كتاب : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني
أهلها الجراح والعيث الصراح وساءهم المساء بعزة الله والصباح ولولا عائق المطر لكان الإجهاز والاستفتاح والله بعدها الفتاح وصرفت الوجوه إلى تخريب العمران وتسليط النيران وعقر الأشجار وتعفية الآثار وأتى منها العفاء على المصر الشهير في الأمصار وتركت زروعها المائحة عبرة لأولي الأبصار ورحلنا عنها وقد ألبسها الدخان حدادا ونكس من طغاتها أجيادا فاعتادت الذل اعتي ادا وألفت الهون قيادا وكادت أن تستباح عنوة لولا أن الله تعالى جعل لها ميعادا وأتى القتل من أبطالها ومشاهير رجالها ممن يبارز ويناطح ويماسي بالناس ويصابح على عدد جم أخبرت سيماهم المشهورة بأسمائهم ونبهت علاماتها على نبهائهم وظهر إقدام المسلمين في المعتركات وبروزهم بالحدود المشتركات وتنفيلهم الأسلاب وقودهم الخيل المسومة قود الغلاب وكان القفول وقد شمل الأمن والقبول وحصل الجهاد المقبول وراع الكفر العز الذي يهول والإقدام الذي شهدت به الرماح والخيول وخاض المسلمون من زرع الطرق التي ركبوها والمنازل التي استباحوها وانتهبوها بحورا بعد منها الساحل وفلاحة مدركة تتعدد فيها المراحل فصيروها صريما وسلطوا عليها النار غريما وحلوا بظاهر حصن أندوجر وقد أصبح مألف أذمار غير أوشاب ووكر طيور نشاب فلما بلونا مراسه صعبا وأبراجه ملئت حرسا شديدا وشهبا ضننا بالنفوس أن تفيض دون افتتاحه فسلطنا العفاء
مساحة وأغرينا الغارات باستيعاب ما بأحوازه واكتساحه وسلطنا النار على حزونه وبطاجه وألصقنا بالرغام ذوائب أدواحه وانصرفنا بفضل الله والمناهل دامية والأجور نامية وقد وطئنا المواطىء التي كانت على الملوك قبلنا بسلا ولم نترك بها حرثا يرفد ولا نسلا ولا ضرعا يرسل رسلا والحمد لله الذي يتمم النعيم بحمده ونسأله صلة النصر فما النصر إلا من عنده عرفناكم بهذه الكيفيات الكريمة الصفات والصنائع الروائع التي بعد العهد بمثلها في هذه الأوقات علما بأنها لديكم من أحسن الهديات الوديات ولما نعلمه لديكم من حسن النيات وكرم الطويات فإنكم سلالة الجهاد المقبول والرفد المبذول ووعد النصر المفعول ونرجو الله عز و جل أن ينتقل خيالكم للمعاهد الجهادية إلى المعاينة في نصر الملة المحمدية وأن يجمع الله بكم كلمة الإسلام على عبدة الأصنام ويتم النعمة على الأنام وودنا لكم ما علمتم يزيد علىممر الأيام والله يجعله في ذاته لكم متصل الدوام مبلغا إلى دار السلام وهو سبحانه يصل سعدكم ويحرس مجدكم ويضاعف الآلاء عندكم والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته انتهى
ومن هذا المنحنى ما كتب به لسان الدين رحمه الله تعالى عن سلطانه ونصه المقام الذي أحاديث سعادته لا تمل على الإعادة والتكرار وسبيل مجادته الشهيرة أوضح من شمس الظهيرة عند الاستظهار وأخبار صنائع الله لملكه ونظم فرائد الآمال في سلكه تخلدها اقلام الأقدار بمداد الليل في قرطاس النهار وترسمها بتذهيب الإسفار في صفحات الأقمار وتجعلها هجيري حملاء الأسفار وحداة
محل أخينا الذي نلذ عادة هنائه مع الإعادة ونتلقى أنباء علائه بالإذاعة والإشادة ونطرز بأعلام ثنائه صحائف المجادة ونشكر الله أن وهب لنا من أخوته المضافة إلى المحبة والودادة ما يرجح في ميزان الاعتبار أخوة الولادة وعرفنا بيمن ولايته عوارف السعادة السلطان الكذا ابن السلطان الكذا بن السطان الكذا أبقاه الله تعالى في أعلام الملك السعيد بيت القصيد ووسطى القلادة ومجلي الكمال الذي تبارى بميدان باسه وجوده جنسا الإبادة والإفادة ولا زالت آماله القاصية تنثال طوع الإرادة ويمن نقيبته يجمع من أشتات الفتوح والعز الممنوح بين الحسنى وزيادة معظم سلطانه العالي المثني على مجده المرفوع إسناده في عوالي المعالي المسرور بما يسنيه الله له من الصنع المتوالي والفتح المقدم والتالي أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد بن فرج بن نصر أيد الله أمره وأسعد عصره سلام كريم يتأرج في الآفاق شذا طيبه وتسمع في ذروة الود بلاغة خطيبه ويتضمن نوره سواد المداد عند مراسلة الوداد فيكاد يذهب بعبوسه المجهول وتقطيبه ورحمة الله وبركاته اما بعد حمد الله فاتح الأبواب بمقاليد الأسباب مهما استصعبت وميسر الأمور بمحكم المقدور إذا أجهدت الحيل وأتعبت مخمد نيران الفتن ما التهبت وجامع كلمة الإسلام وقد تصدعت وتشعبت ومسكن رجفان الأرض بعدما اضطربت ومحييها بعهاد الرحمة مهما اهتزت وربت اللطيف الخبير الذي قدرت حكمته الأمور ورتبت منهي كل نفس إلى ما خطت الأقلام
بما كسبت والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله هازم الأحزاب لما تألفت وتألبت وجالب الحتف إليها عندما أجلبت رسول الملحمة إذا الليوث وثبت ونبي الرحمة التي هيأت النجاة وسببت وأبلغت النفوس المطمئنة من السعادة ما طلبت ومداوي القلوب المريضة وقد انتكبت وانقلبت بلطائفه التي راضت وهذبت وقادت إلى الجنة العليا واستجلبت وأدت عن الله وأدبت الذي بجاهه نستكشف الغماء إذا طنبت ونستوكف النعماء إذا أخلفت البروق وكذبت ونتحاب في طاعته ابتغاء الوسيلة إلى شفاعته فنقول وجبت حسبما ثبت والرضى عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه التي استحقت المزية المرضية واستوجبت لما انتمت إلى كماله وانتسبت وببذل نفوسها في الله ومرضاته تقربت وإلى نصرته في حياته انتدبت والمناصل قد رويت من دماء الأعداء واختضبت وخلفته في أمته بعد مماته بالهمم التي عن صدق اليقين أعربت فتداعت لمجاهدة الكفار وانتدبت وأبعدت المغار وأدربت حتىبلغ ملك أمته أقاصي البلاد التي نبت فكسرت الصلب التي نصبت ونفلت التيجان التي عصبت ما همت السحب وانسحبت وطلعت الشمس وغربت والدعاء لمثابتكم العليا بالنصر العزيز كلما جهزت الكتائب وتكتبت والفتح المبين كلما ركنت عقائل القواعد إذا خطبت والصنائع التي مهما حدقت فيها العيون تعجبت أو جالت في لطائفها الأفكار استطابت مذاق الشكر واستعذبت حتى تنجز لكم مواعيد النصر فقد اقتربت فإنا كتبنا إليكم كتب الله لكم أغيا ما سألت الألسن السائلة
حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وجنود الله بفضل الله تعالى ونعمته قد غلبت وفتحت وسلبت وأسود جهاده قد أردت الأعداء بعدما كلبت ومراعي الآمال قد أخصبت والحمد لله حمدا يجلو وجوه الرضى بعدما احتجبت ويفتح أبواب المزيد فكلما استقبلها الأمل رحبت والشكر لله شكرا يقيد شوارد النعم مما أبقت وما هربت وإلى هذا وصل الله لمقامكم أسباب الظهور والاعتلاء وعرفكم عوارف الآلاء على الولاء فإننا لما ورد علينا كتابكم البر الوفادة الجم الإفادة والجامع بين الحسنى والزيادة جالي غرة الفتح الأعظم من ثنايا السعادة وواهب المنن المتاحة وواصف النعم المعادة فوقفنا من رقة المنشور على تحف سنية وأماني هنية وقطاف للنصر جنية ضمنت سكون البلاد وقرارها وأن الله قد أذهب أذهب الفتن وأوردها وأخمد نارها ونضح عن وجه الإسلام عارها وجمع الأهواء على من هويته السعادة بعد أن أجهد اختيارها فأصبح الشتيت مجتمعا وجنح الجناح مرتفعا والجبل المخالف خاشعا متصدعا وأصحب في القياد من كان متمنعا فاستوثقت الطاعة وتبجحت السنة والجماعة وارتفعت الشناعة وتمسكت البلاد المكرهة بأذيال وليها لما راته وعادت الأجياد العاطلة إلى حليها بعدما أنكرته أجلنا جياد الأقلام في ملعب الهناء وميدانه لأول أوقات إمكانه على بعد مكانه وأجهدنا عبارة الكلام في إجلال هذا الصنع وتعظيم شأنه وأغرينا الثناء بشيم مجدكم في شرحه لنا وبيانه رأينا أن لا نكل ذلك إلى اليراع ونفرده فيه بالاجتماع وما يتعاطاه من منة الذراع وأن نشد بردء من المشافهة أزره ونعضد بمعين من اللسان امره فعينا لذلك من يفسر منه المجمل ويمهد المقصد المعمل
والسر ويقيم شتى الأدلة على الوداد المستقر ووجهنا في غرض الرسالة به إليكم واخترنا لشرحه بين يديكم خطيب الوفود وبركة المشايخ في هذا المقام المحمود الشيخ الجليل الشهير الكبير الصالح الفاضل أبا البركات ابن الحاج وصل الله حفظه وأجزل من الحمد واللطف حظه وهو البطل الذي لا يعلم الإجالة في الميدان ولا يبصر بوظائف ذلك الشأن ومرادنا منه أن يطيل ويطيب ويجيل في وصف محاسنكم اللسان الرطيب ويقرر ما عندنا لمقامكم من التشيع الذي قام على الحب المتوارث أساسه واطرد حكمه وانتج قياسه وليجعل تلو مقصد الهناء بمجلسكم الباهر السناء الصارف إلى الجهاد في سبيل الله والفناء وجه التهمم والاعتناء على مر الآناء ما تجدد لدينا من الأنباء في جهاد الأعداء وإن كان رسولكم أعزه الله تعالى قد شارك في السرى والسير ويمن الطير وأغنى في الحكاية عن الغير فلا سرف في الخير وهو أننا لما انصرفنا من منازلة قرطبة نظرا للحشود التي نفدت معدات أزوادها وشابت بهشيم الغلة المستغلة مفارق بلادها وإشفاقا لفساد أقواتها بفوات أوقاتها رحلنا عنها وقد انطوينا من إعفاء أكثر تلك الزروع المائلة الفروع الهائلة الروع على هم ممض وأسف للمضاجع مقض إذ كان عاذل المطر يكف ألسنة النار عن المبالغة في التهابها وحلاق إهابها ونفض أغوارها ونهب شوارها وإذاعة أسرارها وهي البحور المتلاطمة إذا حطمتها
السوافي الماخرة تود العيون أن تتحدى حدودها القاصية فلا تطيق والركائب الراكضة ان تشرف على غايتها فيفضل عن مراحلها الطريق قد جللها الربيع ارزاقا تغص بها الخزائن والأطباق وحبوبا مفضلة لا يرزؤها الإنفاد والإنفاق ولو اعتصبت على انتسافها الآفاق فخففنا في سبيل الله لتعقيب غزو تلك الأقطار المخالفة بمحق الصائفة وإحانة تلك الطائفة بكلوم المجاعة الجائفة خفوفا لم نقنع فيه بالاستنابة حرصا علىاستئصال الصبابة وأعفينا الرحل من اتصال الكد وقابلنا قبولهم على استصحابنا فيها بالرد وأطللنا على قرطبة بمحلاتنا ننسف جبال النعم نسفا ونعم الأرض زلزالا وخسفا ونستقري مواقع البذر إحراقا ونخترق أجوابها المختلفة بحب الحصيد اختراقا ونسلط عليها من شرر النار أمثال الجمالات الصفر مدت من الشواظ أعناقا ونوسع القرى الواسعة قتلا واسترقاقا وندير على مستديرها أكواس الحتوف دهاقا وأخذت النيران واديها الأعظم من كلا جانبيه حتى كأن القيون أحمت سبيكته فاستحالت وأذابت صحيفته فسالت وأتت الكفار سماؤهم بالدخان المبين وصارت الشمس من بعد سفورها وعموم نورها منقبة المحيا معصبة الجبين وخضنا أحشاء الفرنتيرة نعم أشتات النعم انتسافا وأقوات أهلها إتلافا وآمال سكانها إخلافا وقد بهتوا لسرعة الرجوع ودهشوا
لوقوع الجوع وتسبيب تخريب الربوع فمن المنكر البعيد أن يتأتى بعد عمرانها المعهود وقد اصطلم الزرع واجتث العود وصار إلى العدم منها الوجود ورأوا من عزائم الإسلام خوارق تشذ عن نطاق العوائد وعجائب تستريب فيها عين المشاهد إذ اشتمل هذا العام المتعرف فيه من الله تعالى الإنعام على غزوات أربع دمرت فيها القواعد الشهيرة تدميرا وعلا فوق مراقيها الأذان عزيزا جهيرا وضويقت كراسي الملك تضييقا كبيرا وأذيقت وبالا مبيرا ورياح الإدالة إن شاء الله تعالى تستأنف هبوبا وبأسا مشبوبا والثقة بالله قد ملأت نفوسا مؤمنة وقلوبا والله سبحانه المسؤول أن يوزع شكر هذه النعم التي أثقلت الأكتاد وأبهضت الطوق المعتاد وأبهجت المسيم والمرتاد فبالشكر يستدر مزيدها ويتوالى تجديدها وقطعنا في بحبوحة تلك العمالة المستبحرة العمارة والفلج المغني وصفها عن الشرح والعبارة مراحل ختمنا بالتعريج على حزب جيان حربها ففللنا ثانية غربها وجددنا كربها واستوعبنا حرقها وخربها ونظمنا البلاد في سلك البلاء وحثثنا في أنجادها وأغوارها ركائب الاستيلاء فلم نترك بها ملقط طير فضلا عن معاف عير ولا أسأرنا لفلها المحروب بلالة خير وقفلنا وقد تركنا بلاد النصارى التي منها لكيادنا المدد والعدة والعدد وفيها الخصام واللدد قد لبست الحداد حريقا وسلكت إلى الخلاء والجلاء طريقا ولم نترك بها مضغة تخالط ريقا ولا نعمة تصون من الفراق فريقا وما كانت تلك النعم لولا أن أعان الله تعالى من عنصري النار والهواء بجنود كونه الواسع ومدركه البعيد الشاسع لتتولى
لتمتاح بالاغتراف غديرها بل لله القدرة جميعا فقدرته لا تتحامى ريعا ولا حمى مريعا منيعا وعدنا والعود في مثلها أحمد وقد بعد في شفاء النفوس الأمد ونسخ بالسرور الكمد ورفعت من عز الإسلام العمد والحمد لله حمد الشاكرين ومنه نلتمس عادة النصر على أعدائه فهو خير الناصرين عرفناكم به ليسر دينكم المتين ومجدكم الذي راق منه الجبين والله يصل سعدكم ويحرس مجدكم ويبلغكم أملكم من فضله وقصدكم بمنه وطوله والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى
رجع إلى ما كنا بسبيله من أخبار قرطبة الجليلة الوصف
وذكر جامعها البديع الإتقان والرصف فنقولقد شاع وذاع على ألسنة الجم الغفير من الناس في هذه البلاد المشرقية وغيرها أن في جامع قرطبة ثلاثمائة ونحو ستين طاقا على عدد أيام السنة وأن الشمس تدخل كل يوم من طاق إلى أن يتم الدور ثم تعود وهذا شيء لم أقف عليه في كلام المؤرخين من أهل المغرب والأندلس ولو كان كما شاع لذكروه وتعرضوا له لأنه من أعجب ما يسطر مع أنهم ذكروا ما هو دونه فالله أعلم بحقيقة الحال في ذلك وستأتي في الباب السابع رسالة الشقندي الطويلة وفيها من محاسن قرطبة وسائر بلاد الأندلس الطم والرم وقد ذكرنا في الباب الأول جملة من محاسن قرطبة فأغنى ذلك عن إعادتها هنا على أن رسالة الشقندي تكرر فيها بعض ما ذكرناه لأنا لم نرد أن نخل منها بحرف فأتينا بها بلفظها وإن تكرر بعض ما فيها مع بعض ما أسلفناه والعذر واضح للمنصف المفضي والله نسأل سلوك السبيل الذي يرضي بمنه وكرمه
المنصورفي مذاهبها وتنافرت في مفاخرها فإليه مفزعها وهو المقنع في فصل القضية بينها لاستيلائه على المفاخر بأسرها وعلمه بسرها وجهرها وقد ذهب البهار والنرجس في وصف محاسنهما والفخر بمشابههما كل مذهب وما منها إلا ذو فضيلة غير أن فضلي عليهما أوضح من الشمس التي تعلونا وأعذب من الغمام الذي يسقينا وإن كانا قد تشبها في شعرهما ببعض ما في العالم من جواهر الأرض ومصابيح السماء وهي من الموات الصامت فإني أتشبه بأحسن ما زين الله به الإنسان وهو الحيوان الناطق مع أني أعطر منهما عطرا وأحمد خبرا وأكرم إمتاعا شاهدا وغائبا ويانعا وذابلا وكلاهما لا يمتع إلا ريثما يينع ثم إذا ذبل تستكره النفوس شمه وتستدفع الأكف ضمه وأنا أمتع يابسا ورطبا وتدخرني الملوك في خزائنها وسائر الأطباء وأصرف في منافع الأعضاء فإن فخرا باستقلالهما على ساق هي أقوى من ساقي فلا غرو أن الوشي ضعيف والهوى لطيف والمسك خفيف وليس المجد يدرك بالصراع وقد أودعت أيد الله مولانا قوافي الشعر من وصف مشابهي ما أودعاه وحضرت بنفسي لئلا أغيب عن حضرتهما فقديما فضل الحاضر وإن كان مفضولا ولذا قالوا ألذ الطعام ما حضر لوقته وأشعر الناس من أنت في شعره فلمولانا أتم الحكم في أن يفصل بحكمه العدل وأقول شهدت لنوار البنفسج ألسن ... من لونه الأحوى ومن إيناعه
لمشابه الشعر الأعم أعاره القمر ... المنير الطلق نور شعاعه )
( ولربما جمع النجيع من الطلى ... من صارم المنصور يوم قراعه )
( فحكاه غير مخالف في لونه ... لا في روائحه وطيب طباعه )
( ملك جهلنا قبله سبل العلاة ... حتى وضحن بنهجه وشراعه )
( في سيفه قصر لطول نجاده ... وتمام ساعده وفسحة باعه )
( ذو همة كالبرق في إسراعه ... وعزيمة كالحين في إيقاعه )
( تلقى الزمان له مطيعا سامعا ... وترى الملوك الشم من أتباعه ) وما أحسن قول بعض الأندلسيين يصف حديقة
( وحديقة مخضرة أثوابها ... في قضبها للطير كل مغرد )
( نادمت فيها فتية صفحاتهم ... مثل البدور تنير بين الأسعد )
( والجدول الفضي يضحك ماؤه ... فكأنه في العين صفح مهند )
( وإذا تجعد بالنسيم حسبته ... لما تراه مشبها للمبرد )
( وتناثرت نقط على حافاته ... كالعقد بين مجمع ومبدد )
( وتدحرجت للناظرين كأنها ... در نثير في بساط زبرجد )
( وكان بحمام الشطارة بإشبيلية صورة بديعة الشكل فوصفها بعض أهل الأندلس بقوله
( ودمية مرمر تزهى بجيد ... تناهى في التورد والبياض )
( لها ولد ولم تعرف حليلا ... ولا ألمت بأوجاع المخاض )
( ونعلم أنها حجر ولكن ... تتيمنا بألحاظ مراض )
وكان بسر قسطة في القصر المسمى بدار السرور مجلس الذهب أحد قصور المقتدر بن هود وفيه يقول ذو الوزارتين بن غندشلب يهجو وزيرا كان ينبز بتحقون
( ضج من تحقون بيت الذهب ... ودعا مما به واحربي )
( رب طهرني فقد دنسني ... عار تحقون الموفى الذنب )
وكتب بعض كبراء الأندلس إلى إخوانه كتابي هذا من وادي الزيتون ونحن فيه مختلفون ببقعة اكتست من السندس الأخضر وتحلت بأنواع الزهر وتخايلت بأنهار تتخللها وأشجار تظللها تحجب أدواحها الشمس لالتفافها وتأذن للنسيم فيميل من أعطافها وما شئم من محاسن تروق وتعجب واطيار تتجاوب بألحان تلهي وتطرب في مثلها يعود الزمان كله صبا وتجري الحياة على الأمل والمنى وأنا فيها أبقاكم الله سبحانه بحال من طاب غذاؤه وحسن استمراؤه وصحا من جنون العقار واستراح من مضض الخمار وزايلته وساوسه وخلصت من الخباط هواجسه ثم ذكر كلاما من هذا النمط في وصف الخمار والدعاء إلى العقار
فراجعه أبو الفضل بن حسداي برقعة قال في صدرها إلى سيدنا الذي ألزمنا بامتنانه الشكر وكبيرنا الذي علمنا ببيانة السحر وعميدنا الذي عقدنا بحرمه وانحل ورمانا بدائه وانسل أبقاك الله تعالى لتوبة نصوح تمرها ويمين غموس تبرها ورد أبقاك الله تعالى كتابك الذي أنفذته من معرسك بوادي الزيتون ووقفنا على ما لقنت في أوصافه من حجة المفتون وإعجابك بالتفاف شجره ودوحاته واهتزازك بلطيف بواكره وروحاته وغرورك به وهو حو تلاعه مورودة هضابه وأجراعه وكل المشارب ما خلاه ذميم وماؤه الدهر خصر والمياه حميم وتلك عادة تلونك وسجية تخضرمك وشاكلة ملالك وسأمك وأشعر الناس عندك من أنت في شعره وأحب البلاد إليك ما أنت في عقره فأين منك بساتين جلق وجنانه ورياضة المونقة وخلجانه وقبابه البيض في حدائقه الخضر وجوه العطر في جنابه النضر وما تضمه حيطانه وتمجه أنجاده وغيطانه من أمهات الراح التي طلقتها بزعمك ومواد الشمول التي
طلقتها برغمك وهيهات فوالله ما فارقتك تلك الأجارع والمجاني ولا شاقتك تلك المنازل والمغاني إلا تذكرا لما لدينا من طيب المعاهد وحنينا إلى ما عندنا من جميل المشاهد وأين من المشتاق عنقاء مغرب ثم ذكر كلاما في جواب ما مر من الخمار لم يتعلق لي به غرض وما أحلى ما كتب به أبو إسحاق بن خفاجة من رسالة في ذكر منتزه ولما أكب الغمام إكبابا لم أجد منه إغبابا واتصل المطر اتصالا لم ألف منه انفصالا أذن الله تعالى للصحو أن يطلع صفحته وينشر صحيفته فقشعت الريح السحاب كما طوى السجل الكتاب وطفقت السماء تخلع جلبابها والشمس تحط نقابها وتطلعت الدنيا تبتهج كأنها عروس تجلت وقد تحلت ذهبت في لمة من الإخوان نستبق إلى الراحة ركضا ونطوي للتفرج أرضا فلا ندفع إلى غدير نمير قد استدارت منه في حباب فترددنا بتلك الأباطح نتهادى تهادي أغصانها ونتضاحك تضاحك أقحوانها وللنسيم أثناء ذلك المنظر الوسيم تراسل مشي على بساظ وشي فإذا مر بغدير نسجه درعا وأحكمه صنعا وإن عثر بجدول شطب منه نصلا وأخلصه صقلا فلا ترى إلا بطاحا مملوءة سلاحا كأنما انهزمت هنالك كتائب فألقت بما لبسته من درع مصقول وسيف مسلول
ومن فصل منها فاحتللنا قبة خضراء ممدودة أشطان الأغصان سندسية رواق الأوراق وما زلنا نلتحف منها ببرد ظل ظليل ونشتمل عليه برداء
نسيم عليل ونجيل الطرف في نهر صقيل صافي لجين الماء كأنه مجرة السماء مؤتلف جوهر الحباب كأنه من ثغور الأحباب وقد حضرنا مسمع يجري مع النفوس لطافة فهو يعلم غرضها وهواها ويغني لها مقترحها ومناها فصيح لسان النقر يشفي من الوقر كأنه كاتب حاسب تمشق يمناه وتعقد يسراه
( يحرك حين يشدو سكنات ... وتنبعث الطبائع للسكون )
وكانت بين أبي إسحاق وبعض إخوانه مقاطعة فاتفق أن ولي ذلك الصديق حصنا فخاطبه أبو إسحاق برقعة منها أطال الله بقاء سيدي النبيهة أوصافه النزيهة عن الاستثناء المرفوعة إمارته الكريمة بالابتداء ما انحذفت ياء يرمي للجزم واعتلت والو يغزو لموضع الضم كتبت عن ود قديم هو الحال لم يلحقها انتقال وعهد كريم هو الفعل لم يدخله الاعتلال والله ويجعل هاتيك من الأحوال الثابتة اللازمة ويعصم هذا بعد من الحروف الجازمة وأنا أستنهض طولك إلى تجديد عهدك بمطالعة ألف الوصل وتعدية فعل الفصل وعدولك عن باب ألف القطع إلى باب الوصل والجمع حتى يسقط لدرج الكلام بيننا هاء السكت ويدخل الانتقال حال الصمت فلا تتخيل أعزك الله أن رسم إخائك عندي ذو حسا قد درس عفاء ولا أن صدري دار مية أمسى من ودك خلاء وإنما أنا فعل إذا ثني ظهر من ضمير وده ما بطن وبدا منه ما كمن وهنيئا أعزك الله أن فعل وزارتك حاضر لا يلحق رفعه تغيير وأن فعل سيفك ماض ما به للعوامل تأثير وأنت بمجدك جماع أبواب الظرف تأخذ نفسك العلية بمطالعة باب الصرف
ودرس حروف العطف وتدخل لام التبرئة على ما حدث من عتبك وتوجب بعد النفي ما سلف من قربك وتدع ألف الألفة أن تكون بعد من حروف اللين وترفع بالإضافة بيننا وجود التنوين وتسوم ساكن الود أن يتحرك ومعتل الإخاء أن يصح وكتابي هذا حرف صلة فلا تحذفه حتى تعود الحال الأولى صفة وتصير هذه النكرة معرفة فأنت أعزك الله مصدر فعل السرور والنبل ومنك اشتقاق اسم السؤدد والفضل وإنك وإن تأخر العصر بك كالفاعل وقع مؤخرا وعدوك وإن تكبر كالكميت لم يقع إلا مصغرا وللأيام علل تبسط وتقبض وعوامل ترفع وتخفض فلا دخل عروضك قبض ولا عاقب رفعك خفض ولا زلت مرتبطا بالفضل شرطك وجزاؤك جاريا على الرفع سروك الكريم وسناؤك حتى يخفض الفعل وتبنى على الكسر قبل إن شاء الله
وكتب رحمه الله تعالى يستدعي عود غناء انتظم من إخوانك - أعزك الله تعالى ! - عقد شرب يتساقون في ودك ويتعاطون ريحانة شكرك وحمدك وما منهم إلا شره المسامع إلى رنة حمامة ناد لا حمامة بطن واد والطول لك في صلتها بجماد ناطق قد استعار من بنان لسانا وصار لضمير صاحبه ترجمانا وهو على الإساءة والإحسان لا ينفك من إيقاع به من غير إيجاع له فإن هفا عركت أذنه وأدب وإن تأتى واستوى بعج بطنه وضرب لا زلت منتظم الجذل ملتئم الأمل انتهى
قصيدة لابن خفاجة
ومن نظمه رحمه الله تعالى يتفجع ويتوجعحذف
( شراب الأماني لو علمت سراب ... وعتبي الليالي لو عرفت عتاب )
( وهل مهجة الإنسان إلا طريدة ... يحوم عليها للحمام عقاب )
( يخب بها في كل يوم وليلة ... مطايا إلى دار البلى وركاب )
( وكيف يغيض الدمع أو يبرد الحشا ... وقد باد أقران وفات شباب )
( أقلب طرفي لا أرى غير ليلة ... وقد حط عن وجه الصباح نقاب )
( كأني وقد طار الصباح حمامة ... يمد جناحيه علي غراب )
( دعا بهم داعي الردى فكأنما ... تبارت بهم خيل هناك عراب )
( فهام وسلم الدهر حرب كأنما ... جثا بهم طعن لهم وضراب )
( هجود ولا غير التراب حشية ... لجنب ولا غير القبور قباب )
( ولست بناس صاحبا من ربيعة ... إذا نسيت رسم الوفاء صحاب )
( ومما شجاني أن قضى حتف أنفه ... وما اندق رمح دونه وكعاب )
( وأنا تجارينا ثلاثين حجة ... ففات سباقا والحمام قصاب )
( كأن لم نبت في منزل القصف ليلة ... نجيب بها داعي الصبا ونجاب )
( إذا قام منا قائم هز عطفه ... شباب أرقناه بها وشراب )
( ولما تراءت لمشيب بريقة ... وأقشع من ظل الشباب سحاب )
( نهضنا بأعباء الليالي جزالة ... وأرست بنا في النائبات هضاب )
( فيا ظاعنا قد حط من ساحة البلى ... بمنزل بين ليس عنه مآب )
( كفى حزنا أن لم يزرني على النوى ... رسول ولم ينفذ إليك كتاب )
( وأني إذا يممت قبرك زائرا ... وقفت ودوني للتراب حجاب )
( ولو أن حيا كان حاور ميتا ... لطال كلام بيننا وخطاب )
( وأعرب عما عنده من جلية ... فأقشع عن شمس هناك ضباب )
عود إلى عمران قرطبة
وقد أبعدنا عما كنا بصدده من ذكر قرطبة أعادها الله للإسلام فنقول قال في بعض من أرخ الأندلسانتهت مساجد قرطبة أيام عبدالرحمن الداخل إلى أربعمائة وتسعين مسجدا ثم زادت بعد ذلك كثيرا كما يأتي ذكره شرفاتها أربعة آلاف وثلاثمائة وكانت عدة الدور في القصر الكبير أربعمائة دار ونيفا وثلاثين وكانت عدة دور الرعايا والسواد بها الواجب على أهلها المبيت في السور مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار حاشا دور الوزراء وأكابر الناس والبياض
ورأيت في بعض الكتب أن هذا العدد كان أيام لمتونة والموحدين قال وكانت ديار أهل الدولة إذ ذاك ستة آلاف دار وثلاثمائة دار انتهى
وعدد أرباضها ثمانية وعشرون وقيل أحد وعشرون ومبلغ المساجد بها ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبعة وثلاثون مسجدا وعدد الحمامات المبرزة للناس سبعمائة حمام وقيل ثلاثمائة حمام وقال ابن حيان إن عدة المساجد عند تناهيها في مدة ابن أبي عامر ألف وستمائة مسجد والحمامات تسعمائة حمام وفي بعض التواريخ القديمة كان بقرطبة في الزمن السالف ثلاثة آلاف مسجد وثمانمائة وسبعة وسبعون مسجدا منها بشقندة ثمانية عشر مسجدا وتسعمائة حمام وأحد عشر حماما ومائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار للرعية خصوصا وربما نصف العدد أو أكثر لأرباب الدولة وخاصتها هكذا نقله
في المغرب وهو أعلم بما يأتي ويذر رحمه الله تعالى ! وقال بعض المؤرخين - بعد ذكره نحو ما تقدم - ووسط الأرباض قبة قرطبة التي تحيط بالسور دونها وأما اليتيمة التي كانت في المجلس البديع فإنها كانت من تحف قصر اليونانيين بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية انتهى
ونحوه لابن الفرضي وغير واحد لكن خالفهم صاحب المسالك والممالك فذكر أن عدد المساجد بقرطبة أربعمائة مسجد وأحد وسبعون مسجدا وهو بعيد وقال قبله إن دور قرطبة في كمالها ثلاثون ألف ذراع وتفسيرها باللسان القوطي القلوب المختلفة وهي بالقوطية بالظاء المشالة وقيل إن معنى قرطبة أجر فاسكنها قال وبقرطبة أقاليم كثيرة وكور جليلة وكانت جبايتها في أيام الحكم بن هشام مائة ألف دينار وعشرة آلاف دينار وعشرين دينارا وسبق ما يخالف هذا ومن القمح أربعة آلاف مدي وستمائة مدي ومن الشعير سبعة آلاف مدي وستمائة مدي وسبعة وأربعين مديا
وقال بعض العلماء أحصيت دور قرطبة التي بها وأرباضها أيام ابن أبي عامر فكان مائتي ألف دار وثلاثة عشر ألف دار وسبعا وسبعين دارا وهذه دور الرعية وأما دور الأكابر والوزراء والكتاب والأجناد وخاصة الملك فستون ألف دار وثلاثمائة دار سوى مصاري الكراء والحمامات والخانات وعدد الحوانيت ثمانون ألف حانوت وأربعمائة وخمسة وخمسون ولما كانت الفتنة على رأس المائة الرابعة غيرت رسوم ذلك العمران ومحيت آثار تلك
القرى والبلدان انتهى ملخصا وسيأتي في رسالة الشقندي ما هو أشمل من هذا قصيدة القرطبي والمتنزهات ولما رقت حال أبي القاسم عامر بن هشام القرطبي بقرطبة وزين له بعض أصحابه الرحلة إلى حضرة ملك الموحدين مراكش قال وذكر المنتزهات القرطبية
( يا هبة باكرت من نحو دارين ... وافت إلي على بعد تحييني )
( سرت على صفحات النهر ناشرة ... جناحها بين خيري ونسرين )
( ردت إلى جسدي روح الحياة وما ... خلت النسيم إذا ما مت يحييني )
( لولا تنسمها من نشر أرضكم ... ما أصبحت من أليم الوجد تبريني )
( مرت على عقدات الرمل حاملة ... من سركم خبرا بالوحي يشفيني )
( عرفت من عرفه ما لست أجهله ... لما تنسم في تلك الميادين )
( نزوت من طرب لما هفا سحرا ... وظل ينشرني طورا ويطويني )
( خلت الشمال شمولا إذ سكرت بها ... سكرا بما لست أرجوه يمنيني )
( أهدت إلي أريجا من شمائلكم ... فقلت قربني من كان يقصيني )
( وخلت من طمع أن اللقاء على ... إثر النسيم وأضحى الشوق يحدوني )
( فظلت ألثم من تعظيم حقكم ... مجر أذيالها والوجد يغريني )
( مسارح كم بها سرحت من كمد ... قلبي وطرفي ولا سلوان يثنيني )
( بين المصلى إلى وادي العقيق وما ... يزال مثل اسمه مذ بان يبكيني )
( إلى الرصافة فالمرج النضير فوادي ... الدير فالعطف من بطحاء عبدون )
( لباب عبد سقته السحب وابلها ... فلم يزل بكؤوس الأنس يسقيني )
( لا باعد الله عيني عن منازهه ... ولا يقرب لها أبواب جيرون )
( حاشا لها من محلات مفارقة ... من شيق دونها في القرب محزون )
( أين المسير ورزق الله أدركه ... من دون جهد وتأميل يعنيني )
( يا من يزين لي الترحال عن بلدي ... كم ذا تحاول نسلا عند عنين )
( وأين يعدل عن أرجاء قرطبة ... من شاء يظفر بالدنيا وبالدين )
( قطر فسيح ونهر ما به كدر ... حفت بشطيه ألفاف البساتين
( يا ليت لي عمر نوح في إقامتها ... وأن مالي فيه كنز قارون ) كلاهما كنت أفنيه على نشوات ... الراح نهبا ووصل الخرد والعين )
( وإنما أسفي أني أهيم بها ... وأن حظي منها حظ مغبون )
( أرى بعيني ما لا تستطيل يدي ... له وقد حازه من قدره دوني )
( وأنكد الناس عيشا من تكون له ... نفس الملوك وحالات المساكين )
( يغض طرف التصابي حين تبهته ... قضبان نعمان في كثبان يبرين )
( قالوا الكفاف مقيم قلت ذاك لمن ... لا يستخف إلى بيت الزراجين )
( ولا يبلبله هب الصبا سحرا ... ولا يلطفه عرف الرياحين )
( ولا يهيم بتفاح الخدود ورمان ... الصدور وترجيع التلاحين )
( لا تجتنى راحة إلا على تعب ... ولا تنال العلا إلا من الهون )
( وصاحب العقل في الدنيا أخو كدر ... وإنما الصفو فيها للمجانين )
( يا آمري أن أحث العيس عن وطني ... لما رأى الرزق فيه ليس يرضيني )
( نصحت لكن لي قلبا ينازعني ... فلو ترحلت عنه حله دوني )
( لألزمن وطني طورا تطاوعني ... قود الأماني وطورا فيه تعصيني )
( مدللا بين عرفاني وأضرب عن سير ... لأرض بها من ليس يدريني )
( هذا يقول غريب ساقه طمع ... وذاك حين أريه البر يجفوني )
( إليك عني آمالي فبعدك يهديني ... وقربك يطغيني ويغويني )
( يا لحظ كل غزال لست أملكه ... يدنو وما لي حال منه تدنيني )
( ويا مدامة دير لا ألم به ... لولا كما كان ما أعطيت يكفيني )
( لأصبرن على ما كان من كدر لمن عطاياه بين الكاف والنون )
وتسمى هذه القصيدة عند أهل الأندلس كنز الأدب وقد أشرنا في الباب الأول إلى كثير مما يتعلق بقرطبة أعادها الله تعالى إلى الإسلام ! فأغنى عن إعادته وإن كان ذكره هنا أنسب لأن ما تقدم إنما هو في ذكرها مع غيرها من بلاد الأندلس وهذا الباب لها بالاستقلال
وأنشد أبو العاصي غالب بن أمية الموروري لما جلس على نهر قرطبة بإزاء الربض ملتفتا إلى القصر بديهة بهدية
( يا قصر كم حويت من نعم ... عادت لقى في عوارض السكك )
( يا قصر كم قد حويت من ملك ... دارت عليه دوائر الفلك )
( اتق بما شئت كل متخذة ... يعود يوما بحال متروك ) وقال القاضي أبو الفضل عياض عند ارتحاله عن قرطبة
( أقول وقد جد ارتحالي وغردت ... حداتي وزمت للفراق ركائبي )
( وقد غمضت من كثرة الدمع مقلتي ... وصارت هواء من فؤادي ترائبي )
( ولم يبق إلا وقفة يستحثها ... وداعي للأحباب لا للحبائب )
( رعى الله جيرانا بقرطبة العلا ... وجاد رباها بالعهاد السواكب )
( وحيا زمانا بينهم قد ألفته ... طليق المحيا مستلان الجوانب )
( أإخواننا بالله فيها تذكروا ... مودة جار أو مودة صاحب )
( غدوت بهم من برهم واحتفائهم ... كأني في أهلي وبين أقاربي )
عود إلى مسجد قرطبة
وأما مسجد قرطبة فشهرته تغني عن كثرة الكلام فيه ولكن نذكر من أوصافه وننشر من أحواله ما لا بد منه فنقول : بعض المؤرخين : ليس في بلاد الإسلام أعظم منه ولا أعجب بناء وأتقن صنعة وكلما اجتمعت منه أربع سواري كان رأسها واحدا ثم صف رخام منقوش بالذهب واللازورد في أعلاه وأسفله انتهى . الذي ابتدأ بناء هذا المسجد العظيم عبد الرحمن بن معاوية المعروف بالداخل ولم يكمل في زمانه وكمله ابنه هشام ثم توالى الخلفاء من بني أمية على الزيادة فيه حتى صار المثل مضروبا به والذي ذكره غير واحد أنه لم يزل كل خليفة يزيد فيه على من قبله إلى أن كمل على يد نحو الثمانية من الخلفاء . بعض المؤرخين : إن عبد الرحمن الداخل لما استقر أمره وعظم بنى القصر بقرطبة وبنى المسجد الجامع وأنفق عليه ثمانين ألف دينار وبنى بقرطبة الرصافة تشبيها برصافة جده هشام بدمشقوقال بعض : إنه أنفق على الجامع ثمانين ألف دينار واشترى موضعه إذ كان كنيسة بمائة ألف دينار فالله تعالى أعلم . 546 وقال بعض المؤرخين : في ترجمة عبد الرحمن الداخل ما صورته : إنه لما تمهد ملكه شرع في تعظيم قرطبة فجدد مغانيها وشيد مبانيها وحصنها بالسور وابتنى قصر الإمارة والمسجد الجامع ووسع فناءه وأصلح مساجد الكور ثم ابتنى مدينة الرصافة منتزها له واتخذ بها قصرا حسنا وجنانا واسعة نقل إليها غرائب الغراس وكرائم الشجر من بلاد الشام وغيرها من الأقطار انتهى . أخته أم الأصبغ ترسل إليه من الشام بالغرائب مثل الرمان العجيب الذي أرسلته إليه من دمشق الشام كما مر وسيأتي كلام ابن سعيد بما هو أتم من هذا . ذكر ابن بشكوال زيادة المنصور بن أبي عامر في جامع قرطبة قال : ومن أحسن ما عاينه الناس في بنيان هذه الزيادة العامرية أعلاج النصارى مصفدين في الحديد من أرض قشتالة وغيرها وهم كانوا يتصرفون في البنيان عوضا من رجالة المسلمين إذلالا للشرك وعزة للإسلام ولما عزم على زيادته هذه جلس لأرباب الدور التي نقل أصحابها عنها بنفسه فكان يؤتى بصاحب المنزل فيقول له : إن هذه الدار التي لك يا هذا أريد أن أبتاعها لجماعة المسلمين من مالهم ومن فيئهم لأزيدها في جامعهم وموضع صلاتهم فشطط واطلب ما شئت فإذا ذكر له أقصى الثمن أمر أن يضاعف له وأن تشترى له بعد ذلك دار عوضا منها حتى أتى بامرأة لها دار بصحن الجامع فيها نخلة فقالت : لا أقبل عوضا إلا دارا بنخلة فقال : تبتاع لها دار بنخلة ولو ذهب
بيت المال فاشتريت لها دار بنخلة وبولغ في الثمن وحكى ذلك ابن حيان أيضا . : إن إنفاق الحكم في زيادة الجامع كان مائة ألف وواحدا وستين ألف دينار ونيفا وكله من الأخماس . صاحب كتاب مجموع المفترق : وكان سقف البلاط من المسجد الجامع من القبلة إلى الجوف قبل الزيادة مائتين وخمسا وعشرين ذراعا والعرض من الشرق إلى الغرب قبل الزيادة مائة ذراع وخمسة أذرع ثم زاد الحكم في طوله مائة ذراع وخمسة أذرع فكمل الطول ثلاثمائة ذراع وثلاثين ذراعا وزاد محمد بن أبي عامر بأمر هشام بن الحكم في عرضه من جهة المشرق ثمانين ذراعا فتم العرض مائتي ذراع وثلاثين ذراعا وكان عدد بلاطه أحد عشر بلاطا عرض أوسطها ستة عشر ذراعا وعرض كل واحد من اللذين يليانه غربا واللذين يليانه شرقا أربعة عشر ذراعا وعرض كل واحد من الستة الباقية إحدى عشرة ذراعا وزاد ابن أبي عامر فيه ثمانية عرض كل واحد عشرة أذرع وكان العمل في زيادة المنصور سنتين ونصفا وخدم فيه بنفسه وطول الصحن من المشرق إلى المغرب مائة ذراع وثمان وعشرون ذراعا وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة ذراع وخمسة أذرع وعرض كل واحدة من السقائف المستديرة بصحنه عشرة أذرع فتكسيره ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ومائة وخمسون ذراعا وعدد أبوابه تسعة : ثلاثة في صحنه غربا وشرقا وجوفا وأربعة في بلاطاته : اثنان شرقيان واثنان غربيان وفي مقاصير النساء من السقائف بابان وجميع ما فيه من الأعمدة ألف عمود ومائتا عمود وثلاثة وتسعون عمودا رخاما كلها وباب مقصورة الجامع ذهب وكذلك جدار المحراب وما يليه قد أجري فيه الذهب على الفسيفساء وثريات المقصورة فضة محضة وارتفاع الصومعة اليوم - وهي من بناء عبد الرحمن بن محمد - ثلاثة وسبعون ذراعا إلى أعلى القبة المفتحة التي يستدير بها المؤذن
وفي رأس هذه القبة تفافيح ذهب وفضة ودور كل تفاحة ثلاثة أشبار ونصف فاثنان من التفافيح ذهب إبريز وواحدة فضة وتحت كل واحدة منها وفوقها سوسنة قد هندست بأبدع صنعة ورمانة ذهب صغيرة على رأس الزج وهي إحدى غرائب الأرض . بالجامع المذكور في بيت منبره مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه الذي خطه بيده وعليه حلية ذهب مكللة بالدر والياقوت وعليه أغشية الديباج وهو على كرسي من العود الرطب بمسامير الذهب . إلى المنارة - وارتفاع المنارة إلى مكان الأذان أربع وخمسون ذراعا وطول كل حائط من حيطانها على الأرض ثمان عشرة ذراعا انتهى بحروفه . بعض مخالفة لما ذكره ابن الفرضي وبعضهم إذ قال في ترجمة المنصور بن أبي عامر ما صورته : وكان من أخبار المنصور الداخلة في أبواب الخير والبر والقرب بنيان المسجد الجامع والزيادة فيه سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وذلك أنه لما زاد الناس بقرطبة وانجلب إليها قبائل البربر من العدوة وإفريقية وتناهى حالها في الجلالة ضاقت الأرباض وغيرها وضاق المسجد الجامع عن حمل الناس فشرع المنصور في الزيادة بشرقيه حيث تتمكن الزيادة لاتصال الجانب الغربي بقصر الخلافة فبدأ ابن أبي عامر في هذه الزيادة على بلاطات تمتد طولا من أول المسجد إلى آخره وقصد ابن أبي عامر في هذه الزيادة المبالغة في
الإتقان والوثاقة دون الزخرفة ولم يقصر - مع هذا - عن سائر الزيادات جودة ما عدا زيادة الحكم . وأول ما عمله ابن أبي عامر تطييب نفوس أرباب الدور الذين اشتريت منهم للهدم لهذه الزيادة بإنصافهم من الثمن وصنع في صحنه الجب العظيم قدره الواسع فناؤه وهو - أعني ابن أبي عامر - هو الذي رتب إحراق الشمع بالجامع زيادة للزيت فتطابق بذلك النوران وكان عدد سواري الجامع الحاملة لسمائه واللاصقة بمبانيه وقبابه ومناره بين كبيرة وصغيرة ألف سارية وأربعمائة سارية وسبع عشرة سارية وقيل : أكثر وعدد ثريات الجامع ما بين كبيرة وصغيرة مائتان وثمانون ثريا وعدد الكؤوس سبعة آلاف كأس وأربعمائة كأس وخمسة وعشرون كأسا وقيل : عشرة آلاف وثمانمائة وخمس كؤوس وزنة مشاكي الرصاص للكؤوس المذكورة عشرة أرباع أو نحوها وزنة ما يحتاج إليه من الكتان للفتائل في كل شهر رمضان ثلاثة أرباع القنطار وجميع ما يحتاج إليه الجامع من الزيت في السنة خمسمائة ربع أو نحوها يصرف منه في رمضان خاصة نحو نصف العدد ومما كان يختص برمضان المعظم ثلاثة قناطير من الشمع وثلاثة أرباع القنطار من الكتان المقطن لإقامة الشمع المذكور والكبيرة من الشمع التي تؤخذ بجانب الإمام يكون وزنها من خمسين إلى ستين رطلا يحترق بعضها بطول الشهر ويعم الحرق لجميعها ليلة الختمة وكان عدد من يخدم الجامع المذكور بقرطبة في دولة ابن أبي عامر ويتصرف فيه من أئمة ومقرئين وأمناء ومؤذنين وسدنة وموقدين وغيرهم من المتصرفين مائة وتسعة وخمسين شخصا ويوقد من البخور ليلة الختمة أربع أواق من العنبر الأشهب وثمان أواق من العود الرطب انتهى
وقال بعض المؤرخين : كان للجامع كل ليلة جمعة رطل عود وربع رطل عنبر يتبخر به انتهى . ابن سعيد نقلا عن ابن بشكوال : طول جامع قرطبة الأعظم الذي هو بداخل مدينتها من القبلة إلى الجوف ثلاثمائة وثلاثون ذراعا الصحن المكشوف منه ثمانون ذراعا وغير ذلك مقرمد وعرضه من الغرب إلى الشرق مائتان وخمسون ذراعا وعدد أبهائه عند اكتمالها بالشمالية التي زادها المنصور بن أبي عامر بعد هذا تسعة عشر بهوا وتسمى البلاطات وعدد أبوابه الكبار والصغار أحد وعشرون بابا في الجانب الغربي تسعة أبواب منها واحد كبير للنساء يشرع إلى مقاصيرهن وفي الجهة الشرقية تسعة أبواب منها لدخول الرجال ثمانية أبواب وفي الجهة الشمالية ثلاثة أبواب منها لدخول الرجال بابان كبيران وباب لدخول النساء إلى مقاصيرهن وليس لهذا الجامع في القبلي سوى باب واحد بداخل المقصورة المتخذة في قبلته متصل بالساباط المفضي إلى قصر الخلافة منه كان السلطان يخرج من القصر إلى الجامع لشهود الجمعة وجميع هذه الأبواب ملبسة بالنحاس الأصفر بأغرب صنعة وعدد سواري هذا المسجد الجامع الحاملة لسمائه واللاصقة بمبانيه وقبابه ومناره وغير ذلك من أعماله بين كبار وصغار ألف وأربعمائة سارية وتسع سوار منها بداخل المقصورة مائة وتسع عشرة سارية وذكر المقصورة البديعة التي صنعها الحكم المستنصر في هذا الجامع فقال : إنه خطر بها على خمس بلاطات من الزيادة الحكمية وأطلق حفافيها على الستة الباقية ثلاثة من كل جهة فصار طولها من الشرق إلى الغرب خمسا وسبعين ذراعا وعرضها من جدار الخشب إلى سور المسجد بالقبلة اثنين
وعشرين ذراعا وارتفاعها في السماء إلى حد شرفاتها ثمان أذرع وارتفاع كل شرفة ثلاثة أشبار ولهذه المقصورة ثلاثة أبواب بديعة الصنعة عجيبة النقش شارعة إلى الجامع شرقي وغربي وشمالي ثم قال : وذرع المحراب في الطول من القبلة إلى الجوف ثمان أذرع ونصف وعرضه من الشرق إلى الغرب سبع أذرع ونصف وارتفاع قبوه في السماء ثلاث عشرة ذراعا ونصف والمنبر إلى جنبه مؤلف من أكارم الخشب ما بين آبنوس وصندل ونبع وبقم وشوحط وما أشبه ذلك ومبلغ النفقة فيه خمسة وثلاثون ألف دينار وسبعمائة دينار وخمسة دنانير وثلاثة دراهم وثلث درهم وقيل غير ذلك وعدد درجه تسع درجات صنعه الحكم المستنصر رحمه الله وذكر أن عدد ثريات الجامع التي تسرج فيها المصابيح بداخل البلاطات خاصة - سوى ما منها على الأبواب - مائتان وأربع وعشرون ثريا جميعها من لاطون مختلفة الصنعة منها أربع ثريات كبار معلقة في البلاط الأوسط أكبرها الضخمة المعلقة في القبة الكبرى التي فيها المصاحف حيال المقصورة وفيها من السرج - فيما زعموا - ألف وأربعمائة وأربعة وخمسون تستوقد هذه الثريات الضخام في العشر الأخير من شهر رمضان تسقى كل ثريا منها سبعة أرباع في الليلة وكان مبلغ ما ينفق من الزيت على جميع المصابيح في هذا المسجد في السنة أيام تمام وقوده في مدة ابن أبي عامر مكملة بالزيادة المنسوبة ألف ربع منها في شهر رمضان سبعمائة وخمسون ربعا قال : وفي بعض التواريخ القديمة كان عدد القومة بالمسجد الجامع بقرطبة في زمن الخلفاء وفي زمن ابن أبي عامر ثلاثمائة انتهى . وفيه مخالفة لبعض ما تقدم . بعضهم الزيت - ولكن قوله أولى بالاتباع لنقله عن ابن بشكوال
ولمعرفة ابن سعيد بمثل هذا وتحقيقه فيه أكبر من غيره والله سبحانه أعلم - فقال : ألف ربع وثلاثون ربعا منها في رمضان خمسمائة ربع وفي الثريات التي من الفضة - وهي ثلاثة - اثنان وسبعون رطلا لكل واحدة ثمانية عشر في ليلة وقدها . وقال في المنبر : إنه مركب من ستة وثلاثين ألف وصل قام كل واحد منها بسبعة دراهم فضة وسمرت بمسامير الذهب والفضة وفي بعضها نفيس الأحجار واتصل العمل فيه تسعة ثم قال : ودور الثريا العظيمة خمسون شبرا وتحتوي على ألف كأس وأربعة وثمانين كلها موشاة بالذهب إلى غير ذلك من الغرائب . الفقيه الكاتب أبو محمد إبراهيم ابن صاحب الصلاة الولبني يصف جامع قرطبة بما نصه : عمر الله سبحانه بشمول السعادة رسمك ووفر من جزيل الكرامة قسمك ولا برحت سحائب الإنعام تهمي عليك ثرة وأنامل الأيام تهدي إليك كل مسرة لئن كان أعزك الله طريق الوداد بيننا عامرا وسبيل المحبة غامرا لوجب أن نفض ختمه ونرفض كتمه لا سيما فيما يدر أخلاف الفضائل ويهز أعطاف الشمائل وإني شخصت إلى حضرة قرطبة - حرسها الله تعالى ! - منشرح الصدر لحضور ليلة القدر والجامع - قدس الله تعالى بقعته ومكانه وثبت أساسه وأركانه ! - قد كسي ببردة الازدهاء وجلي في معرض البهاء كأن شرفاته فلول في سنان أو أشر في أسنان وكأنما ضربت في سمائه كلل أو خلعت على أرجائه حلل وكأن الشمس خلفت فيه ضياءها ونسجت على أقطارها أفياءها فترى نهارا
قد أحدق به ليل كما أحدق بربوة سيل ليل دامس ونهار شامس وللذبال تألق كنضنضة الحيات أو إشارة السبابات في التحيات قد أترعت من السليط كؤوسها ووصلت بمحاجن الحديد رؤوسها ونيطت بسلاسل كالجذوع القائمة أو كالثعابين العائمة عصبت بها تفاح من الصفر كاللقاح الصفر : بولغ في صقلها وجلائها حتى بهرت بحسنها ولألائها كأنها جليت باللهب وأشربت ماء الذهب إن سمتها طولا رأيت منها سبائك عسجد أو قلائد زبرجد وإن أتيتها عرضا رأيت منها أفلاكا ولكنها غير دائرة ونجوما ولكنها ليست بسائرة تتعلق تعلق القرط من الذفرى وتبسط شعاعها بسط الأديم حين يفرى والشمع قد رفعت على المنار رفع البنود وعرضت عليها عرض الجنود ليجتلي طلاقة روائها القريب والبعيد ويستوي في هداية ضيائها الشقي والسعيد وقد قوبل منها مبيض بمحمر وعورض مخضر بمصفر تضحك ببكائها وتبكي بضحكها وتهلك بحياتها وتحيي بهلكها والطيب تفغم أفواحه وتتنسم أرواحه وقتار الألنجوج والند يسترجع من روح الحياة ما ند وكلما تصاعد وهو محاصر أطال من العمر ما كان تقاصر في صفوف مجامر ككعوب مقامر وظهور القباب مؤللة وبطونها مهللة كأنها تيجان رصع فيها ياقوت ومرجان قد قوس محرابها أحكم تقويس ووشم بمثل ريش الطواويس حتى كأنه بالمجرة مقرطق وبقوس قزح ممنطق وكأن اللازورد حول وشومه وبين رسومه نتف من قوادم الحمام أو كسف من ظلل الغمام والناس أخياف في دواعيهم وأوزاع في أغراضهم ومراميهم بين ركع وسجد وأيقاظ وهجد ومزدحم على الرقاب يتخطاها ومقتحم على الظهور يتمطاها
كأنهم برد خلال قطر أو حروف في عرض سطر حتى إذا قرعت أسماعهم روعة التسليم تبادروا بالتكليم وتجاذبوا بالأثواب وتساقوا بالأكواب كأنهم حضور طال عليهم غياب أو سفر أتيح لهم إياب وصفيك مع إخوان صدق تنسكب العلوم بينهم انسكاب الودق في مكان كوكر العصفور أستغفر الله أو ككناس اليعفور كأن إقليدس قد قسم بيننا مساحته بالموازين وارتبطنا فيه ارتباط البيادق بالفرازين حتى صار عقدنا لا يحل وحدنا لا يفل بحيث نسمع سور التنزيل كيف تتلى ونتطلع صور التفصيل كيف تجلى والقومة حوالينا يجهدون في دفع الضرر ويعمدون إلى قرع العمد بالدرر فإذا سمع بها الصبيان قد طبقت الخافقين وسرت نحوهم سرى القين توهموا أنها إلى أعطافهم واصلة وفي أقحافهم حاصلة ففروا بين الأساطين كما تفر من النجوم الشياطين كأنما ضربهم أبو جهم بعصاه أو حصبهم عمير بن ضابئ بحصاه فأكرم بها مساع تشوق إلى جنة الخلد ويهون في السعي إليها إنفاق الطوارف والتلد تعظيما لشعائر الله وتنبيها لكل ساه ولاه حكمة تشهد لله تعالى بالربوبية وطاعة تذل لها كل نفس أبية فلم أرد أدام الله سبحانه عزك منظرا منها أبهى ولا مخبرا أشهى وإذ لم تتأمله عيانا فتخيله بيانا وإن كان حظ منطقي من الكلام حظ السفيح من الأزلام لكن ما بيننا من مودة أكدنا وسائلها وذمة تقلدنا حمائلها يوجب قبول إتحافي سمينا وغثا ولبس إلطافي جديدا
ورثا لا زلت لزناد النبل موريا وإلى آماد الفضل مجريا والتحية العبقة الريا المشرقة المحيا عليك ما طلع قمر وأينع ثمر ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى . ابن بشكوال أن الحكم المستنصر هدم الميضأة القديمة التي كانت بفناء الجامع الذي يستقي لها الماء من بئر السانية وبنى موضعها أربع ميضآت في كل جانب من جانبي المسجد الشرقي والغربي منها ثنتان كبرى للرجال وصغرى للنساء أجرى في جميعها الماء في قناة اجتلبها من سفح جبل قرطبة إلى أن صبت ماءها في أحواض رخام لا ينقطع جريانه الليل والنهار وأجرى فضل هذا الماء العذب إلى سقايات اتخذهن على أبواب هذا المسجد بجهاته الثلاث الشرقية والغربية والشمالية أجراها هنالك إلى ثلاث جواب من حياض الرخام استقطعها بمقطع المنستير بسفح جبل قرطبة بالمال الكثير وألقاه الرخامون هنالك واحتفروا أجوافها بمناقيرهم في المدة الطويلة حتى استوت في صورها البديعة لأعين الناس فخفف ذلك من ثقلها وأمكن من إهباطها إلى أماكن نصبها بأكناف المسجد الجامع وأمد الله تعالى على ذلك بمعونته فتهيأ حمل الواحدة منها فوق عجلة كبيرة اتخذت من ضخام خشب البلوط على فلك موثقة بالحديد
التولية ويبطل الشرط تخريجا على أحد الأقوال في الشرط الفاسد في البيع للمازري عن بعض الناس انتهى مختصرا . ابن غازي : إن ابن عرفة نسب للطرطوشي البطلان مطلقا وابن شاس إنما نسب له التفصيل انتهى . ذكر مولاي الجد الإمام قاضي القضاة بفاس سيدي أبو عبد الله المقري التلمساني في كتابه القواعد شرط أهل قرطبة المذكور قال بعده ما نصه :
وعلى هذا الشرط ترتب إيجاب عمل القضاة بالأندلس ثم انتقل إلى المغرب فبينما نحن ننازع الناس في عمل المدينة ونصيح بأهل الكوفة مع كثرة من نزل بها من علماء الأمة كعلي وابن مسعود ومن كان معهما : [ البسيط ] التكحل في العينين كالكحلسنح لنا بغض الجمود ومعدن التقليد : [ الكامل ] أخر مدتي فتأخرت حتى رأيت من الزمان عجائبايا لله وللمسلمين ذهبت قرطبة وأهلها ولم يبرح من الناس جهلها ما ذاك إلا لأن الشيطان يسعى في محو الحق فينسيه والباطل لا زال يلقنه ويلقيه ألا ترى خصال الجاهلية كالنياحة والتفاخر والتكاثر والطعن والتفضيل والكهانة والنجوم والخط والتشاؤم وما أشبه ذلك وأسماؤها كالعتمة ويثرب وكذا التنابز بالألقاب وغيره مما نهي عنه وحذر منه كيف لم تزل من أهلها وانتقلت إلى غيرهم مع تيسر أمرها حتى كأنهم لا يعرفون بالدين رأسا بل يجعلون العادات القديمة أسا وكذلك محبة الشعر والتلحين والنسب وما انخرط في هذا السلك ثابتة الموقع من القلوب والشرع فينا منذ سبعمائة سنة وسبع وستين سنة لا نحفظه إلا قولا ولا نحمله إلا كلا انتهى . الحافظ ابن غازي - بعد ذكر كلام مولاي الجد - ما نصه : وحدثني ثقة ممن لقيت أنه لما قدم مدينة فاس العلامة أبو يحيى الشريف التلمساني وتصدى لإقراء التفسير بالبلد الجديد وأمر السلطان أبو سعيد المريني الحفيد أعيان الفقهاء
بحضور مجلسه كان مما ألقاه إليهم منزع المقري هذا فبالغوا في إنكاره ورأوا أنه لا معدل عما عول عليه زعماء الفقهاء كابن رشد وأصحاب الوثاق كالمتيطي من اعتماد أهل قرطبة ومن في معناهم انتهى . بعض المؤرخين - حين ذكر قرطبة - ما ملخصه : هي قاعدة بلاد الأندلس ودار الخلافة الإسلامية وهي مدينة عظيمة وأهلها أعيان البلاد وسراة الناس في حسن المآكل والمشارب والملابس والمراكب وعلو الهمم وبها أعلام العلماء وسادات الفضلاء وأجلاد الغزاة وأنجاد الحروب وهي في تقسيمها خمس مدن يتلو بعضها بعضا وبين المدينة والمدينة سور عظيم حصين حاجز وكل مدينة مستقلة بنفسها وفيها ما يكفي أهلها من الحمامات والأسواق والصناعات وطول قرطبة ثلاثة أميال في عرض ميل واحد وهي في سفح جبل مطل عليها وفي مدينتها الثالثة وهي الوسطى القنطرة والجامع الذي ليس في معمور الأرض مثله وطوله مائة ذراع في عرض ثمانين وفيه من السواري الكبار ألف سارية وفيه مائة وثلاثة عشر ثريا للوقود أكبرها تحمل ألف مصباح وفيه من النقوش والرقوم ما لا يقدر أحد على وصفه وبقبلته صناعات تدهش العقول وعلى فرجة المحراب سبع قسي قائمة على عمد طول كل قوس فوق القامة قد تحير الروم والمسلمون في حسن وضعها وفي عضادتي المحراب أربعة أعمدة اثنان أخضران واثنان لازورديان ليس لها قيمة لنفاستها وبه منبر ليس على معمور الأرض أنفس منه ولا مثله في حسن صنعته وخشبه
ساج وآبنوس وبقم وعود قاقلي ويذكر في تاريخ بني أمية أنه أحكم عمله ونقشه في سبع سنين وكان يعمل فيه ثمانية صناع لكل صانع في كل يوم نصف مثقال محمدي فكان جملة ما صرف على المنبر لا غير عشرة آلاف مثقال وخمسون مثقالا وفي الجامع حاصل كبير ملآن من آنية الذهب والفضة لأجل وقوده وبهذا الجامع مصحف يقال : إنه عثماني وللجامع عشرون بابا مصفحات بالنحاس الأندلسي مخرمة تخريما عجيبا بديعا يعجز البشر ويبهرهم وفي كل باب حلقة في نهاية الصنعة والحكمة وبه الصومعة العجيبة التي ارتفاعها مائة ذراع بالمكي المعروف بالرشاشي وفيه من أنواع الصنائع الدقيقة ما يعجز الواصف عن وصفه ونعته وبهذا الجامع ثلاثة أعمدة حمر مكتوب على الواحد اسم محمد وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف وعلى الثالث صورة غراب نوح والجميع خلقة ربانية وأما القنطرة التي بقرطبة فهي بديعة الصنعة عجيبة المرأى فاقت قناطر الدنيا حسنا وعدد قسيها سبعة عشر قوسا سعة كل قوس منها خمسون شبرا وبين كل قوسين خمسون شبرا وبالجملة فمحاسن قرطبة أعظم من أن نحيط بها وصفا انتهى ملخصا . وإن تكرر بعضه مع ما قدمته فلا يخلو من فائدة زائدة والله الموفق . ذكره في طول المسجد وعرضه مخالف لما مر ويمكن الجواب بأن هذا الذراع أكبر من ذلك كما أشار إليه هو في أمر الصومعة وكذا ما ذكره في
عدد السواري إلا أن يقال : ما تقدم باعتبار الصغار والكبار وهذا العدد الذي ذكره هنا إنما هو للكبار فقط كما صرح به والله تعالى أعلم . الثريات فقد خالف في عددها ما تقدم مع أن المتقدم هو قول ثقات مؤرخي الأندلس ونحن جلبنا النقل من مواضعه وإن اختلفت طرقه ومضموناته . في المغرب - عند تعرضه لذكر جامع قرطبة - ما نصه : اعتمدت فيما نقلته في هذا الفصل على كتاب ابن بشكوال فقد اعتنى بهذا الشأن أتم اعتناء وأغنى عن الاستطلاع إلى كلام غيره . الرازي أنه لما افتتح المسلمون الأندلس امتثلوا ما فعله أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد عن رأي عمر رضي الله تعالى عنه بالشام من مشاطرة الروم في كنائسهم مثل كنيسة دمشق وغيرها مما أخذوه صلحا فشاطر المسلمون أعاجم قرطبة كنيستهم العظمى التي كانت داخل مدينتها تحت السور وكانوا يسمونها بسنت بنجنت وابتنوا في ذلك الشطر مسجدا جامعا وبقي الشطر الثاني بأيدي النصارى وهدمت عليهم سائر الكنائس بحضرة قرطبة واقتنع المسلمون بما في أيديهم إلى أن كثروا وتزيدت عمارة قرطبة ونزلها أمراء العرب فضاق عنهم ذلك المسجد وجعلوا يعلقون منه سقيفة بعد سقيفة يستكنون بها حتى كان الناس ينالون في الوصول إلى داخل المسجد الأعظم مشقة لتلاصق تلك السقائف وقصر أبوابها وتطامن سقفها حتى ما يمكن أكثرهم القيام على اعتدال لتقارب سقفها من الأرض ولم يزل المسجد على هذه الصفة إلى أن دخل الأمير عبد الرحمن بن معاوية المرواني إلى الأندلس واستولى على إمارتها وسكن دار سلطانها قرطبة وتمدنت به فنظر في أمر الجامع وذهب إلى توسعته وإتقان بنيانه فأحضر أعاظم النصارى
وسامهم بيع ما بقي بأيديهم من كنيستهم لصق الجامع ليدخله فيه وأوسع لهم البذل وفاء بالعهد الذي صولحوا عليه فأبوا من بيع ما بأيديهم وسألوا بعد الجد بهم أن يباحوا بناء كنيستهم التي هدمت عليهم بخارج المدينة على أن يتخلوا للمسلمين عن هذا الشطر الذي طولبوا به فتم الأمر على ذلك وكان ذلك سنة ثمان وستين ومائة فابتنى عند ذلك عبد الرحمن المسجد الجامع على صفة ذكرها لا حاجة إلى تفسير الزيادة فيه وإنما الحاجة في وصفه بكماله وفي بنائه لهذه الزيادة يقول دحية بن محمد البلوي من قصيدة : [ الطويل ] في دين الإله ووجهه ثمانين ألفا من لجين وعسجدتوزعها في مسجد أسه التقى ومنهجه دين النبي محمدترى الذهب الناري فوق سموكه يلوح كبرق العارض المتوقدقال : وكمل سنة سبعين ومائة ثم ذكر زيادة ابنه هشام الرضا وما جدده فيه وأنه بناه من خمس فيء أربونة ثم زيادة ابنه عبد الرحمن الأوسط لما تزايد الناس قال : وهلك قبل أن يتم الزخرفة فأتمها ولده محمد بن عبد الرحمن ثم رم المنذر بن محمد ما وهى منه وذكر ما جدده خليفتهم الناصر ونقضه للصومعة الأولى وبنيانه للصومعة العظيمة قال : ولما ولي الحكم المستنصر بن الناصر - وقد اتسع نطاق قرطبة وكثر أهلها وتبين الضيق في جامعها - لم يقدم شيئا على النظر في الزيادة فبلغ الجهد وزاد الزيادة العظمى قال : وبها كملت محاسن هذا الجامع وصار في حد يقصر الوصف عنه وذكر حضوره لمشاورة العلماء في تحريف القبلة إلى نحو المشرق حسبما فعله
والده الناصر في قبلة جامع الزهراء لأن أهل التعديل يقولون بانحراف قبلة الجامع القديمة إلى نحو الغرب فقال له الفقيه أبو إبراهيم : يا أمير المؤمنين إنه قد صلى إلى هذه القبلة خيار هذه الأمة من أجدادك الأئمة وصلحاء المسلمين وعلمائهم منذ افتتحت الأندلس إلى هذا الوقت متأسين بأول من نصبها من التابعين كموسى بن نصير وحنش الصنعاني وأمثالهم رحمهم الله تعالى ! وإنما فضل من فضل بالاتباع وهلك من هلك بالابتداع فأخذ الخليفة برأيه وقال : نعم ما قلت وإنما مذهبنا الاتباع . ابن بشكوال : ونقلت من خط أمير المؤمنين المستنصر أن النفقة في هذه الزيادة وما اتصل بها انتهت إلى مائتي ألف دينار وأحد وستين ألف دينار وخمسمائة دينار وسبعة وثلاثين دينارا ودرهمين ونصف . ذكر الصومعة نقلا عن ابن بشكوال فقال : أمر الناصر عبد الرحمن بهدم الصومعة الأولى سنة 340 وأقام هذه الصومعة البديعة فحفر في أساسها حتى بلغ الماء مدة من ثلاثة وأربعين يوما ولما كملت ركب الناصر إليها من مدينة الزهراء وصعد في الصومعة من أحد درجيها ونزل من الثاني ثم خرج الناصر وصلى ركعتين في المقصورة وانصرف قال : وكانت الأولى ذات مطلع واحد فصير لهذه مطلعين فصل بينهما البناء فلا يلتقي الراقون فيها إلا بأعلاها تزيد مراقي كل مطلع منها على مائة سبعا . : وخبر هذه الصومعة مشهور في الأرض وليس في مساجد المسلمين صومعة تعدلها . ابن سعيد : قال ابن بشكوال هذا لأنه لم ير صومعة مراكش ولا صومعة إشبيلية اللتين بناهما المنصور من بني عبد المؤمن فهما أعظم وأطول لأنه ذكر أن طول صومعة قرطبة إلى مكان موقف المؤذن أربعة وخمسون ذراعا
وإلى أعلى الرمانة الأخيرة بأعلى الزج ثلاثة وسبعون ذراعا وعرضها في كل تربيع ثمانية عشر ذراعا وذلك اثنان وسبعون ذراعا قال ابن سعيد : وطول صومعة مراكش مائة وعشرة أذرع وذكر أن صومعة قرطبة بضخام الحجارة الفظيعة منجدة غاية التنجيد وفي أعلى ذروتها ثلاث شمسات يسمونها رمانات ملصقة في السفود البارز في أعلاها من النحاس : الثنتان منها ذهب إبريز والثالثة منها وسطى بينهما من فضة إكسير وفوقها سوسنة من ذهب مسدسة فوقها رمانة ذهب صغيرة في طرف الزج البارز بأعلى الجو وكان تمام هذه الصومعة في ثلاثة عشر شهرا . ابن بشكوال في رواية أن موضع الجامع الأعظم بقرطبة كان حفرة عظيمة يطرح فيها أهل قرطبة قمامتهم وغيرها فلما قدم سليمان بن داود صلى الله عليهما ودخل قرطبة قال للجن : اردموا هذا الموضع وعدلوا مكانه فسيكون فيه بيت يعبد الله فيه ففعلوا ما أمرهم به وبني فيه بعد ذلك الجامع المذكور قال : ومن فضائله أن الدارات الماثلة في تزاويق سمائه مكتوبة كلها بالذكر والدعاء إلى غيره بأحكم صنعة انتهى . مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه الذي كان في جامع قرطبة وصار إلى بني عبد المؤمن فقال : هو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه مما خطه بيمينه وله عند أهل الأندلس شأن عظيم انتهى . فهي زيادة على هذا
لدين الله وقد تقدم ذكره وهي من المدن الجليلة العظيمة القدر قال ابن الفرضي وغيره كان يعمل في جامعها حين شرع فيه من حذاق الفعلة كل يوم ألف نسمة منها ثلاثمائة بناء ومائتا نجار وخمسمائة من الأجراء وسائر الصنائع فاستتم بنيانه وإتقانه في مدة من ثمانية وأربعين يوما وجاء في غاية الإتقان من خمسة أبهاء عجيبة الصنعة وطوله من القبلة إلى الجوف - حاشا المقصورة - ثلاثون ذراعا وعرض البهو الأوسط من أبهائه من الشرق إلى الغرب ثلاثة عشر ذراعا وعرض كل بهو من الأربعة المكتنفة له اثنا عشر ذراعا وطول صحنه المكشوف من القبلة إلى الجوف ثلاثة وأربعون ذراعا وعرضه من الشرق إلى الغرب واحد وأربعون ذراعا وجميعه مفروش بالرخام الخمري وفي وسطه فوارة يجري فيها الماء فطول هذا المسجد أجمع من القبلة إلى الجوف - سوى المحراب - سبع وتسعون ذراعا وعرضه من الشرق إلى الغرب تسعة وخمسون ذراعا وطول صومعته في الهواء أربعون ذراعا وعرضها عشرة أذرع في مثلها
وأمر الناصر لدين الله باتخاذ منبر بديع لهذا المسجد فصنع في نهاية من الحسن ووضع في مكانه منه وحظرت حوله مقصورة عجيبة الصنعة وكان وضع هذا المنبر في مكانه من هذا المسجد عند إكماله يوم الخميس لسبع بقين من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة
قال وفي صدر هذه السنة كمل للناصر بنيان القناة الغريبة الصنعة التي وجرى فيها الماء العذب من جبل قرطبة إلى قصر الناعورة غربي قرطبة في المناهر المهندسة وعلى الحنايا المعقودة يجري ماؤها بتدبير عجيب وصنعة محكمة إلى بركة عظيمة
أبهى منه فيما صور الملوك في غابر الدهر مطلي بذهب إبريز وعيناه جوهرتان لهما وميض شديد يجوز هذا الماء إلى عجز هذا الأسد فيمجه في تلك البركة من فيه فيبهر الناظر بحسنه وروعة منظره وثجاجة صبه فتسقى من مجاجه جنان هذا القصر على سعتها ويستفيض على ساحاته وجنباته ويمد النهر الأعظم بما فضل منه فكانت هذه القناة وبركتها والتمثال الذي يصب فيها من أعظم آثار الملوك في غابر الدهر لبعد مسافتها واختلاف مسالكها وفخامة بنيانها وسمو أبراجها التي يترقى الماء منها ويتصوب من أعاليها وكانت مدة العمل فيها من يوم ابتدئت من الجبل إلى أن وصلت - أعني القناة - إلى هذه البركة أربعة عشر شهرا وكان انطلاق الماء في هذه البركة الانطلاق الذي اتصل واستمر يوم الخميس غرة جمادى الآخرة من السنة وكانت للناصر في هذا اليوم بقصر الناعورة دعوة حسنة أفضل فيها على عامة أهل مملكته ووصل المهندسين والقوام بالعمل بصلات حسنة جزيلة
وأما مدينة الزهراء فاستمر العمل فيها من عام خمسة وعشرين وثلاثمائة إلى آخر دولة الناصر وابنه الحكم وذلك نحو من أربعين سنة
ولما فرغ من بناء مسجد الزهراء على ما وصف كانت أول جماعة صليت فيه صلاة المغرب من ليلة الجمعة لثمان بقين من شعبان وكان الإمام القاضي أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي عيسى ومن الغد صلى الناصر فيه الجمعة وأول من خطيب به القاضي المذكور
ولما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة أطبق الناس على أنه لم يبن مثله في الإسلام البتة وما دخل إليه قط أحد من سائر البلاد النائية والنحل المختلفة من ملك وارد ورسول وافد وتاجر
من الناس تكون المعرفة والفطنة إلا وكلهم قطع أنه لم ير له شبها بل لم يسمع به بل لم يتوهم كون مثله حتى إنه كان أعجب ما يؤمله القاطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه والتحدث عنه والأخبار عن هذا تتسع جدا والأدلة عليه تكثر ولو لم يكن فيه إلا السطح الممرد المشرف على الروضة المباهى بمجلس الذهب والقبة وعجيب ما تضمنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن المستشرف وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون وذهب موضون وعمد كأنما أفرغت في القوالب ونقوش كالرياض وبرك عظيمة محكمة الصنعة وحياض وتماثيل عجيبة الأشخاص لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف على إبداعها واختراعها من أجزاء الأرض المنحلة كيما يري الغافلين عنه من عباده مثالا لما أعده لأهل السعادة في دار المقامة التي لا يتسلط عليها الفناء ولا تحتاج إلى الرم لا إله إلا هو المنفرد بالكرم
وذكر المؤرخ أبو مروان بن حيان صاحب الشرطة أن مباني قصر الزهراء اشتملت على أربعة آلاف سارية ما بين كبيرة وصغيرة حاملة ومحمولة ونيف هو ثنتا عشرة على ثلاثمائة سارية هو قال منها ما جلب من مدينة رومة ومنها ما أهداه صاحب القسطنطينية وأن مصاريع أبوابها صغارها وكبارها كانت تنيف على خمسة عشر ألف باب وكلها ملبسة بالحديد والنحاس المموه والله سبحانه أعلم فإنها كانت من أهول ما بناه الإنس وأجله خطرا وأعظمه شأنا انتهى
قلت فسر بعضهم ذلك النيف في كلامه بثلاث عشرة والله أعلم
وقال بعض من أرخ الأندلس كان عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألف فتى وسبعمائة وخمسين فتى ودخالتهم من اللحم في كل يوم - حاشا أنواع الطير والحوت - ثلاثة عشر ألف رطل وعدة النساء بقصر الزهراء الصغار والكبار وخدم الخدمة ستة آلاف وثلاثمائة امرأة وأربع عشرة انتهى
وقيل إن عدد الفتيان الصقالبة ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسون وجعل بعض مكان الخمسين سبعة وثمانين وقال آخر ستة آلاف صقلبي وسبعة وثمانون والمرتب من الخبز لحيتان بحيرة الزهراء اثنا عشر ألف خبزة كل يوم وينقع لها من الحمص الأسود ستة أقفزة كل يوم انتهى
ثم قال الأول وكان لهؤلاء من اللحم ثلاثة عشر ألف رطل تقسم من عشرة أرطال للشخص إلى ما دون ذلك سوى الدجاج والحجل وصنوف الطير وضروب الحيتان انتهى
وقال ابن حيان ألفيت بخط ابن دحون الفقيه قال مسلمة بن عبد الله العريف المهندس بدأ عبد الرحمن الناصر لدين الله بنيان الزهراء أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وكان مبلغ ما ينفق فيها كل يوم من الصخر المنحوت المنجور المعدل ستة آلاف صخرة سوى الصخر المصرف في التبليط فإنه لم يدخل في هذا العدد وكان يخدم في الزهراء كل يوم ألف وأربعمائة بغل وقيل أكثر منها أربعمائة زوامل الناصر لدين الله ومن دواب الأكرياء الراتبة للخدمة ألف بغل لكل بغل منها ثلاثة مثاقيل في الشهر يجب لها في الشهر
ثلاثة آلاف مثقال وكان يرد الزهراء من الجيار والجص في كل ثالث من الأيام ألف ومائة حمل وكان فيها حمامان واحد للقصر وثان للعامة وذكر بعض أهل الخدمة في الزهراء أنه قدر النفقة فيها في كل عام بثلاثمائة ألف دينار مدة خمسة وعشرين عاما التي بقيت من دولة الناصر من حين ابتدأها لأنه توفي سنة خمسين فحصل جميع الإنفاق فيها فكان مبلغه خمسة عشر بيت مال
قال وجلب إليها الرخام من قرطاجنة وإفريقية وتونس وكان الذين يجلبونه عبد الله بن يونس عريف البنائين وحسن وعلي بن جعفر الإسكندراني وكان الناصر يصلهم على كل رخامة صغيرة وكبيرة بعشرة دنانير انتهى
وقال بعض ثقات المؤرخين إنه كان يصلهم على كل رخامة صغيرة بثلاثة دنانير وعلى كل سارية بثمانية دنانير سجلماسية قيل وكان عدد السواري المجلوبة من إفريقية ألف سارية وثلاث عشرة سارية ومن بلاد الإفرنج تسع عشرة سارية وأهدى إليه ملك الروم مائة وأربعين سارية وسائرها من مقاطع الأندلس طركونة وغيرها فالرخام المجزع من رية والأبيض من غيرها والوردي والأخضر من إفريقية من كنيسة إسفاقس وأما الحوض المنقوش المذهب الغريب الشكل الغالي القيمة فجلبه إليه أحمد اليوناني من القسطنطينية مع ربيع الأسقف القادم من إيلياء وأما الحوض الصغير الأخضر المنقوش بتماثيل الإنسان فجلبه أحمد من الشام وقيل من القسطنطينية مع ربيع
أيضا وقالوا إنه لا قيمة له لفرط غرابته وجماله وحمل من مكان إلى مكان حتى وصل في البحر ونصبه الناصر في بيت المنام في المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس وجعل عليه اثني عشر تمثالا من الذهب الأحمر مرصعة بالدر النفيس الغالي مما عمل بدار الصناعة بقرطبة صورة أسد بجانبه غزال إلى جانبه تمساح وفيما يقابله ثعبان وعقاب وفيل وفي المجنبتين حمامة وشاهين وطاووس ودجاجة وديك وحدأة ونسر وكل ذلك من ذهب مرصع بالجوهر النفيس ويخرج الماء من أفواهها وكان المتولي لهذا البنيان المذكور ابنه الحكم لم يتكل فيه الناصر على أمين غيره وكان يخبز في أيامه في كل يوم برسم حيتان البحيرات ثمانمائة خبزة وقيل أكثر إلى غير ذلك مما يطول تتبعه
قال وكان الناصر كما قدمنا قسم الجباية أثلاثا ثلث للجند وثلث للبناء وثلث مدخر وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار وأما أخماس الغنائم العظيمة فلا يحصيها ديوان
وقد سبق هذا كله وإنما كررته لقول بعضهم إثر حكايته له ما صورته وقيل إن مبلغ تحصيل النفقة في بناء الزهراء مائة مدي من الدراهم القاسمية بكيل قرطبة وقيل إن مبلغ النفقة فيها بالكيل المذكور ثمانون مديا وسبعة أقفزة من الدراهم المذكورة واتصل بنيان الزهراء أيام الناصر خمسا وعشرين سنة شطر خلافته ثم اتصل بعد وفاته خلافة ابنه الحكم كلها وكانت خمسة عشر عاما وأشهرا فسبحان الباقي بعد فناء الخلق لا إله
بين الناصر ومنذر بن سعيد في شأن المباني بين المنذر
وقال ابن أصبغ الهمداني والفتح في المطمح كان الناصر كلفا بعمارة الأرض وإقامة معالمها وانبساط أمرها واستجلابها من أبعد بقاعها وتخليد الآثار الدالة على قوة الملك وعزة السلطان وعلو الهمة فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الشائع ذكره الذائع خبره المنتشر في الأرض خبره واستفرغ وسعه في تنميقها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها وانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه ثلاث جمع متواليات فأراد القاضي منذر أن يغض منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطاب والحكمة والتذكر بالإنابة والرجوع فابتدأ في أول خطبته بقوله تعالى ( أتبنون بكل ريع ) إلى قوله تعالى ( فلا تكن من الواعظين ) [ الشعراء ثم وصله بقوله فمتاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى وهي دار القرار ومكان الجزاء ومضى في ذم تشييد البنيان والاستغراق في زخرفته والإسراف في الإنفاق عليه بكل جزل وقول فصل قال الحاكي فجرى فيه طلقا وانتزع فيه قوله تعالى أفمن أسس بنيانه [ التوبة 109 ] إلى آخر الآية وأتى بما يشاكل المعنى من التخويف بالموت والتحذير من فجأته والدعاء إلى الزهد في هذه الدار الفانية والحض على اعتزالها والرفض لها والندب إلى الإعراض عنها والإقصار عن طلب اللذات ونهى النفس عن اتباع هواها فأسهب في ذلك كله وأضاف إليه من آي القرآن ما يطابقه وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله
وخشعوا ورقوا واعترفوا وبكوا وضجوا ودعوا وأعلنوا التضرع إلى الله تعالى في التوبة والابتهال في المغفرة وأخذ خليفتهم من ذلك بأوفر حظ وقد علم أنه المقصود به فبكى وندم على ما سلف له من فرطه واستعاذ بالله من سخطه إلا أنه وجد على منذر لغلظ ما قرعه به فشكا ذلك لولده الحكم بعد انصراف منذر وقال والله لقد تعمدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري فأسرف علي وأفرط في تقريعي ولم يحسن السياسة في وعظي فزعزع قلبي وكاد بعصاه يقرعني استشاط غيظا عليه فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة الجمعة خاصة فجعل يلتزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف صاحب الصلاة بقرطبة ويجانب الصلاة بالزهراء وقال له الحكم فما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك والاستبدال بغيره منه إذ كرهته ! فزجره وانتهره وقال له أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه لا أم لك يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد هذا ما لا يكون وإني لأستحي من الله أن لا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه ولكنه أحرجني فأقسمت ولوددت أني أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي بل يصلي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى فما أظننا نعتاض منه أبدا وقيل إن الحكم اعتذر عما قال منذر وقال يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح وما أراد إلا خيرا ولو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك فأمر حينئذ الناصر بالقصور ففرشت وفرش ذلك المسجد بأصناف فرش الديباج وأمر بالأطعمة وقد أحضر العلماء وغيرهم من الأمراء وغص بهم المجلس فدخل منذر في آخرهم
فأومأ إليه الناصر أن يقعد بقربه فقال له يا أمير المؤمنين إنما يقعد الرجل حيث انتهى به المجلس ولا يتخطى الرقاب فجلس في آخر الناس وعليه ثياب رثة ثم ذكر هذا القائل بعد هذا كلاما من كلام المنذر يأتي قريبا
وقحط الناس آخر مدة الناصر فأمر القاضي منذر المذكور بالبروز إلى الاستسقاء بالناس فتأهب لذلك وصام بين يديه أياما ثلاثة تنفلا وإنابة ورهبة واجتمع له الناس في مصلى الربض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم وصعد الخليفة الناصر في أعلى مصانعه المرتفعة من القصر ليشارف الناس ويشاركهم في الخروج إلى الله تعالى والضراعة له فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى ثم خرج نحوهم ماشيا متضرعا مخبتا متخشعا وقام ليخطب فلما رأى بدار الناس إلى ارتقائه واستكانتهم من خيفة الله وإخباتهم له وابتهالهم إليه - رقت نفسه وغلبته عيناه فاستعبر وبكى حينا ثم افتتح خطبته بأن قال يا أيها الناس سلام عليكم ثم سكت ووقف شبه الحصر ولم يك من عادته فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه ولا ما أراد بقوله ثم اندفع تاليا قوله تعالى ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) إلى قوله تعالى رحيم [ الأنعام 54 ] ثم قال استغفروا ربكم إنه كان غفارا استغفروا ربكم ثم توبوا إليه وتزلفوا بالأعمال الصالحة لديه قال الحاكي فضج الناس بالبكاء وجأروا بالدعاء ومضى على تمام خطبته ففزع النفوس بوعظه وانبعث الإخلاص بتذكيره فلم ينقض النهار حتى أرسل الله السماء بماء منهمر روى الثرى وطرد المحل وسكن الأزل والله لطيف بعباده وكان لمنذر في خطب الاستسقاء استفتاح عجيب ومنه أن قال يوما - وقد سرح طرفه في ملأ الناس عندما شخصوا
إليه بأبصارهم فهتف بهم كالمنادي - يا أيها الناس وكررها عليهم مشيرا بيده في نواحيهم أنتم الفقراء إلى الله [ فاطر 15 ] إلى بعزيز فاشتد وجد الناس وانطلقت أعينهم بالبكاء ومضى في خطبته وقيل إن الخليفة الناصر طلبه مرة للاستسقاء واشتد عزمه عليه فتسابق الناس للمصلى فقال للرسول - وكان من خواص الناس - ليت شعري ! ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا فقال له ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه لابس أخس الثياب مفترش التراب وقد رمد به على رأسه وعلى لحيته وبكى واعترف بذنوبه وهو يقول هذه ناصيتي بيدك أتراك تعذب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين لن يفوتك شيء مني قال الحاكي فتهلل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله وقال يا غلام احمل المطر معك فقد أذن الله تعالى بالسقيا إذا خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء وكان كما قال فلم ينصرف الناس إلا عن السقيا وكان منذر شديد الصلابة في أحكامه والمهابة في أقضيته وقوة الحكومة والقيام بالحق في جميع ما يجري على يده لا يهاب في ذلك الأمير الأعظم فمن دونه وقال ابن الحسن النباهي وأصله في المطمح وغيره ومن أخبار منذر المحفوظة له مع الخليفة الناصر
اتخذ لسطح القبيبة المصغرة الاسم للخصوصية التي كانت مائلة على الصرح الممرد المشهور شأنه بقصر الزهراء قراميد ذهب وفضة أنفق اتخذ لسطح القبيبة المصغرة الاسم للخصوصية التي كانت مائلة على الصرح الممرد المشهور شأنه بقصر الزهراء قراميد مغشاة ذهبا وفضة أنفق عليها مالا جسيما وقرمد سقفها به وجعل سقفها صفراء فاقعة إلى بيضاء ناصعة تستلب الأبصار بأشعة نورها وجلس فيها إثر تمامها يوما لأهل مملكته فقال لقرابته ومن حضر من الوزراء وأهل الخدمة مفتخرا عليهم بما صنعه من ذلك مع ما يتصل به من البدائع الفتانة هل رأيتم أو سمعتم ملكا كان قبلي فعل مثل هذا أو قدر عليه فقالوا لا والله يا أمير المؤمنين وإنك لأوحد في شأنك كله وما سبقك إلى مبتدعاتك هذه ملك رأيناه ولا انتهى إلينا خبره فأبهجه قولهم وسره وبينما هو كذلك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد وهو ناكس الرأس فلما أخذ مجلسه قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف المذهب واقتداره على إبداعه فأقبلت دموع القاضي تنحدر على لحيته وقال له والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان لعنه الله يبلغ منك هذا المبلغ ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين مع ما آتاك الله من فضله ونعمته وفضلك به على العالمين حتى ينزلك منازل الكافرين قال فانفعل عبد الرحمن لقوله وقال له انظر ما تقول وكيف أنزلني منزلتهم قال نعم أليس الله تعالى يقول ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ) الآية فوجم الخليفة وأطرق مليا ودموعه تتساقط خشوعا لله تعالى قال الحاكي ثم أقبل على منذر وقال له جازاك الله يا قاضي عنا وعن نفسك خيرا وعن الدين والمسلمين أجل جزائه وكثر في الناس أمثالك ! فالذي قلت هو الحق وقام عن مجلسه ذلك وهو يستغفر الله تعالى وأمر بنقض سقف القبيبة وأعاد قرمدها ترابا على صفة غيرها انتهى ما حكاه ابن الحسن النباهي
ولنذكر هذه الحكاية وغيرها وإن خالف السياق ما سبق وهذا منقول من كلام الحجاري في المسهب في أخبار المغرب فإنه أتم فائدة إذ قال رحمه الله دخل منذر بن سعيد يوما على الناصر باني الزهراء وهو مكب على الاشتغال بالبنيان فوعظه فأنشده عبد الرحمن الناصر
( همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان )
( أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملك محاه حوادث الأزمان )
( إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان ) قال فما أدري أهذا شعره أم تمثل به فإن كان شعره فقد بلغ به إلى غاية الإحسان وإن كان تمثل به فقد استحقه بالتمثل به في هذا المكان وكان منذر يكثر تعنيته على البنيان ودخل عليه مرة وهو في قبة قد جعل قرمدها من ذهب وفضة واحتفل فيها احتفالا ظن أن أحدا من الملوك لم يصل إليه فقام خطيبا والمجلس قد غص بأرباب الدولة فتلا قوله تعالى ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ) الآية وأتبعها بما يليق بذلك فوجم الملك وأظهر الكآبة ولم يسعه إلا الاحتمال لمنذر بن سعيد لعظم قدره في علمه ودينه
وحضر معه يوما في الزهراء فقام الرئيس أبو عثمان بن إدريس فأنشد الناصر قصيدة منها
( سيشهد ما أبقيت أنك لم تكن ... مضيعا وقد مكنت للدين والدنيا )
( فبالجامع المعمور للعلم والتقى ... وبالزهرة الزهراء للملك والعليا )
فاهتز الناصر وابتهج وأطرق منذر بن سعيد ساعة ثم قام منشدا
( يا باني الزهراء مستغرقا ... أوقاته فيها أما تمهل )
( له ما أحسنها رونقا ... لو لم تكن زهرتها تذبل ) فقال الناصر إذا هب عليها نسيم التذكار والحنين وسقتها مدامع الخشوع يا أبا الحكم لا تذبل إن شاء الله تعالى فقال منذر اللهم اشهد أني قد بثثت ما عندي ولم آل نصحا انتهى
ولقد صدق القاضي منذر رحمه الله تعالى فيما قال فإنها ذبلت بعد ذلك في الفتنة وقلب ما كان فيها من منحة محنة وذلك عندما ولي الحجابة عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر الملقب بشنجول وتصرف في الدولة مثل ما تصرف أخوه المظفر وأبوهما المنصور فأساء التدبير ولم يميز بين القبيل والدبير فدس إلى المؤيد هشام بن الحكم من خوفه منه حتى ولاه عهده كما بينا نص العهد فيما سبق فأطبق الخاصة والعامة على بغضه وإضمار السوء له وذلك سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة فعند ذلك خرج عليه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر سنة تسع وتسعين وتلقب بالمهدي وخلع المؤيد وحبسه وأسلمت الجيوش شنجول فأخذ وأسر وقتل
قال ابن الرقيق ومن أعجب ما روي أنه من نصف نهار يوم الثلاثاء لأربع بقين من جمادى الآخرة إلى نصف نهار يوم الأربعاء فتحت قرطبة وهدمت الزهراء وخلع خليفة وهو المؤيد وولي خليفة وهو المهدي وزالت دولة بني عامر العظيمة وقتل وزيرهم محمد بن عسقلاجة وأقيمت جيوش من العامة ونكب خلق من الوزراء وولي الوزارة آخرون وكان ذلك كله على يد عشرة رجال فحامين وجزارين وزبالين وهم جند المهدي هذا انتهى
وقد تقدم بعض الكلام على المهدي هذا وهو الذي قيل فيه لما قام على الدولة
( قد قام مهدينا ولكن ... بملة الفسق والمجون )
( وشارك الناس في حريم ... لولاه ما زال بالمصون )
( من كان من قبل ذا أجما ... فاليوم قد صار ذا قرون )
ومن شعر المهدي هذا وقد حياه في مجلس شرابه غلام بقضيب آس
( أهديت شبه قوامك المياس ... غصنا رطيبا ناعما من آس )
( وكأنما يحكيك في حركاته ... وكأنما تحكيه في الأنفاس ) وقد ذكرنا فيما سبق في الفصل الثالث خبر المهدي هذا وقتله ولقد كان قيامه مشؤما على الدين والدنيا فإنه فاتح أبواب الفتنة بالأندلس وماحي معالمها حتى تفرقت الدولة وانتثر السلك وكثر الرؤساء وتطاول العدو إليها وأخذها شيئا فشيئا حتى محا اسم الإسلام منها أعادها الله تعالى
حديث ابن خلدون عن الزهراء
وقد ألم الوالي ابن خلدون في تاريخه بذكر الزهراء في جملة مباني الناصر فقال ما نصه ولما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييد القصور والمباني وكان جده الأمير محمد وأبوه عبد الرحمن الأوسط وجده الحكم قد احتفلوا في ذلك وبنوا قصورهم على أكمل الإتقان والضخامة وكان فيها المجلس الزاهروالبهو والكامل والمنيف فبنى هو إلى جانب الزاهر قصره العظيم وسماه دار الروضة وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل واستدعى عرفاء المهندسين والبنائين من كل قطر فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية ثم أخذ في بناء المنتزهات فاتخذ منية الناعورة خارج القصور وساق لها الماء من أعلى الجبل على أبعد مسافة ثم اختط مدينة الزهراء واتخذها لنزله وكرسيا لملكه وأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما عفى على مبانيهم الأولى واتخذ فيها محلات للوحش فسيحة الفناء متباعدة السياج ومسارح للطيور مظللة بالشباك واتخذ فيها دورا لصناعة الآلات من آلات السلاح للحرب والحلى للزينة وغير ذلك من المهن وأمر بعمل الظلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حر الشمس انتهى
وأما الزهرة
فهي من مباني المنصور محمد بن أبي عامرقال ابن خلدون في أثناء كلامه على المنصور ما صورته وابتنى لنفسه مدينة لنزله سماها الزاهرة ونقل إليها جزءا من الأموال والأسلحة انتهى الزاهرة وقال غيره وأظنه صاحب المطمح وفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة أمر المنصور بن أبي عامر ببناء الزاهرة وذلك عندما واستفحل أمره واتقد جمره وظهر استبداده وكثر حساده وأنداده وخاف على نفسه في الدخول إلى قصر السلطان وخشي أن يقع في أشطان فتوثق لنفسه وكشف
له ما ستر عنه في أمسه من الاعتزاز عليه ورفع الاستناد إليه وسما إلى ما سمت إليه الملوك من اختراع قصر ينزل فيه ويحله بأهله وذويه ويضم إليه رياسته ويتم به تدبيره وسياسته ويجمع فيه فتيانه وغلمانه فارتاد موضع مدينته المعروفة بالزاهرة الموصوفة بالقصور الباهرة وأقامها بطرف البلد على نهر قرطبة الأعظم ونسق فيها كل اقتدار معجز ونظم وشرع في بنائها في هذه السنة المؤرخة وحشد الصناع والفعلة وجلب إليها الآلات الجليلة وسربلها بهاء يرد الأعين كليلة وتوسع في اختطاطها وتولع بانتشارها في البسيطة وانبساطها وبالغ في رفع أسوارها وثابر على تسوية أنجادها وأغوارها فاتسعت هذه المدينة في المدة القريبة وصار بناؤها من الأنباء الغريبة وبنى معظمها في عامين
وفي سنة سبعين وثلاثمائة انتقل المنصور إليها ونزلها بخاصته وعامته فتبوأها وشحنها بجميع أسلحته وأمواله وأمتعته واتخذ فيها الدواوين والأعمال وعمل في داخلها الأهراء وأطلق بساحتها الأرحاء ثم أقطع ما حولها لوزرائه وكتابه وقواده وحجابه فابتنوا بها كبار الدور وجليلات القصور واتخذوا خلالها المستغلات المفيدة والمنازة المشيدة وقامت بها الأسواق وكثرت فيها الأرفاق وتنافس الناس بالنزول بأكنافها والحلول بأطرافها للدنو من صاحب الدولة وتناهى الغلو في البناء حوله حتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة وكثرت بحوزتها العمارة واستقرت في بحبوحتها الإمارة وأفرد الخليفة من كل شيء إلا من الاسم الخلافي وصير ذلك هو الرسم العافي ورتب فيها جلوس وزرائه ورؤوس أمرائه وندب إليها كل ذي خطه بخطته ونصب ببابها كرسي شرطته وأجلس عليها واليا على رسم كرسي الخليفة وفي صفة تلك المرتبة المنيفة وكتب إلى الأقطار بالأندلس والعدوة
بأن تحمل إلى مدينته تلك أموال الجبايات ويقصدها أصحاب الولايات وينتابها طلاب الحوائج وحذر أن يعوج عنها إلى باب الخليفة عائج فاقتضيت إليها اللبانات والأوطار وانحشد الناس إليها من جميع الأقطار وتم لمحمد بن أبي عامر ما أراد وانتظم بلبة أمانيه المراد وعطل قصر الخليفة من جميعه وصيره بمعزل من سامعه ومطيعه وسد باب قصره عليه وجد في خير ألا يصل إليه وجعل فيه ثقة من صنائعه يضبط القصر ويبسط فيه النهي والأمر ويشرف منه على كل داخل ويمنع ما يحذره من الدواخل ورتب عليه الحراس والبوابين والسمار والمنتابين يلازمون حراسة من فيه ليلا ونهارا ويراقبون حركاتهم سرا وجهارا وقد حجر على الخليفة كل تدبير ومنعه من تملك قبيل أو دبير وأقام الخليفة هشام مهجور الفناء معجوز الغناء خفي الذكر عليل الفكر مسدود الباب محجوب الشخص عن الأحباب لا يراه خاص ولا عام ولا يخاف منه بأس ولا يرجى منه إنعام ولا يعهد منه إلا الاسم السلطاني في السكة والدعوة وقد نسخه ولبس أبهته وطمس بهجته وأغنى الناس عنه وأزال أطماعهم منه وصيرهم لا يعرفونه وأمرهم أنهم لا يذكرونه واشتد ملك محمد بن أبي عامر منذ نزل قصر الزاهرة وتوسع مع الأيام في تشييد بنيتها حتى كملت أحسن كمال وجاءته في نهاية الجمال نقاوة بناء وسعة فناء واعتدال هواء رق أديمه وصقالة جو اعتل نسيمه ونضرة بستان وبهجة للنفوس فيها افتنان وفيها يقول صاعد اللغوي
( يا أيها الملك المنصور من يمن ... والمبتني نسبا غير الذي انتسبا )
( بغزوة في قلوب الشرك رائعة ... بين المنايا تناغي السمر والقضبا )
( أما ترى العين تجري فوق مرمرها ... هوى زهوا فتجري على أحفافها الطربا )
( أجريتها فطما الزاهي بجريتها ... كما طموت فسدت العجم والعربا )
( تخال فيه جنود الماء رافلة ... مستلئمات تريك الدرع واليلبا )
( تحفها من فنون الأيك زاهرة ... قد أورقت فضة إذ أورقت ذهبا )
( بديعة الملك ما ينفك ناظرها ... يتلو على السمع منها آية عجبا )
( لا يحسن الدهر أن ينشي لها مثلا ... ولو تعنت فيها نفسه طلبا ) المنية ودخل عليه ابن أبي الحباب في بعض قصوره من المنية المعروفة بالعامرية والروض قد تفتحت أنواره وتوشحت أنجاده وأغواره وتصرف فيها الدهر متواضعا ووقف بها السعد خاضعا فقال
( لا يوم كاليوم في أيامك الأول ... بالعامرية ذات الماء والظلل )
( هواؤها في جميع الدهر معتدل ... طيبا وإن حل فصل غير معتدل )
( ما إن يبالي الذي يحتل ساحتها ... بالسعد أن لا تحل الشمس بالحمل ) وما زالت هذه المدينة رائقة والسعود بلبتها متناسقة تراوحها الفتوح وتغاديها وتجلب إليها منكسرة أعاديها لا تزحف عنها راية إلا
إلى فتح ولا يصدر عنها تدبير إلا إلى نجح إلى أن حان يومها العصيب وقيض لها من المكروه أوفر نصيب فتولت فقيدة وخلت من بهجتها كل عقيدة انتهى
وقد حكى الحميدي في جذوة المقتبس هذه الحكاية الواقعة لابن أبي الحباب بزيادة فقال - بعد أن ذكر هذه المنية العامرية التي إلى جانب الزهراء - إن أبا المطرف بن أبي الحباب الشاعر دخل إلى المنصور في هذه المنية فوقف على روضة فيها ثلاث سوسنات ثنتان منها قد تفتحا وواحدة لم تفتح فقال
( لا يوم كاليوم في أيامنا الأول ... بالعامرية ذات الماء والظلل )
( هواؤها في جميع الدهر معتدل ... طيبا وإن حل فصل غير معتدل )
( ما إن يبالي الذي يحتل ساحتها ... بالسعد ألا تحل الشمس في الحمل )
( كأنما غرست في ساعة وبدا السوسان ... من حينه فيها على عجل )
( أبدت ثلاثا من السوسان مائلة ... أعناقهن من الإعياء والكسل )
( فبعض نوارها للبعض منفتح ... والبعض منغلق عنهن في شغل )
( كأنها راحة ضمت أناملها ... من بعدما ملئت من جودك الخضل )
( وأختها بسطت منها أناملها ... ترجو نداك كما عودتها فصل ) وقد ذكر ابن سعيد أن ابن العريف النحوي دخل على المنصور بن أبي عامر وعنده صاعد اللغوي البغدادي فأنشده وهو بالموضع المعروف بالعامرية من أبيات
( فالعامرية تزهى ... على جميع المباني
)
( وأنت فيها كسيف ... قد حل في غمدان ) فقام صاعد وكان مناقضا له فقال أسعد الله تعالى الحاجب الأجل ! ومكن سلطانه ! هذا الشعر الذي قاله قد أعده وروى فيه أقدر أن أقول أحسن منه ارتجالا فقال له المنصور قل ليظهر صدق دعواك فجعل يقول من غير فكرة طويلة
( يا أيها الحاجب المعتلي ... على كيوان )
( ومن به قد تناهى ... فخار كل يمان )
( العامرية أضحت ... كجنة الرضوان )
( فريدة لفريد ... ما بين أهل الزمان )
ثم مر في الشعر إلى أن قال في وصفها
( انظر إلى النهر فيها ... ينساب كالثعبان )
( والطير يخطب شكرا ... على ذرا الأغصان )
( والقضب تلتف سكرا ... بميس القضبان )
( والروض يفتر زهوا ... عن مبسم الأقحوان )
( والنرجس الغض يرنو ... بوجنة النعمان )
( وراحة الريح تمتار ... نفحة الريحان )
( فدم مدى الدهر فيها ... في غبطة وأمان ) فاستحسن المنصور ارتجاله وقال لابن العريف مالك فائدة في مناقضة
من هذا ارتجاله فكيف تكون رويته فقال ابن العريف إنما أنطقه وقرب عليه المأخذ إحسانك فقال له صاعد فيخرج من هذا أن قلة إحسانه لك أسكتتك وبعدت عليك المأخذ فضحك المنصور وقال غير هذه المنازعة أليق بأدبكما كثرة المنى قلت وقد ذكر مؤرخو الأندلس منى كثيرة بها منها منية الناعورة السابقة ومنية العامرية هذه ومنية السرور ومنية الزبير منسوبة إلى الزبير بن عمر الملثم ملك قرطبة قال أبو الحسن بن سعيد أخبرني أبي عن أبيه قال خرج معي إلى هذه المنية في زمان فتح نوار اللوز أبو بكر بن بقي الشاعر المشهور فجلسنا تحت سطر لوز قد نور فقال ابن بقي
( سطر من اللوز في البستان قابلني ... ما زاد شيء على شيء ولا نقصا )
( كأنما كل غصن كم جارية ... إذا النسيم ثنى أعطافه رقصا ) ثم قال
( عجبت لمن أبقى على خمر دنه ... غداة رأى لوز الحديقة نورا ) وذكر بعض مؤرخي الأندلس أن المنصور بن أبي عامر كان يزرع كل سنة ألف مدي من الشعير قصيلا لدوابه الخاصة به وأنه كان إذا قدم من غزوة من غزواته لا يحل عن نفسه حتى يدعو صاحب الخيل فيعلم ما مات منها وما عاش وصاحب الأبنية لما وهي من أسواره ومبانيه وقصوره ودوره
والحيتان وكان يصنع في كل عام اثني عشر ألف ترس عامرية لقصر الزاهرة والزهراء قال وابتنى على طريق المباهاة والفخامة مدينة الزاهرة ذات القصور والمنتزهات المخترعة كمنية السرور وغيرها من مناشئه البديعة انتهى
رجع إلى المنصور
وكان المنصور إذا أراد أمرا مهما شاور أرباب الدولة الأكابر من خدام الدولة الأموية فيشيرون عليه بالوجه الذي عرفوه وجرت الدولة الأموية عليه فيخالفهم بالهلاك في الطريق الذي سلكه والمهيع الذي اخترعه فتسفر العاقبة عن السلامة التامة التي اقتضاها سعده فيكثرون التعجب من موارد أموره ومصادرها
وقيل له مرة إن فلانا مشؤوم فلا تستخدمه فقال أف لسعد لا يغطي على شؤمه فاستخدمه ولم ينله من شؤمه الذي جرت به العادة شيء
وحكي عنه أنه كان في قصره بالزاهرة فتأمل محاسنه ونظر إلى مياهه المطردة وأنصت لأطياره المغردة وملأ عينه من الذي حواه من حسن وجمال والتفت في الزاهرة من اليمين إلى الشمال فانحدرت دموعه وتجهم وقال ويها لك يا زاهرة فليت شعري من الخائن الذي يكون خرابك على يديه عن قريب فقال له بعض خاصته ما هذا الكلام الذي ما سمعناه من مولانا قط وما هذا الفكر الرديء الذي لا يليق بمثله شغل البال به فقال والله لترون ما قلت وكأني بمحاسن الزاهرة قد محيت وبرسومها قد غيرت وبمبانيها قد هدمت ونحيت وبخزائنها قد نهبت وبساحاتها قد أضرمت بنار الفتنة وألهبت قال الحاكي فلم يكن إلا أن توفي المنصور وتولى المظفر ولم تطل مدته فقام بالأمر أخوه عبد الرحمن الملقب بشنجول فقام عليه المهدي والعامة وكانت منهم عليه وعلى قومه الطامة وانقرضت دولة آل عامر ولم يبق منهم آمر
( كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر )
( بلى نحن كنا أهلها فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر ) وخربت الزاهرة وذهبت كأمس الدابر وخلت منها الدسوت الملوكية
المهدي المذكور فسلطه الله تعالى على كل ما أسسه المنصور حتى هدمه وأخر كل ما قدمه ولم ينفع في ذلك احتياط ولا حزم ولا راد للقضاء المبرم الجزم
( والله يحكم ما يشاء ... فلا تكن متعرضا )
طرف من أخبار المنصور
وقد قدمنا شيئا من أخبار المنصور ولا بأس أن نلم هنا ببعضها وإن حصل منه نوع تكرار في نبذة منها لارتباط الكلام بعضه ببعض قال بعض المحققين من المؤرخين حجر المنصور بن أبي عامر على هشام المؤيد بحيث لم يره أحد منذ ولي الحجابة وربما أركبه بعد سنين وجعل عليه برنسا وعلى جواريه مثل ذلك فلا يعرف منهن ويأمر من ينحي الناس من طريقه حتى ينتهي المؤيد إلى موضع تنزهه ثم يعود غير أنه أركبه بأبهة الخلافة في بعض الأيام لغرض له كما ألمعنا به فيما سبق وكان المنصور إذا سافر وكل بالمؤيد من يفعل معه ذلك فكان هذا من فعله سببا لانقطاع ملك بني أمية من الأندلس وأخذ مع ذلك في قتل من يخشى منه من بني أمية خوفا أن يثوروا به ويظهر أنه يفعل ذلك شفقة على المؤيد حتى أفنى من يصلح منهم للولاية ثم فرق باقيهم في البلاد وأدخلهم زوايا الخمول عارين من الطراف والتلاد وربما سكن بعضهم البادية وترك مجلس الأبهة وناديه حتى قال بعض من ينقم على المنصور ذلك الفعل من قصيدة( أبني أمية أين أقمار الدجى ... منكم وأين نجومها والكوكب
( غابت أسود منكم عن غابها ... فلذاك حاز الملك هذا الثعلب ) مع أن للمنصور مفاخر بذ بها الأوائل والأواخر من المثابرة على جهاد
العدو وتكرار الذهاب بنفسه في الرواح والغدو وله مع المصحفي وغيره أخبار مرت ويأتي بعضها ولا بأس أن نلخص ترجمة المصحفي فنقول رسالة ابن عبد البر إلى المنصور الصغير وقد تذكرت هنا والحديث شجون وبذكر المناسبات يبلغ الطلاب ما يرجون كتابا كتبه الأديب الكاتب أبو محمد ابن الإمام الحافظ محدث
] صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت في الجسم دبت مثل صل لادغ خفيت على شرابها فكأنما يجدون ريا من إناء فارغ وله [ السريع ] يا ذا الذي أودعني سره لا ترج أن تسمعه مني لم أجره بعدك في خاطري كأنه ما مر في أذني وأنشد له صاحب بدائع التشبيهات [ الطويل ] سألت نجوم الليل هل ينقضي الدجى فخطت جوابا بالثريا كخط لا
الأندلس أبي عمر بن عبد البر النميري إلى المنصور بن أبي عامر وهو من ذرية المنصور الكبير الذي كنا نتحدث في أخباره يمت إليه بسلفه ومعاملتهم لمن تقدم من آبائه بتعظيم قدره وإكباره وهو عمر الله ببقاء سيدي ذي السابقتين بهجة أوطانه وملكه عنان زمانه ومد عليه ظلال أمانه
أو يخلي أفقي من أنوارك فأراني منخرطا في غير سلكه ومنحطا إلى غير ملكه لا جرم أنه من استضاء بالهلال غني عن الذبال ومن استنار بالصباح ألقى سنا المصباح وتالله ما هزت آمالي ذوائبها إلى سواك ولا حدت أوطاري ركائبها إلى من مداك ليكون في أثر الوسمي في الماحل وعلي جمال الحلي على العاطل لسيادتك السنية ورياستك الأولية التي يقصر عنها لسان إفصاحي ويعيا في بعضها بياني وإيضاحي فالقراطيس عند بث مناقبك تفنى والأقلام في رسم مآثرك تخفى وما أمل المجدب في
ليهنكم مجد تليد بنيتم أغار سناه في البلاد وأنجدا ومثله أبقاه الله سبحانه يستثمر إيراقه فيثمر جناه ويستمطر إبراقه فيمطر حياه لا سيما وإني نشأة حفها إحسان أوائلك الطاهرين وألفها إنعام أكابرك الأخيار الطيبين وجدير بقبولك وإقبالك وبرك وإجمالك من أصله ثابت في أهل محبتكم وفرعه نابت في خاصتكم [ الطويل ] وما رغبتي في عسجد أستفيده ولكنها في مفخر أستجده فكل نوال كان أو هو كائن فلحظة طرف منك عندي نده فكن في اصطناعي محسنا كمجرب يبن لك تقريب الجواد وشده إذا كنت في شك من السيف فابله فإما تنافيه وإما تعده وما الصارم الهندي إلا كغيره إذا لم يفارقه النجاد وغمده ولا بأس أن يتطول مولاي بغرس الصنيعة في أزكى الترب
يعني بالخليفة هشاما المؤيد لكونه كان صغيرا وأمه صبح البشكنشية كان الأعداء يتهمون بها المنصور وذلك بهتان وزور وأفظع منه رميهم القاضي بالفجور والله عالم بسرائر الأمور ونعوذ بالله من ألسنة الشعراء الذين لا يراعون إلا ولا ذمة ويطلقون ألسنتهم في العلماء والأئمة [ الطويل ] وأظلم أهل الأرض من كان حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب جدير بأن لا يدرك ما يؤمل ويتطلب لأنه يعترض على الله سبحانه في أحكامه نعوذ بالله من شر أنفسنا ومن شر كل ذي شر بجاه نبينا عليه أزكى صلوات الله وأفضل سلامه وقد قدمنا أن المنصور بن أبي عامر كان أولا يخدم جعفر بن عثمان المصحفي مدبر مملكة هشام المؤيد ويريه النصيحة وأنه ما زال يستجلب القلوب بجوده وحسن خلقه والمصحفي ينفرها ببخله وسوء خلقه إلى أن كان من أمره ما كان فاستولى على الحجابة وسجن المصحفي وفي ذلك يقول المصحفي [ الطويل ] غرست قضيبا خلته عود كرمة وكنت عليه في الحوادث قيما وأكرمه دهري فيزداد خبثه ولو كان من أصل كريم تكرما ولما يئس المصحفي من عفو المنصور قال [ الكامل ] لي مدة لا بد أبلغها فإذا انقضت أيامها مت لو قابلتني الأسد ضارية والموت لم يقرب لما خفت فانظر إلي وكن على حذر في مثل حالك أمس قد كنت ومن أحسن ما نعى به نفسه قوله حسبما تقدم [ الطويل ] صبرت على الأيام حتى تولت
] صبرت على الأيام حتى تولت وألزمت نفسي صبرها فاستمرت فوا عجبا للقلب
أرى أني بآخر ليلتي فأطرق حتى خلته عاد أولا وما عن هوى سامرتها غير أنني أنافسها المجرى إلى طرق العلا مآل مصحف عثمان الذي كان بالأندلس 114 مآل مصحف عثمان الذي كان بالأندلس رجع - وكان كما تقدم بقرطبة المصحف العثماني وهو متداول بين أهل الأندلس قالوا ثم آل أمره إلى الموحدين ثم إلى بني مرين قال الخطيب بن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن ما ملخصه وكان السلطان أبو الحسن لا يسافر موضعا إلا ومعه المصحف الكريم العثماني وله عند أهل الأندلس
من الأندلس فألفيت خطهما سواء وما توهمو أنه خطه بيمينه فليس بصحيح فلم يخط عثمان واحدا منها وإنما جمع عليها بعضا من الصحابة كما هو مكتوب على ظهر المدني ونص ما على ظهره هذا ما أجمع عليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاصي وذكر العدد الذي جمعه عثمان رضي الله تعالى عنه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كتب المصحف انتهى
واعتنى به عبد المؤمن بن علي ولم يزل الموحدون يحملونه في أسفارهم
المنصور بتحلية المصحف [ الطويل ] ونفلته من كل ملك ذخيرة كأنهم كانوا برسم مكاسبه فإن ورث الأملاك شرقا ومغربا فكم قد أخلوا جاهلين بواجبه وكيف يفوت النصر جيشا جعلته أمام قناه في الوغى وقواضبه وألبسته الياقوت والدر
وتراءى مع نفسه المطمئنة المرضية وسجاياه الحسنة الرضية في معنى اجتلابه من مدينة قرطبة محل مثواه القديم ووطنه الموصل بحرمته للتقديم فتوقع أن يتأذى أهل ذلك القطر بفراقه ويستوحشوا لفقدان إضاءته في أفقهم وإشراقه فتوقف عن ذلك لما جبل عليه من رحمته وإشفاقه فأوصله الله إليه تحفة سنية وهدية هنية وتحية من عنده مباركة زكية دون أن يكدرها من البشر اكتساب أو يتقدمها استدعاء أو اجتلاب بل أوقع الله سبحانه وتعالى في نفوس أهل ذلك القطر من الفرح بإرساله إلى مستحقه والتبرع به إلى القائم إلى الله تعالى بحقه ما اطلع بالمشاهدة والتواتر على صحته وصدقه وعضدت مخايل برقه سواكب ودقه وكان ذلك من كرامات سيدنا ومولانا الخليفة معدودا وإلى أمره الذي هو أمر الله مردودا وجمع عند ذلك بحضرة مراكش - حرسها الله تعالى ! - سائر الأبناء الكرام والسادة الأعلام بدور الآفاق وكواكب الإشراق وأهل الاستئهال للمقامات الرفيعة وذوو الاستحقاق فانتظم عند ذلك هذا القصيد مشيرا إلى اجتماع هذه الدراري الزاهرة والتئام خطوطها على مركز الدائرة ووصول المتقدم ذكره المشهور في جميع المعمور أمره وهو هذا [ الطويل ] دراري من نور
تشب بهم ناران للحرب والقرى ويجري بهم سيلان جيش وعسجد ويستمطرون البرق والبرق عندهم سيوف على أفق العداة تجرد إذا من سجف الساريات مضاؤها فماذا الذي يغني الحديد المسرد ويسترشدون النجم والنجم عندهم نصول إلى حب القلوب تسدد تزاحم في جو السماء كأنما عواملها في الأفق صرح ممرد تخازر ألحاظ الكواكب دونها ويفرق منها المرزمان وفرقد ألم ترها في الأفق خافقة الحشا كما تطرف العينان والقلب يزأد وليس احمرار الفجر من أثر السنى ولكنه ذاك النجيع المورد وما انبسطت كف الثريا فدافعت ولكنها في الحرب شلو مقدد وحط سهيلا ذعره عن سميه فأضحى على أفق البسيطة يرعد ولما رأى نسر وقوع أليفه تطاير من خوف فما زال يجهد مواقع أمر الله في كل حالة يكاد لها رأس الثرى يتميد أهاب بأقصى الخافقين فنظمت وهيب جمع المخفقين فبددوا وأضفى على الدنيا ملابس رحمة نضارتها في كل حين تجدد وأخضل أرجاء الربا فكأنما عليها من النبت النضير زبرجد فمن طرب ما أصبح البرق باسما ومن فرح ما أضحت المزن ترعد وغنى على أفنان كل أراكة غذاها حيا النعمى حمام مغرد وكبر ذو نطق وسبح صامت وكاد به المعدوم يحيا ويوجد وأبرز للأذهان
بعزمة شيحان الفؤاد مصمم يقوم به أقصى الوجود ويقعد مشيئته ما شاءه الله إنه إذا هم فالحكم الإلهي يسعد كتائبه مشفوعة بملائك ترادفها في كل حال وترفد وما ذاك إلا نية خلصت له فليس له فيما سوى الله مقصد إذا خطبت راياته وسط محفل ترى قمم الأعداء في الترب تسجد وإن نطقت بالفصل فيهم سيوفه أقر بأمر الله من كان يجحد معيد علوم الدين بعد ارتفاعها ومبدي علوم لم تكن قبل تعهد وباسط أنوار الهداية في الورى وقد ضم قرص الشمس في الغرب ملحد وقد كان ضوء الشمس عند طلوعها يغان بأكنان الضلال ويغمد فما زال يجلو عن مطالعها الصدا ويبرزها بيضاء والجو أسود جزى الله عن هذا الأنام خليفة به شربوا ماء الحياة فخلدوا وحياه ما دامت محاسن ذكره على مدرج الأيام تتلى وتنشد لمصحف عثمان الشهيد وجمعه تبين أن الحق بالحق يعضد تحامته أيدي الروم بعد انتسافه وقد كاد لولا سعده يتبدد فما هو إلا أن تمرس صارخ بدعوته العليا فصين المبدد وجاء ولي الثأر يرغب نصره فلباه
مشاعرها الأجسام والروح أمركم ومنكم لها يرضى المقام المخلد فلله حج واعتمار وزورة أتتنا ولم يبرحك بالغرب مشهد ولله سبع نيرات تقارنت بها فئة الإسلام تحمى وتسعد إذا لم يكن إلا فناءك عصمة فماذا الذي يرجو القصي المبعد فدم للورى غيثا وعزا ورحمة فقربك في الدارين منج ومسعد وزادت بك الأعياد حسنا وبهجة كأنك للأعياد زي مجدد ولا زلت للأيام تبلي جديدها وعمرك في ريعانه ليس ينفد ثم إنهم أدام الله سبحانه تأييدهم ووصل سعودهم لما أرادوا من المبالغة في تعظيم المصحف المذكور واستخدام البواطن والظواهر فيما يجب له من التوقير والتعزير شرعوا في انتخاب كسوته وأخذوا في اختيار حليته وتأنقوا في استعمال أحفظته وبالغوا في استجادة أصونته فحشروا له الصناع المتقنين والمهرة المتفننين ممن كان بحضرتهم العلية أو سائر بلادهم القريبة والقصية فاجتمع لذلك حذاق كل صناعة ومهرة كل طائفة
تترقى فوق معارجهم وتتخلص كالشهاب الثاقب وراء موالجهم وتنيف على ما ظنوه الغاية القصوى من لطيف مدارجهم فسلكوا من عمل هذه الأمثلة كل شعب ورأبوا من منتشرها كل شعب وأشرفوا عند تحقيقها وإبراز دقيقها على كل صعب فكانت منهم وقفة كادت لها النفس تيأس عن مطلبها والخواطر تكر راجعة عن خفي مذهبها حتى أطلع الله خليفته في خلقه وأمينه المرتضى لإقامة حقه على وجه انقادات فيه تلك الحركات بعد اعتياصها وتخلصت أشكالها عن الاعتراض على أحسن وجوه خرصها ألقوا ذلك - أيدهم الله بنصره وأمدهم بمعونته ويسره ! - إلى المهندسين والصناع فقبلوه أحسن القبول وتصوروه بأذهانهم فرأوه على مطابقة المأمول فوقفهم حسن تنبيهه مما جهلوه على طور غريب من موجبات التعظيم وعلموا أن الفضل لله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وسيأتي بعد هذا إشارة إلى تفصيل تلك الحركات المستغربة والأشكال المونقة
واتقاده وأشبهه الروض المزخرف غب سماء أقلعت عن إمداده وأتى هذا الصوان الموصوف رائق المنظر آخذا بمجامع القلب والبصر مستوليا بصورته الغريبة على جميع الصور يدهش العقول بهاء ويحير الألباب رواء ويكاد يعشي الناظر تألقا وضياء فحين تمت خصاله واستركبت أوصاله وحان ارتباطه بالمصحف العظيم واتصاله رأوا - أدام الله تأييدهم وأعلى كلمتهم ! - مما رزقهم الله تعالى من ملاحظة الجهات والإشراف على جميع الثنيات أن يتلطف في وجه يكون به هذا الصوان المذكور
والصدور على محفوظ أفكارها مكعب الشكل سام في الطول حسن الجملة والتفصيل
الله تعالى ! - فبدئ ببنائه وتأسيس قبلته في العشر الأول من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة وكمل منتصف شعبان المكرم من العام المذكور على أكمل الوجوه وأغرب الصنائع وأفسح المساحة وأبعد البناء والنجارة وفيه من شمسيات الزجاج ودرجات المنبر والمقصورة ما لو عمل في السنين العديدة لاستغرب تمامه فكيف في هذا الأمد اليسير الذي لم يتخيل أحد من الصناع أن يتم فيه فضلا عن بنائه وصليت فيه صلاة الجمعة منتصف شعبان المذكور ونهضوا - أدام الله سبحانه تأييدهم ! - عقب ذلك لزيادة البقعة المكرمة والروضة المعظمة بمدينة تينملل أدام الله رفعتها فأقاموا بها بقية شعبان المكرم وأكثر شهر رمضان المعظم وحملوا في صحبتهم المصحف العزيز ومعه مصحف الإمام المهدي المعلوم رضي الله تعالى عنه في التابوت الموصوف إذ كان قد صنع له غرفة في أعلاه وأحكمت فيه إحكاما كمل به معناه واجتمع في مشكاته فعاد النور إلى مبتداه وختم القرآن العزيز في مسجد الإمام المعلوم
] أستودع الله أهل قرطبة حيث وجدت الحياء والكرما والجامع الأعظم العتيق ولا زال مدى الدهر مأمنا حرما وقال أبو الربيع بن سالم حدثني بذلك أبو الحسن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري قال أنشدني أبو محمد بن عطية لنفسه فذكرهما بعد أن قال إنه لما أزمع القاضي أبو محمد بن عطية الارتحال عن قرطبة قصد المسجد الجامع وأنشدني البيتين انتهى وقال ابن عطية أيضا رحمه الله تعالى [ البسيط ] بأربع فاقت الأمصار قرطبة وهن قنطرة الوادي وجامعها هاتان ثنتان والزهراء ثالثة والعلم أكبر شيء وهو رابعها وقد تقدم إنشادنا لهذين البيتين من غير نسبتهما لأحد من أخبار الوزير أبي المغيرة بن حزم 124 من أخبار الوزير أبي المغيرة بن حزم ومما يدخل في أخبار الزاهرة من غير ما قدمناه ما حكاه عن نفسه الوزير
الكاتب أبو المغيرة بن حزم قال نادمت يوما المنصور بن أبي عامر في منية السرور بالزاهرة ذات الحسن النضير وهي جامعة بين روضة وغدير فلما تضمخ النهار
القلب فكرة فتكلم الحب على لساني وبرح الشوق بكتماني والعفو مضمون لديك عند المقدرة والصفح معلوم منك عند المعذرة ثم بكت فكأن دمعها در تناثر من عقد أو طل تساقط من ورد وأنشدت أذنبت ذنبا عظيما فكيف منه اعتذاري والله قدر هذا
الرشيد ما هذا ضعي الإبريق من يدك ففعلت فقال لها والله لئن لم تصدقيني لأقتلنك فقالت يا سيدي أشار إلي كأنه يقبلني فأنكرت ذلك عليه فالتفت إلى المأمون فنظر إليه كأنه ميت لما داخله من الجزع والخجل فرحمه وضمه إليه وقال يا عبد
ترجمة الوزير أبي المغيرة بن حزم وأبو المغيرة بن حزم قال في حقه في المطمح
ما أنصفت في جنب توضح إذ قرت ضيف الوداد بلابلا وشجونا أضحى الغرام قطين ربع فؤاده إذ لم يجد بالرقمتين قطينا وله [ المنسرح ] لما رأيت الهلال منطويا في غرة الفجر قارن الزهره شبهته والعيان يشهد لي بصولجان انثنى لضرب كره ترجمة أبي عامر بن شهيد 127 ترجمة أبي عامر بن شهيد وأبو عامر بن شهيد المذكور قال
إن الكريم إذا نابته مخمصة أبدى إلى الناس ريا وهو ظمآن يحني الضلوع على مثل اللظى حرقا والوجه غمر بماء البشر ريان وهو مأخوذ من قول الرضي [ الكامل ] ما إن رأيت كمعشر صبروا عزا على الأزلات والأزم بسطوا الوجوه وبين أضلعهم حر الجوى ومآلم الكلم وله أيضا [ البسيط ] كلفت بالحب حتى لو دنا أجلي لما وجدت لطعم الموت من ألم كلا الندى والهوى قدما ولعت به ويلي من الحب أو ويلي من الكرم وأخبرني الوزير أبو الحسين بن سراج - وهو بمنزل ابن شهيد - وكان من البلاغة في مدى غاية البيان ومن الفصاحة في أعلى مراتب التبيان وكنا نحضر مجلس شرابه
ذنبها وهي متنقبة خائفة ممن يرقبها مترقبة وأمامها طفل لها كأنه غصن آس أو ظبي يمرح في كناس فلما وقعت عينها على أبي عامر ولت سريعة وتولت مروعة خيفة أن يشبب بها أو يشهرها باسمها فلما نظرها قال قولا فضحها به وشهرها [ المتقارب ] وناظرة تحت طي القناع دعاها إلى الله بالخير داعي سعت خفية تبتغي منزلا لوصل التبتل والانقطاع فجاءت تهادى كمثل الرؤوم تراعي غزالا بروض اليفاع وجالت بموضعنا جولة فحل الربيع بتلك البقاع أتتنا تبختر في مشيها فحلت بواد كثير السباع وريعت حذارا على طفلها فناديت يا هذه لا تراعي غزالك تفرق منه الليوث وتفزع منه كماة المصاع فولت وللمسك في ذيلها على الأرض خط كظهر الشجاع انتهى المقصود منه استيلاء المعتمد بن عباد على قرطبة 129 استيلاء المعتمد بن عباد على قرطبة رجع - ومما
الوزراء والكتاب بالزهراء في يوم قد غفل عنه الدهر فلم يرمقه بطرف ولم يطرقه بصرف أرخت به المسرات عهدها وأبرزت له الأماني خدها ونهدها وأرشفت فيه لماها وأباحت للزائرين حماها وما زالوا ينتقلون من قصر إلى قصر ويبتذلون الغصون بجنى وهصر ويتوقلون في تلك الغرفات ويتعاطون الكؤوس بين تلك الشرفات حتى استقروا بالروض من بعد ما قضوا من تلك الآثار أوطارا ووفروا بالاعتبار قطارا فحلوا منها في درانك ربيع مفوفة بالأزهار مطرزة بالجداول والأنهار والغصون تختال في أدواحها وتتثنى في أكف أرواحها وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها وانقراض أترابها وأطرابها والوهى بمشيدها لاعب وعلى كل جدار غراب ناعب وقد محت الحوادث ضياءها وقلصت ظلالها وأفياءها وطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت وفاحت من شذاهم وتأرجت أيام نزلوا خلالها وتفيؤوا ظلالها وعمروا حدائقها وجناتها ونبهوا الآمال من سناتها وراعوا الليوث في آجامها وأخجلوا الغيوث عند انسجامها فأضحت ولها بالتداعي تلفع واعتجار ولم يبق من آثارها إلا نؤي وأحجار قد وهت قبابها وهرم شبابها وقد يلين الحديد ويبلى على طيه الجديد فبينما هم يتعاطونها صغارا وكبارا ويديرونها أنسا واعتبارا إذا برسول المعتمد قد وافاهم برقعة
قد طلعتم بها شموسا صباحا فاطلعوا عندنا بدورا مساء فساروا إلى قصر البستان بباب العطارين فألفوا مجلسا قد حار فيه الوصف واحتشد فيه اللهو والقصف وتوقدت نجوم مدامه وتأودت قدود خدامه وأربى على الخورنق والسدير وأبدى صفحة البدر من أزرار المدير فأقاموا ليلتهم ما عراهم نوم ولا عداهم من طيب اللذات سوم وكانت قرطبة منتهى أمله وكان روم أمرها أشهى عمله وما زال يخطبها بمداخلة أهليها ومواصلة واليها إذ لم يكن في منازلتها قائد ولم يكن لها إلا حيل ومكايد لاستمساكهم بدعوة خلفائها وأنفتهم من طموس رسوم الخلافة وعفائها وحين اتفق له تملكها وأطلعه فلكها وحصل في قطب دائرتها ووصل إلى تدبير رياستها وإدارتها قال [ البسيط ] من للملوك بشأو الأصيد البطل هيهات جاءتكم مهدية الدول خطبت قرطبة الحسناء إذ منعت من جاء يخطبها بالبيض والأسل وكم غدت عاطلا حتى عرضت لها فأصبحت في سري الحلي والحلل عرس الملوك لنا في قصرها عرس كل الملوك بها في مأتم الوجل فراقبوا عن قريب لا أبا لكم هجوم ليث بدرع البأس مشتمل ولما انتظمت في سلكه واتسمت بملكه أعطى ابنه الظافر زمامها وولاه نقضها وإبرامها فأفاض فيها نداه وزاد على أمده ومداه وجملها بكثرة حبائه واستقل بأعبائها على فتائه ولم يزل فيها آمرا
وهيهات كم من ملك كفنوه في دمائه ودفنوه بذمائه وكم من عرش ثلوه وكم من عزيز ملك أذلوه إلى أن ثار فيها ابن عكاشة ليلا وجر إليها حربا وويلا فبرز الظافر منفردا عن كماته عاريا من حماته وسيفه في يمينه وهاديه في الظلماء نور جبينه فإنه كان غلاما قد بلله الشباب بأندائه وألحفه الحسن بردائه فدافعهم أكثر ليله وقد منع منه تلاحق رجله وخيله حتى أمكنتهم منه عثرة لم يقل لها لعا ولا استقال منها ولا سعى فترك ملتحفا في الظلماء تحت نجوم السماء معفرا في وسط أكماء تحرسه الكواكب بعد المواكب ويستره الحندس بعد السندس فمر بمصرعه سحرا أحد أئمة الجامع المغلسين فرآه وقد ذهب ما كان عليه ومضى وهو أعرى من الحسام المنتضى فخلع رداءه عن منكبيه ونضاه وستره به سترا أقنع المجد به وأرضاه وأصبح لا يعلم رب تلك الصنيعة ولا يعرف فتشكر له يده الرفيعة فكان المعتمد إذا تذكر صرعته وسعر الحزن لوعته رفع بالعويل نداءه وأنشد ولم أدر من ألقى عليه رداءه ولما كان من الغد حز رأسه ورفع على سن رمح وهو يشرق كنار على علم ويرشق نفس كل ناظر بألم فلما رمقته الأبصار وتحققته الحماة والأنصار رموا أسلحتهم وسووا للفرار
ثاره ونصب الحبائل لوقوع ابن عكاشة وعثاره وعدل عن تأبينه إلى البحث عن مفرقه وجبينه فلم تحفظ له فيه قافية ولا كلمة للوعته شافية إلا إشارته إليه في تأبين أخويه المأمون والراضي المقتولين في أول النائرة والفتنة الثائرة انتهى وقد رأيت أن أزيد على ما تقدم - مما قصدت جلبه في هذا الموضع - نبذة من كلام الفتح في ذكر منتزهات قرطبة وغيرها من بلاد الأندلس ووصف مجالس الأنس التي كانت بها مما تنشرح له الأنفس ووقع ذكر غير قرطبة والزهراء لهما تبعا ولا يخلو ذلك من عبرة بحال من جعل في اللهو مصيفا ومرتبعا ثم طواه الدهر طي السجل ومحا آثاره التي كانت تسمو وتجل وما قصدنا علم الله غير الاعتبار بهذه الأخبار لا الحث على الحرام وتسهيل القصد إليه والمرام والأعمال بالنيات والله سبحانه كفيل بفضله وكرمه ببلوغ الأمنيات وتعويضنا عن هذه النعم الفانيات بالنعم الباقيات السنيات وصف المتنزهات من موشحة ابن الوكيل 135 وصف المتنزهات من موشحة ابن الوكيل ومن أغرب ماوقفت عليه موشحة لابن الوكيل دخل فيها على أعجاز نونية ابن زيدون وهي غدا منادينا محكما فينا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا بحر الهوى يغرق من فيه جهده عام وناره تحرق من هم أو قد هام وربما يقلق فتى عليه نام قد غير الأجسام
وعند ما قد جاد بالوصل أو قد كاد أضحى التنائي بديلا من تدانينا بحق ما بيني وبينكم إلا أقررتم عيني فتجمعوا الشملا فالعين بالبين بفقدكم أبلى جديد ما قد كان بالأهل والإخوان ومورد اللهو صاف من تصافينا يا جيرة بانت عن مغرم صب لعهده خانت من غير ما ذنب ما هكذا كانت عوائد العرب لا تحسبوا البعدا يغير العهدا إذ طالما غير النأي المحبينا يا نازلا بالبان بالشفع والوتر والنمل والفرقان والليل إذا يسر وسورة الرحمن والنحل والحجر هل حل في الأديان أن يقتل الظمآن من كان صرف الهوى والود يسقينا يا سائل القطر عرج على الوادي من ساكني بدر وقف بهم نادي عسى صبا تسري لمغرم صادي إن شئت تحيينا بلغ تحيتنا من لو على البعد حيا كان يحيينا وافت لنا أيام كأنها أعوام وكان لي أعوام كأنها أيام
تمر كالأحلام بالوصل لي لو دام والكأس مترعة حثت مشعشعة فينا الشمول وغنانا مغنينا وصف المتنزهات من رجع إلى ما يتعلق بقرطبة 136 وصف المتنزهات من رجع إلى ما يتعلق بقرطبة رجع إلى ما يتعلق بقرطبة - قال الوزير أبو بكر بن القبطرنة
بالحير ما عبست هناك غمامة إلا تضاحك إذخرا وجليلا يوما وليلا كان ذلك كله سحرا وهذا بكرة وأصيلا لا أدركت تلك الأهلة دهرها نقصا ولا تلك النجوم أفولا وصف حير الزجالي بقرطبة 137 وصف حير الزجالي بقرطبة قال أبو نصر الحير الذي ذكره هنا هو حير الزجالي خارج باب اليهود بقرطبة الذي يقول فيه أبو عامر بن شهيد لقد أطلعوا عند باب اليهو د شمسا أبى الحسن أن تكسفا تراه اليهود على بابها أميرا فتحسبه يوسفا وهذا الحير من أبدع المواضع وأجملها وأتمها حسنا
على قبره [ البسيط ] يا صاحبي قم فقد أطلنا أنحن طول المدى هجود فقال لي لن نقوم منها ما دام من فوقنا الصعيد تذكر كم ليلة نعمنا في ظلها والزمان عيد وكم سرورا همى علينا سحابه ثرة تجود فخيره مسرعا تقضى وشؤمه حاضر عتيد حصله كاتب حفيظ وضمه صادق شهيد يا ويلنا إن تنكبتنا رحمة من بطشه شديد يا رب عفوا فأنت مولى قصر في أمرك العبيد انتهى وصف المتنزهات من ترجمة بني القبطرنة 138
نصر في حقهم ما صورته هم للمجد كالأثافي وما منهم إلا موفور القوادم والخوافي إن ظهروا زهروا وإن تجمعوا تضوعوا وإن نطقوا صدقوا ماؤهم صفو وكل واحد منهم لصاحبه كفو أنارت بهم نجوم المعالي وشموسها ودانت لهم أرواحها ونفوسها ولهم النظام الصافي الزجاجة المضمحل العجاجة انتهى ثم قال وبات منهم أبو محمد مع أخويه في أيام صباه واستطابته جنوب الشباب وصباه بالمنية المسماة بالبديع وهو روض كان المتوكل يكلف بموافاته ويبتهج بحسن صفاته ويقطف رياحينه وزهره ويقف عليه إغفاءه وسهره ويستفزه الطرب متى ذكره وينتهز فرص الأنس فيه روحاته وبكره ويدير حمياه على ضفة نهره ويخلع سره فيه لطاعة جهره ومعه أخواه فطاردوا اللذات حتى
في رياض تعانق الزهر فيها مثل ما عانق الخليل الخليلا ثم استيقظ أخوهما أبو الحسن وقد هب من غفلة الوسن فقال [ البسيط ] يا صاحبي ذرا لومي ومعتبتي قم نصطبح خمرة من خير ما ذخروا وبادرا غفلة الأيام واغتنما فاليوم خمر ويبدو في غد خبر وساق صاحب البدائع هذه القصة فقال وذكر الفتح ما هذا معناه أنه خرج الوزراء بنو القبطرنة إلى المنية المسماة بالبديع وهو روض قد اخضرت مسارح نباته واخضلت مساري هباته ودمعت بالطل عيون أزهاره وذاب على زبرجده بلور أنهاره وتجمعت فيها المحاسن المتفرقة وأضحت مقل الحوادث عنه مطرقة فخيول النسيم تركض في ميادينه فلا تكبو ونصول السواقي تحسم أدواء الشجر فلا تنبو والزروع قد نقبت وجه الثرى وحجبت الأرض عن العيون فما تبصر ولا ترى وكان المتوكل بن الأفطس يعده غاية الأرب ويعده مشهدا للطرب ومدفعا للكرب فباتوا فيه ليلتهم يديرون لمع لهب يتمنون
كبيرهم أبو محمد مستعجلا وأنشد مرتجلا يا شقيقي - إلخ فانتبه أخوه أبو بكر لصوته وتخوف لذهاب ذلك الوقت وفوته وأنبه أخاهما أبا الحسن وهو يرتجل يا أخي قم تر النسيم - إلى آخره فانتبه أخوه لكلامه دافعا لذة منامه للذة قيامه وارتجل يا صاحبي ذرا - إلخ انتهى بين أبي بكر بن القبطرنة والوزير ابن اليسع 140 بين أبي بكر بن القبطرنة والوزير ابن اليسع قال الفتح ولما أمر المعتمد بن عباد أبا بكر بن القبطرنة السابق الذكر مع الوزير أبي الحسين بن سراج بلقاء ذي الوزارتين أبي الحسن بن اليسع القائد والمشي إليه والنزول عليه تنويها بمقدمه وتنبيها على حظوته لديه وتقدمه فصارا إلى بابه فوجداه مقفرا من حجابه فاستغربا خلوه من خول وظن كل واحد منهما وتأول ثم أجمعا على قرع الباب ورفع ذلك الارتياب فخرج وهو دهش وأشار إليهما بالتحية ويده ترتعش وأنزلهما خجلا ومشى بين أيديهما عجلا وأشار إلى شخص فتوارى بالحجاب وبارى الريح سرعة في الاحتجاب فقعدا ومقلة الخشف ترمق من خلال السجف فانصرفا عنه وعزما أن يكتبا إليه بما فهما منه فكتبا
فراجعهما في الحين بقطعة منها [ الهزج ] أيا أسفي على حال سلبت بها من الظرف ويا لهفي على جهلي بضيف كان من صنف ولأهل الأندلس في مغاني الأنس الحسان ما لا يفي به لسان وصف المتنزهات من ترجمة ابن حسداي 142 وصف المتنزهات من ترجمة ابن حسداي وقال الفتح في ترجمة الوزير أبي الفضل بن حسداي بعد كلام ما صورته فمنها هذه القطعة التي أطلعها نيرة وترك الألباب بها متحيرة في يوم كان عند المقتدر بالله مع علية قد اتخذوا المجد حلية والأمل قد سفر لهم عن محياه وعبق لهم عن رياه فصافحه الكل منهم وحياه وشمس الراح دائرة على فلك الراح والملك ينشر فضله وينصر وابله وطله يسدي العلاء ويهب الغنى والغناء فصدحت الغواني وأفصحت المثالث والمثاني بما استنزل من مرقب الوقار وسرى في النفوس مسرى العقار [ البسيط ] توريد خدك للأحداق لذات عليه من عنبر الأصداغ لامات نيران هجرك للعشاق نار لظى لكن وصلك إن واصلت جنات كأنما الراح والراحات تحملها بدور تم وأيدي الشرب هالات حشاشة ما تركنا الماء يقتلها إلا لتحيا بها منا حشاشات
قد كان في كأسها من قبلها ثقل فخف إذ ملئت منها الزجاجات عهد للبنى تقاضته
محلك أعزك الله في طي الجوانح ثابت وإن نزحت الدار وعيانك في أحناء الضلوع باد وإن شحط المزار فالنفس فائزة منك بتمثل الخطار بأوفر الحظ والعين نازعة إلى إن تمتع من لقائك بظفر اللحظ فلا عائدة أسبغ بردا ولا موهبة أسوغ وردا من تفضلك بالخفوف إلى مأنس يتم بمشاهدتك التئامه ويتصل بمحاضرتك انتظامه ولك فضل الإجمال
وقال ابن ظافر في وصف هذا المجلس حاذيا حذو الفتح ما صورته حضر الأستاذ أبو محمد بن السيد أبو محمد بن السيد عند المأمون ابن ذي النون في بعض منتزهاته في وقت طاب نعيمه وسرت بالسعود نجومه والروض قد أجاد وشيه راقمه والماء قد جرت بين الأعشاب أراقمه وثم بركة مملوة كأنها مرآة مجلوة قد اتخذت سباع الصفر
باطله ونفقت محالاته وطبقت أرضه وسماءه استحالاته فليثه كأسد وذئبه مستأسد وأضغاثه تنسر وبغاثه قد استنسر فلا استراحة إلا في معاطاة حميا ومواخاة وسم المحيا وقد كان ابن عمار ذهب مذهب وفضضه بالإبداع وذهبه حين دخل سرقسطة ورأى غباوة أهلها وتكاثف جهلها وشاهد منهم من لا يعلم معنى ولا فصلا وواصل من لا
حتى ترى زهر النجوم كأنها حول المجرة ربرب في مشرب والليل منفجر يطير غرابه والصبح يطرده بباز أشهب ثم قال الفتح بعد كلام كثير ما صورته ودخل - يعني ابن السيد - سرقسطة أيام المستعين وهي جنة الدنيا وفتنه المحيا ومنتهى الوصف وموقف السرور القصف ملك نمير البشاشة كثير الهشاشة وملك أبهج الفناء أرج الأرجاء يروق المجتلى ويفوق النجم المعتلى وحضرة منسابة الماء منجابة السماء يبسم زهرها
أناخت بنا في أرض شنتمرية هواجس ظن خان والظن خوان وشمنا بروقا للمواعيد أتعبت نواظرنا دهرا ولم يهم تهتان فسرنا وما نلوي على متعذر إذا وطن أقصاك آوتك أوطان ولا زاد إلا ما انتشته من الصبا أنوف وحازته من الماء أجفان رحلنا سوام الحمد منها لغيرها فلا ماؤها صدا ولا النبت سعدان إلى ملك حاباه بالمجد يوسف وشاد له البيت الرفيع سليمان إلى مستعين بالإله مؤيد له النصر حزب والمقادير
فيا مستعينا مستغاثا لمن نبا به وطن يوما وعضته أزمان كسوتك من نظمي قلادة مفخر يباهي بها جيد المعالي ويزدان وإن قصرت عما لبست فربما تجاور در في النظام ومرجان معان حكت غنج الحسان كأنني بهن حبيب أو بطليوس بغدان إذا غرست كفاك غرس مكارم بأرضي أحنتك الثنا منه أغصان وقال في وصف مجلس لأبي عيسى بن لبون أحضر إليه ابن السيد منوها بقدره ما صورته وأحضره إلى مجلس نام عنه الدهر وغفل وقام لفرط أنسه واحتفل قد بانت صروفه ودنت من الزائر قطوفه وقال هل بنا إلى
إليه المسرات أبكارها وفارقت إليه الطير أوكارها فقال يصف [ الزجر ] لم تر عيني مثله ولا ترى أنفس في نفسي وأبهى منظرا إذا تردى وشيه المصورا من حوك صنعاء وحوك عبقرا ونسج قرقوب ونسج تسترا خلت الربيع الطلق فيه نورا كأنما الإبريق حين قرقرا قد أم لثم الكأس حين فغرا وحشية ظلت تناغي جؤذرا ترضعه الدر ويرنو حذرا كأنما مج عقيقا أحمرا أوفت من رياه مسكا أذفرا أو عابد الرحمن يوما ذكرا فنم مسكا ذكره وعنبرا الظافر الملك الذي من ظفرا بقربه نال العلاء الأكبرا لو أن كسرى راءه أو قيصرا هلل إكبارا له وكبرا تبدي سماء الملك منه قمرا إذا حجاب المجد عنه سفرا يا أيها المنضي المطايا بالسرى تبغى غمام المكرمات الممطرا وصف المتنزهات من ترجمة ابن العطار 149 وصف المتنزهات من ترجمة ابن العطار وقال الفتح في ترجمة الأديب أبي القاسم بن العطار ما صورته هو أحد أدباء إشبيلية ونحاتها العامرين لأرجاء المعارف وساحاتها لولا مواصلة راحاته وتعطيل بكره
زهر ولا يحفل بملام ولا يتنقل إلا في طاعة غلام ناهيك من رجل مخلوع العنان في ميدان الصبابة مغرم بالحسان غرام يزيد بحبابة لا تراه إلا في ذمة انهماك ولا تلقاه إلا في لمة انهتاك رافعا لرايات الهوى فارعا لثنيات الجوى لا يقفر فؤاده من كلف ولا يبيت إلا رهن تلف أكثر خلق الله تعالى علاقة وأحضرهم لمشهد خلاقة مع جزالة تحرك السكون وتضحك الطير في الوكون وقد أثبت له مما ارتجله في أوقات أنسه وساعاته ونفث به أثناء زفراته ولوعاته فمن ذلك ما قاله في يوم ركب فيه النهر على عادات انكشافه وارتضاعه لثغور اللذات وارتشافه [ الطويل ] عبرنا سماء النهر والجو مشرق وليس لنا إلا الحباب نجوم وقد ألبسته الأيك برد ظلالها وللشمس في تلك البرود رقوم وله فيه [ الطويل ] مررنا بشاطي النهر بين حدائق بها حدق الأزهار تستوقف الحدق وقد نسجت كف النسيم مفاضة عليه وما غير الحباب لها حلق وله [ الخفيف ] هبت الريح بالعشي فحاكت زردا للغدير ناهيك جنه وانجلى البدر بعد هدء فصاغت كفه للقتال منه أسنه
وقوله [ الكامل ] لله بهجة منزه ضربت به فوق الغدير رواقها الأنسام فمع الأصيل النهر درع سابغ ومع الضحى يلتاح منه حسام وله [ الكامل ] ما كالعشية في
ومستعجم لا يبين ولا يوضح متنمر تنمر الليث متشمر كالبطل الفارس عند العيث وقد أفاض على نفسه درعا تضيق بها الأسنة ذرعا وهو يريد استشارة المؤتمن في التوجه إلى موضع بعثه إليه ووجهه وكل من صده عنه نهره ونجهه حتى وصل إلى مكان انفراده ووقف بإزاء وساده فلما وقعت عين ابن عمار عليه أشار بيده إليه وقربه واستدناه وضمه إليه كأنه تبناه وأراد أن يخلع عنه ذلك الغدير وأن يكون هو الساقي والمدير فأمره المؤتمن بخلعه وطاعة أمره وسمعه فنضاه عن جسمه وقام يسقي على
وأورد هذه القصة صاحب البدائع بقوله حضر أبو المطرف بن عبد العزيز عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجو فيه أشقر برقه ورمى بنبل ودقه وتحملت الرياح فيه أوقار السحاب على أعناقها وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها والرياح قد أشرقت نجومها في بروج الراح وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفعت بغيوم الأقداح ومديرها قد ذاب ظرفا فكاد يسيل من إهابه وأخجل خدها حسنا فتظلل بعرق حبابه إذا بفتى رومي من فتيان المؤتمن قد أقبل متدرعا كالبدر اجتاب سحابا والخمر قد اكتست حبابا وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع قد كان عول
إياك بادرة الوغى من فارس ما صورته يضع السنان على العذار الأملس ولابن عمار الرائية المشهورة في مدح المعتضد عباد والد المعتمد وهي [ الكامل ] أدر المدامة فالنسيم قد انبرى والنجم قد صرف العنان عن السرى والصبح قد أهدى لنا كافوره لما استرد الليل منا العنبرا والروض كالحسنا كساه زهره وشيا وقلده نداه جوهرا أو كالغلام زها بورد خدوده خجلا وتاه بآسهن معذرا روض كأن النهر فيه معصم صاف أطل على رداء أخضرا وتهزه ريح الصبا فتخاله سيف ابن عباد يبدد عسكرا عباد المخضر نائل كفه والجو قد لبس الرداء الأغبرا ملك إذا ازدحم الملوك بمورد ونحاه لا يردون حتى يصدرا أندى على الأكباد من قطر الندى وألذ في الأجفان من سنة الكرى يختار إذ يهب الخريدة كاعبا والطرف أجرد والحسام مجوهرا قداح زند المجد لا ينفك من نار الوغى إلا إلى نار القرى لا خلق أفرى من شفار حسامه إن كنت شبهت المواكب أسطرا أيقنت أني من ذراه بجنة لما سقاني من نداه الكوثرا وعلمت حقا
قاد الكتائب كالكواكب فوقهم من لأمهم مثل السحاب كنهورا من كل أبيض قد تقلد أبيضا عضبا وأسمر قد تقلد أسمرا ملك يروقك خلقه أو خلقه كالروض يحسن منظرا أو مخبرا أقسمت باسم الفضل حتى شمته فرأيته في بردتيه مصورا وجهلت معنى الجود حتى زرته فقرأته في راحتيه مفسرا فاح الثرى متعطرا بثنائه حتى حسبنا كل ترب عنبرا وتتوجت بالزهر صلع هضابه حتى ظننا كل هضب قيصرا هصرت يدي غصن الغنى من كفه وجنت به روض السرور منورا حسبي على الصنع الذي أولاه أن أسعى بجد أو أموت فأعذرا يا أيها الملك الذي حاز العلا وحباه منه بمثل حمدي أنورا السيف أفصح من زياد خطبة في الحرب إن كانت يمينك منبرا ما زلت تغني من عنا لك راجيا نيلا وتفني من عتا وتجبرا حتى حللت من الرياسة محجرا رحبا وضمت منك طرفا أحورا شقيت بسيفك أمة لم تعتقد إلا اليهود وإن تسمت بربرا أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم لما رأيت الغصن يعشق مثمرا وصبغت درعك من دماء كماتهم لما علمت الحسن يلبس أحمرا وإليكها كالروض زارته الصبا وحنا عليه الظل حتى نورا نمقتها وشيا بذكرك مذهبا وفتقتها مسكا بحمدك أذفرا من ذا ينافحني وذكرك مندل أوردته من نار فكري
من ترجمة ابن وهبون وقال في ترجمة عبد الجليل بن وهبون المرسي ركب بإشبيلية زورقا في نهرها الذي لا تدانيه الصراة ولا يضاهيه الفرات في ليلة تنقبت في ظلمتها ولم يبد وضح في دهمتها وبين أيديهم شمعتان قد انعكس شعاعهما في اللجة وزاد في تلك البهجة فقال [ المنسرح ] كأنما الشمعتان إذ سمتا خدا غلام محسن الغيد وفي حشا النهر من شعاعهما طريق نار الهوى إلى كبدي وكان معه غلام البكري معاطيا للراح وجاريا في ميدان ذلك المراح فلما جاء عبد الجليل بما جاء وحلى للإبداع الجوانب والأرجاء حسده على ذلك الارتجال وقال بين البطء والاستعجال [ الكامل ] أعجب بمنظر ليلة ليلاء تجنى بها اللذات فوق الماء في زورق يزهو بغرة أغيد يختال مثل البانة الغيناء قرنت يداه الشمعتين بوجهه كالبدر بين النسر والجوزاء والتاح تحت الماء ضوء جبينه كالبرق يخفق في غمام سماء وصف الفتح لمجلس أنس بمنية المنصور 154 وصف الفتح لمجلس أنس بمنية المنصور وقال الفتح رحمه الله دعيت يوما إلى منية المنصور بن أبي عامر ببلنسية
وهي منتهى الجمال ومزهى الصبا والشمال على وهي بنائها وسكنى الحوادث برهة بفنائها فوافيتها والصبح قد ألبسها قميصه والحسن قد شرح بها عويصه وبوسطها
منتزهنا بالأمس وما لقينا فيه من الأنس فقال لي ما بهجة موضع قد بان قطينه وذهب وسلب الزمان بهجته وانتهب وباد فلم يبق إلا رسمه ومحاه الحدثان فما كاد يلوح رسمه عهدي به عند ما فرغ من تشييده وتنوهي في تنسيقه وتنضيده وقد استدعاني
مرتشف ولا زال للمجد يتملكه والسعد يحمله فلكه أما وقد وافقتني أيامه
علينا قادم وخدود سقاتها قد اكتست من سناها وقدودهم تتهيل علينا بجناها ونحن بين سكر وصحو وإثبات لها ومحو وإصاخة إلى بم وزير والتفاتة إلى ملك ووزير إلى أن ولى النهار فحيانا وأقبل الليل المميت فأحيانا فوصلنا بلهو وقصف وعيش يتجاوز كل وصف فكأن يومنا مقيم أو كأن ليلنا من الظلام عقيم ولما سل الفجر حسامه وأبدى لعبوس الليل ابتسامه وجاء يختال اختيالا ويمحو من بقايا الليل نيالا قمنا نتنادب للمسير وكلنا في يد النشوة أسير فسرنا والملك الأجل يقدمنا والأيام تخدمنا فلا زالت الأيام به زاهية وعن سواه لاهية ما عمر وكرا عقاب وكان للشهور غرر وأعقاب انتهى وصف المتنزهات من ترجمة الراضي بالله بن عباد 157 وصف المتنزهات من ترجمة الراضي بالله بن عباد وقال الفتح في ترجمة الراضي بالله أبي خالد يزيد بن المعتمد بن عباد بعد كلام ما صورته وأخبرني المعتد بالله أن أباه المعتمد وجهه - يعني أخاه الراضي - إلى شلب واليا وكانت ملعب شبابه ومألف أحبابه
الشباب كمائمه وكان يعتدها مشتهى آماله ومنتهى أعماله إلى بهجة جنباتها وطيب نفحاتها وهباتها والتفاف خمائلها وتقلدها بنهرها مكان حمائلها وفيها يقول ابن اللبانة [ الطويل ] أما علم المعتد بالله أنني بحضرته في جنة شقها نهر وما هو نهر أعشب النبت حوله ولكنه سيف حمائله خضر فلما صدر عنها وقد حسنت آثاره في تدبيرها وانسدلت رعايته على صغيرها وكبيرها نزل المعتمد عليه مشرفا لأوبته ومعرفا بسمو قدره لديه ورتبته وأقام يومه عنده مستريحا وجرى في ميدان الأنس بطلا مشيحا وكان واجدا على الراضي فجلت الحميا أفقه ومحت غيظه عليه وحنقه وصورته له عين حنوه وذكرته بعده فجنح إلى دنوه وبين ما استدعى وأوفى مالت بالمعتمد نشوته وأغفى وألقاه صريعا في منتداه طريحا في منتهى مداه فأقام تجاهه يرتقب انتباهه وفي أثناء ذلك صنع شعرا أتقنه وجوده فلما استيقظ أنشده [ المتقارب ] ألآن تعود
فمثلك - وهو الذي لم نجد ه عاد بحلم على من جهل وصف المتنزهات من ترجمة المتوكل على الله بن الأفطس 158 وصف المتنزهات من ترجمة المتوكل على الله بن الأفطس وقال في ترجمة المتوكل على الله ابن الأفطس ما صورته وأخبرني الوزير أبو محمد بن عبدون أن الأرض توالى عليها الجدب بحضرته حتى جفت مذانبها واغبرت جوانبها وغرد المكاء في غير روضه وخاض الياس بالناس أعظم خوضه وأبدت الخمائل عبوسها وشكت الأرض للسماء بوسها فأقلع المتوكل عن الشرب واللهو ونزع ملابس الخيلاء والزهو وأظهر الخشوع وأكثر السجود والركوع إلى أن غيم الجو وانسجم النو وصاب الغمام وتزنمت الحمام وسفرت الأنوار وزهت النجود والأغوار واتفق أن وصل أبو يوسف المغني والأرض قد لبست زخارفها ورقم الغمام مطارفها وتتوجت الغيطان والربا وأرجت نفحات الصبا والمتوكل ما فض لتوبته ختاما ولا قوض عن قلبه منها خياما فكتب إليه [ المتقارب ] ألم أبو يوسف والمطر فياليت شعري ما ينتظر ولست
وركضي فيها جياد المدام محثوثة بسياط الوتر فبعث إليه مركوبا وكتب معه [ المتقارب ] بعثت إليك جناحا فطر على خفية من عيون البشر على ذلل من نتاج البروق وفي ظلل من نسيج الشجر فحسبي ممن نأى من دنا ومن غاب كان فدى من حضر فوصل القصبة المطلة على البطحاء المزرية بمنازل الروحاء فأقام منها حيث قال عدي بن زيد يصف صنعاء [ الكامل ] في قباب حول دسكرة حولها الزيتون قد ينعا ومر لهم من السرور يوم ما مر لذي رعين ولا تصور قبل عيونهم لعين وأخبرني أنه سايره إلى شنترين قاصية أرض الإسلام السامية الذرا والأعلام التي لا يروعها صرف ولا يفزعها طرف لأنها متوعرة المراقى معقرة للراقي متمكنة الرواسي والقواعد من ضفة نهر استدار بها استدارة القلب بالساعد قد أطلت على خمائلها إطلال العروس من منصتها واقتطعت من الجو أكثر من حصتها فمروا بألبش قطر سالت به جداوله واختالت فيه خمائله فما يجول الطرف منه إلا في حديقة
أو بقعة أنيقة فتلقاهم ابن مقانا قاضي حضرته وأنزلهم عنده وأورى لهم بالمبرة زنده وقدم لهم طعاما واعتقد قبوله منا وإنعاما وعندما طعموا قعد القاضي بباب المجلس رقيبا لا يبرح وعين المتوكل حياء منه لا تجول ولا تمرح فخرج أبو محمد
في بعض أيامه بروض مفتر المباسم معطر الرياح النواسم قد صقل الربيع حوذانه وأنطق بلبله وورشانه وألحف غصونه برودا مخضرة وجعل إشراقه للشمس ضرة وأزاهره تتيه على الكواكب وتختال في خلع الغمائم السواكب فارتاح إلى الكون به بقية
والفصول فقال أحد الحاضرين إني لأعجب من قعود ابن عمار عن هذا المضمار مع ميله إلى السماع وكلفه بمثل هذا الاجتماع فقال ذو الرياستين إن الجواب تعذر فلذا اعتذر لأنه يعاني قوله ويعلله ويرويه ولا يرتجله ويقوله في المدة والساعات
مرينا نداك الغمر فانهل صيبا كما سكبت وطفاء أو سكب البحر وجاء الربيع الطلق يبدي غضارة فحيتك منه الشمس والروض والنهر إلى أن قال ثم وجه فيه إلى روضة قد أرجت نفحاتها وتدبجت ساحاتها وتفتحت كمائمها وأفصحت حمائمها وتجردت جداولها كالبواتر ورمقت أزهارها بعيون فواتر وأقاموا يعملون أكواسهم ويشتملون
من كل ثنية ويواصلهم بكل أمنية فسكر أحد الحاضرين سكرا مثل له ميدان الحرب وسهل عليه مستوعر الطعن والضرب فقلب مجلس الأنس حربا وقتالا وطلب الطعن وحده والنزالا فقال ذو الرياستين نفس الذليل تعز بالجريال فيقاتل الأقران دون قتال كم من جبان ذي افتخار باطل بالراح تحسبه من الأبطال كبش الندي تخمطا وعرامة وإذا تشب الحرب شاة نزال وصف المتنزهات من ترجمة ابن طاهر 163 وصف المتنزهات من ترجمة ابن طاهر وقال في ترجمة ابن طاهر ما صورته وجئته يوما وقد وقفت بباب الحنش فقال لي من أين فأعلمته ووصفت له ما عاينته من حسنه وتأملته فقال لي
به المكانس وفي أذنيه قرطان كأنهما كوكبان وهو يتأود تأود غصن البان والمتنبي يقول [ الرمل ] معشر الناس بباب الحنش بدر تم طالع في غبش علق القرط على مسمعه من عليه آفة العين خشي فلما رآني أمسك وسبح كأنه قد تنسك وصف المتنزهات من ترجمة ابن عمار 163 وصف المتنزهات من ترجمة ابن عمار وقال في ترجمة ابن عمار ما صورته وتنزه بالدمشق بقرطبة وهو قصر شيده بنو أمية بالصفاح والعمد وجروا من إتقانه إلى غاية وأمد وأبدع بناؤه ونمقت ساحته وفناؤه واتخذوه ميدان مراحهم ومضمارا لانشراحهم وحكوا به قصرهم بالمشرق وأطلعوه كالكوكب الثاقب المشرق فحله أبو بكر بن عمار على أثر بوسه وابتسم له دهره بعد عبوسه والدنيا قد أعطته عفوها وسقته صفوها وبات فيه مع لمة من أتباعه ومتفيئي رباعه وكلهم يحييه بكاس ويفديه
عنه وصرفوه وأجروه على إرادتهم وصرفوه وذهبوا سقفه وفضضوها ورخموا أرضه وروضوها فبات به والسعد يلحظه بطرفه والروض يحييه بعرفه فلما استنفد كافور الصباح مسك الغسق ورصع آبنوس الظلام نضار الشفق قال مرتجلا كل قصر بعد الدمشق يذم إلخ انتهى وصف المتنزهات من ترجمة أبي عيسى بن لبون 164 وصف المتنزهات من ترجمة أبي عيسى بن لبون وقال في ترجمة ذي الوزارتين أبي عيسى بن لبون أخبرني الوزير أبو عامر بن الطويل أنه كان بقصر مربيطر بالمجلس الشرقي منها والبطحاء قد لبست زخرفها ودبج الغمام مطرفها وفيها حدائق ترنو عن مقل نرجسها وتبث طيب تنفسها والجلنار قد لبس أردية الدماء وراع أفئدة الندماء فقال [ الكامل ] قم يا نديم أدر علي القرقفا أو ما ترى زهر الرياض مفوفا فتخال محبوبا مدلا وردها وتظن نرجسها محبا مدنفا والجلنار دماء قتلى معرك والياسمين حباب ماء قد طفا إلى
لو كنت تشهد يا هذا عشيتنا والمزن يسكب أحيانا وينحدر والأرض مصفرة بالشمس كاسية أبصرت تبرا عليه الدر ينتثر وترجمة أبي بكر بن رحيم الجزء 1 وصف المتنزهات من ترجمة ابن مالك 166 وصف المتنزهات من ترجمة ابن مالك وقال في ترجمة الوزير أبي محمد بن مالك بعد كلام له فيه وإنشاده بيتيه
البديعين اللذين هما [ الخفيف ] لا تلمني بأن طربت لشجو يبعث الأنس فالكريم طروب ليس شق الجيوب حقا علينا إنما الشأن أن تشق القلوب ما صورته وخرجت من إشبيلية مشيعا لأحد زعماء المرابطين فألفيته معه مسايرا له في جملة من شيعه فلما انصرفنا مال بنا إلى معرس أمير المسلمين أدام الله تعالى تأييده الذي ينزله عند حلوله بإشبيلية وهو موضع مستبدع كأن الحسن فيه مودع ما شئت من نهر ينساب انسياب الأراقم وروض كما وشت البرد يد راقم وزهر يحسد المسك رياه ويتمنى الصبح أن يسم به محياه فقطف غلام وسيم من غلمانه نورة ومد يده إلي وهي في كفه فعزم على أن أقول بيتا في وصفه فقلت [ الطويل ] وبدر بدا والطرف مطلع حسنه وفي كفه من رائق النور كوكب
ومعنا الوزير أبو محمد بن مالك وجماعة من أعيان تلك الممالك فحللنا بضيعة لم ينحت المحل أثلها ولم ترمق العيون مثلها وجلنا بها في أكناف جنات ألفاف فما شئت من دوحة لفاء وغصن يميس كمعطفي هيفاء وماء يناسب في جداوله وزهر يضمخ بالمسك راحة متناوله ولما قضينا من تلك الحدائق أربا وافتنا منها أترابا عربا ملنا إلى موضع المقيل ونزلنا بمنازه تزري بمنازه جذيمة مع مالك وعقيل وعند وصولنا بدا لي من أحد الأصحاب تقصير في المبرة عرض لي منه تكدير لتلك العين الثرة فأظهرت التثاقل أكثر ذلك اليوم ثم عدلت عنهم إلى الاضطجاع والنوم فما استيقظت إلا والسماء قد نسخ صحوها وغيم جوها والغمام منهمل والثرى من سقياه ثمل فبسطني بتحفيه وأبهجني يبر له لم يزل يتمه ويوفيه وأنشدني [ البسيط ] يوم تجهم فيه الأفق وانتثرت مدامع الغيث في خد الثرى هملا رأى وجومك فاربدت طلاقته مضاهيا لك
حضرة غرناطة فحللنا قرية على ضفة نهر أحسن من شاذمهر تشقها جداول كالصلال ولا ترمقها الشمس من تكاثف الظلال ومعنا جملة من أعيانها فأحضرنا من أنواع الطعام وأرانا من فرط الإكرام والإنعام ما لا يطاق ولا يحلو ويقصر عن بعضه العد وفي أثناء مقامنا بدا لي من ذلك الفتى المذكور ما أنكرته فقابلته بكلام اعتقده وملام أحقده فلما كان من الغد لقيت منه اجتنابه ولم أر منه ما عهدته من الإنابة فكتبت إليه مداعبا فراجعني بهذه القطعة [ الطويل ] أتتني أبا نصر نتيجة خاطر سريع كرجع الطرف في الخطرات فأعربت عن وجد كمين طويته بأهيف طاو فاتر اللحظات غزال أحم المقلتين عرفته بخيف منى للحين أو عرفات رماك فأصمى والقلوب زمية لكل كحيل الطرف ذي فتكات وظن بأن القلب منك محصب فلباك من عينيه بالجمرات تقرب بالنساك في كل منسك وضحى غداة النحر بالمهجات وكانت له جيان مثوى فأصبحت ضلوعك مثواه بكل فلاة يعز علينا أن تهيم فتنطوي كئيبا على الأشجان والزفرات فلو قبلت للناس
بعقب سيل أعاد الديار آثارا وقضى عليها وهيا وانتثارا [ الطويل ] ألا عرس الإخوان في ساحة البلى وما رفعوا غير القبور قبابا فدمع كما سح الغمام ولوعة كما أضرمت ريح الشمال شهابا إذا استوقفتني في الديار عشية تلذذت فيها جيأة وذهابا أكر بطرفي في معاهد فتية ثكلتهم بيض الوجوه شبابا فطال وقوفي بين وجد وفرقة أنادي رسوما لا تحير جوابا وأمحوا جميل الصبر طورا بعبرة أخط بها في صفحتي كتابا وقد درست أجسامهم وديارهم فلم أر إلا أعظما ويبابا وحسبي شجوا أن أرى الدار بلقعا خلاء وأشلاء الصديق ترابا ولقد أحلني بهذه الديار المندوبة وهي كعهدها في جودة مبناها وعودة سناها في ليلة اكتحلنا ظلامها إثمدا ومحونا بها من نفوسنا كمدا ولم يزل ذلك الأنس يبسطه والسرور ينشطه حتى نشر لي ما طواه وبث مكتوم لوعته وجواه وأعلمني بلياليه فيها مع أترابه وما قضى بها من أطرابه انتهى ما وقع عليه اختياري من كلام أبي نصر الفتح بن عبيد الله رحمه الله تعالى في وصف بعض منتزهات الأندلس البديعة ورياضها المونقة المريعة وصف المتنزهات
من ترجمة ابن عطية 169 وصف المتنزهات من ترجمة ابن عطية وقال رحمه الله تعالى في ترجمة الفقيه القاضي الحافظ أبي محمد عبد الحق بن عطية صاحب التفسير الشهير بعد كلام كثير ما صورته ومررنا في إحدى نزهنا بمكان مقفر وعن المحاسن مسفر وفيه بكير نرجس كأنه عيون مراض يسيل وسطه ماء رضراض بحيث لا حس إلا للهام ولا أنس إلا ما يتعرض للأوهام فقال [ الرمل ] نرجس باكرت منه روضة لذ قطع الدهر فيها وعذب حثت الريح بها خمر حيا رقص النبت لها ثم شرب
فغدا يسفر عن وجنته نوره الغض ويهتز طرب خلت لمع الشمس في مشرقه لهبا يخمد منه في لهب وبياض الطل في صفرته نقط الفضة في خط الذهب وسيأتي إن شاء الله تعالى كثير من وصف بلاد الأندلس ومنتزهاتها وما اشتملت عليه من المحاسن في كلام غير واحد ممن يجري ذكره في هذا الكتاب وخصوصا أديب زمانه غير مدافع من اعترف له أهل الشرق بالسبق وأهل المغرب بالإبداع المغرب النور أبو الحسن علي بن سعيد العنسي فإنه لما اتصل بمصر ودخلها اشتاق إلى تلك المواطن الأندلسية الرائقة ووصفها بالقصائد والمقطوعات الفائقة وقد أسلفنا أيضا فيما مر من هذا الكتاب بعض ما يتعلق بمحاسن الأندلس فليراجع في محله من هذا الكتاب وصف المتنزهات من ترجمة
ما مثاله وهذه كنت لو خيرت أختار وكذا رأيت بخط الحافظ التنسي والأول رأيته بخط العلامة الوانشريشي رحمهما الله تعالى ! وحكي أن الخليلي لما قدم من الأندلس رسولا إلى سلطان المغرب أبي عنان فارس ابن السلطان أبي الحسن المريني أنشد بحضرة السلطان المذكور أبيات ابن خفاجة هذه كالمفتخر ببلاد الأندلس فقال السلطان أبو عنان كذب هذا الشاعر يشير إلى كونه جعلها جنة الخلد وأنه لو خير لاختارها على ما في الآخرة وهذا خروج من ربقة الدين ولا أقل من الكذب والإغراق وإن جرت عادة الشعراء بذلك الإطلاق فقال الخليلي يا مولانا بل صدق الشاعر لأنها موطن جهاد ومقارعة للعدو وجلاد والنبي صلى الله عليه و سلم الرؤوف الودود الرحيم العطوف يقول الجنة تحت ظلال السيوف فاستحسن منه هذا الكلام ورفع عن قائل الأبيات الملام
وكمامة حدر الصباح قناعها عن صفحة تندى من الأزهار في أبطح رضعت ثغور أقاحه أخلاف كل غمامة مدرار نثرت بحجر الأرض فيه يد الصبا درر الندى ودراهم النوار وقد ارتدى غصن النقا وتقلدت حلي الحباب سوالف الأنهار فحللت حيث الماء صفحة ضاحك جذل وحيث الشط بدء عذار والريح تنفض بكرة لمم الربا والطل ينضح أوجه الأشجار متقسم الألحاظ بين محاسن من ردف رابية وخضر قرار وأراكة سجع الهديل بفرعها والصبح يسفر عن جبين نهار هزت له أعطافها ولربما خلعت عليه ملاءة الأنوار وقوله [ الكامل ] سقيا ليوم قد أنخت بسرحة ريا تلاعبها الرياح فتلعب سكرى يغنيها الحمام فتنثني طربا ويسقيها الغمام فتشرب يلهو فترفع للشبيبة راية فيه ويطلع للبهارة كوكب والروض وجه أزهر والظل فر ع أسود والماء ثغر أشنب في حيث أطربنا الحمام عشية فشدا يغنينا الحمام المطرب واهتز عطف الغصن من طرب بنا وافتر عن ثغر الهلال المغرب فكأنه والحسن مقترن به طوق على برد الغمامة مذهب في فتية تسري فينصدع
سمح الخيال على النوى بمزار والصبح يمسح عن جبين نهار فرفعت من ناري لضيف طارق يعشو إليها من خيال طاري ركب الدجى أحسن به من مركب وطوى السرى أحسن به من ساري وأناخ حيث دموع عيني منهل يروي وحيث حشاي موقد نار وسقى فأروى غلة من ناهل أورى بجانحتيه زند أوار يلوي الضلوع من الولوع لخطرة من شيم برق أو شميم عرار والليل قد نضح الندى سرباله فانهل دمع الطل فوق صدار مترقب رسل الرياح عشية بمساقط الأنواء والأنوار ومجر ذيل غمامة لبست به وشي الحباب معاطف الأنهار خفقت ظلال الأيك فيه ذوائبا وارتج ردفا مائج التيار ولوى القضيب هناك جيدا أتلعا قد قبلته مباسم النوار باكرته والغيم قطعة عنبر مشبوبة والبرق لفحة نار والريح تلطم فيه أرداف الربا لعبا وتلثم أوجه الأزهار ومنابر الأشجار قد قامت بها خطباء مفصحة من الأطيار في فتية جنبوا العجاجة ليلة ولربما سفروا عن الأقمار ثار القتام بهم دخانا وارتمى زند الحفيظة منهم بشرار شاهدت من هيئاتهم وهباتهم إشراف أطواد وفيض بحار من كل منتقب بوردة خجلة كرما ومشتمل بثوب وقار في عمة خلعت عليه للمة وذؤابة قرنت بها لعذار ضافي رداء المجد طماح العلا طامي
جرار أذيال المعالي والقنا حامي الحقيقة والحمى والجار طرد القنيص بكل قيد طريدة زجل الجناح مورد الأظفار ملتفة أعطافه بحبيرة مكحولة أجفانه بنضار يرمى به الأمل القصي فينثني مخضوب مرأى الظفر والمنقار وبكل نائي الشوط أشدق أخزر طاوي الحشى حالي المقلد ضاري يفتر عن مثل النصال وإنما يمشي على مثل القنا الخطار مستقريا أثر القنيص على الصفا والليل مشتمل بشملة قار من كل مسود تلهب طرفه ترميك فحمته بشعلة نار ومورس السربال يخلع قيده عن نجم رجم في سماء غبار يستن في سطر الطريق وقد عفا قدما فتقرأ أحرف الآثار عطف الضمور سراته فكأنه والنقع يحجبه هلال سرار ولرب رواغ هنالك أنبط ذلق المسامع أطلس الأطمار يجري على حذر فيجمع بسطه يهوي فينعطف انعطاف سوار ممتد حبل الشاو يعسل رائغا فيكاد يفلت أيدي الأقدار متردد يرمي به خوف الردى كرة تهادتها أكف قفار ولرب طيار خفيف قد جرى فشلا بجار خلفه طيار من كل قاصرة الخطا مختالة مشي الفتاة تجر فضل إزار مخضوبة المنقار تحسب أنها كرعت على ظمإ بكأس عقار ولو استجارت منهما بحمى أبي يحيى لأمنها أعز جوار خدم القضاء مراده فكأنما ملكت يداه أعنة الأقدار وعنا الزمان لأمره فكأنما أصغى الزمان به إلى أمار وجلا الإمارة في رفيف نضارة جلت الدجى في حلة الأنوار
والماء في حلي الحباب مقلد زرت عليه جيوبها الأشجار وقال ملتزما ما لا يلزم [ الكامل ] خذها إليك وإنها لنضيرة طرأت إليك قليلة النظراء حملت وحسبك بهجة من نفحة عبق العروس وخجلة العذراء من كل وارسة القميص كأنما نشأت تعل
يا رب وضاح الجبين كأنما رسم العذار بصفحتيه كتاب تغرى بطلعته العيون مهابة وتبيت تعشق عقله الألباب خلعت عليه من الصباح غلالة تندى ومن شفق المساء نقاب فكرعت من ماء الصبا في منهل قد شف عنه من القميص سراب في حيث للريح الرخاء تنفس أرج وللماء الفرات عباب ولرب غض الجسم مد بحوضه سبحا كما شق السماء شهاب ولقد أنخت بشاطئيه يهزني طربا شباب راقني وشراب وبكيت دجلته يضاحكني بها مرحا حبيب شاقني وحباب تجلى من الدنيا عروس بيننا حسناء ترشف والمدام رضاب ثم ارتحلت وللنهار ذؤابة شيباء تخضب والنهار خضاب تلوي معاطفي الصبابة والصبا والليل دون الكاشحين حجاب وقال [ البسيط ] مر بنا وهو بدر تم يسحب من ذيله سحابا بقامة تنثني قضيبا وغرة تلتظي شهابا يقرأ والليل مدلهم لنور إجلائه كتابا ورب ليل شهرت فيه أزجر من جنحه غرابا حتى إذا الليل مال سكرا وشق سرباله وجابا
وحام من سدفه غراب طالت به سنه فشابا ازددت من لوعتي خبالا فحث من غلتي شرابا وما خطا قادما فوافى حتى انثنى ناكصا فآبا وبين جفني بحر شوق يعب في وجنتي عبابا قد شب في وجهه شعاع وشب في قلبي التهابا وروضة طلقة حياء غناء مخضرة جنابا ينجاب عن نورها كمام يحط عن وجهه نقابا بات بها مبسم الأقاحي يرشف من طلها رضابا ومن خفوق البروق فيها ألوية حمرت خضابا كأنهاأنمل وراد تحصر قطر الحيا حسابا وله أيضا [ البسيط ] رحلت عنكم ولي فؤاد تنقض أضلاعه حنينا أجود فيكم بعلق دمع كنت به قبلكم ضنينا يثور في وجنتي جيشا وكان في جفنه كمينا كأنني بعدكم شمال قد فارقت منكم يمينا وقال [ الطويل ] فيا لشجا قلب من الصبر فارغ ويا لقذى طرف من الدمع ملآن ونفس إلى جو الكنيسة صبة وقلب إلى أفق الجزيرة حنان
تعوضت من واها بآه ومن هوى بهون ومن إخوان صدق بخوان وما كل بيضاء تروق بشحمة وما كل مرعى ترتعيه بسعدان فيا ليت شعري هل لدهري عطفة فتجمع أوطاري علي وأوطاني ميادين أوطاري ولذة لذتي ومنشأ تهيامي وملعب غزلاني كأن لم يصلني فيه ظبي يقوم لي لماه وصدغاه براحي وريحاني فسقيا لواديهم وإن كنت إنما أبيت لذكراه بغلة ظمآن فكم يوم لهو قد أدرنا بأفقه نجوم كؤوس بين أقمار ندمان وللقضب والأطيار ملهى بجزعه فما شئت من رقص على رجع ألحان وبالحضرة الغراء غر علقته فأحببت
ونقلي أقاح الثغر أو سوسن الطلى ونرجسه الأجفان أو وردة الخد إلى أن سرت في جسمه الكاس والكرى ومالا بعطفيه فمال على عضدي فأقبلت أستهدي لما بين أضلعي من الحر ما بين الضلوع من البرد وعاينته قد سل من وشي برده فعانقت منه السيف سل من الغمد ليان مجسن واستقامة قامة وهزة أعطاف ورونق إفرند أغازل منه الغصن في مغرس النقا وألثم وجه الشمس في مطلع السعد فإن لم يكنها أو تكنه فإنه أخوها كما قد الشراك من الجلد تسافر كلتا راحتي بجسمه فطورا إلى خصر وطورا إلى نهد فتهبط من كشحيه كفي تهامة وتصعد من نهديه أخرى إلى نجد وقال أيضا [ الكامل ] ورداء ليل بات فيه معانقي طيف ألم بظبية الوعساء فجمعت بين رضابه وشرابه وشربت من ريق ومن صهباء ولثمت في ظلماء ليلة وفرة شفقا
القسم الأول فيما يتعلق بالأندلس من الأخبار المترعة
الأكواب والأنباء المنتحية صوب الصواب الرافلة من الإفادة في سوابغ الأثواب وفيه بحسب القصد والاختصار وتحري التوسط في بعض المواضع دون الاختصاروقال ها لثمي نقلا ولا تشم إلا عرفي الأطيبا وأقطف بخدي الورد والآس والن لا تحفل بزهر الربا أسعفته غصنا غدا مثمرا ومن جناه ميسه قربا قد كنت ذا نهي وذا إمرة حتى تبدى فحللت الحبا ولم أصن عرضي في حبه ولم أطع فيه الذي أنبا حتى إذا ما قال لي حاسد ترجوه والكوكب أن يقربا أرسلت من شعري سحرا له ييسر المرغب والمطلبا وقال عرفه بأني سأح فما أجتنب المكتبا فزاد في شوقي له وعده ولم أزل مقتعدا مرقبا أمد طرفي ثم أثنيه من خوف أخي التنغيص أن يرقبا أصدق الوعد وطورا أرى تكذيبه والحر لن يكذبا أتى ومن سخره بعد ما أيأس بطء كاد أن يغضبا قبلت في الترب ولم أستطع من حصر اللقيا سوى مرحبا هنأت ربعي إذ غدا هالة وقلت يا من لم يضع أشعبا بالله مل معتنقا لاثما فمال كالغصن ثنته الصبا فقال ما ترغب قلت ائتد أدركت إذ كلمتني المرغبا فقال لا مرغب عن ذكر ما ترغبه
وستأتي هذه القصيدة بكمالها في جملة من نظم ابن سعيد المذكور وقال يتشوق إلى إشبيلية وهي حمص الأندلس [ الكامل ] أن الخليج وغنت الورقاء هل برحا إذ هاجت
صفو تكدر بالتحرك ليته ما زال لكن لا يرد قضاء إن الفراق هو المنية إنما أهل النوى ماتوا وهم أحياء لولا تذكر لذة طابت لنا بذرى الجزيرة حيث طاب هواء وجرى النسيم على الخليج معطرا وتبددت في الدوحة الأنداء ما كابدت نفسي أليم تفكر ألوى به عن جفني الإغضاء يا نهر حمص لا عدتك مسرة ماء يسيل لديك أم صهباء كل النفوس تهش فيك كأنما جمعت عليك شتاتها الأهواء ودي إليك مع الزمان مجدد ما إن يحول تذكر وعناء ولو أنني لم أحي ذكرا للذي أوليته ما كان في حياء ما كنت أطمع في الحياة لو أنني أيقنت أن لا يسترد لقاء غيري إذا ما بان حان وإنما أبقى حياتي حين بنت رجاء وسيأتي إن شاء الله تعالى لهذا النمط وغيره مزيد أثناء الكتاب بحسب ما اقتضته المناسبة والله تعالى المرجو في حسن المتاب وهو سبحانه
0 كلامه يحقق قول القائل كما تدين تدان ورحم الله تعالى ابن مالك فلقد أحيا من العلم رسوما دراسة وبين معالم طامسة وجمع من ذلك ما تفرق وحقق ما لم يكن تبين منه ولا تحقق ورحم شيخه ثابت بن الخيار فإنه كان من الثقات الأخيار وهو أبو المظفر ثابت بن محمد بن يوسف بن الخيار الكلاعي - بضم الكاف على ما كان يضبط بيده فيما حكاه ابن الخطيب في الإحاطة - وأصله من لبلة ويعد في أهل جيان وتوفي بغرناطة سنة 628 وكان أبو حيان يغض من هذا الكتاب ويقول ما فيه من الضوابط والقواعد حائد عن مهيع الصواب والسداد وكثيرا ما يشير إلى ذلك في شرحه المسمى منهج السالك ومن غضه منه بالنظم في ملأ من الناس من جملتهم شيخه بهاء الدين ابن النحاس والأقسراني يجاريه مقتفيا له ومتأسيا في تسويد القرطاس
( ألفية ابن مالك ... مطموسة المسالك )
( وكم بها مشتغل ... أوقع في المهالك )
ولا تغتر أنت بهذا الغرر فإنه ما كل سحاب أبرق مطر ولا كل عود أورق ثمر وقيل معاوضة للقوم وتنبيها لهم مما هم فيه من النوم
( ألفية ابن مالك ... مشرقة المسالك )
( وكم بها من مشغل ... علا على الأرائك )
وما أحسن قول ابن الوردي في هذا المعنى
( يا عائباألفية ابن مالك ... وغائبا عن حفظها وفهمها )
( أما تراها قد حوت فضائلا ... كثيرة فلا تجر في ظلمها )
( وازجر لمن جادل من يحفظها ... برابع وخامس من اسمها )
يعني صه فإنه عند الاستقلال بمعنى اسكت انتهى ملخصا
0
( لا يعرفون تسترا ... السكر عندهم مباح )
( متهتكون لدى المنى ... وفسادهم فيها صلاح )
( ساقيهم متبذل ... هل يمنع الماء القراح )
( غصن يميل به الصبا ... ردته طوع الراح راح )
( طوع الأماني كل ما ... يأتي به فهو اقتراح )
( ما إن نبالي إن بدا ... أن لا يلوح لنا الصباح )
( ما زلت أرشف ثغره ... وعليه من عضدي وشاح )
( والقلب يهفو طائرا ... ولعا ولا يخشى افتضاح )
( ولو اننا نخشاه كان ... لنا من الظلما جناح )
( لكننا في عصبة ... ما في تهتكهم جناح )
( لا ينكرون سوى ثقيل ... لا يميل به مزاح )
( أفنى الذي قد جمعوه ... الكأس والحدق الملاح )
وقلت بمراكش
( قم هاتها لاح الصباح ... ) ما العيش إلا الاصطباح )
( مع فتية ما دأبهم ... إلا المروءة والسماح ) جربتهم فوجدتهم ... ما للمنى عنهم براح )
( يثنيهم نحو الصبا ... نقر المثاني والمراح )
( ما نادموا شخصا فكا ن لهم ... بخدمته استراح )
( بل يعرفون مكانه ... فله إذا شاء اقتراح )
( هم يتعبون وضيفهم ... ما دام عندهم يراح )
( ما إن يملون النزيل ... وبالرضى منه السراح )
الباب الخامس
في التعريف ببعض من رحل من الأندلسيين إلى بلاد المشرق الزاكية العرار والبشام ومدح جماعة من أولئك الأعلام ذوي العقول الراجحة والأخلام لشامة وجنة الأرض دمشق الشام وما اقتضته المناسبة من كلام أعيانها وأرباب بيانها ذوي السؤدد والاحتشام ومخاطباتهم للفقير المؤلف حين حلها سنة ألف وسبع وثلاثين للهجرة( وشاهد برق فضلها المبين وشام ... )
اعلم جعلني الله تعالى وإياك ممن له للمذهب الحق انتحال أن حصر أهل الارتحال لا يمكن بوجه ولا بحال ولا يعلم ذلك على الإحاطة إلا علام الغيوب الشديد المحال ولو أطلقنا عنان الأقلام فيمن عرفناه فقط من هؤلاء الأعلام لطال الكتاب وكثر الكلام ولكنا نذكر منهم لمعا على وجه التوسط من غير إطناب داع إلى الملال واختصار مؤد للملام فنقول مستمدين من واهب العقول
1 - منهم عالم الأندلس عبد الملك بن حبيب السلمي وقد عرف به القاضي عياض في المدارك وغير واحد ورأيت في بعض التواريخ أن تواليفه
بلغت ألفا ومن أشهرها كتاب الواضحة في مذهب مالك كتاب كبير مفيد ولابن حبيب مذهب في كتب المالكية مسطور وهو مشهور عند علماء المشرق وقد نقل عنه الحافظ ابن حجر وصاحب المواهب وغيرهما
ومن نظمه يخاطب سلطان الأندلس :
( لا تنس لا ينسك الرحمن عاشورا ... واذكره لا زلت في التاريخ مذكورا )
( قال النبي صلاة الله تشمله ... قولا وجدنا عليه الحق والنورا )
( فيمن يوسع في إنفاق موسمه ... أن لا يزال بذاك العام ميسورا )
وهذا البيت الثالث نسيت لفظه فكتبته بالمعنى والوزن إذ طال عهدي به والله تعالى أعلم
وقال الفتح في المطمح الفقيه العالم أبو مروان عبد الملك بن حبيب السلمي أي شرف لأهل الأندلس ومفخر وأي بحر بالعلوم يزخر خلدت منه الأندلس فقيها عالما أعاد مجاهل جهلها معالما وأقام فيها للعلوم سوقا نافقة ونشر منها ألوية خافقة وجلا عن الألباب صدأ الكسل وشحذها شحذ الصوارم والأسل وتصرف في فنون العلوم وعرف كل معلوم وسمع بالأندلس وتفقه حتى صار أعلم من بها وأفقه ولقي أنجاب مالك وسلك من مناظرتهم أوعر المسالك حتى أجمع عليه الاتفاق ووقع على تفضيله الإصفاق ويقال إنه لقي مالكا أخر عمره وروى عنه عن سعيد
ابن المسيب أن سليمان بن داود صلى عليهما وسلم كان يركب إلى بيت المقدس فيتغدى به ثم يعود فيتعشى بإصطخر وله في الفقه كتاب الواضحة ومن أحاديثه غرائب قد تحلت بها للزمان نحور وترائب
وقال محمد بن لبابة فقيه الأندلس عيسى بن دينار وعالمها عبد الملك ابن حبيب وراويها يحيى بن يحيى وكان عبد الملك قد جمع إلى علم الفقه والحديث علم اللغة والإعراب وتصرف في فنون الآداب وكان له شعر يتكلم به متبحرا ويرى ينبوعه بذلك متفخرا وتوفي بالأندلس في رمضان سنة 238 وهو ابن ثلاث وخمسين سنة بعدما جال في الأرض وقطع طولها والعرض وجال في أكنافها وانتهى إلى أطرافها
ومن شعره قوله
( قد طاح أمري والذي أبتغي ... هين على الرحمن في قدرته )
( ألف من الحمر وأقلل بها ... لعالم أربى على بغيته )
( زرياب قد أعطيها جملة ... وحرفتي أشرف من حرفته )
وكتب إلى الزجالي رسالة وصلها بهذه الأبيات
كيف يطيق الشعر من أصبحت ... حالته اليوم كحال الغرق )
( والشعر لا يسلس إلا على ... فراغ قلب واتساع الخلق )
( فاقنع بهذا القول من شاعر ... يرضى من الحظ بأذني العنق )
( فضلك قد بان عليه كما ... بان لأهل الأرض ضوء الشفق )
( أما ذمام الود مني لكم ... فهو من المحتوم فيما سبق )
ولم يكن له علم بالحديث يعرف به صحيحه من معتله ولا يفرق بين مستقيمه ومختله وكان غرضه الإجازة وأكثر رواياته غير مستجارة قال ابن وضاح قال إبراهيم بن المنذر أتى صاحبكم الأندلس يعني عبد الملك هذا بغرارة مملوءة فقال لي هذا علمك قلت له نعم ما قرأ علي منه حرفا ولا قرأته عليه وحكى أنه قال في دخوله المشرق وحضر مجلس بعض الأكابر فازداره من رآه
( لا تنظرن إلى جسمي وقلته ... وأنظر لصدري وما يحوي من السنن )
( فرب ذي منظر من غير معرفة ... ورب من تزدريه العين ذو فطن )
( ورب لؤلؤة في عين مزبلة ... لم يلق بال لها إلا إلى زمن )
انتهى ما في المطمح الصغير
قلت أما ما ذكره من عدم معرفته بالحديث فهو غير مسلم وقد نقل عنه غير واحد من جهابذة المحدثين نعم لأهل الأندلس غرائب لم يعرفها كثير من المحدثين حتى إن في شفاء عياض أحاديث لم يعرف أهل المشرق النقاد مخرجها مع اعترافهم بجلالة حفاظ الأندلس الذين نقلوها كبقي ابن مخلد وابن حبيب وغيرهما على ما هو معلوم وأما ما ذكره عنه في الإجازة بما في الغرارة فذلك على مذهب من يرى الإجازة وهو مذهب مستفيض واعتراض من اعترض عليه إنما هو بناء على القول بمنع الإجازة فاعلم ذلك والله سبحانه الموفق
2 - ومن الراحلين من الأندلس الفقيه المحدث يحيى بن يحيى الليثي راوي الموطإ عن مالك رضي الله تعالى عنه ويقال إن أصله من برابر مصمودة وحكي أنه لما ارتحل إلى ملك لازمه فبينما هو عنده في مجلسه مع جماعة من أصحابه إذ قال قائل حضر الفيل فخرج أصحاب مالك كلهم ولم يخرج يحيى فقال له مالك ما لك لم تخرج وليس الفيل في بلادك فقال إنما جئت من الأندلس لأنظر إليك وأتعلم من هديك وعلمك ولم أكن لأنظر إلى الفيل فأعجب به مالك وقال هذا عاقل الأندلس ولذلك قيل إن يحيى هذا عاقل الأندلس وعيسى بن دينار فقيهها وعبد الملك بن حبيب عالمهما ويقال إن يحيى راويها ومحدثها وتوفي يحيى بن يحيى سنة 234 برجب وقبره يستسقى به بقرطبة وقيل إن وفاته في السنة قبلها والله تعالى أعلم
وروايته الموطأ مشهورة حتى أن أهل المشرق الآن يسندون الموطأ من روايته كثيرا مع تعدد رواة الموطأ والله أعلم وكان يحيى بن يحيى روى الموطأ بقرطبة عن زياد بن عبد الرحمن اللخمي المعروف بشبطون وسمع من يحيى بن مضر القيسي الأندلسي ثم أرتحل إلى المشرق وهو ابن ثمان وعشرين سنة فسمع من مالك بن أنس الموطأ غير أبواب في كتاب الاعتكاف شك في سماعها فأثبت روايته فيها عن زياد وذلك مما يدل على ورعه
وسمع بمصر من الليث بن سعد وبمكة من سفيان بن عيينة وتفقه
بالمدنيين والمصريين كعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم العتقي وسمع منهما وهما من أكابر أصحاب مالك بعد انتفاعه بمالك وملازمته له
وانتهت إليه الرياسة بالأندلس وبه اشتهر مذهب مالك في تلك الديار وتفقه به جماعة لا يحصون عددا وروى عنه خلق كثير وأشهر رواة الموطإ وأحسنهم رواية يحيى المذكور وكان مع أمانته ودينه معظما عند الأمراء يكنى عندهم عفيفا عن الولايات متنزها جلت رتبته عن القضاء وكان أعلى من القضاة قدرا عند ولاة الأمر بالأندلس لزهده في القضاء وامتناعه
قال الحافظ ابن حزم مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان مذهب أبي حنيفة فإنه لما ولي القضاء أبو يوسف كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى أقصى عمل إفريقية فكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه ومذهب مالك عندنا بالأندلس فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاة وكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه والناس سراع إلى الدنيا فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به على أن يحيى لم يل قضاء قط ولا أجاب إليه وكان ذلك زائدة في جلالته عندهم وداعيا إلى قبول رأيه لديهم انتهى
وذكرنا في غير هذا الموضع قولا آخر في سبب انتشار مذهب مالك بالأندلس والله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر انتهى
وقال ابن أبي الفياض جمع الأمير عبد الرحمن بن الحكم الفقهاء في
قصره وكان على جارية يحبها في رمضان ثم ندم أشد ندم فسألتهم عن التوبة والكفارة فقال يحيى تكفر بصوم شهرين متتابعين فلما بادر يحيى بهذه الفتيا سكت الفقهاء حتى خرجوا فقال بعضهم له لم لم تفت بمذهب مالك بالتخيير فقال لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود
وقال بعض المالكية إن يحيى ورى بهذا ورأى أنه لم يملك شيئا إذ هو مستغرق الذمة فلا عتق له ولا إطعام فلم يبق إلا الصيام انتهى
ولما انفصل يحيى عن مالك ووصل إلى مصر رأى ابن القاسم يدون سماعه من مالك فنشط للرجوع إلى مالك ليسمع منه المسائل التي رأى ابن القاسم يدونها فرحل رحلة ثانية فألقى مالكا عليلا فأقام عنده إلى أن مات وحضر جنازته فعاد إلى ابن القاسم وسمع منه سماعه من مالك هكذا ذكره ابن الفرضي في تاريخه وهو مما يرد الحكاية المشهورة الآن بالمغرب أن يحيى سأل مالكا عن زكاة التين فقال له لا زكاة فيها فقال إنها تدخر عندنا ونذر إن وصل إلى الأندلس أن يرسل لمالك سفينة مملوءة تينا فلما وصل أرسلها فإذا مالك قد مات انتهى
قال ابن الفرضي ولما انصرف يحيى إلى الأندلس كان إمام وقته وواحد بلاده وكان ممن اتهم بالهيج في وقعة الربض المشهورة ففر إلى طليطلة ثم استأمن فكتب له الأمير الحكم أمانا وانصرف إلى قرطبة
وقيل لم يعط أحد من أهل الأندلس منذ دخلها الإسلام ما أعطى يحيى من الحظوة وعظم القدر وجلالة الذكر
وقال ابن بشكوال إن يحيى بن يحيى كان مجاب الدعوة وإنه أخذ في سمته وهيئته ونفسه ومقعده هيئات مالك
ويحكى عنه أنه قال أخذت بركاب الليث بن سعد فأراد غلامه أن يمنعني فقال دعه ثم قال لي الليث خدمك العلم فلم تزل بي الأيام حتى رأيت مالكا انتهى
3 - ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي عيسى
قال في المطمح من بني يحيى بن يحيى الليثي وهذه ثنية علم وعقل وصحة ضبط ونقل كان علم الأندلس وعالمها الندس ولي القضاء بقرطبة بعد رحلة رحلها إلى المشرق وجمع فيها من الروايات والسماع كل مفترق وجال في آفاق ذلك الآفق لا يستقر في بلد ولا يستوطن في جلد ثم كر إلى الأندلس فسمت رتبته وتحلت بالأماني لبته وتصرف في ولايات أحمد فيها منابه واتصلت بسببها بالخليفة أسبابه وولاه القضاء بقرطبة فتولاه بسياسة محمودة ورياسة في الدين مبرمة القوى مجهودة والتزم فيها الصرامة في تنفيذ الحقوق والحزامة في إقامة الحدود والكشف عن البينات في السر والصدع بالحق في الجهر لم يستمله مخادع ولم
يكده مخاتل ولم يهب ذا كرمة ولا داهن ذا مرتبة ولا أغضى لأحد من أسباب السلطان وأهله حتى تحاموا جانبه فلم يجسر أحد منهم عليه وكان له نصيب وافر من الأدب وحظ من البلاغة إذا نظم وإذا كتب
ومن ملح شعره ما قاله عند أوبته عن غربته
( كأن لم يكن بين ولم تك فرقة ... إذا كان من بعد الفراق تلاق )
( كأن لم تؤرق بالعراقين مقلي ... ولم تمر كف الشوق ماء مآقي )
( ولم أزر الأعراب في جنب أرضهم ... بذات اللوى من رامة وبراق )
( ولم أصطبح بالبيد من قهوة الندى ... وكأس سقاها في الأزاهر ساق )
وله أيضا
( ماذا أكابد من ورق مغردة ... على قضيب بذات الجزع مياس )
( رددن شجوا شجا قلب الخلي فهل ... في عبرة ذرفت في الحب من باس )
( ذكرنه الزمن الماضي بقرطبة ... بين الأحبة في أمن وإيناس )
( هم الصبابة لولا همة ... شرفت فصيرت قلبه كالجندل القاسي ) وله أخبار تدل على رقة العراق والتغذي بماء تلك الآفاق فمنها أنه خرج إلى حضور جنازة بمقابر قريش ورجل من بني جابر كان يواخيه له منزل هناك فعزم عليه في الميل إليه وعلى أخيه فنزلا عليه فأحضر لهما طعاما وأمر جارية له بالغناء فغنت
( طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزهت بحمرة خدك التفاح )
( وإذا الربيع تنسمت أرواحه ... طابت بطيب نسيمك الأرواح )
( وإذا الحنادس ألبست ظلماءها ... فضياء وجهك في الدجى مصباح )
فكتبها القاضي في ظهر يده وخرج من عنده قال يونس بن عبد الله فلقد رأيته يكبر للصلاة على الجنازة والأبيات مكتوبة على ظهر كفه
وكان رحمه الله تعالى في غاية اللطف حكى بعض أصحابه قال ركبنا معه في موكب حافل من وجوه الناس إذ عرض لنا فتى متأدب قد خرج من بعض الأزقة سكران يتمايل فلما رأى القاضي هابه وأراد الانصراف فخانته رجلاه فاستند إلى الحائط وأطرق فلما قرب القاضي رفع رأسه وأنشأ يقول
( ألا أيها القاضي الذي عم عدله ... فأضحى به بين الأنام فريدا )
( قرأت كتاب الله تسعين مرة ... فلم أر فيه للشراب حدودا )
( فإن شئت جلدا لي فدونك منكبا ... صبورا على ريب الزمان جليدا )
( وإن شئت أن تعفو تكن لك منة ... تروح بها في العالمين حميدا )
( وإن أنت تختار الحديد فإن لي ... لسانا على هجو الزمان حديدا )
فلما سمع شعره وميز أدبه أعرض عنه وترك الإنكار عليه ومضى لشأنه انتهى ملخصا من المطمح
ورأيت بخطي في بعض مسوداتي ما صورته محمد بن عبد الله بن يحيى بن يحيى الليثي قاضي الجماعة بقرطبة سمع عم أبيه عبيد الله بن يحيى ومحمد
بن عمر بن لبابة وأحمد بن خالد ورحل من قرطبة سنة 312 ودخل مصر وحج وسمع بمكة من ابن المنذر والعقيلي وابن الأعرابي وغيرهم كان حافظا معتنيا بالآثار جامعا للسنن متصرفا في علم الإعراب ومعاني الشعر شاعرا مطبوعا وشاوره القاضي أحمد بن بقي واستقضاه الناصر عبد الرحمن بن محمد على إلبيرة وبجانة ثم ولاه قضاء الجماعة بقرطبة بعد أبي طالب سنة 326 وجمعت له مع القضاء الصلاة وكان كثيرا ما يخرج إلى الثغور ويتصرف في إصلاح ما وهى منها فاعتل في آخر خرجاته ومات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة سنة 337 ومولده سنة 284 انتهى وأظن أني نقلته من كتاب ابن الأبار الحافظ والله أعلم
4 - ومنهم عتيق بن أحمد بن عبد الباقي الأندلسي الدمشقي وفاة يكنى أبا بكر نزيل دمشق كان مشهورا بالصلاح وانتفع به جماعة من الفقراء وولد على ما قيل سنة 516 وتوفي سنة 616 بدمشق 1ودفن بمقابر الصوفية فيكون عمره على هذا مائة سنة رحمه الله تعالى ونفعنا ببركاته وبركات أمثاله
5 - ومنهم أبو إبراهيم إسماعيل بن محمد بن يوسف الأنصاري الأندلسي الأبذي الملقب في البلاد المشرقية ببرهان الدين وأبذة - بضم الهمزة وتشديد الباء الموحدة وفتحها وبعدها ذال معجمة - بلد بالأندلس سمع المذكور بمكة وغيرها من البلاد وبدمشق من الحافظ ابن طبرزذ وأم بالصخرة وكان فاضلا صالحا شاعرا توفي سنة 656 وأخبر عن بعض الأولياء المجاورين ببيت المقدس أنه سمع هاتفا يقول لما خربت القدس
( إن يكن بالشآم قل نصيري ... ثم خربت واستمر هلوكي ) فلقد أثبت الغداة خرابي ... مر العار في حياة الملوك (
هكذا رأيته بخط الصفدي في حياة ويحتمل أن يكون في جباه جمع جبهة والله أعلم ترجمة
6 - ومنهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الجماعة بقرطبة وقد قدمنا جملة من أخباره في الباب الثالث والرابع من هذا القسم وكان لا يخاف في الله لومة لائم ومن مشهور ما جرى له في ذلك قصته في أيتام أخي نجدة وحدث بها جماعة من أهل العلم والرواية وهي أن الخليفة الناصر احتاج إلى شراء دار بقرطبة لحظية من نسائه تكرم عليه فوقع استحسانه على دار كانت لأولاد زكريا أخي نجدة وكانت بقرب النشارين في الربض الشرقي منفصلة عن دوره ويتصل بها حمام له غلة واسعة وكان أولاد زكريا أخي نجدة أيتاما في حجر القاضي فأرسل الخليفة من قومها له بعدد ما طابت نفسه وأرسل ناسا أمرهم بمداخله وصي الأيتام في بيعها عليهم فذكر أنه لا يجوز إلا بأمر القاضي إذ لم يجز بيع الأصل إلا عن رأيه ومشورته فأرسل الخليفة إلى القاضي منذر في بيع هذه الدار فقال لرسوله البيع على الأيتام لا يصح إلا لوجوه منها الحاجة ومنها الوهي الشديد ومنها الغبطة فأما الحاجة فلا حاجة لهؤلاء الأيتام إلى البيع وأما الوهي فليس فيها وأما الغبطة فهذا مكانها فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما تستبين به الغبطة أمرت
وصيهم بالبيع وإلا فلا فنقل جوابه إلى الخليفة فأظهر الزهد في شراء الدار طمعا أن يتوخى رغبته فيها وخاف القاضي أن تنبعث منه عزيمة تلحق الأيتام سورتها فأمر وصي الأيتام بنقض الدار وبيع أنقاضها ففعل ذلك وباع الأنقاض فكانت لها قيمة أكثر مما قومت به للسلطان فاتصل الخبر به فعز عليه خرابها وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها فأحال الوصي على القاضي أنه أمره بذلك فأرسل عند ذلك للقاضي منذر وقال له أنت أمرت بنقض دار أخي نجدة فقال 14 له نعم فقال وما دعاك إلى ذلك قال أخذت فيها بقول الله تعالى ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) الكهف 79 ] مقوموك لم يقدروها إلا بكذا وبذلك تعلق وهمك فقد نض في أنقاضها أكثر من ذلك وبقيت القاعة والحمام فضلا ونظر الله تعالى للأيتام فصبر الخليفة عبد الرحمن على ما أتى من ذلك وقال نحن أولى من انقاد إلى الحق فجزاك الله تعالى عنا وعن أمانتك خيرا قالوا وكان على متانته وجزالته حسن الخلق كثير الدعابة فربما ساء ظن من لا يعرفه حتى إذا رام أن يصيب من دينه شعرة ثار له ثورة الأسد الضاري فمن ذلك ما حدث به سعيد ابنه قال قعدنا ليلة من ليالي شهر رمضان المعظم مع أبينا للإفطار بداره البرانية فإذا سائل يقول أطعمونا من عشائكم أطعمكم الله تعالى من ثمار الجنة هذه الليلة ويكثر من ذلك فقال القاضي إن استجيب لهذا السائل فيكم فليس يصبح منا واحد
وحكى عنه قاسم بن أحمد الجهني أنه ركب يوما لحيازة أرض محبسة في ركب من وجوه الفقهاء وأهل العدالة فيهم أبو إبراهيم اللؤلؤي ونظراؤه قال فسرنا نقفوه وهو أمامنا وأمامه أمناؤه يحملون خرائطه وذووه عليهم السكينة والوقار وكانت القضاة حينئذ لا تراكب ولا تماشي فعرض له في بعض الطريق كلاب مع مستوحمة والكلاب تلعق هنها وتدور حولها فوقف وصرف وجهه إلينا وقال ترون يا أصحابنا ما أبر الكلاب بالهن الذي تلعقه وتكرمه ونحن لا نفعل ذلك ثم لوى عنان دابته وقد أضحكنا وبقينا متعجبين من هزله
وحضر عند الحكم المستنصر بالله يوما في خلوة له في بستان الزهراء على بركة ماء طافحة وسط روضة نافحة في يوم شديد الوهج وذلك إثر منصرفه من صلاة الجمعة فشكا إلى الخليفة من وهج الحر الجهد وبث منه ما تجاوز الحد فأمره بخلع ثيابه والتخفيف عن جسمه ففعل ولم يطف ذلك ما به فقال له الصواب أن تنغمس في وسط الصهريج انغماسة يبرد بها جسمك وليس مع الخليفة إلا الحاجب جعفر الخادم الصقلبي أمين الخليفة الحكم لا رابع لهم فكأنه استحيا من ذلك وانقبض عنه وقارا وأقصر عنه إقصارا فأمر الخليفة حاجبه جعفرا بسبقه إلى النزول في الصهريج ليسهل عليه الأمر فيه فبادر جعفر لذلك وألقى نفسه في الصهريج وكان يحسن السباحة فجعل يجول يمينا وشمالا فلم يسع القاضي إلا إنفاذ أمر الخليفة فقام وألقى بنفسه خلف جعفر ولاذ بالقعود في درج الصهريج وتدرج فيه بعض تدريج ولم ينبسط في السباحة وجعفر يمر مصعدا ومصوبا فدسه الحكم على القاضي وحمله على مساجلته في العوم فهو يعجزه في إخلاده إلى القعود ويعابثه
بإلقاء الماء عليه والإشارة بالجذب إليه وهو لا ينبعث معه ولا يفارق موضعه إلى أن كلمه الحكم وقال له ما لك لا تساعد الحاجب في فعله وتنقيل صنعه فمن أجلك نزل وبسببك تبذل فقال له يا سيدي يا أمير المؤمنين الحاجب سلمه الله تعالى لا هوجل معه وإنا بهذا الهوجل الذي معي يعقلني ويمنعني من أن أجول معه مجاله يعني أن الحاجب خصي لا هوجل معه والهوجل الذكر فاستفرغ الحكم ضحكا من نادرته ولطيف تعريضه لجعفر وخجل جعفر من قوله وسبه سب الأشراف وخرجا من الماء وأمر لهما الخليفة بخلع ووصلهما بصلات سنية تشاكل كل واحد منهما وحكي أن الخليفة الحكم قال له يوما لقد بلغني أنك لا تجتهد للأيتام وأنك تقدم لهم أوصياء سوء يأكلون أموالهم فقال نعم وإن أمكنهم نيك أمهاتهم لم يعفوا عنهن قال وكيف تقدم مثل هؤلاء قال لست أجد غيرهم ولكن أحلني على اللؤلؤي وأبي إبراهيم ومثل هؤلاء فإن أبوا أجبرتهم بالسوط والسجن ثم لا تسمع إلا خيرا
وقال القاضي منذر أتيت وأبو جعفر بن النحاس في مجلسه بمصر يملي في أخبار الشعراء شعر قيس المجنون حيث يقول
( خليلي هل بالشام عين حزينة ... تبكي على نجد لعلي أعينها )
( قد أسلمها الباكون إلا حمامة ... مطوقة باتت وبات قرينها )
( تجاوبها أخرى على خيزرانة ... يكاد يدنيها من الأرض لينها )
فقلت له يا أبا جعفر ماذا أعزك الله تعالى باتا يصنعان فقال لي وكيف تقول أنت يا أندلسي فقلت له بانت 13 وبان قرينها فسكت وما
زال يستثقلني بعد ذلك حتى منعني كتاب العين وكنت ذهبت إلى الانتساخ من نسخته فلما قطع بي قيل لي أين أنت عن أبي العباس بن ولاد فقصدته فلقيت رجلا كامل العلم حسن المروءة فسألته الكتاب فأخرجه إلي ثم ندم أبو جعفر لما بلغه إباحة أبي العباس الكتاب لي وعاد إلى ما كنت أعرفه منه
قال وكان أبو جعفر لئيم النفس شديد التقتير على نفسه وربما وهبت له العمامة فيقطعها ثلاث عمائم وكان يأبى شراء حوائجه بنفسه ويتحامل فيها على أهل معرفته انتهى
وأبو جعفر هذا يقال إن تواليفه تزيد على خمسين منها شرح عشرة دواوين للعرب وإعراب القرآن ومعاني القرآن وشرح أبيات الكتاب وغير ذلك
رجع - وقال منذر بن سعيد كتبت إلى أبي علي البغدادي أستعير منه كتابا من الغريب وقلت
( بحق ربهم مهفهف ... وصدغه المتعطف )
( إبعث إلي بجزء ... من الغريب المصنف )
فقضى حاجتي وأجاب بقوله
( وحق در تألف ... بفيك أي تألف )
) ( لأبعثن بما قد حوى ... الغريب المصنف )
( ولو بعثت بنفسي ... إليك ما كنت أسرف )
فرحم الله تعالى تلك الأرواح الطاهرة
وذكر ابن أصبغ الهمداني عن منذر أنه خطب يوما وأراد التواضع فكان من فصول خطبته أن قال حتى متى أعظ ولا أتعظ وأزجر ولا
أزدجر أدل الطريق على المستدلين وأبقى مقيما مع الحائرين كلا إن هذا لهو البلاء المبين ( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ) [ الأعراف 155 ] اللهم فرغني لما خلقتني له ولا تشغلني بما تكفلت لي به ولا تحرمني وأنا أسألك ولا تعذبني وأنا أستغفرك يا أرحم الراحمين وسمع منذر بالأندلس من عبيد الله بن يحيى بن يحيى ونظرائه ثم رحل حاجا سنة ثمان وثلاثمائة فاجتمع بعدة أعلام وظهرت فضائله بالمشرق وممن سمع عليه منذر بالمشرق ثم بمكة محمد بن المنذر النيسابوري سمع عليه كتابه المؤلف في اختلاف العلماء المسمى بالإشراف وروى بمصر كتاب العين للخليل عن أبي العباس بن ولاد وروى عن أبي جعفر بن النحاس
وكان منذر متفننا في ضروب العلوم وغلب عليه التفقه بمذهب أبي سليمان داود بن علي الأصبهاني المعروف بالظاهري فكان منذر يؤثر مذهبه ويجمع كتبه ويحتج لمقالته ويأخذ به في نفسه وذويه فإذا جلس للحكومة قضى بمذهب الإمام مالك وأصحابه وهو الذي عليه العمل بالأندلس وحمل السلطان أهل مملكته عليه وكان خطيبا بليغا عالما بالجدل حاذقا فيه شديد العارضة حاضر الجواب عتيده ثابت الحجة ذا شارة عجيبة ومنظر جميل وخلق حميد وتواضع لأهل الطلب وانحطاط إليهم وإقبال عليهم وكان - مع وقاره التام - فيه دعابة مستملحة وله نوادر مستحسنة وكانت ولايته القضاء بقرطبة للناصر في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ولبث قاضيا من ذلك التاريخ للخليفة الناصر إلى وفاته ثم للخليفة الحكم المستنصر إلى أن توفي رحمه الله تعالى عقب ذي القعدة من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة فكانت ولايته لقضاء
عارفا بتعبير الرؤيا حسن المقاصد مخلصا فيما يقول ويفعل وكان يجتنب فضول الكلام ولا ينطق في سائر أوقاته إلا بما تدعو إليه ضرورة ولا يجلس للقراءة إلا على طهارة في هيئة حسنة وتخشع واستكانة وكان يعتل العلة الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوه وإذا سئل عن حاله قال العافية لا يزيد على ذلك
وكان كثيرا ما ينشد هذا اللغز في النعش وهو لأبي زكريا يحيى بن سلامة الخطيب
( أتعرف شيئا في السماء نظيره ... إذا سار صاح الناس حيث يسير )
( فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا ... وكل أمير يعتليه أسير )
( يحض على التقوى ويكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير )
( ولم يستزر عن رغبة في زيارة ... ولكن على رغم المزور يزور ) وكان يقال عند دخوله إلى مصر إنه يحفظ وقر بعير من العلوم وكان نزيل القاضي الفاضل ورتبه بمدرسته بالقاهرة وقيل إن كنيته أبو محمد حسبما وجد في بعض إجازاته رحمه الله تعالى
8 - ومن الراحلين إلى المشرق من الأندلس الإمام القاضي أبو بكر بن العربي
الجماعة المعبر عنها في المشرق بقضاء القضاة ستة عشر عاما كاملة لم يحفظ عليه فيها جور في قضية ولا قسم بغير سوية ولا ميل بهوى ولا إصغاء إلى عناية رحمه الله تعالى ورضي عنه ودفن بمقبرة قريش بالربض الغربي من قرطبة أعادها الله تعالى جوفي مسجد السيدة الكبرى بقرب داره
وله رحمه الله تعالى تواليف مفيدة منها كتاب أحكام القرآن و الناسخ والمنسوخ وغير ذلك في الفقه والكلام في الرد على أهل المذاهب تغمده الله تعالى برضوانه
وكتب بعض الأدباء إلى القاضي منذر بقوله
( مسألة جئتك مستفتيا ... عنها وأنت العالم المستشار )
( علام تحمر وجوه الظبا ... وأوجه العشاق فيها اصفرار )
فأجاب منذر بقوله
( احمر وجه الظبي إذ لحظه ... سيف على العشاق فيه احورار )
( واصفر وجه الصب لما نأى ... والشمس تبقي للمغيب اصفرار ) ترجمة أبي القاسم الشاطبي الرعيني المقري 196 ترجمة أبي القاسم الشاطبي الرعيني المقري
7 - وممن رحل إلى المشرق من الأندلس فشهد له بالسبق كل أهل المغرب والشرق الإمام العلامة أبو القاسم الشاطبي صاحب حرز الأماني و العقيلة وغيرهما
وهو أبو القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي المقرىء الفقيه الحافظ الضرير أحد العلماء المشهورين والفضلاء المذكورين خطب ببلده شاطبة مع صغر سنه ودخل الديار المصرية سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وحضر عند الحافظ السلفي وابن بري وغيرهما وولد بشاطبة آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وتوفي بالقاهرة يوم الأحد الثامن والعشرين وقيل الثامن عشر من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة بعد العصر ودفن من الغد بالتربة الفاضلية بسفح المقطم وحكي أن الأمير عز الدين موسك الذي كان والد ابن الحاجب حاجبا له بعث إلى الشيخ الشاطبي يدعوه إلى الحضور عنده فأمر الشيخ بعض أصحابه أن يكتب إليه
( قل للأمير مقالة ... من ناصح فطن نبيه )
( إن الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيه )
ومن نظمه رحمه الله تعالى
( خالصت أبناء الزمان فلم أجد ... من لم أرم منه ارتيادي مخلصي )
( رد الشباب وقد مضى لسبيله ... أهيا وأمكن من صديق مخلص )
وكان رحمه الله تعالى قرأ بشاطبة القراءات وأتقنها على النفري ثم انتقل إلى بلنسية فقرأ بها التيسير من حفظه على ابن هذيل وسمع الحديث منه ومن ابن النعمة وابن سعادة وابن عبد الرحيم وغيرهم وارتحل إلى المشرق فاستوطن القاهرة واشتهر اسمه وبعد صيته وقصده الطلبة من النواحي
وكان إماما علامة ذكيا كثير الفنون منقطع القرين رأسا في القراءات حافظا للحديث بصيرا بالعربية واسع العلم وقد سارت الركبان بقصيدته حرز الأماني و عقيلة أتراب الفضائل اللتين في القراءات والرسم وحفظهما خلق لا يحصون وخضع لهما فحول الشعراء وكبار البلغاء وحذاق القراء ولقد أوجز وسهل الصعب
وممن روى عنه أبو الحسن بن خيرة ووصفه من قوة الحفظ بأمر معجب وممن قرأ عليه بالروايات الإمام الشهير محمد بن عمر القرطبي
وتصدر الشاطبي رحمه الله تعالى للإقراء بالمدرسة الفاضلية وكان موصوفا بالزهد والعبادة والانقطاع وقبره بالقرافة يزار وترجى استجابة الدعاء عنده وقد زرته مرارا ودعوت الله بما أرجو قبوله وترك أولادا منهم أبو عبد الله محمد عاش نحو ثمانين سنة
وقال السبكي في حق الإمام الشاطبي إنه كان قوي الحافظة واسع المحفوظ كثير الفنون فقيها مقرئا محدثا نحويا زاهدا عابدا ناسكا يتوقد ذكاء قال السخاوي أقطع أنه كان مكاشفا وأنه سأل الله كتمان حاله ما كان أحد يعلم أي شيء هو انتهى
وترجمته واسعة رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين
وقال ابن خلكان ولقد إنه أبدع كل الإبداع في حرز الأماني وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم فقل من يشتغل بالقراءات إلا ويقدم حفظها ومعرفتها وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات لطيفة وما أظنه سبق إلى أسلوبها وقد روي عنه أنه كان يقول لا يقرأ أحد قصيدتي هذه إلا وينفعه
الله عز و جل لأني نظمتها لله تعالى مخلصا
وكان عالما بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرا وبحديث رسول الله مبرزا فيه وكان إذا قرئ عليه صحيحا البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها وكان أوحد في علم النحو واللغة
قال ابن سعيد هو الإمام العالم القاضي الشهير فخر المغرب أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري قاضي قضاة كورة إشبيلية ذكره الحجاري في المسهب طبق الآفاق بفوائده وملأ الشام والعراق بأوابده وهو إمام في الأصول والفروع وغير ذلك
ومن شعره وقد ركب مع أحد أمراء الملثمين وكان ذلك الأمير صغيرا فهز عليه رميحا كان في يده مداعبا فقال
( يهز علي الرمح ظبي مهفهف ... لعوب بألباب البرية عابث )
( فلو أنه رمح إذن لاتقيته ... ولكنه رمح وثان وثالث )
وقوله وقد دخل عليه غلام جميل الصورة في لباس خشن
( لبس الصوف لكي أنكره ... وأتانا شاحبا قد عبسا ) قلت إيه قد عرفناك وذا ... جل سوء لا يعيب الفرسا )
( كل شيء أنت فيه حسن ... لا يبالي حسن ما لبسا )
( وزعم بعض أن الأبيات ليست له وإنما تمثل بها فالله تعالى أعلم
وممن عرف بابن العربي وذكره ابن الإمام في سمط الجمان
والشقندي في الطرف وكان قد صحب المهدي محمد بن تومرت بالمشرق فأوصى عليه عبد المؤمن وكان مكرما عنده وحكي أنه كتب كتابا فأشار عليه أحد من حضر أن يذر عليه نشارة فقال قف ثم فكر ساعة وقال اكتب
( لا تشنه بما تذر عليه ... فكفاه هبوب هذا الهواء )
( فكأن الذي تذر عليه ... جدري بوجنة حسناء )
ولقي أبا بكر الطرطوشي وما برح معظما إلى أن تولى خطة القضاء ووافق ذلك أن احتاج سور إشبيلية إلى بنيان جهة منه ولم يكن فيها مال متوفر ففرض على الناس جلود ضحاياهم وكان ذلك في عيد أضحى فأحضروها كارهين ثم اجتمعت العامة العمياء وثارت عليه ونهبوا داره وخرج إلى قرطبة
وكان في أحد أيام الجمع قاعدا ينتظر الصلاة فإذا بغلام رومي وضيء قد جاء يخترق الصفوف بشمعة في يده وكتاب معتق فقال
( وشمعة تحملها شمعة ... يكاد يخفي نورها نارها )
( لولا نهى نفس نهت غيها ... لقبلته وأتت عارها )
ولما سمعهما أبو عمران الزاهد قال إنه لم يكن يفعل ولكنه هزته أريحية الأدب ولو كنت أنا لقلت
( لولا الحياء وخوف الله يمنعني ... وأن يقال صبا موسى على كبره )
( إذا لمتعت لحظي في نواظره ... حتى أوفي جفوني الحق من نظره )
رجع إلى أخبار ابن العربي - فنقول إنه سمع بالأندلس أباه وخاله أبا القاسم الحسن الهوزني وأبا عبد الله السرقسطي وببجاية أبا عبد الله الكلاعي وبالمهدية أبا الحسن بن الحداد الخولاني وسمع بالإسكندرية من الأنماطي وبمصر من أبي الحسن الخلعي وغيره وبدمشق غير واحد كأبي الفتح نصر المقدسي وبمكة أبا عبد الله الحسين الطبري وابن طلحة وابن بندار وقرأ الأدب على التبريزي وعمل رحمه الله تعالى على مدينة إشبيلية سورا بالحجارة والآجر بالنورة من ماله وكان - كما في الصلة - مقدما في المعارف كلها حريصا على آدابها ونشرها ثاقب الذهن في تمييز الصواب فيها ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة ولين الكنف وكثرة الاحتمال وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود
وذكره ابن بشكوال في الصلة وقال فيه هو الإمام الحافظ ختام علماء الأندلس رحل إلى المشرق مع أبيه مستهل ربيع الأول سنة خمس وثمانين وأربعمائة ودخل الشام والعراق وبغداد وسمع بها من كبار العلماء ثم حج في سنة تسع وثمانين وعاد إلى بغداد ثم صدر منها
وقال ابن عساكر خرج من دمشق راجعا إلى مقره سنة 491 ولما غرب صنف عارضة الأحوذي ولقي بمصر والإسكندرية جملة من العلماء ثم عاد إلى الأندلس سنة ثلاث وتسعين وقدم إشبيلية بعلم كثير وكان موصوفا بالفضل والكمال وولي القضاء بإشبيلية ثم صرف عنه ومولده ليلة يوم الخميس لثمان بقين من شعبان سنة ثمان وستين وأربعمائة
وتوفي بمغيلة بمقربة من مدينة فاس ودفن بفاس في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة انتهى كلام ابن سعيد وغيره ملخصا
وما وفى ابن سعيد حافظ الإسلام أبا بكر بن العربي حقه فلنعززه بما حضرنا من التعريف به فنقول إنه لقي ببغداد الشاشي أبا بكر والإمام أبا حامد الطوسي الغزالي ونقل عنه أنه قال كل من رحل لم يأت بمثل ما أتيت به من العلم إلا الباجي أو كلاما هذا معناه وكان من أهل التفنن في العلوم متقدما في المعارف كلها متكلما على أنواعها حريصا على نشرها وقام بأمر القضاء أحمد قيام مع الصرامة في الحق والقوة والشدة على الظالمين والرفق بالمساكين وقد روي عنه أنه أمر بثقب أشداق زامر ثم صرف عن القضاء وأقبل على نشر العلم وبثه وقرأ عليه الحافظ ابن بشكوال بإشبيلية
وقال ابن الأبار إن الإمام الزاهد العابد أبا عبد الله بن مجاهد الإشبيلي لازم القاضي ابن العربي نحوا من ثلاثة أشهر ثم تخلف عنه فقيل له في ذلك فقال كان يدرس وبغلته عند الباب ينتظر الركوب إلى السلطان انتهى
وذكره ابن الزبير في صلته وقال إنه رحل مع أبيه أبي محمد عند انقراض الدولة العبادية وسنه نحو سبعة عشر عاما إلى أن قال وقيد الحديث وضبط ما روى واتسع في الرواية وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام على أئمة هذا الشأن ومات أبوه - رحمه الله تعالى - بالإسكندرية أول سنة ثلاث وتسعين فانصرف حينئذ إلى إشبيلية فسكنها وشوور فيها وسمع ودرس الفقه والأصول وجلس للوعظ والتفسير وصنف في غير فن تصانيف مليحة حسنة مفيدة وولي القضاء مدة أولها في رجب من سنة ثمان وعشرين فنفع الله تعالى به لصرامته ونفوذ أحكامه والتزم الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر حتى أوذي في ذلك بذهاب كتبه وماله فأحسن الصبر على ذلك كله ثم صرف عن القضاء وأقبل على نشر العلم وبثه وكان فصيحا حافظا أديبا شاعرا كثير الملح مليح المجلس
ثم قال قال القاضي عياض - بعد أن وصفه بما ذكرته - ولكثرة حديثه وأخباره وغريب حكاياته ورواياته أكثر الناس فيه الكلام وطعنوا في حديثه وتوفي منصرفه من مراكش من الوجهة التي توجه فيها مع أهل بلده إلى الحضرة بعد دخول الموحدين مدينة إشبيلية فحبسوا بمراكش نحو عام ثم سرحوا فأدركته منيته وروى عنه خلق كثير منهم القاضي عياض وأبو جعفر بن الباذش وجماعة انتهى ملخصا
ووقع في عبارة ابن الزبير تبعا لجماعة أنه دفن خارج باب الجيسة بفاس والصواب خارج باب المحروق كما أشبعت الكلام على ذلك في أزهار الرياض وقد زرته مرارا وقبره هنالك مقصود للزيارة خارج القصبة وقد صرح بذلك بعض المتقدمين الذين حضروا وفاته وقال إنه دفن بتربة القائد مظفر خارج القصبة وصلى عليه صاحبه أبو الحكم بن حجاج رحمه الله تعالى ومن بديع نظمه
( أتتني تؤنبني بالبكاء فأهلا بها وبتأنيبها )
( تقول وفي نفسها حسرة ... أتبكي بعين تراني بها )
( فقلت إذا استحسنت 7 غيركم ... أمرت جفوني بتعذيبها )
وقال رحمه الله تعالى دخل علي الأديب ابن صارة وبين يدي نار علاها رماد فقلت له قل في هذه فقال
( شابت نواصي النار بعد سوادها ... وتسترت عنا بثوب رماد )
ثم قال لي أجز فقلت
( شابت كما شبنا وزال شبابنا ... فكأنما كنا على ميعاد )
وقد اختلف حذاق الأدباء في قوله ولكنه رمح وثان وثالث ما هو الثاني والثالث 11 فقيل القد واللحظ وقيل غير ذلك
ولما ذكر رحمه الله تعالى في كتابه قانون التأويل ركوبه البحر في رحلته من إفريقية قال وقد سبق في علم الله تعالى أن يعظم علينا البحر بزوله ويغرقنا في هوله فخرجنا من البحر خروج الميت من القبر وانتهينا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كعب بن سليم ونحن من السغب على عطب ومن العري في أقبح زي قد قذف البحر زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها ودسمت الأدهان وبرها وجلدتها فاحترمناها أزرا واشتملناها لفافا تمجنا الأبصار وتخذلنا الأنصار فعطف أميرهم علينا فأوينا إليه فآوانا وأطعمنا الله تعالى على يديه وسقانا وأكرم مثوانا وكسانا بأمر حقير ضعيف وفن من العلم طريف وشرحه أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاه فعل السامد اللاه فدنوت منه في تلك الأطمار وسمح لي بياذقته إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار ووقفت بإزائهم أنظر إلى تصرفهم من ورائهم إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خلس البطالة مع غلبة الصبوة والجهالة فقلت للبياذقة الأمير أعلم من
صاحبه فلمحوني شزرا وعظمت في أعينهم بعد أن كنت نزرا وتقدم إلى الأمير من نقل إليه الكلام فاستدناني فدنوت منه وسألني هل لي بما هم فيه بصر فقلت لي فيه بعض نظر سيبدو لك ويظهر حرك تلك القطعة ففعل وعارضه صاحبه فأمرته أن يحرك أخرى وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى حتى هزمهم الأمير وانقطع التدبير فقالوا ما أنت بصغير وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشدا
( وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه ... وفي الهجر فهو الدهر يرجو ويتقي )
فقال لعن الله أبا الطيب أو يشك الرب فقلت له في الحال ليس كما ظن صاحبك أيها الأمير إنما أراد بالرب ههنا الصاحب يقول ألذ الهوى ما كان المحب فيه من الوصال وبلوغ الغرض من الآمال على ريب فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله وتقاة لما يقطع به كما قال
( إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب ) وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض في طرفي الإبرام والانتقاض ما حرك منهم إلى جهتي داعي الانتهاض وأقبلوا يتعجبون مني ويسألونني كم سني ويستكشفونني عني فبقرت لهم حديثي وذكرت لهم نجيثي وأعلمت الأمير بأن أبي معي فاستدعاه وقمنا الثلاثة إلى مثواه فخلع علينا خلعه وأسبل علينا أدمعه وجاء كل خوان بأفنان والألوان
ثم قال بعد المبالغة في وصف ما نالهم من إكرامه فانظر إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل أقرب مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب كيف أنقذا من العطب وهذا الذكر يرشدكم إن عقلتم إلى المطلب وسرنا حتى انتهينا إلى ديار مصر انتهى مختصرا
والزول العجب ونجيث الخبر ما ظهر من قبيحه يقال بدا نجيث
القوم إذا ظهر سرهم الذي كانوا يخفونه قالهما الجوهري
وذكر - رحمه الله تعالى - في رحلته عجائب منها أنه حكى دخوله بدمشق بيوت بعض الأكابر أنه رأى فيه النهر جائيا إلى موضع جلوسهم ثم يعود من ناحية أخرى فلم أفهم معنى ذلك حتى جاءت موائد الطعام في النهر المقبل إلينا فأخذها الخدم ووضعوها بين يدينا فلما فرغنا ألقى الخدم الأواني وما معها في النهر الراجع فذهب بها الماء إلى ناحية الحريم من غير أن يقرب الخدم تلك الناحية فعلمت السر وإن هذا لعجيب انتهى بمعناه
وقال في قانون التأويل ورد علينا دانشمند - يعني الغزالي - فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية معرضا عن الدنيا مقبلا على الله تعالى فمشينا إليه وعرضنا أمنيتنا عليه وقلت له أنت ضالتنا التي كنا ننشد وإمامنا الذي به نسترشد فلقينا لقاء المعرفة وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم ولو رآه علي بن العباس لما قال
( إذا ما مدحت امرأ غائبا ... فلا تغل في مدحه واقصد )
( فإنك إن تغل تغل الظنون ... فيه إلى الأمد الأبعد )
( فيصغر من حيث عظمته ... لفضل المغيب على المشهد )
وكنت نقلت من المطمح في حقه ما صورته علم الأعلام الطاهر الأثواب الباهر الألباب الذي أنسى ذكاء إياس وترك التقليد للقياس وأنتج الفرع
من الأصل وغدا في يد الإسلام أمضى من النصل سقى الله تعالى به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف ومد عليها منه الظل الوارف وكساها رونق نبله وسقاها ريق وبله وكان أبوه أبو محمد بإشبيلية بدرا في فلكها وصدرا في مجلس ملكها واصطفاه معتمد بني عباد اصطفاء المأمون لابن أبي دواد وولاه الولايات الشريفة وبوأه المراتب المنيفة فلما أقفرت حمص من ملكهم وخلت وألقتهم منها وتخلت رحل به إلى المشرق وحل فيه محل الخائف الفرق فجال في أكنافه وأجال قداح الرجاء في العز واستئنافه فلم يسترد ذاهبا ولم يجد كمعتمده باذلا له وواهبا فعاد إلى الرواية والسماع وما استفاد من آمال تلك الأطماع وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوح وفي روض الشباب زهر ما صوح فألزمه مجالس العلم رائحا وغاديا ولازمه سائقا إليها وحاديا حتى استقرت به مجالسه واطردت له مقايسه فجد في طلبه واستجد به أبوه متمزق أربه ثم أدركه حمامه ووارته هناك رجامه وبقي أبو بكر متجردا وللطلب متحردا حتى أصبح في العلم وحيدا ولم تجد عنه رياسته محيدا فكر إلى الأندلس فحلها والنفوس إليه متطلعة ولأنبائه مستمعة فناهيك من خطوة لقي ومن عزة سقي ومن رفعة سما إليها ورقي وحسبك من مفاخر قلدها ومحاسن أنس أثبتها فيها وخلدها وقد أثبت من بديع نظمه ما يهز أعطافا وترده الأفهام نطافا فمن ذلك قوله يتشوق إلى بغداد ويخاطب فيها أهل الوداد
( أمنك سرى والليل يخدع بالفجر ... خيال حبيب قد حوى قصب الفخر )
( جلا ظلم الظلماء مشرق نوره ... ولم يخبط الظلماء بالأنجم الزهر )
( ولم يرض بالأرض البسيطة مسحبا ... فسار على الجوزا إلى فلك يجري )
( وحث مطايا قد مطاها بعزة ... فأوطأها قسرا على قنة النسر )
( فصارت ثقالا بالجلالة فوقها ... وسارت عجالا تتقي ألم الزجر )
( وجرت على ذيل المجرة ذيلها ... فمن ثم يبدو ما هناك لمن يسري )
( ومرت على الجوزاء توضع فوقها ... فآثر ما مرت به كلف البدر )
( وساقت أريج الخلد من جنة العلا ... فدع عنك رملا بالأنيعم يستذري )
( فما حذرت قيسا ولا خيل عامر ... ولا أضمرت خوفا لقاء بني ضمر )
( سقى الله مصرا والعراق وأهلها ... وبغداد والشامين منهمل القطر ) انتهى
ومن تأليف الحافظ أبي بكر بن العربي المذكور كتاب القبس في شرح موطإ مالك بن أنس وكتاب ترتيب المسالك في شرح موطإ مالك وكتاب أنوار الفجر وكتاب أحكام القرآن وكتاب عارضة الأحوذي في شرح الترمذي والأحوذي - بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح الواو وكسر الذال المعجمة وآخره ياء مشددة وكتاب مراقي الزلف وكتاب الخلافيات وكتاب نواهي الدواهي وكتاب سراج المريدين وكتاب المشكلين مشكل القرآن والسنة وكتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن وكتاب قانون التأويل وكتاب النيرين في الصحيحين وكتاب سراج المهتدين وكتاب الأمد الأقصى بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا وكتاب في الكلام على مشكل حديث السبحات والحجاب وكتاب العقد الأكبر للقلب الأصغر و تبيين الصحيح في تعيين الذبيح و تفصيل التفضيل بين
التحميد والتهليل ورسالة الكافي في أن لا دليل على النافي وكتاب السباعيات وكتاب المسلسلات وكتاب المتوسط في معرفة صحة الاعتقاد والرد على من خالف أهل السنة من ذوي البدع والإلحاد وكتاب شرح غريب الرسالة وكتاب الإنصاف في مسائل الخلاف عشرون مجلدا وكتاب حديث الإفك وكتاب شرح حديث جابر في الشفاعة وكتاب شرح حديث أنم زرع وكتاب ستر العورة وكتاب المحصول في علم الأصول وكتاب أعيان الأعيان وكتاب ملجأة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين وكتاب ترتيب الرحلة وفيه من الفوائد ما لا يوصف ومن فوائد القاضي أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى قوله قال علماء الحديث ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة لقول النبي " نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها - الحديث " قال وهذا دعاء منه عليه الصلاة و السلام لحملة علمه ولا بد بفضل الله تعالى من نيل بركته انتهى
وإلى هذه النضرة أشار أبو العباس العزفي بقوله
( أهل الحديث عصابة الحق ... فازوا بدعوة سيد الخلق )
( فوجوههم زهر منضرة لألاؤها كتألق البرق )
( يا ليتني معهم فيدركني ... ما أدركوه بها من السبق )
انتهى ولا بأس أن نذكر هنا بعض فوائد الحافظ أبي بكر بن العربي رحمه الله تعالى فمنها قوله في تصريف المحصنات يقال أحصن الرجل فهو محصن - بفتح العين في اسم الفاعل - وأسهب في الكلام فهو مسهب إذا أطال
البحث فيه وألفج فهو ملفج إذا كان عديما لا رابع لها والله تعالى أعلم انتهى
ومنها قوله سمعت الشيخ فخر الإسلام أبا بكر الشاشي وهو ينتصر لمذهب أبي حنيفة في مجلس النظر يقول يقال في اللغة العربية لا تقرب كذا بفتح الراء أي لا تتلبس بالفعل وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع وهذا الذي قاله صحيح مسموع انتهى
ومنها قوله شاهدت المائدة بطورزيتا مرارا وأكلت عليها ليلا ونهارا وذكرت الله سبحانه وتعالى فيها سرا وجهارا وكان ارتفاعها أشف من القامة بنحو الشبر وكان لها درجتان قبليا وجنوباي وكانت صخرة صلودا لا تؤثر فيها المعاول وكان الناس يقولون مسخت صخرة إذ مسخ أربابها قردة وخنازير والذي عندي أنها كانت صخرة في الأصل قطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من السماء وكل ما حولها حجارة مثلها وكان ما حولها محفوفا بقصور وقد نحتت في ذلك الحجر الصلد بيوت أبوابها منها ومجالسها منها مقطوعة فيها وحناياها في جوانبها وبيوت خدمتها قد صورت من الحجر كما تصور من الطين والخشب فإذا دخلت في قصر من قصورها ورددت الباب وجعلت من ورائه صخرة مقدار ثمن درهم لم يفتحه أهل الأرض للصوقه بالأرض وإذا هبت الريح وحثت تحته التراب لم يفتح إلا بعد صب الماء تحته والإكثار منه حتى يسيل بالتراب وينفرج منفرج الباب وقد بار بها قوم بهذه العلة وقد كنت أخلو فيها كثيرا للدرس ولكني كنت في كل حين أكنس حول الباب مخافة مما جرى لغيري فيها وقد شرحت أمرها في كتاب ترتيب الرحلة بأكثر من هذا انتهى
ومنها قوله رحمه الله تعالى تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي في حديث أبي ثعلبة المرفوع " إن من ورائكم أياما للعامل فيها أجر خمسين منكم فقالوا بل منهم فقال بل منكم لأنكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون عليه أعوانا " وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم قد أسسوا الإسلام وعضدوا الدين وأقاموا المنار وافتتحوا الأمصار وحموا البيضة ومهدوا الملة وقد قال في الصحيح " لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " فتراجعنا القول وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح وخلاصته أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد ولا يدانيهم فيها بشر وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم وخلصها من شوائب البدع والرياء بعدهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام وهو أيضا انتهاؤه وقد كان قليلا في ابتداء الإسلام صعب المرام لغلبة الكفار على الحق وفي آخر الزمان أيضا يعود كذلك لوعد الصادق بفساد الزمان وظهور الفتن وغلبة الباطل واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب كما قال " لتركبن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه " وقال " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ " فلا بد والله تعالى أعلم بحكم هذا الوعد الصادق أن يرجع الإسلام إلى واحد كما بدأ من واحد ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف
ما كان لمن كان متمكنا منه معانا عليه بكثرة الدعاة إلى الله تعالى وذلك قوله " لأنكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون عليه أعوانا " حتى ينقطع ذلك انقطاعا باتا لضعف اليقين وقلة الدين كما قال " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله " يروى برفع الهاء ونصبها فالرفع على معنى لا يبقى موحد يذكر الله عز و جل والنصب على معنى لا يبقى آمر بمعروف ولا ناه عن المنكر يقول أخاف الله وحينئذ يتمنى العاقل الموت كما قال " لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني كنت مكانه " انتهى وأنشد رحمه الله تعالى لبعض الصوفية
( امتحن الله بذا خلقه ... فالنار والجنة في قبضته )
( فهجره أعظم من ناره ... ووصله أطيب من جنته ) ومن فوائد ابن العربي رحمه الله تعالى أنه قال كنت بمجلس الوزير العادل أبي منصور ابن جهير على رتبة بيناها في كتاب الرحلة للترغيب في الملة فقرأ القارئ ( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) [ الأحزاب 44 ] وكنت في الصف الثاني من الحلقة بظهر أبي الوفاء علي بن عقيل إمام الحنبلية بمدينة السلام وكان معتزلي الأصول فلما سمعت الآية قلت لصاحب لي كان يجلس على
يساري هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة فإن العرب لا تقول لقيت فلانا إلا إذا رأته فصرف وجهه أبو الوفاء مسرعا إلينا وقال ينتصر لمذهب الاعتزال في أن الله تعالى لا يرى في الآخرة فقد قال الله تعالى ( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ) [ التوبة 77 ] وعندك أن المنافقين لا يرون الله تعالى في الآخرة وقد شرحنا وجه الآية في المشكلين وتقدير الآية فأعقبهم هو نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه فيحتمل ضمير يلقونه أن يعود إلى ضمير الفاعل في ( أعقبهم ) المقدر بقولنا هو ويحتمل أن يعود إلى النفاق مجازا على تقدير الجزاء انتهى
ومنها ما نقله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا يقل أحدكم انصرفنا من الصلاة فإن قوما قيل فيهم ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ) [ التوبة 127 ] وقد أخبرنا محمد بن عبد الملك القيسي الواعظ أخبرنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه كنا في جنازة فقال المنذر بها انصرفوا رحمكم الله تعالى فقال لا يقل أحدكم انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم ( ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ) [ التوبة 127 ] ولكن قولوا انقلبوا رحمكم الله فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم ( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء ) [ آل عمران 174 ]
انتهى ومنها وقد ذكر الخلاف في شاهد يوسف ما صورته فإذا قلنا إنه القميص فكان يصح من جهة اللغة أن يخبر عن حاله بتقدم مقاله فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال في بعض الأمور وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات بما تخبر عنه بما عليها من الصفات ومن أحلاه قول بعضهم قال الحائط للوتد لم تشقني قال سل من يدقني ما يتركني ورائي هذا الذي ورائي لكن قوله تعالى بعد ذلك ( من أهلها ) [ يوسف 26 ] في
صفة الشاهد يبطل أن يكون القميص وأما من قال إنه ابن عمها أو رجل من أصحاب العزيز فإنه يحتمل لكن قوله ( من أهلها ) [ يوسف 26 ] يعطي اختصاصها من جهة القرابة انتهى
ومنها قوله إنه كان بمدينة السلام إمام من الصوفية وأي إمام يعرف بابن عطاء فتكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما ينسب إليه من مكروه فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال يا شيخ يا سيدنا فإذن يوسف هم وما تم فقال نعم لأن العناية من ثم فانظروا إلى حلاوة العالم والمتعلم وفطنة العامي في سؤاله والعالم في اختصاره واستيفائه ولذا قال علماؤنا الصوفية إن فائدة قوله تعالى ( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما ) [ يوسف 22 ] إن الله تعالى أعطاه العلم والحكمة أيام غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة انتهى ومنها قوله كنت بمكة مقيما في ذي الحجة سنة تسع وثمانين وأربعمائة وكنت أشرب من ماء زمزم كثيرا وكلما شربته نويت به العلم والإيمان ففتح الله تعالى لي ببركته في المقدار الذي يسره لي من العلم ونسيت أن أشربه للعمل ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله تعالى لي فيهما ولم يقدر فكان صفوي للعلم أكثر منه للعمل وأسأل الله تعالى الحفظ والتوفيق برحمته
ومنها قوله سمعت إمام الحنابلة بمدينة السلام أبا الوفاء علي بن عقيل يقول إنما تبع الولد الأم في المالية وصار بحكمها في الرق والحرية لأنه انفصل عن الأب نطفة لا قيمة له ولا مالية فيه ولا منفعة مبثوثة عليه وإنما اكتسب ما اكتسب بها ومنها فلذلك تبعها كما لو أكل رجل تمرا في أرض رجل وسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة فإنها ملك صاحب
الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة لأنها انفصلت عن الآكل ولا قيمة لها وهذه من البدائع انتهى
ومنها قوله ومن نوادر أبي الفضل الجوهري ما أخبرنا عنه محمد بن عبد الملك الواعظ وغيره أنه كان يقول إذا أمسكت علاقة الميزان بالإبهام والسبابة وارتفعت سائر الأصابع كان شكلها مقروا بقولك الله فكأنها إشارة منه سبحانه في تيسير الوزن كذلك إلى أن الله سبحانه مطلع عليك فاعدل في وزنك انتهى
ومنها قوله كان ابن الكازروني يأوي إلى المسجد الأقصى ثم تمتعنا به ثلاث سنوات ولقد كان يقرأ في مهد عيسى عليه السلام فيسمع من الطور فلا يقدر أحد أن يصنع شيئا دون قراءته إلا الإصغاء إليه انتهى
ومنها قوله في تفسير قوله تعالى ( في أيام نحسات ) [ فصلت 16 ] قيل إنها كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء والناس يكرهون السفر يوم الأربعاء لأجل هذه الرواية حتى إني لقيت يوما مع خالي الحسن بن أبي حفص رجلا من الكتاب فودعنا بنية السفر فلما فارقنا قال لي خالي إنك لا تراه أبدا لأنه سافر في يوم أربعاء لا يتكرر وكذا كان مات في سفره وهذا ما لا أراه لأن يوم الأربعاء يوم عجيب بما جاء في الحديث من الخلق فيه والترتيب فإن الحديث ثابت بأن الله تعالى خلق يوم السبت التربة ويوم الأحد الجبال ويوم الاثنين الشجر ويوم الثلاثاء المكروه ويوم الأربعاء النور وروي النون وفي غريب الحديث أنه خلق يوم الأربعاء التقن وهو كل شيء تتقن به الأشياء يعني المعادن من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص فاليوم الذي خلق فيه المكروه لا يعافه الناس واليوم الذي خلق فيه النور أو التقن يعافونه إن هذا لهو الجهل المبين وفي المغازي أن النبي دعا على الأحزاب من يوم الاثنين إلى يوم الأربعاء بين الظهر والعصر فاستجيب له وهي ساعة فاضلة فالآثار الصحاح تدل على
فضل هذا اليوم فكيف يدعى فيه التحذير والنحس بأحاديث لا أصل لها وقد صور قوم أياما من الأشهر الشمسية ادعوا فيها الكراهية لا يحل لمسلم أن ينظر إليها ولا يشغل بالا بها والله حسبهم انتهى
ومنها وكان يقرأ معنا برباط أبي سعيد على الإمام دانشمند من بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جارية فربك أعلم به ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله انتهى
ومن شعر ابن العربي مما نسبه له الشيخ أبو حيان قوله
( ليت شعري هل دروا ... أي قلب ملكوا )
( وفؤادي لو درى ... أي شعب سلكوا )
( أتراهم سلموا ... أم تراهم هلكوا )
( حار أرباب الهوى ... في الهوى وارتبكوا )
ومن فوائده أخبرني المهرة من السحرة بأرض بابل أنه من كتب آخر آية من كل سورة ويعلقها لم يبلغ إليه سحرنا قال هكذا قالوا والله تعالى أعلم بما نقلوه وقال رحمه الله تعالى حذقت القرآن ابن تسع سنين ثم ثلاثا لضبط القرآن والعربية والحساب فبلغت ست عشرة وقد قرأت من الأحرف نحوا من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه وتمرنت في العربية والشعر واللغة ثم رحل بي أبي إلى المشرق ثم ذكر تمام رحلته رحمه الله تعالى
9 - ومنهم أبو بكر محمد بن أبي عامر بن حجاج الغافقي الإشبيلي ومن نظمه بالمدينة المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام
( لم يبق لي سؤل ولا مطلب ... مذ صرت جارا لحبيب الحبيب )
( لا أبتغي شيئا سوى قربه ... وها أنا منه قريب قريب )
( من غاب عن حضرة محبوبه ... فلست عن طيبة ممن يغيب )
( لا تسأل المغبوط عن حاله ... جار كريم ومحل خصيب )
( العيش والموت هنا طيب ... بطيبة لي كل شيء بطيب )
وممن روى عنه هذه الأبيات الأشرف بن الفاضل
10 - ومنهم الشيخ الأديب الفاضل البارع جمال الدين أبو عبد الله محمد ابن الفقيه الخطيب أبي الحسن محمد بن أبي عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن علي بن ذي النون الأنصاري المالقي من أشياخ أبي حيان لقيه ببلبيس من ديار مصر قال وأنشدني لشيخه أبي عبد الله الإستجي من قصيدة
( ما للنسيم سرى الأصيل عليلا ... أتراه يشكو لوعة وغليلا )
( جر الذيول على ديار أحبتي ... فأتى يجر من السقام ذيولا )
وأنشد رحمه الله تعالى لرضوان المخزومي
( إن كنت يوسف حسنا ... وكنت عبد العزيز )
( فإن يوسف من قبل ... كان عبد العزيز )
وأخذ ابن ذي النون المذكور عن أبي عبد الله بن صالح وقرأ للسبعة على أبي جعفر الفحام وأبي زيد القمارشي وعلى أبي جعفر السهيلي وولد ابن
ذي النون سنة 617 بمالقة ومن تواليفه نفح المسك الأذفر في مدح المنصور بن المظفر و أزهار الخميلة في الآثار الجميلة و استطلاع البشير و محض اليقين و روض المتقين
11 - ومنهم زياد بن عبد الرحمن بن زياد اللخمي المعروف بشبطون يكنى أبا عبد الله كان فقيه الأندلس على مذهب مالك وهو أول من أدخل مذهبه الأندلس وكانوا قبله يتفقهون على مذهب الأوزاعي وأراده الأمير هشام على القضاء بقرطبة وعزم عليه فهرب فقال هشام ليت الناس كلهم كزياد حتى أكفى أهل الرغبة في الدنيا وأرسل إلى زياد فأمنه حتى رجع إلى داره
ويحكى أنه لما أراده للقضاء كلمه الوزراء في ذلك عن الأمير وعرفوه عزمه عليه فقال لهم أما إن أكرهتموني على القضاء فزوجتي فلانة طالق ثلاثا لئن أتاني مدع في شيء مما في أيديكم لأخرجنه عنكم ثم أجعلكم مدعين فيه فلما سمعوا منه ذلك علموا صدقه فتكلموا عند الأمير في معافاته
سمع من مالك الموطأ ويعرف سماعه بسماع زياد وسمع من معاوية بن صالح وكانت ابنة معاوية تحته وروى يحيى بن يحيى الليثي عن زياد هذا الموطأ قبل أن يرحل إلى مالك ثم رحل فأدرك مالكا فرواه عنه إلا أبوابا في كتاب الاعتكاف شك في سماعها من مالك فأبقى روايته فيها عن زياد عن مالك
وتوفي سنة أربع ومائتين وقيل سنة 193 وقيل في التي بعدها وقيل سنة 199 والأول أولى بالقبول والله تعالى أعلم
ورحل في ذلك العصر جماعة من أنظار شبطون كفرغوس بن العباس
وعيسى بن دينار وسعيد بن أبي هند وغيرهم ممن رحل إلى الحج أيام هشام بن عبد الرحمن والد الحكم فلما رجعوا وصفوا من فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره ما عظم به صيته بالأندلس فانتشر يومئذ رأيه وعلمه بالأندلس وكان رائد الجماعة في ذلك شبطون
وهو أول من أدخل موطأ مالك إلى الأندلس مكملا متقنا فأخذه عنه يحيى بن يحيى كما مر وهو إذ ذاك صدر في طلاب الفقه فأشار عليه زياد بالرحيل إلى مالك ما دام حيا فرحل سريعا وأخذ يحيى عن زياد هذا الكتب العشرة المنسوبة إلى يحيى
ولقي أيضا عبد الله بن وهب صاحب مالك وسمع منه الموطأ ولقي أيضا عبد الله بن نافع المدني صاحب مالك وسمع منه ومن الليث بن سعد فقيه مصر ومن سفيان بن عيينة بمكة وقدم يحيى الأندلس أيام الحكم فانتشر به وبزياد وعيسى بن دينار علم مالك بالأندلس رضي الله تعالى عن الجميع
وقد قدمنا الحديث الذي رواه زياد بن عبد الرحمن عن مالك فليراجع في الباب الثالث
12 - ومنهم سوار بن طارق مولى عبد الرحمن بن معاوية قرطبي حج ودخل البصرة ولقي الأصمعي ونظراءه وانصرف إلى الأندلس وأدب الحكم ومن ولده محمد بن عبد الله بن سوار حج أيضا ولقي أبا حاتم بالبصرة والرياشي وغيرهما وأدخل الأندلس علما كثيرا رحم الله
تعالى الجميع
13 - ومنهم بقي بن مخلد الشهير الذكر صاحب التآليف التي لم يؤلف مثلها في الإسلام ولقي مائتين وأربعة وثمانين شيخا وكانت له خاصة من الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وستأتي جملة فيما يتعلق ببقي بن مخلد في رسالة ابن حزم في الباب السابع وبقي على وزن علي رحمه الله تعالى ورضي عنه وقد عرف ببقي بن مخلد غير واحد من العلماء كصاحب النبراس وغيره
14 - ومنهم قاسم بن أصبع بن محمد بن يوسف أبو محمد البياني وبيانه من أعمال قرطبة وأصل سلفه من موالي الوليد بن عبد الملك وسمع المذكور بقرطبة من بقي بن مخلد ومحمد بن وضاح ومطرف بن قيس وأصبغ ابن خليل وابن مسرة وغير واحد ورحل إلى المشرق مع محمد بن زكريا بن عبد الأعلى سنة أربع وسبعين ومائتين فسمع بمكة من محمد بن إسماعيل الصائغ وعلي بن عبد العزيز ودخل العراق فلقي من أهل الكوفة إبراهيم بن أبي العنبس قاضيها وإبراهيم بن عبد الله القصار وسمع ببغداد من القاضي إسماعيل وأحمد بن زهير بن حرب وغيرهما كعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل والحارث بن أبي أسامة وكتب عن ابن أبي خيثمة
تاريخه وسمع من ابن قتيبة كثيرا من كتبه وسمع من المبرد وثعلب وابن الجهم في آخرين وسمع بمصر من محمد بن عبد الله العمري ومطلب بن شعيب وغيرهما وسمع بالقيروان من أحمد بن يزيد المعلم وبكر بن حماد التاهرتي الشاعر وانصرف إلى الأندلس بعلم كثير فمال الناس إليه في تاريخ أحمد ابن زهير وكتب ابن قتيبة وأخذوا ذلك عنه دون صاحبيه ابن أيمن وابن عبد الأعلى وكان بصيرا بالحديث والرجال نبيلا في النحو والعربية والشعر وكان يشاور في الأحكام وصنف على كتاب السنن لأبي داود كتابا في الحديث وسببه أنه لما قدم العراق سنة ست وسبعين ومائتين مع صاحبه محمد ابن أيمن فوجدا أبا داود قد مات قبل وصولهما بيسير فلما فاتهما عمل كل واحد منهما مصنفا في السنن على أبواب كتاب أبي داود وخرجا الحديث من روايتهما عن شيوخهما وهما مصنفان جليلان ثم أختصر قاسم ابن اصبغ كتابه وسماه المجتنى بالنون وابتدأ اختصاره في المحرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وجعله باسم الحكم المستنصر وفيه من الحديث المسند ألفان وأربعمائة وتسعون حديثا في سبعة أجزاء
ومولده يوم الأثنين عاشر ذي الحجة سنة سبع وأربعين ومائتين رحمه الله تعالى
وحكى القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى ( قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا ) أن قاسم بن أصغ قال لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت عن بكر بن حماد حديث مسدد فقرأت عليه يوما فيه حديث النبي أنه قدم عليه قوم من مضر مجتابي التمار فقال إنما هو مجتابي الثمار فقلت إنما هو مجتابي النمار هكذا قرأته
على كل من لقيته بالأندلس والعراق فقال لي بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا أو نحو هذا ثم قال لي قم بنا إلى ذلك الشيخ لشيخ كان في المسجد فإن له بمثل هذا علما فقمنا إليه وسألناه عن ذلك فقال إنما هو مجتابي النمار كما قلت وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة جيوبهم أمامهم والنمار جمع نمرة فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه رغم أنفي للحق وانصرف انتهى
وهذه الحكاية دالة على عظيم قدر الرجلين رحمهما الله تعالى ورضي عنهما ونفعنا بهما
15 - ومنهم قاسم بن ثابت أبو محمد العوفي السرقسطي رحل مع أبيه فسمع بمصر من أحمد بن شعيب النسائي وأحمد بن عمرو البزار وبمكة من عبد الله بن علي بن الجارود ومحمد بن علي الجوهري واعتنى بجمع الحديث واللغة هو وأبوه فأدخلا إلى الأندلس علما كثيرا ويقال إنهما أول من أدخل كتاب العين إلى الأندلس وألف قاسم في شرح الحديث كتابا سماه الدلائل بلغ فيه الغاية في الإتقان ومات قبل إكماله فأكمله أبوه ثابت بعده وقد روي عن أبي علي البغدادي أنه كان يقول كتبت كتاب الدلائل وما أعلم أنه وضع بالأندلس مثله وكان قاسم عالما بالحديث واللغة متقدما في معرفة الحديث والنحو والشعر وكان مع ذلك ورعا ناسكا وأريد على القضاء بسرقسطة فأبى ذلك فأراد أبوه إكراهه عليه فسأله أن يتركه ينظر في أمره ثلاثا ويستخير الله تعالى فمات في هذه الثلاثة الأيام فيروون أنه دعا لنفسه بالموت وكان مجاب
الدعوة توفي سنة302 بسرقسطة رحمه الله تعالى
16 - ومنهم علم الدين أبو محمد المرسي اللورقي وهو قاسم بن أحمد بن موفق بن جعفر العلامة المقرىء الأصولي النحوي ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة وقرأ بالروايات قبل الستمائة على أبي جعفر الحصار وأبي عبد الله المرادي وأبي عبد الله بن نوح الغافقي وقدم مصر فقرأ بها على أبي الجود غياث بن فارس وبدمشق على التاج زيد الكندي وسمع ببغداد من أبي محمد بن الأخضر وأخذ العربية عن أبي البقاء ولقي الجزولي بالمغرب وسأله عن مسألة مشكلة في مقدمته فأجابه وبرع في العربية وفي علم الكلام والفلسفة وكان يقرئ ذلك ويحققه وأقرأ بدمشق ودرس وشرح المفصل في النحو في أربع مجلدات فأجاد وأفاد وشرح الجزولية والشاطبية وكان مليح الشكل حسن البزة موطأ الأكناف قرأ عليه جماعة وتوفي سابع رجب سنة 661 وكان معمرا مشتغلا بأنواع العلوم وسماه بعضهم أبا القاسم والأول أصح
17 - ومنهم قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيار أبو محمد من أهل قرطبة وجده مولى الوليد بن عبد الملك رحل فسمع بمصر من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمزني والبرقي والحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى وإبراهيم بن المنذر وغيرهم ولزم ابن عبد الحكم للتفقه وتحقق به وبالمزني وكان يذهب مذهب الحجة والنظر وترك التقليد ويميل إلى مذهب
الشافعي ولما قال له ابنه محمد بن القاسم يا أبت أوصني قال أوصيك بكتاب الله فلا تنس حظك منه واقرأ منه كل يوم جزءا واجعل ذلك عليك واجبا وإن أردت أن تأخذ من هذا الأمر بحظ يعني الفقه فعليك برأي الشافعي فإني رأيته أقل خطأ قال أبو الوليد بن الفرضي ولم يكن بالأندلس مثله في حسن النظر والبصر بالحجة وقال أحمد بن خالد ومحمد بن عمر بن لبابة ما رأينا أفقه من قاسم بن محمد ممن دخل الأندلس من أهل الرحلة وقال أسلم بن عبد العزيز سمعت عن ابن عبد الحكم أنه قال لم يقدم علينا من الأندلس أحد أعلم من قاسم بن محمد ولقد عاتبته في حين انصرافه إلى الأندلس وقلت له أقم عندنا فإنك تقتعد ههنا رياسة ويحتاج الناس إليك فقال لا بد من الوطن وقال سعيد بن عثمان قال لي أحمد بن صالح الكوفي قدم علينا من بلادكم رجل يسمى قاسم بن محمد فرأيت رجلا فقيها وألف رحمه الله تعالى كتابا نبيلا في الرد على ابن مزين وعبد الله بن خالد والعتبي يدل على علمه وله كتاب في خبر الواحد وكان يلي وثائق الأمير محمد طول أيامه روى عنه ابن لبابة وابن أيمن والأعناقي وابنه محمد بن قاسم في آخرين توفي سنة ست - أو سبع أو ثمان - وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى !
18 - ومنهم أبو بكر الغساني وهو محمد بن إبراهيم بن أحمد بن أسود من أهل المرية قدم إلى مصر ولقي بها أبا بكر الطرطوشي ثم عاد إلى بلده
وشوور واستقضي بمرسية مدة طويلة ثم صرف وسكن مراكش قال ابن بشكوال توفي بمراكش في رجب سنة 636 وقال أبو جعفر بن الزبير إن له كتاب تفسير القرآن وبيته بيت علم ودين
19 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن حيون من أهل وادي الحجارة قال ابن الفرضي سمع من ابن وضاح والخشني ونظرائهما بالأندلس ورحل إلى المشرق فتردد هنالك نحوا من خمس عشرة سنة وسمع بصنعاء ومكة وبغداد ولقي جماعة من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل منهم عبد الله بن أحمد وسمع بمصر من الخفاف النيسابوري وإبراهيم بن موسى وغيرهما وبالمصيصة والقيروان وكان إماما في الحديث عالما حافظا للعلل بصيرا بالطرق ولم يكن بالأندلس قبله أبصر بالحديث منه وهو ضابط متقن حسن التوجيه للحديث صدوق ولم يذهب مذهب مالك وممن روى عنه ابن أيمن وقاسم بن أصبغ ووهب بن مسرة وأحمد بن سعيد بن حزم وقال خالد بن سعيد لو كان الصدق إنسانا لكان ابن حيون وكان يزن بالتشييع لشيء كان يظهر منه في حق معاوية رضي الله تعالى عنه وكان شاعرا وتوفي بقرطبة سنة 305 سامحه الله تعالى
20 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن غالب المالقي قال ابن نقطة سمع بالإسكندرية من أبي الحسن بن المقدسي وكان فاضلا
رأيت بخطه إجازة بمصر لبعض المصريين في رجب سنة 604 وسمع بمصر شيئا من الخلعيات قال ابن فرتون الفاسي في ذيل تاريخ الأندلس روى بمالقة ورحل إلى المشرق وحج ولقي أبا الحسن علي بن المفضل المقدسي وأخذ عنه كتاب تحقيق الجواب عمن أجيز له ما فاته من الكتاب من تآليفه ورجع إلى الأندلس ثم نهض إلى مراكش فتوفي في أقصى بلاد السوس في حدود سنة 645 رحمه الله تعالى
21 - ومنهم اليقوري وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم مصنف كتاب إكمال الإكمال للقاضي عياض على صحيح مسلم وكتب على كتاب الشهاب القرافي في الأصول وسمع الحديث وقدم إلى مصر ومعه مصحف قرآن حمل بغل بعثه ملك المغرب ليوقف بمكة ثم عاد بعد حجه ومات بمراكش سنة 707 وقد زرت قبره بها مرارا قال الحافظ المقريزي واليقوري نسبة إلى يقورة - بياء آخر الحروف مفتوحة وقاف مشددة وراء مهملة - بلد بالأندلس انتهى
22 - ومنهم أبو عبد الله الأنصاري وهو محمد بن إبراهيم بن موسى بن عبد السلام ويعرف بابن شق الليل من أهل طليطلة سمع بمصر أبا الفرج الصوفي وأبا القاسم الطحان الحافظ وأبا محمد بن النحاس وأبا القاسم بن ميسرة وأبا الحسن بن بشر وغيرهم وسمع بطليطلة من جماعة وحدث عن جماعة من المحدثين كثيرة
قال ابن بشكوال وكان فقيها عالما وإماما متكلما حافظا للفقه والحديث قائما بهما متقنا لهما إلا أن المعرفة بالحديث وأسماء رجاله والبصر
بمعانيه وعلله كان أغلب عليه وكان مليح الخط جيد الضبط من أهل الرواية والدراية والمشاركة في العلوم وكان أديبا شاعرا مجيدا لغويا دينا فاضلا كثير التصانيف والكلام على علم الحديث حلو الكلام في تآليفه وله عناية بأصول الديانات وإظهار الكرامات وتوفي بطلبيرة يوم الجمعة منتصف شعبان سنة 455 رحمه الله تعالى
23 - ومنهم الشيخ الإمام الشهير الكبير الولي العارف بالله تعالى سيدي أبو عبد الله القرشي الهاشمي الأندلسي شيخ السالكين وإمام العارفين وقدوة المحققين قدم مصر بعدما صحب ببلاد المغرب جماعة من أعلام الزهاد وكان يقول صحبت ستمائة شيخ اقتديت منهم بأربعة الشيخ أبي الربيع والشيخ أبي الحسن بن طريف والشيخ أبي زيد القرطبي والشيخ أبي العباس الجوزي وسلك على يده جماعة منهم أبو العباس القسطلاني فإنه أخذ عنه كلامه وجمعه في جزء وخرج سيدي أبو عبد الله القرشي من مصر إلى بيت المقدس فأقام به إلى حين وفاته عشية الخميس السادس من ذي الحجة سنة 599 عن خمس وخمسين سنة ودفن هنالك وقبره ظاهر يقصد للزيارة زرته أول قدماتي على بيت المقدس سنة 1028 ومن كلامه من لم يدخل في الأمور بالأدب لم يدرك مطلوبه منها وقوله العاقل يأخذ ما صفا ويدع التكلف فإنه تعالى يقول ( وإن يردك بخير فلا راد لفضله ) [ يونس 107 ] وقال من لم يراع حقوق الإخوان بترك حقوقه حرم بركة الصحبة وقال سمعت الشيخ أبا إسحاق إبراهيم بن طريف يقول لما حضرت الشيخ أبا الحسن بن غالب الوفاة قال لأصحابه اجتمعوا وهللوا سبعين ألف مرة واجعلوا ثوابها لي فإنه بلغني أنها فداء كل مؤمن من النار قال فعملناها واجتمعنا عليها وجعلنا ثوابها له
ثم حكى عن شيخه أبي زيد القرطبي ما حكاه السنوسي عنه في أواخر شرح صغراه وقد أنكر غير واحد من الحفاظ كابن حجر وغيره كون ما ذكر حديثا ولعل هؤلاء أخذوه من جهة الكشف ونحوه والله تعالى أعلم وقال رحمه الله تعالى دخلت على الشيخ أبي محمد عبد الله المغاور فقال لي أعلمك شيئا تستعين به إذا احتجت لشيء فقل يا واحد يا أحد يا واجد يا جواد انفحنا منك بنفحة خير إنك على كل شيء قدير قال فأنا أنفق منها منذ سمعتها وقال رحمه الله تعالى ما من حال ذكر في رسالة القشيري إلا وقد شاهدته نفسي وتزوج رحمه الله تعالى بنساء حدثن عنه بكرامات ومنهن أم القطب القسطلاني وحكت أنها خرجت عنه يوما لحاجتها ثم عادت فسمعت عنده في طبقته حس رجل فتوقفت وافتقدت الباب فوجدته مغلقا فلما انقطع الكلام دخلت إليه فإذا هو وحده كما تركته ومسألته عن ذلك فقال هو الخضر دخل علي وفي يده حية فقال هذه جئتك بها من أرض نجد وفيها شفاء مرضك فقلت لا أريد اذهب أنت وحيتك لا حاجة لي بها ودخل عليه بعض نسائه يوما فوجدته بصيرا نقي الجسم من الجذام فلما نظرته قال لها أتريدين أن أبقى لك هكذا فقالت له يا سيدي كن كيف شئت إنما مقصودي خدمتك وبركتك وقيل له وقد تكاثرت منه رؤية الأشياء وإخباره بها مع كونه ضريرا عن ذلك فقال كلي عين بأي الشام فلما وصلت إلى بلد الخليل عليه السلام تلقاني رسول الله الخليل حين ورودي عليه فقلت له يا رسول الله اجعل ضيافتي عندك أهل مصر فدعا لهم ففرج الله عنهم ومناقبه رحمه الله تعالى وكراماته لا يفي بها هذا المختصر وإنما قصدنا بذكرها البركة وكفارة ما وقع في هذا الكتاب من الإحماض والله المرجو في العفو
ومن فوائده ما نقله عن شيخه أبي الربيع المالقي أنه قال له ألا أعلمك كنزا تنفق منه ولا ينفد قلت بلى قال قل يا الله يا أحد يا واحد يا موجود يا جواد يا باسط يا كريم يا وهاب يا ذا الطول يا غني يا مغني يا فتاح يا رزاق يا عليم يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حنان يا منان انفحني منك بنفحة خير تغنيني بها عمن سواك ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) [ الأنفال 19 ] ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) [ الفتح 1 ] ( نصر من الله وفتح قريب ) [ الصف 13 ] اللهم يا غني يا حميد يا مبدىء يا معيد يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعالا لما يريد اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك واحفظني بما حفظت به الذكر وانصرني بما نصرت به الرسل إنك على كل شيء قدير فمن داوم على قراءته بعد كل صلاة خصوصا صلاة الجمعة حفظه الله تعالى من كل مخوف ونصره على أعدائه وأغناه ورزقه من حيث لا يحتسب ويسر عليه معيشته وقضى عنه دينه ولو كان عليه أمثال الجبال دينا بكرمه وإحسانه انتهى نقله عنه العلامة ابن داود البلوي الأندلسي ومن خطه نقلت رحم الله تعالى الجميع ! ونقله اليافعي كما ذكر رحمه الله تعالى إلا أنه لم يقل فيه يا ودود واتفقا فيما عدا ذلك والله سبحانه أعلم وقال ابن خلكان في حقه محمد بن أحمد بن إبراهيم القرشي الهاشمي العبد الصالح الزاهد من أهل الجزيرة الخضراء كانت له كرامات ظاهرة ورأيت أهل مصر يحكون عنه أشياء خارقة ولقيت جماعة ممن صحبه وكل منهم قد نمى عليه من بركته وذكروا عنه أنه وعد جماعته الذين صحبوه مواعيد
من الولايات والمناصب العلية وأنها صحت كلها وكان من السادات الأكابر والطراز الأول وهو مغربي صحب بالمغرب أعلام الزهاد وانتفع بهم فلما وصل إلى مصر انتفع به من صحبه أو شاهده ثم سافر إلى الشام قاصدا زيارة بيت المقدس وفأقام بها إلى أن مات وصلي عليه بالمسجد الأقصى وهو ابن خمس وخمسين سنة وقبره ظاهر للزيارة والتبرك به والجزيرة الخضراء في بلاد الأندلس مدينة تقابل سبتة من بر العدوة ومن جملة وصاياه لأصحابه سيروا إلى الله تعالى عرجا ومكاسير فإن انتظار الصحة بطالة انتهى ببعض اختصار
24 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن أبي الحسين القرطبي سمع من قاسم بن أصبغ وغيره وقدم مصر فسمع بها من ابن الورد وابن أبي الموت والياوزدي وابن السكن في آخرين وسمع بالرملة وبيت المقدس وكان ضابطا بصيرا بالنحو واللغة فصيحا بليغا طويل اللسان ولي الشرطة ببلاد المغرب توفي سنة 372
25 - ومنهم أبو بكر محمد بن علي بن خلف التجيبي الإشبيلي الحافظ الكاتب روى عن ابن الجد وغيره ومر بمصر حاجا فلقي بمكة أبا حفص الميانشي وأبا الحسن المكناسي ولقي بالإسكندرية السلفي وابن عوف وغيرهما وكان مدرسا للفقه فقيها جليلا متقدما فيه عارفا فاضلا سنيا توفي بعد امتحان من منصور بني عبد المؤمن سنة 596 وذلك أنه وشي به للمنصور
أيام عزم على ترك التقليد والعمل بالحديث
26 - ومنهم أبو بكر الأندلسي الجياني محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن ياسر الأنصاري الجياني سافر من بلده ودخل ديار مصر والشام والعراق وخراسان وما وراء النهر ولقي أئمتها وتفقه ببخارى حتى تمهر في المذهب والخلاف والجدل ثم اشتغل بالحديث وسماعه وحفظه وحصل منه كثيرا ثم سكن بلخ مدة وعاد إلى بغداد ودخلها سنة 559 وتوجه إلى مكة فحج ورجع إلى الشام واستوطن حلب إلى أن توفي بها ووقف كتبه وكان متدينا صدوقا حافظا عالما بالحديث وفيه فضل ولد بجيان سنة 492 ومات بحلب سنة 563
27 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي التجيبي الدهان الغرناطي كان حسن السمت بارع الخط والخلق والخلق رحل إلى الحج وجال في البلاد في حدود سنة ست وستمائة فأخذ بمكة والشام ومصر والإسكندرية عن جماعة كثيرة وكان عدلا فاضلا على خير ودين وكان متحرفا بالتجارة بغرناطة ثم خرج منها آخر عمره فمات بقوص بعدما حج سنة 650 وصدر من مكة سنة 653 فمات قبل منتصف السنة رحمه الله تعالى أبو عمر محمد بن علي الإشبيلي 224 أبو عمر محمد بن علي الإشبيلي 28 - ومنهم أبو عمر محمد بن علي بن محمد بن أبي الربيع القرشي العثماني
الأندلسي الإشبيلي النحوي ولد سنة 617 بإشبيلية وقدم مصر فسمع الكثير بها وبدمشق وغيرها وكان إماما عالما نحويا فاضلا كتب عنه أبو محمد الدمياطي والقطب عبد الكريم وناهيك بهما
29 - ومنهم أبو بكر وأبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن علي بن هذيل البلنسي رحل وسمع من السلفي وحج قال أبو الربيع بن سالم هو شيخ صدوق متيقظ سمع أباه وأبا الوليد بن الدباغ وأبا الحسن طارق بن موسى بن يعيش وجماعة وأخذ بمكة سنة 539 عن أبي علي الحسن المقريء وقفل إلى الأندلس سنة 546 فأخذ عنه بها وسمع منه جماعة قال ابن الأبار كان غاية في الصلاح وأعمال البر والورع توفي ببعض قرى بلنسية سنة 583 ومولده سنة سبع أو تسع عشرة وخمسمائة وله حظ من علم التعبير واللغة رحمه الله تعالي
30 - ومنهم أبو عبد الله ويقال أبو سلمة محمد بن علي البياسي الغرناطي الأنصاري ناصر الدين روى عن الحافظ أبي جعفر بن الزبير وغيره وقدم إلى القاهرة واستوطنها بعد الحج حتى مات بها سنة 703 وكان عارفا بعلم الحديث وكتب منه كثيرا ومال إلى مذهب الظاهرية وانتفع به جماعة من طلبة الحديث وكان ثقة رحمه الله تعالى
31 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن علي بن الشامي الأندلسي الغرناطي قدم مصر حاجا وأقام بمكة والمدينة وكان إماما فاضلا عالما متفننا في علوم ما بين فقه وأصول ونحو ولغة وقراءات ونظم ونثر ومع
معرفته بمذهب مالك ينقل كثيرا من مذهب الشافعي وسمع الموطأ بتونس من أبي محمد بن هرون القرطبي ومولده بغرناطة سنة 671 وتوفي سنة 715 ومن شعره رضي الله تعالى عنه
( إذا كنت جارا للنبي وصحبه ... ومكة بيت الله مني على قرب )
( فما ضرني أن فاتني رغد عيشة ... وحسبي الذي أوتيته نعمة حسبي ) وقوله
( نزيل الكرام عزيز الجوار ... وإني نزيل عليكم وجار )
( حللت ذراك وأنت الكريم ... ومن حل مثوى كريم يجار )
32 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمار الكلاعي الميورقي قدم مصر وروى عن ابن الوليد بها وكان عالما وله قصيدة طويلة فيها حكم ومواعظ يوصي ابنه بها منها قوله
( وطاعة من إليه الأمر فالزم ... وإن جاروا وكانوا مسلمينا )
( فإن كفروا ككفر بني عبيد ... فلا تسكن ديار الكافرينا ) واسم ابنه حسن وسمع من المذكور الحافظ القاضي أبو بكر بن العربي في رحلته سنة 485 ووصفه بالعلم وعمار بالراء
33 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمر بن يوسف بن الفخار القرطبي الحافظ - روى عن أبي عيسى الليثي وابن عون الله وأبي جعفر التميمي
وأبي محمد الباجي وقدم مصر وحج وجاور بالمدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام وأفتى بها وافتخر بذلك على أصحابه وقال لقد شوورت بمدينة الرسول دار مالك بن أنس ومكان شوراه ولقي جماعة من العلماء وأخذ عنهم وكان من أهل العلم والذكاء والحفظ والفهم عارفا بمذاهب الأئمة وأقوال العلماء ذاكرا للروايات يحفظ المدونة والنوادر لابن أبي زيد ويوردها من صدره دون كتاب قال ابن حيان مؤرخ الأندلس توفي الفقيه المشاور الحافظ المتبحر الرواية الطويل الهجرة في طلب العلم الناسك المتقشف بمدينة بلنسية في ربيع الأول سنة 417 لعشر خلون من الشهر وكان الحفل في جنازته عظيما وعاين الناس فيها آية من ظهور أشباه الخطاطيف بها تجللت الجمع رافة فوق النعش لم تفارق نعشه إلى أن ووري فتفرقت ومكث مدة ببلنسية مطاعا عظيم القدر عند السلطان والعامة وذكر جماهر بن عبد الرحمن حديث الطير وكذا ذكر الحسن بن محمد القيسي خبر الطير قال وكانت سنه نحو الثمانين سنة وكان مجاب الدعوة وظهرت في دعوته الإجابة وقال أبو عمرو الداني إن وفاته يوم السبت لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة تسع عشرة وأربعمائة ودفن يوم الأحد بمدينة بلنسية وبلغ نحو ست وسبعين سنة وهو آخر الفقهاء الحفاظ الراسخين العالمين بالكتاب والسنة بالأندلس رحمه الله تعالى ! محمد
34 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عمروس القرطبي - سمع علي بن مفرج وغيره من شيوخ قرطبة وقدم مصر فأخذ بها عن ابن المهندس وغيره
وحج ودخل العراق وسمع من أبي بكر الأبهري والدارقطني وجماعة وعاد إلى الأندلس وشهر بالعلم والمال وولي الأحباس بقرطبة حدث عنه أبو عمر بن عبد البر وغيره ومات في جمادى الآخرة سنة أربعمائة رحمه الله تعالى
35 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن عبد الواحد بن نجيح المعافري المعروف بالأعشى القرطبي - رحل سنة 179 فسمع سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن وهب وجماعة وكان الغالب عليه الحديث ورواية الآثار وكان صالحا عاقلا سريا جوادا يذهب إلى مذهب أهل العراق وتوفي سنة 221 ذكره ابن يونس وغيره
36 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن فطيس الغافقي الإلبيري الزاهد - قال الحميدي في حقه هو من أهل الحديث والحفظ والفهم والبحث عن الرجال وله رحلة سمع فيها من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومن ابن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب وغيرهما وروى بالأندلس عن جماعة منهم بقي بن مخلد وابن وضاح وسمع بمكة وغيرها من مائة شيخ قال ابن الفرضي كان شيخا نبيلا ضابطا لكتبه ثقة في روايته صدوقا في حديثه وكانت الرحلة إليه بإلبيرة وبها مات في شوال سنة 319 وهو ابن تسعين سنة رحمه الله تعالى
37 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم بن محمد بن سيار القرطبي من موالي بني أمية سمع من أبيه ومن بقي بن مخلد وغيره ورحل سنة 294 فسمع بمصر من النسائي ومن أحمد بن حماد زغبة وسمع بمكة والبصرة والكوفة وبغداد ودمياط والإسكندرية والقيروان
من مائة وستين رجلا قال أبو محمد الباجي لم أدرك بقرطبة أكثر حديثا منه وكان عالما بالفقه متقدما في علم الوثائق رأسا فيها وكان مشاورا سمع من الناس كثيرا وكان ثقة صدوقا وغزا سنة 327 ومات ثالث ذي الحجة منها ومولده سنة 263 وقيل توفي سنة 328 قاله ابن يونس والحميدي
38 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن قاسم بن محمد بن قاسم القرشي الفهري عرف بابن رمان الغرناطي - قرأ على أبي جعفر بن الزبير بها وقدم إلى القاهرة سنة 722 ومات بالمدينة المنبوية على صاحبها الصلاة والسلام سنة 729 ومن شعره قوله
( فديتم خبروني كيف صحت ... فريضة هالك من غير مين )
( لزيد زوجة ولها ابن أم ... فماتت عنهما لا غير ذين )
( فحاز البعل ما تركته إرثا ... وولى غيره صفر اليدين )
( ولا رق فديت على أخيها ... وليس بكافر يرمى بشين )
( وليس معجلا إرثا بقتل ... مخافة أن ينال شقاوتين )
39 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن لب الشاطبي حدث بالقاهرة وتوفي قريبا من سنة 640 وهو أحد أصحاب الشيخ أبي الحسن بن الصباغ ومن كلامه اشتغالك بوقت لم يأت تضييع للوقت الذي أنت فيه ولعمري لقد صدق
40 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سراقة الشاطبي بن محمد بن إبراهيم ابن الحسين بن سراقة محيي الدين ويكنى أيضا أبا القاسم وأبا بكر
الأنصاري الشاطبي المالكي ولد بشاطبية سنة 592 وسمع من أبي القاسم ابن بقي ورحل في طلب الحديث فسمع ببغداد من الشيخ أبي حفص عمر السهروردي وأبث طالب القبيطي وأبي حفص الدينوري وجماعة وسمع بحلب من ابن شداد وغيره وتولى مشيخة دار الحديث البهائية بحلب ثم قدم مصر وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية بالقاهرة بعد وفاة بن سهل القصرى سنة 642 وبقي بها إلى أن توفي بالقاهرة في شعبان سنة 662 ودفن بسفح المقطم وكان الجمع كبيرا وهو أحد الأئمة المشهورين بغزارة الفضل وكثرة العلم والجلالة والنبل وأحد المشايخ الصوفية له في ذلك إشارات لطيفة مع الدين والعفاف والبشر والوقار والمعرفة الجيدة بمعاني الشعر وكان صالح الفكرة في حل التراجم مع ما جبل عليه من كرم الأخلاق واطراح التكلف ورقة الطبع ولين الجانب
ومن شعره قوله
( نصبت ومثلي للمكارم ينصب ... ورمت شروق الشمس وهي تغرب )
( وحاولت إحياء النفوسى بأسرها ... وقد غرغرت يا بعد ما أنا أطلب )
( وأتعب إن لم تمنح الخلق راحة ... وغيري إن لم تتعب الخلق يتعب )
( مرادي شيء والمقادير غيره ... ومن عاند الأقدار لا شك يغلب )
وقوله
( إلى كم أمني النفس ما لا تناله ... فيذهب عمري والأماني لا تقضى )
( وقد مر لي النفس مالا تناله ... فيذهب عمري والأماني لا تقضي )
( وقد مر لي خمس وعشرون حجة ... ولم أرض فيها عيشي فمتى أرضى )
( وأعلم أني والثلاثون مدتي ... حر بمغاني اللهو أوسعها رفضا )
( فماذا عسى في هذه الخمس أرتجي ... ووجدي إلى أوب من العشر أفضي )
وقال رحمه الله تعالى
( وصاحب كالزلال يمحو ... صفاؤه الشك باليقين )
لم يحص إلا الجميل مني ... كأنه كاتب اليمن )
وهذا عكس قول المنازي
( وصاحب خلته خليلا ... وما جرى غدره ببالي )
( لم يحص إلا القبيح مني ... كأنه كاتب الشمال )
41 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الفريشي - بكسر الفاء وتشديد الراء المهملة بعدها شين معجمة - نسبة إلى فريش إحدى مدائن قرطبة ولد بغرناطة سنة 557 وقرأ بالروايات على أبي القاسم بن غالب وسمع عليه وعلى أبي القاسم بن بشكوال وغيره وسمع بمكة وحدث بمصر وعاد إلى الأندلس فمات بقرطبة سنة 633 وكان مشهورا بالصلاح معروفا بإجابة الدعاء ورعا ثقة زاهدا فاضلا رحمه الله تعالى
42 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن خيرون وقيل محمد بن عمر بن خيرون أندلسي سكن القيروان ورحل إلى المشرق وأخذ القراءات بمصر عن محمد بن سعيد الأنماطي وغيره كعبيد بن رجاء وأبي الحسن
إسماعيل بن يعقوب الأزرق المدني ودخل العراق وسمع به من أصحاب علي بن المديني ويحيى بن معين وعاد إلى القيروان وسمع بها وبقرطبة وقدم بقراءة نافع على أهل إفريقية وكان الغالب على قراءتهم حرف حمزة ولم يكن يقرأ بحرف نافع إلا الخواص حتى قدم بها فاجتمع إليه الناس ورحل إليه أهل القيروان من الآفاق وكان يأخذ أخذا شديدا على مذهب المشيخة من أصحاب ورش وتوفي بشعبان سنة 306 وكان رجلا صالحا فاضلا كريم الأخلاق إماما في القراءات مشهورا بذلك ثقة مأمونا واحد أهل زمانه وأئمتهم في علم القرآن رحمه الله تعال
43 - ومنهم ضياء الدين أبو جعفر محمد بن محمد بن صابر بن بندار القيسي الأندلسي المالقي ولد بمالقة سنة 625 وسمع الكثير وقدم القاهرة حاجا فسمع بها وبدمشق وكتب بخطه كثيرا وكان سريع الكتابة سريع القراءة كثير الفوائد دينا خيرا فاضلا له مشاركة جيدة في عدة علوم توفي شابا بالقاهرة سنة 662 رحمه الله تعالى
44 - ومنهم أبو بكر محمد الزهري المعروف بابن محرز البلنسي ولد بها سنة 529 وقدم مصر فسمع ابن الفضل وغيره وروى عنه جماعة وكان أحد رجال الكمال علما وإدراكا وفصاحة وحفظا للفقه وتفننا في العلوم ومتانة في الأدب حافظا للغة والغريب وله شعر رائق ودين متين وأخذ الناس عنه ببلده وبمرسية وإشبيلية ومالقة وغرناطة في اجتيازه عليها وبغيرها من البلاد وعلا صيته وعرف بالدين والعلم والفضل وكان أبو الخطاب
يثني على علمه ودينه توفي ببجاية سنة 655 عن سن عالية رحمه الله تعال
45 - وممن ارتحل من الأندلس إلى المشرق القاضي أبو الوليد الباجي صاحب التصانيف المشهورة وقال ابن ماكولا في حقه إنه فقيه متكلم أديب شاعر سمع بالعراق ودرس الكلام وصنف إلى أن مات وكان جليلا رفيع القدر والخطر وقال غير واحد إنه ولد سنة 403 وارتحل سنة 426 وجاور ثلاثة أعوام ملازما لأبي ذر الحافظ يخدمه ورحل إلى بغداد ودمشق ولقي في رحلته غير واحد وتفقه بالقاضي أبي الطيب الطبري وغيره وقال أبو علي بن سكرة ما رأيت مثل أبي الوليد الباجي وما رأيت أحدا على هيئته وسمته وتوقير مجلسه ولما كنت ببغداد قدم ولده أبو القاسم فسرت معه إلى شيخنا قاضي القضاة الشاشي فقلت له أدام الله تعالى عزك هذا ابن شيخ الأندلس فقال لعله ابن الباجي فقلت نعم فأقبل عليه قال القاضي عياض وكثرت القالة في القاضي أبي الوليد لمداخلته الرؤساء وولي قضاء أماكن تصغر عن قدره وكان يبعث إلى تلك النواحي خلفاءه وربما أتاها المرة ونحوها وكان في أول أمره مقلا حتى احتاج إلى القصد بشعره واستأجر نفسه مدة مقامه ببغداد فيما سمعته مستفيضا لحراسة درب وقد جمع ابنه شعره قال ولما قدم الأندلس وجد لكلام ابن حزم طلاوة إلا أنه كان خارجا عن المذهب ولم يكن بالأندلس من يشتغل بعلمه فقصرت ألسنة الفقهاء عن
مجادلته وكلامه واتبعه على رأيه جماعة من أهل الجهل وحل بجزيرة ميورقة فرأس فيها واتبعه أهلها فلما قدم أبو الوليد كلموه في ذلك فدخل إليه وناظره وشهر باطله وله معه مجالس كثيرة ولما تكلم أبو الوليد في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في البخاري قال بظاهر لفظه فأنكر عليه الفقيه أبو بكر الصائغ وكفره بإجازة الكتب على الرسول الأمي وأنه تكذيب للقرآن فتكلم في ذلك من لم يفهم الكلام حتى أثاروا عليه الفتنة وقبحوا عليه عند العامة ما أتى به وتكلم به خطباؤهم في الجمع وقال شاعرهم
( برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال إن رسول الله قد كتبا ) فصنف أبو الوليد رحمه الله تعالى رسالة بين فيها أن ذلك غير قادح في المعجزة فرجع بها جماعة إذ ليس من عرف أن يكتب اسمه فقط بخارج عن كونه أميا لأنه لا يسمى كاتبا وجماعة من الملوك قد أدمنوا على كتابة العلامة وهم أميون والحكم للغالب لا للصور النادرة وقد قال عليه الصلاة و السلام " إنا أمة أميون " أي أكثرهم كذلك لندور الكتابة في الصحابة وقال تعالى ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ) [ الجمعة 2 ] انتهى وبعضه بالمعنى وذكر ابن بسام أن أبا الوليد الباجي نشأ وهمته في العلم وأنه بدأ بالأدب فبرز في ميادينه وجعل الشعر بضاعته فنال به من كل الرغائب ثم رحل فما حل بلدا إلا وجده ملآن بذكره نشوان من قهوتي نظمه ونثره فمال إلى علم الديانة فمشى بمقياس وبنى على أساس حتى صار كثير من العلماء يسمعون منه ويرتاحون للأخذ عنه ثم كر واستقضي في طريقه بحلب فأقام بها نحوا من عام قال وبلغني عن ابن حزم أنه كان يقول لو لم يكن لأصحاب المذهب
المالكي بعد عبد الوهاب إلا مثل أبي الوليد الباجي لكفاهم وصنف أبو الوليد كتبا كثيرة منها كتاب التسديد إلى معرفة التوحيد وكتاب سنن المنهاج وترتيب الحجاج وكتاب إحكام الفصول في أحكام الأصول وكتاب التعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الصحيح وكتاب شرح الموطأ وهو نسختان نسخة سماها الاستيفاء ثم انتقى منها فوائد سماها المنتقى في سبع مجلدات وهو أحسن كتاب ألف في مذهب مالك لأنه شرح فيه أحاديث الموطأ وفرع عليها تفريعا حسنا وأفرد منه شيئا سماه الإيماء وقال بعضهم إنه صنف كتاب المعاني في شرح الموطأ فجاء عشرين مجلدا عديم النظير وكان أيضا صنف كتابا كبيرا جامعا بلغ فيه الغاية سماه الاستيفاء وله كتاب الإيماء في الفقه خمس مجلدات انتهى ومن تصانيفه مختصر المختصر في مسائل المدونة وله كتاب اختلاف الموطأ وكتاب الإشارة في أصول الفقه وكتاب الحدود وكتاب سنن الصالحين وكتاب التفسير لم يتمه وكتاب شرح المنهاج وكتاب التبيين لسبيل المهتدين في اختصار فرق الفقهاء وكتاب السراج في الخلاف ولم يتم وغير ذلك وحج الباجي رحمه الله تعالى أربع حجج جاور فيها ثلاثة أعوام ملازما لأبي ذر عبد بن أحمد الهروي وكان يسافر معه للسروات لأن أبا ذر تزوج من العرب وسكن بها
أبو ذر المذكور هو عبد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن غفير الأنصاري المالكي ويعرف بابن السماك سمع بهراة وسرخس وبلخ ومرو والبصرة وبغداد ودمشق ومصر وجاور بمكة وألف معجما لشيوخه وعمل الصحيح وصنف التصانيف قال الخطيب قدم أبو ذر بغداد وأنا غائب فحدث بها ثم حج وجاور ثم تزوج في العرب وسكن السروات وكان يحج كل عام ويحدث ويرجع وكان ثقة ضابطا دينا وقال الحسن بن بقي المالقي حدثني شيخي قال قيل لأبي ذر من أين تمذهبت بمذهب مالك ورأي الأشعري مع أنك هروي فقال قدمت بغداد وكنت ماشيا مع الدارقطني فلقينا أبا بكر بن الطيب فالتزمه الدارقطني وقبل وجهه وعينيه فلما افترقنا قلت من هذا قال هذا إمام المسلمين والذاب عن الدين القاضي أبو بكر بن الطيب فمن ذلك الوقت تكررت إليه وتمذهبت بمذهبه انتهى قلت هذا صريح في أن القاضي أبا بكر الباقلاني مالكي وهو الذي جزم به غير واحد ولذا ذكره عياض في المدارك في جملة المالكية وكذلك شيخ السنة الإمام أبو الحسن الأشعري مالكي المذهب فيما ذكره غير واحد من الأئمة وذكر بعض الشافعية أنهما شافعيان والله تعالى أعلم وقال عبد الغافر في تاريخ نيسابور كان أبو ذر زاهدا ورعا عالما سخيا لا يدخر شيئا وصار كبير مشيخة الحرم مشارا إليه في التصوف خرج على الصحيح تخريجا حسنا وكان حافظا كثير الشيوخ توفي سنة 435 وقال أبو علي بن سكرة توفي عقب شوال سنة 434 وقال الخطيب في ذي القعدة من سنة أربع وثلاثين رحمه الله تعالى وأكثر
نسخ البخاري الصحيحة بالمغرب إما من رواية الباجي عن أبي ذر عبد بن أحمد الهروي المذكور وإما من رواية أبي علي الصدفي الشهير المعروف بابن سكرة بسنده واعلم أن هراة المنسوب إليها الحافظ أبو ذر ليست بهراة التي وراء النهر نظيرة بلخ وإنما هي هراة بني شيمانة بالحجاز وبها كان سكنى أبي ذر والله تعالى أعلم
رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى
- ثم إنه - أعني الباجي - قدم بغداد وأقام بها ثلاثة أعوام يدرس الفقه ويقرأ الحديث فلقي بها عدة من العلماء كأبي الطيب الطبري والإمام الشهير أبي إسحاق الشيرازي والصيمري وابن عمروس المالكي وأقام بالموصل سنة مع أبي جعفر السمناني يأخذ عنه علم الكلام فبرع في الحديث وعلله ورجاله وفي الفقه وغوامضه وخلافه وفي الكلام ومضايقه وتدبج مع الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي بحيث روى كل واحد منهما عن الآخر رضي الله تعالى عنهما ونفع بهما ورجع إلى الأندلس بعد ثلاث عشرة سنة بعلم جم حصله مع الفقر والتعفف ومما يفتخر به أنه روى عنه حافظا المغرب والمشرق أبو عمر بن عبد البر والخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادي وناهيك بهما وهما أسن منه وأكبر وأبو عبد الله الحميدي وعلي بن عبد الله الصقلي وأحمد بن علي بن غزلون وأبو بكر الطرطوشي وأبو علي بن الحسين السبتي وأبو بحر سفيان بن العاصيوممن روى عنه ابنه أبو القاسم أحمد وكان لما رجع إلى الأندلس فشا علمه وتهيأت الدنيا له وعظم جاهه وأجزلت له الصلات فمات عن مال وافر وترسل للملوك وولي القضاء بعدة مواضع رحمه الله تعالى وأما ما تقدم عن القاضي أبي الوليد الباجي من إجراء حديث الكتابة على ظاهره فهو قول بعض والصواب خلافه قال القاضي أبو الفضل عياض حدثنا محمد بن علي المعروف بابن الصيقل الشاطبي من لفظه قال حدثني أبو الحسن بن مفوز قال كان أبو محمد بن أحمد بن الحاج الهواري من أهل جزيرة شقر ممن لازم الباجي وتفقه عنده وكان يميل إلى مذهب الباجي في جواز مباشرة النبي الكتابة بيده في حديث المقاضاة في الحديبية على ما جاء في ظاهر بعض رواياته ويعجب به وكنت أنكر ذلك عليه فلما كان بعد برهة أتاني زائرا على عادته وأعلمني أن رجلا من إخوانه كان يرى في النوم أنه بالمدينة وأنه يدخل المسجد فيرى قبر النبي أمامه فيجد له قشعريرة وهيبة عظيمة ثم يراه ينشق ويميد ولا يستقر فيعتريه منه فزع عظيم وسألني عن عبارة رؤياه فقلت أخشى على صاحب هذا المنام أن يصف رسول الله بغير صفته أو ينحله ما ليس له بأصل أو لعله يفتري عليه فسألني من أين قلت هذا قلت له من قول الله تعالى ( تكاد السماوات يتفطرن منه ) - إلى قوله تعالى - ( وولدا ) [ مريم 90 ] فقال لي لله درك يا سيدي وأقبل يقبل رأسي وبين عيني ويبكي مرة ويضحك أخرى ثم قال لي أنا صاحب الرؤيا واسمع تمامها يشهد لك بصحة تأويلك قال إنه لما رأيتني في ذلك الفزع العظيم كنت أقول والله ما هذا إلا أنني أقول وأعتقد أن رسول الله كتب فكنت أبكي وأقول أنا تائب يا رسول الله وأكرر ذلك مرارا فأرى القبر قد عاد إلى هيأته أولا وسكن فاستيقظت ثم قال لي وأنا أشهد أن رسول الله ما كتب قط حرفا