كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون
الجاهل لا يجد للبلاء مساً كما لا يسدي في الرخاء معروفاً، ولا صبر له في أيام الشدة كما لا رزية له في أيام السلامة، ولا يصدق بالحق كما لا ينزع عن الكذب، إذا كان السخط عن علة كان الرضا مرجواً، وإذا كان عن غير علة انقطع الرجاء، لأن العلة إذا كانت الموجدة في ورودها كان الرضى في صدرها، والعلة لها وقوع وذهاب يوجد أحياناً ويفقد أحياناً، والباطل قائم موجود لا يفقد على حال.
ما أحسن ما لمح هذا المعنى العباس بن الأحنف فنقله إلى الغزل واختصر اللفظ فقال: من الكامل
لو كنت عاتبة لسكن عبرتي ... أملي رضاك وزرت غير مجانب
لكن مللت فلم تكن لي حيلة ... صد الملول خلاف صد العاتب
وقالوا: لا خير في القول إلا مع الفعل، ولا في المنظر إلا مع المخبر، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصديق إلا مع الوفاء، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع حسن النية، ولا في الحياة إلا مع الصحة والأمن والسرور.
قال رجل لهشام: يا أمير المؤمنين احفظ عني أربعاً فيهن صلاح ملكك واستقامة رعيتك: لا تعدن عدة لا تثق من نفسك بإنجازها، ولا يغرنك المرتقى وإن كان سهلاً إذا كان المنحدر وعراً، واعلم أن للأعمال جزاء فاحذر العواقب وللأمور فكن على حذر.
وقالوا: الموت فيما يجمل خير من الحياة فيما يقبح.نظر إلى هذا المعنى بعض فتيان بني أمية وهم يحاربون عبد الله بن علي ورآه عبد الله مجداً في الحرب فأعطاه الأمان فلم يقبله، وتقدم يقاتل ويقول، والشعر لعقيل بن علفة المري: من المتقارب
أذل الحياة وعز الممات ... وكلا أراه طعاماً وبيلا
فإنَّ لم يكن غير إحداهما ... فسيراً إلى الموت سيراً جميلاً
ثم قاتل حتى قتل.وينظر هذا الشعر إلى قول حكيم: الموت في قوة وعز خير من الموت في ذل وعجز.
قيل: أشياء ليس لها ثبات ولا تواصل ولا بقاء: ظل الغمام، وخلة الأشرار، وعشق النساء، والثناء الكاذب، والمال الكثير.
قيل: من ابتلي بمرض في جسده، أو بفراق أحبته وإخوانه، أو بالغربة حيث لا يعرف مبيتاً ولا مظلاً ولا يرجو إياباً، أو بفاقة تضطره إلى المسألة، فالحياة له موت والموت له راحة.
قال عبد الله بن سالم: رأيت بالأنبار رجلاً من الصائبين، وهم لا يؤمنون بعقاب ولا حساب، فلم أر رجلاً أعقل ولا أزهد منه، فقلت له: فيما هذا الزهد وأنت لا ترجو ثواباً ولا تخشى عقاباً، قال: لا أتنعم منها لأنني لا أراني أصيب من الدنيا شيئاً إلا دعاني إلى أكثر منه، فلما رأيت ذلك تنعمت بقطع الأسباب بيني وبينها.
قال بعض الزهاد: من عمل بالعافية في من دونه رزق العافية في من فوقه.
قيل لبعض الحكماء: ما الأشياء الناطقة الصامتة قال: الدلائل المخبرة والعبر الواعظة.
قال بطليموس الثاني: خذوا الدر من البحر، والذهب من الحجر، والمسك من الفأرة، والحكمة ممن قالها.لكل حريق مطفئ، فالماء للنار، والدواء للسم، والصبر للحزن، ونار الحقد لا تخبو أبداً.
قال المخبل الشاعر: (من الكامل):
وتقول عاذلتي وليس لها ... بغد ولا ما بعده علم
إن الثراء هو الخلود وإ ... نّ المرء يكرب يومه العدم
إني وجدك ما يخلدني ... مائة يطير عفاؤها أدم
ولئن بنيت لي المشقر في ... هضب تقصر دونه العصم
لتنقبن عني المنية إ ... نّ الله ليس كحكمه حكم
إني وجدت الأمر أرشده ... تقوى الإله وشره الإثم
قال بعض بني تميم: حضرت مجلس الأحنف بن قيس، وعنده قوم يجتمعون في أمر لهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن (من) الكرم منع الحرم.ما أقرب النقمة من أهل البغي.لا خير في لذة تعقب ندماً.
لن يهلك من قصد ولن يفتقر من زهد.رب هزل قد عاد جداً.من أمن الزمان خانه، ومن تعظم عليه أهانه.دعوا المزاح فإنه يورث الضغائن وخير القول ما صدقه الفعل.احتملوا لمن أدل عليكم، واقبلوا عذر من اعتذر إليكم.أطع أباك وإن عصاك وصله وإن جفاك.أنصف من نفسك قبل أن ينتصف منك.إياكم ومشاورة النساء، واعلم أن كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم، ومن الكرم الوفاء بالذمم، ما أقبح القطيعة بعد الصلة، والجفاء بعد اللطف، والعداوة بعد المودة.لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا إلى البخل أسرع منك إلى البذل. واعلم أن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك فأنفق في حق ولا تكونن خازناً لغيرك.و إذا كان الغدر في الناس موجوداً فالثقة بكل أحد عجز.اعرف الحق لمن عرفه لك، واعلم أن قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل. قال: فما رأيت كلاماً ابلغ منه، فقمت وقد حفظته.
وقال المتوكل الليثي:
الشعر لب المرء يعرضه ... والقول مثل مواقع النبل
منها المقصر عن رميته ... ونوافذ يذهبن بالخصل
ولآخر:
وإن كلام المرء في غير كنهه ... لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
الأضبط بن قريع:
لكل هم من الهموم سعه ... والمسي والصبح لا بقاء معه
فصل حبال البعيد إن وصل ال ... حبل وأقص القريب إن قطعه
وخذ من الدهر ما أتاك به ... من قر عيناً بعيشه نفعه
لا تحقرن الفقير عللك أن ... تركع يوماً والدهر قد رفعه
قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه
قالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنا أتمثل بهذين البيتين:
ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوماً فتدركه العواقب قد نما
يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما صنعت فقد جزى
فقال عليه السلام: أعيدي علي قول اليهودي قاتله الله: لقد أتاني جبريل برسالة من ربي عز وجل: أيما رجل صنع إلى أخيه صنيعة فلم يجد لها جزاء إلا الثناء فقد كافأه، وقد روي هذا لغريض اليهودي وروي أيضاً لورقة بن نوفل وروي أيضاً لزيد بن عمرو بن نفيل.
قال جحدر بن ربيعة العكلي:
بكل صروف الدهر قد عشت حقبة ... وقد حملتني بينها كل محمل
وقد عشت منها في رخاء وغبطة ... وفي نعمة لو أنها لم تحول
إذا الأمر ولى فاتعظ في طلابه ... بعقلك واطلب سيب آخر مقبل
فإنك لا تدري إذا كنت راجياً ... أفي الريث نجح الأمر أم في التعجل
ولا تمش في الضراء يوماً ولا تطع ... ذوي الضعف عند المأزق المحتفل
ولا تشتم المولى تتبع أذاته ... فإنك إن تفعل تسفه وتجهل
ولا تخذل المولى لسوء لبلائه ... متى يأكل الأعداء مولاك تؤكل
قال أفلاطن: الذكر في الكتب عمر لا يبيد.
وقال أفريدون: الأيام صحائف أعماركم فخلدوها أحسن أعمالكم.ومثله قول المتنبي:
ذكر الفتى عمره وحاجته ... ما قاته وفضول العيش أشغال
قيل لخالد بن يزيد بن معاوية: ما أقرب شيء ؟قال: الأجل.قيل: فما أبعد شيء ؟ قال: الأمل، قيل فما أوحش شيء ؟ قال الميت، قيل: فما آنس شيء ؟ قال: الصاحب المؤاتي.
قال أبو العتاهية:
من سابق الدهر كبا كبوة ... لم يستقلها من خطى الدهر
فاخط مع الدهر إذا ما خطا ... واجر مع الدهر كما يجري
ليس لمن ليست له حيلة ... موجودة خير من الصبر
وقال بشر بن المعتمر: (من السريع)
حيلة ما ليست له حيلة ... حسن عزاء النفس والصبر
والجيد في هذا قول من قال: إذا حزبك أمر فانظر، فإن كان مما فيه حيلة فلا تعجز، وإن كان مما لا حيلة فيه فلا تجزع.
وقال آخر:
وللدهر أيام فكن في لباسها ... كلبسته يوماً أجد وأخلقا
وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم و إن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا وقال آخر:
إذا المرء أولاك الهوان فأوله ... هواناً وإن كانت قريباً أواصره
ولا تظلم المولى ولا تضع العصا ... عن الجهل إن طارت إليك بوادره
وقال النابغة الجعدي:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
مثله للمتنبي:
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه ... إذ اتسعت في الحلم طرق المظالم
وقال كعب بن عدي:
شد العصاب على البريء بما جنى ... حتى يكون لغيره تنكيلا
والجهل في بعض الأمور إذا اعتدى ... مستخرج للجاهلين عقولا
قال المهلب بن ابي صفرة: عجبت لمن يشتري العبيد بماله ولا يشتري الأحرار بنواله.
قال عبد الله بن المعتر: أفقرك الولد أو عاداك.
قال القاهر: من صنع خيراً أو شراً بدأ بنفسه.
قال الراضي: من طلب عزاً بباطل أورثه الله ذلاً بحق.
وقال عبيد الله بن يحيى بن خاقان: عقفل الكاتب في قلمه.
قال أوس بن حارثة: أحق من شركك في النعم شركاؤك في المكاره أخذ المعنى أبو تمام فقال، ويرويان لإبراهيم بن العباس:
وإن أولى البرايا أن تواسيه ... عند السرور لمن واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
قال عبد الله بن أبي بكر: من حدث نفسه بطول البقاء فليوطنها على المصائب.
قال أرسطاطاليس: من أيس من الشيء استغنى عنه.
وقيل له: لم لا تجتمع الحكمة والمال ؟قال: لغز الكمال.
وقال آخر: من أكل ما لايشتهي اضطر إلى الإمتناع مما يشتهي. الإستقلال مما يضر خير من الإستكثار مما ينفع.
قال أبو اسحاق المروزي: من تعود الفقر ثم استغنى فلا ترجون فضله، كأنه ينظر إلى قول من قال: من ولد في الفقر أبطره الغنى.
وقال حكيم: بقدر السمو في الرفعة تكون وجبة الوقعة.
نظر إلى هذا المعنى ابن الرومي فقال:
فلا تغبطن المترفين فإنهم ... على قدر ما يعطيهم الدهر يسلب
وقال آخر: الكريم لا تغلبه الشهوة، ولا يحكم عليه الشره بسوءة، ولا القدرة بسطوة، ولا الفقر بذلة، ولا الغنى بعزة، ولا الضر بضجر، ولا الغنى ببطر.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث من الفواقر: جار مقامة إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها، وامرأة إن دخلت إليها لسنتك وإن غبت عنها لم تأمنها، وسلطان إن أحسنت لم يحمدك وإن أسأت قتلك.
ومن كلام علي عليه السلام: يا بني إنه من أبصر عيب نفسه شغل عن عيب غيره، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة غيره، ومن تكبر على الناس ذل، ومن سفه على الناس شتم، ومن خالط العلماء وقر، ومن خالط الأنذال حقر، ومن أكثر من شيء عرف به، والسعيد من وعظ بغيره، وليس مع قطيعة الرحم نماء، ولا مع الفجور غناء. رأس العلم الرفق وآفته الخرق، كثرة الزيارات تورث الملالة.
ومن كلام الحسين بن علي: خير المعروف ما لم يتقدمه مطل ولم يتبعه من. الوحشة من الناس على قدر الفطنة بهم. النعمة محنة، فإن شكرت كانت كنزاً، وإن كفرت صارت نقمة.
قال الحسن بن علي: الأمين آمن، والبريء جريء، والخائن خائف، والمسيء مستوحش.
وقال: مالك إن لم يكن لك كان عليك، فلا تبق عليه فإنَّه لا يبقي عليك، وكله قبل أن يأكلك.
قال عليّ بن الحسين: من مأمنه يؤتى الحذر. يكتفي اللبيب بوحي الحديث وينبو البيان عن قلب الجاهل، ولا ينتفع بالقول وإن كان بليغاً مع سوء الإستماع.
قال محمد بن علي بن الحسين: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإنَّ موسى بن عمران خرج يقتبس ناراً فعاد نبياً مرسلاً.
وقال أيضاً: ما عرف خيراً من لم يتبعه، ولا عرف الشر من لم يجتنبه.
وقال آخر: اعرف الخير لتعمل به، واعرف الشر لئلا تقع فيه.
وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن فلاناً لا يعرف الشر، قال: ذلك أحرى أن يقع فيه.
ومن كلام محمد بن علي أيضاً: ما أقبح الأشر عند الظفر، والكآبة عند النائبة، والغلظة على الفقير، والقسوة على الجار، ومشاحنة القريب، والخلاف على الصاحب، وسوء الخلق على الأهل، والاستطالة بالقدرة، والجشع مع الفقر، والغيبة للجليس، والكذب في الحديث، والسعي بالمنكر، والغدر من السلطان، والحلف من ذوي المروءة.من سأل فوق قدره استحق الحرمان. صلاح من جهل الكرامة في هوانه.المسترسل موقى، والمحترس ملقى.
وقال جعفر بن محمد: من أخلاق الجاهل الإجابة قبل أن يسمع، والمعارضة قبل أن يفهم، والحكم بما لا يعلم.
وقال موسى بن جعفر: من لم يجد للإساءة مضضاً لم يكن للإحسان عنده موقع.
وقال: ما استب اثنان إلا انحط الأعلى إلى مرتبة الأسفل.
وقال آخر: ما استب اثنان إلا غلب ألأمهما.
وقال موسى أيضاً: من تكلف ما ليس من عمله ضاع عمله وخاب أمله، ومن ترك التماس المعالي لانقطاع رجائه منها لم ينل جسيماً، ومن أبطرته النعمة وقره زوالها.
وقال محمد بن علي بن موسى: إذا نزل القضاء ضاق الفضاء.
سوء العادة كمين لا يؤمن.وأحسن من العجب بالقول ألا تقول.وكفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة.ولا يضرك سخط من رضاه الجور.تعز عن الشيء إذا منعته لقلة صحبته إذا أعطيته.
وقال الحسن ابنه: شر من المزرئة سوء الخلف.من أقبل مع أمر ولى مع انقضائه. راكب الحرون أسير نفسه، والجاهل أسير لسانه.المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة.
وقال علي بن موسى: إن القلوب إقبالاً وإدباراً ونشاطأً وفتوراً، فإذا أقبلت أبصرت وفهمت، وإذا انصرفت كلت وملت، فخذوها عند إقبالها ونشاطها، واتركوها عند إدبارها وفتورها.
قيل: إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن تظن بأحد سوءاً حتى تعلم ذلك منه، فإذا كان زمان الجور فيه أغلب من العدل فليس لأحد أن يظن بأحد خيراً حتى يرى ذلك منه.
قال محمد بن علي بن موسى: خير من الخير فاعله، وأجمل من الجميل قائله، وأرجح من العلم حامله، وشر من الشر جالبه، وأهول من الهول راكبه.
وقال الحسن ابنه: من مدح غير المستحق للمدح فقد قام مقام المتهم.
وقال: ادفع بالمسألة ما وجدت المحمل يمكنك، فإنَّ لكل يوم خيراً جديداً.
وقال الحسن بن محمد أيضاً: حسن الصورة جمال ظاهر، وحسن العقل جمال باطن.
وقال: اعلم أن للحياء مقداراً فإنَّ زاد عليه فهو حصر، وللجود مقدار فإنَّ زاد عليه فهو سرف، وللحزم مقدار فإنَّ زاد عليه فهو جبن، وللإقتصاد مقدار فإنَّ زاد عليه فهو تهور.
وقال جعفر بن محمد: الأدب عند الأحمق كالماء العذب في أصول الحنظل، كلما زاد رياً ازداد مرارة.
وقال صاحب كليلة ودمنة: الأدب يذهب عن العاقل السكر ويزيد الجاهل سكراً، كالنهار يزيد البصير بصراً ويزيد الخفاش سوء بصر.
وقال عبد الله بن عمر: اتقوا من تبغضه قلوبكم.
وقال بعض ملوك الهند: من ودك لأمر أبغضك عند انقضائه ؟ وقال آخر: من كان نفعه في مضرتك لم يخل من عداوتك.
وقال آخر: الإحتمال حتى تمكن القدرة.
وقال أنوشروان: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
وقال الحارث بن أبي شمر الغساني: إذا التقى السيفان بطل الخيار.
وقال رستم: إذا أردت أن تطاع فسل ما يستطاع. ويشبهه قول عمر بن معدي كرب: (من الوافر)
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
من كلام أرسطاطاليس: إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان هلاك الجسم دون بلوغ الشهوة.الزمان ينشئ ويلاشي ففناء كل قوم سبب لكون آخرين. يسير من ضياء الحس خير من كثير من حفظ الحكمة. ونقله المتنبي إلى معنى آخر فقال: :
فإنَّ قليل الحب بالعقل صالح ... وإن كثير الحب بالجهل فاسد
وقال: قد يفسد العضو لصلاح أعضاء كالكي والفصد اللذين يفسدان الأعضاء لصلاح غيرهما. ومثله قول المتنبي:
لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل
وقال: الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدها عن ذلك أحد علتين: إما علة دينية لخوف معاد، أو علة سياسية لخوف سيف. وقال المتنبي: : (من الكامل)
والظلم من شيم النفوس فإنَّ تجد ... ذا عفة فلعله لا يظلم
وقال: علل الأفهام أشد من علل الأجسام.
وقال: ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموك: ولدك وعبدك وزوجك، فسبب صلاح حالهم التعدي عليهم.
وقال: من نظر بعين العقل ورأى عواقب الأمور قبل بوادرها لم يجزع لحلولها.
وقال: إذا لم تتجرد الأفعال من الذم، كان الإحسان إساءة.
وقال: خوف وقوع المكروه قبل تناهي المدة خور في الطبع.
وقال: من لم يقدر على فعل الفضائل فلتكن فضائله في ترك الرذائل.
وقال: من جعل الفكر في موضع البديهة فقد أضر بخاطره، وكذلك مستعمل البديهة في موضع الفكر.
وقال: إفراط التوقي أول موارد الخوف.
وقال عمر بن عبد العزيز: قيدوا النعم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتاب.
وقال الخليل بن أحمد: كن على مدارسة ما في قلبك أحرص منك على حفظ ما في كتبك.
وقال أيضاً: اجعل ما في كتبك رأس مال، وما في صدرك للنفقة.
ومن أمثال العرب: خير العلم ما حوضر به، يقول: ما حفظ يكون للمذاكرة.
وقال ضابئ البرجمي: (من الطويل)
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ... نجاحاً ولا عن ريثهن يخيب
ورب أمور لا تضيرك ضيرة ... وللقلب من مخشاتهن وجيب
ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ... على نائبات الدهر حين تنوب
وقال الصلتان العبدي: (من المتقارب)
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي
إذا ليلة هرمت يومها ... أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا ... وحاجة من عاش ما تنقضي
تموت مع المرء حاجاته ... وتبقى له حاجة ما بقي
وقال شبيب بن البرصاء: (من الطويل)
تبين أدبار الأمور إذا مضت ... وتقبل أشباهاً عليك صدورها
ترجي النفوس الشيء لا تستطيعه ... وتخشى من الأشياء ما لا يضيرها
وقال الحارث بن حلزة: (من السريع):
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
واصبب لأضيافك ألبانها ... فإن شر اللبن الوالج
بينا الفتى يسعى ويسعى له ... تاح له من أمره خالج
يترك ما رقح من عيشة ... يعيث فيه همج هامج
وقال أحيحة بن الجلاح: (من الوافر)
وما يدري الفقير متى غناه ... و لا يدري الغني متى يعيل
و لا تدري إذا أزمعت أمراً ... بأي الأرض يدركك المقيل
وقال بشر بن عامر بن جون بن قشير: (من الطويل)
ولم أر مثل الخير يتركه امرؤ ... ولا الشر يأتيه امرؤ وهو طائع
ولا كاتقاء الله خيراً تقية ... وأحسن صوتاً حين يسمع سامع
ولا كالمنى لا ترجع الدهر طائلاً ... لو أن الفتى عنهن بالحق قانع
ولا كذهاب المرء في شأن غيره ... ليشغله عن شأنه وهو ضائع
وقال أبو بكر العرزمي الكوفي: (من الطويل)
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
وقال الرضي الموسوي: (من الطويل)
وما الدهر إلا نعمة ومصيبة ... وما الخلق إلا آمن وجزوع
ويوم رقيق الطرتين مصفق ... وخطب جراز المضربين قطوع
عجبت له يسري بنا وهو واقف ... ويأكل من أعمارنا ويجوع
وقال أيضاً: (من البسيط)
لا تطلب الغاية القصوى فتحرمها ... فإن بعض طلاب الربح خسران
والعزم في غير وقت العزم معجزة ... والازدياد بغير العقل نقصان
واجعل يديك مجاز المال تحظ به ... إن الأشحاء للوارث خزان
وقال تأبط شراً: (من البسيط)
عاذلتا إن بعض اللوم معنفة ... وهل متاع وإن أبقيته باق
سدد خلالك من مال تجمعه ... حتى تلاقي الذي كل امرىء لاق
لتقرعن علي السن من ندم ... إذا تذكرت يوماً بعض أخلاقي
أبو النشناش أحد لصوص بني تميم: (من الطويل)
إذا المرء لم يسرح سواماً ولم يرح ... إليه ولم يبسط له الوجه صاحبه
فللموت خير للفتى من حياته ... فقيراً ومن مولى تعاف مشاربه
فلم أر مثل الفقر ضاجعه الفتى ... ولا كسواد الليل أخفق طالبه
فعش معذراً أو مت كريماً فإنني ... أرى الموت لا يبقي على من يطالبه
وبعده بيتان أوردناهما في الفصل الرابع من هذا الباب. وسمع عبد الملك ابن مروان قوله: ولم أر مثل الفقر، فقال: لص ورب الكعبة.
وقال المتوكل الليثي: (من الكامل)
لا تنه عن خلق ويأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
والهم إن لم تمضه لسبيله ... داء تضمنه الضلوع مقيم
وقال رجل من بني قريع: (من الطويل)
متى ما ير الناس الغني وجاره ... فقير يقولوا عاجز وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظ قسمت وجدود
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد
وكائن رأينا من غني مذمم ... وصعلوك قوم مات وهو حميد
وقال آخر: (من الطويل)
وإنك لا تدري إذا جاء سائل ... أأنت بما تعطيه أم هو أسعد
عسى سائل ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلاً إن يكون له غد
وفي كثرة الأيدي عن الجهل زاجر ... وللحلم أبقى للرجال وأعود
وقال محمد بن هانىء: (من المتقارب)
صه كل آت وهو قريب المدى ... وكل حياة إلى منتهى
ولم أر كالمرء وهو اللبيب ... يرى ملء عينيه ما لا يرى
وليس النواظر إلا القلوب ... فأما العيون ففيها العمى
ومن لي بمثل سلاح الزمان ... فأسطو عليه إذا ما سطا
يجد بنا وهو رسل العنان ... ويدركنا وهو داني الخطى
قال أفلاطون: لا ينبغي للأديب أن يخاطب من لا أدب له، كما لا ينبغي للصاحي أن يخاطب السكران.
وفخروا عند فيثاغورس بالمال وكثرته فقال: ما حاجتي إلى الذي يعطيه الحظ، ويحفظه اللؤم، ويهلكه السخاء.
وقال عدي بن زيد العبادي: (من الطويل)
أعاذل من تكتب له النار يلقها ... كفاحاً ومن يكتب له الفوز يسعد
أعاذل إن الجهل من لذة الفتى ... وإن المنايا للرجال بمرصد
أعاذل ما أدنى الرشاد من الفتى ... وأبعده منه إذا لم يسدد
أعاذل من لا يحكم النفس خالياً ... عن الغي لا يرشد بطول التفند
كفى زاجراً للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي
فنفسك فاحفظها عن الغي والردى ... متى تغوها يغو الذي بك يقتدي
فإن كانت النعماء عندك لا مرىء ... فمثلاً بها فاجز المطالب أو زد
إذا ما المرء لم يرج منك هوادة ... فلا ترجها منه ولا دفع مشهد
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فإن القرين بالمقارن يقتدي
إذا أنت طالبت الرجال برأيهم ... فعف ولا تأخذ بجهد فتنكد
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... فابصر بعينيك امرءاً حيث تعمد
إذا ما رأيت الشر يبعث أهله ... وقام جناة الغي بالغي فاقعد
قال حكيم: إذا كانت الغاية الزوال فما الجزع من تصرف الأحوال. من رضي عن نفسه سخط الناس عليه.
قال رجل لمسعر: أتحب أن تهدى إليك عيوبك؟قال: أما من ناصح فنعم، وأما من شامت فلا.
قال بشار: (من الرجز)
وافق حظاً من سعى بجد ... ما ضر أهل النوك ضعف الكد
الحر يلحى والعصا للعبد ... وليس للملحف مثل الرد
والنصف يكفيك من التعدي
قال الحكيم: رب مغبوط بنعمة هي داؤه، ورب محسود على حال هي بلاؤه، ورب مرحوم من سقم هو شفاؤه.
ومن كلامهم: من ضاق قلبه اتسع لسانه. من اغتر بالعدو الأريب خان نفسه. من لم يركب المصاعب لم ينل الرغائب. من ترك التوقي فقد استسلم لقضاء السوء. من لم تؤدبه المواعظ أدبته الحوادث. من لم يعرف قدره أوشك أن يذل. من لم يدبر ماله أوشك أن يفتقر.
قال الأحنف: كل ملك غدار، وكل دابة شرود، وكل امرأة خؤون.
قال حكيم: لذات الدنيا معدودة، منها لذة ساعة، ولذة يوم، ولذة ثلاث، ولذة شهر، ولذة سنة، ولذة الدهر. فأما لذة ساعة فالجماع وأما لذة يوم فمجلس الشراب وأما لذة ثلاث فلين البدن بعد الاستحمام، وأما لذة الشهر فالفرح بالعرس، وأما لذة السنة فالفرح بالمولود الذكر، وأما لذة الدهر فلقاء الإخوان مع الجدة.
وقال آخر: الشكر محتاج إلى القبول، والحسب محتاج إلى الأدب، والسرور محتاج إلى الأمن، والقرابة محتاجة إلى المودة، والمعرفة محتاجة إلى التجارب، والشرف محتاج إلى التواضع، والنجدة محتاجة إلى الجد.
كان لقمان عند داود عليه السلام وهو يسرد الدرع، فجعل يرى شيئاً لا يرى شيئاً لا يدري ما هو، وتمنعه حكمته عن السؤال، قال: فلما فرغ صبها عليه وقال: نعم أداة الحرب هذه، فقال: إن من الصمت حكماً وقليل فاعله، أردت أن أسألك فكفيتني.
وقال لقمان لابنه: يا بني جالس العلماء وزاحمهم في مجالسهم بركبتيك فإن الله عز وجل يحي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء.
ومن كلامه: يا بني كذب من قال: إن الشر يطفىء الشر، فإن كان صادقاً فليوقد ناراً عند نار فلينظر هل تطفىء إحداهما الأخرى، يا بني الخير يطفىء الماء النار.
ومن كلامه: لا تأمنن امرأة على سر، ولا تطأ خادمة تريدها للخدمة، ولا تستسلفن من مسكين استغنى.
قال أبو بكر رضي الله عنه: أشقى الناس الملوك، فرأى ممن حضره استبعاداً لذلك فقال: عجلون جائزون، أما علمتم أن الملك إذا ملك قصراً أجله، ووكلت به الروعة والحزن، وكثر في عينه قليل ما في يد غيره، وقل في نفسه كثير ما عنده؟
المجلد الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أثق
الحمد لله الذي شرف أولياءه بتقريبه واصطفائه، وأعلى منازلهم عن إسفاف الطمع وإدنائه، وجعل هممهم في عبادته دالة على أخطارهم، وعزائمهم في طاعته زنة لأقدارهم، فعبدوه إذ كان للعبادة أهلاً عبادة الأحرار، لا رغبة في الجنة ولا رهبة من النار، أولئك ذوو الهمم العلية، والنفوس الأبية، عزفت عن الارتغاب، وعزت عن ذلة الإرهاب، فلم يعملوا للجزاء، ولا سبقوا عند الجراء، نعم السابقون الأولون، والصديقون المقربون " أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون " " المجادلة: 22 " سادة في الدنيا والآخرة، وقادة في رقدة دار الغفلة ويقظة الساهرة. والصلاة على رسوله المصطفى المبعوث من أشرف عمارة وأرفعها حسباً، وأطهر قبيلة وأكرمها نسباً، المخصوص بصفة الكمال، الممنوح حلماً يستخف رواسي الجبال، وصفحاً يفك العناة وإن ثقلت مغارمهم، وعفواً يسع الجناة وإن عظمت جرائمهم، وعلى آله الحالين أعلى المنازل والرتب، الباقي ذكر شرفهم على الأزمان والحقب، وسلم وشرف وكرم.الباب الثالث
في الشرف والرياسة والسيادة
وما هو من خصائصها ومعانيها
الرياسة أصلها علو الهمة، وقطبها الحلم، وزينها حمل المغارم، وبهجتها حفظ الجوار، وحصنها حمي الذمار، وأنا ذاكر ما جاء في ذلك جملة وتفصيلاً، ومجتهد في إضافة كل كلام إلى جنسه وشبيهه، ويدخل في الشرف والرياسة كف الأذى، وغض العين على القذى، وحياطة العشيرة، والايثار والتنزه والظلف والجود والبأس والصدق والوفاء وحسن الخلق والحياء، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، ولهذه الخصائص أبواب مفردة قد استوفيتها، والفرق بين المكانين أن الشرف والرياسة معنى يشمل جميع الفضائل بطريق الاستيلاء والاستتباع، وهما قسمان: أحدهما وهو الحقيقي: رياسة العلم والدين، وهو المنهج الواضح المبين، وتلك رياسة لا تنازع فيها، ومنزلة تزل عنها قدم مساميها، والآخر رياسة الدنيا، وهو المقصود بهذا المكان، فإن القسم الأول قد دخل بالإشارة في الباب الأول من هذا الكتاب.وقد تحصل الرياسة بالولاية لكنها عارية مؤداة، وبلغة تفارقه عند العزل وتقلاه، وإذا خلت من الفضيلة زادت اشتهاراً بالمخازي، وكشفت مكنون المساوي، وخلدت الكتب والآثار من قبح الذكر، ما يبقى عاره وشناره على وجه الدهر. والرياسة عقبة كؤود، ومرتقى صعود، لا ينالها إلا من تجشم فيها المشقة، ولم يستبعد الشقة، وقد أحسن القائل في وصفها: من الوافر
وإن سيادة الأقوام فأعلم ... لها صعداء مطلبها طويل
وأنا أضمن هذا الباب ما جاء من الآثار والأخبار والأشعار في علو الهمة وحمل المغارم، وحفظ الجوار وحمي الذمار، والحمية والأنف والحلم والعفو والصفح والتثبت والأناة، وما شاكل هذه المعاني وقاربها، إذ كان ما عداها قد أتى في أماكنه، مستمداً من الله سبحانه حسن التوفيق والتسديد، ومستدعياً بشكر نعمه فضل المزيد، قال الله عز من قائل: " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " " الشورى: 43 " وقال تعالى: " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا هم يغفرون " " الشورى: 37 " وقال عز وجل: " فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين " " الشورى: 40 " وقال سبحانه وتعالى: " والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون " " الشورى: 39 " .
وقال صلى الله عليه وسلم: من رزقه الله فبذل معروفه وكف أذاه فذاك السيد.
قيل لقيس بن عاصم: بم سدت قومك؟ قال: ببذل القرى، وترك المرا، ونصرة المولى.
وقيل لأبي سفيان: بم سدت قومك؟ قال لم أخاصم أحداً قط إلا تركت للصلح موضعاً.
من كلام سهل بن هارون: من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب، ومن ترك الأمر الذي لعله أن يبلغ به حاجته مخافة ما لعله أن يوقاه فليس ينال جسيماً.
قال أبو بكر رضي الله عنه لسعيد الفهمي: أخبرني عن نفسك في جاهليتك وإسلامك، فقال: أما جاهليتي فو الله ما خمت عن بهمة، ولا هممت بلمة، ولا فاديت غير كريم، ولا رئيت إلا في خيل مغيرة، أو حمل جريرة، أو في نادي عشيرة، وأما مذ خطمني الإسلام فلن أزكي لك نفسي.
قال أفلاطون: إذا كبرت النفس استشعرت الخلود فعملت في العاجل ما يبقى لها في الآجل، وإذا صغرت استشعرت الفناء، فاستعجلت الأشياء خوفاً من فواتها.
قال سعيد بن العاص: ما شاتمت رجلاً مذ كنت رجلاً لأني لا أشاتم إلا أحد رجلين: إما كريم فأنا أحق من احتمله، وإما لئيم فأنا أولى من رفع نفسه عنه.
قال الكلبي: قال لي خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز: ما تعدون السؤدد؟ فقلت: أما في الجاهلية فالرياسة، وأما في الإسلام فالولاية، وخير من ذا وذاك التقوى، فقال لي: صدقت، كان أبي يقول: لم يدرك الأول الشرف إلا بالفعل، ولا يدركه الآخر إلا بما أدرك به الأول، قال: قلت: صدق أبوك، ساد الأحنف بحلمه، وساد مالك بن مسمع بمحبة العشيرة له، وساد قتيبة بدهائه، وساد المهلب بهذه الخلال. فقال لي: صدقت، كان أبي يقول: خير الناس للناس خيرهم لنفسه، وذاك أنه إذا كان كذلك أبقى على نفسه من السرق لئلا يقطع، ومن القتل لئلا يقاد، ومن الزنا لئلا يحد، فسلم الناس منه لإبقائه على نفسه.
وقالوا: من نعت السيد أن يكون لحيماً ضخم الهامة، جهير الصوت، إذا خطا أبعد، وإذا تؤمل ملأ العين لأن حقه أن يكون في صدر مجلس أو ذروة منبر أو منفرداً في موكب.
وكانوا يقولون في نعت السيد: يملأ العين جمالاً والسمع مقالاً.
وقال رجل لبعض أهله: والله ما أنت بعظيم فتكون سيداً، ولا بأرسح فتكون فارساً.
وقال آخر: والله ما فتقت فتق السادة ولا مطلت مطل الفرسان.
قيل للأشعث بن قيس بن معدي كرب الكندي: بم كنتم تعرفون السؤدد في الصبي منكم؟ قال: إذا كان ملوث الأزرة، طويل الغرلة، سائل الغرة كأن به لوثة فلسنا نشك في سؤدده.
هذه أمارات تصيب وتخون، والمعول على ما أدركته الحقيقة لا الظنون.
قيل للأحنف: من السيد؟ قال: الذليل في نفسه، الأحمق في ماله، المعني بأمر قومه، الناظر للعامة.
وقال عدي بن حاتم: السيد الأحمق في ماله، الذليل في عرضه، المطرح لحقده، المعني بأمر جماعته، وأحسن القول ما قارنه الفعل.
قدم وفد العراق على معاوية وفيهم الأحنف، فقام الآذن وقال: إن أمير المؤمنين يعزم عليكم أن يتكلم أحد إلا لنفسه، فلما وصلوا إليه قال الأحنف: لولا عزمة أمير المؤمنين لأخبرته أن رادفة ردفت، ونازلة نزلت، ونائبة نابت، والكل بهم الحاجة إلى معروف أمير المؤمنين وبره. فقال: حسبك يا أبا بحر فقد كفيت الغائب والشاهد.
ومثل ذلك، بل أبلغ وأصلت، ومن امرأة أعظم وأغرب، ما روي عن سودة بنت عمارة الهمدانية، وفدت على معاوية فقال لها: ما حاجتك؟ قالت: إنك أصبحت للناس سيداً، ولأمرهم متقلداً، والله مسائلك عن أمرنا، وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يقدم علينا من ينوء بعزك ويبطش بسلطانك فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسلبنا الجليلة، وهذا بسر بن أرطأة قدم علينا من قبلك فقتل رجالي، يقول لي فوهي بما أستعصم الله سبحانه وتعالى منه وألجأ إليه فيه، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة. فإما عزلته عنا فشكرناك، وإما لا فعرفناك. فقال معاوية: أتهدديني بقومك؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس فأردك إليه ينفذ فيك حكمه. فأطرقت تبكي ثم أنشأت تقول: من البسيط
صلى الاله على جسم تضمنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً ... فصار بالحق والإيمان مقرونا
فقال لها: ومن ذاك؟ قالت: علي بن أبي طالب رضوان الله عليه. قال: وما صنع بك حتى صار عندك كذا؟ قالت: قدمت عليه في مصدق قدم علينا من قبله، والله ما كان بيني وبينه إلا ما بين الغث والسمين، فأتيت علياً لأشكو إليه ما صنع بنا فوجدته قائماً يصلي. فلما نظر إلي انفتل من صلاته ثم قال لي، برأفة وتعطف: ألك حاجة؟ فأخبرته، فبكى ثم قال: اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك؛ ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب، فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم " أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ " " هود: 85 - 86 " . إذا قرأت كتابي هذا فأحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك، والسلام.
فأخذته منه والله ما ختمه بطين ولا خزمه بخزام، فقرأته.
فقال لها معاوية: لقد لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان، فبطيئاً ما تفطمون، ثم قال: اكتبوا لها برد مالها والعدل عليها. قالت: ألي خاصة أم لقومي عامة؟ قال: ما أنت وقومك؟ قالت: هي إذن والله الفحشاء واللؤم، إن كان عدلاً شاملاً وإلا أنا كسائر قومي، قال: اكتبوا لها ولقومها.
ومثله خبر الراعي مع عبد الملك لما أنشده قوله: من البسيط
فإن رفعت بهم رأساً نعشتهم ... وإن لقوا مثلها في قابل فسدوا
قال له: تريد ماذا؟ قال: ترد عليهم صدقاتهم، وتدر أعطياتهم، وتنعش فقيرهم، وتخفف مؤونة غنيهم، قال: إن ذا لكثير، قال: أنت أكثر منه، قال: قد فعلت فسلني حوائجك، قال: قد قضيتها، قال: سل لنفسك، قال: لا والله لا أشوب هذه المكرمة بالمسألة لنفسي.
ومما يناسبه أن البادية قحطت في أيام هشام، فقدمت عليه العرب فهابوا أن يتكلموا وفيهم درواس بن حبيب ابن ست عشرة سنة له ذؤابة وعليه شملتان، فوقعت عليه عينا هشام فقال لحاجبه: ما يشاء أحد يدخل علي إلا دخل حتى الصبيان؟! فوثب درواس بن حبيب حتى وقف بين يديه مطرقاً، فقال: يا أمير المؤمنين إن للكلام نشراً وطياً، وإنه لا يعرف ما في طيه إلا بنشره، فإن أذنت لي أن أنشره نشرته. قال: أنشر لا أبا لك، وقد أعجبه كلامه مع حداثة سنه. فقال: إنه أصابتنا سنون ثلاث: سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة أنقت العظم، وفي أيديكم فضول أموال، فإن كانت لله ففرقوها علي عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم " إن الله يجزي المتصدقين " " يوسف: 88 " فقال هشام: ما ترك لنا الغلام في واحدة من الثلاث عذراً. فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم، فقال: ارددها يا أمير المؤمنين إلى جائزة العرب، فإني أخاف أن تعجز عن بلوغ كفاية. فقال: أما لك حاجة؟ قال: ما لي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين. فخرج وهو من أنبل القوم.
قال رجل للأحنف: لم سودك قومك وما أنت بأشرفهم بيتاً، ولا أصبحهم وجهاً، ولا أحسنهم خلقاً؟ قال: بخلاف ما فيك يا بني، قال: وما ذاك؟ قال: بتركي من أمرك ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيك.
قال عمرو بن العاص لدهقان نهر تيري: بم ينبل الرجل عندكم؟ قال: بترك الكذب فإنه لا يشرف من لا يوثق بقوله، وبقيامه بأمر أهله فإنه لا ينبل من يحتاج أهله إلى غيره، وبمجانبة الريب فإنه لا يعز من لا يؤمن أن يصادف على سوءة، وبالقيام بحاجات الناس فإنه من رجي الفرج عنده كثرت غاشيته.
وقال بزرجمهر: من كثر أدبه كثر شرفه وإن كان قبل وضيعاً، وبعد صوته وإن كان خاملاً، وساد وإن كان غريباً، وكثرت الحاجات إليه وإن كان فقيراً.
قال المعلوط الربعي: من الطويل
فما سود المال اللئيم ولا دنا ... لذاك ولكن الكريم يسود
إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ... فمطلبها كهلاً عليه شديد
ولهذا المعنى الذي بينه المعلوط قالوا: السؤدد مع السواد.
وقال المقنع الكندي: من الطويل
يعاتبني في الدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ... ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا
وفي جفنة ما يغلق الباب دونها ... مكللة لحماً مدفقة ثردا
وفي فرس نهد عتيق جعلته ... حجاباً لبيتي ثم أخدمته عبدا
فإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جل مالي إن تتابع لي غني ... وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
وإني لعبد الضيف ما دام ثاوياً ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
وقال آخر أيضاً: من الطويل
وليس فتى الفتيان من جل همه ... صبوح وإن أمسى ففضل غبوق
ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى ... لضر عدو أو لنفع صديق
وقد كان أحمد بن أبي دواد القاضي جبل على مثل هذا، قال أبو العيناء: ما رأيت مثل ابن أبي دواد من رجل قد مكن له في الدنيا ذلك التمكين، كنت أراه في مجلس سقفه غير مغرى، جالساً على مسح وأصحابه معه، يتدرن القميص عليه فلا يبدله حتى يعاتب في ذلك، ليس له همة ولا لذة في الدنيا إلا أن يحمل رجلاً على منبر وآخر على جذع.
قال أسد بن عبد الله القسري لسلم بن نوفل: ما أرخص السؤدد فيكم!! فقال سلم: أما نحن فلا نسود إلا من بذل لنا ماله، وأوطأنا عرضه، وامتهن في حاجتنا نفسه؛ فقال أسد: إن السؤدد فيكم لغال.
وقال معاوية لعرابة بن أوس بن قيظي الأنصاري: بم سدت قومك؟ قال: لست بسيدهم ولكني رجل منهم فعزم عليه فقال: أعطيت في نائبتهم، وحلمت عن سفيههم، وشددت علي يدي حليمهم، فمن فعل منهم فعلي فهو مثلي، ومن قصر عني فأنا أفضل منه، ومن تجاوزني فهو أفضل مني. وقيل في رواية بأربع خلال: أنخدع لهم في مالي، وأذل لهم في عرضي، ولا أحتقر صغيرهم، ولا أحسد رفيعهم.
وكان سبب ارتفاع ذكر عرابة أنه قدم من سفر فجمعه والشماخ ابن ضرار المري الطريق فتحادثا، فقال له عرابة: ما الذي أقدمك المدينة؟ قال: قدمتها لأمتار منها، فملأ له عرابة رواحله براً وتمراً وأتحفه بغير ذلك، فقال الشماخ: من الوافر
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فأشرقي بدم الوتين
سأل عبد الملك بن مروان روح بن زنباع عن مالك بن مسمع فقال: لو غضب مالك لغضب معه مائة ألف لا يسأله واحد منهم لم غضب، قال عبد الملك: هذا والله السؤدد.
كتب معاوية إلى زياد: أعزل حريث بن جابر فإني ما أذكر فتنة صفين إلا كانت حزازة في صدري. فكتب إليه: خفض عليك يا أمير المؤمنين، فقد بسق حريث بسوقاً لا يرفعه عمل ولا يضره عزل.
وكتب إليه: انظر رجلاً يصلح لثغر الهند فوله، فكتب إليه زياد: إن قبلي رجلين يصلحان لذلك: الأحنف بن قيس وسنان بن سلمة. فكتب معاوية: بأي يومي الأحنف نكافئه: ألخذلان أم المؤمنين أم بسعيه علينا يوم صفين؟ فوجه سناناً. فكتب إليه زياد: إن الأحنف قد بلغ من الشرف والسؤدد ما لا ترفعه الولاية ولا يضعه العزل.
وقيل لرجل: بم ساد عليكم الأحنف؟ فو الله ما كان بأكبركم سناً ولا بأكثركم نشباً. قال: بقوته على سلطان نفسه.
لما ولي زياد البصرة خطب فقال: إني رأيت خلالاً ثلاثاً نبذت إليكم فيهن النصيحة: لا يأتيني شريف بوضيع لم يعرف له شرفه إلا عاقبته، ولا كهل بحدث لم يعرف له فضل سنه إلا عاقبته، ولا عالم بجاهل عنته إلا عاقبته، فإنما الناس بأشرافهم وذوي سنهم وعلمائهم.
أراد أنوشروان أن يقلد ابنه هرمز ولاية العهد، فاستشار عظماء مملكته فأنكروا عليه، وقال بعضهم: إن الترك ولدته وفي أخلاقهم ما علمت فقال: الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات، وكانت أم قباذ تركية، وقد رأيتم من عدله وحسن سيرته ما رأيتم. فقيل: هو قصير وذاك يذهب ببهاء الملك. فقال: إن قصره من رجليه ولا يكاد يرى إلا جالساً أو راكباً فلا يستبين ذلك فيه، فقيل: هو بغيض في الناس، فقال: أوه، أهلكت ابننا هرمز فقد قيل: إن من كان فيه خير واحد ولم يكن ذلك الخير المحبة في الناس فلا خير فيه، ومن كان فيه عيب واحد ولم يكن ذلك العيب المبغضة في الناس فلا عيب فيه.
ذكرت البيوتات عند هشام بن عبد الملك فقال: البيت ما كانت له سالفة ولاحقة وعماد حال ومساك دهر، فإذا كان كذلك فهو بيت قائم؛ أراد بالسالفة ما سلف من شرف الآباء، واللاحقة ما لحق من شرف الأبناء، وبعماد الحال الثروة، وبمساك الدهر الجاه عند السلطان.
وكان يقال: مضر خيرة الله من خلقه، وقريش خيرة مضر، وهاشم خيرة قريش، وعترة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرة هاشم.
وأحفظ معاوية الأحنف وجارية بن قدامة ورجالاً من بني سعد فأغلظوا له، وذلك بمسمع من بنت قرظة، فأنكرت ذلك فقال لها: إن مضر كاهل العرب، وتميما كاهل مضر، وسعداً كاهل تميم، وهؤلاء كاهل سعد.
ومن الرياسة علو الهمة قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تصغرن هممكم فإني لم أر شيئاً أقعد بالرجل من سقوط همته.
وقال معاوية: تهامموا فإني هممت بالخلافة فنلتها. يعني مع بعده عن رتبتها ووجود أعيان الصحابة الألى هم أحق منه بها، كما يقال: قل من طلب إلا وجد أو كاد.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن لي نفساً تتوق إلى معالي الأمور، تاقت إلى الخلافة فلما نلتها تاقت إلى الجنة.
وقيل للعتابي: إن فلاناً بعيد الهمة، فقال: إذن لا يقنع بدون الجنة.
وإذا أردنا حقيقة علو الهمة، فطلب الجنة، وإذا أردنا الرياسة التي لا يفسدها الزمان فرياسة الدين والعلم، وإنما نذكر رياسة الدنيا والراغبين فيها مجازاً ولذاك يقع بالأمر غير مستحقه، وينال الدنيا وشرفها ويدرك غاياتها من لا فضيلة عنده، فيهلك صاحبها المحروم أسفاً وكمداً، ويتقطع قلبه لهفاً وحسداً.
ونعود إلى ما قصدنا له: نازع عبد الملك بن مروان وهو حدث عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأربى عليه عبد الرحمن، فقيل له لو شكوت ما صنع بك إلى عمه لانتقم لك منه، فقال: إني لا أرى انتقام غيري لي انتقاماً؛ فلما استخلف أذكر بذلك فقال: حقد السلطان عجز.
وخاض جلساؤه يوماً في مقتل عثمان فقال رجل: يا أمير المؤمنين في أي سنك كنت يومئذ؟ قال: كنت دون المحتلم، فقال فما بلغ من حزنك عليه؟ قال: شغلني الغضب له عن الحزن عليه.
قال يزيد بن المهلب: ما يسرني أني كفيت أمر الدنيا كله، قيل: ولم أيها الأمير؟ قال: أكره عادة العجز.
ومن الهمة البعيدة ما فعله بنو العباس: خرجوا في أربعة عشر راكباً يطلبون الخلافة، وأعداؤهم في أيديهم الأموال والبلاد، والجيوش منقادة لهم حتى قال بعضهم وهو داود بن علي، وقد لقيهم ولم يعلم أين يريدون: ما قصتكم وأين تريدون؟ فقص عليه أبو العباس القصة، وأنهم يريدون الكوفة ليظهر أمرهم بها، فقال له داود: يا أبا العباس تأتي الكوفة وشيخ بني مروان بحران، وهو مطل على العراق في أهل الشام، يعني مروان بن محمد، وشيخ العرب في العراق في حلبة العرب، يعني يزيد بن عمر بن هبيرة؟! فقال أبو العباس: من أحب الحياة ذل، ثم تمثل قول الأعشى: من الطويل
فما ميتة إن متها غير عاجز ... بعار إذا ما غالت النفس غولها
فألتفت داود إلى ابنه موسى فقال: صدق والله ابن عمك، أرجع بنا معه نعش أعزاء أو نموت كراماً، فرجعوا معه.
والركب الأربعة عشر هم: أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس وهو أبو العباس السفاح، وأخوه أبو جعفر عبد الله المنصور، وعمومتهما عبد الله وصالح وعبد الصمد وإسماعيل وداود وعيسى بنو علي بن عبد الله بن عباس، ويحيى بن محمد بن علي، وعبد الوهاب ومحمد ابنا إبراهيم بن محمد بن علي، وعيسى بن موسى بن علي، وموسى بن داود بن علي ويحيى بن جعفر بن تمام بن العباس.
وكان عيسى بن موسى إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة يقول: إن ركباً أربعة عشر خرجوا من دارهم وأهليهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة هممهم، كبيرة نفوسهم، شديدة قلوبهم.
وممن علت به همته ورفعته من أوضع منزلة إلى أعلى درجة أبو مسلم صاحب الدولة، وهو عبد اشتراه إبراهيم الامام وأعتقه، وذلك بعد تعرضه للدعوة، وقد ذكرنا مبدأ أمره في موضعه من هذا الكتاب. قيل له في أيام شبيبته وعصر حداثته: إنا نراك تأرق كثيراً ولا تنام كأنك موكل برعي الكواكب أو متوقع للوحي من السماء. قال: والله ما هو ذاك، ولكن لي رأي جوال، وغريزة تامة، وذهن صاف، وهمة بعيدة، ونفس تتوق إلى معالي الأمور، مع عيش كعيش الهمج والرعاع، وحال متناهية في الخساسة والاتضاع، وإني لأرى بعض هذا مصيبة لا تجبر بسهر ولا تتلافى برفق. فقيل له: ما الذي يبرد عليك، ويشفي أحاح صدرك، ويطفىء أوار نارك؟ قال: الظفر بالملك. قيل له: فاطلب، قال: إن الملك لا يطلب إلا بركوب الأهوال، قيل: فاركب الأهوال، قال: هيهات، العقل مانع من ركوب الأهوال، قيل: فما تصنع وأنت تبلى حسرة وتذوب كمداً؟ قال: سأجعل من عقلي بعضه جهلاً وأحاول به خطراً لأنال بالجهل ما لا ينال إلا به، وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا بقوته، وأعيش عيشاً يبين مكان حياتي فيه من مكان موتي عليه فإن الخمول أخو العدم، والشهرة أبو الكون.
وكان للفاذوسبان، وهو من كبار أهل نيسابور، يد عند أبي مسلم في اجتيازه إلى خراسان، فكان يرعى له ذلك، فقال له يوماً الفاذوسبان: أيها السلار، وبذاك كان يخاطب قبل قتل ابن الكرماني، مال قلبك إلى أحد بخراسان؟ فقال: كنت في ضيافة رجل يقال له فلان السمرقندي، فقامت بين يدي جارية له توضيني فاستحليتها، قال فأنفذ الفاذوسبان إلى سمرقند واحتال في تحصيل الجارية، ثم أضاف أبا مسلم وأمرها أن توضيه، فلما نظر إليها عرفها، فوهبها له الفاذوسبان، وكان لا يحجب عن أبي مسلم في أي وقت جاءه، فدخل إليه يوماً فوجده نائماً في فراشه فانصرف، وأمر أبو مسلم برده فجاء حتى وقف عليه فرآه مضاجعاً تلك الجارية، وهما في ثيابهما، وبينهما سيف مسلول، فقال: يا فاذوسبان، إنما أحببت أن تقف على صورتي في منامي لتعلم أن من قام بمثل ما قمت به لا يتفرغ إلى مباشرة النساء وأنشد: من البسيط
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
وكتب عبد الحميد كتاباً إلى أبي مسلم وقال لمروان: إني قد كتبت كتاباً إن نجع فذاك وإلا فالهلاك، وكان من كبر حجمه يحمل على جمل، وكان عبد الحميد قال: أنا ضامن أنه متى قرأ الرسول على المستكفين حول أبي مسلم ذلك بمشهد منه أنهم يختلفون، وإذا اختلفوا كل حدهم وذل جهدهم، فلما ورد الكتاب على أبي مسلم دعا بنار فطرحه فيها إلا قدر ذراع فإنه كتب عليه: من الطويل
محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... عليك ليوث الغاب من كل جانب
فإن تقدموا نعمل سيوفاً شحيذة ... يهون عليها العتب من كل عاتب
ورده، فحينئذ وقع اليأس من معالجته.
وتزعم الفرس أن كابي كان حداداً بخراسان وقيل بأصفهان في ملك بيوراسب، وأن بيوراسب قتل ابنين له، فسمت همته إلى أن أخذ النطع الذي يتوقى به من النار فجعله علماً، ودعا الناس إلى مجاهدة بيوراسب، فأجابه خلق كثير لما كان عليه بيوراسب من الجور، وهزم بيوراسب وقتل، وسألوا كابي أن يلي عليهم الملك فأبى حتى ملكوا غيره، وعظموا ذلك النطع ورصعوه بالجوهر وصار علم ملوكهم الأكبر الذي يتبركون به في حروبهم ويسمونه درفش كابيان.
ويقال لا ينبغي للرجل ذي المروءة الفاضلة أن يرى إلا في موضعين ولا يليق به غيرهما: إما مع الملوك مكرما، وإما مع النساك متبتلاً.
وممن حركته همته حتى نال أمنيته على بعد منالها المختار بن أبي عبيد الثقفي، قال بن العرق: رأيت المختار مشتور العين، قلت: من فعل بك هذا، قطع الله يده؟ فقال: ابن الفاعلة عبيد الله بن زياد، والله لأقطعن أنامله وأباجله، ولأقتلن بالحسين عدد من قتل بيحيى بن زكريا عليهما السلام. وحبس في فتنة يزيد فلما هلك اجتمعت الشيعة لإخراجه، فاستأناهم حتى أخرجه عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بن طلحة وهما على الكوفة من قبل عبد الله بن الزبير وكفلاه وحلفاه ألا يخرج ما دام لهما سلطان، فإن فعل فعليه ألف بدنة ينحرها لدى رتاج الكعبة، ومماليكه ذكرهم وأنثاهم أحرار، فلما عزلا عن الكوفة وبعث ابن الزبير عليها عبد الله بن مطيع أظهر أمره حينئذ، وبلغ من الثأر ما هو مشهور. وكان يقول: قاتلهم الله ما أحمقهم حين يرون أني أفي لهم باليمين، أما يميني بالله فإنه ينبغي لي إذا حلفت على يمين ثم رأيت ما هو خير منها أن أدع ما حلفت عليه وآتي الذي هو خير وأكفر عن يميني، وأما هدي البدن فأهون علي من بصقة، وما ثمن ألف بدنة مما يهولني! وأما عتق موالي فو الله لوددت أنه قد استتب لي أمري ولم أملك مملوكاً أبداً.
ولما حارب المختار مصعباً فل جيش مصعب، وقتل محمد بن الأشعث، وأوغل أصحاب المختار في أصحاب مصعب فظن أنهم انهزموا، فانصرف منهزماً إلى القصر بالكوفة، وعاد أصحاب المختار من حملتهم فلم يجدوه، فتبعوه إلى القصر بعد أن تفرق شطرهم وظنوا أنه قد قتل، واجتمعوا في القصر ثمانية آلاف، وحصرهم مصعب فقال لهم: اخرجوا إلى القوم فما بكم من قلة، فجبنوا عن ذلك وضعفوا، فخرج المختار إليهم في تسعة عشر رجلاً فقاتلهم حتى قتل ولم يسلم نفسه لهم.
خرج معاوية متنزهاً فمر بحواء ضخم فقصد لبيت منه، فإذا بفنائه امرأة برزة، فقال لها: هل من غداء؟ قالت: نعم حاضر، قال: وما غداؤك؟ قالت خبز خمير، وماء نمير، وحيس فطير، ولبن هجير، فثنى وركه ونزل، فلما تغدى قال: هل لك من حاجة؟ فذكرت حاجة أهل الحواء، قال: هاتي حاجتك في خاصة نفسك، قالت: يا أمير المؤمنين إني أكره أن تنزل وادياً فيرف أوله ويقف آخره.
قال ابن عامر لأمرأته أمامة بنت الحكم الخزاعية: إن ولدت غلاماً فلك حكمك، فلما ولدت قالت: حكمي أن تطعم سبعة أيام، كل يوم ألف خوان من فالوذج، وأن تعق بألف شاة، ففعل.
قال بعضهم: رحت عشية من طريق مكة مع عبد الله بن الحسن بن الحسن، فضمنا المسير وداود وعبد الله وعيسى بني علي بن عبد الله ابن العباس، فسار عيسى وعبد الله أمام القوم، فقال داود لعبد الله بن الحسن: لم لا يظهر محمد، يعني ابنه؟ فقال عبد الله: لم يأت الوقت الذي يظهر فيه محمد بعد، ولسنا بالذين نظهر عليهم، وليقتلنهم الذي يظهر عليهم قتلاً ذريعاً، قال: فسمع عبد الله بن علي الحديث فالتفت إلى عبد الله بن الحسن وقال: يا أبا محمد من الوافر
سيكفيك الجعالة مستميت ... خفيف الحاذ من فتيان جرم
أنا والله أظهر عليهم وأقتلهم وأنتزع ملكهم، فكان كما قال.
قال أبو هريرة رأيت هنداً يعني بنت عتبة بمكة جالسة وكأن وجهها فلقة قمر، وخلفها من عجيزتها مثل الرجل الجالس، ومعها صبي يلعب، فمر رجل فنظر إليه وقال: إني لأرى غلاماً إن عاش ليسودن قومه، فقالت هند: إن لم يسد إلا قومه فلا جبره الله.
وقال عتبة بن ربيعة لابنته هند: قد خطبك إلي رجلان السم ناقعاً يعني سهيل بن عمرو، والأسد عادياً يعني أبا سفيان، فأيهما أحب إليك أن أزوجك؟ قالت: الذي يأكل أحب إلي من الذي يؤكل؛ فزوجها أبا سفيان.
لما قتل حاجب بن زرارة قراد بن حنيفة قالت قبائل بني دارم لحاجب: إما أن تقيد من نفسك، وإما أن تدفع إلينا رجلاً من رهطك، فأمر فتى من بني زرارة بن عدس أن يذهب إليهم حتى يقاد، فمروا بالفتى على أمه فحسبوها تجزع فيدفع إليهم حاجب غيره، فقالت: إن حيضة وقت حاجباً الموت لعظيمة البركة.
قيل إن الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري قال لخارجة بن سنان المري: أتراني أخطب إلى أحد فيردني؟ قال: نعم، قال: ومن ذاك؟ قال: أوس بن حارثة بن لام الطائي، فقال الحارث لغلامه: ارحل بنا، فركبا حتى انتهيا إلى أوس بن حارثة في بلاده، فوجداه في ثني منزله، فلما رآه قال: مرحباً بك يا حار، ما جاء بك؟ قال: جئتك خاطباً، قال: لست هناك، فانصرف ولم يكلمه؛ ودخل أوس على امرأته مغضباً، وكانت من بني عبس فقالت: من رجل وقف عليك فلم يطل ولم تكلمه؟ قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف، قالت: فما لك لم تستنزله؟ قال: إنه استحمق، جاءني خاطباً، قالت: أفتريد أن تزوج بناتك؟ قال: نعم، قالت: فإذا لم تزوج سيد العرب فمن؟ قال: قد كان ذلك، قالت: فتدارك ما كان منك، قال: بماذا؟ قالت: أن تلحقه فترده. قال: وكيف وقد فرط إليه مني ما فرط؟ قالت: تقول: إنك لقيتني وأنا مغضب بأمر لم تقدم فيه قولاً، فلم يكن عندي من الجواب إلا ما سمعت، فأنصرف ولك عندي كل ما أحببت، فركب في أثرهما؛ قال خارجة بن سنان: فو الله إنا نسير إذ حانت مني التفاتة فرأيته، فأقبلت على الحارث وما يكلمني غماً، فقلت له: هذا أوس بن حارثة في أثرنا، قال: وما نصنع به؟ امض، فلما رآنا لا نقف عليه صاح: يا حار أربع علي، فوقفنا له وكلمه بذلك الكلام، فرجع مسروراً، فبلغني أن أوساً لما دخل منزله دعا ابنته الكبرى وأعلمها خطبة الحارث بن عوف فقالت: لا تفعل. قال: ولم؟ قالت: لأن في وجهي ردة وفي خلقي بعض العربدة، ولست بابنة عمه فيرعى حقي، وليس بجارك فيستحي منك، ولا آمن أن يرى مني ما يكره فيطلقني، فيكون علي في ذلك ما تعلم؛ قال: قومي بارك الله عليك، ثم دعا بابنته الوسطى وقال لها كمقالته للكبرى، فقالت له: أنا خرقاء، وأجابته بنحو جواب أختها. فقال: أدعوا لي بهيسة، يعني الصغرى، فقال لها كمقالته لأختيها، فقالت: أنت وذاك. فقال لها: إني عرضت ذلك على أختيك فأبتاه، فقالت: لكني والله الجميلة وجهاً، الصناع يداً، الرقيقة خلقاً، الحسيبة أباً، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير. قال: فخرج إلينا وقال: قد زوجتك يا حار بهيسة بنت أوس، قال: قد قبلت؛ فأمر أمها أن تهيئها وتصلح من شأنها، ثم أمر ببيت فضرب له وأنزله إياه، ثم خرج إلي فقلت: أفرغت من شأنك؟ فقال: لا، قلت: وكيف؟ قال: لما مددت يدي إليها قالت: مه أعند أهلي وإخوتي؟! هذا والله ما لا يكون، قال: فأمر بالرحلة فأرتحلنا بها معنا، فسرنا ما شاء الله ثم قال لي: تقدم فتقدمت، وعدل بها عن الطريق، فما لبث أن لحقني فقلت: أفرغت؟ قال: لا والله قلت: ولم؟ قال: قالت لي: أكما يفعل بالأمة الجليبة والسبية الأخيذة؟ لا والله حتى تنحر وتذبح وتدعو العرب وتعمل ما يعمل لمثلي، قال: قلت والله إني لأرى همة وأرى عقلاً وإني لأرجو أن تكون المرأة النجيبة. فرحلنا حتى جئنا بلادنا فأحضر الإبل والغنم ودخل عليها ثم خرج فقلت: أفرغت؟ قال: لا والله، قلت: ولم؟ قال: دخلت عليها أريدها، وقلت لها: قد أحضرنا من المال ما تريدين. فقالت: والله لقد ذكرت لي من الشرف بما لا أراه فيك، قلت: وكيف؟ قالت: أتتفرغ لنكاح النساء والعرب يأكل بعضها بعضاً؟! وذلك في أيام حرب عبس وذبيان. قلت: فتقولين ماذا؟ فقالت: أخرج إلي هؤلاء القوم فأصلح بينهم ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتوك، فقلت: والله إني لأرى همة وعقلاً ولقد قالت قولاً. قال: فاخرج بنا، فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح، فاصطلحوا على أن يحسبوا القتلى ثم يؤخذ الفضل ممن هو عليه، فحملنا عنهم الديات فكانت ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنين، فانصرفنا بأجمل الذكر.
لما احتضر ذو الاصبع العدواني دعا ابنه أسيداً فقال: يا بني إن أباك قد فني وهو حي، وعاش حتى سئم العيش، وإني موصيك ما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته فاحفظ عني: ألن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وأبسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر عنهم حتى يسودوك، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكبر على مودتك صغارهم، واسمح بمالك واحم حريمك، وأعزز جارك، وأعن من استعان بك، وأكرم ضيفك، وأسرع النهضة في الصريخ فإن لك أجلاً لا يعدوك، وصن وجهك عن مسألة أحد شيئاً يتم سؤددك.
لما أمعن داود بن علي في قتل بني أمية بالحجاز قال له عبد الله بن الحسن بن الحسن: يا ابن عم، إذ أفرطت في قتل أكفائك فمن تباهي بسلطانك؟ أو ما يكفيك منهم أن يروك رائحاً وغادياً فيما يسرك ويسوءهم؟ كان عثمان بن حيان المري على المدينة من قبل الوليد بن عبد الملك، فأساء بعبد الله والحسن ابني الحسن إساءة عظيمة وقصدهما، فلما عزل أتياه فقالا: لا تنظر إلى ما كان بيننا فإن العزل قد محاه، وكلفنا أمرك كله. فلجأ إليهما فبلغاه كل ما أراد، فجعل عثمان يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
كان محمد بن سليمان بن علي من رجال بني هاشم وذوي هممهم، وكان له خمسون ألف مولى أعتق منهم عشرين ألفاً، وخرج يوماً إلى باب داره بالمربد في عشية من عشايا الصيف فرأى الحر شديداً فقال: رشوا هذا الموضع، فخرج من داره خمسمائة عبد بخمسمائة قربة ماء، فرشوا الشارع حتى أقاموا الماء فيه، وكانت غلته كل يوم مائة ألف درهم، وسمع دعاؤه في السحر: اللهم أوسع علي فإنه لا يسعني إلا الكثير.
ولما أراد أن يدخل بالعباسة ينت المهدي شاور كاتبه حماداً في اللباس الذي يلبسه، فأشار عليه بأن لا يتصنع، ويقتصر على ما كان يلبسه في كل يوم، فلم يقبل منه، وعمد إلى ثياب دبيقية كأنها غرقيء البيض فلبسها، فرأتها عليه، فلما كان الغد دخل عليها، وإذا هي في دار قد فرشت بالدبيقي الذي يشابه ما لبس أو يزيد عليه، فعلم أن كاتبه قد نصحه، وتمثل يقول: من الطويل
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
وكان يتصدق في كل سنة بخمسمائة ألف درهم، ويوم الفطر بمائة ألف درهم وفي كل يوم بكرين من الدقيق.
وقدم المهدي البصرة فنزل دار محمد بن سليمان، وترك محمد المحدثة، فقام محمد بنزل المهدي وأصحابه، فقال المهدي ذات يوم لأصحابه: لنفضحن محمداً اليوم، فصلى الفجر وركب هو وأصحابه ومحمد معه، فمضى نحو الجعفرية والنحيت، ثم قال لمحمد: يا أبا عبد الله، امض بنا نتغدى في المحدثة، فساعة جلس المهدي قال لمحمد: إنه خطر ببالي لبأ الظباء مع أزاذ فأحضره له من ساعته؛ وكان عند محمد ألف ظبية بالنحيت يتوالدن، ثم جاءوه بالطعام فأكل فقال: يا أبا عبد الله قد خطر ببالي مخ السوق معقود بسكر طبرزذ، فأحضره، فقال يا أبا عبد الله أردنا أن نفضحك فغمرتنا، فأكثر الله في عمومتنا وبني عمنا مثلك.
ومن ذوي الهمم سعيد بن العاص، وكان أيضاً من أجواد قريش، وأخباره في الجود ترد في موطنها. خطب سعيد أم كلثوم بنت علي عليه السلام، وبعث إليها مائة ألف درهم وشاور الحسن بن علي في ذلك، فقال: أنا أزوجك، واتعدوا ولم يحضر الحسين معهم؛ فقال سعيد: أين أبو عبد الله؟ فقال الحسن: لم يحضر وأنا أكفيك، فقال: لعله كره شيئاً مما نحن فيه، قالوا: نعم، فقال سعيد: لم أكن لأدخل في شيء كرهه أبو عبد الله، فتفرقوا عن غير تزويج، وردت المال فلم يقبله سعيد.
دخل المسور على معاوية فقال له: كيف تركت سعيداً؟ فقال عليلاً، قال: لليدين والفم: من الطويل
به لا بظبي بالصريمة أعفرا
قال: وعمرو بن سعيد صبي يسمع قوله من ورائه، فقال: إذن والله لا يسد حفرتك، ولا يزيد في رزقك، ولا يدفع حتفاً عليك، بل يفت في عضدك، ويهيض ظهرك، وينشر أمرك، فتدعو فلا تجاب، وتتوعد فلا تهاب؛ فقال معاوية: أبا أمية أراك ها هنا، إن أباك جارانا إلى غاية الشرف فلم نعلق بآثاره، ولم نقم لمحضاره، ولم نلحق بمضماره، ولم ندن من غباره، هذا مع قوة إمكان، وعزة سلطان، وإن أثقل قومنا علينا من سبقنا إلى غاية شرف.
وكان معاوية يعاقب بين سعيد وبين مروان في ولاية المدينة، وكان يغري بينهما، فكتب إلى سعيد وهو وال عليها أن آهدم دار مروان فلم يهدمها، وأعاد عليه الكتاب بهدمها فلم يفعل، فعزله وولى مروان، وكتب إليه أن آهدم دار سعيد، فأرسل الفعلة وركب ليهدمها، فقال له سعيد: يا أبا عبد الملك، أتهدم داري؟ قال: نعم، كتب إلي أمير المؤمنين ولو كتب إليك في هدم داري لفعلت، فقال: ما كنت لأفعل، قال: بلى والله ولو كتب إليك لهدمتها، قال: كلا يا أبا عبد الملك، وقال لغلامه: انطلق فجئني بكتب معاوية فجاءه بها، فقال مروان: كتب إليك يا أبا عثمان في هدم داري فلم تهدمها ولم تعلمني؟ قال: ما كنت لأهدم دارك ولا أمن عليك، وإنما أراد معاوية أن يحرض بيننا، فقال مروان: فداك أبي وأمي، أنت والله أكرمنا ريشاً وعقباً، ورجع فلم يهدم دار سعيد.
وقدم سعيد على معاوية فقال له: يا أبا عثمان كيف تركت أبا عبد الملك؟ قال: تركته ضابطاً لعملك، منفذاً لأمرك، قال: إنه كصاحب الخبرة كفي نضجها فأكلها، قال: كلا والله يا أمير المؤمنين، إنه لمع قوم ما يجمل بهم السوط ولا يحل لهم السيف، يتهادون فيما بينهم كلاماً كوقع النبل: سهم لك وسهم عليك، قال: ما باعد بينك وبينه؟ قال: خاخافني على شرفه وخفته على شرفي، قال: فما له عندك؟ قال: أسره غائباً وأسوءه شاهداً، قال: تركتنا يا أبا عثمان في هذه الهنات، قال: نعم يا أمير المؤمنين فتحملت الثقل، وكفيت الغرم وكنت قريباً: لو دعوت أجبت، ولو وهنت وقعت.
وكان ابن ظبيان نذر أن يقتل من قريش مائة بأخيه النابي، فقتل منهم ثمانين ثم قتل مصعباً وقال: من الطويل
يرى مصعب أني تناسيت نابياً ... وليس لعمر الله ما ظن مصعب
فو الله ما أنساه ما ذر شارق ... وما لاح في داج من الليل كوكب
وثبت عليه ظالماً فقتلته ... فقصرك منه يوم شر عصبصب
قتلت به من حي منهو بن مالك ... ثمانين منهم ناشئون وأشيب
وكفي لهم رهن بعشرين أو يرى ... علي مع الإصباح نوح مسلب
أأرفع رأسي وسط بكر بن وائل ... ولم أرو سيفي من دم يتصبب
دخل عبيد الله بن زياد بن ظبيان على أبيه وهو يكيد بنفسه فقال: ألا أوصي بك الأمير زياداً؟ قال: لا، قال: ولم ذلك؟ قال: إذا لم يكن للحي إلا وصية الميت فالحي هو الميت.
وعبيد الله هذا هو قاتل مصعب بن الزبير، ولما أتي عبد الملك برأسه خر عبد الملك ساجداً، قال عبيد الله: فهممت أن أقتله فأكون أفتك العرب، قتلت ملكين في يوم واحد. وأمر له عبد الملك بألف دينار فأبى أن يأخذها وقال: إنما قتلته على وتر لي عنده، وكان مصعب قتل أخاه النابي بن ظبيان.
لما أخذ عبد الحميد بن ربعي وأتي به المنصور ومثل بين يديه قال: لا عذر فأعتذر، وقد أحاط بي الذنب، وأنت أولى بما ترى، قال المنصور: إني لست أقتل أحداً من آل قحطبة، أهب مسيئهم لمحسنهم، قال: يا أمير المؤمنين إن لم يكن في مصطنع فلا حاجة بي إلى الحياة، لست أرضى أن أكون طليق شفيع وعتيق ابن عم.
ويناسب هذه القصة ما فعله بابويه، أحد الشطار، وكان محبوساً بعدة دماء، فلما نقب حمير بن مالك السجن وقام على باب النقب يسرب الناس ويحميهم ليستتم المكرمة جاء رسوله إلى بابويه فقال: أبو نعمانة ينتظرك، وليس له هم سواك، وما بردت مسماراً ولا فككت حلقة وأنت قاعد غير مكترث ولا محتفل، وقد خرج الناس حتى الضعفاء، فقال بابويه: ليس مثلي يخرج في الغمار ويدفع عنه الرجال، لم أشاور ولم أؤامر، ثم يقال لي الآن: كن كالظعينة والأمة والشيخ الفاني؟! والله لا أكون في شيء تابعاً ذليلاً، فلم يبرح وخرج سائر الناس، وأجرامه وحده كأجرام الجميع، فلما جاء الأمير ودخل السجن فلم ير فيه غيره قال للحرس: ما بال هذا؟ فقصوا عليه القصة فضحك وقال: خذ أي طريق شئت، فقال بابويه: هذا عاقبة الصبر.
لما عزل الحجاج أمية بن عبيد الله عن خراسان أمر رجلاً من بني تميم فعابه بخراسان وشفع عليه، فلما قفل لقيه التميمي فقال: أصلح الله الأمير، أقلني فإني كنت مأموراً، فقال: يا أخا بني تميم، وحدثتك نفسك أني وجدت عليك؟ قال: قد ظننت ذاك، قال: إن لنفسك عندك قدراً.
دخل عمارة بن حمزة على المنصور فقعد في مجلسه، وقام رجل فقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، قال: ومن ظلمك؟ قال: عمارة غصبني ضيعتي، فقال المنصور: يا عمارة قم فاقعد مع خصمك، فقال: ما هو لي بخصم، إن كانت الضيعة له فلست أنازعه، وإن كانت لي فهي له، ولا أقوم من مجلس قد شرفني أمير المؤمنين بالرفعة إليه لأقعد في أدنى منه بسبب ضيعة.
وجرى بين الرشيد وزبيدة وقيل: بل كان بين أبي العباس السفاح وأم سلمة، وهو الأشبه نزاهة نفس عمارة وكبره، فقالت له: ادع به وهب له سبحتي هذه، فإن شراءها خمسون ألف دينار، فإن ردها علمنا نزاهته، فوجه إليه فحضر، فحادثه ساعة ورمى إليه بالسبحة وقال: هي طرفة وهي لك، فجعلها عمارة بين يديه، فلما قام تركها، فقالت: أنسيها، فأتبعوه خادماً بالسبحة، فقال للخادم: هي لك، فرجع وقال: وهبها لي عمارة، فأعطت المرأة بها الخادم ألف دينار وأخذتها منه.
دخل الطرماح بن حكيم الطائي على خالد بن عبد الله القسري فقال له: أنشدني بعض شعرك فأنشده: من الطويل
وشيبني ألا أزال مناهضاً ... بغير غنىً أسمو به وأبوع
وإن رجال المال أضحوا، ومالهم ... لهم عند أبواب الملوك شفيع
فقال له خالد: لو كان لك مال ما كنت به صانعاً؟ قال: أسود به قومي، وأصون به عرضي، فأمر له بعشرين ألفاً.
كان المعتصم ينفق أمواله في جمع الرجال وابتياع الغلمان، وكان العباس بن المأمون مشغولاً بإتخاذ الضياع، فكان المأمون كلما نظر إلى المعتصم تمثل ببيتي أبي عبد الرحمن الأعمى الذي كان مع الحسن بن الحسين بن مصعب: من الكامل
يبني الرجال وغيره يبني القرى ... شتان بين مزارع ورجال
قلق بكثرة ماله وسلاحه ... حتى يفرقه على الأبطال
قيل: ما رئيت بنت عبد الله بن جعفر ضاحكة بعد أن تزوجها الحجاج، فقيل لها: تسليت فإنه أمر قد وقع، فقالت: كيف وبم؟ فو الله لقد ألبست قومي عاراً لا يغسل درنه بغسل. ولما مات أبوها لم تبك عليه، فقيل لها: ألا تبكين على أبيك؟ قالت: والله إن الحزن ليبعثني وإن الغيظ ليصمتني. ولما أهديت إلى الحجاج نظر إليها في تلك الليلة وعبرتها تجول في خدها فقال: مم تبكين؟ بأبي أنت؟ قالت: من شرف اتضع، ومن ضعة شرفت. ولما كتب عبد الملك إلى الحجاج بطلاقها قال لها: إن أمير المؤمنين أمرني بطلاقك، قالت: هو أبر بي ممن زوجك.
قيل ليزيد بن المهلب: ألا تبني داراً؟ فقال: منزلي دار الامارة.
وقيل للحسين بن حمدان في منزل بناه أخوه إبراهيم وأكثر من الإنفاق عليه، فقال: إنا لا ننزل إلا دار الإمارة والقبر، فأخذ المعنى أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان فقال: وهو في الأسر: من الكامل المجزوء
من كان مثلي لم يبت ... إلا أميراً أو أسيراً
ليست تحل سراتنا ... إلا القبور أو القصورا
قام رجل إلى الرشيد ويحيى بن خالد يسايره فقال: يا أمير المؤمنين أنا رجل من المرابطة، وقد عطبت دابتي، فقال: يعطى ثمن دابة خمسمائة درهم، فغمزه يحيى، فلما نزل قال: يا أبة أومأت إلي بشيء لم أفهمه، فقال: يا أمير المؤمنين مثلك لا يجري هذا المقدار على لسانه، إنما يذكر مثلك خمسة آلاف ألف إلى مائة ألف قال: فإذا سئلت مثل هذا كيف أقول؟ قال: تقول يشترى له دابة، يفعل به ما يفعل بأمثاله.
اهدي عبيد الله بن السري إلى عبد الله بن طاهر لما ولي مصر مائة وصيف مع كل وصيف ألف دينار، ووجه بذلك ليلاً، فرده وكتب إليه: لو قبلت هديتك ليلاً لقبلتها نهاراً " فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون " " النمل: 36 " . وكان المأمون قال لطاهر: أشر علي بإنسان يكفيني أمر مصر والشام، فقال له طاهر: قد أصبته، فقال: من هو؟ قال: ابني عبد الله خادمك وعبدك، قال: كيف شجاعته؟ قال: معه ما هو خير من ذلك، قال المأمون: وما هو؟ قال: الحزم، قال: فكيف سخاؤه؟ قال: معه ما هو خير من ذلك، قال: وما هو؟ قال: التنزه وظلف النفس، فولاه فعف عن إصابة خمسة آلاف ألف دينار.
وكان الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد من أصحاب الهمم والنبل والرياسة، قال: أنفذ إلي أبو العباس تاش الحاجب رقعة في السر بخط صاحبه نوح بن منصور صاحب خراسان، يريد فيها على الانحياز إلى حضرته ليلقي إلي مقاليد ملكه، ويعتمدني لوزارته، ويحكمني في ثمرات بلاده، فكان فيما اعتذرت به من تركي امتثال أمره والصدر عن رأيه ذكر طول ذيلي، وكثرة حاشيتي، وحاجتي لنقل كتبي خاصة إلى أربعمائة جمل، فما الظن بما يليق بها من تجمل؟ وكان يفطر عنده في شهر رمضان كل ليلة ألف نفس، قال عون بن الحسين الهمذاني التميمي: كنت يوماً في خزانة الخلع للصاحب فرأيت في ثبت حسبانات كاتبه مبلغ عمائم الخز التي صارت تلك الشتوة في خلع العلوية والفقهاء والشعراء، سوى ما صار منها في خلع الخدم والحاشية، ثمانمائة وعشرين.
قيل: أول يوم عرف فيه الحجاج أنه كان في الشرط مع عبد الملك بن مروان، فبعث إلى زفر بن الحارث عشرة هو أحدهم، فكلموه وأبلغوه رسالة عبد الملك، فقال: لا سبيل إلى ما تريدون، فقال له أحدهم: أراه والله سيأتيك ما لا قبل لك به، ثم لا يغني عنك فساقك هؤلاء شيئاً، فأطعني واخرج، قال: وحضرت الصلاة فقال: نصلي ثم نتكلم، فأقام الصلاة وهم في بيته، فتقدم زفر وصلى بهم، وتأخر الحجاج فلم يصل، فقيل له: ما منعك من الصلاة؟ قال: أنا لا أصلي خلف مخالف للجماعة مشاق للخلافة، لا والله لا يكون ذلك أبداً، فبلغت عبد الملك فقال: إن شرطيكم هذا لجلد، فكان هذا مبدأ ظهور همته. ثم إن عبد الملك خطب بالكوفة بعد قتل مصعب، وندب الناس إلى قتال عبد الله بن الزبير فلم يقم أحد، فقام الحجاج فأقعده، ثم قام فقال: يا أمير المؤمنين إني رأيت في المنام كأني قتلته وسلخته، فلم يكن ليفعل به ذلك غيري فقال: أنت له، وولاه حربه.
قال الجاحظ حدثني إبراهيم بن السندي قال: سمعت عبد الملك ابن صالح يقول، بعد إخراج المخلوع له من حبس الرشيد، وذكر ظلم الرشيد له وإقدامه عليه، وكان يأنس به ويثق بمودته وعقله: والله إن الملك لشيء ما نويته ولا تمنيته، ولا تصديت إليه ولا تبغيته، ولو أردته لكان أسرع إلي من السيل إلى الحدور، ومن النار في يابس العرفج، وإني لمأخوذ بما لم أجن، ومسؤول عما لا أعرف، ولكنه حين رآني للملك أهلاً، ورأى للخلافة خطراً وثمناً، ورأى أن لي يداً تنالها إذا مدت، وتبلغها إذا بسطت، ونفساً تكمل لها بخصالها، وتستحقها بخلالها، وإن كنت لم أختر تلك الخصال، ولا اصطنعت تلك الخلال، ولم أترشح لها في سر، ولا أشرت إليها في جهر، ورآها تحن إلي حنين الواله، وتميل نحوي ميل الهلوك، وخاف أن ترغب إلى خير مرغب وتنزع إلى أخص منزع، عاقبني عقاب من قد سهر في طلبها، ونصب في التماسها، وتعذر لها بجهده، وتهيأ لها بكل حيلة. فإن كان إنما حبسني على أني أصلح لها وتصلح لي، وأليق بها وتليق بي، فليس ذلك بذنب فأتوب منه، ولا تطاولت له فأحط نفسي عنه. وإن زعم أنه لا صرف لعقابه، ولا نجاة من إعطابه، إلا بأن أخرج له من الحلم والعلم، ومن الحزم والعزم، فكما لا يستطيع المضياع أن يكون حافظاً، كذاك العاقل لا يستطيع أن يكون جاهلاً، وسواء عاقبني على عقلي وعلمي أم على نسبي وسببي، وسواء عاقبني على خلالي أو على طاعة الناس لي، ولو أردتها لأعجلته عن التفكير، ولشغلته عن التدبير، ولما كان فيه من الخطار إلا اليسير، ومن بذل الجهد إلا القليل.
كان سبب فتح المعتصم لعمورية أن امرأة من الثغر سبيت فصاحت: وامحمداه وامعتصماه، فبلغه الخبر، فركب لوقته وتبعه الجيش، فلما فتحها قال: لبيك.
ولما أسر المعتضد وصيفاً عاد إلى إنطاكية وعليه قباء أصفر، فعجب الناس من تركه السواد، فقيل: إنه لما جاءه خبر وصيف وعصيانه كان ذلك القباء عليه، فركب وسار إلى طرسوس فأوقع به وأسره ولم ينزع قباءه.
قال عبد العزيز بن زرارة: من البسيط
لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه ... ولا يضيق به صدري إذا وقعا
كلا لبست فلا النعماء تبطرني ... ولا تخشعت من لأوائها جزعا
وقال الآخر: من الكامل
راع المهيرة في الظلام تأوهي ... واستنبأت نبأي فقلت لها صه
غضبي وأرعي مقلتيك حمى الكرى ... للخفض نمت وللعلاء تنبهي
أذر الزلال إذا أردت وروده ... وأبل ريقي بالصرى المتسنه
إن قل مالي لم تشني فاقة ... وإذا سعيت إلى الغنى لم أشره
وقال الشنفرى: من الطويل
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلي متحول
وإني كفاني فقد من ليس جازياً ... بخير ولا في قربه متعلل
ثلاثة أصحاب: فؤاد مشيع ... وأبيض إصليت وصفراء عيطل
أديم مطال الجوع حتى أميته ... وأضرب عنه الذكر صفحاً فأذهل
وأستف ترب الأرض كيلا يرى له ... علي من الحق امرؤ متطول
ولولا اجتناب الذم لم يلف مشرب ... يعاش به إلا لدي ومأكل
ولكن نفساً حرة لا تقيم بي ... على الضيم إلا ريثما أتحول
فأما تريني كابنة الرمل ضاحياً ... على قنة أحفى ولا أتسربل
فإني لمولى الصبر أجتاب بزه ... على مثل قلب الليث والحزم أفعل
لما بلغ يزيد ومروان ابنا عبد الملك من عاتكة بنت يزيد بن معاوية قال لها عبد الملك: قد صار ابناك رجلين، فلو جعلت لهما من مالك ما يكون لهما فضيلة على إخوتهما، قالت: اجمع لي أهل معدلة من موالي ومواليك، فجمعهم وبعث معهم روح بن زنباع الجذامي، وكان يدخل على نسائهم، مدخل كهولتهم وجلتهم، وقال له: أخبرها برضاي عنها، وحسن لها ما صنعت، فلما دخلوا عليها اجتهد روح في ذلك، فقالت يا روح، أتراني أخشى على ابني العيلة وهما ابنا أمير المؤمنين؟ أشهدكم أني قد تصدقت بمالي وضياعي على فقراء آل أبي سفيان، فقام روح ومن معه، فلما نظر إليه عبد الملك مقبلاً قال: أشهد بالله لقد أقبلت بغير الوجه الذي أدبرت به، قال أجل، تركت معاوية في الإيوان آنفاً، وخبره بما كان، فغضب، فقال روح: مه يا أمير المؤمنين، هذا العقل منها في ابنيك خير لهما مما أردت.
ابن المعتز فيما يدل على الهمة: من الوافر
وبكر قلت موتي قبل بعل ... وإن أثري وعد من الصميم
أأمزج باللئام دمي ولحمي ... فما عذري إلى النسب الكريم
آخر: من الطويل
ومن يخش أطراف المنايا فاننا ... لبسنا لهن السابغات من الصبر
وإن كريه الموت مر مذاقه ... إذا ما مزجناه بطيب من الذكر
وما رزق الإنسان مثل منية ... أراحت من الدنيا ولم يجز في القبر
كان إبراهيم الموصلي المغني ذا همة ونبل، فحدث مخارق أنه أتى محمد بن يحيى بن خالد في يوم مهرجان، فسأله محمد أن يقيم عنده، فقال: ليس يمكنني لأن رسول أمير المؤمنين قد أتاني، قال: فتمر بنا إذا انصرفت ولك عندي كل ما يهدى إلي اليوم، قال: نعم، وترك في المجلس صديقاً له يحصي ما يبعث به إليه، قال: فجاءت هدايا عجيبة من كل صنف، قال: وأهدي إليه تمثال فيل من ذهب عيناه ياقوتتان، فقال محمد للرجل: لا تخبره بهذا حتى نبعث به إلى فلانة، ففعل، وانصرف إبراهيم إليه فقال: أحضرني ما أهدي لك، فأحضره ذلك كله إلا التمثال، وقال له: لا بد من صدقك، كان الأمر كذا وكذا، قال: لا إلا على الشريطة وكما ضمنت لي، فجيء بالتمثال، فقال إبراهيم: أليس الهدية لي وأعمل بها ما أريد؟ قال: بلى، قال: فرد التمثال على الجارية، وجعل يفرق الهدايا على جلساء محمد شيئاً شيئاً وعلى جميع من حضر من إخوانه وغلمانه وعلى من في دور الحرم من جواريه حتى لم يبق منها شيئاً، ثم أخذ من المجلس تفاحتين لما أراد الانصراف، قال: هذا لي، وانصرف، فجعل محمد يعجب من كبر نفسه ونبله.
قطع عبد الملك بن مروان عن آل أبي سفيان أشياء كان يجريها عليهم لمباعدة بينه وبين خالد بن يزيد بن معاوية، فدخل عليه عمرو بن عتبة ابن أبي سفيان فقال: يا أمير المؤمنين أدنى حقك متعب وتقصيه فادح، ولنا مع حقك علينا حق عليك، لقرابتنا منك وإكرام سلفنا لك، فانظر إلينا بالعين التي نظروا بها إليك، وضعنا بحيث وضعتنا الرحم منك، وزدنا بحسب ما زادك الله، فقال عبد الملك: أفعل، وإنما يستحق عطيتي من استعطاها، أما من ظن أنه يستغني بنفسه فسنكله إلى ذلك - يعرض بخالد بن يزيد - ثم أقطع عمراً هزاردر، فبلغ ذلك خالداً فقال: أبا لحرمان يتهددني؟ يد الله فوق يده مانعة، وعطاؤه دونه مبذول، فأما عمرو فقد أعطي من نفسه أكثر مما أخذ.
وتشبه همة خالد في هذه القصة وضراعة عمرو، قول الكثيري: من الكامل
الموت أجمل بالفتى من خطة ... في الناس خوف شنارها يتقنع
شتان من أعطى الرجال ظلامة ... حذر البلاء وآخر لا يخضع
ليس الجزوع بمفلت من يومه ... والحر يصبر والأنوف تجدع
لعن الإله عداوة لا تتقن ... وقرابة يدلى بها لا تنفع
وكان سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص ذا نخوة وهمة، قيل له عند الموت إن المريض ليستريح إلى الأنين، وإلى أن يصف ما به للطبيب، فقال: أما الأنين فو الله إنه لجزع وعار، ووالله لأسمع الله مني أنيناً فأكون عنده جزوعاً، وأما صفة ما بي للطبيب فو الله لا يحكم غير الله في نفسي، فإن شاء قبضها وإن شاء وهبها ومن بها وقال: من الطويل
أجاليد من ريب المنون فلا ترى ... على هالك عيناً لنا الدهر تدمع
قال علي عليه السلام: كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب.
ومن كلامه عليه السلام: أكرم نفسك عن كل دنية، وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً.
قال رجل لسعيد بن العاص وهو أمير الكوفة: يدي عندك بيضاء، قال: وما هي؟ قال: كبت بك فرسك، فتقدمت إليك غلمانك، فرفعت بضبعك، وهززتك ثم سقيتك ماء، ثم أخذت ركابك حتى ركبت، قال: فأين كنت؟ قال: حجبت عنك، قال: أمرنا لك بمائتي ألف درهم وبما يملكه الحاجب تأديباً له أن يحجب مثلك، وهذه وسيلتك.
المتنبي: من الطويل
أهم بشيء والليالي كأنها ... تطاردني عن فعله وأطارد
وحيداً من الخلان في كل منزل ... إذا عظم المطلوب قل المساعد
وله: من الخفيف
وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام
وقال: من الطويل
وإنا لنلقى الحادثات بأنفس ... كثير الرزايا عندهن قليل
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول
وقال: من الطويل
تريدين لقيان المعالي رخيصة ... ولابد دون الشهد من إبر النحل
قال رجل لقتيبة بن مسلم: أتيناك لا نرزأك ولا نبكأك، وإنما نسألك جاهك، فقال: سألتم أثقل الأمور علي، والله إنا لنعطي أموالنا وقاية لوجوهنا.
قيل لأبي مسلم: بم أصبت ما أصبت؟ قال: أرتديت بالصبر، وائتزرت بالكتمان، وحالفت الحزم، ولم أجعل العدو صديقاً ولا الصديق عدواً.
ومن كبر النفس ما روي عن قيس بن زهير العبسي أنه لما تنقل في العرب احتاج، فكان يأكل الحنظل حتى قتله ولم يخبر أحداً بحاجته.
قال المفضل بن المهلب: من الطويل
هل الجود إلا أن تجود بأنفس ... على كل ماضي الشفرتين قضيب
ومن هو أطراف القنا خشية الردى ... فليس لحمد صالح بكسوب
وما هي إلا رقدة تورث العلى ... لرهطك ما حنت روائم نيب
دخل النخار العذري على معاوية في عباءة، فاحتقره معاوية، فرأى ذلك النخار في وجهه فقال: يا أمير المؤمنين ليست العباءة تكلمك، إنما يكلمك من فيها، ثم تكلم فملأ سمعه ولم يسأله، فقال معاوية: ما رأيت رجلاً أحقر أولاً ولا أجل آخراً منه.
قال شاعر: من الطويل
كفى حزناً أن الغني متعذر ... علي وأني بالمكارم مغرم
فو الله ما قصرت في طلب العلى ... ولكنني أسعى إليها فأحرم
ومن المستحسن في ظلف النفس وبعد شأوها ما روي عن أم سليمان بن علي، وهي أمة من الصغد، قال جعفر بن عيسى الهاشمي: حضر علي بن عبد الله بن العباس عند عبد الملك بن مروان وقد أهدي له من خراسان جارية وفص وسيف فقال: يا أبا محمد إن حاضر الهدية شريك فيها، فاختر من الثلاثة واحداً، فاختار الجارية، وكانت تسمى سعدى، وهي من سبي الصغد من رهط عجيف بن عنبسة، فأولدها سليمان بن علي، فلما أولدها اجتنبت فراشه، فمرض سليمان من جدري خرج عليه، فانصرف علي من مصلاه فإذا بها على فراشه، فقال: مرحباً بك يا أم سليمان، فوقع بها فأولدها صالحاً، فأجتنبته بعد، فسألها عن ذلك فقالت: خفت أن يموت سليمان فينقطع السبب بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآن إذ ولدت صالحاً فبالحرى إن ذهب أحدهما أن يبقى الآخر، وليس مثلي وطئه الرجال، وكانت فيها رتة، وهي الآن معروفة في ولد سليمان وولد صالح.
وكان علي يقول: أكره أن أوصي إلى محمد، وكان سيد ولده، خوفاً من أن أشينه بالوصية، فأوصى إلى سليمان، فلما دفن علي جاء محمد إلى سعدى هذه ليلاً فقال: أخرجي إلي وصية أبي، قالت: إن أباك أجل من أن تخرج وصيته ليلاً، ولكنها تأتيك غداً، فلما أصبح غدا عليه بها سليمان فقال: يا أبي ويا أخي، هذه وصية أبيك، قال: جزاك الله من ابن وأخ خيراً، ما كنت لأثرب على أبي بعد موته كما لم أثرب عليه في حياته.
الرتة كالرتج تمنع أول الكلام، فإذا جاء منه شيء اتصل؛ والتمتمة الترديد في التاء، والفأفأة الترديد في الفاء، والعقلة التواء اللسان عند إرادة الكلام، والحبسة تعذر الكلام عند إرادته، واللفف إدخال حرف في حرف، والغمغمة أن تسمع الصوت ولا يبين لك تقطيع الحروف، والطمطمة أن يكون الكلام مشبهاً لكلام العجم، واللكنة أن تعترض على الكلام اللغة الأعجمية، واللثغة أن يعدل بحرف إلى حرف، والغنة أن يشوب الحرف صوت الخيشوم، والخنة أشد منها، والترخيم حذف الكلام. ويقال رجل فأفاء، تقديره فاعال، ونظيره من الكلام ساباط وخاتام؛ والحكلة نقصان آلة النطق حتى لا تعرف معانيه إلا بالاستدلال؛ فأما الرتة فإنها تكون غريزية، قال الراجز:
يا أيها المخلط الأرت
ويقال إنها كثيرة في الأشراف. وأما المغمغة فقد تكون من الكلام وغيره لأنه صوت لا يفهم تقطيع حروفه.
وكان فيروز حصين شريف الأفعال بعيد الهمة، وهو من أهل بيت في العجم، فلما أسلم وإلى حصين بن عبد الله العنبري من ولد طريف بن تميم، وكان فيروز شجاعاً جواداً نبيل الصورة جهير الصوت. ويروى أن رجلاً من العرب كانت أمه فتاة فقاول بني عم له فسبوه بالهجنة، ومر فيروز حصين فقال: هذا خالي فمن منكم له خال مثله؟ وظن أن فيروز لم يسمعها، وسمعها فيروز، فلما صار إلى منزله بعث إلى الفتى فاشترى له جارية ومنزلاً ووهب له عشرة آلاف درهم.
ومن مآثره أن الحجاج لما واقف ابن الأشعث نادى منادي الحجاج من أتاني برأس فيروز حصين فله عشرة آلاف درهم، ففصل فيروز من الصف فصاح بالناس وقال: من عرفني فقد عرفني وقد اكتفى، ومن لم يعرفني فأنا فيروز حصين، وقد عرفتم مالي ووفائي فمن أتاني برأس الحجاج فله مائة ألف درهم، قال الحجاج: تركني أكثر التلفت وإني لبين خاصتي. فأتي به الحجاج فقال: أنت الجاعل في رأس أميرك مائة ألف درهم؟ قال: قد فعلت، فقال: ولا والله لأمهدنك ثم لأحملنك على مركب صعب، ثم قال: أين المال؟ قال: عندي فهل إلى الحياة من سبيل؟ قال: لا، قال: فأخرجني إلى الناس حتى أجمع لك المال فلعل قلبك يرق علي، ففعل الحجاج، فخرج فيروز فأحل الناس من ودائعه وأعتق رقيقه وتصدق بماله، ثم رد إلى الحجاج فقال: شأنك الآن فاصنع ما شئت، فشد في القصب الفارسي ثم سل حتى شرح ثم نضح بالخل والملح فما تأوه حتى مات.
كان أوس بن حارثة بن لام الطائي سيداً شريفاً، فوفد هو وحاتم بن عبد الله الطائي على عمرو بن هند الملك، وأبوه المنذر بن ماء السماء، فدعا أوساً فقال: أنت أفضل أم حاتم؟ فقال: أبيت اللعن، لو ملكني حاتم وولدي ولحمي لوهبنا في غداة واحدة؛ ثم دعا حاتماً فقال: أنت أفضل أم أوس؟ فقال: أبيت اللعن، إنما ذكرت بأوس، ولأحد ولده أفضل مني.
وكان النعمان بن المنذر دعا بحلة، وعنده وفود العرب من كل حي، فقال: احضروا في غداة غد فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم، فحضر القوم جميعاً إلا أوساً، فقيل له: لم تتخلف؟ فقال: إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء لي أن لا أكون حاضراً، وإن كنت المراد بها فسأطلب ويعرف مكاني. فلما جلس النعمان لم ير أوساً فقال: اذهبوا إلى أوس فقولوا له: احضر آمناً مما خفت، فحضر فألبس الحلة، فحسده قوم من أهله فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاثمائة ناقة، فقال الحطيئة: كيف أهجو رجلاً لا أرى في بيتي أثاثاً ولا مالاً إلا من عنده؟ ثم قال: من البسيط
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
فقال لهم بشر بن أبي خازم الأسدي: أنا أهجوه لكم، فأخذ الابل وفعل، فأغار عليها أوس فاكتسحها، وطلبه فجعل لا يستجير أحداً إلا قال له: قد أجرتك إلا من أوس، وكان في هجائه قد ذكر أمه، فأتي به، فدخل أوس إلى أمه فقال: قد أتينا ببشر الهاجي لك ولي، فما ترين فيه؟ فقالت: أو تطيعني؟ قال: نعم، قالت: أرى أن ترد عليه ماله وتعفو عنه وتحبوه، وأفعل مثل ذلك به، فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه، فخرج إليه فقال: إن أمي سعدى التي كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا وكذا، قال: لا جرم والله لا مدحت حتى أموت أحداً غيرك.
وقيل إن المخبل السعدي مر بخليدة بنت بدر أخت الزبرقان بعد ما أسن وضعف بصره، وكان من قبل قد أفرط في هجائها، فأنزلته وقرته وأكرمته ووهبت له وليدة، وقالت له: إني آثرتك بها يا أبا يزيد فأحتفظ بها، فقال لها: ومن أنت حتى أعرفك وأشكرك؟ قالت: لا عليك، قال: بلى، قالت: أنا بعض من هتكت بشعرك ظالماً، أنا خليدة بنت بدر، قال: يا سوأتا منك فإني أستغفر الله وأستقيلك وأعتذر إليك، ثم قال: من الطويل
لقد ضل حلمي في خليدة إنني ... سأعتب قومي بعدها وأتوب
فأقسم بالرحمن أن قد ظلمتها ... وجرت عليها والهجاء كذوب
سأل عبد الله بن عباس صعصعة بن صوحان عن السؤدد قال: إطعام الطعام، ولين الكلام، وبذل النوال، وكف المرء نفسه مع الحاجة عن السؤال.
قال له: صف لي أخويك بما فيهما لأعرف ميزتك فقال: أما زيد فكما قال أخو غني: من الطويل
فتى لا يبالي أن يكون بوجهه ... إذا نال خلات الكرام شحوب
وهي أبيات ذكرت في المديح ثم قال: كان والله يا ابن عباس عظيم المروة، شريف الأبوة، جليل الخطر، بعيد الأثر، كميش الغزوة، زين الندوة، سليم جوانح الصدر، قليل وساوس الفكر، ذاكراً لله طرفي النهار وزلفاً من الليل، الجوع والشبع عنده سيان، لا منافس في الدنيا ولا غافل عن الآخرة، يطيل السكوت ويديم الفكر ويكثر الاعتبار، ويقول الحق ويلهج بالذكر، ليس في قلبه عير ربه، ولا يهمه غير نفسه، فقال ابن عباس: ما ظنك برجل سبقه عضو منه إلى الجنة؟ رحم الله زيداً. فأين كان عبد الله منه؟ قال: كان عبد الله سيداً شجاعاً، سخياً مطاعاً، خيره وساع، وشره دفاع، قلبي النحيزة، أحوذي الغريزة، لا ينهنهه منهنه عما أراده، ولا يركب إلا ما اعتاده، سمام العدى، فياض الندى، صعب المقادة، جزل الوفادة، أخا إخوان، وفتى فتيان وذكر أبياتاً للبرجمي غير مختارة، في خبر طويل.
وروي أن رجلاً قال لمعن بن زائدة في مرضه: لولا ما من الله به من بقائك لكنا كما قال لبيد: من الكامل
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
فقال له معن: إنما تذكر أني سدت حين ذهب الناس، فهلا قلت كما قال نهار ابن توسعة: من الخفيف:
قلدته عرى الأمور نزار ... قبل أن تهلك السراة البحور
ومن صفات السيد قول الخنساء في صخر: من المتقارب
طويل النجاد رفيع العماد ... ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدوا بأيديهم ... إلى المجد مد إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مصعدا
يكلفه القوم ما عالهم ... وإن كان أصغرهم مولدا
ترى الحمد يهوي إلى بيته ... يرى أفضل الكسب أن يحمدا
وقول جرير: من الطويل
وإني لأستحيي أخي أن يرى له ... علي من الحق الذي لا أرى ليا
قال معاوية: اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر آدابكم، فإن فيه مآثر أسلافكم، ومواضع إرشادكم، فلقد رأيتني يوم الهرير وقد عزمت على الفرار فما ردني إلا قول ابن الأطنابة: من الوافر
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
قال عامر بن الطفيل: من الطويل
إني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب
فما سودتني عامر عن وراثة ... أبي الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمقنب
وإلى هذا المعنى نظر المتوكل الليثي في شعره السائر وهو : من الكامل
لسنا وإن أحسابنا كرمت ... يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وقول الآخر، وقد أجاد القول فيه: من الكامل
لسنا إذا ذكر الفعال كمعشر ... أزري بفعل أبيهم الأبناء
وقال عوف بن الأحوص: من الطويل
وإني لتراك الضغينة قد أرى ... ثراها من المولي فلا أستثيرها
إذا قيلت العوراء وليت سمعها ... سواي ولم أسأل بها ما دبيرها
لعمري لقد أشرفت يوم عنيزة ... على طمع لو شد نفسي مريرها
ولكن هلك الأمر ألا تمرة ... ولا خير في ذي مرة لا يغيرها
وقال ابن هرمة وقد أجاد فيه: من الطويل
وإني وإن كانت مراضاً صدوركم ... لملتمس البقيا سليم لكم صدري
وأن ابن عم المرء من شد أزره ... وأصبح يحمي غيبه وهو لا يدري
وأن الكريم من يكرم معشراً ... على ما أعتراه لا يكرم ذا يسر
وما غيرتني ضجرة عن تكرمي ... ولا عاب أضيافي غناي ولا فقري
وقال الحضين بن المنذر وأحسن وأجاد: من الكامل
إن المكارم ليس يدركها امرؤ ... ورث المكارم عن أب فأضاعها
أمرته نفس بالدناءة والحنا ... ونهته عن طلب العلى فأطاعها
وإذا أصاب من الأمور كريمة ... يبني الكريم بها المكارم باعها
وقال آخر: من الطويل
وإني لأأستحيي صحابي أن يروا ... مكان يدي من جانب الزاد أقرعا
أكف يدي عن أن تنال أكفهم ... إذا نحن أهوينا إلى زادنا معا
أبيت خميص البطن مضطمر الحشا ... حياء وأخشى الذم أن أتضلعا
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
وقال رافع بن حميضة: من الطويل
وإني لعف عن زيارة جارتي ... وإني لمشنوء إلي اغتيابها
إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها ... زؤوراً ولم تأنس إلي كلابها
وما أنا بالداري خبيئة سرها ... ولا عالماً من أي حوك ثيابها
وإن قراب البطن يكفيك ملؤه ... ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها
وقال حسان بن حنظلة: من الكامل
تلك ابنة العدوي قالت باطلاً ... أزرى بقومك قلة الأموال
إنا لعمر أبيك يحمد ضيفنا ... ويسود مقترنا على الإقلال
أحلامنا تزن الجبال رزانة ... ويزيد جاهلنا على الجهال
قدم عقيل بن علفة على عبد الملك فقال له: ما أحسن أموالكم عندكم؟ قال: ما ناله أحدنا عن أخيه تفضلاً، قال: ثم أيها؟ قال: مواريثنا، قال: فأيها أسرى؟ قال: ما استنقذناه بوقعة خولت نعماً، قال: فما مبلغ عزكم؟ قال: لم يطمع فينا ولم نؤمن قال: فما مبلغ جودكم؟ قال: ما عقد منناً وأبقي ذكراً، قال: فكيف خفارتكم؟ قال: يدفع الرجل منا عن المستجير به كما يدفع عن نفسه، قال: مثلك فليصف قومه.
قال أبو خراش الهذلي: من الطويل
وإني لأثوي الجوع حتى يملني ... فيذهب لم تدنس ثيابي ولا جرمي
وأغتبق الماء القراح فأنتهي ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
أرد شجاع البطن لو تعلمينه ... وأوثر غيري من عيالك بالطعم
مخافة أن أحيا برغم وذلة ... وللموت خير من حياة على رغم
قال المأمون: الرتبة نسب تجمع أهلها، فشريف العرب أولى بشريف العجم من شريف العرب بوضيع العرب، وشريف العجم أولى بشريف العرب من شريف العجم بوضيع العجم، فأشراف الناس طبقة كما أن أوضاعهم طبقة.
وقال مرة: أهل السوق سفل، والصناع أنذال، والتجار بخلاء، والكتاب ملوك على الناس.
قال عبد الملك بن مروان لأسماء بن خارجة بن حصن، وبلغه أنه أتي في ديات فعجز عنها وضمن منها أشياء يسيرة: يا أسماء بلغني عنك أشياء حسان أحببت أن أسمعها منك. قال: يا أمير المؤمنين هي من غيري أحسن، قال: لتفعلن، قال: يا أمير المؤمنين ما قدمت ركبتي أمام جليسي مخافة أن يرى ذلك مني استخفافاً بمجالسته، ولا صنعت طعاماً قط فدعوت إليه إنساناً فأجابني إلا كنت له شاكراً حتى ينصرف ورأيت له الفضل إذ رآني للإجابة أهلاً، ولا بذل لي رجل وجهه في حاجة فرأيت أن شيئاً من الدنيا عوض لبذل وجهه. فقال: ما أحق من كانت هذه الخصال فيه أن يكون شريفاً!! وقد بلغني أنك أتيت في ديات ولم تكن بالضعيف عنها فأحتملت منها القليل، فقال: يا أمير المؤمنين: قد قلت في ذلك ما عذرت به إلا أن يهجنني مهجن، قال: وما قلت؟ قال: قلت: من الطويل
يرى المرء أحياناً إذا قل ماله ... إلى المجد سورات فلا يستطيعها
وليس به بخل ولكن ماله ... يقصر عنها والبخيل يضيعها
فقال عبد الملك: هذا النقد الحاضر بالميزان العدل، حركناك فظهر الأحسن.
وقال أعرابي من طيء: من الطويل
إذا الريح حلت بالجهام تلفه ... مدى ليله شل النعام الطرائد
وأعقب نوء المرزمين بهبوة ... وغيم قليل الماء بالليل بارد
كفى خلة الأضياف حتى يزيحها ... عن الحي منا كل أروع ماجد
وليس أخونا عند شر يخافه ... ولا عند خير يرتجيه بواحد
إذا قال من للمعضلات أجابه ... عظام اللهى منا طوال السواعد
وللموت خير للفتى من حياته ... إذا لم يطق علياء إلا بقائد
دخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز وعليه ريطة من رياط مصر فقال: بكم أخذت هذه يا أبا سعيد؟ قال: بكذا وكذا. قال: فلو نقصت من ثمنها شيئاً أكان ناقصاً من شرفك؟ قال: لا، قال: فلو زدت في ثمنها شيئاً أكان زائداً في شرفك؟ قال: لا، قال: فاعلم يا مسلمة أن أفضل الاقتصاد ما كان بعد الجدة، وأفضل العفو ما كان بعد القدرة، وأفضل اللين ما كان بعد الولاية.
معد بن الحسين بن خيارة الفارسي المغربي: من البسيط
تضيق في عيني الدنيا ويعجبني ... في فسحة الجو تصعيدي وتصويبي
كأنني حامل رحلي على فلك ... تسري به عزماتي وهو يسري بي
ابن ميخائيل المغربي: من الكامل
ومن العجائب أن ترى مستصغراً ... لملمة من لا يرى مستعظما
يقتاده الأمل القريب فينثني ... عنه إلى الأمل البعيد تقدما
ما بين أفئدة المنون مطنباً ... أطنابه وعلى الحتوف مخيما
وابن المهامه إن أراد يقوده ... عزم يقود به الجديل وشدقما
يستن من مجهولها في هبوة ... لو شقها السمع الأزل تندما
ومن الحمية والأنف ما رواه أبو رياش يسنده إلى رجل من كندة كوفي قال: كنت أجالس شريحاً وهو قاض لأمير المؤمنين علي عليه السلام، فإني لفي مجلسه ذات يوم إذا أقبل رجل جيدر صعل الرأس ناتىء الجبهة ثط اللحية كأنه محراث، ومعه امرأة كالبكرة العيساء تدير مقلتين نجلاوين كأن هدبها قوادم خطاف، ثم أبرزت كفاً كبياض الإغريض، وأنامل كبنات النقا، فقالت: أيها الحاكم هذا بعلي، فقال شريح للرجل: أكذاك؟ فكشر بشفتين بثعاوين عن ثنايا ثعل كأنها سناسن عير فقال: نعم، فقال شريح للمرأة: وما قصتك؟ قالت: إنه ابن عمي، وأنا خولة ابنة مخرمة إحدى نساء بني جرم ابن زبان، وإنه خرج بي وغربني عن بلادي وقومي وذوي قرابتي فصرت لا أنظر إلا إليه ولا أعول إلا عليه، وهو نهم إذا أكل، فلحس إذا سأل، حريص مقفل اليدين بالبخل، مطلق اللسان بالخطل، يأكل وحده، ويخلف وعده، ويمنع رفده، ويضرب عبده، فحاش نجاش، إن سانيت قطب، وإن راشيت غضب، يصون ماله، ويهين عياله، فقال شريح: تالله ما رأيت كاليوم ذماً أشنع، أحسني ملأ أيتها الحرة، فإنه بعلك وابن عمك فجثا الرجل على ركبتيه ثم قال: يا للأفيكة أيها الحاكم: من البسيط
سائل سراة بني جرم فانهم ... قد ينبئونك بالجالي من الخبر
هل أترك البكرة الكوماء كائسة ... إذا تلاعبت النكباء بالخطر
للجار والضيف والمعتر قد علموا ... في ليلة تتبع الشفان بالخصر
وأترك الخصم مصفراً أنامله ... دامي المرادغ منكباً على العفر
وأنظر الخصم ذا العوصاء حجته ... حتى يلجلج بين العي والحصر
واسألهم هل رموا بي صدر معضلة ... فلم أكافح شبا أنيابها البتر
واسألهم كيف ذبي عن ذمارهم ... إذا ترامى استعار الحرب بالشرر
إني لأعظم في صدر الكمي على ... ما كان في من التجدير والقصر
حتى يصد لواذاً عن مبادهتي ... صد الهجارس عن ذي اللبدة الهصر
تالله تجمع شخصينا ملاءمة ... من بعد ذا اليوم في بدو ولا حضر
فقال شريح: أوضح عن نيتك، عافاك الله. قال: نعم هي طالق ثلاثاً وهذا السائب بن عمرو فهو ابن أبي وأمها يقوم بمؤونتها إلى انقضاء عدتها.
المتلمس: من الطويل
فلا تقبلن ضيماً مخافة ميتة ... وموتن بها حراً وجلدك أملس
فمن حذر الأوتار ما حز أنفه ... قصير وخاض الموت بالسيف بيهس
نعامة لما صرع القوم حوله ... تبين في أثوابه كيف يلبس
وما الناس إلا ما رأوا وتحدثوا ... وما العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا
وقال بيهس نعامة حيث قتل قتلة إخوته: من الرجز
شفيت يا مازن حر صدري ... أدركت ثأري ونقضت وتري
كيف رأيتم طلبي وصبري ... السيف عزي والاله ظهري
أنشد زيد بن علي وقد نهض من عند هشام بن عبد الملك مغضباً لكلام مما دار بينهما: من الخفيف
من أحب الحياة أصبح في قي ... د من الذل ضيق الحلقات
ثم خرج فكان من أمره ما كان.
وفد يحيى بن عروة بن الزبير على عبد الملك، فذكر حاجبه عبد الله بن الزبير فنال منه، فضرب يحيى وجهه حتى أدمى أنفه، فقال له عبد الملك: من فعل بك؟ قال: يحيى، قال: أدخله، وكان متكئاً فجلس وقال: ما حملك على ما صنعت بحاجبي؟ قال: يا أمير المؤمنين عمي عبد الله كان أحسن جواراً لعمتك منك لنا، والله إن كان ليوصي أهل ناحيته أن لا يسمعوها قذعاً، وإن كان ليقول لها: من سب أهلك فسبي أهله، أنا والله المعم المخول، تفرقت العرب عن عمي وخالي، وكنت كما قال الأول: من الطويل
يداه أصابت هذه حتف هذه ... فلم تجد الأخرى عليها مقدما
فرجع عبد الملك إلى متكأه ولم يزل يعرف فيه الإكرام ليحيى، وكانت أم يحيى بنت الحكم ابن أبي العاص عمة عبد الملك.
ثابت قطنة: من الوافر
فما حلموا ولكن قد نهتهم ... سيوف الأزد والعز القديم
وخيل كالقداح مسومات ... يفيض لما مغابنها حميم
عليها كل أبيض دوسري ... أغر تزين غرته الكلوم
به تستعتب السفهاء حتى ... ترى السفهاء تدركها الحلوم
قال بزرجمهر لكسرى وعنده أولاده: أي أولادك أحب إليك؟ فقال: أرغبهم في الأدب، وأجزعهم من العار، وأنظرهم إلى الطبقة التي فوقه.
وقال معاوية: طيروا الذم في وجوه الصبيان، فإن بدا في وجوههم الحياء وإلا فلا تطمعوا فيهم.
السري الرفاء: من المنسرح
لا تعجبوا من علو همته ... وسنه في أوان منشاها
إن النجوم التي تضيء لنا ... أصغرها في العيون أعلاها
بينما عبد الملك بن صالح يسير مع الرشيد في موكبه إذ هتف هاتف: يا أمير المؤمنين طأطىء من إشرافه، وقصر من عنانه، واشدد من شكاله، فقال الرشيد: ما يقول هذا: فقال عبد الملك: مقال معاند ودسيس حاسد، قال: صدقت، نقص القوم وفضلتهم، وتخلفوا وسبقتهم، حتى برز شأوك، وقصر عنك غيرك، ففي صدورهم جمرات التخلف وحزازات التبلد، فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين فأضرمها عليهم بالمزيد.
المتنبي: من الطويل
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة ... فلا تستعدن الحسام اليمانيا
ولا تستطيلن الرماح لغارة ... ولا تستجيدن العتاق المذاكيا
فما ينفع الأسد الحياء من الطوى ... ولا تتقي حتى تكون ضواريا
النمري: من الطويل
يقولون في بعض التذلل عزة ... وعادتنا أن ندرك العز بالعز
أبى الله لي والأكرمون عشيرتي ... مقامي على دحض ونومي على وخز
قال يحيى بن خالد للعتابي في لباسه، وكان لا يبالي ما لبس، فقال: يا أبا علي أخزي الله امرءاً رضي أن ترفعه هيئتاه من ماله وجماله، فإنما ذلك حظ الأدنياء من الرجال والنساء، لا والله حتى يرفعه أكبراه: همته ونفسه، وأصغراه: قلبه ولسانه.
قرأ الرشيد، قوله: " أليس لي ملك مصر " فقال لعنه الله، ادعى الربوبية بملك مصر، والله لأولينها أخس خدمي، فولاها الخصيب، وكان على وضوئه.
أبو زبيد الطائي: من الوافر
إذا نلت الإمارة فاسم منها ... إلى العلياء بالسبب الوثيق
ولا تك عندها حلواً فتحسى ... ولا مراً فتنشب في الحلوق
وكل امارة إلا قليلاً ... مغيرة الصديق على الصديق
قال رؤبة: بعث إلي أبو مسلم لما أفضت الدولة إلى بني هاشم، فلما دخلت إليه رأى مني جزعاً فقال: اسكن فلا بأس عليك، ما هذا الجزع الذي ظهر منك؟ قلت: أخافك، قال: ولم؟ قلت: لأنه بلغني أنك تقتل الناس، قال: إنما أقتل من يقاتلني ويريد قتلي، أفأنت منهم؟ قلت: لا، فأقبل على جلسائه ضاحكاً فقال: أما أبو العجاج فقد رخص لنا، ثم قال: أنشدني قولك: من الرجز
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
فقلت: أو أنشدك أصلحك الله أحسن منه؟ قال: هات، فأنشدته: من الرجز
قلت ونسجي مستجد حوكا ... لبيك إذ دعوتني لبيكا
أحمد رباً ساقني إليكا
قال: هات كلمتك الأولى. قلت: أو أنشدك أحسن منها؟ قال: هات، فأنشدته: من الرجز
ما زال يبني خندقاً وتهدمه ... ويستجيش عسكراً وتهزمه
ومغنماً يجمعه وتقسمه ... مروان لما أن تهاوت أنجمه
وخانه في حكمه منجمه
قال: دع هذا وأنشدني: وقاتم الأعماق. فقلت: أو أحسن منه؟ قال: هات فأنشدته: من الرجز
رفعت بيتاً وخفضت بيتا ... وشدت ركن الدين إذ بنيتا
في الأكرمين من قريش بيتا
قال: هات ما سألتك عنه، فأنشدته: من الرجز
ما زال يأتي الأمر من أقطاره ... على اليمين وعلى يساره
مشمراً لا يصطلى بناره ... حتى أقر الملك في قراره
وفر مروان على حماره
فقال: ويلك هات ما دعوتك له وأمرتك بانشاده ولا تنشد شيئاً غيره فأنشدته: وقاتم الأعماق فلما وصلت إلى قولي:
ترمي الجلاميد بجلمود مدق
قال: قاتلك الله لشد ما استصلبت الحافر، ثم قال: حسبك أنا ذلك الجلمود المدق. قال: وجيء بمنديل فيه مال فوضع بين يدي، فقال أبو مسلم: يا رؤبة إنك أتيتنا والأموال مشفوفة يقال: اشتف ما في الاناء وشفه إذا أتى عليه وإن لك إلينا لعودة وعلينا معولاً والدهر أطرق مستتب، فلا تجعل بيننا وبينك الأسدة؛ قال رؤبة: فأخذت المنديل منه، وتالله ما رأيت أعجمياً أفصح منه، وما ظننت أن أحداً يعرف هذا الكلام غيري وغير أبي.
قال أبو الفرج الأصفهاني: حضرت أبا عبد الله الباقطائي وهو يتقلد ديوان المشرق وقد تقلد ابن أبي السلاسل ماسبذان ومهرجانقذق وجاءه ليأخذ كتبه، فجعل يوصيه كما يوصي أصحاب الدواوين والعمال، فقال ابن أبي السلاسل: كأنك قد استكثرت لي هذا العمل؛ أنت أيضاً قد كنت تكتب لأبي العباس ابن ثوابة ثم صرت صاحب ديوان. فقال له الباقطائي: يا جاهل يا مجنون لولا أنه قبيح بمثلي مكافأة مثلك لراجعت الوزير - أيده الله - في أمرك حتى أزيل يدك، ومن لي بأن أجد مثل ابن ثوابة في هذا الزمان فأكتب له ولا أريد الرياسة، ثم أقبل علينا يحدثنا فقال: دخلت مع أبي العباس ابن ثوابة إلى المهتدي وكان سليمان بن وهب وزيره، وكان يدخل إليه الوزير وأصحاب الدواوين والعمال والكتاب فيعملون بحضرته ويوقع إليهم في الأمور. فأمر سليمان بأن يكتب عنه عشرة كتب مختلفة إلى جماعة من العمال، فأخذ سليمان بيد أبي العباس ابن ثوابة ثم قال له: أنت اليوم أحد ذهناً مني فهلم نتعاون، ودخلا بيتاً ودخلت معهما، وأخذ سليمان خمسة أنصاف وأبو العباس خمسة أخر، فكتبا الكتب التي أمر بها، ما احتاج أحدهما إلى نسخة، وقرأ كل واحد منهما ما كتب به صاحبه فاستحسنه، ثم وضع سليمان الكتب بين يدي المهتدي فقال له وقد قرأها: أحسنت يا سليمان، نعم الرجل أنت لولا المعجل والمعدل - وكان سليمان إذا ولى عاملاً أخذ منه مالاً معجلاً وعدل له مالاً إلى أن يتسلم عمله - فقال له: يا أمير المؤمنين هذا قول لا يخلو أن يكون حقاً أو باطلاً، فإن كان باطلاً فليس مثلك قبله، وإن كان حقاً وقد علمت أن الأصول محفوظة فما يضرك من مساهمتي عمالي على بعض ما يصل إليهم من مرفق لا يجحف بالرعية ولا ينقص الأصول؟ فقال له: إذا كان هذا هكذا فلا بأس، ثم قال له: اكتب إلى فلان العامل بقبض ضيعة فلان العامل المصروف المعتقل في يديه بباقي ما عليه من المصادرة، فقال له أبو العباس ابن ثوابة: كلنا يا أمير المؤمنين خدمك وأولياؤك، وكلنا حاطب في حبلك وساع فيما أرضاك وأيد ملكك، أفنمضي ما تأمر به على ما خيلت أم نقول الحق؟ قال: لا بل قل الحق يا أحمد، فقال: يا أمير المؤمنين الملك حق والمصادرة شك، أفترى أن نزيل اليقين بالشك؟ قال: لآ، فقال: قد شهدت للرجل بالملك وصادرته عن شك فيما بينك وبينه وهل خانك أم لا، فجعلت المصادرة صلحاً، فإذا قبضت ضيعته بها فقد أزلت اليقين بالشك، فقال له: صدقت، ولكن كيف الوصول إلى المال؟ فقال له: أنت لابد مول عمالاً على أعمالك، وكلهم يرتزق ويرتفق فيحوز رزقه ورفقه إلى منزله، فاجعله أحد عمالك ليصرف هذين الوجهين إلى ما عليه ويسعفه معاملوه فيخلص نفسه وضيعته ويعود إليك مالك. فأمر سليمان بن وهب أن يفعل ذلك. فلما خرجنا عن حضرة المهتدي قال له سليمان: عهدي بهذا الرجل عدوك، وكل واحد منكما يسعى على صاحبه، فكيف زال ذاك حتى نبت عنه في هذا الوقت نيابة أحييته بها وتخلصت نعمته؟ فقال: إنما كنت أعاديه وأسعى عليه وهو يقدر على الانتصاف مني، فأما وهو فقير إلي فهو مما يحظره الدين والصناعة والمروءة، فقال له سليمان: جزاك الله خيراً، أما والله لأشكرن هذه النية لك، ولأعتقدنك من أجلها أخاً وصديقاً، ولأجعلن هذا الرجل لك عبداً ما بقي؛ ثم قال له الباقطائي: من كان هذا وزنه وفضله يعاب من كان يكتب له؟ كليب بن وائل في العزم: من الرجز
ليس الكلام مغنياً دون العمل ... وشر ما رام امرؤ ما لم ينل
وكثرة الايغال عجز وفشل
عمرو بن الحارث الطائي: من الطويل
إذا شئت أن تقتاس أمر قبيلة ... وأحلامها فأنظر إلى من يسودها
الرضي أبو الحسن الموسوي: من الخفيف
أترى آن للمنى أن تقاضي ... حاجة طال مطلها في الفؤاد
بين هم تحت المناسم مطرو ... ح وعزم على ظهور الجياد
وكان الرضي بعيد مطمح الهمة يرى نفسه أهلاً للخلافة، ويطمع في تقمصها، وكانت حاله كما أنبأ عن نفسه في قوله من الوافر
ولي أمل كصدر الرمح ماض ... سوى أن الليالي من خصومي
وفي قوله: من الوافر
وما يغني مضيك في صعود ... إذا ما كان جدك في صبوب
فمن شعره في أمله وهمته قوله: من الوافر
وما في الأرض أحسن من يسار ... إذا استولى على أمر مطاع
وقوله: من الطويل
وركب سروا والليل ملق رواقه ... على كل مغبر المطالع قاتم
حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها ... فصار سراهم في ظهور العزائم
تريهم نجوم الليل ما يبتغونه ... على عاتق الشعري وهام النعائم
وقال: من البسيط
وغلمة في ظهور العيس أرقهم ... هم شعاع وآمال عباديد
ملثمين بما راخت عمائمهم ... وكلهم طرب للبين غريد
لا آخذ المجد إلا عن رماحهم ... إذا تطاعنت الشم المناجيد
وقال: من البسيط
وما أسر بمال لا أعز به ... ولا ألذ برأي فيه تفنيد
ليس الثراء بغير المجد فائدة ... ولا البقاء بغير العز محمود
وقال: من الطويل
ولله قلب لا يبل غليله ... وصال ولا يلهيه من خلة وعد
يكلفني أن أطلب العز بالمنى ... وأين العلى إن لم يساعدني الجد
وليس فتى من عاق عن حمل سيفه ... إسار وحلاه عن الطلب القد
ولا مال إلا ما كسبت بنيله ... ثناء ولا مال لمن ماله مجد
وقال: من الطويل
ولي أمل لابد أحمل عبئه ... على الجرد من خيفانة وحصان
فإن أنا لم أركب عظيماً فلا مضى ... حسامي ولا روى الطعان سناني
وقال: من المنسرح:
كيف يهاب الحمام منصلت ... مذ خاف غدر الزمان ما أمنا
لم يلبس الثوب من توقعه ... للأمر إلا وظنه الكفنا
أعطشه الدهر من مطالبه ... فراح يستمطر القنا اللدنا
وقال في تعرضه للخلافة ودعواه استحقاقها: من الطويل
يخيفونني بالموت والموت راحة ... لمن بين غربي قلبه مثل همتي
فلا صلح حتى يسمعوا من أزيزها ... صواعق إما صكت الأذن صمت
فخرت بنفسي لا بأهلي موفراً ... على ناقصي قومي مناقب أسرتي
أما أنا موزون بكل خليفة ... أرى أنفاً من أن يكون خليفتي
ولابد يوماً أن تجيء فجاءة ... فلا تنظراني عند وقت موقت
وقال: من المنسرح
فتى رأى الدهر غير مؤتمن ... فما فشا سره إلى أحد
واقتحم الليل فهو يمتحن ال ... مهرة قبل الطراد بالطرد
في كل فج يقود راحلة ... تجذبها الأرض جذبة المسد
لا يبعد الله غلمة ركبوا ... أغراضهم واشتفوا من البعد
رموا بعهد النعيم واصطنعوا ... كل شريف الذباب مطرد
قلوا على كثرة العدو لهم ... كم عدد لا يعد في العدد
وقال: من الكامل
ما عذر من ضربت به أعراقه ... حتى بلغن إلى النبي محمد
ألا يمد إلى المكارم باعه ... وينال منقطع العلى والسؤدد
متحلقاً حتى تكون ذيوله ... أبد الزمان عمائماً للفرقد
أعن المقادر لا تكن هيابة ... وتأزر اليوم العصبصب وارتد
لا تغبطن على البقاء معمراً ... يا قرب يوم منية من مولد
وقال محمد بن هانىء المغربي: من الطويل
ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه ... فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا
وقال: من البسيط
فلست من سخطه المردي على وجل ... ما دمت من عفوه المحيي على أمل
لعل حلمك أملى للذين هووا ... في غيهم بين معفور ومنجدل
فما شفا داءهم إلا دواؤهم ... والسيف نعم دواء الداء والعلل
وقال أيضاً: من الكامل
تأتي له خلف الخطوب عزائم ... تذكى لها خلف الصباح مشاعل
فكأنهن على الغيوب غياهب ... وكأنهن على النفوس حبائل
ملك إذا صدئت عليه دروعه ... فلها من الهيجاء يوم صاقل
وقال: من الكامل
دعني أخاطر بالحياة فإنما ... طلب الرجال العز ضرب قداح
وقال: من الوافر
وما لي من لقاء الموت بد ... فمالي لا أشد له حزيمي
ومن ارتفاع الهمة الأبنية المشاهدة في دار الإسلام فمنها: إيوان كسرى: ويقال إن المنصور لما بنى بغداد أحب أن ينقضه ويبني بنقضه، فاستشار خالد بن برمك فنهاه وقال: هو آية الإسلام ومن رآه علم أن من هذا بناؤه لا يزيل أمره إلا نبي، وهو مصلى علي بن أبي طالب، والمؤونة في نقضه أكثر من الارتفاق به، فقال: أبيت إلا ميلاً للعجم، فهدمت ثلمة فبلغت النفقة عليها مالاً كثيراً فأمسك، فقال له خالد: أنا الآن أشير بهدمه لئلا يتحدث بعجزك عنه، فلم يفعل.
وصفه البحتري فقال: من الخفيف
وكأن الإيوان من عجب الصن ... عة جوب في جنب أرعن مرس
لم يعبه أن بز من ستر الديبا ... ج واستل من ستور الدمقس
مشمخراً تعلو له شرفات ... رفعت في رؤوس رضوى وقدس
لست أدري أصنع أنس لجن ... سكنوه أم صنع جن لإنس
غير أني أراه يشهد أن لم ... يك بانيه في الرجال بنكس
ومنها الهرمان بمصر، يقال: ليس في الأرض بناء أرفع منهما وأن ارتفاع كل واحد منهما أربعمائة ذراع في عرض أربعمائة، ولا يزالان ينخرطان في الهواء صنوبرياً حتى ترجع دورتهما إلى مقدار خمسة أشبار في مثلها مبنية بحجار المرمر والرخام وكل حجر عشر أذرع إلى ثمان، وحجارتهما منقولة من مسافة أربعين فرسخاً من موضع يعرف بذات الحمام فوق الإسكندرية، منقولاً فيهما بالمسند كل سحر وطب وطلسم، وفيه: إني بنيتهما فمن ادعى قوة في ملكه فليهدمهما، فإذا خراج الدنيا لا يفي بهدمهما. وقالوا لا يعرف من بناهما، قال المتنبي: من الكامل
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حيناً ويدركها الفناء فتتبع
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
وأما البحتري فقد سمى بانيهما وليست تسميته حجة في صحة الأخبار فقال: من الطويل
ولا كسنان بن المشلل بعد ما ... بني هرميها من حجارة لابها
ومنارة الإسكندرية مبنية على قناطر من زجاج، والقناطر على ظهر سرطان من نحاس في بطن أرض البحر، وطولها أربعمائة وخمسون ذراعاً، وهي غاية ما يمكن رفعه في الهواء، وفيها ثلثمائة وخمسون بيتاً، وكانت في أعلاها مرآة كبيرة يرى فيها الناظر قسطنطينية وبينهما عرض البحر، وكلما جهز ملك الروم جيشاً أبصر فيها، فوجه ملك الروم إلى بعض الخلفاء أن في الثلث الأعلى كنوزاً لذي القرنين فهدموه فلم يجدوا شيئاً وعلم أنها حيلة في إبطال الطلسم في المرآة.
قال عبد الله بن المقفع: من البسيط
إن كنت لا تدعي مجداً ومكرمة ... إلا بقصرك لم ينهض بأركان
سام الرجال بما تسمو الرجال به ... تلك المكارم لا تشييد بنيان
أخبرني الشيخ الزاهد أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الفارقي قال: كان بميافارقين بائع يعرف بأبي نصر بن جري واسع المعيشة، فرفع إلى نصر الدولة بن مروان أنه تحصل له من دلالة المقايضة في ليلة واحدة عشرون ألف درهم، فأحضره وسأله عما أنهي إليه فقال: كذب الواشي أيها الأمير، إنما كانت عشرين ألف دينار وهي خدمة مني للمولى فضل - يعني ولده - وهو قائم على رأسه، فقال: معاذ الله بل نوفر عليك، وأحمد الله على أن حصل لتاجر من رعيتي في ليلة واحدة من الدلالة مثل هذا المال. ثم إن البائع المذكور قال له: أيها الأمير أنا كثير المال، واسع الحال، وقد جمعت شيئاً أعددته لعمل مصلحة إن أعنتني عليها وأذنت لي فيها، قال: وما هي؟ قال أن أسوق الماء من الجبل إلى البلد وأنقب له خرقاً في السور، قال: وما يصنع بدور الناس ومجازه فيها؟ قال: أشتري كل دار تكون مجازاً للماء فإن لم يبعنيها صاحبها أجريت له الماء في داره، فأذن له وأخرج مائة ألف دينار عمل بها هذه المصلحة، وأجرى الماء إلى المسجد الجامع والأسواق والآدر.
رياسة العلم والدين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والحلم، ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم جهلكم بعلمكم.
وروي عن عيسى عليه السلام أنه قال: من علم وعمل وعلم عد في الملكوت الأعظم عظيماً.
وقد كرهت الشهرة بذلك خوف الفتنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء فتنة أن يشار إليه بالأصابع في دين أو دنيا.
وروي في الحديث: من تعلم العلم لأربعة دخل النار: ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يأخذ به من الأمراء، أو يميل به وجوه الناس إليه.
وقال الحسن: لقد صحبت أقواماً أن الرجل لتعرض له الكلمة من الحكمة لو نطق بها لنفعته ونفعت أصحابه وما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة.
وقال ابن سيرين: لم يمنعني من مجالستكم إلا مخافة الشهرة، فلم يزل بي البلاء حتى أخذ بلحيتي، فأقمت على المصطبة فقيل: هذا ابن سيرين.
قال معمر: رأيت قميص أيوب السختياني يكاد يمس الأرض فقلت: ما هذا؟ فقال: إنما كانت الشهرة فيما مضى في تذييلها واليوم الشهرة في تقصيرها؛ وكان يقول للخياط: أقطع وأطل فإن الشهرة اليوم في القصر.
وقال رجل لفضيل: عظني، فقال: كن ذنباً ولا تكن رأساً، حسبك.
وهم وإن كرهوا الشهرة فإن الرياسة حاصلة لهم وإن أخفوا حالهم وستروها، والقلوب مسلمة إليهم الرياسة وأن أبوها، والجبابرة منقادة إليهم، صغراً وكرهاً لتمكن هيبتهم في صدورهم.
جاء عطاء بن أبي رباح إلى سدة سليمان بن عبد الملك فجعل يقعقع الحلقة، فقال سليمان بن عبد الملك: افتحوا له، وتزحزح له عن مجلسه فقال: أصلحك الله، احفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبناء المهاجرين والأنصار قال: أصنع بهم ماذا؟ قال: انظر في أرزاقهم، قال: ثم ماذا؟ قال: أهل البادية تفقد أمورهم فإنهم مادة العرب، قال: ثم ماذا؟ قال: ذمة المسلمين تفقد أمورهم وخفف عنهم من خراجهم فإنهم عون لك على عدو الله وعدوهم، قال: ثم ماذا؟ قال: أهل الثغور تفقدهم فإنه يدفع بهم عن هذه الأمة، قال: ثم ماذا؟ قال: يصلح الله أمير المؤمنين. فلما ولى قال: هذا والله الشرف لا شرفنا، وهذا والله السؤدد لا سؤددنا، والله لكأنما معه ملكان ما أقدر أن أراجعه في شيء سألني، ولو سألني أن أتزحزح عن هذا المجلس لفعلت.
ودخل عمر بن عبد العزيز على عطاء وهو أسود مفلفل الشعر يفتي الناس في الحلال والحرام فتمثل: من البسيط
تلك المكارم لا قعبان من لبن
ودخل محمد بن أبي علقمة على عبد الملك بن مروان فقال له: من سيد الناس بالبصرة؟ قال: الحسن، قال: مولى أم عربي؟ قال: مولى، قال: ثكلتك أمك، مولى ساد العرب؟ قال: نعم، قال: بم؟ قال: استغنى عما في أيدينا من الدنيا وافتقرنا إلى ما عنده من العلم. قال: صفه لي، قال: آخذ الناس لما أمر به وأتركهم لما نهى عنه.
وروي أن بدوياً قدم البصرة فقال لخالد بن صفوان: أخبرني عن سيد هذا المصر، قال: هو الحسن بن أبي الحسن، قال: عربي أم مولى؟ قال: مولى، قال: وبم سادهم؟ قال: احتاجوا إليه في دينهم واستغنى عن دنياهم، قال البدوي: كفى بهذا سؤدداً.
ولما وقعت الفتنة بالبصرة رضوا بالحسن فاجتمعوا عليه وبعثوا إليه، فلما أقبل قاموا، فقال يزيد بن المهلب: كاد العلماء يكونون أرباباً، أما ترون هذا المولى كيف قام له سادة العرب؟! وجه الرشيد إلى مالك بن أنس ليأتيه فيحدثه، فقال مالك: إن العلم يؤتى، فصار الرشيد إلى منزله فاستند معه إلى الجدار فقال: يا أمير المؤمنين من إجلال الله إجلال العلم، فقام وجلس بين يديه. وبعث إلى سفيان ابن عيينة فأتاه وقعد بين يديه وحدثه، فقال الرشيد بعد ذاك: يا مالك تواضعنا لعلمك فانتفعنا به، وتواضع لنا علم سفيان فلم ننتفع به.
وأراد أن يسمع منه الموطأ مع ابنيه فاستحلى المجلس، فقال مالك: إن العلم إذا منع منه العامة لم ينتفع به الخاصة، فأذن للناس فدخلوا.
وكان مالك يكرم العلم ويعظمه، فإذا أراد أن يتحدث توضأ وسرح لحيته وجلس في صدر مجلسه بوقار وهيبة. ودخل عليه ليلة بعدما أوى إلى فراشه قريبه إسماعيل بن أويس ليحدثه، فقام فتوضأ وفعل نحو ذلك فحدثه ثم نزع ثيابه وعاد إلى فراشه.
وفيه قيل: من الكامل
يأبى الجواب فما يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعز سلطان التقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان
قال سفيان الثوري: ما رأينا الزهد في شيء أقل منه في الرياسة لأن الرجل يزهد في الأموال ويسلمها وإذا نوزع في الرياسة لم يسلمها.
قال علي عليه السلام: من حق إجلال الله إكرام ثلاثة: ذو الشيبة المسلم، وذو السلطان المقسط، وحامل القرآن غير الجافي عنه ولا الغالي فيه.
قام وكيع بن الجراح إلى سفيان الثوري فأنكر عليه قيامه، فقال وكيع: حدثتني عن عمرو بن دينار عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، فسكت سفيان وأخذ بيده فأجلسه إلى جانبه.
قال ابن المبارك: سألت سفيان الثوري من الناس؟ قال: العلماء، قلت: من الأشراف؟ قال: المتقون، قلت: من الملوك؟ قال: الزهاد، قلت: من الغوغاء؟ قال: القصاص الذين يستأكلون أموال الناس بالكلام، قلت: من السفلة؟ قال: الظلمة.
دخل أبو العالية على ابن عباس فأقعده معه على سرير وأقعد رجالاً من قريش تحته، فرأى سوء نظرهم إليه وحموضة وجوههم، فقال: مالكم تنظرون إلي نظر الشحيح إلى الغريم المفلس؟ هكذا الأدب يشرف الصغير على الكبير، ويرفع المملوك على المولى، ويقعد العبيد على الأسرة، مر الحسن بأبي عمرو بن العلاء وحلقته متوافرة، والناس عليه عكوف فقال: من هذا؟ قالوا: أبو عمرو، قال: لا إله إلا الله كاد العلماء يكونون أرباباً.
قال الفضيل: لو أن أهل العلم أكرموا أنفسهم وشحوا على دينهم وأعزوا هذا العلم وصانوه وأنزلوه حيث أنزله الله إذن لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس فكانوا لهم تبعاً، ولكنهم ابتذلوا أنفسهم، وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا فهانوا وذلوا، ووجدوا لغامز فيهم مغمزاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، أعظم بها مصيبة.
نظر إلى هذا المعنى القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني فقال: من الطويل
ولم أقض حق العلم إن كنت كلما ... بدا طمع صيرته لي سلماً
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأغرسه عزاً وأجنيه ذلة ... إذاً فاتباع الجهل قد كان أسلما
فإن قلت جد العلم كاب فإنما ... كبا حين لم يحرس حماه وأسلما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أذالوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
سأل خالد القسري واصل بن عطاء عن نسبه فقال: نسبي الإسلام الذي من ضيعه فقد ضيع نسبه، ومن حفظه فقد حفظ نسبه، فقال خالد: وجه عبد وكلام حر.
أوصى حكيم ابنه فقال: يا بني عز المال للذهاب والزوال، وعز السلطان يوم لك ويوم عليك، وعز الحسب للخمول والدثور، وأما عز الأدب فعز راتب رابط لا يزول بزوال المال، ولا يتحول بتحول السلطان، ولا ينقص على طول الزمان؛ يا بني عظمت الملوك أباك وهو أحد رعيتها، وعبدت الرعية ملوكها فشتان ما بين عابد ومعبود؛ يا بني لولا أدب أبيك لكان للملوك بمنزلة الابل النقالة والعبيد الحمالة.
قال عطاء بن أبي رباح: ما رأيت مجلساً أكرم من مجلس ابن عباس، أكثر فقهاً وأعظم جفنة: إن أصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، وأصحاب الفقه عنده، يصدرهم كلهم في واد واسع.
ومن الشرف والرياسة حمل المغارم: جلس الاسكندر يوماً فلم يسأله أحد حاجة فقال لجلسائه: إني لا أعد هذا اليوم من ملكي.
وقال اسماء بن خارجة: لا أشاتم رجلاً ولا أرد سائلاً، فإنما هو كريم أسد خلته، أو لئيم أشتري عرضي منه. ولما جعل فعله وقاية لعرضه لم يكن جوداً بل دل على طلب الرياسة ببذل ماله.
ومثل هذا المعنى لبعض الأعراب: من الطويل
سأمنح مالي كل من جاء طالباً ... وأجعله وقفاً على النفل والفرض
فإما كريم صنت بالمال عرضه ... وإما لئيم صنت عن لؤمه عرضي
باع حكيم بن حزام داره من معاوية بستين ألف دينار فقيل له: غبنك معاوية، فقال: والله ما أخذتها في الجاهلية إلا بزق خمر، أشهدكم أنها في سبيل الله، فانظروا أينا المغبون.
وقال حسان بن ثابت: من البسيط
أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال
أحتال للمال إن أودى فأكسبه ... ولست للعرض إن أودي بمحتال
اشترى عبيد الله بن معمر وعبد الله بن عامر بن كريز من عمر بن الخطاب رضي الله عنه رقيقاً من سبي ففضل عليهما ثمانون ألف درهم، فأمر بهما أن يلازما، فمر عليهما طلحة بن عبيد الله وهو يريد الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لابن معمر ملازم؟ فأخبر بخبره، فأمر له بالأربعين الألف الدرهم التي عليه فقضى عنه، فقال ابن معمر لابن عامر: انها إن قضيت عني بقيت ملازماً، وإن قضيت عنك لم يتركني طلحة حتى تنقضي عني، فدفع إليه الأربعين الألف فقضاها ابن عامر عن نفسه وخليت سبيله، فمر طلحة منصرفاً من الصلاة فوجد ابن معمر ملازماً فقال ما لابن معمر، ألم آمر بالقضاء عنه؟ فأخبر بما صنع، فقال: أما ابن معمر فإنه علم أن له ابن عم لا يسلمه، احملوا عنه أربعين ألف درهم فاقضوها عنه، ففعلوا وخلي سبيله.
سأل رجل ابن شبرمة القاضي أن يكلم له رجلاً في صلة يصله بها، ولازمه، فأعطاه ابن شبرمة من ماله وقال: من الوافر
وما شيء بأثقل وهو خف ... على الأعناق من منن الرجال
فلا تفرح بمال تشتريه ... بوجهك إنه بالوجه غال
زعم الأصمعي أن حرباً كانت بالبادية ثم اتصلت بالبصرة فتفاقم الأمر فيها، ثم مشي بين الناس بالصلح، فاجتمعوا في المسجد الجامع قال: فبعثت وأنا غلام إلى عبد الله بن عبد الرحمن من بني دارم، فاستأذنت عليه، فأذن لي فدخلت، فإذا به في شملة يخلط بزراً لعنز له حلوب، فخبرته بمجتمع القوم، فأمهل حتى أكلت العنز ثم غسل الصحفة وصاح: يا جارية غدينا، قال: فأتته بزيت وتمر، قال: فدعاني فقذرته أن آكل معه، حتى إذا قضى من أكله وطراً وثب إلى طين ملقى في الدار فغسل به يده ثم صاح: يا جارية اسقيني ماء، فأتته بماء فشربه، ومسح فضله على وجهه ثم قال: الحمد لله، ماء الفرات بتمر البصرة بزيت الشام، متى نؤدي شكر هذه النعم؟ ثم قال: يا جارية علي بردائي، فأتته برداء عدني فارتدى به على تلك الشملة، قال الأصمعي: فتجافيت عنه استقباحاً لزيه، فلما دخل المسجد صلى ركعتين ثم مضى إلى القوم فلم تبق حبوة إلا حلت إعظاماً له، ثم جلس فتحمل جميع ما كان بين الأحياء من ماله ثم انصرف.
قال أبو عبيدة: لما أتى زياد بن عمرو المعني المربد في عقب قتل مسعود بن عمرو العتكي جعل في الميمنة بكر بن وائل، وفي الميسرة عبد القيس، وهم لكيز بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة، وكان زياد بن عمرو في القلب، فبلغ ذلك الأحنف فقال: هذا غلام حدث شأنه الشهرة، وليس يبالي أين قذف بنفسه، فندب أصحابه فجاءه حارثة بن بدر الغداني فجعله في بني حنظلة بحذاء بكر بن وائل، وجعل سعداً والرباب في القلب، ورئيسهم عبس ابن طلق الطعان المعروف بأخي كهمس وهو أحد بني صريم بن يربوع بحذاء الأزد، وجعل عمرو بن تميم بحذاء عبد القيس، فلما تواقفوا بعث إليهم الأحنف: يا معشر الأزد وربيعة من أهل البصرة، أنتم والله أحب إلينا من تميم الكوفة، جيراننا في الدار، ويدنا على عدونا، وأنتم بدأتمونا بالأمس ووطئتم حرمنا، وحرقتم علينا، فدفعنا عن أنفسنا ولا حاجة لنا في الشر ما أصبنا في الخير مسلكاً، فتيمموا بنا طريقة قاصدة. فوجه إليه زياد بن عمرو: تحير خلة من ثلاث: إن شئت فأنزل أنت وقومك على حكمنا، وإن شئت فخل لنا عن البصرة وارحل أنت وقومك إلى حيث شئتم، وإلا فدوا قتلانا واهدروا دماءكم وليؤد مسعود دية المشعرة. قوله: دية المشعرة يريد أمر الملوك في الجاهلية، وكان الرجل إذا قتل وهو من أهل بيت المملكة ودي عشر ديات. فبعث إليه الأحنف: سنختار، فانصرفوا في يومكم، فهز القوم راياتهم وانصرفوا، فلما كان من الغد بعث إليهم: إنكم خيرتمونا خلالاً ليس فيها خيار، أما النزول على حكمكم فكيف يكون والكلم يقطر دماً، وأما ترك ديارنا فهو أخو القتل، قال الله عز وجل: " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم " " النساء: 66 " ولكن الثالثة إنما هي حمل على المال، فنحن نبطل دماءنا وندي قتلاكم، وإنما مسعود رجل من المسلمين، وقد أذهب الله عز وجل أمر الجاهلية. فاجتمع القوم على أن يقضوا أمر مسعود، ويغمد السيف، ويودى سائر القتلى من الأزد وربيعة، فتضمن ذلك الأحنف ودفع إياس بن قتادة المجاشعي رهينة حتى يؤدى هذا المال، فرضي به القوم، ففخر بذلك الفرزدق فقال: من الطويل
ومنا الذي أعطي يديه رهينة ... لغاري معد يوم ضرب الجماجم
عشية سال المربدان كلاهما ... عجاجة موت بالسيوف الصوارم
هنالك لو تبغي كليباً وجدتها ... أذل من القردان تحت المناسم
ويقال إن تميماً في ذلك الوقت اجتمعت مع باديتها وحلفائها من الأساورة والزط والسيابجة وغيرهم فكانوا زهاء سبعين ألفاً. قال الأحنف: فكثرت الديات علي فلم أجدها في حاضرة تميم، فخرجت نحو يبرين فسألت عن المقصود هناك فأرشدت إلى قبة، فإذا شيخ جالس بفنائها مؤتزر بشملة محتب بحبل، فسلمت عليه وانتسبت له فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت توفي صلوات الله عليه. قال: فما فعل عمر بن الخطاب رحمه الله الذي كان يحفظ العرب ويحوطها؟ قلت: مات رحمه الله، قال: فأي خير في حاضرتكم بعدهما؟ قال: فذكرت له الديات التي لزمتنا للأزد وربيعة قال، فقال: أقم، فإذا راع قد أراح عليه ألف بعير فقال: خذها، ثم أراح عليه آخر مثلها فقال: خذها، فقلت لا أحتاج إليها، قال: فانصرفت بالألف من عنده ولا أدري من هو إلى الساعة.
كان المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام في جيش مسلمة بن عبد الملك حين غزا الروم في خلافة عمر بن عبد العزيز التي بلغ فيها القسطنطينية فشتا بها، فسامه مسلمة بماله الذي يعرف بالعرصة، فأبى المغيرة أن يبيعه، ثم أصاب أهل تلك الغزاة مجاعة، فباعها إياه بخمسة عشر ألف دينار، فنقده مسلمة الثمن، فبعث المغيرة بذلك المال مع من اشترى له إبلاً من كلب، واشترى له دقيقاً وزيتاً وقباطي، وحمل ذلك على الأبل، وكانوا لا يقدرون على الحطب، فأمر بالقباطي فأدرجت في الزيت وأوقدها ونحر الإبل وأطبخ واختبز وأطعم الناس، وكان في تلك الغزاة أخوه أبو بكر بن عبد الرحمن فقيل له: نرى ناراً في العسكر، فقال: لا تجدونها إلا في رحل المغيرة، فقولوا له يبعث إلينا من طعامه، فبعث إليه، فلما قفل الناس من غزاتهم تلك وبلغ هذا الخبر عمر بن عبد العزيز قال لمسلمة: أنت كنت أقوى وأولى بإطعام الناس من المغيرة، وذلك لك ألزم، لأنك إنما كنت تطعمهم من بعض مالك وهو يطعمهم عظم ماله، فأقله البيع فإنه بيع ضغطة لا يجوز، فعرض ذلك مسلمة على المغيرة فأبى وقال: قد أنفذت البيع، فأمر عمر بن عبد العزيز بتلك الضيعة فردت على المغيرة، وأمر بالمال فدفع إلى مسلمة من بيت المال، فتصدق المغيرة بالعرصة، وأمر أن يطعم الحاج منها يوم عرفة وثلاث منى، فهو السويق والسمن والتمر الذي يطعم بمنى من صدقة المغيرة.
كان قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري سيداً شجاعاً جواداً، وكان سعد أبوه حيث توجه إلى حوران قسم ماله بين ولده، وكان له حمل لم يشعر به، فلما ولد له مشى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى قيس بن سعد يسألانه في أمر هذا المولود فقال: نصيبي له ولا أغير ما فعل سعد.
استعمل الوليد بن عبد الملك ابن هبيرة على البحرين، فلما قام سليمان أخذ ابن هبيرة بألف ألف، ففزع إلى يزيد بن المهلب، فأتاه في جماعة من قومه فقال له: زاد الله في توفيقك وسرورك، أخذت بما لا يسعه مالي، ولا يحتمله عيالي، فقلت: ما لها إلا سيد أهل العراق ووزير الخليفة وصاحب المشرق، فقال آخر من أصحاب ابن هبيرة: أيها الأمير ما خص هذا عمنا، وقد أتيناك فيما شكا فإن تستقله فقد ترجى لأكثر منه، وإن تستكثره فقد تضطلع بدونه، ووالله ما الدخان بأدل آية على النار ولا العجاج على الريح من ظاهر أمرك على باطنه. وقال آخر: عظم أمرك أن يستعان عليك إلا بك، فلست تأتي شيئاً من المعروف إلا صغر عنك وكبرت عنه، ولا غاية بلغتها إلا وحظك منها مقدم وحقك فيها معظم، ولا نقيسك بأحد من الملوك إلا عظمت عنه، ولا نزنك بأحد منهم إلا رجحت به، ووالله ما العجب أن تفعل ولكن العجب أن لا تفعل. فقال يزيد: مرحباً بكم وأهلاً، إن خير المال ما قضي به الحق، وإنما لي من مالي ما فضل عن الناس، وايم الله لو أعلم أن أحداً أملأ بحاجتكم مني لأرشدتكم إليه، فأحكموا واشتطوا. قال ابن هبيرة: النصف أصلحك الله، قال: اغد على مالك فاقبضه، فدعوا له وانصرفوا، فمضوا غير بعيد وتثاقلوا في مشيهم، فقال لهم ابن هبيرة: ويحكم والله ما يفرق يزيد بين النصف والكل، وما لما بقي غيره؛ فهم يفكرون في الرجوع فظن ذلك يزيد بهم فأمر بردهم وقال: إن ندمتم أقلناكم، وإن ازددتم زدناكم، قالوا: أقلنا وزدنا قال: قد حملتها كلها؛ ثم كلم سليمان وأخبره فقال: احملها إلى بيت المال، ثم سوغه إياها.
ومن أحسن الأفعال وأشرفها في احتمال المغارم ما فعله صعصعة ابن ناجية المجاشعي جد الفرزدق في افتداء الموؤدات، حتى جاء الاسلام وقد فدى ثلاثمائة وستين موؤدة، وخبره في ذلك يرد في باب أخبار العرب وعجائبهم.
قال ابن عياش: كان حوشب بن يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني وعكرمة بن ربعي البكري يتنازعان الشرف، ويتباريان في إطعام الطعام ونحر الجزر في عسكر مصعب، وكان حوشب يغلب عكرمة بسعة يده، قال: وقدم عبد العزيز بن يسار مولى بحتر - قال: وهو زوج أم شعبة الفقيه - بسفائن دقيق، فأتاه عكرمة فقال له: الله الله في قد كاد حوشب يغلبني ويستعليني بماله، فبعني هذا الدقيق بتأخير ولك فيه مثل ثمنه ربحاً، فقال: خذه، فدفعه إلى قومه وفرقه فيهم فعجنوه كله، ثم جاء بالعجين كله فجمعه في هوة عظيمة وأمر به فغطي بالحشيش، وجاءوا برمكة فقربوها إلى فرس حوشب حتى طلبها وأفلت ثم ركضوها بيد يديه وهو يتبعها حتى ألقوها في ذلك العجين ومعها الفرس، فتورطا في ذلك العجين وبقيا فيه جميعاً، وخرج قوم عكرمة يصيحون في العسكر: يا معشر المسلمين أدركوا فرس حوشب فقد غرق في خميرة عكرمة، فخرج الناس تعجباً من ذلك أن تكون خميرة يغرق فيها فرس، فلم يبق في العسكر أحد إلا ركب ينظر، وجاءوا إلى الفرس وهو غريق في العجين ما يبين منه إلا رأسه وعنقه، فما أخرج إلا بالعمد والحبال وغلب عليه عكرمة.
كان للحسن بن سهل غريم له عليه مال كثير، فعلق به وصار به إلى ابن أبي دواد فلم يقدر أن يمتنع عليه، وكان ابن أبي دواد يريد أن يضع من الحسن، فصادفه قد ركب يريد دار الواثق فقال: انتظرا عودي، وتباطأ عن العود ليزيد في إذلال الحسن، فجاء وكيل الحسن فدخل عليه، فقال له الحسن: بعت الضيعة؟ قال: نعم، قال: زن لهذا الغريم ماله، وسأل جماعة من حضر مجلس الحكم ممن عليه دين وهو ملازم به عما عليهم، فتقدم إلى وكيله بأن يزن عنهم جميع ما عليهم لغرمائهم، ففعل، وعاد ابن أبي دواد فلم يجد الحسن ولا أحداً ممن كان عنده ملازماً عنده بدين، فسأل عن الخبر فأخبر به، فانكسر وخجل، وصار بعد ذلك يصف الحسن بالجلالة والنبل.
ولما أوقع الواثق بأحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب جعل سليمان في يد عمر بن فرج الرخجي، ثم وجه إليه يوماً: طالب سليمان بمائة ألف دينار يؤديها بعد الذي أخذ منه، فإن أذعن بها وإلا فجرده واضربه مائة سوط، ولا تتوقف عن هذا لحظة واحدة، ففعل عمر ما أمره به، فهو في ذلك إذ طلع عليه محمد بن عبد الملك الزيات، وهو الوزير حينئذ وأبوه الوزير، وكانا عدويه، فلما رآهما سليمان أيقن بالهلاك، وعلم أن الجلادين سيجودون ضربه لما يعرفون من عداوتهما له، فلما دنا منه محمد بن عبد الملك الزيات قال له: يا أبا أيوب ليس إلا؟ قال له سليمان: ليس إلا، فقال للجلادين حطوه، ففعلوا، فقال: بكم تطالب؟ قال: بمائة ألف دينار وما أملك زكاتها، فقال له: اكتب خطك بها، فقال: أكتب وليس معي ما أؤديه؟ فقال له: إن عمالك ما أدوا شيئاً ونحن نقسط عليهم خمسين ألف دينار، ونلزم في أموالنا خمسين ألف دينار؛ ثم التفت إلى عمر فقال: ابعث من يقبض المال، ثم قالا: يا أبا أيوب إنا على جملتنا في عداوتك، وإنما فعلنا هذا للحرية، وأن تكون وأنت حر على مثل هذه الصورة فلا نتخلصك، فلا تعتقد غير هذا.
؟ويشبه هذا ما ذكر أن أحمد بن المدبر لما اجتمع الكتاب عليه وخانوه حتى نفي إلى أنطاكية وخرج إلى مضربه بظاهر سر من رأى أتاه المعلى ابن أيوب وكان من أعدى الناس له، فقال له: قد عرفت حالك وشغل قلبك بمخلفيك وضيعتك، فلا تهتم بشيء من ذلك ولا تفكر فيه، فإنني النائب عنك في جميعه حتى لا تبالي ألا تكون حضرته، وهذه سبعة آلاف دينار استعن بها في طريقك، فشكره ابن المدبر غاية الشكر وسر بعود مودته وصفائه، فقال له المعلى: لا تظن ذلك فما كنت قط أشد عداوة مني الساعة، ولكن عداوتي لك ما دمت مقيماً معنا في بلدنا، فإذا خرجت وكفينا شرك فنحن لك على ما ترى من المودة، ومتى عدت إلى الحضرة عدنا إلى ما عرفت من العداوة.
كان على بني تميم حمالات فاجتمعوا فيها إلى الأحنف، فقال الأحنف: لا تعجلوا حتى يحضر سيدكم، قالوا: ومن سيدنا غيرك؟ قال: حارثة بن بدر، وكان حارثة قد قدم قبل ذاك بمال عظيم من الأهواز، فبلغه ما قال الأحنف فقال: أغرمنيها ابن الزافرية، ثم أتاهم كأنه لم يعلم فيم اجتمعوا فأخبروه، فقال: لا تلقوا فيها أحداً، هي علي، ثم أتى منزله فقال: من الكامل
خلت البلاد فسدت غير مسود ... ومن العناء تفردي بالسؤدد
جاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام، فباعها من معاوية بمائة ألف درهم، فقال له عبد الله بن الزبير: بعت مكرمة قريش، فقال: ذهبت المكارم إلا من التقوى يا ابن أخي، إني اشتريت بها داراً في الجنة، أشهدك أني جعلت ثمنها في سبيل الله وقد ورد هذا الخبر بغير هذه الألفاظ وفيه زيادة ونقصان.
حجة جميلة بنت ناصر الدولة أبي محمد بن حمدان أخت أبي تغلب صارت تاريخاً مذكوراً، حجت سنة ست وثمانين وثلثمائة فسقت أهل الموسم كلهم السويق بالطبرزد والثلج، واستصحبت البقول المزروعة في المراكن على الجمال، وأعدت خمسمائة راحلة للمنقطعين، ونثرت على الكعبة عشرة آلاف دينار، ولم يستصبح عندها وفيها الا بشموع العنبر، وأعتقت ثلاثمائة عبد ومائتي جارية وأغنت الفقراء والمجاورين.
جاء الإسلام وإن جفنة العباس لتدور على فقراء بني هاشم، وإن درته لمعلقة لسفهائهم، وكان يقال: هذا السؤدد، يشبع جائعهم ويؤدب سفيههم.
قال بعضهم: قدمت على سليمان بن عبد الملك، فبينا أنا عنده إذ نظرت إلى رجل حسن الوجه يقول: يا أمير المؤمنين والله لحمدها خير منها ولذكرها أحسن من جمعها، ويدي موصولة بيدك فابسطها لسؤالها خيراً؛ فسألت عنه فقيل: يزيد بن المهلب يتكلم في حمالات حملها.
وفد دهقان أصفهان على معاوية فلم يجد من يكلمه في حاجته، فقيل له: ليس لها إلا عبد الله بن جعفر، فكلمه الدهقان وبذل له ألف ألف درهم، فكلم معاوية فقال: قد أردنا أن نصلك بألف ألف درهم فربحناها، فقال عبد الله: قد ربحت وربحنا شكر الدهقان. فلما قضى حاجته أكب عليه الدهقان يقبل أطرافه ويقول: أنت قضيتها لا أمير المؤمنين، وحمل إليه المال فقال: ما كنت لآخذ على معروفي أجراً، وبلغ الخبر معاوية فبعث إليه ألف ألف درهم فلم يقبلها وقال: لا أقبل ما هو عوض عما تركت، فقال معاوية: لوددت أنه من بني أمية وأني مخزوم ببرة.
أصاب الناس بالبصرة مجاعة، فكان ابن عامر يغدي عشرة آلاف ويعشي مثلهم حتى تجلت الأزمة فكتب إليه عثمان يجزيه خيراً، وأمر له بأربعمائة ألف معونة على نوائبه، وكتب إليه: لقد رفعك السؤدد إلى موضع لا يناله إلا الشمس والقمر، فتوخ أن يكون ما أعطيت لله فإنه لا شرف إلا ما كان فيه وله.
قدم سليمان بن عبد الملك المدينة فأهدى له خارجة بن زيد بن ثابت ألف عذق موز، وألف قرعة عسل أبيض، وألف شاة، وألف دجاجة، ومائة إوزة، ومائة جزور، فقال سليمان: أجحفت بنفسك يا خارجة، قال: يا أمير المؤمنين قدمت بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت في أهل بيتي مالك بن النجار، وأنت ضيف، وإنما هذا قرى، فقال: هذا وأبيكم السؤدد. ثم سأل عن دينه فقيل خمسة وعشرون ألف دينار، فقضاها عنه وأعطاه عشرة آلاف دينار.
حرم الحجاج الشعراء في أول مقدمه العراق، فكتب إليه عبد الملك أجز الشعراء فإنهم يحبون مكارم الأخلاق ويحرضون على البر والسخاء، نظر إلى هذا المعنى أبو تمام فقال: من الطويل
ولولا خلال سنها الشعر ما درت ... بغاة العلى من أين تؤتى المكارم
وقال ابن الرومي: من الطويل
وما المجد لولا الشعر إلا معاهد ... وما الناس إلا أعظم نخرات
قيل لبزرجمهر: أي شيء نلته أنت به أشد سروراً؟ قال: قوتي على مكافأة من أحسن إلي.
وسئل الإسكندر عن أفضل ما سره من مملكته فقال: اقتداري على أن أكثر الإحسان إلى من سبقت منه حسنة إلي.
حبس داود كاتب أم جعفر وكيلاً لها عليه في حسابه مائتا ألف درهم، فكتب الوكيل إلى عيسى بن داود وسهل بن صباح وكانا صديقيه يسألهما الركوب إلى داود في أمره، فركبا إليه، فلقيهما الفيض بن أبي صالح فسألهما عن قصدهما فأخبراه، فقال: أتحبان أن أكون معكما؟ قالا: نعم، فصاروا إلى داود فكلموه في إطلاق الرجل، فطالع أم جعفر بحضورهم وسؤالهم، فوقعت في الرقعة تعرفهم ما وجب لها من المال وتعلمهم أنه لا سبيل إلى إطلاقه دون أداء المال، قال: فاقرأهم التوقيع واعتذر، فقال عيسى وسهل: قد قضينا حق الرجل، وقد أبت أم جعفر أن تطلقه إلا بالمال، فقوموا بنا ننصرف، فقال لهما الفيض: كأننا إنما جئنا لنؤكد حبس الرجل، قالا له: فما نصنع؟ قال: نؤدي المال عنه؛ ثم أخذ الدواة وكتب إلى وكيله في حمل المال عن الرجل ودفع الكتاب إلى داود وقال: قد أزحنا علتك في المال فادفع إلينا صاحبنا، قال: لا سبيل إلى ذلك حتى أعرفها الخبر، فكتب إليها فوقعت في رقعته: أنا أولى بهذه المكرمة من الفيض، فاردد عليه كتابه بالمال، وادفع إليه الرجل، وقل له: لا يعاود مثل ما كان منه. قال: ولم يكن الفيض يعرف الرجل وإنما أراد مساعدة صاحبيه في حقه.
وحكي أن الفيض بن أبي صالح وأحمد بن الجنيد وجماعة من العمال والكتاب خرجوا من دار الخليفة منصرفين إلى منازلهم في يوم وحل، فتقدم الفيض وتلاه أحمد فنضح دابة الفيض على ثياب أحمد من الوحل، فقال أحمد للفيض: هذه والله مسايرة بغيضة، لا أدري بأي حق وجب لك التقدم علينا، فلم يجبه الفيض عن ذلك بشيء ووجه إليه عند منصرفه إلى منزله بمائة تخت في كل تخت قميص ومبطنة وسراويل وطليسان ومع كل واحد عمامة أو شاشية، وقال لرسوله: قل له أوجب التقدم لنا عليك أن لنا مثل هذا نوجه به إليك عوضاً مما أفسدناه من ثيابك، فإن كان لك مثله فلك التقدم علينا، وإلا فنحن أحق بالتقدم منك.
حدث أبو الهيثم الرحبي من حمير قال: كان رجل من ذي مناخ، وهم بطن من ذي كلاع، يقال له جميم بن معدي كرب، جواداً فأشفى جوده على ماله، فتدارأت بطون من ذي الكلاع في أمواه لهم، وكانت بينهم دماء، ثم تداعوا إلى الصلح وتعاقل الدماء وأن يبيئوا الدم بالدم، ويؤدوا ما فضل، ففضلت إحدى الطائفتين بسبع ديات فحملها جميم، فسعى في عشيرته فتدافعوه، فأدى ديتين فاستوعبتا ماله، فخرج ضارباً في الأرض حتى أوغل في مفاوز اليمن. قال أبو الهيثم: فحدثني شيخان منا ممن أدركه وسمع حديثه من فلق فيه، قال: بينا أنا ذات عشية في بعض تلك الأغفال أوائل الليل إذ حبا لي نشء فألبس الأفق، فهمهم وتهزم، وأطلت أعاليه وتلاحقت تواليه، وبرق فخطف، ورعد فرجف، وأشرفت على الهلاك، وإني مع ذلك لسخي بنفسي أود لو هلكت لأعذر، والنفس مجبولة على طلب النجاة، فملت لأقرب الجبال مني لأعتصم بلجأ منه، فلما سندت في سفحه عرض لي غار غامض، فأطمأننت إليه، فإذا نار كالمصباح تخبو تارة وتضيء أخرى، واحتفل السحاب وشري المطر، فاندفعت في الغار فأنخت في أدناه، فإذا نار في لوذ منه، فعقلت مطيتي وأخذت سيفي وولجت، لكني هجمت على شويخ يوقد نويرة وبين يديه حمار قد قيده ونبذ له أضغاثاً فقلت: عم ظلاماً، فقال: نعم ظلامك، من أنت؟ فقلت: خابط ضلال ومعتسف أغفال، فقال: أعاف أم باغ؟ فقلت: بل راكب خطار، وخائض غمار، تؤدي إلى بوار، فقال: إنك لتنبىء عن شر، ليفرخ روعك، اجلس وخفض عليك وتطامن، فلما اطمأننت قال: قرب مطيتك واحطط رحلها، واعضد لها من أغصان السمر المتهدل على فجوة هذا الغار، ففعلت، ثم أقبلت إليه فجلست، فاستنبث رماداً إلى جانب موقده فاختفى خبزة فلطمها بيده حتى أبرز عن صميمها، وقرب صحفة له، فكسر الخبزة فيها واستخرج نحياً من خرج إلى جانبه فنكب على الخبزة سمناً حتى سغبلها، ثم قربها مني فأكلت وأكل حتى انتهيت وأتى على ما فيها، ثم اضطجع وقال لي: نم آمناً واثقاً بأنك غير مورق ولا محقق، فاضطجعت، وطبن من ناره، واستوثق من عقال حماره وقال لي: أرب عقال مطيتك، ففعلت، وبت ناعم البال، وكأن الأين قد وقذني فغلبتني عيناي هزيعاً من الليل، ثم أزعج الخوف النوم وأتتني هماهم ولم آمن اغتيال الرجل، ثم ضربت بجروتي ثم قلت: واثكل أماه، ما هذا الوهل؟! والله إنه لأعزل وإني لمستلئم، وإنه لمتسعسع وإن في لبقية شباب، فلما أحس بالصبح استيقظ فأرث ناراً وشبها وقال: أنائم أنت؟ فقلت: بل كميع أرق وضجيع قلق، قال: ولم، وقد تقدم مني ما سمعت وأنا به زعيم؟ وفي كل ذلك لا يسألين عن نسبي، ثم استخرج مزوداً فيه طحن، فقمت لأتكلف ذلك عنه، فقال: اقعد فانك ضيف، وإنه للؤم بالرجل أن يمتهن ضيفه، فاعتجن طحنه في جفنته وكفأ عليها صحفته ثم مال إلى جانب من الغار فاحتمل أضغاثاً من يبيس فألقاها لحماره، ثم استخرج معضداً من تحت وساده، وخرج إلى فم الغار فخطرف ما استطف له من الشجر والسلم فألقاه لناقتي، وجلس يحادثني ويفاكهني ويناشدني الأشعار المؤسية، ويصف لي صروف الأيام وتقلبها بالرجال، فكأنه كان في نفسي أو قد بطن أمري، فلما ظن أن خبزته قد آنت استخرجها، ثم فعل كفعله أول الليل، فلما صددت أتى على باقي الخبزة، ثم قام فخرج من الغار، ثم رجع فقال: قد تقطع أقران الحفل وطحرت الريح الجفل، ووضح الحزن من السهل فقم فارحل، ثم قذف رحالته على حماره، وقمت فارتحلت، وخرج وخرجت أتبعه حتى دلكت الشمس أو كربت ثم أشرفنا على واد عظيم شجير، وإذا نعم ما ظننت أن الأرض تحمل مثله، فهبط الوادي وتصايحت الرعاء وأقبلوا إليه من كل أوب حتى حفوا به، وسار في بطن الوادي حتى انتهى إلى قباب متطابنة، فمال إلى أعظمها فنزل، وتباعد الأعبد فحطوا رحلي وقادوا مطيتي وألقوا إلي مثالاً، وقال: نم ليتسبخ لغوبك فنمت آمناً مطمئناً حتى ترويت، ثم هببت وإذا عبد موكل بيه، فقال لي: انهض إن أردت المذهب، فقمت وقام معي بإداوة حتى أولجني خمراً وأدبر عني، فلما أحس بفراغي أقبل فحمل الإداوة وردني إلى مثالي، وإذا الشيخ قد أقبل ومعه عبدان يحملان جفنتين، فقلت: والله ما بي إلى الطعام من حاجة، فقال: لابد منه، فلما فرغنا من غدائنا قال: هات الآن خبرك، فأخبرته، فقال لبعض عبيده: أوف ذلك الند فألمع بني، فكلا ولا ما كان إذا عجاجة مستطيرة وإذا عشرون فارساً تنكدر بهم
خيولهم وقفوا عليه، فأمرهم بالنزول فنزلوا واقتص عليهم قصتي، وقال: ما عندكم لابن عمكم؟ قالوا: مرنا بأمرك فقال: خمس ديات يؤديها وثنتان شروي ما رزئه، فو الله ما أمسيت حتى أنيخت بفنائه، ورجع بنوه، وبت بأنعم مبيت، فلما أصبح قال لعبيده: علي عشرة يوردون هذه الأبل بلاد هذا الرجل، ثم هم له إن شاء أعتق وإن شاء أرق، فانتدب له عشرة كالذئاب فوقفوا بين يديه، فقال لعبد آخر: هلم ما قبلك، فما راث أن جاء بمائة كالهضاب قال: وهذه لك من لدني، وارحل راشداً إلى أرض قومك، فقلت له: يا ابن عم إنه للؤم أن تقلدني مثل هذه المنة ولا أعرف لك اسماً ولا نسباً قال: أنا محمية ابن الأدرع أحد بني هزان. وقفوا عليه، فأمرهم بالنزول فنزلوا واقتص عليهم قصتي، وقال: ما عندكم لابن عمكم؟ قالوا: مرنا بأمرك فقال: خمس ديات يؤديها وثنتان شروي ما رزئه، فو الله ما أمسيت حتى أنيخت بفنائه، ورجع بنوه، وبت بأنعم مبيت، فلما أصبح قال لعبيده: علي عشرة يوردون هذه الأبل بلاد هذا الرجل، ثم هم له إن شاء أعتق وإن شاء أرق، فانتدب له عشرة كالذئاب فوقفوا بين يديه، فقال لعبد آخر: هلم ما قبلك، فما راث أن جاء بمائة كالهضاب قال: وهذه لك من لدني، وارحل راشداً إلى أرض قومك، فقلت له: يا ابن عم إنه للؤم أن تقلدني مثل هذه المنة ولا أعرف لك اسماً ولا نسباً قال: أنا محمية ابن الأدرع أحد بني هزان.
كان يزيد بن مفرغ الحميري منفاقاً كثير الدين وقدمه غرماؤه إلى زياد مرات كثيرة فضجر وقال لغرمائه: بيعوه فقد نهيته أن يستدين فأبى، فأقاموه فنادوا عليه، فجعل الرجل يمر به فيؤدي عنه الألف والخمسمائة وأكثر وأقل، فمر به عبيد الله بن أبي بكرة فقال: مالك؟ فقال: أمر الأمير أن أباع في دين علي، قال: وكم دينك؟ قال: ثمانون ألفاً، قال: هي علي، فقال يزيد بن مفرغ: من السريع
لو شئت لم تشقي ولم تنصبي ... عشت بأسباب أبي حاتم
عشت بأسباب الجواد الذي ... لا يختم الأموال بالخاتم
ما دون معروفك قفل ولا ... أنت لمن يلقاك بالحارم
الواهب الجرد بأرسانها ... والحامل الثقل عن الغارم
والطاعن الطعنة يوم الوغى ... توقظ منها سنة النائم
بكف بهلول له نجدة ... ما إن لمن عاداه من عاصم
فوجه إليه بعشرين ألفاً تمام المائة الألف.
أتى الأخطل أسماء بن خارجة في خمس ديات ليحملهن فحملهن، ثم قال لبنيه وهم حوله: أقسمت عليكم إلا حملتم له مثلها، فخرج الأخطل وهو يقول: من الوافر
إذا مات ابن خارجة بن حصن ... فلا مطرت على الأرض السماء
ولا رجع البشير بخير غنم ... ولا حملت على الطهر النساء
فيوم منك خير من رجال ... يروح عليهم نعم وشاء
وبورك في أبيك وفي بنيه ... إذا ذكروا ونحن لك الفداء
ركب محمد بن إبراهيم الامام دين فركب إلى الفضل بن يحيى ومعه حق فيه جوهر وقال له: قصرت غلاتنا، وأغفل أمرنا خليفتنا، وتزايدت مؤونتنا، ولزمنا دين احتجنا لأدائه إلى ألف ألف درهم، وكرهت بذل وجهي للتجار وإذالة عرضي بينهم، ولك من يعطيك منهم، ومعي رهن ثقة بذاك، فإن رأيت أن تأمر بعضهم بقبضه وحمل المال إلينا، فدعا الفضل بالحق فرأى ما فيه وختمه بخاتم محمد بن إبراهيم ثم قال له: نجح الحاجة أن تقيم في منزلنا، فقال له: إن في المقام علي مشقة، قال له: وما يشق عليك من ذلك؟ إن رأيت أن تلبس شيئاً من ثيابنا دعوت به، وإلا أمرت باحضار ثياب من منزلك، فأقام، ونهض الفضل فدعا بوكيله وأمر بحمل المال وتسليمه إلى خادم محمد بن إبراهيم وتسليم الحق الذي فيه الجوهر إليه بخاتمه وأخذ خطه بقبضها، ففعل الوكيل ذلك، وأقام محمد عنده إلى المغرب وليس عنده شيء من الخبر، ثم انصرف إلى منزله فرأى المال، وأحضره الخادم الحق، فغدا على الفضل يشكره فوجده قد سبقه بالركوب إلى دار الرشيد، فوقف منتظراً له، فقيل له قد خرج من الباب الآخر قاصداً منزله، فانصرف عنه فلما وصل إلى منزله وجه إليه الفضل ألف درهم آخر، فغدا عليه فشكره وأطال، فأخبره بأنه باكر إلى أمير المؤمنين فأعلمه حاله فأمره بالتقدير له ولم يزل يماكسه إلى أن تقرر الأمر معه على ألف ألف درهم، وأنه ذكر أنه لم يصلك بمثلها قط ولا زادك على عشرين ألف دينار، فشكرته وسألته أن يصك بها صكاً بخطه ويجعلني الرسول، فقال له محمد: صدق أمير المؤمنين إنه لم يصلني قط بأكثر من عشرين ألف دينار، وهذا إنما تهيأ بك وعلى يدك، وما أقدر على شيء أقضي به حقط ولا شكر أوازي به معروفك، غير أن علي وعلي - وحلف أيماناً مؤكدة - إن وقفت بباب أحد سواك أبداً، ولا سألت حاجة أحداً غيرك ولو سففت التراب. فكان لا يركب إلى غير الفضل إلى أن حدث من أمرهم ما حدث، فكان لا يركب إلى غير دار الخليفة ويعود إلى منزله، فعوتب بعد تقضي أيامهم في ترك إتيان الفضل بن الربيع فقال: والله لو عمرت ألف سنة ثم مصصت النماد ما وقفت بباب أحد بعد الفضل بن يحيي ولا سألت أحداً بعده حتى ألقى الله عز وجل، فلم يزل على ذلك حتى مات.
قال يحيى بن خالد: بلغت العطلة من أبي ومني وتوالت المحن علينا وأخفقنا حتى لم نهتد إلى ما ننفقه، فلبست يوماً لأركب وأتنسم الأخبار واتفرج، فقالت لي أهلي: أراك على نية الركوب؟ قلت: نعم، قالت: فاعلم أن هؤلاء الصبيان باتوا البارحة بأسوأ حال، وإني ما زلت أعللهم بما لا علالة فيه وما أصبحت ولهم شيء، ولا لدابتك علف، ولا لك ما تأكل، إذا انصرفت فينبغي أن يكون بكورك وطلبك بحسب هذه الحال، فقطعتني عن الحركة ورميت بطرفي فلم أر إلا منديلاً طبرياً كان أهدي إلي، فأخرجته مع الغلام فباعه باثني عشر درهماً، فاشترى به ما يحتاج إليه من القوت وعلف الدابة، وركبت لا أدري أين أقصد، فإذا بأبي خالد الأحول وهو خارج من درب ومعه موكب ضخم، وهو يكتب يومئذ لأبي عبيد الله كاتب المهدي، فملت إليه وقلت له: قد تناهت العطلة بأخيك وبي إلى كذا، وشرحت له القصة وهو مستمع لذاك ماض في سيره، فلما بلغ مقصدة عدت ولم يقل لي حرفاً، فعدت منكسراً منكراً على نفسي ما كشفت له من أمري، فلما كان اليوم الثاني بعت أحد قميصي وتبلغنا به يومين، ولحقني من الوسواس ما خفت منه على نفسي، فخرجت لأبلي عذراً فلقيني رسول أبي خالد، فلما جئته قال لي: يا ابن أخي شكوت إلي شكوى لم يكن ينفع في جوابها الا الفعل، ثم أحضر ابن حميد وزاهراً، تاجرين كانا يبيعان الطعام، فقال لهما: قد علمتما أني بايعتكما البارحة ثلاثين ألف كر على أن ابن أخي هذا شريككما فيها بالسعر، ثم التفت إلي فقال: لك في هذه الاكرار عشرة آلاف كر، فإن دفعا إليك ثلاثين ألف دينار ربحك، فآثرت أن تخرج إليهما من حصتك فعلت، وإن آثرت أن تقيم على هذا الابتياع فعلت، فانفردا معي وقالا: أنت رجل شريف، وليست التجارة من شأنك، وتحتاج في الابتياع إلى أعوان وكفاة، وبذلا لي ثلاثين ألف دينار ففعلت، واستصوب أبو خالد فعلي، وقلت لأبي: تأمر في المال بأمرك، فقال: أحكم عليك فيه حكم أبي خالد في التاجرين، فأخذ الثلث، واشتريت بالثلث عقدة، وأنفقنا الباقي إلى أن أدت بنا الحال إلى ما أدت.
ومن الرياسة الحلم والعفو والصفح:
وقد ندب الله عز وجل إليه رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله " فاصفح الصفح الجميل " " الحجر: 85 " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أعز الله بجهل قط، ولا أذل بحلم قط.
وفي حديث آخر: ما عفا رجل عن مظلمة قط إلا زاده الله بها عزاً.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث خصال من لم يكن فيه لم ينفعه الإيمان، حلم يرد به جهل الجاهل، وورع يحجزه عن المحارم، وخلق يداري به الناس.
ومر عيسى عليه السلام ببعض الخلق فشتموه، ثم مر بآخرين فشتموه فكلما قالوا شراً قال خيراً، فقال له رجل من الحواريين: كلما زادوك شراً زدتهم خيراً كأنك إنما تغريهم بنفسك وتحثهم على شتمك، فقال: كل إنسان يعطي مما عنده.
وهذا وإن كان مخرجه مخرج الحلم فهو منه صلى الله عليه وسلم احتساب وتأديب.
وشتم رجل الشعبي فقال: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.
وقيل للحسن بن علي عليهما السلام: إن فلاناً يقع فيك، فقال: ألقيتني في تعب، الآن أستغفر الله لي وله.
وقال علي عليه السلام: أول عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصار له على الجاهل.
وقال: إن لم تكن حليماً فتحلم، فإنه قل من تشبه بقوم إلا أوشك أن يكون منهم.
وقال عليه السلام: الحلم فدام السفيه.
وقال: الحلم والأناة توأمان ينتجهما علو الهمة.
قيل: اجعل الحلم عدة للسفيه، وجنة من ابتهاج الحاسد، فإنك لم تقابل سفيهاً بالاعراض عنه والاستخفاف بعقله إلا أذللته في نفسه، وسلطت عليه الانتصار من غيرك، وإذا كافأته بمثل ما أتى وزنت قدرك بقدره ولم تنصر عليه.
وقال المنتصر: لذة العفو أطيب من لذة التشفي لأن لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، وإن لذة التشفي يلحقها ذم الندم.
وقال ابن المعتز: لا تشن وجه العفو بالتقريع.
وقيل: ما عفا عن الذنب من قرع عليه.
قال كثير: من الطويل
حليم إذا ما نال عاقب مجملاً ... أشد العقاب أو عفا لم يثرب
فعفواً أمير المؤمنين وحسبة ... فما تحتسب من صالح لك يكتب
أساءوا فإن تغفر فإنك أهله ... وأفضل حلم حسبة حلم مغضب
وقال زهير بن أبي سلمى: من الطويل
وذي نعمة تممتها وشكرتها ... وخصم يكاد يغلب الحق باطله
دفعت بمعروف عن القول صائب ... إذا ما أضل القائلين مفاصله
وذي خطل في القول تحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله
عبأت له حلمي وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله
وقال المرار بن سعيد: من الطويل
إذا شئت يوماً أن تسود عشيرة ... فبالحلم سد لا بالتسرع والشتم
وللحلم خير فاعلمن مغبة ... من الجهل إلا أن تشمس من ظلم
وقف رجل عليه مقطعات على الأحنف بن قيس يسبه، وكان عمرو بن الأهتم جعل له ألف درهم على أن يسفه الأحنف، وجعل لا يألو أن يسبه سباً يغضب، والأحنف مطرق صامت لا يكلمه. فلما رآه لا يكلمه أقبل الرجل يعض إبهامه ويقول: يا سوأتاه والله ما يمنعه من جوابي إلا هواني عليه.
وقال رجل لرجل من آل الزبير كلاماً أقذع فيه، فأعرض الزبيري عنه، ثم دار كلام فسب الزبيري علي بن الحسين فلم يجبه، فقال له الزبيري: ما يمنعك من جوابي؟ فقال علي: ما منعك من جواب الرجل.
وقال رجل لرجل سبه فلم يلتفت إليه: إياك أعني، فقال له الرجل: وعنك أعرض.
وقال آخر: لو قلت واحدة لسمعت عشراً، فقال له الآخر: ولكنك لو قلت عشراً لما سمعت واحدة.
وقال الشاعر في نحو ذلك: من الكامل
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فأجوز ثم أقول لا يعنيني
قال الأحنف: ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره باحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت له فضله، وإن كان مثلي تفضلت عليه، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه.
وشتمه رجل فأمسك عنه، وأكثر الرجل إلى أن أراد الأحنف القيام للغداء، فأقبل على الرجل فقال: يا هذا إن غداءنا قد حضر فانهض بنا إليه إن شئت فإنك منذ اليوم تحدو بجمل ثفال.
وروي عن رجل من أهل الشام قال: دخلت المدينة فرأيت راكباً على بغلة لم أر أحسن وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً ولا دابة منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه فقيل: هذا الحسن بن علي بن أبي طالب فامتلأ قلبي له بغضاً وحسدت علياً أن يكون له ابن مثله، فصرت إليه فقلت له: أنت ابن أبي طالب؟ فقال: أنا ابن ابنه. قلت: فبك وبأبيك، أسبهما، فلما انقضى كلامي قال: أحسبك غريباً، قلت: أجل، قال: فمل بنا، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مال واسيناك، أو إلى حاجة عاوناك، قال: فانصرفت عنه وما على الأرض أحد أحب إلي منه.
وقال معاوية: ما وجدت لذة شيء ألذ عندي غباً من غيظ أتجرعه، ومن سفه بالحلم أقمعه.
وقال له رجل: ما أشبه استك باست أمك، قال: ذاك الذي كان يعجب أبا سفيان منها.
وأغلظ له رجل فاحتمله، وأفرط عليه فحلم عنه، فقيل له في ذلك فقال: إنا لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا؛ وإلى هذا المعنى أشار أبو تمام بقوله: من الطويل
جهول إذا أزرى التحلم بالفتى ... حليم إذا أزرى بذي الحسب الجهل
وكأنه ألم بقول سالم بن وابصة: من البسيط
إن من الحلم ذلاً أنت عارفه ... والحلم عن قدرة فضل من الكرم
وقول الآخر: من الطويل
قليل الأذى إلا على القرن في الوغي ... كثير الأيادي واسع الذرع بالفضل
ويحلم ما لم يجلب الحلم ذلة ... ويجهل ما شدت قوى الحلم بالجهل
وقال عامر بن مالك ملاعب الأسنة: من الطويل
دفعتكم عني وما دفع راحة ... بشيء إذا لم يستعن بالأنامل
تضعفني حلمي وكثرة جهلكم ... علي وأني لا أصول بجاهل
وقال يزيد بن الحكم الكربي: من الطويل
دفعناكم بالقول حتى بطرتم ... وبالراح حتى كان دفع الأصابع
فلما رأينا جهلكم غير منته ... وما غاب من أحلامكم غير راجع
مسنا من الآباء شيئاً وكلنا ... إلى حسب في قومه غير واضع
فلما بلغنا الأمهات وجدتم ... بني عمكم كانوا كرام المضاجع
وكان معاوية مذكوراً بالحلم، وأخباره فيه كثيرة، وقد دفعه قوم عن ذلك؛ ذكر عند ابن عباس رضي الله عنه بالحلم فقال: وهل أغمد سيفه وفي قلبه على أحد إحنة؟! وقال شريك بن عبد الله:لو كان معاوية حليماً ما سفه الحق ولا قاتل علياً. وقال: لو كان حليماً لما حمل أبناء العبيد على حرمه ولما أنكح إلا الأكفاء.
وقال الآخر: كان معاوية يتعرض، ويحلم إذا أسمع، ومن تعرض للسفيه فهو سفيه.
وقال آخر: كان يحب أن يظهر حلمه، وقد كان طار اسمه بذلك فأحب أن يزداد فيه.
وكان معاوية يقول: إني لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن إلا كلمة يشتفي بها مشتف جعلتها تحت قدمي ودبر أذني.
وشهد أعرابي عند معاوية بشهادة، فقال له معاوية: كذبت، فقال له الأعرابي: الكاذب والله متزمل في ثيابك، فقال معاوية: هذا جزاء من عجل.
كتب عمرو بن العاص إلى معاوية يعاتبه في التأني، فكتب إليه معاوية: أما بعد، فإن التفهم في الخير زيادة ورشد، وان المتثبت مصيب والعجل مخطىء، وإن لم ينفعه الرفق ضره الخرق، ومن لم تعظه التجارب لم يدرك المعالي، ولا يبلغ الرجل أعلى المبالغ حتى يغلب حلمه جهله، والعاقل سليم من الزلل بالتثبت والأناة وترك العجلة، ولا يزال العجل يجتني ثمرة الندم.
وقال معاوية يوماً: ما ولدت قرشية خيراً لقريش مني، فقال ابن زرارة: بل ما ولدت شراً لهم منك، فقال: كيف؟ قال لأنك عودتهم عادة يطلبونها ممن بعدك فلا يجيبونهم إليها، فيحملون عليهم كحملهم عليك فلا يحتملون، وكأني بهم كالزقاق المنفوخة على طرقات المدينة.
والأحنف بن قيس السعدي ثم أحد بني منقر قد اشتهر عند الناس بالحلم، وبذاك ساد عشيرته، وكان يقول: لست بحليم ولكني أتحالم، قلة رضى عن نفسه بما استكثره الناس منه، وهو اقتفى بقيس بن عاصم المنقري، وقال: كنا نختلف إليه في الحلم كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه.
وقال الأحنف: حضرت قيس بن عاصم وقد أتوه بابن أخ له قتل ابنه، فجاءوه به مكتوفاً يقاد إليه، فقال: ذعرتم الفتى، ثم أقبل عليه فقال: يا بني نقصت عددك، وأوهنت ركنك، وفتت في عضدك، وأشمت عدوك، وأسأت بقومك، خلوا سبيله واحملوا إلى أم المقتول ديته، فانصرف القاتل وما حل قيس حبوته ولا تغير وجهه.
وقال الأحنف: وجدت الحلم أنصر لي من الرجال.
وقاتل بصفين فاشتد، فقيل له: أين الحلم يا أبا بحر؟ قال ذاك عند عقد الحبا.
وجلس على باب زياد فمرت به ساقية فوضعت قربتها وقالت: يا شيخ احفظ قربتي حتى أعود، ومضت، وأتاه الآذن فقال: انهض، قال: لا فان معي وديعة.
وقال: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات، ورب غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه.
وأسمعه رجل وأكثر فقال: يا هذا ما ستر الله أكثر.
ركب عمرو بن العاص يوماً بغلة له شهباء، ومضى على قوم جلوس، فقال بعضهم: من يقوم إلى الأمير فيسأله عن أمه وله عشرة آلاف؟ فقال واحد منهم: أنا، فقام إليه فأخذ بعنانه وقال: أصلح الله الأمير، أنت أكرم الناس خيلاً فلم تركب دابة قد شاب وجهها؟ فقال: أني لا أمل دابتي حتى تملني، ولا أمل رفيقي حتى يملني، إن الملالة من كدر الأخلاق، فقال: أصلح الله الأمير، أما العاص بن وائل فقد عرفنا شرفه ونسبه ومنصبه، فمن أم الأمير أصلحه الله؟ قال: على الخبير وقعت، أمي النابغة بنت حرملة من عنزة ثم من بني جلان، سبتها رماح العرب فأتي بها سوق عكاظ فبيعت فاشتراها عبد الله بن جدعان ووهبها للعاص بن وائل فولدت فأنجبت، فإن كان جعل لك جعل فامض فخذه، خل عنان الدابة.
وقد قيل إنها كانت بغياً عند عبد الله بن جدعان، فوطئها في طهر واحد أبو لهب وأمية بن خلف وهشام بن المغيرة وأبو سفيان بن حرب والعاص بن وائل، فولدت عمراً فادعاه كلهم، فحكمت فيه أمه فقالت: هو للعاص، لأن العاص كان ينفق عليها، وقالوا: كان أشبه بأبي سفيان.
ودخل عمرو مكة فرأى قوماً من قريش قد جلسوا حلقة، فلما رأوه رموه بأبصارهم، فعدل إليهم وقال: أحسبكم كنتم في شيء من ذكري، قالوا: أجل، كنا نميل بينك وبين أخيك هشام أيكما أفضل، فقال عمرو: إن لهشام علي أربعة: أمه ابنة هشام بن المغيرة وأمي من قد عرفتم، وكان أحب إلى أبي مني وقد عرفتم الوالد بالولد، وأسلم قبلي واستشهد وبقيت.
كان داود بن علي بن عبد الله بن العباس أديباً عاقلاً جميلاً جواداً فقيهاً عالماً، وكان بينه وبين رجل من آل أبي معيط كلام في دولة بني أمية، فقدم داود العراق على خالد بن عبد الله القسري، فلقيه المعيطي في بعض الطرق فأخذ بلجام بغلته ثم أسمعه ما يكره، وداود منصت حتى قضى كلامه، فقال له داود: فرغت من كلامك؟ قال: نعم، قال: أما لو كان خيراً ما سبقتني إليه.
وكان أبو جعفر المنصور شديد السطوة سريع الانتقام، وعدت له فعلة كريمة في العفو، روي أنه خطب فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، واعترضه معترض عن يمينه فقال: أيها الإنسان، أذكرك من ذكرت به، فقطع الخطبة وقال: سمعاً سمعاً لمن حفظ الله وذكر به، وأعوذ بالله أن أكون جباراً عنيداً، وأن تأخذني العزة بالاثم، قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين؛ وأنت أيها القائل فو الله ما الله أردت بها، ولكنك حاولت أن يقال: قام فقال فعوقب فصبر، وأهون بها ويلك لو هممت، وأهيب لها إذ عفوت، وإياكم معشر الناس مثلها، فإن الحكمة علينا نزلت، ومن عندنا فصلت، فردوا الأمر إلى أهله يوردوه موارده ويصدروه مصادره، ثم عاد في خطبته كأنما يقرأها من كفه: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
جرى بين أبي مسلم صاحب الدعوة وبين شهرام المروزي كلام، فسبه شهرام، فحلم عنه أبو مسلم وقال: لسان سبق ووهم أخطأ، والغضب غول الحلم، وأنا قسيمك في الذنب حين جرأتك بالحلم والاحتمال، فأشفق شهرام فاعتذر وأطنب، فقال أبو مسلم: قد صفحت عنك فليفرخ روعك، فقال شهرام: إن ذنبي يأبى أن يقار قلبي السكون، فقال أبو مسلم: إن العجب أن تسيء وأحسن، ثم تحسن وأسيء، فقال: الآن وثقت بعفوك.
قالت خالدة بنت هاشم بن عبد مناف لأخ لها، وقد سمعته يتجهم صديقاً له: أي أخي، لا تطلع من الكلام إلا ما قد رويت فيه قبل ذلك ومن أجبته بالحلم وداويته بالرفق فإن ذلك أشبه بك، فسمعها أبوها هاشم فقام إليها فاعتنقها وقبلها وقال: واهاً لك يا قبة الديباج، فلقبت بذلك.
وممن أوتي الحلم طبعاً لا تحلماً، ومنح كرم الأخلاق لا تكرماً المأمون، كان يقول: لقد حبب إلي العفو حتى أظن أني لا أثاب عليه. عفا عمن نازعه رداء الملك، كما عفا عمن نازعه درة الكأس، فعفوه عن إبراهيم ابن المهدي بعد أن بويع بالخلافة مشهور، وكذاك عفا عن الفضل بن الربيع وهو الذي جلب الحرب بينه وبين أخيه الأمين، وعفا عن الحسين بن الضحاك وقد أمعن في هجائه ممايلة لأخيه، وبالغ في الإشادة بتقبيح ذكره.
قال عمرو بن بانة: كنت عند صالح بن الرشيد، فقال لي: لست تطرح على جواري وغلماني من الغناء ما أستجيده، فبعثت إلى منزلي فجئته بدفاتر الغناء ليختار منها ما يرضيه، فأخذ دفتراً منها فتصفحه فمر به شعر للحسين ابن الضحاك يرثي الأمين ويهجو المأمون وهو: من الطويل
أطل جزعاً وابك الأمام محمدا ... بحزن وإن خفت الحسام المهندا
فلا تمت الأشياء بعد محمد ... ولا زال شمل الملك عنه مبددا
ولا فرح المأمون بالملك بعده ... ولا زال في الدنيا طريداً مشردا
فقال لي صالح: أنت تعلم أن المأمون يجيء إلي في كل ساعة، فإذا قرأ هذا ما تراه يكون فاعلاً؟ فدعا بسكين وجعل يحكه، وصعد المأمون من الدرجة، فرمى صالح بالدفتر، فقال المأمون: يا غلام الدفتر، فأتي به فنظر فيه ووقف على الحك وقال: إن قلت لكم ما كنتم فيه تصدقوني؟ قلنا: نعم. قال: ينبغي أن يكون أخي قال لك: ابعث بدفاترك ليتخير ما يطرحه على الجواري، فوقف على هذا الشعر فكره أن أراه فأمر بحكه، قلنا: كذا كان، قال: غنه يا عمرو، فقلت: يا أمير المؤمنين: الشعر للحسين بن الضحاك والغناء لسعيد بن جابر، فقال: وما يكون؟ غنه، فغنيته، فقال اردده، فرددته ثلاث مرات، فأمر لي بثلاثين ألف درهم وقال: حتى تعلم أنه لم يضرك عندي.
قال ابن أبي دواد: سمعت المأمون يقول لرجل: إنما هو عذر أو يمين، وقد وهبتهما لك، فلا تزال تسيء وأحسن، وتذنب وأعفو، حتى يكون العفو هو الذي يصلحك.
قال حمدون بن إسماعيل: ما كان في الخلفاء أحلم من الواثق ولا أصبر على أذى وخلاف، وكان يعجبه غناء أبي حشيشة الطنبوري، فوجد المسدود الطنبوري من ذلك، فكان يبلغه عنه ما يكره فيتجاوز، وكان المسدود قد هجاه ببيتين كانا معه في رقعته، وفي رقعة أخرى حاجة له يريد أن يرفعها إليه، فناوله رقعة الشعر وهو يرى أنها رقعة الحاجة، فقرأها الواثق فإذا فيها: من الهزج
من المسدود في الأنف ... إلى المسدود في العين
أنا طبل له شق ... فيا طبلاً بشقين
وكانت في عين الواثق نكتة، فلما قرأ الرقعة علم أنها فيه، فقال للمسدود: غلطت بين الرقعتين فاحذر أن يقع مثل هذا عليك، فما زاده على هذا القول شيئاً ولا تغير له عما كان عليه.
وكان الواثق يتشبه بالمأمون في أخلاقه وحلمه، ويسمى المأمون الصغير، وهو رباه دون أبيه وخرجه فتقيل أفعاله وكاد ولم يبلغ.
قال يحيى بن الربيع: رأيت قوماً يسألون يحيى بن خالد بن برمك حاجة فقال: ما يمكنني، فقالوا: نسألك بحق الله، قال: وحق الله لا يمكنني، قالوا: فنسألك بحق ماني، فتغير وجهه، وساءني ذلك وهممت والله بهم، فكفني عنهم وقال: لا تفعل، ولم يقل لهم شيئاً ولا رد عليهم جواباً، فحدثت بهذا الفضل بن الربيع فقال: قاتله الله ما أشد استدامته للنعم.
وقال الشعبي: أول إشارات العفو التثبت.
وقال أبو حازم: التأني في العقوبة طرف من العفو.
دخلت ابنة مروان بن محمد على عبد الله بن علي فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: لست به، قالت: السلام عليك أيها الأمير، قال: وعليك السلام، فقالت: ليسعنا عدلك، قال: إذن لا نبقي على الأرض منكم أحداً لأنكم حاربتم علي بن أبي طال ودفعتم حقه، وسممتم الحسن ونقضتم شرطه، وقتلتم الحسين وسيرتم رأسه، وقتلتم زيداً وصلبتم جسده، وقتلتم يحيى بن زيد ومثلتم به، ولعنتم علي بن أبي طالب على منابركم، وضربتم علي بن عبد الله ظلماً بسياطكم، وحبستم الامام في حبسكم، فعدلنا ألا نبقي منكم أحداً، قالت: فليسعنا عفوك، قال: أما هذا فنعم، وأمر برد أموالها عليها، ثم قال: من الطويل
سننتم علينا القتل، لا تنكرونه ... فذوقوا كما ذقنا على سالف الدهر
لما قال عبد الله بن طاهر قصيدته التي يفخر فيها بمآثر أبيه وقومه وقتلهم المخلوع، عارضه محمد بن يزيد الأموي الحصني، وهو من ولد مسلمة ابن عبد الملك، فأفرط في السب وتجاوز الحد في قبح الرد، وتوسط بين القوم وبين بني هاشم فأربى في التوسط والتعصب، فكان فيما قال: من المديد
يا ابن بيت النار موقدها ... ما لحاذيه سراويل
من حسين من أبوك ومن ... مصعب غالتهم غول
نسب عمرك مؤتشب ... وأبوات أراذيل
قاتل المخلوع مقتول ... ودم المقتول مطلول
وهي قصيدة طويلة. فلما ولي عبد الله مصر ورد إليه تدبير الشام، علم الحصني أنه لا يفلت منه إن هرب، ولا ينجو من يده حيث حل، فثبت في موضعه، وأحرز حرمه، وترك أمواله ودوابه وكل ما يملكه في موضعه، وفتح باب حصنه وجلس عليه، وتوقع الناس من عبد الله بن طاهر أن يوقع به. قال محمد بن الفضل الخراساني: فلما شارفنا بلده وكنا على أن نصبحه دعاني عبد الله في الليل فقال لي: بت عندي وليكن فرسك معداً عندك لا يرد. فلما كان في السحر أمر أصحابه وغلمانه ألا يرحلوا حتى تطلع الشمس، وركب في السحر وأنا وخمسة من خواص غلمانه معه، فسار حتى صبح الحصن، فرأى بابه مفتوحاً ورآه جالساً مسترسلاً، فقصده وسلم عليه ونزل عنده وقال له: ما أجلسك ها هنا وحملك على أن فتحت بابك ولم تتحصن من هذا الجيش المقبل، ولم تتنح عن عبد الله بن طاهر مع ما في نفسه عليك، ومع ما بلغه عنك؟ فقال له: إن ما قلت لم يذهب علي، ولكن تأملت أمري، وعلمت أني قد أخطأت خطيئة حملني عليها نزق الشباب وغرة الحداثة، وأني إن هربت منه لم أفته، فباعدت البنات والحرم، واستسلمت بنفسي وكل ما أملك، فإنا أهل بيت قد أسرع القتل فينا، ولي بمن مضى أسوة، فإني أثق بأن الرجل إذا قتلني وأخذ مالي شفى غيظه ولم يتجاوز ذلك إلى الحرم ولا له فيهن أرب، ولا يوجب جرمي إليه أكثر مما بذلته له؛ قال: فوالله ما اتقاه عبد الله إلا بدموعه تجري على لحيته ثم قال له: أتعرفني؟ قال: لا والله، قال: أنا عبد الله بن طاهر وقد أمن الله روعك، وحقن دمك، وصان حرمك، وحرس نعمتك، وعفا عن ذنبك، وما تعجلت إليك وحدي إلا لتأمن قبل هجوم الجيش، ولئلا يخالط عفوي عنك روعة تلحقك؛ فبكى الحصني وقام فقبل رأسه، وضمه عبد الله إليه وأدناه، ثم قال له: إما لا فلابد من عتاب يا أخي، جعلني الله فداك، قلت شعراً في قومي أفخر بهم لم أطعن فيه على حسبك، ولا ادعيت فضلاً عليك، وفخرت بقتل رجل هو وإن كان من قومك فهم القوم الذين ثأرك عندهم، وقد كان يسعك السكوت أو إن لم تسكت ألا تغرق وتسرف، فقال: أيها الأمير قد عفوت، فاجعله العفو الذي لا يخلطه تثريب، ولا يكدر صفوه تأنيب، قال: قد فعلت، فقم بنا ندخل إلى منزلك حتى نوجب عليك حقاً بالضيافة، فقام مسروراً فأدخلنا منزله فأتى بالطعام كأنه قد أعده، فأكلنا وجلسنا نشرب في مستشرف له، وأقبل الجيش فأمرني عبد الله أن أتلقاهم فأرحلهم، ولا ينزل منهم أحد إلا في المنزل، وهو على ثلاثة فراسخ، فنزلت فرحلتهم، وأقام عنده إلى العصر، ثم دعا بدواة فكتب له بتسويغه خراجه ثلاث سنين، وقال له: إن نشطت لنا فالحق بنا وإلا فأقم بمكانك، فقال: أنا أتجهز والحق بالأمير، ففعل ولحق بنا مصر فلم يزل مع عبد الله لا يفارقه حتى رحل إلى العراق، فودعه واقام ببلده.
كان عبد الله بن الزبير قد هجا آل الزبير، وأفرط في العصبية لآل مروان فمن قوله: من الطويل
ففي رجب أو غرة الشهر بعده ... تزوركم حمر المنايا وسودها
ثمانون ألفاً دين عثمان دينهم ... كتائب فيها جبرئيل يقودها
فمن عاش منكم عاش عبداً ومن يمت ... ففي النار سقياه هناك صديدها
فلما ولي مصعب العراق أدخل إليه عبد الله بن الزبير، فقال له: إيه يا ابن الزبير أنت القائل: إلى رجب السبعين أو ذلك قبله، وذلك الشعر، فقال: نعم أنا القائل ذلك، وإن الحقين ليأبى العذرة، ولو قدرت على جحده لجحدته، فاصنع ما أنت صانع، قال: أما إني لا أصنع إلا خيراً، أحسن قوم إليك فأحببتهم وواليتهم فمدحتهم، وأمر له بجائزة وكسوة ورده إلى منزله مكرماً، فكان ابن الزبير بعد ذلك يمدحه ويشيد بذكره.
قال أبو الفضل العباس بن أحمد بن ثوابة: قدم البحتري النيل على أحمد بن علي الاسكافي مادحاً له، فلم يثبه ثواباً يرضاه بعد أن طالت مدته عنده، فهجاه بقصيدته التي يقول فيها: من الخفيف
ما كسبنا من أحمد بن علي ... ومن النيل غير حمى النيل
وهجاه بقصيدة أخرى أولها: من الخفيف قصة النيل فاسمعوها عجابه فجمع إلى هجائه إياه هجاء لبني ثوابه، وبلغ ذلك أبي فبعث إليه بألف درهم وثياباً ودابة بسرجه ولجامه، فرده وقال: قد أسلفتكم إساءة لا يجوز معها قبول صلتكم، فكتب إليه أبي: أما الإساءة فمغفورة، وأما المعذرة فمشكورة، والحسنات يذهبن السيئات، وما يأسو جراحك مثل يدك، فقد رددت إليك ما رددته علي وأضعفته، فإن تلافيت ما فرط منك أثبنا وشكرنا، وإن لم تفعل احتملنا وصبرنا. فقبل ما بعث به وكتب إليه: كلامك والله أحسن من شعري، وقد أسلفتني ما أخجلني، وحملتني ما أثقلني، وسيأتيك ثنائي، ثم غدا عليه بقصيدة أولها: من الطويل
ضلال لها ماذا أرادت من الصد
وقال فيه بعد ذلك: من المنسرح
برق أضاء العقيق من ضرمه
وأيضاً: من الخفيف
أن دعاه داعي الصبا فأجابه
قال: ولم يزل أبي بعد ذلك يصله ويتابع بره لديه حتى افترقا.
غضب كعب الأحبار على غلامه فحذفه بالدواة فشجه، فقيل له: أنت في حلمك تغضب؟ قال: قد غضب خالق الحلم.
قال معاوية لابنه، وقد رآه ضرب غلاماً له: إياك يا بني والتشفي ممن لا يمتنع منك، فوالله لقد حالت القدرة بين أبيك وبين ذوي تراته، ولهذا قيل: القدرة تذهب الحفيظة.
وقال مالك بن أسماء: من الكامل
لما أتاني عن عيينة أنه ... عان عليه تظاهر الأقياد
تركت له نفسي الحفيظة إنه ... عند التمكن تذهب الأحقاد
قال الربيع: بلغ المنصور قتل عبد الله بن علي من قتل من بني أمية فقال: قاتله الله، ألا تركهم حتى يرغبوا إلينا كما رغبنا إليهم، ويروا من ملكنا ودولتنا مثل الذي رأينا من ملكهم ودولتهم، وكان القتل بعد أقبح من العفو وهو يشبه كلاماً لعبد الله بن الحسن قد تقدم ذكره.
قال معاوية: ما غضبي على من أملك وما غضبي على من لا أملك.
وأتي عمر بن عبد العزيز برجل كان واجداً عليه فأمر بضربه، ثم قال: لولا أني غاضب لضربتك، ثم خلى سبيله ولم يضربه.
سب رجل من قريش في أيام بني أمية بعض أولاد الحسن بن علي عليهما السلام فأغلظ له وهو ساكت، والناس يعجبون من صبره عليه، فلما أطال أقبل عليه الحسني متمثلاً قول ابن ميادة: من الطويل
أظنت وذاكم من سفاهة رأيها ... أن اهجوها كما هجتني محارب
قال رجل لعمر بن عبد العزيز: إن فلاناً يقع فيك، فقال: والله إني لأدع الانتصار وأنا أقدر عليه، وأدع الصغيرة مخافة الكبيرة، وإن التقي ملجم.
قال أنوشروان: وجدنا للعفو من اللذة ما لم نجده للعقوبة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: عفو الملوك بقاء للملك.
وفي بعض الكتب أن كثرة العفو زيادة في العمر، وأصله قوله تعالى: " وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " " الرعد: 17 " .
قال معاوية: إني لآنف أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي، وذنب لا يسعه عفوي، وحاجة لا يسعها جودي وهذه دعوى عالية الرتبة إن قاربت الفعل استحق صاحبها صفة الكمال.
قال عمر بن عبد العزيز: متى أشفي غيظي؟ أحين أقدر فيقال: ألا غفرت، أم حين أعجز فيقال: ألا صبرت؟
وقال إبراهيم بن أدهم: أنا منذ عشرين سنة في طلب أخ إذا غضب لم يقل إلا الحق فما أجده.
أغلظ رجل لعمر بن عبد العزيز فأطرق طويلاً ثم قال: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك ما تناله مني غداً؟؟! قال الحسن: المؤمن لا يجهل، وان جهل عليه حلم؛ لا يظلم وإن ظلم غفر؛ لا يبخل وإن بخل عليه صبر وقال أكثم بن صيفي: الصبر على جرع الحلم أعذب من جني ثمر الندم.
قال الشعبي: لا يكون الرجل سيداً حتى يعمل ببيتي الهذلي: من الطويل
وإني للباس على المقت والقلى ... بني العم منهم كاشح وحسود
أذب وأرمي بالحصى من ورائهم ... وأبدأ بالحسنى لهم وأعود
الأحنف: من الوافر
وذي ضغن أمت القول عنه ... بحلم فاستمر على القتال
ومن يحلم وليس له سفيه ... يلاق المعضلات من الرجال
معد بن حسين بن خيارة الفارسي المغربي: من الطويل
إذا الحر لم يحمل على الصبر نفسه ... تضعضع وامتدت إليه يد العبد
وقف أحمد بن عروة بين يدي المأمون لما عزله عن الأهواز، فقال له: خربت البلاد، وقتلت العباد، والله لأفعلن بك ولأفعلن، قال: يا أمير المؤمنين ما تحب أن يفعل الله بك إذا وقفت بين يديه وقد قرعك بذنوبك؟ قال: العفو والصفح، قال: يا أمير المؤمنين، فافعل بعبدك ما تحب أن يفعل بك مولاك، قال: قد فعلت، ارجع فوال مستعطف خير من وال مستأنف.
قال المأمون للفضل بن الربيع: يا فضل، أكان حقي عليك وحق آبائي ونعمهم عند أبيك وعندك أن تثلبني وتشتمني وتحرض على دمي؟ أتحب أن أفعل بك مع القدرة ما أردت أن تفعله بي مع العجز؟ فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، إن عذري يحقدك إذا كان واضحاً جميلاً، فكيف إذا غيبته العيوب وقبحته الذنوب؟ فلا يضق عني من عفوك ما وسع غيري من حلمك، فانت والله كما قال الشاعر: من الطويل
صفوح عن الاجرام حتى كأنه ... من العفو لم يعرف من الناسمجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
قال يزيد بن مزيد: أرسل إلي الرشيد ليلاً يدعوني، فأوجست منه خيفة فقال: أنت القائل: أنا ركن الدولة والثائر لها، والضارب أعناق بغاتها، لا أم لك، أي ركن لك، وأي ثائر أنت؟ وهل كان منك فيها إلا نفحة أرنب رعبت قطاة جثمت بمفحصها؟ قلت: يا أمير المؤمنين، ما قلت هذا إنما قلت: أنا عبد الدولة والفائز بها؛ فأطرق وجعل ينحل غضبه عن وجهه، ثم ضحك، فقلت: أسر من هذا قولي: من البسيط
خلافة الله في هارون ثابتة ... وفي بنيه إلى أن ينفخ الصور
إرث النبي لكم من دون غيركم ... حق من الله في القرآن مسطور
فقال: يا فضل أعطه مائتي ألف درهم قبل أن يصبح.
مدح شاعر زبيدة فقال: من الكامل المجزوء
أزبيدة ابنة جعفر ... طوبى لزائرك المثاب
تعطين من رجليك ما ... تعطي الأكف من الرغاب
فتبادر العبيد ليوقعوا به، فقالت زبيدة: كفوا عنه فلم يرد إلا خيرا، ومن أراد خيراً فاخطأ خير ممن أراد شراً فأصاب؛ سمع الناس يقولون وجهك أحسن من وجه غيرك، وشمالك أندى من يمنى سواك، وقدر أن هذا مثل ذاك، أعطوه ما أمل، وعرفوه ما جهل.
تقلد فرج الرخجي الأهواز، واتصلت السعايات به، وتظلمت رعيته منه فصرفه الرشيد بمحمد بن أبان الأنباري؛ قال مطير بن سعيد كاتب فرج: فأحضره الرشيد وحضرنا معه، ولسنا نشك في إيقاعه به وإزالة نعمته، فوقفنا ننتظرره يخرج على حال نكرهها، إذ خرج وعليه الخلع، فلما خلا سألته عن خبره فقال لي: دخلت إليه ووجهه في الحائط وظهره إلي، فلما أحس بي شتمني أقبح شتم، وتوعدني أشد توعد، ثم قال لي: يا ابن الفاعلة رفعتك فوق قدرك، وائتمنتك فخنتني، وسرقت مالي، وفعلت وصنعت، لأفعلن ولأصنعن، فلما سكن قلت له: القول قول سيدي، أما ما قال في إنعامه علي فهو صحيح وأكثر منه، وحلفت له بأيمان أكدتها لقد نصحت وما سرقت، ووفرت وما خنت، واستقصيت في طلب حقوقه من غير ظلم، ولكني كنت إذا حضرت أوقات الغلات جمعت التجار وناديت عليها، فإذا تقررت العطايا أنفذت البيع، وجعلت لي مع التجار حصة، فربما ربحت وربما وضعت، إلى أن جمعت من ذلك وغيره في عدة سنين عشرة آلاف ألف درهم، فاتخذت أزجاً كبيراً فأودعته المال وسددته عليه، فخذه وحول وجهك إلي، وكررت القول والحلف على صدقي، فقال لي: بارك الله لك في مالك، فارجع إلى عملك.
قال الجاحظ: ليس نفس تصبر على مضض الحقد ومطاولة الأيام صبر الملوك، أشهد لكنت من الرشيد وهو متعلق بأستار الكعبة بحيث يمس ثوبي ويدي يده، وهو يقول في مناجاته: اللهم إني أستخيرك في قتل جعفر، ثم قتله بعد ذلك بست سنين.
قال ابن عباس لمعاوية: هل لك في مناظرتي فيما زعمت؟ قال: وما تصنع بذلك؟ فأشغب بك وتشغب بي، فيبقى في قلبك ما لا ينفعك، ويبقى في قلبي ما يضرك.
كان ابن عون إذا وجد على إنسان وبلغ منه قال له: بارك الله فيك، وكانت له ناقة كريمة عليه، فضربها الغلام فأندر عينها فقالوا: إن غضب ابن عون فهو يغضب اليوم، فقال للغلام: غفر الله لك.
ويقال: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه، وما علمك بحلمه إذا لم يغضب؟ وما علمك بأمانته إذا لم يطمع؟
بينا أبو العباس السفاح يحدث أبا بكر الهذلي، فعصفت الريح فأذرت طستاً من سطح إلى المجلس، فارتاع من حضر ولم يتحول الهذلي ولم تزل عينه مطابقة لعين السفاح، فقال: ما أعجب شأنك يا هذلي!! فقال: إن الله تعالى يقول: " وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " " الأحزاب: 4 " وإنما لي قلب واحد، فلما غمره السرور بفائدة أمير المؤمنين لم يكن فيه لحادث مجال، فلو انقلبت الخضراء على البيضاء ما أحسست بها ولا وجمت لها، فقال السفاح: لئن بقيت لأرفعن منك ضبعاً لا تطيف به السباع ولا تنحط عليه العقبان.
وقال معاوية، يغلب الملك حتى يركب بالحلم عند سورته والاصغاء إلى حديثه.
ومن الشرف والرياسة حفظ الجوار وحمي الذمار: وكانت العرب ترى ذلك ديناً تدعو إليه، وحقاً واجباً تحافظ عليه.
كان أبو سفيان بن حرب إذا نزل به جار قال: يا هذا إنك اخترتني جاراً، واخترت داري داراً، فجناية يدك علي دونك، وإن جنت عليك يد فاحتكم حكم الصبي على أهله.
وذكر أبو عبيدة أن رجلاً من السواقط من بني أبي بكر بن كلاب - والسواقط من قدم اليمامة ووردها من غير أهلها - قدم اليمامة ومعه أخ له، فكتب له عمير بن سلمي أنه جار له، وكان أخو هذا الكلابي جميلاً، فقال له قرين أخو عمير: لا تردن أبياتنا هذه بأخيك هذا؛ فرآه بعد بين أبياتهم فقتله، قال أبو عبيدة: وأما المولى فذكر أن قريناً أخا عمير كان يتحدث إلى امرأة أخي الكلابي، فغير ذلك عليه زوجها فخافه قرين فقتله، وكان عمير غائباً، فأتى الكلابي قبر سلمي أبي عمير وقرين فاستجار به وقال: من الكامل
وإذا استجرت من اليمامة فاستجر ... زيد بن يربوع وآل مجمع
وأتيت سلمياً فعذت بقبره ... وأخو الزمانة عائذ بالأمنع
أقرين إنك لو رأيت فوارسي ... بعمايتين إلى جوانب ضلفع
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مغل الإصبع
الإصبع موضعها ها هنا موضع اليد، يقال: لفلان عليك يد، وله عليك إصبع، والمراد النعمة، والعرب تقول: هو مغل الإصبع من أغل إذا خان وهو الذي يخد بإصبعه حتى يستسيل الودك.
فلجأ قرين إلى قتادة بن مسلمة بن عبيد بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة، فحمل قتادة إلى الكلابي ديات مضاعفة، وفعلت وجوه بني حنيفة مثل ذلك، فأبى الكلابي أن يقبل؛ فلما قدم عمير قالت له أمه، وهي أم قرين: لا تقتل أخاك، وسق إلى الكلابي جميع ماله، فأبى الكلابي أن يقبل وقد لجأ قرين إلى خاله السمين بن عبد الله، فلم يمنع عميراً منه، فأخذه عمير فمضى به حتى قطع الوادي، وارتحل عن جواري فلا خير لك فيه، فقتله الكلابي، ففي ذلك يقول عمير: من الطويل
قتلنا أخانا بالوفاء لجارنا ... وكان أبونا قد تجير مقابره
وقال أم عمير: من الوافر
تعد معاذراً لا عذر فيها ... ومن يقتل أخاه فقد ألاما
جاور عروة بن مرة أخو أبي خراش الهذلي ثمالة من الأزد، فجلس يوماً بفناء بيته آمناً لا يخاف شيئاً، فاستقبله رجل منهم بسهم فقصم صلبه، ففي ذلك يقول أبو خراش: من الكامل
لعن الإله وجوه قوم رضع ... غدروا بعروة من بني بلال
وأسر خراش بن أبي خراش، أسرته ثمالة، فكان فيهم مقيماً، فدعا آسره رجلاً منهم يوماً للمنادمة، فرأى ابن ابي خراش موثقاً في القد، فأمهل حتى قام الآسر لحاجة، فقال المدعو لابن أبي خراش من أنت؟ فقال: ابن أبي خراش فقال: كيف دليلاك؟ فقال: قطاة، قال: فقم فاجلس ورائي، وألقي عليه رداءه، ورجع صاحبه، فلما رأى ذلك أصلت له بالسيف وقال له: أسيري، فنثل المجير كنانته وقال: والله لأرمينك إن رميته، فإني قد أجرته، فخلى عنه؛ فنجا إلى أبيه فقال له: من أجارك؟ قال: والله ما أعرفه، فقال أبو خراش: من الطويل
حمدت الهي بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشر أهون من بعض
يقول فيها:
ولم أدر من ألقي عليه رداءه ... سوى أنه قد سل عن ماجد محض
وكان الفرزدق شريفاً، وكان يجير من عاذ بقبر أبيه غالب بن صعصعة، فممن استجار بقبره فأجاره امرأة من بني جعفر بن كلاب خافت لما هجا الفرزدق بني جعفر أن يسميها ويسبها، فعاذت بقبر أبيه، فلم يذكر لها اسماً ولا نسباً، ولكن قال في كلمته التي يهجو فيها بني جعفر بن كلاب: من الطويل
عجوز تصلي الخمس عاذت بغالب ... فلا والذي عاذت به لا أضيرها
ومن ذلك أن الحجاج لما ولى تميم بن زيد القيني السند، دخل البصرة فجعل من أهلها من شاء، فجاءت عجوز إلى الفرزدق فقالت: إني استجرت بقبر أبيك، وأتت منه بحصيات، فقال: ما شأنك؟ قالت: إن تميم بن زيد خرج بابن لي معه، ولا قرة لعيني ولا كاسب علي غيره، فقال لها: وما اسم ابنك؟ قالت: حبيش، فكتب إلى تميم مع بعض من شخص: من الطويل
تميم بن زيد لا تكونن حاجتي ... بظهر ولا يعيا علي جوابها
وهب لي حبيشاً واحتسب منه منة ... لعبرة أم ما يسوغ شرابها
أتتني فعاذت يا تميم بغالب ... وبالحفرة السافي عليها ترابها
وقد علم الأقوام أنك ماجد ... وليث إذا ما الحرب شب شهابها
فلما ورد الكتاب على تميم تشكك في الاسم فقال: أحبيش أم خنيس؟ فقال: انظروا من له مثل هذا الاسم في عسكرنا، فأصيب ستة ما بين حبيش وخنيس، فوجه بهم إليه.
؟ومنهم مكاتب لبني منقر، ظلع بمكاتبته فأتى قبر غالب فاستجار به، وأخذ منه حصيات فشدهن في عمامته، ثم أتى الفرزدق فأخبره خبره وقال: إني قد قلت شعراً، فقال: هاته، فقال: من الطويل
بقبر ابن ليلى غالب عذت بعدها ... خشيت الردى أو أن أرد على قسر
بقبر امرىء تقري المجير عظامه ... ولم يك إلا غالباً ميت يقري
سفقال لي استقدم أمامك إنما ... فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر
فقال له الفرزدق ما اسمك؟ قال: لهذم، قال: يا لهذم، حكمك مشتطاً، قال: ناقة كوماء سوداء الحدقة، قال: يا جارية اطرحي إلينا حبلاً، ثم قال: يا لهذم اخرج بنا إلى المربد فألقه في عنق ما شئت، فتخير العبد على عينه، ثم رمى بالحبل في عنق ناقة، وجاء صاحبها فقال له الفرزدق: اغد علي في ثمنها، قال: فجعل لهذم يقودها والفرزدق يسوقها حتى إذا نفذ بها من البيوت إلى الصحراء صاح به الفرزدق: يا لهذم قبح الله أخسرنا.
؟كان أحمد بن أبي دواد من المتقدمين في علو الهمة وحفظ الجوار، قال أبو العيناء: كان سبب اتصالي بأحمد بن أبي دواد أن قوماً من أهل البصرة عادوني وادعوا علي دعاوي كثيرة، منها أنني رافضي، فاحتجت إلى أن خرجت عن البصرة إلى سر من رأى، وألقيت نفسي على ابن أبي دواد وكنت نازلاً في داره أجالسه في كل يوم، وبلغ القوم خبري فشخصوا نحوي إلى سر من رأى، فقلت له: إن القوم قد قدموا من البصرة يداً علي، فقال: " يد الله فوق أيديهم " " الفتح: 10 " فقلت: إن لهم مكراً، فقال: " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " " الأنفال: 30 " فقلت هم كثيرون، فقال: " وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " " البقرة: 249 " فقلت: لله درك أيها الأمير فأنت والله كما قال الصموت الكلابي: من الكامل
لله درك أي جنة خائف ... ومتاع دنيا أنت للحدثان
متخمط يطأ الرجال غلبة ... وطء العتيق دوارج القردان
ويكبهم حتى كأن رؤوسهم ... مأمومة تنحط للغربان
ويفرج الباب الشديد رتاجه ... حتى يصير كأنه بابان
فقال لابنه الوليد: اكتب هذه الأبيات، فكتبها بين يديه.
قال الصولي: حفظي عن أبي العيناء الصموت الكلابي على أنه رجل، وقال لي وكيع: حفظي أنها الصموت الكلابية، على أنها امرأة.
والعرب تضرب المثل بجار أبي دواد، وهو أبو دواد الإيادي، حل جاراً للحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان فأعطاه عطايا كثيرة، ثم مات ابن أبي دواد وهو في جواره فوداه، فمدحه أبو دواد، فحلف الحارث أنه لا يموت له ولد إلا وداه، ولا يذهب له مال إلا أخلفه، فذلك قول قيس ابن زهير: من الوافر
أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى جار كجار أبي دواد
تزوج مروان بن الحكم أم خالد بن يزيد بن معاوية، فقال مروان لخالد يوماً، وأراد أن يصغر به: يا ابن الرطبة، فقال له خالد: الأمير مخبر وأنت أعلم بهذا، ثم أتى أمه فأخبرها وقال: أنت صنعت بي هذا، فقالت: دعه فإنه لا يقولها لك بعد اليوم، فدخل عليها مروان فقال لها: هل أخبرك خالد بشيء، فقالت: يا أمير المؤمنين خالد أشد تعظيماً لك من أن يذكر لي شيئاً جرى بينك وبينه. فلما أمسى وضعت مرفقة على وجهه، وقعدت هي وجواريها عليها حتى مات، فأراد عبد الملك قتلها، وبلغها ذلك فقالت: أما إنه أشد عليك أن يعلم الناس أن أباك قتلته امرأة، فكف عنها. فهذه امرأة حميت أن سبها ذو أمرها حتى انتصرت وكشفت العار عن ولدها.
قال العتبي: حمل زياد من البصرة مالاً إلى معاوية، ففزعت بنو تميم والأزد إلى مالك بن مسمع، وكانت ربيعة مجتمعة عليه كاجتماعها على كليب في حياته، واستغاثوا به وقالوا: يحمل المال ونبقى بلا عطاء، فركب مالك في ربيعة، واجتمع إليه الناس، فلحق بالمال فرده وضرب الفسطاط بالمربد، وأنفق المال في الناس حتى وفاهم عطاءهم وقال: إن شئتم الآن أن تحملوا فاحملوا، فما راجعه زياد في ذلك بحرف.
ولما ولي حمزة بن عبد الله بن الزبير البصرة جمع مالاً ليحمله إلى أبيه، فاجتمع الناس إلى مالك واستغاثوا به، ففعل مثل فعله بزياد، فقال العديل بن الفرخ العجلي في ذلك: من الطويل
إذا ما خشينا من أمير ظلامة ... دعونا أبا غسان يوماً فعسكرا
ترى الناس أفواجاً إلى باب داره ... إذا شاء جاءوا دارعين وحسرا
ومن أنواعه ما فعله هاشم بن عبد مناف في اعتفاد قريش واعتفادها أن أهل البيت منهم كانوا إذا سافت أموالهم خرجوا إلى براز من الأرض، وضربوا على أنفسهم الأخبية، ثم تتاموا فيها حتى يموتوا من قبفل أن يعلم بخلتهم، حتى نشأ هاشم وعظم قدره في قومه فقال: يا معشر قريش، إن العز مع كثرة العدد، وقد أصبحتم أكثر العرب أموالاً وأعزهم نفراً، وإن هذا الاعتفاد قد أتى على كثير منكم، وقد رأيت رأياً؛ قالوا: رأيك رشد فمرنا نأتمر؛ قال رأيت أن أخلط فقراءكم بأغنيائكم، فأعمد إلى رجل غني فأضم إليه فقيراً عياله بعدد عياله، فيكون مؤازره في الرحلتين: رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن، فما كان في مال الغني من فضل عاش الفقير وعياله في ظله، وكان ذلك قطعاً للاعتفاد، قالوا: فإنك نعم ما رأيت. فألف بين الناس، فلما كان من أمر الفيل وأصحابه ما كان، وأنزل الله بهم ما أنزل، كان ذلك مفتاح النبوة وأول عز قريش حتى هابهم الناس كلهم وقالوا: أهل الله والله يمنعهم، وكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك العام، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله، وكان فيما أنزل عليه وهو يعرف قومه ما صنع بهم وما نصرهم من الفيل وأهله: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " " الفيل: 1 " إلى آخر السورة. ثم قال: ولم فعلت ذلك يا محمد بقومك، وهم يوم فعلت ذلك بهم أهل عبادة أوثان لا يعبدونني، ولا يحلون لي ولا يحرمون، فنصرتهم كما أنصر أوليائي وأهل طاعتي، ثم أخبره لم فعل ذلك، فقال: " لإيلاف قريش إيلافهم " " قريش: 1 " إلى آخر السورة أي لتراحمهم وتواصلهم، وإن كانوا على شرك، وكان الذي أمنتهم منه من الخوف خوف الفيل وأصحابه، وإطعامه إياهم من الجوع، من جوع الاعتفاد.
مروان بن أبي حفصة: من الطويل
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
نهشل: من الطويل
وجار منعناه من الضيم والعدى ... وجيران أقوام بمدرجة النمل
ابن نباتة: من البسيط
ولو يكون سواد الشعر في ذممي ... ما كان للشيب سلطان على القمم
قال علي بن محمد المدائني: كان رجل من الشيعة يسعى في فساد الدولة، فجعل المهدي لمن دل عليه أو أتى به مائة ألف درهم، فأخذه رجل ببغداذ، فأيس من نفسه، فمر به معن بن زائدة فقال له: يا أبا الوليد أجرني أجارك الله، فقال معن للرجل: مالك وماله؟ قال هذا طلبة أمير المؤمنين، قال: خل سبيله، قال:لا أفعل، فأمر معن غلمانه فأخذوه، وأردفه بعضهم، ومضى الرجل إلى سلام الأبرش فأخبره بالقصة، وقال له: إن معناً قال له إن طلبه أمير المؤمنين فأعلمه أنه عندي، فلم يضع معن ثيابه حتى أتاه رسول المهدي، فركب وقال لغلمانه: اذهبوا، ولأهل بيته ومواليه: كونوا دونه ولا يصل أحد إلى هذا الرجل ومنكم عين تطرف؛ فلما دخل على المهدي قال: يا معن أتجير علي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين قتلت في طاعتكم في يوم واحد خمسة آلاف رجل، هذا إلى أيام كثيرة قد تقدمت فيها طاعتي وسبق فيها بلائي، أفما تروني أهلاً أن تجيروا لي رجلاً واحداً استجار بي؟ فاستحيا المهدي وأطرق طويلاً ثم رفع رأسه وقال: قد أجرنا يا أبا الوليد من أجرت، قال: إن رأى أمير المؤمنين أن يحبو جاري فيكون قد أحياه وأغناه، قال: وقد أمرنا له بخمسين ألف درهم، قال: يا أمير المؤمنين ينبغي أن تكون صلات الخلفاء على قدر جنايات الرعية، وإن ذنب الرجل عظيم، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجزل صلته، قال: قد أمرنا له بمائة ألف درهم، فقال: أن رأى أمير المؤمنين أن يهنئه بتعجيلها، قال: تحمل بين يديه، فرجع إلى منزله فدعا بالرجل ووعظه وقال: لا تتعرض لمساخط الخلفاء، ودفع إليه المال.
كان جعفر بن أبي طالب يقول لأبيه: يا أبه إني لأستحيي أن أطعم طعاماً وجيراني لا يقدرون على مثله، فكان أبوه يقول له: إني لأرجو أن يكون فيك خلف من عبد المطلب.
نزل الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بقوم فقروه، فأغير على بعضهم، فركب في نفير معه فاستنقذهم وقال: من البسيط
ناديتهم حين صموا عن مناشدتي ... صم القنا زعزعت أطرافه الخرق
وكم ترى يوم ذاكم من مولولة ... إنسان مقلتها في دمعها غرق
استنصر سبيع بن الخطيم التيمي زيد الفوارس الضبي فنصره وقال: من البسيط
نبهت زيداً ولم أفزع إلى وكل ... رث السلاح ولا في الحي مغمور
سالت عليه شعاب الحي حين دعا ... أنصاره بوجوه كالدنانير
سقط الجراد قريباً من بيت أبي حنبل جارية بن مر، فجاء الحي وقالوا: نريد جارك فقال: أما إذ جعلتموه جاري فو الله لا تصلون إليه، فأجاره حتى طار من عنده فقيل له: مجير الجراد، وفي ذلك يقول هلال بن معاوية الثعلي: من المتقارب
وبالجبلين لنا معقل ... صعدنا إليه بصم الصعاد
ملكناه في أوليات الزمان ... من قبل نوح ومن قبل عاد
ومنا ابن مر أبو حنبل ... أجار من الناس رجل الجراد
وزيد لنا ولنا حاتم ... غياث الورى في السنين الشداد
كان يقال: من تطاول على جاره، حرم بركة داره.
وكان عبيد الله بن أبي بكرة ينفق على من حول داره على أهل أربعين داراً من كل جهة من جهاتها الأربع، وكان يبعث إليهم بالأضاحي والكسوة، ويقوم لمن تزوج منهم بما يصلحه، ويعتق في كل عيد مائة رقبة سوى ما يعتق في سائر السنة.
قال الحسن: ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى.
وجاءته امرأة محتاجة وقالت: أنا جارتك، قال: كم بيني وبينك؟ قالت: سبع أدؤر، فنظر الحسن فإذا تحت فراشه سبعة دراهم، فأعطاها إياها وقال: كدنا نهلك.
كان كعب بن مامة إذا جاوره رجل قام بما يصلحه وأهله، وحماه ممن يقصده، وإن هلك له شيء أخلفه، وإن مات وداه، فجاوره أبو دواد الإيادي، فزاده على عادته. واحتذى أبو دواد فعله حتى قال فيه قيس بن زهير: من الوافر
أطوف ما أطوف ثم آوي ... إلى جار كجار أبي دواد
وصار مثلاً في حسن الجوار وله خبر قد ذكر من قبل الرضي أبو الحسن الموسوي: من الطويل
وأبيض من عليا معد كأنما ... تلاقي على عرنينه القمران
إذا رمت طعناً بالقريض حميته ... وإن رام طعناً بالرماح حماني
وقال أيضاً: من المنسرح
لو أمطرته السماء أنجمها ... عزاً لما قال للسماء قد
لا يسأل الضيف عن منازله ... ومنزل البدر غير مفتقد
نوادر من هذا الباب كان عقيل بن علفة من الغيرة والأنفة على ما ليس عليه أحد، فخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته على أحد بنيه، وكانت لعقيل إليه حاجات، فقال له: إما إذ كنت فاعلاً فجنبني هجناءك.
وخطب إليه ابنته إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن المغيرة، وهو خال هشام بن عبد الملك ووالي المدينة، وكان أبيض شديد البياض، فرده عقيل وقال: من الوافر
رددت صحيفة القرشي لما ... أبت أعراقه إرلا احمرارا
قدم أعرابي رجلاً إلى القاضي واستعدى عليه، وتقدم شاهدان فقالا: نشهد أن قد ظلم الأعرابي، فقال الأعرابي: كذبا ما ظلمني ولكنه لوى حقي، كأنه أنف أن يكون مظلوماً.
ومثل هذا أن أعرابياً من بني سليم قيل له: أيما أحب إليك: أن تلقى الله ظالماً أو مظلوماً؟ فقال: بل ظالماً، قالوا: سبحان الله أتحب الظلم؟ قال: فما عندي إذا أتيته مظلوماً يقول لي: خلقتك مثل البعير الصمحمح ثم أتيتني تعصر عينيك وتشتكي؟ ! قيل لأعرابي اشتد به الوجع: لو تبت؟ فقال: لست ممن يعطي على الضيم، إن عوفيت تبت.
قال أعرابي لرفقيه: أترى هذه الأعاجم تنكح نساءنا في الجنة؟ قال له: نعم أرى ذلك بأعمالهم الصالحة، فقال: توطأ إذن والله رقابنا قبل ذلك.
نزل عطار يهودي بعض أحياء العرب ومات، فأتوا شيخاً لهم لم يكن يقطع في الحي أمر دونه، فأعلموه خبر اليهودي، فجاء فغسله وكفنه وتقدم وأقام الناس خلفه وقال: اللهم إن هذا اليهودي جار وله ذمام، فأمهلنا حتى نقضي ذمامه، فإذا صار في لحده فشأنك والعلج.
كان خالد بن صفوان أحد من إذا عرض له القول قال، فيقال إن سليمان بن علي سأله عن ابنيه جعفر ومحمد، فقال له: كيف إحمادك جوارهما يا أبا صفوان؟ فقال: من الطويل
أبو مالك جار لها وابن برثن ... فيا لك جاري ذلة وصغار
والشعر ليزيد بن مفرغ الحميري، فأعرض عنه سليمان، وكان سليمان من أجمل الناس وأكرمهم، وهو في الوقت الذي أعرض فيه عنه والي البصرة وعم الخليفة المنصور.
خرج زياد الأعجم إلى المهلب ومدحه وهو بخراسان، فأمر له بجائزة، وأقام عنده أياماً، فقال: فإنه لعشية يشرب مع حبيب بن المهلب في دار فيها دلبة وفيها حمامة، فسجعت الحمامة فقال زياد: من الوافر
تغني أنت في ذممي وعهدي ... وذمة والدي ألا تضاري
وبيتك أصلحيه ولا تخافي ... على صفر مزغبة صغار
فإنك كلما غنيت صوتاً ... ذكرت أحبتي وذكرت داري
فاما يقتلوك طلبت ثأراً ... له نبأ لأنك في جواري
فقال حبيب: يا غلام هلم القوس، فأتي به، فنزع لها بسهم فقتلها، فوثب زياد فدخل على المهلب، فحدثه الحديث وأنشده الشعر، فقال المهلب: علي بأبي بسطام فأتي بحبيب، فقال: أعط أبا أمامة دية جاره ألف دينار، فقال: أطال الله بقاء الأمير إنما كنت ألعب، فقال أعطه كما آمرك، فأعطاه، فأنشأ زياد يقول: من الطويل
فلله عينا من رأى كقضية ... قضى لي بها قرم العراق المهلب
قضى ألف دينار لجار أجرته ... من الطير حضان على السقب ينعب
رماها حبيب بن المهلب رمية ... فأثبتها بالسهم والشمس تغرب
فألزمه عقل القتيل ابن حرة ... وقال حبيب إنما كنت ألعب
فقال زياد لا يروع جاره ... وجارة جاري مثل جاري وأقرب
قال: فإنه لبعد هذا يشرب مع حبيب، وفي قلب حبيب عليه الألف، إذ عربد عليه فشق قباء ديباج عليه فقام وقال: من الطويل
لعمرك ما الديباج خرقت وحده ... ولكنما خرقت جلد المهلب
فبعث المهلب إلى حبيب فأحضره وقال: صدق زياد ما خرقت إلا جلدي، تبعث علي هذا يهجوني؟! ثم أحضره وتسلل سخيمته وأمر له بمال وصرفه.
قيل لأعرابي ما يمنعك أن تمنع جارتك فإنه يتحدث إليها فتيان الحي، قال: وهي طائعة أو كارهة؟ قالوا: طائعة، قال: إنما أمنع جاري مما يكره.
قدم الحكم بن عبدل الأسدي على ابن هبيرة واسطاً، فأقبل حتى وقف بين يديه ثم قال: من الطويل
اتيتك في أمر من آمر عشيرتي ... وأعيا الأمور المفظعات جسيمها
فإن قلت لي في حاجة أنا فاعل ... فقد ثلجت نفسي وولت همومها
فقال ابن هبيرة: أنا فاعل إن اقتصدت، فما حاجتك؟ قال: غرم لزمنا في حمالة، قال: وكم هي؟ قال: أربعة آلاف، قال: نحن مناصفكوها، قال: أصلح الله الأمير، أتخاف علي التخمة إن أتممتها؟ قال: أكره أن أعود الناس هذه العادة، قال: فأعطني جميعها سراً وامنعني جميعها ظاهراً حتى تعود الناس المنع، وإلا فالضرر عليك واقع إن عودتهم نصف ما يطلبون، فضحك ابن هبيرة وقال: ما عندنا غير ما بذلنا لك، فجثا بين يديه وقال: امرأته طالق لا أخذت أقل من أربعة آلاف أو أنصرف وأنا غضبان، قال: أعطوه إياها قبحه الله فإنه ما علمت حلاف مهين، فأخذها وانصرف.
قال الأصمعي: دخلت خضراء روح فإذا أنا برجل من ولده على فاحشة يؤتى، فقلت: قبحك الله، هذا موضع كان أبوك يضرب فيه الأعناق ويعطي فيه اللهى، وأنت تفعل فيه ما أرى؟! فالتفت إلي من غير أن يزول عنها وقال: الشعر لمعن بن أوس المزني من الوافر
ورثنا المجد عن آباء صدق ... أسأنا في ديارهم الصنيعا
إذا الحسب الرفيع تواكلته ... بناة السوء أوشك أن يضيعا
حضر يوماً بشر بن هارون وجماعة من الكتاب في دار أبي محمد المهلبي الوزير، وكان المهلبي بحيث يراهم ويسمع كلامهم، وهم لا يشاهدونه، فأنشأ أحدهم يقول: من المتقارب
سبال الوزير سبال كبير
فقال الآخر:
وعقل الوزير فعقل صغير
فقال بشر بن هارون:
زيادة هذا بنقصان ذا ... كما طال ليل النهار القصير
فخرج إليهم المهلبي وشاتمهم وجلس معهم ومازحهم وأجاز كل واحد منهم.
نظر أبو الحارث جمين إلى برذون يستقى عليه الماء فقال:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه
لو هملج هذا البرذون لم يجعل للرواية، والشعر لمعاوية بن فروة المنقري، وأوله: من الطويل
وإن خفت من أمر هواناً فوله ... سواك وعن دار الأذى فتحول
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل
ومن الحمية المنكرة ما فعله عبد العزيز بن أبي دلف: كان له جارية يرى الدنيا بعينها فضرب عنقها وقال: خفت أن أموت من حبها فتنام هي بعدي تحت غيري.
وقد ذكر أن عضد الدولة قتل جارية أحبها لأنها ألهته عن النظر في أمور المملكة، وهذا من السياسة المذمومة.
عير شريف النسب سقراط بسقوط نسبه، فقال: نسبي عار علي، وأنت عار على نسبك.
وقال عبد الملك لروح بن زنباع: أي رجل أنت لولا أنك ممن أنت منه!! قال يا أمير المؤمنين، ما يسرني أنني ممن أنت منه، قال: كيف؟ قال: لأني لو كنت ممن أنت منه لغمرتني أنت ونظراؤك، وأنا اليوم قد سدت قومي غير مدافع، فأعجب بقوله.
شاعر يذم صامتاً لغير حلم ولا سيادة:
يا صنماً في الصمت لا في الحسن
ولابن حجاج في معناه: من السريع
يا صنماً يعبده شعري ... بلا ثواب وبلا أجر
انطق تنفس قبل أن يحسبوا ... أنك من جص وآجر
قال أعرابي: إذا لم يكن لك في الخير اسم فارفع لك في الشر علماً.
قال رجل لسيد: إن سودك القوم لجهلهم فسيد الجاهلين غير شريف، وإن سودوك للفقر إليك فأنت كما قال القائل: من الكامل
خلت البلاد فسدت غير مسود ... ومن العناء تفردي بالسؤدد
شتم مجنون رجلاً فقال: أتشتمني وأنا سيد قومي؟ فقال: من الطويل
وإن بقوم سودوك لفاقة ... إلى سيد لو يظفرون بسيد
نادرة في رياسة العلم: قال حماد بن سلمة: مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار عليه مخلاته لا شعير فيها.
قال حفص بن غياث: خرج إلينا الأعمش يوماً فقال لنا: تدرون ما قالت الأذن؟ قلنا: وما قالت؟ قال: قالت لولا أني أخاف أن أقمع بالجواب لطلت كما طال اللسان قال حفص: فكم من كلمة غاظني صاحبها منعني جوابها قول الأعمش.
قال الجاحظ: مررت بحجام يحجم حجاماً أيام قتل المخلوع وهو يقول: سقط والله المأمون من عيني مذ قتل أخاه، فقلت له: هلك والله المأمون إذ سقط من عين مثلك؛ فرفع الخبر إلى المأمون فوجه إليه بدرة وقال: إن رأيت أن ترضى عني فعلت، قال: قد فعلت.
تم الباب الثالث بحمد الله ومنه يتلوه الباب الرابع في مكارم الأخلاق ومساوئها.
الباب الرابع
في محاسن الأخلاق ومساوئها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الرؤوف بعباده، العطوف على من أناب منهم بعد عناده، الداني منهم برحمته، النائي عنهم بعظمته، العفو عن المذنب المسي، الغفور لهفوة المحتقب الغوي، مقيل العثرات، والمنجي من الغمرات، مسبل القطر عند اليأس، ومنزل الصبر حين البأس، وسعت رحمته، وشملت نعمته، حتى نال حظه منها الملم والمسرف، وأبصر بنورهما فاهتدى المضحي والمسدف، أحمده على صنوف آلائه، وأستدفع برأفته صروف بلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنفي عن القلوب غواشي اللمم، وتشفي الأسماع من عوادي الصمم، والصلاة على محمد رسوله المبعوث بمكارم الأخلاق والشيم، والداعي إلى معالم الفضل والكرم، المأثور عنه حسن العفو الجزيل، والمأمور بالصفح الجميل، والمنعوت بالخلق العظيم، وعلى آله أهل التبجيل والتعظيم.هذه سمة تجمع معاني لو أتيت بها في باب واحد طال فأمل، وبعد على ذي الحاجة إليه مكان ملتمسه، إذ كانت تحوي الآداب والسياسة، والهمة والسيادة، والصدق والوفاء، والجود والسخاء، والبأس والصبر، والقناعة والتواضع، وغير ذلك من خلال الخير والفضائل، وأضدادها من المساوىء والرذائل، فأفردت لكل واحد من هذه وعكسها باباً تطلب فيه، ويسرع إليه تأمل مبتغيه، وأوردت في هذا المكان جملاً من مكارم الأخلاق نهجاً لمن رام تقيلها، ومن مساوئها تنبيهاً لمن أراد تجنبها، والله الموفق للسداد، والهادي إلى سبيل الرشاد.
جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتيتك بمكارم الأخلاق: أهل الجنة وأهل الدنيا في ثلاثة أحرف من كتاب الله " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " الأعراف: 199 وهو يا محمد أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.
قال الله عز وجل وقوله الحق " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " فصلت: 34 ووصف نبيه صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه فقال " وإنك لعلى خلق عظيم " القلم: 4. فسروا قوله تعالى " ولباس التقوى " " الأعراف: 26 " إنه الحياء؛ ومن أوامره تعالى " وقولوا للناس حسناً " " البقرة: 83 " " فقولا له قولاً ليناً " " طه: 44 " " وقل لهما قولاً كريماً " " الإسراء: 23 " " فقل لهم قولاً ميسوراً " " الإسراء: 28 " وقال صلى الله عليه وسلم: من لانت كلمته وجبت محبته.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرني ربي بتسع: الاخلاص في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وأن أعفو عمن ظلمني، وأصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبرة.
وقال صلى الله عليه وسلم من كلام له: ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً الذين يألفون ويؤلفون.
وقالت عائشة رضي الله عنها: مكارم الأخلاق عشر: صدق الحديث، وصدق البأس، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والمكافأة بالصنيع، وبذل المعروف، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء.
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: يا سبحان الله ما أزهد كثيراً من الناس في الخير، عجبت لرجل يجيئه أخوه في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً، فلو كنا لا نرجو جنة ولا نخشى ناراً، ولا ننتظر ثواباً ولا عقاباً، لكان ينبغي أن نطلب مكارم الأخلاق، فإنها تدل على سبل النجاة، فقام رجل فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، وما هو خير منه، لما أتينا بسبايا طيء كانت في النساء جارية حماء حوراء، لعساء لمياء عيطاء، شماء الأنف، معتدلة القامة، درماء الكعبين، خدلجة الساقين، لفاء الفخذين، خميصة الخصر، ظاهرة الكشح، مصقولة المتن، فلما رأيتها أعجبت بها، فقلت: لأطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلها من فيئي، فلما تكلمت نسيت جمالها لما سمعت من فصاحتها، فقالت: يا محمد هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنت سيد قومي، كان أبي يفك العاني، ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، لم يردد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم الطائي؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جارية هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك إسلامياً لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله يحب مكارم الأخلاق.
ومن كلام علي عليه السلام: إن الله تعالى جعل مكارم الأخلاق وصلة بينه وبين عباده، فحسب أحدكم أن يتمسك بخلق متصل بالله عز وجل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم. وفي رواية أخرى: فسعوهم ببسط الوجه والخلق الحسن.
وقال صلى الله عليه وسلم: أول ما يوضع في الميزان الخلق الحسن.
وقال صلى الله عليه وسلم: حسن الخلق نصف الدين.
وقال صلى الله عليه وسلم: الحياء خير كله.
وقال صلى الله عليه وسلم: صلة الرحم منماة للعدد، مثراة للمال، محبة للأهل، منسأة للأجل وقال صلى الله عليه وسلم: كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحسبه عمله.
وقال صلى الله عليه وسلم: لا تجلسوا على الطرق فإن أبيتم فغضوا الأبصار، وترادوا السلام، واهدوا الضالة، وأعينوا الضعيف.
وقال صلى الله عليه وسلم: لا عقل كالتدبير في رضى الله، ولا ورع كالكف عن محارم الله، ولا حسب كحسن الخلق.
ومما يروى عنه صلى الله عليه وسلم: من صدق لسانه زكا عمله، ومن حسنت نيته زيد في رزقه، ومن حسن بره لأهل بيته مد له في عمره؛ ثم قال: وحسن الخلق وكف الأذى يزيدان في الرزق.
وقيل ليوسف عليه السلام: أتجوع وخزائن الدنيا بيدك؟ قال: أخاف أن أشبع فأنسى الجياع.
وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل له: لم قلت كذا وكذا؟ ولكن يعمي فيقول: ما بال أقوام.
وقال صلى الله عليه وعلى آله: لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك.
كان الحسن إذ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أكرم ولد آدم على الله عز وجل، أعظم الأنبياء منزلة عند الله، أتي بمفاتيح الدنيا فاختار ما عند الله، كان يأكل على الأرض، ويجلس على الأرض ويقول: إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، وكان يلبس المرقوع والصوف، ويركب الحمار ويردف خلفه، ويأكل الجشب من الطعام، ما شبع من خبز بر يومين متواليين حتى لحق بالله، من دعاه لباه، ومن صافحه لم يدع يده من يده حتى يكون هو الذي يدعها، يعود المريض، ويتبع الجنائز، ويجالس الفقراء، أعظم الناس من الله مخافة وأتعبهم لله عز وجل بدناً، وأجدهم في أمر الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما والله ما كانت تغلق دونه الأبواب ولا كان دونه حجاب صلى الله عليه وسلم كثيراً.
وقال أنس: ما بسط رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتيه بين يدي جليس له قط، ولا جلس إليه رجل فقام حتى يكون هو الذي يقوم من عنده، ولا صافحه رجل قط فأخذ يده من يده حتى يكون هو الذي يأخذ يده، ولا شممت رائحة قط أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل غيضة ومعه صاحب له، فأخذا منها مسواكين أراكاً، أحدهما مستقيم والآخر معوج، فأعطى صاحبه المستقيم وحبس المعوج، فقال يا رسول الله: أنت أحق بالمستقيم مني قال: كلا إنه ليس من صاحب يصاحب صاحباً ولو ساعة من نهار إلا سأله الله تعالى عن مصاحبته إياه، فأحببت أن لا أستأثر عليك بشيء.
وقال عبد الله بن مسعود: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، فكان علي وأبو لبابة زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانا إذا دارت عقبتهما قالا: يا رسول الله اركب ونمشي عنك، فيقول: ما أنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما.
وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله ما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإلا لم يعبه.
وكان عليه السلام يطوف بالبيت، فانقطع شسعه، فأخرج رجل شسعاً من نعله فذهب يشده في نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذه أثرة ولا أحب الأثرة.
وقال أنس: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما أرسلني في حاجة قط فلم تهيأ إلا قال: لو قضي كان، لو قدر كان.
وقالت عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأة قط ولا خادماً له ولا ضرب بيده شيئاً إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء فانتقمه من صاحبه إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله، ولا خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما حتى يكون إثماً فإذا كان إثماً كان أبعد الناس منه.
قال علي عليه السلام: خالطوا الناس مخالطة جميلة، إن متم معها بكوا عليكم، وإن عشتم حنوا إليكم.
وقال محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام: من أعطي الخلق والرفق فقد أعطي الخير والراحة وحسن حاله في دنياه وآخرته، ومن حرم الرفق والخلق كان ذلك سبيلاً إلى كل شر وبلية، إلا من عصمه الله.
وقال ابن عباس: لجليسي علي ثلاث: أن أرميه بطرفي إذا أقبل، وأوسع له إذا جلس، وأصغي إليه إذا حدث.
وكان القعقاع بن شور أحد بني عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة إذا جالسه جليس فعرفه بالقصد إليه جعل له نصيباً في ماله، وأعانه على عدوه، وشفع له في حاجته، وغدا عليه بعد المجالسة شاكراً حتى شهر بذلك، وفيه يقول القائل: من الوافر
وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس
ضحوك السن إن نطقوا بخير ... وعند الشر مطراق عبوس
قال بعض الحكماء: ليس من جهل الناس بقدر الفضل قصروا عنه، ولكن من استثقال فرائضه حادوا عن التمسك به، وهم على تبجيل أهله مجمعون؛ وإلى هذا المعنى نظر منصور النمري في قوله: من البسيط
الجود أخشن مساً يا بني مطر ... من أن تبزكموه كف مستلب
ما أعلم الناس أن الجود مكسبة ... للحمد لكنه يأتي على النشب
ونظر المتنبي إلى المعنى فقال: من البسيط
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه كن عليه: المكر، قال الله تعالى " ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله " " فاطر: 43 " والبغي، قال الله سبحانه " يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم " " يونس: 23 " ومن بغي عليه لينصرنه الله، والنكث، قال الله عز وجل " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " " الفتح " 10 " .
وقال صلى الله عليه وسلم: أعجل الأشياء عقوبة البغي.
وقال صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب أدنى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم.
وقيل: سوء الخلق يعدي لأنه يدعو صاحبه إلى أن يقابله بمثله.
وقيل: الحسن الخلق قريب عند البعيد، والشيء الخلق بعيد عند أهله.
وقيل: المرء عبد من رجاه، وبئس الشعار الحسد، والافتقار يمحق الأقدار، والبطر يسلب النعمة، وكثرة الكلام تكسب الملال وإن كان حكماً، وإظهار الفاقة من خمول الهمة.
وقال معاوية: ثلاث ما اجتمعن في حر: مباهتة الرجال، والغيبة للناس، والملال لأهل المودة.
وقيل: شر الناس من لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً.
وقال سقراط: المال رداء الكبر، والهوى مركب المعاصي، والتمني رأس مال الجاهل، والكبر قاعدة المقت، وسوء الخلق سد بين المرء وبين الله.
وقال علي عليه السلام: الحاسد بخيل بما لا يملكه.
وقال أيضاً: الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له.
وقال عبد الله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله تعالى فإن الحسود عدو للنعم.
وقيل في الدعاء على الرجل: طلبك من لا يقصر دون الظفر، وحسدك من لا ينام دون الشفاء.
وقيل: الحسود غضبان على القدر، والقدر لا يعتبه.
وقيل لبعضهم: ما بال فلان ينتقصك؟ قال: لأنه شقيقي في النسب، وجاري في البلد، وشريكي في الصناعة؛ فذكر دواعي الحسد كلها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاد الفقر أن يكون كفراً، وكاد الحسد أن يغلب القدر.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
وكان يقال: الحسد يضعف اليقين، ويسهر العين، ويكثر الهم.
وفي الحكمة: الحاسد لا يضر إلا نفسه.
وقال أعرابي: الحسد داء منصف يفعل في الحاسد أكثر من فعله في المحسود، وهو مأخوذ من الخبر: قاتل الله الحسد فما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله.
وقيل: ثلاث موبقات: الكبر فإنه حط إبليس عن مرتبته، والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة، والحسد فإنه دعا ابن آدم إلى قتل أخيه.
وقيل: يكفيك من الحاسد أنه يغتم في وقت سرورك.
وقال محمد بن علي بن موسى بن جعفر: الحسد ماحق للحسنات، والزهو جالب للمقت، والعجب صادف عن طلب العلم داع إلى التخمط في الجهل، والبخل أذم الأخلاق، والطمع سجية سيئة.
وقال أيضاً: مخالطة الأشرار تدل على شر من يخالطهم، والكفر للنعم أمارة البطر وسبب للغير، واللجاجة مسلبة للسلامة ومؤذنة بالندامة، والهزء فكاهة السفهاء وصناعة الجهال، والنزق مغضبة للأخوان يورث الشنآن، والعقوق يعقب القلة ويؤدي إلى الذلة.
وقال: إياك والحسد فإنه يبين فيك ولا يبين في عدوك.
وقال محمد بن واسع: ليس لملول صديق، ولا لحسود غني.
وقال آخر: يجب على ذي السعة في رأيه، والفضل في خصاله، أن يتطول على حساده بنظره، ويتحرى لهم المنافع، فإنه بلاء غرسه الله فيهم ثم لم يسلطهم عليه، فهم يعذبون بحركات الحسد في وقت مسرته بما أكرم به.
وقال آخر: الحقد غصة لا يسيغها إلا الظفر، والحسد شجى فارح لا يدفعه عن صاحبه إلا بلوغ أمله في من قصده بحسده، وأنى له بذلط؟ وقد قيل: من كنت سبباً لعلائه فالواجب عليك التلطف له في علاجه من دائه.
قال صاحب كليلة ودمنة: مثل الحقد في القلب ما لم يجد محركاً مثل الجمر المكنون، وليس ينفك الحقد يتطلع إلى العلل كما تبتغي النار الحطب، فإذا وجد شيئاً استعر ثم لا يطفئه مال ولا كلام ولا تضرع ولا مناصفة ولا شيء غير تلف تلك الأنفس.
وقال: لا يزيدك لطف الحقود بك، ولينه لك، وتكرمته إياك إلا وحشة وسوء ظن، وإنك لا تجد للحقود الموتور أماناً هو أوثق من الذعر، ولا أحرز من البعد والاحتراس منه.
وقد اعتذر عبد الملك بن صالح للحقد فشبه وما قصر، قال له يحيى بن خالد، لله أنت من سيد لولا أنك حقود؛ فقال عبد الملك: أنا خزانة تحفظ الخير والشر، فقال يحيى: ما رأيت أحداً احتج للحقد حتى حسنه غيرك.
وسلك ابن الرومي هذه السبيل فقال: من الطويل
وما الحقد إلا توأم الشكر للفتى ... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
إا الأرض أدت ريع ما أنت زارع ... من البذر فيها فهي ناهيك من أرض
ومن مكارم الأخلاق قول الشاعر: من الطويل
وكيف يسيغ المرء زاداً وجاره ... خفيف المعا بادي الخصاصة والجهد
وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وقول آخر: من الطويل
ومرضى إذا لوقوا حياء وعفة ... وفي الحرب أمثال الليوث الخوادر
كأن بهم وصماً يخافون عاره ... وما وصمهم إلا اتقاء المعاير
وقول آخر: من الوافر
يعيش المرء ما استحيا بخير ... ويبقى العود ما بقي اللحاء
فلا وأبيك ما في العيش خير ... ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
إذا لم تخش عاقبة الليالي ... ولم تستحي فافعل ما تشاء
وقيل: الحياء لباس سابغ، وحجاب واق، وستر من المساوىء واقع، وحليف للدين، وموجب للصنع، ورقيب للعصمة، وعين كالئة، يذود عن الفساد وينهى عن الفحشاء والأدناس.
وقيل: لا ترض قول أحد حتى ترضى فعله، ولا ترض بما فعل حتى ترضى عقله، ولا ترض عقله حتى ترضى حياءه، فإن ابن آدم مطبوع على كرم ولؤم، فإذا قوي الحياء قوي الكرم، وإذا ضعف الحياء قوي اللؤم.
قال عروة بن الزبير: لعهدي بالناس والرجل منهم إذا أراد أن يسوء جاره سأل غيره حاجة، فيشكوه جاره ويقول: تجاوزني بحاجته، أراد بذلك شيني.
قال بعضهم: كنت أمشي مع الخليل فانقطع شسع نعلي، فخلع نعله، فقلت ما تصنع؟ قال: أواسيك في الحفا.
وكان الأحنف إذا أتاه إنسان أوسع له، فإن لم يجد موضعاً تحرك ليريه أنه يوسع له.
وقال ابن السماك لمحمد بن سليمان أو لحماد بن موسى كاتبه، ورآه كالمعرض عنه: مالي أراك كالمعرض عني؟ قال: بلغني عنك شيء كرهته، قال: إذن لا أبالي، قال: ولم؟ قال: لأنه إن كان ذنباً غفرته، وإن كان باطلاً لم تقبله. فعاد إلى مؤانسته.
دخل على الحسين بن علي عليهما السلام جارية في يدها طاقة ريحان فحيته بها، فقال لها: أنت حرة لوجه الله تعالى؛ قال أنس، فقلت له: تحييك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها؟ فقال: كذا أدبناالله عز وجل قال: " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحس منها أو ردوها " " النساء: 86 " .
وكتب إليه أخوه الحسن في إعطائه الشعراء، فكتب إليه الحسين: أنت أعلم مني بأن خير المال ما وقى العرض فانظر شرف خلقه كيف ابتدأ كتابه بقوله: أنت أعلم مني.
وجني غلام له جناية توجب العقاب عليها فأمر به أن يضرب، فقال: يا مولاي " والكاظمين الغيظ " قال: خلوا عنه، فقال: يا مولاي " والله يحب المحسين " " آل عمران: 134 " قال: أنت حر لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك.
وكان بينه وبين أخيه الحسن كلام، فقيل له: ادخل على أخيك فهو أكبر منك، فقال: إني سمعت جدي صلى الله عليه وسلم يقول: أيما اثنين جرى بينهما كلام فطلب أحدهما رضى الآخر كان سابقه إلى الجنة؛ وأنا أكره أن أسبق أخي الأكبر، فبلغ قوله الحسن فأتاه عاجلاً.
وقال المغيرة بن حبناء: من الطويل
فإن يك عاراً ما لقيت فربما ... أتى المرء يوم السوء من حيث لا يدري
ولم أر ذا عيش يدوم ولا أرى ... زمان الغنى إلا قريباً من الفقر
ومن يفتقر يعلم مكان صديقه ... ومن يحي لا يعدم بلاء من الدهر
وإني لأستحيي إذا كنت معسراً ... صديقي والخلان أن يعلموا عسري
وأهجو خلاني وما خان عهدهم ... حياء وإعراضاً وما بي من كبر
وأكرم نفسي أن ترى بي حاجة ... إلى أحد دوني وإن كان ذا وفر
ولما رأيت المال قد حيل دونه ... وصدت وجوه دون أرحامها البتر
جعلت حليف النفس عضباً ونثرة ... وأزرق مشحوذاً كخافية النسر
ولا خير في عيش امرىء لا ترى له ... وظيفة حق في ثناء وفي أجر
وقال آخر: من الطويل
وإني لألقي المرء أعلم أنه ... عدو وفي أحشائه الضغن كامن
فأمنحه بشري فيرجع قلبه ... سليماً وقد ماتت لديه الضغائن
وقال يحيى بن زياد الحارثي: من الطويل
ولكن إذا ما حل كره فسامحت ... به النفس يوماً كان للكره أذهبا
وقال آخر: من الكامل
أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخدر
ويصم عما كان بينهما ... سمعي وما بي غيره وقر
حدث رجل من الأعراب قال: نزلت برجل من طيء فنحر لي ناقة فأكلت منها، فلما كان الغد نحر أخرى فقلت: إن عندك من اللحم ما يغني ويكفي، فقال: إني والله ما أطعم ضيفي إلا لحماً عبيطاً، قال: وفعل ذلك في اليوم الثالث، وفي كل ذلك آكل شيئاً ويأكل الطائي أكل جماعة، ثم يؤتى باللبن فأشرب شيئاً ويشرب عامة الوطب، فلما كان في اليوم الثالث ارتقبت غفلته فاضطجع، فلما امتلأ نوماً استقت قطيعاً من إبله فأقبلته الفج فانتبه، واختصر علي الطريق حتى وقف لي في مضيق منه فألقم وتره فوق سهمه، ثم نادى: لتطب نفسك عنها، قلت: أرني آية، قال: انظر إلى ذلك الضب فإني واضع سهمي في مغرز ذنبه، فرماه فأندر ذنبه، فقلت: زدني، قال: انظر إلى أعلى فقاره، فرمى فأثبت سهمه في الموضع، ثم قال لي: الثالثة والله في كبدك، قال قلت: شأنك بإبلك، قال: كلا حتى تسوقها إلى حيث كانت، قال: فلما انتهيت بها قال: فكرت فيك فلم أجد لي عندك ترة تطالبني بها، وما أحسب حملك على أخذ إبلي إلا الحاجة، قلت: هو والله ذاك، قال: فاعمد إلى عشرين من خيارها فخذها، فقلت: إذن والله لا أفعل حتى تسمع مدحك، فو الله ما رأيت رجلاً أكرم ضيافة، ولا أهدى لسبيل، ولا أرمى كفاً، ولا أوسع صدراً، ولا أرغب خوفاً، ولا أكرم عفواً منك، قال: فاستحيا فصرف وجهه عني وقال: انصرف بالقطيع مباركاً لك فيه.
خرج رجل من طيء، وكان مصافياً لحاتم، فأوصى حاتماً بأهله فكان يتعهدهم، وإذا جزر بعث إليهم من أطايبها، فراودته امرأة الرجل فاستعصم ولم يفعل، فلما قدم زوجها أخبرته أن حاتماً أرادها، فغضب من ذلك، وجاءت العشيرة للتسليم وحاتم معهم، فلم يلق حاتماً بما كان يلقاه به من طلاقة الوجه وحسن البشر، فعلم حاتم أن ذلك من قبل امرأته، فأنشأ يقول: من الطويل
إني امرؤ من عصبة ثعلية ... كرام أغانيها عفيف فقيرها
إذا ما بخيل الناس هرت كلابه ... وشق على الضيف الطروق عقورها
فإني جبان الكلب رحلي موطأ ... جواد إذا ما النفس شح ضميرها
وما تشتكيني جارتي غير أنني ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
سيبلغها خيري ويرجع زوجها ... إليها ولم تسبل علي ستورها
فلما بلغ الرجل الشعر عرف أن حاتماً بريء، فطلق امرأته.
وكان مسلمة بن عبد الملك إذا كثر عليه أصحاب الحوائج وخشي الضجر أمر أن يحضر ندماؤه من أهل الأدب، فتذاكروا مكارم الأخلاق في الناس وجميل طرائقهم ومروءاتهم، فيطرب ويهيج ثم يقول: ائذنوا لأصحاب الحوائج، فلا يدخل عليه أحد إلا قضى حاجته.
كان يحيى بن خالد بن برمك عاقلاً أديباً كريماً حسن الأخلاق رضي الأفعال حليماً ركيناً، حتى لو ادعى اجتماع مكارم الأخلاق فيه لكان أهلاً للدعوى؛ وسخط الرشيد على كاتبه منصور بن زياد، وأمر أن يطالب بعشرة آلاف ألف درهم، أو يؤتى برأسه، وأمر صالحاً صاحب المصلى بذلك، قال صالح: فاستسلم للقتل وحلف أنه لا يعرف موضع ثلاثمائة ألف درهم فكيف بعشرة آلاف ألف، ثم دخل إلى داره فأوصى وارتفع الصراخ منها، وخرج فقال لي: امض بنا إلى أبي علي يحيى بن خالد لعل الله أن يأتينا بفرج من جهته، فلما قص القصة على يحيى قلق وأطرق مفكراً ثم قال لخازنه: كم عندك من المال؟ قال: خمسة آلاف ألف، فقال: أحضرني مفاتيحها، فأحضرها، ثم وجه إلى ابنه الفضل: إنك كنت أعلمتني أن عندك ألفي ألف درهم، قدرت أن تشتري بها ضيعة، وقد أصبت لك ضيعة يبقى لك كرها وشكرها، فوجه إليه بالمال، ثم وجه إلى جعفر ابنه فاستدعى منه ألف ألف درهم، ثم أرسل إلى دنانير جاريته فاستدعى منها عقداً كان وهبه الرشيد لها وابتاعه بمائة ألف وعشرين ألف دينار، قال صالح: وكان كعظم الذراء، وقال يحيى: قد حسبناه بألفي ألف درهم، وهذا تمام مالك فانصرف وخل عن صاحبنا، قال صالح: فأخذت ذلك ورددت منصوراً معي فلما صرنا بالباب أنشد منصور متمثلاً والشعر للعين المنقري: من الوافر
فما بقياً علي تركتماني ... ولكن خفتما صرد النبال
قال صالح: فقلت ما على الأرض أنبل من رجل خرجنا من عنده ولا أخبث سريرة من هذا النبطي، قال: ثم حدثت يحيى من بعد بقوله وقلت: أنعمت على غير شاكر، فجعل يحيى يطلب له المعاذير ويقول: إن المنخوب القلب ربما سبقه لسانه بما ليس في ضميره، وقد كان الرجل في حال عظيمة، فقلت: والله ما أدري من أي أمريك اعجب، أمن أوله أم من آخره.
وأمر يحيى بن خالد كاتبين من كتابه أن يكتبا كتاباً في معنى واحد فكتباه، واختصر أحدهما وأطال الآخر، فلما قرأ يحيى كتاب المختصر قال: ما أجد موضع مزيد، ثم قرأ كتاب المطيل فقال: ما أجد موضع نقصان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه فانظروا إلى ما يتبعه من حسن الثناء.
وقال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " " الشعراء: 84 " إنه أراد حسن الثناء من بعده.
وقال أكثم بن صيفي: إنما أنتم أخبار فطيبوا أخباركم؛ ألم بهذا المعنى أبو تمام فقال: من البسيط
وما ابن آدم إلا ذكر صالحة ... أو ذكر سيئة يسري بها الكلم
إذا سمعت بدهر باد أمته ... جاءت بأخبارها من بعدها أمم
وإنما يكون الثناء على مكارم الأخلاق.
وقال الأحنف بن قيس: ما ذخرت الآباء للأبناء، وما أبقت الموتى للأحياء، أفضل من اصطناع المعروف عند ذوي الآداب والأحساب.
وقال بعضهم: ظفر الكريم عفو، وظفر اللئيم عقوبة.
وقال الأحنف: المروءة كلها إصلاح المال وبذله للحقوق.
قال ابن أبي دواد، وقد وصف كرم أخلاق المعتصم: دخلت عليه يوماً فدعا بالغداء ثم قال: يا أبا عبد الله ها هنا رجل قد صار إليه من مال فارس أيام علي بن عيسى القمي عشرون ألف ألف درهم، وقد عزمت على أخذها منه، فإن خرج إلي منها طوعاً وإلا قتلته وأخذت كل ما ظهر لي من ماله، قلت: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: يعقوب بن فرادون النصراني كاتب علي بن عيسى، فقلت: وفق الله أمير المؤمنين لطاعته، قال: وأحضر الطست ليغسل يده فغسلها ثم قال لي: اغسل يدك، فقلت: مالي إلى الطعام حاجة، قال: ولم؛ قلت: تأخذ مال جاري وتقتله؟! قال: هو جار لك؟ قلت: بيتي وبيته، قال: فقد تركت من المال لك خمسة آلاف ألف درهم، فقلت: ما آكل شيئاً، قال: يا غلام هات طعامك ولا أبالي أن لا يأكل، وهو في خلل ذلك يكلمني ويبتسم، فوضع الطعام بين يديه، فو الله ما هناه أن يأكل كرماً ونبلاً، ثم قال: يا أبا عبد الله كل حتى أترك لك من المال المذكور نصفه، فقلت: ما آكل شيئاً، قال: فأكل لقماً ثلاثاً وأنا ألحظه ما يقدر أن يسيغها، ثم قال: يا أبا عبد الله ادن فكل فقد وهبت لك المال جميعه ودمه، فقلت: وهب الله لأمير المؤمنين الجنة فو الله الذي لا إله إلا هو ما رأيت ولا سمعت بخليفة قط ولا ملك أكرم منك عفواً، ولا أسمح كفاً، ولا أجمل عشرة، ولا أنبل أخلاقاً، ثم قال: يا غلام الطست، فجاء به، فغسلت يدي وأكلت، وبلغ الخبر إلى يعقوب فشكرني على ذلك فاستكففته وقلت: فعلت ذاك للحرمة لا للشكر.
سرق بعض غاشية جعفر بن سليمان بن علي درة نفيسة من بين يديه وباعها بمال جزيل، فأنفذ جعفر بن سليمان إلى الجوهريين بصفة الدرة فقالوا: باعها فلان منذ مدة، فأخذ وجيء به إليه وكان يختص به، فلما رآه جعفر ورأى ما قد ظهر عليه من الجزع والخوف قال له: أراك قد تغير لونك، ألست يوم كذا وكذا طلبت مني هذه الدرة فوهبتها لك؟ وأقسم بالله لقد أنسيت هذه الحال؛ وأحضر ما كان اشتريت به فدفعه إلى الجوهري ثم قال للرجل: خذ الدرة الآن وبعها حلالاً بالثمن الذي تطيب به نفسك لا بيع خائف ولا وجل، والله لقد آلمني ما دخل عليك من الرعب والجزع.
وقال الأصمعي: ما رأيت أكرم أخلاقاً ولا أشرف أفعالاً من جعفر بن سليمان، كنا عنده فتغدينا معه واستطاب الطعام فقال لطباخه: قد أحسنت وسأعتقك وأزوجك، فقال الطباخ: قد قلت هذه غير مرة وكذبت، قال: فو الله ما زاد على أن ضحك، وقال لي: يا أصمعي إنما يريد البائس أخلفت، قال الأصمعي: وإذا هو قد رضي بأخلفت.
قيل كان المهتدي يصلي الصلوات كلها في المسجد الجامع بالبصرة لما قدمها، فأقيمت الصلاة يوماً فقال أعرابي: يا أمير المؤمنين لست على طهر وقد رغبت إلى الله تعالى في الصلاة خلفك فأمر هؤلاء أن ينظروني، قال: انظروه رحمكم الله، ودخل المحراب فوقف إلى أن أقبل وقيل له قد جاء الرجل، فعجب الناس من سماحة أخلاقه.
قال يحيى بن أكثم: ماشيت المأمون في بستانه ويده في يدي، فكان في الظل وأنا في الشمس، فلما بلغنا ما أردنا ورجعنا صرت أنا في الفيء وصار هو في الشمس، فدرت أنا إلى الشمس فقال: لا ليس هذا بإنصاف، كما كنت أنا في الفيء ذاهباً فكن أنت في الفيء راجعاً.
ووقع إلى علي بن هشام وقد شكاه غريم له: ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة ويكون غريمك عارياً وضيفك طاوياً.
كان أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي من أفاضل العلويين، وبقي في الاستتار ستين سنة، فلما قام المنتصر وأظهر الميل إلى العلوية أراد أن يظهر فاعتل وتوفي بالبصرة؛ فبينا هو في استتاره مر به رجلان قد تلازما، فطالب أحدهما صاحبه بمائة دينار ديناً له عليه: والرجل المطالب معترف فهو يقول: يا هذا لا تمض بي إلى الحاكم، فإني قد تركت في منزلي أطفالاً قد ماتت أمهم لا يهتدون لشرب ماء إن عطشوا، فإن تأخرت عنهم ساعة ماتوا، وإن أقررت عند القاضي حبسني فتلفوا، فلا تحملني على يمين فاجرة، فإني أحلف لك ثم أعطيك مالك، وصاحبه يقول: لابد من تقديمك وحبسك أو تحلف، فلما كثر هذا منهما إذا صرة قد سقطت بينهما ومعها رقعة: يا هذا خذ هذه المائة الدينار التي لك قبل الرجل ولا تحمله على الحلف كاذباً، وليكن جزاء هذا أن تكتماه فلا يعلم به غيركما، ولا تسألا عن فاعله، فسرا جميعاً بذلك وافترقا، فبدأ الحديث من أحدهما فشاع، فقيل: فمن يفعل هذا الفعل إلا أحمد بن عيسى؛ فقصدوا الدار لطلبه فوجدوا آثاراً تدل على أنه كان فيها وتنحى، وهرب صاحب الدار فأحرقت.
قال علي بن عبيدة من كلام له: حسن الخلق جوهر الانسان، العفاف طهارة الجوارح. النية الحسنة عمارة الدين.
وقال أعرابي: خصلتان من الكرم: إنصاف الناس من نفسك، ومواساة الإخوان.
كان العباس بن الحسن بن عبيد اللهبن العباس بن علي بن أبي طالب شاعراً عالماً فصيحاً وكان يقال: من أراد لذة لا تبعة فيها فليسمع كلام العباس بن الحسن. ودخل أبو دلف العجلي على الرشيد وهو جالس على طنفسة في طارمة، وعند باب الطارمة شيخ على طنفسة مثلها، فقال الرشيد: يا قاسم ما خبر الجبل؟ قال: خراب يباب اعتوره الأكراد والأعراب، قال: أنت سبب خرابه وفساده، فإن وليتك إياه، قال: أعمره وأصلحه، فقال بعض من حضر: أو غير ذلك، فقال أبو دلف: وكيف يكون غير ذلك وأمير المؤمنين يزعم أني ملكته فأفسدته وهو علي، أفتراني لا أقدر على إصلاحه وهو معي، فقال الشيخ: إن همته لترمي به وراء سنه مرمى بعيداً، وأخلق به أن يزيد فعله على قوله، فقبل الرشيد قوله وولاه، وأمر بأن يخلع عليه، فلما خرج أبو دلف سأل عن الشيخ فقيل له: هو العباس بن الحسن العلوي، فحمل إليه عشرة آلاف دينار وشكر فعله، فقال له العباس: ما أخذت على معروف أجراً قط، فاضطرب أبو دلف وقال: إن رأيت أن تكمل النعمة عندي وتتمها علي بقبولها، فقال: أفعل، هي لي عندك، فإذا لزمتني حقوق لقوم يقصر عنها مالي صككت عليك بما تدفعه إليهم إلى أن أستنفدها، فقنع بذلك أبو دلف، فما زال يصك عليه للناس إلى أن أفناها من غير أن يصل إلى العباس درهم منها.
روي أن شيخاً أتى سعيد بن سلم وكلمه في حاجة وماشاه، فوضع زج عصاه التي يتوكأ عليها على رجل سعيد حتى أدماها، فما تأوه لذلك ولا نهاه، فلما فارقه قيل له: كيف صبرت منه على هذا؟ قال: خفت أن يعلم جنايته فينقطع عن ذكر حاجته.
مر عبد العزيز بن مروان بمصر فسمع امرأة تصيح بابنها: يا عبد العزيز، فوقف وقال: من المسمى باسمنا؟ ادفعوا إليه خمسمائة دينار، فما ولد في أيامه مولود بمصر إلا سمي عبد العزيز.
استلب رجل رداء طلحة بن عبيد الله، فذهب صاحبه يتبعه، فقال له طلحة: دعه فما فعل هذا إلا من حاجة.
قرع رجل باب بعضهم فقال لجاريته: انظري من القارع، فقال: أنا صديق لمولاك، فنهض وبيده السيف وكيس يسوق جاريته، وفتح الباب وقال: ما شأنك؟ قال: راعني أمر، قال: لايك ما ساءك، قد قسمت أمرك بين نائبة فهذا المال، وبين عدو فهذا السيف، وأيم فهذه الجارية.
وقع جعفر بن يحيى في رقعة متحرم به، هذا فتى له حرمة الأمل فامتحنه بالعمل، فإن كان كافياً فالسلطان له دوننا، وإن لم يكن كافياً فنحن له دون السلطان.
قال خالد: أيلبس الرجل أجود ثيابه ويتطيب بأطيب طيبه ثم يتخطى القبائل والوجوه لا يريد إلا قضاء حقي وتعظيمي بسؤاله حاجة، فلا أعرف ذلك له ولا أكافيه عليه؟! تخطيت إذن مكارم الأخلاق ومحاسنها إلى مساؤئها.
قال ابن عباس: قدم علينا الوليد بن عتبة المدينة والياً كأن وجهه ورقة مصحف، فو الله ما ترك عانياً إلا فكه، ولا غريماً إلا أدى عنه، ينظر إلينا بعين أرق من الماء، ويكلمنا بكلام أحلى من الجنى، ولقد شهدت منه مشهداً لو كان من معاوية لذكرته منه أبداً: تغدينا عنده فأقبل الخباز بصحفة فعثر بوسادة وندرت الصحفة من يده، فوالله ما ردها إلا ذقنه، وصار ما فيها في حجره، ومثل الغلام ما فيه من الروح إلا ما يقيم رجله، فقام فدخل فغير ثيابه ثم أقبل تبرق أسارير وجهه، فأقبل على الخباز فقال: يا بائس ما أرانا إلا قد روعناك، أنت وأولادك أحرار لوجه الله تعالى. فهذا هو التواضع الجميل، والبذل الحسن، والكرم المحض.
وفد داود بن سلم على حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية، فلما نزل به حط غلمانه رحله فقال: من المتقارب
ولما دفعت لأبوابهم ... ولاقيت حرباً لقيت النجاحا
رأيناه يحمده المجتدون ... ويأبى على العسر إلا سماحا
ويغشون حتى ترى كلبهم ... يهاب الهرير وينسى النباحا
فأجازه بجائزة عظيمة، ثم استأذنه داود في الخروج فأذن له، فأعطاه ألف دينار، ولما أراد أن يرحل لم يعنه غلمانه ولم يقوموا إليه، فظن داود أن حرباً ساخط عليه، فرجع فأخبره بما رأى من غلمانه، فقال، سلهم لم فعلوا بك ذلك. قال فسألهم فقالوا: إنا ننزل من جاءنا ولا نرحل من خرج عنا؛ فسمع الغاضري هذا الحديث فجاءه وقال له: أنا يهودي إن لم يكن الذي قال لك الغلمان أحسن من شعرك.
قال إسحاق الموصلي: دخلت يوماً إلى المعتصم وعند إسحاق ابن إبراهيم بن مصعب، فاستدناني فدنوت، واستدناني فتوقفت خوفاً من أن أكون موازياً في مجلسي لإسحاق بن إبراهيم، ففطن المعتصم وقال: إن إسحاق كريم وإنك لم تستنزل ما عند الكريم بمثل إكرامه، ثم تحدثنا فأفضت بنا المذاكرة إلى قول أبي خراش الهذلي: من الطويل
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ... خراش وبعض الشر أهون من بعض
فأنشدها المعتصم إلى آخرها، وأنشد فيها:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... سوى أنه قد حط عن ماجد محض
فغلطت وأسأت الأدب فقلت: يا أمير المؤمنين هذه رواية الكتاب وما أخذ عن المعلم، والصحيح: بز عن ماجد محض، فقال لي: نعم صدقت، وغمزني بعينه يحذرني من إسحاق، وفطنت لغلطي فأمسكت، وعلمت أنه قد أشفق علي من بادرة تبدر من إسحاق لأنه كان لا يحتمل مثل هذا في الخلفاء من أحد حتى يعظم عقوبته، ويطيل حبسه كائناً من كان، فنبهني رحمه الله على ذلك.
لما مات عبيد الله بن سليمان بن وهب وارتفع الصراخ من داره سجد المعتضد فأطال السجود، وكان بحضرته بدر المعتضدي، فلما رفع رأسه قال له بدر: والله يا أمير المؤمنين لقد كان صحيح الولاء مجتهداً في خدمتك، عفيفاً عن أموالك وأموال رعيتك، ميمون النقيبة حسن التدبير، قال: أفظننت يا بدر سجدت سروراً بموته؟ إنما سجدت شكراً لله إذ وفقني فلم أصرفه ولم أوحشه، ولم يبلغ بي الطمع فيه إلى القبض عليه، ولم يبلغ به الفزع مني إلى التدبير علي، ففارقني ومضى راضياً وما بيننا مستور، ولم يجد أعداؤنا طريقاً إلى أن يصفوني بقلة الرعاية، والمسارعة إلى الاستبدال بالخدم، والشره إلى أموال حاشيتي.
قال علي بن عبد الملك بن صالح: ما سمعت في الكرم بأحس من فعل بعض ولد الحسين بن علي عليهما السلام بمستميح له، وذلك أنه أتاه ليلاً، فلما ابتدأ يتكلم بحاجته أطفأ السراج وقال له: تكلم بلسانك كله فإني أتحوف أن تخجلك المعانية عن استيفاء جميع مسألتك.
أنشد اليزيدي: من الطويل
وما الجود عن فقر الرجال ولا الغنى ... ولكنه خيم النفوس وخيرها
فنفسك أكرم عن أمور كثيرة ... فمالك نفس بعدها تستعيرها
وقال إبراهيم بن العباس: من الوافر
أميل مع الصديق على ابن أمي ... وأقضي للصديق على الشقيق
أفرق بين معروفي ومني ... وأجمع بين مالي والحقوق
فإن ألفيتني مولى مطاعاً ... فإنك واجدي عبد الصديق
وقال ابن صرمة الأنصاري: من الوافر
لنا صرم يؤول الحق فيها ... وأخلاق يسود بها الفقير
ونصح للعشيرة حيث كانت ... إذا ملئت من الغش الصدور
وحلم لا يصوب الجهل فيه ... وإطعام إذا قحط الصبير
بذات يد على ما كان فيها ... نجود به قليل أو كثير
ومما روي في مساوىء الأخلاق: شخص أبو وجزة السلمي المعروف بالسعدي لنزوله في بني سعد ومحالفته إياهم إلى المدينة يريد آل الزبير، وشخص أبو زيد الأسلمي يريد إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو والي المدينة وخال هشام بن عبد الملك، فاصطحبا، فقال أبو وجزة: هلم فلنشترك فيما نصيبه، فقال أبو زيد: كلا أنا أمدح الملوك، وأنت تمدح السوق، فلما دخلا المدينة صار أبو زيد إلى إبراهيم بن هشام فأنشده:
يا ابن هشام يا أخا الكرام
فقال إبراهيم: وكأنما أنا أخوهم وكأني لست منهم، ثم أمر به فضرب بالسياط. وامتدح أبو وجزة آل الزبير فكتبوا له بستين وسقاً من تمر وقالوا: هي لك في كل سنة، فانصرفا فقال أبو زيد: من الطويل
مدحت عروقاً للندى مصت الثرى ... حديثاً فلم تهمم بأن تتزعزعا
نقائذ بؤس ذاقت الفقر والغنى ... وحلبت الأيام والدهر أضرعا
سقاها ذوو الأرحام سجلاً على الظلما ... وقد كربت أعناقها أن تقطعا
بفضل سجال لو سقوا من مشى بها ... على الأرض أرواهم جميعاً وأشبعا
فضمت بأيديها على فضل ما بها ... من الري لما أوشكت أن تضلعا
وزهدها أن تفعل الخير في الغنى ... مقاساتها من قبله الفقر جوعا
وقال أبو وجزة: من البسيط
راحت رواحاً قلوصي وهي حامدة ... آل الزبير ولم تعدل بهم أحدا
راحت رواحاً بستين وسقاً في حقيبتها ... ما حملت حملها الأدنى ولا السددا
ما إن رأيت قلوصاً قبلها حملت ... ستين وسقاً ولا جابت به بلدا
ذاك القرى لا قرى قوم رأيتهم ... يقرون ضيفهم الملوية الجددا
قال رجل من أهل العراق: أدناني أبو مسلم وآنسني ثم سألني فقال: أي الأعراض أدنى؟ قلت: عرض بخيل، قال: كلا، رب بخيل لم يكلم عرضه، قلت: فأيها أصلح الله الأمير؟ قال: عرض لم يرتع فيه حمد ولا ذم.
قال إبراهيم بن العباس: والله لو وزنت كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاسن الناس لرجحت وهي قوله: إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم؛ هذا أبو عباد كان كريم العهد كثير البذل، سريعاً إلى فعل الخير، فطمس ذلك سوء خلقه فما ترى له حامداً.
قيل للمأمون: إن دعبلاً قد هجاك، فقال: وأي عجب في ذاك؟ هو يهجو أبا عباد لايهجوني أنا؟ ومن أقدم على جنون أبي عباد أقدم على حلمي. ثم قال للجلساء: من كان منكم يحفظ شعره في أبي عباد فلينشده، فأنشده بعضهم: من الكامل
أولى الأمور بضيعة وفساد ... أمر يدبره أبو عباد
خرق على جلسائه فكأنهم ... حضروا للمحمة ويوم جلاد
يسطو على كتابه بدواته ... فمضمخ بدم ونضح مداد
وكأنه من دير هزقل مفلت ... حرد يجر سلاسل الأقياد
فاشدد أمير المؤمنين وثاقه ... فأصبح منه بقية الحداد
وكان بقية هذا مجنوناً فيالبيمارستان.
ولأبي عباد حكايات عجيبة في طيشه وجهله، فمما يروى عنه أنه غضب على بعض كتابه فرماه بدواة، فأبلغ المأمون فقال له: لم فعلت ذلك؟ فقال: أنا ممن قال الله فيهم: وإذا ما غضبوا هم يعقرون فقال: ويلك لا تحسن آية؟ فقال: نعم: أنا أقرأ من سورة ألف آية.
وكان محمد بن جميل كاتب المنصور صاحب ديوان الخراج شديد الخرق غاية في الخفة، وكان ومجلسه غاص بأهله يعدو خلف كاتبه بالنعل، وكاتبه يعدو بين يديه.
لقي الحجاج أعرابياً بفلاة فسأله عن نفسه، فأخبره بكل ما يكره وهو لا يعرفه، فقال: إن لم أقتلك فقتلني الله، قال الأعرابي: فأين حق الاسترسال؟ فقال الحجاج: أولى لك، وأعرض عنه. وليس الحجاج ممت تأتي منه مكرمة، ولكن رب رمية من غير رام.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نزعت الرحمة إلا من شقي.
ولما وفد عليه صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم سأله بعض الأنصار عما يتحدث به عنه في المؤدات، فأخبره أنه ما ولدت له قط بنت إلا وأدها وقال: كنت أخاف العار، وما رحمت منهن إلا بنية كانت لي ولدتها أمها وأنا في سفر، فدفعتها إلى أخوالها، وقدمت فسألت عن الحمل فأخبرتني المرأة أنها ولدت ولداً ميتاً، ومضت على ذلك سنون حتى كبرت الصبية ويفعت، فزارت أمها ذات يوم، فدخلت فرأيتها وقد ضفرت شعرها، وجعلت في قرونها شيئاً من خلوق، ونظمت عليها ودعاً، وألبستها قلادة جزع، وجعلت في عنقها مخنقة بلح، فقلت: من هذه الصبية، فلقد أعجبني كمالها وكيسها؟ فبكت ثم قالت: هذه ابنتك، فأمسكت عنها حتى اشتغلت أمها، ثم أخرجتها يوماً فحفرت لها حفيرة وجعلتها فيها وهي تقول لي: يا أبة ما تصنع بي؟ وحدي ومنصرف عني؟ وجعلت أقذف عليها التراب حتى واريتها فانقطع صوتها. فدمعت عين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن هذه لقسوة وإن من لا يرحم لا يرحم.
ورأى في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض بناته يشمها فقال له: ما هذه السخلة تشمها؟ والله لقد وأدت ثمانية، وولد لي ثمانون ما شممت منهم أنثى ولا ذكراً قط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهل إلا أن ينزع الله الرحمة منك.
وكان محمد بن عبد الملك الزيات قاسياً مع غير ذلك من رذائل جمعت فيه، على فضله وعلمه وأدبه وكفايته، فذكروا أن رجلاً دخل عليه فقال له: أنا أصلحك الله أمت إليك بجواري وأرغب إليك في عطفك علي، فقال له: أما الجوار فنسب بين الحيطان، وأما العطف والرقة فهما للصبيان والنساء.
وقيل كان له جار أيام انخفاض حاله، وكان بينهما ما يكون بيد الجيران من التباعد، فلما بلغ محمد ما بلغ من الولاية شخص إلى سر من رأى، فورد بابه وهو يتغدى، فوصل إليه وهو على طعامه، فتركه قائماً لا يرفع إليه طرفه وهو يأكل حتى فرغ من أكله، ثم رفع رأسه إليه وقال له: ما خبرك؟ فقال الرجل: قد أصارك الله تعالى أيها الوزير إلى أجل الآمال، وصرف رغبات الناس إليك، وقد علمت ما كنت تنقمه علي، وقد غير الدهر حالي فوفدت إليك مستقيلاً عثرتي ومستعطفاً لك على خلتي، فقال له: قد علمت هذا فانصرف وعد إلي في غد، فولى الرجل من بين يديه، فلما صار في صحن داره دعا به، فلما وقف بين يديه قال: لا والله مالك عندي شيء مما أملته وقدرته، فلا تقم علي، ثم أقبل على بعض من بيد يديه فقال: إنما رددته وأيسته بخلاً عليه بفسحة الأمل وأنس الرجاء في بقية يومه.
وكان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر موصوفاً بالقسوة، كان يغضب على الرجل فيأمر بضربه بالسياط وهو يتحدث، ويتغافل عنه حتى يموت تحت السياط.
وقال عيسى النوفلي: غضب ابن جعفر على غلام له وأنا عنده جالس في غرفة بأصفهان، فأمر أن يرمى به منها إلى أسفل، ففعل به ذلك، فتعلق بدرابزين كان على الغرفة فأمر بقطع يده التي أمسكه بها فقطعت، ومر الغلام يهوي حتى بلغ الأرض فمات.
شاعر: من الطويل
ولا تك ذا وجهين وجه شهادة ... ووجه مغيب غيبه غير طائل
آخر: من الطويل
وكم من صديق وده بلسانه ... خؤون بظهر الغيب لا يتذمم
كذلك ذو الوجهين يرضيك شاهداً ... وفي غيبه إن غاب صاب وعلقم
آخر: من الوافر
وذو الوجهين ظاهره صحيح ... وباطن غيبه داء دفين
قال بعض الحكماء: آفة الملوك سوء السيرة، وآفة الوزراء سوء السريرة، وآفة الجند مخالفة القادة، وآفة الرعية مفارقة الطاعة، وآفة الزعماء ضعف السياسة، وآفة العلماء حب الرياسة، وآفة القضاة شدة الطمع، وآفة العدول قلة الورع، وآفة الملوك مضادة الأعوان، وآفة العدل ميل الولاة، وآفة الجريء إضاعة الحزم، وآفة القوي استضعاف الخصم، وآفة المنعم قبح المن، وآفة المذنب سوء الظن. من كثر ملقه لم يعرف بشره.
كان يوسف بن عمر الثقفي من الموصوفين بالقسوة والفظاظة، وكان في إمارته العراق يعظ الناس ويأمر بالخير، وينهى عن الأذى، ويزهد في الدنيا، ويرغب في المعاد، ويخالف فعله قوله - كان يتخذ لهشام طنافس الخز في واسط، فامتحن طنفسة منها بأن جر عليها ظفر إبهامه فعلقت به غفرة من الطنفسة فأمر بيد الصانع فقطعت.
وأمر أن يضرب الدرهم لا ينقص حبة فما فوقها، ونادى من فعل ذلك ضربته ألف سوط، ووجد درهماً ناقصاً حبة فأحضر الضرابون فكانوا مائة، فضرب كل واحد ألف سوط، فقيل ضرب في حبة فضة مائة ألف سوط.
وقد أكثر الشعراء في ذكر حسد الأقارب: قال الأقرع بن معاذ: من الطويل
ومولى أمنا داءه تحت جنبه ... فلسنا نجازيه ولسنا نعاتبه
رأى الله أعطاني فأضمر صدره ... على حسد الإخوان وازور جانبه
فويل له منا وويل لأمه ... علينا إذا ما حركته حوازبه
وقال مبذول العنزي: من الطويل
ومولى كضرس السوء يؤذيك مسه ... ولا بد إن آذاك أنك فاقره
دوي الجوف إن ينزع يسؤك مكانه ... وان يبق تصبح كل يوم تحاذره
يسر لك البغضاء وهو مجامل ... وما كل من يجني عليك تساوره
وما كل من مددت ثوبك فوقه ... لتستره مما جنى أنت ساتره
وقال عمر بن أبي ربيعة: من الكامل
ومشاحن ذي بغضة وقرابة ... يزجي لأقربه عقارب لسعا
يسعى ليهدم ما بنيت وإنني ... لمشيد بنيانه المتضعضعا
وإذا سررت يسؤه ما سرني ... ويرى المسرة مروتي أن تقرعا
وإذا عثرت يقول إني شامت ... وأقول حين أراه يعثر دعدعا
وقال الحسن بن هانىء: من المديد
وابن عم لا يكاشفنا ... قد لبسناه على غمره
كمن الشنآن فيه لنا ... ككمون النار في حجره
وقال آخر: من الطويل
لكل كريم من ألائم قومه ... على كل حال حاسدون وكشح
وقال ابن المعتز: الكامل المجزوء
ما عابني إلا الحسو ... د وتلك من خير المناقب
وإذا فقدت الحاسدي ... ن فقدت في الدنيا الأطايب
ومن كلام بعض الزهاد: إذا زال المحسود عليه علمت أن الحاسد كان يحسد على غير شيء.
وقال عروة بن أذينة: من البسيط
لا يبعد الله حسادي وزادهم ... حتى يموتوا بداء في مكنون
إني رأيتهم في كل منزلة ... أجل قدراً من اللائي يحبوني
ولقد أحسن الآخر في قوله، وهو الكميت بن معروف الأسدي: من البسيط
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظاً بما يجد
وفي الحسد يقول الشاعر: من الطويل
إني امرؤ لا أحسد الناس نعمة ... إذا نالها قبلي من الناس نائل
أأحسد فضل الله أن ناله امرؤ ... سواي وعندي للاله فضائل
وهبني حسدت المرء بالجهل رزقه ... وحال به عني من الله حائل
ولم يضرر المحسود مني نفاسة ... أليس على قلبي تحوم البلابل
ومن أبلغ ما سمع في الحنق أن أبا العباس السفاح لما قتل بني أمية بحضرته دعا بالغداء، ثم أمر ببساك فبسط عليهم، وجلس فوقه يأكل وهم يضطربون تحته، فلما فرغ قال: ما أعلمني أكلت أكلة قط كانت أهنأ ولا أطيب في نفسي منها. ويقال: إنهم صلبوا في بستانه حتى تأذى جلساؤه بروائحهم، فكلموه في ذلك فقال: والله لهذا ألذ عندي من شم المسك والعنبر، غيظاً عليهم، وتمثل بقول ذي الإصبع: من البسيط
لو يشربون دمي لم يرو شاربهم ... ولا دماؤهم للغيظ تشفيني
وضد هذا التشفي ما حكي عن محمد بن زيد بن علي بن الحسين في حكاية طويلة رواها القاضي التنوخي قال: كان محمد بن زيد الداعي العلوي بطبرستان إذا افتتح الخراج نظر ما في بيت المال من خراج السنة التي قبلها، ففرق في قبائل قريش قسطاً على دعوتهم، وفي الأنصار والفقهاء وأهل القرآن وسائر الناس، حتى يفرق جميع ما بقي، فجلس في سنة من السنين يفرق المال كما كان يفعل، فلما فرغ من بني هاشم دعا بسائر عبد مناف، فقام رجل فقال له: من أي عبد مناف أنت؟ قال من بني أمية، قال: من أيهم؟ فسكت. قال: لعلك من بني معاوية؟ قال: نعم، قال: فمن أي ولده؟ فأمسك، قال: لعلك من ولد يزيد، قال: نعم، قال بئس الاختيار اخترت لنفسك من قصدك بلداً ولايته لآل أبي طالب، وعندك ثأرهم في سيدهم، وقد كانت لك مندوحة عنهم في الشام والعراق إلى من يتوالى جدك ويحب برك، فإن كنت جئت على جهل بهذا منك فما يكون بعد جهلك شيء، وإن كنت جئت لغيره فقد خاطرت بنفسك، قال: فنظر إليه العلويون نظراً شديداً، فصاح بهم محمد وقال: كفوا، كأنكم تظنون أن في قتل هذا دركا أو ثأراً بالحسين بن علي، وأي جرم لهذا؟ إن الله جل وعز قد حرم أن تطالب نفس بغير ما اكتسبت، والله لا يعرض له أحد إلا أقدته منه؛ واسمعوا حديثاً أحدثكم به يكون لكم قدوة فيما تستأنفون، حدثني أبي عن أبيه قال: عرض على المنصور سنة حج جوهر فاخر فعرفه وقال: هذا جوهر كان لهشام بن عبد الملك وهو هذا بعينه وقد بلغني خبره عند محمد ابنه، وما بقي منهم أحد غيره، ثم قال للربيع: إذا كان غداً وصليت بالناس في المسجد الحرام وحصل الناس فيه فأغلق الأبواب كلها ووكل بها ثقاتك من الشيعة فأقفلها وافتح للناس باباً واحداً وقف عليه، فلا يخرج أحد إلا من عرفته. فلما كان من الغد فعل الربيع ما أمره به وتبين محمد بن هشام القصة، فعلم أنه هو المطلوب وأنه مأخوذ، فتحير، وأقبل محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على تفئة ذلك فرآه متحيراً وهو لا يعرفه، فقال له: يا هذا أراك متحيراً فمن أنت، ولك أمان الله وأنت في ذمتي حتى أتخلص بك، فقال: أنا محمد ابن هشام بن عبد الملك، فمن أنت؟ قال: أنا محمد بن زيد بن علي بن الحسين، فقال عند ذلك: أحتسب نفسي إذن، قال: لا بأس عليك يا ابن عم، فانك لست قاتل زيد ولا في قتلك إدراك ثأره، وأنا الآن بخلاصك أولى مني بإسلامي إياك، ولكن تعذرني في مكروه أتناولك به وقبيح أخاطبك به يكون فيه خلاصك، قال: أنت وذاك، فطرح رداءه على رأسه ووجهه، ولببه وأقبل يجره، فلما وقعت عين الربيع عليه لطمه لطمات وجاء به إلى الربيع وقال له: يا أبا الفضل إن هذا الخبيث جمال من أهل الكوفة أكراني جماله ذاهباً وراجعاً، وقد هرب مني في هذا الوقت وأكرى بعض القواد الخراسانية، ولي عليه بينة فتضم إلي حرسيين يصيران به معي إلى القاضي ويمنعان الخراساني من إعزازه، فضم إليه حرسيين وقال امضيا معه، فلما بعد عن المسجد قال له: يا خبيث تؤدي إلي حقي؟ قال: نعم يا ابن رسول الله، فقال للحرسيين: انصرفا، فانصرفا وأطلقه، فقبل محمد بن هشام رأسه وقال: بأبي أنت وأمي: الله أعلم حيث يجعل رسالاته، ثم أخرج جوهراً له قدر وقال: تشرفني بقبول هذا؟ قال: يا ابن عم إنا أهل بيت لا نقبل على المعروف مكافأة، وقد تركت لك أعظم من ذلك، تركت لك دم زيد بن علي، فانصرف راشداً ووار شخصك حتى يخرج هذا الرجل فإنه مجد في طلبك، فمضى وتوارى.
ثم أمر للداعي الأموي بمثل ما أمر به لسائر بني عبد مناف، وضم إليه جماعة من مواليه، وأمرهم أن يخرجوه إلى الري ويأتوه بكتابه بسلامته، فقام الأموي فقبل رأسه، ومضى معه القوم حتى وصل إلى مأمنه، وجاءوه بكتابه من الري.