كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون
وروي أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله جلس بين يديه وقال: يا رسول الله إن لي مملوكين يخونونني ويعصونني ويكذبونني، فأين أنا منهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان ذلك بقدر ذنوبهم كان ذلك كفافاً لا لك ولا عليهم، وإن كان أكثر من ذنوبهم اقتص لهم منك. فبكى الرجل، فقال صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " " الأنبياء: 47 " فقال الرجل: والله يا رسول الله ما لي في صحبة هؤلاء من خير، أشهدك أنهم أحرار كلهم.
قيل أوحى الله إلى نبي إسرائيل أن مر ملوك بني إسرائيل أن ينزلوا الجدب وينزلوا الرعية الخصب، ويشربوا الرنق ويسقوا الرعية السفو، وإلا حاسبتهم بالذرة والشعرة.
سأل الاسكندر حكماء أهل بابل: أيما أبلغ عندكم الشجاعة أم العدل؟ قالوا: إذا استعملنا العدل استغنينا عن الشجاعة.
ويقال: عدل السلطان أنفع من خصب الزمان.
وتزعم الفرس أن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور كان عادلاً إلا أنه كان مشؤوماً على رعيته، فقحط الناس في زمانه سنين، وغارت الأنهار والعيون والقني، وقحلت الشجار والغياض، وتماوتت الوحوش والطيور، وصارت الدواب والأنعام لا تطيق حمولة، فأحسن إلى الناس، وكف عن الجباية، وقسم ما في بيت الأموال، وأمر بإخراج ما في الهري والمطامير من الطعام، وترك الاستئثار به، وتساوى فيه غنيهم وفقيرهم، وأخبرهم أنه متى بلغه أن إنسياً مات جوعاً عاقب أهل تلك المدينة أو القرية ونكل بهم أشد النكال. فيقال إنه لم يهلك في تلك المجاعة واللزبة إلا رجل واحد من رستاق كورة أردشير. فقام عدله في العرية مقام الخصب.
ويقال: إذا رغب الملك عن العدل رغبت رعيته عن طاعته.
موت الملك الجائر خصب شامل.
قيل: أي شيء أرفع لذكر الملوك؟ قيل: تدبيرهم أمر البلاد بعدل، ومنعهم إياها بعز.
وكان بعضهم يوصي عماله فيقول: سوسوا الناس بالمعدلة، واحملوهم على النصفة، واحذروا أن تلبسونا جلودهم، أو تطعمونا لحومهم، أو تسقونا دماءهم.
ذكر أعرابي السلطان فقال: أما والله لئن عزوا في الدنيا بالجور، لقد ذلوا في الآخرة بالعدل.
قال الشعبي: كان بين عبد الله بن شريح وبين قوم خصومة، فقال: يا أبت إن بيني وبين قوم خصومة، فإن كان الحق لي خاضمتهم. قال: اذكر لي قصتك. فذكرها له، فقال ائتني بهم، فلما أتاه بهم قضى على ابنه؛ فلما رجع قال: يا أبت لو لم أخبرك بقصتي كان أعذر لك عندي، فقال: يا بني أنت أعز علي من ملء الأرض مثلهم، والله تعالى أعز علي منك. كرهت أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم.
وانصرف شريح يوماً من مجلس القضاء، فلقيه رجل فقال: أما حان لك يا شيخ أن تخاف الله تعالى وتستحيي؟ قال: ويلك من أي شيء؟ قال: كبرت سنك، وفسد ذهنك، وكثر نسيانك، وأدهن كاتبك، وارتشى ابنك، فصارت الأمور تجور عليك. قال: لا والله لا يقولها لي بعدك أحد، واعتزل عن القضاء ولزم بيته. وقضى شريح بالكوفة ستين سنة، ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبقي إلى أيام الحجاج.
ولى الرشيد عاملاً خراج طساسيج السواد، فقال لجعفر ويحيى: أوصياه؛ فقال جعفر: وفر واعمر، وقال يحيى أنصف وانتصف، وقال الرشيد: يا هذا أحسن واعدل. ففضل الناس كلام الرشيد، فقيل لهما: لم نقص كلامكما عن كلامه؟ فقال جعفر: لا يعتد هذا نقصاناً إلا من لا يعرف ما لنا وما علينا، إنما أمرنا بما علينا أن نأمر به، وأمر أمير المؤمنين بما له أن يأمر به.
وقع جعفر بن يحيى إلى عامل له: أنصف من وليت أمره، وإلا أنصفه منك من ولي أمرك.
ووقع إلى أحمد بن هشام في قصة متظلم: اكفني أمر هذا، وإلا كفيته أمرك.
كتب الفضل بن يحيى إلى عامل له: بئس الزاد إلى المعاد، والعدوان على العباد.
تنازع إبراهيم بن المهدي وبختيشوع المتطبب بين يدي أحمد بن أبي دواد القاضي في مجلس الحكم في عقار بناحية السواد، فأربى عليه ابن المهدي وأغلظ له بين يدي ابن أبي دواد، فأحفظه ذلك فقال: يا إبراهيم إذا نازعت أحداً في مجلس الحكم فلا أعلمن ما رفعت عليه صوتاً، ولا أشرت بيدك، وليكن قصدك أمماً، وطريقك ثبجاً، وريحك ساكنة. ووف مجالس الحكومة حقها من التوقير والتعظيم والتوجيه إلى الواجب، فإن ذلك أشبه بك، وأجمل لمذهبك في محتدك وعظيم قدرك، ولا تعجل فرب عجلة تعقب ريثاً، والله يعصمك من الزلل، وخطل القول والعمل، ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل. قال إبراهيم: أصلحك الله، أمرت بسداد، وحضضت على رشاد، ولست بعائد إلى ما يثلم مروءتي، ويسقطني من عينك، ويخرجني عن مقدار الواجب إلى الاعتذار؛ فها أنا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقر بذنبه، باخع بجرمه، فإن الغضب لا يزال يستفزني بهواه، فيردني مثلك بحلمه، وتلك عادة الله عندنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل؛ وقد وهبت حقي في هذا العقار لبختيشوع، فليت ذلك يقوم بأرش الجناية، ولم يتلف مال أفاد موعظة، وبالله التوفيق.
كتب المنصور إلى سوار بن عبد الله القاضي في مال كان له على سلمة بن سعيد، لما مات سلمة، وكان عليه ديون للناس وللمنصور، فكتب إليه: استوف لأمير المؤمنين دينه، وفرق ما يبقى بين الغرماء. فلم يلتفت إلى كتابه وضرب للمنصور بسهم من المال كما ضرب لواحد من الغرماء، ثم كتب إليه: إني رأيت أمير المؤمنين غريماً من الغرماء. فكتب إليه المنصور: ملئت الأرض بك عدلاً.
قيل: أول من أظهر الجور في القضاء في الحكم بلال بن أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري، وكان أمير البصرة وقاضيها. كان يقول: إن الرجلين يتقدمان إلي فأجد أحدهما أخف على قلبي فأقضي له.
وخاصم خالد بن صفوان إليه رجلاً فقضى على خالد، فقام خالد وهو يقول: سحابة صيف عن قليل تقشع.
فقال بلال: أما إنها لا تقشع حتى يصيبك منها شؤبوب برد، وأمر به إلى الحبس. فقال خالد: علام تحبسني فوالله ما جنيت جناية، فقال بلال: يخبرك عن ذلك باب مصمت، وأقياد ثقال، وقيم يقال له حفص.
وخطب بلال بالبصرة فعرف أنهم قد استحسنوا كلامه فقال: لا يمنعنكم ما تعلمون فينا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا.
تقدم المأمون بين يدي يحيى بن أكثم مع رجل ادعى عليه ثلاثين ألف دينار، فطرح المأمون مصلى يجلس عليه، فقال يحيى: لا تأخذ على خصمك شرف المجلس. ولم يكن للرجل بينه، فحلف المأمون، فلما فرغ وثب يحيى فقام على رجليه فقال: ما أقامك؟ فقال: إني كنت في حق الله تعالى حتى أخذته منك، وليس الآن من حقك أن أتصدر عليك. فأعطى الرجل ما ادعاه، وهو ثلاثون ألف دينار، وقال: خذه، والله إني ما كنت لأحلف على فجره ثم أسمح لك بالمال فأفسد ديني ودنياي. والله ما دفعت إليك هذا المال الساعة إلا خوفاً من هذه العامة فلعلها ترى أني تناولتك من جهة القدرة، ومنعتك حقك بالاستطالة عليك. فأما الآن فإنها تعلم أني ما كنت لأسمح باليمين والمال، وأمر ليحيى بثلاثين ألف دينار، وتصدق بثلاثين ألف دينار.
وكان أبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز السكوني قاضياً للمعتضد، مات في أيامه الضبعي صاحب الطعام، وله أطفال، وعليه للمعتضد دين قدره أربعة آلاف دينار. فقال المعتضد لعبيد الله بن سليمان: قل لعبد الحميد أن يدفع إلينا هذا المال من تركة الضبعي، فذكر له ذلك، فقال أبو خازم: إن المعتضد كأسوة الغرماء في تركة الضبعي. فقال له عبيد الله أتدري ما تقول؟ فقال أبو خازم: هو ما قلت لك. وكان المعتضد يلح على عبيد الله في اقتضاء المال، وعبيد الله يؤخر ما قال له أبو خازم، فلما ألح عليه أخبره بما قال أبو خازم، فأطرق المعتضد ثم قال: صدق عبد الحميد هو كما قال: نحن كسائر الغرماء وأسوتهم.
أخذ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من رجل فرساً على سوم، فحمل عليه رجلاً فعطب الفرس، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً، فقال له الرجل: أجعل بيني وبينك شريحاً العراقي. فقال: يا أمير المؤمنين أخذته صحيحاً سليماً فعليك أن ترده كما أخذته، فأعجبه ما قال، وبعث به قاضياً. ثم قال: ما وجدته في كتاب الله سبحانه فلا تسأل عنه أحداً، وما لم يستبين في كتاب الله فالزم السنة، فإن لم يكن في السنة فاجتهد رأيك.
وقال له عمر حين استقضاه: لا تشار ولا تضار، ولا تشتر ولا تبع، فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين: من الرجز
إن القضاة إن أرادوا عدلا ... ودفعوا قول الخصوم فصلا
وزحزحوا بالحكم عنهم جهلا ... كانوا كغيث قد أصاب محلا
ويقال: إن شريحاً عاش مائة وست سنين، فقضى منها ستين سنة.
قال مسروق: لأن أحكم يوماً بحق أحب إلي من أن أغزو سنة في سبيل الله.
سمع ابن شبرمة ينشد: من الطويل
يمنونني الأجر الجزيل وليتني ... أجوز كفافاً لا علي ولا ليا
قال أحمد بن وزير القاضي: لما ولاني المعتز القضاء قال لي: يا أحمد قد وليتك القضاء، وإنما هي الدماء والفروج والأموال ينفذ فيها حكمك، ولا يرد أمرك، فاتق الله وانظر ما أنت صانع.
قال القاضي أبو عمر، وقدم خادم من وجوه خدم المعتضد بالله إلى يوسف بن يعقوب يعني أباه في حكم فجاء فارتفع في المجلس، وأمره الحاجب بموازاة خصمه فلم يفعل إدلالاً بعظم محله من الدولة، فصاح القاضي عليه وقال: قفاه، أتؤمر بموازاة خصمك فتمتنع؟! يا غلام عمرو بن أبي عمرو النخاس لتقدم إليه الساعة ببيع هذا العبد وحمل ثمنه إلى أمير المؤمنين. ثم قال لحاجبه: خذ بيده، وسو بينه وبين خصمه؛ فأخذ كرهاً وأجلس مع خصمه. فلما انقضى الحكم انصرف الخادم، فحدث المعتضد بالحديث وبكى بين يديه، فصاح عليه المعتضد وقال: لو باعك لأجزت بيعه، وما رددتك إلى ملكي أبداً، وليس خصوصيتك بي تزيل مرتبة الحكم فإنه عمود السلطان وقوام الأديان.
قال الأحنف: ما عرضت الإنصاف قط على رجل فقبله إلا هبته، ولا أباه إلا طمعت فيه.
كتب المنصور إلى سوار في شيء كان الحق في خلافه، فلم ينفذ سواء كتابه وأمضى الحكم عليه، فتغيظ المنصور عليه وتوعده. فقيل له: يا أمير المؤمنين إنما عدل سوار لك ومضاف إليك وزين خلافتك، فأمسك عنه.
وكتب المهدي إلى عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة أن ينظر الأنهار التي كانت في أيام عمر وعثمان، رضي الله عنهما، فيأخذ الصدقة منها، نحو نهر معقل ونهر الأبلة وما أشبههما، ويأخذ من الأنهار التي أحدثت بعد ذلك الخراج، فلم ينفذ كتابه، فتوعده، فلما بلغ عبيد الله الخبر أحضر أشراف أهل البصرة من أهل العلم بالقضاء، وأشهدهم أنه قد قضى لأهل الأنهار كلها التي بجزيرة العرب بالصدقة، فلم يردد المهدي شيئاً عليه من فعله.
وقيل: كان حفص بن عتاب جالساً في الشرقية يقضي، فأنفذ الخليفة يستدعيه، فقال للرسول: أفرغ من أمر الخصوم، إذ كنت أجيراً لهم، وأصير إلى أمير المؤمنين. ولم يقم حتى تفرق الخصوم.
حدث وكيع القاضي قال: كنت أتقلد لأبي خازم وقوفاً في أيام المعتضد، منها وقوف الحسن بن سهل، فلما استكثر المعتضد من عمارة القصر الحسني أدخل إليه بعض وقوف الحسن بن سهل التي كانت في يدي، وبلغت السنة آخرها وقد جبيت مالها إلا ما أخذه المعتضد، فجئت إلى أبي خازم فعرفته اجتماع مال السنة، واستأذنته في قسمته في سبله وعلى أهل الوقف، فقال لي: فهل جبيت ما على أمير المؤمنين؟ فقلت له: ومن يجسر على مطالبة الخليفة؟ قال: والله لا قسمت الارتفاع أو تأخذ ما عليه؛ والله لئن لم يزح العلة لا وليت له عملاً، ثم قال: امض إليه الساعة وطالبه، فقلت من يوصلني؟ قال: امض إلى صافي الحرمي وقل له إنك رسول أنفذتك في مهم، فإذا وصلت فعرفه ما قلت لك. فجئت إلى صافي فأوصلني، وكان آخر النهار، فلما مثلت بين يدي الخليفة ظن أن أمراً عظيماً قد حدث، وقال هي قل، كأنه متشوق، فقلت له: إني ألي لعبد الحميد قاضي أمير المؤمنين وقوف الحسن بن سهل، وفيها ما قد أدخله أمير المؤمنين إلى قصره، ولما جبيت مال هذه السنة امتنع من تفرقته إلى أن أجبي ما على أمير المؤمنين، وأنفذني الساعة قاصداً بهذا السبب، وأمرني أن أقول إني حضرت في مهم لأصل إليك. فسكت ساعة مفكراً ثم قال: أصاب عبد الحميد، يا صافي هات الصندوق. فأحضر صندوقاً لطيفاً فقال: كم يجب لك؟ فقلت: الذي جبيت عام أول من ارتفاع هذه العقارات أربعمائة دينار. فقال: كيف حذقك بالنقد الوزن؟ قلت: أعرفهما. قال: هاتوا ميزاناً، فجاءوا بميزان حراني عليه حلية ذهب، وأخرج من الصندوق دنانير عيناً فوزن لي منها أربعمائة دينار، فانصرفت بها إلى أبي خازم فقال: أضفها إلى ما اجتمع للوقف عندك، وفرقه في غد سبله، ففعلت.
وكان عافية القاضي يتقلد للمهدي أحد جانبي بغداد، وكان عالماً زاهداً، فصار إلى المهدي في وقت الظهر في يوم من الأيام وهو خال، فاستأذن عليه فأدخله، وإذا معه قمطره، فاستعفاه من القضاء واستأذنه في تسليم القمطر إلى من يأمره بذلك. فظن أن بعض الأولياء قد غض منه أو أضعف يده في الحكم، فقال له في ذلك فقال: ما جرى من هذا شيء فقال: ما سبب استعفائك؟ فقال: كان يتقدم إلي خصمان موسران وجيهان مذ شهران في قصة معضلة مشكلة، وكل يدعي بينة وشهوداً، ويدلي بحجج تحتاج إلى تأمل وتثبت. فرددت الخصوم رجاء أن يصطلحوا أو يعن لي وجه فصل ما بينهما. قال: فوقف أحدهما من خبري على أني أحب الرطب السكر، فعمد في وقتنا وهو أول أوقات الرطب إلى أن جمع من الرطب السكر ما لا يتهيأ في زماننا جمع مثله إلا لأمير المؤمنين، وما رأيت أحسن منه، ورشا بوابي جملة دراهم على أن يدخل الطبق إلي ولا يبالي أن يرد. فلما أدخل إلي أنكرت ذلك وطردت بوابي وأمرت برد الطبق. فلما كان اليوم تقدم إلي مع خصمه فما تساويا في قلبي ولا في عيني. وهذا يا أمير المؤمنين ولم أقبل، فكيف تكون حالي لو قبلت؟ ولا آمن أنتقع علي حيلة في ديني فأهلك. وقد فسد الناس. فأقلني أقالك الله وأعفني، فأعفاه.
نادى رجل سليمان بن عبد الملك وهو على المنبر: أيا سليمان، أيا سليمان، اذكر يوم الأذان، فنزل عن المنبر ودعا بالرجل فقال له سليمان: فما يوم الأذان؟ فقال: " فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " " الأعراف: 44 " قال: فما ظلامتك؟ قال: أرضي بمكان كذا أخذها وكيلك، فكتب إلى وكيله أن ادفع إليه أرضه وأرضي مع أرضه.
واستؤمر عمر بن عبد العزيز في البسط على العمال فقال: يلقون الله بجناياتهم أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم.
كتب عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة إلى الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العدل، فكتب إليه الحسن: اعلم يا أمير المؤمنين أن الله تعالى جعل الإمام العدل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله الحازم الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المراعي ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده: يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً، يكسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد وفاته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة، البرة الرفيقة بولدها، حملته كرهاً، ووضعته كرهاً، وربته طفلاً، تسهر لسهره، وتسكن لسكونه، ترضعه تارة، وتفطمه أخرى، وتفرح لعافيته، وتغتم بشكاته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده. والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد لله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال، وشرد العيال، فأفقر أهله، وأهلك ماله. واعلم يا أمير المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها؟ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟ قال مالك بن أنس: بعث إلي أبو جعفر المنصور وإلى ابن طاووس، فدخلنا عليه وهو جالس على فرش قد نضدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاوزة بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا، فجلسنا وأطرق عنا طويلاً. ثم التفت إلى ابن طاووس فقال له: حدثني عن أبيك؛ قال: نعم، سمعت أبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله، قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأني دمه. ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظني يا ابن طاووس، قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى يقول: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد. إرم ذات العماد " إلى قوله " إن ربك لبالمرصاد " " الفجر: 6 - 14 " قال مالك؟ فضممت ثيابي أيضاً مخافة أن يملأني من دمه. فأمسك ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه، ثم قال: يا ابن طاووس ناولني هذه الدواة، فأمسك قال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكاً فيها؛ فلما سمع ذلك قال: قوما عني. قال ابن طاووس: " ذلك ما كنا نبغ " " الكهف: 64 " قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاووس فضله.
قال محمد بن حريث: بلغني أن نصر بن علي أرادوه على القضاء بالبصرة، واجتمع الناس إليه فكان لا يجيبهم، فلما ألحوا عليه دخل بيته ونام على ظهره وألقى ملاءته على وجهه وقال: اللهم إن كنت تعلم أني لهذا كاره فاقبضني إليك، فقبض.
كتب عبيد بن ثابت مولى بني عبس إلى علي بن ظبيان قاضي بغداد: بلغني انك تجلس للحكم على باري، وكان من قبلك من القضاة يجلسون على وطاء ويتكئون، فكتب إليه: والله إني لأستحيي إن جلس بين يدي رجلان حران مسلمان على باري وأنا على وطاء، لست أجلس إلا على ما يجلس عليه الخصوم.
أراد عثمان استقضاء عبد الله بن عمر فقال: أليس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من استعاذ بالله فقد عاذ بمعاذ، قال: بلى، قال: فإني أعوذ بالله منك أن تستقضيني.
بينا داود عليه السلام جالساً على باب داره، جاء رجل فاستطال عليه، فغضب له إسرائيلي كان معه فقال: لا تغضب فإن الله إنما سلطه علي لجناية جنيتها. فدخل فتنصل إلى ربه، فجاء الرجل يقبل رجليه ويعتذر إليه.
قال سقراط: ينبوع فرح الإنسان القلب المعتدل، وينبوع فرح العالم الملك العادل، وينبوع حزن الإنسان القلب المختلف المزاج، وينبوع حزن العالم الملك الجائر.
لما جيء بالهرمزان ملك خوزستان أسيراً إلى عمر، لم يزل الموكل به يقتفي أثر عمر حتى عثر في المسجد نائماً متوسداً درته. فلما رآه الهرمزان قال: هذا هو الملك، عدلت فأمنت فنمت؛ والله إني قد خدمت أربعة من ملوك الأكاسرة أصحاب التيجان فما هبت أحداً منهم هيبتي لصاحب هذه الدرة.
مر عامر بن بهدلة برجل قد صلبه الحجاج فقال: يا رب إن حلمك عن الظالمين قد أضر بالمظلومين، فرأى في منامه أن القيامة قد قامت، وكأنه قد دخل الجنة، فرأى المصلوب فيها في أعلى عليين، وإذا مناد ينادي: حلمي عن الظالمين أحل المظلومين في أعلى عليين.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً وأمر عليهم رجلاً، قيل هو عبد الله بن محرز، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأجج ناراً وأمرهم أن يتقحموا فيها، فأبى قوم أن يدخولها وقالوا: إنما فررنا من النار. وأراد قوم أن يدخلوها، فبلغ ذلك النبي عليه السلام فقال: لو دخلوها لم يزالوا فيها. وقال: لا طاعة لمخلوق في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف.
ومن الإنصاف في الأقوال: أغلظ رجل للمهلب فحلم عنه، فقيل له جهل عليك وتحلم عنه؟! فقال: لم أعرف مساوئه فكرهت أن أبهته بما ليس فيه.
قال ابن دريد، قال أبو حاتم: فاتني نصف العلم، فقيل له: وكيف ذاك؟ قال تصدرت ولم أكن للتصدر أهلاً، واستحييت أن أسأل من دوني، واختلف إلي من فوقي، فذلك الجهل في نفسي إلى اليوم.
وقال ابن المنجم: كنت أحضر وأنا صغير مجلس ثعلب، فأراه ربما سئل عن خمسين مسألة وهو يقول: لا أدري، لا أعلم، لم أسمع.
وقال اليوسفي الكاتب: كنت يوماً عند أبي حاتم السجستاني إذ أتاه شاب من أهل نيسابور فقال له: يا أبا حاتم إني قدمت بلدكم وهو بلد العلم والعلماء،وأنت شيخ أهل المدينة، وقد أحببت أن أقرأ عليك كتاب سيبويه. فقال له: الدين النصيحة، إن أردت أن تنتفع بما تقرأه فاقرأ على هذا الغلام محمد ابن يزيد، فتعجبت من ذلك.
جلس معاوية يوماً وعنده وجوه الناس وفيهم الأحنف، إذ دخل رجل من أهل الشام، فقام خطيباً، فكان آخر كلامه أن لعن علياً عليه السلام. فأطرق الناس وتكلم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا القائل آنفاً ما قال لو علم أن رضاك في لعن المرسلين للعنهم، فاتق الله تعالى ودع علياً فقد لقي الله وأفرد في حفرته، وخلا بعمله، وكان والله ما علمنا المبرز بسبقه، الطاهر في خلقه، الميمون النقيبة، العظيم المصيبة. فقال معاوية: يا أحنف لقد أغضبت العين على القذى، وقلت بغير ما ترى، وأيم الله لتصعدن المنبر فلتلعننه طائعاً أو كارهاً، قال الأحنف: إن تعفني هو خير، وإن تجبرني على ذلك فوالله لا تجري به شفتاي. قال: قم فاصعد، فقال: أما والله لأنصفنك في القول والفعل. قال معاوية: وما أنت قائل إن أنصفتني؟ قال: أصعد فأحمد الله تعالى بما هو أهله، وأصلي علي نبيه، ثم أقول: أيها الناس إن معاوية أمرني أن ألعن علياً، ألا وإن علياً ومعاوية اختلفا واقتتلا، وادعى كل واحد منهما أنه مبغي عليه وعلى فئته، فإذا دعوت فأمنوا يرحمكم الله، ثم أقول: اللهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك ورسلك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه، والعن الفئة الباغية على الفئة المبغي عليها، آمين رب العالمين. فقال معاوية: إذن نعفيك يا أبا بحر.
وقيل: لما أجمع معاوية على البيعة ليزيد جمع الخطباء فتكلموا، والأحنف ساكت، فقال: يا أبا بحر ما منعك من الكلام؟ فقال: يا أبا بحر ما منعك من الكلام؟ فقال: أنت أعلمنا بيزيد ليله ونهاره، وسره وعلانيته، فإن كنت تعلم أنها شر له فلا توله الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة، فإنما لك ما طاب، وعلينا أن نقول: سمعنا وأطعنا.
كتب أحمد بن إسماعيل إلى ابن المعتز رقعة يقول فيها: ولم أر كالحق أصدق قائلاً، ولا أفضل عاملاً، ولا أجمل ظاهراً، ولا أعز ناصراً، ولا أوثق عروة، ولا أحكم عقدة، ولا أعلى حجة، ولا أوضح محجة، ولا أعدل في النصفة؛ لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري على أحد إلا جرى له، يستوي الملك والسوقة في واجبه، ويعتدل البغيض والحبيب في تحقيقه، طالبه حاكم على خصمه، وصاحبه أمير على أمره، من دعا إليه ظهر برهانه، ومن جاهد عليه كثر أعوانه، يمكن رعاته من آلة القهر، ويجعل في أيديهم راية النصر، ويحكم لهم بغلبة العاجلة، وسعادة الآجلة. ولم أر كالباطل أضعف سبباً، ولا أوعر مذهباً، ولا أجهل طالباً ولا أذل صاحباً؛ من اعتصم به أسلمه، ومن لجأ إليه خذله، يرتق فينفتق، ويرقع فينخرق؛ إن حاول صاحبه بيعه بارت سلعته، وإن رام ستره زادت ظلمته. لا يقارنه البرهان، ولا يفارقه الخذلان، قد قذف بالحق يدمغه ويقمعه فيمحقه، صاحبه في الدنيا مكذب، وفي الآخرة معذب، إن نطق دل على عيبه، وإن سكت تردد في ريبه.
ومن أشعار العرب المنصفة قول حكمة بن قيس الكناني: من الطويل
نهيت أبا عمرو عن الحرب لو يرى ... برأي رشيد أو يؤول إلى حزم
دعاني يشب الحرب بيني وبينه ... فقلت له لا بل هلم إلى السلم
فلما أبى أرسلت فضلة ثوبه ... إليه فلم يرجع بحزم ولا عزم
وأمهلته حتى رماني بحرها ... تغلغل من غي غوي ومن إثم
فلما رمانيها رميت سواده ... ولا بد أن يرمى سواد الذي يرمي
فبتنا على لحم من القوم غودرت ... أسنتنا فيه وباتوا على لحم
وأصبح يبكي من بنين وإخوة ... حسان الوجوه طيبي الجسم والنسم
ونحن نبكي إخوة وبنيهم ... وليس سواء تل حق على ظلم
وقال المسور بن زيادة العذري: من الطويل
وكنا بني عم جرى الجهل بيننا ... فكل توفى حقه غير وادع
فنلنا من الآباء شيئاً وكلنا ... إلى حسب في قومه غير واضع
فلما بلغنا الأمهات وجدتم ... بني عمكم كانوا كرام المضاجع
فما لهم عندي ولا لي عندهم ... وإن أكثر المغرور وتر لتابع
قال الحسن بن عبادة: وجه إلي الأمير وإلى ابن أبي ليلى وأبي حنيفة، سألنا عن مسألة، فأجاب هو وابن أبي ليلى جواباً واحداً، وخالفتهما أنا، وأمر الأمير بإنفاذ قوليهما وترك قولي. فتفكر أبو حنيفة ساعة ثم قال للأمير: جوابي يناظرني. ثم قال أبو حنيفة: إن العلم يحتاج أن يعرض على الله عز وجل فلا يأنف أحد إذا أخطأ أن يرجع إلى الحق.
قال أبو الدرداء: إياك ودعوة اليتيم ودعوة المظلوم فإنها تسري بالليل والناس نيام.
قال منصور بن المعتمر لابن هبيرة حين أراده على القضاء: ما كنت لألي لك بعد ما حدثني إبراهيم. قال: وما حدثك؟ قال: حدثني عن علقمة عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الظلمة وأعوان الظلمة وأشباه الظلمة حتى من برى لهم قلماً أو لاق لهم داوة، فيجمعون في تابوت حديد ثم يرمي بهم في جهنم.
قال عمر بن عبد العزيز في غيلان بن مسلم الدمشقي: من سره أن ينظر إلى رجل وهب نفسه لله، ليس فيه عضو إلا ينطق بحكمة فلينظر إلى هذا. وقال له: يا أبا مروان، أعني أعانك الله، فقال: ولني رد المظالم، فولاه، فكان يخرج خزائن بني أمية فينادي عليها: هلموا إلى متاع الخونة. ونادى على جوارب خز قد تآكلت بلغت قيمتها ثلاثين ألفاً، فقال: من عذيري ممن يزعم أن هؤلاء أئمة عدل؟ قد تآكلت هذه الجوارب في خزائنهم، والفقراء والمساكين يموتون جوعاً. فلما ولي هشام بعث إليه واستنطقه فقال: أعوذ بجلال الله أن يأتمن الله خواناً أو يستخلف خزاناً؛ إن أئمته القوامون بأحكامه، الراهبون لمقامه؛ لو يول الله وثاباً على الفجور، ولا شراباً للخمور، ولا ركاباً للمحظور. فقطع هشام يديه ورجليه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: زين الله السماء بثلاث: بالشمس والقمر والكواكب، وزين الأرض بثلاث: بالعماء، والمطر، وسلطان عادل.
قيل: إذا لم يعمر الملك ملكه بالإنصاف خرب ملكه بالعصيان.
قيل لأنوشروان: أي الجنن أوقى؟ قال: الدين، قيل فأي العدد أقوى؟ قال العدل.
قال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات: جلس أبي يوماً للمظالم، فلما انقضى المجلس رأى رجلاً جالساً فقال له: ألك حاجة؟ قال: نعم، تدنيني إليك فإنني مظلوم، فأدناه فقال: إني مظلوم وقد أعوزني الإنصاف، قال ومن ظلمك؟ قال: أنت، ولست أصل إليك فأذكر حاجتي. قال: ومن يحجبك وقد ترى مجلسي مبذولاً؟ قال: يحجبني عنك هيبتك، وطول لسانك، وفصاحتك واطراد حجتك. قال: ففيم ظلمتك؟ قال: ضيعتي الفلانية أخذها وكيلك غصباً بغير ثمن، وإذا وجب عليها خراج أديته باسمي لئلا يثبت لك اسم في ملكها فيبطل ملكي، فوكيلك يأخذ غلتها وأنا أؤدي خراجها، وهذا ما لم يسمع في الظلم بمثله. فقال له محمد: هذا قول يحتاج إلى بينة وشهود وأشياء، فقال له الرجل: أيؤمنني الوزير من غضبه حتى أجيب؟ قال: قد أمنتك. قال: البينة هم الشهود، وإذا شهدوا فليس يحتاج معهم إلى شيء، فما معنى قولك: فيه شهود وأشياء؟ ماهذه الأشياء إلا العي والحصر والتغطرس؟ فضحك وقال: صدقت، والبلاء موكل بالمنطق، وإني لأرى فيك مصطنعاً. ثم وقع له برد ضيعته وبأن يطلق له كر حنطة وكر شعير ومائة دينار يستعين بها على عمارة ضيعته، وصيره من أصحابه واصطنعه.
قيل لأعرابي من بني أسد: كيف تركت الناس قال: بشر، من مظلوم لا ينتصر، وظالم لا يقلع.
قال عبد الملك بن مروان: كنت أجالس بريرة قبل أن ألي هذا الأمر، فقالت لي: يا عبد الملك إنك لخليق أن تلي هذا الأمر، فإن وليته فاحذر الدماء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يقول: إن الرجل ليحال بينه وبين الجنة بعد أن ينظر إليها بملء كف من دم مسلم سفكه بغير حق.
وروي أن رجلاً من عمال عمر رضي الله عنه أمر رجلاً أن ينزل في واد ينظر كم عمقه، فقال الرجل: إني أخاف، فعزم عليه فنزل، فلما خرج كز فمات، فنادى: يا عمراه، فبعث عمر إلى العامل فقال: أما لولا أني أخاف أن تكون سنة بعدي لضربت عنقك، ولكن لا تبرح حتى تؤدي ديته، والله لا وليتك شيئاً أبداً.
وروي أن يهودياً جاء إلى عبد الملك بن مروان فقال: إن ابن هرمز ظلمني، ثم أتاه الثانية ثم الثالثة فلم يلتفت إليه، فقال له اليهودي: إنا نجد في التوراة أن الإمام لا يشرك في ظلم أحد ولا جوره حتى يرفع إليه فإذا رفع إليه ولم يغير شرك في الظلم والجور. ففزع عبد الملك وأرسل إلى ابن هرمز فنزعه.
قال سريع الأهوازي: بعث إلي عيسى بن جعفر فسألني عن النبيذ فقلت: سل عن الماء الذي يشربه النصارى واليهود والمجوس والكلاب والخنازير جلالاً وتشربه أنت حراماً، قال: وكيف ذاك؟ قلت: إن غلمانك يسخرون الناس ويستقونه لهم. فبكى.
قال محمد بن صفوان الضبي: كنت أقوم على رأس سليمان بن عبد الملك، فدخل عليه رجل من حضرموت من حكمائهم، فقال له سليمان: تكلم بحاجتك، فقال: من كان الغالب على كلامه النصيحة وحسن الإرادة أوفى به كلامه على السلامة، وإني أعوذ بالذي أشخصني من أهلي حتى أوفدين عليك أن ينطقني بغير الحق، وأن يذلل لساني بما فيه سخطه علي، وإن إقصار الخطبة أبلغ في أفئدة أولي الفهم من الإطالة والتشديق في البلاغة، إلا وإن من البلاغة يا أمير المؤمنين ما فهم وإن قل، وإني مقتصر على الاقتصار مجتنب لكثير من الإكثار. أشخصني إليك وال عسوف ورعية ضائعة، وإنك إن تعجل تدرك ما فات، وإن تقصر تهلك رعيتك هناك ضياعاً، وها فخذها إليك قصيرة موجزة. فقال سليمان: ادع لي رجلاً من الحرس فاحمله على البريد وقل له: إذا أتيت البلاد فلا تنزل من مركبك حتى تعزله، ومن كانت له ظلامة أخذت له بحقه. ثم أمر للحكيم بمال فأبى أن يقبل وقال: إني والله يا أمير المؤمنين أحتسب سفري على الله عز وجل، وإني أكره أن آخذ عليه من غيره أجراً. قال: انطلق بارك الله عليك. فلما ولى قال سليمان: ما أعظم بركة المؤمن في كل شيء.
أتي المنصور ببشير الرحال ومطر الوراق مكبلين، وقد كانا خرجا مع إبراهيم بن عبد الله فقال لبشير: أنت القائل أجد في قلبي غماً لا يذهبه إلا برد عدل أو حر سنان؟ قال: نعم. قال: فوالله لأذيقنك حر سنان يشيب منه رأسك، قال: إذن أصبر صبراً يذل به سلطانك، فقطعت يده فما قطب ولا تحلحل، وقال لمطر: يا ابن الزانية، قال: إنك تعلم أنها خير من سلامة، قال: يا أحمق، قال: ذاك من باع دينه بديناه، فرمي به من سطح فمات.
ظلم كبير من بني أمية حجازياً في ماله، فما تظلم منه إلى أحد إلا ضلع للأموي عليه. فخرج إلى سليمان وجعل لخصي أثير عنده مائتي دينار ليوصله إليه خالياً، فأوصله غليه حين سلم في صلاته وجعل يدعو ويخطر بإصبعه نحو السماء ويتضرع. فلما رآه كذلك رجع عنه، فسأل عنه سليمان وأمر بطلبه حتى صودف خارجاً من باب دمشق، فأدخل عليه بعد شدة شديدة وإلحاح، فقال له: ما شأنك؟ قال: جددت في التوصل إليك، فلما رأيتك تخطر بإصبعك نحو السماء وتتضرع علمت أني قد أخطأت موضع طلب الحاجة، فرجعت لأطلبها من حيث طلبت أنت حوائجك. فبكى سليمان وقال: إن الذي طلبت إليه حاجتك قد قضاها، وأمر برد ما أخذ منه وإعطائه ما يصلح ماله، ووصله وكساه وحمله وأمر له بفرائض.
قال الحجاج: والله لطاعتي أوجب من طاعة الله: إن الله يقول " فاتقوا الله ما استطعتم " " التغابن: 16 " فجعل فيها مثنوية وقال: " واسمعوا وأطيعوا " " التغابن: 16 " فلم يجعل فيها مثنوية، فلو قلت لرجل ادخل من هذا الباب فلم يدخل لحل لي دمه.
وخطب مرة فقال: أتزعمون أني شديد العقوبة، وهذا أنس حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع أيدي رجال وأرجلهم وسمل أعينهم، قال أنس: فوددت أني مت قبل أن أحدثه، جعل عدو الله فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعداء الله حيث نقضوا العهد وغدروا بالمسلمين احتجاجاً لنفسه في قتل الصالحين وخيار الأمة.
إياس بن قتادة: من الطويل
وإن من السادات من لو أطعته ... دعاك إلى نار يفور سعيرها
قيل لأبي مسلم: لقد قمت بأمر لا يقصر بك عن الجنة، فقال: خوفي فيه من النار أولى من الطمع في الجنة. إني أطفأت من بني أمية جمرة، وألهبت من بني العباس نيراناً، فإن أفرح بالإطفاء فواحزنا من الإلهاب.
قال عمر بن عبد العزيز: الوليد بالشام، والحجاج بالعراق، وقرة ابن شريك بمصر، وعثمان بن حيان بالحجاز، ومحمد بن يوسف باليمن: امتلأت الأرض والله جوراً.
محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن: من السريع
متى نرى للعدل نوراً فقد ... أسلمني ظلم إلى ظلم
أمنية طالت عداتي بها ... كأنني فيها أخو حلم
طرفة: من الكامل
والظلم فرق بين حيي وائل ... بكر تساقيها المنايا تغلب
رفع إلى أنوشروان أن عامل الأهواز قد جبى من المال ما يزيد على الواجب، فوقع: يرد المال على الضعفاء، فإن الملك إذا كثرت أمواله بما يأخذ من رعيته كان كمن يعمر سطح بيته بما يقتلع من قواعد بنائه.
شاعر: من الرمل المجزوء
لا تبع عقدة مال ... خيفة الجار الغشوم
واصطبر للفلك الجا ... ري على كل ظلوم
فهو الدائر بالأم ... س على آل سدوم
كان معلم أنوشروان يضربه بلا ذنب، ويأخذه بأن يمسك الثلج في يده حتى يكاد كفه يسقط، فآلى لئن ملكت لأقتلنه. فلما ملك هرب فأمنه، فلما أتاه سأله عن الضرب ظلماً فقال: لتعرف حقد المظلوم إذا ظلمته. قال: أحسنت، فالثلج الذي كنت تعذبني به؟ قال: ستعرف ذلك. فغزا فأصبحوا في غداة باردة فلم يقدروا على توتير قسيهم، فوترها لهم فقاتل وظفر، فعلم مراد مؤدبه.
لما ولي الوليد بن يزيد كتب إلى أهل المدينة: من الطويل
محرمكم ديوانكم وعطاؤكم ... به يكتب الكتاب والكتب تطبع
ضمنت لكم إن لم تعقني منيتي ... بأن سماء الضر عنكم ستقلع
وهذا الشعر له وأوله:
ألا أيها الركب المخبون بلغوا ... سلامي سكان البلاد فأسمعوا
وقولوا أتاكم أشبه الناس سنة ... بوالده فاستبشروا وتوقعوا
سيوشك إلحاق لكم وزيادة ... وأعطية تأتي تباعاً فتنفع
فقال حمزة بن بيض يرد على الوليد لما فعل خلاف ما قال: من الطويل
وصلت سماء الضر بالضر بعدما ... زعمت سماء الضر عنا ستقلع
فليت هشاماً كان حياً يسوسنا ... وكنا كما كنا نرجي ونطمع
كان أحمد بن طولون والي مصر متحلياً بالعدل مع تجبره وسفكه الدماء، وكان يجلس للمظالم ويحضر مجلسه القاضي بكار بن قتيبة وجماعة من الفقهاء مثل الربيع بن سليمان ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ومعمر بن محمد. وكان ابن طولون يمكن المتكلم من الكلام وكشف ظلامته جالساً مقرباً. قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الفقيه: فاعترضت ضيعة لنا بالصعيد من ضياع جدي سلامة، فاحتجت إلى الدخول إليه والتظلم مما جرى، وأنا يؤمئذ شاب، إلا أن العلم ومعرفة الحاضرين بسطني إلى الكلام والتمكن من الحجة، فخاطبته في أمر الضيعة، فاحتج علي بحجج كثيرة وأجبته عنها بما لزمه الرجوع إليه. ثم ناظرني مناظرة الخصوم بغير انتهار ولا سطوة علي، وأنا أجيبه وأحل حججه، إلى أن وقف ولم يبق له حجة، فأمسك عني ساعة ثم قال لي: إلى هذا الموضع انتهى كلامي وكلامك، والحجة فقد ظهرت لك، ولكن أجلنا ثلاثة أيام، فإن ظهرت لنا حجة ألزمناك إياها، وإلا سلمنا إليك الضيعة، فقمت منصرفاً. وقال ابن طولون بعد خروجي للحاضرين: ما أقبح ما أشهدتكم به على نفسي أقول لرجل من رعيتي قد ظهرت له حجة: أنظرني إلى أن أطلب حجة وأبطل الحكم الذي أوجبته حجته. من يمنعني إذا وجبت لي حجة أن أحضره وألزمه إياها؟ هذا والغصب واحد. أنتم رسلي إليه بأني قد ألتزمت حجته، وأزلت الاعتراض عن الضيعة. وتقدم بالكتاب له، وعرف الطحاوي الحال منهم فصار إلى الديوان وأخذ الكتاب بإزالة الاعتراض عن الضيعة.
وروي أن بعض قواده كان يتولى كورة من كور مصر، فدخل راهب من رهبان النصارى متظلماً من ذلك القائد، فرآه بعض الحجاب الذين يختصون بذلك القائد فقال له ما لك؟ قال: ظلمني وأخذ مني ثلاثمائة دينار، فقال له الحاجب: لا تتظلم وأنا أسلم إليك ثلاثمائة دينار. فأخذه إلى داره ودفع إليه ثلاثمائة دينار فاغتنمها الراهب وطار. ونقل الخبر إلى أحمد بن طولون فأمر بإحضار القائد والحاجب والراهب وقال للقائد: أليس عللك مزاحة وزرقك داراً، وليس لك سبب يحوجك إلى مد يدك؟ قال: كذاك، قال ما حملك على ما صنعت؟ وأمر بصرفه عن الكورة، وصرف الحاجب عن حجبته، وأحضر النصراني وقال: كم أخذ منك؟ قال ثلاثمائة دينار فقال: لعنك الله لم لم تقل ثلاثة آلاف دينار فآخذها لك من ماله بقولك؟ ثم صاح بالقائد: إلى المطبق! المطبق! فحمل إليه.
وروي أن العباس بن أحمد بن طولون استدعي مغنية وهو مصطبح، فلقيها بعض صالحي مصر ومعها غلام يحمل عودها فكسره، ودخل العباس إلى أبيه فأخبره، فأرسل أحمد بن طولون فأحضر الرجل الصالح وقال له: أنت الذي كسرت العود؟ قال: نعم، قال: فعلمت لمن هو؟ قال: نعم، قال: لمن هو؟ قال: لابنك العباس. قال: أفما أكرمته لي؟ قال: أكرم لك بمعصية، والله عز وجل يقول " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " " التوبة: 71 " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا طاعة لمخلوقة في معصية الخالق. فأطرق أحمد بن طولون ثم رفع رأسه وقال: كل منكر تراه فغيره وأنا من ورائك، وصرفه مكرماً.
وكان أحمد بن طولون يحب العلماء ويحضرهم مجلسه؛ وأراد أبا إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني الفقيه صاحب الشافعي أن يحضره، فامتنع عليه زهداً وتورعاً، فتهدده بهدم داره، فلم يجبه، وأمر سواراً حاجبه بهدمها. فقام المزني مع سوار يريه حدودها حين تقدم وقال له: لا تهدم هذا الجدار فليس هو لي. فعاد سوار فأخبره، فعظم في قلب أحمد بن طولون، وقلق إلى رؤيته. وكان أحمد بن طولون يحضر جنائز وجوه البلد وصالحيهم وأشرافهم، ويتولى الصلاة بنفسه، فحضر يوماً جنازة قيل له: هذا أبو إبراهيم المزني في الجنازة، فقال: أرونيه من غير أن يعلم لئلا يتأذى، فأروه إياه.
وأراد أن يحمل مالاً إلى الحضرة، فأحضر القاضي والشهود ليشهدوا على القابض، فكتبوا وقد عاينوا المال ومبلغه ألف ألف ومائتا ألف دينار، فلما بلغ الكتاب إلى سليم الفانو الخادم المعدل قال له: أيها الأمير لست أشهد حتى يوزن المال بحضرتي، فغاظه ذلك، فقال للوزانين: زنوه، فلما فرغ الوزن قالوا: أبقي لك شيء تقوله؟ قال: النقد، فغاظه ودعا بالنقد، وسليم جالس معهم حتى فرغ وختمت، وتسلمها حاملها، فكتب شهادته وانصرف. وكان ذلك سبب اختصاص سليم بأحمد بن طولون وقربه منه.
ومن الجور قصة زيد الخيل الطائي وقيس بن عاصم والمكسر العجلي: وقعت حرب بين أخلاط طيء، فنهاهم زيد الخيل عن ذلك وكرهه، فلم ينتهوا، واعتزل وجاور بني تميم ونزل على قيس بن عاصم؛ فغزت بنو تميم بكر بن وائل وعليهم قيس وزيد معه، فاقتتلوا قتالاً شديداً وزيد كاف، فلما رأى ما لقيت تميم ركب فرسه وحمل على القوم، وجعل يدعو يال تميم، ويتكنى كنية قيس إذا قتل رجلاً وأرداه عن فرسه، أو هزم ناحية، حتى هزمت بكر وظفرت تميم، فصار فخراً لهم في العرب، وافتخر بها قيس. فلما قدموا قال له زيد: اقسم لي يا قيس نصيبي، فقال: وأي نصيب؟ فوالله ما ولي القتال غيري وغير أصحابي، فقال زيد أبياتاً منها من الطويل
فلست بوقاف إذا الخيل أحجمت ... ولست بكذاب كقيس بن عاصم
إذا ما دعوا عجلاً عجلنا عليهم ... بمأثورة تشفي صداع الجماجم
فبلغ المكسر بن حنظلة العجلي أحد بني سيار قول زيد، فخرج في ناس من بني عجل حتى أغار على بني نبهان فأخذ من نعمهم ما شاء، وبلغ ذلك زيد الخيل فخرج في فوارس من بني نبهان حتى اعترض القوم فقال: ما لي وما لك يا مكسر؟ فقال قولك:
إذا ما دعوا عجلاً عجلنا عليهم
فقاتلهم زيد حتى استنقذ بعض ما كان في أيديهم، ومضى المكسر ببقية ما أصاب. فأغار زيد على تيم الله بن ثعلبة فغنم ما شاء الله، وقال في ذلك من الطويل
إذا عركت عجل بنا ذنب غيرنا ... عركنا بتيم اللات ذنب بني عجل
وعقدت قبائل من قريش بينها حلف الفضول لما لم يكن لها ملك أو قائد يمنع ظلم بعضهم من بعض، فكانا يداً على من ظلم حتى يرتجعوا منه ظلمه. فروي أن رجلاً من خثعم قدم مكة تاجراً ومعه ابنة له يقال لها القتول أوضأ نساء العالمين وجهاً، فعلقها نبيه بن الحجاج السهمي، فلم يبرح حتى نقلها إليه وغلب أباها عليها، فقيل لأبيها عليك بحلف الفضول. فأتاهم فشكا ذلك إليهم، فأتوا نبيه بن الحجاج فقالوا: أخرج ابنة هذا الرجل، وهو يومئذ متبد بناحية مكة وهي معه، وإلا فنحن من قد عرفت، فقال: يا قوم متعوني منها الليلة، فقالوا: قبحك الله ما أحمقك، لا والله ولا شخب لقحة، وهي أوسع أحاليب الشائل. فأخرجها إليهم فأعطوها أباها، وركبوا وركب معهم الخثعمي، فذلك قول نبيه بن الحجاج: الكامل المجزوء
لولا الفضول وأنه ... لا أمن من رقبائها
لدنوت من أبياتها ... ولطفت حول خبائها
ولجئتها أمشي بلا ... هاد لدى ظلمائها
فشربت فضلة ريقها ... ولبت في أحشائها
وقد اختلف في سبب حلف الفضول، فروي أن قيس بن شيبة السلمي باع متاعاً من أمية بن خلف، فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من بني جمح فلم يقوموا بجواره فقال: من الرجز
يال قصي كيف هذا في الحرم ... وحرمة البيت وأعلاق الكرم
أظلم لا يمنع مني من ظلم
وبلغ الخبر عباس بن مرداس فقال: من البسيط
إن كان جارك لم تنفعك ذمته ... وقد شربت بكأس العدل أنفاسا
فأت البيوت وكن من أهلها صدداً ... لا تلف ناديهم فحشاً ولا ياسا
وثم كن بفناء البيت معتصماً ... تلق ابن حرب وتلق المرء عباسا
فقام العباس وأبو سفيان حتى رداً عليه متاعه. واجتمعت بطون قريش فتحالفت على رد المظالم بمكة، وألا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا له بحقه.
وقال آخرون: تحالفوا على مثل ما تحالف عليه قوم من جرهم في هذا الأمر لا يقرون ظالماً ببطن مكة إلا غيروه، وأسماؤهم: الفضل بن شراعة، والفضل بن قضاعة، والفضل بن سماعة.
وحدث ابن شهاب قال: كان شأن حلف الفضول بدء ذلك أن رجلاً من بني زبيد قدم مكة معتمراً في الجاهلية ومعه تجارة له، فاشتراها منه رجل من بني سهم، فآواها إلى بيته ثم إنه تغيب. فابتغى الزبيدي متاعه فلم يقدر عليه. فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه فأغلظوا له، فعرف ألا سبيل إلى ما له، فطوف في قبائل قريش يستعين بهم، فتخاذلت القبائل عنه. فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها في المسجد الحرام وقال: من البسيط
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرم شعث لم يقض عمرته ... يا آل غالب بين الحجر والحجر
أقائم في بني سهم بذمتهم ... أم ذاهب في ضلال مال معتمر
فلما نزل أعظمت قريش ذلك، فتكلمت فيه، فقال المطيبون: والله لئن تكلمنا في هذا لتغضبن الأحلاف. وقالت الأحلاف: والله لئن تكلمنا في هذا ليغضبن المطيبون. وقال ناس من قريش: تعالوا فلنكن حلفاء فضولاً دون المطيبين ودون الأحلاف، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان وصنع لهم يومئذ طعاماً كثيراً. وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله معهم يومئذ، وهو ابن خمس وعشرين سنة. فاجتمعت بنو هاشم وأسد وزهرة وتيم وتحالفوا على أن لا يظلم بمكة غريب ولا قريب، ولا حر ولا عبد، إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه، ويؤدوا إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم. ثم عمدوا إلى ماء زمزم فجعلوه في جفنة ثم بعثوا به إلى البيت فغسلت منه أركانه ثم أتوا به فشربوه. فحدثت عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يقول: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول. أما لو دعيت إلهي اليوم لأجبت، وما أحب أن لي به حمر النعم وأني نقضته. وكان معهم في الحلف بنو المطلب، فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول: لو أن رجلاً وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس حتى أدخل في حلف الفضول؛ ولم يكن عبد شمس في هذا الحلف.
وروي أن سبب حلف هذه القبائل أمر الغزال الذي سرق من الكعبة.
وقيل: كان بين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وبين الحسين بن علي عليهما السلام، والوليد يومئذ أمير على المدينة في زمن معاوية بن أبي سفيان، في مال كان بينهما بذي المروة. قال الحسين بن علي: استطال علي الوليد بسلطانه فقلت: أقسم بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول. فقال عبد الله بن الزبير وكان عند الوليد حين قال الحسين ما قال: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعاً. فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك، فبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ الوليد بن عتبة ذلك أنصف الحسين من حقه حتى رضي.
وقال عبد العزيز بن عمران: قدم أبو الطمحان القيني الشاعر، واسمه حنظلة بن الشرقي، فاستجار عبد الله بن جدعان التيمي ومعه مال من الإبل، فعدا عليه قوم من بني سهم، فانتحروا ثلاثة من إبله، فبلغه ذلك فأتاهم بمثلها وقال: أنتم لها ولأكثر منها أهل، فأخذوها وانتهروها ثم أمسكوا عنه زماناً، ثم جلسوا على شراب لهم، فلما انتشوا عدوا على إبله فاستاقوها كلها، فأتى عبد الله بن جدعان يستصرخه، فلم يكن فيه ولا في قومه قوة ببني سهم، فأمسك عنهم ولم ينصره، فقال أبو الطمحان:
ألا حنت المرقال واشتاق ربها ... تذكر أزماناً وأذكر معشري
ولو علمت صرف البيوع لسرها ... بيثرب أن تبتاع حمضاً بإذخر
أجد بني الشرقي أن أخاهم ... متى يعتلق جاراً وإن عز يغدر
ثم ارتحل عنهم.
وقدم لميس بن سعد البارقي مكة فاشترى منه أبي بن خلف سلعة فظلمه إياها، فمشى في قريش فلم يجد أحداً يجيره فقال:
أيظلمني مالي أبي سفاهة ... وبغياً ولا قومي لدي ولا صحبي
وناديت قومي صارخاً ليجيبني ... وكم دون قومي من فياف ومن سهب
ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي ... بني جمح والحق يؤخذ بالغصب
ثم كانت قصة الزبيدي، وقد ذكرت.
فأعظم الزبير بن عبد المطلب ذلك وقال: يا قوم إني والله أخشى أن يصيبنا ما أصاب الأمم السالفة من ساكني مكة. فمشي إلى ابن جدعان، وهو يومئذ شيخ قريش، فقال له مثل ذلك، وأخبره بظلم بني سهم وبغيهم. وقد كان أصاب بني سهم أمران لا يشك أنهما للبغي: احترق المقاييس منهم وهم قيس ومقيس وعبد قيس بصاعقة، وأقبل منهم ركب من الشام، فنزلوا بماء يقال له الغطيفة، فصبوا فضلة خمر لهم في إناء وشربوا ثم ناموا وقد بقيت منها بقية، فكرع فيها حية أسود ثم تقيأ في الإناء، فهب القوم فشربوا منه فماتوا عن آخرهم. فأذكره هذا ومثل. فتحالف بنو هاشم وبنو المطلب وبنو زهرة وبنو تيم: بالله القاتل إنا ليد واحدة على الظالم حتى يرد الحق. وخرجت سائر قريش من هذا الحلف إلا أن ابن الزبير ادعاه لبني أسد في الإسلام. وسأل معاوية جبير بن مطعم عن دعوى ابن الزبير في ذلك فقال جبير: هذا هو الباطل.
قام إلى عمر بن عبد العزيز رجل وهو على المنبر فقال: من الكامل
إن الذين بعثت في أقطارها ... نبذوا كتابك واستحل المحرم
طلس الذئاب على منابر أرضنا ... كل يجور وكلهم يتظلم
وأردت أن يلي الأمانة منهم ... عدل وهيهات الأمين المسلم
قال أنس: بينا عمر رضي الله عنه قاعد إذ جاء رجل من أهل مصر فقال: يا أمير المؤمنين، هذا مقام العائذ فقال عمر: لقد عذت عائذاً، فما شأنك؟ قال: سابقت على فرسي ابناً لعمرو بن العاص، وهو يومئذ على مصر، فمحك فجعل يقنعني بسوطه ويقول: أنا ابن الأكرمين، وبلغ عمراً فخشي أن آتيك فحبسني في السجن، فانفلت منه، فهذا حين أتيتك. فكتب عمر إلى عمرو ابن العاص: إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت وابنك فلان، وقال للمصري: أقم حتى يأتيك مقدم عمرو؛ فشهد الحاج فلما قضى عمر الحج، وهو قاعد مع الناس وعمرو بن العاص وابنه إلى جنبه، قام المصري فرمى عمر إليه بالدرة. قال أنس: فلقد ضربه ونحن نشتهي أن يضربه، فلم ينزع عنه حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين: قال: يا أمير المؤمنين قد اشتفيت، قال: ضعها على صلعة عمرو، قال: يا أمير المؤمنين قد ضربت الذي ضربني؛ قال: أم والله لو فعلت لما منعك أحد حتى تكون أنت الذي تنزع. ثم قال: يا عمرو متى تبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! فجعل يعتذر ويقول: إني لم أشعر بهذا.
قال رجل للمنصور كان يعاشره أيام بني مروان: كنت تحدث يا أمير المؤمنين قبل هذا الوقت بشيء أين أنت عنه الساعة؟ قال ما هو؟ قال كنت تقول: إن الخلافة إذا لم تقابل بإنصاف المظلوم من الظالم، ولم تعارض بالعدل في العرية، وقسمة الفيء بالسيوة، صار عاقبة أمرها بواراً، وحاق بولاتها سوء العذاب. قال: فتنفس الصعداء ثم قال: قد كان ما تقول، ولكن استعجلنا ما في الفانية على ما في الباقية، وكأن قد انقضت هذه الدار. فقال له الرجل: فانظر على أي حالة تنقضي، فقال المنصور: تباً تباً لعالم أصاره علمه غرضاً لسهام الخطايا، وهو عالم بسرعة أزوف المنايا، واللهم إن تقض للمسيئين صفحاً فاجعلني منهم، وإن تهب للظالمين عفواً فلا تحرمني منه ما يتطول به المولى على أخس عبيده.
قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: من اقتصد في الغني والفقر فقد استعد لنائبة الدهر.
وقال آخر: الاقتصاد ينمي القليل، والإسراف يبير الكثير، وهذا من عدل الأفعال.
حدث إياس بن سلمة عن أبيه قال: مر علي عمر وأنا في السوق وهو مار في حاجة ومعه الدرة، فقال: هكذا أمط عن الطريق يا سلمة. قال: ثم عفقني بها عفقة فما أصاب إلا طرف ثوبي، فأمطت عن الطريق. فسكت عني حتى كان في العام المقبل، فلقيني في السوق فقال: يا سلمة أردت الحج العام؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فأخذ بيدي فما فارقت يده حتى دخل في بيته، فأخرج كيساً فيه ستمائة درهم فقال: يا سلمة استعن بهذه، واعلم أنها من العفقة التي عفقتك عام أول قلت: والله يا أمير المؤمنين ما ذكرتها حتى ذكرتنيها؛ قال: أنا والله ما نسيتها بعد.
وقال الأحنف: كنت مع عمر فلقيه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، انطلق معي فأعدين على فلان فإنه قد ظلمني، فرفع الدرة فخفق بها رأسه وقال: تدعون أمير المؤمنين وهو معرض لكم، حتى إذا شغل في أمر من أمر المسلمين أتيتموه: أعدني أعدني، قال: فانصرف الرجل وهو يتذمر فقال: علي بالرجل، وألقى المخفقة فقال: امتثل، قال: ولكن أدعها لله ولك. قال: ليس هكذا، إما أن تدعها لله وإما أن تدعها لي، فاعلم ذلك. قال: أدعها لله. قال: انصرف. ثم جاء يمشي حتى دخل منزله ونحن معه، فافتتح الصلاة فصلى ركعتين ثم قال: يا بني الخطاب، كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاء رجل يستعدي فضربته، ما تقول لربك إذا أتيته؟ فجعل يعاتب نفسه في صلاته تلك معاتبة ظننا أنه من خير أهل الأرض.
دخل عمر على أبي بكر رضي الله عنهما فسلم عليه فلم يرد، فقال لعبد الرحمن بن عوف: أخاف أن يكون قد وجد علي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم عبد الرحمن أبا بكر فقال: أتاني وبين يدي خصمان، وقد فرغت لهما قلبي وسمعي وبصري، وعلمت أن الله سائلي عنهما وعما قالا وعما قلت.
كان لعثمان عبد فاستشفع بعلي أن يكاتبه فكاتبه، ثم دعا عثمان بالعبد فقال: إن كنت عركت أذنك فاقنص مني، فأخذ بأذنه ثم قال عثمان: شد شد، يا حبذا قصاص الدنيا لا قصاص الآخرة.
قال عبد الملك: لقد كنت أتحرج أن أطأ نملة، وإن الحجاج يكتب إلي في قتل فئام من الناس فما أحفل بذلك. فقال له الزهري: بلغني أنك شربت الطلاء قال: أي والله والدماء.
روي أن المنصور كان يطوف ليلاً بالبيت، إذ سمع قائلاً يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع. فخرج المنصور فجلس ناحية من المسجد، وأرسل إلى الرجل، فصلى ركعتين واستلم الركن ثم اقبل مع الرسول، فسلم عليه بالخلافة. فقال له المنصور: ما الذي سمعتك تذكر من ظهور الفساد والبغي في الأرض، وما الذي يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ قال: إن أمنتني يا أمير المؤمنين أعلمتك بالأمور من أصولها، وإلا اقتصرت على نفسي؛ قال: فأنت آمن على نفسك. قال: يا أمير المؤمنين، إن الله استرعاك أمر عباده وأموالهم، فجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر، وأبواباً من الحديد، وحراساً معهم السلاح، ثم سجنت نفسك عنهم؛ وبعثت عمالك في جبابة الأموال وجمعها، وأمرت أن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف إليك؛ ولا أحد إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصت لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، وأمرتهم أن لا يحجبوا دونك، تجبي الأموال وتجمعها قالوا: هذا قد خان الله، فما لنا لا نخونه، وائتمروا ألا يصل إليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولا خرج لك عامل إلا خونوه عندك، وبغوه حتى تسقط منزلته؛ فلما انتشر ذلك عنهم وعنك أعظمهم الناس وهابوهم وصانعوهم، وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك؛ ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك ليتناولوا ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بغياً وفساداً، وصار هؤلاء القوم شركاءك، وأنت غافل. فإن جاء متظلم حيل بينه وبينك، وإن أراد رفع قصته إليك وجدك قد نهيت عن ذلك، ووقفت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك الرجل المتظلم فبلغ بطانتك خبره، سأل بطانتك صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته إليك، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه، فإذا جهد وأخرج ثم ظهرت طرح بين يديك، فيضرب ضرباً مبرحاً حتى يكون نكالاً لغيره، وأنت تنظر فلا تنكر، فما بقاء الإسلام على هذا؟ وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين، فقدمتها مرة وقد أصيب ملكهم بسمعه، فبكى يوما ً فحداه جلساؤه على الصبر فقال: أما إني لي أبكي للبلية النازلة، ولكني أبكي لمظلوم يصرخ فلا أسمع صوته؛ فأما إذ ذهب سمعي فبصري لم يذهب؛ نادوا في الناس ألا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم. ثم كان يلتفت طرفي النهار هل يرى مظلوماً. فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله بلغت رأفته بالمشركين هذا المبلغ، وأنت مؤمن بالله ثم من أهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم، لا تغلبنك رأفتك بالمسلمين على شح نفسك. قال: فبكى المنصور ثم قال: ويحك كيف احتيالي لنفسي؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلاماً يفزعون إليها في دينهم فيرضون بها في دنياهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم يسددوك. قال: قد نفذت إليهم فهربوا مني، قال: خافوا أن تحملهم على طريقتك؛ ولكن افتح بابك، وسهل حجابك، وانصر المظلوم، واقمع الظالم، وخذ الفيء والصدقات على وجهها، وأنا ضامن عنهم أن يأتوك ويسعدوك على صلاح الأمة. وجاء المؤذنون فسلموا عليه فصلى وعاد إلى مجلسه؛ وطلب الرجل فلم يجده.
رفعت قصص إلى المهدي، فإذا قصة مكتوب عليها: قصة صاحب السمكة، فقال: ما هي؟ قال الربيع: بينا أبوك مشرفاً على دجلة إذ بصر بملاح صاد سمكة، فوجه خادماً إليه ليشتريها، فاستامها بدينار، فأبى وباعها من تاجر باثني عشر درهماً، فاستحضر التاجر وقد شوى السمكة فأخذها منه وأكلها وقال له: لو لم يكن معك مال لما اشتريت سمكة باثني عشر درهماً، وأمر خادمه أن يذهب إلى منزله ويحمل ما أصاب في صناديقه، فجاء ببدرتين فقال: أنا رجل معيل وعلي مؤونة، فاعطاه منها أربعمائة درهم يتعيش بها. فأمر المهدي أن تطلب البدرتان في بيت المال فجيء بهما مكتوب عليها: مال صاحب السمكة. فقال المهدي: اجعل أبي في حل فإنه كان مسرفاً على نفسه وخذ المال.
لقي سفيان الثوري شريكاً بعدما استقضي فقال: يا أبا عبد الله، بعد الإسلام والخير والفقه تلي القضاء؟! فقال: يا أبا عبد الله لا بد للناس من قاض، قال: يا أبا عبد الله لا بد للناس من شرطي.
قيل: لم يرتش حكم في الجاهلية غير ضمرة بن ضمرة النهشلي، تنافر إليه عباد بن أنف الكلب الصيداوي ومعبد بن نضلة الفقعسي، فرشاه عباد مائة بعير فنفره على معبد.
قال الحسن: كان القاضي في بني إسرائيل إذا اختصم إليه الخصمان رفع أحدهما الرشوة في كمه، فأراه إياها فلا يسمع إلا قوله. فأنزل الله تعالى: " سماعون للكذب أكالون للسحت " " المائدة: 42 " .
قال الحجاج لبعض الدهاقين من الري: ما بال بلدكم قد خرب؟ فقال: لأن عمالكم استعملوا فيه قول شاعركم: من السريع
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك تدري من الناتج
واصبب لأضيافك ألبانها ... فإن شر اللبن الوالج
روي أن أبرويز نزل بامرأة متنكراً، فحلبت له بقرة، ورأى لها لبناً كثيراً. فقال للمرأة: كم يلزمك في السنة للسلطان عن هذه البقرة؟ فقالت: درهم واحد. قال: وأين ترتع؟ وبكم منها ينتفع؟ قالت: ترتع في أرض السلطان، ولي منها قوتي وقوت عيالي. فجعل في نفسه أن يجعل إتاوة على البقرة، فما لبث أن قالت المرأة: أوه إن سلطاننا هم بجور، فقال أبرويز لها: ولمه؟ قالت: إن درة البقرة انقطعت، وإن جور السلطان مقتض لجدب الزمان كما أن عدله مقتض لخصب الزمان. فأقلع أبرويز عما هم به.
كتب أخ لمحمد بن يوسف الأصفهاني إليه من أصفهان، يشكو إليه جور السلطان، فكتب إليه محمد: أما بعد، فهمت كتابك وما ذكرت فيه، وليس ينبغي لمن عمل الذنب أن ينكر العقوبة.
قدم مرزبان من مرازبة القرى على أبي عبد الله وزير المهدي فقال: وليت علينا رجلاً، إن وليته وأنت تعرفه فما خلق الله رعية أهون عليك منا، وإن لم تعرفه فما هذا جزاء الملك الذي ولاك أمره، وسلطك على ملكه. فدخل الوزير على المهدي وخرج وقال: هذا رجل كان له علينا حق فكافأناه فقال: أصلحك الله، إن على باب كسرى ساجة منقوشة بالذهب مكتوباً عليها: العمل للكفاة، وقضاء الحقوق على بيوت الأموال، فأمر بعزله.
قيل لمعاوية: إن أبا مسلم الخولاني يطوف ويبكي على الإسلام، فقال له: سمعت أنك تطوف وتبكي على الإسلام، فقال: نعم، وما اسمك؟ قال: معاوية. قال: يا معاوية إن عملت خيراً جزيت خيراً، وإن عملت شراً جزيت شراً، إنك لو عدلت بين أهل الأرض ثم جرت على واحد منهم لما وفى جورك بعدلك.
قال سليمان بن علي لعمرو بن عبيد: ما تقول في أموالنا التي نصرفها في سبيل الخير؟ فأبطأ عمرو في الجواب يريد به وقار العلم ثم قال: إن من نعمة الله على الأمير أنه أصبح لا يجهل أن من أخذ الشيء من حقه، ووضعه في وجهه، فلا تبعة عليه غداً. فقال: نحن أحسن ظناً بالله منكم، فقال: أقسم على الأمير بالله عز وجل هل يعلم أحداً كان أحسن ظناً بالله من رسوله؟ قال: لا، قال: فهل علمته أخذ شيئاً قط من غير حله ووضعه في غير حقه؟ قال: اللهم لا، قال: حسن الظن بالله أن تفعل ما فعل رسول الله عليه السلام.
قيل: أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه عليهم السلام: إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني.
قال ابن عباس: ليس للظالم عهد فإن عاهدته فانقضه، فإن الله عز وجل يقول " لا ينال عهدي الظالمين " " البقرة: 124 " .
قدم المنصور البصرة قبل الخلافة فنزل بواصل بن عطاء فقال: إن أبياتاً بلغتني عن سليمان بن يزيد العدوي في العدل، فمر بنا إليه. فأشرف عليهم من غرفة فقال لواصل: من هذا الذي معك؟ قال عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فقال: رحب على رحب، وقرب إلى قرب. فقال: يحب أن يسمع أبياتك في العدل فأنشده: من البسيط
حتى متى لا نرى عدلاً نسر به ... ولا نرى لولاة الحق أعوانا
مستمسكين بحق قائمين به ... إذا تلون أهل الجور ألوانا
يا للرجال لداء لا دواء له ... وقائد ذي عمى يقتاد عميانا
فقال المنصور: وددت أني رأيت يوم عدل ثم مت.
قال ابن المبارك: فهلك أبو جعفر والله وما عدل.
استعدت أروى بنت أويس مروان بن الحكم على سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وقالت: أخذ حقي فأدخله في أرضه، فقال سعيد: كيف أظلمها وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله من سبع أرضين يوم القيامة. وترك لها سعيد ما ادعت ثم قال: اللهم إن كانت أروى ظلمتني فأعم بصرها واجعل قبرها في بيتها، فعميت وخرجت في بعض حاجاتها فوقعت في البئر فماتت. ولما عميت سألت سعيداً أن يدعو لها وقالت: إني قد ظلمتك فقال: لا أرد ما أعطانيه الله.
روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: إذا جار الحاكم قل المطر، وإذا غدر بالذمة ظفر العدو، وإذا ظهرت الفاحشة كانت الرجفة.
قال احمد بن نصير: قدم إلي مجوسي لأضربه فقال: يا هذا اضرب بقدر ما تقوى عليه، يريد القصاص في الآخرة، فتركته وتركت عمل السلطان.
قال خياط لابن المبارك: أنا أخيط ثياب السلاطين، فهل تخاف علي أن أكون من أعوان الظلمة؟ قال: لا، إنما أعوان الظلمة من يبيع منك الخيط والإبرة، أما أنت فمن الظلمة أنفسهم.
خطب المهدي يوماً فقال: عباد الله اتقوا الله، فقام رجل فقال: وأنت فاتق الله، فإنك تعمل بغير الحق. فأخذ الرجل وأدخل عليه فقال: يا ابن الفاعلة تقول لي وأنا على المنبر اتق الله؟ فقال الرجل: سوءة لك، لو غيرك قالها كنت المستعدي عليه قال: ما أراك إلا نبطياً قال: ذاك أوكد للحجة عليك أن يكون نبطي يأمرك بتقوى الله.
قال عبد العزيز العمري للمهدي: اعلم أن دوابك التي تركب تمسح بالمناديل، ويبرد لها الماء، وينقى لها العلف، فتعجبك شحومها وبريقها وحسن ألوانها، ودينك أعجف قاتم أغبر، والله لو رأيته لساءك منظره.
ذكر هشام عند محمد بن كعب القرظي وثم محمد بن علي بن الحسين فوقع فيه، فقال القرظي: ليس بأسيافكم ترجون أن تنالوا ما تريدون. إن ملكاً من ملوك بني إسرائيل عتا عليهم فانطلق نفر منهم إلى حبرهم وقالوا: تخرج عليه. فقال: ليس بأسيافكم ترجون أن تنالوا ما تريدون، ولكن انطلقوا فصوموا عشراً، وقوموا ولا تظلموا فيها أحداً ولا تطؤوا فيها امرأة. فجاءوا بعد عشر فقال: زيدوا عشراً أخر، فلم يزالوا حتى بلغوا أربعين. ثم قال لهم: اجتمعوا وادعوا الله أن يكفيكم ففعلوا. فدعا الملك ببرذون له، وأمر سائسه بإسراجه، فتشاغب وامتنع البرذون، فغضب الملك وقام وأسرجه وركبه، فجمح به حتى ألقاه فتقطع وهلك. فقال الحبر: هكذا إذا أردتم أن تقتلوا من ظلمكم.
نوادر من هذا الباب اختصم رجلان إلى قاض، فدنا أحدهما منه وقال له سراً: قد وجهت إلى الدار فراريج كسكرية وحنطة بلدية وكذا وكذا، فقال القاضي بصوت عال: إذا كانت لك بينة غائبة انتظرناها، ليس هذا مما يسار به.
حضر جماعة من أهل زنجان باب السلطان، فشكوا ثقل متوليهم وتضاعف المؤن عليهم فأجيبوا إلى حطيطة، فقالوا نحب أن يقتصر منا على الأخماس بدل الأعشار، فصار ذلك بجهلهم رسماً عليهم.
كان الفضل بن العباس اللهبي ثقيل البدن تتعذر الحركة عليه، وكان بخيلاً فاشتري له حمار، فقال للذي اشترى له الحمار: إني لا أطيق علفه، فإما أن بعثت إلي بقوته وإلا رددته. فكان يبعث إليه بعلف كل ليلة، ولا يدع هو أن يطلب من كل أحد يأنس به علفاً، ويعلف الحمار التبن، ويبيع الشعير، حتى هزل وعطب. فرفع الحزين الكناني إلى ابن حزم أو غيره قصة، وكتب في رأسها قصة حمار الفضل اللهبي، وشكا فيها أنه يركبه ويأخذ علفه وقضيمه من الناس، فيبيع الشعير ويعلفه التبن، ويسأل أن ينصف منه فقراء الرقعة، وضحك وقال: لئن كنت مازحاً إني لأظنك صادقاً، فأمر بتحويل الحمار إلى اصطبله ليعلفه ويركبه اللهبي متى أراد.
ابن حجاج من قصيدة له مشهورة: من الخفيف
ومن الجور والحديث شجون ... جائع بات أيره شبعانا
قيل: كان على الري قاض يكنى أبا حزوة، اختصم إليه قوم في عقد من لؤلؤ وجوهر، فوضع الجوهر بين يدي القاضي وهم يختصمون، فأخذ القاضي حجراً منه فوضعه في فيه ثم ابتلعه، وأعرابي ينظر إليه، ففطن له الأعرابي وأنشأ يقول: من البسيط
دعوت رب شعيب أن ينجيني ... من كورة يبعر الياقوت قاضيها
إن التي كان أوعاها فأخرجها ... دلت على عذرات كان يخفيها
ولى المنصور سليمان بن راميل، وضم إليه ألفاً من العجم، فقال: قد ضممت إليك ألف شيطان تذل بهم الخلق. فعاثوا في نواحي الموصل، فكتب إليه كفرت النعمة يا سليمان، فأجاب " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " " البقرة: 102 " فضحك المنصور وأمده بغيرهم.
شكا رجل إلى كسرى بعض عماله وأنه غصبه ضيعة، فقال له: قد أكلتها أربعين سنة، فما عليك أن تتركها على عاملي سنة؟ قال: أيها الملك وما عليك أن تسلم ملكك إلى بهرام فيأكله سنة؟ فأمر أن يوجأ في عنقه فقال: أيها الملك دخلت بمظلمة وأخرج بمظلمتين؟ فأمر برد ضيعته وقضى حوائجه.
غزا محمد بن واسع خراسان مع قتيبة، فرعوا الزرع، وأخذ هو بعنان فرسه يتخلل به الأودية. فقال له دهقان القرية: أنت الذي أهلكتني، قال: كيف؟ قال: لولا أنت لهلك هؤلاء.
دخل رجل على الحجاج فقال: ما عندك؟ قال: علم ألسنة الطير، فإذا هامتان تجاوبتا فقال: ما تقولان؟ قال: تخطب إحداهما بنت الأخرى فتقول لها: لا أزوجك إلا بأربعمائة قصر منيف خراب؟ قال: أين تجد ذلك؟ قال: ما دام مثلك حياً لا نعدمه، قال: كيف؟ قال: إنك تقتل الأخيار وتعطل الديار.
ألح رجل من المتظلمين على أحمد بن الخصيب وهو راكب إلى المنتصر، فركله فقيل فيه: من الكامل
قل للخليفة يا ابن عم محمد ... اشكل وزيرك إنه ركال
ومثله ما رفع إلى المأمون أن قاضياً له كان يعض الخصوم فوقع في الرقعة: يشنق.
خطب علي عليه السلام أهل الكوفة ودعا إلى الجهاد، فقال أربد الفزاري: والله لا نجيبك، فضربه قوم من همدان حتى مات، فوداه علي من بيت المال، فقال علاقة بن عركي التميمي: من الطويل
معاذ إلهي أن تكون منيتي ... كما مات في سوق البراذين أربد
تعاوره همدان خصفاً نعالها ... إذا رفعت عنه يد وقعت يد
أخرج أبو علي ابن رستم عاملاً إلى بعض النواحي، وكان في القرية حمام كثير، فعدها وأخذ واحدة منها وشق حوصلتها، وعد الحبوب الموجودة فيها، واحتسب بذلك وقال: إن كل حمامة تأكل في السنة من الحنطة كذا، فألزمهم ذلك، فكتب إليه أبو علي كتاباً وفي آخره: من الرجز
عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طرادي الطير عن أرزاقها
في سنة قد كشفت عن ساقها
وهي من أبيات لرؤبة بن عيينة.
وقال آخر: الرمل المجزوء
يتغنى القيد في رج ... ليه ألوان الغناء
باكياً لا رقأت عي ... ناه من طول البكاء
أقام عامل على دهقان عونين وأمرهما بنتف سباله، فقال: لم تفعل هذا أصلحك الله؟ قال: حتى تصحح خراجك، وخراج أهل بيتك، وخراج شركائك، فلما أطال رفع رأسه إلى العونين فقال: انتفا على بركة الله.
كان معلم يقعد أبناء المياسير في الظل، وأبناء الفقراء في الشمس ويقول: يا أهل الجنة ابزقوا على أهل النار.
كان صاحب ربع يتشيع، فارتفع إليه خصمان اسم أحدهما علي والآخر معاوية، فتحامل على معاوية فضربه مائة مقرعة من غير أن اتجهت عليه حجة، ففطن من أين أتي فقال: أصلحك الله، سل خصمي عن كنيته، فإذا هو أبو عبد الرحمن، فبطحه وضربه مائة مقرعة، فقال لصاحبه: ما أخذت مني بالاسم استرجعته منك بالكنية.
كان أبو ضمضم على شرطة الكوفة، فلم يحدث في عمله حادث، فأخذ رجلاً من عرض الناس فجرده للسياط، واجتمع عليه النظارة، فقال الرجل: ما ذنبي أصلحك الله؟ قال: أحب أن تجملنا بنفسك ساعة.
قال كعب: نهيق الحمار دعاء على الظلمة، فحدث به المسيب بن شريك فقال: لو علمت أن هذا حقاً لزدت في قضيم حماري.
قال أبو المطراب وهو من لصوص الحجاز وقد تاب فظلم: من الوافر
ظلمت الناس فاعترفوا بظلمي ... فتبت فأزمعوا أن يظلموني
فلست بصابر إلا قليلاً ... فإن لم ينتهوا راجعت ديني
تقدم رجلان إلى قاض، فتكلم أحدهما ولم يترك الآخر يتكلم، فقال: أيها القاضي يقضي على غائب، قال: كيف؟ قال: أنا غائب إذا لم أترك أن أتكلم.
بنى ابن أسد قصراً بالبصرة، وكانت في جانب منه حجرة صغيرة لعجوز كانت تساوي عشرين ديناراً، فاحتاج إليها وطلبها بمائتي دينار، فأبت. فقيل لها: إن القاضي يحجر عليك لسفاهتك لأنك ضيعت مائتين فيما قيمته عشرون، فقالت: ولم لا يحجر على من يشتري بمائتين ما يساوي عشرين؟ فحجت فاشتريت بثلاثمائة دينار.
كان لسعيد بن خالد القرشي طائر اسمه كسرى، وفرخ له اسمه ساسان، فأكل الفرخ سنور جار له يعرف بأنس، فكتب إلى العلاء بن منظور صاحب شرطة الكوفة، وهو الذي وهب له كسرى: من الرمل
يا ابن منظور بن قيس دعوة ... ضوءها أنور من ضوء القبس
إن ساسان بن كسرى غاله ... في سواد الليل سنور أنس
فأقدنا منه أو أخلفه أو ... خل بين الناس من عز افترس
قيل: أخذ رجل ذئباً وهو يعظه ويقول له: إياك وأخذ أغنام الناس فيعاقبك الله، والذئب يقول: خفف واقتصر، فقدامي قطيع من الغنم لا يفوتني.
انحدر القاضي أبو بكر ابن قريعة إلى ضيعة له، فلما وصلت سميريته إلى شاطئ القرية سبق أكار من أكرته يهودي اسمه شعيب، ومعه جماعة، فتظلم من وكيله وأعطاه رقعه كان قد كتبها له معلم في القرية في وقتها بالحبر، وأخذها وطواها وهي رطبة فانطمس أكثرها. فلما دفعها إلى القاضي أعطاها لكاتبه فقال: اقرأ ما فيها، فلم يفهم شيئاً من المكتوب فيها، فأطال استخراجه لها، والقاضي مستوفز والأكرة يصيحون، فضاق صدره واستبطأ كاتبه، فأخذ الرقعة من يديه ليقرأها فكانت صورته مثل صورة الكاتب فردها إليه وقال له: وقع فيها " يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز " " هود: 91 " وادفع الرقعة إليه، ونهض من السميرية صاعداً.
يتلوه: باب العقل والحمق.
الباب الثالث عشر
في العقل الحنكة والتجارب
والحمق والجهل
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم إنا نحمدك على مزية العقل التي خصصت بها الإنسان، وفضلته بها على الحيوان، وجعلته إلى معرفتك سبيلاً، وعلى فوائد فضلك دليلاً، واعتمدت عليه في التكليف والعبادة، ووعدت عليهما خير الجزاء والإفادة، ووقفتنا به على دقائق المعلومات، وبينت لنا به مناهج الخيرات، فاهتدي إليها من اهتدى بتوفيقك وتسديدك، وضل عنها وحار من عدم الإعانة من توفيقك وتأييدك. ونعوذ بك من الجهل المضل عن سنن هداك القويم ورشدك، الداعي إلى سخطك الأليم وغضبك. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنفي الضلالة، وتشفي من عمى الجهالة، وأسأله الصلاة على رسوله المصطفى ونبيه المجتبى، الذي دلت على بعثته العقول والألباب، وخصمت حجته الجهول والمرتاب، ووضحت به معالم الهدى فاستنارت، وكسدت بضائع النفاق فبارت، وعلى آله وأصحابه، أهل الفضل وأربابه.فضيلة العقل أن الله عز وجل لم يخاطب إلا أهله، وجعل التكليف عليه، ورفع به درجاتهم لديه، وجعل جميع مخلوقاته التي لا تعقل، وإن عظمت جثة وقوة وبطشاً، آلة وخدماً وسخرياً للعقلاء؛ قال الله تعالى " وليذكر أولو الألباب " " إبراهيم: 52 " " وما يذكر إلا أولو الألباب " " البقرة: 269 " وهل في ذلك قسم لذي حجر " " الفجر: 5 " وبين عز وجل خيبة من لم يعقل بقوله " لينذر من كان حياً " " يس: 70 " قيل عاقلاً " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " " الملك: 10 " .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، بك آخذ، وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب.
وروي عنه صلى الله عليه وعلى آله أنه قال: إن الله قسم العقل على ثلاثة أجزاء، فمن كن فيه كمل عقله، ومن لم يكن فيه جزء منها فلا عقل له. قيل: يا رسول الله ما أجزاء العقل؟ قال: حسن المعرفة بالله، وحسن الطاعة لله، وحسن الصبر على أمر الله.
وقال صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس، اعقلوا عن ربكم، وتواصلوا بالعقل تعرفوا به ما أمرتم به وما نهيتم عنه؛ والخبر طويل.
وقال أنس بن مالك: أثنى قوم على رجل عند النبي صلى الله عليه وعلى آله حتى بالغوا، فقال صلى الله عليه وعلى آله: كيف عقل الرجل؟ فقالوا: نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله: إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتقع العباد غداً في الدرجات زلفى من ربهم على قدر عقولهم.
وعن عمر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي صاحبه إلى هدى، ويرده عن ردى. وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: لكل شيء دعامة، ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته. أما سمعتم قول الفاجر " لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " .
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لتميم الداري: ما السؤدد فيكم؟ قال: العقل، قال: صدقت، سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله كما سألتك، فقال كما قلت، ثم قال: سألت جبريل ما السؤدد فقال: العقل.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله بأي شيء تفاضل الناس في الدنيا؟ قال بالعقل، قلت: وفي الآخرة؟ قال: بالعقل. قلت: أليس إنما يجزون بأعمالهم؟ فقال: يا عائشة، وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم الله تعالى من العقل؟ فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم، وبقدر ما عملوا يجزون.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن أحب المؤمنين إلى الله من نصب في طاعة الله، ونصح لعباده، وكمل عقله، ونصح نفسه فأبصر، وعمل به أيام حياته فأفلح وأنجح.
وقال صلى الله عليه وسلم: أتمكم عقلاً أشدكم خوفاً، وأحسنكم فيما أمر به ونهى عنه نظراً، وإن كان أقلكم تطوعاً.
قال لقمان لابنه: يا بني إن غاية الشرف والسؤدد في الدنيا والآخرة حسن العقل لأن العبد إذا حسن عقله غطى ذلك عيوبه، وأصلح مساوئه، ورضي عنه خالقه. وكفى بالمرء عقلاً أن يسلم الناس من شره.
ومن كلامه: أن تكون أخرس عاقلاً، خير من أن تكون نطوقاً جاهلاً. ولكل شيء دليل، ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر الصمت، وكفى بك جهلاً. أن تنهي الناس عن شيء وتركبه.
وقال بزرجمهر: لا شرف إلا شرف العقل، ولا غنى إلا غنى النفس.
وقال أردشير: من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خلال الخير عليه.
قيل: مكتوب في حكمة آل داود عليه السلام: على العاقل أن يكون عالماً بأهل زمانه، مالكاً للسانه، مقبلاً على شانه.
قال أبو عطاء السندي: من الوافر
فإن العقل ليس له إذا ما ... تذكرت الفضائل من كفاء
وإن النوك للأحساب غول ... به تأوي إلى داء عياء
فلا تثقن من النوكى بشيء ... وإن كانوا بني ماء السماء
وأما حقيقة العقل ومعناه وحده فقد كثر اختلاف الناس فيه، فقالت طائفة: هو ما وقع عليه التكليف، والناس فيه مستوون لا يتفاوتون فيه، ولا يرجح كبيرهم على صغيرهم؛ وإنما التفاوت الذي نراه في العالم بالتجارب وزيادة بعضهم على بعض في الذكاء والفطنة والحس وغير ذلك. وقالت طائفة: هو متفاوت، وزيادة الناس فيه بعضهم على بعض ظاهرة واضجة. وهذا معتبر معلوم، وقد نرى الصبي في أول عمره ومبدأ أمره قبل التجربة أعقل من شيخ مجرب قد حلب الدهر أشطره، وذاق حلوه ومره. ومن مليح ما وصف به العقل أنه نور يقذف في القلب تدرك به المعلومات.
وليس هذا موضع اختلاف الناس فيه، فإنه بكتب الأصول أليق، ولكني أورد ما بينه أبو حامد الغزالي رحمه الله مختصراً فإنه أنصف وحقق وأوضح.
قال أبو حامد: العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معان كما يطلق اسم العين مثلاً على معان عدة، وما يجري هذا المجرى، فلا ينبغي أن يطلب لجميع أقسامه حد واحد، بل يفرد كل قسم بالكشف عنه:
الأول: الوصف الذي به يفارق الإنسان سائر البهائم، وهو الذي بعد استعد لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الفكرية، وهو الذي أراده الحارث المحاسبي حيث قال في حد العقل: إنه غريرة يتهيأ بها درك العلوم النظرية. ولم ينصف من أنكر هذا ورد العقل إلى مجرد العلوم الضرورية، فإن الغافل عن العلوم والنائم يسميان عاقلين باعتبار وجود هذه الغزيرة مع فقد العلوم، وكما أن الحياة غريزة بها يتهيأ الجسم للحركات الاختيارية والإدراكات الحسية، فكذلك العقل غزيرة بها يتهيأ بعض الحيوانات للعلوم النظرية، ولو جاز أن يسوى بين الإنسان والحمار في الغزيرة. وقال: لا فرق إلا أن الله تعالى بحكم إجراء العادة يخلق في الإنسان علوماً ليس يخلقها في الحمار والبهائم لجاز أن يسوى بين الجماد والحمار في الحياة. ويقال لا فرق إلا أن الله يخلق في الحمار حركات مخصوصة بحكم إجراء العادة، فإنه لو قدر الحمار جماداً صمتاً لوجب القول بأن كل حركة تشاهد منه فالله قادر على خلقها فيه على الترتيب المشاهد. وكما وجب أن يقال لم تكن مفارقته للجماد في الحركة إلا لغريرة اختصت به عبر به عنها بالحياة، فكذا مفارقة الإنسان البهيمة في إدراك العلوم النظرية بغريزة يعبر عنها بالعقل. وهي كالمرآة التي تفارق غيرها من الأجسام في حكاية الصورة والألوان لصفة اختصت بها، وهي الصقالة؛ وكذلك العين تفارق الجبهة في هيئات وصفات بها استعدت للرؤية. فنسبة هذه الغريزة إلى العلوم نسبة العين إلى الرؤية، ونسبة القرآن والشرع إلى هذه الغريزة في سياقها إلى انكشاف العلوم لها كنسبة نور الشمس إلى البصر. فهكذا ينبغي أن تفهم هذه الغريزة.
الثاني: هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين. وهو الذي عناه بعض المتكلمين حيث قال في حد العقل: إنه بعض العلوم الضرورية بجواز الجائزات واستحالة المتسحيلات، وهو أيضاً صحيح في نفسه، لأن هذه العلوم موجودة وتسميتها عقلاً ظاهر، وإنما الفاسد أن تنكر تلك الغريزة ويقال: لا موجود إلا هذه العلوم.
الثالث: علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال. فإن من حنكته التجارب وهذبته المذاهب يقال إنه عاقل في العادة، ومن لا يتصف به يقال إنه غبي جاهل. فهذا نوع آخر من العلوم يسمى عقلاً.
والرابع: أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور، ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ويقهرها، فإذا حصلت هذه القوة سمي صاحبها عاقلاً من حيث أن إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة. وهذه أيضاً من خواص الإنسان التي بها يتميز عن سائر الحيوانات.
فالأول هو الأس والسنخ والمنبع، والثاني هو الفرع الأقرب إليه، والثالث فرع الأول والثاني، إذ بقوة الغريزة والعلوم تستفاد علوم التجارب، والرابع هو الثمرة الأخيرة، وهي الغاية القصوى؛ فالأولان بالطبع، والأخيران بالاكتساب.
ولذلك قال علي عليه السلام: العقل عقلان: فمطبوع ومسموع، ولا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوع، كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع. والأول هو المراد بقوله عليه السلام: ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من العقل. والأخير هو المراد بقوله عليه السلام: إذا تقرب الناس بأبواب البر فتقرب أنت بعقلك. وهو المراد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء رضي الله عنه: ازدد عقلاً تزدد من ربك قرباً فقال: بأبي أنا وأمي، وكيف لي بذلك؟ فقال: اجتنب محارم الله، وأد فرائض الله تكن عاقلاً، واعمل بالصالحات من الأعمال تزدد في عاجل الدنيا رفعة وكرامة وتنل من ربك القرب والعز.
وعن سعيد بن المسيب أن عمر وأبي بن كعب وأبا هريرة دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله من أعلم الناس؟ فقال: العاقل، فقالوا: فمن أفضل الناس؟ قال: العاقل، قالوا: أليس العاقل من تمت مروءته، وظهرت فصاحته، وجادت كفه، وعظمت منزلته؟ فقال عليه السلام: " وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا، والآخرة عند رب للمتقين " " الزخرف: 35 " إن العاقل هو المتقي وإن كان في الدنيا خسيساً دنياً. وقال في حديث آخر: إنما العاقل من آمن بالله، وصدق رسله، وعمل بطاعته.
ويشبه أن يكون الأسم في أصل اللغة لتلك الغريزة وكذا في الاستعمال، وإنما أطلق على العلوم من حيث أنها ثمرتها كما يعرف الشيء بثمرته، فيقال: العلم هو الخشية، والعالم من يخشى الله، فإن الخشية ثمرة العلم، فيكون كالمجاز لغير تلك الغريزة. ولكن ليس الغرض البحث عن اللغة. والمقصود أن هذه الأقسام الأربعة موجودة، والاسم يطلق على جميعها، ولا خلاف في وجود جميعها إلا في القسم الأول؛ والصحيح وجودها بل هي الأصل. وهذه العلوم كأنها مضمنة في تلك الغريزة بالفطرة، ولكن تظهر إلى الوجود إذا جرى سبب يخرجها إلى الوجود حتى كأن هذه العلوم ليست شيئاً وارداً عليها من الخارج، وكأنها كانت مستكنة فيها فظهرت. ومثاله الماء في الأرض، فإنه يظهر بحفر القني ويجتمع ويتميز للحس لا بأن يساق إليها شيء جديد، وكذلك الدهن في اللوز وماء الورد، ولذلك قال تعالى: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " " الأعراف: 172 " فالمراد به إقرار نفوسهم لا إقرار الألسنة، فإنهم انقسموا في إقرار الألسنة حيث وجدت الألسنة والأشخاص، ولذلك قال تعالى " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " " الزخرف: 87 " معناه إن اعتبرت أحوالهم شهدت بذلك نفوسهم وبواطنهم " فطرة الله التي فطر الناس عليها " " الروم: 30 " أي كل آدمي فطر على الإيمان بالله بل على معرفة الأشياء على ما هي عليه، أعني أنها كالمضمنة فيها لقرب استعدادها للإدراك. ثم لما كان الإيمان مركوزاً في النفوس بالفطرة انقسم الناس إلى من أعرض فنسي، وهم الكفار، وإلى من أجال خاطره فتذكر فكان كمن حمل شهادة فنسيها بغفلة ثم تذكرها. لذلك قال تعالى: " لعلهم يتذكرون " " البقرة: 221 " " وليتذكر أولو الألباب " " ص: 29 " " واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به " " المائدة: 7 " " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر " " القمر: 17 " ؛ وتسمية هذا النمط تذكراً ليس ببعيد، وكأن التذكر ضربان أحدهما: أن تذكر صورة كانت حاضرة الوجود في القلب لكن غابت بعد الوجود، والآخر أن يكون عن صورة كانت مضمنة فيه بالفطرة. وهذه حقائق ظاهرة للناظر بنور البصيرة، ثقيلة على من ستر وجه السماع والتقليد دون الكشف والعيان، ولذلك تراه يتخبط في مثل هذه الآيات ويتعسف في تأويل التذكر وإقرار النفوس أنواعاً من التعسفات، ويتخايل إليه في الأخبار والآيات ضروب من المناقضات، ومثاله مثال الأعمى الذي يدخل داراً فيعثر فيها بالأواني المصفوفة في الدار، فيقول: ما لهذه الأواني لا ترفع من الطريق وترد إلى مواضعها؟ فيقال له: إنها في مواضعها وإنما الخلل في بصرك. فكذلك خلل البصيرة يجري مجراه وأعظم، إذ النفس كالفارس والبدن كالفرس، وعمى الفارس أضر من عمى الفرس. ولمشابهة بصيرة الباطن لبصيرة الظاهر قال الله تعالى " ما كذب الفؤاد ما رأى " " النجم: 11 " قال " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض " " النعام: 75 " وسمى ضده عمى فقال " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " " الحج: 46 " وقال تعالى: " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً " " الإسراء: 72 " وهذه الأمور التي كشفت للأنبياء: بعضها كان بالبصر، وبعضها بالبصيرة، وسمي الكل رؤية.
قال أبو حامد: والحق الصريح أن التفاوت يتطرق إلى الأقسام الأربعة، سوى القسم الثاني، وهو العلم الضروري بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات. فإن من عرف أن الاثنين أكثر من الواحد عرف أيضاً استحاله كون الشخص في مكانين وكون الشيء الواحد قديماً وحادثاً، وكل من يدركه يدركه محققاً من غير شك. فأما الأقسام الثلاثة فالتفاوت يتطرق إليها. أما القسم الرابع وهو استيلاء القوة على قمع الشهوات لا يخفى تفاوت الناس فيه، بل لا يخفى تفاوت أحوال الشخص الواحد. وهذا التفاوت تارة يكون لتفاوت الشهوة إذ قد يقدر العاقل على ترك بعض الشهوات دون بعض ولكن غير مقصور عليه، فإن الشاب قد يعجز عن ترك الزنا وإذا كبر وتم عقله قدر عليه؛ وشهوة الرياء والرياسة تزداد قوة بالكبر لا ضعفاً، وقد يكون سببه التفاوت في العلم المعرف لغائلة تلك الشهوة. ولهذا يقدر الطبيب على الاحتماء عن بعض الأطعمة المضرة، وقد لا يقدر من يساويه في العقل إذا لم يكن طبيباً، وإن كان يعتقد على الجملة فيه مضرة. وإذا كان علم الطبيب أتم كان خوفه أشد، فيكون الخوف جنداً للعقل وعدة في قمع الشهوة وكسرها. ولذلك يكون العالم أقدر على ترك المعاصي من العامي لقوة علمه بضرر المعاصي. فإن كان التفاوت من جهة الشهوة لم يرجع إلى تفاوت العقل، وإن كان من جهة العلم فقد سميناً هذا الضرب من العلم عقلاً فإنه يقوي غريزة العقل فيكون التفاوت فيما رجعت التسمية إليه. وقد يكون لمجرد التفاوت في غريزة العقل فإنها إذا قويت كان قمعها للشهوة لا محالة أشد.
وأما القسم الثالث وهو علم التجارب فتفاوت الناس فيها لا ينكر، فإنهم يتفاوتون بكثرة الإصابة وبسرعة الإدراك، ويكون سببه إما تفاوت في الغريزة، وإما تفاوت في الممارسة. أما الأول وهو الأصل أعني الغريزة فالتفاوت فيه لا سبيل إلى جحده فإنه مثل نور يشرق على النفس ويطلع صبحه، ومبادي إشراقه عند سن التمييز، ثم لا يزال ينمي ويزداد نمواً خفي التدرج إلى أن يتكامل بقرب الأربعين سنة، مثاله نور الصبح، فإن أوائله تخفى خفاء يكاد يشق إدراكها، ثم يتدرج إلى الزيادة إلى أن يكمل بطلوع قرص الشمس. وتفاوت نور البصيرة كتفاوت نور البصر، فالفرق مدرك بين الأعمش وبين الحاد البصر، بل سنة الله جارية في جميع خلقه بالتدريج في الإيجاد حتى إن غريزة الشهوة لا تركن في الصبي عند البلوع دفعة وبغتة، بل تظهر شيئاً شيئاً على التدريج، وكذا جميع القوى والصفات. فمن أنكر تفاوت الناس في هذه الغريزة فكأنه من خلع عن ربقة العقل، ومن ظن أن عقل النبي صلى الله عليه وسلم مثل عقل آحاد السوادية وأجلاف البوادي فهو أخس في نفسه من آحاد السوادية وأجلاف البوادي. وكيف ينكر تفاوت الغريزة ولولاه لما اختلف الناس في فهم العلوم ولما انقسموا إلى بليد لا يفهم إلا بالتفهيم بعد تعب طويل من المعلم وإلى ذكي يفهم بأدنى رمز وإشارة، وإلى كامل تنبعث من نفسه حقائق الأمور دون التعليم، يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار؛ وذلك مثل الأنبياء صلوات الله عليهم إذ يتضح لهم في باطنهم أمور غامضة من غير تعلم وسماع، ويعبر عن ذلك بالإلهام، وعن مثله عبر نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال: إن روح القدس نفث في روعي: أحبب من أحببت فإنك مفارقه، وعش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به. وهذا النمط من تعريف الملائكة للأنبياء يخالف الوحي الصريح الذي هو سماع للصوت بحاسة الأذن ومشاهدة للملك بحاسة البصر، ولذلك أخبر عن هذا بالنفث في الروع.
ودرجات الوحي كثيرة والخوض فيها لا يليق بعلم المعاملة، بل هو من علم المكاشفة، ولا تظنن أن معرفة درجات الوحي تستدعي منصب الوحي، إذ لا يبعد أن يعرف الطبيب للمريض درجات الصحة، ويعلم العالم الفاسق درجات العدالة وإن كان خالياً عنها فالعلم شيء ووجود المعلوم شيء آخر، فلا كل من عرف النبوة والولاية كان نبياً، ولا كل من عرف التقوى والورع ودقائقه كان تقياً. وانقسام الناس إلى من ينتبه من نفسه ويفهم، وإلى من لا يفهم إلا بتنبيه وتعليم، وإلى من لا ينفعه التعليم أيضاً ولا ينبهه، كانقسام الأرض إلى ما يجتمع فيه الماء ويقوى فيتفجر بنفسه عيوناً، وإلى ما يحتاج إلى الحفر ليخرج في القنوات، وإلى ما لا ينفع فيه الحفر وهو اليابس، وذلك لاختلاف جواهر الأرض في صفاتها؛ فكذلك هذا لاختلاف النفوس في غريزة العقل. ويدل على تفاوت العقل من جهة النقل ما روي أن ابن سلام سأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله في حديث طويل في آخره وصف عظم العرش، وأن الملائكة قالت: يا رب خلقت شيئاً أعظم من العرش؟ قال: نعم العقل، قالوا: وما بلغ من قدره؟ قال: هيهات لا يحاط بعلمه، هل لكم علم بعدد الرمل؟ قالوا: لا، قال: فإني خلقت العقل أصنافاً شتى كعدد الرمل، فمن الناس من أعطي حبة، ومنهم من أعطي حبتين، ومنهم الثلاث والأربع، ومنهم من أعطي فرقاً ومنهم من أعطي وسقاً، ومنهم أكثر من ذلك. آخر كلام أبي حامد.
ونذكر الآن ما جاء من كلام الحكماء والأدباء ونظم الشعراء في العقل والعاقل والجهل والجاهل، وأخباراً تناسب ذلك وتجري معه إن شاء الله تعالى.
قال أبو سليمان محمد بن بهرام السجستاني المنطقي: الناس أصناف في عقولهم، فصنف عقولهم مغمورة بشهواتهم، فهم لا يبصرون بها إلا حظوظهم المعجلة، فلذلك يكيسون في طلبها ونيلها، ويستعينون بكل طاقة ووسع على الظفر بها. وصنف عقولهم متنبهة لكنها مخلوطة بسنات الجهل، فهم يحرصون على الخير واكتسابه ويخطئون كثيرا، وذلك أنهم لم يكملوا في جبلتهم الأولى، وهذا نعت موجود في العباد الجهلة والعلماء الفجرة، كما أن النعت الأولى، موجود لطالبي الدنيا بكل حيلة ومحالة. وصنف عقولهم ذكية متلهبة لكنها عمية عن الآجلة، فهي تدأب في نيل الحظوظ بالعلم والمعرفة، والوصايا اللطيفة، والسمعة الربانية. وهذا موجود في العلماء الذين لم تثلج صدورهم بالعلم، ولا حق عندهم الحق اليقين، وقصروا عن حال أبناء الدنيا الذين يشيمون في طلبها السيوف الحداد، ويطيلون إلى نيلها السواعد الشداد، فهم بالكيد والحيلة يسعون في طلب اللذاذة والراحة. وصنف عقولهم مضيئة بما فاض عليها من عند الله باللطف الخفي، والاصطفاء السني، والاجتباء الذكي، فهم يحلمون بالدنيا ويستيقظون بالآخرة، فتراهم حضوراً وهم غيب، وأشباهاً وهم متباينون، وكل صنف من هؤلاء مراتبهم مختلفة، وإن كان الوصف قد جمعهم باللفظ. وهذا كما تقول الملوك ساسة، ولكل واحد منهم في حاله خاصة، وهؤلاء شعراء ولكل واحد منهم بحر، وهؤلاء بلغاء ولكل واحد منهم أسلوب، وهؤلاء علماء ولكل واحد منهم مذهب.
وقيل: العقل عقلان: فعقل تفرد الله عز وجل بصنعه، وعقل يستفيده المرء بأدبه وتجربته. ولا سبيل إلى العقل المستفاد إلا بصحة العقل المركب في الجسد، فإذا اجتمعا قوى كل واحد منهما صاحبه تقوية النار في الظلمة نور البصر.
قال سهل بن هارون، فيما ترجمه عن الحكماء: إن المعرفة لا تحيط بمقدار عقل في إنسان، حتى إذا أراد واصف أن يصفه لم يتجاوز حده إلى زيادة ولم يقصر عنه نقصان. وذلك أن العقل ثبات المعرفة، وقد يوجد الإنسان ثابت المعرفة بشيء وغير ثابتها بشيء آخر، فلا يقدر على إحصاء ما تثبت فيه معرفة المرء مما لا تثبت إلا الخالق، غير أن قلوب ذوي الألباب موازين معرفتها لا يزن بها أحد بعد اختباره وصحة الفهم له إلا كادت أن تضعه في ميزان عدل منها. وللقلوب في ذلك بما طوقت من الفهم فضل على الألسن بما طوقت من النطق وإن كانت تراجمة للقلوب. ألا ترى أن قائلاً لو اجتهد في وصفه لما أتى على كنه معرفة قلبه، وليس ذلك لكلال من اللسان يلزمه عيبه، ولكن الفهم ألطف منه مدخلاً وأدق مسلكاً.
قال: وسبب زيادة الفهم على المنطق أن اللسان رسول والقلب مرسل، ولا يقوم الرسول مقام المرسل.
قال: والعقل صيغة موجودة في ضريبة الإنسان، ليس باكتساب.
قال: وموضع اللائمة للجاهل أن الجهل لو كان موجوداً لا عقل معه لسقطت اللوائم عن صاحبه، ولكنه يكون للمرء جزء من العقل فيلزمه من اللوم بقدر ما أضاعه بذلك الجزء، فإن كلفه مكلف أكثر من طاقة عقله فقد ظلمه، وهذا كثير في الناس: أن يؤنبوا أهل النقص بأكثر من مقدار ما يلزمهم. وإنما يؤتى اللائم في ذاك من قلة معرفته بمقدار ما يسعه عقل الملوم، فيكلفه فوق طاقته. ألا ترى أن الذنوب إذا أصابها مصيب كشف الحكام وجوهها فميزت الجهل من غيره، فحكمها في العمد وهو ارتكاب الذنب مع المعرفة به العقوبة، وفي الخطأ إزالة العقوبة، ويسقط مع ذلك عنه المأثم.
قال: والعقل أم لكل عمود، وجنة من كل مذموم، حياة النفس وراحة البدن، مدته إلى السرور، وأيامه إلى السلامة، جامع شمل المواهب، وراجع فوت كل ذاهب، كنف للرحمة، ومفتاح للهدى، آخية المودة بين الصالحين، والساقط بالظن على اليقين، زارع الخير، ومثمر الغبطة، وحامي الهوى عن مراتع الهلكة، لا يخبو نوره، ولا تكبو زناده، يجنيك ثمرة العافية، ويقيك محذور العاقبة، مستصحب الصنع وقرين التوفيق، ديوان للخيرات، ومعدن للصالحات، عليه معول المحروم، وفيه عوض من المعدوم.
قال: ووجدت مودة الجاهل وعداوة العاقل أسوة في الخطر، ووجدت الأنس بالجاهل والوحشة من العاقل سيان في العيب، ووجدت ظن العاقل أوقع بالصواب من يقين الجاهل. ووجدت غش العاقل أقل ضرراً من نصيحة الجاهل، ووجدت العاقل أحفظ لما لم يستكتم من الجاهل لما استكتم.
قال علي بن أبي طالب عليه السلام: قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل. وقال: صديق الجاهل في تعب.
وقال آخر: لأنا للعاقل المدبر أرجى مني للأحمق المقبل.
وقيل: كل شيء يعز إذا قل، والعقل كلما كان أكثر كان أعز وأغلى.
وقيل لبعضهم: ما جماع العقل؟ فقال: ما رأيته مجتمعاً في أحد فأصفه، وما لا يوجد كاملاً فلا حد له.
قال الزبيري: إذا أنكرت عقلك فاقدحه بعاقل.
ودخل عبد العزيز بن زرارة الكلابي على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، جالس الألباء، أعداء كانوا أو أصدقاء، فإن العقل يقع على العقل.
وقال الأحنف: إني لأجالس الأحمق فأتبين ذلك في عقلي.
وقالوا: أول أمر العاقل آخر أمر الجاهل.
وقيل: عظمت المؤونة في عاقل متجاهل وجاهل متعاقل.
قيل لبعضهم: العقل أفضل أم الجد؟ فقال: العقل من الجد.
وقال بعضهم: لا ينبغي للعاقل أن يطلب طاعة غيره، وطاعة نفسه عليه ممتنعة.
وقال بكر بن المعتمر: إذا كان العقل تسعة أجزاء احتاج إلى جزء من جهل ليقدم على الأمور، فإن العاقل أبداً متوان متوقف، مترقب متخوف. وهذا الكلام كأنه مأخوذ من قول النابغة الجعدي: من الطويل
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
قال أعرابي: ما تم عقل أحد إلا قل كلامه.
وقال آخر: العاقل بخشونة العيش مع العقلاء، آنس منه بلين العيش مع السفهاء.
وقال آخر: استشر عدوك العاقل ولا تستشر صديقك الأحمق فإن العاقل يتقي على رأيه الزلل كما يتقي الورع على دينه الحرج.
قيل لحكيم: ما العقل؟ قال: الإصابة بالظن، ومعرفة ما لم يكن ما كان.
قال أرسطاطاليس: العاقل يوافق العاقل، والجاهل لا يوافق العاقل ولا الجاهل، ومثال ذلك المستقيم الذي ينطبق على المستقيم فأما المعوج فإنه لا ينطبق على المعوج ولا على المستقيم.
قال سابور: لما رأيت تأتي الأشياء لذوي الجهل على جهلهم وانصرافها عن ذوي الألباب والعقول، علمت أن المدبر غيرهما، وأنها جارية بغير تدبير من العاقل والأحمق.
قال أردشير: نمو العقل بالعلم.
قال أكثم بن صيفي: عدو الرجل حمقه، وصديقه عقله.
ومن أمثالهم في الحمق: خرقاء عيابة.
وقالوا: معاداة العاقل خير من مصادقة الأحمق.
قال الشاعر: من المتقارب
عدوك ذو العقل خير من الص ... صديق لك الوامق الأحمق.
والبيت السائر: من الكامل
ولأن يعادي عاقلاً خير له ... من أن يكون له صديق أحمق
ومن أمثال العرب في الحمق.
خامري أم عامر، وهي الضبع تزعم العرب أنها من أحمق الدواب.
خرقاء وجدت صوفاً: يضربونه للرجل يجد مالاً فيعيث.
وشبيه به: عبد وحلى في يديه.
ويضربون المثل في الحمق بعجل بن لجيم ويزعمون أنه قيل له: إن لكل فرس جواد اسماً، وإن فرسك هذا سابق فسمه، ففقاً، إحدى عينيه وقال قد سميته الأعور، وفيه يقول الشاعر: من الطويل
رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وهل أحد في الناس أحمق من عجل
أليس أبوكم عار عين جواده ... فسارت به الأمثال في الناس بالجهل
قيل: ما أعدمك من الأحمق فلا يعدمك منه كثرة الالتفات، وسرعة الجواب. ومن علاماته الثقة بكل أحد.
ويقال إن الجاهل مولع بحلاوة العاجل، غير مبال بالعواقب، ولا معتبر بالمواعظ، ليس يعجبه إلا ما ضره، إن أصاب فعلى غير قصد، وإن أخطأ فهو الذي لا يحسن غيره. لا يستوحش من الإساءة، ولا يفرح بالإحسان. كلما حسنت نعمة الجاهل ازداد فيها قبحاً. غضب الجاهل في قوله، وغضبت العاقل في فعله العاقل إذا تكلم بكلمة أتبعها مثلاً، والأحمق إذا تكلم بكلمة أتبعها حلفاً. الأحمق إذا حدث ذهل، وإذا تكلم عجل، وإذا حمل على القبيح فعل.
وقال أبو يوسف: إثبات الحجة على الجاهل سهل، ولكن إقراره بها صعب.
وقد رضي قوم بالجهل فقالوا: ضعف العقل أمان من الغم؛ وقالوا: ما سر عاقل قط.
وقال المتنبي: من الكامل
من لي بعيش الأغبياء فإنه ... لا عيش إلا عيش من لا يعلم
قال خالد بن صفوان: ينبغي للعاقل أن يمنع معروفة الجاهل واللئيم والسفيه، أما الجاهل فلا يعرف المعروف والشكر، واللئيم كأرض سبخة لا تنبت ولا تصلح، والسفيه يقول أعطاني فرقاً من لساني.
نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى هرم بن قطة ملتفاً في بت في ناحية المسجد، ورأى دمامته وقلته، وعرف تقديم العرب له في الحلم والعلم، فأحب أن يكشفه ويسبر ما عنده، فقال: أرأيت لو تنافرا إليك اليوم، لأيهما كنت تنفر؟ يعني علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل، قال: يا أمير المؤمنين لو قلت فيهما كلمة لأعدتها جذعة. قال عمر: لهذا العقل تحاكمت إليك العرب.
قدم هوذة بن علي الحنفي على كسرى فسأله عن نبيه، فذكر عدداً، فقال: أيهم أحب إليك؟ قال: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يصح. فقال له كسرى: ما غذاؤك في بلدك؟ قال: الخبز. قال كسرى لجلسائه: هذا عقل الخبز، يفضله على أهل البوادي الذين يغتذون اللبن والتمر.
دخل نصيب على يزيد بن عبد الملك فقال له: حدثني يا نصيب ببعض ما مر عليك، قال: نعم يا أمير المؤمنين، علقت جارية حمراء فمكثت زماناً تمنيني الأباطيل، فلما ألححت عليها قالت: إليك عني فوالله لكأنك من طوارق الليل، فقلت لها: وأنت والله كأنك طوارق النهار، فقالت: ما أظرفك يا أسود، فغاظني قولها فقلت لها: هل تدرين ما الظرف؟ إنما الظرف العقل، ثم قالت لي: انصرف حتى أنظر في أمرك فأرسلت إليها هذه الأبيات: من الوافر
فإن أك حالكاً فالمسك أحوى ... وما لسواد جلدي من دواء
ولي كرم من الفحشاء ناء ... كبعد الأرض من جو السماء
ومثلي في رجالكم قليل ... ومثلك ليس يعدم في النساء
فإن ترضي فردي قول راض ... وإن تأبي فنحن على السواء
قال: فلما قرأت الشعر قالت: المال والعقل يأتيان على غيرهما، فتزوجتني.
كان عبد الله بن يزيد أبو خالد القسري من عقلاء الرجال. قال له عبد الملك يوماً: ما مالك؟ قال شيئان لا عيلة معهما: الرضى عن الله عز وجل والغنى عن الناس. فلما نهض من بين يديه قيل له: هلا أخبرته بمقدار مالك؟ فقال: لم يعد أن يكون قليلاً فيحقرني، أو جليلاً فيحسدني.
قال الرشيد لسعيد ين سلم: يا سعيد من بيت قيس في الجاهلية؟ قال: يا أمير المؤمنين بنو فزارة. قال: فمن بيتهم في الإسلام؟ قال: يا أمير المؤمنين الشريف من شرفتموه. قال: صدقت، أنت وقومك.
احتيج أن يكتب على المعتضد كتاب يشهد عليه فيه الشهود، فلما عرضت النسخة على عبيد الله بن سليمان كان ابن ثوابة قد كتبها كما يكتب في الصكاك في صحة من عقله، وجواز من أمره فضرب عليه عبيد الله وقال: هذا لا يجوز أن يقال للخليفة وكتب في سلامة من جسمه، وأصله من رأيه.
خاصم أحمد بن يوسف رجلاً بين يدي المأمون، وكان قلب المأمون على أحمد مملوءاً، فعرف أحمد ذلك فقال: يا أمير المؤمنين إنه يستملي من عينيك ما يلقاني به، ويستبين بحركتك ما تجنه له، وبلوغ إرادتك أحب إلي من بلوغ أملي، ولذة إجابتك آثر لدي من لذة ظفري، وقد تركت له ما نازعني فيه، وسلمت إليه ما طالبني به. فشكر المأمون له ذلك.
وهب المأمون لطاهر بن الحسين الهنيء والمريء، وهما نهران بقرب الرقة فقال: يا أمير المؤمنين كفى بالمرء شرهاً أن يأخذ كل ما أعطي، ما هما يا أمير المؤمنين من ضياع السوقة، ما يصلحان إلا لخليفة أو ولي عهد، ولم يقبلهما.
وشبيه بهذا الفعل الذي هو نتيجة العقل ما روي عن الفضل بن سهل، وهو أن حمزة العطارة كانت تتولى جوهر الخلافة، فلما قتل محمد الأمين حملت الجوهر إلى المأمون بمرو، فاحضر التجار والفضل بن سهل: خذه فقد جعلته جميعه لك، فاستعفاه، وألح المأمون عليه حتى قال له: فهذ النصف فامتنع، فأخذ المأمون منه عقداً كان أكبر ما فيه وأحسنه، فحلف ليأخذنه ففعل. فلما قتل الفضل بن سهل وجد في رحله حق مختوم، ففتح فإذا فيه العقد، ومعه رقعة بخطه مكتوب فيها: كنت بحضرة المأمون وقد حمل إليه جوهر الخلافة، فقوم بكذا، فوهبه جميعه لي، فامتنعت. ثم أمرني بأخذ نصفه فامتنعت، فأعطاني هذا العقد وحلف على أخذه ففعلت، وهو عندي لأمير المؤمنين المأمون وديعة، وليس لي فيه حق، فإن حدث بي حدث الموت فيحمل إلى أمير المؤمنين، فلا شيء لي فيه ولا لورثتي.
كتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم: إني قد طلقت أم خالد بنت قطن الهلالية من غير ريبة ولا سوء، فتزوجتها. فكتب إليه قتيبة: إنه ليس كل مطالع الأمير أحب أن أطلع، فقال الحجاج: ويل أم قتيبة، وأعجبه ذلك.
كان الوليد بن عبد الملك يذكر بالجهل، وذكر يوماً على بن أبي طالب عليه السلام على المنبر فقال: لص ابن لص، فقال بعضهم: ما أدري أي أمريه أعجب: لحنه فيما لا يلحن فيه أحد، أو نسبته علياً إلى اللصوصية.
وقريب منه ما روي عن المتوكل أنه قال يوماً لأصحابه: تكابروني في أمر علي بن أبي طالب، ورأيته البارحة في منامي وهو في النار، قالوا: فنحضر فلاناً معبر الرؤيا ونقصها عليه، فلعل لذلك تأويلاً. فأحضره وعرفه ما رآه ولم يذكر علياً، فقال له: لا يجوز أن يكون الرجل إلا نبياً أو في منزلة الأنبياء، فقال له: وكيف ذلك، وبما استدللت عليه قال: بقول الله تعالى " أن بورك من في النار ومن حولها " . " النمل: 8 " .
وقال يوماً والله لأشفعن للحجاج بن يوسف.
وكان أخوه يزيد بن عبد الملك جاهلاً مستهتراً باللذات واللهو في خلافته، وكان يقول لمولاته حبابة إذا غنته: أتأذنين أن أطير؟ فتقول: وعلى من تدع الناس؟ فيقول: عليك.
ولما غلبت عليه حبابة قال لها يوماً: قد استخلفتك على ما ورد علي، ونصبت لذلك مولاي فلاناً فاستخلفيه لأقيم معك أياماً وأستمتع بك، فقالت: إني قد عزلته، فغضب عليها وقال: أستعمله وتعزلينه؟! وخرج من عنده مغضباً. فلما ارتفع النهار وطال عليه هجرها قال لخصي له: انطلق فانظر ما تصنع، فرآها تلعب بلعبها، فقال له: احتل لي حتى تمر بها علي. فانطلق الغلام فلاعبها ساعة ثم استلب لعبة من لعبها وخرج، فخرجت تحضر في أثره، فمرت بيزيد فوثب يقول: قد عزلته، وهي تقول قد استعملته، فعزل مولاه وولاه وهو لا يدري.
وقد عد للحجاج أقوال تدل على الجهل، فمن ذلك أنه كتب إلى الوليد بن عبد الملك بعد وفاة محمد أخيه: أخبر أمير المؤمنين - أكرمه الله - أنه أصيب لمحمد بن يوسف خمسون ومائة ألف دينار، فإن يكن أصابها من حلها فرحمه الله، وإن تكن من خيانة فلا رحمه الله. فكتب إليه الوليد: أما بعد فقد قرأ أمير المؤمنين كتابك فيما خلف محمد من المال، وإنما أصاب ذلك المال من تجارة أحللناها له، فترحم عليه رحمك الله.
وكتب الحجاج إلى عبد الملك: بلغني أن أمير المؤمنين عطس عطسة فشمته قوم فقال: يغفر الله لنا ولكم ف " يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً " " النساء: 73 " .
ووفد مرة على الوليد فقال له وقد أكلا: هل لك في الشراب؟ فقال ليس بحرام ما أحللته، ولكني أمنع أهل عملي منه، وأكره أن أخالف قول العبد الصالح " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " " هود: 88 " .
وقيل له وقد احتضر: ألا تتوب؟ فقال: إن كنت مسيئاً فليست هذه الساعة ساعة توبة، وإن كنت محسناً فليست ساعة جزع. وشكه في نفسه بين الإساءة والإحسان من أجهل الجهل.
كان عبيد الله بن أبي عبد الله كاتب المهدي يحمق، وقتله المهدي في الزندقة بعد أن أقر بها ولم ينكرها، وكان ذلك سبب فساد حال أبيه مع المهدي. وهب له المهدي وصيفة ثم سأله بعد ذلك عنها فقال له: ما وضعت بيني وبين الأرض قط أوطأ منها حاشا سامع، فقال المهدي لأبيه: أتراه يعنيني أو يعنيك؟ قال: بل يعني أمه الزانية، لا يكني.
قالت خيرة بنت ضمرة القشيرية امرأة المهلب للمهلب: إذا انصرفت من الجمعة فأحب أن تمر بأهلي فقال: إن أخاك أحمق، قالت: فأحب أن تمر بنا. فجاء وأخوها جالس فلم يوسع له فجلس المهلب ناحية ثم أقبل عليه وقال: ما فعل ابن عمك فلان؟ قال حاضر قال: أرسل إليه ففعل، فلما نظر إلى المهلب غير مرفوع المجلس قال: يا ابن اللخناء، المهلب جالس ناحية وأنت في صدر المجلس، وواثبه، فتركه المهلب وانصرف، فقالت له خيرة: أمررت بأهلي؟ قال: نعم، وتركت أخاك الأحمق يضرب.
قال ابن عائشة: كان مالك بن أبي السمح من أحمق الناس، فلما قتل الوليد بن يزيد كنا حاضرين معه، فقال مالك: اهرب بنا، فقلت: وما يريدون منا؟ قال: وما يؤمنك أن يأخذوا رأسينا فيجعلوا رأسه بينهما ليحسنوا أمرهم بذلك؟ قال ابن عائشة: فما رأيت أقل منه عقلاً قط قبل ذلك اليوم.
يقولون: الخرف حمق معتق. وقالوا: إنما يهتر كل إنسان بما كان مغرى به زمن الشبيبة.
فمن ذلك أن بسر بن أرطأة أهتر فكان يطلب السيف ليضرب به، فكانوا يعطونه سيفاً من خشب، فلا يزال يضرب به كل من يجده. وكان من قبل معدوداً في أولي البأس، وكان سفاكاً للدماء.
والنمر بن تولب العكلي كان من الأجواد فأسن وأهتر، فكان دأبه أن يقول: أصبحوا الراكب، اغبقوا الراكب، اقروا الضيف، انحروا له، أعطوا السائل، تحملوا لهذا في حمالة كذا وكذا.
وخرفت امرأة من حي كرام عظيم خطرهم وهطرها فيهم، فكان هجيراها: زوجوني، قولوا لزوجي. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد بلغة خبرها: ما لهج به أخو عكل، النمر بن تولب، في خرفه أفخر وأسرى وأجمل مما لهجت به صاحبتكم، ثم ترحم عليه.
أتى عدي بن أرطأة شريحاً ومعه امرأة من أهل الكوفة يخاصمها، فلما جلس بين يدي شريح قال عدي: أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط، قال: إني امرؤ من أهل الشام، قال: بعيد سحيق، قال: وإني قدمت العراق، قال: خير مقدم، قال وتزوجت هذه المرأة وقد أردت أن أنقلها إلى داري، قال: المرء أحق بأهله، قال: قد كنت شرطت لها دارها، قال: الشرط أملك، قال: اقض بيننا، قال: قد فعلت، قال: فعلى من قضيت؟ قال: على ابن أمك.
قال محمد بن رياح القاضي: تقدم إلي قثم مع ابن أخيه فادعى عليه خمسة آلاف دينار، فقال قثم: نعم له علي ذلك، فمن أي وجه؟ فقلت: قد أقررت له بالمال فإن شاء فسر الوجه، وإن شاء لم يفسر. فقال ابن أخيه: أشهد أنه بريء منها إن لم أثبتها، فقلت: وأما أنت فقد أبرأته إلى أن يثبت ذلك؛ فما رأيت أضعف منهما في الحكم.
خطب سعيد بن العاص عائشة بنت عثمان على أخيه فقالت: لا أتزوجه، قال: ولم؟ قالت: هو أحمق، له برذونان أشبهان، فيحتمل مؤونة اثنين وهما عند الناس واحد.
وكان خالد بن عبد الله القسري فيما تواترت به الأخبار عنه يتظاهر بما يدل على الكفر والجهل، وهو في الكفر أدخل وبه أليق. ومما يليق بالجهل أنه كان يوماً يخطب على المنبر وكان لحنة، وكان له مؤدب يجلس بإزائه، فإذا شك في شيء أومأ إليه، وكان لخالد صديق من تغلب زنديق يقال له زمزم، فقال له وهو على المنبر مسألة قد حضرتني، فقال له: ويحك أما ترى الشيطان عينه في عيني؟ يعني مؤدبة، قال: لا بد والله منها، أخبرني عن الحمار إذا ساف وكرف ثم رفع رأسه وكرف أي شيء يقول؟ قال: أراه يقول: يا رباه ما أطيبه. قال: صدقت، ما كان يستشهد على هذا سوى ربه.
كانت امرأة أبي خراش من أحمق النساء. قال أبو بكر الشجعي: خرج أبو خراش الهذلي من أرض هذيل يريد مكة، فقال لزوجته أم خراش: ويحك إني أريد مكة لبعض الحاج، وإنك لمن افك النساء، وإن بني الديل يطلبونني بترات، فإياك أن تذكريني لأحد من أهل مكة حتى أصدر عنها. فقالت: أعوذ بالله أن أذكرك لأحد من أهل مكة وأنا أعرف السبب. قال: فخرج يوماً بأم خراش وكمن لحاجته، وخرجت إلى السوق تشتري عطراً أو بعض ما يشتريه النساء من حوائجهن؛ فجلست إلى عطار فمر بها فتيان من بني الديل، فقال أحدهما لصاحبه: أم خراش ورب العبة، وإنها لمن أفك النساء، وإن كان أبو خراش معها فستدلنا عليه. قال: فوقفا عليها فسلما وأحفيا في المسألة والسلام، فقال من أنتما بأبي أنتما، قالا: رجلان من أهلك. قالت بأبي أنتما، فإن أبا خراش معي فلا تذاكره لأحد، ونحن رائحون العيشة. فخرج الرجلان فجمعا جماعة من فتيانهم وأخذوا مولى لهم يقال له مخلد، وكان من أجود الرجال عدواً، فكمنوا في عقبة على طريقه، فلما رآهم قد لاقوه في عين الشمس قال لها: قتلتني ورب الكعبة، لمن ذكرتني؟ قالت ما ذكرتك إلا لفتيين من هذيل، فقال لها: والله ما هما منه ذيل، ولكنهما من بني الديل، وقد جلسا لي وجمعا علي جماعة من قومهما، فإذا جزت عليهم فإنهم لن يعرضوا لك لئلا استوحش فأفوتهم، فاركضي بعيرك، وضعي عليه العصا، والنجاء والنجاء؛ قال: وهي على قعود عقيلي يسبق الريح. فلما دنا منهم وقد تلثموا ووضعوا تمراً على طريقه على كساء، فوقف قليلاً كأنه يصلح شيئاً، وجاوزتهم أم خراش فلم يعرضوا لها لئلاً ينفر منهم، ووضعت العصا على قعودها. فتواثبوا إليه ووثب يعدو، قال: فزاحمه على المحجة التي يسلك فيها على العقبة ظبي، فسبقه أبو خراش، وتصايح القوم لمخلد: يا مخلد أخذاً أخذاً، فقال: فات الأخذ، فقالوا: ضرباً ضرباً، فسبق الضرب. فقالوا: رميا رمياً، فسبق الرمي. وسبقت أم خراش إلى الحي فنادت: ألا إن أبا خراش قد قتل، فقام الحي إليها وقام أبوه فقال: ويحك ما كانت القصة؟ قالت: فإن بني الديل عرضوا له الساعة في العقبة، قال: فما رأيت أو ما سمعت؟ قالت: سمعتهم يقولون: رمياً رمياً، قال: فإن كنت سمعت رمياً رمياً فهو منا قريب. ثم صاح: يا أبا خراش، فقال أبو خراش: لبيك لبيك، فإذا هو قد وافاهم على أثرها.
قال عبد الله بن محمد البواب: سألت الخيزران موسى الهادي أن يولي خاله الغطريف اليمن، فوعدها بذلك ودافعها، ثم كتبت إليه يوماً رقعة تناجزه فيها أمره، فوجه إليها برسولها يقول لها: خيريه بين اليمن وطلاق ابنته، أو مقامي عليها ولا أوليه اليمن، فأيهما اختار فعلته. فدخل الرسول إليها، ولم يكن فهم عنه ما قال له فأخبرها بغيره، ثم خرج إليه فقال: تقول لك ولاية اليمن، فغضب وطلق ابنته وولاه اليمن. ودخل الرسول فأعلمه بذلك فارتقع الصراخ من داره فقال: ما هذا؟ فقالوا: من دار بنت خالك، قال: أو لم يختر ذلك؟ قالوا: لا ولكن الرسول لم يفهم ما قلت أدى غيره، وعجلت بذلك. فندم ودعاً صالحاً صاحب المصلى وقال له: أقم على رأس كل رجل يحضرني من الندماء رجلاً بسيف، فمن لم يطلق امرأته فليضرب عنقه، ففعل ذلك، ولم يبرح من حضرته أحد منهم حتى طلق امراته. قال ابن البواب: فخرج الخدم إلي فأخبروني بذلك، وعلى الباب رجل واقف متلفع بطيلسانه يرواح بين رجليه فخطر ببالي: من الطويل
خليلي من سعد ألما فسلما ... على مريم لا يبعد الله مريما
وقولا لها هذا الفراق عزمته ... فهل من نوال قبل ذاك فيعلما
فأنشدته بالياء، فقال لي: فنعلما بالنون، فقلت له: وما الفرق بينهما؟ فقال: إن المعاني تحسن الشعر وتفسدهن وإنما قال فنعلم ليعلم هو القصة، وليست به حاجة إلى أن يعلم الناس سره. فقلت له: أنا أعلم بالشعر منك، قال: فلمن هو؟ قلت: للأسود بن عمارة النوفلي قال: أو تعرفه؟ قلت: لا، قال: فأنا هو. فاعتذرت إليه من رماجعتي إياه ثم عرفته خبر الخليفة فيما فعله، فقال: أحسن الله جزاءك، وانصرف، وقال: هذا أحق منزل بترك.
مدح البحتري المتوكل بقصيدته التي أولها: من الكامل المجزوء
عن أي ثغر تبتسم ... وبأي طرف تحتكم
وهي من فاخر الشعر ومونقه، فصاح به أبو العنبس الصيمري من خلفه: من الكامل المجزوء
في أي سلح ترتطم ... وبأي كف تلتقم
أدخلت رأسك في الحرم ... وعلمت أنك تنهزم
وتمامها شعر سخيف ركيك، فغضب البحتري وخرج، وضحك المتوكل حتى أكثر، وأمر لأبي العنبس بعشرة آلاف درهم، وقيل: أمر له بالصلة التي كانت أعدت للبحتري.
قال المدائني: قدم البصرة راجز من أهل المدينة، فجلس إلى حلقة فيها الشعراء فقال: أنا أرجز العرب، أنا الذي أقول: من الرجز
مروان يعطي وسعيد يمنع ... مروان نبغ وسعيد خروع
وددت أني راهنت في الرجز من أحب، والله لأنا أرجز من العجاج، فليت البصرة جمعت بيني وبينه، قال: والعجاج حاضر، وابنه رؤبة معه. فأقبل رؤبة على أبيه فقال: قد أنصفك الرجل، فقال العجاج: ها أنا ذا العجاج، وزحف إليه، فقال: وأي العجاجين أنت؟ قال: ما ختلك تعني غيري، أنا عبد الله الطويل، وكان يكنى بذلك. قال المدني: ما عنيتك ولا أردتك، قال: كيف وقد هتفت باسمي؟ قال: وما في الدنيا عجاج سواك؟ قال: ما علمت، قال: لكني أعلم وإياه عنيت. قال: فهذا ابني رؤبة، قال: اللهم غفراً ما بيني وبينكما عمل، وإنما مرادي غيركما، فضحك أهل الحلقة، وكفا عنه.
قال إسحاق الموصلي: دخلت يوماً على الأمين فرأيته مغضباً كالحاً، فقلت له: يا أمير المؤمنين ما لي أراك كالخاثر؟ قال: غاظني أبوك الساعة، لا رحمه الله، والله لو كان حياً لضربته خمسمائة سوط، ولولاك لنبشت الساعة قبره وأحرقت عظماه. فقمت على رجلي وقلت: أعوذ بالله من سخطك يا أمير المؤمنين. ومن أبي وما مقداره حتى تغتاظ منه؟ وما الذي غاظك؟ فلعل له فيه عذراً. فقال: شدة محبته للمأمون وتقديمه إياه علي حتى قال في الرشيد شعراً يقدمه علي فيه وغناه فيه، وغنيته الآن فأورثني هذا الغيظ، فقلت: والله ما سمعت هذا قط ولا لأبي غناء إلا وأنا أرويه، فما هو؟ قال: قوله: من الوافر
أبو المأمون فينا والأمين ... له كنفان من كرم ولين
فقلت له: يا أمير المؤمنين، لم يقدم المأمون في هذا الشعر لتقديمه إياه في الموالاة، ولكن الشعر لم يصح له وزنه إلا هكذا، فقال: كان ينبغي إذا لم يصح له الشعر إلا هكذا أن يدعه إلى لعنة الله. فلم أزل أداريه وأرفق به حتى سكن. فلما قدم المأمون سألني عن هذا الحديث، فحدثته به فجعل يعجب مه ويضحك.
كان مطيع بن إياس الكناني يخدم جعفر بن أبي جعفر المنصور وينادمه، فكره ذلك أبو جعفر لما شهر به مطيع في الناس، وخشي أن يفسده، فدعا بمطيع وقال له، قد عزمت على أن تفسد ابني علي وتعلمه زندقتك؟! قال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من أن تظن بي هذا فأهلك، والله ما يسمع مني إلا ما إذا وعاه جمله وزينه ونبله. قال: ما أرى ذلك ولا يسمع منك إلا ما يضره ويعره. فلما رأى مطيع لجاجة في أمره قال له: أتؤمنني من غضبك حتى أصدقك؟ قال: أنت آمن قال: وأي مستصلح فيه، أو أي نهاية لم يبلغها في الفساد والهلاك؟! قال: ويلك بأي شيء؟ قال: يزعم أنه يتعشق امرأة من الجن، وهو مجتهد في خطبتها، وقد جمع أصحاب العزائم عليها، وهم يغرونه ويعدونه بها ويمنونه، فوالله ما فيه فضل لغير ذلك من جد ولا هزل، ولا كفر ولا إيمان. فقال له المنصور: ويلك أتدري ما تقول؟ قال: الحق والله أقول، فسل عن ذلك. فقال: له: عد إلى صحبته واجتهد أن تزيله عن هذا الأمر، ولا تعلمه أني علمت بذلك حتى اجتهد في إزالته عنه.
ودخل المنصور دار جعفر ابنه هذا، وخرج جعفر من دار حرمه، فقال لأبيه: ما حملك على أن دهلت علي بغير إذن؟ فقال له أبو جعفر: لعنك الله، ولعن من أشبهته، قال: والله لأنا أشبه بك منك بأبيك.
دخل عقيل بن علفة المري على يحيى بن الحكم، وهو يومئذ أمير المدينة، فقال له يحيى: أنكح ابن خالي يعني ابن أوفى فلانة ابنتك، فقال له: إن ابن خالك ليرضي مني بدون ذلك، قال: وما هو؟ قال: أن أكف عنه سنن الخيل إذا عشيت سوامه، فقال يحيى لحرسيين بين يديه: أخرجاه، فلما ولى قال: أعيداه، فأعاداه، فقال له عقيل: مالك تكررني تكرار الناضح؟ قال: أما والله إني لأكرك أعرج جافياً، قال عقيل لذلك قلت: من البسيط
تعجبت أن رأت تجلله ... من الروائع شيب ليس من كبر
ومن أديم تولى بعد جدته ... والجفن يخلق حد الصارم الذكر
فقال له يحيى: أنشدني قصيدتك هذه كلها، قال: ما انتهيت إلا إلى ما سمعت، قال: أما والله إنك لتقول فتقصر قال: إنما يكفي من القلادة ما أجاز بالعنق. قال فأنكحني إحدى بناتك قال: أما أنت فنعم، قال: أما والله أيملأنك مالاً وشرفاً. قال: أما الشرف فقد حملت ركائبي منه ما أطاقت، وكلفتها تجشم ما لم تطق، ولكن عليك بهذا المال فإن فيه صلاح الأم ورضى الأبي. فوجوه ثم خرج فأهداها إليه، فلما قدمت عليه بعث إليها يحيى مولاة له لتنظر إليها، فجاءتها فجعلت تغمز عضها، فرفعت يدها فدقت أنفها، فرجعت إلى يحيى قالت: بعثتني إلى أعرابية مجنونة فصنعت بي ما ترى. فنهض إليها يحيى فقال: مالك؟ فقال: ما أردت أن بعثت إلي أمة تنظر إلي؟ ما أردت بما فعلت إلا أن يكون نظرك إلي قبل كالناظر، فإن رأيت حسناً كنت قد سبقت إلى بهجته، وإن رأيت قبيحاً كنت أحق من ستره، فسر بقولها وعقلها، وحظيت عنده.
كان محمد الأمين مضعفاً شديد الانهماك على اللذة، منهمكاً عل التصابي، مطاوعاً هوى النفس وجهلها، فروي عنه أنه لاعب الفضل بن الربيع بالنرد في وقت محاربته طاهر بن الحسين، وأخذ خاتمه رهناً وعليه اسمه واسم أبيه وقام لحاجته، واستدعى نقاشاً وأمره أن يكتب تحت اسمه ينكح، ثم عاد إلى مجلسه وأعاد الخاتم إلى الفضل، وتركه أياماً ثم أخذ الخاتم من يده فتأمله وقال: ما الذي عليه مكتوب؟ قال: اسمي، قال: وما هذا تحته؟ فتأمله الفضل فكاد يجن وقال له: ما بقيت في هتك سترك شيئاً، هذا خاتم وزيرك تختم به الكتب الصادرة عنك إلى الآفاق، وبالأمس ختم به إلى أخيك الذي يدعو إلى خلعك، ويجهز الجيوش لحربك، ويزعم أنه أحق بالأمر منك، وما يضر ذلك الفضل ولا الربيع، والله المستعان.
وذكره الفضل يوماً فقال: ينام نوم الطربان، وينتبه انتباه الذئب، همه بطنه ولذته، لا يفكر في زوال نعمة، ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة، قد شمر له عبد الله عن ساقه، وفوق له أسد أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ والموت القاصد، قد عبأ له المنايا على متون الخيل، وناط له البلايا بأسنة الرماح وشفار السيوف. من الطويل
يقارع أتراك ابن خاقان ليله ... إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم
فيصبح من طول الطراد وجسمه ... نحيل وأضحي في النعيم أصمم
فشتان ما بيني وبين ابن خالد ... أمية في الرزق الذي الله يقسم
ونحن نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذممنا، وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا، وإنما نحن شعب من أصل: إن قوي قوينا، وإن ضعف ضعفنا. إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء ويعتزم على الرؤيا، قد أمكن أهل الخسارة واللهو من سمعه، فهم يمنونه الظفر ويعدونه عقب الأيام، والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل.
والمثل يضرب في حمق هبنقة القيسي، واسمه يزيد بن ثروان وكنيته أبو نافع، شرد له بعير فقال: من جاء به فله بعيران، فقيل له أتجعل في بعير بعيرين؟ قال: إنكم لا تعرفون فرحة الوجدان.
قيل: أحق الناس بالرحمة ثلاثة: عاقل قد نفذت عليه أحكام جاهل، وبر سلط عليه فاجر، وكريم عرضت له حاجة إلى لئيم. ومنه قول الأعشى: من الكامل
حسب الكريم مذلة ومسبة ... أن لا يزال إلى لئيم يرغب
قال أبو تمام الطائي: قلت لأعرابي أيسرك أنك جاهل ولك مائة ألف درهم؟ قال: لا، ولم؟ قال: لأن يسر الجاهل شين، وعسر العاقل زين، وما افتقر رجل صح عقله.
وقال الأحنف: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: حليم من أحمق، وبر من فاجر، وشريف من دنيء.
وقال أعرابي: العاقل حقيق أن يسخي نفسه عن الدنيا علمه بأن لا ينال منها شيئاً إلا قل إمتاعه به، ويكثر عناؤه به، ويكثر عناؤه فيه، وتشتد مرزئته عند فراقه، وتعظم التبعة فيه بعده.
قال وهب بن منبه، كان يقال: الأحمق إذا تكلم فضحه حمقه، وإذا سكت فضحه عيه، وإذا عمل أفسد، وإذا ترك أضاع، لا علمه يغنيه، ولا علم غيره ينفعه. تود أمه أنها ثكلته، وتتمنى امرأته أنها عدمته، ويتمنى جاره منه الوحدة، وتأخذ جليسه منه الوحشة.
وقال أفلاطن: الخصال رعية القلب، فعلى حسب قوة تدبير العقل صلاح الخصال وفسادها. وللعقل تدبير ظاهر وباطن، فمن ظاهره الحياء وحسن البشر، ومن باطنه الوفاء والحلم.
وقال آخر: العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع.
قالت الحماء: العلم قائد، والعقل سائق، والنفس ذود، فإذا كان قائد بلا سائق هلكت، وإن كان سائق بلا قائد أخذت يميناً وشمالاً، فإذا اجتمعا أجابت طوعاً وكرهاً.
دخل رجل على سليمان بن عبد الملك فتكلم عنده بكلام أعجب سليمان، وأراد أن يختبره وينظر: أعقله على قدر كلامه أم لا؛ فوجده مضعوفاً فقال: فضل العقل على المنطق حكمة، وفضل المنطق على العقل هجنة، وخير الأمور ما صدق بعضها بعضاً، وأنشد: من الطويل
ما المرء إلا الأصغران لسانه ... ومعقوله والجسم خلق مصور
فإن تر منه ما يروق فربما ... أمر مذاق العود والعود أخضر
وقال الحسن البصري: لو كان الناس كلهم عقول خربت الدنيا.
وقال زياد: ليس العاقل الذي إذا وقع في الأمر احتال له، ولكن العاقل يحتال للأمر حتى لا يقع فيه.
وقيل لعمرو بن عبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بلغك الجنة وعدل بك عن النار. قال لسائل: ليس هذا أريد، قال: من لم يحسن أن يسكت لم يحسن أن يسمع، ومن لم يحسن أن يسمع، لم يحسن أن يسأل، ومن لم يحسن أن يسأل لم يحسن أن يقول. قال: ليس هذا أريد؛ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا معشر الأنبياء بكاء، أي قليلو الكلام، وهو جمع بكيء، وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله. قال السائل ليس هذا أريد. قال: فكأنك تريد تحبير اللفظ في حسن إفهام، قال: نعم، قال: إنك إن أردت تقرير حجة الله في عقول المتكلمين، وتخفيف المؤونة عن المستمعين، وتزيين المعاني في قلوب المستفهمين، بالألفاظ الحسنة، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قلوبهم، بالموعظة الناطقة عن الكتاب والسنة، كنت قد أوتيت فصل الخطاب.
سأل الحسن بن سهل علي بن عبيدة فقال له: من الحاكم على الملوك؟ قال: أهل الآراء والعقول وتمام الكلام من غير هذا الباب.
قيل: نفور العالم من الجاهل أشد من نفور العالم من الجهل.
أعرابي: لولا ظلمة الخطأ ما أشرق نور الصواب.
قيل لبزرجمهر: لم لا تعاتبون الجهلة؟ قال: لأنا لا نريد من العميان أن يبصروا.
عمرو بن أعبل التميمي: من الطويل
وإن عناء أن تفهم جاهلاً ... فيحسب جهلاً أنه منك أفهم
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
حدث شريك فقال عافية القاضي: ما سمعنا بهذا الحديث، فقال شريك: وما يضر عالماً أن جهل جاهل؟! قال عيسى عليه السلام: عالجت الأكمة والأبرص فأبرأتهما، وعالجت الأحمق فأعياني.
كان شريح يقول: لأن أزاول أحمق أحب إلي من أن أزاول نصف الأحمق قيل: يا أبا أمية، ومن نصف الأحمق؟ قال: الأحمق المتعاقل.
شاعر من البسيط
لكل داء دواء يستطب به ... إلا الحماقة أعيت من يداويها
آخر: من الطويل
أبا جعفر إن الجهالة أمها ... ولود وأم العقل جداء حائل
الأدب صورة العقل فحسن صورة عقلك كيف شئت.
ابن السماك: أعقل الناس محسن خائف، وأجهلهم مسيء آمن.
قال حكيم: من أعجب الأشياء جاهل يسلم بالتهور، وعاقل يهلك بالتوقي.
وقيل: العقل بلا أدب فقر، والأدب بغير عقل حتف. العقل يحتاج إلى مادة الحكمة كما تحتاج الأبدان إلى قوتها من الأطعمة.
قال الحسن: ثلاثة أشياء تذهب ضياعاً: دين بلا عقل، ومال بلا بذل، وعشق بلا وصل.
قال زياد: الحديث أسمعه من عاقل أحب إلي من سلافة فتقت بماء ثغب في يوم ذي وديقة.
أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع.
فيلسوف: إفراط العقل مضر بالجد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن في كل أمة محدثني أو مروعين، فإن يكن في هذه الأمة أحد فإن عمر منهم. المحدث المصيب في حديثه كأنهما حدث بالأمر، والمروع الذي يلقى الأمر في روعه.
محمد بن علي الصيني في طاهر بن الحسين: من المتقارب
كأنك مطلع في القلوب ... إذا ما تناجت بأسرارها
فكرات طرفك ممتدة ... إليك بغامض أخبارها
ابن المعتز: من المتقارب
تفقد مساقط لحظ المريب ... فإن العيون وجوه القلوب
وطالع بوادره في الكلام ... فإنك تجني ثمار الغيوب
قال فيلسوف عقل الغريزة سلم إلى عقل التجربة.
قال أعرابي: لو صور العقل لأطلمت معه الشمس، ولو صور الحمق لأضاء معه الليل.
الهيثم بن القاسم الخثعمي: من البسيط
قد يرزق الأحمق المرزوق في دعة ... ويحرم الأحوذي الأرحب الباع
كذا السوام تصيب الأرض ممرعة ... والأسد منزلها في غير إمراع
والناس من كان ذا مال وسائمة ... مدوا إليه بأبصار وأسماع
قيل لحكيم: متى عقلت؟ قال: حين، ولدت. فلما رأى إنكارهم قال: أما أنا فقد بكيت حين جعت، وطلبت الثدي حين احتجت، وسكت حين أعطيت؛ يعني من عرف مقادير حاجاته فهو عاقل. وهذا كلام فاسد لأن ضرورات البدن والجوع والعطش يدركها العاقل والجاهل والبهائم وكل ذي وح، والطفل لا يعقل مقادير حاجاته.
قال الحجاج لابن القرية: من أعقل الناس؟ قال: الذي يحسن المداراة مع أهل زمانه.
حكيم: العقل والتجربة في التعاون بمنزلة الماء والأرض، لا يطيق أحدهما دون الآخر إنباتاً.
إذا غلب العقل الهوى صرف المساوئ إلى المحاسن، فجعل البلادة حلماً، والحدة ذكاء، والمكر فطنة، والهذر بلاغة، والعي صمتاً، والعقوبة أدباً، والجبن حذراً، والإسراف جوداً.
قال أردشير بن بابك: أربعة تحتاج إلى أربعة: الحسب إلى الأدب، والسرور إلى الأمن، والقرابة إلى المودة، والعقل إلى التجربة.
قال ابن الأعرابي: قلت لشيخ من قريش: من علمك كذا؟ قال: علمني الذي علم الحمامة على بلهها تقليب بيضها كي تعطي الوجهين جميعاً نصيبهما من الحضن.
قال النظام: ثلاثة تخلق العقل: طول النظر في المرآة، والاستغراب في الضحك، ودوام النظر في البحر.
المتنبي: من الكامل
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
نوادر من هذا الباب كان يعقوب بن المهدي محمقاً، وكان يخطر بباله الشيء فيكتبه، ثم يثبت تحته: إنه ليس عندنا، وإنما أثبته ليكون ذكره عندنا إلى أن نملكه. فوجد له في دفتر: ثبت ما في الخزانة من الثياب المثقلة السكندرية الهاشمية: لا شيء، أستغفر الله، بلى عندنا زر من جبة كانت للمهدي. الفصوص الياقوت الحمر التي من حالها وقصتها كذا وكذا: لا شيء، أستغفر الله، بلى عندنا درج كان فيه خاتم للمهدي هذه صفته. فحمل ذلك الدفتر إلى المأمون فضحك حتى فحص برجله وقال: ما سمعت مثل هذا قط.
كان معاوية بن مروان أخو عبد الملك ضعيفاً، فقال له خالد بن يزيد بن معاوية: يا أبا المغيرة ما أهونك على أخيك، لا يوليك ولاية. قال: لو أردت لفعل، قال: كلا، قال: بلى والله، قال: فسله أن يوليك بيت لهيا، قال: نعم. فغدا على عبد الملك فقال له: يا أمير المؤمنين: ألست أخاك؟ قال: بلى والله إنك لأخي وشقيقي، قال: فولني بيت لهيا قال: متى كان عهدك بخالد؟ قال: عشية أمس قال: إياك أن تكلمه. ودخل خالد فقال له: كيف أصبحت يا أبا المغيرة؟ فقال: قد نهانا هذا عن كلامك، فغلب عبد الملك الضحك، فقام وتفرق الناس.
وأفلت لمعاوية هذا باز فصاح: أغلقوا أبواب المدينة لا يخرج. وقال له رجل: أنت الشريف ابن أمير المؤمنين، وأخو أمير المؤمنين، وابن عم أمير المؤمنين عثمان، وأمك عائشة بنت معاوية، قال: فأنا إذن مردد في بني اللخناء ترداداً. وصودر على ثمانية آلاف ألف دينار، وبقيت له بقية صالحة بعدها.
وكان ابن الجصاص من يساره وسعة حاله، وتمكنه من دولة المقتدر وغيرها، موصوفاً بالجهل. قال لابن الفرات يوماً: أعز الله الوزير، امنع هؤلاء الزنادقة من الاجتماع فقد بلغني أنهم يتكلمون بالكبائر، قال: وما الذي يقولون؟ قال: بلغني أنهم يقولون إن الصور ليس هو من قرن.
وسمع آية من القرآن في بعض المجالس فقال: حسن والله، هاتوا دواة وقراطاساً أكتب هذا، فقالوا له: هذا من القرآن، وفي دارك خمسون مصحفاً، فكتبها وقال: لكل جديد لذة. وبعث بها إلى معلم ولده وأمره أن يحفظهم ذلك.
وكتب إلى وكيل له بأن يحمل مائة من قطناً، فحملها فلما حلجت استقل الحليج، وكتب إلى وكيله: إنه لم يحصل من هذا القطن إلا ريعه، فلا تزرع بعدها قطناً بحبه وازرع الحليج، ويكون معه أيضاً شيء من الصوف.
وعرض على بعض الخلفاء عقداً مثمناً فقال: هي رأيت في عرس أمك مثله؟
ودخل يوماً على ابن الفرات فقال له: يا سيدي عندنا في الجزيرة كلاب لا يتركونا ننام من الصياح والقتال، قال: أحسبهم جراء، قال: لا تظن ذلك أيها الوزير كل كلب مثلي ومثلك.
وكانت في فمه درة وأراد أن يبصق، فبصق على الخليفة، ورمى بالدرة في دجلة وهو يظن أنه قد ناول الخليفة الدرة، وبصق في الماء.
قال بعضهم: اطلعت يوماً عليه وهو يقرأ في المصحف ويبكي وينتحب ويشهق، فقلت: ما لك؟ قال: أكلت اليوم مع الجواري المخيض بالبصل فآذاني فلما رأيت في المصحف " يسألونك عن المخيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المخيض " قلت: ما أعظم قدرة الله قد بين كل شيء حتى أكل اللبن مع الجواري.
وقرأ مرة في المصحف فجعل يقول: رخيص، رخيص. فقيل له في ذلك فقال: ويحك ما ترى تفضل الله تعالى يقول " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا " " الحجر: 3 " ما هذا رخيص؟ وكان يدعو يوقول: اللهم أرخص السوق على الدقيق، اللهم إنك تجد من تغفر له غيري، ولا أجد من يعذبني سواك، حسيبي الله. اللهم امسخني حورية، وزوجني من عمر بن الخطاب. فقالت زوجته: اسأل الله أن يزوجك من النبي صلى الله عليه وعلى آله إن كان ولا بد، قال: لا أحب أ، أصير ضرة عائشة.
ودخل ابن الجصاص على الوزير وبيده نبق مليح فسلمه إليه وقال: من الهزج
تفيلت بأن تبقى ... فأهديت لك النبقا
فقال له الوزير: يا أبا عبد الله ما تفليت ولكن تمعزت. فضحك من حضر ولم يفطن ابن الجصاص.
حج خراساني من أهل السنة، فلما حضر الموسم أخذ دليلاً يدله على المناسك، فلما فرغ أعطاه شيئاً يسيراً لا يرضيه، فأخذه منه ثم جاء به إلى بعض الأركان، فنطح الركن برأسه، فقال له الخراساني: ما هذا؟ قال: كان معاوية يأتي هذا الركن فينطحه برأسه، ولكما كانت النطحة أشد كان الأجر أعظم، فشد الخراساني على الركن ونطحه سالت الدماء منها على وجهه، وسقط مغشياً عليه، فتركه الرجل ومر.
قال بعضهم لأبيه: يا أبت قد علمت أن الرمادية الذين يبولون في الرماد، فما القدرية؟ قال الذين يخون في القدور.
كان في المدينة غلام يحمق، فقال لأمه: يوشك أن تريني عظيم الشأن، قالت: وكيف؟ فوالله ما بين لابتيها أحمق منك. فقال: والله ما رجوت هذا الأمر إلا من حيث يئست منه، أما علمت أن هذا زمان الحمقى وأنا أحدهم؟! جاء حائك إلى الأعمش فقال: ما تقول في الصلاة خلف الحائك؟ قال: لا بأس بها على غير وضوء، قال: فما تقول في شهادته؟ قال: تقبل شهادته مع شاهدين عدلين، فقال الحائك: هذا ولا شيء واحد.
وقد أكثر الناس في رمي الحاكة بالنقص حتى قيل عن بعض العلماء أنه قال: عقل سبعين امرأة عقل رجل واحد، وعقل سبعين حائكاً عقل امرأة واحدة.
وقال ميمون بن مهران: السلام على الحائك يوهن العقل الركين.
قيل لبعضهم: قد رزقت ابناً فاختر له كنية فقال كنوه: أبو عبد رب السموات السبع رب العرش العظيم.
وقال جمين لرجل: أبو من؟ قال: أبو عبد الكريم الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. فقال: مرحباً بك يا نصف القرآن، ارتفع.
وسمي رجل بأذربيجان ابنه: عبد من الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه.
جاز جحا بقوم وفي كمه خوخ فقال لهم: من أخبرني بما في كمي فله أكبر خوخة فيه، فقالوا: خوخ، فقال: ما قال لكم إلا من أمه زانية.
وقال له أبوه يوماً: احمل هذا الحب فقيره، فذهب به وقيره من خارج. فقال أبوه: أسخن الله عينك، رأيت من قير الحب من خارج، قال جحا: إن لم ترض به عافاك الله فاقلبه مثل الخف حتى يصير القير من الداخل.
وخرج يوماً بقمقم يستقي فيه من ماء النهر، فسقط من يده وغرق، فقعد على شط النهر، فمر به صاحب له فقال: ما يقعدك ها هنا؟ قال: قمقم لي قد غرق، وأنا أنتظر أن ينتفخ ويطفو فوق الماء.
سئل الشيرجي عن أربعين رأساً نصفها ضأن ونصفها ماعز ما الذي يجب فيها؟ قال: يجب فيها شاة نصفها ضأن ونصفها ماعز.
جازت جارية بجامع الصيدلاني فقال: قد قني البزر، فقال: كيف يبقى وأنتم تقعدون حوله عشرة عشرة.
ودخل السوق يوماً يشتري لابنته نعلاً فقالوا: كم سنها؟ فقال: لا أدري غير أنها في حاميم السجدة.
قال: اجتاز سفويه القاص بباب شوكس، فوطئ الشوك ودخل في رجله شوكة، فقال للشوكي: اجعلني في حل من هذه الشوكة فإني لست أقدر على إخراجها في هذه الساعة فكنت أردها عليك.
وصلى سيفويه بقوم وسلم عن يمينه ولم يسلم عن يساره، فقيل له في ذلك فقال: كان في ذلك الجانب إنسان لا أكمله.
وكان عبد الأعلى القاص يتكلف لكل شيء اشتقاقاً فقال: الكافر إنما سمي كافراً لأنه اكتفى وفر. قيل له: بماذا اكتفى؟ ومن أي شيء فر؟ قال: اكتفى بالشيطان وفر من الله سبحانه.
وقال: سمي الزنديق زنديقاً لأنه وزن فدقق. وسمي البلغم لأنه بلاء وغم، وسمي الدرهم درهماً لأنه دار وهم، وسمي الدينار ديناراً لأنه دين ونار؛ وسمي العصفور عصفوراً لأنه عصى وفر. وسمي الطفشيل طفشيلاً لأنه طفا وشال. وسمي نوح نوحاً لأنه ناح على قومه، وسمي المسيح مسيحاً لأنه مسح الأرض صلى الله عليه.
استفتي بعض الحمقى في إتيان النساء في أدبارهن فقال: مالك يبيحه، وغيره من الفقهاء يقول: إنه إذا استكرهت المرأة عليه وجب على الزوج أن يزيد في صداقها عشرة دراهم، وإن كان ذلك برضى منها نقص منه عشرة دراهم. والتفت إلى ابن له حاضر وأشار إليه فقال: تزوجت أم هذا على اثني عشر ألف درهم عقدت بها على نفسي، وقد حصل لي الآن عليها أربعمائة وخمسون درهماً.
حلق بعض القصاص لحيته وقال: إنها نبتت على معصية. وقير آخر إحدى عينيه وقال: النظر بهما إسراف.
وكان بعضهم يتشدد في خلق القرآن، فسئل عن معاوية المخلوق هو: قال: كان إذا كتب الوحي غير مخلوق، وإذا لم يكتبه كان مخلوقاً.
وكان بالشام قاص يقول: اللهم أهلك أبا حسان الدقاق، فإنه يتربص بالمسلمين ويغلي أسعارهم، ومنزله أول باب الدرب على يسارك.
قال أبو سالم القاص: لو كانت هند بنت عتبة حين لاكت كبد حمزة أجازتها إلى جوفها ما مستها النار، فقال النهرتيري: اللهم أطعمنا من كبد حمزة.
ادعى رجل على امرأة شيئاً عند القاضي فأنكرت، فقال لها: إن كنت كاذبة فأير القاضي في حرك، فتوقفت، فقال لها القاضي: قولي وإلا فاخرجي من حقه.
اختصم رجلان إلى قاض في ديك ذبحه أحدهما فقال: ارتفعا إلى الأمير، فإنا لا نحكم في الدماء.
كان كثير يحمق، وله في ذلك أخبار مشهورة. فمن نوادرها قال طلحة بن عبيد الله بن عوف، دخلت عليه يوماً في نفر من قريش، وكنا كثيراً ما نتهزأ به، فقلنا له: كيف تجدك يا أبا صخر؟ قال: بخير، ما سمعتهم الناس يقولون شيئاً؟ قلنا: نعم يتحدثون أنك الدجال، فقال: والله إن قلتم ذاك إني لأجد في عيني هذه ضعفاً منذ أيام. وكان يقول بالرجعة ويتشيع تشيعاً قبيحاً.
دخل عليه عبد الله بن حسن بن حسن يعوده في مرضه الذي مات فيه، فقال له كثير: أبشر فكأنك بعد أربعين يوما قد طلعت على فرس عتيق. فقال له عبد الله بن حسن: ما لك عليك لعنة الله، والله لئن مت لا أشهدك ولا أعودك ولا أكلمك أبداً.
وكان أبو هاشم محمد بن علي قد وضع الأرصاد على كثير فلا يزال يؤتي بالخبر من خبره، فيقول له إذا لقيه: كنت في كذا وكذا، إلى أن جرى بين كثير وبين رجل كلام فأتي به أبو هاشم، فأقبل كثير فقال له أبو هاشم: كنت الساعة مع فلان، فقلت له كذا وكذا، وقال لك كذا وكذا، فقال له كثير: أشهد أنك رسول الله.
ونظر إلى بني حسن بن حسن وهم صغار فقال: وبأبي هؤلاء الأنبياء الصغار.
وكانت لكثير عمة بزرة، فكان يدخل عليها فتكرمه وتطرح له وسادة يجلس عليها. فقال لها يوماً : والله لا تعرفيني ولا تكرميني حق كرامتي، فقال: بلى والله إني لأعرفك، قال: ومن أنا؟ قالت: ابن فلان وابن فلانة، وجعلت تمدح أباه وأمه، فقال: قد علمت أنك لا تعرفيني، قالت فمن أنت؟ قال: أنا يونس بن متى.
قيل: كان بشار بن برد جالساً في دار المهدي، والناس ينتظرون الإذن. فقال بعض موالي المهدي، وهو المعلي بن طريف، لمن حضر: ما عندكم في قول الله عز ولج: " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً " " النحل: 68 " فقال له بشار: النحل التي يعرفها الناس، قال: هيهات يا أبا معاذ، النحل بنو هاشم وقوله: " يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس " " النحل: 69 " يعني العلم، فقال له بشار: أراني الله شرابك وطعامك مما يخرج من بطون بني هاشم فقد أوسعتنا غثاثة. فضغب وشتم بشاراً. وبلغ المهدي الخبر فدعاهما فسألهما عن القصة فحدثه بشار فضحك حتى أمسك على بطنه، وقال للمولى: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم فإنك بارد غث.
اشترى المؤمل بن جميل بن يحيى بن أبي حفصة غلاماً مدينياً مغنياً من مولدي السند على البراءة من كل عيب، يقال له المطرز. فدعا أصحاباً له ذات يوم، ودعا شيخين من أهل اليمامة مغنيين، يقال لأحدهما السائب وللآخر شعبة. فلما أخذ القوم مجلسهم، ومعهم المطرز، اندفع الشيخان فغنياه، فقال المطرز لمولاه: ويلك يا بان جميل يا ابن الزانية، تدري ما فعلت ومن عندك؟ قال: ويلك، أجننت؟ ما لك؟ قال: أما أنا فأشهد أنك تأمن مكر الله حين أدخلت منزلك هذين.
قال: وبعثه يوماً يدعو أصدقاء له، فوجدهم عند رجل من أهل اليمامة، يقال له بهلول، وهو في بستان له، فقال لهم: مولاي ابن جميل قد أرسلني أدعوكم، وقد بلغتكم رسالته، وإن شاورتموني أشرت عليكم، قالوا: فأشر علينا، قال: فإني أرى ألا تذهبوا إليه، فمجلسكم والله أنزه من مجلسه وأحسن، فقالوا له: قد أطعناك، قال: وأخرى، قالوا: وما هي؟ قال: تحلفون علي ألا أبرح، ففعلوا، فأقام عندهم.
قال: وكان يبعثه إلى بئر لهم عذبة في بستانه يستقي ماء، فكان يستقيه ويصبه للجيران، ويستقي مكانه من بئر لهم غليظة، فإذا أنكر مولاه قال له: سل الغلمان أما أتيت البستان فاستقيت منه؟ فيسألهم فيجده صادقاً.
حدث أشعب قال: كانت بنت للحسين بن علي عليهما السلام عند عائشة بنت عثمان رحمه الله، فربتها حتى صار امرأة؛ وحج الخليفة فلم يبق بالمدينة خلق من قريش إلا وافى الخليفة، إلا من لا يصلح لشيء. فماتت بنت الحسين، فأرسلت عائشة إلى محمد بن عمرو بن حزم، وهو والي المدينة، وكان عفيفاً حديداً كبير اللحية، له جارية موكلة بلحيته إذا ائتزر لا يأتزر عليها؛ وكان إذا جلس للناس جمعها ثم أدخلها تحت فخذه فأرسلت عائشة: يا أخي قد ترى ما دخل علي من المصيبة بانتي، وغيبة أهلي وأهلها، وأنت الوالي. فأما ما يكفي النساء من النساء فأنا أكفيكه بيدي وعيني، وأما ما يكفي الرجال من الرجال فاكفنيه: مر بالأسواق أن ترفع، ومر بتجريد من يحمل نعشها، ولا يحمل نعشها إلا الفقهاء والألباء من قريش بالوقار والسكينة، وقم على قبرها ولا يدخله إلا قرابتها من ذوي الحجى والفضل. فأتى ابن حزم رسولها حين تغدى ودخل ليقيل، فقال ابن حزم لرسولها: أبلغ ابنة المظلوم وأخبرها أني قد سمعت الواعية، وأردت الركوب إليها، فأمسكت عن الركوب حتى أبرد ثم أصلي وأنفذ كل ما أمرت به. وأمر حاجبه وصاحب شرطته برفع الأسواق، ودعا بحرس فقال: خذوا السياط حتى تحولوا بين الناس وبين النعش، إلا ذوي قرابتها، بالسكينة والوقار. ثم نام وانتبه فأسرج له، واجتمع كل من كان بالمدينة، وأتى باب عائشة حين أخرج النعش، فلما رأى الناس النعش التقفوه، فلم يملك ابن حزم ولا الحرس منه شيئاً، وجعل ابن حزم يركض خلف النعش ويصيح بالناس من السفلة والغوغاء، فلم يسمعوا حتى بلغ النعش القبر، فصلى عليها، ثم وقف فنادى من ها هنا من قريش؟ فلم يحضه إلا مروان بن أبان بن عثمان، وكان رجلا عظيم البطن نأنأ لا يستطيع أن يثني من بطنه، سخيف العقل، فطلع وعليه سبعة قمص كأنها درج بعضها أقصر من بعض، ورداء ثمن بألفي درهم، فقال له ابن حزم: أنت لعمري قريبها، ولكن القبر لا يسعك، فقال: أصلح الله الأمير، إنما تضيق الأخلاق، فقال ابن حزم: إنا لله، ما ظننت هذا هكذا كما أرى، فأمر له أربعة فأخذوا بضبعه حتى أدخلوه القبر، ثم أتى خرا الزنج، وهو عثمان بن عمرو بن عثمان، فقال: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته، ثم قال: واسيدتاه، وابنت أختاه، فقال ابن حزم: إنا لله، قد كان بلغني عن هذا أنه مخنث، ولم أكن أدري أنه بلغ هذا كله، دلوه فإنه عورة، هو والله أحق بالدفن منها. فلما أدخلا قال مروان لخرا الزنج: تنح إليك شيئاً، فقال له خرا الزنج: الحمد لله رب العالمين جاء كلب الوحشي يطرد كلب الإنسي، فقال لهما ابن حزم: اسكتا قبحكما الله، وعليكما لعنته، أيكما الإنسي من الوحشي؟ والله لئن لم تسكتا لآمرن بكما فتدفنان. ثم جاء خال للجارية من الحاطبين، وهو ناقة مريض لو أخذ بعوضة لم يضبطها فقال: أصلح الله الأمير، أنا خالها وأمي سودة، وأمها حفصة، ثم رمى نفسه في القبر فأصاب ترقوة خرا الزنج فصاح: أوه أصلح الله الأمير، دق والله ترقوتي. فقال ابن حزم: دق الله عرقوتك وترقوتك، اسكت ويلك، ثم أقبل على أصحابه فقال: ويلكم إني خبرت أن الجارية بادن، وأن مروان لا يقدر أن يثني من بطنه، وخرا الزنج مخنث لا يعقل سنة ولا دفنا، وهذا الحاطبي لو أخذ عصفوراً لم يضبطه لضعفه، فمن يدفن هذه الجارية؟ والله ما أمرتني ابنة المظلوم بهذا. فقال له جلساؤه: لا والله ما بالمدينة خلق من قريش، ولو كان في هؤلاء خير ما بقوا. فقال: من ها هنا من مواليهم؟ فإذا أبو هانئ الأعمى وهو طئرها. فقال ابن حزم: من أنت رحمك الله؟ قال: أبو هانئ ظئر عبد الله بن عمرو بن عثمان، وأنا أدفن أحياءهم وموتاهم، فقال له ابن حزم: أنا في طلبك، ادخل رحمك الله فادفن هؤلاء الأحياء حتى يدلى إليك الموتى. ثم أقبل على أصحابه فقال: وهذا أيضاً أعمى ولا يبصر، فنادوا من ها هنا من مواليهم، فإذا برجل بربري يقال له أبو موسى قد جاء، فقال له ابن حزم: من أنت أيضاً؟ قال: أنا أبو موسى صالمين، وأنا ابن أبي السمط سميطين، والسعيد سعيدين، والحمد لله رب العالمين. فقال ابن حزم: والعظيم لتكون لهم خامساً، رحمك الله يا بنت رسول الله، ما اجتمع على جيفة خنزير ولا كلب ما اجتمع على جثتك، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال بعضهم: مررت بسكة من سكك البصرة، وإذا معلم قد ضرب صبياً، وأقام الصبيان صفاً وهو يقول لهم: اقرأوا، ثم جاء إلى صبي بجنب الصبي الذي ضربه فقال: قل لهذا يقرأ فإني لست أكلمه.
وكان لأبي داود المعلم ابن فمرض، فملا نزع قال: اغسلوه، قالوا: إنه لم يمت، قال: إلى أن يفرغ من غسله قد مات.
وقال بعضهم: مررت يوماً بمعلم والصبيان يحذفون عينه بنوى العنب، وهو ساكت، فقلت: ويحك أرى منك عجباً فقال: وما هو؟ قلت أراك جالساً والصبيان يحذفون عينك بنوى العنب فقال: اسكت ودعهم، فما والله إلا أن يصيب عيني شيء فأريك كيف أنتف لحى آبائهم.
وقال آخر: رأيت معلماً وقد جاءه غلامان قد تعلق أحدهما بالآخر وقال: يا معلم هذا عض أذني، فقال الآخر: والله ما عضضتها، وإنما هو عض أذن نفسه، فقال المعلم: يا ابن الخبيثة صار جملاً حتى يعض أذن نفسه؟! وقال: رأيت معلماً بالكوفة وهو شيخ مخضوب الرأس واللحية، وهو جالس يبكي، فوقفت عليه وقلت: يا عم مم تبكي؟ فقال: سرق الصبيان خبزي.
قال: ورأيت بالبصرة معلماً وقد جاء صبي فصفعه محكمة، فقال له المعلم: أيما أصلب هذه أم التي صفعتك بالأمس.
قال: وقرأ صبي على معلم: الذين يقولون لا تنفقوا إلا من عند رسول الله فقال المعلم: من عند أبيك القرنان أولى فإنه كثير المال.
قال معلم لغلام: " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " " الشمس: 10 " فقال الصبي: وقد داس من خباها، فلم يزل يكرر ذلك عليه إلى أن أعيته الحيلة، فقال المعلم: وقد داس من خباها، فقال الغلام: وقد خاب من دساها.
وقال آخر: مررت بأحدهم وصبي يقرأ عليه " فذلك الذي يدع اليتيم " " الماعون: 2 " والمعلم يرد عليه: يدعو اليتيم، ويضربه. قال: فجئت إليه وقلت: هذا من الأمر بالمعروف، فقلت: يا شيخ، الصبي على الصواب، وأنت على الخطأ، وإنما معنى يدع: يدفع قال: فزبرني وأغلظ على وقال: إنما معناه يدعو اليتيم ليفسق به، قال: فوليت عنه، وإذا به لا يرضى أن يخطئ حتى يكفر.
قال: وكان معلم يقرئ صبياً: وإذا قال لقمان لابنها تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً. قيل: ما هذا؟ قال: أبوه يدخل مشاهرة شهر في شهر، وأنا أدخله من سورة إلى سورة.
قرأ صبي على معلم: أريد أن أنكحك: قال: هذا إذا قرأت على أمك الزانية.
وقرأ آخر على معلم: وأما الآخر فتصلب فقال: هذا إذا قرأت على أبيك القرنان.
قيل: نكب بعض ندماء الخليفة نكبة اضطر معها إلى الاستتار، فاستتر وطال شعره، فقال للرجل الذي كان مستتراً عنده: قد كان لي غلام سندي مزين أعتقته، ولا أعرف خبره منذ حين، فاذهب إلى موضع كذا فاطلبه، واجلس إليه، ثم اذكرني له، فإنه رأيته يتوجع لي فعرفه مكاني وخذه معك، وإن رأيته يذمني أو يشكوني فدعه ولا تذكرني له. فذهب الرجل حتى لقيه وجاره خبر مولاه، فقال: يا سيدي ومنأين ترعفه؟ فإني والهلتالف شوقاً إليه واغتماماً له، أحسن الله صحبته حيث كان. فقال الرجل: هو عندي، وقد استدعاك. فنهض السندي وقبل يد الرجل وصار معه، فلما دخل إليه أظهر سروراً به وقبل الأرض بين يديه، وأخذ شعره وحجمه، فأعطاه ديناراً. فلما خرج لقي ابناً له فقال له: ويحك أليس وجه إلي فلان مولاي، وهو مستتر في دار فلان في الموضع الفلاني، فصرت إليه وخدمته وحجمته النقرة، فأعطاني ديناراً؟! فقال له ابنه ويلك حجمته النقرة بلا أخدعين وليس هذا حقه علينا، ولم يعرج على شيء حتى قصد الدار التي وصفها له أبوه ودق الباب وقال: أنا فلان ابن خادمك المزين المزين، ففتحوا له فدخل، وقبل يديه ورجليه وأظهر من الاغتمام بأمره مثل ما أظهر أبوه، ثم قال: عرفني غلامك أبي انه حجمك النقرة وحدها، وهذا وقت حاد، وقد ثار الدم، والوجه أن تحجم الأخدعين. فقال: لم يكن بي إلى هذا حاجة، والآن فقد أشرت به فاستخر الله تعالى، فحجمه الأخدعين، وأعطاه ديناراً وأخرجه. فلقي أخاً له وحكى له ما كان منه، فمر مبادراً وقال له مثل قوله، وفعل مثل فعله، حتى حجمه على الساقين، وأخذ ديناراً. وخرج فلقي صهراً له فأخبره بالقصة، فبادر مسرعاً حتى صار إلى الباب، ودخل وفعل مثل فعلهما وقال: لا بد مع حجامة الساقين والأخدعين من قطع الإجهارك، فقال الرجل: نعم لا أدري أي شيء ذنبي إليكم يا بني القحاب، اجلس، فأجلسه وقام وجلس في سميرية وانجدر إلى دار الخيفة، فلما رآه الحجاب يستأذن تعجبوا، ودخلوا يستأذنون له، فلما دخلانكب بين يدي الخليفة فقبل الأرض ثم قال: يا أمير المؤمنين اسمع قصتي وحالي، وقص عليه خبر الحجامينوما لقي منهم. وقال: هؤلاء أولاد القحاب هو ذا يأخذون دمي بالمحاجم، خذه أنت بالسيف دفعة واحدة وأرحني مما أنا فيه فضحك ووجع له ورده إلة منزلته.
حضر القطيعي مع قوم جنازة رجل، فنظر إلى أخيه فقال: هذا هو الميت أم أخوه؟ قال الجاحظ: كان لنا جار مغفل جداً، وكان طويل اللحية، فقالت له امرأته يوماً: من حمقك طالت لحيتك، فقال: من غير عير.
قال المأمون لمحمد بن العباس: ما حال غلتنا بالأهواز؟ وما أتاك من خبر سعرها؟ فقال: أما متاع أمير المؤمنين فقائم على سوقه، وأما متاع أم جعفر فمسترخي، فقال له: اغرب قبحك الله.
استعمل معاوية رجلاً من كلب، فذكر يوماً المجوس وعنده الناس: فقال: لعن الله المجوس ينكحون أمهاتهم، والله لو أعيطت مائة ألف ما نكحت أمي. فبلغ ذلك معاوية فقال: قاتله الله أترونه لو زادوه على مائة ألف فعل؟! كان عبد الله بن هلال الهنائي عنده زبيل حصى، فكان يسبح بواحدة واحدة، فإذا مل شيئاً طرح اثنتين اثنتين ثم ثلاثاً ثلاثاً، فإذا مل شيئاً قبض قبضة وقال: سبحان الله عدد هذا، وإذا مل شيئاً قبض قبضتين وقال سبحان الله بعدد هذا، وإذا بكر لحاجة لحظ الزبيل وقال: سبحان الله عدد ما فيه.
ولد لرجل طويل اللحية ابن، فجاء بمنجم يعمل له مولداً، فقال له: أحب أن تجعل عطارد في طالعه فإنه بلغني أنه يعطي الكتابة.
قال حمزة بن نصير لغلام له كان أحمق منه: أي يوم صلينا الجمعة بالرصافة؟ قال: والله ما أذكر جيداً، ولكن أحسبه كان يوم الثلاثاء، قال: صدقت كذا كان.
قال المنصور للربيع: كيف تعرف الريح؟ قال: أنظر إلى خاتمي، فإن كان سلساً فشمال، وإلا فهي جنوب. فقال للطلحي: فأنت كيف تعرف الريح؟ قال: أضرب بيدي إلى خصيتي فإن كانتا قد تقلصتا فهي شمال، وإن كانتا قد تدلتا فهي جنوب، فقال المنصور: أنت أحمق.
قال الحجاج لإسماعيل بن الأشعث، وكان يحمق: كيف ترى قصري؟ قال: أرى قصراً استعظم المؤونة على من أراد هدمه، فقال: قبحك الله، ويلك ما خالف بك إلى ذكر الهدم؟! مات لأبي العطوف ابن، وكان يتفلسف، فلما دلوه في القبر قال للحفار: أضجعه على شقه الأيسر فإنه أهضم للطعام.
عرض هشام بن عبد الملك الجند فأتاه رجل حمصي بفرس كلما قدمه نفر، فقال هشام: ما هذا عليه لعنة الله؟ قال الحمصي: يا سيدي هو فارة لكن شبهك ببيطار كان يعالجه فنفرز كان رجل يختلف إلى الأعمش فيؤثره، وكان أصحاب الأعمش يسوؤهم ذلك، ففتشوا الرجل فإذا هو حمار، وكان سكوته للعي، فقالوا: سل الأعمش كما نسأله نحن وخاطبه، فقال له يوماً: يا أبا محمد متى يحرم على الصائم الطعام؟ قال: إذا طلع الفجر، قال: فإن طلع نصف الليل؟ فقال له الأعمش: عد إلى ما كنت عليه من الخرس.
وقيل عن ابن خلف الهمداني إنه اطلع في الجب فرأى وجهه، فعدا إلى أمه وقال: يا أمي في الجب لص، فجاءت الأم وتطلعت، وقالت: أي والله ومعه قحبة.
وذكر بين يديه رجل فقال: هو رجل سوء، فقالوا له: من أين علمت؟ قال: قد أفسدت بعض أهلنا، قيل: ومن هو؟ قال أمي صانها الله.
وأخذ الطلق امرأته فقال: بالله أخرجيه ابناً ولك دينار، ولك ما شئت، بالله ما أحتاج أوصيك.
اعترض أبو الخندق الأرمني دوابه، فأصاب فيها واحداً أعجف مهزولاً فقال: هاتوا الطباخ، فبطحه وضربه خمسين مقرعة، فقال: يا سيدي، أنا طباخ لا أعرف أمر الدواب، قال: فلم لم تقل لي؟ اذهب الآن فإن أذنبت ذنباً ضربت السائس ستين مقرعة، بزيادة عشرة.
كتب المنصور إلى زياد بن عبد الله الحارثي ليقسم مالاً بين العميان والقواعد والأيتام. فدخل عليه أبو زياد التميمي، وكان مغفلاً فقال: أصلحك الله اكتبني في القواعد، فقال له: عافاك الله، القواعد من النساء اللواتي قعدن عن أزواجهن، فقال له: اكتبني في العميان، قال: اكتبوه فإن الله سبحانه وتعالى يقول " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " " الحج: 46 " فقال أبو زياد: واكتب ابني في الأيتام، قال: نعم من كنت أباه فهو يتيم.
قال بعضهم: رأيت رجلاً محموماً مصدعاً وهو يأكل التمر ويتكرهه، فقلت له: ويحك لم تأكل هذا في حالك هذه، يقتلك. فقال: عندنا شاة ترضع وليس لها نوى، فأنا آكل هذا التمر مع كراهتي له لأطعمها النوى، قال: فقلت له أطعمها التمر بالنوى، قال أو يجوز هذا؟ قلت: نعم، قال: والله فرجت عني، لا إله إلا الله، ما أحسن العلم.
قال الأصمعي: دخلت البادية ومعي شيء أودعته عند امرأة منهم. طلبته منها فأنكرت وجحدت، فقدمتها إلى شيخ منهم فقررها، فأقامت على إنكارها. فقال: قد علمت أنه لا يلزمها إلا اليمن أفتريد إحلافها، فقلت: لا تفعل، ألم تسمع قوله: من الوافر
ولا تسمع لسارقه يمينا ... ولو حلفت برب العالمينا
فقال: صدق الله ثم تهددها وتشدد عليها فأقرت وردت إلي مالي. فالتفت غلي الشيخ فقال في أي سورة هذا؟ فقلت في قوله: من الوافر
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا
فقال: سبحان الله، قد كنت ظننتها في : " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " " الفتح: 1 " .
حبس مصعب بن الزبير عبيد الله بن الحر الجعفي في بعض الأمور التي كان يجنيها، فكلمت مذحج الأحنف بن قيس ليكلم مصعباً فيه، فكلمه حتى خلى سبيله. فبينا الأحنف يوماً جالس وعنده جماعة إذ جاءه عبيد الله بن الحر فوقف عليه وقال: كيف أنت يا أبا بحر؟ جزاك الله خيراً، قد بلغني ما كان منك، اعلم أنني نظرت في أمري وأمرك ومجازاتك، فإذا أنت أوجه مني فلست تحتاج إلى جاهي، وأنت فلا تستحل شيئاً من مكاسبي، وإذا ليس شيء أمثل من ضربة بسيف تدخل بها الجنة وأدخل أنا بها النار. فجعل الأحنف يضحك ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وعبيد الله يقول له: إن أذنت لي عجلتها لك.
ويشبه هذا ما حكي عن بعض العلويين أنه نزل ببعض نواحي خراسان، وكان أهلها شيعة، فأكرموه وخدموه، فلما كان الليل رآهم يتشاورون، فجاء إليه رجل وأعمله أنهم عزموا على قتله، وقالوا: كل بلد جليل فيه مشهد لآل محمد عليه السلام، ونحن لا مشهد عندنا، فنقتل هذا العلوي ونبني عليه مشهداً وقبة ويكون فخراً لنا بزيارته، فترك العلوي رحله وهرب ليلاً.
اصطحب اثنان من الحمقى في طريق، فقال أحدهما لصاحبه: تعالى حتى نتمنى، فإن الطريق يقطع بالحديث والتمني، قال: تمن، قال: أتمنى قطائع غنم حتى أنتفع بألبانها وصوفها ولحمها ويخصب معها رحلي، ويشبع أهلي. قال الآخر: أنا أتمنى قطائع ذئاب أرسلها على غنمك حتى تأتي عليها. قال: ويحك هذا من حق الصحبة وحرمة العشرة؟ وتلاحما واشتدت الملحمة بينهما، ثم قال: نرضى بأول من يطلع علينا نتحاكم إليه، فبينما هما كذلك طلع عليهما شيخ يسوق حماراً، وعليه زقان مملوءان عسلاً، فساقت وقفاه وحدثاه فقال: قد فهمت حديثكما، وفتح رأس الزقين حتى سال العسل في التراب، وقال: صب الله دمي مثل هذا العسل إن كنت رأيت أحمق منكما.
قيل: كان كيسان صاحب أبي عبيدة مضعفاً بليداً يأتي سهواً كثيراً، فسئل أبو عبيدة عن اسم بعض العرب فأنكر معرفته، وكيسان حاضر، فقال: أنا أعرف اسمه، فقال أبو عبيدة: ما هو؟ قال: خراش أو خداش أو رياش أو حماش أو شيء آخر. فقال أبو عبيدة: ما أحسن ما عرفته، فقال: نعم وهو مع ذاك قرشي، فاعتاظ أبو عبيدة وقال: من أين علمت أنه قرشي؟ قال: أما رأيت اكتناف الشينات عليه من كل جهة.
قال رجل للحسن: يا أبا سعيد أنا أفسو في ثوبي وأصلي فيه هل يجوز؟ قال: نعم لا كثر الله في المسلمين مثلك.
سمع رجل من ينشد: من الطويل
وكان أخلائي يقولون مرحبا ... فلما رأوني معدماً مات مرحب
فقال: مرحب لم يمت، قتله علي عليه السلام.
كان الوليد بن يزيد يلعب بالشطرنج، فاستأذن عليه رجل من ثقيف، فسترها ثم سأله عن حاله وقال له: أقرأت القرآن؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قد شغلني عنه أمور وهنات. قال: أفتعرف الفقه؟ قال: لا والله؟ قال: أتروي من الشعر شيئاً قال: ولاش، فكشف عن الشطرنج وقال: شاهك، فقال له عبد الله ابن معاوية: مه يا أمير المؤمنين، قال: اسكت فما معنا أحد.
قالوا: استأذن العقل على الحظ فحجبه، قال: أتحجبني وأنا خير منك؟ قال: وأنت ما تساوي إذا لم أكن معك؟ قيراط من حظ خير من كر عقل.
قال الأعرابي لابنه: ما لي أراك ساكناً والناس يتكلمون؟ قال: ما أحسن ما يحسنون. قال: إن قيل لا فقل أنت نعم، وإن قيل نعم فقل أنت لا، وشاغبهم ولا تقعد غفلاً لا يشعر بك.
كانت بربيعة بن عمرو طرقة أي جنون، ولذلك لقب بحوثرة، وهو أبو الحواثر من عبد القيس، فغرس فسيلاً فكان يسقيه بالنهار، فإذا كان الليل اقتلعه وأدخله بيته، فقيل له في ذلك فقال: أخزى الله مالاً لا تغلق عليه بابك.
المتنبي: من المتقارب
لقد كنت أحسب قبل الخصي ... ي ان الرؤوس مقر النهى
فلما نظرت إلى عقله ... رأيت النهى كلها في الخصى
قيل لمعلم: ليس لك درة. قال: وما أصنع بها؟ أقول من لم يرفع صوته بالهجاء فأمه قحبة، فيرفعون أصواتهم فهذا أبلغ وأسلم.
قال بعضهم: ما أحسن ما قال الله: اقتلوا السفلة حيث وجدتموهم فقيل له: ليس هذا بقرآن، قال: ألحقوه به فإنه آية حسنة.
قال لرجل غلامه: قد سرق الحمار يا سيدي، فقال الحمد لله الذي لم أكن على ظهره.
مدح شاعر أميراً فقال: من الكامل المجزوء
أنت الهمام الأريحي ... الواسع ابن الواسعة
فقال له: من أين عرفتها؟ فقال: قد جرتبها، فقال: أسوأ من شعرك ما أتيت به من عذرك.
يتلوه: باب المشورة والرأي.
الباب الرابع عشر
في المشورة والرأي صوابه وخطئه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المطلع على مصير الأمور ومآلها، العليم قبل وقوعها بأعقابها ومآبها، الموجه دقائق الفكر والآراء لأربابها، والمنبه لهم بتوفيقه على خطأها وصوابها، موفق الألسنة عند النطق لسدادها، وهادي القلوب عند التدبير لرشادها، يمد كلا بتأييد لا يتم صلاحها إلا بمدده، وتخون كل عدة ليست من جهوده وعدده. وأحمده وله المنة على الحمد، وأستمد منه بصيرة تهدي لى الرشد. وأسأله الصلاة على نبيه المؤيد بأمداد الغيوب، المخصوص بكشف السر المحجوب، وأمر مع ذلك عن غير ضرورة بمشاورة نصحائه، وعضد آرائهم برائه، تأديياً لأمته واستناناً، وإيضاحاً لبركة المشورة وفضيلتها وبياناً. صلى الله عليه وعلى آله ما قدح الرأي زناد الصواب، وكشفت التجارب بصيرة ذوي الألباب.قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله " " آل عمران: 159 " واختلف أهل التأويل في أمره بالمشاورة مع ما أمده بالتوفيق وأعانه بالتأييد على أربعة أوجه: أحدها أنه أمره بمشاورتهم في الحرب ليستقر له الرأي الصحيح فيه، فيعمل عليه، وهذا قول الحسن. وقال: ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم. والثاني: انه أمره بمشاورتهم لما علم فيها من الفضل وعاد بها من النفع، وهذا قول الضحاك. والرابع: انه أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون ويتبعه فيها المؤمنون، وإن كان من مشاورتهم غنياً، وهذا قول سفيان.
وقد روي عن الحسن أنه قال: إن الله عز وجل لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه لحاجة منه إلى آرائهم، ولكنه أحب أن يعلمه ما في المشاورة من البركة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا افتقر من اقتصد.
وقال عليه السلام: المستشير معان.
وقال علي كرم الله وجهه: من أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل.
وقال أعرابي: ما غبنت قط حتى يغبن قومي. قيل: وكيف ذاك؟ قال: لا أفعل شيئاً حتى أشاورهم.
وكان يقال: ما ستتنبط الصواب بمثل المشاورة، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر.
وقال ابن المقفع: لا يقذفن في روعك أنك إذا استشرت الرجال ظهر للناس منك الحاجة إلى رأي غيرك، فيقطعك ذلك عن المشورة، فإنك لا تريد الرأي للفخر به ولكن للإنتفاع. ولو أنك أردت الذكر لكان أحسن الذكرين عند الألباء أن يقال: لا ينفرد برأيه دون ذوي الرأي من إخوانه.
وقال صاحب كليلة ودمنة: لا بد لصاحب السر من مستشار مأمون يفضي إليه بسره، ويعاونه على رأيه؛ فإن المستشير وإن كان أفضل من المستشار رأياً فقد يزداد برأيه رأياً كما تزداد النار بالسليط ضوءاً. وعلى المستشار موافقة المستشير على صواب ما يرى، والرفق في تبصيره خطأ إن أتى منه، وإجالة الرأي فيما أشكل عليهما حتى يستقيم لهما بتعاونهما، فإذا لم يكن المستشار كذلك فهو على المستشير مع عدوه.
وقال بشار: من الطويل
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي رافدات القوادم
وخل الهوينا للضعيف ولا تكن ... نؤوماً فإن الحزم ليس بنائم
وأدن من القربى المقرب نفسه ... ولا شتهد الشورى امرءاً غير كاتم
وما خير كف أمسك الغل أختها ... وما خير سيف لم يؤيد بقائم
قال الأصمعي: قلت لبشار: إن الناس يعجبون من أبياتك في المشورة، قال: يا أبا سعيد إن المشاور بين صواب بفوز بثمرته، وخطأ يشارك في مكروهه، فقلت: أنت والله في قولك أشعر منك في شعرك.
وأنشد ابن الأعرابي: من الطويل
وأنفع من شاورت من كان ناصحاً ... شفيقاً فأبصر بعدها من تشاور
وليس بشافيك الشفيق ورأيه ... غريب ولا ذو الرأي والصدر واغر
وقال جعفر بن محمد: لا تكونن أو لمشير، وإياك والرأي الفطير، وتجنب ارتجال الكلام، ولا تشر على مستبد برأيه، ولا على وغد ولا متلون ولا على لجوج، وخف الله من موافقة هوى المستشير، فإن التماس موافقته لؤم، وسوء الاستماع منه خيانة.
وقالت الفرس: ينبغي أن يكون المستشار صحيح العلم، مهذب الرأي، فليس كل عالم عارفاً بالرأي الصائب، وكم نافذ في شيء ضعيف في غيره. وقد يكون المستشار مستقيم الرأي، سديد التدبير، فتعرض له آفة أخرى: إما في خليقته ومقاصده، فلا يكون صوابه ملائماً لما هو صواب للملك، أو يكون مائلاً بهواه فيما استشير فيه إلى نفع صديق أو ضر عدو. ومثال الأول: أن يكون بخيلاً فيحسن البخل لحسنه عنده، أو جباناً فيشير بما يدعوه إلى الجبن، أو يكون مبذراً أو متهوراً فبالضد. فإذا عرف الملك سلامة المستشار من هذه الشوائب وسمع مشورته، طالبه بالدليل على الصواب عنده عمل به. وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر بقوله: وهي تروي لأبي الأسود الدؤلي واسمه الحارث بن ظالم: من الطويل
وما كل ذي لب بمؤتيك نصحه ... وما كلموت نصحه بلبيب
ولكن إذا ما استجمعا عند واحد ... فحق له من طاعة بنصيب
وكان اليونان والفرس لا يجمعون وزراءهم على الأمر يستشيرون فيه، إنما يستشيرون الواحد منهم من غير أن يعلم الآخر به، لمعان شتى منها: لئلا يقع بين المشاورين منافسة تذهب أصالة الرأي وصحة النظر فيه، لأن من طباع المشتركين في الأمر التنافس والتغالب والطعن من بعضهم عل بعض، وربما أشار أحدهم بالرأي الصواب وسبق إليه فحسده الآخرون وتعقبوه بالاعتراض والتأويل والتهجين، وكدروه وأفسدوه، وشبهوا الباطل بالحق ليصيروا حقه باطلاً. وفي اجتماعهم أيضاً على المشورة تعريض السر للإذاعة والإشاعة، فإن كان ذلك لم يستطع الملك المقابلة على كشف سره لأنه لا يعلم أيهم جنى فيه، فإن عاقب الكل عاقب بريئاً بذنب مجرم، وإن عفا عنهم ألحق الجاني بمن لا ذنب له.
وقالت الفرس: إنما يراد الاجتماع والكثرة والتناصر في الأمور التي تحتاج إلى القوة، أو ما يخشى فيه الخيانة، فأما الآراء والأمور الغامضة فإن الاجتماع يفسدها، ويولد فيها التضاغن والتنافس، وربما انقبض أحدهم عن تقسيم الآراء وذكر ما يعترض فيها لما يتخوفه من منافسة ومشاحنة. وإنما يكون الرأي في الجفلى إذا خلصت النيات وصفت، فحينئذ تقع المجاراة فيه والتعارض حتى يصفو ويخلص ويتضح ولا يبقى فيه مراء ولاشك، وذلك في الأمر الذي يعم ضرره ونفعه للجماعة مثل القبيلة أو العصبة إذا حزبهم أمر يخافون من تييع الحزم فيه بآفة تعمهم، فإنهم حينئذ يدعون التحاسد والتنافس، ويقبلون الصواب ممن جاء به منهم لأن صلاح ذلك يعمهم والخطأ فيه يشملهم.
وقال ابن المقفع: اعلم أن المستشار ليس بكفيل، وأن الرأي ليس بمضمون، بل الرأي كله غرر لأن أمور الدنيا ليس شيء منها بثقة، وليس شيء من أمرها يدركه الحازم إلا وقد يدركه العاجز؛ بل ربما أعيا الحزمة وأمكم العجزة. فإذا أشار عليك صاحبك برأي ثم لم تحمد عاقبته فلا تجعلن ذلك عليه لوماً وعذاباً بأن تقولك أنت فعلت هذا بي، وأنت أمرتني، ولولا أنت ولا جرم لا أطعتك، فإن هذا كله ضجر ولؤم وخفة. وإن كنت أنت المشير فعمل برأيك أو ترك فبدا صوابه فلا تمنن عليه، ولا تكثرن ذكره إن كان فيه نجاح، ولا تلم عليه إن كان استبان في تركه ضرر، وتقول: ألم أفعل؟ ألم أقل؟ فإن ذلك مجانب لأدب الحكماء.
قال أفلاطن: إذا استشارك عدوك فجرد له النصيحة لأنه بالاستشارة قد خرج من عداوتك إلى موالاتك.
وقيل: إذا أردت أن تعرف الرجل فشاوره، فإنك تقف من مشاورته على جوره وعدله، وحبه وبغضه، وخيره وشره.
وقيل: من طلب الرخص من النصحاء عند المشاورة، ومن الأطباء عند المرض، ومن العلماء عند الشبهة، أخطأ منافع الرأي، وازداد في المرض، وحمل الوزر في الدين.
وقيل: من بذل نصيحته واجتهاده لمن لا شكر له فإنما هو كمن بذر بذرة في السباخ، أو أشار على المعب، أو سار الأصم.
وكان ابن هبيرة يقول: إياك وصحبة من غايته خاصة نفسه، والانحطاط في هوى مستشيره، وهو من لا يلتمس خالص مودتك إلا بالتأتي لموافقة شهوتك، ومن يساعدك على سرور ساعتك ولا يفكر في حوادث غدك.
كتب الحجاج إلى المهلب يعجله في حرب الأزارقة، فكتب إليه المهلب: إن البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره.
وكان عبد الله بن وهب الراسبي متقدماً في الخوارج، من ذوي آرائهم، وكان يقول: إن الرأي ليس بنهبي، وخمير الرأي خير من فطيره. ورب شيء غابه خير من طريه، وتأخيره خير من تقديمه. وقيل له يوم عقدت له الخوارج: تلكم، فقال: ما أنا والرأي الفطيرة والكلام القضيب. وكان يقول: نعوذ بالله من الرأي الدبري، وهو الذي يعرض بعد وقوع الشيء.
قال جرير: من الطويل
ولا يعرفون الشر حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الأمر إلا تدبرا
ويقال:
أناة في عواقبها درك خير من معاجلة ... في عواقبها فوت
وأنشد الرياشي: من البسيط
وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
وللقطامي: من الوافر
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه ابتاعا
ويقال: من لم ينفعك ظنه، لم ينفعك يقينه.
وقال عبد الله بن الزبير: لا عاش بخير من لم ير برأيه ما لم ير بعينه.
وقال أوس بن حجر: من المنسرح
الألمعي الذي يظن لك الظ ... ظن كأن قد رأى وقد سمعا
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في ابن عباس: إنه ينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
وقال الشاعر: من الطويل
تجللته بالرأي حتى أريته ... به ملء عينيه مكان العواقب
آخر: من الطويل
بصير بأعقاب الأمور كأنما ... تخاطبه من كل أمر عواقبه
وقال آخر: من الطويل
من النفر المدلين في كل حجة ... بمستحصد من جولة الرأي محكم
كان معاوية يقول: لقد كنت ألقي الرجل من العر بأعلم أن في قلبه علي ضغناً، فأستشيره، فيثور إلي منه بقدر ما يجد في نفسه، فما يزال يوسعني شتماً وأوسعه حلماً حتى يرجع صديقاً أستنجده فينجدني.
قال جعفر بن محمد: من استشار لم يعدم عند الصواب مادحاً وعند الخطأ عاذراً.
وأحسن ابن الرومي في وصف ذي رأي محكم بقوله: من الطويل
تراه عن الحرب العوان بمعزل ... وآثاره فيها وإن غاب شهد
كما احتجب المقدار والحكم حكمه ... عن الناس طراً ليس عنه معرد
ومن كلام لعبد الله بن المعتز: مشاورة المشفق الحازم ظفر، ومشاورة المشفق غير الحازم خطر. ومنه: المشورة راحة لك وتعب على غيرك.
وقال الأحنف: لا تشاور الجائع حتى يشبع، ولا العطشان حتى يروى، ولا الأسير حتى يطلق، ولا المضل حتى يجد، ولا الراغب حتى ينجح.
ومن الآراء قول الأحنف لأبي موسى لما حكم: يا أبا موسى، إن هذا الأمر له ما بعده من عز الدنيا أو ذلها آخر الدهر. ادع القوم إلى طاعة علي فإن أبوا فادعهم إلى أن يختار أهل الشام من قريش العراق من أحبوا، وإياك إذا لقيت ابن العاص أن تصافحه بنية، أو أن يقعدك على صدر المجلس، فإنها خديعة، وأن يضمك وإياه بيت يكمن لك فيه الرجال. ودعه فليتكلم لتكون عليه بالخيار، فإن البادئ مستغلق، والمجيب ناطق. فعمل أبو موسى بخلاف ما أشار به، فقال له والتقيا بعد ذلك: أدخل والله قدميك في خف واحد.
وقال قتيبة بن مسلم في الرأي: إذا تخالجتك الأمور فاستقل بأعظمها خطراً، فإن لم يستبين فأرجاها دركاً، فإن اشتبهت عليك فأحراها أن لا يكون لها مرجوع عليك.
قال الفضل بن سهل: الرأي يسد ثلم السيف، والسيف لا يسد ثلم الرأي.
ولما سار رسول الله صلى الله عليه وعلى آله إلى قريش في غزاة بدر، نزل أدنى ماء من بدر، فقال له الحباب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أنزلكه الله عز وجل ليس لك أن تتقدمه ولا تتأخره أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله فإن ليس بمنزل، فارحل بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فتنزله، ثم تغور ما سواه من القلب، ثم تبتني عليه حوضاً فتملأه، ثم تقابل القوم فتشرب ولا يشربون. فقال صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي. وفعل ما أشار به مع عناية الوحي المؤيد له عن مشورة الرأي.
طاهر بن الحسين: من البسيط
اعمل صواباً تنل بالحزم مأثرة ... فلن يذم لأهل الحزم تدبير
فإن هلكت برأي أو ظفرت به ... فأنت عند ذوي الألباب معذور
وإن ظهرت على جهل وفزت به ... قالوا جهول أعانته المقادير
أنكد بدنيا ينال المخطئون بها ... حظ المصيبين والمقدور مقدور
استشار المنصور خاصة أهله وأصحابه في تولية المهدي السواد وكور دجلة، فاستصوب كلهم رأيه إلا أبا العباس الطوسي فإنه استخلاه ثم قال له: أرأيت إن سلك المهدي غير سيرتك، واستعمل التسهيل، كنت ترضى بذلك؟ قال: لا والله، قال فأنت تريد أن تحببه إلى الرعية، وتقليدك إياه يبغضه إليهم، لا سيما ما قرب منك، ولكن تولي هذه الولاية عيسى بن موسى، وتجعل المهدي الناظر في ظلامات الناس منه، وتأمهر بأخذه بإنصافهم، فضحك منه حتى فحص برجليه.
وروي أن الحجاج استعمل عاملاً على الفلوجتين، فلما وردها قال: هل ها هنا دهقان يعاش برأي؟ فقيل له: جميل بن بصبهرى، فأحضره وشاوره، فقال له جميل: أخبرني أقدمت لرضى ربك، أم لرضى نفسك، أم لرضى من يقلدك؟ قال: ما استشرتك إلا لرضى الجميع. قال: فاحفظ عني خلالاً: لا يختلف حكمك في رعيتك. وليكن حكمك على الشريف والوضيع سواء، ولا تتخذن حاجباً ليرد عليك الوارد من أهل عملك على ثة من الوصول إليك، وأطل الجلوس لأهل عملك يتهيبك عمالك، ولا تقبل هدية فإن صاحبها لا يرضى بثلاثين ضعفاً مثلها، فإذا فعلت ذلك فاسلخ جلودهم من فروعهم إلى أقدامهم. قال: فعملت برأيه فجبيتها ثمانية عشر ألف ألف درهم.
قال الرضي: من المنسرح
يعجبني كل حازم الرأي لا ... يطمع في قرع سنه الندم
إن قام خفت به شمائله ... أو غار خفت بوطئه القدم
وقال: من الطويل
يغامر بالآراء قبل جيوشه ... وبيض الظبا بيض بغير فلول
فإن غنم الجيش المغير وراءه ... فما غنمه في الحرب غير غلول
وقال محمد بن هانئ: من الطويل
وكل أناة في المواطن سؤدد ... ولا كأناة من قدير محكم
وما الرأي إلا بعد طول تثبت ... ولا الحزم إلا بعد طول تلوم
ومن الآراء الصائبة ما رآه عبد الملك بن مروان لما نفى ابن الزبير بني أمية؛ قيل: لما خلع عبد الله بن الزبير يزيد بن معاوية هم بقتل بني أمية الذين بالحجاز، فشاور في ذلك إخوته المنذر وعروة ومصعباً فأشار به عليه المنذر وخالفه عروة ومصعب، وقالا له: انفهم عن المدينة وإلا أفسدوا أمرك بها، فكتب بنفيهم، وورد كتابه بذلك وعبد الملك مجدور، ففزع مروان إلى رأي ابنه عبد الملك، وكان منذ كان غلام مجتمع الرأي حازماً صليباً، فقال له: بادر بالخروج قال: فإني قد استنظرتهم فأجلوني أياماً، قال: لا تفعل، فإن هذا رأي تفرد به أو شاور فيه من إخوته من اختفلت آراؤهم فيه عليه، ولو شاور كهول أصحابه لأشاورا عليه بقتلنا، وأعلموه أنا إن خرجنا إلى الشام جررنا عليه شراً، فاهتبل هذا الأمر وانج قبل أن تندم، فقال له: وكيف أصنع وأنت مجدور؟ قال: إنه لا بأس علي. فساروا وحمل عبد الملك في هودج، واحتثوا في المسير فلم يحلوا عقدة حتى نزلوا شبيكة الدوم. صم شاور ابن الزبير أصحابه الكهول مثل ابن مطيع وابن صفوان ونظرائهم، فعجزوه وفيلوا رأيه فيما صنع، وقالوا له: أدرك القوم، فوالله لئن وصلوا إلى الشام ليرجعن إليك في الجيوش. فكتب إلى عامله عبد الرحمن بن حنظلة الغسيل الأنصاري: أقرر بني أمية ولا تهج منهم أحداً، فكتب إليه ابن حنظلة بخبرهم وشخوصهم.
وقال إبراهيم بن العباس في وصف الرأي: من الكامل المرفل
يمضي الأمور على بديهته ... وتريه فكرته عواقبها
فيظل يصدرها ويوردها ... فيعم حاضرها وغائبها
وإذا الحروب غلت بعثت لها ... رأياً تفل به كتائبها
رأياً إذا نبت السيوف مضى ... قدماً بها فسقى مضاربها
قال معن بن زائدة: كنا في الصحابة سبعمائة رجل، فكنا ندخل على المنصور في كليوم، فقلت للربيع: اجعلني في آخر من يدخل عليه، فقال لي: لست بأشرفهم فتكون في أولهم ولست بأخسهم نسباً فتكون في آخرهم، وإن مرتبتك لتشبه نسبك. فدخلت على المنصور ذات يوم وعلي دراعة فضفاضة وسيف حتفي أقرع بنعله الأرض، وعمامة قد سدلتها من قدامي ومن خلفي، فسلمت عليه وخرجت، فلما صرت عند الستر صاح بي: يا معن، صيحة أنكرتها فلبيتها، فقال: إلي، فدنوت منه فإذا به قد نزل عن فرشه إلى الأرض، وجثا على ركبتيه، واستل عموداً من بين فراشين، واستحال لونه، ودرت أوداجه وقال: إنك لصاحبي يوم واسط لا نجوت إن نجوت مني. قال، قلت: يا أمير المؤمنين، تلك نصرتي لباطلهم فكيف نصرتي لحقك؟ فقال: كيف قلت؟ فأعدت عليه القول، فما زال يستعيدني حتى رد العمود إلى مستقره واستوى متربعاً وأسفر لونه وقال: يامعن إن باليمن هنات، قلت: يا أمير المؤمنين ليس لمكتوم رأي، وهو أول من أرسلها مثلاً، فقال: أنت صاحبي فاجلس، قال: فجلست، وأمر الربيع فأخرج كل من كان في الدار، وخرج الربيع. فقال لي: إن صاحب اليمن قد هم بالمعصية، أريد أم آخذه أسيراً، ولا يفوتني شيء من ماله. قال، قلت: ولني اليمن وأظهر أنك قد ضممتني إليه، ومر الربيع أن يزيح علتي في كل ما أحتاج إليه، ويخرجني في يومي هذا لئلاً ينتشر الخبر. قال: فاستل عهداً من بين فراشين، فوقع اسمي فيه وناولنيه، ثم دعا الربيع فقال: يا ربيع إنا قد ضممنا معناً إلى صاحب اليمن فأزح علته في ما يحتاج إليه من السلاح والكراع، ولا يمس إلا وهو راحل. قال: ثم ودعني فودعته وخرجت إلى الدهليز. فلقيني أبو الوالي فقال: يا معن أعزز علي بأن تضم إلى ابن أخيك. قال فقلت: إنه لا غضاضة على الرجل بأن يضمه سلطانه إلى ابن أخيه. وخرجت إلى اليمن فأتيت الرجل فأخذته أسيراً، وقرأت عليه العهد، وقعدت في مجلسه.
استأذن زياد معاوية في الحج فأذن له، وبلغ ذلك أبا بكرة، وكان أخاه من أمه، أمهما سمية، وكان حلف أن لا يكلم زياداً يحث رجع عن الشهادة على الغيرة، وأن لا يظله وإياه سقف بيت أبداً. فدخل أبو بكرة دار الإمارة عل زياد، فأمر زياد بكرسيين فوضعا في صحن القصر ليمينه، فجلس أبو بكرة على أحدهما وزياد على الآخر، ومع زياد بني له حيث مشى. فقال أبو بكرة لابنه: تعال يا ابن أخي، فجاء الصبي فجلس في حجره، فقال له: كيف أنت؟ كيف أهلك؟ اسمع مني يا ابن أخي، وإنما يريد أن يسمع زياداً: إن أباك هذا أحمق، فجر في الإسلام ثلاث فجرات ما سمعنا بمثلهن. أما أولهن فجحوده الشهادة على المغيرة، والله يعلم أنه قد رأى ما قد رأينا فكتم، وقد قال الله تعالى " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " " البقرة: 283 " فحلفت ألا أكلمه أبداً؛ وأما الأخرى فانتقاؤه من عبدي وادعاوه إلى أبي سفيان، وأقسم لك يا ابن أخي صادقاً ما رأى أبو سفيان سمية قط في ليل ولا نهار، ولا جاهلية ولا إسلام؛ وأما الثالثة فأعظمهن: إنه يريد أن يوافي العام الموسم، وأم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم تأتي الموسم كل عام، فإن هو أتاها فأذنت له كما تأذن الأخت لأخيها فاعظم بها مصيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن هي حجبته فأعظم بها حجة عليه. ثم نهض، فقام زياد في أثره وأخذ بقميصه وقال: جزاك اللهم أخ خيراً فما تركت النصيحة لأخيك على حال، وترك الحج.
قال الحسين بن الضحاك: كنت عازماً على أن أرثي الأمين بلساني كله، وأشفي لوعتي، فلقيني أبو العتاهية فقال لي: يا حسين، أنا إلي مائل، ولك محب، وقد علمت مكانك من الأمين، وأنت حقيق بأن ترثيه، إلا أنك قد أطلقت لسانك في التلهق عليه والتوجع له بما صار هجاء لغيره وثلباً له وتحريضاً عليه، وهذا المأمون منصباً إلى العراق قد أقبل إليك فأبق على نفسك، ويحك يا حسين أتجسر على أن تقول: من الكافر المرفل
تركوا حريم أبيهم نفلاً ... والمحصنات صوارخ هتف
هيهات بعدك أن يدوم لهم ... عز وأن يبقى لهم شرف
اكفف غرب لسانك، واطو ما قد انتشر عنك، وتلاف ما فرط منك. فعلمت أنه قد نصح لي فجزيته الخير، وقطعت القول، فنجوت برأيه، وما كدت أن أنجو.
قال المثقب العبدي: من الطويل
إذا ما تدبرت الأمور تبينت ... عياناً صحيحات الأمور وعورها
وقال أبو زبيد: من الطويل
عليك برأس الأمر قبل انتشاره ... وشر الأمور الأعسر المتدبر
وقال حصين بن منذر الرقاشي: من الطويل
أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لترجع سالما
وقال المتلمس الضبعي: من الطويل
عصاني فلم يلق الرشاد وإنما ... تبين من أمر الغوي عواقبه
فأصبح محمولاً على ظهر آلة ... تمج نجيع الجوف منها ترائبه
وقال زهير بن كلحبة اليربوعي: من الطويل
أمرتكم أمري بمنعرج اللوى ... ولا أمر للمعصى إلا مضيعا
فلما رأوا غب الذي قد أمرتهم ... تأسف من لم يمس للأمر أطوعا
قالت الحكماء: العاقل يستشير عارضاً للآراء على رأيه، وقائساً بعضها ببعض، حتى يقع اختياره على أسدها وأولاها بالصواب طريقاً، والجاهل يستشير متردداً في أمره، لا يزداد بما يسمع من الآراء إلا حيرة وشعاع قلب، وتفييل رأي، حتى ينزل به المحذور ويلحقه المكروه.
وقال لقمان لابنه: يا بني إذا استشهدت فاشهد، وإذا استعنت فأعن، وإذا استشرت فلا تعجل حتى تنظر، فإن العاقل يرى بعين قلبه ما لا يرى بعينيه.
وقال علي بن الحسين: الفكرة مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته.
قال رجل: أريد أن أشاور غير كاتبي هذا. فبلغ الكاتب فقال له أعزك الله، إن المستشار لا ينصح نصيحة المستكفي.
وقال أبو الطمحان القيني: من الطويل
بني إذا ما سامك الذل قاهر ... عزيز فبعض الذل أبقى وأحرز
ولا تخز من بعض الأمور تعززاً ... فقد يورث الذل الطويل التعزز
ويرويان لعبد الله بن معاوية الجعفري.
ولأبي الطمحان في مثله: من البسيط
يا رب مظلمة يوماً لطيت بها ... تمضي علي إذا ما غاب أنصاري
حتى إذا ما انجلت عني غياهبها ... وثبت فيها وثوب المخدر الضاري
وقريب من معني البيتين الأولين، وقد تقدم هذا البيت في الباب الثاني: من الطويل
أهين لهم نفسي لأكرمها بهم ... ولا يكرم النفس الذي لا يهينها
شاور أعرابي ابن عم له، فأشار عليه برأي فقال: قد قلت بما يقول به الناصح الشفيق الذي يخلط حلو كلامه بمره، وحزنه بسهله، ويحرك الإسعاف منه ما هو ساكن من غيره، وقد وعيت النصح منه وقبلته إذ كان مصدره من عند من شك في مودته وصافي غيبه، وما زلت بحمد الله إلى الخير منهجاً واضحاً وطريقاً مهيعاً.
أراد عمر بن عبد العزيز أن يذكر بني أمية وجورهم وإفسادهم ويلعن الظالمين منهم، فشاور في ذلك جماعة من أهل العلم، منهم ميمون بن مهران، فقال له ميمون: يا أمير المؤمنين إن القول فتنة فعليك بالعمل.
قال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: إذا استخار العبد ربه، وشاور نصيحه، واجتهد رأيه، فقد قضى الذي عليه لنفسه، ويقضي الله في أمره ما أحب.
قال عبد الله بن الحس بن الحسن لابنه محمد أو إبراهيم: يا بني إنني مؤد حق الله في تأديبك، فاد إلي حق الله في الاستماع. أي بني كف الأذى، وأفض الندى، واستعن على الكلام بطول الفكر في المواطن التي تدعوك نفسك إلى القول، فإن للقول ساعات يضر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها الصواب. واحذر مشاورة الجاهل، وإن كان ناصحاً، كما تحذر مشاورة العاقل إذا كان غاشاً، لأنه يورط بمشورته، ويسبق إليك مكر العاقل والاغترار بالجاهل. واعلم يا بني أن رأيك إذا احتجت إليه وجدته نائماً، ووجدت هواك يقظان، فإياك أن تستبد برأيك، فإنه حينئذ هواك. ولا تفعل فعلاً إلا وأنت على يقين أ، عاقبته لا ترديك ولآن نتيجته لا تجني عليك.
قال حكيم: صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور. والحزم في الرأي سلامة من التفريط، وداعية إلى الظفر. والتدبر والتفكر يبحثان عن الفطنة ويكشفان الحزم. ومشاورة الحكماء بيان لليقين وقوة للبصيرة، ففكر قبل أن تعزم، واعرض قبل أن تصرم، وتدبر قبل أن تهجم، وشاور قبل أن تندم، ولا تغفل ما أفادتك التجارب فإنها عقل ثان، ودليل هاد، وأدب مستفاد. واذكر ما مضى من عمرك بما بقي منه، وافهم عن الأيام إخبارها، فقد أوضحت لك آثارها، واتعظ بما وعظك منها، وتأملها تأمل ذي الفكرة فيها، فإن الفكرة تدرأ عنك عمى الغفلة، وتكشف لك عن خفيات الأمور.
قال أعرابي لأخ له: اعلم أن الناصح لك، المشفق عليك، من طالع لك ما وراء العواقب بنظره ورويته، ومثل لك الأحوال المخوفة علي، وخلط الوعر بالسهل من كلامه ومشورته، ليكون خوفك كفاء رجائك، وشكرك إزاء النعمة عليك. وإن الغاش لك، والحاطب عليك، من مد لك في الاغترار، ووطأ لك مهاد الظلم، تابعاً لمرضاتك منقاداً لهواك.
المتنبي: من الخفيف
إنما تنجح المقالة في المر ... ء وافقت هوى في الفؤاد
أراد نوح بن أبي مريم قاضي مرو الروذ أن يزوج ابنته، فاستشار جاراً له مجوسياً، فقال: سبحان الله، الناس يستفتونك وأنت تستفتيني؟ قال: لا بد أن تشير علي، قال: إن رئيسنا كسرى كان يختار المال، ورئيس الروم قيصر كان يختار الجمال، ورئيس العرب كان يختار النسب، ورئيسكم محمد كان يختار الدين، فانظر أنت لنفسك بمن تقتدي.
بعض أعراب بني أسد: من الطويل
من الناس من إن يستشرك فتجتهد ... له الرأي يستغششك ما لم تتابعه
فلا تمنحن النصح من ليس أهله ... فلا أنت محمود و الرأي نافعه
أراد عمرو بن مسعدة الركوب إلى دار المأمون في جبة وشي ظاهرة، فقال له إبراهيم بن نوح: لا تفعل، فقال عمرو: أتنكر لمثلي وغلتي في الشهر كذا؟ قال: إن غلتك مسموعة، وجبتك ملحوظة.
نوادر من هذا الباب ولي حارثة بن بدر سرق، فخرج معه المشيعون من البصرة وفيهم أبو الأسود الدؤلي، فلما انصرف المشيهون دنا منه أبو الأسود فقال له مشيراً: من الطويل
أحار بن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذاً فيها تخون وتسرق
ولا تحقرن يا حار شيئاً تصيبه ... فحظك من مال العراقين سرق
فإن جميع الناس إما مكذب ... يقول بما تهوى وإما مصدق
يقولون أقوالاً بظن وشبهة ... وإن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
ولا تعجزن فالعجز أوطأ مركب ... وما كل مدفوع إلى الرزق يرزق
وباه تميماً بالغنى إن في الغنى ... بسلطانه يسطو الغني وينطق
فقال حارثة يجيبه: من الطويل
جزاك مليك الناس خير جزائه ... فقد قلت معروفاً وأوصيت كافيا
أمرت بحزم لو أمرت بغيره ... لألفيتني فيه لرأيك عاصيا
ستلقى أخاً يصفيك بالود حاضراً ... ويوليك حفظ الغيب إن كنت نائبا
قال الأصمعي: مر الفرزدق يوماً في الأزد فوثب عليه ابن أبي علقمة لينكحه، وأعانه على ذلك سفهاء من سفهائهم، فجاءت مشايخ الأزد وأولو النهى منهم فصاحوا بابن أبي علقمة وبأولئك السفهاء، فقال لهم ابن أبي علقمة: ويحكم أطيعوني اليوم واعصوني الدهر، هذا شاعر مضر ولسانها، وقد شتم أعراضكم وهجا ساداتكم، والله لا تنالون من مضر مثلها أبداً. فحالوا بينه وبينه. فكان الفرزدق بعد ذلك يقول: قاتله الله، والله لقد كان أشار عليهم بالرأي.
تم الباب الرابع عشر بعون الله ويتلوه الباب الخامس عشر وهو في الوصايا والعهود.
الباب الخامس عشر
في العهود والوصايا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الصادق في وعده، الموثوق بعهده، لا غله خالق سواه، عهد أن لا نعبد إلا إياه، له المثل الأعلى والأسماء الحسنى، وصى عباده بالتقوى، وجازى كلاً بسعيه الجزاء الأوفى. أحمده على ما قدره وقضاه، وأشكر له سيبه ونعماه، وأسأله التوفيق للعمل بعهدوده ووصاياه، وأشهد أن محمداً رسوله الأواه، خصه الله بأفضل سلام وأزكاه، صلى الله عليه وعلى آله الذين سيماهم في الوجوه والجباه، ما أمر الكتاب عبداً ونهاه، ودحر الحق باطلاً ودحاه.أما وصية الوفاة فقد ندب إليها، قال الله تعالى: " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين " " البقرة: 180 " . وجاء في الثر: من مات من غير وصية مات ميتة جاهلية. وأنا ذاكر منها ما تعلق به أثر أو تضمن أدباً وحكمة أو بياتاً وبلاغة؛ وما خرج عن ذلك فلا فائدة تحته.
وأما وصايا التأديب والارشاد ففي الكتاب العزيز منها الجم الغزير، فمما جاء بلفظ الوصية قوله تعالى " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله " النساء: 131 " وقوله عز وجل: " ووصينا الإنسان بوالديه حسناً " العنكبوت: 8 وقوله عز وجل " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذلكن وصاكم به لعلكم تعقلون. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتس هي أحسن حتى يبلغ أشده، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون. وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكن وصاكم به لعلكم تتقون " " الأنعام: 151 - 153 " .
وما جاء بغير لفظ الوصية وهو في معناها فكثير، ليس هذا موضعاً يقتضيه. وخطبه الوداع هي في معنى الوصية من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كتبت في موضعها. ووصاياه لأصحابه وأمته المرشدة لهم والموقظة لغافلهم والدالة على حدود شريعته أكثر من أن تحصى، وأشير هنا إلى شيء منها قياماً بشرط هذا الكتاب، والله الموفق للهداية والصواب.
قال أبو ذر: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: حب المساكين والدنو منهم، وأن أنظر إلى من هو أسفل مني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أصل رحمي وإن جفاني، وأن أتكلم بمر الحق، وأن لا أخاف في الله لومة لائم، وأن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأن لا أسأل الناس شيئاً.
وقال أبو ذر أيضاً: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست إليه واغتنمت خلوته فقال: يا أبا ذور، إن للمسجد تحية وتحيته ركعتان، فلما صليت قلت: يا نبي الله، إنك أمرتني بالصلاة، فما الصلاة؟ قال: خير موضوع فاستكثر أو استقل، قلت: فأي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وجهاد في سبيله. قلت: أي المؤمنين أكمل إيماناً؟ قال: أحسنهم خلقاً. قلت: فأي المسلمين أسلم؟ قال: من سلم الناس من لسانه ويده. قلت: فأي الهجرة أفضل؟ قال: هو هجر السيئات. قلت: فأي الليل أفضل؟ قال: جوف الليل الغابر. قلت: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت. قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد من مقل يمشي به إلى فقير. قلت: يا نبي الله، فما الصيام؟ قال قرض مجزي وعند الله أضعاف كثيرة. قلت فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده وأهريق دمه. قلت: فأي آية أنزلت عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي. قلت: يا نبي الله، كم كتاب أنزله الله؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتب: أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى ادريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة وأنزل التوراة والآنجسل والزبور والفرقان. قلت: فما كان صحف إبراهيم؟ قال: كانت أمثالاً كلها، وكان فيها: قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى. بل تؤثرون الحياة الدنيا. والآخرة خير وأبقى. وفيها: لا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى. ثم يجزاه الجزاء الأوفى إلى آخر السورة. وفيها: أيها الملك المسلط المبتلى المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكني بعصتك لترد عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو كانت من كافر. وفيها: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن تكون له ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يتفكر في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال في المطعم والمشرب. وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً إلا في ثلاث: تزود لمعاد أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شانه، حافظاً للسانه. ومن حسب الكلام من عمله أقل الكلام إلا فيما يعنيه. قلت: يا نبي الله، فما كانت صحف موسى؟ قال: كانت عبراً كلها: عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك، عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، وعجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يمطئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب وهو لا يعمل. قلت: يا نبي الله، أوصني. قال: أوصيك بتقوى الله فإنها رأس أمرك. قلت: يا نبي الله، زدني. قال: عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإنه ذكر لكفي السماء ونور لك في الأرض. قلت: يا نبي الله، زدني. قال: عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي. قلت: زدني. قال: عليك بالصمت إلا من خير فإنه مطردة للشيطان وعون على أمر دينك. قلت: زدني. قال: انظر إلى من هو تحتك، ولا تنظر إلى من هو فوقك فإنه أجدر أ، لا تزدري نعمة الله عليك. قلت: زدني. قال: صل قرابتك وإن قطعوك. قلت: زدني. قال: لا تخف في الله لومة لائم. قلت: يا نبي الله زدني. قال: ليردك عن الناس ما تعرف من نفسك ولا تجد عليهم في ما يأتي. ثم ضرب يده على صدري فقال: يا أبا ذر لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق.
وفي ما وصى به عليه السلام عائشة رضي الله عنها: إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً.
وصية أبي بكر عتيق بن أبي قحافة رضي الله عنه: هذا ما عهد أبو بكر خليفة محمد صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده بالدنيا، في الحال التي يؤمن فيها الكافر، ويتقي فيها الفاجر: إني استعملت عليكم عم بن الخطاب، فإن بر وعدل فذلك علمي به ورأيي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئ ما اكتسب " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " " الشعراء: 227 " .
ولما احتصر قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا عمر، إن الله تعالى حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وعملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإن الله عز وجل لا يقبل نافلة نافلة حتى تؤدي فريضة. فكن مؤمناً راغباً راهباً، ولا ترغبن رغبة تمنى على الله فيها ما ليس لك، ولا ترهبن رهبة تلقي بها يديك إلى التهلكة. ثم قال: إن أول ما أحذرك نفسك وهؤلاء الرهط من المهاجرين والأنصار فإنهم قد انتفخت أوداجهم، وطمحت أبصارهم، وتمنى كل امرئ منهم لنفسه، وإن لهم نحيرة ينحرونها من زلة منه ومنهم، فلا تكوننها، فإنهم لم يزالوا منك فرقين ما فرقت من الله عز وجل، في ما بين ذلك.
وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لما طعن قيل له استخلف فأبى أن يسمي رجلاً بعينه وقال: عليكم بهؤلاء الرهط الذين توفي رسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض: علي وعثمان ابني عبد مناف، وعبد الرحمن بن عوف وسعد، خالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزبير بن العوام حواريه وابن عمته، وطلحة الخير، فلتختاروا رجلاً منهم، ويتشاوروا لثلاثة أيام، وليصل بالناس صهيب، ولا يأتي اليوم الثالث إلا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيراً ولا شيء له من الأمر؛ وطلحة شريككم، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فاقضوا أمركم.
وقال لأبي طلحة الأنصاري: إن الله أعز الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً. قال: إن اجتمع خمسة ورضوا واحداً منهم وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا واحداً منهم وأبى اثنان فاضرب رءوسهما، وإن رضي ثلاثة منهم رجلاً وثلاثة منهم رجلاً فحكموا عبد الله بن عمر، فبأي الفريقين حكم فليخاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكانوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن ربغوا عما اجتمع عليه الناس.
فأما عثمان بن عفان رضي الله عنه فلم تدون له وصية عند الموت وقتل محصوراً، مشغولاً عن نفسه، ممنوعاً من النظر لها وللأمة من بعده.
وأما علي بن أبي طالب عليه السلام فله وصية طويلة مشهورة إلى ابنه الحسن، وفيها حكم وآداب قد ضمنت هذا الكتاب بعضها في أماكن منه متفرقة.
وله وصية كتبها إلى ابنه محمد بن الحنفية: أن تفقه في الدين وعود نفسك الصبر على المكروه، وكل نفسك في أمورك كلها إلى الله، فإنك تكلها إلى كاف حريز ومانع عزيز. وأخلص المسالة لربك فإن في يد العطاء والحرمان، وأكثر الاستخارة لله والاستنجاد به. واعلم أن من كان مطيته الليل والنهار يسار به وإن كان لا يسير، وأن الله تعالى قد أبى إلا خراب الدنيا وعمارة الآخرة، فإن تزهد فيها زهدك كله فلعل ذلك يقيك. وإن كنت غير قابل نصيحتي إياك فاعلم علماً يقيناً أنك تبلغ أملك ولن تعدو أجلك، فإنك في ديوان من كان قبلك، فأكرم نفسك عن كل دنية، وإياك إن ساقتك إلى رغب فإنك لن تعتاض بما ابتذلت من نفسك. وإياك أن توجف بك مطايا الطمع وتقول: متى ما أؤخره يذهب، فغن هذا أهلك من هلك قبلك، وأمسك عليك لسانك، فإن تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراك ما فات من نطقك. واحفظ ما في الوعاء بشد الوكاء، فحسن التدبير مع الاقتصاد أكفى لك من الكثير مع الغناء، والعفة مع الحرفة خير من السرور مع الفجور. والمرء أحفظ لسره. ورب ساع في ما يكره. وإياك والاتكال على الأماني فإنها بضائع النوكي وتثبيط عن الآخرة والأولى. ومن خير حظ قرين صالح، فقارن أهل الخير تكن منهم، وبابن أهل الشر تبن منهم، ولا يغلب عليك سوء الظن فإنه لا يدع بينك وبين خليل صلحاً.
أذك قلبك بالأدب كما تذكى النار بالحطب، واعلم أن كفر النعمة لؤم، وصحبة الأحمق شؤم، ومن الكرم منع الحرم. ومن حلم ساد، ومن تفهم ازداد.
امحض أخاك النصيحة، حسنة كانت أو قبيحة، ولا تصرمه على ارتياب، ولا تقطعه دون استعتاب. وليس جزاء من يسرك أن تسوءه.
الرزق رزقان: رزق تطلبه ورزق يطلبك وإن لم تأته أتاك. واعلم يا بني أن ما لك من دنياك إلا ما أصلحت به مثواك، فأنفق من خيرك، ولا تكن خازناً لغيرك. وإن جزعت على ما تفلت من يدك، فاجزع على ما لم يصل إليك. وربما أخطأ البصير قصده، وأبصر الأعمى رشده. لم يهلك امرؤ اقتصد، ولم يفتقر من زهد.
من ائتمن الزمان خانه، ومن تعظم عليه أهانه. ورأس الدين اليقين، وتمام الإخلاص اجتناب المعاصي. وخير المقال ما يصدقه الفعال. سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار. واحمل لصديقك عليك، واقبل من اعتذار إليك. وأخر الشر ما استطعت فإنك إذا شئت تعجلته. ولا تكونن على قطيعته أقوى منك على صلته، وعلى الاساءة أقوى منك على الإحسان.
لا تملكن المرأة من الأمر ما يجاوز نفسها، فإن المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة، فإن ذلك أصلح لحالها. واغضض بصرها بسترك، واكففها بحجابك. وأكرم الذين بهم تصول، فإذا تطاولت فبهم تطول.
أسأل الله أن يلهمك الرشد، ويقويك على العمل بكل جميل، ويصرف عنك كل محذور برحمته، والسلام عليك.
قيل لهرم بن حيان في مرضه: أوص؛ فقال: إن نفسي صدقتني في الحياة فما أترك شيئاً أوصي فيه إلا فرسي ودرعي، وهما في سبيل الله، وسبعين درهماً من عطائي تكفنوني بها. وأوصيكم بخواتيم سورة النحل: " أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة " " النحل: 125 " إلى آخرها. فلما مات ودفن جاءت سحابة فرشت على قبره.
وأوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه خالد بن الوليد، وقد وجهه لبعض غزواته، فقال له: أكثر م الزاد واستظهر بالأدلاء، وإذا جاءتك رسل أعدائك فامنع الناس من محادثتهم حتى يخرجوا جاهلين. أقلل الكلام فإنما لك ما وعي عنك. وكن بعيداً من الحملة فإني لا آمن عليك من الجولة. ولا تقاتلن على جزع فإنه فات بعضدك.
قال سعيد بن عامر لعمر رضي الله عنهما: إني موصيك بكلمات من جوامع الإسلام ومعاليه. قال: أجل، فإن الله عز وجل قد جعل عندك أدباً. قال: اخش الله في الناس ولا تخش الناس في الله. ولا يخالف قولك فعلك، فإن خير القول ما صدقه الفعل، ولا تقض في أمر واحد بقضاؤين فيختلف عليك أمرك وتزيغ عن الحق، وأحب لقريب المسلمين وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك. وأقم وجهك. وتضاءل لمن استرعاك الله عز وجل أمره من قريب المسلمين وبعيدهم. وخذ بأمر ذي الحجة تأخذ بالفلج ويعنيك الله ويصلح رعيتك على يديك وخض الغمرات إلى الحق حيث علمته، ولا تخف في الله لومة لائم.
قال: ومن يستطيع ذلك يا سعيد؟ قال: من ركب في عنقه مثل ما ركبت في عنقك.
لقي رجل راهباً فقال: يا راهب، كيف ترى الدهر؟ قال: يخلق الأبدان، ويجدد الآمال، ويباعد الأمنية، ويقرب المنية. قال: فما حال أهله؟ قال: من ظفر به نصب، ومن فاته تعب. قال: فما الغنى عنه؟ قال: قطع الرجاء منه. قال: فأي الأصحاب أبر وأوفى؟ قال: العمل الصالح والتقى. قال: فأيهم أضر وأبلى؟ قال: النفس والهوى. قال: فأين منه المخرج؟ قال: في سلوك المنهج. قال: وما ذلك؟ قال: بذل المجهود وخلع الراحة ومداومة الفكرة. قال: أوصني. قال: قد فعلت.
لما اصنرف مروان بن الحكم من مصر استعمل ابنه عبد العزيز عليها، وقال له حين ودعه: أرسل حكيماً ولا توصه. وانظر أي بني، إلى أهل عملك، فإن كان لهم حق عندك غدوة فلا تؤخرهم إلى عشية، وإن كان لهم عشية فلا تؤخرهم إلى غدوة. أعطهم حقوقهم عند محلها تستوجب بذلك الطاعة منهم. وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب، فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدقوك في الحق. واستشر جلساءك وأهل العلم، فإن لم يتبين لك الرأي فاكتب إلى لأرى لك فيه وإياك إن كان بك غضب على أحد من رعيتك أن تؤاخذه به عند سورة الغضب، واحبس عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك، ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفئ الجمرة، فإن أو لمن جعل السجن كان حليماً ذا أناة. ثم انظر إلى أهل الحسب والدين والمروءة فليكونوا أصحابك، ثم اعرف منازلهم منك عل غيرهم بلا استرسال ولا انقباض. أقول قولي هذا واستحلف الله عليك.
أوصى زيد بن علي ابنه فقال: يا بني، إن الله تعالى لم يرضك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فحذرنيك؛ واعلم أن خير الآباء للأبناء من لم تدعه المودة إلى التفريط، وخير البناء للآباء من لم يدعه التقصير إلى العقوق.
أوصى عبد الله بن الحسن ابنه محمداً لما أراد أن يستتر فقال: يا بني إني مؤد إليك حق الله تعالى في تأديبك ونصيحتك، فأد إلي حقه في الاستماع والقبول: يا بني، كف من الأذى، وأفض الندى، واستعن على السلامة بطول الصمت في المواطن التي تدعوك نفسك إلى الكلام فيها، فإن الصمت حسن. وللمرء ساعات يضره فيها خطؤه ولا ينفعه فيها صوابه. واعلم أن من أعظم الخطأ العجلة قبل الإمكان، والأناة بعد الفرصة. يا بني، احذر مشورة الجاهل وإن كان ناصحاً كما تحذر عداوة العاقل إذا كان لك عدواً، فيوشك الجاهل أن يورطك بمشورته في بعض اغترارك فيسبق إليك مكر العاقل وتوريط الجاهل. وإياك ومعاداة الرجال فإنه لا يعدمك منها مكر حليم ومباراة جاهل.
قال بعضهم لابنه: كن جواداً بالمال في موضع الحق، ضنيناً بالأسرار عن جميع الخلق، فإن أحمد جود المرء الانفاق في وجه البر، والبخل بمكتوم السر.
وأوصي بعض الأنصار ابنه فقال: يا بني، إني موصيك بوصية إن لم تحفظها كنت خليقاً أن لا تحفظها عن غيري. يا بني اتق الله، وإن ساتطعت أن تكون اليوم خيراً منك أمس، وغداً خيراً منك اليوم فافعل. وإذا عثر عاثر من بني آدم فاحمد الله ألا تكونه. وإياك والطمع فإنه فقر حاضر، وعليك باليأس مما في أيدي الناس، فإنك لن تيأس من شيء إلا إغناك الله عنه. وغياك وما يعتذر منه فإنه لا يعتذر من خير. وإذا قمت إلى صلاتك فصل صلاة مودع وأنت ترى أنك لا تصلي بعدها أبداً.
لما حضرت سعداً الوفاة دعا ابنه فقال: يا بني: احفظ عني خصالاً خمساً: أظهر اليأس مما في أيدي الناس فإنه غنى حسن. وإياك وطلب الحاجات إليهم فإنه فقر حاضر. وإياك وما يعتذر منه. وكن في اليوم الذي تستقبل خيراً منك في اليوم الذي خلفت. وإذا قمت إلى الصلاة فأحسن الوضوء ثم صل صلاة المودع فإنه يوشك أن تصلي صلاة لا تصلي بعدها. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: أشكو إلى الله بعد المفازة وقلة الزاد. وهذه الوصية مثل التي قبلها إلا ألفاظاً يسيرة.
كتب سفيان الثوري إلى عباد بن عباد: أما بعد فإنك في زمان كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذون أن يدركوه في ما بلغنا، ولهم م العزم ما ليس لنا ولا لك، ولهم من العلم ما ليس لنا ولا لك. فكيف بنا وقد أدركناه على قلة علم وبصر، وقلة أعوان على الخير، وكدر من الدنيا، وفساد من الناس؟ فعليك بالعزلة وقلة مخالطتهم فإن عمر يقول: إياكم والطمع فإنه فقر حاضر، وإن اليأس غنى، وفي العزلة راحة من خليط السوء. وكان سعيد بن المسيب يقول: العزلة عبادة. وكان الناس إذا التقوا انتفع بعضهم ببعض، فأما اليوم فقد ذهب ذلك، والنجاة في تركهم فيما ترى. وإياك والأمراء أن تدنو منهم أو تخالطهم في شيء من الشياء. وإياك أن تخدع فيقال: ذلك رجل تشفع فيه ترده عن مظلوم أو ترده عن مظلمة، وإنما ذلك خديعة إبليس اتخذها فخاً. وكان يقال: اتقوا فتنة العابد وفتنة العالم فإن فيهما فتنة لكل أحد. إياك أن تكون ممن يحب أن يعمل بقوله أو يسمع من قوله، فإذا لم تزل كذلك فقد عرفت. وإياك وحب الرياسة، فإن الرجل تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة، وهذا باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء. واعمل بنية فإن الحسن رحمه الله كان يقول: رحم الله عبداً وقف عند همه، فإنه ما من عبد يعمل حتى يهم، فإن كان له مضى، وإن كان عليه أمسك، فإن النية ليست كل ساعة تقع. وإن طاووس قيل له: ادع لنا بدعوات فقال: ما أجد الآن لذلك نية. وكان حذيفة رضي الله عنه يقول: يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا بمثل دعاء الغريق. وسئل حذيفة عن أي الفتن أشد فقال: أن يعرض عليك الخير والشر فلا تدري أيهما تترك. وقد ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تزال يد الله على هذه الأمة في كنفه، ما لم يمل فراؤهم إلى امرائهم، وما لم يوقر خيارهم شرارهم، وما لم يعظم أبرارهم فجارهم؛ فإذا فعلوا ذل رفعها عنهم وقذف في قلوبهم الرعب، وأنزل عليهم الفاقة، وسلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب. وقال حذيفة: لا يأتيهم أمر يضحكون منه إلا ردف أمر يشغلهم عن ذلك. فليكن الموت من شأنك وبالك. وأقل الأمل وأكثر ذكر الموت فإنكم إذا ذكرتموه في قليل كثرة. واعلم أنه قد دنا من الناس أمور، وحضرت أمور يشتهي لها الرجل الموت، والسلام.
وصى رجل آخر، وأراد سفراً، فقال: آثر بعملك معادك، ولا تدع لشهوتك رشادك. وليكن عقلك وزيرك الذي يدعوك إلى الهدى، ويعصمك من الردى. ألجم هواك عن الفواحش، وأطلقه في المكارم، فإنك تبر بذلك سلفك، وتشيد شرفك.
قال زياد عند موته لابنه عبيد الله: لا تدنس عرضك، ولا تبذلن وجهك، ولا تخلفن جدتك بالطلب إلى من إن ردك كان رده عليك عيباً، وإن قضى حاجتك جعلها عليك مناً. واحتمل الفقر بالتنزه عما في أيدي الناس، والزم القناعة بما قسم لك، فإن سوء حمل الفقر يضع الشرف، ويخمل الذكر، ويوجب الحرمان.
قال مهدي بن أبان: قلت لولادة العبدية، وكانت أعقل النساء: أريد الحج فأوصيني، فقالت: أوجز فأبلغ أم أطيل فأحكم؟ قلت: ما شئت قالت: جد تسد، واصبر تفز. قلت: أيضاً. قالت: لا يبعد غضبك حلمك، ولا هواك علمك، وق دينك بدنياك، وفر عرضك بعرضك، وتفضل تخدم، واحلم تقدم. قلت: فمن أستعين؟ قالت: الله عز وجل. قلت: فمن الناس؟ قالت: الجلد النشيط والناصح الأمين. قلت: فمن أستشير؟ قالت: المجرب الكبير أو الأدي الصغير. قلت: فمن أصحب؟ قالت: الصديق المسلم أو الراجي المتكرم. ثم قالت: يا أبتاه، إنك تفد إلى ملك الملوك فانظر كيف يكون مقامك بين يديه.
قال المنذر لابنه النعمان في ما أوصاه به: دع الكلام وأنت عليه قادر، وليكن لك من عقلك خبيء ترجع إليه أبداً. فقال له النعمان: مرني بأمر جامع. قال: الزم الحزم والحياء.
لما حضرت الحارث بن كلدة الوفاة قيل له: أوصنا بنا ننتفع به بعدك، فقال: لا تتزوجوا من النساء إلا الشواب، ولا تأكلوا من اللحم إلا الفتي، ولا من الفاكهة إلا ما نضج، ولا يتداوين أحدكم بدواء ما احتمل بدنه الداء، وإذا تغذيتم فناموا قليلاً، وإذا تعشيتم فامشوا خطوات.
وقال يختيشوع للمأمون: أصيك يا أمير المؤمنين بأربعة أشياء: لا تأكل طعاماً بين نبيذين، ولا تجامع على شبع، ولا تبت أو تخلي جوفك من الرياح والنجو، ولا تأكل لحم البقر، فوالله إني أمر به في الطريق فأغطي عيني وعين برذون من شدة مضرته.
قال أبان بن تغلب، وكان عابداً من عباد البصرة: شهدت أعرابية وهي توصي ولداً لها يريد سفراً وهي تقول: أي بني، اجلس أمنحك وصيتي، وبالله توفيقك، فإن الوصية أجدى عليك من كثير عقلك. قال أبان: فوقفت مستمعاً لكلامها، مستحسناً لوصيتها، فإذا هي تقول: يا بني، إياك والنميمة فإنها تزرع الضغينة، وتفرق بين المحبين. وإياك والتعرض للعيوب فتتخذ غرضاً، وخليق ألا يثبت الغرض على كثرة السهام، وقلما اعتورت السهام غرضاً إلا كلمته حتى يهي ما اشتد من قوته. وإياك والجود بدينك والبخل بمالك. وإذا هززت فاهزز كريماً يلين لمهزتك، ولا تهزز اللئيم فإنه صخرة لا ينفجر ماؤها. ومثل لنفسك مثال ما استحسنت من غيرك فاعمل به، وما استقبحته من غيرك فاجتنبه، فإن المرء لا يرى عيب نفسه. ومن كانت مودته في بشره وخالف ذلك منه فعله كان صديقه منه على مثل الريح في تصرفها.
ثم أمسكت، فدنوت منها فقلت: بالله عليك يا أعرابية إلا مازدته في الوصية. قالت: أوقد أعجبك كلام العرب يا عراقي؟ قلت: نعم. قالت: والغدر أقبح ما تعامل به الناس بينهم. ومن جمع الحلم والسخاء فقد أجاد الحلة: ريطها وسربالها.
وقال بعض الحماء لابنه: يا بني، اقبل وصيتي وعهدي، فإن سرعة ائتلاف قلوب الأبرار كسعرة ائتلاف قطر المطر بماء الأنهار، وبعد الفجار من الائتلاف كبعد البهائم من التعاطف، وإن طال اعتلافها على آري واحد. كن يا بني بصالح الوزراء أعني منك بكثرة عددهم، فإن اللؤلؤة خفيف محملها كثير ثمنها، والحجر فادح حمله قليل غناؤه.
زوج أسماء بن خارجة الفزاري ابنته هند من الحجاج بن يوسف. فلما كانت ليلة أراد البناء بها قال لها أسماء: يا بنية، إن الأمهات يؤدب البنات، وإن أمك هلكت وأنت صغيرة، فعليك بأطيب الطيب الماء، وأحسن الحسن الكحل. وإياك وكثرة المعاتبة فإنها مقطعة للود، وإياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق. وكوني لزوجك أمة يكن لك عبداً، واعلمي أني القائل لأمك حيث أول: الطويل
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تغضبي في سورتي حين أغضب
ولا تنقريني نقرك مرة ... فإنك لا تدرين كيف المغيب
فإني وجدت الحب في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب
العتبي عن أبيه عمرو بن عتبة، قال: كان أبونا لا يرفع المواعظ عن أسماعنا، فأراد سفراً فقال: يا بني، تألفوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا المزيد بالشكر عليها، واعلموا أن النفوس أقبل شيء لما أعطيت، وأعطى شيء لما سئلت، فاحملوها على مطية لا تبطئ إذا ركبت، ولا تسبق إذا تقدمت. عليا نجا من هرب من النار، وأدرك من سابق إلى الجنة. فقال الأصاغر من ولده: يا أبانا، ما هذه المطية؟ قال: التوبة.
قال عبد الملك بن مروان للشعبي وهو يعلم أولاده: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم السفلة فإنهم أسوأ الناس رعية، وأقلهم أدباً، وجنبهم الحشم فإنهم لهم مفسدة. وأحف شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم تصح عقولهم وتشتد قلوبهم، وعلمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، ومرهم أن يستاكوا عرضاً، ويمصوا الماء مصاً ولا يعبوه عباً. وإذا احتجت إلى أن تتناولهم بأدب فليكن ذلك في سر ولا يعلمه أحد من الحاشية فيهونوا عليهم.
كتب عبد الله بن عباس رضي الله عنه إلى الحسن بن علي عليهما السلام إذ ولاه الناس أمرهم بعد أبيه أن شمر للحرب وجاهد عدوك، واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم دينك، وول أهل البيوتات من تستصلح به عشائرهم.
قال حكيم: انتهز الفرصة فإنها خلسة، وثب عند رأس الأمر ولا تثب عند ذنبه، وإياك والعجز فإنه أوضع مركب، والشفيع المهين فإنه أضعف وسيلة.
وقال آخر: إن اتسع لك المنهج، فاحذر أن يضيق بك المخرج.
وقال الشاعر: من الكامل
وإذا هممت بورد أمر فالتمس ... من قبل مورده طريق المصدر
قال المعتمر بن سليمان: كان يقال: عليك بدينك ففيه معادك، وعليك بمالك ففيه معاشك، وعليك بالعلم ففيه دينك.
ومن وصايا أرسطاطاليس للإسكندر: وإياك أن تعتمد من أصحابك على طاعة المخافة فإنك تفقدها منهم أحوج ما تكون إليها، واجتهد في إحراز طاعة المحبة تجدها في أي وقت أردت.
أوصى الحارث بن كعب بنيه فقال: يا بني، قد أتت علي مائة وستون سنة ما صافحت يميني يمين غادر، ولا قنعت نفسي بخلة فاجر، ولا بحت لصديق بسر، ولا طرحت عندي مومسة قناعاً، ولا بقي على دين عيسى ابن مريم أحد م العرب غيري وغير تميم بن مر وأسد بن خزيمة. فموتوا على شريعتي، واحفظوا وصيتي، وإلهكم فاتقوا يكفكم المهم من أمركم ويصلح لكم أعمالكم، وإياكم ومعصيته لا يحل بكم الدماء وتوحش منكم الديار.
في بعض الروايات: شعيب النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأولى، فإن النصارى في العرب كثير، وبنو الحارث بن كعب كلهم نصارى.
يا بني: كونوا جميعاً ولاتفرقوا فتكونوا شيعاً، وإن موتاً في عز خير من حياة في ذل وعجز. وكلما هو كائن كائن. وكل جمع إلى تباب. الدهر ضربان: فضرب رخاء وضرب بلاء. واليوم يومان: فيوم حبرة ويوم عبرة، والناس رجلان: فرجل لك ورجل عليك. زوجوا النساء من الأكفاء، وليستعملن في طيبه الماء، وتجنبوا الحمقاء فإن ولدها إلى أفن ما يكون؛ ألا إنه لا راحة لقاطع القرابة. وإذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم؛ وآفة العدد اختلاف الكلمة، والتفضل بالحسنة يقي السيئة، والمكافأة بالسيئة الدخول فيها، والعمل بالسوء يزيل النعماء، وقطيعة الرحم تورث الهم، وانتهاك الحرمة يزيل النعمة، وعقوق الوالدين يعقب النكد، ويمحق العدد، ويخرب البلد، والنصيحة تجر الفضيحة، والحقد يمنع الرفد، ولزوم الخطية يعقب البلية، وسوء الرعة يقطع أسباب المنفعة، والضغائن تدعو إلى التباين. ثم أنشأ يقول: من المتقارب
أكلت شبابي فأفنيته ... وأنضيت بعد دهور دهورا
ثلاثة أهلين صاحبتهم ... فبادوا واصبحت شيخاً كبيرا
قليل الطعام حسير القيا ... م قد ترك الدهر خطوي قصيرا
أوصى سعد العشيرة بنيه عند موته فقال: إياكم وما يدعو إلى الاعتذار، ودعوا قذف المحصنات لتسلم لكم الأمهات. وإياكم والبغي، ودعوا المراء والخصام تهبكم العشائر، وجودوا بالأموال تنم أموالكم، وإياكم ونكاح الورهاء فإنها أدوى الداء. وأبعدوا من جاء السوء داركم. ودعوا الضغائن فإنها تدعو إلى التقاطع.
أوصى أبو الأسود ابنه فقال: يا بني، إذا جلست إلى قوم فلا تتكلم بما هو فوقك فيمقتوك، ولا بما هو دونك فيزدروك. وإذا وسع الله عليك فابسط يديك، وإذا أمسك عليك فأمسك. ولا تجاود الله تعالى فإن الله أجود منك.
قال أكثم بن صيفي: يا بني تميم، لا يفوتنكم وعظي أن فاتكم الدهر بنفسي. وإن بين حيزومي وصدري لبحراً من الكلم لا أجد له مواقع غير أسماعكم، ولا مقار إلا قلوبكم، فتلقوها بأسماع صاغية، وقلوب واعية، تحمدوا عواقبها: إن الهوى يقظان، والعقل راقد، والشهوات مطلقة، والحزم معقول، والنفس مهملة، والروية مقيدة، ومن جهة التواني وترك الروية يتلف الحزم، ولن يعدم المشاور مرشداً، والمستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل. ومن سمع سمع به. ومصارع الألباب تحت ظلال الطمع، ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الألباب تحت ظلال الطمع، ولو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت إلا في مقاتل الكرام. وعلى الاعتبار طريق الرشاد. ومن سلك الجدد أمن العثار. ولن يعدم الحسود أن يتعب قلبه ويشغل فكره ويؤرص غيظه، ولا يجاوز نفسه ضره. يا بني تميم: الصبر على جرع الحلم أعذب من جني ثمر الندم. ومن جعل عرضه دون ماله استهدف للذم. وكلم اللسان أنكى من كلم الحسام. والكلمة مزمومة ما لم تنجم من الفم، فإذا تجمت فهي سبع محرب، ونار تتلهب. ورأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز. ونفاذ الرأي في الحرب أنفذ من الطعن والضرب.
وأوصت أعرابية ابنتها وقد زوجتها فقال: لو تركت الوصية لحسن أدب أو لكرم نسب لتركتها لك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونى للعاقل. يا بنية، إنك قد خلفت العش الذي فيه درجت، والموضع الذي منه خرجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه. كوني لزوجك أمة يكن لك عبداً. واحفظي عني خصالاً عشراً، تكن لك دركاً وذكراً: أما الأولى والثانية فحسن الصحابة بالقناعة، وجميل المعاشرة بالسمع والطاعة، ففي حسن الصحابة راحة القلب، وفي جميل المعاشرة رضى الرب. والثالثة والرابعة: التفقد لموضع عينه، والتعاهد الموضع أنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يجد أنفه منك خبيث ريح. واعلمي أن الكحل أحسن الحسن الموجود، وأن الماء أطيب الطيب الموجود. والخامسة والسادسة: فالحفظ لماله والإرعاء على حشمه وعياله، واعلمي أن أصل الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والارعاء على الحشم والعيال حسن التدبير. والسابعة والثامنة: التعاهد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، فحرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة. والتاسعة والعاشرة: لا تفشين له سراً، ولا تعصين له أمراً، فإنك إذا أفشيت له سراً لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره.
أوصى رجل من ربيعة ابنه فقال: يا بني، إذا حزبك أمر فحك ركبتيك بركبة شيخ من قومك وشاوره. قال: فأردت التزويج، فأتيت شيخاً من قومي في ناديه فجلست إليه حتى خف من عنده، فقال: يا ابن أخي، ألك حاجة؟ قلت: نعم، أردت التزيج فأتيت أشاورك، فقال: أقصيرة النسب أم طويلته؟ فما أجدت ولا أرديت أي لم أقل جيداً ولا ردياً فقال: يا ابن أخي، إني لأعرف في العين إذا عرفت، وأعرف في العين إذا أنكرت، وأعرف في العين إذا لم تنكر ولم تعرف. فأما العين إذا عرفت فإنها تتخاوص للمعرفة، وإذا أنكرت نجحظ للإنكار، وإذا لم ترعف ولم تنكر فإنها تسجو سجواً، يا ابن أخي، لا تتزوج إلى قوم أهل دناءة أصابوا من الدنيا عسرة فتشركهم في دناءتهم ولا يشركونك في أموالهم، قال: فقمت وقد اكتفيت.
كان دريد بن الصمة يقول: النصيحة ما لم تهجم على الفضيحة. وإذا أجدبتم فلا ترعوا حمى الملوك، فإنه من رعاه غانما لم يرجع سالماً. ولا تحتقروا شراً فإن قليلة كثير. ومن خرق ستركم فارقعوه، ومن حاربكم فلا تغفلوه، وأحيلوا حدكم كله عليه. ومن أسدى إليكم خطة خير فأضعفوا له، وإلا تعجزوا أن تكونوا مثله. ومن كانت له مروءة فليظهرها. ولا تنكحن دنيا من غيكم فإن عاره عليكم. وإياكم وفاحشة النساء. وعليكم بصلة الرحم فإنها تديم الفضل وتزيد النل. وأسلموا ذا الجريرة بجريرته، ولا تسخطن أحداً من غيركم فتعلقوه بينكم.
أوصى أسلم بن أفصى الخزاعي بنيه فقال: يا بني، اتقوا ربكم في الليل إذا دجا وفي النهار إذا اضا، يكفكم الله كلما يخاف ويتقي. وإياكم ومعصيته فإنه ليس لكم وراءه وزر، ولا لكم دونه معتصر. يا بني، جودوا بالنوال، وكفوا عن السؤال، لا تمنهن سائلاً محقاً كان أو مبطلاً، فغن كان محقاً فلا تحرموه، وإن كان في حال علة فإنها تسد منه خلة، وإن كان مبطلاً فقد ذهب خفره وصرح الحياء عن بصره، فأعطوه. ولا تماروا عالماً ولا جاهلاً، فإن العالم يحاججكم فيغلبكم، وإن الجاهل يلجكم فيغضبكم، فإذا جاء الغضب كان فيه العطب. وإياكم والفجور بحرم القوام، فإنه قل ما انتهك رجل حرمة إلا ابتلي في حرمته. وإياكم وشرب الخمر فإنها متلفة للمال، طلابة لما يلا نال، وإن كان فيها صلاح البدن فإن فيها مفسدة للعقل. وإياكم والاختلاف فإنه ليس معه ائتلاف. ولا يكونن جار السوء لكم جاراً، ولا خدين والاختلاف فإنه ليس معه ائتلاف. ولا يكونن جار السوء لكم جاراً، ولا خدين السوء لكم زواراً. وعليكم بصلة الرحم تكثر أموالكم، ولا تقطعوها فتعفو من دياركم وآثاركم. وغياكم والعجز والتواني فإنهما يورثان الندامة ويكثران الملامة. يا بني، أنتم مثل شجرة ثابتى الأركان ملتفة الأغصان، فاجتمعوا ولا تفرقوا فيطمع الناس فيكم فتفرق الأغصان وتعجف الشجرة وتكونوا مثلاً بكل مكان. يا بني، قد أتت علي مائتا سنة ما شتمت ولا شتمت، ولا قلت من لوم ماذا صنعت. خذوا بوصيتي تسلموا، ولا تخالفوا فتندموا.
أوصى يزيد بن المهلب ابنه مخلداً حين استخلفه على جرجان فقال: يا بني، إني قد استخلفتك فانظر هذا الحي من اليمن، فكن منهم كما قال الشاعر: من الطويل
إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم ... فرش واصطنع عند الذين بهم ترمي
وانظر هذا الحي من ربيعة فأنهم شيعتك وأنصارك فاقض حقوقهم. وانظر هذا الحي من تميم فأمطر ولا ترهم، ولا تدنهم فيطمعوا، ولا تقصهم فينقطعوا عنك، ولكن بين المطيع والمدبر. وانظر هذا الحي من قريش فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية ومناصفوهم في الإسلام، ورضاهم منك البشر. يا بني، إن لأبيك صنائع فلا تفسدها فإنه كفى بالمرء من النقص أن يهدم ما بناه أبوه. وإياك والدماء فإنه لا بقية بعدها. وإياك وشتم الأعراض فإن الحر لا يرضيه من عرضه عوض. وإياك وضرب الأبشار فإنه عار باق ووتر مطلوب. واستعمل عل النجدة والفضل دون الهوى، ولا تعزل إلا عن العجز والخيانة؛ ولا يمنعك من اصطناع رجل أن يكون غيرك قد سبقك إليه، فإنك إنما تصطنع الرجال لنفسك؛ ولتكن صنيعتك عند من كافيك عنه العشائر. واحمل الناس على حسن أدبك يكفوك أنفسهم. وإذا كتبت كتاباً فأكثر النظر، وليكن رسولك في ما بيني وبينك من يفقه عني وعنك، فإن كاتب الرجل موضع عقله، ورسوله موضع رأيه. أستودعك اله فإنه ينبغي للمودع أن يسكت وللمشيع أن ينصرف، وما خف من المنطق وقل من الخطبة أحب إلى أبيك.
أوصى قيس بن عاصم بنيه فقال: يا بني، خذوا عني فلا أحد أنصح لكم مني. إذا دفنتموني فانصرفوا إلى رحالكم فسودوا أكبركم فإن القوم إذا سودوا أكبرهم اخلفوا آباءهم، ولا تسودوا أصغركم فإن القوم إذا سودوا أصغرهم أزرى ذلك بهم في أكفائهم. وإياكم ومعصية الله تعالى وقطيعة الرحم. وتمسكوا بطاعة أمرائكم: فإنهم من رفعوا ارتفع، ومن وضعوا اتضع. وعليكم بهذا المال فأصلحوه، فإنه منبهة للكريم واستغناء عن اللئيم. وإياكم والمسألة فإنها أخر كسب الرجل، وإن أحداً لم يسأل إلا ترك كسبه. وإياكم والنياحة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهي عنها وادفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها وأصوم. ولا تعلم بكر بن وائل بمدفني فإني كنت أغتالهم في الجاهلية وبيننا وبينهم خماشات فأخاف أن يدخلوها عليكم فيعيبوا عليكم دينكم. وخذوا بثلاث خصال: إياكم وكل عرق لئيم أن تلابسوه، فإنه مهما يسركم يوماً فسوق يسوءكم يوماً، واكظموا الغيظ، واحذروا بني أعداء آبائكم فإنهم على منهاج آبائهم لآبائكم. وقال: من البسيط
أحيا الضغائن آباء لناهلكوا ... فلن تبيد وللآباء أبناء
قال الكلبي: فنحل هذا البيت سابقاً البربري، وقيس أول من قاله.
أوصى العباس بن محمد معلم ولده فقال: قد كفيتك أعراقهم فاكفني آدابهم. لا أوتين فيهم منك فإنك لم تؤت فيهم مني: أغذهم بالحكمة فإنها ربيع القلوب، وعلمهم النسب والخبر فإنه علم الملوك، وأيدهم بكتاب الله تعالى فإنه قد خصهم ذكره، وعمهم رشده. وكفى بالمرء جهلاً أن يجهل فضلاً عنه أخذ. وخذهم بالإعراب فإنه مدرجة البيان، وفقههم في الحلال والحرام فإنه حارس من أن يظلموا ومانع من أن يظلموا.
وقال الرشيد وقد سمع أولاده يتعاطون الغريب في محاورتهم، ويجنحون إلى الغليظ من الكلام: لا تحملوا ألسنتكم على وحشي الكلام، ولا تعودوها المستشنع ولا المتصنع، فإن العادة ألزم من الطبع. واعتمدوا سهولة الكلام من غير استكراه ولا مؤونة تكلف. سيد الكلام ما ارتفع عن طبقة العامة، وانخفض عن درجة المتشدقين، وخالف سبل المغرقين. فليكن كلامكم قصداً وألفاظكم عدداً، فإن الإكثار يمحق البيان، ومن قبله تحدث الآفة على اللسان. وتحاموا الأنس بالسلطان، وكلما رفع دونكم ستراً من الحشمة فاحتجبوا عنه بستر من الإعظام، وكونوا أشد ما يكون لكم بسطاً أشد ما تكونون له هيبة ثم تمثل بأبيات الخطفي جد جرير: من الطويل
عجبت لازراء العيي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالنطق أعلما
وفي الصمت ستر للغبي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما
ومن لا يصب قصد الكلام لسانه ... وصاحبه الاكثار كان مذمما
إذا نلت إنسي المقالة فليكن ... به ظهر وحشي الكلام محرما
وإن اكثر السلطان أنسك فاحترز ... ولا تفغرن إلا بهيبته فما
وقال عبدة بن الطبيب، وهو من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، وهي من الوصايا المأثورة وفصيح الكلام: من الكامل
أبني إني قد كبرت ورابني ... بصري وفي لمصلح مستمتع
فلئن هلكت لقد بنيت مساعياً ... يبقى لكم منها مناقب أربع
ذكر إذا ذكر الكلام يزينكم ... ووراثة الحسب المقدم تنفع
ومقام أيام لهن فضيلة ... عند الحفيظة والمجامع تجمع
ولهى من الكسب الذي يغنيكم ... يوماً إذا احتضر النفوس المطمع
أوصيكم بتقى الإله فإنه ... يعطي الرغائب من يشاء ويمنع
ويبر والدكم وطاعة أمره ... إن الأبر من البنين الأطوع
ودعوا الضغينة لا تكن من شأنكم ... إن الضغائن للقاربة توضع
واعصوا الذي يسدي النميمة بينكم ... متنصحاً وهو السمام المنقع
يزجي عقارية ليبعث بينكم ... حرباً كما بعث العروق الأخدع
حران لا يشفي غليل فؤاده ... عسل بماء في الإناء مشعشع
لا تأمنوا قوماً يشب صبيهم ... بين القوابل بالعداوة ينشع
فضلت عداوتهم على أحلامهم ... وأبت ضباب نفوسهم لا تنزع
قوم إذا دمس الظلام عليهم ... حدجوا قنافذ بالنميمة تمزع
أمثال زيد حين أفسد رهطه ... حتى تشتت أمرهم فتصدعوا
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل نفوسهم أن تصرعوا
وثنية من أمر قوم عزة ... فرجت يداي وكان فيها المطلع
ومقام خصم قائم ظلفاته ... من زل طار له ثناء أشنع
ظلمات الرجل: ما وقع على الأرض من عيدانه فاستعاره للخصم
أصدرتهم فيه أقوم درأهم ... عض الثقاف وهم ظماء جوع
فرجعتهم شتى كأن عميدهم ... في المهد يمرث ودعتيه مرضع
ولقد علمت بان قصري حفرة ... غبراء يحملني إليها شرجع
فبكى بناتي شجوهن وزوجتي ... والأقربون إلي ثم تصدعوا
وتركت في غبراء يكره وردها ... يسفى علي الترب حين أودع
فإذا مضيت إلى سبيلي فابعثوا ... رجلاً له قلب حديد أصمع
إن الحوادث يختر من وإنما ... عمر الفتى في أهله مستودع
يسعى ويجمع جاهداً مستهتراً ... جداً وليس بآكل ما يجمع
حتى إذا وافى الحمام لوقته ... ولكل جنب لا محالة مصرع
نبذوا إليه بالوداع فلم يجب ... أحداً وصم عن الندا لا يسمع
لما اشتدت علة ابن طباطبا، وهو محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا بن حسن، قال له أبو السرايا الخارج معه: أوصني يا ابن رسول الله فقال: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين. أوصيك بتقوى الله فإنها أحصن جنة وأمنع عصمة، والصبر فإنه أفضل منزل وأحمد معول، وأن تستتم الغضب لربك تعالى، وتدوم على منع دينك، وتحسن صحبة من اصتحبك واستجاب لك، وتعدل بهم عن المزالق، ولا تقدم إقدام متهور، ولا تضجع تضجيع متهاون، واكفف عن الإسراف في الدماء ما لم يوهن لك ديناً ويصدك عن صواب. وارفق بالضعفاء. وإياك والعجلة فإن معها الهلكة. واعلم أن نفسك موصولة بنفوس آل محمد عليه الصلاة والسلام، ودمك مختلط بدمائهم، فإن سلموا سلمت وإن هلكوا هلكت، فكن على أن يسلموا أحرص منك على أن يعطبوا. وقر كبيرهم وبر صغيرهم، واقبل رأي عالمهم، واحتمل هفوة إن كانت من جاهلهم، يرع الله حقك، واحفظ قرابتهم يحسن الله نظرك، وول الناس الخيرة لأنفسهم في من يقوم مقامي من آل علي، فإن اختلفوا فالأمر إلى علي بن عبيد الله، رضيت دينه ورضيت طريقته، فارضوا به وأحسنوا طاعته تحمدوا رأيه وبأسه.
من عهد أنشأه ابن عبد كان: إن أولى من آثر الحق وعمل به، وراقب الله في سر أمره وجهره، واحترس من الزيغ والزلل في قوله وفعله، وعمل لمعاده ورجعته إلى دار فقره ومسكنته، من جعل بين المسلمين حاكماً، وفي أمورهم ناظراً، فسفك الدماء وحقنها، وأحل الفروج وحرمها، وأعطى الحقوق وأخذها، ومن علم أن الله عز وجل سائله عن مثقال الذرة من عمله، وأنه إنما يتقلب في قبضته، أيام مدته، ثم يخرج من دنياه كخروجه من بطن أمه، إما سعيداً بعدله، وإما شقياً بفعله. وإنا لما وقفنا عليه من سديد مذهبك وطريقتك، وحميد هديك وسيرتك، ورجوناه فيك، وقدرناه عندك: من سلوك الطريقة المثلى، واقتداء آثار أئمة الهدى، والعمل بالحق لا بالهوى، رأينا تقليدك القضاء بين أهل ثغر برقة، وامرناك بتقوى الله الذي لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب، وبطاعته التي من آثرها سعد، ومن عمل بها حمد، ومن لزمها نجا، ومن فارقها هوى.
فصل منه: فإنك أسعد بالعدل ممن تعدل عليه، وأحظى بإصابة الحق ممن تصيبه فيه، لما تتعجله من جميل أحدوثته وذكره، ويذخر لك من عظيم ثوابه وأجره، ويصرف عنك من حوب ما تتقلده ووزره.
وأحسن العهود وأحكمها عهد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لمالك بن الحارث الأشتر حين ولاه مصر، وقد كتب في باب الآداب الدنيوية إذ كان أحق بها لمن تضمن منها ما استوفى أقسامه، ودل على علمه بأمور الدنيا وسياستها كعلمه بأحكام الشريعة والدين وأوامره ونواهيه، الذي هو غير منازع فيه.
ونثبت ها هنا اختيارات من عهود كتبها أبو إسحاق الصابي تجنباً للإطالة، نذكرها على جهتها، ولعل فيها ما يخرج عن الاختيار، فمن أراد ذلك وجده في ديوان رسائله.
فمن ذلك فصول من عهد القاضي أبي محمد عبيد الله بن معروف: أمره بتقوى الله مظهراً ومبطناً، وخيفته مسراً معلناً، فإنهما الحصن الحصين، والملجأ الأمين، والعصمة من نزغات الشيطان المردية، ودواعي الأهواء المؤذية، وأفضل العتاد في الأولى، وخير الزاد في الأخرى، من تمسك بعلائقهما، وتشبث بوثائقهما، أقامتاه على سبيل الهدى، ويممتا به الطريقة المثلى، وسلكتا به محجة النجاة، واستنقذتاه في الحياة والوفاة. والله جل اسمه يقول: " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " النحل: 128 " .
وأمره أن يواظب على قراءة القرآن متفهماً آياته، معظماً بيناته، متدبراً حججه الظاهرة، متأملاً أدلته القاهرة، متبعاً أوامره الرشيدة، مستمعاً مواعظه السديدة، آخذاً بعزائمه المبرمة، عاملاً على فرائضه المحكمة، فإنه عمود الحق، ومنهاج الصدق، وبشير الثواب، ونذير العقاب، والكاشف لما استبهم، والمنور لما أظلم، والإمام المنجي من الضلال، والخصم الغالب عند الجدال، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وأمره بدراسة سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره، وتعهد أحاديثه وأخباره، متأدباً بما حض الناس عليه، منتهجاً ما أهاب بهم إليه، منتهياً إلى حكمه ووصاياه، متقدياً بخلائقه وسجاياه، فإنه صلى الله عليه وسلم الذي يدعو إلى الهدى، ولا ينطق عن الهوى، فمن ائتم لأوامره غنم، ومن ارتدع من زواجره سلم. وقد قرن الله طاعته بطاعته، وجعل العمل بقوله كالعمل بكتابه، فقال عز وجل: " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب " " الحشر: 7 " .
وأمره بمجالسة أهل الدين والعلم ومدارسة أهل الفقه والفهم، ومشاورتهم في ما يقرره ويمضيه، والأخذ من آرائهم في ما ينيره ويسديه، فإن الشورى نتاج العقول، والمباحثة رائد الصواب، واستظهار المرء عل رأيه من عزم الأمور، واستنارته بعقل أخيه من حزم التدبير؛ فقد أمر الله تعالى بالاستشارة أكمل الخلق لبابة وأولى بلإصابة، فقال لرسوله الكريم في كتابه الحكيم: " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين " " آل عمران: 159 " .
وأمره بفتح الباب، ورفع الحجاب، والبروز للخصوم، وإيصالهم إليه على العموم، وأن ينظر بين المتحاكمين بالسوية، ويعدل فيهم عند القضية، ويعطيهم من نفسه أقساطاً متساوية، ولا يفضل خصماً عل صاحبه في لحظ ولا لفظ، ولا يقويه عليه بقول ولا فعل، إذ كان جل اسمه قد جعل هذا الحكم سر الحق وميزان القسط، وسبيل العدل في القبض والبسط، وسوى بين الدني والشريف، وأخذ به من القوي للضعيف، ولم يجعل فيه مزية لغني على فقير ولا لكبير عل صغير؛ قال الله تعالى: " إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا وتعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً " النساء: 135 " .
وأمره إذا ترافع إليه متحاكمان، وتنازع إليه متخاصمان، أن يطلب الحكم بينهما في نص الكتاب، فإن عدمه هناك التمسه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن فقده من السنة القويمة، والآثار الصحيحة السليمة، ابتغاه في إجماع المسلمين، فإن لم يجد فيه إجماعاً اجتهد وحكم في الحادثة أشبه الأحكام بالأصول عنده، بعد أن يلغ غاية الوسع في التحري، ويستنفد الطاقة في النظر والتقصي، فإنه من أخذ بالكتاب اهتدى، ومن اتبع السنة نجا، ومن تمسك بالإجماع سلم، ومن اجتهد رأيه أعذر. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
وأمره بالتثبيت في الحدود، والاستظهار فيها بتعديل الشهود، وأن يحترس من عجل يرهق الحكم عن الموقع الصحيح، أو ريث يرجئه عن الوضوح حتى يقف عند الاشتباه، ويمضي لدى الاتجاه، ويوقهم بالبينات، ويدرا الشبهات، ولا تستخفه عجلة إلى بريء، ولا تأخذه رأف بمسيء، فإن الله عز وجل سمى هذا الضرب من الأحكام حدوداً تشدداً فيه، وإكباراً لتعيده، وجعله من معالم الحكم، ونسب من يجاوزه إلى الظلم، فقال تعالى: " ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون " " البقرة: 229 " .
وأمره بتصفح أحوال من يشهد عنده فيقبل منهم من ظهرت منه العدالة، وعرفت من الأصالة، وكان ورعاً في دينه، حصيفاً في عقله، ظاهر التيقظ والحذر، بعيداً من السهو والزلل، طيباً بين الناس ذكره، مشهوراً فيهم ستره، منسوباً إلى العفة والظلف، معروفاً بالنزاهة والأنف، سليماً من شائن الطمع، بريئاً من الحرص والجشع، فغن هذه الطبقة هي حجة الحاكم في ما يحكم، وطريقه إلى ما ينقض ويبرم، فمتى أعذر في ارتيادهم، كان معذوراً في الحكم بشهاداتهم وأن اختلفوا. ومتى عذر في انتقادهم، كان ملوماً في سماع أقوالهم وإن صدقوا، لأن على الحاكم أن يعتام أهل الثقة والأمانة، والعفة والصيانة، حدساً على باطنهم من ظاههم، ومخيلة لخافيهم من باديهم. والله وحده يبلو السرائر ويعلم الضمائر. وقد قال جل اسمه للحكام " ممن ترضون من الشهداء " " البقرة: 282 " وقال تعالى في الشهود " سنكتب شهادتهم ويسألون " " الزخرف: 19 " .
وأمره أن يحتاط على مال الأيتام بثقات أمناء، ويكلها إلى الحفظة الأعفاء، ويرعيهم في ذلك عيناً بصيرة، ويكلأهم بهمة يقظى حتى يسيروا في هذه الأموال بسيرة تثمرها وتنميها، وتدبرها تدبيراً ويحرسها ويزيد فيها، من غير أن يركبوا بها خطراً، ولا يجروا عليها غرراً، وأن ينفقوا عليهم منها بالمعروف، ويسلكوا فيها سبيل القصد، حتى إذا بلغ أربابها الحلم، وأونس منهم الرشد سلمت الأموال إليهم وأشهد بقبضها عليهم. قال الله تعالى: " وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا. ومن كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف. فإذا دفعتهم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً " " النساء: 6 " .
ومنه: هذا ما عهد أمير المؤمنين إليك، والاحتياط لك وعليك، وهاديك إلى طريق الرشاد، وحاديك إلى سبيل السداد، ومقيمك على المحجة والواضحة، وكفيلك بالحجة اللائحة. وقد أعذر أمير المؤمنين فيه وأنذر، وبصر وحذر، لم يألك وعظاً، ولم يدخرك معه حظاً. فكن عند ظن أمير المؤمنين وأوف على تقديره فيك، فإنه اختارك عن علم وبصيرة، وقدمك على فكر وروية. واجعل صيته إمامك، واتبع أمره في تدبيرك، وأنجح قوله في أمورك، وطالعه بما يشكل عليك مطالعة المتسعلم، وأنهه إنهاء المستفهم، ليصدر إليك من رأيه ما تحتذيه، ويرد عليك من عزمه ما تقنفيه، إن شاء الله تعالى.
من عهد كتبه للطاهر أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي بنقابة الطالبيين: وأن أمير المؤمنين بنافذ عزيمته، وثاقب بصيرته، لا يهمل من الاصلاح صغيراً ولا كبيراً، ولا يضيع من الثواب لا قليلاً ولا كثيراً، حتى ينزل كل امرئ منزلته، ويؤتيه رغبته، ولا يجاوز موضعه، ولا يفاوت موقعه. ومن أجل الأحوال عند أمير المؤمنين وأولاها بالاهتمام والتقديم حال اختصت أهل بيته عائدتها، وتوفرت عليهم فائدتها، وزانهم جمالها، والبسهم جلالها، وجمعت لهم إلى كرم الحساب والأعراق، شرف الآداب والأخلاق، وأحسن الله عون أمير المؤمنين على ما ينويه، ووفقه في ما يرتأيه، وخار له فيما يدبره ويمضيه، وينيره ويسديه، خيرة تجمع له الحظ في العاجلة والآجلة، والنفع في الدنيا والآخرة. ولذلك ما رأى أمير المؤمنين أن يقلدك النقابة على الطالبين أجمعين.
ومنه: واعلم أن أمير المؤمنين قد فضلك عل أهل بيتك طراً، ورفعك فوقهم جميعاً بعد أن كنت واحداً منهم، واختصك دونهم بعد مساواتك لهم، فسر في تطبيقهم سيرته، واسلك في ترتيبهم طريقته، حتى إذا عممتهم بالكرامة إلي وإذا شملتهم بالصيانة التي يؤثرها أمير المؤمنين، وتوجبها شرائط الدين، ميزت أصاغرهم بفضل الحنو والعطف. وكن لأفعال كلا الفريقين ممتحناً، وفي أعمالهم للشرف موافقاً، وبسجايا السلف لائقاً، فزده إحساناً تكافيه فيه عن مرضي ديانته بجرح، وعلى أمانته بقدح، ما لم يستوجب حداً معلوماً، ويستحق جزاء محتوماً، فلا تعجل عليه بالعقاب، واستأن معاودته للصواب، ونبهه بالذكرى النافعة للمؤمنين، واعطفه بالموعظة الناجعة في الصالحين. فإن تراجع وتاب، وأقلع وأناب، فأعنه على الأوبة، واقبل منه التوبة، وبوئه منزل مثله ممن جهل ثم حلم، وأذنب ثم ندم، وكن له بمكانك لصالحي أهله، وأجره مجرى خيار قومه. ومن ضرب عن الادكار صفحاً، وطوى دون الأنذار كشحا، ولم يغن فيه التوقيف دون التثقيف، ولا التعليم دون التقويم، فحكم كتاب الله عز وجل عليه، وأطع سنة نبيه عليه، وأطع سنة نبيه عليه السلام فيه. وقابله عن إساءته مقابلة من لا يصرفه عن الحق مراقبة، ولا يقصر به دون الواجب بقيا ولا بقية. فإن أمير المؤمنين وإن أوسع كالة أهله عطفاً، ولم يأل بهم رفقاً ولا لطفاً، لا يصل منهم من أوجب الدين قطيعته، ولا يرعى حق رحم لمن لم يكن في ذات الله تعالى قربته. وليكن لك عليهم عيون من خيارهم، ينهون إليك ما انطوى عنك من أخبارهم، وأوصهم بحسن التأمل لآثار الجماعة، وكفهم عما ينكر بالهيبة والطاعة. فإن انثنوا أو ارتدعوا، وانتهوا أو نزعوا، وإلا احتذيت ما مثله لك أمير المؤمنين من جميع الفرق، ولا تجاوز ما فصله من غلظة وشفق. واجعل في خطابك إياهم ومحاورتك لهم شعاراً من الأكرام يبينون به عن جمهور العوام. ولا تقابل أحداً منهم بسب، ولا تغضض منه في ذكر أم ولا أب، فإن أمير المؤمنين يصون سلفهم سلفه، ويحمي نسبهم لأنهم نسبه، وقد نزه الله أسرته عن هجنة العيب، وباعد حامته عن مقارفة الريب. وإنما جعلك أمير المؤمنين أمينة فيهم، وعينه عليهم، لما ضن بهم عن الزلل، وصانهم عن الغي والخطل. ولتكن عنايتك إلى حماية الماسب مصورفة، وعل حراستها موقوفة، فإنها قربى النبوة ولحمة الخلافة، والسبب المتصل يوم تقطع الأسباب، والنسب المعروف يوم تناكر الأنساب. وأثبت الجماعة ممن يحضرتك منهم بأعيانهم وأسمائهم، أعزهم إلى أجدادهم وآبائهم، وليعمل بمثل ذلك أصحابك في الأطراف، وخلفاؤك في البلاد، حتى تأمن غلطاً تفتن به في سليم، ولبسا تركن به إلى سقيم. ثم إن وجدت من قد ادعى نسباً لا يثبت بالشهادة، ولا يعرف معرفة تزيل عنه التهم، فقابله بغليظ العقوبة ليرتدع غيره عن مثل دعواه، وأشهره شهرة يؤمن معها اشتباه، وينزجر عن كذبة ثانية. واحتط في أمر المناكح حتى لا تصل أيم من الجماعة إلى دني، ولا يقع عليها عقد إلا لكفؤ وفي.
ومن تقليده الحج مضافاً إلى نقابة الطالبين: أما بعد، فإن أمير المؤمنين برعايته الحرمات، ومحافظته على الموات، وإيجابه حق من تأكدت له العصمة، وارتضيت منه الخدمة، وعرفت في الطاعة آثاره، وبليت في الموالاة أخباره، يعتقد رب صنيعته عندك، ومضاعفة نعمته عليك، والانافة بك على أعلى رتب ذوي الأسباب الواشجة والنساب المتشابكة، ولا سيما وقد جمعت إلى القربى اضطلاعاً بالأعباء، وإلى الموالاة قياماً بحق الاستخدام والاستكفاء، فلن يعدم أمير المؤمنين في ما يكله إليك، ويعتمد فيه عليك، رعاية الحق، وصلة الرحم، وصواب التدبير، وإصلاح المهم. والله يحسن لأمير المؤمنين الاختيار، ويمده بالتوفيق والصنع في مجاري الأقدار. ولما قلدك أمير المؤمنين النقابة على الطالبين فبان له فيها محمود سيرتك، وظهر من أفعالك ما دل على سلامة سريرتك، رأى أمير المؤمنين من حق العادة التي عوده الله فيها الصلاح، وأجرى له فيها طائر النجاح، أن يزيدك فضلاً وإحساناً، ولا يألوك إنعاماً وامتناناً، ويستأنف بك من إعلاء الدرجة ورفع المرتبة ما يحمد به رأيك في الخدمة والاجتهاد، ويستمر معه على طريقتك في الاستقامة والسداد.
ومن تقليد القاضي أبي القاسم عمر بن حسان جنديسابور: أمره بتقوى الله وخشيته ومراقبته وخيفته، وأن يسوي في طاعته بين ما استسر من رأيه وعلن، ويخلص العمل له ما ظهر من أمره وبطن، تلك مواد العصمة، ودواعي الرحمة، والمقيمات على سبل الهداية، والمنجيات من أعقاب الغواية، وأنفع ما قدم من زاد، وأحصن ما ادخر من عتاد. فمن أصلح سجاياه، وجعل لهن سره ونجواه، أتم الله عليه نعمته، وكفاه عاجلته، وقد أدب الله بهن أمير المؤمنين، وفرضهن على العالمين، فقال جل من قائل " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " " آل عمران: 102 " .
وأمره أن يكثر تلاوة القرآن، والاستنارة بما فيه من البيان، وأن يصرف إليه فكره، ويشغل به قلبه، ويكرره اعتباراً وتذكراً، ويتأمله استدلالاً وتدبرا، وأن يملكه عنانه وزمامه، ويجري عليه نقضه وإبرامه، ويتصرف معه في ما أحبه وكرهه، ويطيع أمره في ما سره وساءه، فإنه حجة الله وعهده، ووعده ووعيده، وبرهانه الباهرة، ودليله القاهر، وسبيله الوسط، وطريقه الجدد، والمؤدي إلى رحمته وثوابه، والمنجي من سطوته وعقابه. قال الله عز وجل " وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " " فصلت: 41 - 42 " .
وأمره أن يبرز للرعية، ويحملهم على حكم السوية، ويفتح لهم بابه، ويرفع عنهم حجابه، ويجعل لهم مجالس للحكم في المساجد الجامعة، والمواضع الضاحية، وبحيث يصل إليه القوي والضعيف، ويبلغه الدني والشريف، وإذا افضى إليه الخصمان عدل بينهما في لظه ولفظه، وسوى تقاسمهما في قوله وفعله، حتى لا يتسلط الهوى على حكمه، ولا يعترض الميل دون عدله، وأن يبسط للمتظلمين وجهه، ويوطئ لهم كنفه، ويبذل لهم بشره، ويرعيهم سمعه، ويمكنهم من استقصار حججهم، ولإبانة عن حقوقهم، وأن لا يخلو بأحد من الخصماء دون صاحبه، ولا يمنعه ما يطعيه خصمه. قال الله جل ذكره " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " " ص: 26 " .
وأمره أن يحض الخصوم خاطره، ويجمع لهم رأيه، ويصرف إليهم باله، ويفرغ لأحكامهم ذهنه، فإذا ترافعوا غليه في خصومة طلب حكمها في نص الكتاب، أو ثبت السنة وإجماع المسلمين واجتهاد الرأي، فإن تلك وجوه النظر في الحكم وطريق إصابة الحق، ومن أخذ بالقرآن اهتدى، ومن اتبع السنة نجا، ومن تمسك بالاجماع سلم، ومن بذل الوسع أعذر. قال الله تعالى: " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً. واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً " " النساء: 105 - 106 " .
منه: هذا عهد أمير المؤمنين إليك، والحجة لك وعليك، قد أعذر أمير المؤمنين فيه وأنذر، وبصر وحذر، ولم يألك وعظاً، ولم يدخرك حظاً، وأقامك على سبيل القصد، وبذل في تسديدك غاية الجهد، وظنه بكالإصغاء إلى التذكر، والاقتداء بالتبصر، والعمل في ولايتك لآخرتك، والأخذ من عاجلتك لآجلتك. فكن عند ظن أمير المؤمنين بك، وقف عند مخيلته فيك، واجعل عهده إماماً تقتفيه، ومثالاً تحتذيه، وناج بوصيته نفسك، واعمر بتأديبه قلبك، وأنه إليه أخبارك، واعرض عليه آثارك، واستدلله على ما يعضلك واسترشده إلى ما يشكل عليك ليرشدك، ويرد عليك من ثاقب رأيه، وصائب أنحائه، ما يرشد به سعيك، ويفوز به قدحك. وثق بالله أولا وآخراً، وتوكل عليه باطناً وظاهراً، واستكفه المهم بكفك، واستوهبه السداد يهدك، واسترشده الصواب يرشدك، واشكر نعمه يزدك.
كتاب عن المقتدر بتقليد حامد بن العباس الوزارة: أما بعد فإن أحمد الأمور ما رجي صلاحه ومنفعته، وخير التدبير ما رجي سداده وإصابته، وأولى الأعمال ما وصل إلى الكافة يمنه وبركته، وأفضل الولاة من كان العدل هجيراه وسجيته، واصلح الأعوان من كان اتباع الحق سبيله وعادته. وإن الله قد جعل أمير المؤمنين، منذ قلده أمر المسلمين، متحرياً للصلاح في ما يأتي ويذر، متوخياً للصواب في ما بطن وظهر. وأنكر من علي بن محمد بن الفرات أموراً رأى معها صرفه والاستبدال به، وإقامة من هو أرضى منه عنده، فصعد وصوب في من بحضرته من كتابه، وبحث وسأل عن أكفى من علي بابه، فاجتمعت أقوال خاصته ونصحائه، وشهادات ثقاته وأوليائه، على أن حامد بن العباس من لا تخالجهم الشكوك في فضل ورعه وديانته، وكمال أدبه وبراعته، ونبل قدره وهمته، وعزة نفسه وسجيته، وخفة وطأته على رعيته، وشمول عدله ونصفته، وأنه لم يزل منذ تصرف في الأعمال، متقدماً على أكفائه من الرجال؛ لم يسع منذ اكتهل في أمور الدنيا لماهاة ولا مكاثرة، ولم يحرص عليها لمساواة ولا مفاخرة، ولم يردها لزيادة في نشب ولا ثروة، ولم يخترها لانبساطيد بانتقام ولا سطوة؛ لا يمنع الفضل إذا أرشده الحق إليه، ولا يؤخر الحزم إذا دله الراي عليه. وانضاف ذلك - وهو قول لم يدخل هوى، ووصف لم يشبه بزلل ولا دعوى - إلى ما يعلمه منه ويحمده له ويرتضيه من سالف نصحه، وقديم خدمته، فأقدمه إلى حضرته، وتلقاه ببشره وكرامته، وقلده تدبير وزارته، وسربله سربال ثقته، وفوض غليه سياسة خاصته وعامته، واعتمد عليه في تدبير ملكه ودولته، ورد إليه الدواوين كلها، وحمله أوقها وثقلها، عالماً باضطلاعه بها، ساكناً إلى ركونه لها، واثقاً بأنه لا يزول عما يحمد، ولا يحول عما يعهد، في جهد نفسه ومرتبته، وبذل وسعه وطاقته، في نصيحة أمير المؤمنين، أدام الله سلطانه، ومن وراء بابه من المسلمين. فأعلمك بما تجدد لحامد بن العباس عنده من المحل والمنزلة، وتوكد لديه من الموضع والمرتبة، لتعرف حقه وتطيع أمره، وتجريه على أفضل رسوم أمثاله، وأكمل سنن أشكاله، وإن كان عبداً لأمير المؤمنين معدوم الشبه والمثل، والنظير والعدل، وأن تمتثل كتبه إذا وردت عليك، وترتسم ما يصدره إليك عن أمير المؤمنين إذ كان السفير بينه وبينك، ومن لا معدل لك في كل الأمور عنه. فاعلم ذلك واعمل به، إن شاء الله تعالى. وكتب حامد بن العباس.
؟نسخة عهد جاثليق من إنشاء أخي رحمه الله: هذا كتاب أمر بإنشائه سيدنا ومولانا أمير المؤمنين لعبد يشوع الجاثليق البطرك؛ أما بعد، فالحمد لله العميم إحسانه، العظيم سلطانه، الواجب حمده، الغالب جنده، الكامل فضله، الشامل علدهل، المعروف بغير رؤية تدركه ولا نظر، والخالق من غير روية يجيلها ولا فكر، العالم بالأشياء ما ظهر منها وما بطن، المتعالي عن التكييف ببعد الأوهام وغوص الفطن، الذي ابتدع المخلوقات على غير تمثيل، واخترع المصنوعات بغير قياس اتبعه ولا دليل، وأقام شواهد البينات على وحدانيته، ومعجزات البراهين على عجائب حكمته، ما أيقنت معه العقول والبصائر، وشهدت له القلوب العارفة والضمائر، أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، ولا شارك في ملكه أحداً، ولا ولد فيكون مولوداً، ولا ولد فيكون محدوداً، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
والحمد لله الذين اختار محمداً م أشرف العرب منصباً، وأكرمها أماً وأبا، وبعثه بالبرهان الساطع، والحق الصادع، والحجج الواضحة، والخلائق الصالحة، والناس في مجاهل الضلالة حائرون، وعن مناهج الهدى جائرون، على حين فترة من الرسل، واشتباه من السبل، وتفرق من الملل، استمرار من الزيغ والزلل، فلم يزل الأمر به مبلغاً، وبجهده في إمحاض النصيحة للأمة مستفرغاً، حتى طمس معالم الباطل، ودفع عن وعد الصلاح لي الماطل، وأضحى الإسلام مرفوعاً رايته، بعيدة غايته، منتشرة في الآفاق دعوته، مؤيدة بالنصر المبين كلمته، وأنجز الله تعالى له ما وعد في إعلاء دينه عل الدين كله وإظهاره، وإعزاز أشياعه وأنصاره، ونسخ الملل السالفة بملته التي ختم بها الأديان، وأنزل عليه الكتاب المبشر لمتبعها بما فيه من الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشكرون. فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاة تزلف محله، وتزازي شرفه وفضله، ما طرف طرف النهار بسدفة العشي، وصرف صرف المكروه بلطف الله الخفي.
والحمد لله عل أن حاز لأمير المؤمنين من شرف الخلافة ميراث آبائه، وصرف إليه منها ما هو أحق بارتداء ردائه، وبوأه من الإمامة العظيمة متبوأ تخر الجباه سجداً لجلاله، وتنسب مفاخر الدين والدنيا إلى جماله؛ وأطلع بإمامته نجوم العدل فما تغور، وأقام بها أسواق الخيرات فما تكسد بضائع طالبيها ولا تبور، وحمى بحسن رعايته حمى الدين فما يذعر سربه، ولا يكدر شربه، ولا يفل غربه؛ وخص الرعية م رأفته بمنحة أرهفت شذاتها، وثقفت بعد الالتواء قناتها، وجمعت أشتات صلاحها، ويسرت دواعي فلاحها، فهي محظوظة في كنف عدله، مغتبطة بخروجها من حزن العيش إلى سهله، بنعمته إلي شحذت في الطاعة بصائرها، واستخلصت مبادرتها في المتباعة ومصابرتها، وشفعت ظواهرها في العكوف على الدعاء لآبائه، وبسطت آمالها بعد الانقباض وأحصدت مرائرها. وهو يستوزع الله عز وجل شكر هذه النعمة، ويستجزل بالتحدث بها خطة منها وقسمة. وما توفيقه إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
وأن أمير المؤمنين بما وكله الله إليه من أمور عباده، وحمله أعباءه في أرضه وبلاده، يرعي الأمة من اهتمامه عيناً يقظى، ويوليها في عامة متصرفاته حراسة شامنلة وحفظاً. ويتفقد أحوالها، تفقداً يصلح بالها، ويصل حبالها، ويعشب مرادها، ويكثب مرداها، ويعم بذلك عموماً يشترك فيه المسلم مها والمعاهد، والداني والمتباعد، وطوائف الملل من أهل الكتاب الذين خفرهم عهد الشرع وذمته، وكنفتهم حياطته وحمايته، ليفيئ عليهم ظل الحسنى بأجمعهم، ويقترن مرآهم في النظر لهم بمسمعهم.
ولما أنهيت حالك لأمير المؤمنين، وأنك أمثل أهل نحلتك طريقة، وأقربهم إلى الصلاح مذهباً وخليقة، وأحواهم للخلال التي أجمعوا على تمييزك بها عنهم وانفرادك، واستحقاقك للإسعاف من بينهم بمأمولك ومرادك، وكونك حالياً بشروط الجثلقة المتعارفة عندهم بأدواتها، مشهودراً لك بنعوتها الكاملة وصفاتها، وحضر جماعة من النصارى الذين يرجع إليهم في استعلام سيرة أمثالك، واستطلاع أنباء مضارعيك وأشكالك، وذكروا أنهم تصفحوا أخوال ذوي الديانات فيهم، واستثبتوا باديهم منها وخافيهم، بحكم مساس حاجتهم إلى جاثليق ينظر في أمورهم، ويراعى مصالح جمهورهم، فاتفقوا باجتماع من آرائهم، والتئام من قلوبهم وأهوائهم، على اختيارك لرياسة دينهم، ومراعاة شؤونهم، وتدبير وقوفهم، والتسوية في عدل الوساطة بين قويهم وضعيفهم، وسألوا إمضاء نصهم عليك بالاذن الذي به تستقرى قواعده، وتصدق مواعده، وتستحكم مبانيه، وتقوى أواخيه، فأوعز بإسعافهم في ما سألوه بالإيجاب، وإلحافهم في ما لطبوه جناح الاطلاب. وبرز الأذن الأمامي الأشرف، لا زالت أوامره بالتوفيق معضودة، بترتيبك جائليقاً لنسطور النصارى بمدينة السلام، ومن تضمه منهم ديار الإسلام، وزعيماً لهم ولمن عداهم من الروم واليعاقبه والملكية في جمعي البلاد، وكل حاضر من هذه الطوائف وباد، وانفردك عن كافة أهل نحلتك، بتقمض أهبة الجثلقة المتعارفة في أماكن صلواتكم، ومجامع عباداتكم، غير مشارك في هذا اللباس، ولا مسوغ في التحلي به لمطران أو أسقف أو شماس، حطاً لهم عن رتبتك، ووقوفاً بهم دون محلك الذي خصصت به ومنزلتك. وإن ولج أحد من المذكورين باب المجاذبة لك والخلاف، وراع سرب المتابعة لك وأخاف، وأبى النزول على حكمك، وعدل إلى حربك عن سلمك، كانت المقابلة به لاحقة، والعقوبة به على شقائقه حائقة، حتى تعتدل قناته، وتلين بالقرع صفاته، ويزدجر أمثاله عن مثل مقامه. وينحسر قانونك مما يقدح في نظامه.
وأمر بحملك على مقتضى الأمثلة الأمامية في حق من تقدمك من الجثالقة وسبقك، وإجراء أمرك عليه ومن تلاك منهم ولحقك، والحياطة لك ولاهل ملتك في الأنفس والأموال، والحراسة الكافلة لكم بصلاح الأحوال، واتباع العادة المستمرة في مواراة أمواتكم، وحماية بيعكم ودياراتكم، والعمل في ذلك على الشاكلة التي عمل عليها الخلفاء الراشدون مع من قبلكم، ورعى بها الأئمة السابقون رضوان الله عليهم عهدكم وإليكم. وأن يقتصر في استيفاء الجزية على تناولها من العقلاء الواجدين من رجالكم دون النساء ومن لم يبلغ الحلم من أطفالكم. ويكون استفياؤها مرة واحدة في كل سنة، من غير عدول في قبضها عن قضية الشرع المستحسنة. وفسح في الجاثليق أن يتوسط طوائف النصارى في محاكماتهم، فيأخذ النصف من القوي للمستضعف، ويقود إلى الحق من مال إلى القسط والجنف، وينظر في وقوفهم نظراً يقوم بحقوق الأمانة وأشراطها، ويمضي على واضح حدودها وسوي سراطها. فقابل هذا الأنعام الذي شملك، وحقق مناك في ما ناجتك به نفسك وأملك، بدعاء ينبي عن الاعتراف ويعرب، ويبدع في الإخلاص ويغرب. وسبيل كافة المطارنة والقسيسين والأساقفة من الطوائف المذكورة أن يحتذوا المأمور به في هذا المثال، ويتلقوه بالانقياد والامتثال، إن شاء الله تعالى.
نوادر في الوصايا والعهود لما حضرت الحطيئة الوفاة اجتمع إليه قومه فقالوا: يا أبا مليكة أوص، قال: ويل للشعر من رواة السوء. قالوا: أوص يرحمك الله يا حطيء. قال: من الذي يقول: من الطويل
إذا أنبض الرامون عنها ترنمت ... ترنم ثكلى أوجعتها الجنائز
قالوا: الشماخ. قال: أبلغوا غطفان أنه أشعر العرب. قالوا: ويحك أهذه وصية؟! أوص بما ينفعك. قال: ابلغوا أهل ضابئ أنه شاعر حيث يقول: من الطويل
لكل جديد لذة غير أنني ... وجدت جديد الموت غير لذيذ
قالوا: اتق الله ودع عنك هذا. أوص بما ينفعك. قال: أبلغوا أهل امرئ القيس أنه أشعر العرب حيث يقول: من الطويل
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
قالوا اتق الله ودع عنك هذا. قال: أبلغوا الأنصار أن صاحبهم أشعر العرب حيث يقول: من الكامل
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
قالوا: إن هذا لا يغني عنك من الله شيئاً فقل غير ما أنت فيه، فقال: من الرجز
الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه
قالوا: هذا مثل الذي كنت فيه. فقال: من الرجز
قد كنت أحياناً شديد المعتمد ... وكنت ذا خصم على الناس ألد
فوردت نفسي وما كادت ترد
قالوا: يا أبا مليكة، الك حاجة؟ قال: لا والله، ولكن أجزع للمديح الجيد يمدح به من ليس له أهلاً. قالوا: فمن أشعر الناس؟ فأومى بيده إلى فيه وقال: هذا الجحير إذا طمع في خير. واستعبر باكياً فقالوا له: قل لا إله إلا الله، فقال: من الرجز
قالت وفيها حيدة وذعر ... عوذ بربي منكم وحجر
فقيل له: ما تقول في عبيدك وإمائك؟ قال: هم عبيد قن ما عاقب الليل النهار. قالوا: فأوص للفقراء بشيء. قال: أوصيهم بالإلحاح في المسألة فإنها تجارة لا تبور، واست المسؤول أضيق. قالوا: فما تقول في مالك؟ قال: للأنثى من ولدي مثل حظ الذكرين. قالوا: ليس هكذا قضى الله، قال: لكني هكذا قضيت. قالوا: فما توصي لليتامى؟ قال: كلوا أموالهم ونيكوا أمهاتهم. قالوا: فهل شيء تعهد به غير هذا؟ قال: نعم، تحملوني على أتان وتتركوني راكبها حتى أموت، فإن الكريم لا يموت على فراشه، والأتان مركب لم يمت عليه كريم قط. فجعلوه على أتان وجعلوا يذهبون به ويجيئون عليها حتى مات وهو يقول: من الرجز
لا أحد الأم من حطية ... هجا بنيه وهجا المريه
من لؤمه مات على فريه
خطب الحجاج لما أراد الحج فقال: أيها الناس، إني أريد الحج، وقد استخلفت عليكم ابني هذا، وأوصيته بخلاف وصية النبي صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنه أمر أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم. ألا وإني قد أوصيته أن لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم ألا وإنكم ستقولون بعدي: لا أحسن الله له الصحابة، ألا وإني معجل لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة.
كتب أبو العيناء إلى صديق له تولى ناحية: أما بعد فأني لا أعظك موعظة الله تعالى لأنك غني عنها ولأنك أعلم مني بها، ولا أرغبك في الاخرة لمعرفتي بزهدك فيها، ولكني أقول كما قال الشاعر وهي أبيات لأبي الأسود الدؤلي يقولها لحارثة بن بدر لما ولي رامهرمز: من الطويل
أحار بن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذاً فيها تخون وتسرق
وكاثر تميماً بالغنى إن في الغنى ... لساناً به المرء الهيوبة ينطق
واعلم أن الخيانة فطنة، والأمانة خرق، والجمع كيس، والمنع صرامة، وليست كل يوم ولاية. فاذكر أيام العطلة، ولا تحقرن صغيراً، فمن الذود إلى الذود إبل، والولاية رقدة فتنبه قبل أن تنبه: من الرمل المجزوء
وأخو السلطان أعمى ... عن قليل سوف يبصر
وما هذه الوصية التي أوصى بها يعقوب بنيه، ولكني رأيت الحزم أخذ العاجل وترك الآجل.
احتضر بعض المجان فقالت له زوجته: أوص، قال: وتقبلين مني؟ قالت: نعم. قال: إذا أنا مت فادفني معي زنبيل الدقيق ودبة البزر حتى تلحقهما ضغطة القبر فانهما أكلا كبدي في الدنيا.
بلغ أبا الأغر أن أصحابه بالبادية قد وقعبينهم شر، فأرسل ابنه الأغر وقال: يا بني، كن يداً لأصحابك على من قاتلهم، وإياك والسيف فإنه ظل الموت، واتق الرمح فإنه رشاء المنية، ولا تقرب السهام فإنها رسل لا تؤامر مرسلها. قال: فبماذا أقاتل؟ قال: بما قال الشاعر: من الطويل.
جلاميد أملاء الأكف كأنها ... رؤوس رجال حلقت في المواسم
أوصت أعرابية ابنتها عند إهدائها فقالت: اقعلي زج رمحه، فإن أقر فاقلعي سنانه، فإن أقر فاكسري العظام بسيفه، فغ، أقر فاقطعي اللحم على ترسه، فإن أقر فضعي الإكاف على ظهره فإنه حمار.