كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون
ويقال إن زياداً بدا له أن يخطب إلى سعيد بن العاص ابنته، فكتب إليه بذلك، فأجابه سعيد: أما بعد فإن أمير المؤمنين لم ينزلك من نفسه هذه المنزلة، ولم يجعل في يديك ولايته، ولم يؤهلك لما أنت فيه إلا لما يريد أن يوصل إليك من تنويه الاسم ورفيع الدرجة. فأجابه زياد: . وكأنا قد أحببنا التوسل إليك ببعض ما يعود عليك نفعه ويشتبك الحال فيما بيننا وبينك وتتشعب القرابات منا، فنحظى ونسعد بكم؛ وقد مهرنا كريمتك فلانة مائة ألف درهم: العاجل خمسون ألفاً والآجل مثل ذلك، فإذا عزمت على تزويجنا فمر من يقبض المال والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فلما ورد الكتاب على سعيد امتنع من الطعام يومه ذلك، وكتم الناس أمره؛ فلما كان الغد دعا بالفرزدق، فقال: ألا أعجبك من بيضة البلد؟ قال: وما ذاك؟ فأراه سعيد الكتاب، فقال الفرزدق: أصلحك الله، أراد تثبيت النسب وتعقيد الحسب. فتبسم سعيد وكتب إلى زياد: أما بعد، إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى. والسلام عليك. وكان هذا القول من الفرزدق سبب فراره من زياد فلم يدخل العراق حتى مات.
ادعى رجل على جعفر بن محمد - رضي الله عنهما - دعوةً واستحضره إلى القاضي، فلما ذكر دعواه قال جعفر: برئت إليه من ذلك.
فأنكر الرجل ولم تقم لجعفر عليه بينة. فقال له القاضي: حقك عليه اليمين.
قال: نعم، أنا أستحلفه. فقال له القاضي: إن شئت. فقال له جعفر: قل والله إن لي عندك كذا وكذا وأستحقه عليك. فقال ذلك، فخر ميتاً. فقال القاضي لجعفر: كيف هذا؟! قال: إن استحلافك له بيمين فيها ثناء على الله ومدح، وإن الله إذا أثني عيه ومدح لم يعاجل بالعقوبة كرماً منه وتفضلاً.
قال عبد الملك بن عمير الليثي: دخلت على عبد الملك بن مروان وهو جالس في بهو على سرير وقد وضع بين يديه رأس مصعب بن الزبير. فلما رأيته قلت متعجباً: لا إله إلا الله! لقد رأيت اليوم عجباً تذكرت به عجائب. قال: وما ذاك؟ قلت: رأيت عبيد الله بن زياد في هذا البهو جالساً على هذا السرير وبين يديه رأس الحسين بن علي عليه السلام، ثم دخلت بعد ذلك على المختار في هذا البهو فوجدته جالساً على هذا السرير وبين يديه رأس عبيد الله بن زياد، ثم دخلت على مصعب في هذا البهو وهو على هذا السرير وبين يديه رأس المختار، وقد دخلت عليك يا أمير المؤمنين في هذا البهو وأنت على هذا السرير وبين يديك رأس مصعب. فبادر عبد الملك ونزل عن السرير وخرج عن البهو وأمر بهدمه.
قال بعض تجار البحر: حملنا مرة متاعاً إلى الصين من الأبلة، وكان قد اجتمع ركب فيه عشر سفن، قال: ومن رسمنا إذا توجهنا في مثل هذا الوجه أن نأخذ قوماً ضعفاء ونأخذ بضائع قوم. فبينا أنا قد أصلحت ما أريد، إذ وقف شيخ فسلم، فرددت؛ فقال: لي حاجة قد سألتها غيرك من التجار فلم يقضها، قلت: فما هي؟ قال: اضمن لي قضاءها حتى أقول، فضمنت؛ فأحضر لي رصاصة فيها نحو مائة من وقال: تأمر بحمل هذه الرصاصة معك، فإذا صرتم في لجة هذا البحر فاطرحها في البحر، فقلت: يا هذا ليس هذا مما أفعله؛ قال: قد ضمنت لي، وما زال بي حتى قبلت وكتبته في روزنامجي.
فلما صرنا في ذلك الموضع عصفت علينا ريح فيئسنا من أنفسنا ومما معنا، ونسينا الرصاصة، ثم خرجنا من اللجة وسرنا حتى بلغنا موضعنا، فبعت ما صحبني، وحضرني رجل فقال لي: معك رصاص؟ فقلت: ليس معي رصاص، فقال لي غلامي: معنا رصاص، قلت: لم أحمل رصاصاً معي، قال: بلى، للشيخ، فذكرت فقل: خالفناه وبلغنا ههنا، وما علي أن أبيعه، فقلت للغلام: أحضرها. وساومني الرجل بها فبعث بمائة وثلاثين ديناراً، وابتعت بها للشيخ طرائف الصين. وخرجنا قوافينا المدينة، وبعت تلك الطرائف بمبلغ سبعمائة، وصرت إلى البصرة إلى الموضع الذي وصفه لي الشيخ، ودققت باب داره وسألت عنه، فقيل توفي؛ فقلت: هل خلف أحداً يرثه؟ قالوا: لا نعلم له إلا ابن أخ في بعض نواحي البحر. قال: فتحيرت فقيل لي: إن داره موقوفة في يد أمين القاضي؛ فرجعت إلى الأبله والمال معي. فبينا أنا ذات يوم جالس إذ وقف على رأسي رجل فقال: أنت فلان؟ قلت: نعم. قال: أكنت خرجت إلى الصين؟ قلت: نعم. قال: وبعت رجلاً هناك رصاصاً؟ قلت: نعم، قال: أفتعرف الرجل؟ فتأملته وقلت: أنت هو، قال: نعم، إني قطعت من تلك الرصاصة شيئاً لأعمله فوجدتها مجوفةً، ووجدت فيها اثني عشر ألف دينار، وقد جئت بالمال، فخذه عافاك الله. فقلت له ويحك! والله ما المال لي، ولكنه كان من خبره كذا؛ وحدثته فتبسم الرجل ثم قال: أتعرف الشيخ؟ قلت: لا، قال: هو عمي وأنا ابن أخيه، وليس له وارث غيري، وأراد أن يزوي هذا المال عني وهربني من البصرة سبع عشرة سنة، فأبى الله سبحانه وتعالى إلا ما ترى على رغمه. قال: فأعطيناه الدنانير كلها ومضى إلى البصرة وأقام بها.
قال الصولي: كان المعتصم في فتنة الأمين يمضي إلى علي بن الجنيد الإسكافي فيقيم عنده، ولا يقصر علي في خدمته وإكرامه والنفقة عليه - وكان علي أكثر الناس مزاحاً وأحسنهم كلاماً - فآذاه المعتصم في شيء، فقال علي: والله لا يفلح أبداً على المزح، فحفظها المعتصم. فلما دخل بغداد خليفة أمر وصيفاً بإحضار علي فأحضره - وكان عدواً للفضل بن مروان - فضحك المعتصم، وكان يقول: ذلك اليوم اعتقدت أن أنكب الفضل؛ ثم قال: يا علي تذكر حيث وقفت لإبراهيم ابن المهدي بمربعة الحرسي فنزلت فقبلت يده ثم أدنيت ابني هارون فقبل يده وقلت: عبدك هارون ابني، فأمر له بعشرة آلاف درهم؟ قال علي: أذكر لك؛ قال: فإنه ترجل لي اليوم وقبل يدي في ذلك الموضع بعينه، ثم قال لي: عبدك هبة الله ابني، فأدناه فقبل يدي، فأمرت له بعشرة آلاف درهم، ولم تطب له نفسي بغيرها. فقال: بئس والله ما فعل أمير المؤمنين. قال: وكيف ويلك؟ قال: إبراهيم كان أمر لهارون بعشرة آلاف درهم وليست في يده إلا بغداد وحدها، وفي يد أمير المؤمنين من المشرق إلى المغرب. قال: صدقت، أعطوه عشرة آلاف دينار؛ وفرق المعتصم في أهله ثلاثين ألف ألف درهم.
قال أحمد بن أبي الأصبغ: لما ولي المستعين الخلافة دعاني أحمد بن الخصيب، وقد استوزره، فقال لي: اكتب الساعة في إشخاص أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد بفرائق بأسرع من عندك وأفرههم. فورد أبو صالح بعد شهر، فمكث جمعة ودب في أمر أحمد بن الخصيب حتى ولي مكانه ونفى أحمد بن الخصيب إلى اقريطش. فدعاني أبو صالح حين ولي فقال: اكتب الساعة إلى همذان في إشخاص شجاع بن القاسم إلى الحضرة ووجه إليه بالذي جاء بي من فارس. قال: ففعلت ذلك، فوافى شجاع فتقلد كتبه أوتامش؛ فلما مكن نكب أبا صالح وأقام مكانه.
حدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي قال: حدثني عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو ببغداد، وذلك في سنة سبعين وثلاثمائة، قال: حدثتني أمي - رحمها الله - أنها ولدت للأمير ركن الدولة ولداً قبلي كناه أبا دلف، وعاش قليلاً ومضى لسبيله. قالت: فحزنت عليه حزناً شديداً أسفاً على فقده وإشفاقاً من أن ينقطع ما بيني وبين الأمير بعده، فسلاني مولاي وسكنني وأقبل علي وقربني؛ ومضت الأيام وتطاول العهد وسلوت، ثم حملت بك بأصفهان فخفت أن أجيء ببنت فلا أرى مولاي ولا يراني، لما أعرفه من كراهيته للبنات وضيق صدره بهن وطول إعراضه عنهن؛ ولم أزل على جملة القلق والجزع إلى أن دخلت في شهري وقرب ما أترقبه من أمري، وأقبلت على البكاء والدعاء ومداومة الصلاة والأدعية إلى الله في أن يجعله ولداً ذكراً سوياً محظوظاً أو كما قال عضد الدولة؛ ثم حضرت أيامي، واتفق أن غلبني النوم فنمت في مخادعي، ورأيت في منامي رجلاً شيخاً نظيف البزة ربعةً كث اللحية، أعين عريض الأكتاف، وقد دخل علي وعندي أنه مولاي ركن الدولة، فلما تبينت صورته ارتعت منه وقلت: يا جواري، من هذا الهاجم علينا؟ فتساعين إليه فزبرهن وقال: أنا علي بن أبي طالب، فنهضت إليه وقبلت الأرض بين يديه، فقال: لا، لا، وقلت: قد ترى يا مولاي ما أنا فيه، فادع الله لي بأن يكشفه ويهب لي ذكراً سوياً محظوظاً، فقال: يا فلانة، وسماني باسمي - وكذا كنى الملك عضد الدولة عن الاسم - قد فرغ الله مما ذكرت، وستلدين ذكراً سوياً نجيباً ذكياً عاقلاً فاضلاً، جليل القدر، سائر الذكر، عظيم الصولة، شديد السطوة، يملك بلاد فارس وكرمان والبحر وعمان والعراق والجزيرة إلى حلب، ويسوس الناس كافة ويقودهم إلى طاعته بالرغبة والرهبة، ويجمع الأموال الكثيرة، ويقهر الأعداء، ويقول بجميع ما أنا فيه - يقول الملك ذاك - ويعيش كذا وكذا سنة - لعمر طويل أرجو بلوغه - ولم يبين الملك قدره - ويملك ولده من بعده، فيكون من حالهم كذا وكذا لشيء طويل، هذه حكاية لفظه.
قال الملك عضد الدولة: فكلما ذكرت هذا المنام وتأملت أمري وجدته موافقاً له حرفاً بحرف. ومضت على ذلك السنون ودعاني عمي عماد الدولة إلى فارس، واستخلفني عليها، وصرت رجلاً وماتت أمي.
وحدث أبو الحسين الصوفي - يقول الملك هذا وأبو الحسين حاضر يسمع حديثه - : واعتللت علةً صعبةً أيست فيها من نفسي وأيس الطب مني، وكانت سنتي المتحولة فيها سنةً رديئة الدلائل، موحشة الشواهد؛ وبلغت إلى حد أمرت فيه أن يحجب الناس عني، حتى الأطباء لضجري بهم، وتبرمي بأمورهم، وما أحتاج إلى شرحه لهم، ولا يصل إلي إلا حاجب النوبة؛ وبينا أنا على ذلك وقد مضت علي فيه ثلاثة أيام أو أربعة ولا شغل لي إلا البكاء على نفسي والحسرة من مفارقة الحياة، إذ دخل حاجب النوبة فقال: أبو الحسين الصوفي في الدار منذ الغداة، وهو يقول: لابد لي من لقاء مولانا فإن عندي بشارةً ولا يجوز أن يتأخر وقوفه عليها وسماعه إياها. فلم أحب أن أجد به في المنع والصرف إلا بعد المطالعة وخروج الأمر. فقلت له على مضض غالب وبصوت خافت: قل له كأني بك وأنت تقول قد بلغ الكوكب الفلاني إلى الموضع الفلاني، وتهذي علي في هذا المعنى هذياناً لا يتسع له صدري، ولا يحتمله قلبي وجسمي، وما أقدر على سماع ما عندك فانصرف.
فخرج الحاجب وعاد متعجباً وقال: إما أن يكون أبو الحسين قد اختل وإما أن يكون عنده أمر عظيم، فإنني أعدت عليه ما قاله مولانا، فقال: ارجع وقل له والله لو أمرت بضرب رقبتي لما انصرفت أو أراك، ومتى أوردت عليك في معنى النجوم حرفاً فحكمك ماض في، وإذا سمعت ما أحدثك به عوفيت في الوقت وزال ما تجده.
فعجبت من هذا القول عجباً شديداً مع علمي بعقل أبي الحسين وشدة تحقيقه وقلة تحريفه، وتطلعت نفسي إلى ما عنده، فقلت: هاته! فلما دخل قبل الأرض وبكى، وقال: أنت والله يا مولانا في عافية ولا خوف عليك، اليوم تبل وتستقل، ومعي دلالة على ذلك. قلت: وما هي؟ ولم أكن حدثته من قبل بحديث المنام الذي رأته أمي ولا سمعه أحد مني. فقال: رأيت البارحة في منامي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، والناس يهرعون إليه، ويجتمعون عليه، ويفاوضونه أمورهم، ويسألونه حوائجهم، وكأني قد تقدمت إليه وقلت له: يا أمير المؤمنين، أنا رجل في هذا البلد غريب، تركت نعمتي وتجارتي بالري، وتعلقت بخدمة هذا الأمير الذي أنا معه، وقد بلغ في علته إلى حد أيس فيه من عافيته، وأخاف أن أهلك بهلاكه، فادع الله له بالسلامة. قال: تعني فناخسرو بن الحسن بن بويه؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: امض إليه غداً وقل له: أنسيت ما أخبرتك به أمك عني في المنام الذي رأته وهي حامل بك؟ ألم أخبرها مدة عمرك وأنك ستعتل إذا بلغت كذا وكذا سنة علة ييأس فيها منك أهلك وطبك، ثم تبرأ منها، وفي غد يبتدئ برؤك، ويتزايد إلى أن تركب وتعود إلى عاداتك كلها في كذا وكذا يوماً، ولا قاطع على أجلك إلى الوقت الذي أخبرتك به أمك عني. قال الملك عضد الدولة: وقد كنت أنسيت أن أمي ذكرت ذلك في المنام وأني إذا بلغت هذه السنة من عمري اعتللت هذه العلة التي ذكرها؛ فذكرت ذلك عند قول أبي الحسين ما قاله؛ فحين سمعت ما سمعته حدثت لي في الحال قوة نفس لم تكن من قبل، وقلت: أقعدوني. فجاء الغلمان وأجلسوني. فلما استقللت على الفراش قلت لأبي الحسين: اجلس وأعد الحديث؛ فجلس وأعاد، وتولدت بي شهوة الطعام، واستدعيت الطب فأشاروا بتناول غداء عمل في الوقت وأكلته، ولم يتصرم الوقت حتى أحسست بالصلاح الكثير، وتدرجت العافية فركبت وعاودت عاداتي في اليوم الذي قاله أبو الحسين.
وكان الملك يشرح هذا الشرح وأبو الحسين حاضر، يقول: كذا والله قلت لمولانا، وأعيذه بالله فما أحسن حفظه وذكره.
ثم قال لي: بقي في نفسي من هذا المنام شيء، قلت: يبلغ الله مولانا آماله، ويزيده من كل ما يهواه، ويصرف عنه كل ما يخشاه؛ ولم أتجاوز الدعاء لعلمي بأن سؤاله عن ذلك سوء أدب. فعلم ما في نفسي وقال: وقوفه على أنني أملك حلب، ولو كان عنده أنني أتجاوزها لقال، حتى إنه لما ورد الخبر بإقامة ابن سيف الدعوة لي بها ذكرت المنام فنغص علي أمرها إشفاقاً من أن تكون آخر حدود مملكتي من ذلك الصقع. فدعوت له وانقطع الحديث.
قال الصولي: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: لما دعي محمد بن عبد الله أخي من مقتل يحيى بن عمر العلوي، دخلت إليه بعد ذلك بمدة، يوماً سحراً، وهو كئيب الوجه، ناكس الرأس، عائص في الهم، كأنه معروض على السيف، وأخته واقفة وجواريه قيام. فلم أقدم على مسألته عن أمره، وأومأت إلى أختي أن ما له؟ قالت: رأت رؤيا قد روعته وأفزعته. فتقدمت حينئذ وقلت: أيها الأمير روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا رأى أحدكم في منامه ما لا يحبه فليتحول من جانبه الذي يكون عليه مضطجعاً إلى الجانب الآخر وليتفل ثلاثاً عن يساره وليلعت إبليس وليستعيذ بالله منه ولينم. قال: فرفع رأسه وقال: يا أخي إذا لم تكن البلية العظمى والطامة الكبرى من جهة رسول اله صلى الله عليه وسلم! فقلت: أعوذ بالله قال: أتذكر رؤيا طاهر ابن الحسين جدنا قلت: بلى.
قال عبيد الله: وكان طاهر وهو صغير الحال رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وهو يقول له: يا طاهر إنك ستبلغ من الدنيا مبلغاً كبيراً فاتق الله واحفظني في ولدي، فإنك لا تزال محفوظاً ما حفظتني فيهم. قال: فما تعرض طاهر لقتال علوي وندب إلى قتال يحيى ولم يفعل.
قال: ثم قال لي محمد أخي: إنني رأيت البارحة في منامي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه يقول لي: نكبتم! فانتبهت فزعاً وتحولت واستعذب من إبليس ولعنته واستغفرت الله، ونمت، فرأيته صلى الله عليه وسلم وهو يقول لي: يا محمد نكثتم وقتلتم أولادي، والله لا تفلحون بعدها أبداً. فانتبهت وأنا على هذه الصورة التي تراني عليها منذ نصف الليل.
قال: واندفع يبكي وبكيت معه. فما مضت على ذلك إلا مدة يسيرة ونكبنا بأسرنا أقبح نكبة، وصرفنا عن ولايتنا، ولم يزل أمرنا يخمل حتى لم يبق لنا اسم على منبر، ولا علم على جيش، وحصلنا إلى الآن تحت المحنة.
قيل لعلي بن الحسين عليهما السلام: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحنا خائفين برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح جميع أهل الإسلام آمنين به.
نظر رجل إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن وهو مغموم فقال: ما غمك يا ابن رسول الله؟ فقال: كيف لا أغتم وقد امتحنت بأعظم من محنة إبراهيم خليل الله، ذاك أمر بذبح ابنه ليدخل الجنة وأنا مأخوذ بأن أحضر ابني ليقتلا فأدخل النار.
روي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما استأذن على الحجاج ليلاً فقال الحجاج: إحدى حمقات أبي عبد الرحمن. فدخل فقال له الحجاج: ما جاء بك؟ قال: ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم: من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتةً جاهليةً. فمد ليه رجله فقال: خذ فبايع.
أراد بذلك الغض منه.
قال المنصور لعمرو بن عبيد: عظني، قال: بما رأيت أو بما سمعت قال: بل عظني بما رأيت. فقال له: مات عمر بن عبد العزيز فخلف أحد عشر ابناً، وبلغت تركته سبعة عشر ديناراً كفن منها بخمسة دنانير واشترى موضعاً لقبره بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده تسعة عشر درهماً. ومات هشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابناً، وأصاب كل واحد من ولده ألف ألف دينار، فرأيت رجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله، ورأيت رجلاً من ولد هشام يسأل ليتصدق عليه.
كان محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس ذا نعمة ضخمة، ولم يكن له ولد إلا بنت واحدة ماتت قبله؛ وولد لأخيه جعفر مائة نسمة من ذكر وأنثى. وكان محمد يقول: أشتهي أن يصفو لي يوم لا يعارض سروري فيه غم.
فكان أخوه جعفر يقول: لا تمتحن هذا، فقل من امتحنه إلا امتحن فيه . أحضر كل من تحب حضوره. فبينما هو على أتم أمر وأسر حال إذ سمع صراخاً، فسأل عنه فكتم فالح، فعرف أن ابنته صعدت درجةً فسقطت منها فماتت. فلم يف سروره صدر نهاره بما عقب من غمه.
وشبيه بهذا ما حكي عن يزيد بن عبد الملك أنه قال يوماً: يقال إن الدنيا لم تصف لأحد يوماً واحداً، فإذا خلوت يومي هذا فاحجبوه عني الأخبار وخلوني ولذتي. وخلا مع جاريته حبابة - وكان شديد الشغف بها - فبينا هو يسقيها وتسقيه وتغنيه إذ تناولت حبة رمان فغصت بها فماتت لوقتها. فانزعج وتركها أياماً حتى عذله بنو أمية وقالوا: إنها جيفة! وألحوا عليه فدفنها ومشى في جنازتها وهو يقول: من الطويل:
فإن تَسلُ عنكِ النفْسُ أو تَدعِ الهوى ... فباليأس تسلو عنكِ لا بالتجلّدِ
فعد بينهما خمسة عشر يوماً.
قال محمد بن الحارث بن بسخنر: كانت لي نوبة في خدمة الواثق في كل جمعة، إذا حضرت ركبت إلى الدار، فإن نشط للشراب أقمت عنده، وإن لم ينشط انصرفت؛ وكان رسمنا أن لا يحضر أحد منا إلا في يوم نوبته. فإني لفي منزلي في غير يوم نوبتي، إذا برسل الخليفة قد هجموا علي وقالوا لي: احضر؛ فقلت: ألخير؟ قالوا: خير، فقلت: إن هذا يوم لم يحضرني فيه أمير المؤمنين قط، ولعلكم غلطتم؛ قالوا: الله المستعان! لا تطول وبادر، فقد أمرنا أن لا ندعك تستقر على الأرض. فدخلني فزع شديد، وخفت أن يكون ساع قد سعى بي، وبلية قد حدثت في رأي الخليفة علي. فتقدمت بما أردت وركبت حتى وافينا الدار، فذهبت لأدخل على رسمي من حيث كنت أدخل فمنعت. وأخذ بيدي الخدم فعدلوا بي إلى ممرات لا أعرفها، فزاد ذلك من جزعي وغمي. ثم لم يزل الخدم يسلمونني من خدم إلى خدم حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصحن، ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب، ثم أفضوا بي إلى رواق أرضه وحيطانه ملبسة بمثل ذلك، وإذا الواثق في صدره على سرير مرصع بالجوهر، وعليه ثياب منسوجة بالذهب، وإلى جانبه فريدة جاريته، عليها مثل ثيابه، وفي حجرها عود.
فلما رآني قال: قد جودت والله يا محمد، إلينا إلينا! فقبلت الأرض ثم قلت: يا أمير المؤمنين، خيراً! قال خيراً! أما ترانا! طلبت والله ثالثاً يؤنسنا فلم أر أحق بذلك منك، فبحياتي بادر وكل شيئاً وبادر إلينا؛ فقلت: قد والله يا سيدي أكلت وشربت أيضاً، قال: فاجلس، فجلست وقال: هاتوا لمحمد رطلاً في قدح، فأحضرت ذلك واندفعت فريدة تغني: من الطويل:
أَهابُك إِجالاً وما بك قُدْرةٌ ... عليَّ ولكنْ مِلْءُ نَفْسٍ حبيبُها
فجاءت والله بالسحر، وجعل الواثق يجاذبها، وفي خلال ذلك تغني الصوت بعد الصوت، وأغني في خلال غنائها، فمر لنا أحسن ما مر لأحد. فإنا لكذلك إذ رفع رجله فضرب بها صدر فريدة ضربةً تدحرجت بها من أعلى السرير إلى الأرض، وتفتت عودها، ومرت تعدو وتصيح؛ وبقيت كالمنزوع الروح، ولم أشك في أن عينه وقعت علي، وقد نظرت إلي ونظرت إليها.
وأطرق إلى الأرض متحيراً، وأطرقت أتوقع ضرب العنق. فإني كذلك إذ قال لي: يا محمد، فوثبت، فقال لي: ويحك أرأيت أعجب مما تهيأ علينا؟ فقلت: يا سيدي، الساعة والله تخرج روحي، فعلى من أصابنا بعين لعنة الله، فما كان السبب والذنب؟ قال: لا ولله، ولكن فكرت في أن جعفرا يقعد هذا المقعد غداً وتقعد معه كما هي قاعدة معي، فلم أطق الصبر، وخامرني ما أخرجني إلى ما رأيت. فسري عني وقلت: بل يقتل الله جعفراً، ويحيا أمير المؤمنين أبداً، وقبلت الأرض وقلت: يا سيدي، ارحمها ومر بردها. فقال لبعض الخدم الوقوف: مر من يجيء بها، فلم يكن بأسرع من أن خرجت وفي يدها عودها، وعليها غير الثياب التي كانت عليها، فلما رآها جذبها إليه، وغلبها البكاء فبكت، وجعل هو يبكي واندفعت أنا في البكاء. فقالت: ما ذنبي يا مولاي؟ وبأي شيء استوجبت هذا؟ فأعاد عليها ما قاله لي وهو يبكي وهي تبكي؛ فقالت: سألتك بالله يا أمير المؤمنين إلا ضربت عنقي الساعة وأرحتني من الفكر في هذا، وأرحت قلبك من الهم! ثم مسحا أعينهما، ورجعت إلى الغناء.
وأومأ إلى خدم وقوف بشيء لا أعرفه، فمضوا وأحضروا أكياساً فيها عين وورق، ورزماً فيها ثياب كثيرة، وجاء خادم بدرج ففتحه، وأخرج منه عقداً ما رأيت قط مثل جوهر كان فيه، وأحضرت بدرة فيها عشرة آلاف فجعلت بين يدي، وخمسة تخوت عليها ثياب، وعدنا إلى أمرنا وإلى أحسن ما كنا، فلم نزل كذلك إلى الليل وتفرقنا.
وضرب الدهر من ضربه، وتقلد المتوكل، فو الله إني لفي منزلي يوم نوبتي إذ هجم رسل الخليفة علي فما أمهلوني حتى ركبت، فصرت إلى الدار، فأدخلت الحجرة بعينها، وإذا المتوكل في الموضع الذي كان فيه الواثق وعلى السرير بعينه، وإلى جانبه فريدة، فلما رآني قال: ويحك! ما ترى ما أنا فيه من هذه؟ أنا من غدوة أطالبها بأن تغني فتأبى ذلك، فقلت لها: سبحان الله! تخالفين سيدك وسيدنا وسيد البشر! بحياته غني، فضربت ثم اندفعت تقول: من الوافر:
مُقيمٌ بالمجازةِ من قَنَوْنا ... وأَهلُكَ بالأُجَيْفِرِ فالثِّمادِ
فلا تَبْعَدْ فكُّل فتىً سيأتي ... عليه الموتُ يطرقُ أَو يُغادي
ثم ضربت بالعود الأرض ورمت بنفسها عن السرير، ومرت تعدو وهي تصرخ: واسيداه! فقال لي: ويحك! ما هذا؟ فقلت: لا أدري والله يا سيدي، فقال: ما ترى؟ قلت: أرى والله أن تحضر هذه ومعها وغيرها، فإن الأمر يؤول إلى ما يريد أمير المؤمنين، قال: فانصرف في حفظ الله، فانصرفت ولم أدر ما كانت القص.
وروي أن رجلاً من أهل مكة من بني جمح ولدت له جارية لم يولد مثلها في الحجاز حسناً، فقال: كأني بها قد كبرت، فنسب بها عمر بن أبي ربيعة وفضحها ونوه باسمها كما فعل بنساء قريش، والله لا أقمت بمكة. فباع ضيعةً له بالطائف ومكة، ورحل بابنته إلى البصرة، وأقام بها، وابتاع هناك ضيعة. ونشأت ابنته من أجمل نساء زمانها. ومات أبوها، فلم تر أحداً من بني جمح حضر جنازته، ولا وجدت لها مسعداً، ولا عليها داخلاً. فقالت لداية لها سوداء: من نحن؟ ومن أي البلاد نحن؟ فخبرتها. فقالت: لا جرم، والله لا أقمت بهذا البلد الذي أنا فيه غريبة! فباعت الضيعة والدار وخرجت في أيام الحج. وكان عمر يقدم فيعتمر في ذي القعدة ويحل ويلبس الحلل الوشي، ويركب النجائب المخضوبة بالحناء عليها القطوع والديباج، ويسبل لمته ويتلقى العراقيات. فخرج لعادته فإذا قبة مكشوفة فيها جارية كأنها القمر تعادلها جارية سوداء كالسبجة، فقال للسوداء: من أنت؟ ومن أين أنت يا خالة؟ فقالت: أطال الله تعبك إن كنت تسأل هذا العالم من هم، ومن أين هم! قال: فأخبريني عسى أن يكون لذلك شأن. قالت: نحن من أهل العراق، فأما الأصل والمنشأ فمكة، وقد رجعنا إلى الأصل ودخلنا مكة. فضحك، فلما نظرت إلى سواد ثنيته قالت: قد عرفناك. قال: ومن أنا؟ قالت: عمر بن أبي ربيعة، قال: وبم عرفتني؟ قالت: بسواد ثنيتك وهيئتك التي ليست إلا لقريش، فقال: من الخفيف:
أَصبح القلبُ بالجمالِ رهينا ... مُقْصَداً يومَ فارقَ الظاعنينا
قلتُ مَنْ أَنْتُمُ فَصَدَّتْ وقالت ... أُمُبِدٌّ سؤالُكَ العالمينا
نحن من ساكني العراقِ وكنَّا ... قَبْلَهُ ساكنين مكّةَ حينا
قد سألناكَ إذْ سأَلْتَ فمن أنتَ عسى أَن يَجُرَّ شَأْنٌ شُؤونا
ولم يزل بها عمر حتى تزوجها وولدت منه.
قال عمر بن شبة: مات الموصلي سنة ثمان وثمانين ومائة، ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي، والعباس بن الأحنف الشاعر، وهشيمة الخمارة، فرفع ذلك إلى الرشيد، فأمر المأمون أن يصلي عليهم. فخرج فصفوا بين يديه، فقال: من هذا الأول؟ قالوا: إبراهيم الموصلي، فقال: أخروه وقدموا العباس بن الأحنف. فقدم فصلى عليهم، فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله الخزاعي فقال: يا سيدي، كيف آثرت العباس بالتقدمة على من حضر؟ فأنشأ يقول: من الكامل:
وسعى بها ناسٌ فقالوا إِنَّها ... لهي التي تَشْقى بها وتكابِدُ
فَجَحَدْتُهم ليكونَ غيرَك ظنُّهم ... إني ليُعجبني المحبُّ الجاحِدُ
ثم قال: أتحفظها؟ قال هاشم: نعم، فقال: أنشدني باقيها، فأنشدت:
لمّا رأيتُ الليلَ سُدَّ طريقُه ... عني وعذَّبني الظلامُ الراكِدُ
والنجمُ في كبدِ السماءِ كأَنَّه ... أَعمى تحيَّرَ ما لَدَيْهِ قائدُ
نادَيْتُ مَنْ طردَ الرُّقادَ بصَدِّه ... ممَّا أُعالجُ وهو خِلْوٌ هاجِدُ
يا ذا الذي صَدَعَ الفؤادَ بهجرهِ ... أَنْتَ البلاءُ طريفُهُ والتالِدُ
أَلقَيْت َ بين جفونِ عيني حُرقَةً ... فإلى متى أَنا ساهِرٌ يا راقِدُ
فقال لي المأمون: أليس هذا الذي من قال هذا الشعر حقيق بالتقدمة؟ قلت: بلى والله.
قل عبد الله بن الحسن: جاءني أبو العتاهية وأنا في الديوان فجلس إلي فقلت له: يا أبا إسحاق، أما يصعب عليك شيء من الألفاظ تحتاج فيه إلى الغريب كما يحتاج إليه سائر الناس ممن يقول الشعر؟ فقال: لا، فقلت: إني لأحسب ذلك من كثرة ركوبك القوافي السهلة، قال: فاعرض علي ما شئت من القوافي الصعبة، فقلت: قل أبياتاً في مثل البلاغ، فقال من ساعته: من الخفيف:
أَيُّ عَيْشٍ يكونُ أَفْضَل من عَيْ ... شٍ كفافٍ قُوتٍ بَقْدرِ البلاغِ
ربَّ ذي لُقْمةٍ تَعرَّضَ منها ... حائلٌ بينها وبين المساغِ
أَبْلَغَ الدهرُ في مواعظهِ بل ... زادَ فيهنَّ لي على الإبلاغِ
غشمتني الأَيامُ عقلي ومالي ... وشبابي وصحَّتي وفَراغي
وكان أبو العتاهية لتمكنه من الطبع يقول: الناس يتكلمون الشعر وهم لا يعلمون، ولو أحسنوا تأليفه لكانوا شعراء كلهم، فبينا هو يحدث إذا قال رجل لأخر معه مسح: يا صاحب المسح تبيع المسح؟ فقال أبو العتاهية: ألم تسمعوه يقول: من الرجز:
يا صاحبَ المسحِ تبيع المسحا
قد قال شعراً وهو لا يعلم، ثم قال له الرجل: تعال إن كنت تريد الربح، فقال أبو العتاهية: وقد أجاز المصراع بمصراع آخر وهو لا يعلم، قال:
تعال إن كنتَ تريدُ الربحا
وكانوا يقولون: لو أعين طبع أبي العتاهية بجزالة اللفظ، لكان أشعر الناس.
ذكر أن قوماً أضلوا الطريق فاستأجروا أعرابياً يدلهم على الطريق فقال: إني لا أخرج معكم حتى أشترط عليكم، قالوا: هات ما لك؟ قال: يدي مع أيديكم في الحار والقار، ولي موضع من النار موسع علي فيها، وذكر والدتي محرم عليكم. قالوا: فهذا لك، فما لنا عليك إن أذنبت: قال: إعراضة لا تؤدي إلى مقت، وهجرة لا تمنع من مجامعة السفرة، قالوا: فإن لم تعتب؟ قال: فحذفة بالعصا أخطأت أم أصابت.
ويشبه هذا ما اشترطه راع على صاحب الإبل فقال له: ليس لك أن تذكر أمي بخير أو شر، ولك حذفة بالعصا عند غضبك أخطأت أم أصابت، ولي مقعد من النار وموضعي من الحار.
ذكر علي بن سليمان الأخفش في كتاب المغتالين بإسناده عن ابن الكلبي قال: عشقت أم البنين بنت عبد العزيز ابن مروان زوجة الوليد بن عبد الملك وضاح اليمن فكانت ترسل إليه فيدخل إليها ويقيم عندها، فإذا خافت وارته في صندوق عندها وأقفلت عليه. فأهدي للوليد جوهر له قيمة فأعجبه واستحسنه، فدعا خادماً له فبعث به إلى أم البنين وقال: قل لها إن هذا الجوهر أعجبني فآثرتك به. فدخل الخادم عليها مفاجأة ووضاح عندها فأدخلته الصندوق وهو يرى فأدى إليها رسالة الوليد ورفع الجوهر إليها وقال لها: يا مولاتي، هبي لي منه حجراً، فقالت: لا يابن اللخناء ولا كرامة. فرجع إلى الوليد فأخبره فقال: كذبت يا ابن اللخناء، وأمر به فوجئت عنقه، ثم لبس نعليه ودخل على أم البنين وهي جالسة في ذلك البيت تمتشط وقد وصف له الخادم الصندوق الذي أدخلته فيه، فجاء فجلس عليه ثم قال لها: يا أم البنين، ما أحب إليك هذا البيت من بين بيوتك! فلم تختارينه؟ فقالت: أجاس فيه وأختاره لأنه يجمع حوائجي كلها فأتناولها منه من قرب. فقال لها: هبي لي صندوقاً من هذه الصناديق، فقالت: كلها لك يا أمير المؤمنين، فقال: ما أريد كلها إنما أريد منها واحداً، قالت: خذ أيها شئت، قال: هذا الذي جلست عليه، قالت: خذ غيره فإن لي فيه أشياء أحتاج إليها، قال: ما أريد غيره، قالت: خذه يا أمير المؤمنين.
فدعا بالخدم وأمرهم بحمله، فحملوه حتى انتهى به إلى مجلسه، فوضعه فيه ثم دعا بعبيد له عجم فأمرهم بحفر بئر في المجلس عميقة، فنحي البساط وحفرت إلى الماء، ثم دعا بالصندوق فوضع على شفير البئر ودنا منه وقال: يا صاحب الصندوق! إنه قد بلغنا شيء إن كان حقاً فقد كفيناك ودفناك ودفنا ذكرك وقطعنا أثرك إلى آخر الدهر، وإن كان باطلاً فإنما دفنا الخشب وما أهون ذلك. ثم قذف به في البئر، وهيل عليه التراب، وسويت الأرض، ورد البساط إلى حاله، وجلس الوليد عليه. ثم ما رئي لوضاح بعد ذلك أثر في الدنيا إلى هذا اليوم.
قال: وما رأت أم البنين لذلك أثراً في وجه الوليد حتى فرق الموت بينهما.
لما مات جعفر بن المنصور الأكبر مشى المنصور في جنازته من المدينة إلى مقابر قريش ومشى الناس أجمعون معه حتى دفنه ثم انصرف إلى قصره فأقبل على الربيع فقال: يا ربيع، انظر من في أهلي ينشدني: من الكامل:
أمِنَ المنونِ وَرَيْبِها تَتَوجّعُ
حتى أتسلى عن مصيبتي. قال الربيع: فخرجت إلى بني هاشم وهم بأجمعهم حضور فسألتهم عنها فلم يكن فيهم أحد يحفظها. فرجعت فأخبرته، فقال: والله لمصيبتي بأهل بيتي ألا يكون فيهم أحد يحفظ هذه القصيدة لقلة رغبتهم في الأدب أعظم علي وأشد من مصيبتي بابني. ثم قال: انظر هل في القواد والعوام من يحفظها فإني أحب أن أسمعها من إنسان ينشدها. فخرجت فاعترضت الناس فلم أجد أحداً ينشدها إلا شيخاً مؤدباً قد انصرف من تأديبه، فسألته: هل تحفظ شيئاً من الشعر؟ فقال: نعم، شعر أبي ذؤيب. فقلت أنشدني فابتدأ هذه القصيدة، فقلت: أنت بغيتي. ثم أوصلته إلى المنصور فاستنشده إياها فلما قال:
وَالدّهَرُ ليسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
قال: صدق، والله، فأنشدني هذا البيت ليتردد علي هذا المصراع، فأنشده ثم مر فيها فلما انتهى إلى قوله: من الكامل:
وَالدَّهْرُ لا يَبْقَى على حَدَثَانِهِ ... جَونُ السَّراةِ له جَدائدُ أَرْبَعُ
قال: سلا أبو ذؤيب عند هذا القول. وأمر الشيخ بالانصراف. واتبعته فقلت: أمر لك أمير المؤمنين بشيء؟ قال: نعم، وأراني صرة في يده فيها مائة درهم.
قال العلاء البندار: كان الوليد بن يزيد زنديقاً، وكان رجل من كلب من أهل الشام يقول بمقالته مقالة الثنوية. فدخلت يوماً على الوليد وذلك الكلبي عنده، وإذا بينهما سفط قد رفع رأسه عنه، وإذا ما يبدو لي منه حرير أخضر، فقال: ادن يا علاء، فدنوت فرفع الحرير، وإذا في السفط صورة إنسان، وإذا الزئبق والنوشادر قد جعلا في جفنه فجفنه يطرف كأنه يتحرك.
فقال: يا علاء، هذا ماني، لم يبعث الله نبياً قبله ولا يبعث نبياً بعده. فقلت: يا أمير المؤمنين، اتق الله ولا يغرنك هذا الذي ترى من دينك. فقال الكلبي: قد قلت لك يا أمير المؤمنين، قد قلت لك إن العلاء لا يحتمل هذا الحديث.
قال العلاء: فمكثت أياماً ثم جلست مع الوليد على بناء كان بناه في عسكره يشرف منه، والكلبي عنده إذ نزل من عنده، وقد كان حمله على برذون هملاج أشقر من أفره ما سخر، فخرج على برذونه ذلك، فمضى في الصحراء حتى غاب عن العسكر؛ فما شعر إلا وأعراب قد جاءوا به منفسخةً عنقه ميتاً، وبرذونه يقاد حتى سلموه. فبلغني ذلك فخرجت متعمداً حتى أتيت أولئك الأعراب، وكان لهم أبيات بالقرب من أرض البخراء لا حجر بها ولا مدر، فقلت لهم: كيف كانت قصة هذا الرجل؟ قالوا: أقبل علينا على برذون فو الله لكأنه دهن يسيل على صفاة من فراهته، فعجبنا لذلك؛ إذ انقض رجل من السماء، عليه ثياب بيض، فأخذ بضبعيه فاحتمله ثم نكسه وضرب برأسه الأرض، فدق عنقه، ثم غاب عن عيوننا، فاحتملناه فجئنا به.
لما استخلف عمر بن عبد العزيز جاءه الشعراء، فجعلوا لا يصلون إليه، فجاء عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وعليه عمامة قد أرخى طرفها، فدخل، فصاح به جرير: من البسيط:
يا أَيُّها القارئُ المرخي عمامته ... هذا زمانُك إني قد مضى زمني
أَبلغْ خليفتنا إن كنتَ لاقِيَهُ ... أَني لدى البابِ كالمصفودِ في قَرَنِ
قال: فدخل على عمر، فاستأذنه فأدخله عليه، وقد كان هيأ له شعراً، فلما دخل عيه غيره وقال: من البسيط:
إِنَّا لنرجو إذا ما الغيثُ أَخْلَفَنا ... من الخليفةِ ما نَرْجو من المطرِ
زانَ الخلافةَ إذْ كانَتْ له قَدَراً ... كما أَتى ربَّه موسى على قَدَرِ
أأذكرُ الجَهْدَ والبلوى التي نَزَلَتْ ... أَم تكْتفي بالذي بُلِّغْتَ من خَبري
ما زِلْتُ بعدك في دارٍ تَعَرَّقُني ... قد طال بعدكَ إصْعادي ومُنْحدري
لا ينفعُ الحاضرُ المجهودُ باديَنا ... ولا يجودُ لنا بادٍ على حَضَرِ
كم بالمواسمِ من شَعْثاءَ أرملَةٍ ... ومن يتيمٍ ضعيفِ الصوتِ والنَّظرِ
يدعوكَ دعوةَ ملهوفٍ كأَنَّ به ... خَبْلاً من الجِنِّ أَو مسّاً من النَّشَرِ
ممَّن يعدُّك تكفي فقَد والدِهِ ... كالفرخِ في العُشِّ لم ينهَضْ ولم يَطِرِ
قال: فبكى عمر، ثم قال: يا ابن الخطفي، من أبناء المهاجرين أنت فتعرف لك حقهم؟ أم من أبناء الأنصار فيجب لك ما يجب لهم؟ أم من فقراء المسلمين فنأمر صاحب صدقات قومك فيصلك بمثل ما يصل به قومك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما أنا بواحد من هؤلاء، وإني لمن أكثر قومي مالاً وأحسنهم حالاً، ولكني أسألك ما عودنيه الخلفاء: أربعة آلاف درهم، وما يتبعها من كسوة وحملان، فقال له عمر: كل امرئ ملقىً فعله، فأما أنا فما أرى لك في مال الله من حق، ولكن انتظر، يخرج عطائي فأنظر ما يكفي عيالي سنةً منه فأدخره لهم، ثم إن فضل فضل صرفناه إليك. فقال جرير: لا، بل يوفر أمير المؤمنين ويحمد وأخرج راضياً، قال: فذلك أحب إلي.
فلما خرج قال عمر: إن شر هذا ليتقى، ردوه إلي، فردوه. فقال: إن عندي أربعين ديناراً وحلتين، إذا غسلت إحداهما لبست الأخرى، وأنا مقاسمك ذلك، على أن الله تعالى يعلم أن عمر أحوج إلى ذلك منك. فقال له: قد وفرك الله يا أمير المؤمنين، وأنا والله راض، قال له: أما وقد حلفت فإن ما وفرته علي ولم تضيق به معيشتنا آثر في نفسي من المدح، فامض مصاحباً؛ فخرج. فقال له أصحابه وفيهم الفرزدق: ما صنع بك أمير المؤمنين يا أبا حزرة؟ قال: خرجت من عند رجل يقرب الفقراء، ويباعد الشعراء، وأنا مع ذلك عنه راض، ثم وضع رجله في غرز راحلته، وأتى قومه فقالوا له: ما صنع بك أمير المؤمنين يا أبا حزرة؟ فقال: من الطويل:
تركْتُ لكم بالشامِ حَبْلَ جماعةٍ ... أَمينَ القُوى مُسْتَحْصِدَ العَقْدِ باقِيا
وَجَدْتُ رُقى الشيطانِ لا تستفزُّهُ ... وقد كان شيطاني من الجِنِّ راقِيا
وشكا حارثة بن بدر الغداني فأشرف على الموت، ودخل عليه قومه يعودونه فقالوا: هل لك حاجة أو شيء تريده؟ قال: نعم، اكسروا رجل مولاي كعب لئلا يبرح من عندي، فإنه يؤنسني، ففعلوا، فأنشأ يقول: من البسيط:
يا كعبُ صَبْراً ولا تَجْزَعْ على أَحَدٍ ... يا كعبُ لم يَبْقَ منّا غيرُ أَجْسادِ
يا كعبُ ما راح من قومٍ ولا ابتكروا ... إلا وللموتِ في آثارِهم حادي
يا كعبُ ما طلعت شمسٌ ولا غربَتْ ... إلا تُقرِّبُ آجالاً لِميعادِ
يا كعبُ كم من حِمى قومٍ نزلْتُ به ... على صواعقَ من زَجْرٍ وإيعادِ
فإن لقيتَ بوادٍ حيَّةً ذكَراً ... فاذْهَبْ ودَعْني أُمارِسْ حيَّة الوادي
كان أبو دلف بن عيسى العجلي في جملة من كان مع الأفشين خيذر ابن كاوس لما خرج لمحاربة بابك. ثم تنكر له، فوجه يوماً بمن جاء به ليقتله. وبلغ المعتصم الخبر، فبعث إليه أحمد بن أبي دواد، وقال له: أدركه وما أراك تلحقه، واحتل في خلاصه كيف شئت.
قال أحمد: فمضيت ركضاً حتى وافيت الأفشين، وإذا أبو دلف واقف بين يديه، قد أخذ بيده غلامان تركيان، فرميت بنفسي على البساط، وكنا إذا جئته دعا لي بمصلى، فقال: سبحان الله! ما حملك على هذا؟ قلت: أنت أجلستني في هذا المجلس، ثم كلمته في أبي دلف وخضعت له فيه، فجعل لا يزداد إلا غلظةً. فلما رأيت ذلك قلت: هذا عبد قد أغرقت في الرفق به، وليس ينفع إلا أخذه بالرهبة والصدق، فقمت وقلت: كم تراك قدرت في نفسك أن تقتل من أولياء أمير المؤمنين واحداً بعد واحد، وتخالف أمره في قائد بعد قائد؟ قد حملت إليك هذه الرسالة عن أمير المؤمنين، فهات الجواب! قال: فذل حتى لصق بالأرض، وبان الاضطراب فيه، فلما رأيت ذلك نهضت إلى أبي جلف، فأخذت بيده وقلت: أخذته بأمر أمير المؤمنين، فقال: لا تفعل يا أبا عبد الله، فقلت: قد فعلت. وأخرجت القاسم فحملته على دارة ووافيت المعتصم. فلما بصر بي قال: بك يا أبا عبد الله وريت زنادي، ثم رد علي خبري مع الأفشين حدساً بظنه، فما أخطأ منه حرفاً.
قال دكين الراجز: امتدحت عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة، فأمر لي بخمس عشرة ناقةً كرائم، وكرهت أن أرمي بهن الفجاج، ولم تطب نفسي ببيعهن. فقدمت علينا رفقة من مضر، فسألتهم الصحبة، فقالوا: ذاك إليك ونحن نخرج الليلة، فأتيته فودعته وعنده شيخان لا أعرفهما.
فقال لي: يا دكين، إن لي نفساً تواقةً، فإن صرت إلى أكثر مما أنا فيه، فاتني ذلك الإحسان، فقلت: أشهد لي بذلك. قال: أشهد الله عز وجل، قلت ومن خلقه؟ قال: هذين الشيخين. فأقبلت على أحدهما فقلت: من أنت؟ أعرفك؟ قال: سالم بن عبد الله بن عمر، فقلت له: لقد استسمنت الشاهد؛ وقلت للآخر: من أنت؟ قال: أبو يحيى مولى الأمير. فخرجت إلى بلدي بهن، فرمى الله فيهم بالبركة حتى اعتقدت منهن الإبل والعبد. فإني لبصحراء فلج إذا ناع ينعى سليمان. قلت: من القائم بعده؟ قال: عمر بن عبد العزيز.
ولقيني جرير منصرفاً من عنده، فقلت: يا أبا حزرة، من أين أقبلت؟ قال: من عند من يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، فانطلقت فإذا هو في عرصة الدار وقد أحاط به الناس فلم أخلص إليه فناديت: من الرجز:
يا عمرَ الخيراتِ والمكارِمِ ... وعمرَ الدسائِعِ العظائِمِ
إني امرؤٌ من قَطَنٍ بن دارمِ ... طلبْتُ دَيْني من أخي مكارمِ
إذْ نَنْتجي والله غيرُ نائم ... عند أَبي يحيى وعند سالمِ
وقام أبو يحيى فقال: يا أمير المؤمنين، عندي لهذا البدوي شهادة عليك، فقال: أعرفها، ادن يا دكين، أنا كما ذكرت لك، إن نفسي لم تنل شيئاً إلا تاقت لما هو فوقه، وقد نلت غايةً من الدنيا فنفسي تتوق إلى الآخرة. والله ما رزأت من أموال الناس شيئاً، ولا عندي إلا ألفا درهم فخذ نصفها، قال: فو الله ما رأيت ألفاً كانت أعظم بركةً منها.
سفه مروان بن أبي الجنوب على علي بن الجهم بحضرة المتوكل وهجاه بأشعار سخيفة باردة فلم يجبه، ثم قال فيما بعد: من الوافر:
بلاءٌ ليس يُشْبِهُهُ بلاءٌ ... عداوةُ غيرِ ذي حَسَبٍ ودينِ
يُبيحُكَ منه عِرْضاً لم يَصُنْهُ ... ويَرْتَعُ منكَ في عِرْضٍ مَصونِ
شاعر: من الطويل:
تَجافَ عن الأَعداءِ بُقْيا فربَّما ... كُفيتَ ولم تُجرحْ بنابٍ ولا ظُفْرِ
ولا تَبْرِ منهم كل عودٍ تخافُهُ ... فإنَّ الأعادي ينبتون مع الدَّهْرِ
إذا أَنْتَ أَفْنَيْتَ النبيهَ من العِدى ... رَمَتْك الليالي عن يدِ الخاملِ الذكْرِ
وهَبْكَ اتَّقَيْتَ السهمَ من حيث يُتَّقى ... فكيف بمن يرميك من حيث لا تَدْري
العرب تقول: خفة الظهر أحد اليسارين، والغربة أحد السباءين واللبن أحد اللحمين، وتعجيل اليأس أحد اليسرين، والشعر أحد الوجهين، والراوية أحد الهاجيين، والحمية أحد الموتين.
أبان اللاحقي: من الطويل:
ولن تعرفَ النفسُ النعيمَ وعِزَّهُ ... إذا جَهِلت حالَ المَذَلَّةِ والضُرِّ
نظر إليه أبو تمام فقال: من الكامل:
والحادثاتُ وإنْ أَصابَك بؤْسُها ... فهو الذي أدراكَ كيف نَعيمُها
لما قتل يحيى بن زيد بن علي حمل رأسه إلى الوليد بن يزيد، فأمر به فوضع في حجر أمه ريطة بنت أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب. فلما قتل مروان بن محمد أتي عبد الله بن علي برأسه، فدا بابنته أم مروان فألقى الرأس في حجرها، وقال لها: هل تعرفين هذا؟ قالت: نعم، هذا رأس أمير المؤمنين. فقال: هذا جزاء ما فعلتم بيحيى بن زيد لما أتي الوليد برأسه، أمر به فألقي في حجر أمه، فهذه بتيك.
ولم يزل يحيى مصلوباً حتى خرج أبو مسلم فأمر به فصلي عليه ودفن، وأمر بالنياحة والبكاء عليه سبعة أيام بمرو. وكان أصل السواد أن أبا مسلم أمر بتسويد الثياب للمصيبة. وجعل أبو مسلم يتتبع قتلة يحيى فيقتلهم.
قال داود بن رشيد: حدثني أبي، قال: دعاني المنصور وقد كربه أمر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، فقال لي: يا رشيد، أعد لي ألف غلام من نجب غلماني وألف فرس من نجب خيلي، وألف خريطة من مالي، وائتني في وقت كذا من الليل، وهو يريد أن يتوجه إلى خراسان.
قال: ففعلت ما أمرني، وأتيته فوجدته عليه ثيابه وهو على كرسي، فقال لي: ما صنعت يا رشيد؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، هذه الخيل والغلمان والأموال بالباب.
قال: فقام، وقدمت إليه فرسه ليركب وأخذت له بالركاب، فوضع رجله في الركاب وأخذ بمعرفة الفرس ومؤخر السرج ليتحامل للركوب. قال: ثم سمعته يقول: فأين تلاعب صبياننا؟ قال: ثم أخرج رجله من الركاب وعاد فجلس وقال: يا رشيد، حط. قال: ففعلت، وأتاه الخبر أن إبراهيم قد قتل.
قال ابن الكلبي: قالت عجوز من العرب لبنات لها ثلاث: صفن ما تحببن من الأزواج. قالت الكبرى: أريده أروع بساماً، أحذ مجذاماً، سيد ناديه، وثمال عافيه، ومحسب راجيه، فناؤه رحب، وقياده صعب.
الأحذ: الخفيف السريع، والمجذام: مفعال من الجذم وهو القطع، تريد أنه قطاع للأمور.
وقالت الأخرى: أريده عالي السناء مصمم المضاء، عظيم نار، متمم أيسار، يفيد ويبيد، ويبدئ ويعيد، في الأهل صبي، وفي الجيش كمي، تستعبده الحليلة، وتسوده الفضيلة.
وقالت الصغرى: أريده بازل عام، كالمهند الصمصام، قرانه حبور، ولقاؤه سرور، إن ضم قضقض، وإن دسر أغمض، وإن أخل أحمض.
قالت أمها: فض فوك! لقد فررت لي شرة الشباب جذعةً.
قيل لكثير: ما لك لا تقول الشعر، أأجبلت؟ قال: والله ما كان ذاك؛ ولكن فقدت الشباب فما أطرب، ورزئت عزة فما أنسب، ومات ابن ليلى فما أرغب - يعني عبد العزيز بن مروان.
قال عبد الله بن علي بعد قتله من قتل من بني أمية لإسماعيل بن عمر ابن سعيد بن العاص: أساءك ما فعلت بأصحابك؟ فقال: كانوا يداً فقطعتها، وعضداً ففتتها، ومرةً فنقضتها، وركناً فهدمته، وجناحاً فهضته؛ فقال: إني لخليق أن ألحقك بهم، قال: إني إذاً لسعيد.
كتب الحسن بن سهل إلى محمد بن سماعة القاضي: أما بعد، فإني احتجت لبعض أموري إلى رجل لخصال الخير، ذي عفة ونزاه، قد هذبته الآداب، وأحكمته التجارب، ليس بظنين في رأيه، ولا بمطعون في حسبه؛ إن أؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهماً من الأمر أجزأ فيه؛ له سن مع أدب ولسان تقعده الرزانة ويسكنه الحلم؛ قد فر عن ذكاء وفطنة، وعض على قارحة من الكمال؛ تكفيه اللحظة، وترشده السكنة؛ قد أبصر خدمة الملوك وأحكمها، وقام بأمورهم فحمد فيها؛ له أناة الوزراء، وصولة الأمراء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، وجواب الحكماء؛ لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يكاد يسترق قلوب الرجال بحلاوة لسانه، وحسن بيانه؛ دلائل الفضل عليه لائحة، وأمارات العلم له شاهد؛ مضطلعاً بما استنهض، مستقلاً بما حمل؛ وقد آثرتك بطلبه، وحبوتك بارتياده، ثقةً بفضل اختيارك، ومعرفةً بحسن تأتيك.
فكتب إليه: إني عازم أن أرغب إلى الله حولاً كاملاً في ارتياد مثل هذه الصفة، وأفرق الرسل الثقات في الآفاق لا لتماسه، وأرجو أن يمن الله بالإجابة فأفوز لديك بقضاء حاجتك، والسلام.
قال معاوية لصعصعة بن صوجان: صف لي الناس، فقال: خلق الناس أخيافاً: فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة فيما بين ذلك يكدرون الماء ويغلون السعر ويضيقون الطريق.
الرجرجة: شرار الناس ورذالهم. وأصل الرجرجة: الماء الذي قد خالطه كدر، وجمعه رجارج.
دخل الأحنف على معاوية ويزيد بين يديه، وهو ينظر إليه إعجاباً به، فقال: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ فعلم ما أراد، فقال: يا أمير المؤمنين، هم عماد ظهورنا، وثمر قلوبنا وقرة أعيننا، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلف منا لمن بعدنا، فكن لهم أرضاً ذليلة، وسماء ظليلة؛ إن سألوك فأعطهم، وإن استعتبوك فأعتبهم، لا تمنعهم رفدك فيملوا قربك، ويكرهوا حياتك، ويستطيلوا أوقاتك. فقال: لله درك يا أبا بحر! هم كما وصفت.
قال إبراهيم بن التوأم: الروح عماد البدن، والعلم عماد الروح، والبيان عماد العلم.
قال بعض علماء المنطق: الكلام عيار على كل صناعة، وزمام على كل عبارة، وقسطاس يعرف به الفضل والرجحان، وميزان تحرج به الزيادة والنقصان، وكير يميز به الخالص والشوب، ويعرف به العين والإبريز، وراووق يعرف به الصفو والكدر، وسلم يرتقى به إلى معرفة الكبير والصغير، ويوصل معه إلى الخطير والحقير، وأداة للتفصيل والتحصيل، وإدراك الدقيق والجليل، وآلة لإظهار الغامض والمشتبه، وكشف الخفي والملتبس، وأدلة للتفضيل بين الحجة والشبهة، والجماعة والفرقة، والشذوذ والاستفاضة، والحظر والإباحة، والرد والمعارضة، وبه يعرف الشكل والضد، والعدل والقصد، ويتغلغل في الأمور الخفية، ويتوصل إلى المعاني العقلية، ويتوغل إلى حقائق الأشياء ومعاني الأسماء.
قال الخليل بن أحمد: يكثر الكلام ليفهم، ويقلل ليحفظ. وقد قال الشاعر في هذا المعنى: من الكامل:
يَرْمُونَ بالخُطَبِ الطِّوالِ وتارةً ... وَحْيَ الملاحظِ خِيفةَ الرُّقباءِ
وقال آخر: من الكامل:
يكْفي قليلُ كلامِهِ وكثيرُهُ ... ثَبْتٌ إذا طال النِّضالُ مصيبُ
قال عبد الرحمن بن السائب الأنصاري: جمع زياد أهل الكوفة ليعرضهم على البراءة من علي عليه السلام والشتم له، فملأ الرحبة والمسجد والقصر. قال: فأغفيت إغفاءةً فرأيت شبحاً له عنق مثل عنق البعير أهدل أهدب، فقلت: ما أنت؟ قال: النقاد ذو الرقبة، بعثت إلى صاحب القصر. فانتبهت فزعاً فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: ما رأينا شيئاً، فلم يكن بأسرع من أن خرج علينا خارج من القصر فقال: أيها الناس، انصرفوا فإن الأمير في شغل اليوم. وإذا هو قد فلج. فقال عبد الرحمن بن السائب: من البسيط:
ما كان مُنْتَهِياً عمّا أراد بنا ... حتى تناولَه النَّقَّادُ ذو الرَّقَبَه
فأَسْقَطَ الشِّقَّ منه ضَرْبّةٌ ثَبَتَتْ ... كما تناول ظُلْماً صاحبَ الرَّحَبَه
وبلغ الحسن بن علي عليهما السلام ما كان يصنع بشيعة علي، فقال: اللهم تفرد بموته، فإن في القتل كفارةً.
ولد حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد في الكعبة؛ دخلتها أمه فاخته بنت زهير بن الحارث بن أسد بن عبد العزى وهي حامل، فضربها المخاض وهي في الكعبة فولدته فيها، فحملت في نطع، وغسل ما كان تحتها من الثياب عند حوض زمزم، ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد.
روي أن عبد الله بن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم نصف النهار أشعث أغبر في يده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت يا رسول الله، ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل أتلقطه منذ اليوم، قال: فأحصوا ذلك اليوم فوجدوه قد قتل فيه.
وقال سليم القاص: لما قتل الحسين بن علي مطرت السماء دماً عبيطاً.
وقال ابن شهاب: لما قتل لم يرفع بالشام حجر إلا وجد تحته دم عبيط.
وقال الأعمش: خري رجل على قبر الحسين، فجن فمات، فسمع صوته يصيح في القبر كنباح الكلب.
وقال أبو رجاء العطاردي: كان لنا جار، فلما قتل الحسين قال: قتل الفاسق، فرماه الله تبارك وتعالى بكوكبين في عينيه فطمستا.
لما بعث يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة المري إلى المدينة أباحها وفيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقيته، وبها أم سلمة وميمونة زوجتا النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو ميمون العبدي: رأيت أبا سعيد الخدري ممعط اللحية، فقلت له: أتعبث بلحيتك؟ قال: لا، ولكن هذا ما لقيت من ظلمة أهل الشام؛ دخلوا علي زمان الحرة فأخذوا ما كان في البيت ثم خرجوا، ثم دخلت طائفة أخرى فأخذوا ما كان في البيت من حلية أو متاع ثم خرجوا، ثم دخلت طائفة أخرى فلم يصيبوا في البيت شيئاً، فأسفوا أن يخرجوا فأضجعوا الشيخ وأخذ كل واحد خصلةً من لحيتي، فأنا أتركها حتى أوافي بها رب العالمين.
وجاء عمرو بن عثمان بن عفان بيزيد بن عبد الله بن زمعة، وجدته أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، وكان عمرو بن عثمان قال لأم سلمة: أرسلي معي ابن ابنتك ولك عهد الله وميثاقه أن أرده عليك كما أخذته منك. فجاء به إلى مسلم بن عقبة، فجلس على طرف سريره، فلما تقدم يزيد بن عبد الله، قال: بايع لعبد الله يزيد أمير المؤمنين على أنكم خوله مما أفاء الله عليه بأسياف المسلمين، إن شاء وهب، وإن شاء أعتق، وإن شاء استرق. قال له يزيد: والله لأنا أقرب إلى أمير المؤمنين منك، قال: والله لا تستقبلها أبداً. فقال له عمرو بن عثمان: أنشدك الله، فإني أخذته من أم سلمة بعهد الله وميثاقه أن أرده إليها. قال: فركضه برجله فرمى به من فوق السرير وقال: والله لو قلتها ما أقلتك حتى أضرب الذي فيه عيناك. فقتل يزيد بن عبد الله.
قال سعيد بن المسيب: مكثت ثلاثة أيام في زمن يزيد بن معاوية أصلي في المسجد لا يصلي معي داع ولا مجيب؛ إن أهل الشام لا يتركون أحداً بلغ الحلم إلا ضربوا عنقه، وإنهم يلقونني مقبلاً ومدبراً لا يسألونني عن شيء، إذا كان وقت الصلاة سمعت داعياً يخرج إلي من بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأعرف أنه وقت الصلاة، فأقوم فأؤذن وأصلي.
روى أبو سعيد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: إذا بلغ بنو الحكم ثلاثين اتخذوا دين الله دخلاً، وعباد الله خولاً، ومال الله دولاً.
وروى أبو هريرة قال: أصبح النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالمغضب فقال: رأيت بني أبي العاص ينزون على منبري هذا نزو القردة، قال: فما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمعاً ضاحكاً حتى مات صلى الله عليه.
وروى الحسن أن علياً عليه السلام كان على المنبر فقال: اللهم إني ائتمنتهم فخانوني، ونصحتهم فغشوني، اللهم فسلط عليهم غلام ثقيف يحكم في دمائهم وأموالهم حكم الجاهلية، قال: فوصف الحجاج والله وهو يقول: الذيال الميال، يحفر الأنهار، يأكل خضرتها، ويلبس فروتها.
قال عبد الملك بن مروان: كنت أنا وعبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير يوماً جلوساً بفناء الكعبة، فقلنا: هلموا يتمنى كل واحد منا ما يحب، فقال عروة بن الزبير: أتمنى على الله الفقه، وأن يحمل عني الحديث.
وقال مصعب: أتمنى ولاية العراقين وأن أتزوج عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين. وقلت أنا: أتمنى على الله الخلافة. وسكت ابن عمر. فقلنا له: تمن، قال: أتمنى على الله الجنة.
فما منا إلا من بلغ أمنيته في دنياه، ولا أشك في أن ابن عمر قد نال ما تمنى.
لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن جاء الخبر إلى المنصور وهو ببغداد في المضارب وقد بدأ بنيانها في جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائة، وعمه عبد الله بن علي محبوس عنده، فعظم عليه خروجه. فأرسل إلى عمه بقوم من أهله يستشيره، وكان عبد الله بن علي ذا رأي في الحرب، فقال: إن المحبوس محبوس الرأي، فأخرجوني يخرج رأيي. فأرسل إليه أبو جعفر: لو جاءني محمد بن عبد الله يضرب علي بابي ما أخرجتك وأنا خير لك منه.
فأرسل إليه عبد الله: ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، واجثم على أكباد أهلها، فإنهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم، ثم احففها بالمسالح، فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه فاضرب عنقه، وابعث إلى سلم بن قتيبة، وكان بالري، فينحدر إليك واكتب إلى أهل الشام ومرهم أن يحملوا إليك أهل البأس والنجدة على البريد، وابعثهم مع سلم، وأحسن جوائزهم. ففعل ما أشار به.
ولما سار إلى الكوفة وجه عيسى بن موسى لمحاربة محمد، وعهد إليه فقال: إذا صرت إن شاء الله إلى المدينة، فادع محمد بن عبد الله إلى الطاعة والدخول في الجماعة، فإن أجابك فاقبل منه، وإن هرب منك، فلا تتبعه، وإن أبى إلا الحرب والمناجزة، فناجزه واستعن بالله عليه، وإذا ظفرت به، فلا تخيفن أهل المدينة، وعمهم بالعفو، فإنهم الأصل والعشيرة وذرية المهاجرين والأنصار، وجيران قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه وصيتي إياك، لا كما أوصى يزيد اللعين مسلم بن عقبة حين وجهه إلى المدينة؛ فإنه أمره أن يقتل من ظفر به ما بين ثنية الوداع إلى بني عمرو بن مبذول كل من أنبت ويبيحها ثلاثة أيام؛ ففعل مسلم ذلك، وبلغ يزيد فعله، فتمثل بشعر ابن الزبعري في يوم أحد، فخر المشركون على المسلمين يقول: من الرمل:
ليت أَشياخي ببدرٍ شَهدوا ... جَزَعَ الخزرجِ من وقع الأَسَلْ
حين حكَّت بقُباءٍ بَرْكَها ... واستحرَّ القَتْلُ في عَبْدِ الأَشَلْ
وأمير المؤمنين يعوذ بالله أن يبتليه بغشم رعيته وسفك دمائهم، ويسأله أن يلهمه الرأفة بهم، والرحمة لهم، والعطف عليهم، إنه سميع قريب. ثم سر إلى مكة، فاعف عنهم واصفح، فإنهم أهل بيت الله وجيرانه، وسكان حرمه وأمنه، وأهل الأصل ومنبت الفرع والعشيرة، وعظم البيت والحرم، ولا تلحد فيه بظلم، فإنه حرم الله الذي بعث منه نبيه صلى الله عليه وسلم، وشرف به آباؤنا، فبتشريف الله آباءنا شرفتنا العرب.
هذه وصيتي إليك لا كما وصى أبو ذباب خنور بن خنور حين وجهه إلى مكة، فإنه أمره أن يقتل كل محتلم ما بين المعلاة والمسفلة، ويضع المجانيق على الكعبة، ويلحد ويظلم في الحرم، ففعل الحجاج ذلك، وبلغ الخبر عبد الملك، فتمثل قول عمرو بن كلثوم: من الوافر:
أَلا لا يَجْهَلنْ أَحدٌ علينا ... فنجهلَ فوقَ جهلِ الجاهلينا
لنا الدنيا ومَنْ أَضحى عليها ... ونبطشُ حين نبطُشُ قادِرينا
وقتل محمد بن عبد الله للنصف من شهر رمضان، وخرج إبراهيم بن عبد الله ابن الحسن أخوه غرة شهر رمضان قبل قتل محمد بخمسة عشر يوماً بالبصرة، وعظم أمره، فكان في سبعين ألفاً، وغلب على الأهواز وفارس وواسط.
ويقال: إن المنصور لم يكن ينام أيام حربه ابني عبد الله بن الحسن، وأنه جلس على مصلى خمسين ليلةً ينام عليه ويجلس عليه، وعليه جبة قد اتسخ جيبها، وليس تحتها شيء، فما نزعها حتى فتح عليه. وأتته قيمة نسائه في تلك الأيام بامرأتين أهديتا إليه من المدينة: فاطمة ابنة محمد بن محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، وأمة الكريم ابنة عبد الله من ولد خالد بن أسيد، وكان القادم بهما إسحاق بن الأزرق، فلم ينظر إليهما. فقالت له: يا أمير المؤمنين، قد خبت نفوسهما وساءت ظنونهما لما ظهر من جفائك. فانتهرها وقال: ليست هذه الأيام من أيام النساء، لا سبيل إليهما حتى أعلم: رأسي لإبراهيم، أم رأس إبراهيم لي!.
ولما أتي المنصور برأس إبراهيم، وضعه بين يديه وجلس مجلساً عاماً، فكان الرجل يدخل، يسلم ويسيء القول لإبراهيم ويتناوله بالكلام القبيح طلباً لرضا المنصور، وهو مطرق ممسك متغير الوجه، حتى دخل عليه جعفر بن حنظلة البهراني، فوقف وسلم ثم قال: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك، وغفر له ما فرط فيه من حقك، فأسفر لون أبي جعفر وأقبل عليه فقال: أبا خالد، ههنا، مرحباً وأهلاً، فعلم أن ذلك قد أرضاه فقالوا مثل ما قال جعفر بن حنظلة.
الأفوه الأودي: من البسيط:
فينا معاشِرُ لم يَبْنُوا لقومهمُ ... وإن بني قومُهم ما أَفْسدوا عادوا
لا يَرْشُدون ولم يرعَوْا لمُرشدِهم ... والجهلُ منهم معاً والغَيُّ ميعادُ
أضحَوْا كقيلِ ابن عمروٍ في عشيرتِهِ ... إذْ أُهلِكَتْ بالذي أَسْدى لها عادُ
ويروى: كانوا كمثل لقيم في عشيرته.
أَو بَعْدَه كقُدارٍ حين تابَعَهُ ... على الغوايةِ أَقوامٌ فقد بادوا
والبيتُ لا يُبْتنى إلا له عَمَدٌ ... ولا عِمادَ إذا لمْ تُرْسَ أَوتادُ
فإن تجمَّع أوتادٌ وأَعمِدَةٌ ... وساكنٌ بلغوا الأَمْرَ الذين كادوا
لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سَراةَ لهم ... ولا سَراةَ إذا جُهَّالُهم سادوا
تُهدى الأمور بأهلِ الرأي ما صلَحَتْ ... فإنْ تولَّت فبالأَشرارِ تَنْقادُ
إذا تولىَّ سراةُ القَوْمِ أَمْرَهُمُ ... نما على ذاكَ أَمْرُ القوم فازدادوا
أمارةُ الغيِّ أَن تلقى الجميعَ لدى ال ... إِبرامِ للأمرِ والأذنابُ أَكْتادُ
حان الرحيلُ إلى قَوْمٍ وإن بَعُدوا ... فيهم صلاحٌ لمُرتادٍ وإرشادُ
فَسَوْفَ أَجْعَلُ بُعْدَ الأَرضِ دونَكُمُ ... وإنْ دَنَتْ رَحِمٌ منكم وميلادُ
إِنَّ النّجاءَ إذا ما كنتَ في نَفَرٍ ... مِنْ أَجَّةِ الغَيِّ إبْعادٌ فإبْعادُ
والخيرُ تزدادُ منه ما لقيتَ به ... والشرُّ يكفيك منه قلَّ ما زادُ
قال صالح بن علي الهاشمي: حضرت مجلس المهتدي وهو ينظر في المظالم، فجعلت أنظر إلى المتظلمين، القوي والضعيف، والشريف والوضيع، منهم ما تقرأ قصته عليه حتى تستوفى ثم يأمر بالتوقيع فيها بما يرى، لا يعدل عن الحق والإنصاف، وما فيه للمتظلم المقنع وزيادة؛ فينشأ الكتاب على التوقيع من ساعته، ويحرر ويعلم عليه، ويرد إليه فيختمه، ويدفع إلى صاحبه. فأعجبني ذلك جداً، ورأيت شيئاً حسناً لم أره قبله. وجعلت أنظر إليه، ففطن لذلك ونظر إلي، ثم صرف بصره عني، فنظرت، فنظر، حتى كان ذلك ثلاث مرات. ثم قال لي: يا صالح، فقمت وقلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: ادن، فدنوت، فقال: في نفسك منا شيء تحب أن تقوله؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: اجلس، فجلست في موضعي إلى أن قام عن مجلسه وقال لي: لا تبرح صالح بن علي. ودخل فأبطأ علي الإذن، ثم أذن لي، فدخلت فوجدته على حصير مصلاه، فدعوت له. فقال: اجلس، فجلست. فقال: يا صالح، تقول ما دار في نفسك أو أقوله أنا لك؟ قلت: ما رآه أمير المؤمنين. قال: كأني بك وقد استحسنت ما رأيت من أمرنا في العامة فقلت في نفسك: أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول بمقالة أبيه في القرآن! فورد علي أمر جليل بقيت له متحيراً؛ ثم قلت يا صالح: وهل نموت إلا مرةً واحدةً! وهل يحسن الكذب في جد أو هزل؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما خرمت حرفاً مما دار في نفسي. فأطرق ساعةً ثم قال لي: يا صالح، اسمع مني ما أقول لك، فو الله الذي لا إله غيره لتسمعن مني حقاً ما شانه غيره. فقلت: يا سيدي، ومن أولى بالحق منك، وأنت خليفة الله، وابن عم رسول الله؟ فقال: ما زلت برهةً من خلافة الواثق رضي الله عنه أقول بهذه المقالة حتى أقدم ابن أبي دواد علينا في المحنة شيخاً من أهل الشام، ثم من أهل أذنة؛ فأحضره الواثق، فأدخل شيخ جميل تام بهي، وفي رجليله قيدان ثقيلان؛ فرأينا الواثق كالمستحي منه، الراحم له، فأسندناه حتى قرب منه؛ فسلم الشيخ فرد عليه، ودعا فأوجز في الدعاء؛ فقال له الواثق: يا شيخ، ناظر أحمد بن أبي دواد على ما يناظرك عليه؛ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أحمد يصبو ويضعف عن المناظرة ويقل عنها أيضاً؛ فغضب الواثق وقال: ويلك! أبو عبد الله يصبو ويضعف ويقل عن مناظرة مثلك! واحمر وجهه ودارت عيناه؛ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، هون عليك، وليسكن ما بك، وائذن في مناظرته تعلم صدق قولي.
قال الشيخ: يا أحمد، تسألني أم أسألك؟ قال: سل؛ قال: إلام تدعو الناس وتدعوني؟ قال: إلى أن يقولوا: إن القرآن مخلوق.
قال الشيخ: ولم يا أحمد؟ قال: لأن كل شيء دون الله مخلوق.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن هذه المقالة، هي داخلة في عقد الدين، فلا يكمل الدين حتى يقال لها؟ قال: نعم.
قال الشيخ: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تحفظ علينا ما يجري، فافعل.
قال الواثق: نعم.
قال الشيخ: يا أحمد، فأخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله إلى خلقه، ستر عليهم شيئاً مما أمره الله به في دينهم؟ قال: لا.
قال: أفأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة؟ فسكت أحمد.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة.
ثم قال الشيخ: يا أحمد، فدع ذا؛ زعمت أن الدين لا يكون كاملاً حتى يقال فيه بهذه المقالة. فأخبرني عن الله عز وجل حين أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: اليوم أكملت لكم دينكم. أكان الله تبارك وتعالى الصادق في كماله، أو أنت الصادق في نقصانه؟ فسكت.
فقال الشيخ: يا أحمد، أجب، فسكت. فقال الشيخ: اثنتان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم.
وقال الشيخ: ودع ذا؛ أتقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم مقالتك هذه فلم يطالب الأمة بها لأنه اتسع له الإمساك عنها؟ قال أحمد: نعم.
قال: وكذلك أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بعده؟ قال: نعم.
قال: فترك الشيخ ابن أبي دواد وأقبل بوجهه إلى الواثق فقال: يا أمير المؤمنين، إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة مما زعم ابن أبي دواد أنه اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي بكر وعثمان وعلي، فلا وسع الله عليك. فضحك الواثق ثم قال: نعم لا وسع الله علي إذن.
قال: وكان بيد الواثق قلم أو قضيب فلم يزل يفركه حتى كسره، فظننا أن ذلك لغيظه على أحمد. ثم قال: اقطعوا قيد الشيخ، فقطع. فضرب الشيخ بيده إلى القيد فجذبه إليه ومنعه الحداد من أخذه، فقال الواثق: دعوا الشيخ يأخذه، فجعله في كمه، فقال له الواثق: لم أخذته، أحاجةً منك إليه؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، لكني عقدت في نيتي إذا حضرني الموت أن آمر من يتولى أمري أن يجعله بيني وبين كفني حتى أخاصم به يوم القيامة بين يدي ربي هذا الظالم، وأومأ إلى ابن أبي دواد، وأقول يا رب، سل عبدك هذا لم قيدني وروع ولدي وأهلي؟ فبكى الواثق بكاءً شديداً وبكينا حوله. ثم قال له الواثق: يا شيخ، اجعلني في حل وسعة إكراماً لرسول الله عليه السلام إذ كنت رجلاً من أهله. فسر الواثق بقوله وقال: يا شيخ، فإن لي إليك حاجةً؛ قال: قل يا أمير المؤمنين؛ قال: تقيم عندنا فينتفع بك أولادنا ومن معنا. فقال: يا أمير المؤمنين، إنه أنفع لك من مقامي قبلك رجوعي إلى الثغر الذي أخرجني منه هذا الظالم. وأخبرك بأول منفعة ذلك، وهو أني أكف عنك دعاء ولدي وأهلي وإخواني، فإني تركتهم يدعون الله عليك.
فقال الواثق: ههنا حاجة أخرى، قال: قل يا أمير المؤمنين، قال تذكر كل ما تحتاج إليه لمؤنتك ونفقتك ونفقة عيالك، فتأخذه ونجعله لك جارياً يقيمه العامل بتلك الناحية. قال: يا أمير المؤمنين، أنا غني عن ذلك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحل الصدقة لغني، ولكن لي أنا حاجة يا أمير المؤمنين، قال: قل ما أحببت؟ قال: تأذن لي الساعة بالمسير؛ قال: قد فعلت، فتزود منا نفقةً، قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما لي إليها حاجة كبرت أم صغرت، ولا يراني الله متغنماً مالك، ثمره الله وألهمك إنفاقه فيما يقربك منه.
وخرج الشيخ، ورجعت أنا والله من ذلك اليوم عن هذه المقالة، ولم أشك في أن أمير المؤمنين الواثق رجع عنها.
أصيب على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل مقتول لا يعلم من قتله، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس، ناشدت الله رجلاً قتله إلا أنبأنا بذلك، فقام رجل فقال: أنا قتلته يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذلك؟ قال: لأني سمعته على فراش جار لي وهو مع امرأته، وجاري غائب في بعض البعوث، وهو يتغنى رافعاً صوته لا يكني: من الوافر:
وأَشْعَثَ غَرَّه الإسلامُ مِنِّي ... خَلَوْتُ بعِرْسِهِ لَيْلَ التَّمامِ
أَبِيتُ على ترائبها ويُمسي ... على قَبَّاءَ لاحقهِ الحِزامِ
كأَنَّ مواضِعَ الرَّبَلاتِ منها ... فئامٌ قد جُمِعْنَ إلى فِئامِ
فقال عمر: اقتل وأنا معك، وقبل قوله وأجاز شهادته.
ابن الرومي: من الكامل:
إِنَّ الطبيبَ بطِبِّه ودوائهِ ... لا يستطيعُ دفاعَ مكروهٍ أَتى
ما للطبيبِ يموتُ بالداءِ الذي ... قد كان يُبْرئ مثلَه فيما مضى
هلك المُداوى والمُداوي والذي ... جلب الدواءَ وباعه ومن اشترى
قال الرشيد لأعرابي رآه يرعى: لم سميت الحقة حقةً؟ قال: لأنها استحقت أن يحمل عليها من ظهرها وبطنها، قال: أشهد أنك راع حقاً!.
قيل: أول من عقد الولاية والألوية إبراهيم الخليل عليه السلام.
بلغه أن قوماً أغاروا على لوط وأهله فسبوه، فعقد لواء جمع به مواليه وعبيده ورعاته وسار حتى استنقذ لوطاً وما كان أخذ له.
قال أحمد بن عبد الله بن يونس: سمعت الشافعي يقول: الأعراب أدهى قوم وأحلاهم كلاماً، لقد سمعت منهم رجلاً يقول لرجل اصطنع إليه معروفاً: آجرك الله من غير أن يبتليك. فحدثت بذلك الزبيري فقال لي: سمعت أنا أعرابياً يقول لرجل من مياسير البلد: أحب أن تنسئني شيئاً أستعين به وأعجل رده؛ فقال له الآخر قولاً اعتذر فيه، وذكر انقباض يده عن مراده. فقال له الأعرابي: لا جعلها الله عذرةً صادقةً.
قال سلمان الفارسي: الناس أربعة: أسد، وذئب، وثعلب، وضأن: فأما الأسد فالملوك يفترسون.
وأما الذئب فالتجار.
وأما الثعلب فالقراء المخادعون.
وأما الضأن فالمؤمن ينهشه كل من يراه.
قيل لابن عائشة: ما بال قريش ليس شعرها بجيد؟ قال: لأن قريشاً لم تخلق للشعر، إنما خلقت للقرآن.
شاعر: من البسيط:
استودَعَ العِلْمَ قِرْطاساً وضَيَّعه ... وبئسَ مُسْتَودَعُ العِلْمِ القَراطيسُ
قال يحيى بن سليم: حج المنصور، وعامله على مكة والمدينة حينئذ عمه عبد الصمد بن علي، فأمره أن يدخل عليه رجلاً حصيفاً من أهل مكة، فأدخل عليه رجلاً، فلم يسلم عليه بالخلافة، فقال له المنصور: أي رجل أنا عندك؟ قال: أنت ما علمت الظالم الخائن المستبد بالفيء تأخذه من غير حقه وتضعه في غير أهله. فاستوى له جالساً وقال: وما علمك أنني ظالم خائن؟ أستقضيت لي فجرت عليك أو على غيرك؟ أو ههنا شيء تدعي أنني أخذته منك؟ هذه كتبي في ديواني ومع عمالي آمرهم بالعدل وإيتاء النصفة والحق، فمن ينكث فإنما ينكث على نفسه. وهذا عمرو بن عبيد والأعمش وسفيان الثوري، أدعوهم إلى عملي فيمتنعون، فأطلب أهل العدالة والأمانة في الظاهر فإذا اختبرتهم وجدتهم خونةً فجرةً، أفأقدر أن أولي الملائكة؟ أو ما علمت - لا علمك الله خيراً - أن النبي صلى الله عليه وسلم شكا بعض عماله والوحي ينزل عليه؟ أو ما علمت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاطر جماعةً من عماله أموالهم، منهم سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة؟ وأما الفيء الذي زعمت أنني أستبد به وآخذه من غير حله، وأضعه في غير أهله، فأخبرني: أمحتاج أنت إليه؟ فإن قلت: نعم، سألنا عما ادعيت، فإن كنت صادقاً أعطيناك بقدر ما يكفيك، وكنت الظالم لنفسك إذ لم ترفع إلينا حاجتك، وكان المغيب عنا مستوراً. وإن كنت كاذباً، فما لك في هذا الفيء نصيب، لأن الله تعالى قسمه أقساماً لم يجعل فيه لغني حقاً، ولا مثلك يعطى من هذا الفيء وأنت بفناء قبة امرأتك وحجلتها تتمرغ على مهادك، وتتثنى على وسادك، ولا تغزو سبيلاً، ولا تجيب أميراً. وبعد، فما يؤمنك أن أبطش بك، فيقول الناس: وعظ أمير المؤمنين فعاقبه؟ فقال له: وددت أنك عاقبتني. قال: هيهات! إذن كنت تتخذ عقوبتي سوقاً وتقيمها تجارةً، وينظر الناس إليك بعين تعظيم وتبجيل؛ لا والله، ولكن أدعك استهانةً بأمرك، واستخفافاً بموضعك، فتخرج إلى أصحابك فتقص عليهم خبري وخبرك، فإن صدقوك قالوا: استضعفه وهان عليه، وكان عنده ممن لا حجة له، وإن كذبوك ضحكوا منك واختبؤوها فيك، وإن كنت عندهم عدلاً سقطت شهادتك، وإن كنت مستوراً انكشفت لهم عورتك، اخرج أخرج الله نفسك.
ثم قال لعبد الصمد: أمرتك أن تدخل علي رجلاً حصيفاً، أتدخل علي مثل هذا؟ اخرج فجئني بغيره. فخرج، فأدخل عليه عباد بن كثير، فسلم عليه بالخلافة، فقال له المنصور: أي رجل أنا عندك؟ قال: أنت ما علمت ممن قضى في إمارته بالعدل، وأمنت به السبل وأمن به الخائف. فسر بذلك، فقال: اختر إما جائزتنا فنعطيك، وإما ولايتنا فنوليك. قال: يا أمير المؤمنين، إن القرب منك العز العزيز والبهاء المنيع، وإن العمل لك ليزيد في عقل الأريب، ويلقح اللبيب، ويكسب الثروة، غير أني شيخ كبير لم أل عملاً قط، وإن يصلني أمير المؤمنين بشيء أقبله وأجعله من طيب ما آكله. فأمر له بثلاثمائة دينار وكسوة. فأخذها وقال: لي حاجة خفيفة، فإن أذنت لي ذكرتها، قال: قد أذنت. قال: إن خطرت ببال أمير المؤمنين وذكره، فرأى أن يمد يده المباركة إلي فعل. فتبسم المنصور وقال: نفعل. ثم التفت إلى عبد الصمد فقال له: مثل هذا الشيطان يصلح لمخاطبة الملوك، لا مثل ذلك الأحمق، وكان لا يذكره إلا وجه إليه بمال وكسوة إلى أن مات عباد.
قال سلمة بن محارب: لربما كان الخرس خيراً من الكلام.
قيل: كيف ذاك؟ قال: أخبرني أبي قال: كنت مع مسلمة بن عبد الملك لما قتل يزيد بن المهلب وأتي بالأسرى منهم، فرأيت فيهم مولى لنا، فسألت الشرط تأخيره. فأتي مسلمة بالأسرى، فجعل يعفو عنهم. فناداه مولانا من آخر الناس: أصلح الله الأمير، أنا مولاك، قال: مولاي لا يخرج علي مع ابن المهلب، اضربوا عنقه؛ فقتل.
يقال: العلم أحد اللسانين، والعم أحد الأبوين، والتثبت أحد العفوين، والمطل أحد المنعين، وقلة العيال أحد اليسارين، والقناعة أحد الرزقين والوعيد أحد الضربين، والإصلاح أحد الكسبين، والرواية أحد الهاجيين، والهجر أحد الفراقين، واليأس أحد النجحين، والمزاح أحد السبابين.
قال ابن عبد الأعلى الكاتب: كنت بحضرة أبي الحسن ابن الفرات في وزارته الأولى وهو جالس يعمل، إذ رفع رأسه وترك العمل من يده وقال: أريد رجلاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، يطيعني حق الطاعة، فأنفذه في مهم لي، فإذا بلغ ما أرسمه له أحسنت إليه إحساناً يظهر عليه وأغنيته. فأمسك من حضر، ووثب رجل يكنى بأبي منصور أخ لابن شبيب حاجب ابن الفرات، فقال: أنا أيها الوزير. فقال: أو تفعل، قال: أفعل وأزيد. قال: كم ترتزق؟ قال: أرتزق مائةً وعشرين ديناراً؛ قال: وقعوا له بالضعف. وقال له: سل حوائجك. فسأله أشياء أجابه إليها. فلما فرغ من ذلك قال له: خذ توقيعي وامض إلى ديوان الخراج وأوصله إلى كاتبي الجماعة، وطالبهما بإخراج ما على محمد بن جعفر بن الحجاج، وطالبه بأداء المال، وأتلفه إلى أن تستخرج جميعه منه؛ ولا تسمع منه حجة، ولا تمهله البتة. فأخذ من رجالة الباب بعد أن خرج ثلاثين رجلاً، فخرجت لأنظر ما يصنع. فدخل إلى الصقر بن محمد وكان هو عبد الله بن محمد الكلوذاني شركةً في الديوان. فأوقع إليه التوقيع وقال له: أخرج ما على ابن الحجاج، فقال: عليه من باب واحد ألف ألف درهم، فطالبه بذلك إلى أن نفرغ من العمل لسائر ما يلزمه. وكان محمد بن جعفر من عمال علي ابن عيسى. قال: فأحضر ابن الحجاج وشتمه وافترى عليه، وابن الحجاج يستعطفه ويخضع له. ثم أمر بتجريده وإيقاع المكروه به، وهو في ذلك كله يقول: يكفي، الله! ثم أمر أبو منصور بنصب دقل وجعل في بكرة في رأسه حبلاً وشدت فيه يدا ابن الحجاج ورفع إلى أعلى الدقل، وهو يستغيث ويقول: يكفي، الله! وما زال معلقاً وهو يسأله حطه وإنظاره إلى أن يوفق الكتاب على ما أخرج عليه، وهو لا يسمع، وقد قعد تحت الدقل واختلط وغضب من غير غضب، اعتماداً لأن يبلغ ابن الفرات فعله. فلما ضجر قال: أرسلوا ابن الفاعلة - وعنده أنهم يتوقفون ولا يفعلون - فأرسلوه ووافى ابن الحجاج إلى الأرض، وكان بديناً ثقيلاً سميناً، ووقع على عنق أبي منصور فدقها، فخر على وجهه؛ ووقع ابن الحجاج مغشياً عليه، فحمل أبو منصور إلى منزله في محمل فمات في الطريق.
ورد ابن الحجاج إلى محبسه، وقد تخلص من التلف. وكان الناس يتعجبون من قول ابن الفرات: أريد رجلاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر يطيعني: أما الطائع له فقد تعجل الجزاء لوقته، وأما ابن الفرات فأمهل، وكان عاقبة أمره قتله وقتل ولده، واستئصال بيته؛ وما أعد الله للظالمين أشد وأبقى.
لما ضرب علي - عليه السلام - وأوصى، لحقته غشية، فلما أفاق من غشيته دعا أمامة بنت أبي العاص زوجته - وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم - فقال لها: يا أمامة قد أصابني من أمر الله تعالى ما ترين، وكأني بك لو قد حللت قد تزوجت معاوية. فقالت: معاذ الله! إن شئت والله يا أمير المؤمنين حرمت الرجال على نفسي أبداً. فقال: لا أحب ذاك، ولكن أحب أن لا تتزوجي معاوية، وأن تستشيري في أمرك المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وإن خطبك أرى أن تتزوجيه. فقالت: ذاك لك. فلما قبض عليه السلام، وسارت إلى المدينة وقام معاوية، كتب إلى مروان بن الحكم، وكان على المدينة، يأمره أن يخطب أمامة عليه ويعطيها ما أحبت. فبعث إليها مروان بذلك، فقالت: ما حللت بعد. فأمسك مروان ينتظر حلها. فلما حلت بعثت إلى المغيرة بن نوفل تستشيره في ذلك، فقال المغيرة: وما يدخلني في هذا الأمر؟ أمير المؤمنين رجل من بني عبد شمس وأنا رجل من بني هاشم، فما يدخلني بينكم وقد ضربت وجه معاوية أمس بسيفي؟ ثم ما عرض لي بشيء يخالفني.
فأرسلت إليه: إني والله ما ضاق علي من أستشيره، ولكن أمير المؤمنين رضي الله عنه أمرني أن أستشيرك، وأمرني إن خطبتني أن أتزوجك. فأرسل إليها: إني أعيذك بالله أن تستخلفي معاوية بعد علي، وأنا أخطبك أشد الخطبة. فأرسلت إليه: إن أمري إليك، أشهدت له على ذلك، فتزوجها.
وبلغ الأمر مروان فغضب، وأرسل إلى المغيرة فحبسه في بيت وطين عليه، وأمر أن يدخل إليه طعامه وشرابه من كوة؛ وفعل مثل ذلك بأمامة؛ وكتب إلى معاوية يخبره الخبر وأن المغيرة لم يرض أن ضربك بسيفه فكففت عنه حتى خطب بعد خطبتك بغير إذن ولا سلطان، وإنما حمله على ذلك معرفته بوهنك وضعفك عن عدوك، فإما صلت به صولةً تجعله نكالاً لعدوك أو جعلت ذلك إلي.
فكتب إليه معاوية كتاباً وبعث به رسولاً وأمره أن لا يفضه حتى يخرج المغيرة بن نوفل وأمامة من محبسهما، وأمر مروان أن يحضرهما عنده ويحضر عشرين رجلاً من قريش وعشرةً الأنصار من خيار من قبله، ثم يأمر الرسول أن يقرأ عليهم الكتاب، ثم ينفذ ما فيه ولا يتعداه إلى غيره. ففعل مروان، فلما اجتمعوا قام رسول معاوية، ففض الكتاب وإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى مروان بن الحكم: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد، فقد بلغني ما كتبت به عن المغيرة بن نوفل وما عملته؛ فقد نظرت فيما كتبت فلم يبلغ معاوية أن يحرم ما أحل الله، ولا يحل ما حرم الله؛ ورجل من بني هاشم أفضل من امرأة من بني عبد شمس؛ وأما ما ذكرته من نكاحه بغير ولي ولا سلطان، فأي ولي يقدم على تزويجه إياها بعد خطبة أمير المؤمنين؟ ولم تصب ولم توفق في حبسك إياهما، وترويعك لهما؛ فإذا جاءك كتابي فخل بينه وبين امرأته، ولا تعارضهما؛ فبارك الله لكل منهما في صاحبه، وادفع إلى المغيرة عشرة آلاف دينار من مال أمير المؤمنين يستعين بها على نكاحه، وإلى أمامة خمسة آلاف دينار، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قال عبد الله بن شبرمة القاضي: دخلت على أبي مسلم وفي حجره مصحف، وبين يديه سيف، فقال لي: أنت ابن شبرمة؟ قلت: نعم أصلحك الله؛ فقال: ما هو إلا الملك أو الترهب، قلت: ما هو إلا الهلاك أو الرحمة.
ودخل عليه وهو يريد المسير إلى قتال عبد الله بن علي عند خروجه على المنصور، فقال له: يا ابن شبرمة، ما يقول الناس في مسيرنا هذا؟ قال: يقولون: الأمر عظيم يشير إلى عم الخليفة مع نجدته وشهامته، ومعه جلة أهل الشام، وكثير من أهل خراسان.
قال: أفرخ روعك يا ابن شبرمة! والله لو سرت إليهم وفي أيدي أصحابي القصب لهزمتهم، وما أقول هذا بعلم غيب عندي أدعيه لنفسي، ولكن رأيت الله عذب أهل العراق بسيف أهل الشام نيفاً وثمانين سنةً، ثم أراد أن ينتقم بهم منهم، أفما تكون نقمته إلا مقدار هذه المدة؟ دخل صالح بن عبد الجليل - وكان ناسكاً مفوهاً - على المهدي، وسأله أن يأذن له في الكلام. فقال: تكلم، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما لما سهل لنا ما توعر على غيرنا من الوصول إليك، قمنا مقام المؤدي عنهم وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي لانقطاع عذر الكتمان في التقية، لا سيما حين اتسمت بميسم التواضع، ووعدت الله وحملة كتابه إيثار الحق على ما سواه. فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التمحيص ليتم مؤدينا على موعود الأداء عنهم؛ وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: من حجب الله عنه العلم، عذبه على الجهل، وأشد منه عذاباً من أقبل إليه العلم فأدبر عنه، ومن أهدى الله إليه العلم فلم يعمل به، فقد رغب عن هدى الله؛ فاقبل ما أهدى الله إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل، لا قبول سمعة ورياء، فإنه لا يخلفك منا إعلام بما تجهل، أو مواطأة على فضل، فقد وطن الله جل اسمه نبيه على نزولها، تعزيةً عما فات، وتحصيناً من التمادي، ودلالةً على المخرج فقال: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله. فأطلع الله على قلبك بما يلوح به الحق الذي ينافي الهوى، فإنك إن لم تفعل، لم تر لله أثرةً عليك.
فبكى المهدي حتى هم من كان على رأسه بضرب صالح، وحتى ظنوا أنه يموت. فقال: يا صالح، لو وجدت رجالاً يعملون بما آمرهم في رعيتي، لظننت بأنني ألقى الله تعالى وأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أقل ذنوبي وأهون حسابي، ولكن دلني على وجه النجاة، فإن لم أعمل به، كنت أنا الجاني على نفسي.
قال له صالح: أنت يا أمير المؤمنين أعلم بموضع النجاة.
قال: ما كنت أنت بعظتي أولى مني بعظتك لي، وما هو إلا أن أركب سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا يصلح عليها أحد من أهل هذا العصر؛ وذاك أن الناس في الزمن الماضي كان يرضى أحدهم بالطمر البالي، وتقنعه الكسرة اليابسة والماء القراح، وهم اليوم في تضاعيف الخز والوشي، ومائدة أحدهم مثل الغني ذي العيال في زمن عمر، فإلى من أكلهم؟ إلى ولد أبي طالب، فو الله ما أرى للمسلمين راحةً فيهم ولا فرجاً عندهم، ولو أنني حملت الناس على سيرة العمرين في هذا العصر لكنت أول مقتول، وذلك أن الفطام عن هذا الحطام شديد لا يصبر عليه إلا المبرز السابق.
يا صالح، لقد بلغني أن لسعيد بن سلم ألف سراويل، ولحازم ألف جبة، ولعمارة بن حمزة ألف دواج، وهذا أقل ملكهم؛ فما ظنك بي وهم عددي وسهام كنانتي، ومن أشبههم كمعن بن زائدة وعبد الله بن مالك، فلو حملتهم على التقشف وأخذت أموالهم هل كانت نفس أبغض إليهم من نفسي، أو حياة أثقل عليهم من حياتي؟ فأطرق صالح مفكراً، ثم رفع رأسه وقال: يا أمير المؤمنين، إنه ليقع في خلدي أنك قبلت قولي قبول تحقيق لا قبول سمعة ورياء. فقال المهدي: الله شهيد على ذلك. فقام صالح فدنا من المهدي، فقبل رأسه وقال: أعانك الله يا أمير المؤمنين على صالح نيتك، وأعطاك أفضل ما تأمله في رعيتك، ووهب لك أعواناً بررةً صالحين يعملون بما يجب عليهم فيك، ثم خرج.
لما أبعد أبو الفتح بن العميد أبا القاسم بن عباد الصاحب عن خدمة مؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بويه، وتولى الأمور، تداخله في بعض الليالي عجب وسرور بما هو فيه، فاستدعى ندماءه وهيأ له مجلس عظيم بآلات الذهب والفضة وفاخر البلور والمخروط الصيني والطيب والفواكه، وحضر المغنون والملهون فشرب آخر يومه وأكثر ليلته، وعمل شعراً أنشده ندماءه وألقاه على المغنين حتى غنوا فيه، وهو: من المتقارب:
دعوتُ المنى ودعوتُ الغِنى ... فلما أجابا دَعَوْتُ القَدَحْ
وقلتُ لأَيَّامِ شَرْخِ الشباب ... إليَّ فهذا أَوانُ المَرَحْ
إذا المَرْءُ أَدرك آمالَه ... فليس له بَعْدَها مُقْتَرَحْ
فغني بالشعر واستطابه، وشرب عليه إلى أن سكر، ثم قال لغلمانه: غطوا المجلس ولا تنقضوا شيئاً منه لأصطبح عليه في غد. وقال لندمائه: باكروني ولا تتأخروا، وقام إلى بيت منامه. ووافق ذلك استدعاء مؤيد الدولة إياه في السحر، فلم يشك أنه لمهم من خدمته، فبادر، فلما دخل دار الأمير قبض عليه، وأنفذ إلى داره من أخذ جميع ما وجد له، ولم يزل في الاعتقال إلى أن مات تحت العذاب.
قال أبو الحسن محمد بن عمر بن يحيى العلوي: كان المتنبي وهو صبي ينزل في جوارنا بالكوفة، وكان أبوه يعرف بعيدان السقاء، يستقي على جمل له ولأهل المحلة. ونشأ له المتنبي، فكان يتبع أهل العلم والأدب ويلازم الوراقين، وكان ذكياً حسن الذكاء. فقال لي وراق كان يجلس إليه: ما رأيت قط أحفظ من هذا الغلام ابن عيدان؛ فقلت له: كيف ذاك؟ قال: كان جالساً عندي اليوم، وقد أحضر رجل كتاباً من كتب الأصمعي ليبيعه يكون نحو ثلاثين ورقةً، فأخذه فنظر فيه طويلاً، فقال له الرجل: أريد بيع هذا الدفتر، وقد قطعتني عن ذلك، فإن كنت تريد حفظه فهذا إن شاء الله يكون بعد شهر؛ فقال له ابن عيدان: فإن كان قد حفظته في هذه المدة فما لي عليك؟ قال: إن كنت حفظته فهو لك؛ فأخذت الدفتر من يده، وأخذ يتلوه إلى آخره، ثم استلبه من يدي فجعله في كمه، وقام. فعلق به صاحبه وطالبه بالثمن، فقال: ما إلى ذلك سبيل، قد وهبته لي، فمنعناه منه وقلنا له: أنت شرطت على نفسك هذا.
استدعى المتوكل من البصرة محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب الأموي، وأحمد بن المعذل بن غيلان العبدي، وإبراهيم التيمي، فعرض على كل واحد منهم ولاية القضاء بالبصرة، فاحتج ابن أبي الشوارب بعلو السن وأمور تقطعه عن ذلك؛ واحتج أحمد بن المعذل بضعف البصر؛ وامتنع إبراهيم التيمي، فقيل له: لم يبق غيرك، وجزم عليه، فولي. فنزلت حاله عند أهل العلم، وعلت حال الآخرين. ويرى الناس أن بركة امتناع محمد بن عبد الملك دخلت على ولده، فولي منهم أربعة وعشرون قاضياً منهم ثمانية قلدوا قضاء القضاة، وكان آخرهم أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن العباس بن محمد بن عبد الملك ابن أبي الشوارب، تقلد قضاء القضاة للقادر في رجب سنة خمس وأربعمائة، وتوفي في شوال سنة سبع عشرة وأربعمائة، ومولده في ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
حدث ابن أبي الخير العبسي قال: كنا مع أبي جعفر المنصور أيام خرج عليه عمه عبد الله بن علي وهو يحاربه، فخرج علينا أبو الخصيب - وهو إذ ذاك حاجب المنصور - فأدخل جماعةً من أصحابه وأنا فيهم، وفينا ابن عطية الثعلبي، وكان معروفاً بالشجاعة، فتقدم إلى المنصور، فقال له: يا ابن عطية، قد عرفت بلاء أمير المؤمنين عندك وإحسانه إليك. ثم جفاك أمير المؤمنين جفوةً، وأراد أن يعرض عن تلك الجفوة ويستقبل بك الكرامة، فسر في هذا الوجه، فرأي أمير المؤمنين فيك جميل، وادع من أطاعك من قومك، وخذل عن الفاسق من قبل منك، وليأت أمير المؤمنين عنك غناء يأتك منه جزاء. فقال ابن عطية في نفسه: هذا يوم شرفي وهذه مرتبتي، وقد عرفت أنه لا يستغني عن مثلي، فقال: حوائجي يا أمير المؤمنين، قال: هات حوائجك؛ قال: تبلغ بعطائي الشرف، قال: اكتب يا سليمان، يعني أبا أيوب المرياني، فكتب؛ قال: ويفرض لولدي في شرف العطاء، قال: وماذا؟ قال: ويقضى ديني، قال: وماذا؟ قال: وقطيعة عيالي، قال: نعم، فلما ولى قال: يا سليمان أنفذ لهذا الأعرابي جميع ما سأل، ولا يكون ممن يستعان به في هذا الوجه، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو أن عبد الله بن علي قائم على رأسي بالسيف لا ينجيني منه إلا هذا الأعرابي، ما استعنت به بعد هذا التسحب في حوائجه.
حج الرشيد في بعض السنين فمر بالربذة وعديله الفضل بن الربيع في ليلة طخياء مقمرة، فتقدما الناس يتحدثان، وعلى الخيل هرثمة بن أعين، وقد أمره الرشيد أن يتأخر عنهما قليلاً. فبينما هما يتحدثان إذ مرا بأعرابيين يتحدثان فيما يقضيه الله ويقدره وما سبق من حكمه في خلقه، ثم ضرب أحدهما بيده على منكب الآخر وقال له: اسمع: من الرجز:
يا أَيُّها المُشْعِرُ همّاً لا تُهَمّ ... إنَّك إنْ يُقْدَرْ لك الحمّى تُحَمْ
ولو عَلَوْتَ سامقاً من العَلَمْ ... ممتنعاً لم يَعْلُهُ الطيرُ أَشَمّ
كيف توقِّيك وقد جَفَّ القَلَمْ ... وخَطَّ أَيَّامَ الصحاحِ والسَّقَمْ
فقال الرشيد: ويحك يا عباسي! لقد أحسن الأعرابي. فقال له الفضل: أعد ما قلت. فتأملهما ساعةً ثم قال: أما بقولك فلا، ولكن إن قال ذاك أعد، أعدت، وأشار إلى الرشيد. فقال الرشيد: كيف تعيد بقولي ولا تعيد بقوله؟ فقال الأعرابي: أما سمعت قول الشاعر: من الطويل:
متى ما رأى الناسُ العتيقَ ومقرفا ... وقد جَرَيا قالوا عتيقٌ ومُقْرِفُ
فضحك الرشيد واستوقفهما، وقرب الجند وهرثمة، فقال الرشيد لهرثمة: أمعك شيء؟ قال: نعم، قال: كم هو؟ قال: أربعمائة دينار، قال: أعطها الأعرابي، فقال رفيقه: يا سيدي، أما سمعت قول الشاعر: من الوافر:
وكُنْتُ جليسَ قَعْقاعِ بن شَوْرٍ ... ولا يَشْقى بقَعْقاعٍ جَليسُ
فقال: وأعط هذا مائتي دينار.
قال إبراهيم بن غسان: خرجنا يوماً مع عبد الله بن طاهر إلى الميدان، فاعترضته امرأة برزة، فقالت له: أيها الأمير، كادي وكاسبي وواحدي من الدنيا ابن لي في حبس الأمير منذ أربع سنين، فإن رأى الأمير أن يمن به على ضعفي، فعل. قال لها: ومن ابنك؟ قالت: إبراهيم بن الحكم البخاري؛ قال لها: هيهات! ما ترينه إلا على سريره، وضرب دابته. فقالت بالفارسية: فأين الله؟ فسمعها فقال: يا إبراهيم، ما قالت العجوز؟ قلت: ما أدري أيها الأمير. قال: ولكني أدري، أحضروها؛ فأحضرت بين يديه وإن فرائصها لترعد حتى أوقفت بين يديه. فقال: كيف قلت؟ قالت: ما قلت شيئاً، قال: بلى، قولي وليس عليك بأس. قالت: قلت فأين الله؟ قال: صدقت والله، علي بابنها. قال: فكأني أنظر إليه وقد جيء به على أعناق الرجال مكبلاً في الحديد. فقال: أطلقوا عنه. فأطلق! وقال لها: خذيه. ثم التفت إلى الشعراني فقال: انظر كم لزمها من النفقة منذ حبس ابنها فأضعفه لها، وأعطها ما تتحمل به إلى بخاري.
قال مجاهد، قال عمر بن عبد العزيز: ماذا يقول الناس يا مجاهد؟ قلت: يقولون هو مسحور، قال: ما أنا بمسحور، ولكني سقيت السم؛ ثم دعا غلامه، فقال: أعطيت ألف دينار على أن أسقيك السم وأعتق. قال: اذهب لا يراك أحد، والألف اجعلها في بيت المال. وكان لعمر مناد ينادي كل يوم: أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟ وكان يبكي حتى يبل لحيته ويقول: يا رب، ما جعلني أحق هذه الأمة بهذا الأمر؟ قال محمود بن الحسن الوراق: دخلت على أصرم بن حميد، وكان لي صديقاً. فلما أردت الانصراف من عنده قام لي وودعني، فقلت: وأين تقصد؟ قال: أريد الحج، فودعته وانصرفت. ثم اجتزت ببابه بعد أيام، فرأيت عليه دواب، وخبرت أنه حاضر، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فقلت: ألم تخبرني أنك حاج؟ قال: بلى، ولكني فكرت وقلت: أموت في الطريق ضيعةً، ويتولاني غلماني، ويصلي علي الأعراب؛ فقلت له: ألا أنشدك أبياتاً حضرتني وقتي هذا؟ فأنشدته: من الوافر:
أقامَ عن المسيرِ وقد أُثيرَتْ ... ركائبُهُ وغَرَّد حادياها
وقال: أخافُ عاقبةَ الليالي ... على نَفْسي، وأَن تَلْقى رداها
فقلتُ له: عزمتُ عليك إلا ... بلغْتَ من العزيمةِ مُنْتهاها
فَمَنْ كُتِبَتْ منيَّتُهُ بأَرضٍ ... فليس يموتُ في أَرضٍ سِواها
فقال: يا غلماني، جهزوني، ثم حج ورجع معافى.
قال معاوية لابنه يزيد: هل بقي في نفسك من النساء شيء؟ قال نعم، هند بنت سهيل بن عمرو، وكانت يومئذ عند عبد الله بن عامر. فكتب معاوية إلى عبد الله: إنك إن طلقتها زوجتك بنتي هنداً. قال: فطلقها ابن عامر، فقدمت المدينة، فأرسل معاوية بأبي هريرة يخطبها على يزيد ابنه ويتلطف لها في ذلك. قال: فلقيه الحسن فقال: لأمر ما قدمت له يا أبا هريرة، لا وقت حج ولا غيره! قال: بعثتني معاوية أخطب هنداً بنت سهيل بن عمرو على ابنه يزيد. قال: فإذا ذكرت يزيد فاذكرني لها بعده. قال: فدخل عليها أبو هريرة فأبلغها عن الحسن بن علي. فقالت: ما ترى لي يا أبا هريرة؟ قال: أرى أن تتزوجي الحسن، وإن استطعت أن تضعي فاك حيث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع فاه، فافعلي، فتزوجت الحسن.
فمكثت عنده، ثم قدم ابن عامر المدينة، فاستأذن الحسن بن علي في الدخول عليها وقال: إن لي عندها ودائع؛ فأذن له، فدخل عليها فكلمها، فدمعت عينه وعيناها! فقال له الحسن: إن شئتما كنت لكما خير محلل؛ قال ابن عامر: لا والله، ما لذاك بكائي. وطلبت إلى ابن عامر أن يدع ابنته منها عندها. وكلمه الحسن فأجابه، وقال: والله لو غيرك يا أبا محمد من الناس كلمني ما فعلت.
حدث الأصمعي عن وصيف حاجب المهدي قال: كنا مع المهدي بزبالة وقد خرج حاجاً، فإذا أعرابي يقول: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، إني عاشق، قال الأصمعي: وكان يحب ذكر العشاق. فدعا بالأعرابي فلما دخل عليه قال: أنت المنادي بالعشق؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فقال له: ما اسمك؟ قال: أبو مياس، قال: يا أبا مياس، من عشيقتك؟ قال: ابنة عمي، وقد أبى أبوها أن يزوجها مني. قال: لعله أكثر منك مالاً، قال: لا بل أنا أكثر منه مالاً. قال: فما قصتك؟ قال: فقال له الأعرابي: أدن رأسك مني. قال: فجعل المهدي يضحك وأصغى إليه برأسه، فقال: إني هجين، قال: فليس يضرك ذلك، اخوة أمير المؤمنين وولده أكثرهم هجين؛ قال ما أقل منفعة هذا لي إذاً، فإن عمي لا يزوجني. قال: وأين عمك؟ قال: منا على ثلاثة أميال. قال: فأرسل الخيل في طلبه، فجاءوا به. قال: ما لك لا تزوج أبا مياس فإني أرى عليه نعمة؟ قالك متاع سوء، وليس منا زوج مثله. قال: فإن الذي كرهت ليس بعيب عندنا، وأنا معط صداق ابنتك عشرة آلاف، ومعوضك مما كرهت عشرة آلاف. قال: فذلك لك. فخرج أبو مياس، وهو يقول: من الكامل:
ابتَعْتُ ظَبْيَةَ بالغلاءِ وإنّما ... يُعطي الغلاءَ بمثلها أَمثالي
وتركتُ أَسواق القِباح لأَهْلِها ... إن القِباحَ وإن رَخُصْنَ غوالي
قال أبو عثمان سعيد بن محمد: وجهني المنتصر في إمارته إلى مصر في بعض أمور السلطان، فعشقت جاريةً له كانت لبعض النخاسين عرضت على البيع، محسنةً في الصنعة ومقبولةً في الخلقة، قائمةَ على الوزن من المحاسن والكمال. فساومت مولاها بها، فأبى أن يبيعني إلا بألف دينار؛ ولم يكن ثمنها متهيئاً معي، وأزعجني الشخوص، وقد علقها قلبي. فأخذني المقيم المقعد، وندمت على ما فاتني من اشترائها. فلما قدمت وقد فرغت مما وجهني له، وأديت إليه ما عملت به وحمد أثري فيه، سألني عن حالي وخبري، فأخبرته بمكان الجارية وكلفي بها. فأعرض عني وجعل ما بي لا يزداد إلا حدة، وقلبي لا يزداد إلا كلفاً، وصبري لا يزيد إلا ضعفاً، وسليت نفسي بغيرها فلم تسل عنها. وجعل المنتصر كلما دخلت عليه وخرجت من عنده يذكرها، ويهيج شوقي إليها، وتحملت عليه بندمائه وأهل الأنس به، وخاص من تحظى من جواريه وأمهات أولاده، وأم الخليفة، على أن يشتريها لي، ولا يجيبني إلى ذلك، ويعيرني بقلة الصبر. وكان قد أمر أحمد بن الخصيب أن يكتب إلى مصر في ابتياعها وحملها إليه من حيث لا أعلم، فحملت وصارت إليه، ونظر إليها وسمع منها، فعذرني فيها، ودفعها إلى قيمة جواريه، فأصلحت من شأنها. فلما كان يوم من الأيام استجلسني وأمر بها أن تخرج إلى ستارته، فلما سمعت غناءها عرفتها، وكرهت أن أعلمه أني قد عرفتها حتى ظهر مني ما قد كتمت، وغلبت على صبري. فقال لي: ما لك يا سعيد؟ قلت: خيراً أيها الأمير! قال: فاقترح عليها صوتا كنت أعلمته أني سمعته منها وأني استحسنته من غنائها، فغنته، فقال لي: هل تعرف هذا الصوت؟ قلت: إي والله أيها الأمير! وكما تكون المعرفة، وقد كنت أطمع في صاحبته، فأما الآن فقد يئست منها، وكنت كالقاتل نفسه بيده، والجالب الحتف إلى حياته. فقال: والله يا سعيد ما اشتريتها إلا لك، ويعلم الله إني ما رأيت لها وجهاً إلا ساعة أدخلت إلي وقد استراحت من تعب السفر واستراحت من شحوب التبذل، فهي لك. فدعوت له بما أمكنني من الدعاء، وشكره عني من حضره من الجلساء؛ وأمر بها فهيئت، فردت إلي حياتي بعد أن أشرفت على التهلكة.
حدث محمد بن صالح العلوي قال: حدثني نمير بن قحيف الهلالي وكان حسن الوجه نجيباً، قلما رأيت في الفتيان مثله، قال: كان منا فتىً يقال له بشر بن عبد الله يعرف بالأشتر، وكان سيد فتيان بني هلال، أحسنهم وجهاً، وأسخاهم نفساً، وأطولهم لمةً، وكان معجباً بجارية من قومه يقال لها: جيداء، وكانت بارعة الجمال جداً. فلما شهر أمره وأمرها، وظهر خبره وخبرها، وقع الشر بين أهل بيته وأهل بيتها في سببها حتى قتلوا بينهم القتلى، وقطعت بينهم الأيدي والأرجل، وافترقوا فريقين لا يحل واحد منهما مع الآخر. قال نمير: فلما طال على الأشتر البلاء والهجر جاءني يوماً، فقال: يا نمير، هل فيك خير؟ قلت: عندي كل ما أحببت. قال: أسعدني على زيارة جيداء، قلت: نعم بالحب والكرامة، فانهض إذا شئت. قال: فركب وركبت معه، فسرنا يومنا وليلتنا والغد، حتى كان أصيل العشي، ثم نظر إلى أدنى سرب أهلها، فأنخنا رواحلنا في شعب خفي، وقعد عندها وقال: يا نمير اذهب - رضي الله عنك - فتأنس للناس واذكر لمن لقيك أنك طالب ضالة، ولا تعرض بذكري بين شفة ولا لسان إلا أن تلقى جاريتها فلانة راعية ضأنهم فتقرؤها السلام وتسألها الخبر وتعلمها بمكاني.
قال: فخرجت لا أعدو ما أمرني حتى لقيت الجارية، فأبلغتها الرسالة وأعلمتها مكانه، وسألتها عن الخبر، فقالت: هي والله مشدد عليها محتفظ بها، وعلى ذاك فموعدكما أولئك الشجرات اللواتي عند أعقاب البيوت مع صلاة العشاء. قال: فانصرفت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم نهضت أنا وهو نقود راحلتينا حتى أتينا الموعد في الوقت الذي وعدتنا فيه. فلم نلبث إلا قليلاً إذا جيداء تمشي حتى دنت منا فوثب الأشتر فصافحها وسلم عليها.
فوثبت مولياً عنهما، فقالا: نقسم عليك إلا رجعت! فو الله ما بيننا ريبة ولا قبيح نخلو به دونك، فانصرفت راجعاً إليهما حتى جلست معهما. فقال لها الأشتر: أما فيك حيلة يا جيداء فنتعلل الليلة؟ قالت: لا والله ما لي إلى ذلك سبيل إلا أن أرجع إلى الذي تعلم من البلاء والشر. فقال لها: لابد من ذاك وإن وقعت السماء على الأرض. قالت: فهل في صاحبك هذا خير؟ قالت: يا فتى هل فيك خير؟ قلت: سلي ما بدا لك فإني منته إلى رأيك ولو كان في ذلك ذهاب نفسي.
قال: فجعلت علي ثيابها فلبستها وجعلت عليها ثيابي فلبستها، ثم قالت لي: اذهب إلى بيتي وادخل في ستري، فن زوجي سيأتيك مع العتمة فيطلب منك القدح ليحلب فيه الإبل فلا تعطه إياه من يدك، فكذاك كنت أفعل به، فسيذهب فيحلب ثم يأتيك عند فراغه من الحلب والقدح ملآن لبناً، فيقول: هاك غبوقك؛ فلا تأخذه منه حتى تطيل نكدك عليه ثم خذه أو دعه حتى يضعه؛ ثم لست تراه حتى تصبح إن شاء الله.
قال: فذهبت ففعلت كما أمرتني، حتى إذا جاء بالقدح فيه اللبن أمرني أن آخذه فلم آخذه حتى أطلت نكدي عليه، ثم أهويت آخذه وأهوى يضعه، فاختلفت يدي ويده فانكفأ القدح واندفق ما فيه من اللبن، فقال: إن هذا لطماح مفرط وضرب بيده إلى مقدم البيت فاستخرج سوطاً ملوياً كمثل الثعبان المطوق؛ ثم دخل علي فهتك الستر عني وقبض بشعري، وضربني بذلك السوط ثلاثين إن زادت فقليلاً وإن نقصت فقليلاً، ثم جاءت أمه وإخوته وأخت له فانتزعوني من يده؛ ولا والله ما فعلوا ذلك حتى زايلتني روحي، وهممت أن أجأه بالسكين، وإن كان فيها الموت؛ فلما خرجوا عني وهو معهم شددت ستري وقعدت كما كنت، فلم ألبث إلا قليلاً وإذا أم جيداء قد دخلت علي، فكلمتني وهي تحسبني بنتها، فاتقيتها بالسكات والبكاء، وتغطيت بثوبي دونها فقالت: يا بنية! اتقي الله ربك ولا تعرضي للمكروه من زوجك فذاك أولى بك، فأما الأشتر فلك آخر الدهر.
ثم خرجت من عندي وقالت: سأرسل إليك أختك تؤنسك وتبيت الليلة عندك. فلبثت غير ما كثير ثم إذا جارية قد جاءتني وجعلت تبكي وتدعو على من ضربني، وجعلت لا أكلمها. ثم اضطجعت إلى جنبي فلما استمكنت منها شددت يدي على فمها وقلت: يا هذه تلك أختك مع الأشتر، وقد قطع ظهري الليلة بسببها، وأنت أولى بالستر عليها، فاختاري لنفسك ولها، فو الله لئن تكلمت بكلمة لأصيحن بجهدي حتى تكون الفضيحة شاملةً؛ ثم رفعت يدي عن فمها فاهتزت مثل القصبة من الزرع، وبات معي منها أصلح رفيق رافقته قط. فلم تزل تتحدث وتضحك مني ومما بليت به حتى برق لي النور، ثم إذا جيداء تدخل علي من آخر البيت فلما رأتنا ارتاعت منا، وقالت: ويلك من هذا عندك؟ قلت: أختك. قالت: وما السبب؟ قلت: هي تخبرك، فلعمر الله إنها لعالمة.
وأخذت ثيابي ومضيت إلى صاحبي، فركبت أنا وهو خائفين، وخبرته ما أصابني وكشفت له عن ظهري، فإذا فيه كل ضربة تخرج الدم وحدها. فلما رأى ذلك قال: لقد عظمت صنيعتك وأوجبت علينا شكرك، وخاطرت بنفسك فلا حرمنا الله مكافأتك.
حدث محمد بن الفضل الجرجرائي في وزارته للمعتصم قال: كنت أتولى ضياع عجيف بكسكر فرفع علي أنني خنته وأخربت الناحية. فأنفذ إلي من قيدني، فأدخلت عليه في داره بسر من رأى على تلك الحال، فإذا هو تطوف على ضياع فيها، فلما نظر إلي شتمني وقال: أخربت الضياع ونهبت الارتفاع؛ والله لأقتلنك! هاتم السياط، فأحضرت ونحيت للضرب؛ فلما رأيت ذلك ذهب علي أمري وبلت في ثيابي. ونظر كاتبه إلي فقال لعجيف: أعز الله الأمير! أنت مشغول القلب بهذا البناء، وضرب هذا الليلة في أيدينا ليس يفوت، فتأمر بحبسه وتنظر في أمره، فإن كانت الرفيعة صحيحةً فليس يفوتك عقابه، وإن كانت باطلةً لم نتعجل الإثم والاشتغال عما أنت بسبيله. فأمر بي إلى الحبس فمكثت فيه أياماً. وغزا أمير المؤمنين عمورية وقتل عجيفاً في نوبة العباس بن المأمون، واتصل الخبر بكاتبه فأطلقني، وخرجت فلم أهتد إلى حبة فضة فما فوقها. فقصدت صاحب الديوان بسر من رأى لصداقة كانت بيني وبينه، فلما رآني سر بإطلاقي، وتوجع من سوء حالي، وعرض علي ماله، فقلت: تتفضل بتصريفي في شيء أستر بجاريه. فقلدني عملاً بنواحي ديار ربيعة، وافترضت من التجار لما سمعوا بخبر ولايتي ما تحملت به إلى العمل، وخرجت. وكان في ضياع العمل ضيعة تعرف بعراثا، فنزلتها في بعض طرفي العمل ونزلت داراً منها. فلما كان السحر وجدت المستحم ضيقاً غير نظيف، فخرجت إلى ظاهر الدار، وإذا بتل، فجلست أبول عليه. وخرج صاحب الدار فقال: أتدري على أي شيء بلت؟ قلت: على تل تراب. فضحك وقال: هذا رجل يعرف بعجيف من قواد السلطان، كان سخط عليه وحمله مقيداً، فلما صار إلى ههنا قتل وطرح في هذا المكان تحت حائط، فلما انصرف العسكر طرحنا الحائط عليه لنواريه من الكلاب، فهو تحت على هذا التل التراب. قال: فعجبت من بولي خوفاً منه ومن بولي على قبره عليه.
وأورد التنوخي في كتاب الفرج بعد الشدة ما هو بالأحداث الغريبة والاتفاقات العجيبة أليق، وبهذا المكان أشبه. قال: غزا مسلمة بن عبد الملك بلاد الروم، فسبى سبياً كثيراً، وأقام في بعض المنازل، فعرض السبي على السيف، فقتل خلقاً، حتى عرض عليه شيخ ضعيف، فأمر بقتله؛ فقال له: ما حاجتك إلى قتل شيخ ضعيف مثلي؟ إن تركتني جئتك بأسيرين من المسلمين شابين. قال: ومن لي بذلك؟ قال: إني إذا وعدت وفيت. قال: لست أثق بك. قال: فتدعني أطوف في عسكرك لعلي أعرف من يكفل بي إلى أن أمضي فأجيء بالأسيرين. فوكل به من أمره بالطواف معه في عسكره والاحتفاظ به.
فما زال الشيخ يطوف ويتصفح الوجوه حتى مر برجل من بني كلاب قائماً يحس فرساً له، فقال له: يا فتى اضمني للأمير، وقص عليه القصة؛ قال: أفعل. وجاء به معه إلى مسلمة وضمنه فأطلقه. فلما مضى قال: أتعرفه؟ قال: لا والله! قال: فلم ضمنته، قال: رأيته يتصفح الوجوه فاختارني من بينهم، فكرهت أن أخلف ظنه. فلما كان من الغد عاد الشيخ ومعه أسيران من المسلمين شابان، فدفعهما إلى مسلمة، وقال: يأذن الأمير أن يصير معي إلى حصني لأكافئه على فعله بي، فقال مسلمة للفتى الكلابي: إن شئت فامض معه.
فلما صار إلى حصنه قال له: يا فتى تعلم والله أنك ابني. قال: وكيف أكون ابنك وأنا رجل من العرب مسلم وأنت رجل من الروم نصراني؟ قال: أخبرني عن أمك ما هي؟ قال: رومية؛ قال: فإني أصفها لك، فبالله إن صدقت إلا صدقتني؛ قال: أفعل. فأقبل الرومي يصف أم الفتى، فما خرم شيئاً منها؛ قال: هي كذلك فكيف عرفت أني ابنها؟ قال: بالشبه وتعارف الأرواح، وصدق الفراسة، ووجود شبهي فيك؛ ثم أخرج إليه امرأةً فلما رآها الفتى لم يشك أنها أمه لشدة شبهها به، وخرجت معها عجوز كأنها هي؛ فأقبلتا تقبلان رأس الفتى؛ وقال الشيخ: هذه جدتك وهذه خالتك. ثم اطلع من حصنه، ودعا بشباب في الصحراء، وكلمهم بالرومية، فجعلوا يقبلون رأسه ويده؛ قال الشيخ: هؤلاء أخوالك وبنو خالاتك وبنو عم والدتك؛ ثم أخرج حلياً كثيراً وثياباً فاخرة، فقال: هذا لوالدتك عندنا منذ سبيت، فخذه فادفعه إليها، فإنها ستعرفه؛ ثم أعطاه لنفسه مالاً كثيراً وثياباً جليلة، وحمله على عدة دواب وبغال، وألحقه بعسكر مسلمة وانصرف.
وأقبل الفتى قافلاً حتى دخل منزله وأقبل يخرج الشيء بعد الشيء مما عرفه الرومي أنه لأمه، فتراه فتبكي فيقول لها: قد وهبته لك؛ فلما أكثر عليها قالت: يا بني، أسألك بالله من أي بلد صار إليك هذا الحلي وهذه الثياب؟ وهل قتلتم أهل الحصن الذي كان فيه هذا؟ قال الفتى: صفته كذا وكذا، وصفة البلد كذا، ورأيت فيه قوماً حالهم كذا، ووصف الأم والأخت وجميع الأهل، وهي تبكي وتقلق، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: الشيخ والله أبي، والعجوز أمي، والشابة أختي. فقص عليها الفتى الخبر وأخرج بقية ما كان معه فدفعه إليها.
ذكر أن عاملاً للمنصور على فلسطين كتب إليه أن بعض أهلها وثب عليه، واستغوى جماعةً منهم وعاث في العمل. فكتب إليه أبو جعفر: دمك مرتهن به إن لم توجهه إلي. فصمد له العامل فأخذه ووجه به إليه. فلما مثل بين يدي أبي جعفر قال له: أنت المتوثب على عامل أمير المؤمنين؟ لأنثرن من لحمك أكثر مما يبقى على عظمك. قال: وكان شيخاً كبيراً ضئيل الصوت فقال: من الكامل المرفل:
أَتروضُ عِرسَكَ بعدما هَرِمَتْ ... ومن العَناءِ رياضةُ الهرِمِ
فلم يفهم أبو جعفر ما قال فقال: يا ربيع ما يقول؟ قال: يقول: من البسيط:
العبدُ عبدُكُمُ والمجدُ مجدُكُمُ ... فهل عذابُك عنّي اليومَ مصروفُ
قال: يا ربيع، خل عنه فقد عفوت عنه، وأحسن إليه واحتفظ به.
أحضر هشام بن عبد الملك إبراهيم بن أبي عبلة الذي كان يتولى ديوان الخاتم لمروان بن محمد فقال له: إنا قد عرفناك صغيراً وخبرناك كبيراً، وإني أريد أن أخلطك بحاشيتي، وقد وليتك الخراج بمصر، فاخرج. فأبى إبراهيم عليه وقال: ليس الخراج من عملي ولا لي به بصر. فغضب هشام عليه غضباً شديداً حتى خاف إبراهيم بادرته، فقال: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في الكلام؟ فقال: قل؛ فقال: يقول الله عز وجل: إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان. حملها ولا سخط عليها، ولقد ذم الإنسان حين قبلها، فقال هشام: أبيت إلا رفقاً وأعفاه.
قال أبو عبيدة: كان فتىً من الخوارج من بني يشكر مجتهداً، فتزوج بابنة عم له، فلما كان ليلة أراد البناء بها أتاه قوم من أصحابه على خيولهم، فوقفوا ببابه فلما علم بهم خرج إليهم، فقال: من أنتم؟ قالوا: قوم من إخوانك، وخرجنا من الدنيا وتركناها لأهلها لنفنى على ما فني عليه السلف الماضون، قال: فانزلوا وأقيموا ليلتكم هذه حتى أخرج معكم غداً؛ قالوا: ما كنا لنعود إلى الدنيا بعدما خرجنا منها وتركناها لأهلها، قال: فانتظروني. فألقى ثياب عرسه ولبس ثياب سفره، وركب فرسه وهو يقول: من الرجز:
يا ربِّ إنيّ مُؤْثرٌ ذويكا ... إذ فارقوا الدنيا ويَمَّمُوكا
ثم خرج إلى أصحابه فقال: من الرجز:
سيروا على اسم الله في سبيلهِ ... على يقينِ الوعدِ من رسولهِ
إني به مصدِّقٌ وقيلِهِ ... لعلّنا نفوزُ من تمثيلهِ
أو نُدركُ التفضيلَ من تفضيلهِ
قالوا: بل أقم في منزلك وتمتع من أهلك بقية ليلتك، ولا تشمت بهم عدوهم، ونحن مقيمون عليك حتى تصبح، فقال: ما كنت لأرجع إلى الدنيا بعد إذ خرجت منها، ثم أنشأ يقول: من الرجز:
ما وعد الله من الحور العِينْ ... ومن ثوابِ المسلمين الشارينْ
خيرٌ من الأهل الأولى يموتونْ ... ويسخطونَ مرة ويرضَوْنْ
ثم مضى معهم فلحقتهم خيل لمحمد بن مروان، فقتلوا الطائفة وأسروا الفتى في عدة من أصحابه؛ فبعث بهم محمد إلى الحجاج. فلما رأى الفتى استصغره فدعا به فقال: ويحك ما أخرجك؟ فو الله ما أظنك تعرف مواقيت الصلاة. قال: ذاك لو كنت اتكلت على تعليمك يا حجاج، كنت بالحري أن أنزل هذه المنزلة.
قال: فما أخرجك؟ قال: مخافة يوم أنا وأنت فيه نصير؛ قال: وما ذاك اليوم؟ قال: أول آخر وآخر أول، مستقبل أول لا آخر له، ومستدبر آخر لا يعود بعد نفاذه، لا بعده أجل، ولا فيه عمل، ولا عنده مستعتب، ولا إلى غيره مذهب، يأمن فيه الخائف، ويخاف فيه الآمن، ويعز في الذليل، ويذل فيه العزيز، وفي مثل هذا ما أقلق ذكري على فراشه هذا، والأئمة تعدل، فكيف إذا كانت تضل وتضلل، فاقض ما أنت قاض؛ قال: أجزعت من الموت؟ قال: لا والله ما جزعت من قضاء، ولا أسفت على بلاء، ولا كرهت لربي لقاء، وللموت ما خلقت، وما لي حاجة إلا فيه، فهل يجزع الرجل من قضاء حاجته؟ قال: أما والله لأعجلن لك من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر؛ قال: أما والله لو علمت أن بيدك تعجيله لعلمت أن بيدك تأخيره، لأن من يقدر على تعجيله يقدر على تأخيره؛ قال: والله لأقتلنك؛ قال: إذن لا يعز الله بقتلي باطلاً، ولا يبطل به حقاً، فلئن قتلتني لأخاصمنك بحيث يزول عنك وعن ابن الزرقاء عزكما، ولا يدفع عنكما سلطانكما، وحيث لا تقبل لكما عذرة، ولا تنفعكما حجة؛ فأمر بقتله.
قال علي بن حرملة: رأيت أبا حنيفة حين ورد عليه خبر إبراهيم الصائغ وتعرضه لأبي مسلم حتى قتله، فقال: والله لقد كنت أتخوف عليه هذا الأمر حتى وقع فيه. قالوا: كيف يا أبا حنيفة؟ قال: صار إلي وسألني خلوةً فوعدته، ولم أقدر لاجتماع الحاج علي؛ فكان يتقاضاني ويذكر الموعد؛ فقلت له: ترى شغلي بالحاج، فقال: إن الله يسألك عن أمري. قال: فخلا معي ساعة فقال: ما تقول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أفرض هو أم نفل؟ قلت: فرض. فعد علي من هذه الفرائض ما عد ثم قال: مثل هذا؟ قلت: نعم، قال: ابسط يدك أبايعك عليه. قال: فأظلمت علي الأرض، وخفت إن أعطيته شيئاً لا أقدر أن أقوم به. قال: ثم ذكرت فقلت: يا أبا إسحاق إن هذا فرض ليس كسائر الفرائض التي يؤديها الرجل وحده، فتحر عنه، وهذا متى عرض له رجل أشاط بيده بدمه وعرض نفسه للقتل فلو كان قتل وخلص الحق إلى من يقوم به أجر في تلف نفسه، ولكن يقتل ولا يستوفى للناس أمرهم وتذهب نفسه؛ ولكن انتظر فإن من الله علينا بمن يقوم لله بذلنا له أنفسنا ومهجنا وما نالته أيدينا من القوة. فانصرف من عندي، وكان يتقاضاني تقاضي الغريم الملح حتى خرج إلى مرو، فتعرض لأبي مسلم فأمره ونهاه، فأخذه وحبسه، فاجتمع عليه أهل مرو وقالوا: مثله تحبس ونحن نعرض ونؤمل من الله به كل خير؟ فأخرجه. ثم تعرض له ثانيةً وثالثةً فقتله. فبلغني عنه أنه قال: أخاف أن أكون قد أعنت على نفسي فينقص ثوابي من الله إذ لم أقبل ممن هو أعلم بالله مني.
قال أبو حنيفة: وحدثني من أثق به من آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم عن أبيه عن علي عليه السلام أنه قال: سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ورجل يقوم في آخر الزمان عند انقضاء ملك بني أمية إلى رجل جائر يقول له: أنا داعية الحق، فيأمره فيقتله، فكان هو الذي قام على أبي مسلم فأمره ونهاه، فأخاف أن أكون قد ضيعت حق الله فيه.
وقيل: إن ابن هبيرة حين اضطرب الحبل وظهرت الفتنة بالعراق جمع فقهاء أهل العراق وقضاته، منهم ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود بن أبي هند، وعدداً منهم، فولى كل واحد منهم صدراً من عمله. وأرسل إلى أبي حنيفة فأراد أن يكون الخاتم في يده، فامتنع أبو حنيفة عليه؛ وحلف ابن هبيرة إن لم يفعل ما أراد ضربه كل جمعة سياطاً حتى يقتله. قال: فأخرج والفقهاء جلوس، فمالوا به إلى إخوانه فوقف عليهم فقالوا له: ننشدك الله أن تتلف نفسك، وتغم إخوانك، وتعرض لهذا الجبار، وإنا قد كرهنا هذا الأمر كما كرهت، ولكن نشتري الدين بعضه ببعض. فقال أبو حنيفة: لا والله لا آثرت على الله شيئاً، ولا أدخل في عمل، لو سألني أن أعد له أساطين المسجد والله ما فعلت، فكيف ولو ترى أن نكتب في دم رجل لعله غير مستحق فأختم أنا على كتابه ونأخذ المال من غير حقه فينفقه على معاصي الله وأعينه على حفظه. فقال ابن أبي ليلى: دعوا صاحبكم وما يحمل على نفسه، فهو والله المصيب ونحن المخطئون؛ يا أخي لو وطنا لأنفسنا على ما وطنت نفسك عليه كان خيراً لنا.
فحبسه صاحب الشرطة عنده جمعتين ولم يضربه، ثم أخرجه واعتذر إليه وقال: إن هذا الأمير لا يختار عليه، فإما أن تدخل فيما أمرك به أو أمضي فيك أمره؛ قال: من تقلد شيئاً كان عليه؛ فضربه. فقال ابن هبيرة: ألا ناصح لهذا المحبوس يستأجله فنؤجله لينظر في أمره؟ فجيء إلى أبي حنيفة فأخبر، فلما كانت الجمعة الثانية أخرج، فقال: إن أثر السياط طري في جنبي، ولي إخوان فدعوني أستشيرهم وأنظر فيما يدعونني إليه. فاغتنم ابن هبيرة قوله وأمر بتخلية سبيله. فركب دوابه وهرب إلى مكة، فلم يزل مقيماً بها حتى ظهرت الهاشمية وملكوا.
فقدم أبو حنيفة الكوفة فأرسل إليه أبو جعفر فضمه إليه ببغداد، وأمر له بجارية وبعشرة آلاف درهم. وكان عبد الملك بن حميد على وزارة أبي جعفر، وكان حسن الرأي فيه، فقال: لا حاجة لي في الجائزة ولا في الجارية. فقال: أنشدك الله، فإنه أمير المؤمنين، وهو سريع الغضب، ولا آمن عليك غضبه، وأخاف أن تصدق عليك ما يظن بك. فأبى أن يقبض من ذلك شيئاً. قال: فأنا أرد الدراهم إلى بيت المال وأعتذر لك؛ فالجارية أي عذر لك فيها؟ قال: تقول إني شيخ كبرت وضعفت عن الجماع، فأكره أن أقبل جارية تحتاج إلى من يمسها فلا أصل إليها وأبيع ملك الخليفة.
ودعاه أبو جعفر فقال: إن شيعة أمير المؤمنين يحضرون فتسمع كلامهم. فحضروا فتكلموا وأكثروا، فقال لواحد: صن لسانك عن الكذب، وقال لآخر: هذا كلام من قد كفر النعمة؛ فقام أبو العباس الطوسي فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وقال قولاً مختصراً جميلاً، فقال أبو حنيفة: أصبت. فقال أبو جعفر: انصرفوا على قول أبي العباس سيدكم.
وظهر إبراهيم بالبصرة وأخوه بالمدينة. ودخل الحسن بن قحطبة على أبي حنيفة فقال: أنا ممن عمل عملاً لا يجل، فهل من توبة؟ قال: نعم.
قال: ما هي؟ قال: أن يعلم الله منك نية صادقة أنك نادم على ما فعلت، وأخرى إن خيرت بين أن تقتل مسلماً أو تعمل اخترت قتلك على عمله، وتجعل لله على نفسك عهداً ألا تعود في شيء مما كنت فيه؛ فإن وفيت قبلت توبتك إن شاء الله. قال: قد فعلت وعاهدت الله أني لا أعود. قال: فدعاه أبو جعفر وأمره بالسير إليهما، فجاء إلى أبي حنيفة فقال: إني أمرت بكذا وكذا، قال: أما إنك إن وفيت غفر لك ما مضى وإن عدت أخذت بما مضى وبما يستأنف. فدخل إلى أبي جعفر وتهيأ للقتل، واستعفاه، واعتل عليه، فلم يقبل منه. فقال: لست أقتل هذين الرجلين، وحسبي ما مضى. قال: فغضب أبو جعفر، فوثب أخوه حميد بن قحطبة عليه وقال: يا أمير المؤمنين، إنا قد أنكرناه منذ سنة، وقلنا قد اختلط، وأنا أسير. فسار حميد وقال أبو جعفر: تعاهدوا الحسن وانظروا إلى من يدخل، ومن يجالس، ومن الذي يفسد هذا الرجل علينا. فأخبروه أنه يدخل على أبي حنيفة ويجالسه، فدعا بسم وسقى أبا حنيفة وسقى الحسن، فمات أبو حنيفة رحمه الله، وعولج الحسن فبرأ.
وقد روي أن أبا حنيفة لما خاف التلف وألح عليه ابن هبيرة بالضرب، وآلى أن لا يرفعه عنه حتى يلي له عملاً، تولى له عد أحمال التبن التي تخرج من ناحية السواد وتدخل الكوفة.
وروي أن ابن هبيرة أراده على القضاء وحلف إن هو لم يقبل ليضربنه بالسياط على رأسه، فقيل لأبي حنيفة فقال: ضربه لي بالسياط في الدنيا أسهل علي من مقامع الحديد في الآخرة؛ والله لا فعلت ولو قتلني. فحكي قوله لابن هبيرة فقال: بلغ من قدره ما يعارض يميني بيمينه؟ فدعا به فقال له سفاهاً، وحلف له إن لم يل ليضربنه على رأسه حتى يموت. فقال له أبو حنيفة: هي ميتة واحدة. قال: فأمر به فضرب عشرين سوطاً على رأسه. فقال أبو حنيفة: اذكر مقامك بين يدي الله فإنه أذل من مقامي بين يديك، ولا تهددني فإني أقول: لا إله إلا الله، والله سائلك عني حيث لا يقبل منك جواب. فأومأ إلى الجلاد أن أمسك. وبات أبو حنيفة في السجن، فأصبح وقد انتفخ وجهه ورأسه من الضرب. قال: فقال ابن هبيرة: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول: أما تخاف الله تضرب رجلاً من أمتي بلا جرم وتهدده؟ فأرسل إليه فاستخرجه واستحله.
وقال الربيع بن يونس: جمع المنصور مالك بن أنس وابن أبي ذئب وأبا حنيفة فقال: كيف ترون هذا الأمر الذي أعطاني الله من أمر هذه الأمة؟ هل أنا لذلك أهل؟ قال: فسكت القوم؛ فقال لابن أبي ذئب: ما تقول في هذا الأمر الذي قلدني الله عز وجل من أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن ملك الدنيا يؤتيه الله من يشاء وملك الآخرة يؤتيه الله من طلبه في الله ووفقه، وإن التوفيق منك إذا أطعته قريب وإذا عصيته بعيد، وإن الخلافة تكون بإجماع أهل التقوى عليها والعون لمن وليها، وأنت وأعوانك خارجون من التوفيق، عالون على الخلق، فإن سألت الله السلامة، وتقربت إليه بالأعمال الزاكية، كان في ذلك نجاتك وإلا فأنت المطلوب. قال: فكنت أنا ومالك بن أنس نجمع ثيابنا أن يترشش علينا من دمه. قال: فقال لأبي حنيفة: ما تقول؟ قال: المسترشد لدينه يكون بعيد الغضب، إن أنت نصحت نفسك علمت أنك لم ترد الله باجتماعنا، وإنما أردت أن تعلم العامة أنا نقول فيك ما تهواه مخافة سيفك وحبسك، ولقد وليت الخلافة وما اجتمع عليك نفسان من أهل التقوى، والخلافة تكون عن إجماع المؤمنين ومشورة، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أمسك عن الحكم ستة أشهر حتى أتته بيعة أهل اليمن. قال: وقال لمالك: ما تقول؟ قال: لو لم يرك الله أهلاً لذلك ما قدر لك ملك هذه الأمة وأزال عنهم من بعد من بينهم، وقرب هذا الأمر إلى أهل بيت نبيه، والله لقد دحر الله الباطل، وأنجى أهل بيت نبيه، أعانك الله على ما ولاك، وألهمك الشكر على ما خولك، وأعانك على ما استرعاك. قال: فأمرهم فانصرفوا. وقال لي المنصور: خذ معك ثلاث بدر واتبع القوم، فإن أخذها مالك كلها فادفعها إليه، وإن أخذ ابن أبي ذئب وأبو حنيفة منها شيئاً فجئني برؤوسهما. قال: فأتيت ابن أبي ذئب فقال: ما أرضى هذا المال له، فكيف آخذه لنفسي؟ وقال أبو حنيفة: ما أنفع له إن كان يعطي من يرحم أن يرحم نفسه ممن يعلم، والله لو ضربت عنقي على أن أمس منها شيئاً ما مسسته؛ فأتيت مالكاً فأخذها كلها. فأتيت المنصور فأعلمته وبهذه الصيانة حقنوا دماءهم.
وقال ابن المبارك: مات ابن أبي ليلى فقال الناس: لقد وهت الكوفة من حاكم عادل، من ترى يتولى عليها بعده؟ فحمل إلى أمير المؤمنين أبو حنيفة وسفيان ومسعر وشريك، وكانوا جلوساً في صلاة الصبح، حتى بعث إلى كل رجل منهم برجل، فحملهم الأمير إلى أمير المؤمنين ووصلوا في سفينة؛ فلما كان في بعض النهار قرب التهيؤ للصلاة. قال: فخرجوا، فقال الغائط والبول. فتنحي عنه فهرب، وهرب الذي كان معه. وجاء سفيان إلى سفينة فيها قت، فوهب للملاح دراهم حتى غيبه. فلما دخلوا بغداد دفع مسعر إلى الملاح ثيابه وأخذ مدرعة صوف مقلوبة قال: يا شيخ، أتريد أن نوليك القضاء؟ قال: مسناة الكوفة قد خربت؛ قال: يا شيخ، ما أنت وذكر المسناة؟ قال: إن بني أمية خربوا السور فتحتاج أن تعمره. قال: أخرجوه فإن هذا مختلط. ثم قال لأبي حنيفة: تريد أن نوليك القضاء؟ قال: أنا رجل من الموالي وأهل الكوفة من أشراف بني هاشم وقريش والأنصار والعرب، وإن وليت مثلي فتنت البلد ولم آمنهم أن يرموني بالآجر. فقال لشريك: فقال: أنا شيخ لا أبصر نقش خاتمي، فقال: استعن على أمورك بالشباب؛ قال: ودماغي قد تغير. قال: خذ الدهن وكل الطعام الذي يرد قوتك، وتصنع في كل يوم رطلاً من فالوذج فهو يزيد في قوتك وقوة دماغك إذا كان بالعسل؛ قال: يا أمير المؤمنين إني كنت في حداثتي أميل إلى النساء، فأخاف إن اختصمن إلي أن أميل إليهن وتتجدد شهوة الحداثة؛ قال: يتسع عليك حتى ترغب فيك الحرائر وتشتري الإماء. ودعا بطعام فأطعمه وألبسه السواد، وسلم من سلم.
بيان قولهم إن أبا حنيفة استيب من الكفر مرتين.
قال: إليك عني: إنه لما قدم الضحاك الشاري الكوفة قال لهم: جيئوني بالفقهاء. فتفرق الناس ووجوا أبا حنيفة فأتوه. فقال: يا شيخ تب إلى الله من الكفر، فقال: أنا تائب إلى الله من الكفر. فلما خرج قال له رجل من أصحابه كان قد جالس أبا حنيفة: إن مذهبك عنده الكفر ومنه تاب، قال: ردوه فقال: يا شيخ، تبت من مذهبي ومذهبي عندك الكفر. قال: فقال أبو حنيفة: أوظننت بي ذلك؟ قال: نعم؛ قال: أظنك ظن سوء فهو ذنب؟ قال: نعم، قال: والذنب عندك كفر؟ قال: نعم، قال: فتب منه، قال: أنا تائب إلى الله، وأنت يا شيخ فتب إلى الله فقال: أنا تائب إلى الله. فلما خرج القوم قال قوم من أهل الكوفة: استتيب أبو حنيفة مرتين.
قال أبو العيناء: ما رأيت أفصح لساناً ولا أجمع رأياً ولا أحضر حجةً من ابن أبي دواد. قال له الواثق: رفعت فيك رقعة فيها كذب كثير، فقال: ليس بعجيب أن أحسد بمنزلتي من أمير المؤمنين ويكذب علي. قال: زعموا أنك وليت القضاء رجلاً أعمى، قال: بلغني أنه إنما عمي من بكائه على أمير المؤمنين المعتصم، فحفظت له ذلك وأمرته أن يستخلف؛ قال: وفيها أنك أعطيت شاعراً ألف دينار، قال: كان ذاك، وقد أثاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كعباً، وقال في آخر: اقطعوا عني لسانه؛ وهذا شاعر طائي مصيب محسن، لو لم أرع له إلا قوله فيك للمعتصم: من الكامل:
فاشْدُدْ بهارونَ الخلافةَ إنّه ... سَكَنٌ لوَحْشَتِها ودارُ قرارِ
ولقد علمتُ بأنَّ ذلك مِعْصَمٌ ... ما كنتَ تتركُهُ بغير سِوَار
فقال الواثق: قد وصلته بخمسمائة دينار.
صلى الحجاج إلى جنب ابن المسيب، فرآه يرفع قبل الإمام ويضع، فلما سلم أخذ بثوبه حتى فرغ من صلاته ودعائه، ثم رفع نعليه على الحجاج، وقال: يا سارق! يا خائن! تصلي هذه الصلاة؟ لقد هممت أن أضرب بهما وجهك! وكان الحجاج حاجاً، فرجع إلى الشام، وجاء والياً على المدينة، ودخل من فوره المسجد قاصداً مجلس سعيد، فقال له: أنت صاحب الكلمات؟ قال: نعم أنا صاحبها، قال: جزاك الله من معلم ومؤدب خيراً، ما صليت بعدك صلاةً إلا وأنا ذاكر قولك.
قال سعيد بن وهب على البطالة فدخلت قلبه رقة، فحج ماشياً، فجهد، فقال: من الرمل:
قدميَّ اعتوِرا رملَ الكثيبِ ... واطرُقا الآجِنَ من ماءِ القَليبِ
رُبَّ يوم رُحتُما فيه على ... نَضرةِ الدنيا وفي واد خصيبِ
فاحسِبَا ذاك بهذا واصبرا ... وخُذا من كلِّ فنٍ بنصيبِ
مطر مصر مثل في نافع يستنضر به، لأنها لا تمطر فإن مطرت كان المطر ضرراً عليها، وفي ذلك يقول شاعر: من الطويل:
وما خيرُ قومٍ تُجدِبُ الأرضُ عندَهم ... بما في خِصبُ العالمين من القَطْرِ
إذا بُشِّروا بالغَيْثِ رِيعَتْ قُلوبُهم ... كما رِيعَ في الظَلْماءِ سربُ القطا الكُدْرِ
جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق ونهر الأبلة وشعب بوان وصغد سمرقند. قال أبو بكر الخوارزمي: قد رأيتها كلها وكان فضل الغوطة على الثلاث كفضل الأربع على غيرهن، كأنها الجنة صورت على وجه الأرض.
البحتري: من البسيط:
يمشي السَّحابُ على أَرجائِها فِرَقاً ... ويُصبحُ النَّبْتُ في صحرائها بِدَدَا
فلستَ تُبصرُ إلا واكفاً خَضِلاً ... أو يانِعاً خَضِراً أو طائراً غَرِدَا
آخر في وصف النخل: من الرجز:
إما تراها وإلى استوائها ... وحسنِها في العين وامتلائِها
لا ترهَبُ الذئبَ على أطلائها ... وإن أحاط الليلُ من ورائها
غرس معاوية نخلاً بمكة في آخر خلافته، فقال: ما غرستها طمعاً في إدراكها ولكني ذكرت قول الأسدي: من البسيط:
ليس الفتى بفتىً لا يستضاء به ... ولا يكون له في الأرض آثارُ
ذكر أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري في كتابه . كانت بقرية كشمير من رستاق بست سروة من سرو الأزاذ من غرس يستاسف لم ير مثلها في حسنها وطولها وعظمها، وكانت ظلالها فرسخاً، وكانت من مفاخر خراسان. فجرى ذكرها عند المتوكل، فأحب أن يراها فلما لم يقدر له المسير كتب إلى طاهر بن عبد الله بن طاهر وأمره بقطعها وحمل قطع جذعها وأغصانها في اللبود على الجمال لتنصب بين يديه حتى يبصرها. فأنكر عليه ذلك، وخوف بالطيرة فلم تنفع السروة شفاعة الشافعين. وحكي أن أهل الناحية ضمنوا مالاً جزيلاً على إعفائها، فلم ينفع. فقطعت وعظمت المصيبة وارتفع الصياح والبكاء، ورثاها الشعراء، وقال علي بن الجهم: من الكامل:
قالوا سرى لسبيله المتوكلُ ... فالسروُ يسري والمنيةُ تنزلُ
ما سُربِلَتْ إلا لأنَّ إمامَنا ... بالسيفِ من أولادِهِ مُتَسرْبِلُ
فجرى الأمر على ذلك، وقتل المتوكل قبل وصول السروة إليه.
اجتمع ببغداد عشرة فتية على لهو، فرفعوا أحدهم في حاجة فرجع وفي يده بطيخة يشمها ويقبلها. فقال لهم: جئتكم بفائدة: وضع بشر الحافي يده على هذه البطيخة فاشتريتها بعشرين درهماً تبركاً بموضع يده. فأخذ كل واحد يقبلها ويضعها على عينه. قال أحدهم: ما الذي بلغ بشراً ما أرى؟ قالوا: تقوى الله والعمل الصالح. قال: فإني أشهدكم أني تائب إلى الله وأني داخل في طريقه بشر. فوافقوه على ذلك وخرجوا إلى طرسوس فاستشهدوا.
روي أن الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر: يا أبا الحسن خذ فدك حتى أردها إليك فيأبى، حتى ألح عليه، فقال: لا آخذها إلا بحدودها، قال: وما حدودها؟ قال: يا أمير المؤمنين إن حددتها لم تردها؛ قال: بحق جدك إلا فعلت؛ قال: أما الحد الأول فعدن، فتغير وجه الرشيد وقال: هيه! قال: والحد الثاني سمرقند، فاربد وجهه، قال: والحد الثالث أفريقية، فاسود وجهه وقال: هيه! قال: والرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية. قال الرشيد: فلم تبق لنا شيئاً! فتحول من مجلسي. قال موسى: قد أعلمتك أني إن حددتها لم تردها. فعند ذلك عزم على قتله، واستكفى أمره يحيى بن خالد. فأراه بثرةً خرجت في كفه، قال: هذه علامة أهل بيتنا قد ظهرت في، وأنا أقضي عن قرب، فقد كفيت أمري. فتركه يحيى ومات بعد أيام.
قال عمر بن عبد العزيز لأبيه: يا أبت ما لك إذا خطبت مررت فيها مستحفزاً لا تكفف ولا توقف، حتى إذا صرت إلى ذكر علي تلجلج لسانك وامتقع لونك، واختلج بدنك؟ قال: أوقد رأيت ذلك يا بني؟ أما إن هؤلاء الحمير حولنا لو يعلمون من علي ما نعلم ما تبعنا منهم رجلان.
العباس بن ريطة الرعلي: من الطويل:
وأهلكني أنْ لا يزالُ يكيدُني ... أخو حَنَقٍ في القومِ حَرَّانُ ثائرُ
وذلك ما جَرَّتْ علينا رماحُنا ... وكلُّ امرئٍ يوماً به الجَدَّ عاثِرُ
عق أبا المنازل فرعان بن الأعرف السعدي ابنه منازل فقال: من الطويل:
جَزَتْ رَحِمٌ بَيْني وبينَ مُنازِلٍ ... جزاءً كما يَستنزِلُ الدَّينَ طالِبُهْ
وما كُنْتُ أخْشَى أنْ يكونَ مُنازِلٌ ... عَدُوِّي وأدنى شانئٍ أنا راهبُه
حمَلْتُ على ظهري وقَرَّبتُ صاحبي ... صغيراً إلى أن أمكنَ الطَّرَّ شاربُه
وأطعَمْتُه حتى إذا آض شَيْظَماً ... يكادُ يُساوِي غارِبَ الفَحْلِ غَارِبُه
تَخَوَّنَ مالي ظالماً ولَوَى يَدي ... لَوَى يَدَهُ الله الذي هوَ غَالِبُه
عق منازلاً ابنه خليج فقال: من الطويل:
تَظلَّمَني مالي خَليجٌ وعقَّني ... على حِينَ صارَتْ كالحَنيِّ عظامي
وكيف أُرجِّي العطفَ منه وأُمُّهُ ... حَراميّةٌ ما غَرَّني بحرامِ
تَخَيَّرْتُها وازْدَدْتُها لِتَزيدَني ... وما بَعضُ ما يَزْدادُ غيرَ غرام
لَعمري لقد رَبَّيْتُهُ فَرِحاً به ... فلا يَفْرَحَنْ بَعدي امرؤٌ بِغُلام
قال عمر رضي الله عنه: تكثروا من العيال فإنكم لا تدرون ممن ترزقون.
وقال المأمون: أقرباء الرجل بمنزلة الشعرة من جسده، فمنه ما يخفى ويتقى ومنه ما يلزم ويخدم.
وقيل لحكيم: لم لا تطلب الولد؟ قال: لحبي له.
وقال الحجاج لابن القرية: أي الثمار أشهى؟ قال: الولد، وهو من نخل الجنة.
عن الكسائي أنه دخل على الرشيد فأمر بإحضار الأمين والمأمون.
قال: فلم ألبث أن أقبلا ككوكبي أفق يزينهما هديهما ووقارهما، وقد غضا أبصارهما، وقاربا خطوهما حتى وقفا على مجلسه. فسلما عليه بالخلافة، ودعوا له بأحسن الدعاء؛ فاستدناهما، فأجلس محمداً عن يمينه وعبد الله عن شماله؛ ثم أمرني أن ألقي عليهما أبواباً من النحو، فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب عنه؛ فسره سروراً استبنته فيه، وقال: كيف تراهما؟ فقلت: من الطويل:
أرى قمرَيْ أُفْقٍ وَفَرْعَيْ بَشامةٍ ... يَزينُهما عِرْقٌ كريمٌ ومَحْتِدُ
سَليلَيْ أميرِ المؤمنين وحائزَيْ ... مَوارِيثَ ما أبقى النبيُّ محمّدُ
يَسُدَّانِ أنفاقَ النِّفاقِ بشيمةٍ ... يُؤيِّدُها حَزْمٌ وعَضْبٌ مُهَنَّدُ
قلت: ما رأيت - أعز الله أمير المؤمنين - أحداً من أبناء الخلافة ومعدن الرسالة وأغصان هذه الشجرة الزاكية أذرب منهما ألسنا، ولا أحسن ألفاظاً، ولا أشد اقتداراً على تأدية ما حفظا ورويا منهما؛ أسأل الله أن يزيد بهما الإسلام عزاً وتأييداً، ويدخل بهما على أهل الشرك ذلاً وقمعاً. وأمن الرشيد على دعائي، ثم ضمهما إليه، وجمع عليهما يديه، فلم يبسطهما حتى رأيت الدموع تنحدر على صدره، ثم أمرهما بالخروج. ثم قال: كأني بهما وقد حم القضاء ونزلت مقادير السماء، وقد تشتت أمرهما، وافترقت كلمتهما حتى تسفك الدماء وتهتك الستور.
كانت بيحيى البرمكي علة في جوفه عجز عنها أطباء العراق، فأشخص منويل أسقف فارس، وقد تقدم قبل أن يدخل عليه إلى خواصه بأخذ مائهم في قوارير؛ فأتوا بها، فأمر بتبديلها، وفيهم مدني مضحك، وقد وهب له جارية فكان يدعي في كثرة الباه الدعاوى العريضة. فأعطاه الوزير مجسته فقال: تناولت المحرم. فجحد فحلف منويل حتى أقر، ونظر في القوارير فرد كل واحدة إلى صاحبها. فتعجب من لطف علمه.
وقال للمدني: أنت عنين! فلج، فقال هو كافر بالمسيح إن كان خرج من صلبك شيء قط إلا البول. فاعترف وطلب العلاج؛ فقال هذا ما لا حيلة فيه. ثم قال: إن كان - وما أظنه يكون - فعليك بالكباب على الآجر مع نبيذ الصرفان.
قال الرشيد حين كان بطوس لرجل: خذ هذه البدرة واعرض هذه القارورة على أسقف فارس وبخيشوع من غير أن يتشاعرا وازعم أنها قارورة أخ لك. فقال الأسقف: ما أشبه هذا الماء بماء الرشيد، فانتظر ولا ترحل فإن أخاك ميت غداة غد، وقال بختيشوع مثله.
وعرض رجل على أيوب الطبيب قارورته فقال: ما هي بقارورتك لأنه ماء ميت وأنت حي تكلمني فما فرغ من كلامه أن خر الرجل ميتاً.
صدع ملك فأمره الطبيب أن يضع قدميه في الماء الحار. فقال خصي عنده: وأين القدم من الرأس! فقال: أين رأسك من بيضتيك؟ نزعتا فذهبت لحيتك.
قال عبد الملك عند موته: يا وليد! لا أعرفنك إذا أنا مت تجلس وتعصر عينيك وتحن كما تحن الأمة الوكعاء، لكن ائتزر وشمر والبس جلد النمر وضعني في حفرتي وخلني وشأني وعليك وشأنك، وادع الناس إلى بيعتك، فمن قال بوجهه هكذا، فقل بسيفك هكذا. ثم بعث إلى محمد وخالد ابني يزيد بن معاوية فقال: هل بكما من ندامة على بيعة الوليد؟ قالا: ما نعرف أحق بالخلافة منه. قال: أولى لكما! والله لو قلتما غير ذلك لضربت الذي فيه أعينكما. ثم رفع ثني فراشه، فإذا سيف مجرد ونفسه تتردد في حنجرته وهو يقول: الحمد لله الذي لا يبالي أصغيراً أخذ من خلقه أم كبيراً حتى فاضت نفسه. ودخل عليه الوليد ومعه بناته يبكين فتمثل: من الطويل:
ومُسْتَخبرٍ عنا يريدُ بنا الرَّدَى ... ومُسْتَخبِراتٍ والدُّموعُ سَوَاجِمُ
وكان الطبيب قد حماه الماء فقال: اسقوني وإن كانت فيها نفسي، فسقوه فمات.
جعل لجعدة بنت الأشعث امرأة الحسن بن علي عليهما السلام مائة ألف درهم على أن تسمه، ومكث شهرين، وإنه ليرفع من تحته كذا كذا كستاً من دم. وكان يقول: سقيت السم مراراً ما أصابني فيها ما أصابني في هذه المرة، لقد لقطت كبدي فجعلت أقلبها بعود كان في يدي. ورثته جعدة بأبيات: من السريع:
يا جَعْدُ بَكِّيه وَلا تَسْأَمي ... بكاءَ حَقٍّ ليسَ بالبَاطِلِ
إِنّكَ لن تُرْخِي على مثلِهِ ... سِترَكِ من حافٍ ولاَ ناعِلِ
وخلف عليها رجل من قريش فأولدها غلاماً؛ وكان الصبيان يقولون له: يا بان مسممة الأزواج. ولما كتب مروان إلى معاوية بشكاته كتب إليه: أرقل المطي إلي بخبر الحسن. ولما بلغه موته سمع تكبير من الخضراء، فكبر أهل الشام لذلك التكبير. وقالت فأخته بنت قرظ لمعاوية: أقر الله عينك يا أمير المؤمنين! ما الذي كبرت له؟ قال: مات الحسن. قالت: أعلى موت ابن فاطمة تكبر؟! قال: والله ما كبرت شماتةً بمةته، ولكن استراح قلبي وصفت لي الخلافة.
وكان ابن عباس في الشام فدخل عليه فقال له: يا ابن عباس، هل تدري ما حدث في أهل بيتك؟ قال: لا أدري ما حدث إلا أني أراك مستبشراً ومن يطيف بك وقد بلغني تكبيرك وسجودك. قال: إنا لله! يرحم الله أبا محمد ثلاثاً. ثم قال: والله يا معاوية لا تسد حفرته حفرتك، ولا يزيد عمره في يومك، ولكن إن كنا أصبنا بالحسن لقد أصبنا بإمام المتقين وخاتم النبيين، فسكن الله تلك العبرة وجبر تلك المصيبة، وكان الله الخلف علينا من بعده.
وقال لأخيه الحسين: إذا أنا مت فادفني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن وجدت إلى ذلك سبيلاً، وإن منعوك فادفني ببقيع الغرقد. فلبس الحسين ومواليه السلاح وخرجوا ليدفنوه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج مروان في موالي بني أمية فمنعوهم.
قال أبو العرجاء جمال موسى بن عيسى: لما نزلنا بستان بني عامر بعثني محمد بن سليمان إلى الحسين بن علي صاحب فخ لأتجسس عليه، فمضيت فما رأيت إلا مصلياً أو مبتهلاً أو ناظراً في مصحف أو معداً للسلاح، فرجعت وقلت: ما أظن القوم إلا منصورين، وأخبرته بخبرهم فصفق بيديه وبكى حتى ظننت أنه سينصرف. ثم قال: هم والله أكرم خلق الله وأحق بما في أيدينا منا، ولكن الملك عقيم، ولو أن صاحب القبر - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - نازعنا الملك ضربنا خيشومه بالسيف؛ ثم سار إليهم وفعل ما فعل. ولما احتضر محمد بن سليمان كانوا يلقنونه وهو يقول: من الطويل:
أَلا ليتَ أُمِّي لم تَلِدْنِي ولم أكُنْ ... شَهِدْتُ حسيناً يومَ فَخٍّ ولا الحَسَنْ
أتى امروء القيس قتادة بن التوأم اليشكري وإخوته، فقال للحارث: أجز: من الوافر:
أَحارِ ترى بُرَيْقاً هبَّ وَهْناً
فقال الحارث:
كنارِ مجوسَ تستعرُ استعارا
فقال قتادة: من الوافر:
أَرِقْتُ له ونامَ أَبو شُرَيحٍ ... إذا ما قُلْتُ قد هدأَ استطارا
أبو شريح: كنية الحارث.
فقال الحارث: من الوافر:
كأنَّ هزيزَةُ بوَرَاءِ غَيْبٍ ... عِشارٌ وَلَّهٌ لاقَتْ عِشارا
فقال أخوهما الثالث: من الوافر:
فلمّا أَن علا شَرَفَيْ أُضاخٍ ... وَهَتْ أَعْجازُ رَيِّقِهِ فحارا
فلم يترك بِبَطْنِ السِّرِّ ظَبْياً ... ولم يتركْ بقاعتِهِ حمارا
فقال امرؤ القيس: إني لأعجب من بيتكم هذا لا يحترق عليكم من جودة شعركم؛ فقيل لهم: بنو النار.
قال عبد الله بن المعتز: شعر آل أبي حفصة كماء أسخن وصب في قدح. فكان أيام مروان الأكبر على حرارته، ثم انتهى إلى عبد الله بن أبي السمط، ففتر، ثم إلى إدريس وأبي الجنوب، فبرد، ثم إلى مروان الأصغر، فاشتد برده، فنحن لبرده، ثم إلى متوج فجمد.
حدث عبيد الله بن سليمان قال: كنت بحضرة والدي في ديوان الخراج بسر من رأى وهو يتولاه، إذ دخل عليه أحمد بن أبي خالد الصريفيني الكاتب، فقام والدي إليه قائماً من مجلسه وأقعده في صدره، وتشاغل به. ولم ينظر في شيء من أمره حتى نهض، ثم قام معه وأمر غلمانه بالخروج بين يديه، فاستعظمت أنا وكل من حضر هذا، لأن رسم أصحاب الديوان صغارهم وكبارهم أن لا يقوموا لأحد من خلق الله عز وجل ممن يدخل إليهم، فتبين أبي في وجهي إنكار ذلك، فقال: يا بني، إن خلونا فسلني عن السبب فيما عملته مع هذا الرجل.
قال: وكان أبي يأكل في الديوان وينام ويعمل عشياً. فلما جلسنا نأكل لم أذكره إلى أن رأيت الطعام قد كاد ينقضي، فقال هو: يا بني، شغلك الطعام عما قلت لك أن تذكرني به؟! فقلت: لا، ولكني أردت أن يكون ذلك على خلوة. ثم قال: أليس قد أنكرت أنت والحاضرون قيامي لأحمد بن أبي خالد في دخوله وخروجه وما عاملته به؟ فقلت: بلى. فقال: قد كان هذا يتقلد مصر، فصرفته عنها وقد كانت مدته فيها طالت، فوطئت آثار رجل لم أر أجمل آثاراً منه، ولا أعف عن الأموال السلطانية والرعية، ولا رأيت رعيةً لعامل أشكر من رعيته له.
وكان عرق الموت الخادم، صاحب البريد بمصر، أصدق الناس له مع هذا، وكان من أبغض الناس إلي وأشدهم اضطراب أخلاق، فلم أتعلق عليه بحجة، ووجدته قد أخر رفع الحساب لسنة متقدمة وسنته التي هو فيها، ولم يستتمها بصرفي له عنها، ولم ينفذه إلى الديوان، فسمته أن يحط من الدخل ويزيد في النفقات والأرزاق، ويكسر من البقايا في كل سنة مائة ألف دينار، فامتنع من ذلك؛ وأغلظت له وتوعدته، ونزلت معه إلى مائة ألف واحدة للسنين كلها، وحلفت له بأيمان مغلظة أنني لا أقنع منه بأقل منها؛ فأقام على امتناعه وقال: أنا لا أخون لنفسي، فكيف أخون لغيري، وأزيل ما قام به جاهي من العفاف؟ فحبسته وقيدته فلم يجب، ولم يزل مقيداً في الحبس شهوراً؛ وكتب عرق الموت صاحب البريد بمصر يعرف المتوكل ويحلف أن أموال مصر ليس تفي بنفقتي ومؤونتي، ويصف أحمد بن أبي خالد، ويذكر ميل الرعية إليه، ويصف عفته؛ فبينا أنا ذات يوم على المائدة آكل إذ وردت رقعة أحمد بن أبي خالد يسألني استدعاءه لمهم يلقيه إلي، فلم أشك أنه غرض من الحبس والقيد، وقد عزم على الاستجابة لدعائي ومرادي. فلما غسلت يدي دعوته، واستخلاني فأخليته. فقال: أما آن لك أن ترق علي مما أنا فيه من غير ذنب إليك ولا جرم، ولا قديم ذحل ولا عداوة؟ فقلت: أنت اخترت لنفسك هذا، وقد سمعت يميني، وليس منها مخرج، فاستجب لما أريد منك واخرج. فأخذ يستعطفني فجاءني ضد ما كنت قدرته، وغاظني فشتمته، وقلت له: الأمر المهم الذي ذكرت في رقعتك أنك أردت إلقاءه إلي هو أن تستعطفني وتسخر مني وتخدعني؟ فقال لي: الآن ليس عندك غير هذا؟ فقلت: لا، فقال: إذا كان ليس عندك غير هذا فاقرأ يا سيدي هذا، وأخرج رقعة وكتاباً لطيفاً مختوماً في ربع قرطاس؛ ففضضته فإذا هو بخط المتوكل الذي أعرفه إلي يأمرني فيه بالانصراف وتسليم ما أتولاه إلى أحمد بن أبي خالد، والخروج مما يلزمني ورفع الحساب إليه. فورد علي ذلك أقبح مورد لقرب عهد الرجل بشتمي له، وأنه في الحال تحت حديدي ومكارهي. فامسكت مبهوتاً، ولم ألبث أن دخل أمير البلد وأصحابه وغلمانه، فوكل بداري وبجميع ما أملكه وبأصحابي وغلماني وجهابذتي وكتابي، وجعلت أزحف من الصدر إلى أن صرت بين يدي أحمد بن أبي خالد. ودعا أمير البلد بحداد فحل قيوده؛ فوثب قائماً وقال: يا أبا أيوب، أنت قريب عهد بعمالة هذا البلد ولا منزل لك فيه ولا صديق، ومعك حرم وحاشية كثيرة، وليس يسعك إلا هذه الدار وإن كانت دار العمالة، فأنا أجد عدة مواضع وليس لي كبير حاشية، ومن نكبة خرجت، فأقم مكانك. وخرج وصرف التوكيل عني وعن الدار، وأخذ كاتبي وأشيائي. فلما انصرف قلت لأصحابي: هذا الذي نراه في النوم؟ انظروا من وكل بنا، فقالوا: ما وكل بنا أحد، فعجبت من ذلك عجباً عظيماً.
قال: وما صليت العصر حتى عاد إلي من كان حمله معه من المتصرفين والكتاب والجهابذة مطلقين، فقالوا: أخذ منا خطوطنا برفع الحساب، وأمرنا بالملازمة وأطلقنا. قال: فازدادت تعجباً؛ فلما كان من غد باكرني مسلماً، ورحت إليه في عشية ذلك اليوم، فأقمت ثلاثين يوماً، إن سبقني عن المجيء رحت إليه، وإن راح إلي باكرته، وكل يوم تجيئني هداياه وألطافه من البلح والفاكهة والحيوان والحلواء؛ فلما كان بعد ثلاثين يوماً جاءني فقال: قد عشقت مصر يا أبا أيوب! والله ما هي طيبة الهواء، ولا عذبة الماء، ولكن تطيب بالولاية والكسب، ولو قد دخلت إلى سر من رأى لما أقمت بها شهراً إلا وقد تقلدت أجل الأعمال. فقلت: والله ما أقمت إلا متوقعاً أمرك في الخروج. فقال أعطني خط كاتبك بأن عليه القيام بالحساب، واخرج في حفظ الله.
قال: فأحضرت كل شيء وأخذت خطه كما أراد، وسلمته إليه. فقال لي: اخرج أي يوم شئت، فخرجت من غد، فخرج هو وأمير البلد وقاضيه ووجوه أهله، فشيعوني إلى ظاهر البلد، وقال لي: أقم في ظاهر البلد على خمسة فراسخ إلى أن أزيح علة قائد يصحبك برجاله إلى الرملة، فإن الطريق فاسد. فلما قال ذلك استوحشت من قوله وقلت: هذا إنما غرني حتى أخرج كل ما أملكه فيتمكن منه في ظاهر البلد، فيقبضه ثم يردني إلى الحبس والتوكيل والمطالبة، ويحتج علي بكتاب ثان يذكر أنه ورد إليه. فخرجت وأقمت بالمرحلة التي آثرها مستسلماً متوقعاً للشر، إلى أن رأيت أول عسكر مقبل فقلت: لعله القائد الذي يريد أن يصحبني إياه، أو لعله الذي يريد أن يقبض علي. فأمرت غلماني بمعرفة الخبر، فقالوا: العامل أحمد بن أبي خالد قد جاء، فلم أشك إلا أنه قد جاء الشر والبلاء بوروده، فخرجت من مضربي، فتلقيته وسلمت عليه. فلما جلس قال: أخلونا، فلم أشك إلا أنه للقبض علي، وطار عقلي، فقام من كان عندي فلم يبق عندي أحد، فقال لي: أنا أعلم أن أيامك لم تظل بمصر، ولا حظيت بكبير فائدة، وذلك الباب الذي سألتنيه في ولايتك فلم أستجب له، إنما أجزت الإذن لك في الانصراف منذ أول الأمر لأني تشاغلت لك بالفراغ منه. وقد حططت من الارتفاع، وزدت في النفقات في كل سنة خمسة عشر ألف دينار ليكون للسنتين ثلاثون ألف دينار، وهو مقرب ولا يظهر، ويكون أيسر مما أردته مني في ذلك الوقت، وقد تشاغلت به حتى جمعته لك، وهذا المال على البغال قد جئتك به، فتقدم إلى من يتسلمه، فتقدمت بقبضه، وقبلت يده وقلت: والله يا سيدي فعلت ما لم تفعله البرامكة، فأنكر ذلك وتقبض منه، وقبل يدي ورجلي وقال: ههنا شيء آخر أريد أن تقبله؛ فقلت: ما هو؟ قال: خمسة آلاف دينار قد استحققتها من رزقي، فامتنعت من ذلك وقلت: في ما تفضلت به زيادة على كفايتي؛ فحلف بالطلاق أني أقبلها منه، فقبلتها؛ فقال: ههنا ألطاف من هدايا مصر أحببت أن أصحبك إياها، فإنك تمضي إلى كتاب الدواوين ورؤساء الحضرة، فيقولون لك: وليت مصر، فأين نصيبنا من هداياها؟ ولم تطل أيامك، فيعدوا لك الهم، وقد جمعت لك منه ما يشتمل عليه هذا الثبت، وأخرج درجاً فيه ثبت جامع لكل شيء حسن طريف جليل القدر من دبيقي، وقصب، وخدم، وبغال، ودواب، وحمير، وفرش، وطيب، وجوهر، ما يكون قيمة الجميع مال عظيم، فأمرت بتسلمه وزدت في شكره فقال: يا سيدي، أنا أحب الفراش وأنا مغرى به، وقد استعمل لي بيت أرمني بأرمينية وهو عشر مصليات بمخادها، ومستندها، ومساورها، ومطارحها، وبسطها، وهو مذهب بطرز مذهبة قد قام علي بخمسة آلاف دينار على شدة احتياطي، وقد أهديته إليك، فإن أهديته إلى الوزير عبدك، وإن أهديته إلى الخليفة ملكته، وإن أبقيته لنفسك وتجملت به كان أحب إلي.
قال: وحمله فما رأيت مثله قط، فشغفت به واستحسنته فلم تسمح نفسي بإهدائه إلى أحد، ولا استعماله فيما استبذل إلا في يوم إعذارك، فإني نجدت منه الصدر ومسنده ومساوره ومخاده. أفتلومني يا بني على أن أقوم لهذا الرجل؟ فقلت: لا والله يا أبي، ولا على أكبر من القيام لو كان مستطاعاً.
قال: وكان أبي بعد ذلك إذا صرف رجلاً عامله بكل جميل يقدر عليه وقال: علمنا أحمد بن أبي خالد حسن التصرف.
قال: وجلس عبيد الله بن سليمان يوماً للمظالم في دار المعتضد، وهو وزيره، فتقدم إليه عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات يتظلم من أحمد بن إسرائيل بسبب الضيعة المعروفة بتناضب. فنظر في أمره وقال له: أنت عمر بن محمد؟ قال: نعم، قال: فأين كنت؟ فقص عليه أمره وخبره وقال له: أنت ابن سكران؟ قال: نعم.
قال أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح: فلما كان عشي يومنا ذلك، وخلا وكنت أنا وابناه بين يديه، تحدث واستروح، ثم قال لنا: سبحان الله! ما أعجب ما كنت فيه اليوم! فلم نسأله عن ذلك إجلالاً له. قال لي أبو أيوب رحمه الله إنه كان في أيام الواثق في ذلك البلاء والضرب والقيد، وإنه حمل إلى محمد بن عبد الملك الزيات ليناظره ويرده إلى محبسه. وكان بين يديه على تلك الحال، فجعل يناظره، والحسن بن وهب كاتبه جالس، وربما تكلم بالكلمة ترققه عليه وربما أمسك، ومحمد دائب في الغلظة على أبي أيوب والدي والتشفي منه، إذ مر بعض خدم محمد بن عبد الملك في الدار وعلى كتفه صبي قد خضب، وعليه لبوس مثله من أولاد الملوك، فلما رآه صاح بالخادم: هاته، فقربه إليه فقبله وترشفه وضمه إليه، وجعل يلاعبه. وحانت منه التفاتة إلى والدي، فإذا دمعته قد سبقته وهو يمسح جبينه بالجبة الصوف التي كانت عليه، فقال له: ما الذي أبكاك؟ فقال: خير أصلحك الله، إلى أن قال: لا تبرح أو تخبرني بالأمر على حقه. فلما رأى ذلك الحسن بن وهب قال له: أنا أصدقك؛ لما رأى أبو محمد عمر، أسعد الله ببقائه وجعلنا جميعاً فداءه، ذكر بنياً له في مثل سنه يقال له عبيد الله، - قال: وكانا ولدا في شهر واحد - فالتفت إليه محمد كالهازئ به ثم قال: أتراه يقدر أن يكون ابنه هذا وزيراً؟ قال الحسن: فلما أمر بحمله إلى محبسه، التفت إلي وقال: لولا أن هذا من أمور السلطان التي لا سبيل إلى التقصير فيها ما سؤتك فيه، ولو أعانني على نفسه لخلصته. فقال الحسن: فو الله ما رأيته منذ حبس، فإن رأيت أن تأمر بالعدول به إلى بعض المجالس والإذن لي في القيام إليه والخلوة معه لأشير عليه بامتثال أمرك. قال: فأمر بذلك. فقمت إلى أبي أيوب وتعانقنا وبكينا، فقال لي قبل كل شيء: رأيت أعجب من بغيه، ومن قوله بالتباطر والهزء: أتراه يقدر أن يكون ابنه هذا وزيراً؟ ووالله إني لأرجو - بعون الله - أن يبلغ إلى الوزارة، فيتقدم إليه عمر هذا متظلماً؛ فلما كان في يومنا هذا، تقدم إلي عمر فتظلم، وما كنت عرفت له خبراً قبل ذلك.
وقد روي أن هذا الولد اسمه عبد الملك، وكنيته أبو مروان، وأن عبيد الله بن سليمان ولاه ديوان البريد والخرائط، فتقلده ثلاثين سنةً أو أكثر حتى عرف بأبي مروان الخرائطي ونسي نسبه.
وروي في هذا الخبر أن محمد بن عبد الملك قال لسليمان: كأني بك قد ذكرت عبيد الله وأملت فيه الآمال، ووالله لا رأيت فيه شيئاً مما تأمله، وأنا أستحلفك بالله إن بلغ ابنك هذا إلا أوصيته إن جاءه ابني بشيء من هذا إلا وأسرف بعد ذلك في الاستماع. فما مضت إلا مدة يسيرة حتى سخط المتوكل على ابن الزيات، وتولى سليمان مناظرته. ووصى سليمان ابنه وقال: يا بني، إن رفعك الله ووضعه حتى يحتاج إليك، فأحسن إليه.
قال يحيى بن خاقان:: كان المأمون ألزمني خمسة آلاف ألف درهم، فأعلمته أني لا أملك إلا سبعمائة ألف، وحلفت على ذلك أيماناً مغلظةً اجتهدت فيها، فلم يقبل مني وحبسني عند أحمد بن هشام؛ وكان بيني وبينه شر، وكان يتقلد الحرس. فقال لأحد الموكلين بي: احفظوا، واحذروا أن يسم نفسه. ففطن المأمون لمراده فقال له: يا أحمد، لا يأكل يحيى بن خاقان إلا ما يؤتى به من منزله. قال: فأقمت على ذلك، فوجه إلي فرج الرخجي بألف ألف درهم، ووجه الحسن بن سهل بألف ألف درهم، فأضفت ذلك إلى ما كان عندي، واضطربت حتى جمعت خمسة آلاف ألف درهم. فلما اجتمعت كتبت إلى المأمون بحصول المال الذي ألزمنيه، فأمر بإحضاري فدخلت إليه وبين يديه أحمد بن أبي خالد، وعمرو بن مسعدة، وعلي بن هشان، فلما رآني قال لي: أفلم تخبرني وتحلف لي أنك لا تملك إلا سبعمائة ألف، فمن أين لك هذا المال؟ فصدقته عن الأمر وقصصت عليه القصة، فأطرق طويلاً ثم قال لي: قد وهبته لك، فقال له الحضور: أتهب خمسة آلاف ألف درهم وليس في بيت المال درهم واحد، وأنت محتاج إلى ما دون ذلك بكثير، فلو أخذته قرضاً، فإذا جاءك مال رددته عليه؟ فقال لهم: أنا على المال أقدر من يحيى وقد وهبت له، فرددت إلى القوم ما كانوا حملوه إلي، وتخلصت.
وذكر محمد بن عبدوس أن الفضل بن مروان حدث قال: سعى محمد بن يزداد إلى المأمون بعمرو بن بهنوي، فقال له المأمون: يا فضل، خذ عمراً إليك فقيده وضيق عليه ليصدق عما صار إليه من مال الفيء، فإنه قد احتاز منه مالاً جليلاً، وطالبه بذلك. فقلت: نعم، وأمرت بإحضار عمرو فأحضر، وأخليت له حجرة في داري، فأقمت له ما يصلح له، وتشاغلت عنه بأمور السلطان في يومي وغده؛ فلما كان اليوم الثالث أرسل إلي عمرو يسألني الدخول إليه، فدخلت، فأخرج إلي رقعة قد أثبت فيها كل ما يملكه من الدور والعقار والأموال والفرش والكسوة والجوهر والكراع وما يجوز معه من الرقيق، فكان قيمة ذلك عشرين ألف ألف درهم، وسألني أن أوصل رقعته إلى المأمون وأعلمه أن عمراً قد جعله من جميع ذلك في حل وسعة. فقلت له: مهلاً، فإن أمير المؤمنين أكبر قدراً من أن يسلبك نعمتك كلها؛ فقال عمرو: إنه كما وصف في كرمه، ولكن الساعي لا ينام عني ولا عنك، وقد بلغني ما تقدم به في شأني من الغلظة، وقد عاملتني بضد ذلك، وقد طبت نفساً بأن أشتري عذل أمير المؤمنين لك في أمري ورضاه عني بجميع مالي. فلم أزل أنزله حتى وافقته على عشرة آلاف ألف درهم وقلت له: هذا شطر مالك وهو صالح للفريقين، وأخذت خطه بالتزام ذلك صلحاً عن جميع ما جرى على يديه؛ وصرت إلى المأمون فوجدت محمد بن يزداد قد سبقني إليه، وإذا هو يكلمه، فلما رآني قطع كلامه وخرج. فقال المأمون: يا فضل، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، أنا عبد طاعتك، وغرس أيامك. فقال: أمرتك بالتضييق على النبطي عمرو بن بهنوي، فقابلت أمري بالضد، ووسعت عليه، وأقمت له الأنزال! فقلت: يا أمير المؤمنين، إن عمراً يطالب بأموال عظيمة، فلم آمن أن أجعل محبسه في بعض الدواوين، فيبذل مالاً يرغب في مثله فيتخلص، فجعلت محبسه في داري، وأشرفت على طعامه وشرابه لأحرس لك نفسه، فإن كثيراً من الناس اختانوا السلطان، وتمتعوا بالأموال، ثم طولبوا بها، فاحتيل عليهم ليتلفوا ويفوز بالأموال غيرهم.
قال الفضل: وإنما أردت بذلك تسكين غضب المأمون علي، ولم أعرض الرقعة عليه، ولا أعلمته ما جرى بيني وبين عمرو لأني لم آمن سورة غضبه في ذلك الوقت لاشتداده. فقال لي: سلم عمراً إلى محمد بن يزداد، فتسلمه ولم يزل يعذبه بأنواع العذاب ليبذل له شيئاً، فلما رأت أصحابه وعماله ذلك وما قد ناله جمعوا له بينهم ثلاثة آلاف ألف درهم، وسألهم عمرو أن يبذلوها لمحمد؛ وصار محمد إلى المأمون متبججاً بها، فأوصل الخط بها إلى المأمون، وكنت واقفاً، فقال المأمون: يا فضل، ألم نعلمك أن غيرك أقوم بأمورنا، وأطوع لما نأمر به؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أرجو أن أكون في حال استبطائك أبلغ في طاعتك من غيري؛ فقال المأمون: هذه رقعة عمرو بن بهنوي بثلاثة آلاف ألف درهم.
فقلت له - وما اجترأت عليه قط جرأتي في ذلك اليوم، فإني أخرجت عليه إضبارةً كانت مع غلامي، فأخذت الرقعة منها مسرعاً - وقلت: والله لأعلمن أمير المؤمنين أني مع رفقي أبلغ في حياطة أمواله من غيري مع غلظته، وأريته رقعة عمرو التي كان كتبها لي وحدثته حديثه عن آخره، فلما تبين الخطين وعلم أنهما جميعاً خط عمرو قال: ما أدري أيكما أعجب؟ أعمرو حين شكر برك وطابت نفسه بالخروج عن ملكه بهذا السبب، أم أنت ومحافظتك على أهل النعم وسترك عليه في ذلك الوقت، والله لا كنتما يا نبطيان أكرم مني، ودفع إلي الرقعة التي أخذها محمد بن يزداد من عمرو، وأمرني بتخريقها وبتخريق الأولى، وأنفذ من يتسلم عمراً من محبسه، وأمره بتسليمه لي، وأمرني بإطلاقه، ففعلت ذلك.
قيل: كانت محابس أحمد بن طولون مملوءةً، وكان الوالي عليها موسى بن مفلح، فأمره أحمد بن طولون بتعرف أخبار المحبوسين، قال موسى: فرأيت رجلاً منهم له هيئة وله في الحبس سنون، وعرفته بكثرة صلاته وصيامه، فعرضت عليه الشفاعة وكتب الرقاع إلى من يرى، فكتب رقعةً، ثم استأذنني في الذهاب إلى منزله ليدبر أمره ويعود، وواثقني بعهود وقال: ما أعرف أحداً غير أبي طالب فليح والد محمد بن فليح، ولو قدرت عليه لاستعنت به، وكان فليح والي شرطة أحمد بن طولون. قال موسى بن مفلح: فرحمته ورثيت له. وفكرت في أحمد بن طولون وشدة بأسه، وأني أخرج من محبسه رجلاً بغير أمره ثم آثرت الله ورضاه وحملت نفسي خطةً عظيمةً، فأذنت له في الذهاب إلى منزله، وأن يقيم ثلاثاً يدبر أمره ويحتال ثم يعود.
وأطلقته ليلة الجمعة لما شاهدت من حسن طريقته واجتهاده في العبادة، فعاد إلي غداة يوم السبت فسألته عن خبره، فقال: سألت فليحاً وسألته فوعدني ومضى في حاجتي، وعاد إلي قرب العتمة مغموماً وقال لي: كلمت فيك الأمير فقال: أذكرتني رجلاً يحتاج إلى عقوبة، ثم تقدم إلى بعض أسبابه أن يعرضك يوم السبت، ثم قال لي فليح: وددت أني ما تكلمت في أمرك؛ فلما سمعت هذا من أمري جئت إليك خوفاً عليك أن يأتيك الرسول فيطلبني فلا أكون في الحبس، فبادرت لئلا تلقى مكروهاً.
قال موسى بن مفلح: فلما أضحى النهار وافى رسول أحمد بن طولون في طلب الرجل، فركبت وسرت إليه، فحدثته بالحديث ووصفت له اجتهاد الرجل، وأني أطلقته بغير أمره، وأنه عاد إلي خوفاً علي، فاستحسن أحمد بن طولون ذلك، وزال غضبه عليه، وكان السبب في العفو عنه والإحسان إليه.
سعى ولد لسليمان بن ثابت بأبيه إلى أحمد بن طولون، وكان سليمان يكتب لشقير الخادم غلام الخليفة على الطراز. وكان ولد سليمان بن ثابت يقول لأحمد بن طولون: إن شقيراً أودع أبي أربعمائة ألف دينار. فأحضر أحمد بن طولون سليمان بن ثابت وقال: اصدقني عن هذا المال، فحلف له سليمان أن شقيراً ما أودعني شيئاً من هذا؛ فقال أحمد بن طولون: ابنك عرفني هذا، فأمسك عنه ولا تجبه، واطوه عن ابنك. ثم أمسك أحمد بن طولون عن ابنه ومقته. فلم يمض حول حتى توفي سليمان بن ثابت، فأظهر ابن طولون غماً، وولى ابنه الساعي به عملاً، وضم إليه رجالاً. فأقام شهوراً ثم دعا به، فقال: قد أحسنت إليك، فاحمل إلي الأربعمائة الألف الدينار التي أودعها شقير لأبيك. فلجلج واضطرب وهلع، فسلمه أحمد بن طولون إلى إسماعيل بن عمار فضربه خمسين سوطاً، واصطفى أمواله، ثم عاوده الضرب حتى مات.
وروي أن أحمد بن طولون في أول أمره رأى في منامه أنه أنزل رجليه في بئر مملوءة دماً، وأن السماء تمطر على رأسه، فنظر فإذا هي عذرة.
فهالته الرؤيا ودعا بمعبر فذكرها له، فقال له: تحصل في بلد بعيد من السلطان بمنزلة البئر، وتتناول من الدماء ما يعظم أمره، وتقبل عليك الدنيا لأنها مذمومة مرذورلة وهو تعبير ما سقط على رأسك، فكانت البئر مصر، وكانت الدماء ما عمل، وكانت العذرة الأموال التي أقبلت عليه.
ورأى أحمد بن طولون، وهو والي مصر، في منامه محمد بن سليمان الكاتب - وهو يومئذ يكتب لغلامه لؤلؤ - كأنه يهدم ميدانه وقصره.
فلما أصبح قال للؤلؤ: ما فعل كاتبك محمد بن سليمان؟ فقال خيراً، فقال: جئني به، فإني رأيت البارحة وهو يهدم قصري وميداني. فقال: هو بالريف، فقال: اكتب إليه ليجئ. فلما انصرف لؤلؤ أحضر كاتبه وقال له: طر في الدنيا، فمن خبرك كذا وكذا، وقد طلبك الأمير وهو والله قاتلك. فهرب محمد بن سليمان إلى العراق، وقضي إلى أن خرج في أيام المكتفي إلى مصر، وقلع آل طولون، وهدم الميدان. وقد قيل إنه كان وقع في يد محمد بن سليمان وضربه بالسوط وأفلت من يده.
وجاءه ابن دشومة فقال له: أيها الأمير، فعلك فعل الجبارين، ونفسك نفس الزهاد. فقال له أحمد بن طولون: وما الخبر؟ فقال له ابن دشومة: في البلد أموال تالفة مبلغها كذا وكذا؛ فقال له: تجيئني في غد. فغدا عليه فقال له: ويحك، إني رأيت البارحة في منامي فلاناً - شيخاً له من أهل طرسوس - وهو يقول لي: لا تقبل من ابن دشومة ما قال لك، فهو غاش لك، والله يعوضك، فاتركه لله. فقال له ابن دشومة: قول ذلك منام، وقولي يقظة. فلما كان بعد أيام وجد أحمد بن طولون كنزاً مبلغه ألف ألف دينار سوى الجوهر، فأحضر ابن دشومة فقال: أنت غاش لي، وسخظ عليه.
حدث محرز بن القاسم وكان هو وآخر من الخراسانية من رجال عبد الله بن علي قال: كانت عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية امرأة هشام بن عبد الملك، وكان هشام وهب لها بدنةً من جوهر. فأخذها عبد الله بن علي - وكانت من أجمل النساء - فوضع الوهق على رجليها، وكانت تقول: إنا لله! عروس بالليل ومعذبة بالنهار! فبلغ ذلك أبا العباس، وكان عبد الله قد استخرج منها البدنة. قال: فبعثتني وبعث معي رجلاً وأمرنا أن نحملها من دمشق ونحمل معها البدنة، وأوصانا بقتلها في الطريق لئلا ترد على أبي العباس فتخبره بما كان منه إليها. فسرنا بها مراحل، فبينا نحن في ليلة ظلماء إذ عدلنا بها عن الطريق، ثم استنزلناها فظنت أنا نريدها لفاحشة، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! اتقيا الله عز وجل ولا تفضحاني. فقلنا لها: ما يراد بك أعظم من ذلك. فقالت: القتل؟ فقلنا: نعم. قالت: الحمد لله رب العالمين! دعاني أصلح من شأني؛ فعقدت كميها ولفت رأسها في مقنعتها، وجثت على ركبتيها، فقتلناها ثم حفرنا لها حفيرة وواريناها فيها، ثم قدمنا على أبي العباس فدفعنا إليه البدنة وقلنا له: ماتت في الطريق، فلم يسألنا عن غير ذلك.
قال أبو الطفيل: ولد لرجل غلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي به فدعا له وأخذ ببشرة جبهته فقال بها هكذا، غمر جبهته ودعا له بالبركة فنبتت شعرة في جبهته كأنها هلبة فرس. فشب الغلام، فلما كان زمن الخوارج أحبهم فسقطت الشعرة عن جبهته. فأخذه أبوه فقيده، ودخلنا عليه فوعظناه؛ وقلنا له: ألم تر أن بركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعت من جبهتك؟ فما زلنا به حتى رجع وتاب فرد الله الشعرة في جبهته.
قيل للإسكندر: لو استكثرت من النساء ليكثر ولدك ويدوم بهم ذكرك. فقال: دوام الذكر بتحسين السير والسنن، ولا يحسن بمن غلب الرجال أن تغلبه النساء.
خطب عمر رضي الله عنه أم كلثوم بنت علي من فاطمة عليهما السلام، وقال: زوجنيها فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد. فقال: هي صغيرة وأنا أبعثها إليك فإن رضيتها فقد زوجتكما. فبعثها إليه ببرد وقال لها: قولي له هذا البرد الذي قلت لك. فقال: قولي له قد رصدت رضي الله عنك. فتناول قناعها، فقالت: لولا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك.
وقالت لأبيها: بعثتني إلى شيخ سوء فقال: مهلاً يا بنية، فإنه زوجك. فجاء عمر إلى مجلس المهاجرين الأولين في الروضة وقال: رفئوني فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل سبب ونسب وصهر منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري، فصار لي به السبب والنسب، فأردت أن أجمع إليه الصهر. وولد منها لعمر زيد ورقية. وأما زيد الأصغر وعبد الله بن عمر فقد ولدا من أم كلثوم بنت جرول من قضاعة.
وخرج زيد من عند معاوية فأبصر بسر بن أرطأة على دكان ينال من علي، فصعد الدكان فاحتمله وضرب به الأرض وصفر عليه فدق ضلعين من أضلاعه، فقال معاوية: أبعد الله بسراً يشتم جد الرجل وهو يسمع! أما علم أن زيداً ابن علي وعمر.
وماتت أم كلثوم وزيد في وقت واحد وصلى على جنازتيهما سعيد بن العاص، وكان والي المدينة. وقال له الحسين بن علي عليهما السلام: تقدم، ولولا أنك أمير ما قدمتك.
قال إسحاق بن اليمان: رأيت رجلاً نام وهو أسود الرأس واللحية شاب يملأ العين، فرأى في منامه كأن الناس قد حشروا، وإذا بنهر من نار وجسر يمر عليه الناس. فدعي فدخل الجسر، فإذا هو كحد السيف يمور به يميناً وشمالاً، فأصبح أبيض الرأس واللحية.
رأى رجل في منامه كأنه يصب الزيت في الزيتون، فقال له ابن سيرين: إن صدقت رؤياك فأنت تفعل بأمك، وكان كما قال.
أتى دومة بنت مغيث آت في المنام فقال لها من الرجز:
ألا ابشرَنْ بولدْ ... أشبهَ شيءٍ بالأسدْ
إذا الرجالُ في كَبَدٍ ... تغالبوا على بلدْ
كان له حظُّ الأسدْ
فولدت المختار بن أبي عبيد، وذلك في سنة الهجرة.
رأى علي بن الحسين مكتوباً على صدره قل هو الله أحد، فاستعبر سعيد بن المسيب، فقال: بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيت إليه نفسه.
وقال رجل لسعيد بن المسيب: رأيت كأني بلت خلف المقام أربع مرات. قال: كذبت لست صاحبها، قال: فهو عبد الملك؛ قال: يلي أربعة من صلبه الخلافة.
وقال الشافعي: رأيت علياً عليه السلام في المنام فقال لي: ناولني كتبك، فناولته فأخذها فبددها؛ فأصبحت أخا كآبة، فأتيت الجعد فأخبرته فقال: سيرفع الله شأنك وينشر علمك.
وقال أبو حنيفة: رأيت كأني نبشت قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضممت عظامه إلى صدري، فهالني، فسألت ابن سيرين فقال: ما ينبغي لأحد من أهل هذا الزمان أن يرى هذه الرؤيا. قلت أنا رأيتها؛ قال: لئن صدقت رؤياك لتحيين سنة نبيك.
قال رجل لعلي بن الحسين: رأيت كأني أبول في يدي، فقال: تحتك محرم. فنظر فإذا بينه وبين امرأته رضاع.
كان مع صلة بن الأشيم أعرابي فقال: يا أبا الصهباء، رأيت كأنك أتيت بثلاث شهادات فأخذت اثنتين وأعطيتني واحدةً؛ فقال: الشهادة إن شاء الله. فغزوا فاستشهد هو وابنه والأعرابي.
ورأى نوف البكالي صاحب علي عليه السلام كأنه يسوق جيشاً ومعه رمح طويل في رأسه شمعة تضيء للناس فتأولها بالشهادة. فخرج إلى الغزو، فلما وضع رجله في الركاب قال: اللهم أرمل المرأة وأيتم الولد وأكرم نوفاً بالشهادة. فوجدوه وفرسه مقتولين، مختلطاً دمه بدم الفرس وقد قتل رجلين.
رأى عبد الملك في منامه أن أم هشام شقت رأسه فطلعت من دماغه عشرون قطعة، فطلقها. ثم بعث إلى سعيد بن المسيب فسأله، فقال: تلد غلاماً يملك عشرين سنةً، فندم.
قدم علي بن عيسى بن ماهان على الرشيد من خراسان فسأله أن يركب مع خواصه إلى الميدان لينظر إلى هداياه، وقد أمر علي بكنس الميدان وفرشه بالرياحين والآس، وأقام في أحد جانبيه أربعة آلاف غلام تركي عليهم اللباس المرتفع والمناطق المعرقة بالفضة، وبيد كل واحد شهري من أفره الدواب، كلها مجللة مبرقعة بالديباج، وعلى رأس كل غلام عمامة من جنس لباسه، وفي الجانب الآخر أربعة آلاف وصيفة تركية عليهن ثياب من الملحم الفاخر وغيره، وقد بسط في صدر الميدان بسط عليها الأنطاع صبت عليها الأموال حتى صارت جبلاً عظيماً، وبحذائها نوافج المسك مثلها.
فلما رجع ونزل بهم قال: يا أبا جعفر أين كنا عن هذه الأموال؟ قال: يا أمير المؤمنين، أسرك أن أخذ علي بن عيسى أموال الفقراء والأرامل وجاءك بها ناراً يتقرب بها إليك؟ والله لتعلم إذا وضحت لك عواقب الأمور أنك تستوخم فائدتها، ولتنفقن بدل كل درهم ديناراً ثم لا تنجو. فقال: عادلت الرشيد حين خرج إلى خراسان فتنفس تنفسةً كادت نفسه تخرج، ثم قال: لله جعفر بن يحيى، وذكر كلمته، وقال: كانت أقوى الأسباب في تغيري للبرامكة، وقد والله أنفقت بدل كل درهم ديناراً وأراني لا أنجو.
لما أصاب زياداً الطاعون في يده أحضر له الأطباء، فدعا شريحاً فقال له: لا صبر لي من شدته فلقد رأيت أن أقطعها، فقال شريح: أتستشيرني في ذلك؟ فقال: نعم؛ قال: لا تقطعها، فالرزق مقسوم والأجل معلوم، وأنا أكره أن تقدم على ربك مقطوع اليد، فإذا قال: لم قطعتها قلت: بغضاً للقائك وفراراً من قضائك. فمات زياد من يومه، فقال الناس لشريح: لم نهيته عن قضعها؟ فقال: استشارني والمستشار مؤتمن، ولولا الأمانة لوددت أن أقطع يده يوماً ورجله يوماً.
لما نزل قوله تعالى: وتعيها أذن واعية. قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: سألت الله أن يجعلها أذنك، فلم يسمع بعد ذلك شيئاً إلا حفظه. وأنشده عمر بن أبي ربيعة قصيدته التي أولها: من الطويل:
أمن آلِ نُعْمٍ أنت غادٍ فمُبْكرُ
وهي ثمانون بيتاً فحفظها وسئل عنها فأعادها؛ وقال له رجل: ما رأيت أروى منك، فقال: ما رأيت أروى من عمر.
وقيل: كان عمر بن هبيرة يضبط حساب العراق وهو أمي.
قال الشعبي: ما كتبت سوداء في بيضاء إلا حفظته. وقال: أحفظ كل حديث سمعته وموضعه الذي سمعته فيه.
وقال الأصمعي: أحفظ اثني عشر ألف أرجوزة، فقال رجل: منها البيت والبيتان، فقال: ومنها المائة والمائتان.
ورد أبو مسعود الرازي أصفهان، ويقال إنه أملي عن ظهر قلبه مائة ألف حديث. فلما وصلت كتبه قوبلت بها، فلم يعثر منها على سقطة إلا في متن حديثين.
وادعى الخوارزمي أنه يحفظ كتاب الأمثال لأبي عبيد في ليلة.
وقد ذكر في موضع آخر من هذا الباب حفظ المتنبي لكتاب خلق الإنسان في إطلاعه واحدة.
وقيل: جرى ذكر الحفظ لما كان أبو مسعود بأصفهان، فقرئ عليه أوراق من حساب البقالين وأعادها على الترتيب.
وقد حكي مثل ذلك عن أبي العلاء المعري.
بدر من أبي عمر الصباغ إلى الصاحب جفاء، وكان مؤدبه، فقام من عنده وكتب إليه: من السريع:
أوْدعتَني العلمَ فلا تَجهلِ ... كم مقول يجني على مقتل
أنت وإن علَّمتَني سُوقةٌ ... والسيفُ لا يبقى على الصَّيْقل
فاتصل ذلك بأبي الحسين بن سعد فتعجب منه وكتبه، وقال: ابن ثمانين يكتب شعر ابن عشرين، ثم تلا: وآتيناه الحكم صبياً.
قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بالحديث ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري. وكان يقال: حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث. وقال البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح. وقال: ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين ووضعت تراجمه بين قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنبره. وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين. وقال: أخرجته من ستمائة ألف حديث، وصنفته في ست عشرة حجةً وجعلته حجةً فيما بيني وبين الله.
معن بن أوس المزني: من الطويل:
رأيتُ رجالاً يَكرهون بَناتِهموفيهنَّ لا يكذَب نساءٌ صوالحُ
وفيهن الأيام تعثُر بالفتى نَوادبُ لا يَمْلَلْنَهُ ونوائحُ
دخل عمرو بن العاص على معاوية وعنده ابنته عائشة، فقال: من هذه يا أمير المؤمنين؟ قال: هذه تفاحة القلب، قال: انبذها عنك، فإنهن يلدن الأعداء، ويقربن البعداء، ويورثن الضغائن. قال: لا تقل يا عمرو، فو الله ما مرض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا أعان على الأحزان إلا هن، وإنك لواجد خالاً قد نفعه بنو أخته. فقال عمرو: ما أراك يا أمير المؤمنين إلا وقد حببتهن إلي.
قال عمرو بن العاص لمعاوية: ما بقي من لذتك؟ قال: عين خرارة في أرض حرارة، وعين ساهرة لعين نائمة.
وقال عمرو: أن أبيت معرساً بعقيلة من عقائل العرب.
وقال وردان: الإفضال على الإخوان.
وقال عبد الملك: محادثة الإخوان في الليالي القمر على الكثبان العفر.
وقال سليمان ابنه: صديق أطرح بيني وبينه مؤونة التحفظ.
وقيل لأعرابي: فيم اللذة؟ قال: في قبلة على غفلة.
وقال آخر: سيف كبرق ثافب، ولسان كمخراق لاعب.
وقال طفيلي: في مائدة منصوبة، ونفقة غير محسوبة، عند رجل لا يضيق صدره من البلع ولا يحبس نفسه من الجزع.
وقال آخر: في ندامى تغلق دورهم وتغلي قدورهم.
وقال عالم: في حجة تتبختر إيضاحاً وحجة شبهة تتضاءل افتضاحاً.
وقال الراعي: في واد عشيب ولبن حليب.
وقال عابد: في عمل يخلص، ورياء ينقص، وقلب عن الدنيا يسلو، وهمة إلى الله تعلو.
وقال أعرابي: أشتهي محضاً روياً، وضباً مشوياً.
وقال مضياف: في كوم تنحر، ونار تسعر، وضيف ينزل، وآخر يرحل.
وقال معن: في مجلس يقل هذرة، وعود ينطق وتره، ورجل عقول يفهم ما أقول.
وقال شجاع: طرف سريع وقرن صريع.
وقال بحار: شربة من ماء الفنطاس بقشر النارجيل، ونومة في ظل الشراع.
لم يكن في العجم أرمى من بهرام جور الملك. فتصيد وهو مردف جظيةً له يتعشقها، فعرضت له ظباء، فقال: في أي موضع تريدين أن أضع السهم؟ فقالت: أريد أن تشبه ذكرانها بالإناث وإناثها بالذكران. فرمى ذكراُ بنشابة ذات شعبتين، فاقتلع قرنيه، ورمة ظبيةً بنشابتين أثبتهما في موضع القرنين. ثم سألته أن يجمع بين ظلف الظبي وأذنه بنشابة، فوصل أذنه بظلفه. ثم رمى بالجارية إلى الأرض ووطئها، وقال: شد ما اشتططت وأردت إظهار عجزي.
روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنا عند أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فمرت به امرأة تحمل شيخاً على عنقها. فقال لها: من الشيخ منك؟ فقالت: أبي. قال: كم يعد؟ قالت: سمعته قبل أن يكون على هذه الحال وقد سئل عن سنه، فقال: نيف وثلاثون ومائة سنة؛ فقيل له: من أدركت؟ قال: أدركت أحسن الناس وجهاً، وأسخاهم كفاً، وأتمهم طولاً، وأكرمهم كرماً، وأشرفهم شرفاً، أب نضلة هاشم بن عبد مناف. فقال لها عمر: لو رعيته في منزلك كان أودع له. فقالت: يا أمير المؤمنين، إنه قد حدث به حدث من خلق الصبيان، إذا جاع بكى؛ وقد أدر الله له ثديي فأنا أرضعه.
فقال لأصحابه: أجازته؟ قالوا: نعم، فقالت: لا والله ما جازيته يا أمير المؤمنين. فقال لها: ولم؟ فقالت: لأني قد كنت في مثل حاله يتمنى بقائي، وأنا اليوم أتمنى موته. قال: فبكى عمر وبكينا معه، وأمر فزاد في عطائها وعطائه. ثم قال لأصحابه: أيما أبر: الوالد بالمولود أم المولود بالوالد؟ فقالوا: إن البر يزيد وينقص. قال: فإذا استويا في البر؟ قالوا: الوالد أبر. فقال: بل الولد أبر لأن بر الوالد طبيعة لا يملك غيرها، وبر الولد تكلف.
وهذا معلوم محقق. ومما يقارب معناه قول الشاعر: من الطويل:
يَقَرُّ بعيني وهو يُنقِصُ مدَّتي ... مرورُ الليالي كي يَشِبَّ حكيمُ
مخافةَ أن يغتالني الموتُ قبلَهُ ... فينشو مع الصبيانِ وهو يتيمُ
وكتب إبراهيم بن داجة إلى أبيه: جعلني الله فداك. فكتب إليه: لا تكتب مثل هذا، فأنت على يومي أصبر مني على يومك.
ضرب رجل وطولب بمال فلم يسمح به، فأخذ ابنه وضرب. فجزع، فقيل له في ذلك، فقال: ضرب جلدي فصبرت وضرب كبدي فلم أصبر.
كان يزيد بن أبي مسلم - واسم أبي مسلم دينار - من موالي ثقيف، ويقال ليس مولى عتاقة، وكنيته أبو العلاء، وكان أخا الحجاج، يجري له في كل شهر ثلاثمائة درهم: يعطي امرأته خمسين درهما وينفق في ثمن اللحم خمسة وأربعين درهماً، وينفق باقيها في ثمن الدقيق وباقي نفقاته، فإن فضل شيء ابتاع به شيئاً وسقاه المساكين، وربما ابتاع به وطفاً فرقها فيهم، وهو مع ذلك يقتل الخلق للحجاج. وكان مستولياً على أمره وهو الذي قال لسليمان بن عبد الملك، وقد حمله موثقاً بعد موت الحجاج، فقال له سليمان: لعن الله امرءاً أجرك رسنه! أترى الحجاج استقر في جهنم. فقال: لا تقل هذا، فإنه يجيء يوم القيامة عن يمين أبيك ويسار أخيك فضعه حيث شئت.
وحكي أن الحجاج عاده من علة اعتلها، فوجد بين يديه كانوناً من طين ومصباحاً من خشب، فقال: يا أبا العلاء، ما أرى أرزاقك تكفيك. قال: إن كانت ثلاثمائة لا تكفيني فثلاثون ألفاً لا تكفيني.
ويزيد هذا أنذر الحسن البصري ونبهه حتى استتر من الحجاج. وذاك أنه لقيه خارجاً من عنده فقال له: توار يا أبا سعيد، فإني لست آمنه عليك أن تتبعك نفسه. فتوارى عنه تسع سنين.
كان عراك بن عياض يكتب لهشام على ديوان الجند بخراسان، فلما تحركت الدعاة بخراسان واتصل الخبر بهشام دعا بعراك وقال: إني مفش إليك سراً فهل أنت كاتمه ومعين عليه؟ قال عراك: يا أمير المؤمنين! قال: قد دخلت بلاد خراسان وضربت قطريها، ورأيت كبراءها، فسم لي الأشراف من غير أهل الديوان. فسميت له ما عرفت ممن دون النهر ووراءه عرباً ودهاقين وولاةً. قال: ويحك أتعرف بها زريقاً أم بني أسعد؟ فقلت: ما أعرف هؤلاء، ولا كل أهل خراسان أعرف. قال: فإن عرفتهم أو جهلتهم فإن لهم شأناً وسيكون لهم شأن، وقد أظل أوان ذلك، وسيزول أمرنا هذا على أيديهم. فقلت: وكيف قلت هذا، أصلحك الله يا أمير المؤمنين؟ فقال: أنشدني أخي مسلمة أبيات شعر سمعها من أمير المؤمنين عبد الملك، وذكر عنه أنه وجدها في كتب الملاحم: من الطويل:
إذا ما بَغَتْ شرقُ البلادِ على الغربِ ... نظرتُ إلى الأطوادِ تَسحلُ كالربِّ
وكان الأقاصي والأداني كلاهما ... على دُولٍ للشرقِ جاءتْ من الغرْبِ
يديرُ رحاها من خراسانَ عُصبةٌ ... وآلُ زُرَيْقٍ في رحى القومِ كالقُطْبِ
بني أسعدٍ قد هبَّتِ الريحُ بالتي ... تُريدونها ممّا يُسطِّرُ في الكُتْبِ
ومضى الدهر وظهر أمر ولد العباس، فحدث الحارث بن عبدان البصري في أيام المنصور بهذا الحديث، فقال: لقد سمعت أبا مسلم يحكي هذا الخبر، وزادني في الشعر بيتين وهما:
على وَلَدِ العبّاسِ بعد أُميَّةٍ ... فصونوا جمالاً لا تُزحزَحُ بالجذب
إلى أن ينادي صارخُ الله فيهمُ ... بعيسى إماماً فالقيامةُ بالقرب
قال الحارث: فقلت له: من آل زريق؟ فقال: مصعب بن زريق أحد السبعين، وقد روينا لهم دولةً تكون بيننا وبينها ستون سنة.
طلب أبو جعفر الربيع يوماً فلم يجده، فلما دخل عليه سأله عن خبره فقال: كنت عند سليمان الكاتب - يعني أبا أيوب المورياني - فقال: من رأيت عنده؟ قال: عبد الملك بن مروان بن محمد، وقد كلمه في حاجة فقضاها، فقام عبد الملك فقبل رأس سليمان. وكان أبو جعفر متكئاً فاستوى جالساً وقال: يا ربيع قبل عبد الملك رأس سليمان؟ فقال: نعم؛ فقال: الحمد لله، وخر ساجداً، فأطال ثم رفع رأسه، فقال لي: يا ربيع، أي نعمة جدد الله عند أمير المؤمنين في هذا الوقت؟ قلت: لا أعلم، وأسأل الله يجدد عنده النعم ويواليها ويزيد فيها. فكشف عن ساقيه فإذا فيهما أثر وحش. قال: إني لبدمشق في أيام مروان إذ رأيت للناس حركة فقلت: من هذا؟ فقيل: عبد الملك ابن أمير المؤمنين يركب، وما ركب قبل ذلك، فقد أمر الجند والخيول بالزينة. وانجفل الناس للنظر إليه. فخرجت في من خرج، فازدحم الناس على بعض الطريق زحمةً شديدةً، وكانت دابتي صعبةً، فسقطت عنها، وغشيني الناس، فمكثت دهراً عليلاً، وها هو ذا اليوم يقبل رأس كاتبي؛ فأحمد الله على نعمته وحسن إدالته.
قيل: إن المنصور لما كان مستتراً بالأهواز نزل على بعض الدهاقين فاستتر عنده، فأكرمه الدهقان بجميع ما يقدر عليه حتى أخدمه ابنته، وكانت في غاية الجمال. فقال أبو جعفر: لست أستحل استخدامها والخلوة بها وهي جارية حرة، فزوجه إياها، فعلقت منه. وأراد أبو جعفر الخروج إلى البصرة فودعهم، ودفع إلى الجارية قميصه وخاتمه، وقال: إن ولدت فاحتفظي بولدك، فمتى سمعت أنه قام في الناس رجل يقال له عبد الله بن محمد يكنى أبا جعفر فصيري إليه بولدك وبهذا الخاتم والقميص، فإنه يعرف حقك ويحسن الصنيع إليك. وفارقهم فولدت ابناً ونشأ الغلام وترعرع، وكان يلعب مع أقرانه. وملك أبو جعفر، فعيره أقرانه بأنه لا يعرف له أب. فدخل إلى أمه حزيناً كئيباً، فسألته عن حاله، فذكر لها ما قال أقرانه، فقالت: بلى والله، إن لك أباً فوق الناس كلهم؛ قال لها: ومن هو؟ قالت: القائم بالملك. قال: هذا أبي وأنا على هذه الحال؟ هل من شيء يعرفني به؟ فأخرجت القميص والخاتم.
وشخص الفتى فصار إلى الربيع فقال له: نصيحة! قال: هاتها! قال: لا أقولها إلا لأمير المؤمنين. فأعلم المنصور الخبر، فأدخله إليه، فقال: هات نصيحتك. قال: أخلني، فنحى من كان عنده وبقي الربيع. فقال: هات، قال: أويتنحى، فنحاه، وقال: هات. قال: أنا ابنك. قال: وما علامة ذلك؟ فأخرج القميص والخاتم، فعرفهما المنصور. قال: وما منعك أن تقول هذا ظاهراً؟ قال: خفت أن تجحد فيكون سبةً آخر الدهر. فضمه إليه وقبله، وقال: أنت الآن ابني حقاً. ودعا المورياني فقال: يكون هذا عندك، ما تفعله بولد لو كان لي عندك فافعله به؛ وتقدم إلى الربيع أن يسقط الإذن عنه، وأمر بالبكور إليه في كل يوم والرواح إلى أن تظهر أمه فإن له فيه تدبيراً. فضمه إليه المورياني، وأخلى له منزلاً وأوسعه من كل شيء، وكان يغدو ويروح إلى المنصور يخلو به، فيسأله المورياني عما يجري بينهما فلا يخبره، فيقول له: إن أمير المؤمنين لا يكتمني شيئاً، فيقول: ما حاجتك إلى ما عندي إذن؟ فحسده المورياني واستوحش منه. وثقل عليه مكانه، وأطعمه شيئاً فمات؛ وصار إلى المنصور فأعلمه أنه مات فجاءة ثم ولى. فقال المنصور: قتلته قتلني الله إن لم أقتلك به، فكان ذلك من أقوى أسباب سخط المنصور على أبي أيوب المورياني وقتله إياه.
بنى جعفر بن يحيى قصراً وأعظم النفقة عليه وبالغ، ولما عزم على الإنتقال إليه جمع المنجمين لاختيار وقت ينتقل فيه إليه، فاختاروا له وقتاً من الليل. فلما حضر الوقت خرج على حمار من الموضع الذي كان ينزله إلى قصره والطرق خالية والناس هادون، فلما صار إلى سوق يحيى رأى رجلاً وهو يقول: من الوافر:
يُدبِّرُ بالنجوم وليس يَدري ... ورَبُّ النَّجمِ يَفعلُ ما يشاءُ
فاستوحش وتوقف ودعا بالرجل فقال له: أعد علي ما قلت فأعاده، فقال: ما أردت بهذا؟ فقال: والله ما أردت به معنى من المعاني، ولكن شيء عرض لي وجاء على لساني في هذا الوقت. فأمر له بدنانير ومضى لوجهه وقد تنغص عليه سروره.
وحكي أن السبب كان في بناء جعفر هذا القصر أن متظلماً من أهل أصفهان تظلم إلى يحيى بن خالد من عامله بها وقال: إنه ظلمني وأساء معاملتي، وأخذ ما لا يجب له مني، وهدم شرفي، فقال يحيى: قد عرفت جميع ما تظلمت منه خلا قولك هدم شرفي، ففسر لي ذلك. فقال له المتظلم: أنا من بني رجل كان بنى القصر المهدوم، وكان ينسب إليه، وكان الرائي إذا رأى القصر وجلالته وعلم أني من ولد الباني له عرف بذلك قديم نعمتي وجلالة أولي.
فاستحسن ذلك يحيى منه وقال للفضل وجعفر: لا شيء أبقى من البناء، فاتخذوا منه ما يبقى لكم ذكراً. فاتخذ جعفر قصره، وكذلك الفضل. وأمر يحيى بإنفاذ كتاب مع المتظلم يطالب العامل بإعادة قصره وإنصافه في ظلامته.
وقيل: لما قارب جعفر بن يحيى الفراغ من بناء قصره هذا صار إليه ومعه أصحابه، وفيهم مويس بن عمران، وكان عاقلاً كاملاً، فطاف به واستحسنه، وقال فيه من حضره من أصحابه في ذلك وأكثر القول ومويس ساكت. فقال جعفر: ما لك لا تتكلم؟ قال له: في ما قال أصحابنا كفاية، وتكرار القول مما لا يحتاج إليه. وكان جعفر زكناً، فعلم أن تحت قوله شيئاً. قال: وأنت فقل؛ فقال: هو ما قالوا. قال: أقسم لتقولن. قال: إن أبيت إلا أن أقول فتعتزل، ففعل. فقال: تصبر على الصدق؟ قال: نعم قال: فأطيل أم أختصر؟ قال: بل اختصر. قال: اسألك بالله إن خرجت من دارك هذه فمررت بدار لبعض أصحابك تشبهها أو تقاربها فما أنت قائل؟ قال: قد فهمت فما الرأي؟ قال: هو رأي واحد، إن أخرته عن ساعتك هذه فات فلم تلحقه. قال: وما هو؟ قال: لا أشك أن أمير المؤمنين قد طلبك، وسأل عن خبرك، وضجر بتخلفك، فأطل اللبث وامض إليه من فورك، وادخل عليه وعليك أثر الغبار، فإذا سألك عن خبرك فقل: صرت إلى الدار التي بنيتها للمأمون، ثم أتبع ذلك من القول ما أنت أعلم به.
قال: وقد كان جعفر اتخذ في هذا القصر ثلاثمائة وستين مقصورةً، وكتب إلى كل ناحية يعمل فيها الفرش بأمر أن يتخذ لبنائه ما يحتاج إليه من الفرش على ذرعه ومقاديره. وكان قد كثر القول في البناء والفرش. فأقام في الدار ساعةً ثم مضى من فوره، ودخل على الرشيد فسأله عن خبره، فقال: كنت في الدار التي اتخذتها للمأمون على دجلة، وتفقدت بعض ما احتجت إلى تفقده منها. قال: وللمأمون بنيتها؟ قال: نعم، لما شرفتني أن جعلته في حجري واستخدمتني له، وعرفت محله من قبلك، أردت أن أبني له بناءً يشبه هذا المحل، ومع هذا فإنني كتبت إلى النواحي بأن يتخذ لجميع البناء فرش في النواحي التي يستعمل فيها الفرش على مقاديرها، وبقي شيء لم يتهيأ اتخاذه، فقدرنا أن نعول فيه على خزائن أمير المؤمنين إما عاريةً وإما هبةً، قال: بل هبة. وزال بذلك الشنع الواقع كله، وأمره بنزولها، وأبى أن يطلق للمأمون الانتقال إليها.
قال ميمون بن هارون: قلت لعتابة أم جعفر بن يحيى بعد نكبتهم، وهي بالكوفة في يوم أضحى: ما أعجب ما رأيت؟ قالت: أمرنا! لقد رأيتني في مثل هذا اليوم وعلى رأسي مائة وصيفة، لبوس كل واحدة منهن وحليها خلاف لبوس الأخرى وحليها، وأنا في يومي هذا أشتهي لحماً لا أقدر عليه.
قال حمزة بن عفيف: كنا مع علي بن عيسى بن ماهان في الوقت الذي نزل فيه بالبرامك ما نزل، وكان من معاداتهم والانحراف عنهم إلى ما لا غاية وراءه، وكان مسروراً بنكبتهم. فغدونا يوماً إليه من الأيام فوجدنا على قصره بيتين من الشعر وهما: من السريع:
إن المساكين بني برمك ... صُبَّتْ عليهم عِبَرُ الدَّهرِ
وللورى في أمرهم عِبْرَةٌ ... فَلْيَعْتَبِرْ ساكنُ ذا القصر
فلم يبعد ما بين نكبته ونكبتهم.
قال نصير الوصيف: غدوت إلى يحيى بن خالد في آخر أمرهما أريد عيادته من علة كان يشكوها، فوجدت في دهليز بغلاً مسرجاً، فدخلت إليه، وكان يأنس بي ويفضي إلي بسره، فوجدته مفكراً مهموماً، ورأيته متشاغلاً بحساب النجوم، وهو ينظر فيه. قال، فقلت له: إني لما رأيت البغل مسرجاً فسرني لأني قدرت انصراف العلة وأن عزمك الركوب، ثم غمني ما أراه من همك. قال، فقال لي: لهذا البغل قصة: إني رأيت البارحة في النوم كأني راكبه حتى وافيت رأس الجسر، الجانب الشرقي، فوقفت فإذا أنا بصائح يصيح من الجانب الآخر: من الطويل:
كأنْ لم يكُنْ بين الحَجُونِ إلى الصّفا ... أنيسٌ ولم يسمُرْ بمكَّةَ سامرُ
قال: فضرت بيدي على قربوس السرج وقلت:
بلى نحنُ كنّا أهلَها فأصابَنا ... صروفُ الليالي والجدودُ العَوَاثرُ
قال: فانتبهت فلم أشك أني أنا المراد بالمعنى، فلجأت إلى أخذ الطالع، وضربت الأمر ظهراً لبطن، ووقفت على أنه لابد من انقضاء مدتنا وزوال أمرنا.
قال: فما كاد يفرغ من كلامه حتى دخل عليه مسرور ومعه جونة مغطاة وفيها رأس جعفر بن يحيى، وقال له: يقول لك أمير المؤمنين وكيف رأيت نقمة الله عز وجل في الفاجر؟ فقال له يحيى: قل له: يا أمير المؤمنين، أرى أنك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك.
أنفذ ملك الروم إلى المنصور رسولاً، فورد عند فراغه من الجانبين من مدينة السلام. فأمر المنصور عمارة بن حمزة أن يركب معه إلى المهدي وهو نازل في الرصافة. فلما صار إلى الجسر رأى الرسول عليه من الزمنى والسؤال عالماً، فقال لترجمانه: قل لهذا - يعني عمارة بن حمزة - إني أرى عندكم قوماً يسألون، وقد كان يجب على صاحبك أن يرحم هؤلاء ويكفيهم مؤنهم ومؤن عيالاتهم. فقال له عمارة: قل له إن الأموال لا تسعهم.
ومضى إلى المهدي وعاد إلى المنصور فخبره عمارة بذلك فقال أبو جعفر: كذبت، ليس الأمر على ما ذكرت، والأموال واسعة، لكن العذر ما أنا ذاكره له، فأحضرنيه. فأحضره إياه، فقال له: قد بلغني ما قلته لصاحبنا وما قاله لك، وكذب لأن الأموال واسعة، ولكن أمير المؤمنين يكره أن يستأثر على أحد من رعيته وأهل سلطانه بشيء من حظ أو فضل في دنيا أو آخرة، وأحب أمير المؤمنين أن يشركوه في ثواب السؤال والزمنى، وأن ينشلوهم من آفات الدنيا ومما أعطاهم الله عز وجل من الرزق، وليكون ذلك تجارةً لهم وممحصاً لذنوبهم. فقال الرومي: الحق ما قاله أمير المؤمنين.
قال أبو إسحاق الصابئ: كنت يوماً جالساً في دار المهلبي والقاضي أبو بكر بن قريعة على قرب مني يصلي. فلما فرغ من صلاته نهض وبسط يديه يدعو، ورفعهما حتى كشف إبطيه، ثم سجد سجدةً طويلةً وهو يشد بجبهته الأرض ويمحي وأنا أتأمله، فلما فرغ من صلاته ودعائه قال لي: لم كنت تحد النظر إلي وتوفر فكرك علي وأنا أصلي؟ أصبوت يا شيخ الصابئة إلى شريعة الملة الصافية؟ فقلت: لا، بعد، ولكن كنت أعجب من القاضي وهو يرفع يديه حتى يعلو رأسه ثم يحط جبهته الأرض حتى كأنه يحفر بها، فاستشعرت أنه بمثابة من يبتغي طلبته من موضعين متنافيين، وكان عندي أني قد قطعته. فقال: وما ذاك يا شيخ الصابئة بعجيب، وإن له من الصواب لأوفر نصيب. فقلت: وكيف ذاك؟ فقال: لأنا نشير بأيدينا إلى مطالع رغبتنا رافعين، قال الله تعالى: وفي السماء رزقكم وما توعدون. ونخفض جباهنا إلى مصارع أجسامنا خاضعين، قال الله وهو أصدق القائلين: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى فنحن نستنزل بالأولى لطيف الأرزاق، ونستدفع بالأخرى عنيف الإرهاق، والله كريم. ودمعت عيناه فأبكاني، وعظم في عيني. فدخلت على الوزير وأعدت عليه ذلك، فعجب منه وقال: هو واحد زمانه.
قال الوليد بن سريع مولى ابن حريث: وجهني الجراح بن عبد الله من العراق إلى سليمان بن عبد الملك، فخفت أن يسألني عن المطر. فإني لأسير بالسماوة إذا بأعرابي من كلب اسمه شملة، فقلت: يا أعرابي، هل لك في درهمين؟ قال: إني والله حريص عليهما فما سببهما؟ قلت: صف لي المطر. قال: أتعجز أن تقول أصابتنا سماء بمطر يعقد منه الثرى، واستؤصل منه العرق، وامتلأت منه الحفر، وفارت منه الغدران، وكنت في مثل وجار الضبع حتى وصلت إليك. فلما قدمت على سليمان قال: هل كان وراءك من غيث؟ فقلت ذلك. فضحك وقال: هذا كلام لست بأبي عذره. فقلت: صدق فوك، يا أمير المؤمنين، اشتريته والله بدرهمين.
قال بشير أخو بشار، وكانوا ثلاثة إخوة لأم: حنفي وسدوسي وعقيلي: لو خيرك الله أن تكون شيئاً من الحيوان، إلى أي شيء كنت تحب أن تكون؟ قال: عقاب، لأنها تبيت بحيث لا ينالها سبع ولا ذو جناحين، وهي معمرة، وإن شاءت كانت فوق كل شيء، وإن شاءت كانت بقرب كل شيء، تغدى بالعراق وتعشى باليمن، وريشها فروها في الشتاء وخيشها في الصيف، وهي أبصر خلق الله.
ابن نباتة: من الكامل:
وإذا عجِزْتَ عن العدوِّ فداره ... وامْزِجْ له إنّ المزاجَ وفاقُ
فالنارُ بالماء الذي هو ضدُّها ... تعطي النِّضاجَ وطبعُها الإحراقُ
الببغاء ويروى للرضي ما يماثلها في موضع آخر: من الكامل:
الظلمُ بين الأقربينَ مَضاضَةٌ ... والذُّلُّ ما بين الأقاربِ أرْوَحُ
فإذا أتَتْكَ من الرجالِ قَوارِصٌ ... فسهامُ ذي القُربى القَريبةِ أجْرَحُ
وقال محمد بن هانئ: من الطويل:
جهلتُ الهوى حتى اختبرْتُ عذابَهُ ... كما اختبَرَ الرِّعْدِيدُ بأسَ المُصَمِّمِ
وقُدْتُ إلى نفسي مَنِيَّةَ نَفسِها ... كما احترقَتْ في نارِها كَفُّ مُضرِمِ
وقال أيضاً: من الكامل:
هل آجلٌ ممّا أُوَمِّلُ عاجلُ ... أرجو زماناً والزمانُ حُلاحِلُ
وأَعزُّ مفقودِ شبابٌ عائدٌ ... من بعدِ ما ولّى وإلْفٌ واصلُ
ما أحسنَ الدنيا بشَمْلٍ جامعٍ ... لكنَّها أمُّ البنينَ الثّاكلُ
جَرَتِ الليالي والتّنائي بينن ... أُمُّ الليالي والتنائي هابلُ
وكأنما يومٌ ليومٍ طارِدٌ ... وكأنّما دهرٌ لدهرٍ آكِلُ
في كلِّ يومٍ أَستزيدُ تجارباً ... كم عالمٍ بالشيء وهو يُسائِلُ
محمد بن بشير: من البسيط:
خَلَوْتُ بالبيتِ أرضى بالذي رَضِيَتْ ... به المقاديرُ لا شكوى ولا شَغَبُ
فرداً تحدثني الموتى وتنطق لي ... عن علمِ ما غابَ عنّي منهم الكتبُ
هم مُؤْنسونَ وأُلاّفُّ غَنِيتُ بهم ... فليس لي في أنيسٍ غيرهم أربُ
لله من جُلساءٍ لا جَليسُهم ... ولا عَشِيرُهم للشرِّ مرتقبُ
لا بادِراتُ الأسى يَخشى رفيقُهُم ... ولا يُلاقِيه منهم مَنطِقٌ ذَرِبُ
حتى كأنّيَ قد شاهدْتُ عَصرَهُمُ ... وقد مَضَتْ دونَهم من دهرهم حُقُبُ
ومن المقاصد الغريبة للشعراء قول الرضي يوم خلع الطائع، وكان حاضراً القبض عليه: من البسيط:
أمسَيْتُ أرحَمُ من أصبحتُ أغبِطُهُ ... لقد تقاربَ بين العزِّ والهُونِ
ومنزلٍ كان بالسَّراءِ يُضحكُني ... يا قُرْبَ ما عادَ بالضَّراءِ يُبكيني
هيهاتَ أغترُّ بالسلطانِ ثانيةً ... قد ضلَّ وَلاَّجُ أبوابِ السلاطين
وقال: من البسيط:
كم من غُلامٍ تَرى أَطمارَه مِزَقاً ... والعِرضُ أملسُ والأحسابُ غُرَّانُ
إذا الفتى كان في أخلاقه شَوَهٌ ... لم يُغْنِ إن قِيلَ أَنَّ الوجهَ حُسَّانُ
ومن غريب شعره قوله: من السريع:
متى أرى الزَّوْراءَ مُرتجَّةً ... تُمطرُ بالبيضِ الظُّبا أو تُراحْ
يَصيحُ فيها الموتُ عن ألسُنٍ ... من العوالي والمواضِي الفِصَاحْ
بكُلِّ رَوْعاءَ عُصَيبيَّةٍ ... يحُّثها أرْوعُ شاكي السِّلاحْ
كأَنَّما ينظرُ من ظِلِّها ... نعامةً رائغةً بالجناحْ
متى أَرى الأَرْضَ وقد زُلزِلَتْ ... بعارضٍ أَغبَرَ دامي النّواح
يلتفتُ الهاربُ في عِطْفِهِ ... مُرَوَّعاً يرقبُ وَقْعَ الجِراحْ
متى أَرى البيضَ وقد أُمطِرَتْ ... سيلَ دمٍ يَغلبُ سَيْلَ البِطاح
متى أرى البَيْضَةَ مَصدُوعةً ... عن كلِّ نشوانَ طويلِ المِراح
مُضَمَّخِ الجيدِ نَؤومِ الضُّحى ... كأنَّه العذراءُ ذاتُ الوِشاح
إذا رَداحُ الرَّوْعِ عَنَّتْ له ... فَرَّ إلى ضَمِّ الكَعابِ الرَّداحْ
قومٌ رَضُوا بالعجزِ واستَبْدَلوا ... بالسَّيف يَدمَى غَرْبُه كأسَ راحْ
توارثوا المُلْكَ ولو أَنْجبُوا ... تَوارثُوه عن طِعانِ الرِّماحِْ
غَطَّى رِداءُ العِزِّ عَوْراتِهم ... فافتُضحوا بالذُّلِّ أَيَّ افتضاحْ
وقال: من الطويل:
تغاوَتْ على عِرضي عصائبُ جَمَّةٌ ... ولو شئتُ ما التفَّتْ عليَّ غُواتُها
أولِيهمُ صاَّاءَ أُذْنٍ سَميعةٍ ... إذا ما وَعَتْ أَلْوَتَ بها غَفَلاتُها
يطولُ إِذَنْ همِّي إذا كُنْتُ كلَّما ... سمعتُ نباحاً من طلابٍ خَسَاتُها
همُ استَلْدَغوا رُقْشَ الأَفاعي ونبهوا ... عقاربَ ليلْ نائماتٍ حُماتُها
وهمْ نَقَلوا عنَّي الذي لم أَفُهْ به ... وما آفَةُ الأَخبارِ إِلا رُواتُها
أُريد لأَنْ أَحنو على الضِّغْنِ بيننا ... وتأبى قلوبٌ أَنْغَلَتْها هَناتُها
وما النفسُ في الأَهلين إلا غريبةٌ ... إذا فُقِدَتْ أَشكالُها ولداتُها
بني مطرٍ خَلُّوا نفوساً عزيزةً ... تنامُ فأَوْلى أَن يطولَ سُباتُها
غرستُ غروساً كنتُ أَرجو لَحاقَها ... وآملُ يوماً أَن تَطيبَ جَناتُها
فإن أَثمرَتْ لي غَيْرَ ما كُنْتُ آمِلاً ... فلا ذَنْبَ لي إن حَنْظَلَتْ نَخَلاتُها
وقال أيضاً: من الطويل:
وما قَولَي الأَشعارَ إلا ذريعةً ... إلى أَملٍ قد آنَ قَوْدُ جَنيبهِ
وإني إذا ما بلَّغ الله مُنْيَتي ... ضَمِنْتُ له هَجْرَ القريضِ وحُوبِهِ
فهل عابني قولٌ عَقَدْتُ بفَضْلِهِ ... فَخاري وحصَّنْتُ العُلا بضُروبهِ
وقال محمد بن هانئ: من الطويل:
أمّا وقد لاح الصباحُ بِلمَّتي ... وانجاب عمَّا يَبْتني وتَكشَّفا
فلئنْ صَبَرْتُ لأَصبرنَّ تصنُّعاً ... ولئنْ لَهوْتُ لأَلهوَنَّ تكلُّفا
ولئن ذكَرْتُ الغانياتِ فخَطْرةٌ ... تعتادُ قلباً بالحسانِ مُكلَّفا
ولقد هَزَزْتُ غُصونَها بثمارِها ... وهَصَرْتُهنَّ مُهَفْهفاً فَمُهَفْهَفا
والبان في الكثبان طَوْعُ يدي إذا ... أَومأتُ إِيماءَ إليه تَعطَّفا
ولقد هَزَزْتُ الكأسَ من يَدِ مِثْلِها ... وصحَوْتُ عَّما رقَّ منها أَو صَفا
نوادر من هذا الكتاب.
كبر رجل من الخوارج وهرم حتى لم يكن فيه نهوض، فأخذ منزلاً على ظهر الطريق، فلما جاء مطر وابتلت الأرض أخذ زجاجاً وكسره ورماه في الطريق فإذا مر به رجل وعقر رجله الزجاج، قال الخارجي من وراء الباب: لا حكم إلا لله، اللهم هذا مجهودي.
وكان بالمدينة آخر منهم فرؤي وهو يحذف قناديل المسجد بالحصباء فيكسرها، فقيل له: ما تفعل؟ قال: أنا كما ترى شيخ كبير لا أقدر على أكثر من هذا، أغرمهم قنديلاً أو قنديلين في كل يوم.
قال المدائني: تضيف أعرابي قوماً فأبطأوا بالطعام، فقام يدور في الحي فأصاب دبة فيها سمن، فأدخل يده فيها بلزوجة السمن، ثم ذهب ليخرجها فلم يقدر؛ فاشتمل عليه، فلما خاف أن يفتضح جلس في المجلس وجعل يعتمد عليها ليخرجها، فتدور عيناه في رأسه وينعصر. فقال شيخ: كأن الحواء علينا دائر ورب الكعبة لا والله لا أبيت في الحواء. فخرج إلى غيضة ثم دخل في غصن منها ملتف، وجاء إلى فجوة منه فاستلقى على صخرة؛ وجاء الضيف يطلب شيئاً يكسر به الدابة. فجعل يدور في الغيضة فبصر بصلعة الشيخ تبرق في القمر، فظنها صخرةً فاعتمدها، فضرب بالدبة رأسه ليكسرها، فصاح الشيخ صيحةً اجتمع لها الحي، وهرب الرجل، وأدركوا الشيخ مرتاعاً لا يدري ما أصابه.
كان مخارق المغني صديقاً لأبي العتاهية الشاعر. قال مخارق: فجاءني يوماً فقال لي: قد عزمت على أتزود منك يوماً فهبه لي، فمتى تنشط؟ قال، قلت: متى شئت، قال: أخاف أن تقطع بي، فقال: لا والله لا فعلت ولو طلبني الخليفة، فقال: يكون في غد؟ فقلت: أفعل. فلما كان من غد باكرني رسوله، فجئته، فأدخلني بيتاً له نظيفاً فيه فرش نظيف، ثم دعا بمائدة عليها خبز سميذ وخل وبقل وملح، وعليها جدي حنيذ. فأكلنا منه حتى اكتفينا، ثم أتينا بحلواء فأصبنا منها، ثم دعا بفراخ ودجاج وفراريج مشوية، فأكلنا منها حتى اكتفينا، وغسلنا أيدينا، وجاءونا بفاكهة وريحان وألوان من الأنبذة، فقال: اختر ما يصلح لك، فاخترت وشربت؛ وصب قدحاً ثم قال: غنني في قولي: من الخفيف:
قال لي أحمد ولم يدرِ ما بي.
فغنيته، فشرب قدحاً وهو يبكي أحر بكاء. ثم قال: غنني في قولي: من السريع:
ليس لما ليسَتْ له حيلةٌ
فغنيته وهو يبكي وينشج، وشرب قدحاً آخر وقال: غنني، فديتك، في قولي: من الطويل:
خَلِيلَيَّ ما لي لا تزالُ مَضَرَّتِي.
فغنيته إياه. وما زال يقترح علي كل صوت غني به في شعره فأغنيه ويشرب ويبكي حتى صارت العتمة. فقال لي: أحب أن تصبر حتى ترى ما أصنع فجلست، فأمر ابنه وغلامه فكسرا كل ما بأيدينا من النبيذ وآلاته والملاهي، ثم أمر بإخراج كل ما في بيته من النبيذ وآلاته، فأخرج جميعه، فما زال يكسره ويصب النبيذ ويبكي حتى لم يبق من ذلك شيء، ثم نزع ثيابه واغتسل ولبس ثياباً بيضاً من الصوف، ثم عانقني وبكى، وقال: عليك السلام يا حبيبي وفرحي من الناس كلهم سلام الفراق الذي لا لقاء بعده؛ وجعل يبكي، وقال: هذا آخر عهدك بي في حال تعاشر أهل الدنيا، فظننت أنها بعض حماقاته، فانصرفت فما لقيته زماناً. ثم تشوقته فأتيته فاستأذنت عليه، فدخلت فإذا هو قد أخذ قوصرتين فثقب إحداهما وأدخل رأسه ويديه فيها وأقامها مقام القميص، وثقب أخرى وأخرج رجليه منها وأقامها مقام السراويل. فلما رأيته نسيت كل ما كان عندي من الغم عليه والوحشة لعشرته، وضحكت ضحكاً ما ضحكت مثله قط. فقال: من أي شيء تضحك لا ضحكت! فقلت: سخنت عينك! هذا أي شيء هو؟ ومن بلغك عنه أنه فعل مثل هذا من الأنبياء أو الزهاد أو الصحابة أو المجانين؟ انزع هذا عنك يا سخين العين! فكأنه استحيا مني. ثم بلغني أنه جلس حجاماً، فجهدت أن أراه بتلك الحال فلم أره. ثم مرض فبلغني أنه اشتهى أن أغنيه، فأتيت عائداً، فخرج إلي رسوله يقول: إن دخلت إلي جددت لي حزناً وتاقت نفسي إلى سماعك وإلى ما قد غلبتها عليه، وأنا أستودعك الله وأعتذر إليك من ترك الالتقاء، ثم كان آخر عهدي به.
قيل لأبي العتاهية عند الموت: ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن يجيء مخارق فيضع فمه على أذني ثم يغنيني: من الطويل:
سَيُعْرَضُ عن ذكري وتُنْسَى مَوَدتي ... ويَحْدُثُ بعدي للخليلِ خليلُ
إذا ما انقضت عني من الدهر مُدَّتي ... فإنَّ غَنَاءَ الباكياتِ قليلُ
طلق أعرابي امرأته فتزوجها الأخطل، وكان الأخطل قبل ذلك قد طلق امرأته الأولى، فتنفست، فقال الأخطل: من الطويل:
كلانا على همٍّ يَبيتُ كأنّما ... بِجَنبَيْهِ من مَسِّ الفراشِ قُروحُ
على زوجَها الماضي تَنوحُ وإنّني ... على زوجتي الأخرى لذاكَ أَنوحُ
حدث أبو ظبيان الحمامي قال: اجتمعت جماعة من الحي على شراب لهم فتغنى رجل منهم بقول حسان: من الكامل:
أولادُ جفنةَ حولَ قبرِ أبيهمُ ... قبرِ ابنِ ماريةَ الكريمِ المُفْضلِ
فقال رجل من القوم: ما معنى قوله: من الكامل:
إنّ التي عاطَيْتَني فردَدْتُها
فجعلها واحدة ثم قال:
كلتاهما حَلَبُ العصيرِ
فجعلهما اثنتين؟ فلم يقل أحد الجواب، فقال رجل من القوم: امرأته طالق ثلاثاً إن بات أو يسأل القاضي عبيد الله بن الحسن عن تفسير هذا الشعر. فأسقط في أيدينا ليمينه، ثم اجتمعنا على إتيان عبيد الله؛ قال: فأتيناه نتخطى إليه الإحياء حتى أتيناه وهو في مسجده يصلي بين العشائين، فلما سمع حسنا أوجز في صلاته، ثم أقبل علينا وقال: ما حاجتكم، فبدأ رجل منا وكان أحسننا بقيةً، قال: نحن أعز الله القاضي قوم نزعنا إليك من طرق البصرة في حاجة مهمة فيها بعض الشيء، فإن أذنت لنا قلنا، قال: قولوا؛ فذكر يمين الرجل والشعر؛ فقال: أما قوله:
إن التي ناولتني
يعني الخمرة، وقوله: قتلت أي مزجت بالماء، وقول:
كلتاهما حلب العصير
يعني الخمر ومزاجها فالخمر عصير العنب والماء عصير السحاب. قال الله تعالى: وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً. انصرفوا إذا شئتم.
قال دليم بن مرة الجهني لتاجر أخذ منه مالاً وكان اسم التاجر عرابة: من الطويل:
الله لقّى من عرابةَ بَيْعةً ... على حين كان النقد يَعْسُرُ عاجلُهْ
ولوَّى بنانَ الكفِّ يحسُبُ ربحَه ... ولم يحسُبِ المطلَ الذي أنا ماطلُهْ
سيرضى من الربح الذي كان يرتجي ... ببعضِ الذي اعضى وما هو نائله
وقال صهيب بن نبراس العنبري: من الطويل:
ومُصفرَّةٍ عيناه يَرشحُ وجهُهُ ... لحبِّ القضاء قد لَوَيْتُ لياليا
وكلُّ غريمٍ حَظُّه جَحْدُ مالِهِ ... إذا شحّ يوماً أو أساءَ التقاضيا
كان تاجر من أهل الثعلبية يقال له يحيى بن جابر يبيع الأعاريب ويعينهم. فتعين منه رجلان من بني أسد يقال لهما طريف بن منظور وحسن بن مطير، وفخما له في الربح حتى بلغا ما أحب فلما انصرفا لحاجتهما قال طريف: من الطويل:
أقولُ غداة الثعلبية بعد ما ... حَوَيْنا على أوراقِ يحيى بن جابرِ
لحصنٍ وكان المرءُ يُفضي بِسِّرهِ ... إليّ ولا أُخفِي عليه سرائري
أيطمعُ يحيى في الوفاء وقد عدا ... على مالِنَا في البيعِ عدوةَ فاجرِ
فلا يحسَبِ الكوفيُّ أنّ عقولَنا ... هَفَتْ عن حسابٍ مُثَبتٍ في الدفاتر
ولكنّني أغرقتُ في الربح وانثنى ... وليس له علمٌ بصفقةِ خاسر
فلا يرجونْ يحيى اختباراً وقد رمى ... بسلعته المغبونُ في قعر زاخر
وقال عويف القوافي: من البسيط:
أفٍ لكم ولعقلٍ بين أضلعكم ... ماذا وثقتُم به منّي ومن ديني
من أفلسِ الناسِ من دِينْ ومن حَسَبٍ ... وأظلمِ الناسِ طُرّاً للمساكين
وقال وبر بن معاوية الأسدي: من البسيط:
إني وجدِّك ما أقْضي الغريمَ إذا ... حانَ القضاءُ ولا تأوي له كبدي
إلا عصا أَزْزَنٍ طالَتْ بُرَايَتُها ... تنوءُ ضربَتُها بالكفِّ والعضُدِ
كان بالمدينة تاجر يقال له سيار بن الحكم يداين الأعراب؛ فأخذ منه أبو النباش مالاً وأرغبه في الربح وانصرف؛ فغاب عنه مدةً ثم دخل المدينة مستخفياً، واتصل خبره بالتاجر، فطلبه بماله عنده، واستغوى جماعة من التجار عليه؛ فلما رأى ما دفع إليه ولم يقدر على الحجود للصك الذي عليه وللجماعة الذين اجتمعوا، قال لهم: صيروا معي إلى شارع بني فلان فإن لي جلباً أقدر على موافاته ودفع المال إلى صاحبكم منه، ففعلوا. فلما تمكن من الهرب سبقهم حضراً على رجليه، وطلبوه فأعجزهم، وانصرفوا يتذامرون ويرجعون باللوم على صاحبهم، فقال أبو النباش عند ذلك أبياتاً شرح الحال فيها وقال في آخرها: من البسيط:
لما رأَوْني وقد فُتُّ النجاءَ بهم ... سعياً يُقصِّر عنه كلُّ طيارِ
قالوا لصاحبهم هيهاتَ نلحقُهُ ... فارجعْ بنا ودعِ الأعرابَ في النار
إن القضاءَ سيأتي دونَه أمَدٌ ... فاطوِ الصحيفةَ واحفَظْها من النار
وقال أبو الربيس الكلابي في غريم له يقال له مكحول كان عند مبايعته إياه لم يسأله عن سعر ولا نقصان كيل، بل كان يستصلح جميع ما يدفعه إليه خديعةً ومكراً. فلما بلغ منه ما أراد لحق بالبادية: من الطويل:
أما رابَ مكحولاً سماحي وأننّي ... إذا بلغ البيعُ المِكاسَ أُسامحُ
وقولي ولم يبلغْ رضايَ ولا دنا ... رضِيتُ وهذا من شرا الناسِ صالحُ
سيعلمُ مكحولٌ إذا ضَمَّ رُقعةً ... لها طينةٌ أيَّ الفريقين رابحُ
كان أبان بن عثمان بن عفان من أهزل الناس وأعبثهم وأولعهم؛ وبلغ من عبثه أنه كان يجيء بالليل إلى منزل رجل من أهل المدينة له لقب يغضب منه فيقول: أنا فلان بن فلان ثم يقف فيلقبه فيشتمه أقبح شتم، وأبان يضحك. فبينا هو ذات يوم جالس وعنده أشعب إذا أقبل أعرابي معه جمل، والأعرابي أشقر أزرق أزعر يتلظى كأنه أفعى ويتبين الشر في وجهه، ما يدنو منه أحد إلا شتمه ونهره. فقال أبان: هذا والله من البادية، ادعوه لي. فدعوه له وقيل له: إن الأمير أبان بن عثمان يدعوك. فأتاه فسلم عليه وسأله أبان عن نسبه فانتسب له وقال: حياك الله يا خالي، حبيب ازداد حباً، فجلس، فقال له: إني في طلب جمل مثل جملك هذا منذ زمان فلم أجده كما أشتهي بهذه الصفة وهذه الهامة والصورة والورك والأخفاف، فالحمد لله الذي ظفرني به عند من أحبه، أتبيعه؟ فقال: نعم أيها الأمير؛ قال: فإني قد بذلت لك به مائة دينار؛ وكان الجمل يساوي عشرة دنانير. فطمع الأعرابي وسر وانتفخ، وبان الطمع في وجهه، فقال أبان لأشعب: ويلك يا أشعب، إن خالي هذا من أهلك وأقاربك - يعني في الطمع - فأوسع له فيما عندك؛ فقال: نعم بأبي أنت وأمي وزيادة؛ فقال له أبان: يا خال إنما زدتك في الثمن على بصيرة أن الجمل يساوي ستين ديناراً، ولكني بذلك لك مائةً لقلة النقد عندنا، وأنا أعطيك به عروضاً تساوي مائة.
فزاد طمع الأعرابي وقال: لقد قبلت ذلك يا أمير المؤمنين. وأسر إلى أشعب، فأخرج شيئا مغطى فقال: أخرج ما جئت به، فأخرج جرد عمامة خلقة تساوي أربعة دراهم، فقال: قومها يا أشعب. فقال: عمامة الأمير تعرف به ويشهد فيها الأعياد والجمع ويلقى فيها الخلفاء: خمسون ديناراً. قال: ضعها بين يديه وقال لابن رميح أثبت قيمتها، فكتب ذلك ووضعت العمامة بين يدي الأعرابي، فكاد يدخل بعضه في بعض غيظاً، ولم يقدر على الكلام، ثم قال: هات قلنسوتي، فأخرج قلنسوةً طويلةً خلقةً قد علاها الوسخ والوهن والدهن تساوي نصف درهم. فقال: قوم، فقال: قلنسوة الأمير تعلو هامته ويصلي فيها الصلوات الخمس، ويجلس فيها للحكم: ثلاثون ديناراً. قال: أثبت، فأثبت ذلك، ووضعت القلنسوة بين يدي الأعرابي، فتربد وجهه وجحظت عيناه، وهم بالوثوب ثم تماسك وهو مقلقل. ثم قال لأشعب: هات ما عندك فأخرج خفين قد نقبا وتقشرا وتفتقا، فقال: قوم، فقال: خفا الأمير يطأ بهما الروضة ويعلو بهما منبر النبي صلى الله عليه وسلم: أربعون ديناراً، قال: ضعها بين يديه.
ثم قال للأعرابي: اضمم إليك متاعك. وقال لبعض الأعوان: امض مع الأعرابي. فأخذ القماش فضرب به وجه القوم لا يألو في شدة الرمي، ثم قال: أتدري أصلحك الله من أي شيء أموت؟ قال: لا، قال: كيف لم أدرك أباك عثمان فأشرك والله في دمه إذ ولد مثلك؛ ثم نهض كالمجنون حتى أخذ برأس بعيره. وضحك أبان حتى سقط، وضحك كل من كان معه. وكان الأعرابي بعد ذلك إذا لقي أشعب يقول: هلم إلي يا ابن الخبيثة حتى أكافيك على قيمتك المتاع يوم قوم، فيهرب أشعب منه.
تزوج نديم لأبي شراعة القيسي يقال له تبان امرأةً فاتفق عرسه في ليلة طلق فيه أبو شراعة امرأةً كانت له، فعوتب في ذلك وقيل له: بات تبان عروساً وبت عزباً، فقال في ذلك: من الطويل:
أتت عرس تبّانٍ فهبَّتْ تلومُني ... رُويدَكِ لوماً فالمطلِّقُ أحْوَطُ
رويدَكش حتى يرجعَ البرّ أهله ... وترحمَ ذات العرس من حيث تغبطُ
إذا قال للطحان عند حسابه ... أعدْ نظراً إني إخالُكَ تغلطُ
فما راعه إلا دعاءُ وَليدةٍ ... تعلم إلى السَّوَّاق إن كنتَ تنشطُ
هنالك يدعو أمَّه فيسبُّها ... ويلتبسُ الأجرَ العُقوقُ فيَحبَطُ
فنادى العلى إني لفضلك شاكرٌ ... أَبيتُ وحيداً كلما شئتُ أضرطُ
ثم بلغه عن تبان هذا أنه عجز عن امرأته ولم يصل إليها ولقي منها شراً، فقال فيه: من الطويل:
رمى الدهرُ في صَحْبي وفرَّقَ جَلاّسي ... وأبعدَهُم عني بظعنٍ وإعراسِ
وكلُّهمُ يبغي غلافاً لأيره ... وأقعدني عن ذاك فقري وإفلاسي
فشكراً لرّبي خان تبّانَ أيرُه ... وأسعى بأيري في الظلام على الناس
يمسّحه بالكفِّ حتى يُقيمَه ... فهل ينفعُ الكفَّانِ من ثِقَلِ الراس
قال حماد بن الزبرقان: حفظت ما لم يحفظ أحد ونسيت ما لم ينس أحد. كنت لا أحفظ القرآن فأنفت أن أجيء بمن يعلمني، فحفظته من المصحف في شهر واحد، ثم قبضت يوماً على لحيتي لأقص ما فضل عن قبضتي فنسيت أني أحتاج أن أقص ما دون فقصصت أعلاها، فاحتجت أن أجلس في البيت سنة حتى استوت.
قال أبو العنبس الصيمري: أنا وأخي توأمان، وخرجت أنا وهو في يوم واحد، ودخلنا سر من رأى في وقت واحد، فولي هو القضاء وصرت أنا صفعان، فمن أين يصح علم النجوم؟ ابن الرومي: من الكامل المجزوء:
كم تائهٍ بولاية ... وبعزله يعدو البريدُ
سُكر الولاية طيِّبٌ ... وخُمارُه صعبٌ شديدُ
قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد: دخلت البيمارستان فرأيت جماعةً من المجانين على أحوال مختلفة، ومررت على شيخ منهم تلوح صلعته وتبرق جبهته بالدهن عليها، وهو جالس على حصير نظيف، وجهه إلى القبلة وكأنه يريد الصلاة، فجاوزته إلى غيره، فنادى: سبحان الله أين السلام؟ من المجنون أنا وأنت؟ فاستحييت وقلت: السلام عليكم؛ فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا الرد الحسن عليك، غير أنا نصرف سوء أدبك إلى أحسن جهاته من العذر، لأنه يقال: للداخل على القوم دهشة، اجلس أعزك الله عندنا، وأومأ إلى حصيره فنفضه كأنه يوسع لي، فعزمت على الدنو منه، فبادأني القيم بأمرهم: إياك إياك! فأحجمت. ثم قال وقد كانت معي محبرة: ما هذا؟ أتجالس أصحاب الحديث الأغثياء أم الأدباء أصحاب النحو والشعر؟ قلت: الأدباء، قال: أفتعرف الذي يقول فيه: من المديد المجزوء:
وفتىً من مازنٍ ... ساد أهلِ البصره
أمُّه معرفةٌ ... وأبوه نكره
قلت: لا أعرفه.قال: أفتعرف غلاماً قد نبغ في هذا العصر معه ذهن وله حفظ، قد برز في النحو وجلس في مجلس صاحبه وشاركه فيه يعرف بالمبرد؟ قلت: والله أنا عين الخبير به. قال: فهل أنشدك شيئاً من شعره؟ فقلت: لا أحسبه يقول الشعر؟ قال: يا سبحان الله! أليس هو الذي يقول: من الرمل المجزوء:
حَبَذا ماءُ العناقي ... دِ بريقِ الغانياتِ
بهما ينبتُ لحمي ... ودمي أيَّ نباتِ
أيُّها الطالبُ أشهى ... من لذيد الشهواتِ
كُلْ بماءِ المزنِ تفّا ... حَ الخدودِ الناعماتِ
قلت: قد سمعته ينشد في مجالس الأنس؟ قال: يا سبحان الله! أو يستحي أن ينشد هذا حول الكعبة؟ ما تسمع الناس يقولون في نسبه؟ قلت: يقولون هو من الأزد، أزد شنوءة، ثم من ثمالة، قال: قاتله الله ما أبعد غوره، أتعرف قوله: من الوافر:
سألنا عن ثُمالَة كلَّ حيٍّ ... فقال القائلون ومَن ثُمالَهْ
فقلتُ محمَّدُ بنُ يزيدَ منهم ... فقالوا زدْتَنا بهمُ جَهَالَه
فقال لي المبرِّد خلِّ قومي ... فقومي معشرٌ فيهم نَذالَه
قلت: أعرف هذه الأبيات لعبد الصمد بن المعذل يهجوه بها، فقال: كذب والله كل من ادعى هذه غيره، هذا كلام رجل لا نسب له يريد أن يثبت له بهذا الشعر نسباً. قلت: أنت أعلم، قال لي: يا هذا قد غلبت لخفة روحك على قلبي، وتمكنت بفصاحتك من استحساني، وقد أخرت ما كان يجب أن أقدمه، ما الكنية أصلحك الله؟ قلت: أبو العباس، قال: ما الاسم؟ قلت: محمد، قال: فالأب؟ قلت: يزيد. قال: قبحك الله! أحوجتني إلى الاعتذار إليك مما قدمت، ثم وثب باسطاً يده ليصافحني، فرأيت القيد في رجليه قد شد إلى خشبة في الأرض، فأمنت عند ذلك غائلته؛ فقال: يا أبا العباس: صن نفسك عن الدخول إلى هذه المواضع، فليس يتهيأ لك في كل وقت أن تصادف مثلي على هذه الحال الجميلة، أنت المبرد؛ وأخذ يصفق، وانقلبت عيناه وتغيرت خلقته. فبادرت مسرعاً وقبلت والله قوله، فلم أعاود الدخول عليهم بعد ذلك.
قال أبو العيناء: كان بالبصرة مقين له جوار فغشي الناس منزله لأجلهن، فحضر يوماً عنده جماعة فيهم قوم من المهلبة. فلما كان وقت العشاء جاء غلام لبعض المهالبة الحاضرين بمئزر مقلوب فوضعه بين يدي صاحبه، وإذا فيه بسر مسكر باكورة، ولم يكن رأوا قبله منه شيئاً، وكان فيمن حضر العطوي الشاعر، فقال المهلبي: أطعمني فديتك من هذه الباكورة، فتغافل عنه فقال المقين صاحب الدار: فأطعمني أنا منها. فتناول منها شيئاً فأعطاه، فقال له العطوي: أطعمني مما أعطاك، فقال: لا أفعل، فقال في الحال: من المتقارب:
جواريك أطعَمْنَكَ السكّرا ... وأنزلْنَك المنزلَ الأكبرا
ولولا جواريك ما أطعموك ... على قُبحِ وجهك إلا خرا
فضحك كل من حضر منه، وأخذ المهلبي جميع ما في المئزر من البسر فرمى به إلى العطوي.
قال أحمد بن أبي طاهر: خرجت من دار الوزير أبي الصقر القاسم إسماعيل بن بلبل نصف نهار يوم في تموز، فملت إلى دار أبي العباس المبرد لقربها، فأدخلني خيشاً له، وقدم إلي شيئاً أكلته، وسقاني ماءً بارداً، وحدثني أحسن حديث إلى ن نمت، فحضرني لشقائي وقلة شكري بيتان فاستأذنته في إنشادهما فقال: ذاك إليك وهو يظنني مدحته فأنشدته: من الطويل:
ويومٍ كحرِّ الشوق في صدرِ عاشقٍ ... على أنّه منه أحرُّ وأوْقَدُ
ظلَلْتُ به عند المبرِّدِ قائِلاً ... فما زلتُ في ألفاظه أتبرَّدُ
فقال لي: قد كان يسعك إذ لم تحمد أن لا تذم، وما لك عندي جزاء إلا إخراجك، والله لا جلست، فأخرجني فمشيت إلى منزلي بباب الشام، فمرضت مما نالني من الحر وقعدت ألوم نفسي.
حم المنصور في بعض الليالي فأرق فقال للربيع: أحتاج إلى إنسان يحدثني ويؤنسني، فقال: قد وجدته، فقال: من هو؟ قال ابن عياش المنتوف؛ قال: يبرمني بالأسئلة ويضاعف علي العلة، قال: قد أعطيته من مالي ألف درهم وأمرته أن لا يسألك شيئاً. قال: هات حدثني قال: نعم يا أمير المؤمنين، خرجت يوماً للصيد إلى وادي القرى، فألجأني الحر إلى موضع فيه طاق كبير، وإذا بامرأة عجوز جالسة، فقلت لها: هل عندك شيء يؤكل؟ قالت: لا، وإذا في البيت زنبيل معلق، فقلت لها: خذي هذه الدراهم فاشتري لي لحما وفاكهة. وخرجت فحذفت الزنبيل بالسيف فسقط قطع العود قد عشب، فأكلته كله، وإذا هو أحلى من السكر، فلما رجعت قلت لها: يا كذابة! زعمت أنه ليس عندك ما يؤكل، وكان في الزنبيل ما فيه. قالت: أوأكلته؟ فقلت: نعم. قالت لي: هذه جارية ختانة كانت تجيء بالبظور فتلقيها في هذا الزنبيل، فهنأك الله ما أكلته. فضحك المنصور ضحكاً شديداً وقال: يا ربيع، ادفع إليه ألف درهم. فلما خرج قال ابن عياش للربيع: ارجع إليه وحس عرقه، فإني أخشى أن يكون محموماً فيرجع فيها إذا أفاق. فعاد الربيع وحدث المنصور بذلك فقال: أضعفها له وعجلها.
قال محمد بن عبد الرحمن العزمي: كنت عند أبي بكر بن عياش وجاءه أصحاب الحديث فأذوه فبعث إلى صاحب الربع فجاءه، فقال له: حاجتك يا أبا بكر؟ قال: أقم هؤلاء عني. قال: وما حالهم؟ قال: قد آذوني فأضجروني. قال: ترفق هؤلاء عني. قال: فقد قصدوك ولهم حق. فغضب وقال: انظروا إلى هذا الشبارك ثم قال: أتدرون ما الشبارك؟ قالوا: لا. قال: كانت امرأة بالكوفة ولها زوج قد عسر عليها المعاش، فقالت له: لو خرجت فضربت في البلاد وطلبت من فضل الله. فخرج إلى الشام فتكسب ثلاثمائة درهم، فاشترى بها ناقةً سمينةً فارهةً، فركبها وسار عليها، فأضجرته وحلف بطلاق امرأته ليبيعها بدرهم يوم يقدم الكوفة، فقالت امرأته: ما جئت به؟ قال: أصبت ثلاثمائة درهم فاشتريت هذه الناقة فأضجرتني، فحلفت بطلاقك ثلاثاً أني أبيعها يوم أقدم الكوفة بدرهم، قالت: أنا أحتال لك. فعلقت في عنق الناقة سنوراً، وقالت: أدخلها السوق فناد من يشتري السنور بثلاثمائة درهم والناقة بدرهم، ولا أفرق بينهما. قال: ففعل؛ فجاء أعرابي فجعل يدور حول الناقة ويقول: ما أسمنك ما أفرهك ما أرخصك لولا هذا الشبارك.
قيل لما حضرت الفراء النحوي الوفاة دخل إليه بعض أصحابه فقال له: ما قال لك الطبيب؟ فقال: وما عسى أن يقول الطبيب إن صحةً وإن مرضاً، إن رفعاً فرفعاً، وإن نصباً فنصباً، وإن خفضاً فخفضاً. قال: فكان هذا آخر ما تكلم به، ثم مضى، رحمه الله.
دخل رجل على مغنية وقد حضرتها الوفاة، فقال لها: قولي لا إله إلا الله، فقالت من الكامل: ؟؟أزِفَ الرحيلُ وشُدَّتِ الأحداجُ ودخل رجل على زفر، رحمه الله، وهو يجود بنفسه، فشاهده فقال: الجواب عن هذا أن يدفع إلى إحدى المرأتين ستة أسباع الصداق.
واحتضر رجل كان يجيد اللعب بالشطرنج. فقيل له: قل لا إله إلا الله، فقال: شاه مات.
قيل إن الحجاج بعث بالغضبان بن القبعثرى ليأتيه بخبر عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث وهو بكرمان، وبعث عليه عيناً، وكذاك كان يفعل، فلما انتهى الغضبان إلى عبد الرحمن قال له: ما وراءك؟ قال: شر، تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك. وانصرف الغضبان فنزل رملة كرمان، وهي أرض شديدة الرمضاء، فبينا هو كذلك إذ ورد عليه أعرابي من بني بكر بن وائل على فرس له يقود ناقةً، فقال: السلام عليك، فقال الغضبان: السلام كثير وهي كلمة مقولة. قال الأعرابي: ما اسمك؟ قال: اخذ. قال: أفتعطي؟ قال: لا أحب أن يكون لي اسمان. قال: من أين أقبلت؟ قال: من الدلول. قال: وأين تريد؟ قال: أمشي في مناكبها. قال: من عرض اليوم؟ قال: المتقون. قال: فمن سبق؟ قال: الفائزون. قال: فمن غلب؟ قال: حزب الله. قال: فمن حزب الله؟ قال: هم الغالبون. فعجب الأعرابي من منطقه، قال له: أتقرض؟ قال: إنما تقرض الفارة. قال: أفتسمع؟ قال: إنما تسمع القينة. قال: أفتنشد؟ قال: إنما تنشد الضالة. قال: أفتقول؟ قال: إنما يقول الأمير. قال: تتكلم؟ قال كل متكلم. قال: أفتنطق؟ قال: إنما ينطق كتاب الله. قال: أفتسمع؟ قال: حدثني حتى أسمع. قال: أفتسجع؟ قال: إنما تسجع الحمامة. قال الأعرابي: تالله ما رأيت كاليوم قط، قال: بلى ولكنك نسيت. قال الأعرابي: فكيف أقول؟ قال: لا أدري والله. قال الأعرابي: كيف ترى فرسي هذا؟ قال الغضبان: هو خير من آخر شر منه وأخر خير منه وأفره منه. قال الأعرابي: إني قد علمت ذاك، قال: لو علمت لم تسألني. قال الأعرابي: إنك لمنكر، قال الغضبان: إني لمعرف. قال: ليس ذلك أريد، قال: فما تريد؟ قال: أردت إنك لعاقل، قال: أفتعقل بعيرك هذا؟ قال: لا، أفتأذن لي فأدخل عليك؟ قال الغضبان: وراءك أوسع لك. قال الأعرابي: قد أحرقتني الشمس، قال: الساعة يفيء عليك الفيء. قال الأعرابي: إن الرمضاء قد آذتني، قال: بل على قدمك. قال: قد أوجعني الحر، قال الغضبان: ما لي عليك سلطان. قال الأعرابي: إني لا أريد طعامك ولا شرابك، قال: لا تعرض بهما، فو الله لا تذوقهما. قال الأعرابي: أما عندك غير هذا، قال: بلى هراوتان أضرب بهما رأسك. قال الأعرابي: والله إني لأظنك مجنوناً، فقال الغضبان: اللهم اجعلني ممن يرغب إليك. قال: إني لأظنك حرورياً قال: اللهم اجعلني ممن يتحرى الخير. ثم قال له الغضبان: أهذا البعير لك يا أعرابي؟ قال: نعم، فما شأنه؟ قال: أرى فيه داء فهل أنت بائعه ومشتر ما هو شر منه؟ فولى الأعرابي وتركه وهو يقول: والله إنك لبذخ أحمق.
فلما قدم الغضبان على الحجاج قال: كيف تركت أهل كرمان؟ قال: أصلح الله الأمير، أرض ماؤها وشل، وثمرها دقل، ولصها بطل، والجيش فيها ضعاف، إن كثروا بها جاعوا، وإن قلوا بها ضاعوا. قال له الحجاج: أما إنك صاحب الكلمة التي بلغتني عنك حين قلت: تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك. قال الغضبان: أما إنها جعلني الله فداك لم تنفع من قيلت له، ولم تضر من قيلت فيه. قال الحجاج: اذهبوا به إلى السجن. فمكث فيه إلى أن بنى الحجاج قبة خضراء في واسط أعجبته كما لم يعجبه بناء قط. فقال لمن حوله: كيف ترون قبتي هذه؟ قالوا: أصلح الله الأمير ما بنى ملك مثلها. ولا نعلم للعرب مأثرةً أفضل منها. قال الحجاج: أما إن لها عيباً وسأبعث إلى من يخبرني به. فبعث إلى الغضبان فأقبل يرسف في قيوده، فلما دخل عليه سلم فقال له الحجاج: كيف ترى قبتي هذه؟ قال: أصلح الله الأمير، هذه قبة بنيت في غير بلدك لغير ولدك، لا يسكنها وارثك ولا يدوم لك بقاءها، كما لم يدم هالك ولم يبق فان، وأما هي فكأن لم تكن. قال: صدق ردوه إلى السجن فإنه صاحب الكلمة التي بلغتني عنه، قال: أصلح الله الأمير، ما ضرت من قيلت فيه ولا نفعت من قيلت له. وقال: أتراك تنجو مني لأقطعن يديك ورجليك ولأكوين عينيك. قال: ما يخاف وعيدك البريء، ولا ينقطع منك رجاء المسيء. قال: لأقتلنك إن شاء الله، قال: بغير نفس والعفو أقرب للتقوى. قال الحجاج: إنك لسمين، قال: لم كان القيد والرتعة، ومن يك جار الأمير يسمن. قال له الحجاج: ردوه إلى السجن، قال: أصلح الله الأمير، قد أثقلني الحديد فما أطيق المشي، قال: احملوه لعنه الله. فلما حملته الرجال على عواتقها، قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. قال: أنزلوه أخزاه الله. قال: اللهم أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين قال: جروه أخزاه الله، قال: باسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم.
قال الحجاج: ويحكم! أتركوه فقد غلبني بخبثه، ثم أمر بإطلاقه.
قال زيد بن جدعان: قدمت على معاوية فأنزلني عليه، فكنت أتغدى عنده وأتعشى معه. فبينا أنا عنده إذ خرجت من داره وصيفه فدخلت بيتاً من بيوته، فقال لي معاوية: لولا مكانك لقد كنت أشتهي أن أصيب منه.
قلت: يا أمير المؤمنين، فلا يمنعك مكاني. قال: فقام فدخل عليها. فبينما هو يريد منها ذاك إذ علمت امرأته وهجمت عليه وأنا جلس، فخرجا وقد لبب كل واحد منهما صاحبه. قال: فجعل معاوية يقول: يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام. قال: فلم تكلمه حتى أدخلته قصره. قال: وبقيت في موضعي إلى العشاء، وراح الناس إليه، فذهب بي النوم فلم أنتبه إلا في جوف الليل. قال: وهو في موضعه الذي يبيت فيه. قال: فقمت فإذا الأبواب مغلقة والسرج تزهر. قال: فدخلت تحت السرير، فلما ذهب هوي من الليل جاء معاوية، فجلس على السرير ثم دعا امرأته فعراها، فجعلت تقبل وتدبر. قال: فبينا هي مقبلة إليه إذ قالت: يا سوأتا! تحت السرير، رجل. قال: فقام معاوية فأخرجني من تحت السرير، وقال: ويحك! رأيت الذي رأيت؟ قلت: نعم. قالت امرأته: ما زال هذا. منذ اليوم والليلة. قال، فقال: ويحك! ارفع إلينا حوائجك ولا تخبر بما رأيت أحداً. قال: فقضى لي حوائجي وخرجت من عنده.
وروي عن الأحنف أنه دخل على معاوية يوماً فخرجت من داره وصيفة فدخلت بيتاً من بيوته، فقال: يا أبا بجر، أنا والله أحب هذه الوصيفة وقد أمكنني منها الخلوة لولا مكانك. قال، فقال الأحنف: فأنا أقوم، فقال: لا بل تجلس لئلا تستريب بنا ابنة قرظة؛ وكأنها قد أوذنت به، فقالت للأحنف: يا قواد! أين هذا الفاسق؟ فأومأ الأحنف إلي البيت الذي هو فيه: فأخرجته ولحيته في يدها، فقال: الأحنف: ارفقي بأسيرك يرحمك الله. فقالت: يا قواد! وتتكلم أيضاً؟! وقام الأحنف فانصرف.
كان عند إبراهيم الحربي رجل ضرير فقرأ ولم يكن طيب الصوت فقال إبراهيم: من الهزج:
هما اثنان إذا عُدّا ... فخيرٌ لهما الموتُ
فقيرٌ ما له زهدٌ ... وأعمى ما له صوتُ
قال الجاحظ: ما خجلني إلا امرأة جملتني إلى صائغ فقالت: مثل هذا. فبقيت مبهوتاً، فسألت الصائغ، فقال: هي امرأة استعملتني صورة شيطان، فقلت: لا أدري كيف أصوره، فأتت بك، وقالت: مثله.
وقد اتفق في عصرنا مثل هذا. كان من حواشي دار الخلافة حاجب يعرف بابن الحسام، عظيم الخلقة وحشيها، ومع هذا يميل إلى النساء ويظن أنهن يهوينه. فتعرضت له امرأة وأطعمته في نفسها، وواعدته دكان بعض الصاغة وأن يكون اجتماعهما هناك. فتزين وتأهب وقصد ذلك الدكان ينتظرها، وأبطأت المرأة، فلما فرغ الصائغ من مراده قال له: يا سيدي قم في دعة الله، قال له: ويلك! وما ذاك؟ قال: إن امرأةً استعملتني صورة جني، فقلت: ما رأيت جنياً قط، فقالت: أنا أنفذ إليك رجلاً هو الصورة المطلوبة، وقد رسمت لها ما أردت. فشتمه وانصرف.
قال العتبي: سرح المهدي لحيته ثم قبض عليها فكأنه استصغرها، فأحس به أعربي فقال: يا أمير المؤمنين، إن لحيتك لجميلة أصيلة، لم فتسمج ولم تصغر فتستقبح، بل خرجت بمقدر من صانع أحكم صنعتها وأحسن نباتها، فمن رأى صاحبها أفلح، ومن طلب إلى حاملها أنجح، ثم قال: من الكامل المجزوء:
لا تُعجَبَنَّ بلحيةٍ ... كثَّتْ منابِتُها طويله
يَهوِي بها عصفُ الريا ... حِ كأنها ذنب السَّخيله
قد يرزقُ الشرفَ الفتى ... يوماً ولحيته قليله
فأعجب بكلامه ووصله.
قال المنصور لابن عياش المنتوف: لو تركت لحيتك، أما ترى عبد الله ابن الربيع ما أحسنه؟ قال: والله يا أمير المؤمنين لأنا أحسن منه. قال: يا سبحان الله وتحلف أيضاً؟ قال ابن عياش؟ لئن لم تصدقني فاحلق لحيته وأقمه إلى جانبي ثم انظر أينا أحسن.
عبد الله بن إسحاق بن سلام المكاري: من الكامل:
وتكيدُ ربَّكَ في مغارسِ لحيةٍ ... الله يزرعُها وكفُّك تحصدُ
تأبى السجودَ لمن بَراكَ تمرُّداً ... وترى العبيدَ الأرذلينَ فتسجدُ
آخر: من الكامل المرفل:
خرجوا ليستسقوا وقد نشأت ... بحريةٌ قَمِنٌ بها السفحُ
فانجابَتِ السحبُ التي نشأتْ ... فكأنّما خرجوا ليستَصْحُوا
وقع أعرابي إلى أرض أصبهان في أيام الربيع فاستطاب الهواء وأنس بالأشجار، فلما جاء الشتاء الأشجار . الأقطار فجعل يرتعد من البرد وتخفق أحشاؤه فقال: من الرجز:
بأصبهانَ شَعِثَتْ أموري ... لما تقضَّى الصيفُ ذو الحَرُورِ
ورمَّت الآفاقُ بالهريرِ ... والثلج مقرونٌ بزمهريرِ
جاءَتْ بشرٍّ مَجْنَبٍ عاثورِ ... لولا شعارُ البَرَّةِ البرورِ
أمِّ الكبير وأبي الصغير
البرة: الشمس، والمجنب: الكبير، والعاثور: المهلك من قولهم وقع في عاثور شر.
أنشد الحافظ لرجل من بني نمير وكانت امرأته حضريةً: من الطويل:
لعمري لأعرابيةٌ بدويّةٌ ... تظل برَوْقَي بيتها الريحُ تخفُقُ
أحبُّ إلينا من ضِناكٍ صفيّة ... إذا وَضعَتْ عنها المرَاوحَ تَعرَقُ
كبطيخةِ البُستانِ ظاهرُ جلدها ... صحيحٌ ويبدو داؤها حين تُفلقُ
كان لبني عدي بن عبد مناة بالبصرة رجل شاب ينزل به يقال إن جمل عائشة رضي الله عنها في موضعه، فابتنى على ذلك الموضع مسجداً فقال رجل منهم يهجوهم: من السريع:
قوم كرامٌ غير ما أنّهم ... سطوَتُهم تغدو لي جارهم
ليس لهم فخرٌ سوى مسجدٍ ... به تَعَدَّوا فوق أطوارهم
لو هُدم المسجدُ لم يُعرفوا ... يوماً ولم يُسمَع بأخبارهم
كانت لأعرابي امرأتان فولدت إحداهما جارية والأخرى غلاماً فرقصته أمه وقالت مضارةً لضرتها: من الرجز:
الحمدُ لله الحميدِ العالي ... أنقذني العامَ من الخوالي
من كلِّ شوهاءَ كشَنٍّ بالي ... لا تَدفعُ الضَّيْمَ عن العيالِ
وسمعت الأخرى فأقبلت ترقص بنتها وتقول: من الرجز:
وما عليَّ أن تكونَ جاريه ... تغسل رأسي وتكون الغاليه
وترفع الساقط من خماريه ... حتى إذا ما بلغَتْ ثمانيه
أزّرتُها بنقبَةٍ يمانيه ... أُنكحُها مروانَ أو معاويه
أصهارَ صِدْقٍ ومهورٍ غاليه
فتزوجها مروان على مائة ألف وقال: إن أمها لحقيقة أن لا يكذب ظنها ولا يخاس بعهدها. وقال معاوية: لولا أن مروان سبقنا إليها لأضعفنا لها المهر، ولكن لا تحرم الصلة، فبعث إليها بمائتي ألف درهم.
رفعت امرأة زوجها إلى القاضي تبغي الفرقة، وزعمت أنه كل ليلة يبول في الفراش. فقال الرجل: أصلحك الله لا تعجل حتى أقص عليك قصتي: إني أرى في منامي كأني بجزيرة في البحر، وفيها قصر وفوق القصر علية، وفوق العلية قبة، وفوق القبة جمل، وأنا على ظهر الجمل، وإن الجمل يتطأطأ ليشرب من البحر فإذا رأيت ذلك بلت فرقاً. فبال القاضي وقال: يا هذه أنا قد أخذني البول من هول حديثه، فكيف بمن رأى الأمر عياناً؟ شكا رجل إلى الطبيب وجع البطن وقال: قد أكلت سمكاً ولحم بقر وبيضاً ومامشاً فقال: انظر فإن مت من هذا وإلا فارم نفسك من حالق.
ركب يزيد بن نهشل بعيراً له لا يكاد ينهض، فلما استوى عليه قال: الله إنك قلت: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين. وإني أشهدك أني بهذا، فنفر البعير وتعلقت رجله بالغرز والبعير يجمز به حتى مات.
وكانت جماعة من طلاب الحديث يمشون إلى شيخ لهم، فقال خليع منهم: امشوا رويداً فإن طالب الحديث يطأ على أجنحة الملائكة حتى لا تكسروها، فعثر عثرةً فعرج منها.
وكان بالمغرب وراق فكتب مصحفاً في أسبوع فقيل له: في كم كتبته؟ فقال: في ستة أيام وما مسنا من لغوب، فحشت يده، فسر قوله تعالى: ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون.
أبو نواس: من الطويل:
خَلعْتُ مُجوني واسترحْتُ من العَذْلِ ... وكنتُ وما لي في التَّماجُنِ من مِثلِ
أيا ابنَ أبانْ هل سمعتَ بفاسقٍ ... يُعَدُّ مع النُّساكِ فيما مضى قبلي
ألم تَرَ أني حين أغدو مُسبِّحاً ... بِسَمْتِ أبي ذَرٍّ وقلبِ أبي جهلِ
وأخشعُ في مشيي وأحفظ ناظري ... وسجادتي في الوجه كالدرهمِ البغلي
وأمرُ بالمعروفِ لا عن تَقِيَّةٍ ... وكيف وقَوْلي لا يُصدِّقُه فِعلي
ومِحبَرتي رأسُ الرّياء ودفتري ... ونلايَ في كفيَّ من آلة الختلِ
أَؤمُّ فقيهاً ليس دهريَ فقهُهُ ... ولكن لديه المُرْدُ مُجتمعُ الشَّملِ
فكم أمردٍ قد قال والدُهُ له ... عليك بهذا إنه من أُولي الفضلِ
يفرُّ به من أن يُشاطرَ صاحباً ... كمن فَرَّ من حرِّ الجراحِ إلى القتلِ
كتب الحمدوني إلى صديق له حبس عليه دفاتره: من الكامل:
ما بالُ كُتْبي في يديكَ رهينةً ... حُبِسَتْ علي كذا الزمان الأطولِ
ايذَنْ لها في الانصرافِ فإنها ... كنزٌ عليه والزمانُ معوّلي
فلقد تغَنَّتْ حين طالَ ثَواؤُها ... طالَ الثواءُ على رسوم المنزلِ
أبو بكر الخوارزمي: من الكامل:
لا غرو من صيد الأمير بعده ... إن الأسود تصاد بالخرفان
قد غرَّقَتْ أملاكَ حِميَرَ فارةٌ ... وبَعوضَةٌ قتلتْ بني كنعانِ
قال المتوكل يوماً: أتعلمون ما عاب الناس على عثمان؟ فقال بعض جلسائه: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر على المنبر دون مقامه بمرقاة، ثم قام عمر دون مقام أبي بكر بمرقاة، فلما ولي عثمان صعد ذروة المنبر فقعد في مقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكروا عليه ذلك. فقال عبادة: يا أمير المؤمنين، ما أجد أعظم منةً عليك ولا أسبغ معروفاً من عثمان. قال: وكيف ويلك؟ فقال: لأنه صعد ذروة المنبر، ولولا ذلك لكان كلما قام خليفة نزل عن مقام من تقدمه مرقاةً لكنت تخطبنا أنت من بئر جلولاء.
قدم إلى عبادة رغيف يابس فقال: هذا نسج في أيام بني أمية ولكن محي طرازه.
قيل جاء ابن قريعة فاتفق أن مداماً كان يلعب بالأربعة عشر من يرسل له، فانتظره إلى أن يفرغ من دسته، ثم نهض مدام فاستأذن له، وخرج فأوصله. وقال له الوزير: أين كنت؟ قال: عند مدام، قال: وماذا كان يصنع؟ قال القاضي: كان مقابلاً لخادم آخر وبين أيديهما دست كشرائح البدور، موزعة جنساً من الحبوب الرياحية على لونين مختلفين، وفي أيديهما كفتان يصكان بهما الأرض صكاً، فإذا انتصبا ماثلين، وتخالفا في الحالي، سر أحدهما واستبشر واغتاظ الآخر واستشاط، وإذا اضطجعا في غم صاحبهما إياساً، ونكس رأسه، وهذى وسواساً، ودعا عليهما، ولا ذنب لهما. فقال المهلبي: لو نظم هذا شعراً لحسن.
وقال أبو إسحاق الصابي: كنا ليلةً بحضرة الوزير أبي محمد المهلبي نتذاكر والقاضي أبو بكر بن قريعة حاضر، فأنشدت قطعةً من أراجيز المعاني أو غيرها، فاستحسنها المهلبي ومن حضر، وأعجبت القاضي، فقال: يا أبا إسحاق من قائل هذه؟ فقلت له عبثاً به: أبو العباس درستويه؛ فقال: أبو العباس صاحب أبي سهل ديرويه؟ قلت: نعم؛ قال: وهو بهذه المنزلة من الأدب والعلم؟ فقلت: وأكثر. وكان هذا الرجل طغامً، وقد أوردت حكايات عنه في كتابي الذي ألفته ولقبته ببدائع ما نجم من مختلفي كتاب العجم، وهو الذي حضر مجلس أبي الفرج ابن فسانجس وهو جالس للعزاء بأبيه أبي الفضل وقد ورد نعيه من الأهواز، وعند أبي الفرج رؤساء الدولة يعزونه، وقد قلد الديوان مكان أبيه، فلما تمكن درستويه في مجلسه تباكى وقال: اللهم ارحم أبا الفضل، كان تربى، وكان وكان، وعدد كثيراً من أحواله، ثم التفت إلى أبي الفرج وقال له: أطال الله بقاء سيدنا، دع ما يقول الناس، ورد كتاب بهذا؟ فقال أبو الفرج: قد وردت كتب عدة؛ فقال: دع هذا كله، ورد كتابه بخطه؟ ما جلسنا للعزاء بكما، وأطرق وهو كالمتبسم، وضحك الحاضرون، وانقطع العزاء، ونهض أبو الفرج ولم يعد إلى مجلسه.
قال أبو إسحاق، فقال القاضي: ما علمنا أن أبا العباس بهذه المنزلة من العلم، فيجب أن نقصده ونأخذ عنه فوائده، ونستدعي ديوانه، ونكتب عنه. فقلت قصر القاضي حيث لم يفعل هذا إلى الآن. قال وانقطع المجلس وبكر القاضي وقصد دار درستويه، واستأذن عليه، وبدأه بالسلام ومعرفة خبره والاعتذار إليه من تقصيره في حقه، وذاك يجيبه بما يقتضيه لفظه، ثم قال له القاضي: كنا البارحة بحضرة الوزير، أطال الله بقاءه، نسمر، فأنشد صديق للشيخ أرجوزةً من أراجيزه استحسنها الوزير أعزه الله وجميع من حضر، فقلت ما يجب على مثلي من أصدقاء الشيخ وأودائه من يستتبعها بالوصف لها والطرب عليها، وموفيها الحق من استحسانها بذلك المجلس، وحضرت الآن لآخذ هذه الأرجوزة من فيه، وأضيف إليها من محاسنه ما تقر عين مواليه، واسأله إحضار ديوانه لأطالعه وأستزيد منه. فشخص درستويه لا يعلم ما يسمع، ولا يدري بماذا يجيب، وكان له ابنان يزيدان عليه في التخلف، فاستدعى الأصغر منهما وكان يكنى أبا نصر، وقال له: اسمع قول القاضي وانظر ما حاجته؛ فسأل الصبي القاضي عن حاجته، واستشعر السخرية في القصة، وأعاد ذكر الأرجوزة وما جرى، واختصر اللفظ وقلل العبارة، فلم يعلم الآخر مراده فأحضرا أخاه الأكبر، وقال: القاضي يعيد على أخي ويذكر حاجته؛ فاختصر القاضي اللفظ جميعه، وذكر الأرجوزة، فقطع عليه الكلام وقال: حسبك، قد عرفت ما أراد القاضي، والتفت إلى أبيه فقال له بالفارسية: ولو يكلاه جورد، وتفسيره يطلب خرقة يعملها قلنسوةً، فقال الشيخ: وكرامةً وعزازة. ثم استدعى خازنه وتقدم إليه بأن يحمل ما عنده من الخرق إلى بين يدي القاضي ليختار ما يريده. وكان درستويه هذا حسن التجمل ظاهر المروءة. فحمل الخازن رزمتين كبيرتين فيهما خرق من أصناف الديباج والسقلاطون والحلل. ففتح القاضي واختار منها عشرين خرقة تساوي عشرين ديناراً، ووضعها في كمه وقال: الله يطيل عمر الشيخ، فإنه وولده بقية الفضل في بلدنا. ونهض ودرستويه يشكره.
قال أبو إسحاق: وراح القاضي إلى دار المهلبي على رسمه واجتمعنا، فقال: يا عيار، عملت علي مكيدةً لم تضرني، وأعاد الحديث على سرحه، وأخرج الخرق من كمه. فضحك المهلبي حتى فحص برجليه الأرض وضحك الحاضرون، ورد الخرق إلى كمه.
وكان القاضي يوماً بحضرة عضد الدولة، فسمع استغاثة فقال: انظروا ما هي! فقالوا: أحد العمال يعرف بابن النفاط قد جرت له قصة أو معه.
فعجب الملك من اللقب الذي نسب هذا الرجل إليه، وكيف هو راض بأن يكتب نسبه في رقاعه وحسابه وكتبه. فقال القاضي: أطال الله بقاء مولانا، لقب تعريف. فقال عضد الدولة: يا قاضي، ما معنى لقب تعريف؟ فقال القاضي: الألقاب، أدام الله نعمة مولانا، ثلاثة: لقب تعريف ولقب تشريف ولقب تسخيف؛ فأما لقب التشريف فعضد الدولة وتاج الملة ومعز الأمة وما أشبه ذلك، وأما لقب التعريف فابن النفاط وابن الخياط وابن الخراط وما أشبه ذلك. وأما لقب التسخيف فابن قطقط وابن زرقط وما أشبه ذلك. فضحك عضد الدولة وقال: القاضي مفتن في كل باب أدخلناه أحسن الخروج منه.
الباب الثامن والأربعون
في الملح والنوادر
النوادر رواحة، وبها للمكدود استراحة، لا سيما إذا أثقله عبء الجد، وعاد باحتماله كليل الحد. وهي صادرة عن مزح قد رخص فيه، ودعابة لم يخل منها كل شريف ونبيه؛ ولا بأس بها ما لم تكن سفهاً، ولا غرو والله عز وجل قد وعد في اللمم بالتجاوز والعفو.كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً.
وقيل لسفيان: المزاح هجنة؟ فقال: بل سنة، لقوله عليه الصلاة والسلام: إني لأمزح ولا أقول إلا الحق.
ومن مزحه عليه الصلاة والسلام قوله لخوات بن جبير الأنصاري ما فعل جملك الشرود؟ قال: عقله الإسلام.
وسمع صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: من الخفيف المجزوء.
هل عليَّ ويحكما ... إن لهوتُ من حرجِ
فقال: لا حرج إن شاء الله.
وروي أنه قال هذا لسيرين جارية حسان بن ثابت، وكانت سيرين أخت مارية أم ابنه إبراهيم عليه السلام. وكان المقوقس أهداهما إليه صلى الله عليه وسلم، فوهب سيرين لحسان وسمعها تغني بهذا الشعر في أطم حسان، فقال ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم لرجل استحمله: نحن حاملوك على ولد النوق قال: لا تحملني، قال: أليس الإبل من ولد النوق؟ وقال صلى الله عليه وسلم: ينال العبد بحسن الخلق الصائم القائم.
ووجد صلى الله عليه وسلم صهيباً يوما وعينه تشتكي، فقال: يا صهيب تأكل التمر على علة عينك؟ فقال يا رسول الله إنما آكله من شقي الصحيح. فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه.
وأصبح صلى الله عليه وسلم يوماً متغير الوجه، فقال بعض أصحابه لأضحكنه، فقال: بأبي أنت وأمي، بلغني أن الدجال يخرج والناس جياع فيدعوهم إلى الطعام، أفترى إن أدركته أن أضرب في ثريدته حتى إذا تضلعت آمنت بالله وكفرت به أم أتنزه عن طعامه؟ فضحك صلى الله عليه وسلم - وكان ضحكه التبسم - وقال: بل يغنيك الله تعالى يومئذ بما يغني المؤمنين.
وقال صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: الحقي زوجك ففي عينه بياض. فسعت المرأة نحو زوجها مرعوبةً، فقال لها: ما دهاك؟ قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي إن في عينك بياضاً. قال الرجل: إن في عيني بياضاً لا لسوء.
وأتته عجوز أنصارية فقالت يا رسول الله: ادع لي بالجنة، فقال لها: أما علمت أن الجنة لا يدخلها العجز، فصرخت، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال لها: أما قرأت: إنا أنشأناهن إنشاءً فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً.
وروي أن رجلاً عدا على امرأة فقبلها فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فشكت ذلك إليه فقال: ما تقول هذه؟ قال: صدقت يا رسول الله فأقصها. فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أو لا تعود. فقال: لا أعود.
نظر إلى هذا المعنى ابن سيابة فقال من أبيات هزل فيها: من المجتث:
لئن لُمتُكَ يوماً ... فأبصرَتْني رُحاصُ
هجرتَني وأتتني ... مسبَّةٌ وانتقاصُ
فهاك فاقتصَّ مني ... إن الجروح قِصاص
نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أعرابي يصلي صلاةً خفيفة، فلما قضاها قال: اللهم زوجني بالحور العين. فقال عمر: أسأت النقد وأعظمت الخطبة.
وقال علي عليه السلام: لا بأس بالفكاهة يخرج منها الرجل عن جد العبوس.
وأتاه رجل برجل فقال: إن هذا زعم أنه احتلم على أمي، فقال: أقمه في الشمس فاضرب ظله.
روي عن أبي الدرداء أنه كان لا يتحدث إلا وهو يبتسم في حديثه.
وكان ابن عباس رضي الله عنه إذا أكثر عليه في مسائل القرآن والحديث يقول: أحمضوا، يريد خذوا في الشعر وأخبار العرب.
وقيل: ضاف سلمان الفارسي رحمه الله رجل فقدم إليه كسراً وملحاً، فلما أكل وشبع قال: رضيت بما قسم الله تعالى لك لم ترهن للزكاة.
وقال ابن عمر رضي الله عنه لجارية وأراد مزاحها: خلقني خالق الكرام وخلقك خالق اللئام.
سئل النخعي: هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم والإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي.
وكان نعيمان أحد الصحابة البدريين مزاحاً. روي أنه خرج مع أبي بكر رضي الله عنه فضحك، وكان في الجملة سويبط - وهو بدري أيضاً وكان سويبط على الزاد - فقال نعيمان: أطعمني، فقال لا حتى يأتي أبو بكر، فقال نعيمان: والله لأغيظنك، وجاء إلى ناس جلبوا ظهراً، فقال: ابتاعوا مني غلاماً عربياً فارهاً، وهو دعاء له لسان لعله يقول: أنا حر، فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوه لا تفسدوا علي غلامي. قالوا: بل نبتاعه منك بعشر قلائص. فأقبل بها يسوقها وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال لهم: دونكم! هو هذا. فجاء القوم فقالوا: قد اشتريناك، فقال سويبط: هو كاذب أنا رجل حر. قالوا: قد أخبرنا خبرك. فوضعوا الحبل في عنقه وذهبوا به. فجاء أبو بكر رضي الله عنه فأخبر بذلك، فذهب هو أصحاب له فردوا القلانص، وأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك منه حولاً.
وأهدى نعيمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم جرة عسل اشتراها من أعرابي بدينار، وأتى بالأعرابي باب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: خذ الثمن من ههنا. فلما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم نادى الأعرابي: ألا أعطى ثمن عسلي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إحدى هنات نعيمان، وسأله: لم فعلت هذا؟ قال: أردت برك ولم يكن معي شيء. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الأعرابي حقه.
شكى عيينه بن حصن إليه صعوبة الصيام عليه، فقال: صم بالليل. وروي أنه دخل عيينه على عثمان وهو يعطي في شهر رمضان، فقال: العشاء! فقال: أنا صائم. قال عثمان: أتصوم بالليل؟ قال: هو أخف علي. فيقال إن عثمان قال: إحدى هنات نعيمان.
ومر نعيمان يوماً بمخرمة بن نوفل الزبيري وهو ضرير فقال له: قدني حتى أبول. فأخذ بيده حتى إذا كان في مؤخر المسجد قال: اجلس، فجلس يبول. وصاح به الناص يا أبا المسور، إنك في المسجد، فقال: من قادني؟ قيل: نعيمان؛ قال: لله علي أن أضربه ضربةً بعصاي إن وجدته. فبلغ ذلك نعيمان، فجاء يوماً فقال يا أبا المسور: هل لك في نعيمان؟ قال: نعم، قال: هو ذا يصلي، وجاء بيده وأتى به إلى عثمان وهو يصلي، فقال: هذا نعيمان، فعلاه بعصاه، وصاح به الناس ضربت أمير المؤمنين. فقال: من قادني؟ قال: نعيمان قال: لا جرم لا عرضت له بشر أبداً.
وقال عطاء بن السائب: كان سعيد بن جبير يقص علينا حتى يبكينا وربما لم يقم حتى يضحكنا.
قيل إن عمر بن عبد العزيز لم يمزح بعد الخلافة إلا مرتين: إحداهما أن عدي بن أرطأة كتب إليه يستأذنه في أن يتزوج ابنة أسماء بن خارجة، فكتب إليه عمر: أما بعد فقد أتاني كتابك تستأذن في هند، فإن يك بك قوة فأهلك الأولون أحق بك وبها، وإن يك يك ضعف فأهلك الأولون أعذر لك، ولكن الفزاري والسلام. يريد بذلك قول الفزاري: من البسيط:
إنّ الفزاريَّ لا ينفكُّ مُغتلما ... من النواكة دُهْداراً بدُهْدار
وأما الثانية فإن رجلاً من أهل أمج يقال له حميد هجاه ابن عم له فقال: من المتقارب:
حميدُ الذي أمجٌ دارُه ... أخو الخمر والشيبة الأصلعُ
فقدم حميد بعد ذلك على عمر فلم يعرفه فقال له: من أنت؟ قال: أنا حميد. فقال عمر: الذي أمج داره. فقال: والله ما شربتها منذ عشرين سنة. فقال: صدقت، وإنما أردت أن أبسطك. وجعل يعتذر إليه.
سأل رجل الشعبي عن المسح على اللحية فقال: خللها بأصابعك فقال: أخاف أن لا تبلها. قال الشعبي: إن خفت فانقعها من أول الليل.
وسأله آخر هل يجوز للمحرم أن يحك بدنه؟ قال: نعم؛ قال: مقدار كم؟ قال: حتى يبدو العظم.
وروي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم تسحروا ولو بأن يضع أحدكم إصبعه على التراب ثم يضعها في فيه. فقال رجل: أي الأصابع؟ فتناول الشعبي إبهام رجله وقال: هذه. وأشار بيده إلى المرأة.
قيل لسفيان الثوري: المزح هجنة؟ قال: بل سنة.
وجاء رجل إلى أبي حنيفة رضي الله عنه فقال له: إذا نزعت ثيابي ودخلت النهر لأغتسل، فإلى القبلة أفضل أتوجه أم إلى غيرها؟ فقال له: الأفضل أن يكون وجهك إلى ثيابك التي تنزعها لئلا تسرق.
قال عثمان الصيدلاني: شهدت إبراهيم الحربي وقد أتاه حائك يوم عيد فقال: يا أبا إسحاق، ما تقول في رجل صلى صلاة العيد ولم يشتر ناطفاً، ما الذي يجب عليه؟ فتبسم إبراهيم ثم قال: يتصدق بدرهمين. فلما مضى قال: ما علينا أن نفرح المساكين من مال هذا الأحمق.
أقر رجل عند شريح بشيء ثم ذهب لينكر، فقال شريح: فقد شهد عليك ابن أخت خالتك.
واشترى رجل من رجل شياهاً فإذا هي تأكل الذباب، فخاصمه إلى شريح فقال: لبن طيب وعلف مجان.
قال الأعمش لجليس له: تشتهي بناني زرق العيون، بيض البطون، سود الظهور، وأرغفةً باردةً لينةً وخلاً حاذقاً؟ قال: نعم قال: فانهض بنا. قال الرجل: فنهضت معه. ودخل ودخلت معه، فقال: جر تلك السلة، فكشطتها فإذا فيها رغيفان يابسان وسكرجة كامخ نبيت، فجعل يأكل وقال: تعال وكل. قال، فقلت: فأين السمك؟ قال: ما قلت لك عندي وإنما قلت لك: تشتهي ذلك؟ قال المنصور يوماً لعبد الله بن عياش المنتوف: قد بغضت إلي صورتك عشرتك، وكفرت بالله لئن نتفت شعرةً من لحيتك لأقطعن يدك. فأعفاها حتى اتصلت. فكان عنده يوماً وحدثه بأحاديث استحسنها، فقال له: سل حاجتك. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، لحيتي تقطعني إياها أعمل بها ما أريد. فضحك المنصور وقال له: قد فعلت.
مر شريح برجل بمجلس لهمدان فسلم فردوا السلام عليه، وقاموا فرحبوا به، فقال: يا معشر همدان، إني لأعرف أهل بيت منكم لا يحل لهم الكذب. قالوا: من هم يا أبا أمية؟ فقال: ما أنا بالذي أخبركم. فجعلوا يسألونه وتبعوه ميلاً أو قرابة ميل يقولون: يا أبا أمية من هم؟ وهو يقول: لا أخبركم. فانصرفوا عنه وهم يتلهفون ويقولون: ليته أخبرنا بهم.
وحج الأعمش فلما أحرم لاحاه الجمال في شيء فرفع عكازه فشجه بها، فقيل له: يا أبا محمد وأنت محرم؟ قال: إن من تمام الإحرام شج الجمال.
وقال ابن عياش: رأيت على الأعمش فروةً مقلوبةً صوفها إلى خارج، فأصابنا مطر فمررنا على كلب فتنحى الأعمش وقال: لا يحسبنا شاة.
وقال عيسى بن موسى، وهو يلي الكوفة، لابن بي ليلى: اجمع الفقهاء واحضروني. فجاء الأعمش في جبة فرو، وقد ربط وسطه بشريط، فأبطأوا فقام الأعمش وقال: إن أردتم أن تعطونا شيئاً وإلا فخلوا سبيلنا.
فقال عيسى لابن أبي ليلى: قلت لك تأتيني بالفقهاء فجئتني بهذا؟ فقال: هذا سيدنا الأعمش.
وقيل للأعمش ما تصنع عند مظهر أخي يقطين؟ فقال: آتيه كما آتي الحش إذا لي إليه حاجة.
وكان بين الأعمش وبين امرأته وحشة، فسأل بعض أصحابه أن يرضيها ويصلح بينهما. فدخل إليها وقال: إن أبا محمد شيخنا وفقيهنا، فلا يزهدنك فيه عمش عينه وحموشة ساقيه، وضعف ركبتيه، وقزل رجليه، ونتوء جبينه، وبخر فيه. فقال الأعمش: قم عنا قبحك الله فقد أريتها من عيوبي ما لم تكن تعرفه وتبصره.
كان ابن أبي عتيق - وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - مع عفافه وشرفه وورعه ماجناً ظريفاً له نوادر مستظرفة تكاد أن تبلغ به حد الخلاعة.
قالت له جاريته يوماً: إن فلانا القارئ - وكان يظهر النسك - قد قطع علي الطريق وآذاني ويقول لي: أنا أحبك. فقال لها: قولي له: وأنا أيضاً أحبك ثم واعديه المنزل. ففعلت وأدخلته المنزل؛ وكان قد واعد جماعةً من أصحابه ليضحكوا من الرجل. ودخلت الجارية إلى البيت الذي فيه الرجل، فدعاها فاعتلت عليه فاحتملها وضرب بها الأرض، فدخل عليه ابن أبي عتيق وأصحابه وقد توركها. فخجل وقام، وقال يا فساق، ما تجمعتم ههنا إلا لريبة. فقال ابن أبي عتيق: اسر علينا ستر الله عليك.
ومر ابن أبي عتيق بعبد الله بن عمر فقال له: ما تقول في إنسان هجاني فقال لي: من الكامل المرفل:
أذهبتَ مالَك غيرَ مُتَّركٍ ... في كل مومسةٍ وفي الخمرِ
ذهبَ الإله بما تعيشُ به ... وبقيتَ وحدَك غيرَ ذي وَفرِ
فقال: أرى أن تأخذ بالفضل وتصفح. فقال له ابن أبي عتيق: أنا والله أرى غير ذلك. قال: وما هو؟ قال: أرى أن أنيكه. فقال: سبحان الله، ما تترك الهزل! وافترقا ثم لقيه ابن أبي عتيق بعدما ظن أن ابن عمر قد نسي، فقال له: أتدري ما فعلت بذلك الإنسان؟ قال: أي إنسان؟ قال: الذي أعلمتك أنه هجاني؛ قال: ما فعلت به؟ قال: كل مملوك لي حر إن لم أكن نكته. فأعظم ذلك ابن عمر واضطراب؛ فقال له ابن أبي عتيق: امرأتي والله التي قالت الشعر وهجتني. وامرأته أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله.
وقع بين حيين من قريش منازعة، فخرجت عائشة - رضي الله عنها - على بغل لها فلقيها ابن أبي عتيق فقال: إلى أين جعلت فداك؟ قالت: أصلح بين هذين الحيين؛ فقال: والله ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل فكيف إذا قيل يوم البغل؟ فانصرفت.
كان ابن أبي عتيق يتعشى ومعه رجل من الأنصار، فوقع حجر في الدار وآخر وثالث، فقال لجاريته: اخرجي فانظري أذنوا للمغرب! فخرجت وجاءت بعد ساعة فقالت: أذنوا وصلوا. فقال له الرجل الذي كان عنده: أليس قد صلينا قبل أن تدخل؟ قال: بلى، لو لم أرسلها تسأل عن ذلك لرجمنا إلى الغداة. قال: أفهمت؟ قال، نعم فهمت.
كان أبو هريرة إذا استثقل رجلاً قال: غفر الله له وأراحنا منه.
جاء رجل إلى الشعبي فقال: أصاب ثوبي التوت، قال: اغسله، قال: بم أغسله؟ قال: بالخل والأنجذان.
مر أبو سفيان بعد إسلامه بأحد فقيل له: أي ملك ههنا؟ قال: والآن لو وجدت رجالاً.
وهذا الكلام وإن كان ظاهره المزح فغير مستبدع من أبي سفيان أو يكون جداً.
قال رجل لأبي يعقوب فقيه سجستان: إذا شيعتا جنازة فقدامها أفضل أن نمشي أم خلفها؟ فقال: اجهد أن لا تكون عليها وامش حيث شئت.
قيل للأعمش: ما أعمش عينيك؟ فقال: النظر إلى الثقلاء.
ماشى شرحبيل بن السمط معاوية فراثت دابته، وكان عظيم الهامة بسيط القامة، فقال له معاوية: يا أبا يزيد، يقال إن الهامة إذا عظمت دلت على وفور الدماغ وصحة العقل. فقال: نعم يا أمير المؤمنين إلا هامتي فإنها عظيمة وعقلي ناقص ضعيف. فتبسم معاوية وقال: كيف ذلك لله درك؟ قال: لإقضامي هذا النائك أمه مكوكي شعير. فضحك وحمله على دابة من مراكبه.
أكل عذري مع معاوية فرأى ثريدة كثيرة السمن فجرها بين يديه فقال معاوية: أخرقتها لتغرق أهلها. فقال: فسقناه إلى بلد ميت.
وروي عن بعض المسجونين قال: كنا مع ابن سيرين في السجن فكان يمر بنا ونحن نلعب الشطرنج فيقوم قائماً فيقول: ادفع الفرس! افعل كذا!.
ويروى أن ابن سيرين كان ينشد: من البسيط:
نُبِّئتُ أنّ فتاةً كنتُ أَخطبها ... عرقوبُها مثلُ شهرِ الصَّومِ في الطولِ
ويضحك حتى يسيل لعابه.
وقد روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: كنت ألعب الشطرنج مع صديق لي في بيته حين خفت الحجاج.
قال الأصمعي: شهرت بالأدب، ونلت بالملح.
وقد مدح الشعراء اللعب في موضعه كما مدح الجد في موضعه. قال الأبيرد: من الطويل:
إذا جَدَّ عند الجِدِّ أرضاكَ جِدُّه ... وذو باطلٍ إن شئتَ ألهاك باطلُهْ
وأنشد أبو تمام: من الكامل:
الجدُّ شيمتُهُ وفيه فكاهةٌ ... طوراً ولا جِدٌّ لمن لم يلعبِ
قيل للشعبي: كيف بت البارحة؟ فطوى كساءه في الأرض ثم نام عليه وتوسد يده وقال: هكذا أبيت.
قال المأمون ليحيى بن أكثم: يا أبا محمد من الذي يقول: من المنسرح:
قاضٍ يرى الحدَّ في الزناء ولا ... يرى على من يَلوطُ من باسِ
قال: من لعنه الله، أوما تعرفه يا أمير المؤمنين؟ قال: لا. قال: هو أحمد بن أبي نعيم الذي يقول: من المنسرح:
لا أحسب الجور ينقضي وعلى ال ... أمّة والٍ من آلِ عبّاسِ
فخجل المأمون وقال: لعنه الله! ينفى إلى السند.
وأولم المتوكل فلما أراد اللعب قال ليحيى بن أكثم: انصرف، قال: لم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأنا نخلط، فقال: أحوج ما تكونون إلى قاض إذا خلطتم. فاستظرفه المتوكل وأمر بغلف لحيته، ففعل. فقال: إنا لله، ضاعت الغالية، هذه كانت تكفيني دهراً لو دفعت إلي. فضحك المتوكل وأمر له بزورق ذهب مملوء غاليةً ودرج بخور في كمه وانصرف.
واستأذن يحيى على المتوكل وهو يلعب مع الفتح بن خاقان بالنرد، فغطيت الرقعة بمنديل. فقال له المتوكل: إني كنت ألاعب الفتح فكره دخولك واحتشمك؛ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكن خاف أن أعلمك عليه، فضحك وأمر له بمال.
وقال عبادة ليحيى بن أكثم، وهما عند المأمون: علمني فرائض الصلب فإني أشتهيها. فقال المأمون وتبسم: ما تقول في مسألته؟ قال: قد أخطأ إنما يسأل هذا في الصبا، أما سمع قول القائل: من السريع:
وإنّ مَن أدّبْتَه في الصبا ... كالعودِ يُسقى الماءَ في غرسِهِ
إنما يعلم الحدث بشرط أن يكون وضيئاً زكياً سهل الأخلاق، فإن كان له ابن بهذا الشرط علمناه. وقال عبادة: لو دخلت في صناعتنا لم يقم بك أحد. فقال يحيى: فأنا خارج عنها وما بأحد علي قوة.
ما سمع للمهتدي مزحة سوى قوله لسليمان بن وهب، وفي رجله خف واسع يصوت: يا سليمان خفك هذا ضراط، وهو يعرض بضرطة وهب التي طار خبرها في الآفاق وعلى ألسن الشعراء. فقال: يا أمير المؤمنين ضرطة خير من ضغطة.
سئل الشعبي عن لحم الشيطان فقال: نحن نرضى منه بالكفاف. فقيل له: ما تقول في أكل الذباب؟ قال: إن اشتهيته فكله.
كان القاضي أبو بكر بن محمد بن عبد الرحمن بن قريعة من أهل الأدب والفضل والعلم، وكان حلو المداعبة وله نوادر مدونة. وكان في دار المهلبي وقد نزع القاضي دنيته وتركها إلى جنبه. فجاء أبو إسحاق الصابي وجلس إلى جانبه وأخذ المروحة ليتروح وضرب الدنية بالمروحة دفعات كأنه ينفضها من التراب، والقاضي في الصلاة، فخفف ثم قال له: يا أبا إسحاق أما إنها لو كانت في مقر عزها لعز عليك ما هان من أمرها. ثم عاد إلى صلاته.
صنف المرتضى كتاباً وسماه الذخيرة فاستعاره البصروي ينسخه، فلما أراد الخروج قال له المرتضى: يا أبا الحسن، الذخيرة عندك؟ فعاد وقال: يا سيدنا، هذا الكتاب! فقال له: لم عدت وأخرجت الكتاب؟ فقال له: يا سيدنا، تقول لي بمحضر من السادة الأولاد: الذخيرة عندك! ما الذي يؤمنني من مطالبتهم بعد أيام؟ فتبسم المرتضى.
وإذ قد ذكرت جملةً من مزح الأفاضل والأشراف وفكاهتهم، وذكرت في آخر كل باب نوادر تناسبه وتليق به، فأنا اثبت ههنا من النوادر ما شذ عن تلك الأبواب وأنسبه إلى قائله، وأفرد كل جنس منهم بفصل، فيشتمل الباب بعد الفصل على اثني عشر فصلاً وهي: نوادر الأعراب، نوادر الشعراء والأدباء، نوادر الظرفاء، نوادر المواجن النساء، نوادر في التعصب والتحزب، نوادر المخنثين، نوادر ذوي العاهات، نوادر البلغاء، نوادر الأغبياء والجهلاء وتصحيفهم وغلطهم وغيهم، نوادر المتنبئين والقصاص والممخرقين، نوادر المجانين، نوادر السفلة وأصحاب المهن والسوقة.
نوادر الأعراب.
عشق أعرابي يكنى أبا الصباح أعرابية فجعل يطلبها ولا تمكنه حتى تزوجها؛ فلما أراد عجز عنها فقال: من الرجز:
كان أبو الصباح ينزو في وهق ... من شدة النَّعْظ ومن طول القلق
حتى إذا صادف جحراً ذا طبق ... مارسه حتى إذا ارفض العرق
سئل أعرابي عن جارية يقال لها زهرة فقيل له: أيسرك أنك الخليفة وأن زهرة ماتت؟ فقال: لا والله تذهب الأمة وتضيع الأمة.
أقبل عيينة بن حصن الفزاري قبل إسلامه إلى المدية، فلقيه ركب خارجون منها، فقال لهم: أخبروني عن هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: الناس فيه ثلاثة: رجل أسلم فهو معه يقاتل قريشاً والعرب، ورجل لم يسلم فهو يقاتله وبينهم التذابح، ورجل يظهر له الإسلام إذا لقيه ويظهر لقريش أنه معهم.
قال: ما يسمى هؤلاء؟ قالوا: المنافقون. قال: ليس فيمن وصفتم أحزم من هؤلاء، أشهد كم أني من المنافقين.
قال الأصمعي: مر أعرابي بقوم يختصمون فقال: في ماذا يختصمون؟، قالوا: في مسيل ماء؛ قال: والله ما بلت في موضع مرتين.
خرج المهدي يتصيد فعار به فرسه حتى دفع إلى خباء أعرابي، فقال: يا أعرابي هل من قرى؟ قال: نعم، وأخرج فضلةً من لبن في كرش فسقاه. ثم أتاه بنبيذ في زكرة فسقاه قعباً، فلما شرب المهدي قال: أتدري من أنا؟ قال: لا والله، قال: أنا من خدم الخاصة، قال: بارك الله لك في موضعك. ثم سقاه آخر فشربه، ثم قال: يا أعرابي أتدري من أنا؟ قال: نعم زعمت أنك من خدم الخاصة، قال: بل أنا من قواد أمير المؤمنين قال: رحبت بلادك وطاب مزادك. ثم سقاه قدحاً ثالثاً فلما فرغ منه قال: يا أعرابي أتدري من أنا؟ قال: زعمت آخراً أنك من القواد، قال: لا ولكني أمير المؤمنين. فأخذ الأعرابي الزكرة فأوكاها وقال: والله لئن شربت الرابع لتقولن إنك لرسول الله. فضحك المهدي وأحاطت بهم الخيل، ونزل إليه الملوك والأشراف، فطار قلب الأعرابي فقال له: لا بأس عليك؛ وأمر له بصلة. فقال: أشهد أنك لصادق، لو ادعيت الرابعة لخرجت منها.
قال بعضهم: رأيت أعرابياً في بعض أيام الصيف قد جاء إلى نهر وجعل يغوص في الماء، ثم يخرج، ثم يغوص، ثم يخرج، وكلما خرج مرة حل عقدةً من عقد في خيط كان معه. فقلت: ما شأنك؟ قال: جنابات الشتاء أحسبهن كما ترى وأقضيهن في الصيف.
عض ثعلب أعرابياً فأتى راقياً، فقال له الراقي: ما عضك؟ قال: كلب واستحى أن يقول ثعلب. فلما ابتدأ يرقيه قال: اخلط به شيئاً من رقية الثعلب.
وقال بعضهم: صليت في مسجد باهلة بالبصرة، فقام أعرابي يسأل، فأمر له إنسان منهم برغيفين، فرآهما صغيرين رقيقين فلم يأخذهما ومضى وجاء برغيف كبير حسن وقال: يا باهلة، استفحلوا هذا الرغيف بخبزكم فلعله ينجب.
قرأ إمام في صلاة: إذا الشمس كورت. فلما بلغ إلى قوله فأين تذهبون أرتج عليه، فجعل يرددها، وكان خلفه أعرابي معه جراب، فلما طال عليه الأمر ولم ينبعث تقدم الأعرابي فصفعه بالجراب، وقال: أما أنا فإلى كلواذى وهؤلاء الكشاخنة فلا أدري أين يذهبون.
كان أعرابي يفلي كساءه ويأخذ البراغيث ويدع القمل، فقيل له في ذلك فقال: أبد بالفرسان وأكر على الرجالة.
ورؤي أعرابي يأكل ويخرى ويفلي كساءه، فقيل له: ما تصنع؟ قال: أخرج عتيقاً، وأدخل جديداً، وأقتل عدواً.
رأى أعرابي قوماً يطلبون الهلال لغرة شهر رمضان، فقال: أما يكفيكم ظهوره إذا ظهر حتى تطلبوه مكانه، والله لئن أثرتموه لتمسكن منه بذنابي عيش أغبر.
قيل لبعض الأعراب: قد جاء شهر رمضان، فقال: والله لأبددن شمله بالأسفار.
دخل عقيل بن علفة المري على عمر بن عبد العزيز، وكان جافياً، فقال له عمر: ما أراك تقرأ من كتاب الله شيئاً، قال: بلى إني لأقرأ، قال: فاقرأ، فقرأ: إذا زلزلت الأرض زلزالها. فلما بلغ آخرها قرأ فمن يعمل مثقال ذرة شراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. فقال عمر: ألم أقل لك إنك لا تحسن تقرأ. قال: أولم أقرأ؟ قال: لأن الله عز وجل قدم الخير وأنت قدمت الشر، فقال عقيل: من الطويل:
خذا بطن هَرْشى أو قفاها فإنه ... كلا جانَبْي هرشى لهن طريق
وعقيل هذا من قوم فيهم جفاء وغلظ. مات رجل منهم فكفنه أخواه في عباءة له، وقال أحدهما للآخر: كيف تحمله؟ قال: كما تحمل القربة. فعمد إلى حبل فشد طرفه في عنقه وطرفه في ركبته، وحمله على ظهره. فلما أراد دفنه حفر له حفرةً وألقاه فيها، وهال عليه التراب حتى واراه. فلما انصرفا قال لأخيه: يا هناه! أنسيت الحبل في عنق أخي ورجليه، وسيبقى مكتوفاً إلى يوم القيامة. فقال له: دعه يا هناه! قال: إن يرد الله به خيراً يحله.
قيل لأعرابي وقد تزوج بعدما كبر: لم تأخرت عن التزويج؟ فقال: أبادر ابني باليتم قبل أن يسبقني بالعقوق.
وقيل لأعرابي: ما تقرأ في صلاتك؟ قال: أم الكتاب ونسبة الرب وهجاء أبي لهب.
وسمع آخر يقرأ: الأعراب أشد كفراً ونفاقاً. فقال: لقد هجانا. ثم سمعه يقرأ بعده: ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر. فقال: لا بأس هجا ومدح، هذا كما قال شاعرنا: من الطويل:
هَجوْتُ زهيراً ثم إني مدحته ... وما زالت الأعرابُ تُهجى وتُمدَحُ
سرق أعرابي غاشيةً من سرج ودخل مسجداً فقرأ الإمام: هل أتاك حديث الغاشية. فقال: اسكت فقد أخذت في الفضول، فقال الإمام: وجوه يومئذ خاشعة. فقال: ها هو ذا غاشيتكم فلا تخشعوا وجهي.
شكت أعرابية زوجها إلى صواحب لها، فقلن: طلقيه. فقالت: اشهدن أنه طالق. فقلن لها: ثني، فقالت: اشهدن أنه طالق ثلاثاً. فتخاصموا إلى والي الماء، فتكلمت فقال: إيهاً أم فلان! لا تجوري فيحاربك، الزمي الطريق المهيع ودعي بنيات الطريق، كيف قلت؟ قالت: قلت: هو طالق ثلاثاً. قال: فتفكر القاضي ساعةً وقال: أراك تحلين له ولا أراه يحل لك.
حضر أعرابي مجلساً يتذاكرون فيه قيام الليل، فقالوا: يا أمامة، أتقوم بالليل؟ قال: إي والله! قالوا: ما تصنع؟ قال: أبول وأرجع.
قدم أعرابي إلى وال ليشهد على رجل بالزنا فقال: رأيت هذا دائم الأفكل كأنه جمة غسيل تلسب خصييه وأم الغول سطيحة تحته، وهي تغط غطيط البكر، ولعابها يهمع، والله أعلم بما وراء ذلك.
وسئل أبو المغوار وقد قدم ليشهد بمثل ذلك، فقال: رأيت امرأةً صرعى، ورجل أفعى، فوه على فيها، ومسربته على مسربتها، والقنب غائب، والتعقبان يضربان باب المسفعة وهو يردى باسته، والله أعلم بما وراء ذلك.
دخل أعرابي إلى سوق النخاسين يشتري جاريةً، فلما أراد الانصراف بها قال النخاس: فيها ثلاث خلال، إن رضيت بهن وإلا فدعها. قال: قل. قال: إنها ربما غابت أياماً ثم تعود، قال: نعم، قال: لا عليك أنا والله أعلم الناس بأثر الذر على الصفا فلتأخذ أي طريق شاءت فإنا نردها، ثم ماذا؟ قال: إنها ربما نامت فقطرت منها القطرة بعد القطرة؛ قال: كأنك تعني أنها تبول في الفراش؟ قال: نعم، قال: لا عليك فإنه لا يتوسد عندنا إلا التراب، فلتبل كيف شاءت، ثم ماذا؟ قال: إنها ربما عبثت بالشيء تجده في البيت، قال: كأنك تعني أنها تسرق ما تجد؟ قال: نعم، قال: لا عليك فإنها والله لا تجد ما تقوته فكيف ما تسرقه! وأخذ بيدها وانصرف بها.
رفع أعرابي يده بمكة فقال: اللهم ارحمني قبل أن يدهمك الناس.
نظر أمير إلى أعرابي فقال له الأعرابي: لقد هم الأمير لي بخير، قال: ما فعلت، قال: فبشر، قال: ما فعلت، قال: فالأمير إذن مجنون.
حضر أعرابي عند الحجاج وقدم الطعام فأكل الناس، ثم قدمت الحلواء، فترك الحجاج الأعرابي حتى أكل منه لقمةً، ثم قال: من أكل من هذا ضربت عنقه؛ فامتنع الناس كلهم وبقي الأعرابي ينظر إلى الحجاج مرةً وإلى الفالوذج أخرى، ثم قال: أيها الأمير، استوص بأولادي خيراً، ثم اندفع يأكل. فضحك الحجاج حتى استلقى وأمر له بصلة.
كان لعتبة الأعرابية ابن شديد العرامة كثير التقلب إلى الناس مع ضعف أسر ودقة عظم. فواثب مرةً فتىً من الأعراب فقطع أنفه فأخذت عبة دية أنفه فحسنت حالها بعد فقر. ثم واثب آخر فقطع أذنه فزادت دية أذنه في حسن الحال والمال. ثم واثب بعد ذلك آخر فقطع شفته فأخذت دية شفته. فلما رأت ما قد صار عندها من الإبل والغنم والمتاع والكسب بجوارح ابنها حسن رأيها فيه، وذكرته في أرجوزة لها تقول فيه: من الرجز:
أحلف بالمروة يوماً والصفا ... أنَّك خيرٌ من تَفاريقِ العصا
قيل لابن الأعرابي: ما تفارق العصا؟ فقال: العصا تقطع ساجوراً وتقطع عصا الساجور فتصير أوتاداً، ويفرق الوتد فيصير كل قطعة شظاظاً، فإن جعلوا رأس الشظاظ كالفلكة كان للبختي مهاراً، وهو العود الذي يدخل في أنف البختي، وإذا فرق المهار جاءت منه التوادي.
وذكر أن أعرابيين طريفين من شياطين الأعراب حطمتهما السنة فانحدرا إلى العراق، واسم أحدهما حيدان. فبينما هما يتماشيان في السوق وإذا فارس قد أوطأ دابته رجل حيدان، فقطع إصبعاً من أصابعه، فتعلقا به حتى أخذا منه أرش الإصبع، وكانا جائعين مقرورين، فحين صار المال في أيديهما قصدا لبعض الكرابج فبتاعا من الطعام ما اشتهيا، فلما أكل صاحب حيدان وشبع أنشأ يقول: من الطويل:
فلا غرثةٌ ما دام في الناسِ كَربجٌ ... وما بَقَيتْ في رجل حيدانَ إصبعُ
وقال أعرابي: من الطويل:
وإنّي لمحتاجٌ إلى موت زوجتي ... ولكنّ علقَ السوء باقٍ معمَّرُ
وأنشد الأصمعي: من الوافر:
أما والله لو يلقاكِ أيري ... قُبيلَ الصبحِ في ظلماءِ بيتِ
إذن لعلمتِ أن السَّحقَ زُورٌ ... وأنّ الحقَّ في رَهْزِ الكُمَيتِ
وقال رؤبة: من الرجز:
قد كان أيري يا أُمَمْمَ حُرّا ... عندَ الهياجِ مِسْعَراً مِكَرّا