كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون
وروى أبو عبيدة أبيات لقيطٍ في يوم جبلة: من الرجز
يا قوم قد حرقتموني باللوم ... ولم أقاتل عامراً قبل اليوم
سيان هذا والعناق والنوم ... والمشرب البارد في ظل الدوم
وقالوا: يعني في ظلال نخل المقل.
قال الأصمعي: قد أحال ابن الحائك؛ إنما هو في الظل الدوم، أي الدائم وجبلة بنجد.
وروى الأصمعي بيت الحارث بن حلزة: من الخفيف
عنتاً باطلاً وظلماً كما تع ... نز عن حجرة الربيض الظباء
وقال: العنزة الحربة ينخر بها. فرد عليه أبو عمرو وقال: إنما هو تعتر من العتيرة وهي ذبيحة للصنم، وكانوا ينذرون للأصنام ذبيحةً ثم تشح نفوسهم فيذبحون عنها الظباء.
وروى لذي الرمة: من البسيط
فيها الضفادع والحيتان تصطخب
فقيل: هو تصطحب، ولا صوت لها.
وروى لرؤبة: من الرجز
شمطاء تنوي الغيظ حين ترأم
وإنما هو تبوى، أي تجعله بمنزلة البو.
وروى المفضل: من الطويل
نمس بأعراف الجياد أكفنا
فقال له خلف: إنما هو نمش وهو مسح اليد؛ ومنه قيل للمنديل مشوش.
وليس علينا أن يزل الوهم أو يجنح الخاطر، أو يشذ عنه علمٌ في وقت ثم يثوب فيدركه. قال أبو موسى الحامض: قرئ على ثعلبٍ كتابٌ بخط ابن الأعرابي فيه خطأ فرده، فقيل إنه بخطه فقال: هو خطأ؛ قيل: فيغير؟ قال: دعوه ليكون عذراً لمن أخطأ.
كان حماد الراوية لا يقرأ القرآن، فاستقرئ فقرأ في المصحف فصحف في نيفٍ وعشرين موضعاً. فمن جملتها: وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يغرسون؛ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها أباه؛ ليكون لهم عدواً وحرباً؛ وما يجحد بآياتنا إلا كل جبارٍ كفورٍ؛ فعززوه ونصروه؛ وتعززوه وتوقروه؛ لكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يعنيه؛ هم أحسن أثاثاً ورياً؛ عذابي أصيب به من أساء؛ يوم يحمى غليها في نار جهنم فبادوا ولات حين مناصٍ؛ ونبلو خياركم؛ صنعة الله ومن أحسن من الله صنعةً؛ فاستعانه الذي من شيعته؛ سلامٌ عليكم لا نتبع الجاهلين؛ قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العائذين.
قال الحزنبل: كنا عند ابن الأعرابي ومعنا أبو هفان، فأنشد ابن الأعرابي عمن أنشده، فقال ابن أبي سبة العبلي: من المتقارب
أفاض المدامع قتلى كذا ... وقتلى بكبوة لم ترمس
فغمز أبو هفان رجلاً وقال: قل له ما معنى كذا؟ فقال: يريد كثرتهم. فلما قمنا قال لي أبو هفان: سمعت إلى هذا المعجب الرقيع هو ابن أبي سنة، وصحف في بيتٍ واحدٍ موضعين، فقال: قتلى كذا وهو كدا، وقال: بكبوةٍ وهو بكثوة؛ وأغلط من هذا على أنه يفسر تصحيفه بوجهٍ وقاحٍ.
وابن أبي سنة هو أبو سعيد مولى فايد من موالي بني أمية، وكان شاعراً مغنياً؛ وهذا البيت من شعره يرثي به مواليه ويذكر قتل بني هاشمٍ إياهم.
وذكر أبو تمام في كتاب الحماسة شعر ابن المقفع يرثي يحيى بن زياد: من الطويل
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي خلة ما في سداد لها طمع
فقد جر نفعاً فقدنا لك إننا ... أمنا على كل الرزايا من الجزع
فقال أبو رياش: هذا مأخوذٌ من قول النمري منصور: من الوافر
لقد عزى ربيعة أن يوماً ... عليها مثل يومك لا يعود
وإنما يأخذ الأحدث من الأقدم، وابن المقفع قتل في خلافة المنصور، والنمري إنما عرف شعره في خلافة الرشيد، فهو الأولى بأن ينسب إلى اقتفاء ابن المقفع.
قصد محمد بن الفضل بن يعقوب ابن داود العتبي - وكان قد وقع بين محمدٍ وبين أبيه الفضل وحشةٌ - فقال له: كنت عند أبي فتهدم علي تهدم الحائط، فتركته حتى سكن غباره، ثم جعلت أتأتى له، فادخل بيني وبينه حتى يرضى عنه. فقال العتبي: إني لأكره أن أدخل بين الرجل وبين أبيه. فقال له محمد: هذه سقطةٌ قد كنت آمنها عليك، إنك لتدخل بين الرجل وبين ربه فتقول له: كل كذا، واصنع كذا، ودع كذا، فقال العتبي: يا غلام أسرج لي، فقال محمد: لا حاجة لي في ركوبك، من كان هذا إسقاطه عند الأبناء كيف يكون تهوره عند الآباء؟
قال أبو الحسن الطوسي: كنا في مجلس عليٍّ اللحياني، وكان عازماً على أن يملي نوادر ضعف ما كان أملى. فقال يوماً: تقول العرب: مثقلٌ استعان بذقنه، فقام إليه يعقوب بن السكيت، وهو يومئذ حدثٌ، فقال له: يا أبا الحسن، العرب تقول: مثقلٌ استعان بدفيه، يريدون الجمل إذا نهض بحمله استعان بجنبيه. فقطع الإملاء. فلما كان المجلس الثاني أملى فقال: العرب تقول هو جاري مكاشري. فقام إليه يعقوب فقال: أعزك الله، إنما هو مكاسري كسر بيتي إلى كسر بيته، فقطع الإملاء فما أملى شيئاً بعد ذلك.
مرض أبو يوسف فعاده أبو حنيفة مراراً، ورآه في آخر مرةٍ ثقيلاً، فاسترجع وقال: لقد كنت أؤملك بعدي للمسلمين، ولئن أصيب الناس بك ليموتن علمٌ كثيرٌ معك، ثم رزق العافية وخرج من العلة؛ وأخبر أبو يوسف بقول أبي حنيفة فيه، فارتفعت نفسه، وانصرفت وجوه الناس إليه؛ فعقد لنفسه مجلساً، وقصر عن حضور مجلس أبي حنيفة. فسأل عنه فأخبر بحاله، فدعا بغلام كان له عنده قدر وقال له: صر إلى مجلس يعقوب وقل له: ما تقول في رجلٍ دفع إلى قصارٍ ثوباً ليقصره بدرهم، فصار إليه بعد أيام في طلب الثوب، فقال له القصار: ما لك عندي شيءٌ وأنكره؛ ثم إن رب الثوب رجع إليه، فدفع إليه الثوب مقصوراً، أله أجرة؟ فإن قال: له أجرة فقل: أخطأت، وإن قال: لا أجرة له، فقل: أخطأت. فصار إليه وسأله فقال: له أجرة، فقال: أخطأت، فنظر ساعة ثم قال: لا أجرة له، فقال: أخطأت. فقام أبو يوسف من ساعته فأتى أبا حنيفة فقال له: ما جاء بك إلا مسألة القصار، قال: أجل؛ قال: سبحان الله، من عقد لنفسه مجلساً وقعد يفتي الناس، ويتكلم في دين الله وهذا قدره، لا يحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات. فقال: يا أبا حنيفة علمني. قال: إن كان قصره بعدما غصبه فلا أجرة له، لأنه قصره لنفسه، وإن كان قصره قبل أن غصبه فله أجرة لأنه قصره لصاحبه. ثم قال: من ظن أنه يستغني عن العلم فليبك على نفسه.
مات ولدٌ طفلٌ لسليمان بن علي، فأتاه الناس من أهل البصرة يعزونه، وفيهم شبيب بن شيبة وبكر بن حبيب السهمي. فقال شبيب: أوليس يقال: إن الطفل لا يزال محبنظياً بباب الجنة حتى يدخل أبواه - فجاء بظاء معجمة - فقال له بكر بن حبيب، محبنظئاً - بطاء غير معجمة فقال شبيب: ألا إن من بين لابتيها يعلم أن القول كما أقول، فقال بكر: وخطأ ثانٍ، ما للبصرة واللوب؟ أذهبت إلى ما قيل بالمدينة: ما بين لابتيها، أي حريتها؟ واستشهد في المحبنطئ بقول القائل: من الرجز
إني إذا سئلت لا أحبنطي ... ولا أحب كثرة التمطي
فصل في سرقات فحول الشعراء وسقطاتهم ليس منهم فحلٌ مذكورٌ ولا شاعرٌ مشهورٌ إلا وقد أسقط وجاء بالرذل الذي لا يرضاه المضعوف البكي، وما فيهم إلا من وجد سارقاً مغيراً على من تقدمه، وقد تتبعوا بأغلاط.
فأما فحول الجاهلية فخرج العلماء لأغاليطهم وجهاً، واضطروا إلى ذلك لأن اللغة والإعراب عنهم أخذا، فلو جعلوا ما جاء عنهم غير جائزٍ في لغتهم بطل الاستشهاد بأشعارهم؛ ثم إنهم لم يجيزوا ذلك لمن أخذ العربية نقلاً وتلقيناً.
وأنا ذاكرٌ من ذلك ما يحضرني ويليق بهذا الكتاب مقتصراً ومستدلاً بالبعض على الكل، والله الموفق للصواب.
وخرق الإجماع والخروج عنه منكرٌ؛ وإلا فلو قال قائلٌ: ما المانع من نسبة العربي الفصيح اجاهلي إذا أتى بغير المعتاد من لغتهم إلى الغلط والخطأ، فلو نبه عليه لعاد إلى الواجب إذ كان غير معصومٍ ولا محفوظٍ من وقوع الزلل عليه، لم يكن عن ذلك جوابٌ محققٌ.
وقد كان النابغة الذبياني كثير الإقواء في شعره، فلما دخل الحجاز هابوه أن يواقفوه على هذه العادة المستهجنة، فأمروا قينةً فغنته في قوله: من الكامل
أمن آل مية رائحٌ أو مغتدي ... عجلان ذا زيدٍ وغير مزود
زعم البوارح أن رحلتنا غداً ... وبذاك خبرنا الغراب الأسود
فاستبان فحش الإقواء وقال: ما هذا؟ فقالوا: كذا قلت. فجعله وبذاك تنعاب الغراب الأسود، وترك الإقواء.
ولو أنصف متأولٌ بيت امرئ القيس: من السريع
فاليوم أشرب غير مستحقبٍ ... إثماً من الله ولا واغل
على أنه أراد أشرب غير ثم أسكن الباء وجعل رب غ مثل عضد، ولما جاز عندهم عضدٌ وعضدٌ قاس رب غ عليه، لعلم أن هذا الوجه إذا استعمل في الكلام لم يلحن أحدٌ واستغني عن الإعراب.
وكذلك قال امرؤ القيس في قصيدته التي أولها: من الطويل
خليلي مرا بي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب
ثم قال فيها:
عقيلة أترابٍ لها لا ذميمةٌ ... ولا ذات خلقٍ إن تأملت جأنب
ولو استعمل غيره السناد في قصيدته على غير حرف السناد لمنع منه.
وكم له من غايةٍ تلهي السامع ثم يدركه نقص البشر فيقول: من الطويل
أمن ذكر ليلى أن نأتك تنوص ... فتقصر عنها خطوةً وتبوص
تبوص وكم من دونها من مفازةٍ ... ومن أرض جدبٍ دونها ولصوص
وزهيرٌ، وهو أصفاهم ألفاظاً وأدقهم كلاماً، يقول: من الطويل
فأقسمت جهداً بالمنازل من منى ... وما سحقت فيه المقادم والقمل
فانظر كيف ختم البيت بلفظة القمل وهي أهجن لفظة وأبعدها من الاستعمال، والمقاطع أولى بالمراعاة، فإنها ملموحةٌ مكشوفة، وعليها يقف الكلام.
وقالوا: إن امرأ القيس أخذ قوله: من الطويل
كأن مكاكي الجواء غديةً ... صبحن سلافاً من رحيقٍ مفلفل
من قول أبي دواد الإيادي: من المتقارب
تخال مكاكيةً بالضحى ... خلال الدقاري شرباً ثمالا
الدقاري الرياض، واحدتها دقرى محركة.
والأعشى أخذ قوله في صفة الطيف: من الكامل
يلوينني ديني الغداة وأقتضي ... ديني إذا وقذ النعاس الرقدا
من قول عمرو بن قميئة: من المتقارب
نأتك أمامة إلا سؤالا ... وإلا خيالاً يوافي خيالا
يوافي مع الليل ميعادها ... ويأبى مع الصبح إلا زوالا
وعبيد بن الأبرص أخذ قوله: من الكامل
والناس يلحون الغوي إذا هم ... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد
من قول المرقش الأصغر: من الطويل
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وأخذ جريرٌ قوله: من الطويل
وإني لعف الفقر مشترك الغنى ... سريعٌ إذا لم أرض داري احتماليا
من قول المخبل السعدي: من الكامل
إني لترزؤني النوائب في الغنى ... وأعف عند مشحة الإقتار
ولكن جريراً أكمل المعنى وجاء به في نصف بيت في أعذب لفظٍ وأسلمه.
وأخذ عبدة بن الطبيب قوله: من الطويل
فما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
من قول امرئ القيس، ولكنه كشف المعنى وبينه: من الطويل
فلو أنها نفسٌ تموت سويةً ... ولكنها نفسٌ تساقط أنفسا
وأخذ أبو حية النميري قوله: من الطويل
فألقت قناعاً دونه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين كفٍّ ومعصم
من قول النابغة الذبياني: من الكامل
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد
فأحسن أبو حية كل الإحسان وزاد زيادات ليست في بيت النابغة.
وكانت قصة الراعي النميري ضد ذلك حيث أخذ قوله: من الطويل
وأعلم أن الموت يا أم عامرٍ ... قرينٌ محيطٌ حبله من ورائيا
من قول طرفة: من الطويل
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد
فإنه قصر عن طرفة كل التقصير معنىً ولفظاً.
والأعشى الكبير ميمون بن قيس، وهو أرقهم طبعاً، وأسلمهم لفظاً، وأقلهم إغلاقاً، يقول وهو يتغزل ويصف ريق شبابه ولهوه مع أترابه، وقبوله عند الكواعب، وما قضاه في صباه من المآرب: من الكامل
فرميت غفلة عينه من شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
ويقول في مقام الوصف ومنتهى التمثيل: من المتقارب
وهل تنكر الشمس شمس النهار ... ولا القمر الباهر الأبرص
ويقول في مدح الملوك: من الطويل
ويقسم أمر الناس يوماً وليلةً ... وهم ساكتون والمنية تنطق
فأحسن وأبلغ ثم قصر وتأخر وأفحش فقال بعده: من الطويل
ويأمر لليحموم في كل ليلةٍ ... بقتٍّ وتعليقٍ فقد كاد يسنق
فانظر إلى هذا التباعد والفصال.
ثم يقول في موضع الحكمة ومظنة تهذيب اللفظ والمعنى، فيأتي بما لا معنى فيه ولا لفظ له: من المنسرح
إن محلاً وإن مرتحلاً ... وإن للسفر ما مضى مهلا
قال نقاد الشعر: الشعر أربعة أضربٍ: ضربٌ حسن لفظه ومعناه، فإذا نثر لم يفقد حسنه، وذلك نحو: من البسيط
في كفه خيزرانٌ ريحه عبقٌ ... من كف أروع في عرنينه شمم
يغضي حياءً ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
وضربٌ حسن لفظه وخلا معناه نحو: من الطويل
ولما قضينا من منىً كل حاجةٍ ... ومسح بالأركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
وضربٌ جاد معناه وقصر لفظه نحو: من الطويل
خطاطيف حجنٌ في حبالٍ متينةٍ ... تمد بها أيدٍ إليك نوازع
وضرب قصر معناه ولفظه نحو: من المنسرح
إن محلا وإن مرتحلاً ... وإن للسفر ما مضى مهلا
المعنى إن لنا محلاً، وإن لنا مرتحلاً، وإن لنا مهلاً بعد السفر الذي مضى.
وما أحسن ما قال الوائلي: من الطويل
وحاطب ليلٍ في القريض زجرته ... وقلت له قول النصيح المجامل
إذا أنت لم تقدر على در لجه ... فدعه ولا تعرض لحصباء ساحل
وقد أخذ الأعشى قوله من قول النابغة: من الكامل
تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... برداً أسف لثاته بالإثمد
وتبعه القتال الكلابي فقال: ولم يمنعه اشتهار هذين البيتين من الإغارة وسلك في سرقة الشعر مسلكه في الغارة على المال، فإنه كان من مشهوري اللصوص وفتاكهم وشعرائهم: من الكامل
تجلو بقادمتي حمامة أيكةٍ ... بردٌ أسف لثاته مثلوج
وفي إعرابه كلامٌ وتأويل.
ومن المصالتة والمجاهرة في السرقة قول قيس بن الخطيم، وهو شاعر الأوس وفتاها وشجاعها: من الطويل
وما المال والأخلاق إلا معارةٌ ... فما اسطعت من معروفها فتزود
وكيف يخفى مأخذه مع اشتهار قصيدة طرفة بن العبد، وهي معلقة على الكعبة، وهو يقول فيها: من الطويل
لعمرك ما الأيام إلا معارةٌ ... فما اسطعت من معروفها فتزود
قال أبو نواس: قد قال شاعران بيتين ووضعا التشبيه فيهما في غير موضعه، فلو أخذ البيت الثاني من شعر أحدهما فجعل مع البيت الآخر، وأخذ بيت ذاك فجعل مع هذا، كان لفقاً له ومشبهاً، فقيل له: أي ذلك تعني؟ قال: قول جرير للفرزدق: من الطويل
فإنك إذ تهجو تميماً وترتشي ... تبابين قيسٍ أو سحوق العمائم
كمهريق ماءٍ بالفلاة وغره ... سرابٌ أثارته رياح السمائم
وقول ابن هرمة: من المتقارب
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زنداً شحاحا
كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملحفةٍ بيض أخرى جناحا
فلو قال جريرٌ: فإنك إذ تهجو تميماً، وبعده كتاركة بيضها بالعراء، لكان أشبه ببيته، ولو قال ابن هرمة مع بيته: وإني وتركي ندى الأكرمين، وبعده كمهريق ماءٍ بالفلاة، لكان أشبه.
هكذا جاءت الرواية عن أبي نواس؛ وهو أيضاً وهم فإن الشعر للفرزدق من قصيدته التي أولها: من الطويل
تحن بزوراء المدينة ناقتي
قالها لما قتل وكيع بن أبي سود قتيبة بن مسلمٍ بخراسان. وجريرٌ كان مولعاً بمدح قيس، والفرزدق يهجوهم، وذلك محققٌ لما ذكرته أيضاً.
قال سلمة بن عياش: دخلت على الفرزدق السجن وهو محبوس، وقد قال قصيدته التي فيها: من الكامل
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول
وقد أفحم وأجبل، فقلت له: ألا أرفدك؟ فقال: وهل ذاك عندك؟ فقلت: نعم، ثم قلت:
بيتٌ زرارة محتبٍ بفنائه ... ومجاشعٌ وأبو الفوارس نهشل
فاستجاد البيت وغاظه قولي، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من قريش؛ قال: فمن أيها أنت؟ قلت: من بني عامر بن لؤي فقال: لئام والله ضعةٌ؛ جاورتهم بالمدينة فما أحمدتهم. فقلت: الألأم والله منهم وأرضع قومك، جاءك رسول مالك بن المنذر، وأنت سيدهم وشاعرهم، فأخذ بأذنك يقودك حتى حبسك، فما اعترضه ولا نصرك أحدٌ. فقال: قاتلك الله ما أنكرك؛ وأخذ البيت فأدخله في قصيدته.
ولما قال ذو الرمة: من الطويل
أحين أعاذت بي تميمٌ نساءها ... وجردت تجريد اليماني من الغمد
ومدت بضبعي الرباب ومالكٌ ... وعمروٌ وسالت من ورائي بنو سعد
ومن آل يربوعٍ زهاءٌ كأنه ... زها الليل محمود النكاية والرفد
قال له الفرزدق لا تعودن فيها، فأنا أحق بها منك؛ قال: والله لا أعود فيها ولا أنشدها أبداً إلا لك، فهي في قصيدة الفرزدق التي يقول فيها: من الطويل
وكنا إذا القيسي نب عتوده ... ضربناه فوق الأنثيين على الكرد
ويروى: وكنا إذا الجبار صعر خده.
ومر الفرزدق بالشمردل يوماً وهو ينشد: من الطويل
وما بين من لم يعط سمعاً وطاعةً ... وبين تميمٍ غير حز الغلاصم
فقال: والله لتتركنه أو لتتركن عرضك، فقال: هو لك. فانتحله الفرزدق في قصيدته التي أولها: تحن بزوراء المدينة ناقتي أنشد الكميت بن زيد نصيباً فاستمع له فكان فيما أنشده: من البسيط
وقد رأينا بها حوراً منعمةً ... بيضاً تكامل فيها الدل والشنب
فثنى نصيبٌ خنصره فقال له الكميت: ما تصنع؟ قال: أحصي خطأك تباعدت في قولك: تكامل فيها الدل والشنب، هلا قلت كما قال ذو الرمة: من البسيط
لمياء في شفتيها حوةٌ لعسٌ ... وفي اللثاث وفي أنيابها شنب
ثم أنشده في أخرى: من المتقارب
إذا ما الهجارس غنينها ... تجاوبن بالفلوات الوبارا
فقال له نصيب: الوبار جمع وبرة وهي دابةٌ معروفةٌ لا تسكن الفلوات.
ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله:
كأن الغطامط من جريها ... أراجيز أسلم تهجو غفارا
فقال له نصيب: ما هجت أسلم غفاراً قط. فاستحيا الكميت فسكت.
والذي عابه نصيبٌ من قبيح الكلام وفاحشه، فإن أحسن الكلام ما اتسق وتشاكلت معانيه، وتقاربت ألفاظه، ولذلك قال ابن لجأ لابن عمٍّ له: أنا أشعر منك، قال: وكيف؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه.
وأنشد الجاحظ: من الطويل
وشعرٍ كبعر الكبش فرق بينه ... لسان دعيٍّ في القريض دخيل
قال ذلك لأن بعر الكبش يقع متفرقاً. ولذلك عيب على أبي تمامٍ قوله: من الكامل
لا والذي خلق الهوى إن النوى ... صبرٌ وإن أبا الحسين كريم
ولما قال ذو الرمة: من الطويل
أبا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ ... وبين النقا آأنت أم أم سالم
وقف بالمربد ينشد والناس مجتمعون عليه، فإذا هو بخياطٍ يطالعه ويقول يا غيلان: من الطويل
أأنت الذي تستنطق الدار واقفاً ... من الجهل هل كانت بكن حلول
فقام ذو الرمة وفكر زماناً ثم عاد فقعد بالمربد ينشد، فإذا الخياط قد وقف عليه وقال له: من الطويل
أأنت الذي شبهت عنزاً بقفرةٍ ... لها ذنبٌ فوق استها أم سالم
فقام ذو الرمة فذهب ولم ينشد في المربد بعدها حتى مات الخياط.
وقال غيلان بن المعذل: قدم علينا ذو الرمة الكوفة فأنشدنا بالكناسة وهو على راحلته قصيدته الحائية التي يقول فيها: من الطويل
إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
فقال له عبد الله بن شبرمة: قد برح يا ذا الرمة، ففكر ساعة ثم قال: لم أجد رسيس الهوى من حب مية يبرح. قال: فأخبرت أبي بما كان من قول ذي الرمة واعتراض ابن سبرمة عليه، فقال: أخطأ ذو الرمة في رجوعه عن قوله الأول، وأخطأ ابن شبرمة في اعتراضه عليه. هذا مثل قول الله عز وجل: إذا أخرج يده لم يكد يراها النور: 40 هو لم يرها ولم يكد.
قال أبو عبد الله الزبيري: اجتمع راوية جميلٍ وراوية كثيرٍ وراوية جريرٍ وراوية نصيبٍ، فافتخر كل واحدٍ منهم بصاحبه، وقال صاحبي أشعر، فحكموا سكينة بنت الحسين لما عرفوه من عقلها وبصرها بالشعر، فخرجوا حتى استأذنوا عليها، وذكروا لها الذي كان من أمرهم، فقالت لراوية جرير: أليس صاحبك الذي يقول: من الكامل
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
وأي ساعةٍ أحلى للزيارة من الطروق؟ قبح الله صاحبك وقبح شعره، ألا قال: ادخلي بسلام.
ثم قالت لراوية كثيرٍ: أليس صاحبك الذي يقول: من الطويل
يقر بعيني ما يقر بعينها ... وأحسن شيءٍ ما به العين قرت
وليس شيء أقر بعينها من النكاح، أفيحب صاحبك أن ينكح؟ قبح الله صاحبك وقبح شعره.
وقالت لراوية جميلٍ: أليس صاحبك الذي يقول: من الطويل
فلو تركت عقلي معي ما طلبتها ... ولكن طلابيها لما فات من عقلي
فما أرى بصاحبك هوىً، إنما طلب عقله، قبح الله صاحك وقبح شعره.
ثم قالت لراوية نصيبٍ: أليس صاحبك الذي يقول: من الطويل
أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت ... فوا حزناً من ذا يهيم بها بعدي
فما أرى له همةً إلا من يعشقها بعده؟ قبحه الله وقبح شعره ألا قال: من الطويل
أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت ... فلا صلحت دعدٌ لذي خلةٍ بعدي
ثم قالت لراوية الأحوص: أليس صاحبك الذي يقول: من الكامل
من عاشقين تواعدا وتراسلا ... ليلاً إذا نجم الثريا حلقا
باتا بأنعم ليلةٍ وألذها ... حتى إذا وضح الصباح تفرقا
قال: نعم، قالت: قبحه الله وقبح شعره، هلا قال: تعانقا. فلم تثن على أحدٍ منهم ولم تقدمه.
وليس كل ما ذكرته ساقطاً، ولكلٍّ منه وجهٌ ولصاحبه فيه قصدٌ، وإنما حسن الخير إذ كان من امرأةٍ قد تتبعت فحول الشعراء وظرفت في ما تتبعتهم به، وقصر رواتهم عن جوابها.
وشبيهٌ بهذا الخير الذي رواه الزبير بن بكارٍ قال: خرج عمر بن أبي ربيعة إلى مكة فخرج معه الأحوص واعتمرا. قال السائب راوية كثير: فلما مرا بالروحاء استتلياني فخرجت أتلوهما حتى لحقتهما بالعرج رواحهما؛ فخرجنا جميعاً حتى وردنا ودان؛ فحبسهما نصيبٌ وذبح لهما وأكرمهما؛ وخرجنا وخرج معنا نصيب. فلما جئنا كلية عدلنا جميعاً إلى منزل كثير، فقيل لنا: هبط قديداً، فأتينا قديداً فذكر لنا أنه في خيمة من خيامها، فقال لي ابن أبي ربيعة: اذهب فادعه لي؛ فقال نصيب: هو أحمق وأشد كبراً من أن يأتيك؛ فقال لي عمر: اذهب كما أقول لك فادعه لثي. فجئته فهش لي وقال: اذكر غائباً تره، لقد جئت وأنا أذكرك. فأبلغته رسالة عمر فحدد نظره إلي وقال: أما كان عندك من المعرفة ما يردعك عن إتياني بمثل هذا وتردعه عن مثل هذه الرسالة؟ قلت: بلى والله، ولكني سترت عليك وأبى الله إلا أن يهتك سترك. فقال لي: إليك يا ابن ذكوان، ما أنت من شكلي، فقل لابن أبي ربيعة: إن كنت قرشياً فأنا قرشي، فقلت: ألا تترك هذا التلصق وأنت تقرف عنهم كما تقرف الصمغة؟ فقال: والله لأنا أثبت فيهم منك في سدوس. ثم قال: وقل له إن كنت شاعراً فأنا أشعر منك، فقلت له: هذا إذا كان الحكم إليك. فقال: وإلى من هو؟ ومن أولى بالحكم مني؟ وبعد هذا يا ابن ذكوان فاحمد الله على لؤمك فقد منعك مني اليوم. فرجعت إلى عمر فقال: ما وراءك؟ فقلت: ما قال لك نصيب، فقال: وإن؟ فأخبرته فضحك وضحك صاحباه ظهراً لبطن. ثم نهضوا معي إليه فدخلنا عليه في خيمته فوجدناه جالساً على جلد كبشٍ، فوالله ما أوسع للقرشي. فلما تحدثوا ملياً وأفاضوا في ذكر الشعر أقبل على عمر فقال له: أنت تنعت المرأة وتنسب بها ثم تدعها وتنسب بنفسك، أخبرني عن قولك: من المنسرح
قالت تصدي له ليعرفنا ... ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها قد غمزته فأبى ... ثم اسبطرت تشتد في أثري
وقولها والدموع تسبقها ... لنفسدن الطواف في عمر
أتراك لو وصفت بهذا هرة أهلك، ألم تكن قد قبحت وأسأت وقلت الهجر؟ إنما توصف الحرة بالإباء والحياء والالتواء والبخل والامتناع كما قال هذا، وأشار إلى الأحوص: من الطويل
أدور ولولا أن أرى أم جعفر ... بأبياتكم ما درت حيث أدور
وما كنت زواراً ولكن ذا الهوى ... إذا لم يزر لا بد أن سيزور
قال: فدخلت الأحوص أبهةٌ وعرفت الخيلاء فيه. فلما استبان ذلك كثيرٌ منه قال: أبطل آخرك أولك، أخبرني عن قولك: من الوافر
فإن تصلي أصلك وإن تبني ... بصرمك بعد وصلك لا أبالي
ولا ألفى كمن إن سيم صرماً ... تعرض كي يرد إلى الوصال
أما والله لو كنت فحلاً لباليت ولو كسرت أنفك، هلا قلت كما قال هذا الأسود، وأشار إلى نصيب: من الطويل
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقل إن تملينا فما ملك القلب
قال: فانكسر الأحوص ودخلت نصيباً الأبهة. فلما نظر إلى الكبرياء قد دخلته، قال له: وأنت يا ابن السوداء فأخبرني عن قولك: من الطويل
أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت ... فواكبدا من ذا يهيم بها بعدي
أهمك من ينيكها بعدك؟ فقال نصيب: استوت القرفة، وهي لعبةٌ لهم مثل المنقلة، قال سائب: فلما أمسك كثيرٌ أقبل عليه عمر فقال له: قد أنصتنا لك فاسمع يا مذبذب إلي. أخبرني عن تخيرك لنفسك وتخيرك لمن تحب حيث تقول: من الطويل
ألا ليتنا يا عز كنا لذي غنىً ... بعيرين نرعى في الخلاء ونعزب
كلانا به عرٌّ فمن يرنا يقل ... على حسنها جرباء تعدي وأجرب
إذا ما وردنا منهلاً صاح أهله ... علينا فما ننفك نرمى ونضرب
وددت وبيت الله أنك بكرةٌ ... هجانٌ وأني مصعبٌ ثم نهرب
نكون بعيري ذي غنىً فيضيعنا ... فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب
ويلك أتمنيت لها ولنفسك الرق والجرب والرمي والطرد والمسخ؟ فأي مكروهٍ لم تتمن لها ولنفسك؟ لقد أصابها منك مثل قول الأول: معاداة عاقلٍ خيرٌ من مودة أحمق. قال: فجعل يختلج جسده كله، ثم أقبل عليه الأحوص فقال له: إلي يا ابن استها، أخبرني بخبرك وتعرضك للشر وعجزك عنه وإهدافك لمن رماك، أخبرني عن قولك: من الطويل
وقلن وقد يكذبن فيك تعيفٌوشؤمٌ إذا ما لم تطع صاح ناعقه
وأعييتنا لا راضياً بكرامةٍ ... ولا تاركاً شكوى الذي أمنت صادقه
وأدركت صفو الود منا فلمتنا ... وليس لنا ذنبٌ فنحن مواذقه
وألفيتنا سلماً فصدعت بيننا ... كما صدعت بين الأديم خوالقه
والله لو احتفل عليك هاجيك لما زاد على ما بؤت به على نفسك. قال: فخفق كما يخفق الطائر. ثم أقبل عليه نصيبٌ فقال: أقبل علي يا زب الذباب، فقد تمنيت معرفة غائبٍ عندي علمه فيك حيث تقول: من الطويل
وددت وما تغني الودادة أنني ... بما في ضمير الحاجبية عالم
فإن كان خيراً سرني وتركته ... وإن كان شراً لم تلمني اللوائم
انظر في مرآتك، واطلع في جيبك، واعرف صورة وجهك، تعرف ما عندها لك. فاضطرب اضطراب العصفور، وقام القوم يضحكون وجلست عنده. فلما هدأ شأوه قال لي: أرضيتك فيهم؟ فقلت له: أما في نفسك فنعم، لقد نحس يومك معهم، وقد بقيت أنا عليك فما عذرك - ولا عذر لك - في قولك: من الطويل
سقى دمنتين لم تجد لهما أهلاً ... بحقل لكم يا عز قد رابني حقلا
نجاء الثريا كل آخر ليلةٍ ... يجودهما جوداً ويتبعه وبلا
ثم قلت في آخرها:
وما حسبت ضمريةٌ جدرية ... سوى التيس ذو القرنين أن لها بعلا
أهكذا يقول الناس: سوى التيس ذي القرنين ؟ ويحك ثم تظن ذلك قد خفي ولم بعلم به أحدٌ، فتسب الرجال وتعيبهم؟ فقال: ما أنت وهذا؟ وما علمك بمعنى ما أردت؟ فقلت: هذا أعجب من ذاك، أتذكر امرأةً تنسب بها في شعرك وتستغزر لها الغيث في أول شعرك، ثم تحمل عليها التيس في آخره؟ قال: فأطرق وذل وسكن. فعدت إلى أصحابي وأعلمتهم ما كان من خبره، فقالوا: ما أنت أهون حجارته التي رمي بها اليوم منا، قال، فقلت لهم: لم يترني فأطلبه بذحل، ولكني نصحته لئلا يخل هذا الإخلال الشديد، ويركب هذه العروض التي ركب في الطعن على الأحرار والعيب لهم.
ومن السرقة الفاحشة قول كثيرٍ في عبد الملك بن مروان: من الطويل
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه ... حصانٌ عليها عقد درٍّ يزينها
أخذه من قوله الحطيئة مصالتةً فلم يغير سوى الروي: من الطويل
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه ... حصانٌ عليها لؤلؤٌ وشنوف
ومثل ذلك فعل الفرزدق في قوله: من الطويل
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعرف
نقله من قول العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: من الطويل
إذا مجلس الأنصار خف بأهله ... وحلت بواديهم غفارٌ وأسلم
فما الناس بالناس الذي عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعلم
وجرير على سعة بحره وقدرته على غرر الشعر وأبكار الكلام نقل قوله: من الوافر
فلو كان الخلود لفضل قومٍ ... على قومٍ لكان لنا الخلود
من قول زهير، وهو شعرٌ مشهورٌ يحفظه الصبيان وترويه النساء: من الطويل
فلو كان حمدٌ يخلد المرء لم يمت ... ولكن حمد المرء غير مخلد
وقد قال جرير: من الطويل
فأنت أبي ما لم تكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أبا ليا
فأخذه عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر فقال: من الطويل
أأنت أخي ما لم تكن لي حاجةٌ ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخا ليا
وهو من قصيدة له مشهورةٍ أجاد فيها وأحسن كل الإحسان، ولم تمنعه قدرته على ذلك الإحسان من الشره إلى ما ليس له.
وقد قال الشماخ: من الطويل
وأمرٍ ترجي النفس ليس بنافعٍ ... وآخر يخشى ضيرةً لا يضيرها
فأغار عليه شبيب بن البرصاء فقال: من الطويل
ترجي النفوس الشيء لا تستطيعه ... وتخشى من الأشياء ما لا يضيرها
وكان أبو العتاهية مع تقدمه في الشعر كثير السقط، فروي أنه لقي محمد بن مناذرٍ بمكة، فمازحه وضاحكه، ثم دخل على الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين هذا شاعر البصرة يقول قصيدةً في كل سنة، وأنا أقول في السنة مئين قصائد. فأدخله الرشيد إليه فقال ما يقول أبو العتاهية. فقال: يا أمير المؤمنين لو كنت أقول كما يقول لقلت مثله كثيراً: من الهزج
ألا يا عتبة الساعة ... أموت الساعة الساعة
لقلت مثله كثيراً، ولكنني أقول: من الخفيف
إن عبد المجيد يوم تولى ... هد ركناً ما كان بالمهدود
ما درى نفسه و حاملوه ... ما على النعش من عفافٍ وجود
فقال الرشيد: أنشدنيها، فأنشده إياها، فقال: ما لها عيبٌ إلا أنها سوقة، وكما كان ينبغي إلا أن تكون في خليفةٍ أو ولي عهدٍ، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم؛ فكاد أبو العتاهية يموت غماً وأسفاً.
ذكر أبو الشيص يوماً في مجلس الرياشي فقال: أخطأ أبو الشيص في بيتٍ واحدٍ في أربعة أماكن، وهو قوله: من المتقارب
أشاقك والليل ملقى الجران ... غرابٌ ينوح على غصن بان
فالكلام شاقك لا غير، فجعل أفعل مكان فعل؛ وذكر أن الذي شاقه بالليل غرابٌ، والغراب لا يصيح بالليل؛ وقال: غرابٌ ينوح، وصياح الغراب لا يقال له نوحٌ إنما يقال: نعب الغراب ونعق وشحج؛ وقال: غراب ينوح على غصن بان، وغصن البان أضعف من أن يحمل غراباً.
استحسن من أبي نواسٍ قوله: من الطويل
إليك رمت بالقوم هوجٌ كأنما ... جماجمها تحت الرحال قبور
وهو مأخوذ من قول الوليد بن عدي بن حجر الكندي: من البسيط
كأن هامتها قبرٌ على شرفٍ ... تمد للسير أوصالاً وأصلابا
وطرق الراعي المعنى فقال: من الوافر
فهن سوابغ الأبدان غلبٌ ... كأن رءوسهن قبور عاد
وتبعهما كثير فقال: من الكامل
كالقبر هامة رأسها وكأنما ... منها أمام الحاجبين قدوم
وأبو حية النميري فقال: من الكامل
وكأن هامته إذا استعرضته ... قبرٌ برابيةٍ عليه الجندل
قال الحسن بن رشيق الأزدي الكاتب المغربي في ما جمعه من شعر المغاربة: اجتمعت وأنا بيعلى بن إبراهيم الأربسي، وكانت له مكانة من الخط والترسل وعلم الطب والهيئة مع تقدمه في الشعر، فأخذ في ذكر الشعراء وغض من عبد الكريم النهشلي - وهو من أعيان وقته - فأغلظت له في الجواب. فالتفت إلي منكراً علي وقال: وما أنت وما دخولك بين الشيوخ يا بني؟ فقلت له: ومن يكون الشيخ أيده الله؟ فعرفني نفسه ثم أخرج رقعةً من خطه فيها شعره: من البسيط
إياة شمسٍ حواها جسم لؤلؤةٍ ... يغيب من لطفٍ فيها ولم تغب
صفراء مثل النضار السكب لابسةٌ ... درعاً مكللةٌ دراً من الحبب
لم يترك الدهر منها غير رائحةٍ ... تضوعت وسناً ينساح كاللهب
إذا النديم تلقاها ليشربها ... صاغت له الراح أطرافاً من الذهب
فقال: كيف رأيت؟ فقلت - وأردت الاشتطاط عليه: أما البيت الأول فناقص الصنعة، مسروق المعنى، فيه تنافرٌ، قال: وكيف ذلك؟ قلت: لو كان ذكر الياقوتة مع اللؤلؤة كما قال أبو تمام: من الكامل
أو درةٌ بيضاء بكرٌ اطبقت ... حبلاً على ياقوتةٍ حمراء
لكان أتم تصنيعاً وأحسن ترصيعاً ولو ذكرت روح الخمر مع ذكرك جسم اللؤلؤة - يعني الكأس - لكان أوفى للمعنى، ولو قلت مع قولك إياة: شمسٍ حواها نهار وعنيت به الكأس كما قال ابن المعتز، ويروى للقاضي التنوخي: من المتقارب
وراحٍ من الشمس مخلوقةٍ ... بدت لك في قدحٍ من نهار
لكنت قد ذهبت إلى شيءٍ عجيبٍ غريبٍ؛ أما قولك: يغيب من لطف فيها ولم يغب، فمن قول البحتري: من الكامل
يخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمةٌ بغير إناء
وأما البيت الثاني فأكثر من أن ينبه عليك فيه، وأما الثالث فمن قول ابن المعتز: من البسيط
أبقى الجديدان من موجودها عدماً ... لوناً ورائحةً في غير تجسيم
وأما البيت الأخير، فمن قول مسلم بن الوليد: من الطويل
أغارت على كف المدير بلونها ... فصاغت له منها أنامل من ذبل
وقوله أيضاً: من الطويل
إذا مسها الساقي أعارت بنانه ... جلابيب كالجادي من لونها صفرا
وفيه عيب يقال له التوكؤ، وهو تكريرك ذكر الراح، وأنت مستغنٍ عنه، قال: فماذا كنت أنت تسد مكان الراح، قلت: كنت أقول: صاغت ليمناه أطرافاً من الذهب.
وأنشدته لنفسي دون أن أعلمه: من الطويل
معتقةٌ يعلو الحباب جنوبها ... فتحسبه فيها نثير جمان
رأت من لجينٍ راحةً لمديرها ... فجادت له من عسجدٍ بينان
ثم أنشد يصف بستاناً: من البسيط
تفيض بالماء منه كل فوهةٍ ... فكل فوارةٍ بالماء تنذرف
كأنها بين أشجارٍ منورةٍ ... ظلت بمستحسن اللبلاب تستجف
مجامرٌ تحت أثوابٍ مجللةٍ ... على مشاجبها دخانها يهف
فقال: هل تعلم في هذا المعنى شيئاً؟ فلم أرد مكاشفته، فأضربت عن أبيات علي ابن العباس الرومي في تشبيه المجمرة بالفوارة، وإنما عكسه يعلى، وقلت: بل قريباً منه، وأنشدته لنفسي شعراً؛ فقال: لمن أنشدتني بدءاً وعودةً؟ قلت: للذي أنكرت عليه أن يدخل بين الشيوخ؛ فعرف، وعرف بي فاستصحبني منذ ذلك اليوم.
لما ورد الخالديان العراق فيهما السري الرفاء يخاطب أبا الخطاب الصابي: من الكامل
بكرت عليك مغيرة الأعراب ... فاحفظ ثيابك يا أبا الخطاب
ورد العراق ربيعة بن مكدمٍ ... وعتيبة بن الحارث بن شهاب
وهي قصيدةٌ مشهورةٌ من عيون شعره. فاستحسن هذا المعنى واستجيد، وإنما أخذه من قول أبي تمامٍ، وقد سرق شعره محمد بن يزيد الأموي فمدح به: من الخفيف
من بنو عامرٍ من ابن الحباب ... من بنو تغلبٍ غداة الكلاب
من طفيل بن عامرٍ ومن الحا ... رث أم من عتيبة بن شهاب
وبشارٌ يسمونه أبا المحدثين لتقدمه وتسليمهم إليه الفضيلة والسبق، وبعض أهل اللغة يستشهدون بشعره لزوال الطعن عليه فيها فمما أسقط فقال: من الرمل
إنما عظم سليمى حبتي ... قصب السكر لا عظم الجمل
وإذا أدنيت منها بصلاً ... غلب المسك على ريح البصل
يقول هذا مع قوله في معنى مثله: من الوافر
إذا قامت لمشيتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
ومع قوله في الفخر: من الطويل
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبه
ومع قوله:
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وقال له خلاد: إنك لتجيء بالشيء المهجن المتفاوت، قال: وما ذاك؟ قال: بينما تقول شعراً تثير به النقع وتخلع القلوب مثل قولك: من الطويل
إذا ما غضبنا غضبةً مضريةً ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلة ... ذرى منبرٍ صلى علينا وسلما
على أن بيتي بشار منقولان، فالأول أنشده أبو هلال العسكري للقحيف وأوله: من الطويل
إذا ما فتكنا فتكةً مضريةً ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
والثاني هو بيت جريرٍ بعينه: من الطويل
منابر ملكٍ كلها مضرية ... يصلي علينا من أعرناه منبرا
إلى أن تقول: من الهزج
ربابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجاتٍ ... وديكٌ حسن الصوت
فقال: لكل شيءٍ وجهٌ وموضعٌ؛ فالقول الأول جدٌ، وهذا قلته في ربابة جاريتي، وأنا لا آكل البيض من السوق، وربابة هذه لها عشر دجاجاتٍ وديك، فهي تجمع البيض لي وتحفظه عندها؛ فهذا قولي عندها أحسن من قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل عندك.
وهذا عذرٌ غير واضحٍ، وهو باستئناف ذنبٍ أولى. وقد كان يسعه أن يقول ما تفهمه الأمة ولا يسقط هذا السقوط. وما الذي أحوجه إلى أن يدونه ويروى عنه؟ وأي حجةٍ له في البيتين الأولين لولا الزلل والنقص المستوليان على البشر.
وأبو تمام، مع باهر فضله وبديع نظمه ونطقه بالشعر الذي لو سمي سحراً لكان أليق، يقول: من الوافر
خشنت عليه أخت بني خشين
ويظن ذلك من البديع الذي اخترعه وسلك مذهبه. ويقول يمدح رجلاً ويصفه بالتنين: من الكامل
ولى ولم يظلم وهل ظلم امرؤٌ ... حث النجاء وخلفه التنين
وقال أيضاً وهجن: من الكامل
كانوا رداء زمانهم فتصدعوا ... فكأنما لبس الزمان الصوفا
وأغار على زهير حيث يقول: من الوافر
لمن طللٌ برامة لا يريم
فقال: من الوافر
أرامة كنت مألف كل ريمٍ
وقد قال، وبعد عن الفصاحة وهو إمامها: من الكامل
والمجد لا يرضى بأن ترضى بأن ... يرضى امرؤٌ يرجوك إلا بالرضا
وكذلك الرضي أبو الحسن الموسوي ممن شهد بفضله الأعداء، وترجم شعره أكابر العلماء، وقد كان علمه أكثر من شعره، وله تصنيف في علم القرآن برز فيه على القدماء، ثم لم يمنعه اقتداره على درر الكلام وجواهر المعاني من التعرض لما ليس له، والغارة الشعواء على متقدمي الشعراء. وقد كان غنياً ببنات صدره عن الاستلحاق، ومكفياً بمصون خاطره عن الاستطراق. وقد عثرت له على زللٍ يرتفع قدره عنه، وسهوٍ لو تنبه له غيره. ولعل غليان الخاطر وازدحام البيان، شغله عن تفقد ما جرى به اللسان. وسأقتصر على البعض إذ كان القصد بكشف غلط مثله من صدور العلم إقامة عذر من لم يبلغ شأوه.
فمما سها في إعرابه وغفل عن تصحيحه قوله: من البسيط
ترجو وبعض رجاء الناس متعبةٌ ... قد ضاع دمعك يا باكٍ على الطلل
فرفع المنادى المشبه بالمضاف وحقه النصب.
ومثله قوله أيضاً: من الطويل
ولم أنسه غادٍ وقد أحدقت به ... أدانٍ تروي نعشه وأقارب
ومن ذلك قوله: من الطويل
وأين المطايا تذرع البيد والدجى ... إلى أقربٍ من نيل عزٍّ وأبعد
ولم تستعمل العرب أفعل التفضيل إلا جاءت بمن، كقولهم: أقرب من كذا، أو يأتي بالألف واللام فيخرج عن معنى التفضيل كقولهم الأقرب والأبعد.
ومنه قوله: من الطويل
ألا إن أصناف السيوف كثيرةٌ ... وأقطعها هنديها ويمانها
وإنما هو سيف يمانٍ إذا خفف الياء، فأما نقله إلى ما يجري الإعراب عليه في حالة الرفع فما تكلمت به العرب.
ومما أهمل قوافيه وأجرى منصوبه مجرى مرفوعه، ولم يرخص أحد في مثله، قوله: من الطويل
إذا سكر العسال من قطراتها ... سقيت حمياها أغر يماني
وقوله: من الكامل
كم من طويل العمر بعد وفاته ... بالذكر يصحب حاضراً أو بادي
على أن المعنى واللفظ لغيره وهو: من الكامل
كم من طويل العمر بعد مماته ... ويموت آخر وهو في الأحياء
وقول المتنبي:
ذكر الفتى عمره الثاني
والأصل قول الأول:
إن الثناء هو الخلود
ومما استعار فيه كلام المتقدمين ولم يراقب تصفح المتأملين قوله: من البسيط
هل تعلمون على نأي الديار بكم ... أن الضمير إليكم شيقٌ ولع
وهو قول أبي زبيد الطائي بعينه: من البسيط
من مبلغ قومي النائين إن شحطوا ... أن الفؤاد إليهم شيق ولع
وقوله: من الطويل
مرمون من قبل اللقاء مهابةً ... إذا رمقوا باب الطراف الممدد
من قول جرير: من الطويل
مرمون من ليثٍ عليه مهابة ... تفادى الأسود الغلب منه تفاديا
وقوله: من الوافر
أروني من يقوم لكم مقامي ... أروني من يقول لكم مقالي
فقوله: أروني من يقوم لكم مقامي، هو صدر بيت لجرير: من الوافر
أروني من يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمر جل عن الخطاب
؟وقوله: من الكامل
لا تبعدن وأين قربك بعدها ... إن المنايا غاية الإبعاد
من قول مالك بن الريب: من الطويل
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا
؟وقوله: من الكامل
قرفٌ على قرحٍ تقادم عهده ... إن القروف على القروح لأوجع
من بيت الحماسة المشهور: من الطويل
فلم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكء القرح بالقرح أوجع
؟وقوله: من البسيط
فكاذب النفس يمتد الرجاء لها ... إن الرجاء بصدق النفس ينقطع
من قول لبيد: من الرمل
واكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل
؟وقوله: من الخفيف
وندامى تفرقوا بعد إلفٍ ... شغلوا الدمع بعدهم أن يعارا
وهو قول الشمردل اليربوعي بعينه: من الطويل
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى ... فأنت على من مات بعدك شاغله
وقوله في صفة الخيل: من الطويل
خوارج من ذيل الغبار كأنها ... أنامل مقرورٍ دنا النار صاليا
هو بيت الأسعر بن أبي حمران الجعفي في مثله: من الكامل
يخرجن من خلل الغبار عوابساً ... كأنامل المقرور أقعى فاصطلى
وقوله: من الكامل المجزوء
مستلأمين بها كأن ... رؤوسهم بيض النعام
وهو قول النابغة: من الوافر
فصبحهم ململمة رداحاً ... كأن رؤوسهم بيض النعام
وقوله: من الطويل
وما كنت إلا كالثريا تحلقاً ... يدف على آثارها دبرانها
من قول ذي الرمة: من الطويل
يدف على آثارها دبرانها ... فلا هو مسبوقٌ ولا هو يلحق
وقوله: من الكامل
هن القسي من النحول فإن سما ... طلبٌ فهن من النجاء الأسهم
أخذه من قول البحتري وإن كان زاد في المعنى ونقص: من الخفيف
كالقسي المعطفات بل الأس ... هم مبريةً على الأوتار
وفي هذه القصيدة يقول يصف الدرع: من الكامل
من كل ضاحكة القتير كأنها ... بردٌ أعاركها الشجاع الأرقم
نقله من محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي في قوله يصفها: من الكامل
وعلي سابغة الدروع كأنها ... سلخٌ كسانيه الشجاع الأرقم
ومن ذلك قوله: من السريع
إصلاحك المال ابن عم الغنى ... والبخل خيرٌ من سؤال البخيل
وهو مسلوخٌ من قول ابن المعتز: من السريع
فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالبخل خيرٌ من سؤال البخيل
وقوله: من الطويل
فما آب حتى استفزع المجد كله ... شروبٌ على غيظ الرجال أكول
منقول من قول الأقرع بن معاذ: من الطويل
متين حبال الود مطلع العدى ... أكولٌ على غيظ الرجال شروب
ومن ذلك قوله: من الكامل المجزوء
يا حسنكم في الدهر أذ ... ناباً وأقبحكم رؤوسا
من قول الأول: من المتقارب
فيا قبحهم في الذي خولوا ... ويا حسنهم في زوال النعم
وأبو الطيب المتنبي، مع فضله المشهور، وبحره الغزير وأخذه برقاب الكلام، ووقوفه على دقائق المعاني، وإتيانه بها في أبهج رونقٍ وأصفى سبك وأرق لفظ، وعلى ما في شعره من الحكم والأمثال السائرة، يغلط ويحيل ويجيء بالمعنى الشنيع واللفظ الرذل، ثم لا يتصفحه فيسقطه أو ينبه عليه من بعد فيضعه.
فمن غلطه قوله: من الكامل
ملك زهت بماكنه أيامه ... حتى افتخرن به على الأيام
وإنما هو زهيت، يقال: زهيت علينا يا رجل، وزها النبت إذا اصفر وظهر زهوه أي صفرته، وزها البسر وأزهى إذا احمر وإذا اصفر. وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع التمر حتى يزهو، ويروى حتى يزهي، والزهو البسر والزهر أيضاً الكذب.
وقوله: من الكامل
وصلت إليك يدٌ سواء عندها ال ... بازي الأشهب والغراب الأبقع
وهو البازي غير مشددٍ، وقد وصل ألف القطع في قوله الأشهب وإنما احتذى في البازي قول البحتري: من الخفيف
وبياض البازي أحسن لوناً ... إن تأملت من سواد الغراب
وحكمها في هذا الإخلال عند من أخذه عليهما واحد.
وأخذ على المتنبي قوله: من الكامل
وقتلن دفراً والدهيم فما ترى ... أم الدهيم وأم دفرٍ هابل
والدهيم اسم الداهية، وأصل ذلك ناقة اسمها الدهيم حملت رؤوس قتلى جماعةٍ إلى أبيهم؛ والعرب تسمي الدنيا أم دفر لما فيها من المزابل والدفر النتن، فجعل المتنبي الدفر الداهية ووهم في ذلك.
وقوله: من الخفيف
لأمةٌ فاضةٌ أضاةٌ دلاصٌ ... أحكمت نسجها يدا داود
والمسموع مفاضةٌ ولم تقل العرب فاضة.
وقوله: من الطويل
فأرحام شعرٍ يتصلن لدنه ... وأرحام مالٍ ما تني تتقطع
فقالوا: لم تقل العرب لدن بالتشديد.
وعيب في القوافي بقول: من الكامل
أنا بالوشاة إذا ذكرتك أشبه ... تأتي الندى ويذاع عنك فتكره
وإذا رأيتك دون عرضٍ عارضاً ... أيقنت أن الله يبغي نصره
فإنه إن جعل الهاء حرف الروي لم يجز لأن هاء الضمير لا تكون روياً إلا إذا سكن ما قبلها، وإن جعل الراء الروي - وهو أولى - جاءه الخلل في التصريع بأشبه في البيت الأول.
وأحال في قوله: من البسيط
وضاقت الأرض حتى صار هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
وغير شيء معناه المعدوم، والمعدوم لا يرى.
وأحال في قوله: من الخفيف
يفضح الشمس كلما ذرت الشم ... س بشمسٍ منيرةٍ سوداء
وفي قوله أيضاً: من الطويل
وإن نلت ما أملت منك فربما ... شربت بماءٍ يعجز الطير ورده
فجعله في عسر المنال كالماء الذي يعجز الطير أن يرده فأحال المدح هجواً.
وسقط في مواضع كثيرة، فمن ذلك قوله في سيف الدولة: من الطويل
خف الله واستر ذا الجمال برقعٍ ... فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
أراد أن يمدحه فنسب به.
وقوله فيه: من الطويل
فإن كان بعض الناس سيفاً لدولة ... ففي الناس بوقات بها وطبول
وقوله: من الكامل
إني على شغفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها
فافتضح مع قول الرضي رضي الله عنه من بعده: من الطويل
يحن إلى ما تضمر الخمر والحلى ... ويصدف عما في ضمان المآزر
وقوله: من البسيط
العارض الهتن بن العارض الهتن ... بن العارض الهتن بن العارض الهتن
وقوله: من الكامل
فكأنه حسب الأسنة حلوةً ... أو ظنها البرني والآزاذا
وقوله: من الكامل
قلق المليحة وهي مسكٌ هتكها
وقوله: من مخلع البسيط
ماذا يقول الذي يغني ... يا خير من تحت ذي السماء
وقوله: من الكامل
أنى يكون أبا البرية آدمٌ ... وأبوك والثقلان أنت محمد
تقدير الكلام: كيف يكون آدم أبا البرية وأبوك محمدٌ وأنت الثقلان، يعني الإنس والجن، وآدم واحدٌ من الإنس، وقد فصل بين المبتدأ الذي هو أبوك وبين الخبر الذي هو محمد بالجملة التي هي والثقلان أنت، وهذا تعسف قبيحٌ.
ويناسبه قوله: من الطويل
حملت إليه من ثنائي حديقةً ... سقاها الحجى سقي الرياض السحائب
أراد سقي السحائب الرياض. وليس كل ما استعملته العرب يحسن استعماله بالمحدثين.
ومثله من شعره: من الكامل
فتبيت تسئد مسئداً في نيها ... إسآدها في المهمه الإنضاء
تقديره: مسئداً في نيها الإنضاء إسآدها في المهمه. وقد كان يكفيه في هذا البيت التكرير الذي لا فائدة فيه حتى أضاف إليه هذا التعقيد في التقديم والتأخير.
ومن الساقط المستهجن قوله: من الوافر
جواب مسائلي ألهٌ نظيرٌ ... ولا لك في سؤالك لا ألا لا
فأما ما اقتبس معناه واحتذى فيه على مثال من تقدمه فكثير، ولا يعد عيباً، إنما اعتده عليه ضدٌّ أو شانئٌ. والمعاني ليست مملوكةً، وأولى الناس بها من كساها لفظاً رائقاً وكملها وأحسن مجتلاها.
وقد تتوارد الخواطر في المعاني فلا ينسب الثاني إلى السرقة ما كانت مصالتةً لفظاً ومعنى، أو بيتاً كاملاً، كما أخذ الفرزدق، وكما قيل في بيت أبي تمام: من الطويل
وأحسن من نور تفتحه الصبا ... بياض العطايا في سواد المطالب
إنه مأخوذٌ من قول الأخطل: من الطويل
رأين بياضاً في سوادٍ كأنه ... بياض العطايا في سواد المطالب
ويقول من يتعصب لأبي تمام: إن هذا البيت مصنوع ولم يصح عن الأخطل، وهذا الأصح، فإن ديوانه لم يتضمنه ولا وجد في نسخة من النسخ. لكن قد قال العمي في ذكر الشيب: من الطويل
رأين بياضاً في سوادٍ كأنه ... بياض العطايا في سواد المطالب
ومن سقطات المتنبي: من الطويل
ولا واحداً في ذا الورى بل جماعةٌ ... ولا البعض من كل ولكنك الضعف
ولا الضعف حتى يبلغ الضعف ضعفه ... ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف
أقاضينا هذا الذي أنت أهله ... غلطت ولا الثلثان هذا ولا النصف
ومن معانيه المسروقة المنقولة في أفحش لفظ وأهجنه قوله: من الوافر
ونهب نفوس أهل النهب أولى ... بأهل المجد من نهب القماش
وأصله قول عمرو بن كلثوم: من الوافر
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا
وأخذ المعنى أبو تمام، لكنه زاد وبين وهذب اللفظ فقال: من البسيط
إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
ومما استهجن لفظه وبعد عن الاستعمال ومجته الأسماع قوله: من الكامل
ولديه ملعقيان والأدب المفا ... د وملحياة وملممات مناهل
وقوله: من الكامل
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيمٌ على الحسب الأغر دلائل
وقوله: من الوافر
أروض الناس من تربٍ وخوفٍ ... وأرض أبي شجاعٍ من أمان
وقوله: من الخفيف
كل آخائه كرام بني الدن ... يا ولكنه كريم الكرام
وقوله: من الكامل
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
ويجري مجراه في ركاكة لفظه والتكرير الذي لا معنى تحته إلا العي قوله: من الطويل
ومن جاهلٍ بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل
وقوله: من الطويل
فقلقت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيشٍ كلهن قلاقل
وقوله: من الوافر
وأفقد من فقدنا من وجدنا ... قبيل الفقد مفقود المثال
وقوله: من الطويل
وطعنٍ كأن الطعن لا طعن عنده
وقد خرج متتبعوه معاني من شعره مترذلة، اقتصرت منها على قوله مضافاً إلى ما سبق في أول هذا الفصل: من البسيط
لو استطعت ركبت الناس كلهم ... إلى سعيد بن عبد الله بعرانا
وله وقد جمع قبح اللفظ وبرد المعنى: من الكامل
إن كان مثلك كان أو هو كائنٌ ... فبرئت حينئذٍ من الإسلام
؟وقوله: من الكامل
خلت البلاد من الغزالة ليلها ... فأعاضهاك الله كي لا تحزنا
؟وعيب عليه قوله في صفة فرسٍ: من الرجز
وزاد في الأذن على الخرانق، وهو الأرنب، فدل على جهله بالخيل والمستحسن من صفاتها والمستقبح. وإنما توصف بصغر الأذن ودقتها، وهي ضد صفة الأرنب.؟
وأخذ عليه في العروض استعماله فاعلاتن في عروض الرمل في أبياتٍ كثيرةٍ غير مصرعةٍ من قصيدة أولها: من الرمل
إنما بدر بن عمارٍ سحابٌ ... هطلٌ فيه ثوابٌ وعقاب
فجاء به على تمام الدائرة، ولم تستعمله العرب، وإنما جاء في شعرها على فاعلن.
ومنه قوله: من الطويل
تفكره علمٌ ومنطقه حكم ... وباطنه دينٌ وظاهره ظرف
فجاء في عروض الطويل مفاعيلن ولم يرد في أشعار العرب إلا مفاعلن إلا في التصريع.
نوادر من هذا الباب
قيل لم ير الأحنف ضجراً قط إلا مرةً واحدةً، فإنه أعطى خياطاً قميصاً يخيطه فحبسه حولين، فأخذ الأحنف بيد ابنه بحرٍ، فأتى به الخياط وقال: إذا مت فادفع القميص إلى هذا.قال أبو حاتم: كنت أقرأ شعر المتلمس على الأصمعي فانتهينا إلى قوله: من البسيط
أغنيت شأني فأغنوا اليوم شأنكم ... واستحمقوا في هراس الحرب أو كيسوا
فغلطت فقلت أغنيت شاتي، فقال الأصمعي: فأغنوا اليوم تيسكم، وأشار إلي، فضحك جميع الحاضرين.
قيل إن عبد الله بن أحمد بن حنبل قرأ في الصلاة: اقرأ باسم ربك الذي خلق، فقيل له: أنت وأبوك في طرفي نقيضٍ، زعم أبوك أن القرآن ليس بمخلوق، وقد جعلت أنت رب القرآن مخلوقاً.
قال بعضهم: سمعت ابن شاهين المحدث في جامع المنصور يقول في الحديث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تشقيق الحطب، فقال بعض الملاحين: يا قوم فكيف نعمل والحاجة ماسة. وهو تشقيق الخطب.
قال: وسمعته مرةً أخرى وهو يفسر قوله تعالى: وثيابك فطهر المدثر: 4، قال: قيل لا تلبسها على غدرة، وإنما هو عذرة.
كان عند عمر بن عبد العزيز رجلان، فجعلا يلحنان، فقال الحاجب: قوما فقد أوذيتما أمير المؤمنين، فقال عمر أنت والله أشد أذىً لي منهما.
خرج إسحاق بن مسلم العقيلي مع المنصور إلى مكة فأمعن في السير وطوى المراحل، فقال إسحاق: إنا قد هلكنا يا أمير المؤمنين، فما هذه العجلة؟ قال: نخاف أن يفوتنا الحج، فقال: اكتب إليهم ليؤخروه عشرة أيام.
قيل للنسابة البكري: يا أبا ضمضم، آدم من أبوه؟ فحمله استقباح الجهل عنده حتى أن قال: آدم بن الصاء بن الحملح وأمه صاعدة بنت فرزام. فتضاحكت العرب.
محمد بن وهيب الحميري يذكر داخلاً فيما لا يحسنه وليس بمن شأنه: من الطويل
تشبهت بالأعراب أهل التعجرف ... فدل على مثواك قبح التكلف
لسان عراقيٌّ إذا ما صرفته ... إلى لغة الأعراب لم يتصرف
قرأ الرشيد ليلةً: وما لي لا أعبد الذي فطرني، فأرتج عليه، فأخذ يردد وابن أبي مريم بقربه في الفراش، فقال: لا أدري والله لم لا تعبده. فضحك الرشيد وقطع صلاته.
مدح علي بن الجهم المتوكل بقصيدةٍ قال في أولها: من الكامل
الله أكبر والنبي محمدٌ ... والحق أبلج والخليفة جعفر
فاستبرد هذا اللفظ والافتتاح. وقال فيه مروان ابن أبي الجنوب - ويقال ابن أبي الحكم - يهزأ به: من الطويل
أراد عليٌّ أن يقول قصيدةً ... بمدح أمير المؤمنين فأذنا
الباب الخامس والثلاثون
في أخبار العرب والجاهلية وأوابدهم
وغرائب من عوائدهم، وجملٍ من بلاغتهم، وعجائب من أكاذيبهم، وفنونٍ من سيرهم ووقائعهمللعرب أوابد وعوائد كانوا يرونها ديناً، وضلالاً يعتقدونه هدى، وقد دل على بعضها القرآن، وأكذب الله عز وجل دعاويهم فيها.
فمن ذلك قوله تعالى: ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وصيلةٍ ولا حامٍ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون المائدة: 103.
قال أهل اللغة: البحيرة ناقةٌ كانت إذا نتجت خمسة أبطنٍ، وكان آخرها ذكراً، بحروا أذنها، أي شقوها، وامتنعوا من ذكاتها وذبحها، ولا تطرد عن ماءٍ، ولا تمنع عن مرعى. وكان الرجل إذا أعتق عبداً وقال هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث. وأما الوصيلة ففي الغنم، كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، إذا ولدت ذكراً يجعلونه لآلهتهم، فإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وأما الحامي فالذكر من الإبل، كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطنٍ قالوا حمى ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماءٍ ولا مرعىً.
قوله عز وجل: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه المائدة: 90. فالخمر ما خامر العقل، ومنه سميت الخمر، والميسر القمار كله. وأصله أنه كان قماراً في الجزور سأشرحه بعد تمام التفسير. والأنصاب حجارةٌ كانت لهم يعبدونها وهي الأوثان، الواحد نصاب، وجمعه نصبٍ، والأنصاب جمع نصب. والأزلام واحدها زلمٌ وزلمٌ، وهي سهامٌ كانت لهم مكتوبٌ على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها نهاني ربي. وروي أنهم كان لهم آخر مكتوبٌ عليه متربصٌ فإذا أراد الرجل سفراً أو أمراً هو مهتمٌ به ضرب بتلك القداح، فإذا خرج سهم الأمر مضى لحاجته، وإذا خرج الناهي لم يمض في أمره.
القداح عشرةٌ؛ ذوات الحظ منها سبعةٌ وهي: الفذ، والتوأم، والرقيب ويسمى الضريب، والحلس، والنافس، والمسبل، ويسمى المصفح، والمعلى؛ وثلاثة أغفالٌ لا لها وهي: السفيح والمنيح والوغد. والمنيح له مواضع يمدح فيها ويذم. فالمذموم الذي لا حظ له، والممدوح قدحٌ يمنح أي يستعار فيدخل في القداح ثقةً بفوزه أي قدحٍ كان من السبعة، ويسمى المستعار أيضاً، والشجير والغريب، ومنه قول المنخل اليشكري: من الكامل المجزوء
بمري قدحي أو شجيري
وللفذ نصيبٌ واحدٌ، ولكل واحدٍ يلي الآخر زيادةٌ عليه بنصيب، حتى تكون للسابع سبعة أنصبةٍ على كل قدحٍ فرضٌ بعدد أنصبائه.
والفرض: الحز وربما كانت العلامات بالنار، فتلك يقال لها القرم، الواحدة قرمةٌ، وهي السمة؛ واللواتي بلا حظوظ لا علامة عليها، ولذلك تدعى الأغفال، وإنما تجعل الأغفال بين ذوات الحظوظ لتجول فيها فيؤمن من معرفة الضارب بها. والقداح متشابهة المقادير كالنبل، والسهم إذا لم يكن له نصلٌ ولا ريشٌ فهو قدحٌ، فإذا كان ذا نصلٍ وريش فهو سهمٌ.
والأيسار سبعةٌ على عدد القداح، وربما كانوا أقل من سبعةٍ لأن الرجل يأخذ قدحين أو ثلاثةً، فيكون عليه غرم الخائب يحتمله لجوده ويساره، وله حظ الفائز منها؛ وإنما يأخذون القداح على أحوالهم ويسارهم، فالقدح لا يكثر غنمه ولا غرمه، لأنه يأخذ حظاً واحداً ويغرم واحداً. وكانوا إذا أرادوا أن ييسروا ابتاعوا ناقةً بثمنٍ مسمىً وضمنوه لصاحبها، ولم يدفعوا إليه شيئاً حتى يضربوا فيعلموا على من يجب الثمن فينحرون قبل أن ييسروا وتقسم عشرة أقسام: فأحد الوركين جزءٌ، والآخر جزءٌ، والمنهل جزءٌ، والكاهل جزءٌ، والزور جزءٌ، والملحاءٌ جزءٌ، والكتفان جزء وهما العضدان، والذراع جزءان، وأحد الفخذين جزءٌ والآخر جزءٌ؛ ثم يعمدون إلى الطفاطف، وفقر الرقبة فتفرق على تلك الأجزاء بالسواء، فإن بقي عظمٌ أو بضعةٌ بعد القسم، فذلك الريم وهو للجازر، وسمي بذلك لأنه فصله، والريم العلاوة توضع فوق الجمل، وقال الشاعر: من الطويل
وكنت كعظم الريم لم يدر جازرٌ ... على أي بدأي مقسم اللحم يجعل
فالبدء النصيب، ويستثني بائع الناقة لنفسه، وأكثر ما يستثنى الرأس والأطراف والفرث.
وربما ضربوا القداح على الإبل، وجعلوا مكان كل جزءٍ من أعشار البعير جزوراً أو ما شاءوا من مضاعفة العدد. وإذا أرادوا أن يفيضوا بالقداح أحضروا رجلاً يسمونه الحرضة، لأنه نذلٌ من الرجال لا يأكل لحماً بثمن، إنما يستطعمه، فشدوا عينيه ثم ألقوا على يديه مجولاً، وهو ثوبٌ أبيض، لئلا يفهم مجسة القداح ويعصب على يديه الربابة، وهي سلفةٌ فيها القداح كالخريطة الواسعة تستدير فيها القداح وتستعرض وتجلجل، ومخرجها يضيق على أن يخرج منه قدحان، ويؤتى برجل فيقعد أميناً عليها يقال له الرقيب.
قال أبو ذؤيبٍ يذكر حميراً: من الكامل
فوردن والعيوق مقعد رابىء ال ... ضرباء خلف النجم لا يتتلع
النجم ها هنا الثريا، شبه العيوق وراءها برابىء الضرباء وهو الرقيب، لأنه يربأ أي يشرف، فإذا قعد قعد الرقيب وراءه بعد شد عينيه وشد الربابة على يديه. وقيل جلجل، فيجلجلها مرتين أو ثلاثاً، ثم يفيضها؛ والإفاضة أن يدفعها دفعةً واحدة إلى قدامٍ ليخرج منها قدحٌ، وكذلك الإفاضة من الحج، إنما هي من عرفاتٍ للدفع إلى جمعٍ. فإذا برز منها قدحٌ قام الرقيب فأخذه ونظر إليه، فإن كان غفلاً رده في الربابة وقال للحرضة: جلجل، وكان الخارج لغواً لا غنم فيه ولا غرم، وإن كان من السبعة دفعه إلى صاحبه فأخذ نصيبه، ثم تعاد الجلجلة والإفاضة، فإذا خرج من القداح ما يستوعب جميع الأعشار قطع الإفاضة، وكان ثمن الجزور على الذين لم تخرج قداحهم موزعاً في قدر سهامهم إن استوت حظوظ السهام والأعشار، فإن زادت الحظوظ الخارجة عن عشرة كان غرم الزيادة لأرباب القداح الفائزة على من لم تخرج قداحه مع ثمن الجزور على قدر سهامهم أيضاً، وربما حضر بعد فوز الواحد والاثنين من يسألهم أن يدخل قدحه في قداحهم فيفعلون، وهذا يعدونه من شريف فعالهم لأنه من كرم النفس وسعة الخلق.
قال المرقش: من الطويل
جديرون أن لا يحبسوا مجتديهم ... للحمٍ وأن لا يدرءوا قدح رادف
الرادف الذي يجيء بعد إغلاق الخطر.
وأد البنات: ومن أوابدهم وأد البنات، نهاهم الله عز وجل عنه في قوله: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاقٍ نحن نرزقكم وإياكم الإسراء: 31. وكانوا يقتلونهن كما ذكر تعالى خشية إملاقٍ، وقد ذكر أنهم كانوا يقتلونهن خوف العار وأن يسبين وليس يمتنع وقوع السببين، وقد جاءت أخبارهم دالةً عليهما.
وكان قيس بن عاصمٍ المنقري يئد بناته، وكان من وجوه قومه له من المال ما شاء.
فمن قتلهم إياهن خشية الإملاق ما روي عن صعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق أنه لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إني كنت أعمل عملاً في الجاهلية، فينفعني ذلك اليوم؟ قال: وما عملك؟ قال: أضللت ناقتين عشراوين، فركبت جملاً ومضيت في بغائهما فرفع لي بيتٌ جريدٌ فقصدته، فإذا رجلٌ جالسٌ بفناء الدار، فسألته عن الناقتين فقال: ما تارهما؟ قلت: ميسم بني دارم، قال: هما عندي، وقد أحيا الله بها قوماً من أهلك من مضر. فجلست معه فإذا عجوزٌ قد خرجت من كسر البيت فقال لها: ما وضعت فإن كان سقباً شاركنا في أموالنا، وإن كانت حائلاً وأدناها، فقالت العجوز: وضعت أنثى، قلت: أتبيعها؟ قال: وهل تبيع العرب أولادها؟ قال، قلت: وإنما أشتري حياتها ولا أشتري رقها، قال: فبكم؟ قلت: احتكم، قال: بالناقتين والجمل، قلت: ذلك لك على أن يبلغني الجمل وإياها، قال: ففعل. فآمنت بك يا رسول الله وقد صارت لي سنةٌ على أن أشتري كل موؤدةٍ بناقتين عشراوين وجمل، فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا موؤدةٍ قد أنقذتها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفعك ذلك لأنك لم تبتغ به وجه الله عز وجل، وإن تعمل في إسلامك عملاً صالحاً تثب عليه، فذلك قول الفرزدق يفتخر به: من المتقارب
وجدي الذي منع الوائدين ... وأحيا الوئيد فلم توءد
وفاخر الفرزدق رجلاً عند بعض خلفاء بني أمية فقال: أنا ابن محيي الموتى، فأنكر ذلك من قوله، فقال: إن الله عز وجل يقول: ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً المائدة: 32 وجدي منع من وأد البنات واشتراهن بماله، فذلك الإحياء، فقال الخليفة: إنك مع شعرك لفقيه.
قوله: عشراوان، العشراء الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر، وحمل الناقة سنةٌ، وقد تسمى النوق بعدما تضع عشاراً، والجريد المنفرد، يقال انجرد الجمل إذا انتحى عن الإناث فلم يترك معها. وقوله: وإن كان سقباً وإن كانت حائلاً، قال الأصمعي: إذا وضعت فولدها سليلٌ قبل أن يعلم أذكرٌ هو أم أنثى، فإذا علم فإن كان ذكراً فهو سقبٌ وأمه مسقبٌ، وإن كانت أنثى فهي حائلٌ وأمها أم حائل، قال الهذلي: من الطويل
فتلك التي لا يبرح القلب حبها ... ولا ذكرها ما أرزمت أم حائل
وهي مؤنثٌ، وقد آنثت أي جاءت بأنثى، وقد أذكرت فهي مذكرٌ إذا جاءت بذكر، وإن كان من عادتها أن تضع الإناث فهي مئناثٌ، وإن كان من عادتها أن تضع الذكور فهي مذكارٌ،وإذا قوي ومشى مع أمه فهو راشحٌ، والأم مرشحٌ، وإذا حمل في سنامه شحماً فهو محدود معكرٌ، ثم هو ربعٌ، وسئل العجاج عن الربع، فقال: الربع ما نتج في أول الربيع و الهبع ما نتج في آخره، فإذا مشى الهبع مع الربع أبطره ذرعاً فهبع بعنقه أي استعان به. ثم هو حوارٌ، فإذا فصل عن أمه - والفصال الفطام - فهو فصيلٌ و الجمع فصلان، ومنه الحديث: لا رضاع بعد فصال. فإذا أتى عليه حولٌ فهو ابن مخاضٍ، وإنما سمي ابن مخاضٍ لأن أمه لحقت بالمخاض و هي الحوامل، و إن لم تكن حاملاً، فإذا استكمل السنة الثانية و دخل في الثالثة فهو ابن لبونٍ، و الأنثى بنت لبون، وإنما سمي ابن لبونٍ لأن أمه كانت من المخاض في السنة الثانية، فإذا وضعت في الثالثة فصار لها لبنٌ فهي لبونٌ، وهو ابن لبونٍ، فلا يزال كذلك حتى يستكمل الثالثة، فإذا دخل الرابعة فهو حينئذ حقٌ، والأنثى حقةٌ لأنها قد استحقت أن يحمل عليها وتركب، فإذا استكمل الرابعة ودخل في الخامسة فهو جذعٌ، والأنثى جذعةٌ، فإذا دخل في السادسة فهو ثنيٌ والأنثى ثنيةٌ، فإذا دخل في السابعة فهو رباعٌ والأنثى رباعيةٌ، فإذا دخل في الثامنة فهو سديسٌ وسدسٌ، والأنثى سديسةٌ. فإذا دخل في التاسعة وبزل نابه يبزل فهو بازلٌ، يقال بزل نابه يبزل بزولاً وشقأ يشقأ شقوءاً، أو شقأً وشقىء أيضاً، وشق يشق شقوقاً، وفطر يفطر فطوراً، وبزغ وصبأ وعرد عروداً، فإذا دخل في العاشرة فهو مخلفٌ، ثم ليس له اسم بعد الإخلاف، ولكن يقال بازل عامٍ وبازل عامين ومخلف عامٍ ومخلف عامين.
وممن ذكر أن الوأد كان خوف العار أبو عبيدة معمر بن المثنى قال: منعت تميمٌ النعمان بن المنذر الإتاوة وهي الأربان، فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر، وكانت للنعمان خمس كتائب: إحداهن الوضائع، وهم قوم من الفرس، كان كسرى بعثهم عنده عدةً ومدداً، فيقيمون سنةً عند الملك من ملوك لخم، فإذا كان رأس الحول ردهم إلى أهليهم وبعث بمثلهم؛ وكتيبةٌ يقال لها الشهباء وهي أهل بيت الملك، وكانوا بيض الوجوه يسمون الأشاهب؛ وكتيبةٌ ماكثةٌ يقال لها الصنائع، وهم صنائع الملك، أكثرهم من بكر بن وائل؛ وكتيبةٌ رابعةٌ يقال لها الرهائن، وهم قومٌ كان يأخذهم من كل قبيلةٍ فيكونون رهناً عنده، ثم يوضع مكانهم مثلهم؛ والخامسة دوسر، وهي كتيبةٌ ثقيلةٌ تجمع فرساناً وشجعاناً من كل قبيلة. فأغزاهم أخاه وكل من معه من بكر بن وائل، فاستاق النعم وسبى الذراري، فوفدت إليه بنو تميم، فلما رآه أحب البقيا فقال النعمان: من البسيط
ما كان ضر تميماً لو تعمدها ... من فضلنا ما عليه قيس عيلان
فأثاب القوم وسألوه النساء، فقال النعمان: كل امرأةٍ اختارت أباها تركت عليه، فكلهن اخترن آباءهن إلا ابنةً لقيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عمرو ابن المشمرج، فنذر قيسٌ ألا يولد له ابنةٌ إلا قتلها، واعتل بهذا من وأد وزعم أنه أنفةٌ وحميةٌ.
وبمكة جبلٌ يقال له أبو دلامة كانت قريش تئد فيه البنات، وخبر قيس مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قد ذكر في موضع آخر.
قوله عز وجل: إنما النسيء زيادةٌ في الكفر التوبة: 37، النسيء تأخير الشيء، وكانوا يحرمون القتال في المحرم، ثم إذا عزموا أن يقاتلوا فيه جعلوا صفراً كالمحرم وقاتلوا في المحرم وأبدلوا صفراً منه. فأعلم الله عز وجل أن ذلك زيادةٌ في كفرهم ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيجعلون صفراً كالمحرم في العدد، ويقولون: إن هذه أربعة أشهر بمنزلة أربعة، والمواطأة المماثلة والموافقة. والأشهر الحرم: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة.
الرتم شجرٌ معروفٌ. كانت العرب إذا خرج أحدهم إلى سفرٍ عمد إلى هذا الشجر فعقد غصناً منه بغصنٍ، فإذا عاد من سفره إن وجده قد انحل قال: قد خانتني امرأتي، وإن وجده على حاله قال: لم تخني. وذلك قول الشاعر: من الرجز
هل ينفعنك اليوم إن همت بهم ... كثرة ما توصي وتعقاد الرتم
البلية: ناقةٌ. كانت العرب إذا مات أحدهم عقلوا ناقةً عند قبره وشدوا عينيها حتى تموت، يزعمون أنه إذا بعث من قبره ركبها، وذلك قول الحارث بن حلزة اليشكري: من الخفيف
أتلهي بها الهواجر إذا ك ... ل ابن همٍّ بليةٌ عمياء
إغلاق الظهر: كان الرجل منهم إذا بلغت إبله مائةً عمد إلى البعير الذي أمأت به فأغلق ظهره لئلا يركب ويعلم أن صاحبه تمأى، وإغلاق ظهره أن ينزع سناسن فقره ويعقر سنامه.
التعمية والتفقئة: كان الرجل إذا بلغت إبله ألفاً فقأ عين الفحل، يقول إن ذلك يدفع عنها العين والغارة. قال الشاعر: من الرجز
وهبتها وأنت ذو امتنان ... تفقأ فيها أعين البعران
فإذا زادت الإبل على الألف فقأ العين الأخرى فهو التعمية.
العتيرة: كان الرجل منهم يأخذ الشاة فيذبحها ويصب دمها على رأس صنم، وتسمى الشاة العتيرة والمعتورة، وذلك يكون في رجبٍ، وفيهم من يضن بالشاة فيذبح عنها الظباء، وذلك قول الحارث بن حلزة: من الخفيف
عنتاً باطلاً وزوراً كما تع ... تر عن حجرة الربيض الظباء
العر: داءٌ يأخذ الإبل شبيهٌ بالجرب، كانوا يكوون السليم ويزعمون أن ذلك يبرئ ذا العر، وذلك قول النابغة: من الطويل
حملت علي ذنبه وتركته ... كذي العر يكوى غيره وهو راتع
ضرب الثور عن البقر: كانوا إذا امتنعت البقر من شرب ضربوا الثور، ويزعمون أن الجن تركب الثيران فتصد البقر عن الشرب، وذلك قول الشاعر: من البسيط
كالثور يضرب لما عافت البقر
عقد السلع والعشر: كانوا إذا استمطروا في الجدب يعمدون إلى البقر فيعقدون في أذنابها السلع والعشر، ثم يضرمون فيها النار ويصعدونها في الجبل، ويزعمون أنهم يمطرون في الوقت.
دائرة المهقوع: وهو الفرس الذي به الدابرة التي تسمى الهقعة، يزعمون أنه إذا عرق تحت صاحبه اغتلمت حليلته وطلبت الرجال، قال الشاعر: من الطويل
إذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وازداد حراً عجانها
وطء المقاليت: المقلات التي لا يعيش لها ولد، يزعمون أن المرأة المقلات إذا وطئت قتيلاً عاش أولادها. قال بشر بن أبي خازم: من الطويل
تظل مقاليت النساء يطأنه ... يقلن ألا يلقى على المرء مئزر
الهامة: زعموا أن الإنسان إذا قتل ولم يطلب بثأره خرج من رأسه طائرٌ يسمى الهامة، وصاح على قبره: أسقوني إلى أن يدرك ثأره، وذلك قول ذي الإصبع: من البسيط
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
الصفر: زعموا أن الإنسان إذا جاع عض على شرسوفه الصفر، وهي حية تكون في البطن، وذلك قول أعشى باهلة، ويروى لأخت المنتشر الباهلي: من البسيط
لا يتأرى لما في القدر يرقبه ... ولا يعض على شرسوفه الصفر
تثنية الضربة: زعموا أن الحية تموت من أول ضربةٍ فإذا ثنيت عاشت، قال تأبط شراً: من الوافر
فقالت عد رويدك قلت إني ... على أمثالها ثبت الجنان
حيض الضبع: يقولون إن الضبع تحيض وإنها تنتاب جيف القتلى فتركب كمرها، وحملوا قول الشاعر على هذا: من المديد
تضحك الضبع لقتلى هذيلٍ ... وترى الذئب لها يستهل
وللعرب أقوال وأفعال تناسب هذه الأوابد وهي دونها في الاشتهار والالتزام.
كانوا يقولون: من علق عليه كعب الأرنب لم تصبه عينٌ ولا سحرٌ، وذلك أن الجن تهرب من الأرنب لأنها تحيض وليست من مطايا الجن.
وقيل لبعضهم: أحقٌّ ما يقولون: إن من علق على نفسه كعب أرنبٍ لم يقربه جنان الحي وعمار الدار؟ قال: إي والله وشيطان الحماطة وجان العشيرة وغول القفر وكل الخوافي، إي والله ويطفئ عنه نيران السعالي.
وزعموا أن الإنسان إذا غشي ثم قلي له سنامٌ وكبدٌ فأكله، فكلما أكل لقمةً مسح جفنه الأعلى بسبابته وقال: يا سنام وكبد، ليذهب الهدبد ليس شفاء هدبد إلا سنام وكبد، عوفي. والهدبد العشاء.
ويزعمون أن المرأة إذا أحبت رجلاً وأحبها ثم لم تشق عليه رداءه ويشق عليها برقعها فسد حبهما، فإذا فعلا ذلك دام حبهما.
ويزعمون أن الرجل إذا خدرت رجله فذكر أحب الناس إليه ذهب الخدر عنه. قالت امرأة من كلاب: من الطويل
إذا خدرت رجلي ذكرت ابن مصعبٍ ... فإن قلت عبد الله أجلى فتورها
ويزعمون أن الرجل إذا دخل قرية فخاف وباءها فوقف على بابها قبل أن يدخلها فعشر كما ينهق الحمار لم يصبه وباؤها. قال عروة بن الورد: من الطويل
لعمري لئن عشرت من خشية الردى ... نهاق الحمير إنني لجزوع
ويزعمون أن الحرقوص، وهو دويبةٌ أكبر من البرغوث، يدخل أحراح الأبكار فيفتضهن. وأنشدوا: من الرجز
ما لقي البيض من الحرقوص ... من ماردٍ لصٍّ من اللصوص
يدخل بين الغلق المرصوص ... بمهرٍ لا غالٍ ولا رخيص
لوجدان الضالة: يزعمون أن الرجل إذا ضل قلب ثيابه فاهتدى.
ويزعمون أن الذئاب إذا ظهر بأحدها دم أحال عليه صاحبه فقتله.
وكانوا يكرهون نوء السماك ويقولون فيه داء الإبل.
ويزعمون أن الكلاب تنبح السماء في الخصب، وكلما ألحت عليها السماء بالمطر نبحت. قال الشاعر: من الطويل
وما لي لا أغزو وللدهر كرةٌ ... وقد نبحت نحو السماء كلابها
وكانوا إذا نفرت الناقة ذكروا اسم أمها وزعموا أنها تسكن حينئذ.
ويقولون سبب بكاء الحمام أنه أضل فرخاً على عهد نوحٍ عليه السلام، فهو يبكيه، وهو الهديل خرزة السلوان: ولهم خرزة يزعمون أن العاشق إذا حكها وشرب ما يخرج منها صبر ويسمى السلوان، قال رؤبة: من الرجز
لو أشرب السلوان ما شفيت ... ما بي غنىً عنك وإن غنيت
نكاح المقت: ونكاح المقت من سننهم، وهو أن الرجل إذا مات قدم أكبر ولده فألقى ثوبه على امرأة أبيه فورث نكاحها، فإن لم يكن له فيها حاجة تزوجها بعض إخوته بمهرٍ جديدٍ، فكانوا يرثون نكاح النساء كما يرثون المال.
ويقولون: إن الدبران خطب الثريا، وأراد القمر أن يزوجه فأبت عليه وولت عنه، وقالت: ما أصنع بهذا السبروت الذي لا مال له؟ فجمع الدبران قلاصه يتمول بها، وهو يتبعها حيث توجهت يسوق صداقها قدامه، يعنون القلاص.
ويزعمون أن الجدي قتل نعشاً فبناته تدور تريده كما قيل: ابنٌ من غير الجن والإنس، فإنه إذا جمع قيل: بنات، كما يقال: بنات الماء لضربٍ من الطير، الواحد ابن ماء.
قال ذو الرمة: من الطويل
على قمة الرأس ابن ماءٍ محلق
وقال الآخر وجمع: من الطويل
صياح بنات الماء أصبحن وقعا
وكذلك بنات آوى وبنات عرس وبنات أوبر وبنات النقا، كل واحدٍ من هذه البنات ابن، ولم يأت في ذلك مذكر إلا في بيتين شاذين عن الباب؛ قال الأعشى: من الكامل
حتى يقيدك من بنيه رهينةً ... نعشٌ ويرهنك السماك الفرقد
وقال نابغة ببني جعدة: من الطويل
تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعشٍ دنوا فتصوبوا
وزعموا أن سهيلاً خطب الجوزاء فركضته برجلها فطرحته حيث هو، وضربها هو بالسيف فقطع وسطها.
يقولون: كان سهيل والشعريان مجتمعةً وانحدر سهيلٌ فصار يمانياً، وتبعته العبور فعبرت إليه المجرة، وأقامت الغميصاء فبكت حتى غمصت.
ويقولون: إن الله تعالى لم يدع ماكساً إلا أنزل به بلية، وإنه مسخ منهم اثنين ذئباً وضبعاً؛ وإن الضب وسهيلاً كانا ماكسين فمسخ الله أحدهما في الأرض والآخر في السماء، وفي ذلك يقول الحكم بن عمروٍ البهراني: من الخفيف
مسخ الماكسين ضبعاً وذئباً ... فلهذا تناجلا أم عمرو
مسخ الضب في الجدالة قدماً ... وسهيل السماء عمداً بصغر
الجدالة: الأرض.
ومن أكاذيبهم ما حكاه أبو عمرو الجرمي، قال: سألت أبا عبيدة عن قول الراجز: من الرجز
أهدموا بيتك لا أبا لكا ... وزعموا أنك لا أخا لكا
وأنا أمشي الدألى حوالكا
فقلت: لمن هذا الشعر؟ قال: يقول العرب هذا يقوله الضب للحسل أيام كانت الأشياء تتكلم. الدألي: مشيٌ كمشي الذئب، يقال هو يدأل في مشيته إذا مشى كمشية الذئب، ومنه قول امرىء القيس: من الطويل
أقب حثيث الركض والد ألان
ومن روى بيت ابن عنمة الضبي: من الوافر
تعارضه مرببةٌ دؤول
بالدال غير المعجمة أراد هذا، ومن قال ذؤول بالذال معجمةً أراد السرعة، يقال: مر يذأل أي يسرع.
وزعموا أن الضب قاضي الطير والبهائم، وأنها اجتمعت إليه أول ما خلق الإنسان فوصفوه له فقال: تصفون خلقاً ينزل الطير من السماء ويخرج الحوت من الماء، فمن كان ذا جناحٍ فليطر، ومن كان ذا مخلب فليحتفر.
ومن دعاويهم أن أبا عروة كان يزجر الذئاب ونحوها مما يغير على الغنم، فيفتق مرارة السبع في جوفه، فذلك قول النابغة الجعدي: من المنسرح
زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم
وقال من يطعن في هذا، السبع أشد أبداً من الغنم، فإذا فعل ذلك بالسبع هلكت الغنم قبله، وقال من يحتج له: إن الغنم كانت قد أنست بهذا منه.
ويزعمون أن عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب قال لابني الجون الكنديين يوم جبلة: إن لي عليكما حقاً لرحلتي ووفادتي، فدعوني أنذر قومي من موضعي هذا، فقالوا: شأنك. فصرخ بقومه فأسمعهم على مسيرة ليلةٍ.
وذكروا أن أبا عطية عفيفاً في الحرب التي كانت بين ثقيف وبني نصر نادى: يا سوء صباحاه، أتيتم يا بني نصر، فأسقطت الحبالى بصيحته فقيل فيه: من الطويل
وأسقط أحبال النساء بصوته ... عفيفٌ وقد نادى بنصرٍ فثوبا
قال التوزي: سألت أبا عبيدة عن مثل هذه الأخبار فقال: إن العجم تكذب فتقول: كان رجل ثلثه من نحاسٍ وثلثه من نارٍ وثلثه من ثلجٍ، فتعارضها العرب بهذا وما أشبهه.
قال أبو العميثل: تكاذب أعرابيان فقال أحدهما: خرجت مرةً على فرسٍ لي، فإذا أنا بظلمةٍ شديدةٍ فيممتها حتى وصلت إليها، فإذا قطعةٌ من الليل لم تنتبه، فما زلت أحمل عليها بفرسي حتى أبهتها فانجابت. فقال الآخر: لقد رميت ظبياً مرةً بسهمٍ فعدل الظبي يمنةً فعدل السهم خلفه، فتياسر الظبي فتياسر السهم خلفه، ثم علا الظبي فعلا السهم خلفه، ثم انحدر فانحدر حتى أخذه.
وكان عمرو بن معدي كرب الزبيدي معروفاً بالكذب على رئاسته في قومه وتقدمه وبسالته، وكان أشرف الكوفة يظهرون بالكناسة على دوابهم فيتحدثون إلى أن تطردهم الشمس. فوقف عمرو بن معدي كرب وخالد ابن الصقعب النهدي، فأقبل عمروٌ يحدثه فقال: أغرنا مرةً على بني نهد فخرجوا مسترعفين بخالد بن الصقعب، فحملت عليه فطعنته فأرديته ثم ملت عليه بالصمصامة فأخذت رأسه. فقال له خالد: حلا أبا ثور، إن قتيلك هو المحدث، فقال له: يا هذا إذا حدثت بحديثٍ فاستمع، فإنما نتحدث بمثل ما تسمع لنرهب به هذه المعيدية. قوله مسترعفين أي متقدمين، يقال: جاء فلان يرعف الجيش، ويؤم الجيش إذا جاء متقدماً لهم، وقوله: حلا أي استثن، يقال: حلف ولم يحلل.
وقد زعموا أن رجلاً نظر إلى ظبيةٍ فقال له أعرابي: أتحب أن تكون لك؟ قال: نعم، قال: فأعطني أربعة دراهم حتى أردها إليك، ففعل؛ فخرج يمحص في أثرها، وجد حتى أخذ بقرنيها فجاء بها وهو يقول: من الرجز
وهي على البعد تلوي خدها ... تريغ شدي وأريغ شدها
كيف ترى عدو غلامٍ ردها
ويحكون في خبر لقمان بن عاد أن جاريةً له سئلت عما بقي من بصره، فقالت: والله لقد ضعف، ولقد بقيت منه بقية، وأنه ليفصل بين أثر الأنثى والذكر من الذر إذا دب على الصفا.
قال حماد الرواية: قالت ليلى بنت عروة بن زيد الخيل لأبيها: أرأيت قول أبيك: من الطويل
بني عامرٍ هل تعرفون إذا غدا ... أبو مكنفٍ قد شد عقد الدوابر
بجيشٍ تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم منه سجداً للحوافر
يقول: لكثرة الجيش يطحن الأكم حتى يلصقها بالأرض.
وجمعٍ كمثل الليل مرتجس الوغى ... كثيرٍ تواليه سريع البوادر
أبت عادةٌ للورد أن يكره الوغى ... وعادة رمحي في نميرٍ وعامرٍ
هل حضرت مع أبيك هذه الوقعة؟ قال: نعم، قلت: فكم كانت خيلكم؟ قال: ثلاثة أفراسٍ أحدها فرسه. فذكرت هذا لابن أبي بكير الهذلي، فحدثني عن أبيه وقال: حضرت يوم جبلة - وقد بلغ مائة سنةٍ وأدرك أيام الحجاج - قال: فكانت الخيل في الفريقين مع ما كان لابني الجون ثلاثين فرساً. قال: فحدثت بهذا الحديث الخثعمي، وكان راوية أهل الكوفة، فحدثني أن خثعم قتلت رجلاً من بني سليم بن منصور فقالت أخته ترثيه: من الطويل
لعمري وما عمري علي بهينٍ ... لنعم الفتى غادرتم آل خثمعا
وكان إذا ما أورد الخيل بيشةً ... إلى جنب أشراجٍ أناخ فحمحما
فأرسلها زهواً رعالاً كأنها ... جرادٌ زهته ريح نجدٍ فأتهما
فقيل لها: كم كانت خيل أخيك؟ قالت: اللهم إني لا أعرف إلا فرسه.
وسأل الحجاج محمد بن عبد الله بن نميرٍ الثقفي عن قوله في أخته زينب بنت يوسف حيث شبب بها: من الطويل
ولما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذرات
كم كان ركبك يا نميري؟ قال: و الله إن كنت إلا على حمارٍ هزيلٍ ومعي رفيق لي على أتانٍ مثله. ويقال بل قال كان معي ثلاثة أحمرةٍ أجلب عليها القطران.
وعلى هذا قول مهلهل: من الوافر
فلولا الريح أسمع من بحجرٍ ... صليل البيض تقرع بالذكور
وإنما كانت الواقعة بعنيزة، وهي من حدود الشام فكم بينها وبين حجر اليمامة؟ وزعم أبو عبيدة معمر بن المثنى عمن حدثه أن بكر بن وائل أرادت الغارة على قبائل تميمٍ فقالوا إن علم بنا السليك أنذرهم، فبعثوا فارسين على جوادين يريغان السليك، فبصرا به فقصداه، وخرج يحضر كأنه ظبيٌ، وطارداه سحابة يومهما، فقالا: هذا النهار ولو جن الليل لقد فتر. فجدا في طلبه، فإذا بأثره قد بال فرغاً في الأرض وقد خدها، فقالا: قاتله ما أشد متنه، ولعل هذا كان من أول الليل. فما اشتد به العدو فتر، فاتبعاه، فإذا به قد عثر بأصل شجرةٍ فندر منها كمكان تلك، وانكسرت قوسه فارتزت قصدة منها في الأرض فنشبت. فقالا: قاتله الله، والله لا نتبعه بعد هذا، فرجعا عنه. فأتم إلى قومه فأنذرهم فلم يصدقوه لبعد الغاية عنه. ففي ذلك يقول: من الطويل
يكذبني العمران: عمرو بن جندبٍ ... وعمرو بن عمرٍو والمكذب أكذب
ثكلتهما إن لم أكن قد رأيتها ... كراديس يهديها إلى الحي موكب
كراديس فيها الحوفزان وحوله ... فوارس همامٍ متى يدع يركبوا
فصدقه قوم فنجوا، وكذبه الباقون فورد عليهم الجيش فاكتسحهم.
وكان تأبط شراً عجباً، وهو من العدائين الفتاك الشجعان، وكان يسبق الخيل عدواً على رجليه هو والشنفرى الأزدي وعمرو بن براق، وله أخبارٌ تبعد عن الصحة. وهو ثابت بن جابر بن سفيان بن عدي بن كعب بن حرب بن شيم بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن غيلان. فمن أخباره أنه كان يأتي امرأة يقال لها الزرقاء، وكان لها ابن من هذيل معها في أهلها، فقال لها ابنها وهو غلامٌ قد قارب الحلم: ما هذا الرجل عليك؟ قالت: عمك، إنه كان صاحباً لأبيك. فقال لها: إني والله ما أدري ما شأنه، ولا رأيته عندك والله لئن رأيته عندك لأقتلنه قبلك. فلما رجع إليها تأبط شراً أخبرته الخبر فقالت: إنه شيطان من الشياطين والله ما رأيته مستثقلاً نوماً قط، ولا ممتلئاً ضحكاً قط، ولا هم بشيء قط مذ كان صغيراً إلا فعله؛ ولقد حملته فيما رأيت عليه دماً حتى وضعته، وحملته وإني لمتوسدةٌ سرجاً في ليلة هربٍ، وأن نطاقي لمشدودٌ وإن على أبيه لدرع حديد، فاقتله، فأنت والله أحب إلي منه. قال: أفعل. فمر به وهو يلعب مع الغلمان فقال: انطلق معي أهبك نبلاً. فمشى معه شيئاً ثم وقف: وقال: لا أرب لي في نبلك. ثم رجع فلقي أمه فقال: والله ما أقدر عليه. وحال بينهما الغلام سنوات، ثم قال لها: إني قتله، أغزو به فأقلته، فقالت: افعل. فقال تأبط شراً للغلام: هل لك في الغزو؟ قال: نعم. فخرج معه غازياً لا يرى له غرةً حتى مر بنارٍ ليلاً، وهي نار بني أم قترة الفزاريين، وكانوا في نجعة. فلما رأى تأبط شراً النار وقد عرفها وعرف أهلها وأنهما لا يلقيان شيئاً إلا أهلكاه، أكب على رجله وقال: بهشت بهشت النار النار فخرج الغلام يهوي قبل النار حتى صادف عليها رجلين فواثباه فقتلهما جميعاً، ثم أخذ جذوةً من النار وأقبل يهوي إليه، فلما رأى النار تهوي قبله قال في نفسه: قتل والله واتبعوا أثره. قال تأبط: فخرجت أسعى حتى إذا بلغت النار حيث كنت استدرت طوفاً أو طوفين ثم اتبعت أثره. فما نشب أن أدركني ومعه جذوة من نار ويطرد إبل القوم، فقال: ما لك ويلك أتعبتني منذ الليلة، قال: قلت إني والله ظننت أنك قتلت، قال: لا والله، بل قتلت الرجلين، عاديت بينهما.
قال أبو عمرو وقد سمعت ابن أنس السلمي يقول: ليسا من بني فزارة إنما هو ابنا قترة من الأزد، ولقد لقيت أهل ذلك البيت وحدثتهم.
فقال تأبط شراً لصاحبه: الهرب الهرب الآن فالطلب والله في أثرك. ثم أخذ به غير الطريق، فما سار إلا ساعة أو قليلاً حتى قال له الغلام: أنت مخطئ، الطريق ما تستقيم الريح فيه. قال: قلت فأين؟ قال هذا المكان، فوالله ما جرم أن استقبل الطريق، وما كان سلكها قط. فأصبحنا فما برحت أطرد به حتى رأيت عينيه كأنهما خيط، فقلت: انزل فقد أمنت، فقال: هل تخاف شيئاً؟ قلت له: لا، قال: فنزلنا وأنخنا الإبل، ثم انتبذنا فنام في طرفها ونمت في الطرف الآخر ورمقته حتى أوى إلى نفسه وخط طرفاه نوماً. فقمت رويداً فإذا هو قد استوى قائماً فقال: ما شأنك؟ فقلت: سمعت حساً في الإبل، فطاف معي بينها حتى استثرناها، فقال: والله ما أرى شيئاً، أتخاف أن تكون نمت وأنت تخاف شيئاً؟ فقلت: لا والله لقد أمنت، فقال: فنم. فنمت ونام، فقلت: عجلت أن يكون استثقل نوماً فأمهلته حتى أوى إلى نفسه وتملا، فقمت رويداً فإذا هو قد استوى قائماً فقال: ما شأنك؟ قلت: سمعت حساً في الإبل، قال: أتخاف شيئاً؟ قلت: لا والله، قال: فنم ولا تعد فإني قد ارتبت منك. قال: فأمهلته حتى أدى نفسه واستثقل نفسه نوماً فقذفت بحصاة إلى رأسه فوالله ما عدا أن وقعت فوثب وتناومت، فأقبل فركضني برجله فقال: أنائم أنت؟ قلت: نعم، قال: أسمعت ما سمعت؟ قلت: لا، قال: والله لقد سمعت مثل بركة الجزور عند رأسي، قال: وطفت معه في البرك، فلم ير شيئاً فرجع إلى مكانه ورجعت، فلما استثقل نوماً، قذفت بحصاة إلى رأسه. فوالله ما عدا أن وقعت فوثب وتناومت فجاء فركضني برجله وقال: أسمعت ما سمعت؟ قلت له: لا، قال: والله لقد سمعت عند رأسي مثل بركة الجزور. فطاف فلم ير شيئاً، ثم أقبل علي مغضباً توقد عيناه، فقال: أتخاف شيئاً؟ قلت: لا، قال: والله لئن أيقظتني ليموتن أحدنا: أنا وأنت. ثم أتى مضجعه، قال: فوالله لقد بت أكلؤه أن يوقظه شيءٌ. وتأملته مضطجعاً فإذا هو على حرفٍ لا يمس الأرض منه إلا منكبه وحرف ساقٍ، وإن سائر ذلك لناشز منه. فلما فرغ من نومه قال: ألا تنحر جزوراً فنأكل منها؟ قال: قلت بلى، فنحرنا جزوراً فاشتوينا منها واحتلب ناقةً فشرب ثم خرج يريد المذهب، وراث علي جدا. فلما ارتبت اتبعت أثره، فأجده مضطجعاً على مذهبه، وإذا يده داخلةٌ في جحرٍ وإذا رجله منتفخةٌ مثل الوتر، وإذا هو قد مات. فانتزعت يده من الجحر، وإذا به قابضٌ على رأس أسود، وإذا بهما ميتان.
فقال تأبط شراً في ذلك: من الكامل
ولقد سريت على الظلام بمغشمٍ ... جلدٍ من الفتيان غير مثقل
وهي أبيات الحماسة المشهورة.
ومن أخباره التي تشبه أكاذيب العرب ودعاويهم: أنه قتل الغول وقال في ذلك: من الوافر
ألا من مبلغٌ فتيان فهمٍ ... بما لاقيت عند رحى بطان
وإني قد لقيت الغول تهوي ... بسهبٍ كالصحيفة صحصحان
فقلت لها كلانا نضو أرضٍ ... أخو سفرٍ فخلي لي مكاني
فشدت شدةً نحوي فأهوى ... لها كفي بمصقولٍ يمان
فأضربها بلا دهشٍ فخرت ... صريعاً لليدين وللجران
الجران: جلد الحلق، وسمي جران العود بسوط كان في يده من جران عوده.
فقالت عد فقلت لها رويداً ... مكانك إنني ثبت الجنان
فلم أنفك متكئاً لديها ... لأنظر مصبحاً ماذا دهاني
إذا عينان في رأسٍ قبيحٍ ... كرأس الهر مسترق اللسان
وساقا مخدجٍ وسراة كلبٍ ... وثوبٌ من عباءٍ أو شنان
كان من خبر سجاج وادعائها النبوة وتزويج مسيلمة إياها أن سجاج التميمية ادعت النبوة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعت عليها بنو تميم وكان فيما ادعت أنه أنزل عليها: يا أيها المتقون، لنا نصف الأرض ولقريشٍ نصفها ولكن قريشاً قومٌ يبغون.
واجتمعت بنو تميم كلها لنصرها، وكان فيهم الأحنف بن قيس وحارثة بن بدر ووجوه بني تميمٍ كلها. وكان مؤذنها شبث بن ربعي الرياحي، فعمدت في جيشها إلى مسيلمة الكذاب وهو باليمامة، فقالت: يا معشر تميم، اقصدوا اليمامة، فاضربوا فيها كل هامة، وأضرموا فيها ناراً ملهامة، حتى تتركوها سوداء كالحمامة. وقالت لبني تميم: إن الله لم يجعل هذا الأمر في ربيعة، وإنما جعله في مضر، فاقصدوا هذا الجمع، فإذا فضضتموه كررتم على قريشٍ. فسارت في قومها وهم الدهم الداهم. وبلغ مسيلمة خبرها، فضاق به ذرعاً وتحصن في حجر حصن اليمامة. وجاءت في جيوشها فأحاطت به. فأرسل إلى وجوه قومه وقال: ما ترون؟ قالوا: نرى أن تسلم الأمر إليها وتدعنا، فإن لم تفعل فهو البوار.
وكان مسيلمة داهيةً، فقال: سأنظر في هذا. ثم بعث إليها أن الله تبارك وتعالى أنزل عليك وحياً وأنزل علي وحياً، فهلمي نجتمع ونتدارس ما أنزل علينا، فمن عرف الحق نفعه، واجتمعنا فأكلنا العرب أكلاً بقومي وقومك. فبعثت إليه: أفعل. فأمر بقبة أدمٍ فضربت، وأمر بالعود المندل فسجر فيها، وقال: أكثروا من الطيب والمجمر، فإن المرأة إذا شمت رائحة الطيب ذكرت الباءة. ففعلوا ذلك. وجاءها رسوله يخبرها بأمر القبة المضروبة للاجتماع، فأتته فقالت: هات ما أنزل الله عليك، فقال: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، ما بين صفاقٍ وحشا، من بين ذكر وأنثى، وأموات وأحيا، ثم إلى ربهم يكون المنتهى.
قالت: وماذا؟ قال: ألم تر أن الله خلقنا أفواجاً، وجعل النساء لنا أزواجاً، فنولج فيهن قعساً إيلاجاً، ونخرجها منهن إذا شئنا إخراجاً.
قالت: فأي شيء أمرك؟ قال: من الهزج
ألا قومي إلى النيك ... فقد هيي لك المضجع
فإن شئت ففي البيت ... وإن شئت ففي المخدع
وإن شئت سلقناك ... وإن شئت على أربع
وإن شئت بثلثيه ... وإن شئت به أجمع
فقالت: لا، إلا به أجمع، فقال: كذلك أوحي إلي. فواقعها. فلما قام عنها قالت: إن مثلي لا يجري أمرها كذا فيكون وصمةً على قومي وعلي، ولكن أنا مسلمةٌ إليك النبوة فاخطبني إلى أوليائي يزوجونك، ثم أقود تميماً معك.
فخرج وخرجت معه، فاجتمع الحيان من حنيفة وتميم، فقالت سجاح: إنه قرأ علي ما أنزل عليه، فوجدته حقاً فاتبعته. ثم خطبها فزوجوه إياها، ثم سألوه عن المهر، فقال: قد وضعت عنكم صلاة العصر. فبنو تميم إلى الآن بالرمل لا يصلونها، ويقولون: هذا حقٌّ لنا ومهر كريمتنا لا نرده.
وقال شاعر بني تميم يذكر أمر سجاح: من البسيط
أضحت نبيتنا أنثى يطاف بها ... وأصبحت أنبياء الله ذكرانا
قال: وسمع الزبرقان بن بدرٍ الأحنف يومئذٍ، وقد ذكر مسيلمة وما تلاه عليهم، فقال الأحنف: تالله ما رأيت أحمق من هذه الأنبياء قط، فقال الزبرقان: والله لأخبرن بذلك مسيلمة، فقال: إذن والله أحلف أنك كذبت فيصدقني ويكذبك، قال: فأمسك الزبرقان وعلم أنه قد صدق.
قال: وحدث الحسن البصري بهذا فقال: أمن والله أبو بحر من نزول الوحي. وأسلمت سجاح بعد ذلك وبعد قتل مسيلمة، وحسن إسلامها.
وقال الأغلب العجلي في تزويج مسيلمة الكذاب بسجاح: من الراجز
قد لقيت سجاح من بعد العمى ... ملوحاً في العين مجلوز القرا
مثل الفنيق في شبابٍ قد أتى ... اللجيميين أصحاب القرى
ليس بذي واهنةٍ ولا نسا ... نشا بلحمٍ وبخبزٍ ما اشتهى
حتى شتا تنتح ذفراه الندى ... خاظي البضيع لحمه خظا بظا
كأنما جمع من لحم الخصى ... إذا تمطى بين برديه صأى
كأن عرق أيره إذا ودى ... حبل عجوزٍ ضفرت سبع قوى
يمشي على خمس قوائم زكا ... يرفع وسطاهن من برد الندى
قالت متى كنت أبا الخير متى ... قال حديث لم يغيرني البلى
ولم أفارق خلةً لي عن قلى ... فانتعشت فيشته نصف الشوى
كأن في أجيادها سبع كلى ... ما زال عنها بالحديث والمنى
والحلف السفساف يردي في الردى ... قالت ألا ترينه قالت أرى
قال ألا أدخله قالت بلى ... فشام فيها مثل محراث الغضا
يقول لما غاب فيها واستوى ... لمثلها كنت أحسيك الحسى
وأما خبر مسيلمة في قتله فهو مع المغازي، وقتله جيش أبي بكرٍ رضي الله عنه باليمامة بعد حربٍ عظيمةٍ. وكان معظم الصحابة رضي الله عنهم في الجيش، وقتل منهم عددٌ كثير. وكانت لخالد بن الوليد فيها نكايةٌ شديدةٌ.
وتنبأ قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم الأسود العنسي باليمن، واشتدت شوكته واستطار أمره كالحريق فقتله الأبناء باتفاق من زوجته بصنعاء.
وتنبأ طلحة الأسدي في بني أسدٍ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم عاد إلى الإسلام وشهد وقائع الفرس، وكان له فيهم نكايةٌ. وهو معدودٌ من الفرسان. وكان يتكهن.
قال الجاحظ: كان مسيلمة قبل التنبؤ يدور في الأسواق التي بين دور العجم والعرب كسوق الأبلة وسوق الأنبار وسوق بقة وسوق الحيرة، يلتمس تعلم الحيل والنيرنجات واحتيالات أصحاب الرقى والنجوم، وقد كان أحكم حيل الحزاة وأصحاب الزجر والخط. فمن ذلك أنه صب على بيضة من خلٍّ حاذقٍ قاطعٍ فلانت حتى إذا مددها استطالت واستدقت كالعلك، ثم أدخلها قارورة ضيقة الرأس وتركها حتى انضمت واستدارت وعادت كهيئتها الأولى، فأخرجها إلى قومه وادعى النبوة فآمن به جماعة منهم وقيل فيه: من الطويل
بيضة قارورٍ وراية شادنٍ ... وتوصيل مقصوصٍ من الطير جادف
يريد براية الشادن الراية التي يعملها الصبي من القرطاس الرقيق، ويجعل لها ذنباً وجناحاً، ويرسلها يوم الريح بالخيوط الطوال. وكان يعمل راياتٍ من هذا الجنس ويعلق فيها الجلاجل ويرسلها في ليلة الريح ويقول: الملائكة تنزل علي وهذه خشخشة الملائكة وزجلها. وكان يصل جناح الطائر المقصوص بريشٍ معه فيطير.
قوله سبحانه وتعالى: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج البقرة: 189.
كان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الهلال في بدئه دقيقاً، وعن عظمه بعد، وعن رجوعه دقيقاً كالعرجون القديم. فأعلم الله عز وجل أنه جعل ذلك ليعلم الناس أوقاتهم فيما فرض عليهم من حجهم وعدة نسائهم وجميع ما يريدون علمه مشاهرةً، لأن هذا أسهل على الناس من حفظ عدد الأيام، يستوي فيه الحاسب وغيره.
واشتقاق الهلال من قولهم: استهل الصبي إذا بكى حين يولد، وأهل القوم بحجٍّ وعمرةٍ أي رفعوا أصواتهم بالتلبية. وكذلك الهلال حين يرى يهل الناس بذكره، ويقال: أهل الهلال واستهل، ولا يقال اهتل. ويقال: أهللنا الهلال وأهللنا شهر كذا وكذا، أي دخلنا فيه. وسمي الشهر شهراً لشهرته وبيانه.
واختلف الناس في الهلال إلى متى يسمى هلالاً، وإلى متى يسمى قمراً. فقال بعضهم: يسمى هلالاً لليلتين من الشهر، ثم لا يسمى هلالاً إلى أن يعود في الشهر الثاني. وقال بعضهم: يسمى هلالاً حتى يحجر، أي يستدير بخطة دقيقة، وهو قول الأصمعي. وقال بعضهم: يسمى هلالاً إلى أن يبهر بضوئه سواد الليل، فإذا كان كذلك قيل له قمر، وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة.
قال أبو إسحاق الزجاج: والذي عندي وما عليه الأكثر أن يسمى هلالاً ابن ليلتين، فإنه في الثالثة يبين ضوؤه.
واسم القمر الزبرقان، واسم دارته الهالة، واسم ضوئه الفخت، وقال بعض أهل اللغة: لا أدري الفخت اسم ضوئه أو ظلمته على الحقيقة، واسم ظله السمر، ومن هذا قيل للمتحدثين ليلاً سمار. ويقال: ضاء القمر وأضاء، ويقال طلع القمر، ولا يقال: طلعت القمراء وضاءت.
ب قال أبو زيد وابن الأعرابي: يقال للقمر ابن ليلة عتمةٌ سخيلةٌ، حل أهلها برميلة، وقال غيرهما: رضاع سخيلةٍ.
وابن ليلتين، حديث أمتين، كذبٌ ومينٌ. وقال ابن الأعرابي: بكذبٍ ومينٍ.
وابن ثلاثٍ: حديث فتياتٍ، غير مؤتلفات. وقيل: ابن ثلاث قليل اللباث.
ابن أربع: عتمة ربع، لا جائعٍ ولا يرضع. وعن ابن الأعرابي: عتمة ابن الربع.
وابن خمس: حديثٌ وأنس، وقال أبو زيد: عشاء خلفاتٍ قعس.
وابن ست سر وبت.
وابن سبع دلجة الضبع.
وابن ثمانٍ: قمراء إضحيان. وقيل: قمر اضحيان وبالتنوين فيهما.
وابن تسع، عن أبي يزيد: انقطع الشسع. وعن غيره يلتقط فيه الجزع.
وابن عشر: ثلث الشهر. عن أبي زيد وعن غيره: فخنق الفجر، وفي رواية: أودتك إلى الفجر. ولم تقل العرب في صفة ليلةٍ بعد العشر كما قالت في هذه العشر، كذا قال الزجاج.
وجاء عن الأصمعي وغيره وصفها إلى آخر الشهر: قالوا: ابن إحدى عشرة، أطلع عشاءً وأرى بكرة، وقيل: وأغيب بسحرة.
قيل: ما أنت ابن اثنتي عشر؟ قال فويق البشر في البدو والحضر.
قيل: ما أنت ابن ثلاث عشرة؟ قال: قمرٌ باهر يعشى له الناظر.
قيل: ما أنت ابن أربع عشرة؟ قال: مقتبل الشباب، أضيء دجنات السحاب.
قيل: ما أنت ابن خمس عشرة؟ قال: ثم الشباب، وانتصف الحساب.
قيل: ما أنت ابن ست عشرة؟ قال: نقص الحلق في الغرب والشرق.
قيل: ما أنت ابن سبع عشرة؟ قال: أمكنت المقتفر القفرة.
قيل: ما أنت ابن ثماني عشرة؟ قال: قليل البقاء، سريع الفناء.
قيل: ما أنت ابن تسع عشرة؟ قال: بطيء الطلوع، بين الخشوع.
قيل: ما أنت ابن عشرين؟ قال: أطلع سحرة وأضيء بالبهرة.
قيل: ما أنت ابن إحدى وعشرين؟ قال: أطلع كالقبس، يرى بالغلس.
قيل: ما أنت ابن اثنتين وعشرين؟ قال: لا أطلع إلا ريثما أرى.
قيل: ما أنت ابن ثلاثٍ وعشرين؟ قال: أطلع في قتمة ولا أجلو الظلمة.
قيل: ما أنت ابن أربعٍ وعشرين؟ قال: لا قمرٌ ولا هلال.
قيل: ما أنت ابن خمسٍ وعشرين؟ قال: دنا الأجل، وانقطع الأمل.
قيل: ما أنت ابن ستٍّ وعشرين؟ قال: دنا ما دنا فما يرى مني الأشقا.
قيل: ما أنت ابن سبعٍ وعشرين؟ قال: أطلع بكرا ولا أرى ظهرا.
قيل: ما أنت ابن ثمانٍ وعشرين؟ قال: أسبق شعاع الشمس.
قيل: ما أنت ابن تسعٍ وعشرين؟ قال: ضئيلٌ صغير ولا يراني إلا البصير.
قيل: ما أنت ابن ثلاثين؟ قال: هلالٌ مستبين.
تفسير هذه الألفاظ ومعانيها: أما قوله رضاع سخيلة: فالمعنى أن القمر يبقى بقدر ما نزل قوم فتضع شاتهم ثم ترضعها ويرتحلون.
وقوله حل أهلها برميلة يحتمل الإخبار عن قلة اللباث وسرعة الانتقال، لأن الرمل ليس بمنزل مقامٍ للقوم، لأنهم كانوا يختارون في منازلهم جلد الأرض وهضبها والأماكن التي لا تستولي عليها السيول؛ فخض الرميلة لهذا المعنى.
وقوله حديث أمتين بكذب ومين: يريد أن بقاءه قليلٌ بقدر ما تلقى الأمة الأمة فتكذب لها حديثاً ثم يفترقان.
وقوله حديث فتيات غير مؤتلفات: أراد أنه يريد أنه يبقى بقاء فتياتٍ اجتمعن على غير موعد فيتحدثن ساعة وينصرفن غير مؤتلفات.
وقوله عتمة أم ربع: يقال: عتمت إبله إذا تأخرت عن العشاء، ومن هذا سميت العتمة لأنه أخر الوقت في العشاء.
وقوله أم ربع يعني الناقة، وهي تأخير حلبها. يريد أن بقاءه بمقدار حلب ناقةٍ لها ولدٌ ولدته في أول الربيع، وهو أول النتاج، والولد في هذا الوقت يسمى ربعاً إذا كان بكراً، فإن كان أنثى قيل: ربعة، فإن كان في آخر النتاج قيل: هبعٌ للذكر والأنثى هبعة.
وقوله عشاء خلفاتٍ قعس: فالخلفات اللواتي قد استبان حملهن، واحدتها خلفة. وهي واحدة المخاض من لفظها، وإنما قال عشاء خلفات لأنها لا تعشى إلى أن يغيب القمر في هذه الليلة؛ والقعساء الداخلة الظهر الخارجة البطن.
وقوله سر وبت: يريد أنه يبقى بقدر ما يبيت الإنسان ثم يسير، فقلب المعنى لأنه يسير في الضوء.
وقوله قمرٌ إضحيان بالتنوين فيهما: أي ضاحٍ بارز. ويقال قمر إضحيانٍ باللإضافة، ومنه قيل: ليلةٌ إضحيانة إذا كانت نقية البياض.
وقوله منقطع الشسع: أي أنه يبقى بقدر ما يبقى شسع من قدٍّ يمشى به حتى ينقطع.
وقوله يلتقط فيه الجزع: أي أنه مضيءٌ أبلج لو انقطعت مخنقة فتاةٍ فيها شذور مفصلة بجزع ما ضاع منها شيءٌ لصفائه وبقائه.
وقوله أضيء بالبهرة: يعني به وسط الليل لأن بهرة الشيء وسطه.
وقوله أمكنت المقتفر القفرة: فالمقتفر الذي يتتبع الآثار، وقفرته موضعه الذي يقصده.
ولقد جزأت العرب الليل عشرة أجزاء، فجعلوا لكل ثلاث صفة، فقالوا: ثلاثٌ غرر، وبعضهم يقول: غرٌّ، وثلاثٌ شهبٌ، وثلاثٌ بهرٌ وبهرٌ، وثلاثٌ عشر، وثلاثٌ بيض، وثلاث درع ودرعٌ، ومعنى الدرع سواد مقدم الشاة وبياض مؤخرها، وإنما قيل لها درع لأن القمر يغيب في أولها فيكون الليل أدرع، لأن أوله أسود وما بعده مضيء، وثلاث خنس، وإنما قيل لها خنس لأن القمر يخنس فيها أي يتأخر، وثلاث دهم لأنها تظلم حتى تدهام. وقال بعضهم: ثلاثٌ حنادس، وثلاث قحم، لأن القمر ينقحم فيها أي يطلع في آخر الليل، وثلاث دآدي، وهي أواخر الشهر، وإنما أخذ من الدأدأة؛ وهو ضرب من السير تسرع فيه الإبل نقل أرجلها من موضع أيديها، فالدأدأة آخر نقل القوائم، وكذلك هي أواخر أيام الشهر.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: الوليمة في أربع: في عرسٍ أو خرسٍ أو إعذار أو توكير. فالعرس طعام المبتني، والخرس طعام الولادة مأخوذ من الخرسة؛ وهو طعام النفساء، والإعذار طعام الختان، والوكيرة طعام البناء، كان الرجل إذا فرغ من بنائه أطعم أصحابه، يتبرك بذلك. يقال: غلام معذور. وقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كنا من أعذار عامٍ واحدٍ، يريد تقارب أسنانهم.
كانت العرب أشد الأمم عنايةً بمعرفة النجوم وأنوائها، وهم أحوج إليها لأنهم أهل عمدٍ وطنبٍ، وحلٍّ وترحالٍ، فلهم في كل نوءٍ حالٌ يصرفون أمرهم عليها.
وقد قيل لأعرابي: ما أعلمك بالنجوم؟ قال: من الذي لا يعلم أجذاع بيته؟ وقيل لأعرابية: تعرفين النجوم؟ قالت: سبحان الله أما نعرف أشياخنا وقوفاً علينا كل ليلة؟ ولهم فيها أسجاع محفوظة متداولة.
قالوا: إذا طلع النجم عشاء ابتغى الراعي كساء.
إذا طلع الدبران توقدت الحزان، واستعرت الدبان، ويبست الغدران.
إذا طلعت الجوزاء توقدت المعزاء وأوفى على عوده الحرباء، وكنست الظباء، وعوق العلباء، وطاب الخباء.
إذا طلع الدراع حسرت السمش القناع، وأشعلت في الأفق الشعاع، وترقرق السراب بكل قاع.
إذا طلعت الشعرى، نشفت الثرى، وأجن الصرى، وجعل صاحب النحل يرى.
إذا طلعت الجبهة، كانت الولهة، وتغارت السفهة.
إذا طلع سهيل، طاب الليل، وحدى النيل، وامتنع القيل، وللفصيل الويل، ورفع كيل، ووضع كيل.
إذا طلعت الصرفة، اختال كل ذي حرفة، وجفر كل ذي نطفة.
إذا طلعت العواء، ضرب الخباء، وطاب الهواء، وكره العراء، وسنن السقاء.
إذا طلعت السماك ذهبت العكاك، وقل على الماء اللكاك.
إذا طلعت الزبانى أحدثت لكل ذي عيال شانا، ولكل ذي ماشية هوانا، وقالوا كان وكانا، فاجمع لأهلك ولا توان.
إذا طلع الإكليل هبت الفحول، وشمرت الذيول، وخيفت السيول.
إذا طلع القلب، جاء الشتاء كالكلب، وصار أهل البوادي في كرب.
إذا طلع الهراران، هزلت السمان، واشتد الزمان، وجوع الولدان. والهراران قلب العقرب والنسر الواقع يطلعان معاً.
إذا طلعت الشولة، أخذت الشيخ البولة، واشتدت على العيال العولة، وقيل شتوة زولة، أي عجيبة.
إذا طلع سعد السعود ذاب كل جمود، واخضر كل عود، وانتشر كل مصرود.
إذا طلع الحوت، خرج الناس من البيوت.
وهذا موضع آرائهم وأقوالهم في الأنواء. قال أبو جعفر محمد بن حبيب: العهاد الوسمي من المطر، والولي ما كان من مطرٍ بعد الوسمي حتى تنقضي السنة، فذلك كله وليٌّ. والوسمي أول مطر يقع في الأرض، وله سبعة أنجم: الفرع والموخر والحوت والشرطين والبطين والثريا - وهو النجم - والدبران والهقعة. والوسمي يسمى العهاد، ثم يكون الوسمي الدفيء وهو مطر الشتاء وهو الربيع، وأنجمه الهقعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة وهي الخراتان والصرفة آخر مطر الشتاء.
ويقال: إذا سقطت الجبهة نظرت الأرض بإحدى عينيها، فإذا سقطت الصرفة نظرت الأرض بعينيها كلتيهما لاستقبال الصيف وتقضي الشتاء واستحلاس الأرض وتناول المال. ثم أنجم الصيف: العواء وهو السماك، والغفر والزبانيان والإكليل والقلب والشولة، فهذه كواكب الصيف، فإذا استهلت هذه الأنجم بعدما قد قضى وثق الناس بالحيا. ثم بعد الصيف مطر الحميم وهو أربعة أنجم، وهو مطر الفيض، أولهن النعائم ثم البلدة ثم سعد الذابح ثم سعد بلع، فهذه أنجم الحميم، وإنما سمي الحميم لأنه مطر في أيام حارة، وقد هاجت الأرض فتنشر عليه الأرض، فإذا أكلته الماشية لم تكد تسلم فأصابها الهرار والسهام؛ والهرار هو سلال الماشية وذلك أن تشرب الماء فلا تروى فتسلح حتى تموت، والسهام تبرأ منه والهرار لا تكاد تبرأ منه، ثم أنجم الخريف ثلاثة: فأولهن سعد السعود وسعد الأخبية وفرغ الدلو المقدم.
والبوارح أربعة: فأولهن النجم، وهي الثريا، ثم الدبران والجوزاء والشعرى، فهذا لب القيظ وغرته وشدة حره.
وقولهم أيام العجوز: زعموا أن عجوزاً دهريةً كانت من العرب كانت تخبر قومها ببردٍ يقع آخر الشتاء يسوء أثره على المواشي، فلم يكترثوا بقولها، وجروا أغنامهم واثقين بإقبال الربيع، فإذا هم ببردٍ شديدٍ أهلك الزرع والضرع، فقالوا: أيام العجوز. وقيل هي عجوزٌ كان لها سبعة بنين، فسألتهم أن يزوجوها وألحت، فقالوا لها: ابرزي للهواء سبع ليالٍ حتى نزوجك ففعلت، والزمان شتاء كلب، فمات في السابعة، فنسبت الأيام إليها. وقيل هي الأيام السبعة التي أهلك فيها عاد. وقيل الصواب أيام العجز وهي أواخر أيام الشتاء.
أسماء الأيام عند العرب: الأحد أول، الإثنين أهون، الثلاثاء جبار، الأربعاء دبار، الخميس مؤنس، الجمعة عروبة، السبت شيار. وأنشدوا في ذلك شعراً كأنه مصنوع لأنه مختل الإعراب وهو: من الوافر
أؤمل أن أعيش وأن يومي ... بأول أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته ... فمؤنس أو عروبة أو شيار
أنشد ذلك أبو عمر الزاهد.
يقال: إن بدء تفرق ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام عن تهامة، ونزوجهم عنها إلى الآفاق، وخروج من خرج منهم عن نسبه، أن خزيمة بن نهد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة بن معد كان مشؤوماً فاسداً متعرضاً للنساء، فعلق فاطمة بنت يذكر بن عنزة، واسم يذكر عامر، فشبب بها، وقال فيها: من الوافر
إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا
وحالت دون ذلك من همومي ... همومٌ تخرج الشجن الدفينا
أرى ابنة يذكرٍ ظعنت وحلت ... جنوب الحزن يا شحطاً مبينا
فمكث كذلك زماناً، ثم إن خزيمة بن نهد قال ليذكر بن عنزة: أحب أن تخرج معي حتى نأتي بقرظٍ، فخرجا جميعاً، فلما خلا خزيمة بيذكر قتله، فلما رجع وليس هو معه سأله أهله عنه فقال: لست أدري، فارقني وما أدري أين سلك. فتكلموا فيه فأكثروا، ولم يصح على خزيمة بن نهد عندهم شيءٌ يطالبونه به حتى قال خزيمة بن نهد: من المتقارب
فتاةٌ كأن رضاب العبير ... بفيها يعل به الزنجبيل
قتلت أباها على حبها ... فتبخل إن بخلت أو تنيل
فلما قال هذين البيتين تساور الحيان فاقتتلوا وصاروا أحزاباً، فكانت نزار بن معد وكندة، وهي يومئذ تنتسب فتقول كندة بن جنادة بن معد، وحاء وهم يومئذ ينتمون ويقولون: حاء بن عمرو بن ود بن أدد ابن أخي عدنان بن أدد، والأشعرون ينتمون إلى الأشعر بن أدد، فكانوا يتبدون من تهامة إلى الشام، فكانت منازلهم بالصفاح من الصفاح، وكان مر وعسفان لربيعة بن نزار، وكانت قضاعة بين مكة والطائف، وكانت كندة تسكن من العمر إلى ذات عرق، فهو إلى اليوم يسمى عمر كندة، وكانت منازل حاء بن عمرو بن أدد والأشعر بن أدد وعك بن عدنان بن أدد فيما بين جدة إلى البحر.
قال فيذكر بن عنزة أحد القارظين اللذين قال فيهما الهذلي: من الطويل
وحتى يؤوب القارظان كلاهما ... ويرجع في القتلى كليب لوائل
والآخر من عنزة أيضاً يقال له: أبو رهم، خرج يبغي القرظ فلم يرجع ولم يعرف له خبرٌ. هذا قول من يجعل قضاعة من معد، وجعل هذه القبائل أيضاً من ولد إسماعيل عليه السلام. والأشهر من قول النسابين أنها من قحطان، وقضاعة يقولون ابن مالك بن حمير، والله أعلم.
؟؟قالوا: وكان سبب اصطلام طسم وجديس أن الملك كان في طسم، وطسم بن لوذ بن إرم بن سام بن نوح، وجديس بن جاثر بن إرم بن سام ابن نوح. فانتهى ملكهم إلى عمليقٍ، فبغى وتمادى في الغشم والظلم حتى أمر أن لا تزوج بكرٌ من جديس ولا تهدى إلى زوجها حتى يفترعها هو قبله. فلقوا من ذلك ذلاً وجهداً. فلم يزل يفعل ذلك حتى زوجت الشموس، وهي عفيرة بنت عباد الجديسية، أخت الأسود الذي وقع إلى جبل طيٍّ فقتلته طيٌّ، وسكنت من بعده الجبل. فلما أرادوا نقلها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليقٍ لينالها قبله، ومعها القيان يغنين، ويقلن: من الرجز
ابدي بعمليقٍ وقومي فاركبي ... وبادري الصبح لأمرٍ معجب
فسوف تلقين الذي لم تطلبي ... وما لبكرٍ عنده من مهرب
فلما دخلت عليه افترعها وخلى سبيلها، فخرجت إلى قومها في دمائها، شاقةً درعها من قبلٍ ومن دبرٍ، والدم يتبين وهي في أقبح منظر، وهي تقول: من الرجز
لا أحدٌ أذل من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس
يرضى بهذا يا لقومي حر ... أهدى وقد أعطى وسيق المهر
لأخذة الموت كذا لنفسه ... خيرٌ من أن يفعل ذا بعرسه
وقالت تحرض قومها فيما أتى إليها: من الطويل
أيجمل ما يؤتى إلى فتياتكم ... وأنتم أناسٌ فيكم عدد النمل
وتصبح تمشي في الدماء عفيرة ... عفيرة زفت في الدماء إلى بعل
فلو أننا كنا رجالاً وكنتم ... نساء حجالٍ لم نقر بذا الفعل
فموتوا كراماً أو أميتوا عدوكم ... ودبوا لنار الحرب بالحطب الجزل
وإلا فخلوا بطنها وتحملوا ... إلى بلدٍ قفرٍ وموتوا من الهزل
فللبين خيرٌ من مقامٍ على أذىً ... وللموت خيرٌ من مقامٍ على الذل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساءً لا تعاب من الكحل
ودونكم طيب العروس فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللغسل
فبعداً وسحقاً للذي ليس دافعاً ... ويختال يمشي بيننا مشية الفحل
قال: فلما سمع أخوها الأسود ذلك؛ وكان سيداً مطاعاً، قال لقومه: يا معشر جديس، إن هؤلاء القوم ليسوا بأعز منكم في داركم إلا بما كان من ملك صاحبهم علينا وعليهم، ولولا عجزنا وإدهاننا ما كان له فضل علينا، ولو امتنعنا لكان لنا منه النصف، فأطيعوني فيما آمركم به، فإن عز الدهر، وذهاب ذل العمر فاقبلوا رأيي.
قال: وقد أحمى جديساً ما سمعوا من قولها، فقالوا: نحن نطيعك ولكن القوم أكثر وأقوى، قال: فإني أصنع للملك طعاماً ثم أدعوهم إليه جميعاً، فإذا جاؤوا يرفلون في الحلل ثرنا إلى سيوفنا وهم غارون فأهمدناهم، قالوا: نفعل. فصنع طعاماً كثيراً، وخرج بهم إلى ظهر بلدهم، وكان منزلهم أرض اليمامة، ودعا عمليقاً وسأله أن يتغذى عنده هو وأهل بيته، فأجابه إلى ذلك، وخرج إليه مع أهله يرفلون في الحلى والحلل، حتى إذا أخذوا مجالسهم ومدوا أيدهم إلى الطعام، أخذوا سيوفهم من تحت أقدامهم، فشد الأسود إلى عمليقٍ وكل رجلٍ على جليسه حتى أناموهم، فلما فرغوا من الأشراف شدوا على السفلة فلم يدعوا منهم أحداً، ثم إن بقية طسم لجأوا إلى حسان بن تبع، فغزا جديساً فقتلها وخرب بلادها. فهرب الأسود قاتل عمليقٍ فأقام بجبل طيٍّ قبل نزول طيٍّ إياها، وكانت طيٌّ تسكن الحرف من أرض اليمن، وهي اليوم محلة مراد وهمدان، وكان سيدهم يومئذ أسامة بن لؤي بن الغوث بن طي، وكان الوادي مسبعةً، وهم قليلٌ عددهم، وقد كان ينتابهم بعير في زمان الخريف لا يدرى أين يذهب ولا يرونه إلى قابل. وكان الأزد قد خرجت من اليمن أيام العرم. فاستوحشت طي لذلك وقالت: قد ظعن إخواننا فصاروا إلى الأرياف. فلما هموا بالظعن قالوا لأسامة بن لؤي: إن هذا البعير الذي يأتينا من بلد ريفٍ وخصب، وإنا لنرى في بعره النوى، فلو أنا نتعهده عند انصرافه فشخصنا معه لعلنا نصيب مكاناً خيراً من مكاننا هذا. فأجمعوا أمرهم على هذا. فلما كان الخريف جاء البعير يضرب في إبلهم. فلما انصرف احتملوا، فجعلوا يسيرون ويبيتون حيث يبيت حتى هبط على الجبلين، فقال أسامة بن لؤي: من الرجز
اجعل ظريباً لحبيبٍ ينسى ... لكل قومٍ مصبحٌ وممسى
قال: وظريب اسم الموضع الذي كانوا ينزلونه. فهجمت طيٌّ على النخل في الشعاب وعلى مواشي كثيرة، وإذا هم برجلٍ في شعبٍ من تلك الأشعاب، وهو الأسود الجديسي، فهالهم ما رأوا من عظم خلقه وتخوفوه، ونزلوا ناحيةً من الأرض واستبروها هل يرون أحداً غيره، فلم يروا أحداً. فقال أسامة بن لؤي لابنٍ له يقال له الغوث: يا بني إن قومك قد عرفوا فضلك عليهم في الجلد والبأس والرمي، وإن كفيتنا هذا الرجل سدت قومك إلى آخر الدهر، وكنت الذي أنزلتنا هذا البلد. فانطلق الغوث حتى أتى الرجل فكلمه وساءله، فعجب الأسود من صغر خلق الغوث، فقال له: من أين أقبلتم؟ قال: من اليمن، وأخبره خبر البعير ومجيئهم معه، وأنهم رهبوا ما رأوا من عظم خلقه وصغرهم عنه. قال وشغله بالكلام، فرماه الغوث بسهمٍ فقتله، وأقام طيٌّ بالجبلين بعده، فهم هناك اليوم.
قال يعقوب بن إسحاق السكيت: ضبيعات العرب ثلاثة: ضبيعة بن ربيعة، وضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وأمه مارية بنت الجعيد العبدية، وضبيعة بن عجل بن لخم، وأمه المفداة بنت سوادة بن بلال بن سعد بن بهشة. وكان العز والشرف في ربيعة بن نزار وفي ضبيعة أضجم وهو ضبيعة بن ربيعة، وأمه أم الأصبغ بنت الحاف بن قضاعة. وكان يلي ذلك منهم الحارث بن عبد الله ابن ربيعة بن دوفر بن حرب، وكان يقال للحارث أضجم، أصابته لقوة فضجم فمه، وهو أول بيت كان في ربيعة، وأول حربٍ كانت في ربيعة فيه. ثم انتقل ذلك فصار يليه منهم القدار بن عمرو بن ضبيعة بن الحارث بن الدول بن صباح ابن العتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار.
ثم صار في عبد القيس فكان يلي ذلك منهم الأفكل وهو عمرو بن الجعيد بن صبرة بن الديل بن شن بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن حديلة بن أسد بن ربيعة. وعمرو بن الجعيد الذي ساقهم إلى البحرين من تهامة من ولده بن المثنى بن مخرمة صاحب السلام، وعبد الرحمن بن أذينة ولي قضاء البصرة، وعبد الله بن أذينة كان عاملاً .
ثم صار في النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي، فكان يلي ذلك منهم عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط، وربع عامر الضحيان ربيعة أربعين سنة، وأمه ليلى بنت عامر بن الظرب العدواني، وإنما سمي الضحيان لأنه كان يجلس لهم في الضحى.
ثم انتقل الأمر إلى بني يشكر بن بكر بن وائل، فكان يلي ذلك منهم الحارث ابن غبر بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر. والحارث هو صاحب الفرخ الذي كان يضعه على الطريق الذي وطئه عمرو بن شيبان الأعمى بن ذهل بن ربيعة بن تغلب، فوثب الحارث على عمرو ووثب بنو عمرو فمنعوه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وقتل الحارث بن غبر.
ثم انتقل الأمر إلى بني تغلب بن وائل، فصار يليه ربيعة بن مرة بن الحارث ابن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، ثم وليه من بعده كليب بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر، وكان من أمره في البسوس ما كان، فاختلف الأمر وذهبت الرئاسة.
ثم ضربت القبة على عبد الله بن عمرو بن الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، فكان آخر بيوت ربيعة، فولد عبد الله بن عمرو خالداً وهو ذو الجدين، فلم يزل البيت فيهم إلى الآن.
فأما مضر فلم يجمعها رئيسٌ واحدٌ، وكان في كل قبيلة منها بيت، فبيت تيم في زرارة بن عدي، وبيت قيس عيلان في آل بدر الفزاريين، ولم يكن لذلك البيت التقدم في القبيلة، إنما كان الشرف فيهم والحسب.
خبر نزار بن معد بن عدنان فيما عينه لبنيه: روي عن عبد الله بن عباس أن نزار بن معد بن عدنان لما حضره الموت أوصى بنيه وهم أربعة: ربيعة ومضر وإياد وأنمار، وقسم ماله بينهم فقال: يا بني هذا الفرس الأدهم والخباء الأسود والقدر وما أشبهها من مالي لربيعة، فسمي ربيعة الفرس؛ وهذه القبة الحمراء وما أشبهها من مالي لمضر، فسموا بذلك مضر الحمراء، وهذه الخادمة وما أشبهها من مالي لإياد، وكانت شمطاء فأخذه البلق من غنمه؛ والندوة وهي المجلس لأنمار.
وروي عن غير ابن عباس رحمه الله أنه قال لبنيه: إن أصبتم فقد أوجبت حنونة نسباً، فذهبت مثلاً، فإذا لم تسمع فالمع، وإن اختلفتم فتحاكموا إلى أفعى نجران، وهو جرهمي. فلما اختلفوا توجهوا إليه فبينا هم في مسيرهم إذ رأى مضر كلأً قد رعي فقال: إن البعير الذي قد رعى هذا الكلأ أعور؛ فقال ربيعة: وهو أزور؛ وقال إياد: وهو أبتر؛ فقال أنمار: وهو شرود. فلم يسيروا إلا قليلاً، فلقيهم رجل فسألهم عن البعير، فقال مضر: هو أعور، قال: نعم، فقال ربيعة: وهو أزور، قال: نعم، وقال إياد: وهو أبتر، قال: نعم، وقال أنمار: هو شرود، قال: نعم، هذه صفة بعيري دلوني عليه. فحلفوا أنهم لم يروه، فلم يصدقهم، وسار معهم إلى الأفعى، وقال: هؤلاء أصحاب بعيري وصفوه لي وقالوا لم نره. فقال الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه؟ فقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر والأخرى فاسدة فعلمت أنه أفسدها بشدة وطئه؛ وقال مضر: رأيته يرعى جانباً ويدع جانباً فعلمت أنه أعور؛ وقال إياد: عرفت بتره باجتماع بعره، ولو كان ذيالاً لمصع ببعره، وقال أنمار: عرفت أنه شرود لأنه كان يرعى في المكان المتلف نبته ثم يجوز إلى مكان آخر أرق منه وأخبث. فقال الجرهمي للرجل: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه. ثم سألهم من هم، فأخبروه. فرحب بهم وقال: أتحتاجون إلي وأنتم كما أرى؟ ثم دعا بطعامٍ وشرابٍ فأكلوا وشربوا. فقام عنهم الشيخ ووقف بحيث يسمع كلامهم فقال ربيعة: لم أر كاليوم لحماً أطيب لولا أنه غذي بلبن كلبةٍ، وقال مضر: لم أر يوماً كاليوم خمراً أجود لولا أنها على قبر، وقال إياد: لم أر اليوم رجلاً أسرى لولا أنه ليس لمن ينسب إليه، وقال أنمار: لم أر كاليوم كلاماً أنفع في حاجتنا.
وسمع الشيخ كلامهم فقال: ما هؤلاء ؟ إنهم لشياطين. فسأل أمه فأخبرته أنها كانت تحت ملكٍ لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك منهم، فأمكنت رجلاً نزل بهم من نفسها فوطئها؛ و قال للقهرمان الخمر التي شربناها ما أمرها؟ قالت: من حبلةٍ غرستها على قبر أبيك؛ وقال للراعي: اللحم الذي أطعمتنا ما أمره؟ قال: شاةٌ أرضعناها من لبن كلبة، فقال: قصوا أمركم، فقصوه فقضى بينهم. فاقتسموه مال أبيهم على ما وصفناه.
وجاء من أخبار العرب أن نزار بن معد كان اسمه خالداً فقدم على يشتاسف ملك الفرس، وكان رجلاً نحيفاً، فقال له: أي نزار فسمي نزاراً، ورووا لقمعة بن الياس بن مضر بن نزار: من الطويل
خلفنا جديساً ثم طسماً بأرضنا ... فأعظم بنا يوم الفخار فخارا
تسمى نزاراً بعد ما كان خالداً ... وأمسى بنوه الأطيبون خيارا
وخندف التي ينسب إليها بنو إلياس بن مضر هي امرأته ليلى بنت تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، ولدت له عمراً وعامراً وعميراً، فقدهم ذات يومٍ، فقال لها: اخرجي في أثرهم، فخرجت وعادت بهم، فقالت: ما زلت أخندف في طلبهم حتى ظفرت بهم، فقال لها إلياس: أنت خندف. والخندفة تقارب الخطو في إسراع.
وقال عمرو: يا أبه أنا أدركت الصيد فلويته، فقال: أنت مدركة. وقال عامر: أنا طبخته وشويته، فقال له: أنت طابخة، وقال عمير: أنا انقمعت في الخباء، فقال: أنت قمعة. ولصقت بها وبهم هذه الألقاب وغلبت على أسمائهم، فالقبائل من أبنائهم ينتسبون إلى ألقابهم دون أسمائهم.
هاشم بن عبد مناف اسمه عمرو، وسمي هاشماً لأنه هشم الثريد لقومه.
وحلف المطيبين من قريش: بنو عبد مناف وبنو أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة والحارث بن فهر، غمسوا أيديهم في خلوق ثم تحالفوا.
والأحلاف بنو عبد الدار وبنو مخزوم وبنو جمح وبنو سهم وبنو عدي، نحروا جزوراً وغمسوا أيديهم في دمها وتحالفوا فسموا لعقة الدم.
الأحابيش: الذين حالفوا قريشاً من القبائل، اجتمعوا بذنب حبشي - جبل بمكة، فقالوا: تالله إنهم يدٌ على من خالفهم ما سجا ليلٌ وما رسا الحبشي مكانه. وقيل هو من التحبيش وهو من الاجتماع، الواحد أحبوش.
الحمس: حمس قريش وكنانة وخزاعة وعامر وثقيف، سموا بذلك لتحمسهم في دينهم أي تشددهم.
قصي: اسمه زيد، أقصي عن دارة قومه لأنه حمل من مكة في صغره بعد موت أبيه، فلما شب رجع إلى مكة ولم ينشب أن ساد. وكانت قريش في رؤوس الجبال والشعاب، فجمعهم وقسم بينهم المنازل بالبطحاء، فقيل له مجمع.
شيبة الحمد: عبد المطلب: لقب بشيبةٍ كانت في رأسه حين ولد، وسمي عبد المطلب لأن عمه المطلب مر به في سوق مكة مرادفاً له، فجعلوا يقولون: من هذا وراءك؟ فيقول: عبدٌ لي. واسمه عامر.
همدان واسمه أوسلة بن مالك. أصابه أمرٌ أهمه فقال: هذا هم دانٍ، فلقب بهمدان.
ولد نبت بن زيد بن يشجب والشعر نابت على جميع بدنه، فلقب بالأشعر، فغلبت عليه، وولده الأشعرون، منهم أبو موسى.
؟؟أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن أبو غني وباهلة القبيلتين، اسمه منبه، سمي أعصر لقوله: من الكامل
قالت عميرة ما لرأسك بعدما ... فقد الشباب أتى بلونٍ منكر
أعمير إن أباك غير رأسه ... مر الليالي واختلاف الأعصر
جعفر بن قريع التميمي: نحر أبوه ناقةً قسمها بين نسائه، فأدخل يده في أنفها فجر الرأس إلى أمه فنبز به وعير أولاده به إلى أن جاء الحطيئة فقال: من البسيط
قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا
فصار فخراً لهم.
خثعم: يقال لهم في الجاهلية الفجار لأنهم لم يكونوا في الجاهلية يحجون. وخثعم هم سعد الريث وهم الفزر. وبنو قحافة أبناء عفرس بن بجيلة ابن أنمار بن نزار؛ وهم رهط ابن الدثنة ابن عفرس، تحالفت هذه القبائل، غمست أيديها في الدم ثم وضعتها على ورك جملٍ يقال له الخثعم، فسميت به.
مزيقياء: هو عمرو بن عامر بن ماء السماء جد الأزد، سمي بذلك لأنه كان يمزق كل يوم حلةً جديدة لئلا يلبسها غيره؛ وقيل كان ينسج له كل سنةٍ حلةٌ من ذهب فيلبسها يوم العيد، فإذا أمسى مزقها، ويقوم بنسج أخرى لعيد السنة القابلة؛ وقيل لأن الله تعالى مزقهم، وذلك قوله: ومزقناهم كل ممزقٍ سبأ: 19.
جذيمة بن سعد الخزاعي: قيل له المصطلق لحسن صوته وشدته، من الصلق وهو شدة الصوت.
بنو أمية بن عبد شمس يقال لهم: الأعياص والعنابس. والعنابس: حربٌ وأبو حربٍ وسفيان وعمرو وأبو عمروٍ، وأبلوا في حربٍ فشبهوا بالعنابس، وهي الأسد. والأعياص: العاص وأبو العاص، والعيص وأو العيص، والعويص، وهم أحد عشر ولداً.
مذحج: أكمةٌ ولدت عليها مدلة بنت ذي منجشان مالك بن أدد، فنسب ولد مالكٍ إليها، فمنهم الحارث بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد، ومنهم همدان بن مالك بن أدد، ومنهم زيد وجعفي والنخع.
مهلهل بن ربيعة التغلبي: اسمه عدي، والمهلهل لقبٌ غلب عليه لأنه أول من هلهل الشعر أي أرقه، ويقال إنه أول من قصد القصائد.
الأسعر ابن أبي حمران الجعفي: لقب الأسعر لقوله: من الطويل
فلا يدعني قومي لسعد بن مالكٍ ... لئن أنا لم أسعر عليهم وأنقب
واسمه مرثد بن الحارث.
المتلمس: اسمه جرير بن عبد المسيح الضبعي، وقيل جريد بن يزيد الضبعي، سمي المتلمس لقوله: من الطويل
فذاك أوان العرض حي ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس
تأبط شراً الفهمي: اسمه ثابت بن جابر.
يزعمون أنه قتل الغول وجاء متأبطاً لها، فألقاها وسط أصحابه، فقالوا: لقد تأبط شراً، فغلبت عليه. وقيل: بل أخذ جونة فملأها حياتٍ ثم أتى بها أمه متأبطها فقالت: تأبط شراً.
الحادرة هو: قطبة بن حصين.
غلب عليه الحادرة ببيت قاله وهو: من المتقارب
كأنك حادرة المنكبين ... رصعاء تنفض في جامر
النابغة الذبياني: اسمه زياد بن عمرو ويكنى أبا أمامة، غلب عليه النابغة لأنه غبر برهة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله.
وكذلك النابغة الجعدي: اسمه قيس بن عبد الله ويكنى أبا ليلى، وهو أسن من النابغة الذبياني، وطال عمره حتى أدرك أيام بني أمية.
الأعشى الكبير ميمون بن قيس من بني قيس بن ثعلبة، غلب عليه اللقب لعشا في عينيه.
وكذلك أعشى باهلة، وأعشى همدان.
الفرزدق همام بن غالب.
لقب الفرزدق لأنه كان جهم الوجه فشبهته امرأة بالفرزدقة وهي القطعة من العجين يعمل منها الفتوت، وقيل إن أباه لقبه بذلك تشبيهاً بدهقان يعرفه.
الأخطل: اسمه مالك بن غياث بن غوث، وقال أبو عمرو: غويث بن الصلت، قال له رجل وهو صبي: يا غلام إنك لأخطل، فغلبت عليه وقيل لخطلٍ في لسانه وثقل في كلامه.
أبو بكرة: اسمه نضيع. كان مولى الحارث بن كلدة بالطائف، فلما حاصرها النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما عبدٍ نزل إلى فهو حرٌّ، فتدلى من السور على بكرة فسمي أبا بكرة.
الحطيئة: اسمه جرول بن أوس بن جؤية بن مخزوم بن ربيعة بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان، حبق في مجلس قومه فقال: إنما هي حطأة فسمي الحطيئة.
ذو الرمة اسمه غيلان بن عقبة من عدي الرباب سمي ذا الرمة بمعاذة علقت عليه في صغره بخيط وكان خشي عليه المس.
القطامي الشاعر التغلبي: شبه بالقطامي وهو الصقر واسمه عمير ابن شييم.
غسان: ماء بالسليل، من نزل عليه من الأزد قيل له غساني.
وبارق: جبل، من نزله من الأزد قيل له بارقي.
جذيمة بن عوف الأنماري: ضربه أثال بن لجيم فجذمه، فسمي جذيمة، وضرب هو أثالاً فحنف رجله فسمي حنيفة، قال: من الوافر
إن تك خنصري بانت فإني ... بها حنفت حاملتي أثال
غلبة قريش على مكة: مات كلاب بن مرة بن لؤي بن غالب وابنه قصي صغير، فتزوجت أمه فاطمة بنت سعدٍ من ربيعة بن حزام العذري، فولدت له رزاحاً ومحموداً وحياً وجلهمة. وكان قصي لا يعرف أباً غير ربيعة حتى كان بينه وبين رجلٍ من غسان شيءٌ، فعيره الرجل بالغربة، فرجع إلى أمه فسألها فقالت: صدق ما أنت منهم بل أنت أضل منهم، أنت ابن كلاب بن مرة بن لؤي بن غالب، وقومك عند بيت الله الحرام. فأزمع قصيٌّ أن يلحق بقومه، وطلبت إليه أمه أن يؤخر ذلك إلى حين خروج الحاج، فخرج مع حاج قضاعة، وكان رجلاً جلداً أديباً عاقلاً جواداً، فخطب إلى الخليل بن حبشة الخزاعي ابنته حية، وخزاعة يومئذ بمكة ولهم حجابة البيت، فزوجه فولدت له عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى وعبد قصي.
ولما هلك الخليل، رأى قصيٌّ أنه أحق بولاية البيت وأنه بيت آبائه. فكلم من لقي من قريشٍ ودعاهم إلى إخراج خزاعة، وقال: قوم طروا عليكم من أهل اليمن فغلبوا أوليتكم على مسجدهم، فأنتم أحق أن يكون في أيديكم، فقالوا: إن خزاعة لها عددٌ وعدةٌ، ولا نجدة لنا، وإخواننا من كنانة حلفاؤهم وأنصارهم؛ فإن تابعونا فقد هلك القوم. فمشى في كنانة وغيرهم، فكتب إلى رزاح بن ربيعة العذري أخيه لأمه، فقدم عليه في ألف رجلٍ من عذرة. فانحازت خزاعة عن قصي، واقتتلوا حتى كادوا يتفانون، ثم رجعوا عن القتال وراسلوا في الصلح. فرجع الأمر إلى قصي، وهدرت الدماء بينهم. فكان قصي أول من أصاب الملك من بني كعب بن لؤي، فكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء. فقسم مكة أرباعاً بين قومه، وأمر بقطع شجرها وبناها بيوتاً. قال: فهابت ذلك قريشٌ، فأمر قصيٌّ أعوانه فقطعوها، وقطع معهم بيده، وسمي قصيٌّ مجمعاً لأنه أول من جمع قريشاً، وكانت في نواحي مكة وفي بني كنانة وما يليها من العرب. ولما ظهر أولاد قصي تفرقت لؤي، فلحق سامة بن لؤي بأزد عمان، وصارت الحارث بن لؤي إلى غير حي من بني شيبان بن ثعلبة بن عكابة، وهم عائذة، وصارت سعد بن لؤي من بني ذيبان بن بغيض، وهم بنو مرة بن عوف، فلم يعد قصي منهم إلا على ولد كعب بن لؤي بن عامر بن لؤي.
وقيل في خروج سامة بن لؤي غير هذا، قال ابن الكلبي: كان سبب خروج سامة بن لؤي من تهامة إلى عمان أنه فقأ عين عامر بن لؤي، وذلك أنه ظلم جاراً له فغضب عامرٌ، وكان شرساً سيء الخلق، فخاف سامة أن يقع بمكة شرٌّ فيقال كان سامة سببه. وقيل: إن سامة كان يشرب بعكاظ، فلما أخذ منه الشراب أتاه ابنٌ لعامر بن لؤي، فقال: يا عم هل لك في لحم؟ - وقد قرم سامة إلى اللحم للشراب الذي شربه - فقال: نعم. فمضى الغلام إلى جفرةٍ لسامة فذبحها وأتاه بها. فعرفها سامة، فأخذ صخرة ففضخ بها رأس الغلام فقتله، ومضى سامة ومعه الحارث ابنه وهند ابنته وأمهما هند بنت تيم الأدرم ابن غالب، وإنما سمي الأدرم لنقصان ذقنه، فنزل قريةً على بني عامر بن صعصعة. وكانت بنت الحارث بن سامة خالة كلاب بن ربيعة وأمهم مجدانية ابنة تيم بن غالب ولدت كلاباً وعامراً وكليباً وكعباً ومحمساً. فدرج محمس، فجعل الحارث بن سامة يصرع عامراً فيصرعهم رجلاً رجلاً، فخشي سامة أن يقع بينهم الشر، فأتى عمان، فتزوج ناجية بنت جرم بن زبان وهو علاف بن حلوان، فأقام بها فنهشته حية فمات. ويقال: إن سامة بن لؤي شرب هو وأخوه شراباً، فلما أخذ الشرب من كعب بن لؤي أقبل على امرأة سامة فقبلها، فأنف سامة من ذلك وقال: لا أساكنك في بلد، فلم يزل يرتاد حتى نزل عمان. فلما أصاب المواطن التي يشتهي رجع فحمل امرأته إلى عمان واسمها ناجية، وإنما سميت ناجية لأنها عطشت فجعل يقول لها: هذا الماء هذا الماء حتى نجت، وركب هو ناقةً، فبينا هو يسير عليها إذ مر بوادٍ مخصبٍ، فتناولت ناقته من حشيشه فعلقت بمشفرها أفعى فاحتكت بالغرز، فنهشت ساق سامة فخرا جميعاً ميتين.
قال الشاعر: وقيل إنها لأخيه كعب: من الخفيف
عين بكي لسامة بن لؤي ... علقت ما بساقه العلاقه
رب كأسٍ هرقتها ابن لؤيٍّ ... حذر الموت لم تكن مهراقه
وبنو ناجيه ينتسبون في قريش، وبعض النسايين ينكرون ذلك، ويزعمون أن سامة لما مات من نهشة الأفعى تزوجت امرأته رجلاً من البحرين فولدت منه الحارث، ومات أبوه وهو صغير، فلما ترعرع طمعت أمه أن تلحقه بقريشٍ فأخبرته أنه ابن سامة بن لؤي، فرحل عن البحرين إلى عمه كعب فأخبره أنه ابن أخيه سامة، فعرف كعب أمه وظنه صادقاً فقبله. ومكث عنده مدةً حتى قدم ركبٌ من البحرين، فرأوا الحارث فسلموا عليه وحادثوه، فسألهم كعب بن لؤي: من أين تعرفونه؟ قالوا: هذا ابن رجلٍ من بلدنا يقال له فلان وشرحوا له خبره فنفاه كعبٌ ونفى أمه، فرجعا إلى البحرين فكانا هناك، وتزوج الحارث فأعقب هذا العقب.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عمي سامةٌ لم يعقب. وأما الزبير بن بكار فإنه أدخلهم في قريش العازبة، وإنما سموا العازبة لأنهم عزبوا عن قومهم فنسبوا إلى أمهم ناجية. ولعل الزبير يقول ذلك على مذهبه في التعصب ومخالفة أمير المؤمنين علي عليه السلام. وكان بنو ناجية ارتدوا عن الإسلام، فلما ولي علي عليه السلام الخلافة دعاهم إلى الإسلام فأسلم بعضهم وأقام الباقون على الردة، فسباهم واسترقهم، فاشتراهم مصقلة بن هبيرة الشيباني ثم أعتقهم وهرب من تحت ليلته إلى معاوية فصاروا أحراراً ولزمه الثمن. فشعث علي عليه السلام شيئاً من داره، وقيل بل هدمها، فلم يدخل مصقلة الكوفة حتى قتل علي عليه السلام.
زعموا أن الخطيم بن عدي الأوسي قتله رجلٌ من بني عامر بن ربيعة ابن صعصعة يقال له مالك، وقتل عدي بن عمرو أباه رجلٌ من عبد القيس. فلما شب قيس بن الخطيم بن عدي، رضمت أمه حجارةً كهيئة القبر وجعلت تقول: هذا قبر أبيك وجدك، مخافة أن يسمع بقتلهما فيطلب بدمائهما فيقتل، وكان قيس قوياً شديداً. وإنه نازع غلاماً من قومه فقال له الغلام: أما والله لو ألقيت كرعك - يعني بدنك - وقوتك على قاتل أبيك وجدك لكان أولى بك. فرجع إلى أمه فقال لها: أخبريني عن أبي وجدي. قالت: يا بني ماتا في وجع البطن وهذان قبراهما، فأخذ سيفه فوضع ذبابه بين ثدييه فقال: والله لتخبريني خبرهما أو لأتحملن عليه حتى يخرج من ظهري؟ فقالت له: إن أباك قتله رجل من بني عامر، وإن جدك قتله رجلٌ من بني عبد القيس. فخرج بسيفه حتى أتى ناضحه وهو يسنو، فضرب رشاءه فهوى الغرب في البئر، واختطم البعير فأقبل به عليه فشد جهاره حتى وقف على نادي قومه فقال: أيكم يكفيني مؤونة العجوز بفضل ثمرة مالي، فإن رجعت فمالي لي وإن هلكت فلها حتى تموت ثم المال له. فقال بعضهم: أنا، فدفعه إليه ثم سار، فقالت له أمه: يا بني إن كنت لا بد فاعلاً فأت خداش بن زهير فإنه قد كانت لأبيك عنده نعمةٌ، فسله أن يقوم معك. فمضى حتى انتهى إلى مر الظهران، ثم سأل عن مظلة خداش بن زهير فأتاها، فسأل امرأته عنه، فقالت: ليس هو ها هنا، قال: فهل عندك من قرى؟ قالت: نعم، قال: فهلم. فأخرجت إليه قباع تمر فتناول تمرة فأكل نصفها ورد نصفها في القباع، ثم تنحى فنزل في ظل شجرة، فلم ينشب أن طلع خداش. فدخل على امرأته فأخبرته الخبر فقال: هذا رجل متحرم. وركب قيسٌ بعيره ثم أقبل حتى سلم. فقال خداش: والله لكأن قدم هذا الفتى قدم الخطيم صديقي اليثربي. ودخل عليه قيس فانتسب له وأخبره ما الذي جاء به، فقال له: يا ابن أخي قاتل أبيك ابن عمي وإن أردت دفعه إليك لم أقدر مع قومي، ولكن سأجلس العشية إلى قاتل أبيك فأحدثه وأضرب بيدي على فخذه، فإذا رأيت ذلك فشد عليه واقتله فإني سأمنعك. فلما كان العشاء جلس خداش بن زهير فصنع ذلك بالرجل، وأقبل قيسٌ إليه فضربه بالسيف حتى قتله، ووثبوا إليه ليقتلوه فحال بينهم وبينه خداش وقال: إنما قتل قاتل أبيه. قال له: ما تريد يا ابن أخي؟ قال: الطلب بدم جدي، قال: فأنا معك. وركبا جميعاً فسارا حتى أتيا البحرين، فلما دنوا من قاتل جده قال له خداش: إني سأكمن في هذه الدارة من الرمل، فاخرج حتى يأتي الرجل فقل له: إني أقبلت أريد بلادكم فلما كنت بهذا الرمل برح بي لص فسلبني وأخذ متاعي، وقد جئتك لتركب معي لتستنقذ لي ذلك؛ فإن هو أمر ناساً بالركوب معك فاضحك، فإن سألك عن ضحكك فقل له: إن السيد مثلك لا يفعل مثل فعلك، معي لتستنقذ لي ذلك؛ فإن هو أمر ناساً بالركوب معك فاضحك، فإن سألك عن ضحكك فقل له: إن السيد مثلك لا يفعل مثل فعلك، إنما يخرج وحده إذا استعين على شيء حتى يفرغ منه. فخرج قيس حتى أتاه، فأمر ناساً من قومه أن يتهيأوا معه، فضحك قيسٌ فسأله عن ضحكه فقال له الذي أمره خداش، فأحمسه فدعا بفرسه فركب معه وحده حتى أتى خداشاً، فنهض إليه خداشٌ فقال: يا ابن أخي إن شئت كفيتكه، فقال قيس: لا بل دعني أنا وإياه فإن قتلني لا يفتك، ونازله قيسٌ فطعنه بحربةٍ معه فقتله. فقال له خداش: إنا إن أخذنا الطريق طلبنا وظفر بنا، ولكن اكمن بنا في هذا الرمل حتى يهدأ الطلب عنا، فكمنا فيه وفقد القوم صاحبهم فخرجوا في طلبه فوجدوه قتيلاً، فتفرقوا في كل وجه فلم يظفروا بأحد، فرجعوا وانصرف خداشٌ وقيسٌ راجعين، حتى إذا بلغا مأمنهما أقبل قيسٌ نحو قومه وهو يقول: من الطويل
تذكر ليلى حسنها وصفاءها ... وباتت فأمست لا ينال لقاءها
ومثلك قد أصبيت ليست بكنةٍ ... ولا جارةٍ أفضت إلي حياءها
سرها، ويروى حباءها، يقول: أخبرتني بما تكتم وتسر.
إذا ما اصطبحت أربعاً خط مئزري ... وأتبعت دلوي في السماح رشاءها
ثأرت عدياً والخطيم فلم أضع ... ولاية أشياخٍ جعلت إزاءها
ويروى ورثت عدياً.
ضربت بذي الزرين ربقة مالكٍ ... وأبت بنفسٍ قد أصبت شفاءها
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائرٍ ... لها نفذٌ لولا الشعاع أضاءها
الشعاع بالفتح المنتشر.
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائماً من دونها ما وراءها
يهون علي أن يروع جراحها ... عيون الأواسي إذ حمدت بلاءها
وشاركني فيها ابن عمرو بن عامرٍ ... خداشٌ فأدى نعمةً وأفاءها
وكانت شجىً في النفس ما لم أبؤبها ... فأبت ونفسي قد أصبت دواءها
وكنت امرءاً لا أسمع الدهر سبةً ... أسب بها إلا كشفت غطاءها
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجةً ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
وإني لدى الحرب العوان موكلٌ ... بإقدام نفسٍ لا أريد بقاءها
لقد جربت منا لدى كل مأقطٍ ... دحيٌّ إذا ما الحرب ألقت رداءها
ونلقحها مبسورةً ضرزنبةٌ ... بأسيافنا حتى نذل إباءها
مبسورة: مستكرهة، ضرزنية: شديدة.
وإنا منعنا من بعاث نساءنا ... وما منعت م المخزيات نساءها
وأدرك قيس بن الخطيم الإسلام، وخرج مع قومٍ من الأنصار إلى مكة بعد العقبة الأولى، فلقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا قيساً إلى اللإسلام وقرأ عليه القرآن، فقال له قيس: والله إن حسبك لكريمٌ، وإن وجهك لحسنٌ، وللذي أنت عليه خيرٌ من الذي أنا عليه، أفرأيت إن أنا بايعتك أيحل لي الزنا؟ قال: لا، قال: أفيحل لي الهجاء؟ قال: لا، قال: أفيحل لي القتل؟ قال: لا، قال: ففي نفسي من هذه الخصال شيءٌ، فأنا أرجع إلى بلدي فأقضي أربي، فإذا قدمت اتبعتك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فإن لي إليك حاجة، قال قيس: هي لك، قال: إن امرأتك حواء بنت يزيد مسلمةٌ فلا تؤذها ولا تحل بينها وبين الإسلام، قال: ذلك لك، وما علمت بذلك. وهي أخت رافع بن يزيد الأشهلي، وهو ممن شهد بدراً. ثم رجعوا إلى المدينة وقد فشا الإسلام في الأوس والخزرج، ودخل بعضهم في كفة بعض بعد الحرب المتصلة بينهم. وكان قيسٌ من ذوي البلاء فيها.
فاجتمع ناسٌ من بني سلمة فيهم رجلٌ من بني مازن بن النجار، فقالوا: قد علمتم ما صنعت بكم الأوس يوم بعاث، وقيس بن الخطيم فتى الأوس وشاعرها فتهيأوا لقتله، فإنا إن قتلناه أدركنا ثأرنا. فاجتمع ملأهم على ذلك، وسألوا عنه فقالوا: إنه يخرج في كل عشيةٍ فيأخذ على بني حارثة حتى يأتي ماله بالشوط. فخرجوا حتى جاؤوا محيصة وحويصة والأحوص من بني مسعود، وكانت بنو سلمة أخوالهم، فمتوا إليهم بالخؤولة وذكروهم إخراج بني عبد الأشهل إياهم إلى خبير وما صنعوا بهم في تلك الحروب. وقالوا لهم: إن قيس بن الخطيم يمر على أطمكم كل عشيةٍ، وقد أردنا قتله، فإن رأيتم أن تتركونا حتى نمكن له فيكم. فأذنوا لهم في ذلك، فكمنوا له في رأس أطمهم. فلما كان من العشي أقبل يمشي في ثوبين له مورسين، حتى إذا جاء الأطم رموه، فوقعت في صدره ثلاثة أسهم، فصاح صيحةً سمعها بنو ظفر. فأقبلوا يسعون إليه فقالوا: ما لك؟ قال: قتلني بنو حارثة بأيدي بني سلمة. فخرجوا يحملونه حتى جاؤوا به منزله. فلما رأته امرأته خرجت تصيح وتولول، قالت: فنظر إلي نظراً علمت أنه لو عاش لقتلني، لا والله ما رأى عندي رجلاً قط إلا أنه قد كان يأتي بالأسير فيأمرني فأدهنه وأرجله ثم يقوم إليه فيضرب عنقه. فمكث قيسٌ أياماً، ويخرج رجل من قومه حتى أتى بني مازن بن النجار وهم في مجلسهم، فقال: أين ابن أبي صعصعة؟ قالوا: في منزله، فخرج حتى أتاه، فقال: يا عم أخل، فخلا معه في بيتٍ في داره، فحدثه شيئاً ثم وثب عليه فضرب عنقه، ثم اشتمل على رأسه فخرج وأجاف الباب عليه. فلما طلع على بني مازن خشي أن ينذروا به فيطلبوه، فقال: قوموا إلى سيدكم يا بني مازن فإنه يدعوكم، فوثبوا وقالوا: هذا أمرٌ حدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورفع الآخر جراميزه حتى انتهى إلى قيسٍ وهو بآخر رمق، فقال: يا قيس قد ثأرت بك. قال: عضضت أير أبيك إن كنت عدوت أبا صعصعة، قال: فإني لم أعده. وأخرج له رأسه فلم يلبث قيس أن مات.
وقال قيسٌ حين رمي وجاءت رزاح من بني ظفر لينظروا إليه، وكان بينه وبينهم شرٌّ فقال: من السريع
كم قاعدٍ يحزنه مقتلي ... وقاعدٍ يرقبني شامت
أبلغ رزاحاً أنني ميتٌ ... كل امرئٍ ذي حسبٍ مائت
أيام العرب:
وأيام العرب ووقائعها كثيرةٌ لا يحويها كتابٌ مفردٌ ولو أسهب جامعه. وقد ذكرت بعض المشهور منها على إيجازٍ واختصارٍ وحذفٍ للمصنوع المضاف إليها، والأشعار التي قيلت فيها مما فيه أدبٌ يستفاد، أو تجربةٌ تقتبس أو فعلٌ مستغربٌ.
فمن أيامهم المشهورة يوم حليمة.
يقولون في أمثالهم: ما يوم حليمة بسر. وخبره أن المنذر بن ماء السماء اللخمي ملك الحيرة، غزا الحارث بن أبي شمرٍ الغساني ملك العرب بالشام، فأتاه في زهاء مائة ألفٍ، فهابه الحارث وخاف البوار على قومه. فأتاه شمر بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن عبد العزى بن سحيم بن مرة بن الدول بن حنيفة ابن لجيم بن مصعب بن علي بن بكر بن وائل في جمعٍ من قومه، وقد كان المنذر أغضبه في شيء. فأشار شمرٌ على الحارث بأن يريث المنذر عن الحرب، ويعده بأن يعطيه مالاً ويدين له. ففعل الحارث ذلك فاغتر المنذر بذلك، ثم قال لفتيان غسان الذين هم كانوا من بيت الملك: أما تجزعون أن يتقسم اللخميون نساءكم؟ فانتدب منهم مائةً، وفيهم لبيد بن أخي الحارث بن أبي شمر بن عمرو بن الحارث بن عوف بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد واسمه درء بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان، وليس الحارث من بني جفنة، وقد نسب إلى بني جفنة لأن الملوك كانوا منهم. وأخرج الحارث ابنته حليمة، وكانت أجمل نساء العرب، فدافت مسكاً في جفنةٍ وبرزت. فجعلت تطلي هؤلاء الفتيان بذلك المسك، وكان آخرهم لبيد. فلما خلقته قبض عليها وقبلها، فصاحت وولولت. فقال أبوها: ما شأنك؟ فأخبرته فقال: قدمناه للقتل فإن يقتل فقد كفيت أمره وإن يسلم - وهو أحبهما إلي - زوجتك إياه، فهو كفؤ لك كريم. فلما تجهزوا قال لهم شمر: ائتوا المنذر وأعلموه أنكم خرجتم مراغمين للحارث لسوء أثره فيكم، فإنه سيسر بمكانكم فكانوا قريباً من قبته، فإذا رأيتمونا قد زحفنا إليه فشدوا على حرسه وحجابه. ففعل الفتيان ما أمرهم به، فلما زحف الحرث وأصحابه شد الفتية على الحرس فقاتلوهم أشد قتال، وقتلوا منهم بشراً وقتلوا كلهم، ولحقهم شمر فيمن معه من جفنة، ولم يكن له همة إلا قتل المنذر، فقصده فدخل عليه فقتله. ولم ينج من أهل المائة إلا لبيد صاحب حليمة، فرجع وقد اسودت فرسه من العرق، فأخبر الحارث بأن شمر بن عمرو قد قتل المنذر. ثم حمل على أصحاب المنذر، فقال له الحارث: ويحك أين تمضي؟ ارجع وقد زوجتك حليمة، فقال: والله لا تحدث العرب أني بقيت فل مائة. ولحق الحارث الناس فقتل منهم مقتلةً عظيمةً، وأسر شأس بن عبدة أخا علقمة بن عبدة الذي يعرف بعلقمة الفحل قي سبعين من أشراف تميمٍ سوى الشرط، وأسر من أسدٍ وقيسٍ جمعاً كثيراً. وهذا اليوم أيضاً يسمى عين أباغ.
ووفد علقمة بن عبدة بن النعمان بن قيس أحد بني عبيد بن ربيعة بن مالك ابن زيد مناة بن تميم إلى الحارث فامتدحه بقوله: من الطويل
طحا بك قلبٌ في الحسان طروب
وهي من قلائد أشعار العرب يقول فيها:
وفي كل حيٍّ قد خبطت بنعمةٍ ... فحق لشأسٍ من نداك ذنوب
فأطلق له شأساً مع أسرى تميم.
ومن أيامهم المشهورة يوم ذي قار وقد مضى خبره في باب الوفاء.
خبر ابن الهبولة:
هو زياد بن الهبولة بن عمرو بن عوف بن ضجعم بن حماطة واسمه: سعد ابن سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وكانت الضجاعمة ملوك الشام قبل غسان. وكان سبب قتله أنه أغار على حجر بن عمرو بن معاوية بن ثور بن مريع الكندي، وكان يسكن عاقلاً، فأخذ ما وجد في عسكره وأخذ امرأته هنداً وعمروٌ غازٍ، ثم إن زياداً انكفأ راجعاً، وقد كان استاق إبلاً لعمرو بن أبي ربيعة بن شيبان بن ثعلبة، فأتاه عمروٌ وهو بالبردان فقال له: يا خير الفتيان أردد علي فحل إبلي، فقال: هو لك. فامتنع الفحل على عمرو فأخذ ذنبه ثم أقعده حتى سقط على جنبه؛ فحسده ابن الهبولة على ما رأى من شدته، فقال: يا معشر بني شيبان لو كنتم تقتعدون الرجال كاقتعادكم الإبل كنتم أنتم أنتم. فقال له عمرو: لقد وهبت قليلاً، وشتمت مجيلاً، وجنيت على نفسك شراً طويلاً، ولئن قدرت عليك لأضربنك. ثم ركض فرسه وارتحل الضجعمي من موضعه ذلك، فعسكر بموضع آخر يقال له حفير، وعمى على حجرٍ موضع عسكره. واستغاث حجر ببكر بن وائل، فأتاه أشرافهم، فقال لضليع بن عبد غنم بن ذهل بن شيبان وسدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة: اعلما لي علم معسكره وعدة من معه. فذهبا متنكرين حتى انتهيا إلى موضع معسكره في ليلة قرةٍ. وكان ابن الهبولة قد نادى من أتى بشيءٍ من حطبٍ فله من التمر مثله، ولم يكن أحدٌ يدخل عسكره إلا بحطب. فاحتطبا ثم دخلا العسكر، فوضعا الحطب بين يديه، وكان جالساً أمام قبةٍ له، فأعطاهما من التمر الذي كان أخذه من معسكر حجر. فقال ضليع: هذه أمارة، هذا التمر من تمر حجر فترجع به. وأما سدوس فقال: لست براجعٍ إلا بعين جليةٍ. فانصرف ضليع وأقام سدوس، وأوقد السلمي ناراً ودخل قبته وقال لأصحابه: تحارسوا، ولينظر كل امرئٍ منكم من جليسه. فضرب سدوس بيده إلى جليسه، فقال: من أنت؟ مخافة أن يسبق إليها، فقال: أنا فلان، فقال: معوف. ونوموا. ودنا سدوس من القبة، فداعب ابن الهبولة هنداً امرأة حجرٍ ساعةً ثم قال لها: ما ظنك بحجرٍ لو علم مكاني منك؟ قالت: والله لو علم لأتاك سريع الطلب، شديد الكلب، فاغراً فاه كأنه جملٌ آكل مرار، وكأني بفتيان بكر بن وائل معه يذمرهم ويذمرونه. فرفع يده فلطمها ثم قال: والله ما قلت هذا إلا من حبه، قالت: والله ما قلت هذا إلا من بغضه، ووالله ما أبغضت بغضه أحداً، وسأخبرك من بغضي إياه بشيءٍ لتعلم أني صادقة، قال: ما هو؟ قالت: كان ينام فيستيقن نوماً ويبقى عضوٌ من جسده لا ينام، وما رأيت أحداً أحزم منه قط نائماً ويقظان. فبينا هو نائمٌ ذات يومٍ قد مد إحدى يديه وبسط الأخرى، ومد إحدى رجليه وبسط الأخرى، إذ أقبل ثعبان أسود فأهوى إلى رجله الممدودة فقبضها، ثم أهوى إلى يده المبسوطة فقبضها، ثم أهوى إلى عسٍّ فيه لبن، فشرب ثم مجه فيه، فقلت في نفسي: يشربه فيهلك فأستريح منه. فما كان بأسرع من أن استوى جالساً فقال: لقد ألم بنا ملمٌّ، لقد دخل علينا عدوٌّ. قالت: قلت ومن يدخل عليك وأنت ملك؟ فأهوى إلى العس فأخذه فسقط من يده، والكلام بأذن سدوس. فلما أصبح عدا إلى حجر وهو يقول: من الوافر
أتاك المرجفون برجم غيبٍ ... على دهشٍ وجئتك باليقين
فمن يأتي بأمر فيه لبسٌ ... فقد أتي بأمر مستبين
فقص عليه القصة، وخبره بموضع معسكره. فنادى حجر في أصحابه، فأغار عليه، وشد سدوسٌ على ابن الهبولة فقتله وأخذ رأسه، وأخذ هنداً وأتى بها حجر فقال: يا سدوس قص عليها القصة فقص، فدعا بفرسين: صادر ووارد، فربطها فيهما ثم ضربا فقطعاها. فقال حجر في ذلك: من الخفيف
إن من غره النساء بشيءٍ ... بعد هندٍ لجاهلٌ مغرور
حلوة الدل واللسان ومرٌّ ... كل شيءٍ أجن منها الضمير
كل أنثى وإن بدا لك منها ... آية الحب حبها خيتعور
الخيتعور: الدنيا، وكل شيء لا يدوم فهو خيتعور.
قال أبو عبيدة: غزا صخر بن عمرو أخو الخنساء بني أسد بن خزيمة، فاكتسح إبلهم، فأتى الصريخ بني أسدٍ، فركبوا حتى تلاحقوا بذات الأثل، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فطعن ابن ثور الأسدي صخراً في جنبه وفات القوم فلم يقعص مكانه، وجوي منها فكان يمرض قريباً من حول حتى مله أهله، فسمع امرأةً تسأل سلمى امرأته: كيف بعلك؟ فقالت: لا حيٌّ فيرجى ولا ميتٌ فينعى، لقينا منه الأمرين.
وقال عبد القاهر بن السري: طعنه ربيعة الأسدي، فأدخل حلقاتٍ من حلق الدرع في جوفه، فضمن منها زماناً ثم كان ينفث الدم وينفث تلك الحلق معها، فملته امرأته، وكان يكرمها ويعينها على أهله، فمر بها رجل وهي قائمة، وكانت ذات خلق وأوراك، فقال: أيباع الكفل؟ قالت: عما قليل. وكل ذلك يسمعه صخر، فقال: لئن استطعت لأقدمنك أمامي، وقال لها: ناوليني السيف أنظر هل تقله يدي فإذا هو لا يقله. فقال صخر: من الطويل
أرى أم صخرٍ لا تمل عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني
فأي امرئٍ ساوى بأمٍّ حليلةً ... فلا عاش إلا في أذىً وهوان
لعمري لقد نبهت من كان نائماً ... وأسمعت من كانت له أذنان
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغتر بالحدثان
فللموت خيرٌ من حياةٍ كأنها ... معرس يعسوبٍ برأس سنان
وقال أبو عبيدة: فلما طال به البلاء وقد نتأت قطعةٌ من جنبه مثل اليد في موضع الطعنة، قالوا له: لو قطعتها رجونا أن تبرأ، فقال: شأنكم. وأشفق عليه بعضهم فنهاه فأبى، فأخذوا شفرة فقطعوا ذلك المكان فيئس من نفسه، وقال: من الطويل
كأني وقد أدنوا لحزٍّ شفارهم ... من الصبر دامي الصفحتين نكيب
فمات فدفنوه إلى جنب عسيبٍ، وهو جبل إلى جنب المدينة. ورثته أخته خنساء بنت عمرو، وفيه كان جل مراثيها دون أخيها معاوية. وكانت قد آلت بنزعها، فقال لها: في بما جعلت على نفسك.
وقال المتلمس الضبعي: من الطويل
ألم تر أن المرء رهن منيةٍ ... صريعٌ لعافي الطير أو سوف يرمس
فلا تقبلن ضيماً مخافة ميتةٍ ... وموتن بها حراً وجلدك أملس
فمن حذر الأوتار ما حز أنفه ... قصيرٌ وخاض الموت بالسيف بيهس
نعامة لما صرع القوم رهطه ... تبين في أثوابه كيف يلبس
أما قصيرٌ وخبره مع الزباء، وجدعه أنفه حتى احتال عليها، وأنست إليه، وجعلته وكيلها يحمل إليها الأمتعة والتجارة من البلاد، فلما اطمأنت إليه وسكنت كل السكون، جعل الرجال في الغرائر ومعهم السلاح، فيهم عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة مولى قصيرٍ حتى قتلها، وفيه خبر مشهور وقد أخلق بكثرة التداول فيه، وفيه طول على أنه يتضمن حكماً وأمثالاً وحيلاً، وليس هذا موضعه.
وأما بيهس المعروف بنعامة، فذكر أبو يوسف أنه كان رجلاً من بني غراب ابن ظالم بن فزارة بن ذبيان بن بغيض، وكان سابع سبعة أخوة. فأغار عليهم ناسٌ من أشجع بن ريث بن غطفان، وكانت بينهم حرب، وهم في إبلهم، فقتلوا منهم ستةً وبقي بيهس، وكان يحمق وهو أصغرهم، فأرادوا قتله، فقالوا: ما تريدون من قتل هذا؟ يحسب عليكم برجل ولا خير فيه. فقال: دعوني أتوصل معكم إلى الحي، فإنكم إن تركتموني وحدي أكلتني السباع أو قتلني العطش، ففعلوا. فأقبل معهم فنزلوا منزلاً فنحروا جزوراً في يوم شديد الحر، فقال بعضهم: أظلوا لحمكم لا يفسد، فقال بيهس: لكن بالأثلات لحماً لا يظلل. فقالوا إنه منكر، وهموا بقتله، ثم إنهم تركوه، ففارقهم حين انشعب به الطريق إلى أهله، فأتى أمه فأخبرها الخبر، فقالت: ما جاء بك من بين إخوتك؟ فقال: لو خيرك القوم لاخترت، فذهبت مثلاً. ثم إن أمه عطفت عليه ورقت له وأعطته ميراثه من إخوته. فقال: يا حبذا التراث لولا الذلة، فذهبت مثلا. فقال الناس: أحبت أم بيهس بيهساً، فقال بيهس: ثكل أرأمها ولداً، فذهبت مثلاً، فأتى على ذلك ما شاء الله. ثم إنه مر على نسوة في قومه وهن يصلحن امرأةً منهن يردن أن يهدينها إلى زوجها، وهو من بعض من قتل إخوته. فكشف ثوبه عن استه وغطى رأسه، فقلن: ويلك أي شيءٍ تصنع؟ فقال: البس لكل حالةٍ لبوسها، إما نعيمها وإما بوسها. فأتى على ذلك ما شاء الله لكنه جعل يتتبع قتلة إخوته ويتقاصهم حتى قتل منهم ناساً وقال في ذلك: من الرجز
يا لها نفساً أنى لها ... المطعم والسلامه
قد قتل القوم إخوتها ... فبكل وادٍ زقاء هامه
فلأطرقن قوماً وهم نيام ... فلأبركن بركة النعامه
قابض رجل وباسط أخرى ... والسيف أقدمه أمامه
وهذا الشعر مزحوفٌ في أصل النسخة، قال: فسمي بيهس نعامة بقوله: فلأبركن بركة النعامة. قال: ثم إنه أخبر أن أناساً من أشجع يشربون في غار. فانطلق بخال له يقال له أبو حشر وقال له: هل لك في غارٍ فيه ظباء؟ قال: نعم، فانطلق حتى قام على فم الغار، ثم دفع أبا حشر فيه، وقال ضرباً أبا حشر. فقال بعض القوم: إن أبا حشرٍ لبطل، فقال أبو حشر: مكره أخوك لا بطل، فأرسلها مثلاً. وقتل القوم.
قوله: البس لكل حالة لبوسها، إما نعيمها وإما بوسها: يقول: أنتم مسرورون بعرسكم وأنا مهتوك الستر موتور، فأبدي عن دبري حتى أدرك بثأري.
وفعل أبو جندب أخو أبي خراشٍ الهذلي مثل ذلك. قتل جيرانٌ له كانوا في جواره، فأتى مكة فجعل يطوف بالبيت مكشوف الدبر، فقيل له: ما هذا؟ قال: إني موتورٌ ولا ينبغي لمثلي أن يطوف البيت إلا هكذا حتى يدرك بثأره. فأتى بالخلعاء فأغار بهم على الذين فعلوا بجيرانه ما فعلوا حتى انتقم منهم.
خبر طرفة في صحيفته ومقتله ومبدأ أمره: كان المسيب بن علس الضبعي شاعر ربيعة في زمانه، وإنه وقف على مجلس لبني ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فاستنشدوه فأنشدهم شعراً له من الطويل
وقد أتناسى الهم عند احتضاره ... بناجٍ عليه الصيعرية مكدم
الصيعرية: سمة كان أهل اليمن يسمون بها النوق دون الفحول.
كميتٌ كناز اللحم دون علالةٍ ... إذا انتعلت أخفافهن من الدم
وطرفة يسمع نشيده مع القوم، وهو يومئذ غلامٌ حين قال الشعر، فقال طرفة: نعت جملاً أول مرة، ثم إذا هي ناقة، استنوق الجمل فذهبت مثلاً. فضحك القوم من قول طرفة، فقال المسيب: ما هذا الغلام ويحكم؟ قالوا: غلامٌ منا وقد قال بعض الشعر، قال: مروه فلينشدني، فأنشده، فقال: يا غلام أخرج لسانك فأخرجه، فإذا فيه خطٌ أسود، فقال المسيب: ويل لهذا من هذا - يريد طرفة من لسانه.
ثم إن طرفة شهر وذكر شعره حتى وفد به إلى الملوك، وقد كان عبد عمرو ابن بشر بن عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ربيعة من أجمل أهل زمانه وأعظمهم، وكان رجلاً بضاً بادناً جميلاً، وكانت أخت طرفة عنده، فشكت إلى طرفة شيئاً من زوجها كرهته، فقال طرفة: من الطويل
أيا عجباً من عبد عمروٍ وبغيه ... لقد رام ظلمي عبد عمرو فأنعما
ولا خير فيه غير أن له غنىً ... وأن له كشحاً إذا قام أهضما
فروي هذا الشعر ورفع إلى عمرو بن هند الملك، وهند أمه بنت الحارث الملك ابن عمرو المقصور. وإنما سمي المقصور لأنه اقتصر على ملك أبيه فلم يتجاوزه عمرو ابن حجرٍ آكل المرار الكندي. وكان عمرو بن هند على الحيرة وعلى ما سقى الفرات مما يلي ملك فارس من أرض العرب، وهو محرق الأحدث، وسمي محرقاً لأنه حرق باليمامة قرى كثيرة لبني حنيفة، وكان شمر بن عمرو الحنفي قتل أباه المنذر يوم عين أباغ مع الحارث بن جبلة الغساني. وكان عمرو هذا شديد السلطان والبطش متجبراً قليل العفو، وكانت ربيعة تسميه مضرط الحجارة. وكانت لعبد عمرو منزلةٌ عظيمةٌ من عمرو بن هند. فوافق عنده المتلمس الضبعي، وهو جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن زيد بن دوفن بن حرب بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار، وقال أبو عبيدة: اسمه جرير بن يزيد وكان ينادم الملك. وكان للملك أخٌ يقال له قابوس لأبيه وأمه، وكان يحبه ويرشحه للملك بعده. فجعل له صحابة وأمر لهم بمعروف، وأمرهم بلزومه ومجالسته، وكان في من أمر بذلك طرفة والمتلمس. وكان قابوس غلاماً معجباً بالصيد، وكان يركب ويركبون معه فيتصيدون يومهم ويركضون حتى يرجعوا وقد ملوا من التعب، ثم يغدون عليه، فيتشاغل عنهم بالسماع والشراب، فيستثقل اجتماعهم عنده، فلا يأذن لهم ولا يصرفهم، فيظلون وقوفاً عامة نهارهم. فضج من ذلك طرفة وثقل عليه، وكره مكانه معه، وسأله الملك أن يكون معه فأمره بلزومه، فقال طرفة يهجوه: من الوافر
فليت لنا مكان الملك عمروٍ ... وغوثاً حول قبتنا تدور
فرويت هذه القصيدة حين أتمها ولم يتستر. فخرج عمرو بن هند يتصيد ومعه عبد عمرو، فرمى الملك حماراً فصرعه، فقال: يا عبد عمرو انزل فأجهز عليه. فنزل فاضطرب من عظمه وذهب الحمار؛ وضحك الملك وقال آخرون: بل دخل معه الحمام. فلما تجرد نظر إلى بدنه، فقال: لله در ختنك وابن عمك ما كان أبصره بك حين يقول فيك ما قال، وأنشده الشعر. فقال عبد عمرو: أبيت اللعن ما قال فيك شرٌ مما قال في، قال: وما قال؟ قال: أكرم الملك أن أنشده إياه. قال: لتفعلن، فلم يزل حتى أنشده قول طرفة. قال الملك: فقد بلغ أمره إلى هذا؟ ووقعت في نفسه واختبأها عليه، فكره أن يريه أنه غضب عليه فتدركه الرحم فينذر طرفة فيهرب، فقال: كذبت أنت متهمٌ عليه. وسأل عمروٌ عما قال فوجده والمتلمس قد قالا فيه قولاً سيئاً، فسكت عنهما أياماً ثم قال لهما: ما أظنكما إلا قد سركما إتيان أهليكما وغرضتما بمكانكما؟ قالا: أجل. قال: فإني كاتبٌ لكما بها بحباءٍ وكرامة إلى عامل هجر. فكتب لهما أن يقتلا، وجهزهما بشيءٍ إلى عامله على البحرين، وعامله معضد بن عمرو بن عبد القيس، ثم من الجواثر، وبنو تغلب تقول: كتب له إلى عبد هند بن حر بن حري بن حرورة بن حمير التغلبي، وكان عامله على البحرين. فخرجا فمرا بنهر الحيرة، فإذا هما بغلمانٍ يلعبون في الماء، فرأى المتلمس في ثياب بعضهم أثر الأنقاس، فقال: يا غلام هل تكتب؟ قال: نعم. فقال لطرفة: تعلم أن ارتياح الملك لي ولك من بين شعراء بكر بن وائل لأمرٌ مريب، وقد رأيت من نظر الملك إلينا أشياء ارتبت بها، فهل لك أن تنظر في كتابينا، فإن كان ما نحب فتخمناهما ورجعنا، وإن كان ما نكره رجعنا إلى مأمننا، فقال طرفة: ما أخاف، ما كان ليكتب إلا بما قال، ولو أراد غير ذلك لكان قادراً عليه، وما كان ليجترىء علي وعلى قومي. فدفع المتلمس كتابه إلى الغلام العبادي، فلما فض ختامه ونظر فيه جعل يقرأ ويقول: ثكلت المتلمس أمه، فقال: ويلك وما في الكتاب؟ قال: فيه يقتل المتلمس. فقال لطرفة: في كتابك والله مثل ما في كتابي، فألق صحيفتك. فأبى، وألقى المتلمس صحيفته في الماء، وقال: من الطويل
وألقيتها بالثني من شط كافرٍ ... كذلك أقنو كل قطٍّ مدلل
الثني من أثناء الوادي والنهر، وكافر نهر الحيرة، كفر: غطى ووارى فهو كافر، وأقنو أجزي، والقط: الصحيفة والصك، ومنه قوله عز وجل: عجل لنا قطنا ص: 16.
ومضى طرفة على وجهه حتى أتى عامل عمرو بن هند، فلما قرأ الكتاب قال: أتدري ما في كتابك؟ قال: لا، قال: فإنه قد كتب إلي بقتلك، وأنت رجلٌ شريف، وبيني وبينك وبين أهلك إخاء فانج ولا تعلم بمكانك، فإنك إن قرىء كتابك لم أجد بداً من قتلك، فخرج فلقي شباناً من عبد قيس، فجعلوا يسقونه الشراب ويقول الشعر، فقال عامة شعره هناك، وعلم الناس بمكانه فقدمه وقتله، فأغار رجل من بني مرثد على الجواثر فأخذ نعماً فساقها إلى معبدٍ أخي طرفة فذلك قول المتلمس: من الكامل
لن يرحض السوءات عن أحسابكم ... نعم الجواثر أن تساق لمعبد
فلما بلغ عمرو بن هند صنيع المتلمس قال إن حراماً عليه حب العراق أن يطعم منه حبةً ما عاش، فذلك قوله: من البسيط
آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس
ولحق بالشام فصار في دين الغسانيين.
النعم: الإبل والبقر والغنم، فإذا انفردت الإبل قيل لها نعم، فإذا انفردت البقر والغنم لم يقل لها نعم.
والإبل جمعٌ لا واحد له من لفظه، ومثله قومٌ وغنمٌ ونساءٌ وخيلٌ ومذاكير الرجل، ومحاسن المرأة ومطايب الجزور. واختلفوا في المخاض والأبابيل والعقابيل، وقال أبو عبيدة: المداحيض. وقد وضعوا لكل حالةٍ من حالات الإبل صيغة اسم تتميز به عن الأخرى: فالقلوص من الإبل بمنزلة الجارية من النساء، والبكر من الإبل بمنزلة الفتى من الرجال، وقد يقال للقلوص بكرةٌ، والجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة المرأة، والبعير بمنزلة الإنسان يقع على الجمل والناقة كما يقع الإنسان على الرجل والمرأة.
وخبر المتلمس مع عمرو بن هند يدل على أقواء العرب وجهدها، إذ كانت عقوبة هذا الملك الجبار لهذا الشاعر المشهور أهم غايتها منعه من حب العراق.
وأخبار العرب في الجهد والجوع كثيرة.
قال حماد الراوية عن قتادة، قال زياد لغيلان بن خرشة: أحب أن تحدثني عن العرب وجهدها وضنك عيشها لنحمد الله على النعمة التي أصبحنا بها.
قال غيلان: حدثني عمي قال: توالت على العرب سنون حصت كل شيء، فخرجت على بكرٍ لي في العرب، فمكثت سبعاً لا أذوق شيئاً إلا ما ينال بعيري أو من حشرات الأرض، حتى وقعت على حواء عظيم، فإذا بيت جحيشٌ عن الحي، فملت إليه فخرجت إلي امرأةٌ طوالة حسانة، فقالت: من؟ فقلت: طارق ليلٍ يلتمس القرى، فقالت: لو كان عندنا شيءٌ آثرناك به، والدال على الخير كفاعله، جس هذه البيوت ثم انظر أعظمها، فإن يك في شيءٍ منها خيرٌ ففيه. ففعلت حتى دفعت إليه، فرحب ثم قال: من؟ قلت: طارق ليلٍ يلتمس القرى، فقال: يا فلان فأجابه، فقال: هل عندك طعام؟ قال: لا، قال: فوالله ما وقر في أذني شيءٌ كان أشد علي منه، فقال: هل عندك شراب؟ قال: لا، ثم تأوه ثم قال: قد بقينا في ضرع الفلانية شيئاً لطارقٍ إن طرق، قال: فأت به، فأتى العطن فابتعثها.
فحدثني عمي أنه شهد فتح أصفهان وتستر ومهرجان قذق وكور الأهواز وفارس، وجاهد عند السلطان، وكثر ماله وولده، قال: فما سمعت شيئاً قط كان ألذ من شخب تلك الناقة في تلك العلبة، حتى إذا ملأها ففاضت جوانبها وارتفعت عليها شكرةٌ أي رغوةٌ كجمة الشيخ، أقبل بها نحوي، فعثر بعودٍ أو حجرٍ فسقطت العلبة. فلما رأى ذلك رب البيت خرج شاهراً سيفه، فبعث الإبل ثم نظر إلى أعظمها سناماً على ظهرها مثل رأس الصعل، فكشف عرقوبها، ثم أوقد ناراً واجتب سنامها، ودفع إلي مديةً وقال: يا عبد الله اصطل واجتمل، فجعلت أهوي بالبضعة إلى النار فإذا بلغت إناها أكلتها، ثم مسحت ما بيدي من إهالتها على جلدي، وكان قد قحل جلدي كأنه شنٌّ، ثم شربت ماءً وخررت مغشياً علي فما استفقت إلى السحر.
وقطع زيادٌ الحديث وقال: لا عليك أن تخبرنا بأكثر من هذا فمن المنزول به؟ قلت: عامر بن الطفيل.
خبر عامر بن الطفيل وأربد بن قيس في وفودهما على النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن جريج: قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس العامريان، فقال عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخل في دينك على أن أكون الخليفة من بعدك، قال: ليس ذاك لك ولا لأحدٍ من قومك. قال: أفأدخل في دينك على أن أكون على أهل الوبر وأنت على أهل المدر؟ قال: لا، قال: فأي شيء تعطيني إذا أنا أسلمت؟ قال: أعطيت أعنة الخيل تقاتل عليها في سبيل الله فإنك رجلٌ شجاع، قال عامر: أوليست أعنة الخيل بيدي؟ ثم انصرف وهو يقول: لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً، ثم قال لأربد: إما أن تكفينيه وأقتله أو أكفيكه وتقتله؟ قال أربد: بل تكفينيه وأقتله. فأقبلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عامر: إني أريد أن أشاركك بشيء. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادن، فدنا منه وجنأ عليه، وسل أربد بعض سيفه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بريق سيفه تعوذ بآيةٍ من القرآن فيبست يد أربد على سيفه، وأرسل الله عليه صاعقةً فأخرقته، ومضى عامر هارباً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد بني عامر وأرح الدنيا من عامر وأصبه بسهمٍ من سهامك نافذ؛ فألجأه الموت إلى بيت امرأة من سلول، فجعل يقول أغدة كغدة الجمل، وفي بيت امرأة من سلول؟ فلم يزل يردد هذا القول حتى خرجت نفسه.
وقال لبيد بن ربيعة يرثي أخاه لأمه أربد بن قيس: من المنسرح
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أحذر نوء السماك والأسد
فجعني البرق والصواعق بال ... فارس يوم الكريهة النجد
وأنزل الله تعالى في قصة عامر وأربد مع النبي صلى الله عليه وسلم: ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال الرعد: 13. وروي عن ابن عباس أنه قال في شديد المحال: شديد المكر شديد العداوة؛ وقال أبو عبيدة: شديد المكر والعداوة والنكال، وقال اليزيدي: هو من المماحلة وهي المجادلة. وفي الحديث: إن هذا القرآن شافع فمشفع وما حل فمصدق، ومنه: اللهم لا تجعل القرآن بنا ماحلاً. وقال ابن قتيبة هو المكر والكيد. وأصل المحال والحول الحيلة.
وأصل هذه القصة أن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب عم عامر بن الطفيل وهو ملاعب الأسنة أصابته الدبيلة فاستطب لها فلم ينتفع، فدعا ابن أخيه لبيد بن ربيعة الشاعر فقال: يا ابن أخي إنك من أوثق أهل بيتي في نفسي، فأت هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فاستطب لي منه واهد له إبلاً. فانطلق لبيد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال صلى الله عليه وسلم: أما الهدية فلسنا نقبلها إلا من رجل على ديننا، ولو كنت قابلها من أحد قبلتها منه. قال: فذكر له وجعه، فأخذ صلى الله عليه وسلم حثوةً من الأرض فتفل فيها ثم قال للبيد: مثها له في ماء ثم اسقها إياه. قال: فانصرف لبيد فأخبره ما قال، قال عامر: ما فعلت في طبي؟ قال: ذاك أحقر ما رأيت منه، قال: وكيف ذاك؟ قال: أخذ حثوةً من الأرض فتفل فيها ثم قال مثها له في ماء واسقها إياه، وها هي ذه في جهازي، فقال: هاتها، فماثها في ماء فشرب منه فكأنما نشط من عقال، فرغب أبو براء في الإسلام، فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ابعث لنا قوماً يفقهونا ويعلمونا وأنا لهم جار. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر ابن عمرو الساعدي فعقد له على ثلاثين رجلاً، منهم ستة وعشرون رجلاً من الأنصار وأربعة من المهاجرين وهم: عامر بن فهيرة مولى أبي بكر وعمرو بن أمية الضمري من كنانة ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي وعروة بن أسماء بن الصلت السليمي. فخرجوا حتى انتهوا إلى ماء لبني عامر بن صعصعة يقال له بئر معونة، وبلغ عامر بن الطفيل مكانهم فاستجاش عليهم بني عامر، فقالوا: ما كنا لنخفر أنا براء، فاستنجد قوماً من قيسٍ فيهم ناس من بني سليم، ثم من بني عصية وذكوان، فخرج عامر بن طفيل يريدهم، وقد بعث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رعي إبلهم عمرو بن أمية وحرام بن ملحان النجاري، وهجم عليهم على بئر معونة فقتلهم جميعاً.
وفي رواية أن كعب بن زيد الديناري نزل وبه رمقٌ فعاش حتى قتل يوم الخندق، ونظر الرجلان اللذان مع الإبل إلى العقبان تقذف بالعلق، فقالا: لقد كانت في أصحابنا وقعة أو معركة بعدنا فرجعا؛ ولقيهما عامر بن الطفيل فقال: أمن القوم أنتما؟ فقالا: نعم، فقال لحرام: ممن أنت؟ قال: من الأنصار، فضرب عنقه، ثم قال لعمرو: ممن أنت؟ قال: من مضر، فخلى عنه ثم رده معه إلى المعركة، فقال: انظر هل تفقد أحداً من أصحابك بين القتلى؟ فقال: نعم أفقد رجلاً واحداً، قال: ومن هو؟ قال عامر بن فهيرة وكان خيارنا، قال: فإني أخبرت عنه بعجب، طعنه هذا - وأشار إلى خيار بن سلمى بن مالك بن جعفر - فأنفذه فأخذ من رمحه ثم صعد به إلى السماء حتى توارى عنا. وأتى الخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لحسان: قل شعراً واذكر إخفار عامر بن الطفيل لعامر بن مالك، فقال: من الوافر
بني أم البنين ألم يرعكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براءٍ ... ليخفره وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الخطوب أبو براء ... وخالك ماجدٌ حكم بن سعد
يعني حكم بن أبي سعد بن أبي عمرو القيسي، وأخته كبيشة بنت سعد أم ربيعة. وبلغ شعر حسان بن ثابت ربيعة بن عامر بن مالك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: هل يذهب خفرة أبي عندك أن أطعن عامر بن الطفيل متمكناً بالغاً ما بلغت؟ فرجع وأخذ الرمح وعامر بن الطفيل جالسٌ مع بني الطفيل، فلما نظر إلى ربيعة وبيده الرمح عرف الشر في وجهه فولى فطعنه فأشواه. وثار بنو الطفيل وبنو عامر بن مالك، فقال عامر بن الطفيل حيث خاف أن يقع الشر: يا بني جعفر، حكموني في هذه الطعنة، قالوا: قد حكمناك فيها، فخرج يمشي حتى برز من الحي، ثم قال: احفروا لي حفيرةً، فحفروا له قعدة الرجل، فقال: يا بني جعفر إني قد جعلت طعنتي في هذه الحفرة فأهيلوا التراب عليها ففعلوا.
وأما أبو براء عامر بن مالك فإنه جمع بني عامر، فقال: قد ترون ما صنع هذا الفاسق وإخفاره إياي، وسألهم أن ينجدوه فتثاقلوا، فقال: قد بلغ من أمري أن أعصى فلا يقبل لي رأي؟ فوضع سيفه في رهابته حتى خرج من ظهره.
قال أبو النضر: الرهابة موضع القلادة من النحر. وفي رواية أنه شرب الخمر صرفاً حتى مات.
وقد روي أن أبا براء هو الذي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد لو بعثت رجالاً إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك؛ فقال عليه السلام: أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا جارٌ لهم فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.
وروي أنه قال لقومه وهو شيخٌ كبير: من كان منكم يأتي المدينة فليعرض علي ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فعرضوا عليه ما يقول، فقال: كريم الحسب محتنكٌ قد بلغ الأربعين يدعو إلى مكارم الأخلاق ويأمر بها، والله إن هذا لأهلٌ أن يتبع وأن ينصر. وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلي من قبلك قوماً يفهموننا الذي جئت به وتدعونا إليه.
وأما عمرو بن أمية فإنه لما عاد من المعركة لقي رجلين من بني عامر معهما عقد وجوار من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعلم بذلك عمرو. فنزلا معه في ظل فسألهما: من أنتما؟ فقالا: من بني عامر؛ فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أن قد أصاب ثأره من بني عامر، فلما قدم عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر، فقال له: لقد قتلت اثنين لأدينهما، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذا عمل أبي براء، قد كنت لهذا كارهاً.
وقيل لعامر بن الطفيل: إنك إن أتيت محمداً صلى الله عليه وسلم أمنك على ما صنعت، فأقبل هو وأربد وكان من شأنهما ما تقدم ذكره.
منافرة عامر وعلقمة.
من أخبار العرب المشهورة المنافرة بين عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وعلقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب. وقد أكثرت الرواة فيها وأطالت، فأتيت منها بأخصر ما يكون ويمكن، وحذفت الفضول.
كان عامر بن الطفيل من أشهر فرسان العرب بأساً ونجدةً حتى كان قيصر إذا قدم عليه قادم من العرب قال له: ما بينك وبين عامر بن الطفيل؟ فإن ذكر نسباً عظم عنده به حتى وفد عليه علقمة بن علاثة فانتسب له، فقال له: أنت ابن عم عامر، فغضب علقمة وقال: أراني لا أعرف إلا بعامر، وكان ذلك مما أوغر صدره ودعاه إلى المنافرة. وغزا عامر بن مالك ملاعب الأسنة اليمن بقبائل من بني عامر، فرجع وقد ظفر وملأ يده، فلما صاروا إلى مأمنهم وأرادوا أن يتفرقوا إلى محالهم خطبهم عامر فقال: إن الله قد أثرى عددكم وكثر أموالكم وقد ظفرتم، ومن الناس البغي والحسد، ولم يكثر قوم قط إلا تباغوا ولست آمنها عليكم وبينكم حسائف وأضغان، وتواعدوا ماء النطيم يوم كذا، فأعطى بعضكم من بعض واستل ضغن بعضكم من بعض؛ فقالوا: ما تعقبنا قط من أمرك إلا يمناً وحزماً، ونحن موافوك بالنطيم في اليوم الذي أمرت بموافاتك فيه. فاجتمعت بنو عامر ولم يفقد منهم أحد غير عامر بن الطفيل فانتظروه، فقام علقمة بن علاثة مغضباً، وكان له جد في ناديهم فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: ننتظر أبا علي، فقال: وما تنتظرون منه؟ فوالله إنه لأعور البصر، عاهر الذكر، قليل الذكر والنفر. فقال له عامر بن مالك: اجلس ولا تقل لابن عمك إلا خيراً، فلو شهد وغبت لم يقل فيك مقالتك فيه. وأقبل عامر على ناقة له، فتلقاه بعض من غضب له من فتيان بني مالك بن جعفر وأخبره بمقالة علقمة، قال: فها قال غير هذا؟ قالوا: لا، قال: قد والله صدق ما لي ولد وإني لعاهر الذكر وإني لأعور البصر؛ ثم قال للذي أخبره: فهل رد عليه أحد؟ قال: لا، قال: أحسنوا. وجاء حتى وقف راحلته على ناديهم فحياهم وقال لهم: لم تقرون بشتمي؟ فوالله ما أنا عن عدوكم بجبان، ولا إلى أعراضكم بسريع، وما حبسني عنكم إلا خمر قدم بها إلي فسبأتها وجمعت عليها شباب الحي، فكرهت أن أدعهم يتفرقون حتى أنفذتها؛ وقد علمت لأي شيء جمعكم أبو براء، فأصلح الله شأنكم ولم شعثكم وكثر أموالكم. ثم قال: كل قرامة أو خداش أو حق أو ظفر يطلبه بنو عامر فهو في أموال بني مالك، مالي أول ذلك. وقال أعمامه: وكل شيء لنا فيكم فهو لكم، قال أعمامه: قد رضينا بما فعل وحملنا ما يحمل، فتصدع الناس على ذلك. وكان ذلك مما زاد صدر علقمة عليه وغراً حتى دعاه إلى المنافرة. وقال عامر في مراجعته لعلقمة: والله لأنا أركب منك في الحماة، وأقتل منك للكماة، وخير منك للمولى والمولاة. فقال علقمة: والله إني لبرٌّ وإنك لفاجر، وإني لوفيٌّ وإنك لغادر، ففيم تفاخرني يا عامر؟ فقال: والله لأنا أنزل منك للفقرة، وأنحر منك للبكرة، وأضرب منك للهدي، وأطعن منك للنثرة. فقال علقمة: والله إنك لكليل البصر، نكد الذكر، وثاب على جاراتك في السحر. فقال بنو خالد بن جعفر، وكانوا يداً مع بني الأحوص على بني مالك بن جعفر: إنك لن تطيق عامراً، ولكن قل له أنا أنافرك بخيرنا وأقربنا للخيرات، وخذ عليه بالكبر. فقال له علقمة هذا القول، فقال له عامر: وعنز وتيس، وتيس وعنز، فأرسلها مثلاً، نعم، على مائةٍ من الإبل إلى مائة يعطاها الحكم أينا نفر عليه صاحبه أخرجها، ففعلوا ووضعوا بها رهناً من أبنائهم على يدي رجل من بني الوحيد. وخرج علقم في من معه من بني خالد، وخرج عامر في من معه من بني مالك، وقد أتى عمه عامر بن مالك فقال: يا عماه أعني، قال: يا ابن أخي سبني؛ فقال: لا أسبك وأنت عمي؛ قال: فسب الأحوص، فقال عامر: لا أسب والله الأحوص وهو عمي، قال: فكيف أعينك إذن؟ ولكن دونك نعلي فإني ربعت فيهما أربعين مرباعاً فاستعن بهما في نفارك، وكره ما كان بينهما. وجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب فلم يقل بينهما شيئاً وكره ذلك ذلك لحمالهما وحال عشيرتهما وقال: أنتما كركبتي البعير الأدرم؛ فأتيا اليمنى، قال: كلاكما يمنى، وأبى أن يقضي بينهما. فانطلقا إلى أبي جهل ابن هشام بن المغيرة لعنه الله فأبى أن يحكم بينهما. وكانت العرب تحاكم إلى قريش فأبت أن تحكم بينهما. فأتيا عيينة بن حصن فأبى أن يحكم ويقول بينهما شيئاً. فأتيا غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي فردهما إلى حرملة بن الأشعر المري، فردهما إلى هرم بن سنان بن قطبة بن سيار بن عمرو الفزاري. فانطلقا حتى نزلا به. وقيل إنهما ساقا الإبل حتى أثنت وأربعت، فجعلا لا يأتيان أحداً إلا هاب أن يقضي
بينهما. فقال هرم: لعمري لأحكمن بينكما ولأفضلن، ولست أثق بواحد منكما، فأعطياني موثقاً أطمئن به أن ترضيا بما أقول وتسلما لما قضيت بينكما، وأمرهما بالانصراف، ووعدهما ذلك اليوم من قابل، فانصرفا. حتى إذا بلغ الأجل خرجا إليه، فخرج علقمة والأحوص ولم يتخلف منهم أحد، معهم القباب والجزر والقدور، ينحرون في كل منزل ومعهم الحطيئة. وجمع عامر بني مالك فقال: إنما تخاطرون عن أحسابكم فأجابوه وساروا معه، ولم ينهض أبو براء عامر بن مالك وقال لعامر: والله لا تطلع ثنية إلا وجدت الأحوص منيخاً بها، وخرج معهم لبيد بن ربيعة والأعشى. وقال رجل من غني: يا عامر ما صنعت؟ أخرجت بني مالك تنافر بني الأحوص ومعهم القباب والجزر وليس معك شيء تطعمه الناس، ما أسوأ ما صنعت فقال عامر لرجلين من بني عمه: أحصيا كل شيء مع علقمة، ففعلا. وقال: يا بني مالك إنها المقارعة عن أحسابكم فأشخصوا، بمثل ما شخصوا، ففعلوا. وقال لبيد: من الرجز. فقال هرم: لعمري لأحكمن بينكما ولأفضلن، ولست أثق بواحد منكما، فأعطياني موثقاً أطمئن به أن ترضيا بما أقول وتسلما لما قضيت بينكما، وأمرهما بالانصراف، ووعدهما ذلك اليوم من قابل، فانصرفا. حتى إذا بلغ الأجل خرجا إليه، فخرج علقمة والأحوص ولم يتخلف منهم أحد، معهم القباب والجزر والقدور، ينحرون في كل منزل ومعهم الحطيئة. وجمع عامر بني مالك فقال: إنما تخاطرون عن أحسابكم فأجابوه وساروا معه، ولم ينهض أبو براء عامر بن مالك وقال لعامر: والله لا تطلع ثنية إلا وجدت الأحوص منيخاً بها، وخرج معهم لبيد بن ربيعة والأعشى. وقال رجل من غني: يا عامر ما صنعت؟ أخرجت بني مالك تنافر بني الأحوص ومعهم القباب والجزر وليس معك شيء تطعمه الناس، ما أسوأ ما صنعت فقال عامر لرجلين من بني عمه: أحصيا كل شيء مع علقمة، ففعلا. وقال: يا بني مالك إنها المقارعة عن أحسابكم فأشخصوا، بمثل ما شخصوا، ففعلوا. وقال لبيد: من الرجز
إني امرؤ من مالك بن جعفر ... علقم قد نافرت غير منفر
نافرت سقباً من سقاب العرعر
فقال قحافة بن عوف بن الأحوص: من الرجز
نهنه إليك الشعر يا لبيد ... واصدد فقد ينفعك الصدود
ساد أبونا قبل أن تسودوا ... سؤددكم مطرفٌ زهيد
وقال الأعشى: من السريع
علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر
سدت بني الأحوص لم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر
وكره كل واحد من البطنين هذه المنافرة، فقال عامر بن مالك: من الوافر
أؤمر أن أسب أبا شريح ... ولا والله أفعل ما حييت
ولا أهدي إلى هرمٍ لقاحاً ... فيحيي بعد ذلك أو يميت
أكلف سعي لقمان بن عاد ... فيا لأبي شريح ما لقيت
أبو شريح: هو الأحوص.
وقال عبد عمرو بن شريح بن الأحوص: من الطويل
لحى الله وفدينا وما ارتحلا به ... من السوأة الباقي عليهم وبالها
ألا إنما يردى صفاةً متينة ... أبى الضيم أعلاها وأثبت حالها
والأشعار في هذه القصة كثيرة وليست كلها مختارة. قال: فأقام القوم عند هرم أياماً، فأرسل إلى عامر فأتاه سراً لا يعلم به علقمة، قال: يا عامر، قد كنت أظن أن لك رأياً وأن فيك خيراً، وما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك، أتنافر رجلاً لا تفخر أنت ولا قومك إلا بآبائه، فما الذي أنت به خير منه؟ فقال عامر: أنشدك الله والرحم أن لا تفضل علي علقمة فوالله لئن فعلت ذاك لا أفلح بعدها، هذه ناصيتي بيدك فاجززها واحتكم في مالي، وإن كنت لا بد فاعلاً فسو بيني وبينه. قال له هرم: انصرف فسوف أرى رأيي. فخرج عامر وهو لا يشك أنه منفرٌ عليه. ثم أرسل إلى علقمة سراً لا يعلم به عامر، فأتاه فقال: يا علقمة، والله إني كنت أحسب أن فيك خيراً.
وعاش هرم حتى أدرك خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأله عمر فقال: يا هرم أي الرجلين كنت مفضلاً لو فضلت؟ فقال: لو قلت ذلك اليوم يا أمير المؤمنين لعادت جذعةً ولبلغت شعفات هجر، فقال عمر: نعم مستودع السر ومسند الأمر إليه يا هرم أنت، مثل هذا فليستودع وليسد العشيرة. وقال: إلى مثلك فليستبضع القوم أحكامهم.
قال الهيثم بن عدي: قالت الأعاجم لكسرى بن هرمز: إن العرب لا عقول لهم ولا أحلام ولا كتاب لهم يدرسونه ولا إله يعبدونه، إنما يعبدون الحجر، فإذا أرادوا أحسن منه طرحوا الذي يعبدونه وأخذوا الذي هو أحسن منه فعبدوه، وإن بعضهم يقتل بعضاً. فعجب كسرى من ذلك وقال: بلغت حيلة قوم أن يكونوا على ما تصفون؟ قالوا: نعم. وكتب إلى النعمان بن المنذر يخبره بما قالت الأعاجم وأنه أنكر ذلك، وأمره أن يكتب إليه بشيء من كتبهم ليعتبر به عقولهم. فكتب النعمان إلى أكثم بن صيفي أن اكتب إلينا أمراً نبلغه عنك الملك، وأخبره بما رفع إلى الملك من قلة عقول العرب، فكتب إليه أكثم: لن يهلك امرؤ حتى يستصغر أفعال الناس عند فعله، ويستبد على قومه برأيه في أموره، ويعجب بما يظهر من مروءته، ويعبر بالضعف عن قوته، والعجز عن الأمر يتأتى له، وإنه ليس للمختال في حسن الثناء نصيب، ولا للوالي المعجب في يقاء سلطانه ظفر به، وإنه لا تمام لشيء مع العجب، ومن أتى المكروه إلى أحد فبنفسه بدأ، لقاء الأحبة مسلاة، اللهم ومن أسر ما يشتبه إعلانه فلم يعالن الأعداء بسريرته سلم الناس عليه وعظم عندهم شأنه. والغي أن تتكلم فوق ما يشبه حاجتك، وينبغي لمن له عقل أن لا يثق بإخاء من لم تضطره إليه حاجة، وأقل الناس راحةً الحسود، من أتى بيده ما يقصده بقلبه فأعفه من اللائمة، ولا تحل رحمتك دون عقوبتك، فإن الأدب رفق، والرفق يمن؛ إن كثير النصح يهجم على كثير الظنة؛ إن أردت النصيحة فبعد إسرافك على الفضيحة؛ وإن أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور.
فبعث النعمان بهذا الكتاب إلى كسرى فقرئ عليه وفسر له، فقال لأصحابه: أهؤلاء الذين زعمتم أنهم لا عقول لهم، ما على الأرض قومٌ أعقل من هؤلاء وليكونن لهم نبأ.
خبر النعمان ووفود العرب معه على كسرى.
قال الكلبي: قدم النعمان بن المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين، فذكروا ملوكهم وبلادهم، فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم لا يستثني فارساً ولا غيرها. فقال كسرى - وأخذته غيرة الملك - : يا نعمان لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم، ونظرت في حال من يقدم علي من وفود الأمم، فوجدت الروم لها حظ في اجتماع ألفتها وعظم سلطانها وكثرة مدائنها ووثيق بنيانها، وأن لها ديناً يبين حلالها وحرامها، ويرد سفيهها ويقوم جاهلها؛ ورأيت الهند لها نحو من ذلك في حكمتها وطبها، مع كثرة أنهار بلادها وأثمارها، وعجيب صناعتها، وطيب أشجارها، ودقيق حسابها مع كثرة عددها؛ وكذلك الصين في اجتماعها وكثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصنعة الحديد، وإن لها ملكاً يجمعها؛ والترك والخزر على ما بهم من سوء الحالة والمعاش وقلة الريف والثمار، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، لهم ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم؛ ولم أر للعرب شيئاً من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا ولا حزم ولا قوة ولا عقل ولا حكمة، مما يدل على مهانتها وذلها وصغر همتها، محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة والطيور الطائرة الحائرة، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويقتل بعضهم بعضاً من الحاجة، وقد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ولهوها ولذتها، فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها.
هذا خبر تشهد معانيه أنه مصنوع، فإن ألفاظه مولدة، ورجال العرب والذين نسب إليهم الحكاية متباعدة أعصارهم، لكنه يتضمن محاسن العرب والاحتجاج على من ينتقصهم ويقدح فيهم، وفي هذه الفائدة كفاية لأجلها نقلته إلى ها هنا.
وإن قرى أحدهم ضيفاً عدها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدها غنيمة، تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التنوخية الذي استن جدي اجتماعها وشيد مملكتها ومنعها من عدوها، فحري لها ذلك إلى يومنا هذا، وإن لها مع ذلك آثاراً ولبوساً وقراراً وحصوناً، نسبه بعض أمور الناس - يعني أهل اليمن - ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس، حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس.
قال النعمان: أصلح الله الملك، حق لأمةٍ الملك منها أن تسموا بفضلها، ويعظم خطبها، وتعلو درجتها، إلا أن عندي في كل ما نطق به الملك جواباً في غير رد عليه ولا تكذيب له، فإن أمنني من غضبه نطقت به. قال كسرى: قل فأنت آمن. قال النعمان: أما أمتك أيها الملك فليس تنازع في الفضل لموضعها الذي هي به في عقولها وأحلامها وبسط محلها وبحبوحة عزها، وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك، وأما الأمم الذي ذكرت فأي أمة قرنتها بالعرب إلا فضلتها. قال كسرى: بماذا؟ قال النعمان: بعزها ومنعتها وحسن وجوهها وألوانها وبأسها وسخائها، وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها. فأما عزها ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد ووطدوا الملك وقادوا الجنود، لم يطمح فيهم طامع ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيولهم ومهادهم الأرض وسقفهم السماء وجنتهم السيوف وعدتهم الصبر، ثم إن غيرهم من الأمم إنما عزها الحجارة والطين وجزائر البحار. وأما حسن وجوهها وألوانها فقد تعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المحترقة والصين المحسمة والترك المشوهة والروم المقشرة. وأما أنسابها فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آياءها وأصولها وكثيراً من أولاها وأخراها حتى إن أحدهم يسأل عما وراء أبيه دنية فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا يسمى آباءه أباً فأباً، حاطوا بذلك أحسابهم وحفظوا أنسابهم، فلا يدخل رجلٌ في غير قومه ولا ينسب إلى غير نسبه ولا يدعى إلى غير أبيه، وأما سخاؤهم فإن أدناهم رجلاً للذي عنده البكرة يكون عليها بلاغه في حمولته وشبعه وريه، فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويحتزئ بالسربة فيعقرها له ويرضى أن يخرج له عن دنياه كلها فيما يكسبه من أحدوثة السكر وطيب الذكر. وأما حكمة ألسنتها فإن الله أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه، مع معرفتهم بالإشارة وضربهم الأمثال، وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس. ثم خيلهم أفضل الخيول، ونساؤهم أعف النساء، ولباسهم أفضل اللباس، ومعادنهم الفضة والذهب، وحجارة جبالهم جبالهم الجزع، ومطاياهم التي تبلغ على مثلها السفر ويقطع بمثلها البلد القفر. وأما دينها وشريعتها فإنهم متمسكون به حتى يبلغ أحدهم من تمسكه بدينه أن لهم أشهراً حراماً وبلداً محرماً وبيتاً محجوباً ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون ذبائحهم، فيلقى الرجل قاتل أبيه وأخيه - وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك دمه - فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله. وأما وفاؤها فإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماءة فهي عقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عوداً من الأرض فيكون رهناً في يده، فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم يبلغه أن رجلاً استجار به، وعسى أن يكون نائباً عن داره، فيصاب فلا يرضى حتى تفنى القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما يخفر من جواره، وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث عن غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دونه ماله. وأما قولك أيها الملك إنهم يئدون أولادهم من الحاجة فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفةً من العار وغيرةً من الأزواج. وأما قولك إن أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها، فم تركوا ما دونها إلا احتقاراً له، فعمدوا إلى أجلها وأفضلها فكانت مراكبهم وطعامهم، مع أنها أكثر البهائم شحوماً، وأطيبها لحوماً، وأرقها ألباناً وأقلها غائلةً، وأحلاها مضغة، وأنه لا شيء من اللحم يعالج بما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه. وأما تحاربهم وقتل بعضهم بعضاً وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم، فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من أنفسها ضعفاً وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه إنما تكون المملكة العظيمة لأهل بيت واحد يعرف فضله على سائرهم، فيلقون إليه أمورهم وينقادون إليه بأزمتهم. فأما العرب فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكاً أجمعين، مع أنفتهم من أداء الخراج والوطء والعسف. فأما اليمن التي وصفها الملك فإنما أتى الملك إليها الذي أتاه عند غلبة الحبشي له على ملكٍ متسق وأمنٍ مجتمع، فأتاه مسلوباً طريداً مستصرخاً قد تقاصر عن إيوائه، وصغر في عينه ما شيد من بنيانه، ولولا ما وتر به ممن يليه من العرب لمال إلى محتل، ولو وجد من يجيد الطعان ويعصب الأحرار
من غلبة العبيد الأشرار.من غلبة العبيد الأشرار.
قال: فعجب كسرى لما أجابه به، وقال: إنك لأهل لموضعك من الرئاسة في أهل إقليمك ولما هو أفضل، ثم كساه من كسوته وسرحه إلى موضعه من الحيرة.
فلما قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين، وإلى الحارث بن عباد وقيس بن مسعود البكريين، وإلى خالد بن جعفر وعلقمة ابن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين، وإلى عمرو بن الشريد السلمي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المري. فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: قد عرفتم حال هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منهم، وقد سمعت من كسرى مقالة تخوفت أن يكون لها غور وأن يكون إنما أظهرها لأمر أراده أن يتخذ العرب خولاً كبعض طماطميه في أدائهم الخراج إليه كما يفعل ملوك الأمم الذين حوله، واقتص عليهم مقالة كسرى وما رد عليه. فقالوا: وفقك الله أيها الملك فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت، قال: إنما أنا رجلٌ منكم وإنما ملكت وعززت بمكانكم وبما يتخوف من ناحيتكم، وليس شيء أحب إلي مما سدد الله به أمركم وأصلح شأنكم وأدام عزكم، والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطلقوا بكتابي هذا إلى باب كسرى، فإذا دخلتم عليه نطق كل رجل منكم بما حضره ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه، ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه، فإنه ملك عظيم السلطان كثير الأعوان، مترف معجب بنفسه، ولا تنخزلوا له انخزال الخاضع الذليل، وليكن أمراً بين ذلك يظهر به وثاقة حلومكم وغور عقولكم وفضل منزلتكم وعظيم أخطاركم. وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي لسنه وحاله، ثم تتابعوا على الولاء من منازلكم التي وضعتكم بها، فإنما دعاني إلى التقدمة إليكم علمي بحرص كل رجل منكم على التقدم قبل صاحبه، فلا يكونن ذلك منكم فيجد في أدبكم طعناً، فإنه ملك مترف وقادر متسلط. ثم دعا لهم بما في خزانته من طرائف حلل الملوك، فكسا كل رجل منهم حلة وعممه بعمامة وختمه بياقوتة، وأمر لكل رجل منهم بنجيبة ومهرية وفرسٍ يجنب معه، وكتب لهم كتاباً فيه: أما بعد فإن املك ألقى إلي من أمر العرب ما قد علم، وأجبته فيه بما قد فهم، مما أحب أن يكون منه على علم، ولم يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي افتخرت دونه بملكها وحمت ما يليها بفضل قوتها يبلغها في شيء من الأمور التي يتعزز بها ذوو الحزم والقوة والتدبير والمكيدة.
ولقد أنفذت إليك أيها الملك رهطاً من العرب لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم، فليسمع الملك منهم وليغمض عن جفاءٍ إن ظهر منهم، وليكرمني بإكرامهم ويعجل سراحهم، وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم.
فخرج القوم في أهبتهم حتى دفعوا إلى باب كسرى بالمدائن، فدفعوا إليه كتاب النعمان فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلساً يسمع منهم. فلما كان من الغد أمر مرازبته ووجوه أهل مملكته فحضروا مجلسه، وجلس على سريره، وتتوج بتاجه، وتهيأ لهم بأعظم الهيئة، ثم أذن لهم فدخلوا وأجلسوا على كراسٍ عن يمينه وعن شماله، ثم دعا بهم على الولاء والمراتب التي وصفهم بها النعمان في كتابه، فقام الترجمان ليؤدي إليه كلامهم، ثم أذن لهم في الكلام.
فقام أكثم بن صيفي فقال: إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمها نفعاً، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها: الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر لجاجة، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء، وآفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور مغبةً الصبر، حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة، إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي، من فسدت بطانته كان كالغاص بالماء، شر البلاد بلادٌ لا أمير بها، شر الملوك من خافه البريء، المرء يعجز لا المحالة، أفضل البر بر برة، خير الأعوان من لم يرائي بالنصيحة، أحق الجنود من حسنت سيرته، يكفيك من الزاد ما بلغك المحل، حسبك من شرٍّ سماعه، الصمن حكمٌ وقليلٌ فاعله، البلاغة الإيجاز، من تشدد نفر ومن تراخى ألف.
فتعجب كسرى من أكثم ثم قال له: ويحك يا أكثم ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك آخر كلامك في غير موضعه. قال أكثم: الصدق ينبي عنك لا الوعيد، قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفاها، قال أكثم: رب قول أنفذ من صول.
ثم قام حاجب بن زرارة التميمي فقال: وري زندك، وعلت يدك، وملئت سلطانك، إن العرب أمة غلظت أكبادها، واستحصدت مرتها، وهي لك واقعة ما تألفتها، مسترسلةٌ ما لاينتها، سامعة ما سامحتها، وهي العلقم مرارة، والصاب فظاظة، والعسل حلاوة، والماء الزلال سلاسة، نحن وفودها إليك وألسنتها لديك، ذمتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائنا فينا سامعة مطيعة، وإن بادرت لك حامدين جرى لك بذاك عموم محمدتها، وإن لم تذمم لم تخص بالذم دونها.
قال كسرى: يا حاجب ما أشبه حجل التلال بألوان صخرها، قال حاجب ابن زرارة: زئير الأسد بصولتها، قال كسرى: وذاك.
ثم قام الحارث بن عباد فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها وعلو سنائها، من طال رشاؤه كثر متحه، ومن ذهب ماله قل منحه، وعند تناقل الأقاويل يعرف اللب، وهذا مقام يستوجب بما ينطق فيه الركب، ويعرف كنه ألباب العجم والعرب، ونحن جيرتك الأدنون وأعوانك الأعلون، خيولنا جمة وجيوشنا قحمة، إن استجرنا فغير ريض، وإن استطرقنا فغير جهض، وإن طلبنا فغير غمض، لا ننثني لذعر، ولا نتنكر لدهر، رماحنا طوال وأعمارنا قصار.
قال كسرى: أنفسٌ عزيزة وآلة ضعيفة؟ قال الحارث: أيها الملك وأنى تكون للضعيف عزة وللصغير مرة؟ قال كسرى: لو قصر عمرك لم تستول على لسانك نفسك. قال الحارث: أيها الملك إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغرراً بنفسه على الموت فهي منية استقبلها وحياة استدبرها، والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدماً وأجلسها وهي تصرف نابها، حتى إذا حشت نارها وسعرت لظاها وكشفت عن ساقها، جعلت مقادها رمحي وبرقها سيفي ورعدها زئيري، ولم أقصر عن خوض ضحضاحها حتى أنغمس في غمرات لججها وأكون ملكاً لفرساني إلى بحبوحة كبشها، فأستمطرها دماً وأترك حماتها جزر السباع وكل نسرٍ قشعم. قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو؟ قالوا: فعاله أنطق من لسانه. فقال كسرى ما رأيت كاليوم وفداً أحد ولا شهوداً أرفد.
ثم قام عمرو بن الشريد السلمي فقال: أيها الملك نعم بالك، ودام في السرور حالك، وإن عاقبة الكلام متدبرة، وأشكال الأمور معتبرة، وفي كثير القول ثقلة، وفي قليله بلغةٌ، وفي الملوك سورة العزة وهذا منطق له ما بعده، شرف فيه من شرف، وخمل فيه من خمل؛ لم نأت لضيمك، ولم نفد لسخطك، ولم نتعرض لرفدك؛ إن في أموالنا مستنداً وعلى عزنا معتمداً، وإن أورينا ناراً اتقينا، وإن أود دهرنا اعتدلنا، إلا أنا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك مكافحون، حتى يحمد الصدر، ويستطاب الخبر.
قال كسرى: ما يقوم قصد منطقك بإفراطك، ولا مدحك بذمك، قال عمرو: كفى بقليل قصدي هادياً، وبأيسر إفراطي مخبراً، ولم يلم من عرفت نفسه عما يعلم، ورضي من القصد بما بلغ.
قال كسرى: ما كل ما يعرف المرء ينطق به اللسان، اجلس.
ثم قام خالد بن جعفر الكلابي فقال: أحضر الله الملك إسعاداً، وأرشده إرشاداً؛ إن كل منطق فرصة، وإن لكل حاجة غصة، وعي المنطق أشد من عي السكوت، وعثار القول أنكى من عثار الوعث، وما فرصة المنطق عندك إلا بما تهوى، وغصة المنطق بما لا تهوى غير مستطاعة، وتركي ما أعلم من نفسي ويعلم من سمعني أني له مطيق أحب إلي من تكليفي ما لا أتخوف وتتخوف مني، وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان، ونعم حامل المعروف والإحسان؛ إن أنفسنا لك بالطاعة باخعة، ورقابنا لك بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة.
قال كسرى: نطقت بعقل، وسموت بفضل، وعلوت بنبل.
ثم قام علقمة بن علاثة فقال: نهجت لك سبل الرشاد، وخضعت لك رقاب العباد، إن للأقاويل مناهج، وللآراء موالج، وللعويص مخارج، وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه؛ إنا وإن كانت المحبة أحضرتنا، والوفادة قربتنا، فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك، بل لو فتشت كل رجلٍ منهم وعلمت منهم ما علمنا لوجدت له في آبائه أنداداً وأكفاء، كلهم إلى الفضل منسوب، وبالشرف والسؤدد موصوف، وبالرأي الفاضل والأدب النافذ معروف، يحمي حماه، ويروي نداماه، ويذود أعداه، ولا تخمد ناره ولا يحترز منه جاره، أيها الملك من يبل العرب يعرف فضلهم، فاصطنع العرب فإنها الجبال الرواسي عزاً، والبحور الزواخر طماً، والنجوم الزواهر شرفاً، والحصى عدداً، فإن تعرف لهم فضلهم يعزوك، وإن تستصرخهم لا يخذلوك.
قال كسرى - وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه - : حسبك أبلغت وأحسنت.
ثم قام قيس بن مسعود الشيباني فقال: أصاب الله بك المراشد، وجنبك المصائب، ووقاك مكروه الشصائب، قما أحقنا إذ أتيناك بإسماعك ما لا يخش صدرك، و يزرع لنا حقداً في قلبك، لم نقدم أيها الملك لمباهاة، ولم ننتسب لمعاداة، ولا نزرع لنا حقداً في قلبك، ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم أنا في المنطق غير مفحمين وفي الناس غير مقصرين، إن جوزينا فغير مسبوقين وإن سوبقنا فغير مغلوبين.
قال كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين، وهو يعرض به في تركه الوفاء بضمانه السواد.
قال قيس: أيها الملك ما كنت في ذلك إلا كوافٍ غدر به وكخافرٍ خفر بذمته.
قال كسرى: ما يكون لضعيف ضمان ولا لذليل خفارة. قال قيس: أيها الملك ما أنا فيما تخفر من ذمتي بألزم بالعار منك فيما قتل من رعيتك وانتهك من حرمتك.
قال كسرى: كذلك من ائتمن الخانة واستخدم الأثمة ناله من الخطأ ما نالني، وليس كل الناس سواء. كيف رأيت حاجب بن زرارة؟ ألم يحكم قوله فيبرم، ويعهد فيوفي ويعد فينجز؟ قال: ما أحقه بذلك وما رأيته الأولى.
قال كسرى: القوم بزل فأفضلها أشدها ثم قام عامر بن الطفيل فقال: كثر فنون المنطق، ولبس القول أعمى من حندس الظلماء، وإنما العجز في الفعال، والفخر في النجدة، والسؤدد مطاوعة القدرة، ما أعلمك بقدرنا وأبصرك بفضلنا وبالجزاء إن دالت الأيام وثابت الأحلام أن تحدث أمورٌ لها أعلام.
قال كسرى: وما تلك الأعلام والأيام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر في أمر يذكر.
قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر؟ .
قال: وما لي علم بأكثر ما خبرني مخبر.
قال كسرى: ومتى تكهنت يا ابن الطفيل؟ .
قال عامر: لست بكاهن ولكني بالرمح طاعن.
قال كسرى: فإن أتاك آتٍ من ناحية عينك العوراء ما أنت صانع؟ .
قال: ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب عيني عبث ولكن مطاعنة المعث.
ثم قام عمرو بن معدي كرب الزبيدي فقال: إن المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فبلاغ المنطق الصواب، وملاك النجدة الارتياد، وعفو الرأي خير من استكراه الفكرة، وتوقيف الخيرة خير من اعتساف الخيرة، فاجتبذ طاعتنا بلطفك، واكظم بادرتنا بحلمك، وألن لنا كنفك، يسلس لك قيادنا؛ وإنا أناس لم يكسر صفاتنا قراع منافر أراد لها قصماً، ولكن منعنا حمانا من كل من رام لنا هضماً.
ثم قام الحارث بن ظالم فقال: إن من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق الملق، ومن خطل الرأي صفة الملك المسلط، فإن أعلمناك أن مواجهتنا لك من ائتلاف، وانقيادنا لك عن إنصاف، ما أنت لقبول ذلك منا بخليق وللاعتماد عليه بحقيق، ولكن الوفاء بالعهود وإحكام ولث العقود، والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأت من قبلك ميل وزلل.
قال كسرى: من أنت؟ قال: الحارث بن ظالم، قال: إن في أسماء آبائك لدليلاً على قلة وفائك، وأن تكون أولى بالغدر، وأقرب من الوزر.
قال الحارث: إن في الحق مغضبة والسر والتغافل، ولم يستوجب أحد الحكم إلا مع القدرة، فليشبه أفعالك مجلسك. فقال كسرى: هذا فتى القوم.
ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطق فيه خطباؤكم، وتفنن فيه متكلموكم، ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقف أودكم ولم يحكم أموركم، وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة، فنطقتم بما استولى على ألسنتكم وغلب على طبائعكم، لم أجز لكم كثيراً مما تكلمتم به، وإنني لأكره أن أجبه وفودي وأخشن صدورهم، وللذي أطلب أحب من إصلاح مدبركم، وتألف سوادكم والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم، وقد قبلت ما كان من منطقكم من صواب، وصفحت عما فيه من خلل، فانصرفوا إلى ملككم فأحسنوا مؤازرته، والزموا طاعته، واردعوا سفهاءكم، وأقيموا أودهم، وأحسنوا أدبهم، فإن في ذلك صلاح العامة وأخذاً بطول السلامة. ثم أمر لكل رجل منهم بخمسين ديناراً وحلة، وصرفهم.
نوادر من هذا الباب
لما زفت ميسون بنت بحدل الكلبية إلى معاوية تشوفت إلى البادية فقالت: من الوافرلبيتٌ تخفق الأرواح فيه ... أحب إلي من قصرٍ منيف
وأصوات الرياح بكل فجٍّ ... أحب إلي من نقر الدفوف
وكلبٌ ينبح الطراق عني ... أحب إلي من هرٍّ ألوف
وبكرٌ يتبع الأظعان صعب ... أحب إلي من بغلٍ زفوف
ولبس عباءةٍ وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف
وخرقٍ من بني عمي كريمٍ ... أحب إلي من علجٍ عليف
وتروى الأبيات لأعرابي وأولها:
لضأنٌ ترتعي الذكران حولي ... أحب إلي من بقرٍ علوف
وشرب لبينةٍ وتطيب نفسي ... أحب إلي من أكل الرغيف
فلما بلغت الأبيات معاوية قال: والله ما رضيت بنت بحدل حتى جعلتني علجاً عليفاً.
قال الفرزدق: أصابني بالبصرة مطر جود ليلاً فإذا أنا بأثر دواب قد خرجت ناحية البرية، فظننت أن قوماً قد خرجوا لنزهة، فقلت: خليق أن يكون معهم سفرة وشراب، فقصصت آثارهم حتى دفعت إلى بغال عليها رحائل موقوفة على غدير فأغذذت السير نحو الغدير، فإذا نسوة مستنقعات في الماء؛ فقلت: لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل، وانصرفت مستحيياً منهن. فنادينني بالله يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيء، فانصرفت إليهن وهن في الماء إلى حلوقهن، فقلن: بالله لما حدثتنا بحديث دارة جلجل، فقلت: إن امرأ القيس كان يهوى ابنة عمٍّ له يقال لها عنيزة، فطلبها زماناً فلم يصل إليها حتى كان يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل، وذلك أن الحي احتملوا فتقدم الرجال وتخلف النساء والخدم والثقل، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع الرجال غلوة، فكمن في غيابة من الأرض حتى مر به النساء، فإذا فتيات وفيهن عنيزة، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فذهب بعض كلالنا، فنزلن إليه ونحين العبيد عنهن، ثم تجردن فاغتمسن في الغدير كهيئتكن الساعة، فأتاهن امرؤ القيس مخاتلاً كنحو ما أتيتكن وهن غوافل، فأخذ ثيابهن فجمعها. ورمى الفرزدق بنفسه عن بغلته فأخذ بعض أثوابهن فجمعها ووضعا على صدره وقال لهن كما أقول لكن: والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو قامت في الغدير يومها حتى تخرج مجردة. قال الفرزدق: فقالت إحداهن وكانت أمجنهن: هذا امرؤ القيس كان عاشقاً لابنة عمه، أفعاشق أنت لبعضنا؟ قال: لا والله ما أعشق منكن واحدة ولكن أستهبكن، قال: فنعرن وصفقن بأيديهن وقلن: خذ في حديثك فلست منصرفاً إلا بما تحب. قال الفرزدق في حديث امرئ القيس: فتأبين عليه إلى آخر النهار وخشين أن يعصرن دون المنزل الذي أردنه، فخرجت إحداهن فدفع لها ثوبها ووضعه ناحية فأخذته ولبسته، وتتابعن على ذلك حتى بقيت عنيزة وحدها، فناشدته الله أن يطرح إليها ثوبها، فقال: دعينا منك فأنا حرام إن أخذت ثوبك إلا بيدك، قال: فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة، فوضع لها ثوبها فأخذته، وأقبلن عليه يعذلنه ويلمنه ويقلن: عريتنا وحبستنا وجوعتنا، قال: فإن نحرت لكن ناقتي تأكلن منها؟ قلن: نعم، فأخذ سيفه فعرقبها ونحرها وكشطها وصاح بالخدم فجمعوا له حطباً فأجج ناراً عظيمة، وجعل يقطع لهن سنامها وأطايبها وكبدها، فيقلبها على الجمر فيأكل ويأكلن معه، ويشرب من ركوة كانت معه، ويغنيهن وينبذ إليهن وإلى العبيد والخدم من الكباب حتى شبعن وطربن. فلما أراد الرحيل قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته، وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله، وقالت الأخرى: علي حشيته وانساعه. فتقاسمن رحله، وبقيت عنيزة فلم يحملها شيئاً، فقال لها امرؤ القيس: يا ابنة الكرام لا بد أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي وليس من عادتي؛ فحملته على غارب بعيرها، وكان يدخل رأسه في خدرها فيقبلها فإذا امتنعت مال حدجها فتقول: يا امرأ القيس عقرت بعيري فانزل، فذلك قوله: من الطويل
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فلما فرغ الفرزدق من حديثه، قالت تلك الماجنة: قاتلك الله فما أحسن حديثك وأطرفك فمن أنت؟ قلت: من مضر، قالت: فمن أيها؟ قلت: من تميم، قالت: فمن أيها؟ قال: إلى هنا هنا انتهى جوابي، قالت: إخالك الفرزدق، قلت: الفرزدق شاعر وأنا راوية، قالت: دعنا من توريتك عن نفسك، أسألك بالله: أنت هو؟ قلت: أنا هو والله، قالت: فإن كنت أنت هو فلا أحسبك تفارق ثيابنا إلا عن رضى، قلت: أجل، قالت: فاصرف وجهك عن وجهنا ساعة، وهمست إلى صواحباتها بشيء لم أفهمه، فانعطفن من الماء فتوارين وأبدين رؤوسهن وخرجن ومع كل واحدة منهن ملء كفها طيناً، وجعلن يتعادين نحوي ويضربن بذلك الطين والحمأة وجهي وثيابي فأخذنها، وركبت تلك الماجنة بغلتي وتركتني متخبطاً بأسوأ حال وأخزاها، ويقلن: زعم الفتى أنه لا بد له أن ينيكنا. فما زلت في ذلك المكان حتى غسلت وجهي وثيابي وجففتها وانصرفت عند مجيء الظلام إلى منزلي على قدمي، وبغلتي قد وجهن بها إلى منزلي مع رسول وقلن له: قل له يقلن لك أخواتك: طلبت منا ما لا يمكننا، وقد وجهنا إليك بزوجتك فنكها سائر ليلتك، وهذا كسر درهم يكون لحمامك إذا أصبحت. وكان إذا حدث بهذا الحديث يقول: ما منيت بمثلهن.
حكى يونس عن أبي عمرو بن كعب بن أبي ربيعة: اشترى لأخيه كلاب بن ربيعة بقرة بأربعة أعنز، فركبها كلاب ثم أجراها فأعجبه عدوها، فجعل يقول:
فدىً لها أبو أبي بويب الغصن بي
ثم التفت إلى أخيه كعب فقال: زدهم عنزاً حين أعجبته، فذهبت مثلاً للأحمق إذ أمره بالزيادة بعد البيع. ويزعمون أنه ألجمها من قبل استها وحول وجهه إلى استها. قال: ولما ركب كلاب البقرة نظر إلى أرنب ففزع منها وركض البقرة وقال: من الرجز
الله نجاك وجري البقره ... من جاحظ العينين تحت الشجره
ويقولون: كان الأسد يهاب الحمار ويرى فيه القوة والمنعة، فاستجره ذات يوم ليبلوه، فقال: يا حمار ما أكبر أسنانك قال: للتمام، قال: ما أنكر حوافرك قال: للصم ذاك، قال: ما أتم أذنك قال: للذب ذاك، قال: ما أعظم بطنك قال: ضرط أكثر ذاك. فلما سمع مقالته اغتنم فيه فوثب عليه فافترسه. فكلهن يضربن مثلاً للمنظر الذي يخالف المخبر.
حدث الأصمعي عن يونس قال: صرت إلى حي بني يربوع فلم أجد إلا النساء فأضر بي الجوع، فصرت إليهن وقلت: هل لكن في الصلاة؟ قلن: أيم الله إن لنا فيها لأهلاً، فأذنت وأقمت وتقدمت وكبرت وقرأت الحمد لله رب العالمين، ثم قلت: يا أيها الذين آمنوا إذا نزل بكم الضيف فلتقم ربة البيت فتملأ قعباً زبداً وقعباً تمراً فإن ذلك خير وأعظم أجراً، قال: فوالله ما انقلبت من صلاتي إلا وصحاف القوم حولي، فأكلت حتى امتلأت. ثم جاء رجال الحي، فسمعت امرأة وهي تقول لزوجها: يا فلان ما سمعت قرآناً أحسن من فرآن قرأه اليوم ضيفنا، فقال لها زوجها: تبارك ربنا إنه ليأمرنا بمكارم الأخلاق.
قيل لأعرابي: ما أصبركم على البدو، قال: كيف لا يصبر من طعامه الشمس وشرابه الريح، ولقد خرجنا في إثر قوم تقدموا مراحل ونحن حفاة والشمس في قلة السماء حيث انتعل كل شيء ظله، وما زادنا إلا التوكل وما مطايانا إلا الأرجل حتى لحقناهم.
عبيد: من الطويل
لعمرك إني والظيلم بقفرةٍ ... لمشتبها الأهواء مختلفا النجر
خليلا صفاءٍ بعد طول عداوةٍ ... ألا يا لتقليب القلوب وللدهر
قال: اجتمع السرور والنوك والخصب والوباء والمال والسلطان والصحة والفاقة بالبادية، فقالوا: إن البادية لا تسعنا فتعالوا نتفرق في الآفاق، فقال السرور: أنا منطلق إلى اليمن، قال النوك: أنا معك، قال الخصب: أنا إلى الشام، قال الوباء: أنا معك، قال المال: أنا إلى العراق، قال السلطان: أنا معك، قال الفاقة: ما بي حراك، فقالت الصحة: أنا معك، فبقيت الفاقة والصحة بالبادية.
الحرقوص دويبة أكبر من البرغوث وعضها أشد. تزعم العرب أنها مولعة بفروج النساء، ويقال لها: النهيك، وقيل هو البرغوث بعينه، قال أعرابي وقد عض بهن امرأته: من الطويل
وإني من الحرقوص إن عض عضةً ... بما بين رجليها لجد غيور
تطيب نفسي عندما يستفزني ... مقالتها إن النهيك صغير
ويتلوه الباب السادس والثلاثون والحمد لله رب العالمين وصلواته على محمد نبيه وآله وصحبه وسلم
المجلد الثامن
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
الحمد لله الذي نفذ في خلقه أمره، ولا يرد حكمه بعيق الطير وزجره، ولا معقب لما حكم، ولا ماح لما أجرى به القلم، تفرد بالغيب فلم يظهر على غيبه من أحد، ولم يجعل السانح والبارح مخبراً بما يكون في غد. أحمده حمد راض بقضائه، عالم أن سر الغيب لا كاشف لغطائه، وتمامالصلاة على محمد رسوله، داحض البهتان ومشرد عبدة الأوثان، ومبطل دعوى الكهان، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بالإحسان.الباب السادس والثلاثون
في الكهانة والقيافة والزجر والعيافة
والفأل والطيرة والفراسة
قد نهى الله عز وجل عن الطيرة، ودل على ذلك قوله عز وجل حكاية عن الكافرين: " قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون " . وأمر بتركها في قوله تعالى: " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتى البيوت من أبوابها " . وهذا إخبار عن تطير كانت العرب تعتمده فنهاهم الله عز وجل عنه. قال أكثر أهل التفسير: كان الحمس، وهم قوم من قريش وبنو عامر بن صعصعة وثقيف وخزاعة، إذا حرموا لا يأقطون الأقط ولا ينتفون الوبر ولا يسلأون السمن، وإذا خرج أحدهم في الإحرام لم يدخل من باب بيته. وقيل: كان جماعة من العرب إذا خرج الرجل منهم في حاجة فلم يقضها ولم تيسر له رجع ولم يدخل من باب بيته سنة، يفعل ذلك طيرة. سموا الحمس لأنهم تحمسوا في دينهم، أي تشددوا، والحماسة الشدة في الغضب وفي القتال وفي كل شيء. قال العجاج: (من الرجز)
وكم قطعنا من قفار حمس
أي شداد.
وجاء في الحديث: " الطيرة والعيافة والطرق من الجبت " وجاء فيه أيضاً: " الطيرة شرك وما منا إلا ويجد ذلك في نفسه، ولكن الله تعالى يذهبه بالتوكل " ، وفيه أيضاً: " ثلاثة لا ينجو منهن أحد: الظن والطيرة والحسد " . فإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامض ولا تنثن.
والفأل جائز ومستحسن؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءل، ولما نزل المدينة على كلثوم دعا غلامين له: يا يسار يا سالم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رحمه الله: سلمت لنا الدار؛ وقال صلى الله عليه وآله: سموا أولادكم أسماء الأنبياء، فأحسن الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها الحارث وهمام وأقبحها حرب ومرة.
وكانت العرب شديدة العناية بالزجر والعيافة، ويرون ذلك حقاً وديناً، ولهم فيه مذهب وعادة وسير. وفي هذا الباب من أخبارهم ما يدل على وجه الزجر، وكانوا يتيمنون بالسانح من الطير وغيره وهو ما ولاك ميامنه، ويتشاءمون بالبارح وهو ما ولاك مياسره. ويكرهون الناطح وهو ما يلقاك بجبهته، والكادس ما يجيء من خلفك يقفوك. وكل ما تطير به يسمى طيرة العراقيب، وفيهم من ليس ذلك من رأيه، ولا يعتمد عليه في انحائه.
قال طرفة: (من الطويل)
إذا ما أردت الأمر فامض لوجهه ... وخل الهوينا جانباً متنائيا
ولا يمنعنك الطير مما أردته ... فقد خط في الألواح ما كان خافيا
وكانوا يستقسمون بالأزلام، واحدها زلم وزلم، وهي سهام مكتوب على بعضها " أمرني ربي " ، وعلى بعضها " نهاني ربي " . فإذا أراد الرجل سفراً وأمراً يهتم به ضرب بتلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه " أمرني ربي " مضى لحاجته، وإن خرج الذي عليه " نهاني ربي " لم يمض في أمره.
وكان لهم قدح آخر مكتوب عليه " متربص " . ولما أراد امرؤ القيس بن حجر غزو بني أسد ليطلب ثأر أبيه فيهم، نزل بتبالة وبها صنم يسمى ذا الخلصة تستقسم العرب عنده بالسهام. فاستقسم امرؤ القيس فخرج الناهي فرده، ثم عاد فاستقسم فخرج الناهي فأعاده، ثم استقسم فخرج الناهي، فضرب بالسهام وجه ذي الخلصة وقال: عضضت بأير أبيك! لو أبوك قتل ما نهيتني؛ ومضى لوجهه، فأوقع ببني أسد. فلم يستقسم بعد عند ذي الخلصة حتى جاء الإسلام. فهدمه جرير بن عبد الله البجلي.
وأما الكهانة فكانت فاشية في الجاهلية حتى جاء الإسلام، فلم يسمع فيه بكاهن، وكان ذلك من معجزات النبوة وآياتها. وأخبار كهنة العرب عجيبة إن كانت صحيحة. فمن ذلك خبر سطيح حين ورد عليه عبد المسيح وهو يعالج الموت، فأخبره - على ما يزعمون - ما جاء لأجله وبتأويله. والخبر: لما كانت ليلة ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرافة، وخمدت نار فارس، ولم تكن خمدت قبل ذلك ألف عام، وغيضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى تصبر تشجعاً، ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته. فلبس تاجه وقعد على سريره، وجمعهم فأخبرهم بالذي جمعهم له. فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النار، فازداد غماً إلى غمه، فسأل الموبذان، وكان أعلمهم في أنفسهم، فقال: حادث يكون من ناحية العرب. فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر. أما بعد فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه. فوجه إليه بعبد المسيح بن حيان بن بقيلة الغساني. فقال له كسرى: أعندك علم بما أريد أم أسألك عنه؟ قال: ليخبرني الملك، فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلمه، فأخبره بما رآه، فقال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح؛ قال: فأته فاسأله عما سألتك عنه وأتني بجوابه. وركب عبد المسيح حتى قدم على سطيح وقد أشرف على الموت، فسلم عليه وحياه فلم يحر عبد المسيح جواباً. وأنشده عبد المسيح شعراً قاله يذكر فيه أنه جاء برسالة من قبل العجم، ولم يذكر حاله، فرفع رأسه وقال: عبد المسيح على جمل مشيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عراباً، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها؛ يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وبعث صاحب الهراوة، وفاض وادي سماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاماً، يملك فيهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه. فسار عبد المسيح وهو يقول: (من البسيط)
شمر فإنك ماضي العزم شمير ... لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن كان ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطواراً دهارير
فربما ربما أضحوا بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور
والناس أولاد علاتفمن علموا ... أن قد أقل فمحقور ومهجور
وهم بنو الأم أما إن رأوا نسباً ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير متبع والشر محذور
فقال كسرى: إلى أن يملك ساسان أربعة عشر قد كانت أمور. فملك منهم عشرة أربع سنين، وملك باقون إلى زمن عثمان رحمه الله.
ويزعمون أن أمية بن أبي الصلت الثقفي، بينا هو يشرب مع إخوان له في قصر غيلان بالطائف، إذ سقط غراب على شرفة القصر، فنعب نعبة، فقال أمية: بفيك الكثكث - وهو التراب - فقال أصحابه: ما يقول؟ قال: يقول: إنك إذا شربت الكأس الذي بيدك مت. ثم نعب نعبة أخرى، فقال أمية: كذلك، فقال أصحابه: ما يقول؟ قال زعم أنه يقع على هذه المزبلة أسفل القصر فيستشير عظماً ويبتلعه فيشجى به ويموت، فقلت: نحو ذلك. فوقع الغراب على المزبلة فأثار العظم وابتلعه فشجي به فمات، فانكسر أمية، ووضع الكأس من يده، وتغير لونه. فقال له أصحابه: ما أكثر ما سمعنا مثل هذا وكان باطلاً، وألحوا عليه حتى شرب الكأس، فمال في شق أغمي عليه، ثم أفاق ثم قال: لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر، ثم خرجت نفسه.
وهذا وإن كان مخرجه مخرج الزجر فهو بالكهانة أليق، فإن الزجر الذي يستخرج باللفظ أو بالأمارات ولا ينتهي إلى هذا البيان على أن إدراك ذلك لبشر من غير وحي ولا إلهام إلهي غير مقبول. وقد كان أمية يتكهن ويطمع في النبوة، ويزعم أن له رئياً يأتيه من شقه الأيسر، ويحب أن يأتيه في ثياب سود، وذكر ذلك لراهبقال: كدت أن تكونه ولست هو، إن صاحب هذا الأمر يأتيه رئيه من شقه الأيمن، وأحب الثياب إليه أن يأتيه فيها البياض. وأدرك عدو الله نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فحسده ولم يؤمن به بعد أن كان يتوقع النبوة في رجل من العرب، ويتحقق أن ذلك كائن.
وجاء في تفسير قوله عز وجل: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " أراد به أمية، وقيل غيره والله أعلم.
وقد رووا أنه نزل بأسد بن خزيمة نفر من الجن، فأتاهم بقرى وتنحى عنهم، فسمع أحدهم يقول: إن بنيه هؤلاء ليس لصلبه منهم إلا واحد - وله يومئذ كاهل وعمرو ودودان - فلو خرج بهم إلى دوحة موضع كذا وكذا، فنزل تحتها لأخبره كل واحد منهم من أبوه. وقال أحدهم: إنه ليتناول الماء من مكان بعيد وأحد أطنابه على ماء عذب. وقال آخر: إن في إبله دويبة هي آفتها، فلو أنه حين تثور الإبل نظر في أعطانها فقتلها سلمت إبله. فحفظ مقالتهم، واحتفر في أصل طنب من أطنابه فإذا ماء كما ذكر. ونظر في عطن إبله فوجد الدابة فقتلها. ثم خرج ببنيه فتصيد ساعة ثم أتى الدوحة فقال تحتها، ثم تلفف بكسائه فنام؛ فقال كاهل ما صلحت هذه الدوحة إلا أن تجعل منها أصرة؛ قال: يقول أسد هذا والله ابن الراعي؛ قال عمرو: لا والله ما صلحت إلا أن تحرق فتجعل فحماً، قال أسد: هذا والله ابن القين، قال دودان: ما صلحت إلا لقوم كرام تصيدوا يومهم ثم نزلوا تحتها؛ فقال أسد: هذا والله ابني. فقيل لكاهل الأصرة ولعمرو القيون.
ومما يرونه في الكهانة، أن هند بنت عتبة بن ربيعة كانت عند الفاكه بن المغيرة، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة، خارجاً من البيوت يغشاه الناس عن غير إذن. فخلا البيت ذات يوم، واضطجع هو وهند فيه. ثم نهض لبعض حاجته، فأقبل رجل ممن كان يغشى البيت فولجه، فلما رآها رجع هارباً، وأبصره الفاكه، فأقبل إليها فضربها برجله، وقال لها: من هذا الذي خرج من عندك؟ قالت: ما رأيت أحداً ولا انتبهت حتى أنبهتني؛ قال لها: ارجعي إلى أبيك. وتكلم الناس فيها، فقال أبوها: يا بنية، إن الناس قد أكثروا فيك فأنبئيني نبأك؛ فإن كان الرجل عليك صادقاً دسست عليه من يقتله، فتنقطع عنك القالة، وإن يك كاذباً حاكمته إلى بعض كهان اليمن. فقالت: لا والله! ما هو علي بصادق: فقال له: يا فاكه! إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، فحاكمني إلى بعض كهان اليمن. فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من بني مناف، ومعهم هند ونسوة. فلما شارفوا البلاد قالوا: غداً نرد على الرجل، تغيرت حال هند، فقال لها عتبة: إني أراك وأرى ما بك من تنكر الحال، وما ذاك إلا لمكروه عندك؛ قالت: لا والله! ولكني أعرف أنكم تأتون بشراً يخطئ ويصيب، ولا آمنه أن يسمني ميسماً يكون علي فيه سبة؛ فقال: إني سوف أختبره لك. فصفر لفرسه حتى أدلى، ثم أدخل في إحليله حبة حنطة وأوكأ عليها بسير؛ فلما أصبحوا قدموا على الرجل فأكرمهم ونحر لهم؛ فلما تغدو قال له عتبة: قد جئناك في أمر وقد خبأنا لك خبئاً نختبرك به، فانظر ما هو؛ فقال: ثمرة في كمرة؛ قال: إني أريد أن أبين من هذا؛ قال: حبة بر في إحليل مهر. قال: انظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يدنو من إحداهن فيضرب بيده على كتفها، ويقول لها: انهضي! حتى دنا من هند، فقال: انهضي غير خساء ولا زانية، ولتلدن ملكاً اسمه معاوية، فنهض إليها الفاكه فأخذ بيدها، فجذبت يدها من يده وقالت: إليك عني! فوالله لأحرصن أن يكون ذلك الملك من غيرك، فتزوجها أبو سفيان.
ومن الزجر المستحسن ما روي أن كسرى أبرويزبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث زاجراً ومصوراً وقال للزاجر: انظر ما ترى في طريقك وعنده، وقال للمصور: إيتني بصورته. فلما عاد إليه أعطاه المصور صورته صلى الله عليه وسلم، فوضعها كسرى على وسادته. وقال للزاجر: ما رأيت؟ فقال: ما رأيت ما أزجر به حتى الآن، وأرى أمره يعلو عليك لأنك وضعت صورته على وسادتك.
وقال قائل: حضرت الموقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فصاح به صائح: يا خليفة رسول الله! ثم قال: يا أمير المؤمنين! فقال رجل من خلفي دعاه باسم ميت! مات والله أمير المؤمنين! فالتفت فإذا برجل من بني لهب، وهم من بني مضر من الأزد، وهم أزجر قوم. قال: فلما وقفنا لرمي الجمار إذا حصاة قد صكت صلعة عمر فأدمته، فقال قائل: أشعر والله أمير المؤمنين، والله لا يقف هذا الموقف أبداً، فالتفت فإذا ذلك اللهبي بعينه. فقتل عمر قبل الحول.
والزجر إنما يؤخذ من اللفظ، وكذلك الفأل. وقد بين ذلك ذو الرمة في قوله: (من الطويل)
رأيت غراباً ساقطاً فوق قضبة ... من القضب لم ينبت لها ورق خضر
فقلت غراب لاغتراب وقضبة ... لقضب النوى هذي العيافة والزجر
وفسره الآخر في قوله: (من الوافر)
وقدماً هاجني فازددت شوقاً ... بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجمي ... على عودين من غرب وبان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان
ومن غرائب الفأل والطيرة ما يروى عن المنذر بن ماء السماء في يومي نعيمه وبؤسه. وأصل ذلك فيما زعموا أن المنذر نادمه رجلان من بني أسد، أحدهما خالد بن المضلل والآخر عمرو بن مسعود بن كلدة، فأغضباه في بعض المنطق، فإمر بأن يحتفر لكل واحد منهما حفيرة في ظهر الحيرة، ثم يجعلا في تابوتين ويدفنا في الحفيرة، ففعل ذلك بهما حتى إذا أصبح سأل عنهما، فأخبر بمكانهما وهلاكهما. فندم على ذلك وغمه، ثم ركب حتى نظر إليهما فأمر ببناء الغريين عليهما، فبنيا. وجعل لنفسه يومين في السنة يجلس فيهما عند الغريين، سمى أحدهما يوم نعيم والآخر يوم بؤس؛ فأول من طلع عليه يوم نعيمه يعطيه مائة من الإبل سهماً أي سوداً، وأول من يطلع عليه يوم بؤسه يعطيه رأس ظربان اسود ثم يأمر به فيذبح ويغرى بدمه الغريان. فلبث بذلك برهة من دهره. ثم إن عبيد بن الأبرص كان أول من أشرف عليه في يوم بؤسه، فقال: هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد، فقال: أتتك بحائن رجلاه، فأرسلها مثلاً؛ فقال له المنذر: أو أجل بلغ مداه، وقال له المنذر: أنشدني فقد كان شعرك يعجبني، فقال عبيد: حال الجريض دون القريض وبلغ الحزام الطبيين، فأرسلها مثلاً؛ فقال له المنذر: اسمعني، فقال: المنايا على الحوايا، فأرسلها مثلاً؛ فقال المنذر: قد أمللتني فأرحني قبل أن آمر بك، فقال عبيد: من عز بز، فأرسلها مثلاً؛ فقال المنذر: أنشدني قولك: " أقفر من أهله ملحوب " فقال عبيد: (من الرجز)
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
غنت له خطة كؤود ... وحان منه فاعلمن ورود
فقال له المنذر: ويحك أنشدني قبل أن أذبحك، فقال عبيد: إن مت ما يضرني وإن عشت فواجده؛ فقال له المنذر: إنه لا بد من الموت، ولو أن النعمان عرض لي في يوم بؤسي لذبحته، فاختر إن شئت الأكحل، وإن شئت الأبجل، وإن شئت من الوريد. فقال عبيد: ثلاث خصال كسحابات واردها شر وارد، وحاديها شر حاد، ومعادها شر معاد، ولا خير فيها لمرتاد، وإن كنت لا محالة قاتلي فاسقني الخمر حتى إذا ماتت مفاصلي فشأنك وما تريد، فأمر له المنذر بحاجته من الخمر حتى إذا أخذت فيه وطابت نفسه، أمر به المنذر ففصد، فلما مات غري بدمه الغريان.
فلم يزل كذلك حتى مر به رجل من طيء يقال له حنظلة بن عفراء أو ابن أبي عفراء، فقال له: أبيت اللعن؛ إني والله أتيتك زائراً، ولأهلي من خيرك مائراً، فلا تكن ميرتهم قتلي؛ فقال: لا بد من ذلك، وسلني حاجة قبله أقضها لك؛ قال تؤجلني سنة أرجع فيها إلى أهلي وأحكم من أمرهم ما أريد، ثم أصير إليك في حكمك؛ قال: فمن يكفل لي بك؟ فنظر في وجوه جلسائه فعرف فيهم شريك بن عمرو أبا الحوفزان فأنشأ يقول: (مجزوء الرمل)
يا شريكاً يا بن عمرو ... ما من الموت محاله
يا شريكاً يا بن عمرو ... يا أخا من لا أخا له
يا أخا شيبان فك ال ... يوم رهناً قد أنى له
يا أخا كل مصاف ... وحيا من لا حيا له
إن شيبات قتيل ... أكرم الله رجاله
فوثب شريك وقال: أبيت اللعن! يدي يده ودمي دمه إن لم يعد إلى أجله، فأطلقه المنذر. فلما كان من القابل جلس في مجلسه، فنظر حنظلة ليقتله فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليهم، فتأملوه فإذا هو حنظلة قد أقبل متحنطاً متكفناً معه نادبته تندبه، وقد قامت نادبة شريك تندبه، فلما نظر المنذر عجب من وفائهما وكرمهما فأطلقهما، وأبطل تلك السنة.
قال هشام: خرج عمر رضي الله عنه إلى حرة واقم، فلقي رجلاً من جهينة، فقال له: ما اسمك؟ قال: شهاب، قال: ابن من؟ قال: ابن جمرة، قال: وممن أنت؟ قال: من الحرقة، قال: ثم ممن؟ قال: قال: من بني ضرام، قال: وأين منزلك؟ قال: بحرة ليلى، قال: فأين تريد؟ قال: لظى وهو موضع فقال عمر: أدرك أهلك فما أراك تدركهم إلا وقد احترقوا. قال: فأدركهم وقد أحاطت بهم النار.
وقال المدائني: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان حين أتاها، فخرج هارباً منه فنزل بقرية من الصعيد يقال لها سكر. فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك، فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ قال: طالب بن مدرك، فقال: أواه! ما أراني راجعاً إلى الفسطاط أبداً، ومات في تلك القرية.
كانت نائلة بنت عمار الكلبي تحت معاوية. فقال لفاختة بنت قرظة: اذهبي فانظري إليها. فذهبت ونظرت فقالت له: ما رأيت مثلها، ولكني رأيت تحت سرتها خالاً ليوضعن معه رأس زوجها في حجرها. وطلقها معاوية فتزوجها بعده رجلان: أحدهما حبيب بن مسلمة، والآخر النعمان بن بشير. فقتل أحدهما ووضع رأسه في حجرها.
قيل بينا مروان بن محمد جالساً في إيوان له ينفذ الأمور بجد وصرامة إذ تصدعت زجاجة من الإيوان فوقعت منها الشمس على منكب مروان. وكان هناك عياف يسمع منه مروان كثيراً، فقال: صدع الزجاج أمر منكر، على أمير المؤمنين يكبر. ثم قام فاتبعه ثوبان مولى مروان، فقال له: ويحك! ما قلت؟ قال: صدع الزجاج صدع السلطان، ستذهب الشمس بملك مروان، بقوم من الترك أو خراسان، ذلك عندي واضح البرهان. فوالله ما ورد لذلك شهران حتى ورد خبر أبي مسلم.
أنشد ذو الرمة شعراً له وصف فيه الفلاة وهو بالثعلبية. فقال له حليس الأسدي: إنك لتنعت الفلاة نعتاً لا تكون منيتك إلا بها. قال: وصدر ذو الرمة عن احد جفري بني تميم، وهما على طريق الحاج من البصرة، فلما أشرف على الفلاة قال: (من الطويل)
إني لعاليها وإني لخائف ... لما قال يوم الثعلبية حلبس
فقال: إن هذا آخر شعر قاله.
فلما توسط الفلاة نزل عن راحلته فنفرت منه، ولم تكن تنفر، وعليها طعامه وشرابه، فكلما دنا منها نفرت حتى مات. فيقال إنه قال عند ذلك: (من الطويل)
ألا أبلغ الركبان عني رسالة ... أهينوا المطايا هن أهل هوان
فقد تركتني صيدح بمضلة ... لساني ملتاث من الطلوان
وذكروا أن ناقته وردت على أهله، فركبها أخوه وقص أثره حتى وجده ميتاً، ووجد هذين البيتين مكتوبين على قوسه، وقد قيل في موته غير هذا، وليس هذا موضع ذكره.
وقيل إن كثيراً تعشق امرأة من خزاعة يقال لها أم الحويرث، فشبب بها. وكرهت ان يسمع بها فيفضحها كما فضح عزة. فقالت له: إنك رجل فقير لا مال لك، فابتغ مالاً يعفى عليك، ثم تعال فاخطبني كما يخطب الكرام، قال: فاحلفي لي ووثقي أنك لا تتزوجين حتى أقدم عليك، فحلفت ووثقت له. فمدح عبد الرحمن بن أريق الأزدي، وخرج إليه فلقيته ظباء سوانح، ولقي غراباً يفحص التراب بوجهه؛ فتطير بذلك حتى قدم على حي بن لهب، فقال: أيكم يزجر؟ قالوا: كلنا، فمن تريد؟ قال: أعلمكم بذلك، قالوا: ذلك الشيخ المنحني الصلب. فأتاه فقص عليه القصة، فكره ذلك له، وقال له: قد ماتت أو تزوجت رجلاً من بني عمها، فأنشأ كثير يقول: (من الطويل)
تيممت لهباً أبتغي العلم عندهم ... وقد رد علم العاشقين إلى لهب
تيممت شيخاً منهم ذا نجالة ... بصيراً بزجر الطير منحني الصلب
فقلت له ماذا ترى في سوانح ... وصوت غراب يفحص الوجه بالترب
فقال جرى الطير السنيح ببيننا ... وقال الغراب جد منهمر السكب
فإلا تكن ماتت فقد حل دونها ... سواك خليل ناطق من بني كعب
قال: فمدح الرجل الأزدي، فأصاب منه خيراً، ثم قدم عليها فوجدها قد تزوجت رجلاً من بني عمها، فأخذه الهلاس، فكشح جنباه بالنار. فلما اندمل من علته ووضع يده على ظهره إذا هو برقمتين. فقال: ما هذا؟ فقالوا: إنه أخذك الهلاس، وزعم الأطباء أن لا علاج لك إلا الكشح بالنار، فكشحت بالنار، فأنشأ يقول: (من الطويل)
عفا الله عن أم الحويرث ذنبها ... علام تعنيني وتعمي دوائيا
فلو يأذنوني قبل أن يرقموهما ... لقلت لهم أم الحويرث دائيا
ومن الفراسة قول عمرو بن مرة العبدي: (من الوافر)
إذا ما الظن أكذب في أناس ... رميت بصدقه ستر الغيوب
بعث صاحب الروم إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً وقال: انظر أين تراه جالساً، ومل إلى جانبه، وانظر ما بين كتفيه حتى الخاتم والشامة، فقدم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى نشز واضعاً قدميه في الماء، وعن يمينه علي عليه السلام. فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: تحول فانظر ما أمرت به. فنظر ثم رجع إلى صاحبه فأخبره الخبر، فقال: ليعلون أمره وليملكن ما تحت قدمي. تفاءل بالنشز العلو وبالماء الحياة.
ولما توارى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الهجرة، خرجت قريش بمعقل بن أبي كرز الخزاعي، فوجدوا أثره عليه السلام، فقال معقل: لم أر وجه محمد قط، ولكن إن شئتم ألحقت لكم هذا الأثر. قالوا: قل، قال: هو الذي في مقام إبراهيم. فبسط أبو سفيان بن حرب ثوبه عليه وقال: قد خرفت وذهب عقلك.
اختلف رجلان من القيافة يوم الصدر في أثر بعير فقال أحدهما: هو جمل، وقال الآخر: هي ناقة فإذا بعير واقف فاستدار به، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ فنظر فإذا هو خنثى، وقد أصابا جميعاً.
عجب بعض الكتاب من إلحاق القافة الولد بالشبه. فقال له قائف: أعجب من هذا ما يبلغنا من تمييزكم الخطوط.
وروى المدائني أن علياً عليه السلام بعث معقل بن قيس الرياحي من المدائن في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل ويأتي نصيبين ورأس العين حتى يأتي الرقة فيقيم بها. فسار معقل فنزل الحديثة، فبينا هو ذات يوم جالس إذ نظر إلى كبشين ينتطحان حتى جاء رجلان وأخذ كل واحد منهما كبشاً فذهب به. فقال شداد بن أبي ربيعة الخثعمي وكان زاجراً: تنصرفون في وجهكم هذا فلا تغلبون ولا تغلبون، قالوا: وما علمك؟ قال: أو ما رأيتم الكبشين انتطحا حتى حجز بينهما اثنان ليس لواحد على صاحبه فضل؟ وزعموا أن رجلاً من لهب خرج في حاجة ومعه سقاء من لبن. فسار صدر يومه ثم عطش فأناخ يشرب، فإذا غراب ينعب فأثار راحلته ثم سار، فلما أظهر أناخ يشرب، فنعب الغراب وتمرغ في التراب. فضرب الرجل السقاء بسيفه، فإذا فيه اسود ضخم فقتله. ثم سار، فإذا غراب واقع على سدرة فصاح به فوقع على سلمة، فصاح به فوقع على صخرة، فانتهى إليها فأثار كنزاً. فلما رجع إلى أبيه قال له: إيه! ما صنعت في طريقك؟ قال: سرت صدر يومي ثم انخت لأشرب، فنعب الغراب وتمرغ في التراب، قال: اضرب السقاء وإلا لست بابني! قال فعلت، وإذا أسود ضخم؛ قال: ثم مه؟ قال: ثم رأيت غراباً واقعاً على سدرة، قال: أطره إلا لست بابني! قال: أطرته فوقع على سلمة،قال: أطره وإلا لست بابني! قال: فعلت فوقع على صخرة، فقال: أحذني يا بني فأحذاه.
ومن كلام علي عليه السلام في التفاؤل: الحوض مقدمة الكون.
ومن التطير: قال علويه المغني: كنت مع المأمون لما خرج إلى الشام، فدخلنا دمشق فطفنا فيها، وجعل يطوف على قصور بني أمية ويتتبع آثارهم، فدخلنا صحناً من صحونهم، فإذا هو مفروش بالرخام الأخضر كله، وفيه بركة ماء يدخلها ويخرج منها من عين تصب إليها، وفي البركة سمك، وبين يديها بستان على اربع زواياه أربع سروات كأنها قصت بمقراض من التفافها، أحسن ما رأيت من السرو قداً وقدراً. فاستحسن ذلك وعزم على الصبوح وقال: هاتوا لي الساعة طعاماً، فأتي ببزماورد فأكله ودعا بالشراب، وأقبل علي فقال: غنني ونشطني. وكأن الله تعالى أنساني الغناء إلا هذا الصوت من شعر عبد الله بن قيس الرقيات: (من المنسرح)
لو كان حولي بنو أمية لم ... ينطق رجال أراهم نطقوا
من كل قرم محض ضرائبه ... عن منكبيه القميص ينخرق
فنظر إلي مغضباً وقال: عليك وعلى بني أمية لعنة الله! ويلك! أقلت لك سرني أو سؤني؟ ألم يكن لك تذكر فيه بني أمية إلا هذا الوقت تعرض بي؟ فتجلدت عليه وعلمت أني قد أخطأت، فقلت: أتلومني على أن أذكر بني أمية؟ هذا مولاكم زرياب عندهم يركب في مائتي غلام مملوك لهم، ويملك ثلاثمائة ألف دينار، وأنا أموت عندكم جوعاً. فقال: أولم يكن لك شيء تذكرني به نفسك غير هذا؟ فقلت: هكذا حضرني حين ذكرتهم. فقال: اعدل عن هذا وتنبه إلى إرادتي وغن، فأنساني الله كل شيء أحسنه إلا هذا الصوت: (من الكامل المرفل)
الحين ساق إلى دمشق وما ... كانت دمشق لأهلنا بلدا
قادتك نفسك فاستقدت لها ... وأرتك أمر غواية رشدا
فرماني بالقدح فأخطأني وانكسر القدح، وقال: قم عني إلى لعنة الله وحر سقره! وقام فركب، فكانت تلك الحال آخر عهدي به، ومرض فمات بعد قليل.
وشبيه بذلك ما روي عن إبراهيم بن المهدي قال: أرسل إلي محمد بن زبيدة في ليلة من ليالي الصيف مقمرة: يا عمي! إن الحرب بيني وبين طاهر قد سكنت، فصر إلي فإني إليك مشتاق. فجئته وقد بسط له على سطح زبيدة وعنده سليمان بن ابي جعفر وعليه كساء روذباري وقلنسوة طويلة وجواريه بين يديه، وضعف جاريته عنده. فقال لها: غنيني فقد سررت بعمومتي. فاندفعت فغنته: (من الطويل)
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما فعلت بكسرى يوماً مرازبه
بني هاشم كيف التواصل بيننا ... وعند أخيه سيفه ونجائبه
هكذا غنت وإنما هو: وعند علي سيفه ونجائبه.
فغضب وتطير وقال لها: ما قصتك ويحك! انتهي وغنيني ما يسرني فغنت: (من الكامل المجزوء)
هذا مقام مطرد ... هدمت منازله ودوره
فازداد تطيراً ثم قال: انتهي وغني غير هذا! فغنت: (من الطويل)
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم
فقال: قومي إلى لعنة الله! فوثبت. وكان بين يديه قدح بلور، وكان لحبه إياه يسميه محمداً باسمه، فأصابه طرف ردائها فسقط على بعض الصواني فانكسر وتفتت. فأقبل علي فقال: أرى والله يا عم أن هذا آخر أمرنا. فقلت: كلا، بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويسرك. قال: ودجلة يا بني هادئة، والله ما فيها صوت مجداف ولا أحد يتحرك ولا شيء؛ فسمعت هاتفاً يهتف: قضي الأمر الذي فيه تستفتيان. قال، فقال لي: أسمعت ما سمعت يا عم؟ فقلت: وما هو؟ وقد والله سمعت الصوت الذي جاء الساعة من دجلة. فقلت: ما سمعت شيئاً ولا هذا إلا توهم؛ فإذا الصوت قد عاد، فقال: انصرف يا عم، بيتك الله بخير، فمحال ألا تكون الآن سمعت ما سمعت. فانصرفت وكان آخر عهدي به.
وحدث بعض أشياخ البرامكة قال: كنت عند إبراهيم بن المهدي قد اصطحبنا، وعنده عمرو بن بانة وجماعة من إخوانه وعمرو الغزال، ونحن في أطيب ما كنا إذ غنى عمرو الغزال، وكان إبراهيم بن المهدي يستثقله. قال: فاندفع عمرو الغزال يغني في شعر محمد بن أمية: (من السريع)
ما تم لي يوم سرور بمن ... أهواه مذ كنت إلى الليل
أغبط ما كنا بما نلته ... منه أتتني الرسل بالويل
قال: فتطير إبراهيم ووضع القدح من يده وقال: أعوذ بالله من شر ما قلت! فوالله ما سكنت وأخذنا نتلافى إبراهيم حتى دخل علينا حاجبه يعدو، فقال له: ما الخبر؟ قال: خرج الساعة مسرور من دار أمير المؤمنين حتى دخل على جعفر بن يحيى، فلم يلبث أن خرج ورأسه بين يديه، وقبض على أبيه وإخوته أهله. فقال إبراهيم: إنا لله وإنا إليه راجعون، ارفع يا غلام. فرفع ما كان بين أيدينا وتفرقنا، ثم ما رأيت عمراً بعدها في داره.
كان عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس ثقيل الرجل لا يقدم على أحد من أهل بيته إلا مات. فقدم على أخيه سليمان بن علي بالبصرة فمات فصلى عليه. ثم رحل فقدم البصرة بعد مدة محمد بن سليمان صحيح فاضطرب فقال: لأمر ما قدم عمي؛ فاعتل واشتد جزعه ثم عوفي، فتصدق بمائة ألف دينار. لما مات عبد الصمد قال الرشيد: الحمد لله الذي مات عنوان الموت! لا يحمل عمي غيري. فكان أحد حملته إلى حفرته.
وروي أن جعفر بن سليمان مات حين قدم عليه عبد الصمد، وأن عبد الصمد عمي في ذلك الوقت، فقال إسماعيل بن جعفر: أخذنا بعض ثأرنا.
قال البحتري: أنشدت شيئاً من شعري أبا تمام فتمثل ببيت أوس بن حجر: (من الطويل)
إذا مقوم منا ذرا حد نابه ... تبين منا حد آخر مقوم
ثم قال: نعيت إلي نفسي فقلت: أعيذك بالله من هذا القول. فقال: إن عمري لن يطول وقد نشأ في طيء مثلك؛ أما علمت أن خالد بن صفوان رأى شبيب بن شبة وهو من رهطه يتكلم، فقال: يا بني لقد نعى إلي نفسي إحسانك في كلامك لأنا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب إلا مات من قبله، فقلت: بل يبقيك الله ويجعلني فداك. قال: فمات بعد سنة.
قال القاضي أبو علي الجويني: حضرت بين يدي سيف الدولة أبي الحسن صدقة بن منصور بن دبيس، وابنه أبو المكارم محمد إذ ذاك مريض مرضه الذي مات فيه، وقد أتى بديوان أبي نصر ابن نباتة، فتصفحه فوقع في يده وقال يعزي سيف الدولة أبا الحسن ويرثي ابنه أبا المكارم محمداً، فأخذت المجلد وأطبقته؛ فعاد سيف الدولة فتصفحه ثانياً فخرج ذلك من القصيدة التي غناها قوله: (من الطويل)
فإن بميافارقين حفيرة ... تركنا عليها ناظر الجود داميا
نضمنها الأيدي فتى ثكلت به ... غداة ثوى آمالها والأمانيا
ولما عدمنا الصبر بعد محمد ... أتينا أباه نستفيد التعازيا
شخص أبو الشمقمق مع خالد بن يزيد بن مزيد وقد تقلد الموصل، فلما أراد الدخول إليها اندق لواؤه في أول درب منها، فتطير من ذلك وعظم عليه. فقال أبو الشمقمق: (من الكامل)
ما كان مندق اللواء لريبة ... تخشى ولا أمر يكون مبذلا
لكن هذا الرمح ضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا
فسري عن خالد. وكتب صاحب البريد بذلك إلى المأمون فزاده ديار ربيعة، وكتب إليه هذا لتضعيف الموصل متن رمحك. فأعطى خالد أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم.
كان أبو الحسن ابن الفرات في وزارته الأولى يشرب كل يوم ثلاثاء وهو اليوم الذي قبض عليه في غده ويعمل في خلال شربه، إذ مرت به رقعة فيها: (من البسيط)
إن كان ما أنتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائماً أبدا
لكن سكنت إلى أني وأنكم ... سنستجد خلاف الحالتين غدا
فكأنه اغتم لذلك، ثم أخذ في شأنه، وقال لجارية في المجلس كان يألف غناءها ويتفاءل بما لا تزال تغنيه: غني. فابتدأت وغنت: (من الطويل)
أمغيبة بالبين ليلى ولم تمت ... كأنك عما قد أظلك غافل
ستعلم إن جدت لكم غربة النوى ... ونادوا بليلى أن صبرك زائل
فتنغص ووافته بدعة الصغيرة في ذلك اليوم، فقام إلى دار له جديدة، ودعا بالشراب، وتناول قدحاً والتمس من بدعة صوتاً، فتطلبت له صوتاً يتفاءل به بسبب الدار الجديدة، فغنت: (من المنسرح)
أمرت لي منزلاً فأسكنه ... فصرت عنه المبعد القاصي
ولم تحفظ البيت الثاني. فلما كان الغد حدثت عليه الحادثة.
ولما توجه المسترشد للقاء السلطان مسعود بن محمد ونزل بذات مرج وقع على الشمسية التي ترفع على رأسه طائر من الجوارح وألح، كلما نفر عاد؛ فتفاءل الناس له بذلك وسر هو به. فقال له إنسان يعرف بملك الدار: هذا جارح ومنقبض الكف ليس فيه بشرى بل ضدها. وأقبل السلطان في جيشه وكانت الكسرة وقبض على المسترشد، وقتل من بعد.
دخل الحجاج الكوفة متوجهاً إلى عبد الملك. فصعد المنبر، فانكسر تحت قدمه لوح، فعلم أنهم قد تفاءلوا عليه بذلك. فالتفت إلى الناس قبل أن يحمد الله تعالى وقال: شاهت الوجوه، وتبت الأيدي، وبؤتم بغضب من الله! أإن انكسر عود خروع ضعيف تحت قدم أيد شديد تفاءلتم بالشؤم؟ وإني على أعداء الله لأنكد من الغراب الأبقع، وأشأم من يوم نحس مستمر. وإني لأعجب من لوط وقوله: " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " . وأي ركن أشد من الله تعالى؟ أو ما علمتم ما أنا عليه من الشخوص إلى أمير المؤمنين؟ فقد قلدت عليكم أخي محمد بن يوسف، وقد أمرته بخلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً في أهل اليمن، فإنه أمره أن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وقد أمرته أن يسيء إلى محسنكم وألا يتجاوز عن مسيئكم. وأنا أعلم أنكم تقولون بعدي: لا أحسن الله له الصحابة، وأنا معجل لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة. أقول قولي هذا واستغفر الله لي دونكم.
قال أبو ذؤيب الهذلي: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل، فأوجس أهل الحي خيفة عليه، فبت بليلة ثابتة النجوم طويلة الأناة، لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، حتى إذا قرب السحر خفقت فهتف بي هاتف يقول: (من الكامل)
خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومقعد الآطام
قيض النبي محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالتسجام
قال أبو ذؤيب: فوثبت فزعاً، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح، فتفاءلت به ذبحاً يقع في العرب، وعلمت أن النبي عليه السلام قد مات أو هو ميت من علته. فركبت ناقتي وسرت حتى إذا أصبحت طلبت شيئاً أزجره. فعن لي شيهم قد أرم على صل وهو يتلوى عليه، والشيهم يقصمه حتى أكله، فزجرت ذلك شيئاً مهماً، وقلت: تلوي الصل انفتال الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أولت أكل الشيهم إياه علية القائم على الأمر. فحثثت ناقتي حتى إذا كنت بالعلية زجرت الطير فأخبرني بوفاته، ونعب غراب سانحاً بمثل ذلك، فتعوذت من شر ما عن لي في طريقي. ثم قدمت المدينة ولأهلها ضجيج كضجيج الحجيج أهلوا جميعاً بالإحرام، فقلت: مه؟ قالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت المسجد فأصبته خالياً، فأتيت بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبت بابه مرتجاً وقد خلا به أهله. فقلت: أين الناس؟ فقيل في سقيفة بني ساعدة، صاروا إلى الأنصار. فجئت السقيفة فوجدت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة وسالماً وجماعة من قريش؛ ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة ومعهم شعراؤهم وأمامهم حسان بن ثابت وكعب في ملأ منهم، فأويت إلى الأنصار. وتكلم الأنصار وأكثروا الصواب. وتكلم أبو بكر، فلله دره لا يطيل الكلام ويعلم مواضع الفصل، والله لتكلم بكلام لا يسمعه سامع إلا انقاد له ومال إليه، وتكلم بعده عمر بكلام دون كلامه، ومد يده فبايعه، ورجع أبو بكر ورجعت معه، وشهدت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدت دفنه. ولقد بايع الناس من أبي بكر رجلاً حل قداماها ولم يركب ذناباها، وانصرف أبو ذؤيب إلى باديته وثبت على إسلامه.
وجه أبو موسى الأشعري في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه السائب بن الأقرع إلى مهرجا نقذق، ففتحها وجمع السبي والغنائم، ودخل دار الهرمزان فرأى في بعض مجالسها تصاوير فيها تمثال ظبي وهو مشير بإحدى يديه إلى الأرض. فقال السائب: لأمر ما صور هذا الظبي هكذا، إن له لشأناً. فأمر بحفر الموضع الذي الإشارة إليه، فأفضى إلى حوض من الرخام فيه سفط جوهر. فأخذه السائب وخرج به إلى عمر رضي الله عنه.
لما أراد ابن الزبير المبايعة قال: بايعوني، فقام إليه عبد الله بن مطيع فقال: ابدأ فادع أبناء المهاجرين والأنصار قبل. فقال ابن الزبير: ادع عبيد الله بن علي بن أبي طالب. فقال أعرابي كان في ناحية المسجد: والله لا تتم له بيعة أبداً، أليس قد دعا عبد الله بن مطيع فأبى.
حدث مصعب بن عبد الله الزبيري عن رجل قال: شردت لنا إبل فأتيت حليساً الأسدي فسألته عنها، فقال لبنت له: خطي، فخطت ونظرت ثم تقبضت وقامت منصرفة. فنظر حليس في خطها فضحك وقال: أتدري لم قامت؟ قلت: لا: قال: رأت أنك تجد إبلك وأنك تتزوجها، فاستحيت فقامت. فخرجت فأصبت إبلي ثم تزوجتها بعد.
قال شريح بن الأقعس العنبري: عزبت لي إبل فأتيت رجلاً من بني أسد فقلت: انظر لي، فخطط خطوطاً ثم نظر فقال: تصيب إبلك وتذهب إحدى عينيك وتتزوج امرأة أشرف منك. قال: قال: فخرجت وما شيء أبغض إلي من أن أصيب إبلي ليكذب فيما قال؛ فأتيت الكناسة فأصبت إبلي، وخرجت مع الأشعث فأصيبت عيني، وحججت مع ابنة قيس بن الحسحاس العنبري، فقالت لي مولاة لها: هل لك أن تتزوج مولاتي؟ قلت: وددت، قالت: فاخطبها إذاً قدمت، ففعلت فأبوا فلم أزل حتى زوجونيها.
ولى يزيد بن معاوية عمرو بن سعيد بن العاص مكة والمدينة والطائف. فقدم المدينة في شهر رمضان من سنة ستين قبيل العتمة، فصلى العتمة بالناس فقرأ: لم يكن وإذا زلزلت الأرض. فلما أصبح إلى الناس وعليه قميص أحمر ورداء أحمر وعمامة حمراء، فرماه الناس بأبصارهم، فقال: يا أهل المدينة مالكم ترمونا بأبصاركم كأنكم تريدون أن تغزوا بنا سيوفكم، أنسيتم ما فعلتم؟ أما لو أنا ننقم منكم في الأولى ما عدتم في الثانية. أغركم أن قتلتم عثمان فوجدتم بعده ثائراًحليماً ومسناً مأموناً قد فني غضبه وذهبت أذاته. فاغنموا أنفسكم فقد وليناكم بالشاب المقتبل البعيد الأمل، قد اعتدل جسمه، واشتد عظمه، ورمى الدهر ببصره، واستقبله ببأسه، فهو إن عض نهش وإن وطئ فرس، لا يقلقل له الحصى، ولا تقرع له العصا. فرعف وهو يتكلم، فألقى إليه رجل عمامة فمسح بها فقال رجل من خثعم: دم على منبر في عمامة وقال: فتنة عمت وعلا ذكرها ورب الكعبة، فكانت الفتنة المشهورة.
لما بنى عبيد الله بن زياد داره البيضاء بالبصرة، بعد قتله الحسين بن علي عليهما السلام، صور على بابها رؤوساً مقطعة، وصور في دهليزها أسداً وكبشاً وكلباً، وقال: أسد كالح، وكبش ناطح، وكلب نابح. فمر بالباب أعرابي فرأى ذلك فقال: أما إن صاحبها لا يسكنها إلا ليلة لا تتم. فرفع الخبر إلى ابن زياد فأمر بضرب الأعرابي وحبسه. فما أمسى حتى قدم رسول ابن الزبير إلى وجوه أهل البصرة في أخذ البيعة، ودعا الناس إلى طاعته فأجابوه، ووثبوا بابن زياد من ليلتهم، ونذر بهم فهرب من داره في ليلته تلك، واستجار بالأزد فأجاروه، ووقعت الحرب المشهورة بينهم وبين تميم بسببه، وألحقوه بالشام. وكسر الحبس وأخرج الأعرابي، وكان من قتل ابن زياد بالخازر ما كان.
من الفراسة: يقولون: عظم الجبين يدل على البله، وعرضه على قلة العقل، وصغره على لطف الحركة، واستدارته على الغضب؛ والحاجبان إذا اتصلا على استقامة دلا على تخنيث واسترخاء، وإذا تزججا منحدرين إلى طرف الأنف دلا على لطف وذكاء، وإذا تزججا نحو الصدغين دلا على طنز واستهزاء؛ والعين إذا كانت صغيرة الموق دلت على سوء خلة وخبث شمائل، وإذا وقع الحاجب على العين دل على الحسد، والعين المتوسطة في حجمها دليل فطنة وحسن خلق ومروءة، والناتئة على اختلاط عقل، والغائرة على حدة، والتي يطول تحديقها على قحة وحمق، والتي يكثر طرفها على خفة وطيش؛ والشعر على الأذن يدل على جودة السمع؛ والأذن الكبيرة المنتصبة تدل على حمق وهذيان.
كانت الفرس تقول: إذا فشا الموت في الخنازير دل على عموم العافية في الناس. وإذا فشا في الوحش أصابهم ضيقة، وإذا فشا في الفأر دل على الخصب؛ وإذا كثر نقيق الضفادع وقع موتان؛ وإذا نعب غراب فجاوبته دجاجة عم الخراب، وإذا قوقت دجاجة فجاوبها غراب خرب العمران، وإذا نزا ديك على تكأة رجل نال شرفاً ونباهة، وإذا نزت عليها دجاجة فبالعكس، والدجاجة يتفاءل بذكرها.
حكي أنه لما ولد لسعيد بن العاص عنبسة، قال سعيد لابنه يحيى: أي شيء تنحله؟ قال: دجاجة بفراريجها، وإنما أراد احتقاره بذلك لأن أمه كانت أمة. فتفاءل سعيد وقال: إن صدق الطير ليكونن أكثركم ولداً. وكان كما تفاءل، وولده كثير بالمدينة والكوفة.
والعرب تتطير بالعطاس. قال الشاعر: (من الكامل)
أرحلت من سلمى بغير متاع ... قبل العطاس ورعتها بوداع
كان ببغداد كاتب أديب ظريف، إلا أنه لم يستكتبه أحد إلا سلط عليه الدمار، فتحاموه تطيراً منه. فطلب نصر بن منصور بن بسام كاتباً فاضلاً فقيل: أصبناه لك لولا، قال: وما لولا؟ قيل: هو مشؤوم، قال: لا عدوى ولا طيرة، ائتوني به. فبره واستكتبه، فما مضت أيام إلى أن برسم نصر ومات. فقال ابن عائشة فيه: (من السريع)
آخر قتلاه إذا حصلوا ... نصر بن منصور بن بسام
وكان بالسيف يلاقيهم ... فصار يلقاهم ببرسام
ونظيره سعد حاجب عبيد الله، قال فيه البحتري: (من الكامل)
يا سعد إنك قد خدمت ثلاثة ... كل عليه منك وسم لائح
وبدأت تخدم رابعاً لتبيره ... ارفق به فالشيخ شيخ صالح
يا حاجب الوزراء إنك عندهم ... سعد ولكن أنت سعد الذابح
تفاءل هشام بن عباس باسم نصر بن سيار فولاه خراسان، فزال أمر بني أمية في ولايته.
ولما طلب عامر بن إسماعيل مروان بن محمد اعترضه بالفيوم قوم من العرب، فسأل رجلاً: ما اسمك؟ قال: منصور بن سعد وأنا من سعد العشيرة، فتبسم تفاؤلاً واستصحبه، فظفر بمروان تلك الليلة.
قال بشير غلام حرب الراوندي للمنصور يوم قتل أبي مسلم: يا أمير المؤمنين، رأيت اليوم ثلاثة أشياء تطيرت لأبي مسلم منها، قال: وما ذاك؟ قال: ركب فوقعت قلنسوته عن رأسه، قال: الله أكبر، تبعها والله رأسه يا بشير؛ قال: وكبا به فرسه، قال: الله أكبر، كبا به والله جده وأصلد زنده؛ قال: وقال إني مقتول وإنما أخادع نفسي. فإذا رجل ينادي في الصحراء يقول لآخر: اليوم آخر الأجل بينيى وبينك، قال: الله أكبر، ذهب أجله وانقطع من الدنيا أثره.
شاعر: (من الطويل)
وسميته يحيى ليحيا فلم يكن ... إلى رد أمر الله فيه سبيل
تيممت فيه الفأل حين رزقته ... ولم أدر أن الفأل فيه يفيل
نوادر من هذا الكتاب
كان حارثة الضمري صديقاً لعبد الملك بن مروان، وخرج مع ابن الزبير، فلما قتل ابن الزبير استأمن الناس وأحضر حارثة، فقال له عبد الملك: كنت مني بحيث علمت، فأعنت ابن الزبير. قال: يا أمير المؤمنين، هل رأيتني في حرب أو سباق أو اتصال إلا والفئة التي أنا فيها مغلوبة، وإنما خرجت مع ابن الزبير لتغلبه بي على رسمي. فضحك عبد الملك وقال: والله كذبت! ولكن عفوت عنك.كان عمير الكاتب قبيح الوجه جداً، فلقي دعبلاً يوماً بكرة وقد خرج لحاجة. فلما رآه دعبل تطير من لقائه فقال فيه: (من الوافر)
خرجت مبكراً من سر من را ... أبادر حاجة فإذا عمير
فلم أثن العنان وقلت أمضي ... لأنك يا عمير خراً وخير
كرهت أم جعفر أصواتاً من الغناء القديم فأرسلت رسولاً لها يلقيها في البحر، ثم غنتها بعد ذلك جارية لها: (من الوافر)
سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام
فقالت: هذا أرسلوا به رسولاً واحداً إلى دهلك ليلقيه في البحر خاصة.
وإنما فعلت أم جعفر هذا تطيراً على ابنها أيام محاربته المأمون. والأصوات: (من الطويل)
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما فعلت يوماً بكسرى مرازبه
(من الطويل):
كليب العمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم
(من الطويل):
رأيت زهيراً تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادره
(من الطويل):
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
(من الخفيف):
أزجر العين كي تبكي الطلولا ... إن في القلب من كليب غليلا
خلع المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات في أول خلافته فاجتاز في الخلع بيزدن الكاتب، فقال يزدن: (من الكامل المرفل)
جاء الشقي بخلعة البكر ... كالهدي جلل ليلة النحر
لا تم شهر خلعته ... حتى تراه طافي الجمر
ذكر أن عبد الرحمن بن عنبسة مر يوماً فإذا هو بغلام أصح الغلمان وأحسنهم، ولم يكن لعبد الرحمن ولد. فسأل عنه فقيل له: يتيم من أهل الشام، قدم أبوه العراق في بعث فقتل، وبقي الغلام ها هنا. فضمه ابن عنبسة إليه وتبناه فوقع الغلام في ما شاء من الدنيا. ومر يوماً على برذون ومعه خدم على حمزة بن بيض، وحول ابن بيض عياله في يوم شات، وهم شعث غبر عراة، فقال ابن بيض: من هذا؟ فقيل يتيم ابن عنبسة، وكان اسمه صدقة، فقال: (من المنسرح)
تشعث صبياننا وما يتموا ... وأنت صافي الأديم والحدقه
فليت صبياننا لإذا يتموا ... يلقون ما قد لقيت يا صدقه
عوضك الله من أبيك ومن ... أمك في الشام بالعراق مقه
كفاك عبد الرحمن فقدهما ... فأنت في كسوة وفي نفقه
تظل في درمك وفاكهة ... ولحم طير ما شئت أو مرقه
تأوي إلى حاضن وحاضنة ... زادا على والديك في الشفقه
فكل هنيئاً ما عاش ثم إذا ... مات فلغ في الدماء والسرقه
وخالف المسلمين قبلتهم ... وضل عنهم وخادن الفسقه
واستر بهذا التليل ذا خصل ... لصوته في الصهيل صهصلقه
واقطع عليه الطريق تلق غداً ... رب دنانير جمة ورقه
فلما مات عبد الرحمن أصابه ما قال ابن بيض أجمع من الفساد والسرقة وصحبة اللصوص، ثم كان آخر ذلك أنه قطع الطريق وصلب.
وخرج حمزة بن بيض يريد سفراً فاضطره الليل إلى قرية عامرة كثيرة الأهل والمواشي من الشاء والبقر، كثيرة الزرع، فلم بصنعوا به خيراً، فغدا عليهم وقال: (من الكامل)
لعن الإله قرية يممتها ... فأضافني ليلاً إليها المغرب
الزارعين وليس لي زرع بها ... والحالبين وليس لي ما أحلب
فلعل ذاك الزرع يردي أهله ... ولعل ذاك الشاء يوماً يجرب
ولعل طاعوناً يصيب علوجها ... ويصيب ساكنها الزمان فتخرب
فلم يمر بتلك القرية سنة حتى أصابهم الطاعون فباد أهلها وخربت. فمر بها ابن بيض فقال: زعمتم أني لا أعطى أمنيتي؟ قالوا: وأبيك لقد أعطيتها، فلو كنت تمنيت الجنة لكان خيراً لك. قال: أنا أعلم بنفسي، لا أتمنى ما لست له بأهل، ولكني أرجو رحمة ربي.
تراءى المأمون بهلال شهر رمضان وأخوه أبو عيسى معه، فقال أبو عيسى: (من الطويل)
دهاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر
فلو كان يعديني الإمام بقدرة ... لاستعديت جهدي على الشهر
فناله بعقب هذا القول صرع، فكان يصرع في اليوم مرات، إلى أن مات ولم يبلغ شهراً مثله.
خرج بعض ملوك الفرس إلى الصيد، فأول من استقبله أعور فأمر بحبسه وضربه، ثم خرج وتصيد صيداً كثيراً. فلما عاد استدعى الأعور وأمر له بصلة؛ فقال الأعور: لا حاجة لي في صلتك، ولكن إيذن لي في الكلام، فقال: تكلم، فقال: تلقيتني فضربتني وحبستني، وتلقيتك فصدت وسلمت فأينا أشأم؟ فضحك وخلاه.
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
الحمد لله مرسل الرياح ومنشئها، ومحيي العظام الرميم ومنشرها، ومسهل الأمور بعد العسر وميسرها، ومصرف الأقدار على من يشاء ومدبرها؛ جعل من كل ضيق وحرج مخرجاً، ولكل كرب وهم فرجاً، عقب من الكره خيراً كثيراً، وكان أكرم عاقب، ولم يجعل البلاء علينا ضربة لازب. أحمده على تصرف بلواه، وأشهد أن لا إله سواه، وأن محمداً رسوله الأمين، أيده بالكتاب المبين، وأمده بالأنصار والمهاجرين، فآمنوا به ونصروه، وجاهدوا معه وعزروه، وكانوا مفاتيح الإيمان والتصديق، وفي كل ملحمة فكاكاً لحلق المضيق، صلى الله عليه وعليهم ما طرد عسراً يسر ونفى، قبل كريم صفوح عذراً وعفا.الباب السابع والثلاثون
ما جاء في اليسر بعد العسر
والرخاء بعد الضر
مما يليق بهذا الباب من كتاب الله عز وجل: " سيجعل الله بعد عسر يسرا " وقوله تعالى: " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته " وقوله تعالى: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء " وقوله سبحانه: " وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأخرجنا به من كل الثمرات " .
ومن أخبار الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " اشتدي أزمة تنفرجي " .
ومما ينسب إلى كلامه صلى الله عليه وسلم قوله لعلي عليه السلام: " إن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا " .
وقال عليه السلام لحبة وسواء ابني خالد: " لا تيئسا من روح الله ما تهززت رؤوسكما، فإن أحدكم يولد أحمر لا قشر عليه ثم يكسوه الله ويرزقه " .
وقال علي عليه السلام: عند تناهي الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء.
ومن كلام الحكماء: إن تيقنت لم يبق الهم.
وأنشد أبو حاتم: (من الوافر)
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطئت المكاره واطمأنت ... وأرست في مكامنها الخطوب
ولم ير لانكشاف الضر وجهاً ... ولا أغنى بحيلته الأريب
أتام على قنوط منك غوث ... يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت ... فمقرون بها فرج قريب
وقال عبد بن الزبير الأسدي: (من البسيط)
لا أحسب الشر جاراً لا يفارقني ... ولا أحز على ما فاتني الودجا
ولا نزلت من المكروه منزلة ... إلا وثقت بأن ألقى لها فرجا
وقال محمد بن بشير: (من البسيط)
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبه ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
آخر: (من المنسرح)
يا قارع الباب رب مجتهد ... قد أدمن القرع ثم لم يلج
فاطو على الهم كشح مصطبر ... فآخر الهم أول الفرج
أنشد إبراهيم بن العباس قول الشاعر: (من الخفيف)
ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
فقال إبراهيم بديهة: (من الكامل)
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنها لا تفرج
فممن خرج من شدته ما روي أن الوليد بن عبد الملك كتب إلى صالح بن عبد الله المري، عامله على المدينة، أن أبرز الحسن بن الحسن بن علي وكان محبوساً واضربه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة سوط. فأخرجه إلى المسجد واجتمع الناس، وصعد صالح ليقرأ عليهم الكتاب ثم ينزل فيأمر بضربه. فبينا هو يقرأ الكتاب إذ جاء علي بن الحسين عليه السلام، فأفرج له الناس حتى انتهى إلى الحسن، فقال: يا بن عم! مالك! ادع الله تعالى بدعاء الكرب يفرج الله عنك، فقال: ما هو يا بن عم؟ قال: قل لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب السماوات والسبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين. قال: وانصرف علي وأقبل الحسن يكررها، فلما فرغ صالح من قراءة الكتاب نزل، قال: أرى سحنة رجل مظلوم؛ أخروا أمره، وأنا أراجع أمير المؤمنين في أمره، ثم أطلق بعد أيام.
وروي أن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما قال: علمت دعاء الكرب في منامي، وهو: يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين، فإن لكل مسألة عندك جواباً عتيداً وسمعاً حاضراً، وإن عندك لكل صاحب علماً محيطاً، أسألك بأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، أن تفعل بي كذا وكذا.
وجد في كنيسة للنصارى بالشام بين الصور مكتوب: يقول صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، نزلت هذه الكنيسة يوم كذا من شهر كذا من سنة ثماني عشرة ومائة، وأنا مكبل بالحديد محمول إلى أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك: (من البسيط)
ما سد باب ولا ضاقت مذاهبه ... إلا أتاني وشيكاً بعده ظفر
فبعد أربع عشرة سنة نزل صالح بتلك الكنيسة محارباً لمروان بن محمد، فكان من ظفر بني هاشم ببني مروان ما كان.