كتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون
فأعجب الرشيد وطرب، فقال له الموصلي: يا أمير المؤمنين، فكيف لو سمعته من عبدك مخارق فإنه أخذه عني وهو يفضل فيه الخلق جميعاً ويفضلني؟ فأمر بإحضار مخارق فأحضر فقال له: غنني:
يا رَبْعَ سلمى لقد هيَّجْتَ لي طربا
فغناه إياه، فبكى وقال: سل حاجتك. قال مخارق: فقلت: يعتقني أمير المؤمنين من الرق ويشرفني بولائه، أعتقك الله من النار. قال: فأنت حر لوجه الله، أعد الصوت فأعدته فبكى وقال: سل حاجتك، فقلت: حاجتي يا أمير المؤمنين ضيعة تقيمني غلتها فقال: قد أمرت لك بها، أعد الصوت، فأعدته فبكى وقال: سل حاجتك، فقلت: يأمر لي أمير المؤمنين بمنزل وفرش وما يصلحه وخادم فيه، قال: ذلك لك، أعده، فأعدته فبكى وقال: سل حاجتك، فقلت: حاجتي يا أمير المؤمنين أن يطيل الله بقاءك ويديم عزك، ويجعلني من كل سوء فداءك. فكان إبراهيم سبب عتقه بهذا الصوت. وكان مخارق يقول: أنا عتيق هذا الصوت.
كان عطرد المغني من أهل الهيئة والمروءة، فقيهاً قارئاً. وقصد آل سليمان بن علي بالبصرة فأقام معهم، وولي سلمة بن عباد القضاء بالبصرة، فقصد ابنه عباد عطرداً، فأتى بابه ليلاً فدق عليه الباب ومعه جماعة من أصحابه أصحاب القلانس، فخرج إليه عطرد فلما رآه ومن معه فزع، فقال: لا ترع: من الكامل المرفل:
إِنِّي قَصَدْتُ إِليكَ من أَهلي ... في حاجةٍ يأتي لها مِثْلي
فقال ما هي أصلحك الله؟ فقال: من الكامل المرفل:
لا طالباً إِليك سوى ... حيِّ الحُمولَ بجانبِ العَزْلِ
فقال: انزلوا على بركة الله. فلم يزل يغنيهم بهذا الصوت وغيره حتى أصبحوا. وهذا الشعر يقوله امرؤ القيس بن عابس الكندي، وهو: من الكامل المرفل:
حيِّ الحُمولَ بجانبِ العَزْلِ ... إِذ لا يُلائمُ شكلُها شكْلي
الله أَنْجَحُ ما سألْتَ بهِ ... والبِرُّ خَيْرُ حقيبةِ الرَّحْلِ
إِنِّي بحَبْلِك واصلٌ حَبْلي ... وبريشِ نَبْلِكَ رائشٌ نَبْلي
وشمائلي ما قَدْ علِمْتَ وما ... نَبَحَتْ كلابُك طارِقاً مِثْلي
كان أحمد بن أبي دواد ينكر أمر الغناء إنكاراً شديداً. وكان أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي رحمه الله صديقه، وهو من القواد الأكابر، ومحله من الشجاعة مشهور، وكان جيد الغناء وله صنعة متقنة.فأعلمه المعتصم أنه يغني فقال ابن أبي دواد: ما أراه مع عقله يفعل ذلك. فستر المعتصم أحمد بن أبي دواد في موضع، وأحضر أبا دلف وأمره أن يغني ففعل ذلك وأطال. ثم أخرج أحمد بن أبي دواد عليه من موضعه والكراهة ظاهرة في وجهه، فلما رآه أحمد قال: سوأةً لهذا من فعل! أبعد السن وهذا المحل تضع نفسك كما أرى! فخجل أبو دلف وتشور وقال: إنهم أكرهوني على ذلك. قال: هبهم أكرهوك على الغناء، أفأكرهوك على الإحسان فيه والإصابة؟! قال معبد: أتيت جميلة يوماً وكان لي موعد، ظننت أني قد سبقت الناس إليها، وإذا منزلها غاص، فسألتها أن تعلمني شيئاً، فقالت: إن غيرك قد سبقك، ولا يجمل تقديمك على من سواك. فقلت: جعلت فداك! إلى متى تفرغين ممن سبقني؟ قالت: هو ذاك، الحق يسعك ويسعهم. فبينا نحن في ذاك إذ أقبل عبد الله بن جعفر - فإنه لأول يوم رأيته وآخره وكنت صغيراً كيساً، وكانت جميلة شديدة الفرح بي - فقامت وقام الناس فلقيته وقبلت يديه، وجلس في صدر المجلس على كرسي لها، وتحوق أصحابه حوله، وأشارت إلى من عندها بالانصراف فتفرق الناس، وغمزتني ألا أبرح فأقمت، وقالت: يا سيدي وسيد آبائي وموالي، كيف نشطت أن تنقل قدميك إلى أمتك؟ قال: يا جميلة، قد علمت ما آليت أن لا تغني أحداً إلا في منزلك، وأحببت الاستماع، وكان ذلك طريقاً ماداً فسيحاً. قال: جعلت فداءك! فأنا أصير إليك وأكفر، فقال: لا أكلفك ذلك، وبلغني أنك تغنين ببيتين لامرئ القيس تجيدين الغناء فيهما، وكان الله عز وجل أنقذ بهما جماعةً من المسلمين من الموت. قالت: يا سيدي نعم، فاندفعت فغنت بعودها، فما سمعت منها قبل ذلك اليوم ولا بعده إلى أن ماتت مثل ذلك الصوت، ولا مثل ذلك الغناء، فسبح عبد الله بن جعفر والقوم معه، وهما: من الطويل:
ولمّا رأتْ أَنَّ الشريعةَ همُّها ... وأَنَّ البياضَ من فرائصِها دامي
تيمَّمَتِ العَيْنَ التي عند ضارجٍ ... يفئُ عليها الظلُّ عَرْمضُها طامي
فلما فرغت جميلة قالت: يا سيدي أزيدك؟ قال: حسبي. فقال بعض من كان معه: أي جعلت فداك! وكيف أنقذ الله بهذين البيتين جماعةً من المسلمين؟ قال: نعم، أقبل قوم من أهل اليمن يريدون النبي صلى الله عليه وسلم، فضلوا الطريق ووقعوا على غيرهم، ومكثوا ملياً لا يقدرون على الماء، وجعل الرجل منهم يستذري بفيء السمر والطلح، فأيسوا من الحياة، إذا أقبل رجل على بعير، فأنشد بعض القوم هذين البيتين، قال الراكب: من يقول هذا؟ قال: امرؤ القيس، قال: والله ما كذب، هذا ضارج عندكم، وأشار لهم إليه. فحبوا على الركب، فإذا ماء عد وإذا عليه الغرمض والظل بفيء عليه. فشربوا منه ريهم وحملوا منه ما اكتفوا به حتى بلغوا الماء. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه وقالوا: يا رسول الله، أحيانا الله عز وجل بيتين من شعر امرئ القيس وأنشدوه الشعر، فقال صلى الله عليه وسلم: ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسي في الآخرة خامل فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعر إلى الناء.
لما قدم عثمان بن حيان المري إلى المدينة والياً عليها، قال له قوم من وجوه الناس: إنك قد وليت المدينة على كثرة من الفساد، فإن كنت تريد أن تصلح فطهرها من الغناء والزنا. فصاح في ذلك، وأجل أهله ثلاثاً يخرجون فيها من المدينة. وكان ابن أبي عتيق غائباً، وكان من أهل الفضل والعفاف والصلاح. فلما كان آخر ليلة من الأجل قدم، فقال: لا أدخل منزلي حتى أدخل على سلامة القس فدخل عليها فقال: ما دخلت منزلي حتى جئتكم أسلم عليكم، قالوا: ما أغفلك عن أمرنا! وأخبروه الخبر. فقال: اصبروا إلى الليلة التي آتية، قالوا: نخاف أن لا يمكنك شيء، قال: إن خفتم شيئاً، فاخرجوا في السحر ثم خرج فاستأذن على عثمان بن حيان فأذن له فسلم عليه وذكر غيبته، وذكر أنه جاءه ليقضي حقه، ثم جزاه خيراً على ما فعل من إخراج أهل الغناء والزنا، وقال: أرجو أن تكون عملت عملاً هو خير لك من ذلك، فقال عثمان: قد فعلت ذلك وأشار به علي أصحابك. فقال: قد أصبت، ولكن ما تقول - أمتع الله بك - في امرأة هذه صناعتها، وكانت تكره على ذلك، ثم تركته وأقبلت على الصلاة والصيام والخير، وأنا رسولها إليك تقول: أتوجه إليك وأعوذ بك أن تخرجني من جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده؛ قال: إني أدعها لك ولكلامك. قال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس، ولكن تأتيك وتسمع كلامها وتنظر إليها، فإن رأيت أن مثلها ينبغي أن يترك تركتها، قال: نعم. فجاءه بها وقال لها: احملي معك سبحةً وتخشعي، ففعلت. فلما دخلت على عثمان حدثته، فإذا هي أعلم الناس بأمور الناس، فأعجب بها، وحدثته عن آبائه وأمورهم، ففكه لذلك. فقال لها ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، فقرأت له، فقال لها: أحدي له، ففعلت، وكثر عجبه منها. فقال: كيف لو سمعتها في صناعتها؟ فلم يزل ينزله شيئاً فشيئاً حتى أمرها بالغناء، فقال لها ابن أبي عتيق: غني: من الطويل:
سَدَدْنَ خَصاصَ الخَيْمِ لمّا دخَلْنَهُ ... بكُلِّ لَبانٍ واضحٍ وجَبينِ
فغنته، فقام عثمان من مجلسه فقعد بين يديها ثم قال: لا والله، ما مثل هذه يخرج! قال ابن أبي عتيق: لا يدعك الناس؛ يقولون: أقر سلامة وأخرج غيرها، قال: فدعوهم جميعاً، فتركوهم جميعاً، وأصبح الناس يقولون: كلم ابن أبي عتيق الأمير في سلامة القس فتركوا جميعاً.
قال علويه الأعسر المغني: أمرنا المأمون أن نباكر لنصطبح، فلقيني عبد الله بن إسماعيل المراكبي مولى عريب، فقال: يا أيها الظالم المعتدي، ألا ترحم ولا ترق؟ عريب هائمة من الشوق إليك، تدعو وتستحكم، وتحلم بك في نومها في كل ليلة ثلاث مرات. قال علويه: فقلت له: أم الخليفة زانية، ومضيت معه، فحين دخلت قلت: استوثق من الباب فأنا أعرف الناس بفضول الحجاب، وإذا عريب على كرسي تطبخ ثلاث قدور من دجاج. فلما رأتني قامت فعانقتني وقبلتني وقالت: أي شيء تشتهي؟ فقلت: قدراً من هذه القدور. فأفرغت قدراً بيني وبينها. فأكلنا، ودعت بالنبيذ فصبت رطلاً وشربت نصفه، فما زلت أشرب حتى كدت أسكر، ثم قالت: يا أبا الحسن، غنيت البارحة في شعر لأبي العتاهية فأعجبني، فتسمعه وأصلحه، فغنت: من الطويل:
عذيري من الإِنسانِ لا إِن جفَوْتُه ... صفا لي ولا إِن صِرْتُ طوعَ يَدَيْهِ
وإِني لمشتاقٌ إِلى ظلِّ صاحبٍ ... يروقُ ويصفو إِن كدرْتُ عليه
فصيرناه مجلسنا، وقالت: قد بقي فيه شيء، فلم أزل أنا وهي حتى أصلحناه، ثم قالت: أحب أن تغني أنت أيضاً فيه لحناً، ففعلت. وجعلنا نشرب على اللحنين ملياً، ثم جاء الحجاب فكسروا الباب واستخرجوني. فدخلت إلى المأمون، فأقبلت أرقص من أقصى الإيوان، وأصفق وأغني الصوت، فسمع المأمون وندماؤه ما لم يعرفوه فاستظرفوه، فقال المأمون: يا علويه، ادن وردده، فرددته عليه سبع مرات، فقال لي في آخرها عند قولي:
يروقُ ويصفو إِن كدرْتُ عليه
يا علويه، خذ الخلافة وأعطني هذه الصاحب.
قال المدائني: اصطحب قوم في سفر ومعهم شيخ عليه أثر النسك والعبادة، ومعهم مغن، وكانوا يشتهون أن يغنيهم ويستحيون من الشيخ إلى أن بلغوا صخيرات الثمام، فقال المغني: أيها الشيخ، إن علي يميناً أن أنشد شعراً إذا انتهيت إلى هذا الموضع، وإني أهابك وأستحي منك، فإن رأيت أن تأذن لي في الإنشاد أو تتقدم حتى أوفي بيميني ثم ألحق بك فافعل. قال: ما علي من إنشادك! أنشد ما بدا لك، فاندفع يغني: من الطويل:
وقالوا صُخَيْرات الثُّمامِ وقدَّموا ... أَوائلَهم من آخرِ الليلِ في الثَّقْلِ
فجعل الشيخ يبكي أحر بكاء وأشجاه، فقالوا: ما لك يا عم تبكي؟ فقال: لا جزيتم خيراً عني! هذا معكم طول الطريق وأنتم تبخلون علي أن أتفرج به، ويقطع عني طريقي، وأتذكر أيام شبابي! فقالوا: لا والله ما كان يمنعنا غير هيبتك، قال: فأنتم إذاً معذورون. ثم أقبل عليهم فلم يزل يغنيهم طول سفرهم حتى افترقوا.
وقيل: حضر أبو السائب مجلساً فيه بصبص جارية ابن نفيس، فغنت: من المنسرح:
قلبي حبيسٌ عليك موقوفُ ... والعينُ عَبْرى والدَّمْعُ مذروفُ
والنَّفْسُ في حَسْرَةٍ بغُصّتها ... قد سفَّ أَرجاءَها التساويفُ
إِن كُنْتَ بالحسْنِ قد وصفْتَ لنا ... فإِنّني بالهوى لموصوفُ
يا حسرتا حسرةً أَموتُ بها ... إِنْ لم يكن لي لديك معروفُ
قال: فطرب أبو السائب ونعر وقال: لا عرف الله قدر من لا يعرف لك معروفك!، ثم أخذ قناعها عن رأسها فوضعه على رأسه وجعل يلطم ويبكي ويقول لها: بأبي أنت وأمي! والله إني لأرجو أن تكوني عند الله أفضل من الشهداء لما تولينا من السرور، وجعل يصيح: واغوثاه! يالله ما يلقى العاشقون!.
قال ابن أبي مليكة: كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم والفقه، وكان يغشى عبد الله بن جعفر، فسمع جاريةً تغني: من البسيط:
بانَتْ سعادُ وأَمسى حبلُها انقطعا.
وكانت الجارية مغنية لبعض النخاسين، فاستهتر بها الناسك وهام، وترك ما كان عليه حتى مشى إليه عطاء وطاوس فلاماه، فكان جوابه لهما أن تمثل قول الشاعر: من البسيط:
يلومني فيك أقوامٌ أجالسُهم ... فما أُبالي أَطارَ اللومُ أَم وَقَعا
وبلغ عبد الله بن جعفر خبره، فبعث إلى النخاس، فاعترض الجارية وسمع غناءها بهذا الصوت، فقال لها: ممن أخذته؟ قالت: من عزة الميلاء، فابتاعها بأربعين ألف درهم، ثم بعث إلى الرجل، فسأله عن خبرها، فأعطاه إياه وصدقه عنه، فقال: أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية؟ قال: نعم، فدعا بعزة الميلاء فقال: غنيه إياه، فغنته، فصعق الرجل مغشياً عليه. فقال ابن جعفر: أثمنا فيه! الماء! فنضح على وجهه، فلما أفاق قال له: أكل هذا بلغ بك من عشقها؟ قال: وما خفي عنك أكثر؛ قال: أفتحب أن تسمعه منها؟ قال: قد رأيت ما نالني حين سمعته من غيرها وأنا لا أحبها، فكيف يكون حالي إن سمعته منها وأنا لا أقدر على ملكها؟ قال: أفتعرفها إن رأيتها؟ قال: أو أعرف غيرها فأمر بها فأخرجت قال: خذها فهي لك والله مانظرت إليها إلا عن عرض. فقبل الرجل يديه ورجليه وقال: أنمت عيني وأحييت نفسي، وتركتني أعيش بين قومي، ورددت إلي عقلي. ودعا له دعاء كثيراً، فقال له: ما أرضى أن أعطيكها هكذا؛ يا غلام احمل معه مثل ثمنها لكيلا تهتم به ويهتم بها.
قال إسحاق بن إبراهيم المصعبي وقد حضره جماعة من جلسائه والأماثل والمغنين. فلما جلسوا للشرب جعل الغلمان يسقون من حضر، وجاءني غلام قبيح الوجه بقدح فيه نبيذ، فلم آخذه من يده، فرآني إسحاق فقال: لم لا تشرب؟ فقلت في الحال: من البسيط:
إِصْبَحْ نديمَك أَقداحاً يُسَلْسِلُها ... من الشَّمولِ وأَتْبعْها بأَقْداحِ
من كفِّ ريمٍ مليح الدَّلِّ ريقتُه ... بعد الهجوعِ كمِسْكٍ أَو كتُفَّاحِ
لا أَشربُ الراحَ إِلا من يَدَيْ رَشَأ ... تقبيلُ راحتهِ أَشْهى من الراحِ
قال: فضحك ثم قال: صدقت والله، ثم دعا بوصيفة تامة الحسن في زي غلام عليها قباء ومنطقة، فقال لها: تولي سقي أبي محمد. فما زالت تسقيني حتى سكرت، ثم أمر بتوجيهها وكل ما في داره إلي فانصرفت بها.
عاتب مسلمة بن عبد الملك أخاه يزيد وقال: يا أمير المؤمنين، ببابك وفود الناس ويقف به أشراف العرب، ولا تجلس لهم، وأنت قريب عهد بعمر ابن عبد العزيز، وقد أقبلت على هؤلاء الإماء! قال: إني لأرجو أن لا تعاتبني على هذا بعد اليوم. فلما خرج مسلمة من عنده استلقى على فراشه، وجاءت جاريته حبابة فلم يكلمها، فقالت: ما دهاك عني؟ فأخبرها بما قال مسلمة وقال: تنحي حتى أفرغ للناس. قالت: فأمتعني منك يوماً واحداً ثم اصنع ما بدا لك؛ قال: نعم، فقالت لمعبد: كيف الحيلة؟ قال: يقول الأحوص أبياتاً وتغني فيها؛ قال: نعم. فقال الأحوص: من الطويل:
أَلا لا تَلُمْهُ اليومَ أَن يتبلَّدا ... فقد غُلِبَ المحزونُ أَن يتجلَّدا
إِذا كُنْتَ عِزْهاةً عن اللهوِ والصِّبا ... فكُنْ حجراً من يابسِ الصخرِ جَلْمدا
فما العَيْشُ إِلا ما تُحِبُّ وتِشْتهي ... وإِنْ لام فيه ذو الشنانِ وفَنَّدا
فغنى فيه معبد وقال: مررت البارحة بدير نصارى وهم يقرون بصوت شجي فحكيته في هذا الصوت، فلما غنته حبابة قال يزيد: لعن الله مسلمة! قد صدقت والله لا أطيعهم أبداً.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: أقام المأمون بعد قدومه بغداد عشرين شهراً لم يسمع حرفاً من الأغاني؛ ثم قال: كان أول من تغنى بحضرته أخوه أبو عيسى بن الرشيد، ثم واظب على السماع مستتراً متشبهاً بالرشيد في أول أمره، فأقام المأمون كذلك أربع حجج، ثم ظهر للندماء والمغنين.
وكان حين أحب المأمون السماع سأل عني، فخرجت بحضرته وقال الطاعن علي: ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلفاء؟ فقال: ما أبقى هذا من التيه شيئاً إلا استعمله. فأمسك عن ذكري، وجفاني من كان يصلني لسوء رأيه الذي ظهر في فأضر ذلك بي، حتى جاءني علويه يوماً فقال لي: أتأذن لي في ذكرك، فإنا قد دعينا اليوم؟ فقلت: لا، ولكن غنه بهذا الشعر، فإنه يبعثه على أن يسألك: لمن هذا؟ فإذا سألك انفتح لك باب ما تريد، وكان الجواب أسهل عليك من الابتداء. فقال: هات، فألقيت عليه لحني في شعر عمر: من البسيط:
يا سَرْحةَ الماءِ قد سُدَّت موارِدُهُ ... أما إِليكِ طريقٌ غير مسدودِ
لحائمٍ حام حتى لا حياةَ له ... محلَّأ عن زُلالِ الماءِ مطرودِ
قال فمضى علويه، فلما استقر به المجلس غناه بالشعر، فقال: ويلك يا علويهّ! لمن هذا الشعر؟ قال: يا سيدي، لعبد من عبيدك، جفوته واطرحته من غير ذنب، فقال: إسحاق تعني؟ قال: نعم، قال: تحضره الساعة. فجاءني رسوله، فصرت إليه، فلما دخلت عليه قال: ادن، فدنوت منه فرفع يديه مادهما، فأكببت عليه فاحتضنني بيديه، وأظهر من بري وإكرامي ما لو أظهره صديق مؤانس لصديق لسره.
جَرَيْتُ مع الصِّبا طَلْقَ الجموحِ ... وهان عليَّ مأْثورُ القَبيحِ
وجَدْتُ أَلذَّ عاريةِ الليالي ... قِرانَ النَّغْمِ بالوَتَرِ الفصيحِ
ومُسْمِعَةٍ إِذا ما شِئْتُ غنَّتْ ... متى كان الخيامُ بذي طلوح
تمتَّعْ من شبابٍ ليس يَبْقى ... وصِلْ بعُرى الغَبوقِ عرى الصَّبوح
وخُذْها من مُعَتَّقَةٍ كُمَيْتٍ ... تُنزلُ دِرَّةَ الرجلِ الشَّحيحِ
تخيَّرها لكسرى رائداهُ ... لها حظَّانِ من طَعْمٍ وريحِ
أَلمْ تَرَني أَبحْتُ الراحَ عِرْضي ... وعض مراشفِ الظَّبيِ المليحِ
وأّنِّي عالمٌ أَنْ سوف تنأى ... مسافةُ بَيْنَ جُثماني وروحي
وله: من البسيط:
لا أرحلُ الراحَ إِلا أَن يكونَ لها ... حادٍ بمُنْتَخلِ الأَشعارِ غِرِّيدُ
فاستنطِقِ العودَ قد طال السكوتُ به ... لا ينطقُ اللهوُ حتى ينطقَ العودُ
قال المأمون: الطعام لون واحد، فإذا استطبته فاشبع منه، والندمان واحد فإذا رضيته فلا تفارقه ما لم يفارقك الرضا به، والغناء صوت واحد، فإذا استطبته فاستزده حتى تقضي وطرك منه.
قال أبو محمد التميمي: سألت الشريف أبا علي محمد بن أحمد بن موسى الهاشمي عن السماع؟ فقال: لا أدري ما أقول فيه، غير أني حضرت دار شيخنا عبد العزيز بن الحارث التميمي رحمه الله تعالى سنة سبعين وثلاثمائة في دعوة عملها لأصحابه حضرها أبو بكر الأبهري شيخ المالكيين وأبو القاسم الداركي شيخ الشافعيين وأبو الحسن طاهر بن الحسين شيخ أصحاب الحديث، وأبو الحسين بن سمعون شيخ الوعاظ والزهاد، وأبو عبد الله ابن مجاهد شيخ المتكلمين وصاحب أبي بكر بن الباقلاني في دار شيخنا أبي الحسن التميمي شيخ الحنابلة. قال أبو علي: لو سقط السقف عليهم لم يبق للعراق من يفتي في حادثة يشبه واحداً منهم، ومعهم أبو عبد الله غلام تام، وربما كان هذا يقرأ القرآن بصوت حسن وربما قال شيئاً، فقيل له: قل لنا شيئاً، فقال وهم يسمعون من البسيط:
خطَّت أَنامِلُها في بَطْنِ قِرطاسِ ... رسالةً بعبيرٍ لا بأَنْقاسِ
أُنظر فديتُكَ لي من غير محتشم ... فإِنَّ حبَّك لي قد شاع في الناسِ
وكان قولي لِمَنْ أَدَّى رِسالتَها ... قِفْ لي لأِمشي على العَيْنينِ والراسِ
قال أبو علي: فبعد ما رأيت هذا لا يمكنني أن أفتي في هذه المسألة بشيء من حظر أو إباحة.
ومن أكابر المغنين ومقدميهم يحيى بن مرزوق المكي مولى بني أمية. وكان يكتم ولاءه لخدمته خلفاء بني العباس، فإذا سئل عن ولائه انتهى إلى قريش. وعمر مائة وعشرين سنةً، ومات وهو صحيح العقل والسمع والبصر، وقدم مع الحجازيين الذين قدموا على المهدي في أول خلافته، فخرج أكثرهم وبقي يحيى بالعراق. وولده يخدمون الخلفاء، وآخرهم أحمد بن يحيى كان يخدم المعتمد.
وليحيى صنعة عجيبة نادرة. وله كتاب في الأغاني كبير جليل مشهور، إلا أنه خلط في نسبه فاطرح. وكان ابن جامع، وإبراهيم الموصلي، وفليح بن أبي العوراء يفزعون إليه في الغناء القديم، فيأخذون عنه يعايي بعضهم بعضاً بما يأخذه منه، ويغرب به على أصحابه، فإذا خرجت الجوائز أخذها.
قال محمد بن أحمد بن يحيى المكي: عمل جدي كتاباً في الأغاني وأهداه إلى عبد الله بن طاهر وهو يومئذ شاب حديث السن، فاستحسنه وسر به، ثم عرضه على إسحاق، فعرفه عواراً كثيراً في نسبه لأن جدي كان لا يصحح لأحد نسبة صوت ألبتة، وكان ينسب صنعته إلى المتقدمين، وينحل بعضهم صنعة بعض ضناً بذلك عن غيره، فسقط من عين عبد الله، وبقي في خزانته. ثم وقع إلى محمد بن عبد الله، فدعا بأبي - وكان إليه محسناً وعليه مفضلاً - فعرضه عليه فقال له: إن في هذا النسب تخليطاً كثيراً خلطه لضنه بهذا الشأن على الناس، ولكن أعمل لك كتاباً أصحح هذه وغيره فيه. فعمل له كتاباً فيه اثنا عشر ألف صوت وأهداه إليه، فوصله محمد بثلاثين ألف درهم، وصحح له الكتاب الأول أيضاً، فهو الذي في أيدي الناس.
وكان إسحاق يقدم يحيى المكي تقديماً كثيراً ويفضله ويناضل أباه وابن جامع فيه ويقول: ليس يخلو يحيى فيما يرويه من الغناء الذي لا يعرفه واحد منكم من أحد أمرين: إما أن يكون محقاً فيه كما يقول فقد علم ما جهلتم، أو يكون من صنعته وقد نحله المتقدمين كما تقولون، فهو أوضح لتقدمه عليكم.
قال محمد بن الحسن الكاتب: كان يحيى يخلط في نسب الغناء تخليطاً كثيراً، ولا يزال يصنع الصوت بعد الصوت، يتشبه فيه بالغريض مرةً، وبمعبد أخرى، وبابن سريج وبابن محرز، ويجتهد في إحكامه وإتقانه حتى يشتبه على سامعه. فإذا حضر مجالس الخلفاء غنى ما أحدث فيه من ذلك، فيأتي بأحسن صنعة وأتقنها، وليس أحد يعرفها، فيسأل عن ذلك، فيقول: أخذته عن فلان، وأخذه فلان عن يونس أو نظرائه من رواة الأوائل، فلا يشك في قوله، ولا يثبت لمباراته أحد، ولا يقوم لمعارضته ولا يفي بها، حتى نشأ إسحاق وضبط الغناء وأخذه من مظانه ودونه، وكشف عوار يحيى في منحولاته وبينها للناس.
قال أحمد بن سعيد المالكي - وكان مغنياً منقطعاً إلى طاهر وولده - وكان من القواد: حضرت يحيى المكي يوماً وقد غنى صوتا فسئل عنه، فقال: هذا لمالك، ثم غنى لحناً لمالك، فسئل عنه فقال: هذا لي، فقال له إسحاق الموصلي: قلت ماذا؟ فديتك! وتضاحك به. فسئل عن صانعه، فأخبر به وغنى الصوت، فخجل يحيى، وأمسك عنه ثم غنى بعد ساعة في الثقيل الأول، واللحن له: من الكامل المرفل:
إِنَّ الخليطَ أجدَّ فاحتملا ... وأَراد غَيْظَك بالذي فَعَلا
فسئل عنه، فنسبه إلى الغريض، فقال له إسحاق: يا أبا سليمان ليس هذا من نمط الغريض، ولا تفننه في الغناء، فلو شئت لأخذت ما لك، وتركت للغريض ما له، ولم تتعب، فاستحيى يحيى ولم ينتفع بنفسه بقية يومه. فلما انصرف بعث إلى إسحاق بلطائف كثيرة وبر واسع وكتب إليه يعاتبه ويستكف شره ويقول له: لست من أقرانك فتضاد لي، ولا ممن يتصدى لمباغضتك ومباراتك فتكايدني، وأنت إلى أن أفيدك وأعطيك ما تعلم أنك لا تجده إلا عندي فتسمو به على أكفائك أحوج منك إلى أن تباغضني فأعطي غيرك سلاحاً إذا حمله عليك لم تقم له، وأنت وما تختاره. فعرف إسحاق صدق يحيى فكتب إليه يعتذر ورد الألطاف التي حملها إليه، وحلف أن لا يعارضه بعدها، وشرط عليه الوفاء بما وعده به من الفوائد، فوفى له بها، وأخذ منه كل ما أراد من غناء المتقدمين. وكان إذا حزبه أمر في شيء منها فزع إليه فأعاده وعاونه ونصحه، وما عاود إسحاق معارضته بعد ذلك، وحذره يحيى؛ فكان إذا سئل عن شيء بحضرته صدق فيه، وإذا غاب إسحاق خلط فيما يسأل عنه.
قال: وكان يحيى إذا صار إليه إسحاق يطلب شيئاً أعطاه إياه، ثم يقول لابنه أحمد: تعال حتى تأخذ مع أبي محمد ما الله يعلم أني أبخل به عليك فضلاً عن غيرك، فيأخذه أحمد مع إسحاق عن أبيه.
وقال إسحاق يوماً للرشيد قبل أن تصلح الحال بينه وبين يحيى المكي: أتحب يا أمير المؤمنين أن أظهر لك كذب يحيى فيما ينسبه من الغناء؟ قال: نعم؛ قال: أعطني أي شعر شئت حتى أصنع فيه لحناً، وسلني بحضرته عن نسبه، فإني سأنسبه إلى رجل لا أصل له، وسل يحيى عنه إذا غنيته، فإنه لا يمتنع من أن يدعي معرفته. فأعطاه شعراً وصنع فيه لحناً وغناه الرشيد، ثم قال له: يسألني أمير المؤمنين عن نسبه بين يديه. فلما حضر يحيى غناه إسحاق، فسأله الرشيد: لمن هذا اللحن؟ فقال له إسحاق: لغناديس المدني، فقال له يحيى: نعم قد لقيته وأخذت عنه صوتين، ثم غنى صوتاً وقال: هذا أحدهما. فلما خرج يحيى حلف إسحاق بالطلاق ثلاثاً وعتق جواريه أن الله تعالى ما خلق أحداً اسمه غناديس ولا سمع به في المغنين ولا غيرهم، وأنه وضع ذلك الاسم في وقته ليكشف أمره.
قال علي بن المارقي: قال لي إبراهيم بن المهدي: ويلك يا مارقي! إن يحيى المكي غنى البارحة بحضرة أمير المؤمنين صوتاً فيه ذكر زينب، وقد كان النبيذ أخذ مني، فأنسيت شعره، فاستعدته إياه فلم يعده، فاحتل لي عليه حتى تأخذه منه، ولك علي سبق. قال زرزور مولاه: فقال لي المارقي وأنا يومئذ غلام: اذهب إليه فقل له إني أسأله أن يكون اليوم عندي. فمضيت إليه فحييته، فلما تغدوا وضع النبيذ فقال له المارقي: إني سمعتك تغني صوتاً فيه ذكر زينب، وأنا أحب أن آخذه منك، وكان يحيى يوفي هذا الشأن حقه من الاستقصاء، فلا يخرج إلا بحذر، ولا يدع الطلب والمسألة، ولا يلقي صوتاً إلا بعوض، فقال له يحيى: وأي شيء العوض إذا ألقيت عليك هذا الصوت؟ قال: ما تريد؟ قال: هذه الزلية الأرمنية، أما آن لك أن تملها؟ قال: بلى، هي لك، قال: وهذه الطنافس الخرمية، أنا مكي لا أنت وأنا أولى بها منك، قال: هي لك، وأمر بحملها معه، فلما حصلت له قال له المارقي: يا غلام، هات العود، قال يحيى: والميزان والدراهم؛ وكان يحيى لا يغني أو يأخذ خمسين درهماً، فأعطاه إياه، فألقى عليه: من الطويل:
بزينبَ أَلمِمْ قَبْلَ أَن يَظْعَنَ الرَّكْبُ
فلم يشك المارقي في أنه قد أدرك حاجته، فبكر إلى إبراهيم فقال له: قد جئت بالحاجة، فدعا بالعود فغناه إياه، فقال له: لا والله ما هو هذا، وقد خدعك، فعاود الاحتيال عليه. قال زرزور: فبعثني إليه وبعث معي خمسين درهماً، فلما دخل عليه وأكلا وشربا قال له يحيى: قد واليت بين دعواتك ولم تكن براً وصولاً، فما هذا؟! قال: لا شيء والله إلا محبتي للأخذ عنك والاقتباس منك. فقال له: برك الله! تذكرت الصوت الذي سألتك إياه فإذا هو غير الذي ألقيته علي، فقال: تريد ماذا؟ قال: تذكر الصوت، فغناه: من البسيط:
أَلمِمْ بزينب إِنَّ البَيْنَ قد أَفدا
فقال له: نعم فديتك يا أبا عثمان هذا هو فألقه علي، قال: العوض؛ قال: قل؛ قال: هذا المطرف الأسود، قال: هو لك، فأخذه وألقى عليه هذا الصوت حتى استوى له، وبكر إلى إبراهيم فقال له: ما وراءك؟ قال: قد قضيت حاجتك، ودعا بالعود فغناه إياه، فقال: خدعك والله وليس هذا هو، فأعد الاحتيال عليه، وكل ما تعطيه إياه فألزمني به.
فلما كان اليوم الثالث بعث إليه وفعل مثل فعله بالأمس، فقال له يحيى: ما لك أيضاً؟ قال: يا أبا عثمان، ليس هذا هو الصوت الذي أردت، فقال له: لست أعلم ما في نفسك فاذكره وأنا علي أن أذكر ما فيه زينب من الغناء كما التمست حتى لا يبقى عندي زينب ألبتة إلا أحضرتها، قال: هات على اسم الله تعالى. قال: اذكر العوض؛ قال: ما شئت، قال: هذه الدراعة الوشي التي عليك، فأخذها، قال: والخمسين الدرهم؟ فأحضرها وألقى عليه: من الطويل:
لزينبَ طيفٌ تعتريني طوارِقُه ... هُدُوّاً إِذا النجم ارجحنَّت لواحِقُهْ
فأخذه منه ومضى إلى إبراهيم فصادفه يشرب مع الحرم، فقال له حاجبه: هو يتشاغل؛ فقال له: قل له قد جئتك بحاجتك؛ فقال: يدخل فيغنيه في الدار وهو قائم، فإن كان هو، وإلا فليخرج. فدخل فغناه، فقال: لا والله ما هذا هو، فعاود الاحتيال ففعل مثل ذلك، فقال له يحيى وهو يضحك: ما ظفرت بزينبك بعد؟ فقال: لا والله يا أبا عثمان، وما أشك بأنك تتعمدني بالمنع فيما أريده وقد أخذت كل شيء عندي مغابنةً، فضحك يحيى ثم قال: قد استحييت منك الآن، وأنا أناصحك على شريطة، قال: نعم، قل الشريطة؛ قال: لا تلمني أن أغابنك، لأنك أخذت في مغابنتي، والمطلوب إليه أقدر من الطالب، فلا تعاود أن تحتال علي، فإنك لا تظفر مني بما تريد، إنما دسك إبراهيم بن المهدي علي ليأخذ صوتاً غنيته وسألني إعادته فمنعته بخلاً عليه، لأنه لا يلحقني منه خير ولا بركة، يريد أن يأخذ غنائي باطلاً، وطمع بموضعك أن تأخذ الصوت بلا ثمن ولا حمد، لا والله إلا بأوفر الأثمان، وبعد اعترافك؛ وإل فلاا تطمع في الصوت فقال: أما إذ فطنت، فالأمر والله على ما قلت، فتغنيه الآن بعينه على شرط وإن كان هو وإلا فعليك إعادته بعينه، ولو غنيتني في كل شيء تعرفه ولم أحتسب لك إلا به؛ قال اشتره، فتساوما طويلاً وماكسه المارقي حتى بلغ ألف درهم فدفعها إليه فألقاه عليه. والصوت: من الكامل:
طرقَتْكَ زينبُ والمزارُ بعيدُ ... بمنىً ونحن مُعرِّسون هُجودُ
قال: وهو صوت كثير العمل، حلو النغم، محكم الصنعة، صحيح القسمة، حسن المقاطع. فأخذه وبكر إلى إبراهيم بن المهدي فقال له: قد أفقرني هذا الصوت وأغرى بي وبلاني بوجه يحيى المكي وشحذه وطلبه وشرهه. وحدثه بالقصة، فضحك إبراهيم وغناه إياه فقال: هذا وأبيك هو بعينه. فألقاه عليه حتى أخذه، وأخلف كل شيء أخذه منه يحيى وزاده خمسة آلاف درهم، وحمله على برذون أشهب فاره بسرجه ولجامه، فقال له: يا سيدي، فغلامك زرزور المسكين قد تردد إليه حتى ظلع، هب له شيئاً. فأمر له بألف درهم.
روي أن إسحاق الموصلي لما صنع صوته: من الخفيف المجزوء:
قُلْ لِمَنْ ظلَّ عاتبا ... ونأى عَنْكَ جانبا
اتصل خبره بإبراهيم بن المهدي فكتب إليه يسأله عنه، فكتب إليه شعره وبسيطه ومجراه واصبعه وتجزئته وأقسامه ومخرج نغمه ومواضع مقاطعه ومقادير أدواره وأوزانه، فغناه إبراهيم ثم قال إسحاق: ثم لقيني فغنى فيه ففضلني بحسن صوته.
وقال هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: كان يخاطبنا من داره بدجلة في الجانب الشرقي ونحن بالجانب الغربي بأمره ونهيه، فنسمعه وبيننا عرض دجلة، وما أجهد نفسه.
أ وقيل إن إبراهيم بن المهدي غنى عند الأمين وهو مشرف على حائر الوحش، فكانت الوحوش تصغي إليه وتمد أعناقها، ولا تزال تدنو حتى تضع رؤوسها على الدكان الذي كانوا عليه، فإذا سكت نفرت وبعدت، وكان الأمين يعجب بذلك ويعجب أصحابه.
حدث أحمد بن يزيد عن أبيه قال: كنا عند المنتصر فغناه بنان: من السريع:
يا ربَّةَ المنزِلِ بالبِرْكِ ... وربَّةَ السلطانِ والمُلْكِ
تحرَّجي بالله مِنْ قَتْلِنا ... لَسْنا من الدَّيْلَمِ والتُّرْكِ
فضحكت، فقال: مم ضحكت؟ قلت: من شرف قائل هذا الشعر وشرف من عمل اللحن فيه وشرف مستمعه، قال: وما ذاك؟ قلت: الشعر فيه للرشيد، والغناء لعلية بنت المهدي، وأمير المؤمنين مستمعه، فأعجبه ذلك وما زال يستعيده.
أ قال إسحاق الموصلي: عملت في أيام الرشيد لحناً في هذا الشعر، وهو: من البسيط:
سقياً لأَرْضٍ إِذا ما شئتُ نبَّهني ... بعد الهدوِّ بها قَرْعُ النواقيسِ
كأَن سَوْسَنَها في كلِّ شارِفةٍ ... على الميادين أَذنابُ الطواويسِ
فأعجبني، وعملت على أن أباكر به الرشيد، فلقيني في طريقي خادم لعلية فقال: مولاتي تأمرك بدخول الدهليز لتسمع من بعض جواريها غناء أخذته عن أبيك وشكت فيه الآن، فدخلت معه إلى حجرة وقد أفردت لي كأنها كانت معدةً، وقدم لي طعام وشراب فنلت حاجتي منهما. ثم خرج إلي خادم فقال: تقول لك مولاتي: أنا أعلم أنك قد غودت على أمير المؤمنين بصوت قد أعددته له محدث فأسمعنيه، ولك جائزة سنية تتعجلها، ثم ما يأمر به لك أمير المؤمنين بين يديك، ولعله لا يأمر لك بشيء، أو لا يقع الصوت منه بحيث توخيت، فيذهب سعيك باطلاً. فاندفعت فغنيت هذا الصوت، ولم تزل تسعيد مراراً، ثم قالت: اسمعه الآن مني، فغنته غناء ما خرق سمعي مثله، ثم قالت؛ كيف تراه؟ قلت: أرى والله ما لم أر مثله، ثم قالت: يا فلانة، أحضري ما عندك، فأحضرت عشرين ألفاً وعشرين ثوباً، فقالت: هذا ثمنه، وأنا الآن داخلة إلى أمير المؤمنين، ولن أبدأه بغناء غيره، وأخبره أنه من صنعتي، وأعطي الله عهداً لئن نطقت بأن لك فيه صنعة لأقتلنك، هذا إن نجوت منه إن علم بمصيرك إلي. فخرجت من عندها، ووالله إني لأكره جائزتها أسفاً على الصوت، فما جسرت والله بعد ذلك أن أتنغم به في نفسي فضلاً عن أن أظهره حتى ماتت. فدخلت على المأمون في أول مجلس جلسة للهو بعدها، فبدأت به في أول ما غنيت، فتغير لون المأمون وقال: من أين لك هذا؟ قلت: ولي الأمان على الصدق؟ قال: ذلك لك. فحدثته الحديث، قال: يا بغيض! فما كان في هذا من النفاسة حتى شهرته وذكرت هذا منه مع الذي أخذت من العوض؟ فهجنتني والله منه هجنة وددت معها أني لم أذكره، فأليت أن لا أغنيه بعدها أبداً.
قالت عريب: أحسن يوم رأيته في الدنيا وأطيبه يوم اجتمعت فيه مع إبراهيم بن المهدي عند أخته علية وعندهما يعقوب، وكان من أحذق الناس بالزمر، فبدأت عليه فغنت من صنعتها، وأخوها يعقوب يزمر عليها: من الطويل:
تحبَّبْ فإِنَّ الحبَّ داعيةُ الحبِّ ... وكم مِن بعيدِ الدارِ مُسْتَوجب القُرْبِ
تبصَّرْ فإِنَّ حُدِّثْتَ أَن أخَا الهوى ... نجا سالماً فارْجُ النجاةَ من الحُبِّ
إِذا لم يكن في الحبِّ سُخْطٌ ولا رِضىً ... فأَينَ حلاواتُ الرسائلِ والكُتْبِ
وغنى إبراهيم في صنعته وزمر عليه يعقوب: من البسيط:
لم ينسنيك سرورٌ لا ولا حَزَنُ ... وكيف لا كيف يُنسى وجهك الحسن
قالت: فما سمعت مثل ما سمعت منهما قط، وأعلم أني لا أسمع مثله أبداً.
قال محمد بن جعفر بن يحيى بن خالد: سمعت أبي جعفراً وأنا صغير يحدث يحيى بن خالد جدي في بعض ما كان يخبره به من خلواته مع هارون الرشيد قال: يا أبت، أخذ بيدي أمير المؤمنين وأقبل في حجر يخترقها حتى انتهى إلى حجرة مغلقة، ففتحها بيده ودخلنا جميعاً، وأغلقها من داخل بيده، ثم صرنا إلى رواق ففتحه، وفي صدره مجلس مغلق، فقعد على باب المجلس، فنقر الباب بيده نقرات، فسمعنا حساً، ثم أعاد النقر ثانية فسمعنا صوت عود، ثم أعاد النقر ثالثةً، فغنت جارية ما ظننت والله أن الله عز وجل خلق مثلها في حسن الغناء وجودة الضرب. فقال لها أمير المؤمنين بعد أن غنت أصواتاً: غني صوتي، فغنت: من الكامل:
ومُخَنَّثٍ شَهِد الزفافَ وقَبْلَهُ ... غنَّى الجواري حاسراً ومُنَقَّبا
لَبِسَ الدَّلالَ وقامَ يَنْقُرُ دُفَّه ... نَقْراً أَقرَّ به العيونَ فأَطْربا
إِنَّ الجوارِ رأَيْنه فَعَشِقْنَهُ ... فشكَوْن شدَّةَ ما بِهنَّ فأَكذبا
قال: فطربت والله طرباً هممت والله أن أنطح برأسي الحائط، ثم قال: غني: طال تكذيبي وتصديقي.
فغنت: من المديد:
طال تكذيبي وتصديقي ... لم أَجِدْ عَهْداً لِمَخْلوقِ
إِنَّ ناساً في الهوى غدروا ... ورأَوا نَقْضَ المواثيقِ
قال: فرقص الرشيد ورقصت معه، ثم قال: امض بنا فإني أخاف أن يبدو منا ما هو أكثر من هذا. فلما صرنا إلى الدهليز قال وهو قابض على يدي: هل عرفت هذه المرأة؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين، قال: هذه علية بنت المهدي، والله لئن لفظت به بين يدي أحد وبلغني لأقتلنك. قال: فسمعت جدي يقول له: فقد والله لفظت به بين يدي أحد، ووالله ليقتلنك! ما أنت صانع.
قال بعض البصريين: كنا لمة نجتمع ولا يفارق بعضنا بعضاً. فكنا على عدد أيام الجمعة كل يوم عند أحدنا، فضجرنا من المقام في المنازل، فقال بعضنا: لو عزمتم فخرجنا إلى بعض البساتين. فخرجنا إلى بستان قريب منا، فبينا نحن فيه إذ سمعنا ضجةً راعتنا، فقلت للبستاني: ما هذا؟ فقال: هؤلاء نسوةً لهن قصة، فقلت له أنا دون أصحابي: وما هي؟ قال: العيان أكبر من الخبر، فقم حتى أريك وحدك. فقلت لأصحابي: أقسمت عليكم ألا يبرح أحد منكم حتى أعود فنهضت وحدي فصعدت إلى موضع أشرف عليهن وأراهن ولا يرينني؛ فرأيت نسوةً أربعاً أحسن ما يكون من النساء وأشكلهن، ومعهن خدام لهن وأشياء قد أصلحت من طعام وشراب وآلة. فلما اطمأن بهن المجلس جاء الخادم لهن معه خمسة أجزاء، فدفع إلى كل واحدة منهن جزءاً، ووضع الجزء الخامس بينهن. فقرأن أحسن قراءة، ثم أخذن الجزء الخامس فقرأت كل واحدة منهن ربع الجزء، ثم أخرجن صورةً معهن في ثوب دبيقي، فبسطنها بينهن، فبكين عليها ودعون لها، ثم أخذن في النوح، فقالت الأولى: من الكامل المرفل:
خَلَسَ الزمانُ أَعزَّ مُخْتَلَس ... ويَدُ الزمانِ كثيرةُ الخُلَسِ
للهِ هالكةٌ فُجِعْتُ بها ... ما كان أَبعدَها من الدَّنسِ
أَتتْ البشارةُ والنعيُّ معاً ... يا قُرْبَ مأْتمها من العُرُسِ
ثم قالت الثانية: من الكامل:
ذهبَ الزمانُ بأُنْسِ نَفْسي عَنْوَةً ... وبَقيتُ فَرْداً ليْسَ لي من مُؤْنِسِ
أَوْدى بملكٍ لو تُفادى نَفْسُها ... لفَدَيْتُها ممَّن أُعِزُّ بأَنْفُسِ
ظلَّت تُكلِّمُني كلاماً مُطْمِعاً ... لم أَسْتَرِبْ منه بشيءٍ مُؤْنسِ
حتى إِذ فَتَر اللسانُ وأَصبَحَتْ ... للموتِ قد ذبلَتْ ذُبولَ النَّرْجَسِ
وتسهَّلتْ منها محاسِنُ وَجْهِها ... وعلا الأَنينُ تحثُّ بتنفُّسِ
جعل الرجاءُ مطامعي يأساً كما ... قطع الرجاءُ صحيفَةَ المُتَلمِّسِ
ثم قالت الثالثة: من المنسرح:
جَرَتْ على عَهْدِها الليالي ... وأُحدِثَتْ بَعْدَها أُمور
فاعتَضْتُ بالناسِ منكِ صَبْراً ... فاعتدل اليأْسُ والسرورُ
فلستُ أَرجو ولستُ أخشى ... ما أَحدَثَتْ بعدكِ الدهورُ
فليبلغ الدهرُ في مساتي ... فما عسى جُهده يضيرُ
ثم قالت الرابعة: من البسيط:
عِلْقٌ نَفيسٌ من الدنيا فُجِعْتُ به ... أَفضى إِليه الردى في حَوْمَةِ القَدَرِ
وَيْحَ المنايا أَما تَنْفكُّ أَسهُمُها ... معلَّقاتٍ بصَدْرِ القَوْسِ والوَتَرِ
يبلى الجديدان والأيامُ بالية ... والدهر يبلى وتبلى جِدَّةُ الحَجَرِ
ثم قمن فقلن بصوت واحد: من الرجز المجزوء:
كناَّ من المَساعِدَةِ ... كمِثْلِ نَفْسٍ واحِدَهْ
فمات نِصْفُ نَفْسي ... حتى ثوى في الرَّمْسِ
فما بقائي بَعْدَهُ ... وشَطْرُ نَفْسي عنده
فهل سمعتم قبلي ... فيمن مضى بمِثْلي
عاش بنصفِ روحِ ... في بَدَنٍ صحيحِ
ثم تنحين وقلن لبعض الخدم: كم عندك منهم؟ قال: أربعة، قلن: ائت بهم. فلم ألبث إلا قليلاً حتى طلع بقفص فيه أربعة غربان مكتفين، فوضع القفص بين أيديهن، ودعون بعيدانهن، فأخذت كل واحدة منهن عوداً وغنت الأولى: من الطويل:
لعمري لقد صاح الغُرابُ ببَيْنِهم ... فأَوْجَعَ قلبي بالحديثِ الذي يُبدي
فقُلْتُ له أفصحت لا طِرْتَ بَعْدَها ... بريشٍ فهل للقَلْبِ ويحكَ من رَدِّ
ثم أخذن واحداً من الغربان فنتفن ريشه حتى تركنه كأن لم يكن عليه ريش قط، ثم ضربنه بقضبان معهن لا أدري ما هي حتى قتلنه، ثم غنت الثانية: من المتقارب:
أَعانك والليلُ مُلْقي الجِران ... غُرابٌ ينوحُ على غُصْنِ بانِ
أَحصُّ الجناحِ شديدُ الصياح ... يُبَكِّي بعَيْنينِ ما تهملان
وفي نَعَباتِ الغُراب اغترابٌ ... وفي البانِ بَيْنٌ بعيدُ التداني
ثم أخذن الثاني فشددن في رجليه خيطين وباعدن بينهما ثم جعلن يقلن له: أتبكي بلا دمع، وتفرق بين الأحباب والألاف، فمن أحق منكن بالقتل؟ ثم فعلن به مثل ما فعلن بصاحبه، ثم غنت الثالثة: من الطويل:
ألا يا غُرابَ البينِ لونُك شاحبٌ ... وأَنْتَ بلَوْعاتِ الفِراق جَديرُ
فبيِّن لنا ما قُلْتَ إِذ أَنْتَ واقعٌ ... وبَيِّنْ لنا ما قُلْتَ حين تطيرُ
فإن يكُ حقّاً ما تقولُ فأَصبَحَتْ ... هُمومُك شَتَّى والجناح قَصيرُ
ولا زِلْتَ مطروداً عديماً لناصرِ ... كما ليس لي من ظالميّ نصيرُ
ثم قالت له: أما الدعوة فقد استجيبت، ثم كسرت جناحيه وأمرت ففعل به مثل ذلك، ثم غنت الرابعة: من الطويل:
عشيَّةَ ما لي حيلةٌ غير أَننَّيِ ... بلَقْطِ الحصى والخَطِّ في الدارِ مُولَعُ
أَخطُّ وأَمحو كلَّ ما قد خَطَطْتُهُ ... بدمعيَ والغِرْبانُ في الدارِ وُقَّع
ثم قالت لأخواتها: أي قتلة أقتله؟ فقلن لها: علقيه برجليه وشدي في رأسه شيئاً ثقيلاً حتى يموت. ففعلت به ذلك، ثم وضعن عيدانهن ودعون بالغداء، فأكلن ودعون بالشراب فشربن، وجعلن كلما شربن قدحاً شربن للصورة مثله، وأخذن عيدانهن يغنين، فغنت الأولى كأنها تودع به: من البسيط:
أَبْكى فِراقُهُمُ عيني وأَرَّقها ... إِنَّ المُحِبَّ على الأَحبابِ بكَّاءُ
ما زالَ يعدو عليهم رَيْبُ دَهْرِهمُ ... حتَّى تفانَوْا ورَيْبُ الدهرِ عدَّاءُ
ثم غنت الثانية: من الطويل:
أَما والذي أَبكى وأَضحك والذي ... أَماتَ وأَحيا والذي أَمرهُ الأَمْرُ
لقد تركتني أَحسدُ الوَحْشَ أَن أَرى ... أَليفين منها لا يروعُهُما الذُّعْرُ
ثم غنت الثالثة: من الطويل:
سأَبكي على ما فاتَ مِنْكَ صبابةً ... وأَنْدبُ أَيامَ السُّرورِ الذواهبِ
أَحينَ دَنا مَنْ كُنْتُ أَرْجو دُنوَّه ... رمَتْني عيونُ الناسِ من كلِّ جانبِ
فأَصبَحْتُ مرحوماً وكنتُ محسَّداً ... فصبراً على مكروهِ مُرِّ العواقبِ
ثم غنت الرابعة: من الطويل:
سأُفني بك الأَيامَ حتى يسرَّني ... بك الدهرُ أَو تَفْنى حياتي مع الدَّهْرِ
عزاءً وصَبْراً أَسْعداني على الهوى ... وأَحمدُ ما جَرَّبْت عاقبةَ الصَّبْرِ
ثم أخذت الصورة فعانقتها وبكت، وبكين ثم شكون إليها جميع ما كن فيه، ثم أمرن بالصورة فطويت، ففرقت أن يتفرقن قبل أن أكلمهن، فرفعت رأسي إليهن، فقلت: لقد ظلمتن الغربان! فقالت إحداهن: لو قضيت حق السلام، وجعلته سبباً للكلام، لأخبرناك بقصة الغربان. قال قلت: إنما أخبرتكن بالحق، قلن: وما الحق في هذا؟ وكيف ظلمناهن؟ قلت: إن الشاعر يقول: من الكامل:
نَعَبَ الغُرابُ برؤيةِ الأَحبابِ ... فلذاك صِرْتُ أُحبُّ كلَّ غُراب
قالت: صحفت وأحلت المعنى؛ إنما قال:
نعب الغراب بفُرْقةِ الأحبابِ ... فلذاك صِرْتُ عدوَّ كلِّ غُرابِ
فقلت لهن: بالذي خصكن بهذه المحاسن، وبحق صاحبة الصورة لما أخبرتنني بخبركن. قلن: لولا أنك أقسمت علينا بحق من يجب علينا حقه لما أخبرناك: كنا صواحب مجتمعات على الألفة، لا تشرب واحدة منا البارد دون صاحبتها، فاخترمت صاحبة الصورة من بيننا، فنحن نصنع في كل موضع نجتمع فيه مثل الذي رأيت، فأقسمنا أن نقتل في كل يوم نجتمع فيه ما وجدنا من الغربان لعلة كانت. قلت: وما تلك العلة؟ قلن: فرقن بينها وبين آنس كان لها، ففارقت الحياة، وكانت تذمهن عندنا وتأمر بقتلهن، فأقل ما لها عندنا أن نمتثل ما أمرت به، ولو كان فيك شيء من السواد لفعلنا بك فعلنا بالغربان، ثم نهضن. ورجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بما رأيت ثم طلبتهن بعد ذلك فما وقعت لهن على خبر ولا رأيت لهن أثراً.
نوادر من هذا الكتاب.
قالت قينة يوماً لأبي العيناء: وأنت أيضاً يا أعمى!؟ فقال لها: ما أستعين على وجهك بشيء أصلح من العمى.
وقال له مغن يوماً: هل تذكر سالف معاشرتنا؟ فقال: إذ تغنينا ونحن نستعفيك؟ قال بعض أهل الحجاز: التقى قنديل الجصاص وأبو الجديد بشعب الصفراء، فقال قنديل، لأبي الجديد: من أين؟ وإلى أين؟ قال: مررت برقطاء الحبطية رائحةً تترنم برمل ابن سريج في شعر ابن عمارة السلمي: من الطويل:
سقى مأْزِمَيْ نجدٍ إِلى بئرِ خالدٍ ... فوادي نصاعٍ فالقرون إِلى عَمْدِ
فزففت خلفها زفيف النعامة، فما انجلت غشاوتي إلا وأنا بالمشاش حسير، فأودعتها خافقي وخلفته لديها، وأقبلت أهوي كالرحمة بغير قلب. فقال له قنديل: ما دفع أحد من المزدلفة أسعد منك؛ سمعت شعر ابن عمارة، في غناء ابن سريج، من رقطاء الحبطية، لقد أوتيت جزءاً من النبوة! وكانت رقطاء هذه من أضرب الناس. فدخل رجل من أهل المدينة منزلها، فغنته صوتاً، فقال له بعض من حضر: هل رأيت وتراً أطرب من وتر هذه؟! فطرب المديني وقال عليه العهد إن لم يكن وترها من معي بشكست النحوي، فكيف لا يكون فصيحاً؟ وكان بشكست هذا نحوياً بالمدينة، وقيل من الشراة الخارجين مع أبي حمزة الخارجي.
قال ابن عائشة، قال أشعب: قد قلت لكم، ولكنه لا يغني حذر من قدر: زوجوا ابن عائشة من ربيحة الشماسية يخرج لكم بينهما مزامير داود، فلم تفعلوا. وجعل يبكي والناس يضحكون منه.
قال بعضهم: شهدت مجلساً فيه قينة تغني، فذهبت تتكلف صيحةً شديدةً فانقطعت فصاحت من الخجل: اللصوص! فقال لها مخنث كان في المجلس: والله يا زانية ما سرق من البيت شيء غير حلقك.
قيل لعبادة المخنث: من يصرف على ابن أبي العلاء؟ قال: ضرسه.
قال ابن الجصاص يوماً لمغنية: من الطويل:
خليليّ قُوما نَصْطبحْ بسَمادِ
فقالت له: إذا عزمت على هذا فاصطبح وحدك.
قال الجماز قلت لمغن: غن، فقال: هذا أمر، قلت: فأحب أن تفعل، قال: هذه حاجة، قلت له: لا تفعل، قال: هذه عربدة.
وروي أن مدنياً كان يصلي منذ طلعت الشمس إلى أن قارب النهار ينتصف، ومن ورائه رجل يتغنى، وهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رجل من الشرط قد قبض على الرجل فقال: أترفع عقيرتك بالغناء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأخذه، فانفتل المديني من صلاته فلم يزل يطلبه حتى استنقذه، ثم أقبل عليه فقال: أتدري لم شعفت فيك؟ فقال: لا، ولكني إخالك رحمتني.
قال: إذن فلا رحمني الله، قال: فأحسبك عرفت قرابةً بيننا. قال: إذن قطعها الله. قال: فليد تقدمت مني إليك، قال: لا والله ولا عرفتك قبلها. قال: فخبرني، قال: لأني سمعتك غنيت آنفاً فأقمت واوات معبد، أما والله لو أسأت التأدية لكنت أحد الأعوان عليك.
رأى ابن أبي عتيق حلق ابن عائشة مخدشاً فقال: من فعل هذا بك؟ قال: فلان. فمضى فنزع ثيابه وجلس للرجل على بابه، فلما خرج أخذ بتلبيبه وجعل يضربه ضرباً شديداً والرجل يقول: ما لك تضربني! أي شيء صنعت! وهو لا يجيبه حتى بلغ منه ثم خلاه، وأقبل على من حضر فقال: هذا أراد أن يكسر مزامير آل داود؛ شد على ابن عائشة فخنقه وخدش حلقه.
خرج: ابن عائشة من عند الوليد بن يزيد وقد غناه في شعر النابغة: من الوافر:
أَبَعْدَك معقلاً أبغي وحِصْناً ... قد أعيتني المعاقلُ والحصونُ
فأطربه فأمر له بثلاثين ألف درهم وبمثل كارة القصار ثياباً. فبينا ابن عائشة يسير إذ نظر إليه رجل من أهل وادي القرى كان يشتهي الغناء ويشرب النبيذ، فدنا من غلامه وقال: من هذا الراكب؟ قال: ابن عائشة المغني، فدنا منه فقال: جعلت فداءك، أنت ابن عائشة أم المؤمنين؟ قال: لا أنا مولىً لقريش وعائشة أمي، وحسبك هذا ولا عليك أن تكثر. قال: وما هذا الذي أراه بين يديك من المال والكسوة؟ قال: غنيت أمير المؤمنين صوتاً فأطربته فكفر وترك الصلاة وأمر لي بهذا المال وبهذه الكسوة. فقال: جعلت فداك! فهل تمن علي بأن تسمعني ما أسمعته إياه؟ فقال: ويلك! أمثلي يكلم بهذا في الطريق! قال: فما أصنع؟ قال: الحقني بالباب. وحرك ابن عائشة ببغلة سفواء كانت تحته لينقطع عنه، فعدا معه حتى وافيا الباب كفرسي رهان، ودخل ابن عائشة فمكث طويلاً طمعاً في أن يضجر فينصرف، فلم يفعل حتى أعياه، فقال لغلامه: أدخله، فقال له: ويحك! من أين صبك الله علي! قال: أنا رجل من أهل وادي القرى أشتهي هذا الغناء. فقال له: هل لك فيما هو أنفع لك منه؟ قال: وما ذلك؟ قال: مائتا دينار، وعشرة أثواب تنصرف بها إلى أهلك. فقال له: جعلت فداك! والله إن لي لبنية ما في أذنيها - علم الله - حلقة من الورق فضلاً عن الذهب، وإن لي زوجةً ما عليها - شهد الله - قميص، ولو أعطيتني جميع ما أمر لك به أمير المؤمنين على هذه الخلة والفقر اللذين عرفتكهما وأضعفت لي ذلك لكان الصوت أحب إلي. وكان ابن عائشة من تيهه لا يغني إلا لخليفة أو ذي قدر جليل، فتعجب ابن عائشة منه ورحمه، ودعا بالدواة وجعل يغني مرتجلاً، فغناه الصوت فطرب له طرباً شديداً وجعل يحرك رأسه حتى ظن أن عنقه سينقصف، ثم خرج من عنده ولم يرزأه شيئاً. وبلغ الخبر الوليد بن يزيد، فسأل ابن عائشة عنه فجعل يغيب عن الحديث، ثم جد به الوليد فصدقه عنه. فأمر بطلب الرجب، فطلب حتى أحضر ووصله صلةً سنيةً وجعله في ندمائه ووكله بالسقي فلم يزل معه حتى قتل.
غنى علويه يوماً بحضرة إبراهيم الموصلي: من البسيط
عمَّيْتُ أَمري على أَهلي فنمَّ به
فقال: هذا الصوت معرق في العمى؛ الشعر لبشار الأعمى، والغناء لأبي زكار الأعمى، وأول الصوت: عميت أمري.
قال معبد: أرسل إلي الوليد فأشخصت إليه، فبينا أنا ذات يوم في بعض حمامات الشام إذ دخل علي رجل له هيبة ومعه غلمان، فاطلى واشتغل به صاحب الحمام عن سائر الناس، فقلت: والله لئن لم أطلع هذا على بعض ما عندي لأكونن بمزجر الكلب. فاستدبرته بحيث يراني ويسمع مني ثم ترنمت، فالتفت إلي وقال للغلمان: قدموا إليه جميع ما ههنا. فصار جميع ما كان بين يديه عندي، ثم سألني أن أصير معه إلى منزله، فلم يدع شيئاً من البر والإكرام إلا فعله. ثم وضع النبيذ، فجعلت لا آتي بحسن إلا خرجت إلى أحسن منه ولا يرتاح ولا يحفل لما يرى. فلما طال عليه أمري قال: يا غلام، شيخنا شيخنا، فأتي بشيخ فلما رآه هش إليه، فأخذ الشيخ العود ثم اندفع يغني:
سِلّوْر في القِدر ويحي عَلُوه ... جاءَ القطّ أَكله ويحي علُوه
السلور: السمك الجري بلغة أهل الشام. قال: فجعل صاحب المنزل يصفق ويضرب برجله طرباً وسروراً، ثم غناه:
وترميني حبيبةُ بالدُّراقِن ... وتحسبني حبيبةُ لا أَراها
الدراقن: الخوخ بلغة أهل الشام. قال: فكاد أن يخرج من جلده طرباً. قال: وانسللت منهم فانصرفت ولم يعلم بي، فما رأيت مثل ذلك اليوم قط غناء أضيع ولا شيخاً أجهل!.
قال خالد بن كلثوم: كنت مع زبراء بالمدينة وهو وال عليها، وهو من بني هاشم أحد بني ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، فأمر بأصحاب الملاهي فحبسوا وحبس منهم عطرد وهو مولى بني عمرو بن عوف من الأنصار، وكان مع الغناء قارئاً مقبول الشهادة. فحضر جماعة من أهل المدينة عنده فتشفعوا لعطرد وأنه من أهل الهيئة والمروءة والدين، فدعا به وخلى سبيله، وخرج وإذا هو بالمغنين قد أخرجوا ليعرضوا، فعاد إليه عطرد فقال: أصلح الله الأمير، أعلى الغناء حبست هؤلاء؟ قال: نعم، قال: فلا تظلمهم، فو الله ما أحسنوا منه شيئاً قط! فضحك وخلى عنهم.
قال أشعب: دعي بالمغنين للوليد بن يزيد، وكنت نازلاً معهم فقلت للرسول: خذني فيهم، قال: لم أومر بذلك، إنما أمرت بإحضار المغنين وأنت بطال لا تدخل في جملتهم. فقلت له: أنا والله أحسن غناء منهم، ثم اندفعت فغنيت، فقال: لقد سمعت حسناً ولكني أخاف. قلت: لا خوف عليك، ولك مع هذا شرط، قال: وما هو؟ قلت: كل ما أصيبه فلك شطره. فقال للجماعة: اشهدوا لي عليه، فشهدوا ومضينا فدخلنا على الوليد وهو لقس النفس، فغناه المغنون في كل فن من ثقيل وخفيف، فلم يتحرك ولا نشط، فقام الأبجر المغني إلى الخلاء وكان خبيثاً داهياً، فسأل الخادم عن خبره ولأي شيء هو خاثر، فقال له: بينه وبين امرأته شر لأنه عشق أختها، فغضبت عليه وهو إلى أختها أميل، وقد عزم على طلاقها، وحلف أن لا يذكرها أبداً بمراسلة ولا مخاطبة وخرج على هذه الحال من عندها. وعاد الأبجر وجلس فما استقر به المجلس حتى اندفع يغني: من الطويل:
فبيني فإِني لا أُبالي وأَيْقني ... أَصعَّد باقي حبِّكم أَم تصوَّبا
أَلم تعلمي أَني عزوفٌ عن الهوى ... إِذا صاحبي من غيرِ شيءٍ تغضَّبا
فطرب الوليد وارتاح وقال: أصبت والله يا عبيد ما في نفسي، وأمر له بعشرة آلاف درهم، وشرب حتى سكر، ولم يحظ أحد بشيء سوى الأبجر. قال أشعب: فلما أيقنت بانقضاء المجلس وثبت فقلت: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تأمر من يضربني مائة سوط بحضرتك الساعة! فضحك ثم قال: قبحك الله! وما السبب في ذلك؟ فأخبرته بقصتي مع الرسول وقلت له: إنه بدأني من المكروه أول يومه ما اتصل إلى آخره، فأريد أن أضرب مائة سوط ويضرب بعدي مثلها.
فقال: لطفت، بل أعطوه مائة دينار وأعطوا الرسول خمسين ديناراً من مالنا عوضاً عن الخمسين التي أراد أن يأخذها من أشعب. فقبضتها وقمنا، وما حظي بشيء غيري وغير الأبجر.
قال يزيد بن عبد الملك لحبابة: هل رأيت قط أطرب مني؟ قالت: نعم، مولاي الذي باعني. فغاظه ذلك، فكتب في حمله مقيداً، فلما عرف خبر وصوله أمر بإدخاله إليه، فأدخل يوسف في قيوده، فأمرها أن تغني، فغنت: من المتقارب:
تشطُّ غداً دارُ جيرانِنا ... وللدَّارُ بَعْدَ غَدٍ أَبْعَدُ
فوثب حتى ألقى نفسه على الشمعة فأحرق لحيته وجعل يصيح: الحريق يا أولاد الزنا، فضحك يزيد وقال: لعمري إن هذا مما يطرب الناس، وأمر بحل قيوده، ووصله بألف دينار، ووصلته حبابة، ورده إلى المدينة.
قال محمد بن إبراهيم: كنت عند مخارق أنا وهارون بن أحمد بن هشام، فلعب مع هارون بالنرد فقمره مخارق مائتي رطل باقلا طرياً. فقال مخارق: وأنتم عندي أطعمكم من لحم جزور من الصناعة - من صناعة أبيه - يحيى بن فارس الجزار. قال: ومر بهارون بن أحمد فصيل ينادى عليه، فاشتراه بأربعة دنانير ووجه إلى مخارق وقال: يكون ما تطعمنا من هذا الفصيل. فاجتمعنا وطبخ مخارق بيده جزوريةً، وعمل من سنامه وكبده ولحمه ضفائر شويت في التنور، وعمل من لحمه لوناً يشبه الهريسة بشعير مقشر في نهاية الطيب. فأكلنا وجلسنا نشرب، فإذا نحن بامرأة تصيح من الشط: يا أبا المهنا، الله الله في! حلف زوجي بالطلاق أن يسمع غناءك ويشرب عليه. قال: فجيئي به، فجاء فجلس فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال له: يا سيدي، كنت سمعت صوتاً من صنعتك، فطربت عليه حتى استخفني الطرب، فحلفت أن أسمعه منك ثقةً بإيجابك حق زوجتي، وكانت زوجته داية هارون بن مخارق، فقال: وما هو الصوت؟ فقال: من الكامل المرفل:
بكرتْ عليَّ وهيَّجَتْ وَجْدا ... هُوجُ الرِّياحِ فأَذكَرَتْ نَجْدا
أَتحِنُّ من شوقٍ إِذا ذُكِرتْ ... نَجْدٌ وأَنْتَ تركْتَها عَمْدا
والشعر لحسين بن مطير. فغناه إياه وسقاه رطلاً وأمره بالانصراف ونهاه أن يعاود، وخرج فما لبث أن عادت المرأة تصرخ: الله الله يا أبا المهنا! قد أعاد زوجي المشؤوم اليمين أنك تغنيه صوتاً آخر. فقال لها: أحضريه، وقال: ويلك! ما لي ولك؟ أي شيء قصتك؟ فقال: يا سيدي، أنا رجل طروب، وقد كنت سمعت صوتاً لك آخر فاستغفر في الطرب إلى أن حلفت بالطلاق ثلاثاً أني أسمعه منك. قال: وما هو؟ قال: لحنك في: من البسيط:
أَبْلِغْ سلامةَ أَنَّ البَيْنَ قد أَفِدا ... وأَن صَحْبَك عنها رائحون غدا
هذا الفراقُ يقيناً إِن صَبَرْتَ له ... أَوْ لا فإِنَّك منها ميِّتٌ كَمَدا
لا شكَّ أَنَّ الذي بي سوف يُهلكني ... إِن كان لله حبٌ بعدها أَبدا
فغناه إياه مخارق وسقاه رطلاً وقال له: احذر أن تعاود. وانصرف فلم يلبث أن عاودت المرأة الصراخ تصرخ: يا سيدي قد عاود اليمين ثالثة، الله الله في وفي أولادي! قال: هاتيه، فأحضرته. فقال لها: انصرفي أنت، فإن هذا كلما انصرف حلف وعاد، فدعيه يقيم يومه كله، فتركته وانصرفت، فقال له مخارق: ما قصتك أيضاً؟ قال: قد عرفتك أني طروب، وكنت سمعت صوتاً من صنعتك استخفني الطرب له، فحلفت أني أسمعه منك، قال: وما هو؟ قال: من الرمل المجزوء:
أَلِفَ الظَّبْيُ بعادي ... ونفى الهمُّ رُقادي
وعدا الهَجْرُ على الوَصْ ... لِ بأَسيافٍ حِدادِ
قُل لمَنْ زيَّفَ وُدِّي ... لسْتَ أَهلاً لِودادي
قال: فغناه إياه وسقاه رطلاً ثم قال: يا غلام، مقارع! فجيء بها فأمر به فبطح وأمر بضربه، فضرب خمسين مقرعةً وهو يستغيث ولا يكلمه، ثم قال له: احلف بالطلاق ثلاثاً أنك لا تذكرني أبداً، وإلا كان هذا دأبك إلى الليل. فحلف بالطلاق ثلاثاً على ما أمره به، ثم أقيم فأخرج من الدار، وجعلنا نضحك بقية يومنا من حمقه.
حج مخارق، فلما قضى الحج وعاد قال له رجل: بحقي عليك غنني صوتاً، فغناه: من الطويل:
رحلنا فشرَّقْنا وراحوا فغرَّبوا ... ففاضت لروعاتِ الفراقِ عيونُ
فرفع الرجل يده إلى السماء وقال: اللهم إني أشهدك أني قد وهبت حجتي له.
قال إبراهيم بن المهدي: مطرنا ونحن بالرقة مع الرشيد فاتصل المطر من الفجر إلى غد ذلك اليوم، وعرفنا خبر الرشيد وأنه مقيم عند أم ولده المسماة بسحر، فتشاغلنا في منازلنا. فلما كان من غد جاءنا رسول الرشيد فحضرنا جميعاً، وأقبل يسأل كل واحد منا عن يومه الماضي وما صنع فيه فنخبره، إلى أن انتهى إلى جعفر بن يحيى، فسأله عن خبره، فقال له: كان عندي أبو زكار الأعمى وأبو صدقة، وكان أبو زكار كلما غنى صوتاً لم يفرغ منه حتى يأخذه أبو صدقة، فإذا انتهى الدور إليه أعاده، وحكى أبا زكار فيه وفي شمائله وحركاته، ويفطن أبو زكار لذلك فيجن ويموت غيظاً، ويشتم أبا صدقة كل شتم حتى ضجر وهو لا يجيبه ولا يدع العبث به، وأنا أضحك من ذلك إلى أن توسطنا الشرب وسئمنا من عبثه به، فقلت له: دع هذا عنك، وغن غناءك، فغنى رملاً ذكر أنه من صنعته، فطربت له والله يا أمير المؤمنين طرباً طرباً ما أذكر أني طربت مثله منذ حين وزمان، وهو: من الخفيف:
فتنتني بفاحمِ اللون جَعْدٍ ... وبثَغْرٍ كأَنَّه نَظْمُ دُرِّ
وبوَجْهٍ كأنه طلعة البَدْ ... رِ وعينٍ في طَرْفِها نَفْثُ سِحْرِ
فقلت له: أحسنت والله يا أبا صدقة! فلم أسكت من هذه الكلمة حتى قال لي: يا سيدي، إني قد بنيت داراً أنفقت عليها خزينتي، وما أعددت لها فرشاً، فافرشها لي نجد الله لك في الجنة ألف قصر. فتغافلت عنه، وعاود الغناء، فتعمدت أن قلت: أحسنت ليعاود مسألتي، وأتغافل عنه؛ فسألني وتغافلت، فقال: يا سيدي، هذا التغاقل متى حدث لك؟ سألتك بالله وبحق أبيك عليك إلا أجبتني عن كلامي ولو بشتم. فأقبلت عليه وقلت: أنت والله بغيض، اسكت يا بغيض واكفف عن هذه المسألة الملحفة. فوثب من بين يدي، فقلت خرج لحاجة، فإذا هو قد نزع ثيابه وتجرد منها خوفاً من أن تبتل، ووقف تحت السماء ولا يواريه منها شيء والمطر يأخذه، ورفع رأسه وقال: يا رب، أنت تعلم أني مله ولست نائحاً، وعبدك الذي قد رفعته وأحوجتني إلى خدمته يقول لي: أحسنت، ولا يقول لي: أسأت، وأنا منذ جلست أقول له بنيت ولا أقول هدمت، فيحلف بك جرأةً عليك أني بغيض، فاحكم بيني وبينه يا سيدي، فأنت خير الحاكمين. فأمرت به فنحي بعد أن غلبني الضحك، واجتهدت أن يغني فامتنع، حتى حلفت له بحياتك أني أفرش له داره وخدعته فلم أسم له ما أفرشها فقال له الرشيد: طيب والله! الآن تم لنا به اللهو وهو ذا، ادعوه، فإذا رآك فسوف يتنجزك الفرش لأنك حلفت له بحياتي، فهو يقتضيك ذاك بحضرتي ليكون أوثق له، فقل له: أنا أفرشها بالبواري، وحاكمه إلي. ثم دعي به فأحضر، فلما استقر في مجلسه قال لجعفر بن يحيى: الفرش الذي حلفت بحياة أمير المؤمنين أنك تفرش به داري تقدم به. فقال له جعفر: اختر، إن شئت فرشتها لك بالبواري، وإن شئت بالبردي من الحصر. فصيح واضطرب، فقال له الرشيد: وكيف كانت القصة؟ فأخبره، فقال له: أخطأت يا أبا صدقة إذ لم تسم النوع ولم تحدد القيمة، فإذا فرشها بالبواري أو بما دون ذلك فقد وفى بيمينه، وإنما خدعك ولم تفطن أنت ولا توثقت وضيعت حقك. فسكت وقال: نوفر أيضاً البردي والبواري عليه، أعزه الله تعالى. وغنى المغنون حتى انتهى الدور إليه فأخذ يغني غناء الملاحين والبنائين والسقائين وما جرى مجراه من الغناء، فقال له الرشيد: أي شيء هذا الغناء؟ ويلك! قال: من فرش داره بالبواري والبردي فهذا الغناء كثير منه، وكثير أيضاً لمن هذه صلته. فضحك الرشيد وطرب وصفق ثم أمر له بألف دينار من ماله وقال له: افرش دارك بهذه، فقال: وحياتك لا آخذها يا سيدي أو تحكم لي على جعفر بما وعدني، وإلا مت والله أسفاً لفوت ما حصل في طمعي ووعدت به. فحكم له على جعفر بخمسمائة دينار فقبلها جعفر وأمر له بها.
كان خليلان أديباً يعلم الصبيان الخط والقرآن، وكان مغنياً مجيداً. فحدث من حضره قال: كنت يوماً عنده وهو يرد على صبي يقرأ بين يديه: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم. ثم يلتفت إلى صبية فيرد عليها: من السريع:
عاد لهذا القلب بلبالُه ... إِذ قُرِّبَتْ للبَيْنِ أَجمالُه
فضحكت ضحكاً مفرطاً لما فعله، فالتفت إلي فقلت: ويلك ما لك! أتنكر ضحكي مما تفعل؟ والله ما سبقك إلى هذا أحد. ثم قلت: انظر أي شيء أخذت على الصبي من القرآن، وأي شيء تلقي على الصبية، وإني لأظنك ممن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله. فقال: أرجو أن لا أكون كذلك إن شاء الله.
شهد رجل من قريش عند محمد بن سعد قاضي المدينة، فأقبل على المشهود له فقال: زدني شاهداً، فقال الشاهد: وحق القبر والمنبر لا أقوم حتى يعلم الناس أظالم أنا أم مظلوم، علام ترد شهادتي!؟ قال: أخبرك: أرأيت يوم كنا عند فلان فغنتنا فقلت لها: أحسنت والله الذي لا إله إلا هو! والله يعلم أنها لم تحسن ولم تجمل. فقال: أنشدك الله أيها القاضي، أقلت ذلك لها وهي تغني أم بعدما سكتت؟ فقال: اللهم بعدما سكتت، قال: فإنما قلت ذلك لسكوتها حين سكتت لا لغنائها، قال: الله، أجيزوا شهادته.
وقال إبراهيم الموصلي: كان عندنا بالموصل مغن يغني بنصف درهم ويسكت بدرهم.
كتب علي بن نصر الكاتب إلى بعض إخوانه يصف دعوةً رسالةً فيها: فكان أول ما خولنيه الدخول إلى حمامه، فلقيت من ضره وزمهريره ما حبب إلي النار وزفيرها، والجحيم وسعيرها، وثنى إحسانه بخيش يلفح الوجوه، وأتى الغداء المأدوم بشجر الزقوم، والماء المحدوم بريح السموم، فأكلنا وقد أكلنا بين سنور يلسب وزنبور يسلب، وبق يلدغ، وحر يدمغ، وأنا في أثناء ذلك أستعيذ من شرته، وأفرق من ثورته، وأنعت كل بلية أقاسيها، بصفة من المحاسن ليست فيها. ومضينا إلى مجلس قد غب ريحانه، وأكب دخانه، وتراكب ضبابه، وانصب ذبابه، وكدر نبيذه، وكثر وقيذه، وضاق مجاله، وعدمت أبقاله، ولفحت هواجره، ودارت دوائره، والأنفاس فيه محبوسة، والأرواح معه معكوسة، واللذات منه بعيدة، والحسرات فيه شديدة. وإنا لكذلك في عظم البلاء، وتفاقم اللأواء، حتى وافانا الداء العياء، والداهية الصماء، ذو ذقن أثط، ورأس أشمط، وفم أدرد، ولسان يرعد، وطنبور أتت عليه الدهور ولم يبق منه إلا الخيال، لو نقر لانهال بريشة من نسر لقمان، أو عهد ثمود بن كنعان، فاندفع يغني لأبينا آدم عليه السلام: من الوافر:
تغيَّرت البلادُ ومَنْ عليها ... فوَجْهُ الأَرضِ مُغْبَرٌّ قبيحُ
فرأيت أسمج منظر في أقبح مخبر، لا يشبهها نوبة الحمى، ولا تشاكلها طلقة الحبلى، وقطع وقد قطع القلوب، وأمسك وقد أمسكت الأرزاق عن النزول. قلت: من هذا الشيخ الشادي المتفنن؟ قال: وجه البضاعة، وشيخ الصناعة، المعروف بغلام البنج. فما كان غير بعيد حتى برز شيخ كوسج، هم أعرج، أخنى عليه الذي أخنى على لبد، فأقبل متبختراً، وسلم متذمراً، وأظهر أن فيه بقيةً حسنةً يرغب في مثلها، وأنه غرض لما يسام من بذلها، وألفيت صاحب الدار والديوان - أصلحه الله - قد استبشر بحضوره، وكاد يمن علينا بوروده واندفع يغني: من الطويل:
سئمتُ تكاليفَ الحياةِ ومن يَعِشْ ... ثمانين حَوْلاً لا أَبا لك يَسْأَمِ
فقلت: ما هذا العجب التالي؟ والتغريد الثاني؟ فقال: هل بالشمس من خفاء؟ ودون البدر من ستر؟ هذا زعيم الكوارين، ومتقدم داسة الطين، المعروف بقسمون البغدادي. قلت: ليت قسمي من الدنيا بعده، وحظي من الأيام فقده، إلا أن النوبة كانت أخف وقعاً، وأقرب لذعاً. ثم تلاهما أدبر منهما وأنحس وأشأم جداً وأتعس؛ سقيم يعرف بغلام نسيم، فجلس وقد فارق النفس، وأخذ في شيء من رنينه، وضعف الآلة وتأبينه، معتذراً من تقبيحه بعد الإحسان، باذلاً من قبحه الغناء بغاية الإمكان. فحملنا أمره، وبسطنا عذره، فكان مما غناه ما وافق سقمه وضناه: من الرجز:
إِنَّ الجديدَيْنِ إِذا ما استَوْليا ... على جَديدٍ أَدنياه للبِلى
وقام وقد ثاوره الحمام، لا أقال الله له عثرة، ولا رحم منه شعره، فرأيت التساكر أبلغ حيلة أعملها، وحبالة أنصبها، فبدأت في ضرب منه، وصديقنا - أصلحه الله - يقول: كدرت علينا بعد صفوته، ورنقته بعد رقته، وهل ههنا محتشم، وهذا وقت يغتنم، وحتى متى يمكن تجاوز هذه الأغاني، وتجاوب هذه المثالث والمثاني، وأنا أغط غطيط البكر شد خناقه، حتى أخذه اليأس من فلاحي، وأجمع الناس على رواحي، فحملت وأعضائي لا تستقل بي، حتى إذا صرت قيد شبر من الباب، شددت شد الحية المنساب، فلم يدرك أثري، ولم يعلم إلى الآن خبري.
قال رجل لآخر: غنني صوت كذا، وبعده صوت كذا، فقال: أراك لا تقترح صوتاً إلا بولي عهد.
ابن الراوندي: اختلف الناس في السماع، فأباحه قوم وحظره آخرون، وأنا أخالف الفريقين فأقول: إنه واجب.
كان لبعض الظرفاء جاريتان مغنيتان، حاذقة ومتخلفة، وكان يخرق ثوبه إذا غنت الحاذقة، فإذا غنت الأخرى قعد يخيطه.
قيل لمخنث: أي الأصوات أحب إليك؟ قال: نشنشة القلية، وقرقرة القنينة، وحفحفة الخوان، وفشفشة التكة.
قال حكم الوادي: كنت أنا وجماعة نتعلم من معبد، فغنى لنا صوتاً أعجب به، وكنت أنا أول من أخذه عنه في ذلك اليوم، فاستحسنه مني، فأعجبتني نفسي، فلما انصرفت عملت فيه من عند نفسي لحناً آخر، وبكرت عليه فغنيته ذلك اللحن، فوجم ساعةً ثم قال: كنت أمس أرجى مني لك اليوم، وأنت اليوم عندي أبعد من الفلاح.
قال الرشيد لبرصوما الزامر: ما تقول في ابن جامع؟ فحرك رأسه وقال: إن مات ذهب الغناء، فلا تفارقه فإنه كالخمر العتيق ينسف الرجلين نسفاً. قال: فإبراهيم؟ قال: بستان فيه كمثرى وخوخ وتفاح وشوك، وخرنوب. قال: فسليم بن سلام؟ قال: ما أحسن خضابه! قال: فعمرو الغزال؟ قال: ما أحسن شبابه! قال: تزوج مغن بنائحة فسمعها تقول: اللهم وسع علينا في الرزق، فقال: يا هذه، إنما الدنيا فرح وحزن، وقد أخذنا بطرفي ذلك؛ إن كان فرح دعوني، وإن كان حزن دعوك.
الباب السادس والأربعون
في المؤاكلة والنهم والتطفل
وأخبار الأكلة والمآكل
الفصل الأول
آداب الأكل والمؤاكلة
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون.المعنى: كلوا من الطيب دون الخبيث، كما لو قال: كلوا من الحلال لكان على معنى: دون الحرام، وهذا بين في كل ما له ضد.
روي أن داود عليه السلام أمر مناديه فنادى: أيها الناس، اجتمعوا لأعلمكم التقوى، فاجتمع الناس، فقام في محرابه فبكى، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، لا تدخلوا ههنا إلا طيباً ولا تخرجوا منه إلا طيباً، وأشار إلى فيه.
قال تعالى: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم.
فالميتة ما فارقته الروح بغير تذكية مما أبيح أكله بالتذكية.
ويخرج من هذا دواب البحر والجراد بالسنة. والدم هو الدم المسفوح دون دم الكبد والطحال بدلالة قوله تعالى: قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير.
والإهلال بالذبيحة: رفع الصوت بالتسمية، وكان المشركون يسمون الأوثان، والمسلمون يسمون الله عز وجل. وأصل الإهلال: الصوت، ومنه يقال: استهل الصبي إذا صاح حين تضعه أمه، ومنه إهلال المحرم بالحج إذا لبى.
فأول آداب الأكل معرفة الحلال من الحرام، والخبيث من الطيب. وهذا نوع يطول إن أريد استقصاؤه، وهو بغير هذا الكلام أليق.
فأما الأدب في هيئة المؤاكلة وأفعالها، فأنا ذاكر منها ما يحضرني.
قال أبو هريرة: ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
وقال صلى الله عليه وسلم: لا تشموا الطعام كما تشمه البهائم، من اشتهى شيئاً فليأكل، ومن كره فليدع.
قال أنس: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشرة، ودخل علينا دارنا فحلبنا له شاةً فشرب وأبو بكر عن يساره وأعرابي عن يمينه، فقال عمر: أعط أبا بكر، فقال عليه الصلاة والسلام: لا، الأيمن فالأيمن. وفي معنى هذا الخبر قال الشاعر: من الوافر.
وكان الكاسُ مجرها اليمينا.
وفي حديث عكراش بن ذؤيب قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بصدقات مرة بن عبيد، فقدمت عليه إلى المدينة بإبل كأنها عروق الأرطى، فأمر بها فوسمت بميسم الصدقة، ثم أخذ بيدي في نواحيها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين يديه، وقبض على يدي بيده اليسرى ثم قال: يا عكراش، كل من موضع واحد، فإنه طعام واحد. ثم أتينا بطبق فيه ألوان من رطب، فجعلت آكل من بين يدي فقال: كل من حيث شئت، فإنه غير لون واحد، ثم أتي بماء فغسل يديه ووجهه وذراعيه ببلل كفيه وقال: هذا الوضوء مما غيرت النار.
وعن أنس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم شرب جرعةً ثم قطع، ثم سمى ثم شرب جرعةً ثم قطع، ثم سمى ثم شرب جرعةً ثم قطع ثم سمى ثم قطع الثالثة ثم جرع مصاً حتى فرغ، فلما فرغ حمد الله.
وقد ندب إلى غسل اليد قبل الأكل فإنه ينفي الفقر، وبعده ينفي اللمم. ومن السنة البداية باسم الله وحمده سبحانه عند الإنتهاء.
وقال عمر بن أبي سلمة: مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل فقال: اجلس يا بني وسم الله، وكل بيمينك مما يليك.
أ قال بعض السلف: إذا جمع الطعام أربعاً فقد كمل كل شيء من شأنه: إذا كان حلالاً، وذكر اسم الله عليه، وكثرت عليه الأيدي، وحمد الله حين يفرغ منه.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: من قال عند مطعمه ومشربه باسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسماء، لم يضره ما أكل وما شرب.
وفي حديث عائشة عنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله في أوله وآخره.
قال صلى الله عليه وسلم: إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله. وحملوا هذا الكلام على وجهين: أحدهما التشبه بالشياطين، والآخر أن تكون الهاء ضميراً لللآكل الشارب، يريد أن الشيطان يشركه في طعامه وشرابه إذا تناولهما بشماله.
قال الجارود بن أبي سبرة: قال لي بلال بن أبي بردة: أتحضر طعام هذا الشيخ؟ يعني عبد الأعلى بن عامر بن كريز، قلت: أيها، قال: فحدثني عنه، قلت: نأتيه فإن سكتنا أحسن الحديث، وإن حدثنا أحسن الاستماع، فإذا حضر الغداء جاء قهرمانه فتمثل بين يديه فقال: عندي بطة كذا، ودجاجة كذا، ولون كذا، لكي يحبس كل امرئ نفسه لما تشتهي، فإذا وضع الخوان خوى تخوية الظليم فما له إلا موضع متكئه، فيجد القوم ويهزلوا، حتى إذا رأهم قد فتروا أكل أكل الجائع لينشطهم بأكله.
وروي أن الحسن بن علي عليهما السلام مر على مساكين وهم يأكلون كسراً لهم على كساء، فسلم فقالوا: يا أبا عبد الله، الغداء، فنزل وأكل معهم وقرأ: إنه لا يحب المستكبرين. ثم قال لهم: قد أجبتكم فأجيبوني. فانطلقوا، فلما أتى المنزل قال: يا رباب، أخرجي ما كنت تدخرين.
قال العتبي: كان زياد يغدي ويعشي إلا يوم الجمعة، فإنه كان يعشي ولا يغدي، وكان لا يطعم طعاماً إلا مع العامة، فأتاه يوماً مولاه بشهده فوضعها على المائدة، فأمسك لتؤتى العامة بمثلها، فلما أبطأ قال: ما هذه؟ قال: لم يكن عندنا ما يشبع العامة، فأمر بها فرفعت ثم لم تعد حتى وضعوا للعامة مثلها.
وروي أن المسيح عليه السلام كان إذا دعا أصحابه قام عليهم، ثم قال: هكذا فاصنعوا بالفقراء.
ووصف شاعر قوماً فقال: من الوافر:
جلوسٌ في مجالسهم رزانٌ ... وإِنْ ضَيْفٌ أَلمَّ فهم وقوفُ
قال سهل بن حصين: شهدت الحسن في وليمة، فطعم ثم قام فقال: مد الله لكم في العافية، وأوسع عليكم في الرزق، واستعملكم بالشكر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تخللوا فإنه نظافة، والنظافة من الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنة.
وفي حديث عمر رضي الله عنه: عليكم بالخشبتين، يعني السواك والخلال.
وقال أبو هريرة: السواك بعد الطعام يزيل وضر الطعام.
كان بعضهم يقول لولده إذا رأة حرصه على الطعام: يا بني، عود نفسك الأثرة ومجاهدة الشهوة، ولا تنهش نهش السباع، ولا تخضم خضم البراذين. إن الله جعلك إنساناً فلا تجعل نفسك بهيمة.
وقال بعض الكتاب: تغديت مع المأمون فالتفت إلي وقال: خلال قبيحة عند الجلوس على المائدة: كثرة مسح اليد، والانكباب على الطعام، وكثرة أكل البقل. ومعنى ذمه هذه الخلال الثلاث: أما كره مسح اليد فإنما هو من تغمرها بالطعام وكثرة التباسها به، وأما الانكباب فيدل على شدة الحرص والشره والنهم، ومنه قول الشاعر يهجو طفيلياً: من الطويل:
لقد سترَتْ منك الخوانَ عمامةٌ ... دجوجيةٌ ظلماؤها ليس تُقْلِعُ
وأما البقل فإن الحاجة إلى البلغة منه، وفي الإكثار منه تشبه بالبهائم لأنه مرعى لها.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أتي أحدكم بطعام فليدع من حوله.
قال حكيم: ثلاث في مباكرة الغداء: تطيب النكهة، وتطفئ المرة، وتعين على المروءة.
ويروى أن رجلاً دخل على الشعبي بكرة وبين يديه . فقال: ما هذا يا أبا عمرو؟ قال: آخذ حلمي قبل أن أخرج.
وفي حديث أبي حجيفة قال: أكلت ثريداً ولحماً ثم جئت فجلست حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه، فجعلت أتجشأ، فقال عليه السلام: أقصر من حشائك! فإن أكثر الناس شبعاً في الدنيا أكثرهم جوعاً في الآخرة. قيل: فما أكل أبو جحيفة ملء بطنه حتى قبضه الله.
وقيل لسمرة بن جندب: كاد ابنك يموت الليلة! قال: ولم؟ قال: بشم للطعام، قال: لو مات ما صليت عليه.
وقال لقمان لابنه: يا بني، لا تأكلن شبعاً على شبع، فلأن تنبذه للكلب خير لك.
وقال عليه الصلاة والسلام: البطنة مفسدة للقلب.
وقال أيضاً: البطنة تذهب الفطنة.
وكانت ملوك الأعاجم إذا رأت الرجل نهماً شرهاً حريصاً على المطعم أخرجوه من طبقة الجد إلى باب الهزل، ومن باب التعظيم إلى باب الاحتقار والتصغير، وكانوا يقولون: من شره بين يدي الملوك إلى الطعام، كان إلى أموال السوقة والرعية أشد شرها.
وحكي أن رجلاً من بني هاشم دخل على المنصور فاستجلسه، ودعا بغدائه وقال للفتى: ادنه، فقال: قد تغديت، فلما خرج استخف به الربيع لما قفاه وقال: هذا كان يسلم وينصرف، فلما استدناه أمير المؤمنين ودعاه إلى طعامه وتبذل بين يديه، بلغ من جهله بفضيلة المنزلة أن قال: قد تغديت، وإذا ليس عنده لمن تغدى مع أمير المؤمنين إلا سد خلة الجوع.
وذكر أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وهو يتغدى، فقال: هلم يا عمرو، قال: هنيئاً يا أمير المؤمنين، أكلت آنفاً، فقال معاوية: أما علمت أن من شراهة المرء أن لا يدع في بطنه فضلاً؟ قال: قد فعلت، قال: ويحك، فتركته لمن هو أوجب عليك حقاً من أمير المؤمنين! قال: لا ولكن لمن لا يعذر عذر أمير المؤمنين. قال: فلا أراك إلا قد ضيعت حقاً لحق لعلك لا تدركه، فقال عمرو: ما لقيت منك يا معاوية! ثم دنا فأكل.
وفي حديث آخر أن عبد الملك بن مروان دعا رجلاً إلى الغداء، فقال: ليس بي هواء، فقال: ما أقبح بالرجل أن يأكل حتى لا يكون فيه مستزاد! فقال: عندي مستزاد، وإنما أكره أن أصير إلى ما استقبحه أمير المؤمنين.
وفي حديث أسماء بنت زيد قالت: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي بطعام، فعرض علينا، فقلنا: ما نشتهي، قال: لا تجمعن جوعاً وكذباً.
قيل: الأكل ثلاثة: مع الفقراء بالإيثار، ومع الإخوان بالانبساط، ومع أبناء الدنيا بالأدب.
حضر أبو الهذيل على مائدة المعتصم، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله لا يستحي من الحق؛ غلامي وحماري بالباب. فقال المعتصم لإيتاخ الحاجب: مر لحمار أبي الهذيل بعلف ولغلامه بطعام. فقال أحمد بن أبي دواد: ألا ترى يا أمير المؤمنين إلى متانة دين هذا الشيخ وتفقده لما يلزمه؟ لم يمنعه جلالة مجلسك عما يجب لله عليه في حماره وغلامه، فجعل أحمد ما قدره الناس محوجاً إلى الاعتذار منه شهادةً له بالفضل.
قال المأمون: ثنتان لا تحسنان على موائد الملوك: نكت المخ، وكثرة أكل البقل.
حث رجل رجلاً على الأكل من طعامه قال: عليك تقريب الطعام، وعلينا تأديب الأجسام.
قيل لحكيم: أي الأوقات أحمد للأكل؟ قال: أما من قدر فإذا اشتهى، وأما من لم يقدر فإذا وجد.
لفصل الثاني
الاقتصاد في المطاعم والعفة عنها
قال الله عز وجل وقوله الصدق وإذنه الحق: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين.وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من زاره أخوه المسلم فقرب إليه ما تيسر غفر له وجعل في طعامه البركة، ومن قرب إليه ما تيسر فاستحقر ذلك كان في مقت الله حتى يخرج.
وقالت عائشة: أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير.
وقال أنس: أولم النبي صلى الله عليه وسلم صفيه بتمر وسويق.
وقيل كان عيسى بن مريم عليه السلام يقول: اعملوا ولا تعملوا لبطونكم. وإياكم وفضول الدنيا، فإن فضولها رجز. هذه طير السماء تغدو وتروح وليس معها من أرزاقها شيء، لا تحرثوا والله يرزقها.
قال السائب بن زيد: ربما تعشيت عند عمر بن الخطاب، فيأكل الخبز واللحم، ثم يمسح يده على قدميه ويقول: هذا منديل عمر بن الخطاب.
وروي أن علي بن أبي طالب عليه السلام كان يفطر ليلةً عند الحسن، وليلةً عند الحسين، وليلةً عند عبد الله بن جعفر، لا يزيد على ليلتين أو ثلاث. قيل له: إنما هي أيام قلائل، فقال: يأتي أمر الله وأنا خميص فقتل من ليلته.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أخشى عليكم شهوات بطونكم ومضلات الهوى. وفي خبر آخر: أخاف على أمتي بعدي ثلاثاً: ضلالة الأهواء، واتباع الشهوات في البطون والفروج، والغفلة بعد المعرفة.
وقال صلى الله عليه وسلم: ما ملأ آدمي وعاء أنتن من البطن، بحسب المرء من طعمه ما أقام صلبه، أما إذا أبيت، فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفس.
وقال صلى الله عليه وسلم: من قل طعمه، صح بدنه، وصفا قلبه، ومن كثر طعمه، سقم جسمه، وقسا قلبه.
وقال ابن عباس: سمعت سلمان الفارسي - وأكره على طعام - قال: حسبي؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أكثر الناس شبعاً في الدنيا، أكثرهم جوعاً في الآخرة. يا سلمان، إنما الدنيا جنة الكافر، وسجن المؤمن.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: استعيذوا بالله من نفس لا تشبع.
أ وقال صلى الله عليه وسلم: ما زين الله رجلاً بزينة أفضل من عفاف بطنه.
قال حاتم: من الطويل:
أَبِيتُ خميص البَطْنِ مُضطمرَ الحشا ... من الجوع أَخشى الذَّمَّ أَن أَتضلَّعا
فإِنَّك إِنْ أَعطيتَ بَطْنَك سُؤْلَهُ ... وفَرْجَكَ نالا مُنْتهى الذمِّ أَجمعا
وقال دريد بن الصمة في تأبين أخيه: من الطويل:
تراه خميصَ البَطْنِ والزاد حاضِرٌ ... عتيدٌ، ويغدو في القَميصِ المُقَدَّدِ
قدم هشام بن عبد الملك المدينة، فأراد سالم بن عبد الله بن عمر الدخول عليه، فاستعار عمامة فاعتم بها، ودخل فسلم عليه، فقال له هشام: يا أبا عمر، أرى عمامتك لا تشاكل الثياب! قال: أجل، لأنا استعرناها، قال: ما طعامك؟ قال الخبز والزيت، قال: أما تأجمهما؟ قال: إذا أجمتهما تركتهما حتى أشتهيهما. فخرج سالم وهشام يقول: ما رأيت منذ سبعين سنةً أجود من كدنته! فحم سالم فقال: أما ترون! لقعني بعينه، فما خرج هشام من المدينة حتى صلي على سالم.
وقال قتيبة بن مسلم: أرسلني أبي إلى ضرار بن القعقاع بن معبد ابن زرارة، فقال قل له: قد كان في قومك دماء وجراح، وقد أحبوا أن تحضر المسجد، فأتيته فقال: يا جارية، غديني، فجاءت بأرغفة خشن فثردتهن في مريس ثم برقتهن، فأكل، فجعل شأنه يصغر في عيني، ثم مسح يده وقال: الحمد لله، حنطة الأهواز، وتمر الفرات، وزيت الشام، ثم أخذ نعليه وارتدى، فانطلق معي إلى المسجد، فصلى ركعتين ثم احتبى، فما رأته حلقة إلا تقوضت إليه، فاجتمع الطالبون والمطلوبون فأكثروا الكلام، فقال: إلى ما صار أمرهم؟ قالوا: إلى كذا وكذا من الإبل، قال: هي علي، ثم قام.
قال أبو عبيدة: لما أمر قيس بن زهير قومه أن يرجعوا إلى قومهم قال: لا تنظر في وجهي قيسية أبداً، ولحق بعمان، فمكث ستة أيام لا يطعم طعاماً ولا يسأل أحداً. فلما كان في الليلة الثامنة شبت له نار فأتاها، فلما قرب منها إذا قوم على خبزة لهم، فأنف وكر راجعاً، ثم أدركه أمر، فأقبل إليهم. ففعل ذلك مراراً يأبى له الأنف أن يسألهم، ثم هبط وادياً قريباً من القوم، فأكل من نبت الأرض ثم أتى شجرة فأدم بأصلها حتى مات.
قال أحمد بن علي الأنصاري: رأيت مجنوناً ببغداد وهو على باب دار فيها صنيع، والناس يدخلون، وكنت ممن دعي، فقلت: ألا تدخل فتأكل، فإن الطعام كثير؟ فقال: وإن كثر فإني ممنوع عنه. قلت كيف والباب مفتوح ولا مانع من الدخول؟ قال: آكل طعاماً لم أدع إليه؟! لقد اضطرني إلى ذلك غير الجوع، قلت: وما هو؟ قال: دناءة النفس، وسوء الغريزة.
قال الشاعر: من الطويل:
وإِني لعفٌّ عن مطاعمَ جمَّةٍ ... إِذا زيَّن الفحشاءَ للنفسِ جوعُها
وقال آخر: من الوافر:
وأُعرضُ عن مطاعمَ قد أَراها ... فأَتركُها وفي بَطْني انطواءُ
كان أبو تراب النخشبي يقول: الفقير قوته ما وجد، ولباسه ما ستر، ومنزله حيث حل.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: الزهد ثلاثة أشياء: القلة، والخلوة، والجوع. وكان يقول: جوع التوابين تجربة، وجوع الزاهدين سياسة، وجوع الصديقين تكرمة.
قال حاتم الأصم: ما من صباح إلا والشيطان يقول: ما تأكل؟ وما تلبس؟ وأين تسكن؟ فأقول: آكل الموت، وألبس الكفن، وأسكن القبر.
قال عامر بن قيس يوماً: أتاني الشيطان فقال لي: ما في يدك؟ فقلت: ما يكفيني اليوم، قال: فغداً؟ قلت: أموت، فخصمته.
وقال الجنيد: مر بي الحارث بن أسد المحاسبي، فرأيت فيه أثر الجوع، فقلت: يا عم، تدخل الدار وتتناول شيئاً؟ وقدمت إليه طعاماً حمل إلي من عرس، فأخذ لقمةً ونهض، فألقاها في الدهليز ومضى. فالتقيت به بعد أيام فقلت له في ذلك، فقال: كنت جائعاً، وأردت أن أسرك بأكلي وأحفظ قلبك، ولكن بيني وبين الله علامة: أن لا يسوغني طعاماً فيه شبهة، فمن أين كان ذلك الطعام؟ فأخبرته، ثم قلت له: تدخل اليوم؟ قال: نعم. فقدمت إليه كسراً كانت لنا، فأكل وقال: إذا قدمت إلى فقير شيئاً، فقدم مثل هذا.
قال المنتجع بن نبهان: سألت بعض أهل اليمامة: كيف ضبطتم القرى؟ فقال: لا نتكلف ما ليس عندنا.
وكان صفوان بن محرز يقول: إذا أتيت أهلي، فقربوا إلي رغيفاً فأكلته وشربت عليه من الماء، فعلى الدنيا العفاء.
ويقال: المروءة أن لا تدخر ولا تعتذر.
وروي أن عمرو بن العاص قال لمعاوية وأصحابه يوم الحكمين: أكثروا لهم الطعام؛ فإنه والله ما بطن قوم إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزمة رجل بات بطيناً. فلما وجد معاوية ما قاله صحيحاً، قال معاوية: إن البطنة تأفن الفطنة.
تأفن: أي تنقص، ومنه رجل مأفون وأفين: أي ناقص العقل.
قال الحسن: لقد صحبت أقواماً ما كان يأكل أحدهم إلا في ناحية بطنه، ما شبع رجل منهم من طعام حتى فارق الدنيا: كان يأكل، فإذا قارب شبعه، أمسك . الفضل والله للمعاد.
قيل لأعرابي: ما طعامك؟ قال: الخل والزيت، فقيل له: أتصبر عليهما؟ قال: ليتهما يصبران علي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإن القلوب تموت كالزرع إذا كثر عليه الماء.
وقال عيسى عليه السلام: يا بني إسرائيل، لا تكثروا الأكل، فإن من أكثر الأكل أكثر النوم، ومن أكثر النوم أقل الصلاة، ومن أقل الصلاة كتب من الغافلين.
وقال الخليل: أثقل ساعاتي علي ساعة آكل فيها.
وقال الفضيل: أتخاف أن تجوع؟ لا تخف؛ أنت أهون على الله من ذاك، إنما كان يجوع محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وعنه: خصلتان تقسيان القلب: كثرة الأكل، وكثرة الكلام.
دخل سفيان بن عيينة على الرشيد وهو يأكل بملعقة، فقال: حدثت عن جدك ابن عباس في قوله تعالى: ولقد كرمنا بني آدم.
قال: جعلنا لهم أيدياً يأكلون بها. فكسر الملعقة.
دخل عمر رضي الله عنه على عاصم بن عمر وهو يأكل لحماً، فقال: ما هذا؟ قال: قرمنا إليه، قال: ويحك، قرمت إلى شيء فأكلته! كفى بالمرء شرها أن يأكل كل ما يشتهي! .
أ قال ابن دريد: العرب تعير بكثرة الأكل، وأنشد: من الرجز:
لستُ بأَكّالٍ كأكْلِ العَبْدِ ... ولا بنوَّام كنَوْمِ الفَهْدِ
بعض بني نهد: من الطويل:
إِذا لم أَزُرْ إِلا لآكُلَ أَكْلَةً ... فلا رَفَعَتْ كفِّي إِليَّ طعامي
فما أَكْلَةٌ إِن نِلْتُها بغَنيمةٍ ... ولا جَوْعةٌ إِن جُعْتُها بغَرامِ
في الحديث: من داوم على اللحم أربعين يوماً، قسا قلبه، ومن تركه أربعين يوماً، ساء خلقه.
قال أنس: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغيفاً محوراً حتى لقي الله.
وقال أيضاً: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعاً، ولبس خشناً: لبس الصوف، واحتذى المخصوف.
قيل للحسن خبز الشعير ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بجرعة من ماء.
قال عمر رضي الله عنه: ما اجتمع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أدمان إلا أكل أحدهما، وتصدق بالآخر.
وقال أبو سليمان الداراني: خير ما أكون، إذا لزق بطني بظهري؛ أجوع الجوعة، فأخرج فتزحمني المرأة فما ألتفت إليها، وأشبع الشبعة، فأخرج فأرى عيني تطمحان.
وقال أيضاً: من صدق في ترك الشهوة، كفي مؤونتها؛ الله أكرم من أن يعذب قلباً بها وقد تركها له.
قيل لابن عمر: أتجعل لك جوارشاً؟ قال: وما الجوارش؟ قيل: شيء تأكله يهضم طعامك، قال: ما شبعت منذ أربعة أشهر، وما ذلك أني لا أجد، وأني لا أجوع، ولكن شهدت أقواماً كانوا يجوعون أكثر مما يشبعون.
سمرة بن جندب رفعه: من تعود كثرة الطعام والشراب، قسا قلبه.
كان يقال: مدمن اللحم كمدمن الخمر.
وقال عمر رضي الله عنه: إياكم وهذه المجازر، فإن لها ضراوة الخمر.
والله أعلم.
الفصل الثالث
في النهمة والجشع وأخبار الأكلة
قد نسب ذلك إلى جماعة من الأكابر وذوي الهمم والأخطار آفة اعترضت فضائلهم، واتباع للشهوات قد استولى على عقولهم.روي أن معاوية بن أبي سفيان كان نهماً جشعاً بخيلاً على الطعام.
وروي أنه قال لأعرابي يؤاكله: إرفع الشعرة من لقمتك، فقال: وإنك لتلحظ الشعرة في لقمتي!؟ والله لا أكلت معك طعاماً وروي أنه أصلح له عجل مشوي، فأكل معه دستاً من الخبز السميد، وأربع فراني، وجدياً حاراً، وجدياً بارداً سوى الألوان، ووضع بين يديه مائة رطل من الباقلاء الرطب، فأتى عليه.
وقيل إنه كان يأكل كل يوم أربع أكلات، آخرهن أشدهن وأفضلهن، ثم يقول: يا غلام، إرفع، فو الله ما شبعت، ولكن مللت.
وقد ذكرت عنه في ذلك أخبار مستهجنة، ألفيتها يخالفها المأثور من حلمه وهمته. وإن امرءاً سمت همته إلى مناوأة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومغالبته على الخلافة مع تباعد استحقاقه منها، لبعيد أن يبخل على طعام، ويحامي دون أكله، ويبذل البذول لرفع الأيدي عنه كما رووا أنه كان يفعل.
وكان عبيد الله بن زياد من الأكلة. كان يأكل في اليوم خمس أكلات آخرها جبنة بعسل، ويوضع بين يديه بعدما يفرغ من الطعام عناق أو جدي فيأتي عليه وحده.
ومنهم الحجاج: قال سلم بن قتيبة: كنت في دار الحجاج مع ولده وأنا غلام، فقالوا: قد جاء الأمير، فدخل الحجاج، فأمر بتنور فنصب، وقعد في الدار، وأمر رجلاً يخبز خبز الماء؛ ودعا بسمك فجعلوا يأتونه بالسمك فيأكله حتى أكل ثمانين جاماً من سمك بثمانين رغيفاً من خبز الماء.
ومنهم سليمان بن عبد الملك، وهو أشهرهم بالجشع. روي أنه شوي له أربعة وثمانون خروفاً، فمد يده إلى كل واحد منها فأخذ شحم كليته، وأخذ معه نصف بطنه مع أربعة وثمانين رغيفاً، ثم أذن للناس، وقدم الطعام، فأكل أكل من لم يذق شيئاً.
وقال بعضهم: دخلت مطبخ سليمان، فوجدت فيه اثنتين وثمانين فخارةً فيها نواهض، قالوا: فأكلها أمير المؤمنين كلها.
وروي أنه أكل عنه يزيد بن المهلب أربعين دجاجةً كردناك سوى ما أكل من الطعام.
وقال الشمردل وكيل آل عمرو بن العاص: قدم سليمان بن عبد الملك الطائف، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز إلي، فجاء حتى ألقى صدره على غصن، ثم قال: يا شمردل، أما عندك شيء تطعمني؟ قلت: عندي جدي كان تغدو عليه حافل وتروح أخرى، قال: عجل به، فأتيته به كأنه عكة سمن، فجعل يأكل وهو لا يدعو عمر حتى إذا أبقى منه فخذاً قال: يا أبا حفص، هلم، قال: إني صائم، فأتى عليه، ثم قال: يا شمردل، ويلك أما عندك شيء؟ قلت: دجاجات ست كأنهن رئلان النعما. فأتيته بهن، فأتى عليهن، ثم قال: ويلك يا شمردل، أما عندك شيء؟ قلت: سويق كأنه قراضة الذهب، فأتيته بعس يغيب فيه الرأس فجعل يشربه، فلما فرغ تجشأ كأنه صارخ في جب، ثم قال: يا غلام، أفرغت من عدائنا؟ قال: نعم، قال: ما هو؟ قال: نيف وثمانون قدراً، قال: فائتني بقدر قدر وبقناع عليه رقاق، فأكل من كل قدر ثلاث لقم، ثم مسح يده واستلقى على فراشه، وأذن للناس، فوضعت الخون وقعد يأكل مع الناس.
قال الأصمعي: حدثت الرشيد أن سليمان بن عبد الملك كان يؤتى بالسفود عليه دجاج سمين مشوي، فلا ينتظر أن ينزع من السفود، ولا يلتمس منديلاً يؤتى به، فيأخذه بكمه، فيأكل واحدةً واحدةً حتى يأتي عليه، فقال الرشيد: ويحك يا أصمعي، ما أعلمك بأخبار الناس! فإني اعترضت جباب سليمان، فوجدت فيها آثار الدهن، فظننته طيباً حتى حدثتني. وأمر لي بجبة منها.
ويحكى أن سبب موته أنه أتي بقصعتين عظيمتين من بيض مصلوق وتين فكان يجمع بين بيضة وتينة حتى أتى عليها.
وروي أن بلال بن أبي بردة ذبح تيساً ضخماً وسلخه، وجعل يضع اللحم على النار قطعةً قطعةً ويأكلها حتى لم يبق إلا العظام، ثم جاءت خبازته ببرمة عليها قصعة فيها ناهضان ودجاجتان وأرغفة، فأكل ذلك كله.
وكان عمرو بن معدي كرب يأكل عنزاً رباعيةً، وفرقاً من ذرة. والفرق: ثلاثة أصوع. وروي أنه أكل ذلك، ثم أكل بعده كبشاً مطبوخاً. وأن امرأته طبخت له كبشاً وجعلت توقد، ويأخذ عضواً عضواً فيأكله، فاطلعت وإذا ليس في القدر غير المرق.
وقيل لسيفويه القاص: من أفضل الشهداء؟ قال: من مات من التخمة، ودفن على الهيضة.
قيل لسمرقندي: ما حد الشبع؟ فقال: إذا جحظت عيناك، وبكم لسانك، وثقلت حركتك، وارجحن بدنك، وزال عقلك، فأنت في أول الشبع. قيل: فإذا كان هذا أوله، فما آخره؟ قال: أن تنشق نصفين.
وسئل طفيلي عن حده، فقال: أن يؤكل على أنه آخر الزاد، فيؤتى على الدق والجل.
وسئل مدني عن حده، فقال: أن يأكل حتى يدنو من الموت.
وسئل آخر عنه، فقال: لا أعلم، إلا أن الجوع عذاب، والأكل رحمة. وإن الرحمة كلما كثرت كان العبد إلى الله أقرب، والله عن العبد أرضى.
وقال آخر: من احتمى فهو على يقين من المكروه، وشك من العافية.
وقال نهم: عصعص عنز خير من قدر باقلاء.
وقيل لأخر: لم تأكل بخمس أصابع؟ فقال: ولي أكثر منها!؟ وقال بعضهم: كنت أمر في أزقة بغداد إذ صيح: الطريق، الطريق، فالتفت فإذا أنا برجل محمول، فقلت: ما أصابه؟ فقيل: أكل الهريسة، فأعجزته عن المشي والحركة، فنحن نحمله إلى منزله.
وقال اليعفوري: أشتهي أن آكل من العنب الرازقي حتى ينشق بطني، فقيل له: أو تشبع، قال: هذا ما لا يكون.
وقيل لأخر: كيف أكلك؟ قال: كما لا يحبه البخيل.
وقال بعضهم: أتاني رجل عشياً، فطلب تمراً، فأمرت بإحضار شيء منه كثير جداً، فابتدأ يأكل، ونمت، فلما أصبحت وخرجت فإذا هو يأكل، فقلت: باكرت التمر؟ قال: لم أنم بعد، فديتك! أنا آكل منذ رأيتني.
ومن المشهورين بالأكل هلال بن الأسعر المازني.
قال المعتمر بن سليمان: قلت له: ما أكلة بلغتني عنك؟ قال: جعت مرةً ومعي بعير لي، فنحرته، وأكلته إلا ما حملت منه على ظهري، فلما كان الليل راودت أمةً لي، فلم أصل إليها، فقالت: كيف تصل إلي، وبيننا جمل!؟ فقلت له: كم بلغتك تلك الأكلة؟ قال: أربعة أيام. وكان يضع على فيه، ويصب النبيذ واللبن. وكان غليظاً عبلاً شديداً أيداً.
وقال له رجل: ما هذه الكذبة؟ قال: عنوان الخصب.
وقال بعضهم: أتانا هلال بن الأسعر، فأكل جميع ما كان في بيتنا، وبعثتنا إلى الجيران نستقرض الخبز، فلما رأى الخبز قد اختلف عليه، قال: كأنكم قد أرسلتم إلى الجيران؟ أما عندكم سويق؟ قلنا: بلى، فجئته بجراب في طولي، وبرنية فيها نبيذ، فجعل يصب النبيذ على السويق حتى أكل ما في الجراب.
وروي أنه جلس على زورق فيه تمر، فاستأذن صاحبه في أن يأكل منه، فظنه يأكل كالناس، فغطى التمر بالبواري وأكل، وجعل يلقي النوى فيه إلى أن أتى على التمر، وكشف الزورق فإذا هو ملآن من النوى، ولا تمر فيه.
ومنهم محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. ذكر الجاحظ أنه أكل يوماً جنبي بكر شواء بعد طعام كثير، ومائة تمرة من تمر الهيرون بما حملت من الزبد ومائة نباجة.
روي أن الواثق كان أكولاً، وأنه أمر باتخاذ بزماورد، وأن يفرش في صحن واسع على أنطاع، فلما قعد لأكله، أكل منه مساحة قفيزين.
ومن المشهورين بالنهم أحمد بن أبي خالد الأحول وزير المأمون. وكان المأمون إذا وجهه في حاجة أمره أن يتغدى ويمضي.
ورفع إلى المأمون في المظالم: إن رأي أمير المؤمنين أن يجري على ابن أبي خالد نزلاً؛ فإن فيه كلبيةً، لأن الكلب يحرس المنزل بالكسرة، وابن أبي خالد يقتل المظلوم ويعين الظالم بأكلة. فأجرى عليه المأمون في كل يوم ألف درهم لمائدته، وكان مع ذلك يشره إلى طعام الناس.
ولما انصرف دينار بن عبد الله من الجبل، قال المأمون لأحمد بن أبي خالد: امض إلى هذا الرجل وحاسبه، وتقدم إليه بحمل ما تحصل لنا عليه.
وأنفذ معه خادماً ينهي إليه ما يكون منه، قال: إن أكل أحمد عند دينار، عاد إلينا بما نكره. ولما اتصل خبر أحمد بدينار، قال للطباخ: إن أحمد أشره من نفخ فيه الروح، فإذا رأيته فقل: ما الذي تأمر أن يتخذ لك؟ ففعل الطباخ، فقال أحمد: فراريج كسكرية بماء الرمان، تقدم مع خبز الماء السميد، ثما عات بعد ذلك ما شئت. فابتدأ الطباخ بما أمر. وأخذ أحمد يكلم ديناراً فقال: يقول لك أمير المؤمنين: إن لنا قبلك مالاً قد حبسته علينا: فقال: الذي لكم ثمانية آلاف ألف، قال: فاحملها، قال: نعم. وجاء الطباخ فاستأذن في نصب المائدة، فقال أحمد: عجل بها، فإني أجوع من كلب. فقدمت وعليها ما اقترح، وقدم الدجاج وعشرون فروجاً كسكريةً، نصفها بماء الحصرم، ونصفها بماء الرمان. فأكل أكل جائع نهم ما ترك شيئاً مما قدم، ثم نقل الحار والبارد فما مر لون إلا أثر فيه، فلما فرغ وقدر الطباخ أنه قد شبع، لوح بطيفورية فيها خمس سمكات شبابيط كأنها سبائك الفضة، فقال له أحمد: قطع الله يمينك! ألا قدمت هذا؟ ولكن هاتها، فوضعها بين يديه، فأكل أكل من لم يأكل قبله شيئاً، ثم رفعت المائدة وغسلوا أيديهم، وأعاد أحمد الخطاب، فقال دينار: أليس قد عرفتك أن الباقي لهم عندي سبعة آلاف ألف، فقال: أحسبك اعترفت بأكثر من هذا، قال: ما اعترفت إلا بها، قال: فأت خطك بما اعترفت، فتناول القلم وكتب بستة آلاف ألف. فقال أحمد: سبحان الله! أليس اعترفت بأكثر من هذا؟ قال: ما لكم قبلي إلا هذا المقدار. فأخذ خطه بها، وتقدم الخادم فأخبر المأمون بما جرى، فلما ورد أحمد ناوله الخط، فقال: قد عرفنا ما كان من الألف ألف بتناول الغداء، فما بال الألف ألف الأخرى؟ وكان المأمون بعد ذلك يقول: ما أعلم غداء قام على أحد بألفي ألف إلا غداء دينار. واقتصر الخط ولم يتعقبه كرماً ونبلاً.
ومنهم أبو العالية. حملت امرأته فحلفت إن ولدت غلاماً لتشبعن أبا العالية خبيصاً، فولدت غلاماً فأطعمته، فأكل سبع جفان، فقيل له: إنها حلفت أن تشبعك خبيصاً، فقال: والله لو علمت ما شبعت إلى الليل.
ومنهم أبو الحسن بن العلاف، وهو ابن أبي بكر بن العلاف الشاعر المعروف. دخل إلى المهلبي الوزير يوماً، فأنفذ الوزير من أخذ حماره الذي كان يركبه من غلامه وأدخله إلى المطبخ، وذبح وطبخ لحمه بماء وملح، وقدم إليه، فظن أنه لحم بقر فأكله، فلما خرج وطلب الحمار قيل: قد أكلته، وعوضه الوزير عنه ووصله.
قدم إلي بعضهم، وهو يأكل مع جماعة، بقيلة فمد يده إلى البيضة وقال: إنه لا يأكلها إلا شره، ولا يتركها إلا عاجز. ولأن أكون شرهاً أحب إلي من أن أكون عاجزاً.
وقال: كان بعضهم إذا قدم الخوان أول من يتقدم ثم يقول: وعجلت إليك رب لترضى.
وقيل لأخر: لم أنت حائل اللون؟ قال: للفترة بين القصعتين مخافة أن يكون قد فني الطعام.
سئل الحارثي عن الأسواري فقال: ما ظنكم برجل نهش بضعة لحم، فاقتلع ضرسه وهو لا يعلم، وكان إذا أكل ذهب عقله ولم يسمع ولم يبصر، وكان يأكل التمر سفاً، ويزدرده زرداً، وإذا وجده كثيراً تناول القطعة منه كجمجمة الثور ثم كدمها ونهشها طولاً وعرضاً، ورفعاً وخفضاً، حتى يأتي عليها، ثم لا تقع عضته إلا الأنصاف والأثلاث، ولا رمى بنواة قط، ولا نزع قمعاً، ولا نفى عنه قشراً، ولا نفض منه السوس ولا غيره.
قال الأصمعي: دخلت يوماً على الرشيد، فأتي بفالوذج مفرط الحرارة، فقلت: أحدثك يا أمير المؤمنين بحديث إلى أن يفتر، فقال: هات، قلت: كان مزرد أخو الشماخ غلاماً شرهاً جشعاً، وكانت أمه تؤثر عليه إخوته في الطعام، فغابت يوماً في عض الحقوق وخلفت مزرداً في الرحل، فأخذ صاعاً من عجوة، وصاعاً من سمن، وصاعاً من دقيق. فضرب بعضه ببعض وجعل يأكل ويقول: من الطويل:
ولمّا غَدَتْ أُمّي تزورُ بناتِها ... أَغرْتُ على العِكْمِ الذي كان يُمْنَعُ
لَبَكْتُ بصاعَيْ حِنْطَةٍ صاعَ عَجْوَةٍ ... إِلى صاعِ سَمْنٍ فوْقَهُ يتريَّعُ
وقلتُ لِبَطْني ابْشِر اليومَ إِنَّه ... قِرى أُمِّنا ممّا تحوزُ وتَمْنَعُ
فإِنْ كنْتَ مصفوراً فهذا دواؤهُ ... وإِنْ كُنْتَ غَرْثاناً فذا يومُ تَشْبَعُ
فضحك الرشيد وقال: يا أصمعي، كل باسم الله، هذا يوم تشبع.
قال الناجم: دعا قوم أبا عثمان الجاحظ، فلما قربت المائدة قال: إني صائم. فبينما هم يأكلون إذ قرب على المائدة جدي شهي، فلما رآه، حسر عن ذراعيه وازدلف إليه، فقيل له: ألم تكن صائماً؟ فقال: الأيام أكثر من الجداء.
قال أحمد بن بشير: دخلت يوماً المسجد وإذا فيه رقبة بن مصقلة العبدي يتقلب، فقلت له: ما شأنك؟ فقال: أنا قتيل النبي والفالوذج.
قال أحمد بن أبي خالد يوماً: السميدة الحارة تزيد في العمر، فقيل له: وهل يزيد في العمر شيء؟ قال: نعم، طعام أمير المؤمنين يزيد في العمر بلا مرية ولا خلاف. فبلغ ذلك المأمون فأحضره وقال: يا أحمد، إن طعامي يزيد في العمر؟ قال: أي والله، ولقد قرأت في مولدي أني أموت وقت كذا، فلما بلغته تأهبت للموت وتوقعته، فاعتللت ولم أشك أن منيتي قد أتتني. فكان سبب برئي سميدة حملت إلي من مطبخ أمير المؤمنين، فأكلتها فكأنما أنشطت من عقال. فضحك المأمون وقال: لقد استحوذ عليك شيطان مريد فأغراك بالأكل.
قال الحجاج يوماً لجلسائه: أي صوت سمعه أحدكم أحسن؟ فقال بعضهم: صوت قارئ حسن التلاوة لكتاب الله في جوف الليل. قال: إن ذلك لحسن. قال آخر، أصلح الله الأمير، ما سمعت صوتاً أعجب إلي من أني كنت تركت المرأة ماخضاً، وخرجت إلى المجلس، فأتاني آت فقال: أبشر بغلام! فقال الحجاج: يا حسناه! قال آخر: أصلح الله الأمير، ما سمعت صوتاً أحسن في سمعي من أني كنت قائد جيش، فسرحت الخيل في نحر العداة، فجاء جاء فقال: أبشر بالفتح. فقال شعبة بن علقمة التميمي: لا والله ما سمعت قط أعجب إلي من أن أكون جائعاً مع قوم جياع، فأسمع قعقعة الخوان خلف ظهري. فضحك الحجاج وقال: أبيتم يا بني تميم إلا حب الزاد.
وبنو تميم يذمون بالجشع، وسبب ذلك أن عمرو بن هند قتل أخوه وهو طفل في حجر زرارة بن عدس، فآلى ليقتلن من بني دارم مائةً وليحرقنهم بالنار، فأعوزه واحد من المائة، وإذا راكب من البراجم قد أقبل حين شم القتار، فلما رآه قال له: ممن أنت؟ قال: من البراجم، قال: ما جاء بك؟ قال: شممت القتار فظننته طعاماً، فقال: إن الشقي راكب البراجم، وألقاه في النار.
ولما أمر كسرى بقتل بني تميم لأخذهم الطيمة، خدعهم هوذة بن علي الحنفي بالطعام، وقال: إن الملك أمر أن يفرق فيهم الزاد، فاجتمعوا، فكان يدخل الرجل منهم إلى المشقر - وهو حصن باليمامة - بحجة الزاد فيقتله، إلى أن قتل منهم عدداً، وفطن أحد الباقين. وهو خبر مذكور مشهور يذكر في أخبار العرب. وهجوهم بذاك ورد في الهجاء.
وصف لسابور ذي الأكتاف رجل من إصطخر أمضى القضاة، فاستقدمه فدعاه إلى الطعام، فأخذ دجاجةً فنصفها، ووضع نصفها بين يديه، وأتى عليه قبل فراغ الملك، فصرفه إلى بلده وقال: إن سلفنا كانوا يقولون: من شره إلى طعام الملوك، كان إلى مال الرعايا والسوقة أشره.
شاعر يصف أكولاً جشعاً: من الرجز:
يلقمُ لَقْماً ويُفَدِّي زادَهُ ... يرمي بأَمثالِ القَطا فؤادَهُ
وصف بعض أهل الشام الأكل فقال: إذا أكلت فانزل على ركبتيك، وافتح فاك، واجحظ عينيك، وافرج أصابعك، وأعظم لقمتك، واحتسب نفسك.
أكل أبو الأسود وأقعد معه أعرابياً فرأى لقماً منكراً، فقال: ما اسمك؟ فقال: لقمان، قال: صدق أهلك، أنت لقمان.
أعرابي: من الطويل:
أَلا ليْتَ لي خُبْزاً تَسَرْبَلَ رائباً ... وخَيْلاً من البَرْنيِّ فُرسانُها الزُّبْدُ
الفصل الرابع
في التطفل وأخبار الطفيليين
العرب تقول للطفيلي: الوارش، والراشن.وقيل: إنه منسوب إلى طفيل بن زلال الغطفاني وكان من أهل الكوفة، يحضر الولائم من غير أن يدعى إليها، فسمي طفيل العرس.
وقيل: هو مأخوذ من الطفل وهو الظلمة، لأن الفقير من العرب كان يحظر الطعام الذي لم يدع إليه متستراً بالظلمة لئلا يعرف.
وقيل: سمي بذلك لإظلام أمره على الناس؛ لا يدرى من دعاه.
وقيل: بل من الطفل لهجومه على الناس كهجوم الليل على النهار، فيكون من الظلمة. ولذلك قيل: أطفل من ليل على نهار.
وأشهر من نسب إليه هذا الاسم، وكثرت الحكايات عنه في هذا الشأن بنان الطفيلي، وهو عبد الله بن عثمان، ويكنى أبا الحسن، ويكنى بنان وأصله مروزي وأقام ببغداد.
قال الجاحظ: قال بنان: حفظت القرآن ونسيته جميعه إلا حرفين: اتنا غداءنا.
وقيل له: تروي من الشعر شيئاً؟ فقال: بيتاً واحداً: من البسيط:
نزورُكم لا نُؤاخذكم بجَفْوَتِكم ... إِنَّ الكريمَ إِذا لم يُسْتَزَرْ زارا
وقيل لبنان: من دخل إلى طعام لم يدع إليه دخل لصاً وخرج مغيراً. والمعنى أنه يأكل حراماً. فقال: ما آكله إلا حلالاً، قيل: كيف؟ قال: أليس يقول صاحب الوليمة للطباخ: زد في كل شيء؟ فإذا أراد أن يطعم مائةً، قال: قدر لمائة وعشرين، فإنه يجيئنا من نريد ومن لا نريد، فأنا ممن لا يريد.
وكان يقول كثر المضغ تشد العود، وتقوي الأسنان، وتدبغ اللثة.
وأوصي بعض أصحابه فقال له: إذا كنت على مائدة فلا تتكلمن في حال أكلك، وإن كلمك من لابد من جوابه، فلا تجبه إلا بقولك: نعم، فإن الكلام يشغل عن الأكل، وقولك نعم مضغه.
واجتمع إلى بنان نفر من أصحابه وأرادوا وليمةً، فقال: اللهم لا تجعل البواب لكازاً في الصدور، دفاعاً في الظهور، طراحاً للقلانس. هب لنا رأفته وبشره، وسهل إذنه. فلما دخلوا، تلقاهم الخباز فقالوا: طلعة مباركة موصول بها الخصب، ومعدوم معها الجدب. فإذا جلسوا على الخوان قال: جعل الله فيك من البركة كعصا موسى، وخوان إبراهيم، ومائدة عيسى. ثم قال لأصحابه: افتحوا أفواهكم، وأقيموا أعناقكم، وأجيدوا اللقم، وأسرعوا اللف، ولا تمضغوا مضغ المتعللين الشباع، واذكروا سوء المنقلب، وخيبة المضطر.
وقال رجل لبنان: أدع لي، قال: الهم ارزقه صحة الجسم، وكثرة الأكل، ودوام الشهوة، ونقاء المعدة، وأمتعه بضرس طحون، ومعدة هضوم، مع السعة والدعة والأمن والعافية. وقال: هذه دعوات مغفول عنها.
ومن المشهورين بالتطفيل عثمان بن دراج مولى كندة، ويكنى أبا سعيد، وكان في زمن المأمون، وفيه أدب.
وقال له مرة: أتطفل على الرؤوس؟ قال: كيف لي بها؟ قالوا: إن فلاناً وفلاناً قد اشتروها ودخلوا بستان ابن بزيع، فخرج يحضر خوفاً من فوقهم فوجدهم قد اشتروها، فاستعبر وتمثل بقول الرقاشي: من الرجز المجزوء:
آثارُ رَبْعٍ قَدُما ... أَعيا جَوابي صَمَما
كان لسُعدى علما ... فصار وَحْشاً رِمَما
وكان ابن دراج يغشى سعيد بن عبد الكبير الخطابي، فقال له: ويحك، إني أضن بأدبك وبك عما أنت عليه من التطفيل، ولي وظيفة راتبة في كل يوم، فالزمني وكن مدعواً أصلح لك مما تفعل، فقال: يرحمك الله! فأين لذة الجديد وطيب التنقل من مكان إلى مكان؟ وأين وظيفتك من احتفال العرس، وألوانك من ألوان الوليمة؟ فقال: أما إذا أبيت هذا، فإذا ضاقت عليك المذاهب فائتني، قال: أما هذا فنعم.
قال أبو علي بن الزمكدم في أبي إسحاق بن حجر الأنطاكي: من الرجز:
جارٌ لنا أَطْفَلُ من ذُبابِ ... على طعامٍ وعلى شَرابِ
أَدْوَرُ في الموْصلِ من دولابِ ... يدخُلُ بالحيلةِ في الأَنْقابِ
لا يَفْرَقُ الردَّ من البَّوابِ ... يحملُ حَمْلاتِ أَبي تُرابِ
قال طفيلي لصاحب له: إذا دخلت عرساً فلا تتلفت تلفت المريب، وتخير المجلس، وأجد ثيابك، ولا تأكل الكزمازك؟ مطوياً فإنه يعديك، كله شوشاً فإنه أطوع للأضراس وأسهل في المضغ. وإذا أكلت فكل أبداً، فإن مت مت شهيداً.
ومن وصية أحدهم لصاحبه: إذا دخلت إلى عرس كثير الزحام، فمر وانه، ويكون كلامك بين النصيحة والادلال، فإني دخلت يوماً إلى وليمة، وقد صنع الطباخ بزماورد ليضعه وسط المائدة عند الفراغ من الطعام ليطلب الراشن، فقلت له: استأذنت صاحبنا؟ فقال: وهذا مما يستأذن فيه!؟ فقلت: أسكران أنت؟ تريد أن يغرم أحدهم أكثر مما أكل، وتنغص عليه؟ وصاحب الوليمة لا يرضى بهذا. ولولا خوفي لائمته لم آسف عليك بشيء يصير إليك، فقال: هل في باب يكفيني نصف ما أصبت؟ فقلت: أفعل، ولزمته، وجعلت آكل كل شيء أشتهيه، وآمر وأنهى، وهو يظن أن بيني وبين صاحب الدار حرمةً أو قرابةً، ثم قاسمته على ما أصاب وخرجت.
وقال شاعر يذكر طفيلياً: من الرجز:
ويعربيٍِّ خالِعِ العذارِ ... أَطْفَلَ من ليلٍ على نهارِ
أَثبتُ في الدارِ من الجدارِ ... يشربُ بالكبارِ والصغارِ
كأّنَّه في الدارِ ربُّ دارِ
ضم عثمان بن دراج السفر ورفيقاً له، فقال له الرفيق: انهض إلى السوق فاشتر لنا لحماً، فقال: والله ما أقدر، فمضى الرفيق واشترى اللحم، ثم قال لعثمان: قم الآن فاطبخ القدر، قال: والله ما أقدر، فطبخها الرفيق، ثم قال: قم الآن فاثرد، قال: والله إني لأعجز عن ذلك، فثرد الرفيق، ثم قال: تعال الآن فكل، فقال: والله لقد استحييت من كثرة خلافي عليك، ولولا ذلك ما فعلت.
وقال طفيلي: من الخفيف:
قابلٌ إِنْ جَرى عليَّ هوان ... في سبيلِ الحَلْواء والجُوْذابِ
قال الأصمعي: كان بالبصرة أعرابي من بني تميم يطفل على الناس، فعاتبته على ذلك، فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولا وضع الطعام إلا ليؤكل، وما قدمت هديةً فأتوقع رسولاً، وما أكره أن أكون ثقلاُ ثقيلاً على من أراه شحيحاً بخيلاً، أهجم عليه مستأنساً، وأضحك إن رأيته عابساً، فآكل برغمه، وأدعه بغمه، وما اخترق اللهوات طعام أطيب من طعام لم ينفق فيه درهم، ولم يعن إليه خادم.
أولم طفيلي على ابنته، فأتاه كل طفيلي في البلد، فلما رآهم عرفهم، فرحب بهم ثم أدخلهم فرقاهم إلى غرفة بسلم، وأخذ السلم حتى فرغ من إطعام الناس، فلما لم يبق أحد أنزلهم وأخرجهم.
وقال طفيلي: من جلس على مائدة وأكثر كلامه غش بطنه.
كان نقش خاتم بنان الطفيلي: ما لكم لا تأكلون.
وكان يقول لأصحابه: إذا دخلتم فلا تلتفتوا يميناً ولا شمالاً، وانظروا في وجوه أهل المرأة وأهل الرجل حتى يقدر هؤلاء أنكم من هؤلاء، وكلموا البواب برفق، فإن الرفق يمن، والخرق شؤم، وعليكم مع البواب بكلام بين كلامين، بين الإدلال والنصيحة.
نظر طفيلي إلى قوم ذاهبين في وجه، فلم يشك أنهم يذهبون إلى وليمة. فقام وتبعهم، فإذا هم شعراء قد قصدوا باب السلطان بمدائح لهم. فلما أنشد كل واحد منهم شعره وأخذ جائزته، ولم يبق إلا الطفيلي وهو جالس ساكت، قيل: أنشد، قال: لست بشاعر. قالوا: فمن أنت؟ قال: من الغاوين الذين قال الله تعالى فيهم: والشعراء يتبعهم الغاوون. فضحك الممدوح وأمر له بمثل جائزة الشعراء.
دخل طفيلي إلى قوم، فقالوا: ما دعوناك، فما الذي جاء بك؟ قال: إذا لم تدعوني ولم أجيء، وقعت وحشة، فضحكوا وقربوه.
ومثل ذلك ما حكي عن طفيلي كان يحضر على طبق عميد الدولة أبي منصور بن جهير في شهر رمضان ويضحكه، فأمر له بشيء وحجبه عن الطبق ترفعاً عن الهزل، فتأخر أياماً ثم حضر، فلما رآه قال: ما موجب الحضور بعدما أمرناك به؟ قال: إذا لم يستحضرني مولانا، ولم أحضر أنا صارت وحشة، فضحك منه واستمر حضوره.
والطفيليون يقولون: إن المصلية تبشر بما بعدها من كثرة الطعام، كما أن البقيلة تخبر بفنائه، فهم يحمدون تلك ويسمونها المبشرة، ويذمون هذه ويسمونها الناعية، حتى صار المخنثون إذا شتموا إنساناً قالوا له: يا وجه البقيلة.
قال بنان: إذا قعدت يوماً على مائدة وكان موضعك ضيقاً، فقل للذي يليك: لعلي قد ضيقت عليك، فإنه يتأخر إلى خلف ويقول: سبحان الله! لا والله يا أخي! موضعي واسع، فيتسع عليك موضع رجل.
وقال له طفيلي: أوصني، فقال: لا تصادفن من الطعام شيئاً فترفع يدك عنه وتقول: لعلي أصادف ما هو أطيب منه، فإن هذا عجز ووهن. قال: زدني، قال: إذا وجدت خبزاً فيه قلة فكل الحروف، فإن كان كثيراً، فكل الأوساط. قال: زدني، قال: لا تكثر شرب الماء وأنت تأكل، فيصدك عن الأكل ويمنعك من أن تستوفي. قال: زدني، قال: إذا وجدت الطعام فاجعله زادك إلى الله.
كان بالبصرة طفيلي يقال له أبو سلمة، وكان إذا سمع بذكر وليمة بادر إليها، وتقدمه ابنان له في زي العدول، وبين أيديهم غلام، فإذا أتوا الباب، تقدم العبد فقال: افتح، هذا أبو سلمة، ثم يتلوه الآخر ويقول: ما تنتظر؟ ثكلتك أمك! قد جاء أبو سلمة، ثم يجيء هو فيقول: افتح يا بني، فإن كان جاهلاً فتح، وإن كان قد عرف أمره وحذر منه، قال له: يا أبا سلمة، أنا مأمور. فيجلس وينتظر أن يجيء بعض من دعي، فإذا فتح له شق الباب، تقدم ابناه والعبد وفي كم كل واحد منهما فهر مدور ململم يسمونه كيسان، فيلقونه في دوارة الباب فلا ينصفق، فيدخلون.
قيل لابن دراج: كيف تصنع بالعرس إذا لم يدخلوك؟ قال: أنوح على الباب. فيتطيرون فيدخلوني.
قال نصر بن علي الجهضمي: كان لي جار طفيلي، فكنت إذا حضرت إملاكاً أو دعيت إلى مدعاة ركب معي، وجلس حيث أجلس، فيأكل وينصرف. وكان نظيفاً عطراً حسن اللباس والمركب، وكنت لا أعرف من أمره إلا الظاهر. فاتفق لجعفر بن القاسم الهاشمي حق، فدعا له أشراف البصرة ووجوهها، وهو يومئذ أمير البصرة، فقلت في نفسي: إن تبعني هذا الرجل إلى دار الأمير لأخزينه. فلما كان يوم الحضور، جاءني الرسول فركبت وإذا به قد تبعني حتى دخل بدخولي وارتفع معي حيث أجلست. فلما حضرنا الطعام، قلت: حدثنا درست بن زياد عن أبان بن طارق عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دخل إلى دار قوم بغير إذنهم دخل سارقاً وخرج مغيراً، ومن دعي فلم يجب، فقد عصى الله ورسوله. وظننت أني قد أسرفت على الرجل، وقصرت من لسانه. فأقبل علي وقال: أعيذك بالله يا أبا عمرو من هذا الكلام في دار الأمير! فإن الأشراف لا يحتملون التعريض باللؤم، وقد حظر الدين التعريض وعزر عليه عمر؛ ووليمة الأمير دعاء لأهل مصره فإنه سليل أهل السقاية والرفادة والمطعمين الأفضلين الذين هشموا الثريد، وأبرزوا الجفان لمن غدا إليها وراح. ثم لا تتورع - وأنت في بيت من العلم معروف - من أن تحدث عن درست بن زياد وهو ضعيف عن أبان بن طارق وهو متروك الحديث بحكم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون على خلافه؛ لأن حكم السارق القطع، والمغير يعزر على ما يراه الإمام، وهذان حكمان لا ينفذان على داخل داراً في مجمع، فيتناول لقماً من فضل الله الذي آتى أهلها، ثم لا يحدث حدثاً حتى يخرج عنها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، حدثنا بذلك أبو عاصم النبيل عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأين أنت عن هذا الحديث الصحيح الإسناد والمتن؟ قال نصر: فأصابتني خجلة شديدة. ولما نظر الرجل إلى ما بي، أكل ونهض قبلي، فلما خرجت وجدته واقفاً على دابته بالباب، فلما رآني، تبعني ولم يكلمني ولم أكلمه، إلا أنني سمعته يتمثل: من المتقارب:
ومَنْ ظنَّ ممَّن يُلاقي الحروبَ ... بأَن لا يُصابَ لقد ظنَّ عَجْزا
ابن المعتز: من الوافر:
فأَطْفَلُ حين يخفى من ذُبابٍ ... وأَلْزمُ حين تدعى من قُرادِ
الحمدوني: من الوافر:
أَراكَ الدَّهْرَ تطرقُ كلَّ دارٍ ... كأَمْرِ اللهِ يطرقُ كلَّ لَيْلَهْ
الفصل الخامس
في أوصاف الأطعمة وفنونها
قد ذكرت في باب الأوصاف والنعوت طرفاً من الأشعار في نعت المآكل يليق بالمكان، ويتضمن ما كان وصفاً غريباً، ونعتاً مستحسناً، ونذكر في هذا الموضع ما يقتضيه إذ كان أولى به.خرج خالد بن صفوان إلى البستان، فلما قدم، قيل له: من أين أقبلت يا أبا صفوان؟ قال: من البستان. قيل: فما أكلت؟ قال: أينا برغفان قانية الحمرة، صافية الرقعة، فائقة الصنعة، تهفو بها الريح رقة، مع آنية ماء كأنها فرت من زبدة، تبجس شحماً وتقطر سمناً، مع بقول اجتنيت لما أينعت فهي خضرة نضرة، عضة بضة، مع ساكن دن نسج عليه العنكبوت، وسكن أسافله فهو يروق، لو ألقيته على الشمس لأظلمت، ولو سافته حية لأعفت، ثم أتينا ببسر مفلق أنضجته ناره، وانتقاه أكاره، فهو لطيف النوى، نبيل اللحاء، قد احمر باطنه وانجرد ظاهره، وهش مكسره، ففيه العيش كله.
كشاجم يصف دجاجةً: من الرجز:
دَجاجةٌ في سِمَنِ السَّمَندِ ... عظيمةُ الزَّوْرِ بصدرٍ نهدِ
أجريت منها في العقْدِ ... مُرْهَفَةً ذات شباً وحد
ولم تَزَلْ بالماءِ كفُّ العبد ... تَفْرقُ بين ريشِها والجِلْد
وغُلِيتْ بَعْدُ بماءِ الوَرْد ... وصُبَّ فيها اللوزُ مثل الزُّبد
ثم أتى يسعى بها المهدي ... كأَنما قد بُحّرت بالنَّدّ
وقال أيضاً في حمل مشوي: من الرجز:
لمْ أَنْسَهُ في حُلَّةٍ حمراءِ ... على خِوانٍ واسعِ الفَضاءِ
قد شُقَّ عن مكنونةٍ بَيْضاءِ ... تُسْفِر عن مكّيَّةٍ ملساءِ
مقرونةٍ بأُختِها للرائي
قدم أعرابي الحضر، فقيل له: أين كنت؟ قال: كنت والله عند كريم خطير. أطعمني بنات التنانير، وأمهات الأباريز، وحلو الطناجير، ثم سقاني من دم القوارير، من يد غزال غرير.
حسان: من الطويل:
ثريدٌ كأَن الشمسَ في حُجُراتهِ ... نُجومُ الثُريّا أَو عيونُ الضيَّاونِ
كان ملوك غسان يوصفون بالترفه والنعمة، فيقال: ثريدة غسان كما يقال فالوذ ابن جدعان، ومضيرة ابن أبي سفيان.
وكانت الأكاسرة تحظر السكباجة على العامة وتقول: هي للملوك، حتى ملك أبرويز فأطلقها لهم.
وكانت العرب لا تعرف الألوان. إنما طعامهم اللحم يطبخ بماء وملح، حتى كان زمن معاوية فاتخذ الألوان وفرقها وتنوق فيها.
قال بزرجمهر: في البطيخ عشر خصال: هو ريحان، وتحية وفاكهة، وإدام، وخبيص مهيأ، ودواء للمثانة، وحرض للغمر والزهومة، ومذهب لرائحة النورة عند الاستحمام، وكوز لمن عسر عليه ماء يشرب فيه، وهاضوم للثقيل من الطعام.
أبو نصر الكاتب يصف القطايف والخشكنانات: قطائف عراقي النشر بغدادية، عسكري الحشو طبرزيه، مما عنيت الأذهان بتصويره، ونصبت اليدان لتقديره وتدويره، وأبرزته كالبدر في كماله، متنزهاً في صورتي محاقه وهلاله، ثم طوته الأنامل طي السجل للكتاب، وغادرته قد رصف صفوفه، به ظروفه، وأركبت بعضه بعضا، حتى شكلته سماءً وأرضاً، ثم رقد رقدة النصب المجهود، وهو تهويم اللغب المكدود، ذابل الشمائل، مبتل الغلائل، يعوم في دهن، كأنما كسر به في بحر، أو أحسن غوص وأطيبه، وأطرف بديل وأعجبه، خشكنانج كأساور الكواعب، كسرها فضل التجاذب والتداعب، أو كقرون الظباء قداً والتفافاً، ولملمةً واستحصافاً، أو فخاخ صنعت للطير فأحكمت، ووضعت للصيد فقومت، هلالية الجنبات، ذهبية الشيات، رقيقة القشر، غليظة الخصر، لذيذة الأرج والنشر، يكاد ينم على باطنها ظاهرها، ويشهد على غائبها حاضرها، نزهة المحيا، ونقية المتجلى.
كان أبو بكر بن قريعة يحب الفالوذج السرطراط ويقول: أريدها مستغيثةً من الغرق، في ماء الورد العرق. ويسمي القطائف لفائف النعيم، وطعام الصابرين، ويسمي اللوزينج مغرغر الحلقوم.
أ ودخل يوماً إلى عز الدولة وبين يديه طبق فيه موز، فأعرض عن استدعائه، فقال: ما بال مولانا لا يدعوني إلى الفوز بأكل الموز؟ فقال: صفه حتى أطعمك منه، فقال: ما أصف من جرب ديباجية، فيها سبائك ذهبية، كأنما زبداً وعسلاً، وخبيصاً مرملاً، أطيب الثمر، كأنه مخ الشجر، سهل المقشر، لين المكسر، عذب المطعم بين الطعوم، يتسلسل في الحلقوم. ثم مد يده فأخذ وأكل.
زعم الطباخون أن الديكبريكة؟ لا يكمل طيبها، ولا يذكو ريحها حتى تبرد وتسخن، فيغرف منها ثلاث غرفات: حارة، وباردة، ومسخنة. والسكباج أخت الديكبريكة وشبيهتها، فتؤكل ألواناً: أولها ثردة تشرب سكراً، ثم ثردتها الساذجة المعروفة، ثم لحمها حاراً وبارداً، ثم يصفى مرقها ويعرى من الدسم ويثرد فيها فتؤكل باردة.
وكان بنو الفرات وغيرهم من أرباب النعمة بالعراق يتقدمون بعمل هذا الطعام: يؤخذ لحم عجل رخص فيغسل وينشف، ويوضع في قدر، ويصب عليه من خل الكرم الجيد الصافي فوق غمره، ومن الزيت الخالص قدر الراحة، ويجعل معه السذاب والكرفس، ويضاف إلى ذلك قشور الأترح أو قداحه، وقشور السفرجل وقشور التفاح الشامي، والكسفرة اليابسة والزعفران، ويترك على النار حتى يسكن، ويصفى ويجعل في خماسيات ويحكم صمامها، فإذا احتيج إليه عند اتخاذه، عمل بهذا الخل على الصفة المعروفة التي ينقع فيها اللوز والسكر، وعلى هذا اخترع بعض الخلفاء أن يطبخ البط الملقم بالخل الحاذق الذكي ويصفى ويعمل به أنواع القلايا وما يجري مجراها من المحرقات.
وكان يوصف ببغداد فالوذجة الحسن بن سهل، وخبيصة يحيى بن خالد، وأرزة عمرو بن مسعدة، ولوزينجة حميد الطوسي، وقطايف صالح صاحب المصلى.
حكي أن المأمون مضى إلى المدائن متنكراً ومعه بعض الأصحاب، فأكل من جواذبها فقال: يا أمير المؤمنين، إنه من طعام العامة! فقال: إن العامة تشركنا في الماء البارد، فهل نترك شربة لأجلهم؟! قيل لأبي الحارث جمين: بأي شيء تشبه البدر؟ قال: بالبهطة إذا سقيت لبن حليب طري بزبد مروي، وسكر طبرزد .
وكان يقول: ما أشبه البيض على الموائد إلا بالكواكب في الأفق.
وسمع رجلاً يذم الزبد، فقال له: ترى ما الذي كرهت منه؟ سواد لونه، أو بشاعة طعمه، أم استصعاب مدخله، أم خشونة ملمسه؟ وقيل له: ما تقول في الباذنجان؟ فقال: أنوف الزنج، وأذناب المحاجم، وبطون العقارب، وبزر الزقوم، قيل له: إنه يحشى باللحم فيكون طيباً، فقال: لو حشي بالتقوى والمغفرة، ما أفلح.
وقال شاعر في وصفه: من الطويل:
وسُودٍ تروَّتْ بالدِّهانِ فأُبدِلَتْ ... بتَوْريدِها لوناً من النارِ أَكْلفا
كأفواه زنجٍ تُبصرُ الجلدَ أسوداً ... وتُبصرُ إِنْ فُرَّتْ لُجَيْنا مؤلَّفا
وقال الجهرمي يصفه: من الكامل:
لونانِ من عاجٍ ومن سبج إِذا اجْ ... تمعا فَصُبْحٌ في خِلالِ ظَلامِ
وفيها يقول:
روّى على مَهَلٍ فأَنْضَجَ قَلْيَ ذا ... يَوْماً، وأَنْشَفَ ذا على الأَيَّامِ
والمالحُ المَمْقُورُ أقطاع الحلا ... كللْنَ حبَّاتٍ بغَيْرِ نظامِ
أَصبَحْنَ للجامات عمراناً ولوْ ... فُتْنَ الشِّباكَ عُمرن في الأَجْسامِ
وكأَنَّما الدُّرَّاجُ ذُبْحٌ والقَطا ... من حولهِ صَرْعى كُؤوسُ مُدام
وإِذا الكواميخُ اغتدت أَقْداحُها ... عتمت ذخائر الأَغنامِ
من كلِّ لونٍ حدثت أَنفاسه ... في الطيب عن شيح به وثمامِ
والعيش صفراوان من عدسية ... في القدر أو سمدية في الجام
وقيل: حضر الجهرمي مع جماعة من أصدقائه، فذكر أبو الفضل القطان جدياً أهدي إليه، وسوفهم الاجتماع عليه، وأخذوا في تقرير الوعد، فأمسك وطلب خلسة؟ وقام هادئاً، فأنفذ الجماعة في طلبه، وتردد الرسول فلم يعد، فقال الجهرمي يعاتبه ويتوعده بأخذ الجدي والاستئثار به: من المتقارب:
أَبا الفَضْلِ والفَضْلُ بين الأَنام ... لمعنىً كُنيتَ به لا لقَبْ
تروغُ إِلى غيرنا هارِباً ... وقد كُنْتَ منه تُريغُ الهَرَبْ
فخَلَّيْتَ مَجْلِسَنا من حلاك ... كأَقداحِنا عاطلاً مُجْتَنَبْ
إِلى أَن تَهَلْهَلَ ثَوْبُ النَّهارِ ... وكاد إِناءُ ذُكاءِ يكبْ
فإِن شِئْتَ كُنْ رجلاً غائباً ... بجَدْيِكَ أَو زُحلاً لم تَغِبْ
ففي بيتِ إِخوانِك الرأسُ منهُ ... وتحت خوانك منه الذَّنبْ
. غداً عندهم للغداء ... . منه كما لا تحبّ
وقد قامَ ذا راجلاً ناصبا ... وذاك لتنورهم قد ذهب
إِلى أَن يفورَ وتَصْلاهُما ... بذَنْبِك لا ذنْبهِ المكْتَسَبْ
ويخرجَ في جُلَّناريّةٍ ... مكلَّلةٍ برميِّ الحَبَبْ
ونحنُ لتمزيقِ ذاك الإِهابِ ... وما تَحْتَه قد أَخذْنا الأُهبْ
رُقاقاً عطَطْناه عطَّ الشُّرو ... بِ فينا غلائلهم للطرب
ووصف الجواذبة فقال: من المتقارب:
وجامدة بعده كاللُّجَي ... نِ مشربةٍ دائماً كالذَّهبْ
ربت باللَّبان معاً والدِّهانِ ... كأَنْ قد رَبَتْ بين أُمٍّ وأَبْ
. وما حلبت خلوةً ... كأَنَّ الضَّريبَ سقاها الضَّرَبْ
تكاد تصيحُ الغريقَ الغري ... قَ من زنبقيٍّ عليها انسكَبْ
فظلنا من اللهبيِّ الرتي ... بِ يسفر عن برديّ شَنِبْ
ويحنو عليه من العسكريِّ ... مهيل طبرزده المنتخب
ونرفعها لقماً من كَثَب ... يرينَك فَحْصَ القَطا في الكُثُبْ
فحينئذٍ ما رأيتَ الحني ... ذَ جديَك في النَّفَل المُنتهَب
ثم قال مشيراً إلى عناق أخذت من القطعان في اللعب، فأجاد في الذم إجادته في المدح وكشف عن حسن التصرف في المعاني: من المتقارب:
وتذكر بالجدي يوم العَنَاقِ ... وذاك لغَيْظِكَ أَقوى سبب
وكيف قمرنا بها من يَدَيْ ... ك لاعبةً بيدَيْ مَنْ لَعِبْ
وحلَّتْ مغالبةً أَخْذَها ... وقد كان أَخْسَرَنا مَنْ غُلِبْ
من الجرب الحدب لا في الرفا ... ترفع رأساً ولا في الحَرَب
بظهر به الجدب بادي الظهور ... وجنب به الخصب جار الجُنُب
يقوم بموجبه الخيزرا ... ن من عوج أضلاعها والحدب
وتهتز من سوقها المرعشات ... ضعائف عن فلكات الرُّكب
تعجب من أمرها أمس وهو ... إِلى اليوم من أمرها في عجب
فما إن شفى قرماً نيلها ... ولا سدّ فارغة من سغب
وكان عليك احتمال الثقي ... ل من أكلها وعلينا التعب
مصابان يجني القديم الحديث ... فإن كنت محتسباً فاحتسب
قال أبو عبيدة: العرب تقول: كل طعام لا حلوى فيه فهو خداج.
وقال الأصمعي: أول من صنع الفالوذج عبد الله بن جدعان، وفيه يقول الشاعر: من الوافر:
له نادٍ بمكة مشمِعَلٌّ ... وآخرُ فوق كعبته ينادي
إلى رُدُحٍ من الشيزى عليها ... لبابُ البُرّ يُلبكُ بالشّهادِ
قال حماد بن سلمة: دخلت على إياس بن معاوية وهو يأكل فالوذجاً، فقال: ادن فكل، فإن كان شيء يزيد في العقل فهذا.
كشاجم يصنف القطائف: من الرجز:
عندي لأضيافي إذا اشتد السغَبْ ... قطائفٌ مثل أضابير الكتبْ
كأنها إذا تبدّت من كثبْ ... كوائر النحل بياضاً وثقب
قد مجّ دهن اللوز مما قد شرب ... وجاء ماء الورد فيه وذهب
وغاب في السكر عنا واحتجب ... فهو عليه حَبَبٌ بعد حبب
مدرَّج تدريج أنقاء الكُثُب ... إذا رآه والهُ العقل طرب
أطيب منه أن أراه يستلب ... كل امرئ لذته فيما يحب
وقال أيضاً يصف الخشكنانج: من الخفيف:
من لذاك الطبرزد المدقوق ... ولذاك اللوز النقيّ الأنيقِ
ودقيق السميذ يعجن بالما ... ورد عُلّي بمسكه المسحوق
ضُمّ أجزاؤه وألّف أجسا ... ماً حوَتْ كل مطعم موموق
ثم صفوه كالأهلة لاحت ... لمواقيتها حيالَ الشروق
ما رأينا كخشكنانجك المو ... صوف رعياً لحقه في الحقوق
غبت عنه فغاب عني نصيبي ... أنت عندي بذاك غير خليق
وقال ابن الرومي: من الكامل:
جاءت إليَّ طرائف بطرائف ... لونان من لوزينج وقطائفِ
هذا دبيقي الثياب ملفف ... بملابس صقلت وذا بمناشف
وقال أبو القاسم المطرز يصف الحنطقة وهي الكبولا: من الكامل:
بيضاء مشرقة كأن ضياءها ... در يصافح مثله في الجام
... إلا أنها حبشية الأخوال والأعمام
وُضعت على مستوقد فاستعرضت ... تاجاً على شرف السرير السامي
رقص المشايخ دستبنداً حولها ... طرباً وما شربوا كؤوس مدام
فرحوا بسرعة نضجها فتبادروا ... فرح الكبيرة بُشّرت بغلام
لم يسبق عاقدها بها حتى لقد ... كادت تدور له بلا اسطام
وجرى لها عسل الطبرزد صافياً ... بذوائب كذوائب الأعلام
فكأن أحمره على مُبيضِّها ... فص العقيق وفضة الخاتام
وتسرح الفالوذ في أقطارها ... بحر كذلك كل بحر طام
عاثت بها أيدي الكرام فجمشت ... وجناتها تجميش غير كرام
قال حسان الديلمي: ليست الكبولاء على الصفة التي تتخذها العامة، إنما تتخذ من الدقيق السميذ والأرز والكعك أجزاء متساوية، ويدق الأرز والكعك ناعماً، ويخلطان بالدقيق ويحمص الجميع بالدهن العذب الغامر، ويرفع من النار، ويغلى الماء، ويذر عليه ويعقد عقداً جيداً، ثم يحط عن النار ويطرح فيه ماء الورد والكافور. وقد عملت له فالوذجة سرطراطة على نار . ، وأعدت أقداح على صور المكاييل، فيغرف منها طبقة ومن الفالوذج طبقة، ويفرش فرشاً خفيفاً حتى تمتلئ الأقداح ثم تكب على المائدة، وترفع عنها الأقداح، وتقدم كأنها قواليب جزع، وتقطع بالسكاكين، وتتناول بالنارجنات.
وليس يليق بهذا الكتاب ذكر أنواع الأطعمة، إنما ذكرت هذا القدر إشارة إلى الجنس وتنبيهاً على مأخذ المترفين فيه. والله أعلم.
الفصل السادس
نوادر هذا الباب
كان بعض الأعراب يأكل ومعه بنوه، فجعلوا يأخذون اللحم من بين يديه فيقول لهم: يا بني، إن الله عز وجل يقول: فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما. ولأن تقولوا لي ألف مرة أف في كل مرة سبعون انتهاراً، أهون علي مما تفعلون.لزم أعرابي سفيان بن عيينة حتى سمع منه ثلاثة آلاف حديث، ثم جاءه يودعه، فقال له سفيان: يا أعرابي، ما أعجبك من حديثنا؟ قال: ثلاثة أحاديث: حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أنه كان يحب الحلواء ويحب العسل، وحديثه عليه الصلاة والسلام: إذا حضر العشاء وحضرة الصلاة، فابدأوا بالعشاء، وحديث عائشة عنه صلى الله عليه وسلم: ليس من البر الصيام في السفر.
قدم إلى أعرابي كامخ، فقال: مم يعمل هذا؟ قالوا: من اللبن والحنطة، قال: أصلان كريمان، ولكن ما أنجبا.
وقدم إلى أعرابي كامخ، فقال: ما هذا؟ قيل: كامخ، فقال: من كمخ به؟ من قولهم: كمخت البقرة إذا ثلطت.
واجتمع اثنان من الأعراب على كامخ، فقال أحدهما: خرا، ورب الكعبة، وذاقه الآخر فاستطابه فقال: أحسبه خرا الأمير.
قال الأصمعي: سمع أعرابي واحداً يقرأ: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
فقال: وأبيك إني لأعرف هؤلاء القوم بعينهم، فقيل له: ومن هم؟ قال: الذين يثردون عزهم.
أولم رجل وليمة، فحضرها أعرابي وجعل يأكل ولا يرفع رأسه حتى أحضر الفالوذ، فرفع رأسه فنظر إلى شيخ معتزل عن القوم، فقال: ما بال الشيخ لا يأكل؟ قيل: إنه صائم، فقال: ما أحوجه إلى الصوم؟ قالوا: طلب المغفرة والفوز بالجنة، قال الأعرابي: فإذا فاز بالجنة، أفتراه يطعم فيها أطيب من الفالوذ؟.
قدم إلى أعرابي موز، فجعل يقلبه ويقول: لا أدري، العجب ممن خالطه، أو ممن حشاه؟! سقط أعرابي عن بعيره فانكسر بعض أضلاعه، فأتى الجابر يستوصفه، فقال: خذ تمر شهريز، فانزع أقماعه ونواه، ولته بسمن واضمد به، فقال الأعرابي: بأبي أنت، من داخل أضمد أم من خارج؟ امتن أعرابي من غسل يده بعد الأكل وقال: فقد ريحه كفقده. ثم أخذ كفاً من تراب، فرماه في وجوهنا وقال: أحسبكم تآمرتم على هذا، لا يقربني منكم أحد، فمكثنا أياماً لا نغشاه، ثم سألنا ابن أبي حفص العطار، فترضاه لنا.
قال محمد بن عبد الله بن حكيم: كنا عند الشافعي رضي الله عنه، فدخل رجل من أعوان الشرط، وبين يديه طبق فيه تمر، فجر الطبق وأكل حتى أتى عليه، ثم قال: يا أبا عبد الله، ما عندك من طعام الفجاءة؟ قال: كان ينبغي أن يكون سؤالك هذا والتمر في موضعه.
اجتاز أعرابي بقوم يأكلون، فلم يدعوه، فعمد إلى الصلاة، فقالوا ما تصنع؟ قال: أستخير الله في محادثتكم، فضحكوا منه ودعوه إلى الطعام.
ترحم بعض الطفيليين على النمروذ بن كنعان، فقيل له: تترحم على كافر؟! فقال: نعم، لأنه أول من اتخذ الكرماذخ.
ذكر أن الرشيد وأم جعفر اختلفا في اللوزينج والفالوذج، أو الخبيص، وحضر أبو يوسف القاضي، فسأله الرشيد، فقال: إذا حضر الخصمان حكمت. فقدما إليه، فأكل منهما حتى انتهى، فقال له الرشيد: احكم، قال: اصطلح الخصمان وأعفياني من الحكم. فضحك الرشيد، وأمر له بألف دينار، وبلغ زبيدة الخبر، فأمرت له بألف دينار إلا بديناراً.
دخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك وهو يأكل، فقال: اجلس وكل - وكان سليمان قاذورةً نهماً، وكان يوضع بين يديه قصعتان، فيأكل من واحدة، والناس من واحدة - فجعل الأعرابي يأكل من القصعة التي بين يدي سليمان ويتعدى إلى الأخرى، فقال سليمان: كل مما بين يديك، قال: أو ههنا حمىً؟! قال: لا، كل من حيث شئت، فلما أتي بالفالوذج، قال له سليمان: يا أعرابي، أتعرف هذا؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، إلا أني أرى رونقاً حسناً، ومزدرداً ليناً، وطعماً طيباً، وإني لأظنه مما يخرج من بطون النحل، فقال سليمان: إنه مع هذا يزيد في الدماغ؛ فقال كذبوك يا أمير المؤمنين، ولو صدقوك لأصبح رأسك مثل رأس البغل الأطحل.
موسى الثقفي: من الوافر:
فما شيءٌ بأَحسَن من خوانٍ ... أَتاك يزفُّه خَلَقُ الثِّيابِ
وقد ناجاك سر الجوعِ حتى ... تعلَّق خمصُ بطِنك بالحجابِ
فتغمس خَمْسَ كفِّك في ثريدٍ ... بلَقْمٍ مثل منكمشِ الذِّهابِ
كأَنَّ دوِيَّه في الحَلْقِ لمّا ... هوى، رَعْدٌ يُهمهم في سَحابِ
قيل لأعرابي: ما اسم المرق عندكم؟ قال: السخين، قال: فإذا برد؟ قال: لا ندعه يبرد.
قعد صبي مع قوم، فقدم شيء حار، فأخذ الصبي يبكي، قالوا: ما يبكيك؟ قال: هو حار، قالوا: فاصبر حتى يبرد، قال: أنتم لا تصبرون.
قال بعضهم: رأيت ثلاثة من الهراسين على بقعة واحدة، وهم يتكايدون في مدح هرايسهم. فأخرج أحدهم من هريسته قطعةً على المغرفة وأسالها وهو يقول: انزلي ولك الأمان، فقال الثاني: يا قوم، أدركوني، الحقوني، أنا أجذبها وهي تجذبني، والغلبة لها، فقال الثالث: لا أدري ما تقول، من أكل من هريستي، أسرج ببوله شهراً.
كان بعض الأكلة يباكر الأكل، فقيل له: اصبر حتى تطلع الشمس، فقال: أنا لا أنتظر بغدائي من يقدم من أقصى خراسان.
قيل لبعضهم: التمر يسبح في البطن، قال: إذا كان التمر يسبح، فاللوزينج يصلي في البطن تراويح.
قال عثمان الدقيق الصوفي: رأيت أبا العباس بن مسروق، وهو أحد شيوخ الصوفية، في يوم مطير على الجسر مشدود الوسط، فقلت له: يا عم، إلى أين في هذا اليوم المطير؟ فقال: إليك عني، فقد بلغني أن بالمأمونية رجلاً يقول: ليس الباذنجان طيباً؛ أريد أن أمضي إليه وأقول له: كذبت، وأرجع.
خرج طفيلي من منزل قوم مشجوجاً، فقيل له: من شجك؟ قال: ضرسي.
قيل لأعرابي: كيف حزنك على ولدك؟ قال: ما ترك لي حب الغداء حزناً على أحد.
سمع بنان رجلاً يقول: يخرج الدجال في سنة قحط مجدبة، ومعه جرادق أصفهانية، وملح درآني، وأنجداني سرخسي، فقال: هذا - عافاك الله - رجل يستحق أن يسمع له ويطاع.
قال أبو بكر بن عياش: كنا نسمي الأعمش سيد المحدثين، وكنا نجيئه آخر من يقصده، لأنا نطيل عنده، وكان لا يزال يطعمنا الشيء مما يحضره، ويسألنا فيقول: بمن مررتم اليوم، ، وعمن أخذتم؟ فنسمي له الواحد، فيشير بيده، أي جيد، ونسمي آخر فيومئ بأصبعه، أي صالح، ونسمي آخر، فيقول: طير طيار، ونسمي آخر، فيقول: طبل مخرق. فقال بعضنا لبعض ذات يوم: لا يخرج الأعمش إلينا شيئاً إلا أكلناه كله. فأخرج إلينا خوانا عليه خبز وتمر، فأكلناه، ثم عاد فأخرج قتائت مما يسرب انسياباً فأكلناه، ثم عاد فأخرج كسيرات، فأكلناها، ثم عاد فأخرج إجانةً فيها كسب ونوى فقال: أما طعام العيال فأكلتموه، وهذا علف العنز فدونكم.
كان رجل يطعم رجلاً يلازمه، ولم يكن عنده في بعض الأيام ما جرت به عادته، فقال لغلامه: خذ المفتاح معك، وكن قريباً من الدار، فإذا جاء ورأى الباب مقفلاً انصرف. فلما جاء الرجل ورأى الباب مقفلاً، جلس ينتظر أن يجيء ويفتح الباب، فأدركته الشمس، فلم يزل ينتقل من موضع إلى موضع حتى لم يبق ظل، فقال: من السريع:
البَيْتُ لا أَبْرَحُ من بابهِ ... حتى يموتَ الرجسُ من جلسي
أَقْتُلُه في البَيْتِ جوعاً كما ... يقتلني بالجوعِ في الشَّمْسِ
أَليس في مُنْزَلِ فُرقانِنا ... أَنَّ قتلَ النَّفْسِ بالنَّفْسِ
أسماء هزلية وضعها الطفيليون والصوفيه للأطعمة وآلتها وما يتبعها: الطست والإبريق: بشر وبشير.
الخوان: أبو جامع.
السفرة: أبو رجاء.
الخبز: أبو جابر.
اللحم: أبو عاصم.
الملح: أبو عون.
القدر: ميمون الزنجي.
الغضارة: أم الفرج.
الحواري: نجوم الفكه، ويقال: أبو نعيم.
الطيفورية: أم روح.
منديل الغمر: أبو بشر.
الخشكار: أبو جابر.
الكزمازك: الفرنية: قبة الإسلام.
البقل: زحام بلا منفعة، ويقال: أبو جميل.
الجوز والجبن: معاوية وعمرو بن العاص.
الرواصيل: يأجوج ومأجوج.
البيض: بنات نعش.
الثريد: جبير بن مطعم.
الجبن: راشد الخناق.
الجوز: أبو القعقاع.
الزيتون: خنافس الخوان.
الصحناء: أم البلايا.
الباقلاء: أبو مروان.
العدسية: المؤيسة.
الباذنجان: قباب ياسر، ويقال: الزط.
الكامخ: عرق الشيطان.
البوارد: بريد الخير.
البزماورد: أبو كامل الطيالسي، ويقال: أبو طريف.
السنبوسك: جامع سفيان.
الماء: أبو غياث.
الخردل: أبو كلثوم الجلاد.
الدجاجة: سمانة القوادة، ويقال: أم الخير.
البطة: بهادة السوسية.
الحمل: شهيد بن الشهيد، ويقال: أبو حميد الهند.
الجدي: أبو العريان، ويقال: أبو خبيب.
الرقاق: أبو الطيابس.
الرغيف السميذ: أبو البدر.
السكباج: أم عاصم، ويقال: أم نابت.
المضيرة: أم الفضل.
الكشكية: أم حفص.
الهريسة: أم الخير، وأم بر.
الرأس: قيم الحمام، وأبو سويد.
الأكارع: أبو الخرق وشيبان.
ماء الباقلاء: أبو حاضر.
السمك: أبو سابح.
الخل: أبو العباس، ويقال: أبو ثقيف.
الفتيت: أبو نافج.
الفنبيطية: دويرة الرومية.
المغمومة: المقنع الكندي.
المري: أبو مهارش.
الزبيبة: أبو الأسود الدؤلي.
القشمشية: أم الجمال.
الملبقة: أم سهل.
الطباهجة: زلزل المغني.
البقيلة: المشؤومة.
القلية: الناعية.
المصلية: أم بشير.
الأرز: أبو الأشهب.
النرجسية: أبو الثريا.
الجواذب: أم الحسن.
الفالوذج: أبو مضاء، وأبو العلاء.
السكر: أبو الطيب.
الطبرزد: أبو شيبة الخوزي.
اللحم الشواء: الروح الأمين.
العسل: أم المؤمنين.
الخبيص: أبو نعيم، وأبو الوزير، وأبو الوليد.
الحلواء: خاتم النبيين.
العصيدة: أم المؤمنين.
اللبن: أبو اليمان.
الرمان: أبو حفص.
السفرجل: أم العجوز.
التين: أبو عجينة.
اللوزينج: بكير الطرائفي، ويقال: قبور الأطفال.
القطايف: قبور الشهداء.
الفراريج: بنات المؤذن.
السويق: أبو خفيف.
الخلال: أبو الياس، وكتاب الغزل.
الأشنان والمخلب: منكر ونكير.
النبيذ: أبو غالب.
القرابة: أم رزين.
النقل: أبو تمام.
النرجس: أبو العيناء.
السايكسي: أبو فرعون.
القدح: أبو قريب.
النبيكة: أم الفتيان.
الصراحية: أم القاسم.
القاطرميز: أبو مزاحم.
المغني: أبو الأنس.
الزامر: حميد الكوسج.
المؤاجر: أبو صابر.
القحبة: أبو ياسر.
المخنث: أبو عطية.
الثقيل: أبو ثهلان.
القواد: أبو مغيث.
المسخرة: الضحاك بن قيس.
المعربد: ضرار بن مخرق.
الطفيلي: أبو الصقر الليثي.
الذي يتبع الطفيلي: زائدة بن مزيد.
القفل: أبو منيع.
المفتاح: أبو الفرج.
الدينار: أصفر سليم.
الدرهم: أبو واضح.
كينة الجوع: أبو عمرة، أنشد أبو عمرو: من الرجز:
إِنَّ أَبا عَمْرَةَ شرُّ جارِ ... يجرُّني في ظُلَمِ الصحاري
جرَّ الذئابِ جيفةَ الحمارِ
قدم أعرابي إلى ضيفه ثريدةً وقال له: لا تقصعها، ولا تقعرها، ولا تشرمها، قال: فمن أين آكل؟ قال: لا أدري، فانصرف جائعاً. أراد أن لا يأكل من أعلاها، ولا من أسفلها، ولا من حروفها.
شكا مدني إلى أبي العيناء سوء الحال، فقال له: أبشر، فإن الله قد رزقك الإسلام والعافية، قال: أجل، ولكن بينهما جوع يقلقل الكبد.
وضعت بين يدي أعرابي عصيدة تنش حرارةً، فضرب بيده إليها فامتنعت عليه، فقال: أما والله إني لأعلم أنك هينة المزدرد، لينة المسترط، وإنك لتعلمين أني ابن بجدة بلادك في أكلك، وإني لأخاف أن العود إلى مثلك ستطول مدته، فما يمنعني أن أتلقى حرارتك ببلعوم سرطم، وحلقوم لهجم، وبطن أكبر، وجوف أرحب، فقضى الله في ذلك قضاءه بما أحببت وكرهت.
شاعر: من الرمل:
يحسن اللَّقْمَ وَلا يَخْشى الغَصَصْ ... بَلْعماً يقطع أَزرارَ القُمُصْ
قيل لأبي مرة: أي الطعام أحب إليك؟ قال: ثريدة دكناء من الفلفل، رقطاء من الحمص، بلقاء من الشحم، ذات حقاقين من اللحم، لها جناحان من العراق. قيل: وكيف أكلك لها؟ قال: أصدع بهاتين: يعني السبابة والوسطى، وأسند بهذه، يعني الإبهام، وأجمع ما شذ منها بهاتين، يعني الخنصر والبنصر، وأضرب فيها ضرب الولي السوء في مال اليتيم.
مضغت أعرابية علكاً، فقيل لها: كيف ترينه؟ قالت: تعب الأضراس، وخيبة الحنجرة.
دعي مزبد إلى طعام فقال: أنا صائم، فلما قدم الفالوذ زحف إليه، فقيل له في ذلك، فقال: أنا على رد يوم أقدر مني على ترك هذا.
الباب السابع والأربعين
في أنواع السير والأخبار وعجائبها
وفنون الأشعار وغرائبها
من أوضح الدلالة على ما في معرفة السير والآثار من الفوائد، ما أودعه الله عز وجل في كتابه الكريم من أنباء الغابرين وسير الماضين، وقصص رسله صلى الله عليهم ومن أرسلوا إليه من العالمين، وعجائب ما أظهره على أيديهم من المعجزات، وخصهم بفضله من الآيات، وغيرهم، كأصحاب الفيل والأخدود، وقصة بلعام، والإخبار عن هاروت وماروت، وغير ذلك.ومن الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام بما أطلعه عليه من سر الغيب إذ يقول: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا.
وقال سبحانه: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين.
وقاغل في الاعتبار بهذا: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.
وكتبه - سبحانه - القديمة كالتوراة والإنجيل اشتملت كذلك على أخبار الماضين وقصصهم، حتى إن التوراة مترتبة الأخبار من لدن آدم إلى بعثه موسى عليهما السلام.
وهي من بعد لقاح العقول، ومشكاة الأفهام، وزناد التجارب، ومقياس التيقظ، ومنهاج الاعتبار، وجدد السالك. وإذ قد التفت الأبواب التي تقدمت بالأخبار والآثار التي هي من جنسها، أتبعتها في هذا الباب بما كان مستغرباً ومعجباً نادراً، وبالأشعار الشاذة عن المعاني المطروقة، والمقاصد المسلوكة، والأغراض المعهودة، . المعدة لمثلها من نادر المطالب وشاذ الاتفاق. والله تعالى الموفق لما يرضيه، ويباعد من سخطه بمنه وسعة فضله.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة وأبو بكر رضي الله عنه، وعامر بن فهيرة، ودليلهم الليثي عبد الله بن أريقط، فمروا على خيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأةً برزةً جلدةً تختبي بفناء بيتها، ثم تسقي وتطعم، فسألوها لحماً وتمراً ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك. وكان القوم مرملين مسنتين، فنظر رسول لله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قال: خلفها الجهد عن الغنم. قال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك. قال: أفتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: بأبي وأمي، نعم إن رأيت بها حلباً فاحلبها. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة، فمسح ضرعها وسمى الله عز وجل، ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه ودرت وأمرت. ودعا بإناء يربض الرهط، فحلب فيه ثجاً حتى غلبه الثمال، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم وقال: ساقي القوم آخرهم شرباً. فشربوا علا بعد نهل، ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، فبايعها وارتحلوا عنها.
فقل ما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً حيلاً عجافاً يتساوكن هزالاً، مخهن قليل، ولا نقي لهن. فلما رأى أبو معبد اللبن، عجب وقال: من أين هذا يا أم معبد، والشاة عازبة حائل، ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت. قال: صفيه لي يا أم معبد. قالت: رجل ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه نحلة، ولم تزر به صعلة؛ وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته ضحل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أحور، أكحل، أزج، أقرن؛ إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء؛ أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا تشنوه من طول، ولا تقتحمه العين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
قال أبو معبد: هو الله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره بمكة ما ذكر، ولو كنت وافقته لالتمست صحبته، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً.
روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظر إلى أهل الشورى جلوساً، فقال: أكلكم يطمع في الخلافة بعدي؟ فوجموا، فقال لهم ثانيةً، فأجابه الزبير فقال: نعم، وما الذي يبعدنا عنها، وقد وليتها فقمت بها، ولسنا دونك في قريش، ولا خير في القرابة؟ فقال عمر: ألا أخبركم عن أنفسكم؟ قالوا: بلى، فإنا لو استعفيناك ما أعفيتنا، فقال: أما أنت يا زبير فوعقة لقس، مؤمن الرضا كفر الغضب، يوم تلاطم في البطحاء على مد من شعير، أفرأيت إن أفضت إليك، فمن يكون على الناس يوم تكون شيطاناً، ومن يكون إذا غضبت إماماً؟ ما كان الله ليجمع لك أمر أمة محمد صلى الله عليه وأنت في هذه الصفة.
ثم أقبل على طلحة فقال: أقول أم أسكت؟ قال: قل، فإنك لا تقول لي من الخير شيئاً. قال: ما أعرفك منذ ذهبت أصبعك يوم أحد من البأو الذي أحدثت، ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساخط للكلمة التي قلتها يوم نزلت آية الحجاب. أفأقول أم أسكت؟ قال: تالله لما سكت.
ثم أقبل على سعد فقال: إنما أنت صاحب قنص وقوس وأسهم، ومقنب من المقانب، وما زهرة والخلافة وأمور الناس؟ ثم أقبل على علي بن أبي طالب، فقال: لله أنت لولا دعابة فيك، أما والله لو وليتهم لحملتهم على المحجة البيضاء والحق الواضح، ولن يفعلوا.
ثم قال: وأنت يا عبد الرحمن، فلو وزن إيمان المسلمين بإيمانك لرجحت، ولكن فيك ضعف، وليس يصلح هذا الأمر لمن ضعف مثل ضعفك، وما زهرة وهذا الأمر؟ ثم أقبل على عثمان فقال: هيهن إليك، كأني بك وقد قلدتك قريش هذا الأمر، فحملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفيء، فسارت إليك عصابة من ذوبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحاً، والله لئن فعلوا لتفعلن، ولئن فعلت ليفعلن، ثم أخذ بناصيته فناجاه، ثم قال: إذا كان ذلك، فاذكر قولي هذا، فإنه كائن.
روي عن عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة أنه قال: اجتمع رجال من بني هاشم في منزلي، منهم: إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وعبد الله بن علي، وغيرهما من بني العباس. ومن ولد أبي طالب: عبد الله بن الحسن بن الحسن، وابنا عبد الله محمد وإبراهيم، وجعفر بن محمد وغيرهم من أهلهم. وكان اجتماعهم للحج، فخفي بذلك أمرهم. فابتدأ محمد بن عبد الله، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا بني هاشم، فإنكم خيرة الله، وعترة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنو عمه وذريته، فضلكم الله بالوحي، وخصكم بالنبوة، وإن أولى الناس بحفظ دين الله عز وجل، والذب عن حرمه من وضعه الله تعالى بموضعكم من نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد أصبحت الأمة معصوبةً، والسنة مبدلةً، والأحكام معطلةً، فالباطل حي، والحق ميت؛ فابذلوا أنفسكم في طاعة الله تعالى، واطلبوا باجتهادكم رضاه، واعتصموا بحبله، وإياكم أن تهونوا بعد كرامة، وتذلوا بعد عز، كما ذلت بنو إسرائيل من قبلكم وكانت أحب الخلق في وقتها إلى ربكم، فقال فيهم جل وعز: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. فمن رأى منكم نفسه أهلاً لهذا الأمر، فإنا نراه أهلاً، وهذه يدي له بالسمع والطاعة؛ ومن أحس من نفسه ضعفاً وخاف منها وهناً وعجزاً، فلا يحل له التولي على المسلمين، وليس بأفقههم في الدين، ولا أعلمهم بالتأويل، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم.
قال: فو الله ما رد أحد كلمةً غير أبي جعفر عبد الله بن محمد فإنه قال: أمتع الله قومك بك، وأكثر فيهم مثلك، فو الله لا يزال فينا من يسمو إلى الخير، ويرجى لدفع الضيم، ما أبقاك الله لنا، وشد بك أزرنا. فقالوا لعبد الله: أنت شيخ بني هاشم وأفعدهم، فامدد يدك حتى نبايعك. فقال: ما أفعل ذلك، ولكن هذا ابني محمد، فبايعوه، فقالوا له: إنما قيل لك هذا لأنه لم يشك فيه، وههنا من هو أحق بالأمر منك، واختلطت الأصوات، وقاموا لوقت صلاة.
قال عبد الله بن جعفر: فتوكأ جعفر بن محمد على يدي وقال: والله ما يملكها إلا هذان الفتيان، وأومأ إلى السفاح والمنصور، ثم تبقى فيهم حتى يتلعب بها خدمهم ونساؤهم، على محمد بن عبد الله كلامه من العباسيين هو قاتله وقاتل أبيه وأخيه.
ثم افترقوا فقال لي عبد الله بن محمد المنصور، وكانت بيني وبينه خاصة ود: ما الذي قال لك جعفر؟ فعرفته ذلك، فقال: إنا خبرنا أبا محمد، ما قال شيئاً إلا وجدناه كما قال.
قال عبد العزيز بن عمران: وبلغني أن المنصور قال: رتبت عمالي بعد كلام جعفر ثقةً بقوله.
وروي عن أبي هريرة أنه قال: لما كان الفتح قال لي خالد بن الوليد: يا أبا هريرة، اذهب بنا إلى هند بنت عتبة لعلك تقرأ عليها بعض القرآن لينفعها الله تعالى به. قلت: انطلق. فدخلنا عليها كأنها والله فرس عربي، وكأن وراء عجيزتها رجلاً جالساً. فقال لها خالد بن الوليد: يا أم معاوية، هذا أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جئتك به ليتلو عليك القرآن، ويذكر أمر الإسلام، قالت: هات، قال أبو هريرة: بسم الله الرحمن الرحيم: تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير. حتى انتهى إلى قوله عز وجل: كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير. قالت: لا وسدن الكعبة، ما سمعنا بشاعر قط ينتحل خلق السماوات والأرض إلا صاحبكم هذا. قال: يقول خالد: قم با أبا هريرة، فو الله لا تسلم هذه أبداً. فقمنا فخرجنا من عندها.
لما قتل الحسين بن علي عليهما السلام كان النوح عليه بالمدينة في كل بيت سنةً كاملةً، ثم نيح عليه في السنة الثانية في كل جمعة، ثم نيح عليه في الثالثة في كل شهر. وكان مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة يدخلان إليهم مقنعين فيبكيان أشد بكاء حتى ينقضي النوح.
كان بالمدينة رجل من أهل الكتاب يقال له يوسف، موصوف بقراءة الكتب. فلقي عبد الملك بن مروان، فقال له: إن بشرتك بشارةً تسرك، ما تجعل لي؟ قال: وما مقدارها من السرور حتى يعلم مقدارها من الجعل؟ قال: أن تملك الأرض، قال: ما لي من مال، ولكن أرأيت إن تكلفت لك جعلاً أتأتيني بذلك قبل وقته؟ قال: لا، قال: فإن حرمتك، أتؤخره عن وقته؟ قال: لا، قال: حسبك ما فعلت.
كان في عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس عجائب، منها أن أسنانه كانت قطعةً واحدةً، ودخل قبره بأسنانه إلي ولد بها، ولم ينبت له سن ولم يتغير.
ومنها أنه حج في سنة سبعين ومائة، وحج يزيد بن معاوية بهم سنة خمسين وبينهما مائة وعشرون سنةً، وهما في القعدد سواء.
ومنها أنه كان يوماً عند الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين، هذا مجلس فيه عمك، وعم أبيك، وعم جدك، يعني سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد، والعباس بن محمد عم المهدي، وعبد الصمد بن علي عم المنصور.
ومنها أنه دخل سرباً فطارت ريشتان فلصقتا بعينيه، فذهب بصره.
دخل أبو عبيد الله معاوية بن يسار كاتب المهدي على المهدي، وكان قد وجد عليه في أمر بلغه عنه، وأبو العتاهية حاضر بالمجلس، فجعل المهدي يشتم أبا عبيد الله ويتغيظ عليه في أمر، ثم أمر فجر برجله وحبس، ثم أطرق المهدي طويلاً، فلما سكن أنشد أبو العتاهية: من الوافر:
أَرى الدنيا لِمَنْ هي في يَدَيْهِ ... عذاباً كلَّما كَبُرَت لدَيْهِ
تُهينُ المُكْرمِين لها بصُغرٍ ... وتُكرمُ كلَّ مَنْ هانَتْ عَلَيْهِ
إِذا استغنيتَ عن شيءٍ فَدَعْهُ ... وخُذْ ما أَنْتَ محتاجٌ إِليه
فتبسم المهدي، ثم قال لأبي العتاهية: أحسنت، فقام أبو العتاهية فقال: والله يا أمير المؤمنين ما رأيت أحداً أشد إكراماً للدنيا، ولا أضن بها، ولا أحرص عليها من هذا الذي يجر برجله الساعة، ولقد دخلت على أمير المؤمنين، ودخل وهو أعز الناس، فما برحت حتى رأيته أذل الناس، ولو رضي من الدنيا بما يكفيه لاستوت أحواله ولم تتفاوت. فتبسم المهدي ودعا بأبي عبيد الله ورضي عنه.
وكان أبو عبيد الله يذكر ذلك لأبي العتاهية.
لما قتل زياد عروة بن أدية الخاجي، وهو عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة، وأدية جدة له وهو فيما يقال: أول من حكم، عاد زياد فقال لمولى عروة: صف لي أموره، فقال: أطنب أم أخصر؟ قال: اختصر، قال: ما أتيته بطعام نهاراً قط، ولا فرشت له فراشاً بليل قط.
حدث أبو عمرو الشيباني أن يزيد بن معاوية شرب حتى سكر، ثم ركب فرساً وأقبل حتى علا جبلاً، فانتهى إلى فصل بينه وبين جبل آخر، فأراد أن يوثب فرسه حتى يلحق الجبل الآخر، فقرعه بالسوط، فوثب فلم يبلغ، وسقط فمات.
حدث خالد بن كلثوم وهشام بن الكلبي وأبو عمرو الشيباني أن ابنه عمر؟ فما حج وانصرف قال: من الرجز:
إِذا جَعَلْنَ ناقلاً يمينا ... فلن نعودَ بعدها سنينا
للحجِّ والعُمرةِ ما بقينا
فبدرت إليه صاعقة فاحترق مكانه، فبلغ ذلك محمد بن علي فقال: لم يستخف أحد ببيت الله عز وجل إلا عوجل.
قيل لبزرجمهر: من أعلم الناس بالدنيا؟ قال: أقلهم منها تعجباً.
وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن جابر بن عبد الله وابن عباس قالا: لما نزلت: إذا جاء نصر الله والفتح. إلى آخر السورة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، نفسي قد نعيت، قال جبريل: وللآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن ينادي بالصلاة جامعة، فاجتمع المهاجرون والأنصار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم خطب خطبةً وجلت منها القلوب، وبكت منها العيون، ثم قال: أيها الناس، أي نبي كنت لكم؟ فقالوا: خزاك الله من نبي خيراً، فلقد كنت لنا كالأب الرحيم، وكالأخ الناصح المشفق؛ أديت رسالات الله، وأبلغتنا وحيه، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، فجزاك الله عنا أفضل ما جازى نبياً عن أمته. فقال لهم: معاشر المسلمين ، أنا أناشدكم الله وبحقي عليكم، من كان منكم له قبلي مظلمة، فليقم فليقتص مني، فلم يقم إليه أحد، فناشدهم الثانية، فلم يقم إليه أحد، فناشدهم الثالثة: معاشر المسلمين، من كانت له قبلي مظلمة، فليقم فليقتص مني قبل القصاص يوم القيامة. فقام من بين المسلمين شيخ كبير يقال له: عكاشة، فتخطى المسلمين حتى وقف بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فداك أبي وأمي، لولا أنك ناشدتنا مرةً بعد أخرى، ما كنت بالذي أتقدم على شيء منك؛ كنت معك في غزاة، فلما فتح الله علينا، ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأردت الانصراف، حاذت ناقتي ناقتك، فنزلت عن الناقة، ودنوت منك لأقبل فخذك، فرفعت القضيب فضربت خاصرتي، فلا أدري أكان عمداً منك أم أردت ضرب الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عكاشة، أعيذك بجلال الله أن يتعمدك رسول الله بالضرب؛ يا بلال، انطلق إلى منزل فاطمة فأتني بالقضيب الممشوق، فخرج بلال من المسجد ويده على أم رأسه وهو ينادي: هذا رسول الله يعطي القصاص من نفسه، فقرع الباب على فاطمة، فقال: يا ابنة رسول الله، ناوليني القضيب الممشوق، فقالت: يا بلال، وما يصنع أبي بالقضي وليس هذا يوم حج ولا . ؟ فقال: يا فاطمة، ما أغفلك عما فيه أبوك؟! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع الدين ويفارق الدنيا، ويعطي القصاص من نفسه، فقالت فاطمة عليها السلام: يا بلال، ومن تطيب نفسه أن يقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يا بلال، أدن وقل للحسن والحسين يقومان إلى هذا الرجل فيقتص منهما، ولا يدعانه يقتص من رسول الله.
ودخل بلال المسجد، ودفع القضيب إلى عكاشة. فلما نظر أبو بكر وعمر إلى ذلك قاما فقالا: يا عكاشة، هذا نحن بين يديك، فاقتص منا ولا تقتص من رسول الله. فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: امض أنت يا أبا بكر، وأنت يا عمر فامض، فقد عرف الله مكانكما ومقامكما؛ وقام علي بن أبي طالب فقال: يا عكاشة، أنا في الحياة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تطيب نفسي أن تضرب رسول الله، فهذا ظهري وبطني، اقتص مني بيدك واجلدني، ولا تقتص من رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي، اقعد، فقد عرف الله مقامك ونيتك.
وقام الحسن والحسين فقالا: يا عكاشة، ألست تعلم أن سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقصاص منا كالقصاص من رسول الله؟ فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: اقعدا يا قرة عيني، لا نسي الله لكما هذا المقام، ثم قال عليه الصلاة والسلام: يا عكاشة، اضرب إن كنت ضارباً، فقال: يا رسول الله، ضربتني وأنا حاسر عن بطني. فكشف عن بطنه صلى الله عليه وسلم، وصاح المسلمون وقالوا: أترى عكاشة ضارباً بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فلما نظر عكاشة إلى بياض بطنه صلى الله عليه وسلم كأنه القباطي، لم يملك أن أكب عليه، فقبل بطنه وهو يقول: فداك أبي وأمي، ومن تطيق نفسه أن يقتص منك؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إما أن تضرب، وإما أن تعفو. فقال: قد عفوت عنك رجاء أن يعفو الله عني في القيامة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أراد أن ينظر إلى رفيقي في الجنة، فلينظر إلى هذا الشيخ، فقام المسلمون فجعلوا يقبلون ما بين عينيه ويقولون: طوباك! طوباك! نلت درجات العلى، ومرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمرض رسول الله من يومه، فكان مريضاً ثمانية عشر يوماً يعوده الناس. وكان صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، فلما كان يوم الأحد ثقل في مرضه، فأذن بلال بالأذان، ثم وقف بالباب فنادى: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، الصلاة رحمك الله. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت بلال، فقالت فاطمة: يا بلال إن رسول الله مشغول بنفسه. فدخل بلال المسجد، فلما أسفر الصبح قال: والله لا أقيمها حتى أستأذن سيدي رسول الله. فرجع وقام بالباب ونادى: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، الصلاة رحمك الله. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: ادخل يا بلال، إن رسول الله مشغول بنفسه، مر أبا بكر يصلي بالناس، فخرج ويده على أم رأسه، وهو يقول: يا غوثاه! يا لله وانقطاع رجائي وانقصام ظهري! ليتني لم تلدني أمي، وإذ ولدتني لم أشهد من رسول الله هذا اليوم، ثم قال: يا أبا بكر، ألا إن رسول الله يأمرك أن تصلي بالناس. فتقدم أبو بكر للناس، وكان رجلاً رقيقاً، فلما نظر إلى خلو المكان من رسول الله لم يتمالك أن خر مغشياً عليه، وصاح المسلمون بالبكاء. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجيج الناس، فقال: ما هذه الضجة؟ قالوا: ضجيج المسلمين لفقدك يا رسول الله. فدعا علي بن أبي طالب والعباس فاتكأ عليهما، فخرج إلى المسجد، فصلى بالناس ركعتين خفيفتين، ثم أقبل بوجهه المليح عليهم، فقال: معشر المسلمين، عليكم باتقاء الله وحفظ طاعته من بعدي، فإني مفارق الدنيا؛ هذا أول يوم من الآخرة، وآخر يوم من الدنيا. فلما كان في يوم الاثنين اشتد به الأمر، وأوحى الله تعالى إلى ملك الموت: أن اهبط إلى حبيبي وصفيي محمد في أحسن صورة، وارفق به في قبض روحه. فهبط ملك الموت فوقف بالباب شبه أعرابي، ثم قال: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، أأدخل؟ فقالت عائشة لفاطمة: أجيبي الرجل، فقالت فاطمة: آجرك الله في ممشاك يا عبد الله، إن رسول الله مشغول بنفسه؛ فنادى الثانية، فقالت عائشة: يا فاطمة، أجيبي الرجل، فقالت مثل المقالة الأولى، ثم دعا الثالثة مثل الأولى والثانية: أأدخل فلابد من الدخول. فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت ملك الموت عليه السلام، فقال: يا فاطمة، من بالباب؟ قالت: يا رسول الله، إن رجلاً بالباب يستأذن في الدخول فأجبناه مرةً بعد أخرى، فنادى في الثالثة صوتاً اقشعر منه جلدي وارتعدت فرائصي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: يا فاطمة، أتدرين من بالباب؟ هذا هادم اللذات، ومفرق الجماعات؛ هذا مرمل الأزواج، ومؤتم الأولاد؛ هذا مخرب الدور، وعامر القبور، هذا ملك الموت؛ ادخل رحمك الله، يا ملك الموت، جئتني زائراً أم قابضاً؟ قال: جئتك زائراً وقابضاً، وأمرني الله أن لا أدخل عليك إلا بإذنك، ولا أقبض روحك إلا بإذنك، فإن أذنت، وإلا رجعت إلى ربي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ملك الموت، أين خلفت حبيبي جبريل؟ قال: خلفته في السماء الدنيا والملائكة يعزونه فيك. فما كان بأسرع من أن أتاه جبريل عليه السلام، فقعد عند رأسه، فقال رسول الله: يا جبريل، هذا الرحيل من الدنيا، فبشرني، ما لي عند الله؟ قال: أبشرك يا حبيب الله أني تركت أبواب السماء قد فتحت، والملائكة قد قاموا صفوفاً صفوفاً بالتحية والريحان، يحيون روحك يا محمد. فقال: لوجه ربي الحمد، فبشرني يا جبريل، قال: أنت أول شافع وأول مشفع في القيامة. قال: لوجه ربي الحمد، فبشرني يا جبريل، قال جبريل: عم تسألني؟ قال: أسألك عن غمي وهمي؛ من لقراء القرآن من بعدي؟ من لصوام شهر رمضان من بعدي؟ من لحجاج بيت الله الحرام من بعدي؟ من لأمتي المصطفاة من بعدي؟ قال: أبشر يا حبيب الله، فإن الله تعالى يقول: قد حرمت الجنة على جميع الأنبياء حتى تدخلها أنت وأمتك يا محمد. قال: الآن طابت نفسي، ادن يا ملك الموت فانته إلى ما أمرت به. فقال علي عليه السلام: يا رسول الله، إذا أنت قبضت فمن يغسلك، وفيما نكفنك، ومن يصلي عليك ومن يدخلك القبر؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أما الغسل، فاغسلني أنت، وابن عباس يصب عليك الماء، وجبريل ثالثكما، فإذا أنتم فرغتم من غسلي، فكفنوني في ثلاثة أثواب جدد، وجبريل يأتيني بجنوط من الجنة، فإذا أنتم وضعتموني على السرير، فضعوني في المسجد واخرجوا عني؛
فإن أول من يصلي علي الرب من فوق عرشه، ثم جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم الملائكة زمراً زمراً، ثم ادخلوا فقوموا صفوفاً صفوفاً لا يتقدم علي أحد. فقالت فاطمة: اليوم الفراق، فمتى ألقاط؟ فقال لها: يا بنية، تلقيني يوم القيامة عند الحوض وأنا أسقي من يرد علي الحوض من أمتي، قالت: فإن لم ألقك يا رسول الله؟ قال: تلقينني عند الميزان وأنا أشفع لأمتي. قالت: فإن لم ألقك يا رسول الله؟ قال: تلقينني عند الصراط وأنا أنادي: رب سلم أمتي من النار. فدنا ملك الموت فعالج قبض روح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ الروح إلى الركبتين، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أوه! فلما بلغ الروح إلى النبي عليه السلام: واكرباه! فقالت فاطمة: واكرباه! لكربك يا أبتاه. فلما بلغ الروح إلى الثندوة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل ما أشد مرارة الموت! فولى جبريل وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كرهت النظر إلي يا جبريل! فقال جبريل: يا حبيبي، ومن تطيق نفسه أن ينظر إليك وأنت تعالج سكرات الموت؟ فقبض صلى الله عليه وسلم، فغسله علي، وابن عباس يصب الماء عليه، وجبريل معهما، فكفن بثلاثة أثواب جدد، وحمل على السرير، ثم أدخلوه المسجد، ووضعوه في المسجد، وخرج فأول من صلى عليه الرب من فوق عرشه، ثم جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم الملائكة زمراً زمراً.ن أول من يصلي علي الرب من فوق عرشه، ثم جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم الملائكة زمراً زمراً، ثم ادخلوا فقوموا صفوفاً صفوفاً لا يتقدم علي أحد. فقالت فاطمة: اليوم الفراق، فمتى ألقاط؟ فقال لها: يا بنية، تلقيني يوم القيامة عند الحوض وأنا أسقي من يرد علي الحوض من أمتي، قالت: فإن لم ألقك يا رسول الله؟ قال: تلقينني عند الميزان وأنا أشفع لأمتي. قالت: فإن لم ألقك يا رسول الله؟ قال: تلقينني عند الصراط وأنا أنادي: رب سلم أمتي من النار. فدنا ملك الموت فعالج قبض روح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ الروح إلى الركبتين، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أوه! فلما بلغ الروح إلى النبي عليه السلام: واكرباه! فقالت فاطمة: واكرباه! لكربك يا أبتاه. فلما بلغ الروح إلى الثندوة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل ما أشد مرارة الموت! فولى جبريل وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كرهت النظر إلي يا جبريل! فقال جبريل: يا حبيبي، ومن تطيق نفسه أن ينظر إليك وأنت تعالج سكرات الموت؟ فقبض صلى الله عليه وسلم، فغسله علي، وابن عباس يصب الماء عليه، وجبريل معهما، فكفن بثلاثة أثواب جدد، وحمل على السرير، ثم أدخلوه المسجد، ووضعوه في المسجد، وخرج فأول من صلى عليه الرب من فوق عرشه، ثم جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم الملائكة زمراً زمراً.
قال علي عليه السلام: لقد سمعنا في المسجد همهمةً ولم نر لهم شخصاً، فسمعنا هاتفاً يهتف وهو يقول: ادخلوا - يرحمكم الله - فصلوا على نبيكم. فدخلنا فقمنا صفوفاً كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبرنا بتكبير جبريل، وصلينا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة جبريل ما تقدم منا أحد على رسول الله.
ودخل القبر علي بن أبي طالب وابن عباس وأبو بكر، ودفن رسول الله، فلما انصرف الناس قالت فاطمة لعلي: يا أبا الحسن، رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالت: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟ أما كان في صدوركم لرسول الله الرحمة؟ أما كان معكم الخير؟ قال: بلى يا فاطمة، ولكن أمر الله الذي لا مرد له، فجعلت تندب وتبكي وهي تقول: يا أبتاه! الآن انقطع عنا جبريل، وكان جبريل يأتينا بالوحي من السماء.
عن رقيقة بنت أبي صيفي، وكانت لدة عبد المطلب بن هاشم: تتابعت على قريش سنون جدب، أقحلت الضرع، وأرقت العظم، فبينا أنا راقدة اللهم أو مهومة ومعي صنوي، إذا أنا بهاتف صيت يصرخ بصوت صحل يقول: يا معشر قريش، إن هذا النبي المبعوث فيكم قد أظلتكم أيامه، وهذا إبان نجومه، فحيهلا بالحياة والخصب، ألا فانظروا منكم رجيلاً وسيطاً، عظاماً، جساماً، أبيض بضاً، أوطف الأهداب، سهل الخدين، أشم العرنين، له فخر يكظم عليه، وسنة تهدى إليه، ألا فليخلص هو وولده، وليدلف إليه من كل بطن رجل، ألا فليشنوا عليهم من الماء، وليمسوا من الطيب، وليطوفوا بالبيت سبعاً، ألا وفيهم الطيب الطاهر لذاته، ألا فليستسق الرجل، وليؤمن القوم، ألا فغثتم إذن ما شئتم وعشتم.
قالت: فأصبحت مفؤودة مذعورةً، قد قف جلدي، ودله عقلي، فقصصت رؤياي، فذهبت في شعاب مكة، فو الحرمة والحرم إن بقي أبطحي إلا قال: هذا شيبة الحمد. فتنامت إليه رجالات قريش، وانفض إليه من كل بطن رجل فشنوا ومشوا واستلموا واطوفوا، ثم ارتقوا أبا قبيس، وطفق القوم يدفون حوله ما إن يدرك سعيهم مهله حتى قروا بذروة الجبل واستكفوا جانبيه.
فقام عبد المطلب فاعتضد ابن ابنه محمداً، فرفعه على عاتقه، وهو يومئذ غلام قد أيفع أو كرب، ثم قال: اللهم ساد الخلة، وكاشف الكربة، أنت عالم غير معلم، مسؤول غير مبخل، وهذه عبداؤك وإماؤك بعذرات حرمك، يشكون إليك سنتهم التي أذهبت الخف والظلف، فاسمعن اللهم وأمطرن علينا غيثاً مغدقاً مريعاً. فو الكعبة ما راموا حتى انفجرت السماء بمائها، واكتظ الوادي بثجيجه، فسمعت شيخان قريش ورجلتها: عبد الله بن جدعان، وحرب ابن أمية، وهشام بن المغيرة، يقولون: هنيئاً لك أبا البطحاء.
عن هند بنت الجون: نزل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم خيمة خالتها أم معبد، فقام من رقدته، فدعا بماء فغسل يده، ثم تمضمض ومج في عوسجه إلى جانب الخيمة، فأصبحت وهي كأعظم بثمر كأعظم ما يكون في لون الورس ورائحة العنبر وطعم الشهد، ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلى روي، ولا سقيم إلا برئ، ولا أكل من ورقها بعير ولا شاة إلا در لبنها، فكنا نسميها المباركة، وينتابنا من البوادي من يستسقي بها، ويتزود منها، حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها، وصغر ورقها، ففزعنا، فما راعنا إلا نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إنها بعد ثلاثين سنةً أصبحت ذات شوك من أولها إلى آخرها، وتساقط ثمرها، وذهبت نضرتها، فما شعرنا إلا علي رضي الله عنه، فما أثمرت بعد ذلك؛ وكنا ننتفع بورقها، ثم أصبحنا وإذا بها قد نبع من ساقها دم عبيط، وقد ذبل ورقها؛ فبينا نحن فزعين مهمومين إذ أتانا خبر مقتل الحسين، ويبست الشجرة على إثر ذلك وذهبت.
وهذا خبر غريب، ولم يشتهر خبر الشجرة كما شهر أمر الشاة في خبر أم معبد، وقد تقدم في أول هذا الباب، وهو من أعلام السير.
لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: والنجم إذا هوى. ، قال عتبة بن أبي لهب: كفرت برب النجم، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك. فخرج مع أصحابه في عير إلى الشام فلما كانوا بمكان يقال له الزرقاء، زأر الأسد، فجعلت فرائص عتبة ترعد، فقالوا: من أي شيء ترعد فرائصك، فو الله ما نحن وأنت إلا سواء؟ فقال إن محمداً دعا علي، ولا والله ما أظلت السماء من ذي لهجة أصدق من محمد، ثم وضعوا العشاء، فلم يدخل يده فيه؛ ثم جاء النوم فحاطوا أنفسهم بمتاعهم ووسطوه بينهم وناموا. فجاء الأسد يهمس؟ يستنشي رؤوسهم رجلاً رجلاً حتى انتهى إليه فضغمه ضغمةً كانت إياها، فسمع وهو بآخر رمق يقول: ألم أقل لكم إن محمداً أصدق الناس؟!
جابر بن عبد الله رضي الله عنه: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره. فكان أبو عبيدة يعطينا تمرةً تمرةً نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء، فيكفينا يومنا إلى الليل، وكنا يضرب بعضنا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله. فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا دابة تدعى العنبر، فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن، ونقتطع منه الفدرة كالثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير منا، فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ فأرسلنا إليه صلى الله عليه وسلم فأكله.
قال خريم بن أوس: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك وسمعته يقول: هذه الحيرة البيضاء قد رفعت لي، وهذه الشيماء بنت بقيلة على بغلة شهباء معتجرةً بخمار أسود، فقلت: يا رسول الله، إن نحن دخلنا الحيرة فوجدتها بما صف، فهي لي، فقال: هي لك. ثم كانت الردة فدخلناها، فكان أول من لقينا الشيماء كما قال صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود، فتعلقت بها وقلت: هذه وهبها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا خالد بالبينة، فشهد لي محمد بن سلمة ومحمد بن بشير الأنصاري، فدفعها إلي؛ وجاء أخوها عبد المسيح فقال لي: بعينها، فقلت: لا أنقصها والله من عشر مئات شيئاً، فأعطاني ألف درهم، فقال لي: لو قلت مائة ألف لدفعتها إليك، فقلت: ما كنت أحسب عدداً أكثر من عشر مئات.
قال شيبة بن عثمان طلحة: ما كان أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكيف لا يكون ذلك وقد قتل منا ثمانيةً، كل منهم يحمل اللواء. فلما فتح مكة أيست مما كنت أتمناه من قتله، وقلت في نفسي: قد دخلت العرب في دينه فمتى أدرك ثأري منه؟ فلما اجتمت هوازن لحنين قصدتهم لأجد منهم غرةً فأقتله، ودبرت في نفسي كيف أصنع؛ فلما انهزم الناس وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع النفر الذين بقوا معه، جئت من ورائه، ورفعت السيف حتى إذا كدت أحطه غشي فؤادي فلم أطق ذلك وعرفت أنه ممنوع.
وروي أنه قال: فرفع لي شواظ من نار حتى كاد أن يمخشني، ثم التفت إلي وقال لي: أدن يا شيب فقاتل، ووضع يده في صدري، فصار أحب الناس إلي، وتقدمت فقاتلت بين يديه، ولو عرض لي أبي لقتلته في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انقضى القتال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: الذي أراد الله بك خير مما أردته بنفسك، وحدثني بجميع ما زورته في نفسي، فقلت: ما اطلع على هذا أحد إلا الله، وأسلمت.
لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، قال عيينة بن حصن لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ائذن لي حتى آتي حصن الطائف فأكلمهم، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءهم فقال: أدنو منكم وأنا آمن؟ قالوا: نعم، وعرفه أبو محجن فقال: أدن. فدخل عليهم الحصن فقال: فداكم أبي وأمي، والله ما لاقى محمد مثلكم، ولقد مل المقام، فاثبتوا في حصنكم، فإن حصنكم حصين، وسلاحكم كثير، ونبلكم حاضرة، وطعامكم كثير، وماءكم واتن لا تخافون قطعه. فلما خرج قالت ثقيف لأبي محجن: فإنا كرهنا دخوله، وخشينا أن يخبر محمدً بخلل إن رآه في حصننا. فقال أبو محجن: أنا كنت أعرف به، ليس منا أحد أشد على محمد منه وإن كان معه. فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما قلت لهم؟ قال: قلت: ادخلوا في الإسلام، فو الله ما يبرح محمد عقر داركم حتى تنزلوا، فخذوا لأنفسكم أماناً، فخذلتهم ما استطعت. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، قلت لهم كذا وكذا. وعاتبه أبو بكر على ذلك، فقال: أستغفر الله يا أبا بكر، وأتوب إليه، ولا أعود إليه أبداً.
لما رجع المشركون من بدر إلى مكة أقبل عمير بن وهب الجمحي في الحجر، فقال صفوان بن أمية: قبح الله العيش بعد قتلى بدر! قال عمير: أجل والله ما في العيش خير، ولولا دين علي لا أجد له قضاء، وعيال لا أدع لهم شيئاً، لرحلت إلى محمد حتى أقتله إن ملأت عيني منه، فقد بلغني أنه يطوف في الأسواق، وإن لي عندهم علةً، أقول: قدمت على ابني هذا الأسير.
ففرح صفوان بقوله، فقال: يا أبا أمية، وهل تراك فاعلاً؟ قال: إي ورب هذه البنية. قال صفوان: فعلي دينك، وعيالك أسوة عيالي، فأنت والله تعلم أنه ليس بمكة أشد توسعاً على عياله مني، فقال عمير: قد عرفت بذلك يا أبا وهب، قال صفوان: علي بعيره . ، وأجرى على عياله ما أجرى على عيال نفسه، وأمر عمير بسيفه فشحذ وسم، ثم خرج إلى المدينة وقال لصفوان: أكتم علي أياماً حتى أقدمها، فلم يذكرها صفوان.
وقدم عمير فنزل على باب المسجد وعقل راحلته، وأخذ السيف فتقلده، ثم عمد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر عمر رضي الله عنه وهو في نفر من أصحابه يتحدثون ويذكرون نعمة الله عليهم في بدر، ورأى عميراً وعليه السيف، فقال عمر لأصحابه: دونكم هذا عدو الله، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه فقال: يا رسول الله، هذا عمير بن وهب قد دخل المسجد ومعه السيف! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدخله علي. فخرج عمر فأخذ بحمالة سيفه، فقبض بيده عليها وأخذ بيده الأخرى قائم السيف، ثم أدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: يا عمر، تأخر عنه، فلما دنا عمير من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ما أقدمك يا عمير؟ قال: قدمت في أسيري عندكم، تفادوننا وتحسنون إلينا فيه فإنكم العشيرة والأهل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فما بال السيف؟ قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنت من شيء؟ وإنما نسيته حين نزلت وهو في رقبتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما شرطت لصفوان بن أمية في الحجر؟ ففزع عمير وقال: ماذا شرطت له؟ قال: تحملت له بقتلي على أن يقضي دينك ويعول عيالك، والله حائل بينك وبين ذلك. قال عمير: أشهد أنك رسول الله، وأنك صادق، وأشهد أن لا إله إلا الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي بما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان شيئاً بيني وبين صفوان كما قلت لم يطلع عليه أحد غيري وغيره، وقد أمرته أن يكتم علي أياماً، فأطلعك الله عليه، فأمنت بالله ورسوله، وشهدت أن ما جئت به حق.
قال عمر: والله لخنزير كان أحب إلي منه حين طلع، وهو في هذه الساعة أحب إلي من بعض ولدي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: علموا أخاكم القرآن وأطلقوا له أسيره. فقال عمير: إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله، وقد هداني الله، فله الحمد، فائذن لي فألحق بقريش فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام. فأذن له، فلحق بمكة. وكان صفوان يسأل عن عمير، فقيل له: إنه قد أسلم، فلعنه أهل مكة، وحلف صفوان أن لا يمكله أبداً ولا ينفعه، واطرح عياله.
وقدم عمير فدعاهم إلى الله وأخبرهم بصدق رسوله، فأسلم معه بشر كثير.
حدث عبد الله بن العباس قال: حدثني أبو سفيان بن حرب من فيه، قال: كنا قوماً تجاراً، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا، فلما كانت الهدنة - هدنة الحديبية - بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجت في نفر من قريش إلى الشام، وكان وجه متجرنا غزة، فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان في بلاده من الفرس، فأخرجهم منها، ورد عليه صليبه الأعظم، وقد كانوا استلبوه إياه؛ فلما بلغه ذلك، وكان منزله بحمص من أهل الشام، خرج منها يمشي متنكراً إلى بيت المقدس يصلي فيه، تبسط له البسط وتطرح له الرياحين حتى انتهى إلى إيلياء، فصلى بها؛ فأصبح ذات غداة وهو مهموم يقلب طرفه إلى السماء، فقالت بطارقته: أيها الملك، لقد أصبحت مهموماً؟ فقال: أجل، فقالوا: وما ذاك؟ فقال: أريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر، قالوا: فو الله ما نعلم أن أمةً من الأمم تختتن إلا يهود، وهم تحت يديك وسلطانك، فإن كان قد وقع هذا في نفسك منهم، فابعث في مملكتك كلها ولا يبقى يهودي إلا ضربت عنقه، فتستريح من هذا المهم؛ فإنهم في ذلك من رأيهم يديرونه إذ أتى رسول صاحب بصرى برجل من العرب قد وقع إليهم، فقال: أيها الملك، هذا رجل من العرب من أهل الشام والإبل يحدثك عن حدث كان ببلاده، فسله عنه. فلما انتهى إليه قال لترجمانه: سله، ما هذا الخبر الذي كان في بلاده؟ فسأله، فقال: رجل من العرب من قريش خرج يزعم أنه نبي، وقد اتبعه أقوام وخالفه آخرون، وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن، فخرجت من بلادي وهم على ذلك. فلما أخبره الخبر قال: جردوه، فإذا هو مختون. فقال: هذا والله الذي أريت لا ما تقولون، أعطه ثوبه، وانطلق لشأنك. ثم دعا صاحب شرطته فقال: قلب لي الشام ظهراً وبطناً حتى تأتيني برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه. فو الله إني لبغزة إذ هجم علينا، فسألنا: من أنتم؟ فأخبرناه، فساقنا إليه جميعاً، فلما انتهينا إليه - قال أبو سفيان: فو الله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأقلف - يريد هرقل - فلما انتهينا إليه قال: أيكم أمس رحماً به؟ فقلت: أنا، فقال: أدنوه مني؛ فأجلسني بين يديه، ثم أمر أصحابي فأجلسهم خلفي وقال: إن كذب، فردوا عليه. فقال أبو سفيان: لقد عرفت أن لو كذبت ما ردوا علي، ولكني كنت امرءاً سيداً أتكرم عن أن أكذب، وعرفت أن أدنى ما يكون في ذلك أن يرووه علي، ثم يتحدثوا عني بمكة، فلم أكذبه. فقال: أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج فيكم؛ فزهدت له شأنه، وصغرت له أمره. فو الله ما التفت إلى ذلك مني وقال: أخبرني عما أسألك عنه من أمره. فقلت: سلني عما بدا لك. فقال: كيف نسبه فيكم؟ فقلت: محضاً من أوسطنا نسباً. قال: فأخبرني، هل كان في أهل بيته أحد يقول مثل قوله، فهو يتشبه به؟ فقلت: لا، قال: فأخبرني، هل كان له فيكم ملك فاستلبتموه إياه، فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه؟ فقلت: لا. قال فأخبرني عن أتباعه، من هم؟ فقلت: الأحداث والضعفاء والمساكين، فأما أشراف قومه وذوو الأسنان منهم فلا. قال: فأخبرني عمن يصحبه، أيلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قلت: قل ما صحبه رجل ففارقه. قال: فأخبرني عن الحرب بينكم وبينه؟ فقلت: سجال؛ يدال علينا ويدال عليه. قال: فأخبرني هل يغدر؟ فلم أجد شيئاً أغمز فيه إلا هي، فقلت: لا، ونحن منه في هدنة مدةً، ولا نأمن غدره، فو الله ما التفت إليها مني. فأعاد علي الحديث، فقال: زعمت أنه من أمحضكم نسباً وكذاك يأخذ الله النبي إذا أخذه فلا يأخذه إلا من أوسط قومه.
وسألتك: هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله، فهو يتشبه به، فقلت: لا.
وسألتك: هل كان له ملك فاستلبتموه إياه، فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه، فقلت: لا.
وسألتك عن أتباعه، فزعمت أنهم الأحداث والمساكين والضعفاء، وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان.
وسألتك عمن يتبعه، أيحبه ويلزمه، أم يقليه ويفارقه؟ فزعمت أنه قل من يصحبه فيفارقه، وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلباً فتخرج منه.
وسألتك عن الحرب بينكم، فزعمت أنها سجال، يدال عليكم وتدالون عليه، وكذلك حرب الأنبياء، ولهم تكون العاقبة.
وسألتك: هل يغدر؟ فلئن صدقتني ليغلبني على ما تحت قدمي هاتين، ولوددت أني عنده فأغسل قدميه. إلحق بشأنك. فقمت وأنا أضرب بإحدى يدي على الأخرى وأقول: عباد الله، لقد أمر أمر ابن أبي كبشة! أصبح ملوك بني الأصفر يخافونه على سلطانهم.
وقال العباس بن عبد المطلب رحمه الله: خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب من قريش منهم أبو سفيان بن حرب، فكنت أصنع يوماً طعاماً وأدعو بأبي سفيان وبالنفر، ويصنع أبو سفيان يوماً فيفعل مثل ذلك. فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه: هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إلي بغدائك؟ فقلت: نعم. فانصرفت أنا والنفر إلى بيته، وأرسلت إليه الغداء. فلما تغدى القوم قاموا، واحتبسني فقال: هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول الله؟ قلت: فأي بني أخي؟ قال أبو سفيان: إياي تكتم!؟ وأي بني أخيك ينبغي له أن يقول هذا إلا رجل واحد؟ قلت: وأيهم على ذلك؟ قال: هو محمد بن عبد الله، قلت: ما فعل! قال: بلى قد فعل. ثم أخرج إلي كتاباً من ابنه حنظلة بن أبي سفيان: إني أخبرك أن محمداً قام بالأبطح غدوةً فقال: أنا رسول الله، أدعوكم إلى الله. قال قلت: يا أبا حنظلة، لعله صادق، قال: مهلاً يا أبا الفضل، فو الله ما أحب أن تقول مثل هذا، إني لأخشى أن تكون قد كنت على صير من هذا الأمر، ويروى على بصيرة من هذا الحديث. ثم قال: يا بني عبد المطلب، إنه والله ما برحت قريش تزعم أن لكم يمنةً وشومةً، كل واحدة منهما عامة، فنشدتك الله يا أبا الفضل، هل سمعت ذلك؟ قلت: نعم، قال: فهذه والله إذن شؤمتكم، قلت: ولعلها يمنتنا. فما كان بعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد الله بن حذاقة السهمي بالخبر وهو مؤمن، ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن، فتحدث به فيها.
وكان أبو سفيان يجلس إلى حبر من أحبار اليهود، فقال له اليهودي: ما هذا الخبر الذي بلغني؟ قال: هو ما سمعت، قال: بلغني أن فيكم عم هذا الرجل، قال أبو سفيان: صدقوا وأنا عمه، قال اليهودي: أخو أبيه؟ قال: نعم، قال: حدثني عنه، قال: ما كنت أحسب أن يدعي هذا الأمر أبداً، وما أحب أن أعتبه، وغيره خير منه. فقال اليهودي: فليس به إذن، ولا بأس على يهود وتوراة موسى.
قال العباس: فتمادى إلي الخبر، فجئت فخرجت حتى أجلس ذلك المجلس من غد، وفيه أبو سفيان والحبر. فقلت للحبر: بلغني أنك سألت ابن عمي هذا عن رجل منا يزعم أنه رسول الله، وأخبرك أنه عمه، وليس بعمه، ولكنه ابن عمه، وأنا عمه أخو أبيه. فأقبل على أبي سفيان فقال: أصدق؟ قال: نعم، قال فقلت: سلني عنه، إن كذبت فليردد علي. قال: فأقبل علي فقال: نشدتك الله هل فشت له فيكم سفهة أو سوآة؟ قال قلت: لا وإله عبد المطلب ولا كذبة، وإن كان اسمه عند قريش الأمين، قال: فهل كتب بيده؟ قال العباس رضي الله تعالى عنه وأرضاه: فظننت أنه خير له أن يكتب بيده، فأردت أن أقولها، ثم ذكرت مكان أبي سفيان، وأنه مكذبي وراد علي، فقلت: لا تكذب. فوثب الحبر وترك رداءه وجعل يصيح: ذبحت يهود! ذبحت يهود!.
قال العباس رضي الله تعالى عنه: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان: يا أبا الفضل، إن اليهودي ليفرغ من ابن أخيك! قال قلت: قد رأيت، فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به، فإن كان حقاً، كنت قد سبقت، وإن كان باطلاً، تبعك غيرك من أكفائك؟ قال: لا والله لا أومن به حتى أرى الخيل من كداء، وهو جبل بمكة. قال قلت: ما تقول؟ قال: كلمة والله جاءت على فمي ما ألقيت لها بالاً، وأنا أعلم أن الله لا يترك خيلاً تطلع من كداء. قال العباس: فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه مكة، ونظرنا إلى الخيل قد طلعت من كداء، قلت: يا أبا سفيان، أتذكر الكلمة؟ قال: أي والله، إني لذاكرها، فالحمد لله الذي هداني للإسلام.
وروي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم على فتح مكة، خرج لعشر مضين من شهر رمضان، فصام وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد أفطر، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف من المسلمين، وقد عميت الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدرون ما هو فاعل. فخرج في تلك الليلة أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعونه.
قال العباس: قلت: واصباح قريش! لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوةً قبل أن يستأمنوا إليه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال: فركبت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك، أقول: لعلي ألقى بعض الحطابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة، فيأتيهم فيخبر بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليخرجوا إليه. قال: فو الله إني لأسير عليها ألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً! .
قال: فعرفت صوت أبي سفيان فقلت: يا أبا حنظلة، قال: فعرف صوتي فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم، قال: ما وراءك، فداك أبي وأمي؟! قلت: ويلك، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش! فقال: ما تأمرني؟ قلت: تركب عجز هذه البغلة، فأستأمن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فو الله لئن ظفر بك، ليضربن عنقك. فردفني، فخرجت به أركض بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكلما مررت بنيران من نيران المسلمين قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة رسول الله، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال: أبو سفيان! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد. ثم اشتد نحو النبي صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة حتى اقتحمت على باب القبة، وسبقت عمر بما تسبق به الدابة الرجل البطيء.
فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه، فقلت: يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه اليوم أحد دوني. فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلاً يا عمر، فو الله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا؛ قال: مهلاً يا عباس! فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فقد أمناه حتى تغدو به علي. قال، قال: فرجعت به إلى منزلي، فلما أصبح غدا به على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله عز وجل غيره لقد أغنى عني شيئاً. فقال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ فقال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك! أما هذه فإن في النفس منها شيئاً. قال العباس: فقلت له: ويحك! تشهد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك! قال: فتشهد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بعد أن تشهد أبو سفيان: انصرف يا عباس، فأجلسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمر عليه جنود الله عز وجل. فقلت له: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئاً يكون في قومه. فقال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن. فمررت حتى أجلسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي، فمرت عليه القبائل، فجعل يقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ فتمر به قبيلة أخرى، فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: ما لي ولأسلم؟ وتمر عليه جهينة، فيقول: ما لي ولجهينة؟ حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء من المهاجرين في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً! فقلت: ويحك، إنها النبوة. فقال: نعم إذن. فقلت: إلحق الآن بقومك فحذرهم. فخرج سريعاً حتى أتى مكة فصرخ في المسجد: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، قالوا: فمه؟ قال: من دخل داري فهو آمن، قالوا: ويحك وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن.
قال عبد الله بن الزبير: لما كان يوم اليرموك خلفني أبي فأخذت فرساً، . ، فرأيت جماعةً من الطلقاء فيهم أبو سفيان بن حرب، فوقفت معهم، فكانت الروم إذا هزمت المسلمين قال أبو سفيان: إيه بني الأصفر، فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان: من الخفيف:
وبنو الأَصفرِ الكرامُ ملوك الرْ ... رُومِ لم يَبْقَ منهمُ مذكورُ
فلما فتح الله على المسلمين حدثت أبي، فقال: قاتله الله! أبى إلا نفاقاً، أفلسنا خيراً له من بني الأصفر!؟ ثم كان يأخذ بيدي فيطوف بي على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: حدثهم، فأحدثهم فيعجبون من نفاقه.
وروي أن أب سفيان دخل على عثمان . فقال: هل علينا من عين؟ فقال له عثمان: لا، فقال: يا عثمان، إن الأمر أمر عالمية؟، والملك ملك جاهلية، فاجعل أوتاد الأرض بني أمية.
وروي أنه دخل عليه فقال له: إن الخلافة صارت في تيم وعدي حتى طمعت فيها، وقد صارت إليكم فتلقفوها تلقف الكرة، فو الله ما من جنة ولا نار، هذا أو نحوه. فصاح به عثمان: قم عني فعل الله بك وفعل.
حدث أبو عبيدة أن معاوية وجه جيشاً إلى بلاد الروم ليغزو الصائفة، فأصابهم جدري فمات أكثر المسلمين، وكان ابنه يزيد مصطحباً بدير مران مع زوجته أم كلثوم، فبلغه خبرهم فقال: من البسيط:
إِذا ارتفَقْتُ على الأَنماطِ مُصْطَبِحاً ... بدَيْرِ مُرَّان عندي أُمُّ كلثومِ
فما أُبالي بما لاقَتْ جموعهُمُ ... بالقرقدونة من حُمَّ ومن مومِ
فبلغ شعره أباه فقال: أم والله ليلحقن بهم، فليصيبنه ما أصابهم، فخرج حتى لحق بهم، وغزا حتى لحق إلى القسطنطينية، فنظر إلى الديباج، فإذا كانت الحملة للمسلمين، ارتفع من إحداهما أصوات الطبول والدفوف، وإذا كانت الحملة للروم، ارتفع من الأخرى. فسأل يزيد عنهما، فقيل: هذه ابنة ملك الروم، وتلك ابنة جبلة بن الأيهم، وكل واحدة تظهر السرور بما تفعله عشيرتها. فقال: أم والله لأسرنهما. ثم كف العسكر، وحمل حتى هزم الروم فأحجرهم في المدينة، وضرب باب القسطنطينية بعمود حديد كان في يده، فهشمه حتى انخرق، فضرب عليه لوح من ذهب، فهو عليه إلى اليوم.
قال ميمون بن هارون: رأى الرشيد فيما يرى النائم امرأة تحمل كف تراب ثم قالت له: هذه التربة التي تدفن فيها فأصبح فزعاً، فقص رؤياه، فقال له أصحابه: وما في هذا؟ قد يرى النائم أكثر من هذا وأغلظ، ثم لا يضر. فركب وقال: إني لأرى الأمر قريباً، فبينا هو يسير إذ نظر إلى امرأة واقفة من وراء شباك حديد تنظر إليه، فقال: هذه والله المرأة التي رأيتها، ولو رأيتها بين ألف امرأة ما خفيت علي، ثم أمرها أن تأخذ كف تراب فتدفعه إليه، فضربت بيدها الأرض التي كانت عليها فأعطته منها كف تراب، فبكى وقال: هذه والله التربة التي رأيتها في منامي وهذه الكف بعينها، فمات بعد مدة، فدفن في ذلك الموضع بعينه، اشتري له ودفن فيه.
كان المأمون قد أطلق لأصحابه الكلام والمناظرة في مجلسه، فناظر يوماً بين يديه محمد بن العباس الصولي علي بن الهيثم في الإمامة، فتقلدها أحدهما ودفعه الآخر، فلجت المناظرة بينهما إلى أن نبط محمد علياً، فقال له علي: إنما تكلمت بلسان غيرك، ولو كنت في غير هذا المجلس لسمعت أكثر مما قلت.
فغضب المأمون وأنكر على محمد ما قال، وما كان منه من سوء الأدب بحضرته، ونهض عن فرشه، ونهض الجلساء فخرجوا. فأراد محمد أن ينصرف، فمنعه صاحب المصلى وقال علي بن صالح: أفعلت ما فعلت بحضرة أمير المؤمنين ونهض على الحال التي رأيت، ثم تنصرف بغير إذن منه؟ اجلس حتى نعرف رأيه فيك، وأمر بأن يحبس. ومكث المأمون ساعةً ثم خرج، فجلس على سريره، وأمر بالجلساء فردوا إليه، فدخل إليه علي بن صالح، فعرفه ما كان من قول محمد والانصراف، وما كان من منعه إياه، فقال: دعه ينصرف إلى لعنة الله. فانصرف.
وقال المأمون لجلسائه: أتدرون لم دخلت إلى النساء في هذا الوقت؟ قالوا: لا، قال: إنه لما كان من أمر هذا الجاهل ما كان لم آمن فلتات الغضب وله بنا حرمة فدخلت إلى النساء فعابثتهن حتى سكن غضبي.
ومضى محمد من وجهه إلى طاهر بن الحسين، فسأله الركوب إلى المأمون وأن يستوهبه جرمه، فقال له طاهر: ليس هذا من أوقاتي، وقد كتب إلي خليفتي في الدار أنه قد دعا بالجلساء. فقال محمد: أكره أن أبيت ليلةً وأمير المؤمنين علي ساخط. فلم يزل به حتى ركب طاهر معه، فأذن له فدخل ومجير الخادم واقف على يمين المأمون. فلما بصر المأمون بطاهر أخذ منديلاً كان بين يديه، فمسح بين عينيه مرتين أو ثلاثاً إلى أن وصل إليه وحرك شفتيه بشيء أنكره طاهر، ثم دنا فسلم، فرد السلام وأمره بالجلوس، فجلس في موضعه، فسأله عن مجيئه في غير وقته، فعرفه الخبر واستوهبه ذنب محمد، فوهبه له. فانصرف، وعرف محمداً ذلك، ثم دعا بهارون بن جعونة، وكان شيخاً خراسانياً داهيةً ثقةً عنده، فذكر له فعل المأمون، وقال له: الق كاتب مجير الخادم، والطف به، وتضمن له عشرة آلاف درهم على تعريفك ما قاله المأمون، ففعل ذلك، ولطف له، وعرفه أنه لما رأى طاهراً دمعت عيناه، وترحم على محمد الأمين، ومسح دمعه بالمنديل. فلما عرف ذلك طاهر ركب من وقته إلى أحمد بن أبي خالد الأحول، وكان طاهر لا يركب إلى أحد من أصحاب المأمون، وكلهم يركب إليه، فقال له: جئتك لتوليني خراسان وتحتال لي فيها. وكان أحمد يتولى فض الخرائط بين يدي المأمون وغسان بن عباد إذ ذاك يتولى خراسان. فقال له أحمد: هلا أقمت بمنزلك وبعثت إلي حتى أصير إليك، ولا يشهر الخبر فيما تريده بما ليس من عادتك، لأن المأمون يعلم أنك لا تركب إلى أحد من أصحابه، وسيبلغه هذا فينكره، فانصرف وأغض عن هذا الأمر وأمهلني مدةً حتى أحتال لك.
ولبث مدة، وزور ابن أبي خالد كتاباً من غسان بن عباد إلى المأمون يذكر فيه أنه عليل، وأنه لا يأمن على نفسه، ويسأل أن يستخلف غيره على خراسان، وجعله في خريطة، وفضها بين يدي المأمون في خرائط وردت عليه.
فلما قرأ على المأمون الكتاب، اغتم به وقال: ما ترى؟ فقال: لعل هذه على عارضة تزول، وسيرد بعد هذا غيره، فيرى حينئذ أمير المؤمنين رأيه. ثم أمسك أياماً وكتب كتاباً آخر ودسه في الخرائط يذكر فيه أنه قد تناهى في العلة إلى ما لا يرجو معه نفسه. فلما قرأه المأمون قلق وقال: يا أحمد إنه لا مدفع لأمر خراسان، فما ترى؟ فقال: هذا رأي إن أشرت فيه بما أرى فلم أصب، لم أستقله، وأمير المؤمنين أعلم بخدمه ومن يصلح لخراسان منهم. قال: فجعل المأمون يسمي رجالاً ويطعن أحمد على واحد واحد منهم، إلى أن قال له: فما ترى في الأعور؟ فقال: إن كان عند أحد قيام بهذا الأمر ونهوض فيه، فعنده. فدعا به المأمون فعقد له على خراسان، وأمره أن يعسكر بباب خراسان.
ثم تعقب الرأي، فعلم أنه قد أخطأ، فتوقف عن إمضاء أمره، وخشي أن يوحش طاهراً بنقضه، فمضى شهر تام وطاهر مقيم بمعسكره، ثم إن المأمون أرق في السحر من ليلة أحد وثلاثين يوماً من عقدة اللواء لطاهر. وأمر بإحضار مخارق المغني، فأحضر وقد صلى المأمون الغداة مع طلوع الفجر، وقال: يا مخارق، أتغني: من الوافر:
إِذا لم تَسْتَطِع شيئاً فَدَعْهُ ... وجاوِزْهُ إِلى ما تَسْتطيعُ
وكيف تُريدُ أَن تُدعى عظيماً ... وأَنْتَ لكلِّ ما تَهْوى تَبوعُ
الشعر لعمرو بن معد يكرب. فقال: نعم، قال: فهاته، فغناه، فقال: ما صنعت شيئاً، فهل تعرف من يقوله أحسن مما تقوله؟ قال: نعم، علويه الأعسر.
فأمر بإحضاره، فكأنه كان وراء ستر، فغناه واحتفل. قال: ما صنعت شيئاً، أفتعرف من يقوله أحسن مما تقوله؟ قال: نعم، عمرو بن بانة، فأمر بإحضاره، فدخل في مقدار دخول علويه، فأمره أن يغني الصوت، فغناه فأحسن. فقال: أحسنت ما شئت! هكذا ينبغي أن يقال. ثم قال: يا غلام، اسقني رطلاً، واسق صاحبيه رطلاً رطلاً، ثم دعا بعشرة آلاف درهم، وخلعة ثلاثة أثواب، ثم أمر بإعادته، فأعاده، فرد القول الذي قاله وأمر بمثل ما أمر به حتى فعل ذلك عشراً، وحصل لعمرو مائة ألف درهم وثلاثون ثوباً. ودخل المؤذنون فآذنوه بالظهر، فنقد أصبعه الوسطى بإبهامه وقال برق يمان. وكذلك كان يفعل إذا أراد أن ينصرف من بحضرته من الجلساء. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين قد أنعمت علي وأحسنت إلي، فإن رأيت أن تأذن لي في مقاسمة أخوي ما وصل إلي، فقد حضراه؟ فقال: ما أحسن ما استمحت لهما! بل نعطيهما نحن ولا نلحقهما بك. وأمر لكل واحد منهما بمثل نصف جائزة عمرو.
وبكر إلى طاهر، فرحله، فلما ثنى عنان دابته منصرفاً، دنا منه حميد الطوسي فقال له: اطرح على ذنبه تراباً. فقال احسأ يا كلب، ونفذ طاهر لوجهه. وقدم غسان بن عباد فسأله عن علته وسببها، فحلف له أنه لم يكن عليلاً ولا كتب بشيء من هذا، فعلم المأمون أن طاهراً احتال عليه بابن أبي خالد، وأمسك على ذلك، فلما كان بعد مدة من مقدم طاهر إلى خراسان قطع الدعاء للمأمون على المنبر يوم الجمعة، فقال له عون بن مجاشع بن مسعدة صاحب البريد: كيف أقدمت على هذا الفعل ولم تدع في هذه الجمعة لأمير المؤمنين؟ فقال: سهو وقع فلا تكتب به، وفعل مثل ذلك في الجمعة الثانية وقال لعون: لا تكتب به، وفعل مثل ذلك في الجمعة الثالثة، فقال له عون: إن كتب التجار لا تنقطع من بغداد، وإن اتصل هذا الخبر بأمير المؤمنين من غيري لم آمن أن يكون سبب زوال نعمتي. فقال: اكتب بما أحببت، فكتب إلى المأمون بالخبر، فلما وصل كتابه دعا بأحمد بن أبي خالد وقال: إنه لم يذهب على احتيالك علي في أمر طاهر وتمويهك له، وأنا أعطي الله عهداً لئن لم تشخص حتى توافيني به كما أخرجته من قبضتي، وتصلح ما أفسدته علي من أمر ملكي لأبيدن عضراءك، فشخص أحمد وجعل يتلوم في الطرق ويقول لأصحاب البرد: اكتبوا بخبر علة أجدها. فلما وصل إلى الرأي لقيته الأخبار بوفاة طاهر، ووافته رسل طلحة بن طاهر، فأغذ السير حتى قدم خراسان فلقيه طلحة على حد عمله، فقال له أحمد: لا تكلمني، ولا ترني وجهك فإن أباك عرضني للعطب وزوال النعمة مع احتيالي له وسعيي كان في محبته. فقال له: أبي قد مضى لسبيله، ولو أدركته لما خرج من طاعتك، وأنا فأحلف لك بكل ما تسكن إليه، وأبذل لك كل ما عندي من مال وغيره، فاضمن عني حسن الطاعة وضبط الناحية، والإخلاص في النصيحة. فكتب أحمد بخبره وخبر طاهر وخبر طلحة إلى المأمون، وأشار بتقليده. فأنفذ المأمون إليه اللواء والعهد والخلع، وانصرف أحمد إلى مدينة السلام.
وقد روي أن المأمون قال لأحمد حيث أشار بطاهر إنه خالع، فقال أحمد: فأنا أضمنه، وأن أحمد أهدى إلى طاهر خادماً كان رباه، وقرر معه أن يسمه إن تغير عن الطاعة، وأن الخادم سمه في كامخ حيث فعل طاهر ما فعل، والله أعلم.
قال منجاب بن راشد: بعث أبو بكر العلاء بن الحضرمي على قتال أهل الردة بالبحرين، فتلاحق به من لم يرتد من المسلمين، فسلك بنا الدهناء حتى إذا كنا في بحبوحتها أراد الله أن يرينا آيةً، فنزل العلاء وأمر بالنزول، فنفرت الإبل في جوف الليل فما بقي عندنا بعير ولا زاد ولا مزاد، فما علمت جمعاً هجم عليهم من الغم ما هجم علينا، وأوصى بعضنا إلى بعض. ونادى منادي العلاء: اجتمعوا، فاجتمعنا إليه، فقال: ما هذا الذي ظهر فيكم وغلب عليكم؟ فقال الناس: وكيف نلام ونحن إن بلغنا غداً لم تحم شمسه حتى نصير حديثاً؟ فقال: يا أيها الناس، لا تراعوا، ألستم مسلمين؟ ألستم في سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا: بلى، قال: فأبشروا، فو الله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم. ونادى المنادي بصلاة الصبح حين طلع الفجر، فصلى بنا، ومنا المتيمم ومنا من لم يزل على طهوره. فلما قضى صلاته جثا لركبتيه وجثا الناس، فنصب في الدعاء ونصبوا له. فلمع سراب، فأقبل على الدعاء، ثم لمع لهم آخر كذلك، فقال الرائد: ماء! فقام وقام الناس، فمشينا إليه حتى نزلنا عليه فشربنا واغتسلنا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل من كل وجه، فأناخت، فقام كل رجل منا إلى ظهره فأخذه، فما فقدنا سلكاً، فأرويناها وسقيناها العلل بعد النهل، وتروينا ثم تروحنا.
وكان أبو هريرة رفيقي، فلما غبنا عن ذلك المكان قال لي: كيف علمك بموضع ذلك الماء؟ قلت: أنا من أهدى العرب بهذه البلاد، قال: فكر معي حتى تقيمني عليه. فكررت به فأتى على ذلك المكان بعينه، فإذا هو لا غدير به ولا مطر ولا أثر لماء. فقلت له: والله لولا أني لا أرى الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان، وما رأيت بهذا المكان ماء من قبل ذلك اليوم. فنظر أبو هريرة إدواته مملوءةً فقال: هذا والله المكان بعينه، ولهذا رجعت ورجعت بك، وملأت إدواتي ثم وضعتها على شفير الوادي. فقلت: إن كان منا من المن وكانت آيةً عرفتها، وحمد الله، ثم سرنا حتى ننزل هجر.
وأرسل العلاء إلى الجارود ورجل آخر أن انضما في عبد القيس حتى تنزلا على الحطم مما يليكما. وكان الحطم، وهو شريح بن ضبيعة ممن ارتد وقويت شوكته، واجتمعت ربيعة بالبحرين، وردوا الملك في آل المنذر فملكوا المنذر بن النعمان بن المنذر، وقيل: هو ابن سويد بن المنذر أخي النعمان وكان يسمى الغرور، ثم أسلم بعد ذلك، وكان يقول: لست بالغرور، ولكني المغرور.
وخرج العلاء بن الحضرمي بمن معه ومن قدم عليه حتى نزل مما يلي هجر، وتجمع المشركون كلهم على العلاء. وخندق المسلمون والمشركون، وكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم، فكانوا على ذلك شهوراً. فبينا الناس ليلةً كذلك إذ سمع المسلمون في معسكر المشركين ضوضاء شديدةً كأنها ضوضاء هزيمة أو قتال، فقال العلاء: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال عبد الله بن حذف: أنا آتيكم بخبر القوم - وكانت أمه عجليةً - فخرج حتى إذا دنا من خندقهم أخذوه فقالوا له: من أنت؟ فانتسب لهم وجعل ينادي: يا أبجراه! فجاء أبجر بن بجير فعرفه، فقال: ما شأنك؟ قال: لا أضيعن الليلة بين اللهازم، وعلام أقتل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وقيس وعنزة؟ أيتلاعب بي الحطم ونزاع القبائل وأنتم شهود؟ فتخلصه وقال: والله إني لأظنك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة! فقال: دعني من هذا، وأطعمني، فقد مت جوعاً. فقرب إليه طعاماً فأكل ثم قال: زودني واحملني وجوزني أنطلق إلى طيتي - ويقول ذلك لرجل قد غلب عليه الشراب - ففعل وحمله على بعير وزوده وجوزه. وخرج عبد الله حتى دخل عسكر المسلمين وأخبرهم أن القوم سكارى. فخرج المسلمون عليهم حتى اقتحموا عسكرهم، فوضعوا فيهم السيوف حيث شاءوا، فتقحموا الخندق هراباً، فمترد، وناج ودهش ومقتول ومأسور، واستولى المسلمون على ما في المعسكر، فلم يفلت رجل إلا بما عليه. فأما أبجر فأفلت، وأما الحطم فإنه بعل ودهش، فقام إلى فرسه - والمسلمون خلالهم - ليركب، فلما وضع رجله في الركاب انقطع، فمر به عفيف بن المنذر والحطم يستغيث ويقول: ألا رجل من بني قيس بن ثعلبة يعقلني، فرفع صوته، فعرفه عفيف فقال: أبو ضبيعة؟ قال: نعم، قال: أعطني رجلك أعقلك. فأعطاه رجله يعقلها، فنفحها فأطنها من الفخذ وتركه، فقال: أجهز علي، فقال: إني لأحب ألا تموت حتى أمضك - وكان مع عفيف عدة من ولد أبيه، فأصيبوا ليلتئذ - وجعل الحطم يطلب من يقتله، يقول ذلك لمن لا يعرفه، حتى به قيس بن عاصم فمال عليه فقتله، فلما رأى فخذه نادرةً قال: واسوأتاه! لو علمت الذي به لم أجهز عليه.
وخرج المسلمون بعدما أحرزوا الخندق على القوم يطلبونهم، فاتبعوهم فلحق قيس بن عاصم أبجر - وكان فرس أبجر أقوى من فرس قيس، فلما خشي أن يفوته طعنه في العرقوب، فقطع العصب، وسلم النسا، فقال عفيف بن المنذر في ذلك: من الطويل:
فإِن يَرْقأ العرقوبُ لا يرقأ النَّسا ... وما كلُّ مَنْ يلقى بذلك عالمُ
ألْم تَرَ أَنَّا قد فَلَلْنا حُماتَهم ... بأَسْرَةِ عَمْروٍ، والرِّبابُ الأَكارمُ
وأسر عفيف بن المنذر الغرور، فكلمته الرباب فيه وكان ابن أختهم، وسألوه أن يجيره، فجاء به إلى العلاء فقال: إني أجرته، فقال: ومن هو؟ قال الغرور، فقال له الغرور: إني لست بالغرور ولكني المغرور، قال: أسلم، فأسلم وبقي بهجر، وأصبح العلاء يقسم الأنفال، ونفل رجالاً من أهل البلاد ثياباً، فممن نفل عفيف بن المنذر، وقيس بن عاصم، وثمامة بن أثال. فأما ثمامة فنفل ثياباً فيها خميصة ذات أعلام كان الحطم يباهي بها، فأخذ منها وباع الباقي.
وهرب الفلال إلى دارين، فركبوا إليها السفن، فجمعهم الله إليها، وندب العلاء الناس إلى دارين، وخطبهم فقال: إن الله قد جمع لكم إخوان الشيطان وشراد الحرب في هذا اليوم، وقد أراكم من آياته في البر لتعتبروا بما في البحر، فانهضوا إلى عدوكم واستعرضوا البحر إليهم، فإن الله قد جمعهم، فقالوا: نفعل ولا نهاب والله بعد الدهناء هولاً ما بقينا.
فارتحل وارتحلوا حتى إذا أتى ساحل البحر اقتحموه على الخيل والحمولة والإبل والبغال والراكب والراجل، ودعا ودعوا، وكان دعاؤهم: يا أرحم الراحمين، يا كريم، يا حليم، يا أحد، يا صمد، يا حي، يا محيي الموتى، يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت يا ربنا. فأجازوا ذلك الخليج بإذن الله يمشون على مثل رملة ميثاء فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل، وبين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن البحر. ووصل المسلمون إليها فما تركوا بها من المشركين مخبراً، وسبوا الذراري، واستاقوا الأموال، فبلغ نفل الفارس ستة آلاف والراجل ألفين فلما فزعوا رجعوا عودهم على بدئهم حتى عبروا. وأنشد في ذلك عفيف: من الطويل:
أَلم تَرَ أَنَّ الله ذَلَّل بَحْرَهُ ... وأَنْزَلَ بالكفَّارِ إِحدى الجلائلِ
دَعَوْنا الذي شقَّ البحارَ فجاءنا ... بأَعجَبَ من شَقِّ البحارِ الأَوائلِ
وكان بهجر راهب فأسلم يومئذ، فقيل له: ما دعاك إلى الإسلام؟ قال: ثلاثة أشياء خشيت أن يمسخني الله بعدها إن أنا لم أفعل: فيض الماء في الرمال، وتمهيد أثباج البحور، ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء في السحر، قالوا: وما هو؟ قال: اللهم أنت أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت، البديع، ليس قبلك شيء، والدائم غير الغافل، والحي الذي لا يموت، وخالق ما يرى وما لا يرى، وكل يوم أنت في شأن، وعلمت اللهم كل شيء بغير تعليم، فعلمت أن القوم لم يغاثوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله.
دخل رجال من قريش وبني هاشم فيهم عبد الله بن العباس على معاوية في خلافته. فأقبل معاوية على القوم بوجهه وقال: يا بني هاشم، بم تفخرون علينا؟ أليس الأب واحداً، والأم واحدةً، والدار واحدةً؟ فقال ابن عباس: نفخر عليك بما أصبحت تفخر به على سائر قريش، وتفخر به قريش على الأنصار، وتفخر به الأنصار على العرب، وتفخر به العرب على العجم، برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بما لا تستطيع له إنكاراً ولا منه فراراً. فقال: يا ابن عباس! لقد أعطيت لساناً ذرباً، تكاد تغلب بباطلك حق سواك. فقال ابن عباس: يا معاوية، إن الباطل لا يغلب الحق، فدع عنك الحسد، فبئس الشعار الحسد! فقال معاوية: صدقت يا ابن عباس. أما والله إني لأحبك لأربع: إحداهن لقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثانية لأنك رجل من أسرتي، والثالثة لأنك لسان قريش وزعيمها، وأما الرابعة، فإن أباك كان خلاً لأبي. وقد غفرت لك أربعاً: فإحداهن: عدوك علي بصفين فيمن عدا، وإساءتك في خذلان عثمان فيمن أساء، وسعيك على عائشة فيمن سعى، ونفيك عني زياداً فيمن نفى. فضربت أنف هذا الأمر وعينه حتى استخرجت مقتك في كتاب الله عز وجل، وفي قول الشاعر. فأما ما وافق كتاب الله عز وجل فقوله: خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، عسى الله أن يتوب عليهم. وأما في الشعر، فقول الذبياني: من الطويل:
ولسْتَ بمُسْتَبْقٍ أَخاً لا تَلُمُّهُ ... على شَعَثٍ، أَيُّ الرجالِ المُهَذَّبُ
إنا قد قبلنا منك الأول، وغفرنا لك الآخر.
فقال ابن عباس: الحمد لله الذي أمر بحمده، ووعد عليه ثوابه، أحمده كثيراً كما أنعم علينا كثيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد، فإنك ذكرت أنك تحبني لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك الواجب عليك وعلى كل من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه لأنه الأجر الذي سألكم: قل لا اسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى. وهو الأجر الذي سألكم عما أتاكم به من الضياء والنهار المنير، فمن لم يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خاب وكبا، وخزي وهوى، وحل محل الأشقياء.
وأما قولك: إني من أسرتك وأهل بيتك، فهو كذلك، إنما أردت صلة الرحم، وصلة الرحم من أفعال الأبرار، ولعمري إنك وصول لرحمك مع ما كان منك مما لا تثريب عليك فيه القوم.
وأما قولك: إني لسان قريش وزعيمها، فإني لم أعط من ذلك شيئاً لم تعطه، ولكنك قلت ذلك لشرفك وفضلك كما قال الأول: من الطويل:
وكلُّ كريمٍ للكريمِ مُفَضِّلٌ ... يراهُ له أَهلاً وإن كان أَفْضَلا
وأما قولك: إن أبي كان خلاً لأبيك، فقد كان ذلك كذلك، وقد علمت ما كان من أبي إليه يوم الفتح، وكان شاكراً كريماً، وقد قال الأول: من الطويل:
سأَحفَظُ مَنْ آخى أَبي في حياتِهِ ... وأَحفَظُه من بَعْدشهِ في الأَقارِبِ
ولستُ لمن لا يحفظُ العَهْدَ وامقاً ... صديقاً ولا عند المُلمِّ بصاحبِ
وأما قولك في عدوي عليك بصفين، فو الله لو لم أفعل لكنت من شر العالمين؛ يا معاوية، أكانت تحدثك نفسك أني كنت خاذلاً لابن عمي أمير المؤمنين وقد حشد له المهاجرون والأنصار؟ لم يا معاوية؟ أضن بنفسي أم شك في ديني، أم جبن من سجيتي؟ والله لو فعلت ذلك لاختبأته في، وإن كنت قد عاتبت عليه.
وأما خذلان عثمان، فقد خذله من هو أمس رحماً به مني وأبعد رحماً، فلي في الأقربين والأبعدين أسوة، ولم أعد عليه مع من عدا، بل كنت أكف أهل الحجاز عنه.
وأما قولك في عائشة أم المؤمنين، فلو قرت في بيتها كما أمرها ربها لكان . عنها.
وأما قولك في زياد، فإني لم أنفه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفاه.
يعني بقوله هذا: الولد للفراش، وللعاهر الحجر.
وإني مع هذا لأحب ما سرك في جميع أمرك.
فاعترض عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لا يخدعنك ابن عباس بلسانه، والله ما أحبك طرفة عين قط. وإنك وإياه لكما قال الأول: من الطويل:
وقد كُنْتُ جَلْداً في الحياةِ مُرَزّأً ... وقد كُنْتُ لبَّاسَ الرِّجالِ على ضِغْنِ
فقال ابن عباس: إن عمراً دخل بين العظم واللحم، والعصا واللحاء، وقد قال فليسمع، وقد وافق قرناً. إني والله ما أصبحت أعتذر إلى أحد من أن أكون شانئاً لك قالياً. ألا إن الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إن شأنك هو الأبتر. فأنت الأبتر من الدين والدنيا. ووجدت الله عز وجل قد قال في عقد كتابه: لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله. فإنك قد حاددت الله ورسوله. ولقد جهدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جهدك، وأجلبت عليه بخيلك ورجلك، حتى إذا غلبك الله على أمرك، وأوهن حزبك، ورد كيدك في نحرك، عدت لعداوة أهل بيته من بعده، ليس بك في ذلك حب معاوية إلا للعداوة لله ورسوله للحسد القديم لأبناء عبد مناف، والبغض لهم، فإنك وإياهم كما قال الشاعر: من الطويل:
تعرَّضَ لي عمروٌ، وعمروٌ خَزايةٌ ... تعرُّضَ ضبع القَفْرِ للأَسدِ الوَرْدِ
فما هو لي نِدٌّ فأَشتمَ عِرْضَهُ ... ولا هو لي عَبْدٌ فأَبطشَ بالعَبْدِ
فأراد عمرو الكلام، فقال معاوية: والله ما أنت من رجاله، فإن شئت فقل، وإن شئت فدع.
ذكر أن معز الدولة أبا الحسن أحمد بن بويه دخل عليه أبو عبد الله ابن الداعي العلوي وقال له: قد أقطعت فلاناً اصفهسلارية الديلم، كل واحد مائة ألف؟ قال: نعم، فقال: أنت تعظم حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، فقال: يجوز أن تقطع جدي وآله مائة ألف، قال: كيف؟ فقال: لأنك قد ضمنت القضاء لابن أبي الشوارب بمائة ألف، وتحيل عليه الغلمان في الشهوات والخمور، وما بقي من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته إلا الحكم، فلو تركت هذه المائة ألف له. فقال: قد فعلت، ولكن انظر من يصلح للقضاء، فأثبته لي حتى أوليه لمن يعمل فيه بالواجب. فمضى أبو عبد الله ابن الداعي إلى أبي عبد الله البصري، وسأله من يصلح لذلك، فأملى عليه ستة عشر نفراً: أبو بكر الرازي، وابن معروف، وأبو بكر بن سيار من أصحاب مالك، وأبو بشر بن أكثم من أصحاب الشافعي. فجاء ابن الداعي إلى ابن بويه وعرض عليه الأسماء، فقال: أما أبو بكر الرازي وأبو بكر الأبهري، فكل واحد منهما يصلح أن يكون قاضي قضاة الدنيا فضلاً عن بغداد، ولا مطعن عليهما في شيء، إلا أن أخي ركن الدولة أبا علي إن بلغه هذا يقول: أما وجد ببغداد - وهي حضرة الخلافة - أحداً يوليه القضاء حتى ولى من هو من أهل عملي، والسياسة توجب يرجع إليها.
وأما أبو محمد بن معروف، فقيل لي إنه يحضر الغناء. وبعد أن جعلت في نفسي أن أولي هذا الأمر لله، فلا أريد أن أولي فيه من يتطرق عليه بشيء. وأما أبو الحسن ابن أم شيبان فيصلح لهذا، وقد كان تولى قضاء القضاة قبل هذا، ولكنه هاشمي وهو ابن عم الخليفة، ومتى صار القضاء إليه وازر الخليفة ولم أطقه، وخرج القضاء عن يدي.
وأما أبو بكر بن سيار، فكنت قد أنفذته في رسالة إلى الأهواز، فعاد وأهدى إلي غلاماً حسناً وهو يعرف رأيي في الغلمان، ومن يتقرب بمثل هذا لا أريد أن أوليه القضاء، فقلت له: أبو بشر؟.
وعرفت أن عبد الله البصري، فقال لأبي محمد الأكفاني: امض إلى أبي بشر ابن أكثم وسلم عليه بقضاء القضاة، وعرفه الحال ليعلم أن هذا من قبلنا، وتكون لنا عنده يد. فمضى إلى أبي بشر، وكان شيخاً قد كبرت سنه، فسلم عليه بالقضاء، فقال: أتهزأ بي وأنا شيخ كبير؟! فقال: ما أهزأ، وعرفه القصة.
فقبل بين عيني أبي محمد، وولى قضاء القضاة، وأقام نحواً من أربع سنين. ثم اطلع بعد ذلك على خيانته، ووقف للناس ثم تغيرت الأحوال.
كان جامع بن أمية المحاربي من الخطباء البلغاء وكان متديناً صالحاً، وهو الذي قال للحجاج حين بنى مدينة واسط: بنيتها في غير بلدك، وتورثها غير ولدك.
وشكا إليه الحجاج أهل العراق، وأخبره عن سوء نياتهم، وخبث سريرتهم، وقلة طاعتهم، وكثرة خلافهم، فقال له جامع: أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك، ولا في بطنك وظهرك، فدع ما يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك، والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك، وليكن إيقاعك بعد وعيدك ووعيدك بعد وعدك.
قال الحجاج: إني والله ما أرى أن أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف.
قال: أيها الأمير، إن السيف إذا لقي السيف ذهب الخيار. قال الحجاج: الخيار يومئذ لله. قال: أجل، ولكنك لا تدري لمن يجعله الله. فغضب الحجاج وقال: يا هناه! إنك من محارب. فقال جامع: من الطويل:
وللحربِ سُمِّينا وكُنَّا محارِباً ... إِذا ما القنا أَمسى من الطَّعْنِ أَحمرا
قال الحجاج: والله لقد هممت أن أخلع لسانك وأضرب به وجهك. قال جامع: إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك أغضبنا الله، وغضب الأمير أهون علينا من غضب الله. قال: أجل. وسكن الحجاج وشغل ببعض الأمر، فانسل جامع وخرج من بين الصفوف من خيل الشام حتى صار إلى خيل أهل العراق، وكان الحجاج لا يخلط أهل الشام بأهل العراق.
فأبصر كبكبةً فيها جماعة من بكر العراق وقيس العراق وتميم العراق وأزد العراق، فلما رأوه اشرأبوا إليه، وبلغهم خروجه فقالوا له: ما عندك، دافع الله لنا عنك؟ قال: ويحكم! عموه بالخلع كما يعموه بالعداوة، ودعوا التعادي بينكم ما عاداكم، فإنه أقوى أعدائكم، وأحدهم ناباً ومخلباً، وأجرؤهم، إن ظفر بكم لا يدع منكم لساناً ينطق، ولا عيناً تطرف؛ وإن أظفركم الله به، تراجعتم العداوة والتحارب بينكم أو تعافيتم. أيها التميمي، هو والله أعدى لك من الأزدي، وأيها القيسي هو أعدى لك من التغلبي، وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه من رؤسائكم. ثم هرب جامع من فوره ذلك إلى الشام، فاستجار بزفر بن الحارث فأجاره.
قال علي الحميري: لما أشخص المنصور أبا حنيفة إلى بغداد شخصت معه، فقدم بغداد، فحضر الدار، وأعلم به المنصور، فدخل إليه ثم خرج إلي وهو ممتقع اللون، فسألته عن حاله فقال لي: المنزل، المنزل! فمضيت معه فقال: إن هذا دعاني إلى القضاء، فأعلمته أني لا أصلح، وافترصها مني وظن أني قد كذبته، فقال لي: قد جلست تفتي الناس، وتزعم أنك لا تصلح للقضاء، قال: فقلت له: إني لم أقل إني لا أصلح لأني لا أعلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر ولكنه لا يصلح للقضاء إلا رجل له نفس يحكم بها عليك وعلى ولدك وعلى قوادك، وليست تلك النفس لي، والله يعلم أنك لتدعوني، فما ترجع نفسي إلي حتى أفارقك؛ فما سمع ذلك مني أطرق ثم رفع رأسه إلي، وقال: فلم لا تقبل صلتي؟ فقلت: أفوصلني أمير المؤمنين من ماله بشيء فرددته ولم أقبله؟ وإنما وصلتني من بيت مال المسلمين ولا حق لي فيه؛لأني لست مقاتلاً من ورائهم فآخذ مع المقاتلة، ولست من ولدانهم فآخذ ما يأخذون، ولست من فقرائهم فآخذ ما يأخذ الفقراء، أنا من الله بخير، وبنعمته في كفاية، فقال لي: أقم بمكانك تكاتبك القضاة فيما لعلهم أن يحتاجوا إليك. قلت: سمعاً وطاعةً.
قال عبد الله بن المبارك: لما أفضت الخلافة إلى هارون، وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي، فأرادها على نفسها، فقالت: لا أصلح لك؛ إن أباك قد أطاف بي، فأغري بها. قال: فبعث إلى أبي يوسف فقال: جارية من جواري المهدي أردتها فتحصنت مني وذكرت أن أبي قد وقع بها، فعندك في هذا شيء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، لا تصدقها، ليست بمأمونة على نفسها.
قال عبد الله بن المبارك: فلم أدر من أيهم أعجب، من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج من وطء جارية لأبيه رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين، أم من هذا فقيه الأرض وقاضيها، قال: تهتك حرمة أبيك واقض شهوتك وصيره في رقبتي.
جرى بين عبد الله بن الزبير وبين عتبة بن أبي سفيان لحاء بين يدي معاوية، فجعل ابن الزبير يعدل بكلامه عن عتبة ويعرض بمعاوية، حتى أطال وأكثر من ذلك، فالتفت معاوية وقال متمثلاً: من الطويل:
ورامٍ بعُورانِ الكلامِ كأَنَّها ... نوافِرُ صُبْحٍ نَقَّرَتْها المراتِعُ
وقد يُدحضُ الْمرءُ المُواربُ بالخنا ... وقد تُدرك المرءَ الكريمَ المصانِعُ
ثم قال لابن الزبير: من يقول هذا؟ فقال: ذو الإصبع، قال: أترويه؟ قال: لا، قال: من ههنا يروي هذه الأبيات؟ فقال رجل من قيس: أنا أرويها يا أمير المؤمنين، فقال: أنشدني، فأنشده حتى أتى على قوله:
وساعٍ برجلَيْهِ لآَخَرَ قاعدٍ ... ومعطٍ كريمٌ ذو يسارٍ ومانِعُ
وبانٍ لأَحسابِ الرجالِ وهادمٌ ... وخافضُ مولاه سفاهاً ورافِعُ
ومُغْضٍ على بَعْضِ الخُطوبِ وقد بَدَتْ ... له عورةٌ من ذي القَرابةِ هاجعُ
وطالب حوبٍ باللبانِ وقَلْبُهُ ... يرى الحقَّ لا تَخْفى عليه الشرائعُ
فقال: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة، قال: اجعلوها ألفاً، وقطع الكلام بين عبد الله وعتبة.
لما ولي الوليد بن عقبة الكوفة من قبل عثمان، قدمها وبها سعد بن أبي وقاص أميراً، فدخل عليه، فقال له سعد: ما أقدمك أبا وهب؟ قال: أحببت زيارتك؛ قال: وعلى ذاك أجئت بريداً، قال: أنا أرزن من ذاك، ولكن القوم احتاجوا إلى عملهم فسرحوني إليه، وقد استعملني أمير المؤمنين على الكوفة.
فمكث سعد طويلاً وقال له: ما أدري، ألسنت بعدنا أم حمقنا بعدك؟ فقال: لا تجزعن أبا إسحاق، فإنما هو الملك، يتغداه قوم ويتعشاه آخرون، فقال: أراكم والله ستجعلونه ملكاً ثم قال: من الطويل:
خُذيني فَجُرِّيني ضُباعُ وأَبْشري ... بلَحْمِ امرئٍ لم يَشْهدِ اليومَ ناصِرُه
وقال العجاج: من الرجز:
وكلُّ معدودٍ إِلى أَن يَنْفَدا ... وغايةُ الأَقوامِ مَهْواةُ الردى
والدهرُ ما أًصلحَ يوماً أَفْسَدا ... وعادَ مُبْلِيهِ على ما جَدَّدا
ولا أَرى الإِنسانَ مَتْروكاً سُدى ... ويجعلُ الله وإِنْ طالَ المدى
لكلِّ شيءٍ مُنْتهىً وأَمَدا
لما قدم عمر الشام وقف على طور زيتا، فأرسل البطريق عظيماً لهم ثم قال: انظر إلى ملك العرب؛ فرآه على فرس وعليه جبة صوف مرقعة، مستقبل الشمس بوجهه، ومخلاته في قربوس سرجه، وعمر يدخل يده فيها فيخرج فلق خبز يابس فوصفه للبطريق، فقال: لا طاقة لنا بمحاربة هذا، أعطوه ما شاء.
قال عبد الملك بن مروان: تمكنا من أم خنور، وذلك لما اشتد ملكه، وقهر أعداءه، وظن أن الأرض قد دانت له، فلم يعش بعدها إلا أسبوعاً.
أم خنور: كنية الدنيا. أهل الكوفة يقولون: خنور كسفود. وأهل البصرة يقولون: خنور كتحول، وأصلها في الضبع، فشبهت بها لأكلها الناس كما قيل للسنة: الضبع.
قال عبد الملك: ولدت في شهر رمضان، وفطمت في شهر رمضان، وختمت القرآن في شهر رمضان، وأتتني الخلافة في شهر رمضان، وأخاف أن أموت في شهر رمضان. فلما دخل شوال وأمن بها مات.
قال علي بن أبي طالب: أبو بكر سلم من الدنيا وسلمت منه، وعمر عالجها وعالجته، وعثمان نال منها ونالت منه، وأما أنا فقد تضجعت فيها ظهراً لبطن.
ويروى أن رجلاً من الأولين كان يأكل وبين يديه دجاجة مشوية، فجاء سائل فرده خائباً، وكان الرجل مسرفاً فوقعت بينه وبين امرأته فرقة، وذهب ماله وتزوجت، فبينما زوجها الثاني يأكل وبين يديه دجاجة مشوية إذ جاءه سائل، فقال لامرأته: ناوليه الدجاجة، ونظرت فإذا هو زوجها الأول، فأخبرته القصة، فقال الثاني: أنا والله ذلك المسكين، خيبني فحول الله نعمته وأهله إلي لقلة شكره.
كانت قريش لا ترغب في أمهات الأولاد حتى ولدت ثلاثةً هم خير أهل زمانهم: علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وذلك أن عمر رضي الله عنه أتي ببنات يزدجرد بن شهريار بن كسرى مسبيات، فأراد بيعهن فقال له علي: إن بنات الملوك لا يبعن، ولكن قوموهن، فقوموهن، فأعطاه فقسمهن بين الحسين بن علي، ومحمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، فولدن الثلاثة.
قال عمرو بن العاص - عند إحضاره - لابنه: يا بني، من يأخذ هذا المال بما فيه؟ قال: من جدع الله أنفه؛ فقال: احملوه إلى بيت مال المسلمين. ثم دعا بالغل والقيد فلبسهما، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن التوبة مبسوطة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه؛ ثم استقبل القبلة فقال: اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فارتكبنا؛ هذا مقام العائذ بك، فإن تعف فأهل العفو أنت، وإن تعاقب فبما قدمت يداي، سبحانك لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين. فمات وهو مغلول مقيد. فبلغ الحسن بن علي فقال: استسلم الشيخ حين أيقن بالموت، ولعلها تنفعه.
سأل أعرابي عمرو بن عبيد عن التوحيد، فتناول بيضةً بين يديه، فوضعها على راحته وقال: هذا حصن مغلق لا صدع فيه، ثم من ورائه غرقئ يستشف، ثم من ورائه دمعة سائلة، ثم لا تنفك الأيام والليالي حتى يتفلق عن طاوس ملمع، فأي شيء في العالم وهو دليل على أنه ليس كمثله شيء.
ذكر أبو عبيدة أن رجلاً من بني أمية خطب النوار بنت أعين المجاشعية فرضيته، وجعلت أمرها إلى الفرزدق، فقال: أشهدي لي بذلك على نفسك شهوداً، ففعلت، واجتمع الناس لذلك، فتكلم وقال: اشهدوا بأني قد تزوجتها، وأصدقتها كذا وكذا، فإني أنا ابن عمها وأحق بها. فبلغ ذلك النوار، فأبته واستترت من الفرزدق، وجزعت ولجأت إلى بني قيس بن عاصم المنقري، فقال فيها: من الطويل:
بني عاصمٍ لا تلجئوها فإنكم ... ملاجئُ للسوءاتِ دُسْمُ العمائمِ
بني عاصمٍ لو كان حيّاً أَبوكُم ... للامَ بنيه اليومَ قَيْسُ بن عاصمِ
فقالوا للفرزدق: والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة. فنافرته النوار إلى عبد الله بن الزبير فأرادت الخروج إليه، فتجافى الناس كراءها. ثم إن رجلاً من بني عدي يقال له زهير بن ثعلبة وقوماً يعرفون ببني أم النسير أكروها. فقال الفرزدق: من الوافر:
ولولا أَن يقولَ بنو عديٍّ ... أَلَيسَتْ أُمَّ حنظلةَ النوارُ
يعني بالنوار ههنا بنت حمل بن عدي بن عبد مناة، وهي أم حنظلة بن مالك بن زيد مناة وهي إحدى جداته. وقال لبني أم النسير: من الطويل:
لعمري لقد أَرْدَى النَّوارَ وساقَها ... إلى الغَوْرِ أَحلامٌ خِفافٌ عقولُها
يقول فيها:
فدونكها يا ابنَ الزبير فإنَّها ... مولَّعةٌ يُوهي الحجارةَ قيلُها
فلما قدمت مكة نزلت على بنت منظور بن زبان، واستشفعت بها إلى زوجها عبد الله، وانضم الفرزدق إلى حمزة بن عبد الله وأمه بنت منظور هذه. وقال فيه: من البسيط:
يا حَمْزُ هَلْ لك في ذي حاجةٍ عَرَضَتْ ... أَنضاؤه بمكانٍ غيرٍ ممطورِ
فأَنت أَحرى قريشٍ أَن تكونَ لها ... وأَنْتَ بين أَبي بكرٍ ومنظورِ
بين الحَواريِّ والصدّيقِ في شُعَبٍ ... نَبَتْنَ في طيِّبِ الإسلامِ والخِيرِ
وقال في النوار: من الوافر:
تخاصمني النَّوارُ وغابَ فيها ... كرأسِ الضَّبِّ يلتمسُ الجَرادا
فجعل أمر النوار يقوى، وأمر الفرزدق يضعف، فقال الفرزدق: من البسيط:
أَمَّا بنوه فلم تُقْبَلْ شفاعتُهم ... وشُفِّعَتْ بنتُ منظورِ بنِ زبَّانا
ليس الشفيعُ الذي يأتيك مُؤتزِراً ... مِثْلَ الشفيع الذي يأتيك عُريانا
فبلغ ابن الزبير الشعر، فقال للنوار: إن شئت فرقت بينكما وقتلته فلا يهجونا أبداً، وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو؛ فقالت: ما أريد واحدة منهما؛ قال: إنه ابن ابن عمك وهو فيك راغب، أفأزوجه إياك؟ قالت: نعم. فزوجه إياها، فكان الفرزدق يقول: خرجنا متباغضين، ورجعنا متحابين.
قال عثمان بن أبي سليمان: شهدت الفرزدق يوم نازع النوار، فتوجه إلى القضء عليه، فأشفق من ذلك، فعرض لابن الزبير بكلام، فأغضبه.
وروى غيره أنه قال: إنما حكمت علي بهذا لأفارقها فتثب عليها، فقال: يا ألأم الناس، وهل أنت وقومك إلا جالية العرب. وأمر به فأقيم وأقبل علينا فقال: إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنةً فاستلبوه واجتمعت العرب عليها لما انتهكت ما لم ينتهكه أحد قبلها وأجلتها عن أرض تهامة.
قال: ثم خرج عبد الله بن الزبير إلى المسجد، فرأى الفرزدق في بعض طرق مكة، وقد بلغته أبيات قالها يفتخر فيها ويتهدد، فقبض ابن الزبير على عنقه فكاد أن يدقها، ثم قال: من الطويل:
لقد أَصبَحَتْ عِرْسُ الفَرَزدقِ ناشزاً ... ولو رضِيَتْ رَمْحَ استِه لاستقرَّتِ
وهذا الشعر لجعفر بن الزبير.
ولما قال جعفر هذا البيت، قال عبد الله بن الزبير: أتجزرنا كلباً من كلاب بني تميم؟ إن عدت لم أكلمك أبداً.
ولما أذنت النوار لابن الزبير في تزويجها بالفرزدق، حكم عليه بمهر مثلها عشرة آلاف درهم، فسأل أهل مكة: هل بها أحد يعينه على ذلك، فدل على سلم بن زياد وكان ابن الزبير حبسه فقال فيه: من الطويل:
دَعي مُغْلقي الأَبوابَ دون فَعالهم ... ومُرِّي تَمَشَّي بي هُبِلْتِ على سَلْمِ
إلى مَنْ يرى المعروف سهلاً سبيلُه ... ويَفْعلُ أَفعالَ الكرامِ التي تَنْمي
ثم دخل على سلم فأنشده، فقال: هي لك ومثلها نفقتك، فأمر له بعشرين ألفاً، فقبضها فقالت له زوجته أم عثمان بنت عبد الله بن عثمان بن أبي العاصي الفقيه: أتعطي عشرين ألفاً وأنت محبوس؟! فقال: من الطويل:
أَلا بَكَرَتْ عِرْسي تلومُ سفاهةً ... على ما مضى مِنِّي وتأمُر بالبُخْل
فقلتُ لها والجودُ مني سَجِيَّةٌ ... وهل يَمْنَعُ المعروفَ سؤّالَه مِثْلي
ذريني فإني غير تاركِ شيمتي ... ولا مُقْصِرٌ عن السماحةِ والبّذْلِ
وهي أبيات.
ثم اصطلحا ورضيت به، وساق المهر إليها، ودخل بها وأحبلها قبل أن يخرج من مكة. ثم خرج بها وهما عديلان في محمل. فكانت لا تزال تشاره وتخالفه لأنها كانت صالحةً حسنة الدين، وكانت تكره كثيراً من أمره فتزوج عليها حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس بن مسعود بن قيس بن خالد ابن عبد الله بن عمرو بن الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان. فتزوجها على مائة من الإبل، فقالت له النوار: ويلك! أتزوجت علي أعرابية دقيقة الساقين، بوالة على عقبيها على مائة بعير! فقال الفرزدق يفضلها عليها، ويعيرها بأمها وكانت أمةً: من الطويل:
لَجاريةٌ بين السليل عروقُها ... وبين أَبي الصهباء من آل خالدِ
أَحقُّ بإِعلاءِ المهورِ من التي ... زَنَتْ وهي تَنْزو في جُحور الولائدِ
وقال أيضاً: من الطويل:
لعمرى لأعرابيةٌ في مِظلّةٍ ... تظلُّ برَوْقي بيتِها الريحُ تخفقُ
كأمِّ غَزالْ أَو كدرَّةِ غائصٍ ... إذا ما بَدَت مِثْلَ الغمامةِ تُشرقُ
أَحبُّ إلينا من ضَناكٍ ضِفِنَّةٍ ... إذا وُضِعت عنها المراوحُ تعرقُ
ومدحها أيضاً فقال: من البسيط:
عَقيلةٌ من بني شَيْبانَ ترفعُها ... دعائمٌ للعُلى من آلِ هَمَّامِ
من آل مُرَّةَ بين المستضاءِ بهم ... من رَهْطِ صِيدٍ مصاليتٍ وحكَّامِ
بين الأَحاوصِ من كَلْبٍ مُرَكَّبُها ... وبين قَيْس بن مسعودٍ وبِسْطامِ
فأغضب النوار مدحه إياها، فقالت: والله لأخزينك يا فاسق، وبعثت إلى جرير فجاءها فقالت: ألا ترى ما قال لي الفاسق؟ وشكت إليه، فقال جرير: أنا أكفيك، وأنشأ يقول: من الطويل:
ولستُ بمُعْطي الحكْمَ عن شِفِّ مَنْصبٍ ... ولا عَنْ بناتِ الحنظليّين راغِبُ
وهُنَّ كماءِ المُزْنِ يَشْفى به الصَّدى ... وكانَتْ مِلاحاً غَيْرَهنَّ المشارِبُ
وما عَدَلَتْ ذاتُ الصليبِ ظعينةً ... عُتيبةُ والرِّدْفانِ منها وحاجبُ
أأهديتَ يا زيقُ بن زيق غريبةً ... إلى شرِّ من تهدى إليه الغرائب
ألا ربَّما لم نُعْطِ زيقاً بحُكْمِهِ ... وأَدَّى إلينا الحُكْمَ والغُلُّ لازِبُ
حَوَيْنا أَبا زِيقٍ وزيقاً وعمَّهُ ... وجَدَّهُ زِيقٍ قد حَوَتْها المقانبُ
فأجابه الفرزدق بقصيدة منها: من الطويل:
فَنَلْ مِثْلَها من مِثْلِهم ثمَّ لُمْهُمُ ... بما لَكَ من مالٍ مُراحٍ وعازبِ
وإنِّي لأخشى إن خطبَتَ إليهم ... عليك الذي لاقى يسارُ الكواعبِ
وقالوا سمِعْنا أَنَّ حَدْراءَ زُوِّجَتْ ... على مئةٍ شُمِّ الذُرى والغوارِبِ
ولو كُنْتَ من أكفاءِ حَدراء لم تُلَمْ ... على دراميٍّ بين ليلى وغالبِ
ولو قَبِلوا مني عطيةَ سُقْتُه ... إلى آلِ زِيقٍ من وَصيفٍ مُقارِبِ
همُ زوَّجوا قبلي ضِراراً وأَنكحو ... لَقيطاً وهم أَكفاؤنا في المناسب
ولو تُنكحُ الشمسُ النجومَ بناتِها ... إذاً لنكحناهُنَّ قَبْلَ الكواكبِ
يسار: كان عبداً لبني غدانة، فأراد مولاته على نفسها فنهته مرةً بعد مرةً، وألح عليه فوعدته، فجاء فقالت: إني أريد أن أبخرك، فإن رائحتك متغيرة؛ فوضعت تحته مجمراً وقد أعدت له حديدةً، فأدخلت يدها فقبضت على ذكره وهو يرى أن ذلك لشيء، فقطعته بالموسى، فقال: صبراً على مجامر الكرام. فذهبت مثلاً.
وقال جرير: من البسيط:
يا زِيقُ أَنكَحْتَ قَيْناً باسْتِهِ حَمَمٌ ... يا زيقُ ويحك من أَنكَحْتَ يا زيقُ
غابَ المثنَّى فلم يَشْهَدْ نَجِيَّكُما ... والحَوْفَزانُ ولم يَشْهَدْك مفروقُ
أَيْنَ الأُلى أَنْزلوا النعمانَ مُقْتسراً ... أَم أَينَ أَبناءُ شيبانَ الغرانيقُ
يا رُبَّ قائلةٍ بعد البناء بهِ ... لا الصِّهْرُ راضٍ ولا بانُ القَيْنِ معشوقُ
فتعرض الفرزدق للحجاج أن يسوق عنه المهر، فعذله الحجاج وقال: أتزوجت نصرانيةً على حكم أنها مائة بعير! أخرج، ما لك عندنا شيء، فقال عنبسة بن سعيد بن العاص وأراد نفعه: إنها من حواشي إبل الصدقة، فأمر له بها.
ولما كان الفرزدق ببعض الطريق ومعه أوفى بن خزير أحد بني التيم بن شيبان بن ثعلبة رأى كبشاً مذبوحاً، فقال: يا أوفى، هلكت والله حدراء. فلما بلغ قال له بعض قومها: هذا البيت فانزل، وأما حدراء فقد هلكت، وقد عرفنا الذي يصيبك في دينكم من ميراثها وهو النصف، وهو لك عندنا، فقال: لا والله لا أرزأ من ذلك قطميرا، وهذه صدقتها فاقبضوها. فقالوا: يا بني دارم، والله ما صاهرنا أكرم منكم.
وقيل: إن قومها اعتلوا عليه، وادعوا موتها لئلا يهتك جرير أعراضهم. وقال جرير: من الطويل:
رأَوْا أَنَّ صِهْرَ القَوْمِ عارٌ عليهمُ ... وأَنَّ لِبِسطام على غالبٍ فَضْلا
حدث بعض الموالي قال: حضرت الفضل بن يحيى وقد قال لأبي البصير: يا أبا البصير، أنت القائل فينا: من الطويل:
إذا كنتُ من بغدادَ في رأسِ فَرْسَخٍ ... وَجَدْتُ نَسيمَ الجودِ من آلِ بَرْمَكِ
لقد ضيقت علينا جداً. قال: أفلأجل ذلك أيها الأمير ضاقت علي صلتك، وضاقت عني مكافأتك وأنا الذي أقول: من السريع:
تشاغَلَ الناسُ ببُنياهم ... والفَضْلُ في بني العلا جاهدُ
كلُّ ذوي الفضل وأَهلِ النُّهى ... للفَضْل في تدبيرِهِ حامِدُ
وعلى ذلك فما قلت البيت الأول كما بلغ الأمير، وإنما قلت: من الطويل:
إذا كُنْتُ من بغدادَ في مَقْطع الثَّرى ... وجدْتُ نَسيمَ الجودِ من آلِ بَرْمَكِ
فقال له الفضل: إنما أخرت ذلك عنك لأمازحك، وأمر له بثلاثين ألف درهم.
قال عمرو بن جابر الحنفي في المداجاة: من الطويل:
أُكاشِحُ أَقواماً على شَرِّ بِغْضَةٍ ... وأَضْحَكُ في وجه العدوِّ المُكاشِرِ
أُريه كذاكم ما يُريني وأَبتغي ... به في غَدٍ خَوْنَ الجُدودِ العواثِرِ
وقال آخر: من الوافر:
أُكاشِرُهُ وأَعلم أَنْ كِلانا ... على ماساءَ صاحبَه حريصُ
وقال المتلمس: من الطويل:
وأطرق إطراقَ الشجاعِ ولو يَرى ... مساغاً لنابَيْه الشجاعُ لصمَّما
وقال عبد الله بن مالك الطائي: من الوافر:
وخِلٍّ كنتُ عينَ النُّصْحِ منه ... لذي خَطَرٍ ومستمعٍ سميعا
أَطافَ بِغَيَّةٍ فنَهَيْتُ عنها ... وقلتُ له أَرى أَمراً فَظيعا
ومثله لدريد بن الصمة: من الطويل:
أَمَرْتُهُمُ أَمري بمنعرجِ اللِّوى ... فلم يستبينوا النُّصْحَ إِلا ضُحى الغَدِ
فلما عَصَوْني كنتُ فيهم وقد أَرى ... غوايتهم وأَننَّي غَيْرُ مُهْتدي
وما أَنا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وإِن تَرْشُدْ غزِيَّةُ أَرْشُدِ
وقال رجل من بني الحارث بن كعب: من الطويل:
لعَمْرك ما صبر الفتى في أُمورِهِ ... بحتمٍ إذا ما الأَمْرُ جلَّ عن الصبرِ
فقد يجزعُ المرءُ الجليدُ ويبتلي ... عزيمةَ رأي المرء نائبةُ الدهرِ
تعاورُهُ الأيام في ما ينوبُهُ ... فيقوى على أمرٍ ويضعفُ عن أمر
وقال أيضاً: من الطويل:
وعيرتمونا أَنْ جزعنا ولم نكنْ ... لِنجزعَ لو أنّا قدرنا على الصبرِ
صبرنا فلما لم نَر الصبرَ نافعاً ... جزعنا وكان الله أملك بالعذر
وقال خراش بن مرة الضبي: من الطويل:
إذا عيل صبر المرء فيما ينوبه ... فلابدّ من أن يستكينَ ويجزعا
وما يبلغ الإنسان فوق اجتهاده ... إذا هو لم يملك لما جاء مدفعا
وقال عبيد بن أيوب وذكر شدة خوفه: من الطويل:
لقد خفتُ حتى لو تمرُّ حمامةٌ ... لقلتُ عدوٌّ أو طليعةُ معشرِ
وخفتُ خليلي ذا الصفاءِ ورابني ... مقال فلان أو فلانة فاحذر
فمن قال خيراً قلت هذا خديعةٌ ... ومن قال شرّاً قلت نصحٌ فشمِّر
وأًصبحتُ كالوحشيّ يتبعُ ماحلاً ... ويتركُ موطوءَ البلاد المدعثر
وقال أيضاً: من الطويل:
لقد خِفْتُ حتى خِلْتُ أَن ليس ناظِراً ... إلى أَحدٍ غيري فكِدْتُ أَطيرُ
وليس فَمٌ إلا بسِرَّي مُحَدِّثٌ ... وليس يَدٌ إلا إليَّ تُشيرُ
وقال مضرس بن ربعي الأسدي: من الطويل:
كأَنَّ على ذي الظنِّ عَيْناً بصيرةً ... بمنطقِهِ أَو منظرٍ هو ناظِرُه
يُحاذرُ حتى يَحْسِبَ الناسَ كُلَّهم ... من الخوفِ لا تَخْفى عليهم سرائِرُه
وقال مسكين الدرامي واسمه ربيعة بن عامر: من الطويل:
إنْ أُدْعَ مسكيناً فلستُ بمُنكرٍ ... وهل تُنكرنَّ الشمسُ ذَرَّ شعاعُها
لعمركَ ما الأسماءُ إلا علامةٌ ... منارٌ ومن خيرِ المنارِ ارتفاعُها
وقال أيضاً في الغيرة: من المتقارب:
أَلا أَيُّها الغائرُ المستشاطُ ... علامَ تَغارُ إذا لم تُغَرْ
فما خَيْرُ عِرْسٍ إذا خَفْتَها ... وما خَيْرُ عِرْسٍ إذا لم تُزَرْ
تغارُ على الناسِ أن ينظروا ... وهل يَفْتنُ الصالحاتِ النَّظَرْ
وإني سأخلي لها بيتها ... فتحفظ لي نفسها أو تذرْ
إذا الله لم يُعْطني حُبَّها ... فلا يعطني الحبَّ سوطٌ مُمَرّ
قال الشعبي: قال لي شريح يعني القاضي: يا شعبي، عليكم بنساء تميم، فإنهن النساء. قلت: كيف؟ قال: انصرفت من جنازة ذات يوم مظهراً فمررت بدور بني تميم، فإذا امرأة جالسة في سقيفة على وسادة وتجاهها جارية رؤد - يعني التي بلغت - ولها ذؤابة على ظهرها جالسة تبكي، فاستسقيت فقالت لي: أي الشراب أعجب إليك؟ النبيذ أم اللبن أم الماء؟ قلت: أي ذلك تيسر عليكم. فقالت: اسقوا الرجل لبنا فإني إخاله عزباً، فلما شربت نظرت إلى الجارية فأعجبتني، فقلت: من هذه؟ فقالت: ابنتي، فقلت: ممن؟ قالت: هذه زينب بنت حدير إحدى نساء بني تميم، ثم إحدى نساء بني حنظلة، ثم إحدى نساء بني طهية، قلت: أفارغة أم مشغولة؟ قالت: بل فارغة؛ قلت: أفتزوجينها؟ قالت: نعم إن كنت لها كفؤاً، ولها عم فاقصده.
فامتنعت من القائلة، وأرسلت إلى إخواني من القراء والأشراف، مسروق بن الأجدع، والمسيب بن نجبة، وسليمان بن صرد الخزاعي، وخالد بن عرفطة العدوي، وعروة بن المغيرة بن شعبة، وأبي بردة بن أبي موسى، فوافيت معهم صلاة العصر، فإذا عمها جالس، فقال: أبا أمامة؟ حاجتك، فقلت: إليك، قال: وما هي؟ قلت: بنت أخيك زينب بنت حدير، قال: ما بها عنك رغبة، ولا بك عنها مقصر وإنك لنهزة.
فتكلمت فحمدت الله عز وجل، وصليت على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت حاجتي. فرد الرجل علي وزوجني، وبارك القوم لي، ثم نهضنا، فما بلغت منزلي حتى ندمت؛ فقلت: تزوجت إلى أغلظ العرب وأحقدها، فهممت بطلاقها، ثم قلت: أجمعها إلي، فإن رأيت ما أحب وإلا طلقتها. فأقمت أياماً، ثم أقبل نساؤها يهادينها، فلما أجلست في البيت أخذت بناصيتها، فبركت، وأخلي لي البيت، فقلت: يا هذه، إن من السنة إذا دخلت المرأة على الرجل أن تصلي ركعتين ويصلي ركعتين، ويسألا الله خير ليلتهما ويتعوذا بالله من شرها؛ ثم التفت فإذا هي خلفي تصلي؛ فصليت، ثم التفت فإذا هي على فراشها، فمددت يدي فقالت: على رسلك، فقلت: إحدى الدواهي منيت بها، فقالت: الحمد لله، أحمده وأستعينه، إني امرأة غريبة، ولا والله ما سرت مسيراً قط أشد علي منه، وأنت رجل غريب لا أعرف أخلاقك، فحدثني بما تحب فآتيه، وما تكره فأنزجر عنه.
فقلت: الحمد لله، وصلى الله على محمد. قدمت خير مقدم على أهل دار زوجك سيد رجالهم، وأنت سيدة نسائهم إن شاء الله. أحب كذا وكذا، وأكره كذا وكذا. قالت: أخبرني عن أختانك، أتحب أن يزوروك؟ قلت: إني رجل قاض، وما أحب أن يملوني. فبت بأنعم ليلة، ثم أقمت عندها ثلاثاً، ثم خرجت إلى مجلس القضاء، فكنت لا أرى يوماً إلا وهو أفضل من الذي قبله، حتى إذا كان عند رأس الحول دخلت منزلي وإذا عجوز تأمر وتنهى، فقلت: يا زينب، من هذه؟ قالت: أمي فلانة؛ قلت: حياك الله بالسلام، قالت: أبا أمامة، كيف أنت وزوجتك؟ قلت: بخير، قالت: إن المرأة لا ترى في حال أسوأ منها خلقاً في حالين: إذا حظيت عند زوجها، وإذا ولدت غلاماً، فإن رابك منها شيء فالسوط، فإن الرجال والله ما حازت إلى بيوتها شراً من الورهاء المدلة. قلت: أشهد أنها ابنتك، قد كفيتنا الرياضة وأحسنت الأدب.
قال: فكانت في كل حول تأتينا، فتذكر هذا ثم تنصرف.
قال شريح: فما غضبت عليها قط إلا مرةً واحدةً كنت لها ظالماً فيها: كنت أمام قوم فسمعت الإقامة وقد ركعت ركعتي الفجر، فأبصرت عقرباً، فعجلت عن قتلها فأكفأت عليها الإناء، فلما كنت عند الباب قلت: يا زينب، لا تحركي الإناء حتى أجيء، فعجلت فحركت الإناء، فضربتها العقرب، وجئت فإذا هي تلوى، قلت: ما لك؟ قالت: لسعتني العقرب، فلو رأيتني يا شعبي وأنا أفرك إصبعها بالملح وأقرأ عليها المعوذتين وفاتحة الكتاب. وكان لي يا شعبي جار يقال له ميسرة، وكان لا يزال يضرب امرأته، فقلت: من الطويل:
رأَيْتُ رجالاً يضربون نساءَهم ... فشَلَّت يميني يومَ أَضربُ رَيْنَبا
يا شعبي، وددت لو أني قاسمتها عيشي.
قال حمدون بن إسماعيل: كنت حاضراً عند المأمون ببلاد الروم بعد العشاء، وبين يديه شمعة في ليلة ظلماء ذات رعود وبروق، فقال لي المأمون: اركب الآن فرس النوبة، وسر إلى عسكر أبي إسحاق، يعني المعتصم، فأد إليه رسالتي وهي كيت وكيت. قال: فركبت، فلم تثبت معي شمعة، وسمعت وقع حافر جابة، فرهبت ذلك وجعلت أتوقاه حتى صك ركابي ركاب تلك الدابة، وبرقت بارقة فأبصرت وجه الراكب، فإذا عريب، فقلت: عريب؟ فقالت: نعم، حمدون؟ قلت: نعم. ثم قلت لها: من أين أقبلت في هذا الوقت؟ قالت: من عند محمد بن حامد، قلت: وما صنعت عنده؟ قالت: يا تكش! عريب تجيء في هذا الوقت من عند محمد بن حامد خارجة من مضرب الخليفة وراجعة إليه تقول لها: أي شيء عملت معه؟! صليت معه التراويح، أو قرأت عليه أجزاء من القرآن، أو دارسته شيئاً من الفقه! يا أحمق! تحادثنا، وتعاتبنا، واصطلحنا، وشربنا، ولعبنا، وغنينا، وتنايكنا، وانصرفنا. فأخجلتني، وغاظتني، وافترقنا، ومضيت فأديت الرسالة. ثم عدت إلى المأمون، وأخذنا في الحديث وتناشد الأشعار، فهممت أن أحدثه بحديثها ثم هبته، فقلت: أقدم قبل ذلك بشيء من الشعر، فأنشدته: من الطويل:
ألا حيِّ أطلالاً لقاطعةِ الحَبْلِ ... أَلوفٍ تُساوي صالحَ القَوْمِ بالرَّذْلِ
فلو أَنَّ مَنْ أَمسى بجانبِ تَلْعَةٍ ... إلى جَبَلَيْ طيٍّ فساقطةِ الحَبْلِ
جلوسٌ إلى أَن يقصُرَ الظلُّ عندَها ... لراحوا وكلُّ القَوْمِ منها على وَصْلِ
فقال المأمون: اخفض صوتك لا تسمع عريب فتغضب وتظن أنا في حديثها، فأمسكت عما أردت أن أخبره به، وخار الله لي في ذلك.
أنشد أحمد بن يحيى: من الطويل:
أَحبُّ بلادِ الله ما بين منعجٍ ... إليَّ وسلمى أَن يصوبَ ربابُها
بلادٌ بها حلَّ الشبابُ تميمتي ... وأَوَّلُ أَرضٍ مسَّ جِلْدي تُرابُها
لما مات ضرار بن ثعلبة بن سعد ترك بنيه الشعراء الثلاثة صبياناً وهم: شماخ، ومزرد، وجزء. وأرادت أمهم - وهي أم أوس - أن تتزوج رجلاً يسمى أوساً، وكان أوس هذا شاعراً، فلما رآه بنو ضرار بفناء أمهم للخطبة، تناول شماخ حبل الدلو ثم متح وهو يقول: من الرجز:
أُمُّ أُويس نكحت أُوَيْسا
وجاء مزرد فتناول الحبل ثم قال:
أعجبها حدارةً وكيسا
وجاء جزء فتناول الحبل ثم قال:
أصدق منها لَجْبةً وتيسا
فلما سمع أوس رجز الصبيان هرب وتركها.
شاعر: من الطويل:
أَبَتْ مِصرُ إِسْعافي بما كُنْتُ أَشتهي ... وأَخلفني منها الذي كُنْتُ آمُلُ
وما كلُّ ما يخشى الفتى نازلٌ به ... وما كل ما يرجو الفتى هو نائلُ
فو الله ما فرَّطتُ في جَنْبِ حِيلةٍ ... ولكنه ما قَدَّر الله نازِلُ
وقد يسلمُ الإنسانُ من حيثُ يتَّقي ... ويُؤتى الفَتى من أَمْنِهِ وهو غافلُ
محمد بن بشير الخارجي: من الطويل:
يسعى لك المولى ذليلاً مُدَفَّعاً ... ويخذلُك المَوْلى إذا اشتَدَّ كاهِلُه
فأَمسِكْ عليك العَبْدَ أَوَّلَ وَهْلَةٍ ... ولا تَنْفَلِتْ من راحتَيْك حبائِلُهْ
وقال: من الطويل:
إذا افتقر المولى سعى لك جاهدا ... لِتَرْضى، وإن نالَ الغِنى عنك أَدْبرا
كانت أم أبان بنت عتبة بن ربيعة عند يزيد بن أبي سفيان، فمات عنها. فخطبها علي عليه السلام فردته. فقيل لها: أتردين علي بن أبي طالب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج فاطمة، وأبا الحسن والحسين، وحاله في الإسلام حاله؟ قالت: نعم، لا أوثر هواه على هواي؛ ليس لامرأته منه إلا جلوسه بين شعبها الأربع، وهو صاحب خير من النساء.
ثم خطبها عمر رضي الله عنه، فردته، فقيل لها: أتردين أمير المؤمنين الفاروق، وحاله في الإسلام حاله؟ قالت: نعم، لا أوثر هواه على هواي؛ يدخل عابساً ويخرج عابساً، ويغلق علي بابه، وأنا امرأة برزة.
ثم خطبها الزبير، فردته، فقيل لها: أتردين الزبير حواري رسول الله وابن عمته وحاله في الإسلام حاله؟ قالت: نعم، لا أوثر هواه على هواي؛ يد فيها قروني، ويد فيها فيها السوط.
ثم خطبها طلحة، فقالت: هذا زوجي حقاً، يدخل علي بساماً، إن سألت بذل وإن أعطى أجزل، وإن أذنبت غفر، وإن أحسنت شكر. فتزوجته فأولم ثم دعا هؤلاء النفر، وهي في خدرها - وكذلك كانوا يفعلون - فقال علي عليه السلام: يا أبا محمد، ائذن لي أكلم هذه؛ فقال: يا أم أبان، تستري، فتسترت. ثم رفع سجف الحجلة فقال: يا عدية نفسها! خطبتك وليس بقرشي عني رغبة بعد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرددتني، وخطبك الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته فرددته، واخترت علينا ابن الصعبة!؟ قالت: فلو وجدت نفقاً لدخلت فيه. قالت: فأحلت على الزاملة التي تحمل كل شيء فقلت: أمر قضي، وما كان ذلك بيدي. فقال: صدقت رحمك الله. أما على ذلك فقد نكحت أصبحنا وجهاً، وأسخانا كفاً، وأكرمنا للنساء صحبةً. ثم قال: يا أبا محمد، سلها عما قلت لها، فإني لم أقل إلا الذي تحب، قال: لا أسألها عنه أبداً.
قال السدي: أتيت كربلاء أبيع البز بها، فعمل لنا شيخ من طيء طعاماً وبتنا عنده، فذكرنا قتل الحسين عليه السلام، فقلت: ما شرك في قتله أحد إلا مات بأسوأ ميتة، فقال: ما أكذبكم يا أهل العراق، فأنا ممن شرك في دمه. فلم نبرح حتى دنا من المصباح وهو يتقد بنفط، فذهب يخرج الفتيلة بإصبعه، فأخذت النار فيها، فذهب يطفئها بريقه، فأخذت النار في لحيته، فعدا فألقى نفسه في الماء، فرأيته كأنه فحمة.
قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر: حدثني أبو محمد الرباطي رباط خاوة من عمل جرجان قال: كنت قباراً، فبينا أنا في منزلي إذ طرقني ليلاً ركب يستعجلونني، فخرجت فإذا أنا بشموع وخدم، فأمروني بالحفر، فحفرت قبراً وأودعوه تابوتاً، وعفيت عليه بالتراب، وأجالوا عليه الخيل تغويراً للموضع وانصرفوا. فظننت أنه كنز، فأسرعت فنبشته وكشفت عن التابوت، فإذا فيه رجلاً، فوضعت يدي على أنفه فإذا هو قريب من التلف، فاستخرجته وأعدت التراب إلى ما كان عليه. واحتملته إلى منزلي.
وعاد القوم حذراً من أن أكون قد نبهت على ما في التابوت، ونفضوا الصحراء التي كان فيها فلم يروا أثراً ولا حساً لأحد، وأنا مشرف في منزلي أرى ما يصنعون. فلما أمنوا مما توهموا انصرفوا وترادت نفس الرجل، فسألته عن حاله، فقال: أنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي. فأقام عندي إلى أن قويت نفسه وتراجعت. ثم شخص إلى العراق، ثم سار إلى الحجاز، وظهر باليمن وبويع له بإمرة أمير المؤمنين، ودخل مكة ثم خرج على عهد، وبايع المأمون لابن أخيه علي بن موسى بالعهد، فخرج محمد إلى المأمون بخراسان، فأدركته منيته بجرجان، فاحتفرت له ودفنته. فكان بين الدفنين عشر سنين.
خرج أبو العيناء وهو ضرير له نيف وتسعون سنةً في سفينة فيها ثمانون نفساً، فغرقت، فلم يسلم غيره، فما صار إلى البصرة توفي بها.
قالوا: بينا حذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي يتذاكران عجائب الزمان وتغير الأحوال والأيام وهما في عرصة إيوان كسرى، وكان أعرابي من غامد يرعي شويهات له نهاراً، فإذا كان الليل صيرهن إلى داخل العرصة، وفي العرصة سرير رخام ربما كان يجلس كسرى عليه، فصعدت شويهات الغامدي إلى ذلك السري، فقال سلمان: ومن أعجب ما تذاكرنا صعود غنيمات الغامدي إلى إيوان كسرى.
يقال إن المغيرة بن شعبة قال لحرقة بنت النعمان: ما أعجب ما رأيت فقالت: بتنا ليلةً وما من أحد إلا وهو يرجونا أو يخشانا، وأصبحنا وما من أحد إلا وهو يرحمنا ثم قالت: من الطويل:
فبينا نسوسُ الناسَ والأَمْرُ أَمرُنا ... إذا نحنُ فيهم سُوقَةٌ نتنصَّفُ
فأُفٍّ لدنيا لا يدوم نَعيمُها ... تَقَلَّبُ حالاتٍ بنا وتَصَرَّفُ
دخل إيتاخ إلى الواثق وهو بآخر رمق لينظر: هل مات أم لا؟ فلما دنا منه نظر إليه الواثق بمؤخر عينه، ففزع إيتاخ ورجع القهقرى إلى أن وقع سيفه في شق الباب فاندق وسقط إيتاخ على قفاه هيبةً لنظرة الواثق إليه. فلم تمض ساعة حتى مات، فعزل في بيت ليغسل واشتغل عنه؛ فجاءت هرة فأكلت عينه التي نظر بها إلى إيتاخ، فعجب الناس من ذلك، وكان إيتاخ زعيماً لتسعين ألف غلام.
ومثله لسان مروان بن محمد، فإنه لما قتل واحتزوا رأسه وأرادوا إنفاذه إلى أبي العباس، أمروا بتنظيفه، فجاء كلب فأخذ لسانه فجعل يمضغه، فقال عبد الله بن علي: لو لم يرنا الدهر من عجائبه إلا لسان مروان في فم كلب لكفى.
ووجد في بعض الأوارجات السلطانية: وما حمل إلى الأمير أبي الفضل جعفر بن يحيى أعزه الله لهدية السرور من العين الطري مائة ألف دينار. وفي آخر الحساب: وما أخرج لثمن النفط والبواري والحطب لإحراق جثة جعفر ابن يحيى بضعة عشر درهماً.
خبر المغيرة بن شعبة حين شهد عليه بالزنا.
كان المغيرة بن شعبة الثقفي أميراً على الكوفة في خلافة عمر رضوان الله عليه، وكان من دهاة العرب ورجالها. فروي أنه كان يخرج من دار الإمارة وسط النهار، فيلقاه أبو بكرة فيقول له: أين يذهب الأمير؟ فيقول له: إلى حاجة، فيقول له: حاجة ماذا؟ إن الأمير يزار ولا يزور. وكانت المرأة التي يأتيها جارة لأبي بكرة، وقيل: إنها بنت جميل بن عمرو.
قيل: فبينا أبو بكرة في غرفة له مع اخوته نافع وزياد ورجل آخر يقال له: شبل بن معبد، وكانت غرفة جارته بحذاء غرفة أبي بكرة، فضربت الريح باب المرأة ففتحته فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها، فقال أبو بكرة: هذه بلية ابتليتم بها، فانظروا، فنظروا حتى أثبتوا. فنزل أبو بكرة حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة فقال: إنه قد كان من أمرك ما قد علمت، فاعتزلنا. قال: وذهب ليصلي بالناس الظهر فمنعه أبو بكر وقال: والله ما تصلي بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال الناس: دعوه يصلي فإنه الأمير، واكتبوا بذلك إلى عمر؛ فكتبوا إليه، فورد كتابه بأن يقدموا عليه جميعاً: المغيرة والشهود. وقيل: بعث عمر بأبي موسى الأشعري على البصرة، وعزم عليه أن لا يصنع كتابه من يده حتى يرحل المغيرة بن شعبة.
وقيل: إن أبا موسى قال لعمر لما أمره أن يرحله من وقته: أو خير من ذلك، يا أمير المؤمنين، تتركه يتجهز ثلاثاً ثم يخرج. قال: فدخل أبو موسى المسجد وهم يصلون: الرجال والنساء مختلطين، فدخل رجل على المغيرة فقال له: إني رأيت أبا موسى في جانب المسجد عليه برنس، فقال المغيرة: ما جاء زائراً ولا تاجراً. فدخل عليه ومعه صحيفة مثل هذه. فلما رآه قال: أمير؟ فأعطاه أبو موسى الكتاب. فلما ذهب يتحرك عن سريره قال أبو موسى: مكانك! تجهز ثلاثاً. وقيل: بل أمره أن يرحل من وقته على اختلاف الرواية فيما أمره به عمر.
فقال له المغيرة: قد علمت ما وجهت له، فهلا تقدمت فصليت؟ فقال له أبو موسى: ما أنا وأنت في هذا الأمر إلا سواء. فقال له المغيرة: إني أحب أن أقيم ثلاثاً لأتجهز، فقال: قد عزم علي أمير المؤمنين ألا أضع عهدي من يدي إذا قرأته حتى أرحلك إليه. قال: إن شئت شفعتني وأبررت قسم أمير المؤمنين بأن تؤجلني إلى الظهر وتمسك الكتاب بيدك. قال: فلقد رؤي أبو موسى مقبلاً ومدبراً وإن الكتاب في يده معلق بخيط. فتجهز المغيرة، وبعث إلى أبي موسى بعقيلة جارية عربية من سبي اليمامة من بني حنيفة، وقيل: إنها كانت من مولدة الطائف ومعها خادم.
وسار المغيرة حين صلى الظهر حتى قدم على عمر رضي الله عنه. فلما قدم عليه قال: إنه شهد عليك بأمر إن كان حقاً لأن تكون مت قبل ذلك كان خيراً لك. وجلس.
ودعي بالمغيرة والشهود، فتقدم أبو بكرة، فقال: أرأيته بين فخذيها؟ قال: نعم، والله لكأني أنظر إلى تثريم جدري بفخذيها. فقال له المغيرة: لقد ألطفت النظر، فقال له: لم آل أن أتيت بما يخزيك الله به، فقال له عمر: لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة، قال: نعم، أشهد على ذلك. قال: اذهب عنك، مغيرة، ذهب ربعك!.
ثم دعا نافعاً فقال: على ما تشهد؟ قال: على مثل شهادة أبي بكرة، قال: لا، حتى تشهد أنه يلج فيها ولوج المرود في المكحلة، فقال: نعم حتى بلغ قذذه، قال: اذهب عنك، مغيرة، ذهب نصفك! ثم دعا الثالث، فقال: علام تشهد؟ قال: على مثل شهادة صاحبي.
فقال علي عليه السلام: اذهب عنك، مغيرة، ذهب ثلاثة أرباعك. قال: حتى بكى إلى المهاجرين فبكوا، وبكى إلى أمهات المؤمنين حتى بكين معه، وحتى لا يجالس هؤلاء الثلاثة أحد من أهل المدينة. ثم كتب إلى زياد، فقدم على عمر، فلما رآه جلس له في المسجد، فاجتمع عنده رؤوس المهاجرين والأنصار.
قال المغيرة: ومعي كلمة قد رفعتها لأحكم القوم. فلما رآه عمر مقبلاً قال: إني أرى رجلاً لن يخزي الله على لسانه رجلاً من المهاجرين. قال المغيرة فقلت: لا مخبأ لعطر بعد عروس؛ ثم قمت فقلت: يا زياد، اذكر الله واذكر موقف يوم القيامة فإن الله وكتابه ورسله وأمير المؤمنين قد احتقنوا دمي إلا أن تتجاوز إلى ما لم تر ما رأيت، أين مسلك ذكري منها؟ قال: فرفعت عيناه واحمر وجهه وقال: يا أمير المؤمنين، أما إن أحق ما حق القوم فليس عندي، ولكني رأيت مجلساً قبيحاً، وسمعت نفساً حثيثاً وانبهاراً، ورأيته متبطنها. فقال له: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة؟ فقال: لا. فقال عمر: الله أكبر، قم إليهم فاضربهم. فقام إلى أبي بكرة وضربه ثمانين، وضرب الباقين. وأعجب عمر قول زياد، ودرأ عن المغيرة الحد. فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: فإني أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا، فأمر عمر بضربه، فقال له علي: إن ضربته رجمت صاحبك، ونهاه عن ذلك. يعني إن ضربه جعل شهادته شهادتين، فوجب لذلك الرجم على المغيرة.
وحدث عبد الكريم بن رشيد عن أبي عثمان النهدي قال: لما شهد عند عمر الأول تغير لذلك لون عمر، ثم جاء فشهد، فانكسر لذلك انكساراً شديداً، ثم جاء رجل شاب يخطر بين يديه، فرفع عمر رأسه إليه وقال: ما عندك يا سلح العقاب؟ - فصاح أبو عثمان صيحةً تحكي صيحة عمر - قال عبد الكريم: لقد كدت أن يغشى علي.
واستتاب عمر أبا بكرة، قال: إنما تستتيبني لتقبل شهادتي؟ قال أجل؛ قال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا.
قال: فلما ضربوا الحد قال المغيرة: الله أكبر، الحمد لله الذي أخزاكم، فقال له عمر: أخزى الله مكاناً رأوك فيه. وأقام أبو بكرة على قوله وكان يقول: والله لا أنسى رقط فخذيها، وتاب الاثنان فقبل شهادتهما. وكان أبو بكرة بعد ذلك إذا دعي إلى شهادة قال: اطلب غيري فإن زياداً أفسد علي شهادتي.
ولما ضرب أبو بكرة أمرت أمه بشاة، فذبحت، وجعلت جلدها على ظهره، فكان يقال: ما ذلك إلا من ضرب شديد.
وكان عمر رضي الله عنه يقول للمغيرة: والله ما أظن أن أبا بكرة كذب عليك، وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء.
وروي أن علياً عليه السلام قال: لئن لم ينته المغيرة لأتبعنه أحجاره.
وقال حسان بن ثابت يهجو المغيرة: من الوافر:
لو أنَّ اللؤمَ يُنسبُ كان عبداً ... قَبيحَ الوَجْهِ أَعْوَرَ من ثَقيفِ
تركْتَ الدينَ والإسلامَ لمّا ... بَدَتْ لك غُدْوَةً ذاتُ النصيفِ
فراجعتَ الصِّبا وذكرْتَ لَهْواً ... من الفتيانِ والعمر اللطيفِ
ولما شخص المغيرة إلى عمر، رأى في طريقه جاريةً فأعجبته، فخطبها إلى أبيها فقال له: أنت على هذه الحال! فقال له: وما عليك، إن أعف فهو الذي تريد، وإن قتل ترثني، فزوجه.
قال الواقدي: تزوجها بالرقم، وهي امرأة من بني مرة. فلما قدم بها على عمر قال: إنك لفارغ القلب طويل الشبق.
خبر ادعاء معاوية زياداً.
كان زياد عامل علي عليه السلام على فارس فلما قتل تمسك بعمله ولم يدع إلى معاوية؛ فقلق معاوية بأمره، وهونه عنده المغيرة بن شعبة، فقال: بئس المركب الغرور زياد وقلاع فارس. فقال معاوية: ما يؤمنني أن يدعو إلى رجل من أهل هذا البيت فإذا هو قد أعادها جذعة. فسعى المغيرة في أمره وقصده إلى فارس وأصلحه لمعاوية.
ولما أراد أن يدعيه بعث إلى عبد الله بن عامر بن كريز وعبد الله بن خالد بن أسيد وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم، فقال: إنكم أسرتي وقرابتي، ولقد أردت أمراً لم يفتأني عنه إلا التوبيخ أو طعن طاعن علي أن يثلبني، والله أحق من راقب المرء وأطاعه، فإنه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. وقال: واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام.؛
هذا زياد أردت أن ألحقه بنسبه وأنسبه إلى أبيه أبي سفيان، فما ترون؟ فقال مروان بن الحكم: أعيذك بالله أن تسم هذا بأنفك، أو يكون هذا من رأيك، أو ترد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر. وأنت تريد أن تجعل للعاهر الولد وللفراش الحجر. ثم قال: هات ما عندك يا ابن كريز، قال أرى أن لا تدعيه فإنه لم يدع رجل قط رجلاً إلا مات المدعي وبقي الدعي. قال: فما عندك يا ابن أسيد قال: أرى إن كنت إنما تدعيه لتعتز به فإن الله جل وتقدس لم يكن يعز سلطانه برجل دعي، والعرب أطوع لك، ولو لم تكره ذلك إلا ليقول قائل: إنما ادعى زياداً لحاجته إليه مع إحداثك في الإسلام من هذه الخصلة لما لم يسبقك إليها أحد من السلف. ثم قال: ما عندك يا ابن العاص؟ قال: أرى أن تدعيه بشهادة شهود، فإن كان ابن سفيان فقد ألحقته بأبيه، وإن لم يكن فإنما إثمه على الشهود، وتستعين به فيما أنت فيه. قال معاوية: أنت أنصحهم جيباً وآمنهم غيباً، صدقت، أخرجوا المنبر ونادوا الصلاة جامعة. فاجتمع الناس لذلك، وحضرت الشهود وهم المستورد الثقفي وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وجلس زياد إلى جانب المنبر. فبدأ معاوية بالمستورد فقال: قم فاشهد بما علمت. فقال: أشهد أن أبا سفيان قدم الطائف فيما كان يبتاع من الأدم وغير ذلك، وأتانا آت ونحن في مجلسنا فقال: هذه جارية الحارث بن كلدة قد أدخلت على أبي سفيان، وأغلق دونها الباب؛ فبعثنا من نظر في ذلك فكان الخبر كما أخبرنا، فحسبنا من ذلك اليوم فلم يمض إلا شهر حتى مرت بنا وقد اصفر لونها . ، فولدت زياداً لتمام تسعة أشهر من ذلك اليوم الذي أخبرنا فيه.
وشهد غيره بمثل ذلك. وقال لأبي مريم: اشهد بما علمت. قال: إنكم إن أعفيتموني كان أحب إلي، وإن أبيتم إلا أن أشهد أتيت بالشهادة على وجهها؛ قد علم من حضر الطائف أن أبا سفيان كان خلا لي وأنه إنما قدم الطائف علي حتى نظعن؛ فقدم علي قدمته تلك. فقال: يا أبا مريم إني قد تغربت منذ أشهر، فابغ لي امرأةً، فقلت: أتتزوج؟ فقال: لا أقدر على ذلك مع ابنة عتبة. فقلت: إني لا أقدر عليها إلا مومسةً، قال: لا أبالي بعد أن تكون وضيئة؛ فأتيته بسمية؛ قال، قلت: لا أقدر عليها إلا أمةً، قال: لا أبالي وأريدها وضيئة، فأتيته بسمية جارية الحارث بن كلدة - ولا أعرف يومئذ بالطائف جاريةً أشهر منها بالفجور. فدعوتها وأعلمتها بحال أبي سفيان، فقلت: لئن أصبت منه ولداً لم تزالي في علية ما بقيت. فأسمحت حتى أخذ بكم درعها، فدخلا البيت فلم يلبث أن خرج علي يمسح جبينه؛ فقلت: مهيم، فقال: ما أصبت مثلها يا أبا مريم لولا استرخاء في ثديها وذفر في رفغيها.
قال: فقال زياد: لا تسب أمهات الرجال فتشتم أمك، إنما أنت شاهد.
ويقال إن زياداً قال: ما هذا! إنما دعيت شاهداً، ولم تدع شاتماً!.
قال أبو مريم: قد جهدت أن تعفوني فلما أبيتم شهدت بما رأيت وعاينت.
وقال: يا سعيد اشهد بما رأيت قال: رأيت زياداً يخطب - وقدم من عند أبي موسى في زمن عمر بن الخطاب - فتعجب الناس من منطقه، فقال أبو سفيان وأنا إلى جنبه: من هذا المتكلم إني لأعرف فيه منطق آل حرب.
فقلت: هذا زياد بن عبيد فقال: لولا مخافتي عمك أن يعبث بي ويعنفني لأخبرتك أنه لم يضعه في رحم أمه غيري.
فوثب يونس بن سعيد بن زيد مولى زياد فقال: الله الله يا معاوية في مولاي أن تغلبني عليه، ما كان كما قلت، إنه عبد لعمتي صفية، ولكن أعتقته، فلم تستحل أن تأخذ منها مولاها؟ فقال معاوية: لتنتهين يا يونس أو لأطيرن بك طيرةً بعيداً وقوعها. فقال يونس: هي إلى الله ثم نقع.
قال: ثم إن زياداً كان على العراق، فكتب إلى معاوية: إني قد أخذت العراق بيميني وشمالي فارغة؛ وهو يعرض بالحجاز يرجو أن يضمها إليه مع العراق، فلم يرجع إليه جواب كتابه حتى مات.