تلميذه أبو حيان النحوي عنه قال أنشدنا للمقري ونقلته من خطه
( إذا ما شئت معرفة ... بما حار الورى فيه )
( فخذ خمسا لأربعة ... ودع للثوب رافيه ) وهو لغز في ورد
وقال وأنشدنا لبعضهم
( لا رعى الله عزمة ضمنت لي ... سلوة الصبر والتصبر عنه )
( ما وفت غير ساعة ثم عادت ... مثل قلبي تقول لا بد منه )
قال وأنشدنا لغيره
( وكان غريب الحسن قبل التحائه ... فلما التحى صار الغريب المصنفا )
وأنشدنا لغيره
( طب على الوحدة نفسا ... وارض بالوحشة أنسا )
( ما عليها من يساوي ... حين يستخبر فلسا ) وقرأ الرضي ببلده على ابن صاحب الصلاة آخر أصحاب ابن هذيل وسمع منه كتاب التلخيص للواني وسمع بمصر من ابن المقير وجماعة وروى عنه الحافظ المزي واليونيني والظاهري وآخرون وانتهت إليه معرفة اللغة وغريبها وكان يقول أعرف اللغة على قسمين قسم أعرف معناه وشواهده وقسم أعرف كيف أنطق به فقط رحمه الله تعالى
ومن فوائد الرضي الشاطبي المذكور ما ذكره أبو حيان في البحر قال وهو من غريب ما أنشدنا الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي لزينب بنت إسحاق النصراني الرسعني
( عدي وتيم لا أحاول ذكرهم ... بسوء ولكني محب لهاشم )
( وما يعتريني في علي ورهطه ... إذا ذكروا في الله لومة لائم )
( يقولون ما بال النصارى تحبهم ... وأهل النهى من أعرب وأعاجم )
( فقلت لهم إني لأحسب حبهم ... سرى في قلوب الخلق حتى البهائم )
ومن نظم الرضي المذكور
( منغص العيش لا يأوي إلى دعه ... من كان ذا بلد أو كان ذا ولد )
( والساكن النفس من لم ترض همته ... سكنى بلاد ولم يسكن إلى أحد )
وله
( لولا بناتي وسيئاتي ... لطرت شوقا إلى الممات )
( لأنني في جوار قوم ... بغضني قربهم حياتي )
وقرأ عليه أبو حيان كتاب التيسير وأثنى عليه ولما توفي أنشد ارتجالا
( نعوا لي الرضي فقلت لقد ... نعى لي شيخ العلا والأدب )
( فمن للغات ومن للثقات ... ومن للنحاة ومن للنسب )
( لقد كان للعلم بحرا فغار ... وإن غؤور البحار العجب )
( فقدس من عالم عامل ... أثار لشجوي لما ذهب )
وتحاكم إلى رضي الدين المذكور الجزار والسراج الوراق أيهما أشعر وأرسل إليه الجزار شيئا فقال هذا شعر جزل من نمط شعر العرب فبلغ ذلك الوراق فأرسل إليه شيئا فقال هذا شعر سلس وآخر الأمر قال
ما أحكم بينكما رحمه الله تعالى
قلت رأيت بخطه كتبا كثيرة بمصر وحواشي مفيدة في اللغة وعلى دواوين العرب رحمه الله تعالى
170 - ومنهم حميد الزاهد وهو الأديب الفاضل الزاهد أبو بكر حميد بن أبي محمد عبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري القرطبي نزيل مالقة قال الرضي الشاطبي المذكور قريبا أنشدني حميد بالقاهرة لأبيه أبي محمد وقد تأخر شيبة مع علو سنه
( وهل نافعي أن أخطأ الشيب مفرقي ... وقد شاب أترابي وشاب لداتي )
( إذا كان خط الشيب يوجد عينه ... بتربي فمعناه يقوم بذاتي )
واللدات من ولد معه في زمان واحد انتهى
وفي ذكري أنه قال هذين البيتين لما قال له القاضي عياض شبنا ولم تشب
وقال الرضي أيضا أنشدني حميد لأبيه فيمن يكتب في الورق بالمقص وهو غريب
( وكاتب وشي طرسه حبر ... لم يشها حبره ولا قلمه )
( لكن بمقراضه ينمنمها ... نمنمة الروض جاده رهمه )
( يوجد بالقطع أحرفا عدمت فاعجب ... لشيء وجوده عدمه )
والرهم المطر
قال وتوفي حميد الزاهد هذا بمصر قبيل الظهر من يوم الثلاثاء وصلي عليه خارج مصر بجامع راشدة بعد صلاة العصر من يوم الثلاثاء المذكور ودفن بسفح المقطم بتربة الشيخ الفاضل الزاهد أبي بكر محمد الخزرجي الذي يدق الرصاص حذاء رجليه في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وستمائه ومولده سنة ست وستمائة انتهى
171 - ومنهم اليسع بن عيسى بن حزم بن عبد الله بن اليسع بن عبد الله الغافقي من أهل بلنسية وأصله من جيان وسكن المرية ثم مالقة يكنى أبا يحيى كتب لبعض الأمراء بشرقي الأندلس وله تأليف سماه المغرب في أخبار محاسن أهل المغرب جمعه للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالديار المصرية بعد أن رحل إليها من الأندلس سنة ستين وخمسمائة وبها توفي يوم الخميس التاسع عشر من رجب سنة خمس وسبعين وخمسمائة رحمه الله تعالى
172 - ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن علي بن محمد التجيبي يكنى أبا عبد الله من أهل إشبيلية تجول في بلاد الأندلس طالبا للعلم ثم حج ولقي الحافظ السلفي وغيره واستوطن تلمسان وبها توفي في جمادي الأولى سنة عشر وستمائة وله تواليف كثيرة وسليمان الينيني 11
173 - ومنهم أبو مروان محمد بن أحمد بن عبد الملك اللخمي الباجي
من أهل إشبيلية ولي القضاء بها وأصله من باجة إفريقية دخل المشرق لأداء الفريضة فحج وتوفي بمصر بعدما دخل الشام في اليوم الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وثلاثين وستمائة ومولده عام أربعة وستين وخمسمائة وكانت رحلته من المغرب أول يوم من المحرم عام أربعة وثلاثين وستمائة
174 - ومنهم وليد بن بكر بن مخلد بن زياد العمري من أهل سرقسطة يكنى أبا العباس له كتاب سماه الوجازة في صحة القول بالإجازة وله رحلة لقي فيها ألف شيخ ومحدث وفقيه توفي بالدينور سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة يروي عنه أبو ذر الهروي وعبد الغني الحافظ وكفاه فخرا بهذين الإمامين العظيمين رحم الله تعالى الجميع
175 - ومنهم عيسى بن سليمان بن عبد الملك بن عبد الله بن محمد الرعيني الرندي يكنى أبا محمد استوطن مالقة ورحل إلى المشرق وحج ولقي جماعة من العلماء وقفل إلى المغرب أواخر عام واحد وثلاثين وستمائة وولي الإمامة بالمسجد الجامع بمالقة وبها توفي في ربيع الأول سنة اثنتني وثلاثين وستمائة ولقب في المشرق برشيد الدين وولد في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وخمسمائة بقرية من قرى الأندلس يقال لها يلمالتين كورة
بشتغير ذكر ذلك ابن المستوفي في تاريخ إربل
176 - ومنهم أبو الربيع سليمان بن أحمد الينيني من أهل الأندلس استوطن المشرق ومدح الملك الكامل ومن شعره رحمه الله تعالى قوله
( لولا تحديه بآية سحره ... ما كنت ممتثلا شريعة أمره )
( رشأ أصدقه وكاذب وعده ... يبدي لعاشقه أدلة غدره )
( ظهرت نبوة حسنه في فترة ... من جفنه وضلالة من شعره )
177 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن يحيى الضبي رحل حاجا فلقي ببجاية عبد الحق الإشبيلي وبالإسكندرية أبا الطاهر بن عوف ولقي غير واحد في رحلته كالغرنوي وأبي الثناء الحراني وأبي الحسين الحديثي وللحديثي أحاديث ساوى بها البخاري ومسلما ولقي جماعة ممن شارك السلفي في شيوخه
178 - ومنهم أبو الحسين محمد بن أحمد جبير الكناني صاحب الرحلة وهو من ولد ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة أندلسي
شاطبي بلنسي مولده ليلة السبت عاشر ربيع الأول سنة أربعين وخمسمائة ببلنسية وقيل في مولده غير ذلك وسمع من أبيه بشاطبة ومن أبي عبد الله الأصيلي وأبي الحسن بن أبي العيش وأخذ عنه القراءات وعني بالأدب فبلغ الغاية فيه وتقدم في صناعة القريض والكتابة
ومن شعره قوله وقد دخل إلى بغداد فاقتطع غصنا نضيرا من أحد بساتينها فذوى في يده
( لا تغترب عن وطن ... واذكر تصاريف النوى )
( أما ترى الغصن إذا ... ما فارق الأصل ذوى )
وقال رحمه الله تعالى يخاطب الصدر الخجندي
( يا من حواه الدين في عصره ... صدرا يحل العلم منه فؤاد )
( ماذا يرى سيدنا المرتضى ... في زائر يخطب منه الوداد )
( لا يبتغي منه سوى أحرف ... يعتدها أشرف ذخر يفاد )
( ترسمها أنملة مثل ما ... نمق زهر الروض كف العهاد )
( في رقعة كالصبح أهدى لها ... يد المعالي مسك ليل المداد )
( إجازة يورثنيها العلا ... جائزة تبقى وتفنى البلاد )
( يستصحب الشكر خديما لها ... والشكر للأمجاد أسنى عتاد )
فأجابه الصدر الخجندي
لك الله من خاطب خلتي ... ومن قابس يجتدي سقط زندي )
( أجزت له ما أجازوه لي ... وما حدثوه وما صح عندي )
( وكاتب هذي السطور التي ... تراهن عبد اللطيف الخجندي ) ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! !
179 - ورافق ابن جبير في هذه الرحلة أبو جعفر أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن القضاعي وأصله من أندة من بلنسية رحل معه فأديا الفريضة وسمعا بدمشق من أبي الطاهر الخشوعي وأجاز لهما أبو محمد بن أبي عصرون وأبو محمد القاسم بن عساكر وغيرهما ودخلا بغداد وتجولا مدة ثم قفلا جميعا إلى المغرب فسمع منهما به بعض ما كان عندهما
وكان أبو جعفر هذا متحققا بعلم الطب وله فيه تقييد مفيد مع المشاركة الكاملة في فنون العلم وكتب عن السيد أبي سعيد بن بن عبد المؤمن وجده لأمه القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية وتوفي أبو جعفر هذا بمراكش سنة ثمان أو تسع وتسعين وخمسمائة ولم يبلغ الخمسين في سنه رحمه الله تعالى !
رجع إلى ابن جبير
قال لسان الدين في حقه إنه من علماء الأندلس بالفقه والحديث والمشاركة في الآداب وله الرحلة المشهورة واشتهرت في السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب له قصيدتان إحداهما أولها( أطلت على أفقك الزاهر ... سعود من الفلك الدائر )
ومنها
( رفعت مغارم مكس الحجاز ... بإنعامك الشامل الغامر )
( وأمنت أكناف تلك البلاد ... فهان السبيل على العابر )
( وسحب أياديك فياضة ... على وارد وعلى صادر )
( فكم لك بالشرق من حامد ... وكم لك بالغرب من شاكر )
والأخرى منها في الشكوى من ابن شكر الذي كان أخذ المكس من الناس في الحجاز
( وما نال الحجاز بكم صلاحا ... وقد نالته مصر والشام )
ومن شعره
( أخلاء هذا الزمان الخؤون ... توالت عليهم حروف العلل )
( قضيت التعجب من بابهم ... فصرت أطالع باب البدل )
وقوله
( غريب تذكر أوطانه ... فهيج بالذكر أشجانه )
( يحل عربى صبره بالأسى ... ويعقد بالنجم أجفانه )
وقال رحمه الله تعالى لما رأى البيت الحرام زاده الله شرفا
( بدت لي أعلام بيت الهدى ... بمكة والنور باد عليه )
( فأحرمت شوقا له بالهوى ... وأهديت قلبي هديا إليه )
وقوله يخاطب من أهدى إليه موزا
( يا مهدي الموز تبقى ... وميمه لك فاء )
( وزايه عن قريب ... لمن يعاديك تاء )
وقال رحمه الله تعالى
( قد ظهرت في عصرنا فرقة ... ظهورها شؤم على العصر )
( لا تقتدي في الدين إلا بما ... سن ابن سينا وأبو نصر ) وقال
( يا وحشة الإسلام من فرقة ... شاغلة أنفسها بالسفه )
( قد نبذت دين الهدى خلفها وادعت الحكمة والفلسفة )
وقال
( ضلت بأفعالها الشنيعة ... طائفة عن هدى الشريعة )
( ليست ترى فاعلا حكيما ... يفعل شيئا سوى الطبيعة ) وكان انفصاله - رحمه الله تعالى ! من غرناطة بقصد الرحلة المشرقية أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال سنة 578 ووصل الإسكندرية يوم السبت التاسع والعشرين من ذي القعدة الحرام من السنة فكانت إقامته على متن البحر من الأندلس إلى الإسكندرية ثلاثين يوما ونزل البر الإسكندراني في الحادي والثلاثين وحج رحمه الله تعالى وتجول في البلاد ودخل الشام والعراق والجزيرة وغيرها وكان - رحمه الله تعالى ! كما قال ابن الرقيق - من أعلام العلماء العارفين بالله كتب في أول أمره عن السيد أبي سعيد ابن عبد المؤمن صاحب غرناطة فاستدعاه لأن يكتب عنه كتابا وهو على شرابه فمد يده إليه بكأس فأظهر الانقباض وقال يا سيدي ما شربتها قط فقال والله لتشربن منها سبعا فلما رأى العزيمة شرب سبع أكؤس فملأ له السيد الكأس من دنانير سبع مرات وصب ذلك في حجره فحمله إلى منزله وأضمر أن يجعل كفارة شربه الحج بتلك الدنانير ثم رغب إلى السيد وأعلمه أنه حلف
بأيمان لا خروج له عنها أنه يحج في تلك السنة فأسعفه وباع ملكا له تزود به وأنفق تلك الدنانير في سبيل البر
ومن شعره في جارية تركها بغرناطة
( طول اغتراب وبرح شوق ... لا صبر والله لي عليه )
( إليك أشكو الذي ألاقي ... يا خير من يشتكي إليه )
( ولي بغرناطة حبيب ... قد غلق الرهن في يديه )
( ودعته وهو في دلال يظهر ... لي بعض ما لديه )
( فلو ترى طل نرجسيه ... ينهل في ورد وجنتيه )
( أبصرت درا على عقيق ... من دمعه فوق صفحتيه )
وله رحلة مشهورة بأيدي الناس
ولما وصل بغداد تذكر بلده فقال
( سقى الله باب الطاق صوب غمامة ... ورد إلى الأوطان كل غريب )
وقال في رحلته في حق دمشق جنة المشرق ومطلع حسنه المونق المشرق هي خاتمه بلاد الإسلام التي استقريناها وعروس المدن التي اجتليناها قد تحلت بأزاهير الرياحين وتجلت في حلل سندسيه من البساتين وحلت من موضع الحسن بمكان مكين وتزينت في منصتها أجمل تزيين وتشرفت بأن آوى الله تعالى المسيح وأمه منها إلى ربوة ذات قرار ومعين ظل ظليل وماء
سلسبيل تنساب مذانبه أنسياب الأراقم بكل سبيل ورياض يحيي النفوس نسميها العليل تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل وتناديهم هلموا إلى معرس للحسن ومقيل قد سئمت أرضها كثرة الما حتى اشتاقت إلى الظمأ فتكاد تناديك بها الصم الصلاب ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) قد أحدقت بها البساتين إحداق الهالة بالقمر واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر فكل موقع لحظة بجهاتها الأربع نظرته اليانعة قيد النظر ولله صدق القائلين فيها إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها وتحاذيها
قال العلامة ابن جابر الوادي آشي بعد ذكره وصف ابن جبير لدمشق ما نصه ولقد أحسن فيما وصف منها وأجاد وتوق الأنفس للتطلع على صورتها بما أفاد هذا ولم تكن له بها إقامة فيعرب عنها بحقيقة علامة وما وصف ذهبيات أصيلها وقد حان من الشمس غروب ولا أزمان فصولها المتنوعات ولا أوقات سرورها المهنئات ولقد أنصف من قال ألفيتها كما تصف الألسن وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين انتهى
رجع إلى كلام ابن جبير فنقول
ثم ذكر في وصف الجامع أنه من أشهر جوامع الإسلام حسنا وإتقان بناء وغرابة صنعة واحتفال تنميق وتزيين وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه ومن عجيب شأنه أنه لا تنسج به العنكبوت ولا تدخله ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف ثم مد النفس في وصف الجامع وما به من العجائب ثم قال بعد عدة أوراق ما نصه وعن يمين الخارج من باب جيرون في جدار البلاط الذي أمامه غرفة ولها هيئة طاق كبير مستدير فيه طيقان صفر وقد فتحت أبوابا صغارا على عدد ساعات النهار دبرت تدبيرا هندسيا فعند انقضاء ساعة من النهار تسقط صنجتان من صفر من فمي بازين مصورين من صفر قائمين على طاستين من صفر تحت كل واحد منهما أحدهما تحت أول باب من تلك الأبواب والثاني تحت آخرها والطاستان مثقوبتان فعند وقوع البندقتين فيهما تعودان داخل الجدار إلى الغرفة وتبصر البازيين يمدان أعناقهما بالبندقتين إلى الطاستين ويقذفانهما بسرعة بتدبير عجيب تتخيله الأوهام سحرا وعند وقوع البندقتين في الطاستين يسمع لها دوي وينغلق الباب الذي هو لتلك الساعة للحين بلوح من الصفر لا يزال كذلك عند انقضاء كل ساعة من النهار حتى تنغلق الأبواب كلها وتنقضي الساعات ثم تعود إلى حالها الأول ولها بالليل تدبير آخر وذلك أن في القوس المنعطف على تلك الطيقان المذكورة اثنتي عشرة دائرة من النحاس مخرمة وتعترض في كل دائرة زجاجة من داخل الجدار في الغرفة مدبر ذلك كله منها خلف الطيقان المذكورة وخلف الزجاجة مصباح يدور به الماء على ترتيب مقدار الساعة فإذا انقضت عم الزجاجة ضوء المصباح وفاض على الدائرة أمامها شعاعها فلاحت للأبصار دائرة محمرة ثم انتقل ذلك إلى الأخرى حتى تنقضي ساعات الليل وتحمر الدوائر كلها وقد وكل بها في الغرفة متفقد لحالها درب بشأنها وانتقالها يعيد فتح الأبواب وصرف الصنج إلى موضعها وهي التي تسميها الناس المنجانة انتهى المقصود منه
قلت كل ما ذكر رحمه الله تعالى في وصف دمشق الشام وأهلها فهو في نفس الأمر يسير ومن ذا يروم عد محاسنها التي إذا رجع البصر فيها انقلب وهو حسير وقد أطنب الناس فيها وما بقي أكثر مما ذكروه وقد دخلتها أواخر شعبان من سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة وأقمت بها إلى أوائل شوال من السنة وارتحلت عنها إلى مصر وقد تركت القلب فيها رهنا وملك هواها
مني فكرا وذهنا فكأنها بلدي التي بها ربيت وقراري الذي لي به أهل وبيت لأن أهلها عاملوني بما ليس لي بشكره يدان وها أنا إلى هذا التاريخ لا أرتاح لغيرها من البلدان ولا يشوقني ذكر أرض بابل ولا بغدان فالله سبحانه وتعالى يعطر منها بالعافية الأردان
أشعار في وصف دمشق
وقد عن لي أن أذكر جملة مما قيل فيها من الأمداح الرائقة وأسرد ما خاطبني به أهلها من القصائد الفائقة فأقول قال البدر بن حبيب( يمم دمشق ومل إلى غربيها ... والمح محاسن حسن جامع يلبغا )
( من قال من حسد رأيت نظيره ... بين الجوامع في البلاد فقد لغا )
وقال رحمه الله
( لله ما أحلى محاسن جلق ... وجهاتها اللاتي تروق وتعذب )
( بيزيد ربوتها الفرات وجنكها ... يا صاح كم كنا نخوض ونلعب )
وقال في كتاب شنف السامع بوصف الجامع
( لله ما أجمل وصف جلق ... وما حوى جامعها المنفرد )
( قد أطرب الناس بصوت صيته ... وكيف لا يطرب وهو معبد ) وقال في ذكر باب الجامع المعروف بالزيادة
( يا راغبا في غير جامع جلق ... هل يستوي الممنوع والممنوح )
( أقصر عناك وفي غلوك لا تزد ... إن الزيادة بابها مفتوح )
وقال في منارته المعروفة بالعروس
( معبد الشام يجمع الناس طرا ... وإليه شوقا تميل النفوس )
( كيف لا يجمع الورى وهو بيت ... فيه تجلى على الدوام العروس ) ومنه في ذكر بانيه الوليد
( تالله ما كان الوليد عابثا ... في صرفه المال وبذل جهده )
( لكنه أحرز ملك معبد ... لا ينبغي لأحد من بعده )
ومن أبيات في آخره
( بجامع جلق رب الزعامة ... أقم تلق العناية والكرامة )
( ويمم نحوه في كل وقت ... وصل به تصل دار الإقامة )
( مصلى فيه للرحمن سره ... ومثوى للقبول به علامه )
( محل كمل الباري حلاه ... وبيت أبدع الباني نظامه )
( دمشق لم تزل للشام وجها ... ومسجدها لوجه الشام شامه )
( وبين معابد الآفاق طرا ... له أمر الإمارة والإمامة )
( أدام الله بهجته وأبقى ... محاسنه إلى يوم القيامة )
ولم أقف على كل هذا الكتاب المذكور بل على بعضه فقط
ومن قصيدة القاضي المهذب بن الزبير
( بالله يا ريح الشمال ... إذا اشتملت الرند بردا )
( وحملت من عرف الخزامى ... ما اغتدى للند ندا )
( ونسجت ما بين الغصون ... إذا اعتنقن هوى وودا )
( وهززت عند الصبح من ... أعطافها قدا فقدا )
( ونثرت فوق الماء من ... أجيادها للزهر عقدا )
( فملأت صفحة وجهه ... حتى اكتسى آسا ووردا )
( وكأنما ألقيت فيه ... منهما صدغا وخدا )
( مري على بردى عساه ... يزيد في مسراك بردا )
( نهر كنصل السيف تكسر ... متنه الأزهار عمدا )
( صقلته أنفاس النسيم ... بمرهن فليس يصدا ) ومنها
( أحبابنا ما بالكم ... فينا من الأعداء أعدى )
( وحياة حبكم وحرمة ... وصلكم ما خنت عهدا )
وقال الكمال الشريشي
( يا جيرة الشام هل من نحوكم خبر ... فإن قلبي بنار الشوق يستعر )
( بعدت عنكم فلا والله بعدكم ... ما لذ للعين لا نوم ولا سهر )
( إذا تذكرت أوقاتا نأت ومضت ... بقربكم كادت الأحشاء تنفطر )
( كأنني لم أكن بالنيربين ضحى ... والغيم يبكي ومنه يضحك الزهر )
( والورق تنشد والأغصان راقصة ... والدوح يطرب بالتصفيق والنهر )
( والسفح أين عشياتي التي ذهبت ... لي فيه فهي لعمري عندي العمر )
( سقاك بالسفح سفح الدمع منهمرا ... وقل ذاك له إن أعوز المطر )
وحكى ابن سعيد وغيره أن غرناطة تسمى دمشق الأندلس لسكنى أهل دمشق الشام بها عند دخولهم الأندلس وقد شبهوها بها لما رأوها كثيرة المياه والأشجار وقد أطل عليها جبل الثلج وفي ذلك يقول ابن جبير صاحب الرحلة
( يا دمشق الغرب هاتيك ... لقد زدت عليها )
( تحتك الأنهار تجري ... وهي تنصب إليها )
قال ابن سعيد أشار ابن جبير إلى أن غرناطة في مكان مشرف وغوطتها
تحتها تجري فيها الأنهار ودمشق في وهدة تنصب إليها الأنهار وقد قال الله تعالى في وصف الجنة ( تجري من تحتها الأنهار ) انتهى
وقال الشيخ الصفدي في تذكرته أنشدني المولى الفاضل البارع شمس الدين محمد بن يوسف بن عبد الله الخياط بقلعة الجبل من الديار المصرية حرسها الله تعالى لنفسه في شعبان المكرم سنة 732
( قصدت مصرا من ربى جلق ... بهمة تجري بتجريبي )
( فلم أر الطرة حتى جرت ... دموع عيني بالمريزيب )
وأنشدني لنفسه أيضا
( خلفت بالشام حبيبي وقد يممت مصرا لعنا طارق )
( والأرض قد طالت فلا تبعدي ... بالله يا مصر على العاشق )
وأنشدني لنفسه أيضا
( يا أهل مصر أنتم للعلا ... كواكب الإحسان والفضل )
( لو لم تكونوا لي سعودا لما ... وافيتكم أضرب في الرمل )
وذكرته برمته لحسن مغزاه
وقال الشيخ مجد الدين محمد بن أحمد المعروف بابن الظهير الحنفي الإربلي
( لعل سنى برق الحمى يتألق ... على النأي أو طيفا لأسماء يطرق )
( فلا نارها تبدو لمرتقب ولا ... وعود الأماني الكواذب تصدق )
( لعل الرياح الهوج تدني لنازح ... من الشام عرفا كاللطيمة تعبق )
( ديار قضينا العيش فيها منعما ... وأيامنا تحنو علينا وتشفق )
( سحبنا بها برد الشباب وشربنا ... لدينا كما شئنا لذيذ مروق )
( مواطن منها السهم سهمي وظله ... تخب مطايا اللهو فيه وتعنق )
( كلا جانبيه معلم متجعد ... من الماء في أطلاله يتدفق )
( إذا الشمس حلت متنه فهو مذهب ... وإن حجبتها دوحه فهو أزرق )
( وإن فرج الأوراق جادت بنورها ... فرقم أجادته الأكف منمق )
( يطل عليه قاسيون كأنه ... غمام معلى أو نعام معلق )
( تسافر عنه الشمس قبل غروبها ... وترجف إجلالا له حين تشرق )
( وتصفر من قبل الأصيل كأنها ... محب من البين المشتت مشفق )
( وفي النيرب الميمون للب سالب ... من المنظر الزاهي وللطرف مومق )
( بدائع من صنع القديم ومحدث ... تأنق فيها المحدث المتأنق )
( رياض كموشي البرود يشقها ... جداولها فالنور بالماء يشرق )
( فمن نرجس يخشى فراق فريقه ... ترى الدمع في أجفانه يترقرق )
( ومن كل ريحان مقيم وزائر ... يصافح رياه الرياض فتعبق )
( كأن قدود السرو فيه موائسا ... قدود عذارى ميلها مترفق )
( إذا ما تدلت للشقائق صدها ... عيون من النور المفتح ترمق )
( وقصر يكل الطرف عنه كأنه ... إلى النسر نسر في السماء معلق )
( وكم جدول جار يطارد جدولا ... وكم جوسق عال يوازيه جوسق )
( وكم بركة ... فيها تضاحك بركة وكم قسطل للماء فيه تدفق )
( وكم منزل يعشي العيون كأنما ... تألق فيها بارق يتألق )
( وفي الربوة الفيحاء للقلب جاذب ... وللهم مسلاة وللعين مرمق )
( عروس جلاها الدهر فوق منصة ... من الدهر والأبصار ترمى وترمق )
( فهام بها الوادي ففاضت عيونه ... فكل قرار منه بالدمع يشرق )
( تكفل من دون الجداول شربها ... يزيد يصفيه لها ويروق )
وقال أبو تمام في دمشق
( لولا حدائقها وأني لا أرى ... عرشا هناك ظننتها بلقيسا )
( وأرى الزمان غدا عليك بوجهه ... جذلان بساما وكان عبوسا )
( قد بوركت تلك البطون وقد سمت ... تلك الظهور وقدست تقديسا )
وقال البحتري
( أما دمشق فقد أبدت محاسنها ... وقد وفى لك مطريها بما وعدا )
( إذا أردت ملأت العين من بلد ... مستحسن وزمان يشبه البلدا )
( تمشي السحاب على أجبالها فرقا ... ويصبح النور في صحرائها بددا )
( فلست تبصر إلا واكفا خضلا ... أو يانعا خضرا أو طائرا غردا )
( كأنما القيظ ولى بعد جيئته ... أو الربيع دنا من بعد ما بعدا ) وفي دمشق يقول بعضهم
( برزت دمشق لزائري أوطانها ... من كل ناحية بوجه أزهر )
( لو أن إنسانا تعمد أن يرى ... مغنى خلا من نزهة لم يقدر )
وقال القيراطي في قصيدته التي أولها
( للصب بعدك حالة لا تعجب ... )
( لله ليل كالنهار قطعته ... بالوصل لا أخشى به ما يرهب )
( وركبت منه إلى التصابي أدهما ... من قبل أن يبدو لصبح أشهب )
( أيام لاماء الخدود يشوبه ... كدر العذار ولا عذارى أشيب )
( كم في مجال اللهو لي من جولة ... أضحت ترقص بالسماع وتطرب )
( وأقمت للندماء سوق خلاعة ... تجبي المجون إلي فيه وتجلب )
( وذكرت في مغنى دمشق معشرا ... أم الزمان بمثلهم لا تنجب )
( لا يسأل القصاد عن ناديهم ... لكن يدلهم الثناء الطيب )
( قوم بحسن صفاتهم وفعالهم ... قد جاء يعتذر الزمان المذنب )
( يا من لحران الفؤاد وطرفه ... بدمشق أدمعه غدت تتحلب )
( أشتاق في وادي دمشق معهدا ... كل الجمال إلى حماه ينسب )
( ما فيه إلا روضة أو جوسق ... أو جدول أو بلبل أو ربرب )
( وكأن ذاك النهر فيه معصم ... بيد النسيم منقش ومكتب )
( وإذا تكسر ماؤه أبصرته ... في الحال بين رياضة يتشعب )
( وشدت على العيدان ورق أطربت ... بغنائها من غاب عنه المطرب )
( فالورق تنشد والنسيم مشبب ... والنهر يسقي والحدائق تشرب )
( وضياعها ضاع النسيم بها فكم ... أضحى له من بين روض مطلب )
( وحلت بقلبي من عساكر جنة ... فيها لأرباب الخلاعة ملعب )
( ولكم رقصت على السماع بجنكها ... وغدا بربوتها اللسان يشبب )
( فمتى أزور معالما أبوابها ... بسماحها كتب السماح تبوب )
وقال الصفي الحلي عند نزوله بدمشق مسمطا لقصيدة السموأل بالحماسة
( قبيح بمن ضاقت عن الرزق أرضه ... )
( وطول الفلا رحب لديه وعرضه ... )
( ولم يبل سربال الدجى فيه ركضه ... )
( إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل )
( إذا المرء لم يحجب عن العين نومها ... )
( ويغل من النفس النفيسة سومها ... )
( أضيع ولم تأمن معاليه لومها ... )
( وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل )
( رفعنا على هام السماك محلنا ... )
( فلا ملك إلا تغشاه ظلنا ... )
( لقد هاب جيش الأكثرين أقلنا ... )
( ولا قل من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا وكهول )
( يوازي الجبال الراسيات وقارنا ... وتبنى على هام المجرة دارنا )
( ويأمن من صرف الزمان جوارنا ... )
( وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل )
( ولما حللنا الشام تمت أموره ... )
( لنا وحبانا ملكه ووزيره ... )
( وبالنيرب الأعلى الذي عز طوره ... )
( لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل )
( يريك الثريا من خلال شعابه ... )
( وتحدق شهب الأفق حول هضابه ... )
( ويقصر خطو السحب دون ارتكابه ... )
( رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل )
( وقصر على الشقراء قد فاض نهره ... )
( وفاق على فخر الكوكب فخره ... )
( وقد شاع ما بين البرية شكره ... )
( هو الأبلق الفرد الذي سار ذكره ... يعز على من رامه ويطول )
( إذا ما غضبنا في رضا المجد غضبة ... )
( لندرك ثأرا أو لنبلغ رتبة ... )
( نزيد غداة الكر في الموت رغبة ... )
( وإنا لقوم لا نرى الموت سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول )
وكتب الشيخ محب الدين الحموي في ترجمة الشيخ إسماعيل النابلسي شيخ الإسلام من مصر
( لواء التهاني بالمسرة يخفق ... وشمس المعالي في سما الفضل تشرق )
( وسعد وإقبال ومجد مخيم ... وأيام عز بالوفا تتخلق )
( فيا أيها المولى الذي جل قدره ... ويا أيها الحبر اللبيب المدقق )
( أرى الشام مذ فارقتها زال نورها ... وثوب بهاها والنضارة يخلق )
( إذا غبت عنها غاب عنها جمالها ... ونفس بدون الروح لا تتحقق )
( وإن عدت فيها عاد فيها كمالها ... وصار عليها من بهائك رونق )
( فيا ساكني وادي دمشق مزاركم ... بعيد وباب الوصل دوني مغلق )
( وليس على هذا النوى لي طاقة فهل من قيود البين والبعد أطلق وإني إلى أخباركم متشوف ... وإني إلى لقياكم متشوق )
( أود إذا هب النسيم لنحوكم ... بأني في أذياله أتعلق )
( وأصبو لذكراكم إذا هبت الصبا ... لعلي من أخباركم أتنشق )
( ولي أنة أودت بجسمي ولوعة ... ونار جوى من حرها أتفلق )
( فحنوا على المضنى الذي ثوب صبره ... إذا مسه ذيل الهوى يتمزق )
( غريب بأقصى مصر أضحت دياره ... ولكن قلبي بالشآم معلق )
( وقد نسخ التبريح جسمي فهل إلى ... غبار ثرى أعتاب وصل يحقق )
( فيا ليت شعري هل أفوز بروضة ... وفيها عيون النرجس الغض تحدق )
( وأنظر واديها وآوي لربوة ... وماء معين حولها يتدفق )
( ويحلو لي العيش الذي مر صفوه ... وهل عائد ذاك النعيم المروق )
( وأنظر ذاك الجامع الفرد مرة ... وفي صحنه تلك الحلاوة تشرق )
( وأصحابنا فيه نجوم زواهر ... ونور محيا وجههم يتألق )
( فلا برحوا في نعمة وسعادة ... وعز ومجد شأوه ليس يلحق )
وقال ابن عنين
( ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو ساعدوني بالكرى )
( جنحوا إلى قول الوشاة وأعرضوا ... والله يعلم أن ذلك مفترى )
( يا معرضا عنى بغير جناية ... إلا لما نقل العذول وزورا ) هبني
( هبنى أسأت كما تقول وتفتري ... وأتيت في حبيك شيئا منكرا )
( ما بعد بعدك والصدود عقوبة ... يا هاجري ما آن لي أن تغفرا )
( لا تجمعن علي عتبك والنوى ... حسب المحب عقوبة أن يهجرا )
( عبء الصدود أخف من عبء النوى ... لو كان لي في الحب أن أتخيرا )
( فسقى دمشق وواديها والحمى ... متواصل الأرهام منفصم العرى )
( حتى ترى وجه الرياض بعارض ... أحوى وفود الدوح أزهر نيرا )
( تلك المنازل لا ملاعب عالج ... ورمال كاظمة ولا وادي القرى )
( أرض إذا مرت بها ريح الصبا ... حملت على الأغصان مسكا أذفرا )
( فارقتها لا عن رضا وهجرتها ... لا عن قلى ورحلت لا متخيرا )
( أسعى لرزق في البلاد مشتت ... ومن العجائب أن يكون مقترا )
تعريف بابن عين
وابن عنين المذكور كان هجاء وهو صاحب مقراض الأعراض تجاوز الله تعالى عنه فمن ذلك قوله( أرح من نزح ماء البئر يوما ... فقد أفضى إلى تعب وعي )
( مر القاضي بوضع يديه فيه ... وقد أضحى كرأس الدولعي )
يعني أقرع وسبب قوله البيتين أن المعظم أمر بنزح ماء بقلعة دمشق فأعياهم ذلك
ومن هجوه قوله
( شكا شعري إلي وقال تهجو ... بمثلي عرض ذا الكلب اللئيم )
( فقلت له تسل فرب نجم ... هوى في إثر شيطان رجيم )
وقال فيمن خرج حاجا فسقط عن الهجين فتخلف
( إذا ما ذم فعل النوق يوما ... فإني شاكر فعل النياق )
( بلاد بها الحصباء در وتربها ... عبير وأنفاس الشمال شمول )
( تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق ... وصح نسيم الروض وهو عليل ) وقد تقدم التمثيل بهذه الأبيات الثلاثة في خطبة هذا الكتاب ومن هذه القصيدة
( وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي ظهير الدين في جميل )
( من القوم أما أحنف فمسفه ... لديهم وأما حاتم فبخيل )
( فتى المجد أما جاره فممنع ... عزيز وأما ضده فذليل )
( وأما عطايا كفه فمباحة ... حلال وأما ظله فظليل )
وظهير الدين الممدوح هو طغتكين بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين وكان ملك اليمن وأحسن إلى ابن عنين إحسانا كثيرا وافرا وخرج ابن عنين من اليمن بمال جم وطغتكين بضم الطاء المهملة وبعدها غين معجمة ثم تاء مثناة من فوقها مكسورة ثم كاف مكسورة أيضا ثم ياء تحتية ثم نون وكان يلقب بالملك العزيز ولذلك قال ابن عنين لما رجع من عنده إلى مصر أيام العزيز عثمان بن صلاح الدين فألزم أرباب الديوان ابن عنين بدفع الزكاة من المتاجر التي وصلت صحبته
( ما كل من يتسمى بالعزيز له ... أهل وما كل برق سحبه غدقه )
( بين العزيزين بون في فعالهما ... هذاك يعطي وهذا يأخذ الصدقة )
ومن هجو ابن عنين قوله في فقيهين يلقب أحدهما بالبغل والآخر بالجاموس
( البغل والجاموس في حاليهما ... قد أصبحا مثلا لكل مناظر )
( قعدا عشية يومنا فتناظرا ... هذا بقرنيه وذا بالحافر )
( ما أحكما غير الصياح كأنما ... لقيا جدال المرتضى بن عساكر )
( جلفان ما لهما شبيه ثالث ... إلا رقاعة مذلويه الشاعر )
( لفظ طويل تحت معنى قاصر ... كالعقل في عبد اللطيف الناظر )
رجع إلى دمشق
وقال العز الموصلي( إليك حياض حمامات مصر ... ولا تتكثري عندي بمين )
( حياض الشام أحلى منك ماء ... وأطهر وهي دون القلتين )
وهذان البيتان جواب منه عن قول ابن نباتة
( أحواض حمام الشآم ... ألا اسمعي لي كلمتين )
( لا تذكرى أحواض مصر ... فأنت دون القلتي ) ن وأما قول النواجي سامحه الله تعالى
( مصر قالت دمشق لا ... تفتخر قط باسمها )
( لو رأت قوس روضتي ... منه راحت بسهمها )
فهو من باب تفضيل الوطن من حبه ومنه قول الوداعي
( رو بمصر وبسكانها ... شوقي وجدد عهدي الخالي )
( وارو لنا يا سعد عن نيلها ... حديث صفوان بن عسال )
( فهو مرادي لا يزيد ولا ... ثور وإن رقا ورقا لي )
ومن ذلك النمط قول الشهاب الحجازي
( قالوا دمشق قد زهت لزهرها ... فامض وشاهد جوزها ولوزها )
( فقلت لا أبدل بلدتي بها ... ولست أرضى زهرها ولوزها ) وقول الآخر
( قد قال وادي جلق للنيل إذ ... كسروه أعين جبهتي لك ترفع )
( فأجاب بحر النيل لما أن طغى ... عندي مقابل كل عين أصبع ) وقد تذكرت هنا قول بعضهم
( ماذا يفيد المعنى ... من الأذى المتتابع )
( بمصر ذات الأيادي ... ونيلها ذي الأصابع )
وقد شاع الخلاف قديما وحديثا في المفاضلة بين مصر والشام وقد قال بعضهم
( في حلب وشامنا ... ومصر طال اللغط )
( فقلت قول منصف ... خير الأمور الوسط )
شعر في ذم دمشق
وأما قول بعضهم( تجنب دمشق ولا تأتها ... وإن راقك الجامع الجامع )
( فسوق الفسوق بها قائم ... وفجر الفجور بها طالع )
فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه إذ هو مجرد دعوى خالية عن الدليل وهي من نزعات بعض الهجائين الذين يعمدون إلى تقبيح الحسن الجميل الجليل
( وما زالت الأشراف تهجى وتمدح ... )
ولا يقابل ألف مثن عدل بفاسق يقدح
( وفي تعب من يحسد الشمس نورها ... ويأمل أن يأتي لها بضريب )
وأخف من هذا قول بعض الأندلسيين وهو الكاتب أبو بكر محمد بن قاسم
( دمشق جنة الدنيا حقيقا ... ولكن ليس تصلح للغريب )
( بها قوم لهم عدد ومجد ... وصحبتهم تؤول إلى الحروب )
( ترى أنهارهم ذات ابتسام ... وأوجههم تولع بالقطوب )
( أقمت بدارهم ستين يوما ... فلم أظفر بها بفتى أديب )
والجواب واحد ولا يضر الحق الثابت إنكار الجاحد وأخف من الجميع قول العارف بالله تعالى سيدي عمر بن الفارض رضي الله تعالى عنه
( جلق جنة من تاه وباهى ... ورباها أربى لولا وباها )
( قال غال بردى كوثرها ... قلت غال برداها برداها )
( وطني مصر وفيها وطري ... ولنفسي مشتهاها مشتهاها )
( ولعيني غيرها إن سكنت ... يا خليلي سلاها ) ما سلاها
وأخف منه قول ابن عبد الظاهر
( لا تلوموا دمشق إن جئتموها ... فهي قد أوضحت لكم ما لديها )
( إنها في الوجوه تضحك بالزهر ... لمن جاء في الربيع إليها )
( وتراها بالثلج تبصق في لحية ... من مر في الشتاء عليها )
وقول ابن نباتة وهو بالشام يتشوق إلى المقياس والنيل
( أرق له بالشام نيل مدامع ... يجريه ذكر منازل المقياس )
( سقيا لمصر منازلا معمورة ... بنجوم أفق أو ظباء كناس )
( وطني سهرت له وشابت لمتي ... ونعم على عيني هواه وراسي )
( من لي به والحال ليس بآيس ... كدر وعطف الدهر ليس بقاسي )
( والطرف يستجلي غزالا آنسا ... بالنيل لم يعتد على باناس )
رجع إلى مدح دمشق
وقال الناصر داود بن المعظم عيسى( إذا عاينت عيناي أعلام جلق ... وبان من القصر المشيد قبابه )
( تيقنت أن البين قد بان والنوى ... نأى شخصه والعيش عاد شبابه )
وقال أيضا رحمه الله تعالى
( يا راكبا من أعالي الشام يجذبه ... إلى العراقين إدلاج وإسحار )
( حدثتني عن ربوع طالما قضيت ... للنفس فيها لبانات وأوطار )
( لدى رياض سقاها المزن ديمته ... وزانها زهر غض ونوار )
( شح الندى أن يسقيها مجاجته ... فجادها مفعم الشؤبوب مدرار )
( بكت عليها الغوادي وهي ضاحكة ... وراحت الريح فيها وهي معطار )
( يا حسنها حين زانتها جواسقها ... وأينعت في أعالي الدوح أثمار )
( فهي السماء اخضرارا في جوانبها ... كواكب زهرتبدو وأقمار )
( حدثتني وأنا الظامي إلى نبإ ... لا فض فوك فمني الري تمتار )
( فهو الزلال الذي طابت مشاربه ... وفارقته غثاءات وأكدار )
( كرر على نازح شط المزار به ... حديثك العذب لاشطت بك الدار )
( وعلل النفس عنهم بالحديث بهم ... إن الحديث عن الأحباب أسمار )
وهذا الملك الناصر له ترجمة كبيرة وهو ممن أدركته الحرفة الأدبية ومنع حقه بالحمية والعصبية وأنكرت حقوقه وأظهر عقوقه حتى قضى نحبه ولقي ربه
رجع
وقال سيف الدين المشد رحمه الله تعالى( بشرى لأهل الهوى عاشوا به سعدا ... وإن يموتوا فهم من جملة الشهدا )
( وإذا ما بدا الصباح فما يشبه ... إلا لون الخدود الملاح ) وقلت بالجزيرة الخضراء
( قد رفعت راية الصباح ... تدعو الندامى للاصطباح )
( فبادروا للصبوح إن ... ي قد بعت في غيه صلاحي )
( ولا تميلوا عن رشف ثغر ... وسمع شدو وشرب راح )
( وأنت يا من يروم نصحي ... قد يئس القوم من فلاحي )
( فلست أصغي إلى نصيح ... ما نهضت بالكؤوس راحي )
قال وقلت أمدح ملك إفريقية وأهنئه بقتل ثائر من زناتة يدعي أنه من نسل يعقوب المنصور
( برح بي من ليس عنه براح ... ومن رأى قتلي حلالا مباح )
( من صرح الدمع بحبي له ... وما لقلبي عن هواه سراح )
( ظبي عدمت الصبح مذ صدني ... وكيف لا يعدم وهو الصباح )
( مورد الخد شهي اللمى ... منعم الردف جديب الوشاح )
( تظنه من قلبه جلمدا ... ومنه للماء بجفني انسياح )
( لردفه أضعف من صبه ... ولم أزل من لحظه في كفاح )
( نشوان من ريقته عربدت ... أجفانه بالمرهفات الصفاح )
( فها أنيني خافت مثل ما ... أنا أسير مثخن بالجراح )
( يا قاتلي صدا أما تستحي ... أن تلزم البخل بأرض السماح )
( من ذا الذي يبخل في تونس ... والملح فيها صار عذبا قراح )
( وأصبحت أرجاؤها جنة ... مبيضة الأبراج خضر البطاح )
( شعارهم رقة الشكوى ومذهبهم ... أن الضلالة فيهم في الغرام هدى )
( عيونهم في ظلام الليل ساهرة ... عبرى وأنفاسهم تحت الدجى صعدا )
( تجرعوا كأس خمر الحب مترعة ... ظلوا سكارى وظنوا غيهم رشدا )
( وعاسل القد معسول مقبله ... كالغصن لما انثنى والبدر حين بدا )
( رقيم عارضه كهف لعاشقه ... يأوي إليه فكم في حبه شهدا )
( نادمته وثغور البرق باسمة ... والغيث ينزل منحلا ومنعقدا )
( كأن جلق حيا الله ساكنها ... أهدت إلى الغور من أزهارها مددا )
( فاسترسل الجو منهلا يزيد على ... ثورا ويعقد محلول الندى بردا )
وقال أيضا
( فؤادي إلى بانات جلق مائل ... ودمعي على أنهارها يتحدر )
( يرنحني لوز ابن كلاب مزهرا ... وتهتزني أغصانه وهو مثمر )
( وإني إلى زهر السفرجل شيق ... إذا ما بدا مثل الدراهم ينثر )
( غياض يفيض الماء في عرصاتها ... فتزهو جمالا عند ذاك وتزهر )
( ترى بردى فيها يجول كأنه ... وحصباءه سيف صقيل مجوهر )
( وبي أحور لاح العذار بخده ... يسامح قلبي في هواه ويعذر )
( يحاورني فيه على الصبر صاحبي ... وكيف أطيق الصبر والطرف أحور )
( إذا اشتقت وادي النيربين لمحته ... فأنظر معناه به وهو أنضر )
( حوى الشرف الأعلى من الحسن خده ... على أن ميدان العوارض أخضر )
وما أحسن قوله رحمه الله تعالى
( واد به أهل الحبيب نزول ... حيا معاهدها الحيا والنيل )
( واد يفوح المسك من جنباته ... ويصح فيه للنسيم عليل )
( يشتاقه ويود لثم ترابه ... شوقا ولكن ما إليه سبيل )
( متقلقل الأحشاء مسلوب الكرى ... طلق الدموع فؤاده متبول )
( يصبو إلى الأثلات من وادي الغضى ... ويحن إن خطرت هناك شمول )
( قالوا تبدل قلت يا أهل الهوى ... والناس فيهم عاذر وجهول )
( هل بعد قطع الأربعين مسافة ... للعمر فيها يحسن التبديل )
( ولقد هفا بي في دمشق مهفهف ... يسبي العقول رضابه المعسول )
( يهتز إن مر النسيم بقده ... ويميل بي نحو الصبا فأميل )
( أبدى لنا بردا تبسم ثغره ... وإذا انثنى فقوامه المجدول )
( لزم التسلسل مدمعي وعذاره ... فانظر إلى المهجات كيف تسيل )
( وسقمت من سقم الجفون لأنها ... هي علة وفؤادي المعلول )
( لا تعجبوا إن راعني بذوائب ... فالليل هول والمحب ذليل )
( ما صح لي أن الذؤابة حية ... حتى سعت في الأرض وهي تجول )
وقال ناظر الجيش عون الدين بن العجمي
( يا سائقا بقطع البيداء معتسفا ... بضامر لم يكن في سيره واني )
( إن جزت بالشام شم تلك البروق ولا ... تعدل بلغت المنى عن دير مران )
( وأقصد أعالي قلاليه فإن بها ... ما تشتهي النفس من حور وولدان )
( من كل بيضاء هيفاء القوام إذا ... ماست فوا خجل المران والبان )
( وكل أسمر قد دان الجمال له ... وكمل الحسن فيه فرط إحسان )
( ورب صدغ بدا في خد مرسله ... في فترة فتنت من سحر أجفان )
( فليت ريقته وردي ووجنته ... وردي ومن صدغه آسي وريحاني )
( وعج على دير متى ثم حي به ... الر بان بطرس فالربان رباني )
( فهمت منه إشارات فهمت بها ... وصنت منشورها في طي كتمان )
( واعبر بدير حنينا وانتهز فرص اللذات ... ما بين قسيس ومطران )
( واستجل راحا بها تحيا النفوس إذا ... دارت براح شماميس ورهبان )
( حمراء صفراء بعد المزج كم قذفت ... بشهبها من همومي كل شيطان )
( كم رحت في الليل أسقيها وأشربها ... حتى انقضى ونديمي غير ندمان )
( سألت توماس عمن كان عاصرها ... أجاب رمزا ولم يسمح بتبيان )
( وقال أخبرني شمعون ينقله ... عن ابن مريم عن موسى بن عمران )
( بأنها سفرت بالطور مشرقة ... أنوارها فكنوا عنها بنيران )
( وهي المدام التي كانت معتقة ... من عهد هرمس من قبل ابن كنعان )
( وهي التي عبدتها فارس فكنى ... عنها بشمس الضحى في قومه ماني )
( سكرت منها فلا صحو وجدت بها ... على الندامى وليس الشح من شاني )
( وسوف أمنحها أهلا وأنشده ... ما قيل فيها بترجيع وألحان )
( حتى تميل لها أعطافه طربا ... وينثني الكون من أوصاف نشوان )
وهذه وإن لم تكن في دمشق على الخصوص فلا تخرج عما نحن بصدده والأعمال بالنيات وديباجة هذه القصيدة على نسج طائفة من الصوفية وممن حاك هذه البرود الشيخ الأكبر رحمه الله تعالى وقيل إنه الشيخ شعبان النحوي
رجع
وقال بعضهم
( شوقي يزيد وقلب الصب ما بردا ... وبان يأسي من المعشوق حين غدا )
( أراد الله بالحجاج خيرا ... فثبط عنهم أهل النفاق )
وقال
( وراحل سرت في ركب أودعه ... تبارك الله ما أحلى تلاجينا )
( جئنا إلى بابه لاجين نسأله ... فليتنا عاقنا موت ولا جينا )
( راجين نسأل ميتا لا حراك به ... مثل النصارى إلى الأصنام لاجينا )
وقال
( وصلت منك رقعة أسأمتن ... صيرت صبري الجميل قليلا )
كنهار المصيف حرا وكربا ... وكليل الشتاء بردا وطولا )
وأول مقراض الأعراض قوله
( أضالع تنطوي على كرب ... ومقلة مستهلة الغرب )
( شوقا إلى ساكني دمشق فلا ... عدت رباها مواطر السحب )
( مواطن ما دعا توطنها ... إلا ولبى نداءها لبي ) ثم ذكر من الهجو ما تصم عنه الآذان
وهو القائل في دمشق
( ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وظلك يا مقرى علي ظليل )
( وهل أريني بعدما شطت النوى ... ولي في ذرا روض هناك مقيل ) ومنها
( دمشق بنا شوق إليك مبرح ... وإن لج واش أو ألح عذول )
ومدمعي قنوات والعذول حكى ... ثورا يلوم الفتى في عشقه حسدا )
( على مغنية بالجنك جاوبها ... شبابة كم بها من عاشق سهدا )
( فالبدر جبهتها والردف ربوتها ... وخلها مات في خلخالها كمدا )
ولنذكر نبذة مما خوطبت به من علماء الشام وأدبائه حفظ الله تعالى كمالهم وبلغ آمالهم !
فمن ذلك قول شيخ الإسلام مفتي الأنام سيدي الشيخ عبد الرحمن العمادي الحنفي حفظه الله تعالى وكتبه لي بخطه
( شمس الهدى أطلعها المغرب ... وطار عنقاء بها مغرب )
( فأشرقت في الشام أنوارها ... وليتها في الدهر لا تغرب )
( أعني الإمام العالم المقري ... أحمد من يكتب أو يخطب )
( شهاب علم ثاقب فضله ... ينظم عقدا وهو لا يثقب )
( فرع علوم بالهدى مثمر ... وروض فضل بالندى معشب )
( قد ارتدى ثوب علا وامتطى ... غارب مجد فزها المركب )
( درس غريب كل يوم له ... يملي ولكن حفظه أغرب )
( محاضرات مسكر لفظها ... بكأس سمع راحها تشرب )
( رياض آداب سقاها الحيا ... ففاح مسكا نشرها الأطيب )
( فضائل عمت وطمت فقد ... قصر فيها كل من يطنب )
( قلوبنا قد جذبت نحوه ... والحب من عادته يجذب )
( إن بعدت عن غربه شرقنا ... فالفضل فينا نسب أقرب )
( كم طلبت تشريفه شامنا ... بشرى لها فليهنها المطلب )
( قد سبقت لي معه صحبة ... في حرم يؤمن من يرهب )
( أخوة في الله من زمزم ... رضاعها طاب لها المشرب )
( أنهلني ثم ودادا فلي ... بالشام منه علل أعذب )
( أهديت ذا النظم امتثالا له ... وقد هجرت الشعر مذ أحقب )
( نشط قلبي لطفه فانثنى ... والقلب في أهل الهوى قلب )
( ضاء دجى العلم به للورى ... ما نار في جنح الدجى كوكب ) تحية الفقير الداعي عبد الرحمن العمادي
انتهى وأجبته بما نصه
( ما تبر راح كأسها مذهب ... ما للنهى عن حسنها مذهب )
( تستدفع الأكدار من صفوها ... وتنهل الأفراح أو تنهب )
( تسعى بها هيفاء من ثغرها ... أو شعرها النور أو الغيهب )
( فتانة الأعطاف نفاثة ... سحرا بألباب الورى يلعب )
( في روضة قد كللت بالندى ... والزهر رأس الغصن إذ يعصب )
( برودها بالنور قد نمنمت ... كالوشي من صنعاء بل أعجب )
( والماء يجري تحت جناتها ... والنار من نارنجها تلهب )
( والظل ضاف والنسيم انبرى ... والجو ذاكي العرف مستعذب )
( والطير للعشاق بالعود قد ... غنت فهاجت شوق من يطرب )
( أبهى ولا أبهج في منظر ... من نظم من تقديمه الأصوب )
( مفتي دمشق الشام صدر الورى ... من في العلا تم به المطلب )
( علامة الدهر ولا مرية ... وملجأ الفضل ولا مهرب )
( لله ما امتاز به من حلى ... بغير من الله لا تكسب )
( أبدى بها الرحمن في عبده ... مظاهر المنح التي تحسب )
( جود بلا من وعلم بلا ... دعوى به التحقيق يستجلب )
( وبيت مجد مسند ركنه ... إلى عماد الدين إذ ينسب )
( فبرقه الشامي من شامه ... نال مراما والسوى خلب )
( وما عسى أبدية في مدحه ... أو وصف أبناء له أنجبوا )
( تسابقوا للمجد حتى حووا ... سبقا لما في مثله يرغب )
( أعيذهم بالله من شر ما ... يخشى من الأغيار أو يرهب )
( وأسأل الله لهم عزة ... بادية الأضواء لا تحجب )
ولما حللت دمشق المحروسة وطلبت موضعا للسكنى يكون قريبا من الجامع الأموي الذي يعجز البليغ وصفه وإن ملأ طروسه أرسل إلي أديب الشام فرد الموالي المدرسين ساحب أذيال الفخار المولى أحمد الشاهيني حفظه الله تعالى بمفتاح المدرسة الجقمقية وكتب لي معه ما نصه
( كنف المقري شيخي مقري ... وإليه من الزمان مفري )
( كنف مثل صدره في اتساع ... وعلوم كالدر في ضمن بحر )
( أي بدر قد أطلع الغرب منه ... ملأ الشرق نوره أي بدر )
( أحمد سيدي وشيخي وذخري ... وسميي وفوق ذاك وفخري )
( لو بغير الأقدام يسعى مشوق ... جئته زائرا على وجه شكري )
العبد الحقير المستعين المخلص أحمد بن شاهين انتهى
فأجبته بقولي
( أي نظم في حسنه حار فكري ... وتحلى بدره صدر ذكري )
( طائر الصيت لابن شاهين ينمي ... من بروض الندى له خير وكر )
( أحمد الممتطين ذروة مجد ... لعوان من المعالي وبكر )
( حل مفتاح فضله باب وصل ... من معاني تعريفه دون نكر )
( يا بديع الزمان دم في ازديان ... بالعلا وازدياد تجنيس شكر )
وكتب إلي لما وقف على كتابي فتح المتعال في مدح النعال بما نصه لكاتبه الحقير أحمد بن شاهين الشامي في تقريظ تأليف سيدي ومولاي وقبلتي ومعتقدي شيخ الدنيا والدين وبركة الإسلام والمسلمين حفظ الله تعالى وجوده آمين
( أأحمد فخرا يا ابن شاهين ساميا ... بأحمد ذاك المقري المسدد )
( بمن راح خداما لنعل محمد ... وناهيك في العليا بأرفع سؤدد )
( فإن أنا أخدم نعله فلطالما ... غدا خادما نعل النبي الممجد )
( بتأليفه في وصف نعل تكرمت ... كتابا حوى إجلال كل موحد )
( ويكفيك فخرا يا ابن شاهين أن ترى ... خدوما لخدام لنعل محمد )
( فقلت له طوبى بخدمة أحمد ... فقال كذا طوبى بخدمة أحمد )
( فلا زال يرقى للمعالي مكرما ... وينتعل العيوق في رغم فرقد )
فأجبته
بقولي
( أأحمد وصف بالعوارف يرتدي ... وأشرف مولى للمعارف يهتدي )
( نجومك إذ أنت الخليل توقدت ... فأنى أجاريها بنحو المبرد )
( أتاني نظام منك حير فكرتي ... على أنه أعلى مرامي ومقصدي )
( فأنت ابن شاهين الذي طار صيته ... بجو العلا والضد ضل بفرقد )
( فبرك موصول وشانيك منكر ... وقدرك مرفوع على رغم حسد )
( وعند حديث الفضل أسند عاليا ... بشام فهم يروون مسند أحمد )
( فوجهك عن بشر ويمناك عن عطا ... وفكرك يروي في الهدى عن مسدد )
( فلا زلت ترقى أوج سعد ورفعة ... ودمت بتوفيق وعز مخلد )
ولما خاطبته بقولي
( يصيد ابن شاهين بجو بلاغة ... سوانح في وكر البدائع تفرخ )
( ما كان ديك الجن مدرك نيلها ... إذا صرصر البازي فلا ديك يصرخ )
( ولو جاد فكر البحتري بمثلها ... لكان على الطائي بالأنف يشمخ )
( ولو أن نظم ابن الحسين أتيحها ... لفاز بسبق حكمه ليس ينسخ )
( فلا زال ملحوظا بعين عناية وكتب التهاني عن علاه تؤرخ )
أجابني بما نصه
( أأنفاس عيسى ما بروعي ينفخ ... أم الطرس أضحى بالعبير يضمخ )
( وهذي قواف أم هي الشمس إنني ... أراها على الجوزاء بالأنف تشمخ )
( بلى هي نص من ودادك محكم ... تزول الرواسي وهي لم تك تنسخ )
( أتتني بمدح مخجل فكأنها ... لفرط حيائي قد أتتني توبخ )
( وهل أنا إلا خادم نعل سيدي ... وبيني وبين المدح في الحق برزخ )
( وما هي إلا غرة حزت فخرها ... وإني بها بادي المحاسن أشدخ )
( فلا در دري وانحرفت عن العلا ... إذا كان ودي عن معاليك يفسخ )
( وحبك مهما طال شرقا ومغربا ... بوكر ابن شاهين الوفي يفرخ )
( وإني وإن أرخت مجدا لماجد ... فإني باسم المقري أؤرخ )
( سميي ومولاي الذي راح مدحه ... لرأس الأعادي بالمعاريض يرضخ )
( ودم يا نظير البدر ترقى بأوجه ... ولا زلت في طرفي وقلبي ترسخ )
وكنت يوما أروم الصعود لموضع عال فوقعت وانفكت رجلي وألمت فكتب إلي
( لا ألمت رجلك يا سيدي ... وصانها الله من الشين )
( ما هي إلا قدم للعلا ... لا احتاج ذاك النصل للقين )
( زانت دمشق الشام في حلها ... فلا رأت فيها سوى الزين )
( بانت عن الأهل لتشريفنا ... لا جمعت أينا إلى بين )
( عجبت من راسخة في العلا ... والعلم إذ زاغت من العين )
( إني أعاف المين بين الورى ... ولست والله أخا مين )
( للمقري المجتبى أحمد ... دين الهوى والمدح كالدين )
( وأحمد الله على أنني ... رأيته حاز الفريقين )
( فلا أراه الله في عمره ... بينا يؤديه إلى أين )
( تعويذا لمحب العبد الحقير الداعي أحمد بن شاهين انتهى
وأهديت إليه حفظه الله تعالى سبحة وخاتما وكتبت إليه
( يا نجل شاهين الذي ... أحيا المعالي والمعالم )
( يا من به ريشت من المجد ... الخوافي والقوادم )
( يا من دمشق بطيب ما ... يبديه عاطرة النواسم )
( فالنهر منها ذو صفا ... والزهر مفتر المباسم )
( والغصن يثني عطفه ... طربا لتغريد الحمائم )
( يا أحمد الأوصاف يا ... من حاز أنواع المكارم )
( أنت الذي طوقتني ... مننا لها تعنو الأعاظم )
( فمتى أؤدي شكرها ... والعجز لي وصف ملازم )
( والعذر باد إن بعثت ... إليك من جنس الرتائم )
( بنتيجة الذكر التي ... جاءت بتصحيف ملائم )
( وبحائم صاد إلى ... فيض الندى من كف حاتم )
( فامدد على جهد المقل ... رواق صفح ذا دعائم )
( واقبل عقيلة فكر من ... هو في بحار العي عائم )
( لا زلت سابق غاية ... بين الأعارب والأعاجم )
فأجابني بما صورته
( يا سيدا شعري له ... ما إن يقاوي أو يقاوم )
( كلا ولا قدري له ... يوما يساوي أو يساوم )
( يا من رأيت عطاردا ... منه بدا في شخص عالم )
( يا من بنفحة خلقه ... وبنظمه السامي الملائم )
( أضحى يريني معجزين ... من النواسم والمباسم )
( ما زلت أبصر منهما ... حسن النعامى والنعائم )
( بهما زماني حاسدا ... أضحى وبالتنغيص حاسم )
( قلمي وقلبي بين هام ... في الثناء له وهائم )
( حبي لأحمد سيدي ... شيخ الورى فرض ملازم )
( المقري المعتلي ... شرف المعالي والمعالم )
( ما لي إليه وسيلة ... إلا هوى في القلب دائم )
( قد جاء ما شرفتني ... بخصوصه دون الأعاظم )
( من خاتم كفى به ... ورثت سليمان العزائم )
( وجعلتني لا أحسب العيوق ... لي في فص خاتم ) وبسبحة شبهتها بالشهب في أسلاك ناظم )
( فلتحسد الجوزاء ما ... أحرزت من تلك المكارم هي آلة للذكر لكن ... ليس ذكرا في الحيازم )
( فهواك في قلبي وما ... في القلب جل عن الرتائم )
( ما ذي رتائم سيدي ... بل إنها عندي تمائم )
( لو أنها من جنس ما ... يطوى غدت فوق العمائم )
( لكنها قد زينت ... كفي وأزرت بالخواتم )
( يا من يريش إذا رمى ... نسر السماء بلحظ حازم )
( إن ابن شاهين حوى ... منك الخوافي والقوادم )
( هذي نوافل يا إمام ... الدهر ليست باللوازم )
( العذر عنها مخجل ... عبدا لنعلك جد خادم )
( بل أنت فوق العذر قد ... أصبحت للشعرى تنادم )
( لا زال دهرك سيدي ... يلقاك منه ثغر باسم )
( يهدي إليك من المراحم ... والمكارم والغنائم )
( ما لا يساوم مثله ... ذو الحظ في أسنى المواسم )
العبد الحقير الداعي لأستاذه مولاي الأجل بالتمكين أحمد بن شاهين حامدا مصليا مسلما انتهى وقال مستجيزا
( الشيخ يشرب ماء ... ونحن نشرب قهوة )
فقلت
( لأنه ذو قصور ... فغط بالعذر سهوة )
( ولما أزمعت على العود إلى مصر أوائل شوال سنة 1037 خاطبني بقوله - حفظه الله ! -
( أبدا إليك تشوقي وحنيني ... وإلى جنابك ما علمت سكوني )
( ولديك قلبي لا يزال رهينة ... غلقت وتعلم ذمة المرهون )
( وعليك قد حبست شوارد مدحتي ... لما رأيتك فوق كل قرين )
( قلبي كقلبك في المحبة والهوى ... إذ كان في الأشواق دينك ديني )
( وليته بهواك أرفع رتبة ... وغدوت تعزل عنه كل خدين )
( وأطاع أمرك في الوداد فلو أشا ... منه - وحاشا - سلوة يعصيني )
( ما كنت أحسب قبل طبعك ... أن أرى يوما عطارد ناطقا بفنون )
( حتى رأيتك فاستبنت بأنه ... يروي أحاديث العلا بشجون )
( ويفيد سمعي معجزا بهر النهى ... ويري عيوني آية التكوين )
( يا من غدا يحيي القلوب بلفظه ... ويردد الأنفاس عن جبرين )
( أحييت بالوحي المبين قلوبنا ... وحي - لعمر الله - جد مبين )
( هذي دمشق لعمر خلقك روضة ... قد جاد طبعك دوحها بمعين )
( قد زارها غيث الندى فبهارها ... أضحى يلوح بحلة النسرين )
( لو لم تكن بدرا لما أحرزت ما ... قد خص في الأنوار بالتلوين )
( حققت ما قد قيل حين حللتها ... إن المكان مشرف بمكين )
( هي غادة حليتها فتزينت ... ما كان أحوجها إلى التزيين )
( مولاي أحمد يا سليل بني العلا ... يا فوق مدحي فيك أو تحسيني )
( أغنى وجودك وهو عين الدين عن ... علامة الدنيا لسان الدين )
( انظره تستغني به عن غيره ... وإلى العيان ارغب عن المظنون )
( تلقى علوم الناس في أوراقهم ... وعلومه في صدرها المشحون )
( فبعلمه اعبر كل بحر زاخر ... وبفهمه اسبر غامض المخزون )
( وبحلمه ارغب عن تحلم أحنف ... وبعزمه اصحب بأس ليث عرين )
( لما رأيتك فاستقمت لقبلتي ... أدعو وأشكر واردات شؤوني )
( ألفيت قطرك يمنتي فأفادني ... فضل اليمين على اليسار يقيني )
( فسقى الحيا للمقري أخي العلا ... بلدا بأقصى الغرب جد هتون )
( بلدا تبينت الهلال بأفقه ... ورأيت منه قرة لعيوني )
( لولا هلال الغرب نور شرقنا ... بتنا بليل الحدس والتخمين )
( يا راحلا رحل الفؤاد ... بعزمه رفقا بقلب للوفاء ضمين )
( أستودع الله العظيم وإنني ... مستودع منه أجل أمين )
( إني أودع يوم بينك مهجتي ... وشبيبتي وتصبري وسكوني )
( وأعود من توديع وجهك عودة ... خلطت يقيني في الهوى بظنون )
( حتى كأني قد فقدت تمائما ... تقضي علي بحالة المجنون )
( وتود نفسي أنها لو حرمت ... أبدا سكوني للهوى وركوني )
( أوشكت أقتل بين معترك الهوى ... نفسي ومعترك الهوى بيميني )
( ولقد وددت بأنني متحمل ... تلك الخطا بمحاجري وجفوني )
( كيف السبيل إلى الحياة ومهجتي ... في قبضة الأشواق كالمسجون )
( ما أنت إلا البدر لاح بأفقنا ... شهرا وكان ضياؤه يهديني )
( وإليكها يا شيخ دهري غادة ... غنيت عن التحسين والتزيين )
( جاءتك تعرض في الوداد كمالها ... وإذا لحظت جمالها يكفيني )
( هي بنت لحظتك التي تؤوي النهى ... لا بنت ليلتي التي تؤويني )
( ما الفخر في دعوى البديهة عندها ... الفخر قولك إنها ترضيني )
( حسبي أبا العباس منك إصاخة ... تقضي بموت عداي أو تحييني )
( يا لهف نفسي كيف أبلغ مدحة ... أضمرتها في سري المكنون )
( فلسان حبي بالغ أقصى المدى ... ولسان مدحي في القصور يليني )
( ما الشعر يستوفي حقوقك لي ولو ... أهديت من نظمي عقود سنيني )
( حلقت أصطاد النجوم وإنها ... تزهي بعقد في علاك ثمين )
( فرأيت في العيوق طبعك سيدي ... نسرا أسف لعجزه شاهيني )
( قد خف شعري من قصور طبيعتي ... ولربما قد كان جد ركين )
( يكفيك أحمد يا ابن شاهين بأن
أحرزت خصل السبق دون الدون )
( وإذا عجزت عن الفرائض جاهدا ... فادأب عساك تفوز بالمسنون )
( هو قبلتي فلأغتدي متمسكا منه ... بحبل في النجاة متين )
( واسلم فديتك زائرا ومشرفا ... أفدي مواطىء نعله بجبيني )
( وكذلك عمري في هواك مقسم ... بين الدعاء الجد والتأمين ) وقال حفظه الله تعالى في ذلك
( حنانيك إن الدمع بالود معرب ... وإني في شوق وأنت مغرب )
( ورحماك بي إني قتيل صبابة ... بمن هو أوفى في الفؤاد وأنجب )
( ووعدك لي بالعود إني معلل ... به مهجة قد أوشكت تتصوب )
( وهبتك قلبي ما حييت ولم أقل ... ( ولكن من الأشياء ما ليس يوهب )
( فلو كنت شيخا واحدا هد صده ... فكيف بشيخ لم يكن مثله أب )
( وإنا بحمد الله لما خصصتنا ... بزورة ذي ود دعاه التحبب )
( فرشنا له منا الخدود مواطئا ... وعدنا به شوقا نجيء ونذهب )
( وقلنا دمشق أنت فيها محكم ... وأشرافها ودوا وجدوا ورحبوا )
( وأنت لها روح ومولى ومفخر ... وقد زنت شرقا مثل ما ازدان مغرب )
( وفخرا عظيما يا ابن شاهين إنه ... غدا وكرنا نسر السما فيه يرغب )
( فنحن ونحن الناس خدام نعله ... فلا غرو أن يقلي الغضنفر أكلب )
( وما نقموا منه سوى أنه امرؤ ... ليأكل فيما قدروه ويشرب )
( هو الشيخ شيخ الدهر أحمد من غدت ... دمشق ومن فيها بعلياه تخطب )
( هو المقري العالم العلم الذي ... إليه تناهي الفضل والمجد ينسب )
( وما هو إلا الشمس أزمع رحلة ... وإنا لفي ليل إذا هي تغرب )
( أو الغيث قد وافى فأمرعت النهى ... به وانثنى والصدر بالود معشب )
( أو الطائر العنقاء جاء مشرقا ... فأغرب والعنقاء في الطير مغرب )
( وإنك للخل الوفي وإنه ... هو الواحد المطلوب إن عز مطلب )
( وإنك بالتحقيق في كل حالة ... لأسنى وأندى ثم أوفى وأغرب )
( رعى الله وجها رحت ترغب نحوه ... وأي أخي جد له أنت ترغب )
( وحيا الحيا أرضا وطئت ترابها ... فأصبح مسكا وهي بالمجد تخصب )
( ولا فارقت يوما علاك كلاءة ... من الله أنى كنت والله أغلب )
( مدى الدهر ما حنت جوانح واله ... مشوق فأمسى للحقيقة يطرب )
ولما قرأ علي - أدام الله تعالى عزته وحرس حوزته ! - عقيدتي المسماة
بإضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة سألني أن أجيزه فيها وفي غيرها فكتبت إليه بما نصه
( أحمد من أطار في جو العلا ... صيت ابن شاهين الذي زان الحلى )
( وراش منه للمعالي أجنحه ... نال بها فضلا غدا مستمنحه )
( واسكن البيان من أوكار ... أفهامه بقنة الأفكار )
( فاصطاد كل شارد بمخلب ... أبحاثه ومن يعارض يغلب )
( والصقر لا يقاس بالبغاث ... والحق ممتاز عن الأضغاث )
( نشكر من بلغه مناه ... على نواله الذي سناه )
( وننتحي نهج صلاة باديا ... لخير من جاء الأنام هاديا )
( مبينا دلائل التوحيد ... وموضحا طرائق التسديد )
( محمد خير البرايا المنتقى ... أجل من خاف الإله واتقى )
( صلى عليه الله مع أصحابه ... وآله الراوين عن سحابه )
( ما اعترف العبد الفقير ذو العدم ... للرب باستغنائه وبالقدم )
( وبعد فالعلوم والعوارف ... من أمها يأوي لظل وارف )
( وروضة أزهارها تضوعت ... لأنها أفنانها تنوعت )
( وليس يحتاط بها نبيل ... إذ ذاك أمر ما له سبيل )
( فليصرف القول إلى ما ينفعه ... دنيا وفي أوج الأجور يرفعه )
( وإن في علم أصول الدين ... هدى وخيرا جل عن تبيين )
( لأنه أصل يعم النفع ... به وكل ما سواه فرع )
( وكيف يعبد الإله من لا ... يعرفه وعن رشاد ضلا )
( فهو الذي لا تقبل الأعمال ... إلا به وتنجح الآمال )
( وإنني كنت نظمت فيه ... لطالب عقيدة تكفيه )
( سميتها إضاءة الدجنة ... وقد رجوت أن تكون جنة )
( وبعد أن أقرأتها بمصر ... ومكة بعضا من أهل العصر )
( درستها لما دخلت الشاما ... بجامع في الحسن لا يسامى )
( وكان في المجلس جمع وافر ... من جلة بدورهم سوافر )
( منهم فريد الدهر ذو المعالي ... فخر دمشق الطيب الفعال )
( أحمد من راح لعلم واغتدى ... وشام أنوارا لفهم فاهتدى )
( العالم الصدر الأجل المولى ... من وصفه الممدوح يعيي القولا )
( وهو ابن شاهين وما أدراكا ... من بذ جنس العرب والأتراكا )
( ورام من مثلي بحسن الظن ... إجازة فيما رواه عني )
( فحرت في أمرين قد تناقضا ... بالنفي والإثبات إذ تعارضا )
( ترك الإجابة لوصفي بالخطل ... وبالخطا والجيد مني ذو عطل )
( وكم فرائض بعجز تسقط ... فكيف غيرها وهذا أحوط )
( أو فعلها بحسب الإمكان ... رعيا لود محكم الأركان )
( منه وما له من الحقوق ... ولا يجازي البر بالعقوق )
( بعد ما مر من الترداد ... أسعفته بمقتضى الوداد )
( وسرت في طرق من التساهل ... معترفا بالجهل لا التجاهل )
( مع أنه أهل لأن يجيزا ... لا أن يجاز إذ حوى التبريزا )
( ومن رأى عيبي بعين للرضا ... لم يقف نهج من غدا معترضا )
( فليرو عني كل ما أسمعته ... إياه بالشرط وما جمعته )
( مع القصور راجيا للأجر ... من الفنون نظمها والنثر )
( كهذه القصيدة السديده ... والنعل ذات المدح العديده )
( كذاك ما ألفت في عمامه ... من خص بالإسراء والإمامه )
( والفقه والحديث والنحو وفي ... أسرار وفق وهو بالقصد وفي )
( وغيرها مما به الوهاب من ... على فقير عاجز في غير فن )
( وما أخذت في بلاد المغرب ... عن كل فذ في العلوم مغرب )
( ولي أسانيد إذا سردتها ... طالت وفي كتبي قد أوردتها )
( وقد أخذت الجامع الصحيحا ... وغيره عمن حوي الترجيحا )
( عمي سعيد عن سفين وهو عن ... القلقشندي عن الواعي السنن )
( العسقلاني في الشهاب ابن حجر ... بما له من الروايات اشتهر )
( وقد أجزته بكل مالي ... يصح من ذاك بلا احتمال )
( على شروط قرروها كافيه ... ليست على أفكاره بخافيه )
( وقال هذا المقري الخطا ... والعي عم لفظه والخطا )
( عام ثلاثين وألف بعدها ... سبع أتمت في السنين عدها )
( وكان ذا في رمضان السامي ... بحضرة السعد دمشق الشام )
( والله نرجو أن يتيح الختما ... بالخير كي نعطى القبول حتما )
( بجاه خير العالمين أحمدا ... صلى عليه الله ما طال المدى )
( وآله وصحبه ومن زكا ... فنال من حسن الختام مدركا )
وتذكرت بهذه الإجازة نظيرتها التي سألني فيها مولانا عين الأعيان مفتي الأنام في مذهب النعمان مولانا الشيخ عبد الرحمن العمادي مفتي الشام - حفظه اللع تعالى ! - لأولاده الثلاثة وكتب لي أصغرهم سنا استدعاء لذلك
( أحمد من شيد بالإسناد ... بيت العلوم السامي العماد )
( وعم من خصص بالروايه ... بنورها النافي دجى الغوايه )
( وزان صدر النبها كل زمن ... بجوهر الإجازة الغالي الثمن )
( نحمده سبحانه أن عرفا ... من الحديث ما به قد شرفا )
( ونسأل المزيد من صلاته ... لمن أتيح القصد من صلاته )
( ملجؤنا المعصوم أعلى سند ... لنا برغم جاحد مفند )
( كهف الضعيف والقوي المرتجى ... باب الهدايات وليس مرتجا )
( من جاءنا بالجامع الصحيح من ... كلامه الهادي إلى نهج أمن )
( من فضله ما شك فيه مسلم ... من حبه بكل خير معلم )
( نبينا المرسل ذو الخلق الحسن ... والمعجز المفحم أرباب اللسن )
( محمد المرفوع قدره على ... سائر خلق الله جل وعلا )
( صلى عليه ربنا وسلما أزكى صلاة ننتحيها معلما مع آله وصحبه ومن روى ... آثاره عن صحة وما غوى )
( وبعد فالعلم عظيم القدر ... وليس من يدري كمن لا يدري )
( ولم تزل همة أهل المجد ... منوطة بنيل علم مجدي )
( ومنه علم السنة ... الشريفة لأنه ظلاله وريفه )
( فمن درى الأخبار والشمائل ... لم يك عن صوب الهدى بمائل )
( وكم سميدع لأجله رفض ... أوطانه وثوب ترحال نفض )
( وكيف لا وهو أجل ما طلب ... موفق يروم حسن المنقلب )
( لأنه وسيلة السعادة ... والعز في الإبداء والإعادة )
( وإنني لما انتحيت المشرقا ... ميمما بدر اهتداء مشرقا )
( ألقيت في مصر عصا التسيار ... بعد بلوغي أشرف الديار )
( وبعد ذا جئت دمشق الشام ... مسكن من يزدان باحتشام )
( فشاهدت عيناي فيها ما ملا ... قلبي سرورا إذ بلغت المأملا )
( مدينة فياضة الأنهار ... فضفاضة الأثواب بالأزهار )
( أرجاؤها زاكية العبير ... ومدحها يجل عن تعبير )
( وجل أهليها بحبي دانوا ... مع أن مثلي منهم يزدان )
( فلاحظوا بالأعين الكليلة ... عبدا غدا تقصيره دليله )
( وقابلوا عيبي بما اقتضاه ... فضل لهم رب الورى ارتضاه )
( خصوصا المولى الكبير المعتبر ... قرة عين من رآه واختبر )
( مفتي الورى في مذهب النعمان ... بها الوجيه عابد الرحمن )
( ابن عماد الدين من تعيي القلم ... أوصافه اللاتي كنور في علم )
( حاوي طراف المجد والتلاد ... نال المنى في النفس والأولاد )
( وكنت في مكة قد أبصرت ... منه علا عن مدحه قصرت )
( جلالة ومحتدا وعلما ... ورفعة وسوددا وحلما )
( مع التواضع الذي قد زانه ... حسن اعتقاد مثقل ميزانه )
( فحث من في الشام من أخيار ... لم يسلكوا مناهج الأغيار )
( أن يأخذوا بعض الفنون عني ... بما اقتضاه منه حسن الظن )
( مع أنني والله لست أهلا ... لذاك والتصدير ليس سهلا )
( وكان من جملتهم أبناؤه ... عماد دين قد علا بناؤه )
( وصنوه الشهاب من توقدا ... فهما وإبراهيم سباق المدى )
( وهو الذي قد ابتغى الإجازة ... لهم بوعد طالبا إنجازه )
( وكتب القصيدة الطنانة ... في ذاك لي مهتصرا أفنانه )
( وإنهم كحلقة قد أفرغت ... دامت لهم آلاء فيض سوغت )
( فلم أجد بدا من الإجابة ... مع كون جهلي سادلا حجاجه )
( فقد أجزتهم بما رويته ... طرا وما ارتجلت أو رويته )
( وكل ما صنفت في الفنون ... مؤمل التحقيق للظنون )
( وما أخذت عن شيوخ المغرب ... وغيرهم من كل حبر مغرب )
( ولي أسانيد يطول شرحها ... شيد على تقوى الإله صرحها )
( ولو سردت كل مروياتي ... هنا لطال القول في الأبيات )
( وكل طول غالبا مملول ... وحد من يعنى به مفلول )
( فلنقتصر إذن على القليل ... تبركا بالمطلب الجليل )
( وقد أخذت جامع البخاري ... عن عمي الحائز للفخار )
( المقرى سعيد الإمام عن ... محمد يدعى خروفا حين عن )
( التونسي الطيب الأنفاس ... نزيل حضرة الملوك فاس )
( عن الكمال القادري المرتضى ... عن الحجازي عن الحبر الرضا )
( نجل أبي المجد عن الحجاري ... عن الزبيدي بنقل جاري )
( عن مسند الإسلام عبد الأول ... عن الشهير الداودي المعتلي )
( عن السرخسي عن الفربري ... عن البخاري الإمام الحبر )
( وفضله أظهر من أن يذكر ... وعلمه المعروف غير المنكر )
( ومسلم به إلى الكمال ... عن علم الدين أخي الجلال )
( منسوب بلقين عن التنوخي ... عن ابن حمزة عن الشيوخ )
( كابن المقير عن ابن ناصر ... عن ابن مندة وهو القاصر )
( عن جوزقي قد روى عن مكي ... عن مسلم نافي دياجي الشك )
( فليخبروا عني بذا والباقي ... من ستة حائزة السباق )
( كذا موطأ الإمام مالك ... إمامنا منير كل حالك )
( ومسند الفذ الرضا ابن حنبل ... والدارمي ذي الثناء الأجمل )
( والطبراني وما أرويه ... من المعاجيم بما تحويه )
( وكلها تشمله الإجازة ... بشرطها عند الذي أجاده )
( فلتقبلوه فهي من جهد المقل ... إذ لست بالمطلوب مني أستقل )
( ومن أسانيدي عن القصار ... مفتي الأنام بهجة الأعصار )
( عن شيخه خروف الراقي الدرج ... عن الشريف الطحطحائي فرج )
( قال سمعت المصطفى في النوم ... صلى عليه الله كل يوم )
( يقول من أصبح يعني آمنا ... في سربه الحديث فاعرف كامنا )
( ولنمسك العنان في هذا الأرب ... مصليا على الذي زان العرب )
( وآله وصحبه الأعلام ... ومن تلا من أنجم الإسلام )
( وخط هذا المقري العاصي ... أجير يوم الأخذ بالنواصي )
( سنة سبع وثلاثين تلت ... ألفا لهجرة بياسين علت )
( عليه أزكى صلوات تستتم ... ترجو بها الزلفى وحسن المختتم )
ونص الاستدعاء المشار إليه هو
( فازت دمشق الشام بالمقري ... الألمعي اللوذعي العبقري )
( علامة العصر بلا مفتري ... وواحد الدهر بلا ممتري )
( كم سمعت أخبار أوصافه ... فقصر المخبر عن منظر )
( جامع علم بث إملاءه ... بالشام ملء الجامع الأكبر )
( يقري فتقري السمع أنفاسه ... أنفس ما يقرى وما قد قري )
( مولاي يا من در ألفاظه ... صحاحها تزري على الجوهري )
( إجازة نرفل من فضلها ... في ثوب عز وردا مفخر )
( مسبلة الذيل على أكبر ... وأوسط الإخوة والأصغر )
( أطل لنا إنشاءها بل أطب ... وانظم لنا من درها وانثر )
( لا زلت في نفع الورى دائبا ... تجود جود العارض الممطر )
العبد الداعي إبراهيم العمادي انتهى
ومن الإجازات التي قلتها بدمشق الشام ما كتبته للأديب الحسيب سيدي يحيى المحاسني حفظه الله تعالى
( أحمد من زين بالمحاسن ... دمشق ذات الماء غير الآسن )
( وأطلع النجوم من أعيان ... بأفقها السامي مدى الأحيان )
( فكل أيامهم مواسم ... من الصفا ثغورها بواسم )
( وذكرهم قد شاع بين الأحيا ... إذ قطرهم به الكمال يحيا )
( وبشرهم حديثه لا ينكر ... ومسند الجامع عنهم يذكر )
( وقد حكت جوارح الذي ارتحل ... إليهم صحيح ما له انتخل )
( فسمعه عن جابر والعين عن ... قرة تروي واللسان عن حسن )
( فحل من أتاحهم آلاءه ... حتى أبان نورهم لألاءه )
( نحمده سبحانه أن اسدى ... من الأمان ما أنال القصدا )
( وننتحي صوب صلاة باهره ... إلى الرسول ذي السجايا الطاهره )
( أجل من خاف الإله واتقى ... محمد الهادي الرسول المنتقى )
( صلى عليه الله طول الأبد ... مع آله وصحبه والمقتدي )
( وبعد فالعلم أساس الخير ... وكيف لا وهو مزيح الضير )
( وهو موصل إلى منهاج ... هدى ورشد ما له من هاجي )
( وما بغير العلم يبدو العلم ... وليس من يدري كمن لا يعلم )
( خصوصا الحديث عن خير البشر ... فإن فضله على الكل انتشر )
( ولم يزل يعنى به كل زمن ... من الرواة كل صدر مؤتمن )
( وإنني عند دخول الشام ... لقيت من بها من الأعلام )
( وشاهدت عيناي من إنصافهم ... ما حقق المحكي عن أوصافهم )
( وإن من جملتهم أوج الذكا ... والنير المزري سناه بذكا )
( ابن المحاسن الذي قد طابقا ... منه مسمى الاسم إذ تسابقا )
( اللوذعي الألمعي يحيى ... لا زال رسم المجد منه يحيا )
( وهو الذي أغراه حسن الظن ... على انتمائه لأخذ عني )
( وكان قارئ الحديث النبوي ... لدي في الجامع أعني الأموي )
( بمحضر الجمع الغزير الوافر ... ممن وجوه فضلهم سوافر )
( وبعد ذاك استمطر الإجازة ... من نوء وعدي واقتضى انتجازه )
( فلم أجد بدا من الإجابة ... مع أنني لست بذي النجابة )
( وإن أكن أجبت أمرا يمتثل ... منه ففي ذلك تصديق المثل )
( فيمن درى شيئا وغابت أشيا ... عنه ومن أهدى بصنعا وشيا )
( فليرو عني كل ما يصح لي ... بشرطه الذي يزين كالحلي )
( وقد أخذت جامع البخاري ... عن عمي الإمام ذي الفخار )
( سعيد الذي نأى عن دنس ... عن شيخه الحبر الشهير التنسي )
( أعنى أبا عبد الإله وهو عن ... والده محمد راوي السنن )
( عن ابن مرزوق محمد الرضا ... عن جده الخطيب عن بدر أضا )
( الفارقي عن إمام يدعى ... بابن عساكر الجميل المسعى )
( بما له من الروايات التي ... على علو قدره قد دلت )
( وليرو عني ما انتمى للنووي ... بذا إلى السابق ذي النهج السوي )
( أعني ابن مرزوق الخطيب الراوي ... عن شيخه يحيى الرضي المغراوي )
( وهو روى عن صاحب التمكين ... النووي الشيخ محيي الدين )
( وخط هذا أحمد البادي الوجل ... المقري المالكي الذي ارتجل )
( في عام ألف وثلاثين خلت ... من هجرة الهادي وسبعة تلت )
( ألبسه الله البرود الصافية ... من منه وعفوه والعافية )
( بجاه سيد البرايا طرا ... ملجأ من إلى الكروب اضطرا )
( عليه أسنى صلوات تسدي ... حسن الختام ببلوغ القصد )
وسأل مني بعض ساكني دمشق المحروسة أن أقرظ له على شرحه
لرسالة العارف بالله تعالى سيدي الشيخ أرسلان فكتبت ما صورته
( أحمد من خصص بالأسرار ... قدما من الصوفية الأبرار )
( أتاحهم عوارف المعارف ... والحكم السابغة المطارف )
( فهم بهم تستمطر الأنواء ... وتظهر الأنوار والأضواء )
( ومن أجلهم سناء وسنى ... من ذاد عن عين المعالي الوسنا )
( شيخ الشيوخ العارف الكبير ... الشيخ أرسلان الشهير )
( فكم إشارات له أبانا ... بها علوما من حلاها ازدانا )
( وكم عبارات تلا آياتها ... تعيا الفحول عن مدى غاياتها )
( ومن رأى رسالة التوحيد ... له انتحى مناهج التسديد )
( فهي تنادي من أبي أن يسلكا ... يا معرضا شرك خفي كلكا )
( ومن أضل القصد في مهامه ... هدته للخروج عن أوهامه )
( وكم بها من باب معنى مغلق ... عمن يقيد الوجود المطلق )
( فما بغير الفتح يدرى الباطن ... ووارد الفيض له مواطن )
( وقد رأيت في دمشق الشام ... شرحا لها أنبأ عن إلهام )
( للكلشني ذي الوفا بالوعد ... شمس العلا محمد بن سعد )
( لا زال في أوج التجلي صاعدا ... وعون ربنا له مساعدا )
( ومذ أجلت ناظري في حسنه ... ألفيته مستبدعا في فنه )
( ودل ما أبداه من معاني ... على شهود بالهدى معاني )
( لأنه أجاد في تقرير ... ما اعتاص بالإتقان والتحرير )
( وأبرز الأبكار من خدور ... أفكاره حالية الصدور )
( فالله يجزيه الجزاء الأوفى ... في يوم تبدي الأنبياء الخوفا )
( وخط هذا المقري من وجل ... مرتجيا من ربه عز و جل )
( كشف كروب عقد صبر حلت ... منه وغفران ذنوب جلت )
( بجاه طه الهاشمي أحمدا ... عليه أزكى صلوات سرمدا )
( عاطرة النشر بلا اكتتام ... تأرجت بالمسك في الختام )
وخاطبني السري الحسيب الماجد فخر المدرسين الأعيان مولانا الشمس محمد بن الكبير الشهير مولانا يوسف بن كريم الدين الدمشقي حفظه الله تعالى بقوله
( شمس المحاسن شرقي أو غربي ... سعدت منازلنا بشمس المغرب )
( شمس لنا منها شموس فضائل ... وسنا هدى قد راح غير محجب )
( المقري العالم الندب الذي ... لسوى اسمه درج الحجى لم يكتب )
( بدر ولم تبد البدور بمشرق ... إلا بدت من قبل ذاك بمغرب )
( لسوى اكتساب سناه
( لم تغرب ذكا ... فلو انها شعرت به لم تغرب )
( علامة ملأ البلاد بفضله ... وأفاده لمشرق ومغرب )
( عمري هو البحر المحيط فضائلا ... إن قيس بالعذب الذي لم يعذب )
( مولى له سند قوي في العلا ... فعن الجدود روى العلا وعن الأب )
( نسب له المجد المؤثل في الورى ... والمجد لم يكسب إذا لم يوهب )
( هو في جبين الفضل أضحى غرة ... يجلى بها للجهل ظلمة غيهب )
( آمالنا قطعت ببشر جبينه ... أن لا ترى للدهر وجه مقطب )
( بدر به زهيت دمشق وأهلها ... أحبب ببدر حيث حل محبب )
( طود الفضائل باكرت أرجاءه ... ديم الحجى فغدا كروض مخصب )
( بحر الهدى والعلم إلا أنه ... صفو من الأكدار عذب المشرب )
( هو قطب دائرة الفضائل في الورى ... فيكاد يخبرنا بكل مغيب )
( في الفضل ما جاولت يوما مثله ... كلا ولا قست البدور بكوكب )
( أنى يجارى في الفضائل من له انقاد ... الزمان بأدهم وبأشهب )
( سنن لمدح الغير تسقط عندنا ... فله العلا تقضي بفرض أوجب )
( ما روضة حلى أزاهرها الحيا ... فافتر فيها كل ثغر أشنب )
( ومشت بها خود الصبا فتعطرت ... أذيالها من كل عرف طيب )
( للنور فيها جدول أخذت به ... شهب المجرة حيرة المتعجب )
( باتت تناشدني بها ذكر الهوى ... ورق الأراك بكل صوت مطرب )
( تشكو إلي بمثل ما أشكو لها ... شكوى المعذب في الهوى لمعذب )
( فعلمت ما قد حل من وجد بها ... وجهلن وهو الفرق ما قد حل بي )
( لم تلق فيها من عليل يشتكي ... إلا النسيم وذا الهوى إن تطلب )
( بأغض حسنا من ربى آداب من ... حيا رياض حجاه ألطف صيب )
( طبع أرق من النسيم ومنطق ... مستعذب وكذاك كل مهذب )
( لو جاد صوب حجاه قفرا مجدبا ... لنعمت منه بكل روض معشب )
( مولاي عذرا فالزمان يعوقني ... عن مطلبي والآن مدحك مطلبي )
( عفوا إذا أخرت مدحك سيدي ... فعوائق الأيام عذر المذنب )
( وكذاك يفعل بالأديب زمانه ... فلذا يطول على الزمان تعتبي )
( لم ألق يوما من يديه مهربا ... إلا ثناك وحبذا من مهرب )
( لولاك ما جال القريض بخاطري ... فالدهر يوجب للقريض تجنبي )
( لولاك لم ينهض جواد قريحتي ... في كل واد للضلالة متعب )
( فاسمع ولست بآمر نظما غدا ... في عقد مدحك لؤلؤا لم يثقب )
( كالراح يلعب بالعقول للطفه ... لكن بغير مسامع لم يشرب )
( من كل قافية غدت من حسنها ... مثلا لغيرك في العلا لم يضرب )
( خود تقلد من ثناك قلائدا ... بكر لغيرك في الورى لم تخطب )
( غنيت بمدحك زينة ولربما ... يغني الجمال عن الوشاح المذهب )
( هي بعض أوصاف لذاتك قد غدت ... كالبحر عذبا ماؤه لم ينضب )
( جاءتك تسألك القبول وحسبها ... فخرا قبولك وهو جل المطلب )
( وتروم منك إجازة فاقت بما ... ترويه بالسند القوي عن النبي )
( حسبي الإجازة منك جائزة ولم ... أك قبل غير الفضل بالمتطلب )
( لا بدع والإطناب إيجازا غدا ... في مدحه إن لم أطل أو أسهب )
( هيهات لا تحصى مآثر فضله ... بالمدح إن أطنب وإن لم أطنب )
خدمة الداعي محمد بن يوسف الكريمي انتهى
فأجزته بما نصه
( أحمد من أطلع شمس الدين ... في أفق الرواية المبين )
( وخص فضلا منه بالإسناد ... أمة طه مذهب العناد )
( فلم يكن عصر من الأعصار ... إلا وفيه أهل الاستبصار )
( ينفون عن حوزة دين الله ما ... يروم من عليه رشد أبهما )
( وأنتحي سبل صلاة كاملة ... على الذي له العطايا الشامله )
( محمد المرسل بالشرع الحسن ... ذي المعجز المفحم أرباب اللسن )
( مع حزبه من صحبه وعترته ... ومن تلا مؤملا لأثرته )
( وبعد فالعلم أجل ما اعتمد موفق من فيض مولاه استمد )
( خصوصا الحديث عن خير الورى ... صلى عليه الله ما زند ورى )
( ولم يزل ذوو النهى يسعون في ... تحصيله إذ فضله غير خفي )
( وإن مولانا الشهير السامي ... الماجد المولى نبيه الشام )
( سالك نهج السنة القويم ... محمد بن يوسف الكريمي )
( لا زال في عز وفي أمان ... )
( مبلغا من قصده الأماني ... )
( وجه لي لما حللت الشاما ... وبرق حسن الظن مني شاما )
( قصيدة بليغة مستعذبه ... غريبة في فنها مهذبه )
( يسأل من مثلي بها الإجازه ... بشرطها عند الذي أجازه )
( مستمسكا بعروة الصواب ... ولم أجد بدا من الجواب )
( فليرو عني ما سمعت كله ... وما جمعت في الفنون جمله )
( على شروط قررت في الفن ... مرتجيا حصول كل من )
( وصنوه الأكمل قد أبحته ... ذاك على الوجه الذي شرحته )
( وإن أكن فيما ابتغى مقصرا ... فذو الرضى ليس لعيب مبصرا )
( ولي أسانيد أبى وقتي عن ... تفصيلها لما من الرحلة عن )
( والعذر باد والكريم يقبل ... والصفح نهج يقتفيه الأنبل )
( وخط هذا المقري الجاني ... أمنه الله من الأشجان )
( في عام ألف وثلاثين قفا ... سبعا لهجرة النبي المصطفى )
( عليه أزكى صلوات تغتنم ... يزكو بها مبتدأ ومختتم )
وكتب إلي الفاضل الخطيب الفهامة الأديب وارث الفضل عن الأعلام ذوي اللسن سيدي الشمس محمد المحاسني سبط شيخ الإسلام مولانا البوريني حسن حفظه الله تعالى
( يا سيدي وملاذي ... وعالم الثقلين )
( ومن غدا بمكان ... علا على النيرين )
( أجزت بالدرس قوما ... فاقوا به الفرقدين )
( فزين العبد أيضا ... من مثل ذاك بزين )
( وإن لم يكن في ختام ... فذاك قرة عيني )
فأجزته بما نصه
( أحمد من أطلع من محاسن ... دمشق ما أربى على المحاسن )
( وزانها بالجلة الأعيان ... الرافلين في حلى التبيان )
( الراغبين في الحديث النبوي ... السالكين في الهدى النهج السوي )
( وبعد فالعلم أجل زينه ... وسبله في الرشد مستبينه )
( وإن علم السنة الشريفه ... ظلاله ضافية وريفه )
( لذاك كان باعتناء أجدرا ... من كل ما يمليه من تصدرا )
( وإن ذا الفضل الأديب البارع ... سابق ميدان الذكا المسارع )
( الماجد المسدد السامي الحسب ... محمد من للمحاسن انتسب )
( ابن الشهير الصدر تاج الدين ... لا زال في عز وفي تمكين )
( وجده لأمه الشيخ الحسن ... وذاك بورينيهم معطى اللسن )
( يسألني إجازة بكل ما ... أرويه عنوانا بحالي معلما )
( وها أنا أجبته غير بطل ... مستغفرا من خطإ ومن خطل )
( فليرو عني كل ما يصح ... على شروط غيثها يسح )
( وهي عن الشروط لن تريما ... وليس يخفي علمه الكريما )
( وكل ما ألفت أو جمعت ... نظما ونثرا مثل ما أسمعت )
( ولي أسانيد يضيق الوقت ... عن سردها وبعضها قد سقت )
( في غير هذا فليحقق ذلك ... مقتفيا لأوضح المسالك )
( وقد أخذت جامع البخاري ... ومسلم عن حائز الفخار )
( عمي سعيد وهو عمن يدعى ... بالتنسي قد أفاد الجمعا )
( عن حافظ الغرب الرضى أبيه ... عن ابن مرزوق عن النبيه )
( الحافظ المبجل العراقي ... وقد سما في سلم المراقي )
( وما له من الروايات علم ... من كتبه التي حوت خير الكلم )