كتاب : البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف : بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي

قُلْت وقد يُرَاعِي الشَّافِعِيُّ الْخِلَافَ الْمُشَدَّدَ على نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ وَلِهَذَا لَمَّا قَرَّرَ الْقَصْرَ على مَرْحَلَتَيْنِ قال فَأَمَّا أنا فَأُحِبُّ أَنْ لَا أَقْصُرَ في أَقَلَّ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ احْتِيَاطًا على نَفْسِي قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وهو كَقَوْلِهِ إذَا مَرِضَ الْإِمَامُ أَنَّهُ يُصَلِّي قَاعِدًا وَالنَّاسُ قِيَامٌ خَلْفَهُ ولَا أُفَضِّلُ له أَنْ يَسْتَخْلِفَ من يُصَلِّي بِهِمْ حتى يَخْرُجَ من الْخِلَافِ وَلَهُ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ على أَنَّ الْإِبْيَارِيَّ اسْتَشْكَلَ اسْتِحْبَابَ الْخُرُوجِ من الْخِلَافِ فإن الْأُمَّةَ إذَا اخْتَلَفَتْ على قَوْلَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ التَّرْكَ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّوَابِ وَالْفِعْلُ جَائِزٌ قَوْلٌ لم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ نعم الْوَرَعُ يَلِيقُ بِهِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ عَيْنَ الْخِلَافِ لَا يَنْتَصِبُ شُبْهَةً وَلَا يُرَاعَى بَلْ النَّظَرُ إلَى الْمَأْخَذِ وَقُوَّتِهِ قال الرُّويَانِيُّ في بَابِ الشَّهَادَاتِ من الْبَحْرِ لو كان الْخِلَافُ بِنَفْسِهِ يَنْتَصِبُ شُبْهَةً لَاسْتَوَتْ الْمَسْأَلَتَانِ يَعْنِي مَسْأَلَةَ إيجَابِ الْحَدِّ على الْحَنَفِيِّ بِشُرْبِ النَّبِيذِ وَشَهَادَتِهِ وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ في الدَّلَائِلِ الثَّانِي لو كان الزَّوْجَانِ مُجْتَهِدَيْنِ فَخَاطَبَهَا الزَّوْجُ بِلَفْظَةٍ نَوَى بها الْكِنَايَةَ في الطَّلَاقِ وَلَا نِيَّةَ وَتَرَى الْمَرْأَةُ أنها صَرِيحَةٌ فيه فَلِلزَّوْجِ طَلَبُ الِاسْتِمْتَاعِ بها وَلَهَا الِامْتِنَاعُ منه عَمَلًا مع كُلٍّ مِنْهُمَا بِمُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ وَطَرِيقُ قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا أَنْ يُرَاجِعَا مُجْتَهِدًا آخَرَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ سَوَاءٌ قُلْنَا الْمُصِيبُ وَاحِدٌ أَمْ كُلٌّ مُصِيبٌ فَإِنْ كَانَا مُقَلِّدَيْنِ قَلَّدَ من شَاءَ فَإِنْ اخْتَلَفَا يُخَيَّرُ إنْ اسْتَوَيَا وَإِلَّا فَيُقَلِّدُ الْأَعْلَمَ وَالْأَوْرَعَ وَإِنْ كانت تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ عَمِلَ بِمَا قُلْنَا في الْمُجْتَهِدِينَ هَكَذَا قال في الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ وَأَمَّا الْقَاضِي فذكر في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ أَنَّ من الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ من صَارَ في هذه الصُّورَةِ إلَى الْوَقْفِ حتى يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي فَعَلَى هذا يَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ فيها هو الْوَقْفُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حتى يَرْفَعَ أَمْرَهَا إلَى الْقَاضِي فَيَنْزِلَهَا على اعْتِقَادِ نَفْسِهِ وَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ حِينَئِذٍ وَمِنْهُمْ من قال تُسَلَّمُ الْمَرْأَةُ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَإِنْ نَكَحَهَا نِكَاحًا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ وهو السَّابِقُ بِهِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هذا هو الْحُكْمُ قال وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَأَمْثَالُهَا من الْمُجْتَهِدَاتِ وَفِيهَا تَقَابُلُ الِاحْتِمَالَاتِ فَيَجْتَهِدُ الْمُجْتَهِدُ فيها عِنْدَنَا وما أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَهُوَ حَقٌّ من وَقْفٍ أو تَقْدِيمٍ أو غَيْرِهِمَا من وُجُوهِ الْجَوَابِ

الثَّالِثُ وَلَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ وَإِلَّا يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ النَّقْضِ وَيَتَسَلْسَلُ فَتَضْطَرِبُ الْأَحْكَامُ وَلَا يُوثَقُ فيها فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ خَالَعَ امْرَأَتَهُ وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ فَتَزَوَّجَهَا الرَّابِعَةَ بَعْدَ ذلك بِمُقْتَضَى هذا الِاعْتِقَادِ من غَيْرِ مُحَلِّلٍ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَأَدَّاهُ إلَى أَنَّهُ طَلَاقٌ فَإِنْ تَغَيَّرَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمُقْتَضَى الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ لم يَنْقَضِ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي بَلْ يَبْقَى على النِّكَاحِ وَإِنْ تَغَيَّرَ قبل الْقَضَاءِ بِالصِّحَّةِ وَجَبَ عليه مُفَارَقَتُهَا لِأَنَّ الْمُصَاحِبَ الْآنَ قَاضٍ بَانَ اجْتِهَادُهُ الْأَوَّلُ خَطَأً فَيُعْمَلُ بِهِ وَلَيْسَ هذا نَقْضَ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ بَلْ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ هَكَذَا ذَكَرَهُ في الْمُسْتَصْفَى وَالْمَحْصُولِ وَالْمِنْهَاجِ وَقَوْلُهُ في الْحَاكِمِ مَبْنِيٌّ على أَنَّ حُكْمَهُ يَنْفُذُ بَاطِنًا وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ من فِرَاقِهِ إيَّاهَا نَقْضُ حُكْمِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ هذا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْرِهِ في خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عن الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَسْرِيحُهَا ولم يذكر هذا التَّفْصِيلَ ثُمَّ قال وَأَبْدَى تَرَدُّدًا فِيمَا إذَا فَعَلَ الْمُقَلِّدُ مِثْلَ ذلك ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلَّدِهِ قال وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجَوَابَ كَذَلِكَ لو تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُقَلِّدِ في الصَّلَاةِ فإنه يَتَحَوَّلُ وَهَذَا الذي قَالَهُ الْغَزَالِيُّ نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عن الصَّيْمَرِيِّ وَالْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ قال وَلَا نَعْلَمُ فيه خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا هذا فِيمَا إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ في حَقِّ نَفْسِهِ فَلَوْ تَغَيَّرَ في حَقِّ غَيْرِهِ كما لو أَفْتَى مُقَلِّدُهُ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْمُخْتَلِعَةِ ثَلَاثًا وَنَكَحَهَا الْمُقَلِّدُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ قال في الْمَحْصُولِ وَالْإِحْكَامِ وَتَبِعَهُ الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجِبُ عليه تَسْرِيحُهَا كما في حَقِّ نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ بِخِلَافِ قَضَاءِ الْقَاضِي فإنه مَتَى اتَّصَلَ بِالْحُكْمِ الْمُجْتَهَدِ فيه اسْتَقَرَّ ولم يَكُنْ له النَّقْضُ عِنْدَ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ وقال صَاحِبُ الْمَحْصُولِ لو نَكَحَ رَجُلٌ نِكَاحًا في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ اسْتَفْتَى فَأَفْتَاهُ بِالْإِفْسَادِ فَهَلْ تَبِينُ الْمَرْأَةُ على الزَّوْجِ لِمُجَرَّدِ الْفَتْوَى فيه وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا نعم وَالثَّانِي لَا حتى يَقْضِيَ الْقَاضِي قُلْت وَحَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في النِّهَايَةِ في بَابِ الِامْتِنَاعِ عن الْيَمِينِ عن رِوَايَةِ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ قال وَذَكَرَ وَجْهًا ثَالِثًا مُفَصَّلًا فقال إنْ صَحَّحَ النِّكَاحُ قَاضٍ فَالْفَتْوَى لَا تَرْفَعُهُ وَإِنْ لم يَتَّصِلْ تَصْحِيحُهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ ارْتَفَعَ بِالْفَتْوَى وَحَكَاهَا الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا في

بَابِ عَدَدِ الشُّهُودِ قال وَهَذَا إذَا اعْتَمَدَ في الْعَقْدِ الْفَتْوَى فَلَوْ كان الْحَاكِمُ مُتَوَلِّيَهُ لم يَرْتَفِعْ إلَّا بِحُكْمِهِ وَخَصَّ الْخِلَافَ بِمَا إذَا لم يَكُونَا مُجْتَهِدَيْنِ فَإِنْ كان الزَّوْجَانِ مُجْتَهِدَيْنِ وَاخْتَلَفَا فَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَجَزَمَ ابن السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا أَفْتَاهُ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَا يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُ الْمُسْتَفْتَى بِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ إذَا كان قد عَمِلَ بِهِ وَإِلَّا فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهُ إنْ تَمَكَّنَ منه لِأَنَّ الْعَامِّيَّ إنَّمَا يَعْمَلُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ وقد خَرَجَ عن ذلك فَيَنْبَغِي أَنْ يُخْبِرَهُ عن قَوْلِهِ وَلَوْ قال مُجْتَهِدٌ لِلْمُقَلِّدِ وَالصُّورَةُ هذه أَخْطَأَ بِهِ من قَلَّدْتَهُ فَإِنْ كان الذي قَلَّدَهُ أَعْلَمَ فَهُوَ كما لو تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ مُقَلِّدِهِ وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ له قال النَّوَوِيُّ وَهَذَا ليس بِشَيْءٍ بَلْ الْوَجْهُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَلَا أَثَرَ لِقَوْلِ الثَّانِي الرَّابِعُ حَيْثُ كانت حُجَّةُ الْحُكْمِ قَطْعِيَّةً فَالْمُخْتَارُ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ إذَا وَقَعَ بِخِلَافِهِ يُنْتَقَضُ بِخِلَافِ الظَّنِّيَّةِ وَقِيلَ في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَعَلَى هذا قَوْلُ من يَجْعَلُ على الْحَاكِمِ دَلِيلًا قَاطِعًا وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ قال لَا يُنْقَضُ في شَيْءٍ من الْأَحْكَامِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ في الِاجْتِهَادِيَّاتِ وَإِنْ قُلْنَا الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ وَمِنْهُ ما لو حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ لِدَلِيلٍ أو أَمَارَةٍ ثُمَّ ظَهَرَ له أَمَارَةٌ تُسَاوِي الْأُولَى وَكَذَا ما هو أَرْجَحُ من الْأُولَى لَكِنْ لَا يَنْتَهِي إلَى ظُهُورِ النَّصِّ وَإِنْ كان لو قَارَنَ لَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ لِأَنَّ الرُّجْحَانَ حَاصِلٌ حَالَ الْحُكْمِ أَمَّا لو ظَهَرَ نَصٌّ أو إجْمَاعٌ أو قِيَاسٌ جَلِيٌّ بِخِلَافِهِ نُقِضَ هو وَغَيْرُهُ لِأَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ فلم يَنْقُضْهُ الظَّنُّ وَإِنَّمَا نُقِضَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ على تَقْدِيمِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ على الِاجْتِهَادِ فَهُوَ آمِرٌ لو قَارَنَ الْعِلْمَ بِهِ لَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ قَطْعًا فَكَذَلِكَ نُقِضَ بِهِ قال ابن الرِّفْعَةِ وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالنَّصِّ الذي يُنْتَقَضُ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي إذَا خَالَفَهُ هو الظَّاهِرُ خَاتِمَةٌ مَضَى الْكَلَامُ على الْخِلَافِ في الْعَقَائِدِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَهَكَذَا اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْكُلَّ مُصِيبٌ لِصِحَّةِ الْكُلِّ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَخِلَافُهُمْ إنَّمَا هو في الِاخْتِيَارِ وَمَنْ قَرَأَ عن إمَامٍ لَا يَمْنَعُ الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْحَقَّ في الْقِرَاءَاتِ كُلِّهَا ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ قال وَلَيْسَتْ كَالْأَحْكَامِ لِأَنَّهَا غَيْرُ

مُتَضَادَّةٍ وَأَحْكَامُ الْقِرَاءَاتِ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بها مَعًا في زَمَنٍ وَاحِدٍ وَنَظِيرُ قِرَاءَةِ وما هو على الْغَيْبِ بِظَنِينٍ وما هو على الْغَيْبِ بِضَنِينٍ نَظِيرُ من قال هو حَلَالٌ وقال الْآخَرُ هو مِثْلُهُ لَا نَظِيرَ من قال هو حَلَالٌ وقال الْآخَرُ هو حَرَامٌ

التَّقْلِيدُ مَأْخُوذٌ من الْقِلَادَةِ التي يُقَلِّدُ غَيْرَهُ بها وَمِنْهُ قَلَّدْت الْهَدْيَ فَكَأَنَّ الْحُكْمَ في تِلْكَ الْحَادِثَةِ قد جُعِلَ كَالْقِلَادَةِ في عُنُقِ من قُلِّدَ فيه وَاخْتَلَفُوا في حَقِيقَتِهِ هل هو قَبُولُ قَوْلِ الْقَائِلِ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ من أَيْنَ قَالَهُ أَيْ من كِتَابٍ أو سُنَّةٍ أو قِيَاسٍ أو قَبُولِ الْقَوْلِ من غَيْرِ حُجَّةٍ تَظْهَرُ على قَوْلِهِ وَجَزَمَ الْقَفَّالُ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ بِالْأَوَّلِ وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ في تَعْلِيقِهِ وَالْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ بِالثَّانِي وَعَلَيْهِ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وَتَنْبَنِي عَلَيْهِمَا مَسْأَلَتَانِ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَنَّ الْعَمَلَ بِقَوْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم هل يُسَمَّى تَقْلِيدًا وَفِيهِ وَجْهَانِ فَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي فَلَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا لِأَنَّهُ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نَفْسُ الْحُجَّةِ كَذَا قال ابن الْقَطَّانِ وَغَيْرُهُ وَتَرَدَّدَ فيه ابن دَقِيقِ الْعِيدِ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالسَّبَبِ الذي قِيلَ فيه خُصُوصُ ذلك السَّبَبِ وَعَيْنِهِ فَهَذَا مُتَوَجِّهٌ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ اتِّبَاعُهُمْ تَقْلِيدًا وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَمْرٌ أَعَمُّ من هذا فَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَجْتَهِدُونَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ سَبَبَ أَقْوَالِهِمْ الْوَحْيُ فَلَا يَكُونُ تَقْلِيدًا أَيْضًا على الْأَوَّلِ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُمْ يَجْتَهِدُونَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ السَّبَبَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا الْوَحْيُ أو الِاجْتِهَادُ وَعَلَى كل تَقْدِيرٍ فَقَدْ عَلِمْنَا السَّبَبَ وَاجْتِهَادُهُمْ مَعْلُومُ الْعِصْمَةِ قُلْت وَيَشْهَدُ له أَنَّ الْقَفَّالَ بَنَى الْخِلَافَ في تَسْمِيَتِهِ مُقَلِّدًا على الْخِلَافِ في أَنَّهُ هل كان عليه السَّلَامُ يقول عن قِيَاسٍ فَإِنْ كان يَقُولُهُ وهو الْأَصَحُّ فَيُقَلَّدُ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَقَالَهُ عن وَحْيٍ أو قِيَاسٍ وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَلَيْسَ بِتَقْلِيدٍ وقال الْقَاضِي الْحُسَيْنُ في التَّعْلِيقِ لَا خِلَافَ أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ غَيْرِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم من الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُسَمَّى تَقْلِيدًا وَأَمَّا قَبُولُ قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ فَهَلْ يُسَمَّى تَقْلِيدًا وَجْهَانِ يَنْبَنِيَانِ على الْخِلَافِ في حَقِيقَةِ التَّقْلِيدِ مَاذَا قُلْت وَذَكَرَ الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ في الْمَسْأَلَةِ في أَوَّلِ السِّلْسِلَةِ أَنَّ الذي نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يُسَمَّى تَقْلِيدًا فإنه قال في حَقِّ الصَّحَابِيِّ لَمَّا ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ ما نَصُّهُ فَإِمَّا أَنْ يُقَلِّدَهُ فلم يَجْعَلْ اللَّهُ ذلك لِأَحَدٍ بَعْدَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم

انْتَهَى وَخَطَّأَ الْمَاوَرْدِيُّ من قال إنَّهُ ليس بِتَقْلِيدٍ وَلَكِنْ قال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ أَطْلَقَ الشَّافِعِيُّ على جَعْلِ الْقَبُولِ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم تَقْلِيدًا ولم يُرِدْ حَقِيقَةَ التَّقْلِيدِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْقَبُولَ من السُّؤَالِ عن وَجْهِهِ وفي وُقُوعِ اسْمِ التَّقْلِيدِ عليه وَجْهَانِ قال وَالصَّحِيحُ من الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ هذا الِاسْمُ وفي هذا إشَارَةٌ إلَى رُجُوعِ الْخِلَافِ إلَى اللَّفْظِ وَبِهِ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وقال هو اخْتِلَافٌ في عِبَارَةٍ يَهُونُ مَوْقِعُهَا عِنْدَ ذَوِي التَّحْقِيقِ وَاخْتَارَ ابن السَّمْعَانِيِّ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا بَلْ هو اتِّبَاعُ شَخْصٍ لِأَنَّ الدَّلِيلَ قد قام في أَنَّ له حُجَّةً فَلَا يَكُونُ قَبُولُ قَوْلِهِ قَبُولَ قَوْلٍ في الدِّينِ من قَائِلِهِ بِلَا حُجَّةٍ وَأَغْرَبَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ فَنَقَلَ الْإِجْمَاعَ على أَنَّ الْآخِذَ بِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالرَّاجِعَ إلَيْهِ ليس بِمُقَلِّدٍ بَلْ هو صَائِرٌ إلَى دَلِيلٍ وَعِلْمٍ يَقِينٍ فَأَمَّا كَوْنُهُ صَائِرًا إلَى دَلِيلٍ وَعِلْمٍ يَقِينٍ فَلَا رَيْبَ فيه وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا فَمَرْدُودٌ بِالْخِلَافِ السَّابِقِ وقد قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ سِوَى النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَهَذَا نَصٌّ في أَنَّ الرَّسُولَ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُقَلَّدُ بَلْ وفي أَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ سِوَاهُ وَأَمَّا الْقَاضِي فإنه أَوَّلَ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وقال لَعَلَّهُ أَرَادَ بِتَقْلِيدِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ ليس لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ له من أَيْنَ قُلْت وَلَا لِمَ قُلْت ثُمَّ قال فَإِنْ كان أَرَادَ هَكَذَا فَكَذَا أَيْضًا جاء في الْعَامِّيِّ مع الْمُجْتَهِدِ فإنه لَا يَسْأَلُهُ من أَيْنَ قُلْت وإذا لم يَكُنْ الْعَامِّيُّ عنه مُقَلِّدًا فَلَا يَكُونُ أَيْضًا هذا كَذَلِكَ وَهَذَا الذي قَالَهُ الْقَاضِي مَمْنُوعٌ بَلْ الْأَصْحَابُ اخْتَلَفُوا في كَلَامِ الشَّافِعِيِّ على طُرُقٍ أَحَدُهَا تَأْوِيلُ من اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا تَقْلِيدَ في اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَلَا في اتِّبَاعِ الْعَامِّيِّ الْمُجْتَهِدَ وَرَأْسُ هذه الطَّائِفَةِ الْقَاضِي وقد أَوَّلَهُ كما رَأَيْت وَتَبِعَهُ الْغَزَالِيُّ وَاتَّفَقَتْ هذه الطَّائِفَةُ على الِاعْتِضَادِ بهذا النَّصِّ من الشَّافِعِيِّ على أَنَّ اتِّبَاعَ الْعَامِّيِّ الْمُجْتَهِدَ ليس بِتَقْلِيدٍ فَجَرَتْ على ظَاهِرِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ في الْمُسْتَثْنَى دُونَ الْمُسْتَثْنَى منه وَتَصَرَّفَتْ في الْمُسْتَثْنَى بِالتَّأْوِيلِ إمَّا مع الِاعْتِرَاضِ كَالْقَاضِي أو لَا معه كَالْغَزَالِيِّ وثانيها فِرْقَةٌ اعْتَقَدَتْ أَنَّ الْعَامِّيَّ مُقَلِّدٌ وَأَنَّ الْأَخْذَ بِقَوْلِ النبي عليه السَّلَامُ مَقْبُولٌ ليس بِتَقْلِيدٍ وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ لم تَجْرِ على ظَاهِرِ النَّصِّ لَا في الْمُسْتَثْنَى وَلَا في الْمُسْتَثْنَى منه وَمِنْهُمْ ابن السَّمْعَانِيِّ فقال هذا مَذْكُورٌ على طَرِيقِ التَّوَسُّعِ لَا على طَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَرَأْسُ هذه الطَّائِفَةِ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فقال في أَوَّلِ تَعْلِيقِهِ إذَا قُلْنَا بِقَوْلِهِ الْجَدِيدِ فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَحَدٍ بِحَالٍ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في أَدَبِ الْقَضَاءِ إنَّهُ

لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا إلَّا الرَّسُولَ فَمَنْ فَهِمَ منه أَنَّ قَبُولَ قَوْلِهِ يُسَمَّى تَقْلِيدًا فَقَدْ غَلِطَ وَتَقْلِيدُ الرَّسُولِ لَا يَجُوزُ وَإِنَّمَا صُورَتُهُ صُورَةُ التَّقْلِيدِ وَلَيْسَ في الْحَقِيقَةِ تَقْلِيدٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ سُئِلَ عن شَيْءٍ فَأَجَابَ كان جَوَابُهُ في الصُّورَةِ مِثْلَ أَنْ يُسْأَلَ الشَّافِعِيُّ فَيُجِيبَ لَكِنَّ حَقِيقَةَ التَّقْلِيدِ قَبُولُ قَوْلِ الْمُجِيبِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ لَا يُمْكِنُ هُنَا فَلَا بُدَّ فيه من الدَّلِيلِ وَجَوَابُ الرَّسُولِ بِعَيْنِهِ حُجَّةٌ وَدَلِيلٌ فَلَا يَكُونُ مِثْلُهُ في الْجَوَابِ انْتَهَى وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ لِلنَّصِّ تَأْوِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ تَقْلِيدُ أَحَدٍ بَعْدَ الرَّسُولِ بَلْ يَفْتَرِقُونَ فَعَالِمُهُمْ لَا يُقَلِّدُ وَعَامِّيُّهُمْ يُقَلِّدُ وَأَمَّا الرَّسُولُ فَنِسْبَةُ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ إلَيْهِ سَوَاءٌ وَالْكُلُّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَاهِلِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ يَأْخُذُ بِقَوْلِهِ تَقْلِيدًا بَلْ لِأَنَّا قد قُلْنَا إنَّ لِلْعَامِّيِّ سُؤَالَ الْعَالِمِ عن مَأْخَذِهِ وَلَا كَذَلِكَ الرَّسُولُ فَلَيْسَ لِعَامِّيٍّ وَلَا لِلْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ له لِمَ وَلَا من أَيْنَ وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَبْقَى لِكَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى منه على ظَاهِرِهِ وَلَيْسَ فيه عَمَلٌ إلَّا في تَعْمِيمِ قَوْلِهِ أَحَدٍ على أَنَّ الْمَعْنَى كُلُّ أَحَدٍ وثانيهما إبْقَاءُ الْكَلَامِ على ظَاهِرِهِ من كل وَجْهٍ وهو مَبْنِيٌّ على أَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ إلَّا الرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يُقَلَّدُ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى التَّقْلِيدِ أَنْ يُلْقِيَ الْمَرْءُ الْمَقَالِيدَ وَيَطْرَحَ كُلَّهُ وَيَجْعَلَ اعْتِمَادَهُ فِيمَا يَقَعُ له من الْحَوَادِثِ وفي تَفَرُّقِ حَمْلِهَا على الرَّسُولِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ في كل نَائِبَةٍ نُدْرَةٌ وَإِنَّمَا تَطْمَئِنُّ فِيمَنْ لَا يُخْطِئُ وَذَلِكَ هو من قَوْلُهُ حُجَّةٌ وهو الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عليه فَإِنْ قُلْت وَالرُّجُوعُ إلَى الْمُجْتَهِدِ رُجُوعٌ إلَيْهِ قِيلَ وَلَكِنْ لَا وُثُوقَ بِصَوَابِ الْمُجْتَهِدِ فَإِذًا لَا يُقَلَّدُ إلَّا الرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعَلَى هذا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ نَهْيُ الشَّافِعِيِّ عن التَّقْلِيدِ حَيْثُ قال الْمُزَنِيّ هذا مُخْتَصَرٌ اخْتَصَرْتُهُ من عِلْمِ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ مع عِلْمِهِ نَهْيُهُ عن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ انْتَهَى فَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ يُقَلَّدُ وَعَلَى الثَّانِي لَا يُقَلَّدُ فَتْوَاهُ وَأَمَّا دَعْوَى الْقَاضِي الِاتِّفَاقَ على أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُقَلَّدُ فَكَانَ الْحَامِلُ له على ذلك اعْتِقَادَهُ أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ وَلَيْسَ ذلك عِنْدَنَا بَلْ الْمُقَلِّدُ لَا شَكَّ عِنْدَهُ لِوُثُوقِهِ بِالْمُقَلَّدِ الذي أَلْقَى بِتَقَالِيدِهِ إلَيْهِ وَلَمَّا تَقَارَبَ الْخِلَافُ زَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ لَفْظِيٌّ وَلَمَّا اعْتَقَدَ الْقَاضِي أَنَّ اتِّبَاعَ الْعَامِّيِّ تَقْلِيدٌ وَأَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ مع التَّقْلِيدِ تَبَعًا لِلشَّيْخِ أبي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ إيمَانِ الْمُقَلِّدِ التي تُعْزَى لِأَبِي الْحَسَنِ وَلِذَلِكَ أَطْلَقْنَا الْكَلَامَ في بَيَانِ مَعْنَى التَّقْلِيدِ لِيَخْرُجَ منه هذه الْمَسْأَلَةُ وَمِنْ ثَمَّ عَقَدَ الْقَاضِي في

التَّقْرِيبِ بَابًا في إمْكَانِ التَّقْلِيدِ في جُمْلَةِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ عَقَدَ بَابًا في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ في فُرُوعِ الْأَحْكَامِ كما لَا يَجُوزُ في أُصُولِهَا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ في أَنَّ أَخْذَ الْعَامِّيِّ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ هل يُسَمَّى تَقْلِيدًا أَمْ لَا فَقِيلَ ليس بِتَقْلِيدٍ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ له من نَوْعِ اجْتِهَادٍ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ وابن الْحَاجِبِ وَحَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ في زِيَادَتِهِ عن الْأُسْتَاذِ أبي إِسْحَاقَ لِأَنَّهُ بَذَلَ مَجْهُودَهُ في الْأَخْذِ بِقَوْلِ الْأَعْلَمِ وقال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ الذي نَخْتَارُهُ أَنَّ ذلك ليس بِتَقْلِيدٍ أَصْلًا فإن قَوْلَ الْعَالِمِ حُجَّةٌ في حَقِّ الْمُسْتَفْتِي نَصَبَهُ الرَّبُّ عَلَمًا في حَقِّ الْعَامِّيِّ فَأَوْجَبَ عليه الْعَمَلَ بِهِ كما أَوْجَبَ على الْمُجْتَهِدِ الْعَمَلَ بِاجْتِهَادِهِ وَاجْتِهَادُهُ عَلَمٌ عليه وَيَتَخَرَّجُ من هذا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَقْلِيدٌ مُبَاحٌ في الشَّرِيعَةِ لَا في الْأُصُولِ وَلَا في الْفُرُوعِ إذْ التَّقْلِيدُ على ما عَرَّفَهُ الْقَاضِي اتِّبَاعُ من لم يَقُمْ بِاتِّبَاعِهِ حُجَّةٌ ولم يَسْتَنِدْ إلَى عِلْمٍ قال وَلَوْ سَاغَ تَسْمِيَةُ الْعَامِّيِّ مُقَلِّدًا مع أَنَّ قَوْلَ الْعَالِمِ في حَقِّهِ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ جَازَ أَنْ يُسَمَّى الْمُتَمَسِّكَ بِالنُّصُوصِ وَغَيْرِهَا من الدَّلَائِلِ مُقَلِّدًا قال الْقَاضِي وَلِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى حُجَّةٍ قَطْعِيَّةٍ وهو الْإِجْمَاعُ فَلَا يَكُونُ تَقْلِيدًا وَهَذَا بِنَاءً منه على أَحَدِ تَفْسِيرَيْ التَّقْلِيدِ وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْأُصُولِيِّينَ قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى أَنَّهُ مُقَلِّدٌ له فِيمَا يَأْخُذُهُ لِأَنَّا إنْ فَسَّرْنَاهُ بِقَبُولِ الْقَوْلِ بِلَا حُجَّةٍ فَقَدْ تَحَقَّقَ ذلك إذْ قَوْلُهُ في نَفْسِهِ ليس بِحُجَّةٍ وَإِنْ فَسَّرْنَاهُ بِقَبُولِ الْقَوْلِ مع الْجَهْلِ بِمَأْخَذِهِ فَهُوَ مُتَحَقِّقٌ في قَوْلِ الْمُفْتِي أَيْضًا قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَلَعَلَّهُ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ حُجَّةُ ما يَصِيرُ إلَيْهِ من الْحُكْمِ قَبْلُ وَالْإِجْمَاعُ سَبَقَ الْقَاضِي على أَنَّ الْعَوَامَّ يُقَلِّدُونَ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَوْ لم يَكُنْ تَقْلِيدًا فَلَيْسَ في الدُّنْيَا تَقْلِيدٌ وَمَنْ نَظَرَ كُتُبَ الْعُلَمَاءِ وَالْخِلَافِيِّينَ وَجَدَهَا طَافِحَةً بِجَعْلِ الْعَوَامّ مُقَلِّدِينَ وَلِهَذَا قال في الْمُسْتَصْفَى بَعْدَمَا ذَكَرَ أَنَّ الْعَامِّيَّ إذَا أَخَذَ بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ فَهُوَ ظَانٌّ صِدْقَهُ وَالظَّنُّ مَعْلُومٌ وَوُجُوبُ الْحُكْمِ عِنْدَ الظَّنِّ وَهَذَا عِلْمٌ قَاطِعٌ وَالتَّقْلِيدُ جَهْلٌ فَإِنْ قِيلَ قد رَفَعْتُمْ التَّقْلِيدَ من الْبَيْنِ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ تَقْلِيدَ أَحَدٍ سِوَى الرَّسُولِ فَقَدْ أَثْبَتَ تَقْلِيدًا قُلْنَا قد صَرَّحَ بِإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ إلَّا ما اسْتَثْنَى فَظَهَرَ أَنَّهُ لم يَجْعَلْ الِاسْتِفْتَاءَ وَقَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَشَهَادَةَ الْعُدُولِ تَقْلِيدًا نعم يَجُوزُ تَسْمِيَةُ قَوْلِ الرَّسُولِ تَقْلِيدًا تَوَسُّعًا وَاسْتِثْنَاءً من غَيْرِ جِنْسِهِ وَوَجْهُ التَّجَوُّزِ أَنْ يَقُولَ قَوْلُهُ وَإِنْ كان حُجَّةً دَلَّتْ على صِدْقِهِ جُمْلَةً فَلَا يُطْلَبُ منه حُجَّةٌ على غَيْرِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَكَانَ

تَصْدِيقًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ خَاصَّةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى ذلك تَقْلِيدًا مَجَازًا انْتَهَى وَهَذَا أَخَذَهُ من كَلَامِ الْقَاضِي وَلَا يُوَافِقُ على أَنَّ رُجُوعَ الْعَامِّيِّ ليس بِتَقْلِيدٍ وَالْقَاضِي إنَّمَا قال ذلك بِنَاءً على أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ ولم يَقْتَصِرْ الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ على ما فَعَلَ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ بَلْ زَادَا لو سَمَّى مُسَمٍّ الرُّجُوعَ إلَى من قَوْلُهُ حُجَّةٌ تَقْلِيدًا فَلَا مُشَاحَّةَ في التَّسْمِيَةِ قُلْت وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ أَيْضًا وَهَذَا صَحِيحٌ على قَوْلِنَا أَمَّا على قَوْلِ الْقَاضِي وَالْآمِدِيَّ أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ فَلَا تَنْبَغِي هذه التَّسْمِيَةُ لِخُرُوجِهَا عن وَضْعِ اللِّسَانِ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ شَاكٌّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ من تَسْمِيَةِ الرَّسُولِ مُقَلَّدًا وإذا عُرِفَتْ الْمَدَارِكُ هَانَتْ الْمَسَالِكُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ وَالْغَزَالِيَّ يَقُولَانِ لَا تَقْلِيدَ في الدُّنْيَا وَأَمَّا الْآمِدِيُّ فيقول لَا تَقْلِيدَ في رُجُوعِ الْمَرْءِ إلَى قَوْلِ الْعَامِّيِّ وَالْمُجْتَهِدِ إلَى قَوْلِ مِثْلِهِ يَعْنِي حَيْثُ لَا يَجُوزُ له الْأَخْذُ بِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِيَخْرُجَ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَنَحْوِهِ مِمَّا جَوَّزَهُ قَوْمٌ وَاعْتَرَضَ الْآمِدِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ بِأَنَّهُ لو سَمَّى مُسَمٍّ الرُّجُوعَ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى الْإِجْمَاعِ وَالْمُفْتِي وَالشُّهُودِ تَقْلِيدًا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا مُشَاحَّةَ في اللَّفْظِ وابن الْحَاجِبِ تَبِعَ الْآمِدِيَّ وَكَذَا ابن الصَّلَاحِ صَرَّحَ بِمَا يُوَافِقُهُمْ حُكْمًا غير أَنَّهُ أتى بِغَيْرِ تَعْرِيفِهِمْ لِلتَّقْلِيدِ وما صَرَّحَ بِهِ من أَنَّ رُجُوعَ الْعَامِّيِّ إلَى الْمُفْتِي ليس بِتَقْلِيدٍ مع دَعْوَاهُ في كِتَابِ أَدَبِ الْفُتْيَا من مُنَازَعَةِ الشَّيْخِ أبي عَلِيٍّ وَأَمْثَالِهِ من كَوْنِهِمْ لَيْسُوا مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ فَعَجَبٌ إذْ كَيْفَ يُقْضَى على أبي عَلِيٍّ وهو الْحَبْرُ بِالتَّقْلِيدِ وَلَا يُقْضَى بِذَلِكَ على الْعَامِّيِّ الصِّرْفِ وما ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ وَقْتَ التَّعْرِيفِ مع الْغَزَالِيِّ وَعِنْدَ الِانْفِصَالِ جَرَى على ما هو مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ من أَنَّ رُجُوعَ الْعَامِّيِّ إلَى الْمُجْتَهِدِ تَقْلِيدٌ وقد يَأْخُذُ الْمُجْتَهِدُ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ وَلَكِنْ تَسْمِيَةُ ذلك أَخْذًا مَجَازٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَهُ منه لِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ نَظَرُهُ لَا لِكَوْنِ ذلك قَالَهُ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إنْ سُمِّيَ لِسَبْقِهِ إلَيْهِ كما نَقُولُ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِ مَالِكٍ أو بِقَوْلِ أبي حَنِيفَةَ في مَسَائِلَ سَبَقَاهُ إلَى الْقَوْلِ بها وَمَنْ تَبَحَّرَ في مَذْهَبِ إمَامٍ ولم يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَأَفْتَى على مَذْهَبِ ذلك الْإِمَامِ كان الْمُسْتَفْتِي مُقَلِّدًا لِذَلِكَ الْإِمَامِ لَا لِلْمُفْتِي حَكَاهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ عن شَيْخِهِ الْقَفَّالِ ذَكَرَهُ في الْكَافِي وَجَزَمَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْغِيَاثِيِّ وقال الرَّافِعِيُّ إنَّهُ الْمَشْهُورُ لِلْأَصْحَابِ إلَّا أَنَّ أَبَا الْفَتْحِ الْهَرَوِيَّ أَحَدُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ صَرَّحَ بِأَنَّهُ يُقَلِّدُ الْمُتَبَحِّرَ في نَفْسِهِ وقال ابن الصَّلَاحِ يَنْبَغِي تَخْرِيجُ هذا على

الْخِلَافِ في أَنَّ ما يُخَرِّجُهُ أَصْحَابُنَا على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ هل يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ وَفِيهِ خِلَافٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَسْأَلَةٌ قال ابن فُورَكٍ أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ على أَنَّ التَّقْلِيدَ ليس من طُرُقِ الْعِلْمِ بِوَجْهٍ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إلَى الدَّعْوَى لَا يُثْمِرُ عِلْمًا لِأَنَّ صُورَةَ دَعْوَى الْمُحِقِّ صُورَةُ دَعْوَى الْمُبْطِلِ وَإِنَّمَا يُثْمِرُ بِالدَّلِيلِ مَسْأَلَةٌ قال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ قِيلَ من يَجُوزُ تَقْلِيدُهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافِ أَحَدُهَا النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِنَاءً على أَنَّ قَوْلَهُ يُسَمَّى تَقْلِيدًا وهو الْأَصَحُّ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ على صِدْقِهِ وَالثَّانِي الْمُخَبِّرُ عن الرَّسُولِ وَالثَّالِثُ الْمُجْمِعُونَ على حُكْمٍ فَتَقْلِيدُهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عليه وَاجِبٌ وَالرَّابِعُ الصَّحَابَةُ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ وَجْهَيْنِ في تَسْمِيَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ تَقْلِيدًا قال وَأَوْلَاهُمَا أَنَّهُ لَا يُسَمَّى تَقْلِيدًا لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّسْلِيمُ لِقَوْلِهِ إلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ في عَدَالَتِهِ فَصَارَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا بِدَلِيلٍ قال وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْأُمَّةِ إذَا قالت قَوْلًا عن إجْمَاعٍ فَهُوَ حُجَّةٌ وقال الْمُتَأَخِّرُونَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ الرَّسُولِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقَاضِي إلَى الْبَيِّنَةِ ليس بِتَقْلِيدٍ قُلْت وَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى عِبَارَةٍ كما سَبَقَ

فَصْلٌ التَّقْلِيدُ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُقَلَّدُ عَالِمًا بِأَنَّ الذي يُقَلِّدُهُ لَا يُخْطِئُ فِيمَا قَلَّدَهُ فيه فَيَلْزَمُهُ الْقَبُولُ بِمُجَرَّدِهِ كَقَبُولِ الْأَئِمَّةِ عن الرَّسُولِ الْأَحْكَامَ وَقَبُولِ قَوْلِ الْمُجْمِعِينَ قال الْأُسْتَاذُ وَأَجْمَعَ أَصْحَابُنَا على وُجُوبِ هذا الْقَوْلِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في تَسْمِيَتِهِ تَقْلِيدًا وَالثَّانِي قَبُولُهُ على احْتِمَالِ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ وَالْعُلُومُ نَوْعَانِ عَقْلِيٌّ وَشَرْعِيٌّ الْأَوَّلُ الْعَقْلِيُّ وهو الْمَسَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوُجُودِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ وَاخْتَلَفُوا فيها وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ بَلْ يَجِبُ تَحْصِيلُهَا بِالنَّظَرِ وَجَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَالشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ في تَعْلِيقِهِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ عن إجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ من أَهْلِ الْحَقِّ وَغَيْرِهِمْ من الطَّوَائِفِ وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ لَا نَعْلَمُ خِلَافًا في امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ في التَّوْحِيدِ وقال بَعْضُهُمْ لو خَشَى الْمُكَلَّفُ أَنْ يَمُوتَ لم يَجُزْ التَّقْلِيدُ وَحَكَاهُ ابن السَّمْعَانِيِّ عن جَمِيعِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَطَائِفَةٍ من الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ التَّقْلِيدُ فيها وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ ما يَعْرِفُهُ بِالدَّلِيلِ وَقَالُوا الْعَقَائِدُ الْأُصُولِيَّةُ عَقْلِيَّةٌ وَالنَّاسُ مُشْتَرِكُونَ في الْعَقْلِ وقال وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ على خِلَافِ هذا وَقَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يُكَلَّفَ الْعَوَامُّ لِاعْتِقَادِ الْأُصُولِ بِدَلَائِلِهَا لِمَا في ذلك من الْمَشَقَّةِ وَمِثْلُهُ ما نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعُنْوَانِ عن الْفُقَهَاءِ من جَوَازِ التَّقْلِيدِ فيها تَأَسِّيًا بِالسَّلَفِ إذْ لم يَأْمُرْ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْلَافَ الْعَرَبِ بِالنَّظَرِ وَنَازَعَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ في هذا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِالنَّظَرِ الْمُصْطَلَحُ من تَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ فَلَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقًا وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لم يَحْصُلْ لهم النَّظَرُ في نَفْسِ الْأَمْرِ من غَيْرِ هذا التَّرْتِيبِ وَالِاصْطِلَاحُ مَمْنُوعٌ وَكَيْفَ وقد شَاهَدُوا الْمُعْجِزَةَ وَأَحْوَالَ الرَّسُولِ وَالْقَرَائِنُ التي شَاهَدُوهَا أَفَادَتْهُمْ الْقَطْعَ وَقِيلَ بَلْ يَجِبُ التَّقْلِيدُ وَالِاجْتِهَادُ فيه حَرَامٌ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْأَحْوَذِيِّ عن الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الشَّامِلِ لم يَقُلْ بِالتَّقْلِيدِ في الْأُصُولِ إلَّا الْحَنَابِلَةُ وقال الْإسْفَرايِينِيّ لم يُخَالِفْ فيه إلَّا أَهْلُ الظَّاهِرِ وقال الْقَرَافِيُّ وَسَأَلْت

الْحَنَابِلَةَ فَقَالُوا مَشْهُورُ مَذْهَبِنَا مَنْعُ التَّقْلِيدِ وَالْغَزَالِيُّ يَمِيلُ إلَيْهِ وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ في الشِّفَاءِ عن غَيْرِهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ ذَهَبَ قَوْمٌ من كَتَبَةِ الحديث أَنَّ طَلَبَ الدَّلِيلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هو الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَرَوْنَ الشُّرُوعَ في مُوجِبَاتِ الْعُقُولِ كُفْرًا وَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ وَالنَّظَرَ ليس هو الْمَقْصُودُ في نَفْسِهِ وَإِنَّمَا وهو طَرِيقٌ إلَى حُصُولِ الْعِلْمِ حتى يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَتَرَدَّدُ فَمَنْ حَصَلَ له هذا الِاعْتِقَادُ الذي لَا شَكَّ فيه من غَيْرِ دَلَالَةٍ فَقَدْ صَارَ مُؤْمِنًا وَزَالَ عنه كُلْفَةُ طَلَبِ الْأَدِلَّةِ وَمَنْ أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْهِ أَنْعَمَ عليه بِالِاعْتِقَادِ الصَّافِي من الشُّبْهَةِ وَالشُّكُوكِ فَقَدْ أَنْعَمَ عليه بِأَكْلِ أَنْوَاعِ النَّعَمِ وَأَحَلَّهَا حتى لم يَكِلْهُ إلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَا سِيَّمَا الْعَوَامُّ فإن كَثِيرًا منهم تَجِدُهُ في صِيَانَةِ اعْتِقَادِهِ أَكْثَرَ مِمَّنْ شَاهَدَ ذلك بِالْأَدِلَّةِ وَمَنْ كان هذا وَصْفُهُ كان مُقَلِّدًا في الدَّلِيلِ غير أَنَّ أَصْحَابَنَا أَجْمَعُوا على أَنَّ هذا الِاعْتِقَادَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ في النِّيَّاتِ بِحَيْثُ لَا يَرِدُ عليه من الشُّبْهَةِ إلَّا ما يَرِدُ على صَاحِبِ الِاسْتِدْلَالِ وَجَزَمَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ بِوُجُوبِ النَّظَرِ ثُمَّ قال فَلَوْ اعْتَقَدَ من غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِالدَّلِيلِ فَاخْتَلَفُوا فيه فقال أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ إنَّهُ مُؤْمِنٌ من أَهْلِ الشَّفَاعَةِ وَإِنْ فَسَقَ بِتَرْكِ الِاسْتِدْلَالِ وَبِهِ قال أَئِمَّةُ الحديث وقال الْأَشْعَرِيُّ وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حتى يَخْرُجَ فيها عن جُمْلَةِ الْمُقَلِّدِينَ انْتَهَى وقد اُشْتُهِرَتْ هذه الْمَقَالَةُ عن الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ إيمَانَ الْمُقَلِّدِ لَا يَصِحُّ وقد أَنْكَرَ أبو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيّ وَالشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا من الْمُحَقِّقِينَ صِحَّتَهُ عنه وَقِيلَ لَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ قَبُولَ قَوْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فإن التَّقْلِيدَ بهذا الْمَعْنَى قد يَكُونُ ظَنًّا وقد يَكُونُ وَهْمًا فَهَذَا لَا يَكْفِي في الْإِيمَانِ أَمَّا التَّقْلِيدُ بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ لَا الْمُوجِبِ فلم يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يَكْفِي في الْإِيمَانِ إلَّا أبو هَاشِمٍ من الْمُعْتَزِلَةِ وإذا مَنَعْنَا التَّقْلِيدَ في ذلك قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ فَاتَّفَقُوا على أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَبْلُغَ فيه رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ بِحَيْثُ يَحِلُّ له الْفَتْوَى في الْحُكْمِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ إيجَابُ مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ على ما يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ بَعِيدٌ جِدًّا عن الصَّوَابِ وَمَتَى أَوْجَبْنَا ذلك فَمَتَى يُوجَدُ من الْعَوَامّ من يَعْرِفُ ذلك وَيَصْدُرُ عَقِيدَتُهُ عنه كَيْفَ وَهُمْ لو عُرِضَتْ عليهم تِلْكَ الْأَدِلَّةُ لم يَفْهَمُوهَا وَإِنَّمَا غَايَةُ الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَلَقَّى ما يُرِيدُ أَنْ يَعْتَقِدَهُ وَيَلْقَى بِهِ رَبَّهُ من الْعُلَمَاءِ وَيَتْبَعَهُمْ في ذلك وَيُقَلِّدَهُمْ ثُمَّ يُسَلِّمُ عليها بِقَلْبٍ طَاهِرٍ عن الْأَهْوَاءِ وَالْإِدْخَالِ ثُمَّ يَعَضُّ عليها بِالنَّوَاجِذِ

فَلَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَوْ قُطِّعَ إرْبًا فَهَنِيئًا لهم السَّلَامَةُ وَالْبَعْدُ عن الشُّبُهَاتِ الدَّاخِلَةِ على أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْوَرَطَاتِ التي تَغُولُهَا حتى أَدَّتْ بِهِمْ إلَى الْمَهَاوِي وَالْمَهَالِكِ وَدَخَلَتْ عليهم الشُّبُهَاتُ الْعَظِيمَةُ وَصَارُوا مُتَجَرِّئِينَ وَلَا يُوجَدُ فِيهِمْ مُتَوَرِّعٌ عَفِيفٌ إلَّا الْقَلِيلَ فَإِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عن وَرَعِ الْأَلْسِنَةِ وَأَرْسَلُوهَا في صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى بِجُرْأَةٍ وَعَدَمِ مَهَابَةٍ وَحُرْمَةٍ فَفَاتَهُمْ وَرَعُ سَائِرِ الْجَوَارِحِ وَذَهَبَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَرَعُ اللِّسَانِ وَالْإِنْسَانُ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فإذا خَرِبَ جَانِبٌ منه تَدَاعَى سَائِرُهُ إلَى الْخَرَابِ وَلِأَنَّهُ ما من دَلِيلٍ لِفَرِيقٍ منهم يَعْتَمِدُونَ عليه إلَّا وَلِخُصُومِهِمْ عليه من الشُّبْهَةِ الْقَوِيَّةِ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ من الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِقَدْرِ ما يَنَالُ الْمُسْلِمُ بِهِ رَدَّ الْخَاطِرِ وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ إيجَابُ التَّوَصُّلِ إلَى الْعَقَائِدِ في الْأُصُولِ بِالطَّرِيقِ الذي اعْتَقَدُوا وَسَامُوا بِهِ الْخَلْقَ وَزَعَمُوا أَنَّ من لم يَفْعَلْ ذلك لم يَعْرِفْ اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ أَدَّى بِهِمْ ذلك إلَى تَكْفِيرِ الْعَوَامّ أَجْمَعَ وَهَذَا هو الْخَطِيئَةُ الشَّنْعَاءُ وَالدَّاءُ الْعُضَالُ وإذا كان السَّوَادُ الْأَعْظَمُ هُمْ الْعَوَامُّ وَبِهِمْ قِوَامُ الدِّينِ وَعَلَيْهِمْ مَدَارُ رَحَى الْإِسْلَامِ وَلَعَلَّ لَا يُوجَدُ في الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ التي تَجْمَعُ الْمِائَةَ أَلْفٍ من يَقُومُ بِالشَّرَائِطِ التي تَعْتَبِرُونَهَا إلَّا الْعَدَدَ الْقَلِيلَ الشَّاذَّ الشَّارِدَ النَّادِرَ وَلَعَلَّهُ لَا يَبْلُغُ عَقْدَ الْعَشَرَةِ فَمَنْ يَجِدُ الْمُسْلِمُ من قَبْلَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ الناس أَجْمَعَ وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُمْ لَا عَقِيدَةَ لهم في أُصُولٍ أَصْلًا وَإِنَّهُمْ أَمْثَالُ الْبَهَائِمِ انْتَهَى الثَّانِي الشَّرْعِيُّ وهو الْمُتَعَلِّقُ بِالْفُرُوعِ وَالْمَذَاهِبِ وَفِيهِ ثَلَاثَةٌ فِرْقَةٌ أَوْجَبَتْ التَّقْلِيدَ وَفِرْقَةٌ حَرَّمَتْهُ وَفِرْقَةٌ تَوَسَّطَتْ الْأَوَّلُ فَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى تَحْرِيمِ التَّقْلِيدِ مُطْلَقًا كَالتَّقْلِيدِ في الْأُصُولِ وَوَافَقَهُمْ ابن حَزْمٍ وَكَادَ يَدَّعِي الْإِجْمَاعَ على النَّهْيِ عن التَّقْلِيدِ قال وَنُقِلَ عن مَالِكٍ أَنَّهُ قال أنا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ فَانْظُرُوا في رَأْيِي فما وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ وما لم يُوَافِقْ فَاتْرُكُوهُ وقال عِنْدَ مَوْتِهِ وَدِدْت أَنِّي ضُرِبْت بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ تَكَلَّمْت فيها بِرَأْيٍ سَوْطًا على أَنَّهُ لَا صَبْرَ لي على السِّيَاطِ قال فَهَذَا مَالِكٌ يَنْهَى عن تَقْلِيدِهِ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وأبو حَنِيفَةَ وقد ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حَدِيثًا فقال بَعْضُ جُلَسَائِهِ يا أَبَا عبد اللَّهِ أَتَأْخُذُ بِهِ فقال له أَرَأَيْت عَلَيَّ زُنَّارًا أَرَأَيْتَنِي خَارِجًا من كَنِيسَةٍ حتى تَقُولَ لي في حديث النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَتَأْخُذُ بهذا ولم يَزَلْ رَحِمَهُ اللَّهُ في كُتُبِهِ يَنْهَى عن تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ هَكَذَا رَوَاهُ الْمُزَنِيّ في أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ عنه وَهَذَا الذي قَالَهُ مَمْنُوعٌ وَإِنَّمَا نَهَوْا الْمُجْتَهِدَ خَاصَّةً عن تَقْلِيدِهِمْ دُونَ من لم يَبْلُغْ

هذه الرُّتْبَةَ قال الْقَرَافِيُّ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ وَإِبْطَالُ التَّقْلِيدِ لِقَوْلِهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ وَاسْتَثْنَى مَالِكٌ أَرْبَعَ عَشْرَةَ صُورَةً لِلضَّرُورَةِ وُجُوبَ التَّقْلِيدِ على الْعَوَامّ وَتَقْلِيدَ الْقَائِفِ إلَى آخِرِ ما ذَكَرَهُ وَالثَّانِي يَجِبُ مُطْلَقًا وَيَحْرُمُ النَّظَرُ وَنُسِبَ إلَى بَعْضِ الْحَشْوِيَّةِ وَالثَّالِثُ وهو الْحَقُّ وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ يَجِبُ على الْعَامِّيِّ وَيَحْرُمُ على الْمُجْتَهِدِ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ لَا يَحِلُّ تَقْلِيدُ أَحَدٍ مُرَادُهُمْ على الْمُجْتَهِدِ قال عبد اللَّهِ بن أَحْمَدَ سَأَلْت أبي الرَّجُلُ يَكُونُ عِنْدَهُ الْكُتُبُ الْمُصَنَّفَةُ فيها قَوْلُ الرَّسُولِ وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَيْسَ له بَصِيرَةٌ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ الْمَتْرُوكِ وَلَا الْإِسْنَادِ الْقَوِيِّ من الضَّعِيفِ هل يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا شَاءَ وَيُفْتِي بِهِ قال لَا يَعْمَلُ حتى يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ عَمَّا يُؤْخَذُ بِهِ منها قال الْقَاضِي أبو يَعْلَى ظَاهِرُ هذا أَنَّ فَرْضَهُ التَّقْلِيدُ وَالسُّؤَالُ إذَا لم يَكُنْ له مَعْرِفَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ انْتَهَى وَأَمَّا تَحْرِيمُهُ على الْمُجْتَهِدِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ يَعْنِي كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وفي حديث مُعَاذٍ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ لَمَّا قال له الرَّسُولُ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِمَ تَحْكُمُ قال بِكِتَابِ اللَّهِ قال فَإِنْ لم تَجِدْ قال بِسُنَّةِ رسول اللَّهِ قال فَإِنْ لم تَجِدْ قال أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ إلَى ما يَرْضَاهُ رسول اللَّهِ قالوا فَصَوَّبَهُ في ذلك ولم يذكر من جُمْلَتِهِ التَّقْلِيدَ فَدَلَّ ذلك على أَنَّ التَّقْلِيدَ يَحْرُمُ على الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ هُمْ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَلِهَذَا قال تَعَالَى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ منهم قال الْمُزَنِيّ في كِتَابِهِ فَسَادِ التَّأْوِيلِ تَوْفِيقُ اللَّهِ تَعَالَى لِمُعَاذٍ في اجْتِهَادِهِ لِمَا يَرْضَاهُ رَسُولُهُ عِنْدَنَا إنَّمَا هو لِنَظَرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ كان تَأْوِيلُهُ أَفَرْضَ ما رَأَيْت في الْحَادِثَةِ لَوَجَبَ فَرْضُ ذلك على جَمِيعِ الناس قال وقد ذَمَّ اللَّهُ التَّقْلِيدَ في غَيْرِ ما آيَةٍ كَقَوْلِهِ إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أُمَّةٍ وَقَوْلِهِ وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا وقال تَعَالَى اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا من دُونِ اللَّهِ وفي الحديث إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا وَإِنَّمَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ

الْعُلَمَاءِ قال وَيُقَالُ لِمَنْ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ هل لَك من حُجَّةٍ فَإِنْ قال نعم أُبْطِلَ التَّقْلِيدُ لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ ذلك عِنْدَهُ لَا التَّقْلِيدَ وَإِنْ قال بِغَيْرِ عِلْمٍ قِيلَ له فَلِمَ أَرَقْت الدِّمَاءَ وَأَبَحْت الْفُرُوجَ وَالْأَمْوَالَ وقد حَرَّمَ اللَّهُ ذلك إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِنْ قال أنا أَعْلَمُ أَنِّي قد أَصَبْت وَإِنْ لم أَعْرِفْ الْحُجَّةَ لِأَنَّ مُعَلِّمِي من كِبَارِ الْعُلَمَاءِ قِيلَ له تَقْلِيدُ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِك أَوْلَى من تَقْلِيدِ مُعَلِّمِك لِأَنَّهُ لَا يقول إلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عن مُعَلِّمِهِ كما لم يَقُلْ مُعَلِّمُك إلَّا بِحُجَّةٍ قد خَفِيَتْ عَنْك فَإِنْ قال نعم تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إلَى تَقْلِيدِ مُعَلِّمِ مُعَلِّمِهِ وَكَذَلِكَ حتى يَنْتَهِيَ إلَى الْعَالِمِ من الصَّحَابَةِ فَإِنْ أَبَى ذلك نُقِضَ قَوْلُهُ وَقِيلَ له كَيْفَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ من هو أَصْغَرُ وَأَقَلُّ عِلْمًا وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ من هو أَكْبَرُ وَأَغْزَرُ عِلْمًا وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ حَذَّرَ من زَلَّةِ الْعَالِمِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا يُقَلِّدَنَّ أحدكم دِينَهُ رَجُلًا فَإِنْ آمَنَ آمَنَ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ فإنه لَا أُسْوَةَ في الشَّرِّ وَأَمَّا وُجُوبُهُ على الْعَامَّةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَقَوْلُهُ فَلَوْلَا نَفَرَ من كل فِرْقَةٍ منهم طَائِفَةٌ فَأَمَرَ بِقَبُولِ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا كان من أَمْرِ دِينِهِمْ وَلَوْلَا أَنَّهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهِمْ لَمَا كان لِلنِّذَارَةِ مَعْنًى وَلِقَضِيَّةِ الذي شُجَّ فَأَمَرُوهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَقَالُوا لَسْنَا نَجِدُ لَك رُخْصَةً فَاغْتَسَلَ وَمَاتَ فقال النبي عليه السَّلَامُ قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ إنَّمَا كان شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالَ فَبَانَ بِذَلِكَ جَوَازُ التَّقْلِيدِ

قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ من فُرُوضِ الْكِفَايَةِ التي إذَا قام بها الْبَعْضُ سَقَطَ عن الْبَاقِينَ وَلَوْ مَنَعْنَا التَّقْلِيدَ لَأَفْضَى إلَى أَنْ يَكُونَ من فُرُوضِ الْأَعْيَانِ وَنَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ عليه فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُفْتُونَ الْعَوَامَّ وَلَا يَأْمُرُونَهُمْ بِنَيْلِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ الذي يَذْكُرُهُ الْمُجْتَهِدُ له من الدَّلِيلِ إنْ كان بِحَيْثُ لَا يَكْفِي في الْحُكْمِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ وَإِنْ كان يَذْكُرُ له ما يَكْفِي فَأَسْنَدَ إلَيْهِ الْحُكْمَ في مِثْلِ ذلك الْتَزَمَهُ قَطْعًا وقال الْقَاضِي أبو الْمَعَالِي عَزِيزِيُّ بن عبد الْمَلِكِ في بَعْضِ مُؤَلَّفَاتِهِ لو وَجَبَ على الْكَافَّةِ التَّحْقِيقُ دُونَ التَّقْلِيدِ أَدَّى ذلك إلَى تَعْطِيلِ الْمَعَاشِ وَخَرَابِ الدُّنْيَا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مُقَلِّدًا وَبَعْضُهُمْ مُعَلِّمًا وَبَعْضُهُمْ مُتَعَلِّمًا ولم تَرْفَعْ دَرَجَةُ أَحَدٍ في الْجِنَانِ لِدَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ ثُمَّ دَرَجَةِ الْمُحِبِّينَ وقال الْمَصِيرُ في الْمُوجِبِ لِتَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ عَدَمُ آلَةِ الِاسْتِنْبَاطِ وَتَعَذُّرُهَا عليه في الْحَالِ وَالْتِمَاسُ أُصُولِ ذلك فَلَوْ تَرَكَهُ حتى يَعْلَمَ جَمِيعَهَا وَيَسْتَنْبِطَ منها لَتَعَطَّلَتْ الْفَرَائِضُ من الْعَالِمِ حتى يَصِيرُوا كلهم عُلَمَاءَ وَهَذَا فَاسِدٌ فَرَخَّصَ له في قَبُولِ قَوْلِ الْعَالِمِ الْبَاحِثِ وَلَا يَجُوزُ له قَبُولُ قَوْلِ من هو مِثْلُهُ وَمِنْ هذا امْتَنَعَ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لِمِثْلِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِدَفْعِ التَّقْلِيدِ وُجُودُ الْأَدِلَّةِ وهو مُتَمَكِّنٌ منها قُلْت وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَقَائِدِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ في الْعَقَائِدِ الْعِلْمُ وَالْمَطْلُوبَ في الْفُرُوعِ الظَّنُّ وَالتَّقْلِيدُ قَرِيبٌ من الظَّنِّ وَلِأَنَّ الْعَقَائِدَ أَهَمُّ من الْفُرُوعِ وَالْمُخْطِئُ فيها كَافِرٌ وَأَوْرَدَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ شُبْهَةً لِلْمَانِعِينَ من التَّقْلِيدِ قال إنَّهُمْ يَمْنَعُونَ الْعَمَلَ بِالْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ وَيَتَمَسَّكُونَ بِالظَّوَاهِرِ وَيَقُولُونَ حُكْمُ الْعَقْلِ في الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ وفي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ وَلَا يُتْرَكُ هذا إلَّا لِنَصٍّ قَاطِعِ الْمَتْنِ وَالدَّلَالَةِ وَالْعَامِّيُّ الذَّكِيُّ يَعْلَمُ ذلك وَإِلَّا نَبَّهَهُ الْمُفْتِي عليه وَعَلَى النَّصِّ الْقَاطِعِ في الْوَاقِعَةِ إنْ جَهِلَهُ وَلَا يُقَالُ مَعْرِفَةُ ذلك تَمْنَعُهُ من الْمَعَاشِ وَالْمَصَالِحِ التي الِاشْتِغَالُ عنها يُفْضِي إلَى خَرَابِ الْعَالَمِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إيجَابَ مَعْرِفَةِ أُصُولِ الدِّينِ وَلَا يُجَابُ بِأَنَّ الْوَاجِبَ مَعْرِفَةُ أَدِلَّةِ النُّبُوَّةِ وَالتَّوْحِيدِ جُمْلَةً وَهِيَ سَهْلَةٌ بِخِلَافِ الْفُرُوعِ لِكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا لِأَنَّهُ إنْ لم يَعْلَمْ جَمِيعَ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ الْجَلِيِّ فَقَدْ قَلَّدَ في بَعْضِهَا فَيَكُونُ مُقَلِّدًا في النَّتِيجَةِ وَإِنْ عَلِمَهَا وما يَرِدُ فَقَدْ حَصَلَ الِاشْتِغَالُ وَجَوَابُهُ على تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَقْلِيلِ الْأَدِلَّةِ فَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَمُمَارَسَةٍ وهو مَفْقُودٌ في الْعَامِّيِّ إذَا عَلِمْت هذا فَلَا بُدَّ من تَقْسِيمٍ يَجْمَعُ أَفْرَادَ الْمَسْأَلَةِ وَيَضْبِطُ شُعَبَهَا فَنَقُولُ الْعُلُومُ نَوْعَانِ

نَوْعٌ يَشْتَرِك في مَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ وَيُعْلَمُ من الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَالْمُتَوَاتِرِ فَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فيه لِأَحَدٍ كَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَتَعْيِينِ الصَّلَاةِ وَتَحْرِيمِ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالزِّنَى وَاللِّوَاطِ فإن هذا مِمَّا لَا يَشُقُّ على الْعَامِّيِّ مَعْرِفَتُهُ وَلَا يَشْغَلُهُ عن أَعْمَالِهِ وَكَذَا في أَهْلِيَّةِ الْمُفْتِي وَنَوْعٌ مُخْتَصٌّ مَعْرِفَتُهُ بِالْخَاصَّةِ وَالنَّاسُ فيه ثَلَاثَةُ ضُرُوبٍ مُجْتَهِدٌ وَعَامِّيٌّ وَعَالِمٌ لم يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ أَحَدُهَا الْعَامِّيُّ الصِّرْفُ وَالْجُمْهُورُ على أَنَّهُ يَجُوزُ له الِاسْتِفْتَاءُ وَيَجِبُ عليه التَّقْلِيدُ في فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ جَمِيعِهَا وَلَا يَنْفَعُهُ ما عِنْدَهُ من الْعُلُومِ لَا تُؤَدِّي إلَى اجْتِهَادٍ وَحَكَى ابن عبد الْبَرِّ فيه الْإِجْمَاعَ ولم يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ عليها تَقْلِيدُ عُلَمَائِهَا وَأَنَّهُمْ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ قال وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْأَعْمَى لَا بُدَّ له من تَقْلِيدِ غَيْرِهِ في الْقِبْلَةِ نَقَلَ لَك من لَا عِلْمَ له وَلَا بِغَيْرِهِ بِمَعْنًى ما يَدِينُ بِهِ انْتَهَى وَمَنَعَ منه بَعْضُ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ كَالتَّقْلِيدِ في الْأُصُولِ وَقَالُوا يَجِبُ عليه الْوُقُوفُ على طَرِيقِ الْحُكْمِ وَعِلَّتِهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى الْعَالِمِ إلَّا لِتَنْبِيهِهِ على أُصُولِهَا وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ عن الْجَعْفَرِ بن مُبَشِّرٍ وَابْنِ حَرْبٍ منهم عن الْجُبَّائِيُّ يَجُوزُ في الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ دُونَ ما طَرِيقُهُ الْقَطْعُ فإنه يَصِيرُ مِثْلَ الْعَقْلِيَّاتِ وَنَحْوِهِ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ يَجِبُ عليه تَحْصِيلُ عِلْمِ كل مَسْأَلَةٍ في الْفِقْهِ يُدْرِكُهَا الْقَطْعُ وَيَجُوزُ له التَّقْلِيدُ في ظَنِّيَّاتِهِ إلَى الْقَطْعِيَّاتِ الْفُرُوعُ بِالْأُصُولِ وَحَكَى ابن بَرْهَانٍ الْخِلَافَ على وَجْهٍ آخَرَ فقال من صَارَ له التَّقْلِيدُ لم يَجِبْ عليه السُّؤَالُ عن الدَّلِيلِ وَنُقِلَ عن أبي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ أَنَّهُ قال يَجِبُ عليه أَنْ يَعْلَمَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ بِدَلِيلِهَا وَصَارَ بَعْضُ الناس إلَى أَنَّ الْمَسَائِلَ الظَّاهِرَةَ يَجِبُ عليه مَعْرِفَتُهَا دُونَ الْخَفِيَّةِ انْتَهَى وإذا قُلْنَا بِأَنَّ وَظِيفَةَ الْعَامِّيِّ التَّقْلِيدُ جاء الْخِلَافُ السَّابِقُ أَنَّهُ هل هو تَقْلِيدٌ حَقِيقَةً فَالْقَاضِي يَمْنَعُهُ وَيَقُولُ إنَّمَا مُسْتَدِلٌّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عليه اتِّبَاعَ الْعَالِمِ وهو خِلَافٌ يَرْجِعُ إلَى الْعِبَارَةِ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّقْلِيدِ لم يَرَ إلَّا هذا وَلَكِنَّ لِسَانَ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ جَرَى على صِحَّةِ إطْلَاقِ التَّقْلِيدِ لِلْعَامِّيِّ وَالنَّهْيُ عن إطْلَاقِ الِاجْتِهَادِ عليه الثَّانِي الْعَالِمُ الذي حَصَّلَ بَعْضَ الْعُلُومِ الْمُعْتَبَرَةِ ولم يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَاخْتَارَ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَالْعَامِّيِّ الصِّرْفِ لِعَجْزِهِ عن الِاجْتِهَادِ وقال

قَوْمٌ لَا يَجُوزُ ذلك وَيَجِبُ عليه مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ بِطَرِيقِهِ لِأَنَّ صَلَاحِيَّةَ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَيَجِيءُ عليه الْخِلَافُ السَّابِقُ عن الْجُبَّائِيُّ وَالْأُسْتَاذِ هُنَا من بَابِ الْأَوْلَى وما أَطْلَقُوهُ من إلْحَاقِهِ هُنَا بِالْعَامِّيِّ فيه نَظَرٌ لَا سِيَّمَا أَتْبَاعُ الْمَذَاهِبِ الْمُتَبَحِّرِينَ فَإِنَّهُمْ لم يُنَصِّبُوا أَنْفُسَهُمْ نَصَبَةَ الْمُقَلِّدِينَ وقد سَبَقَ قَوْلُ الشَّيْخِ أبي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ من أَصْحَابِنَا لَسْنَا مُقَلِّدِينَ لِلشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ الْإِشْكَالُ في إلْحَاقِهِمْ بِالْمُجْتَهِدِينَ إذْ لَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدٌ مُجْتَهِدًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ ليس لنا سِوَى حَالَتَيْنِ قال ابن الْمُنَيَّرِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ مُلْتَزِمُونَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا أَمَّا كَوْنُهُمْ مُجْتَهِدِينَ فَلِأَنَّ الْأَوْصَافَ قَائِمَةٌ بِهِمْ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ مُلْتَزِمِينَ أَنْ لَا يُحْدِثُوا مَذْهَبًا فَلِأَنَّ إحْدَاثَ مَذْهَبٍ زَائِدٍ بِحَيْثُ يَكُونُ لِفُرُوعِهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ مُبَايِنَةٌ لِسَائِرِ قَوَاعِدِ الْمُتَقَدِّمِينَ مُتَعَذِّرُ الْوُجُودِ لِاسْتِيعَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ سَائِرَ الْأَسَالِيبِ نعم لَا يَمْتَنِعُ عليهم تَقْلِيدُ إمَامٍ في قَاعِدَةٍ إذَا ظَهَرَ له صِحَّةُ مَذْهَبِ غَيْرِ إمَامِهِ في وَاقِعَةٍ لم يَجُزْ له أَنْ يُقَلِّدَ إمَامَهُ لَكِنَّ وُقُوعَ ذلك مُسْتَبْعَدٌ لِكَمَالِ نَظَرِ من قَبْلَهُ وَسَبَقَ في آخِرِ الْكَلَامِ على شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ كَلَامٌ لِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ يَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ فيه الثَّالِثُ أَنْ يَبْلُغَ الْمُكَلَّفُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ كان اجْتَهَدَ في الْوَاقِعَةِ فَلَا يَجُوزُ له تَقْلِيدُ غَيْرِهِ من الْمُجْتَهِدِينَ فيها خِلَافُ ما ظَنَّهُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ ظَنَّهُ لَا يُسَاوِي الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ من غَيْرِهِ وَالْعَمَلُ بِأَقْوَى الظَّنَّيْنِ وَاجِبٌ ولو خَالَفَ وَحَكَمَ بِخِلَافِ ظَنِّهِ فَقَدْ أَثِمَ وَإِنْ كان مَذْهَبًا لِغَيْرِهِ وَهَلْ يُنْتَقَضُ حُكْمُهُ فيه وَجْهَانِ لِلْحَنَابِلَةِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُسْتَوْعِبِ وهو يَقْدَحُ في نَقْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ الِاتِّفَاقَ على بُطْلَانِ حُكْمِهِ وَاسْتَثْنَى الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ من هذا الْقِسْمِ ما إذَا كان حُكْمًا يَجِبُ هل أو عليه يَحْتَاجُ في فَصْلِهِ إلَى حَاكِمٍ بَيْنَهُمَا بِاجْتِهَادِهِ فَيَجُوزُ له تَقْلِيدُهُ في هذه الصُّورَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ قد اجْتَهَدَ فَفِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا الْأَوَّلُ الْمَنْعُ منه مُطْلَقًا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ منهم الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وابن الصَّبَّاغِ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وابن الْحَاجِبِ قال الْبَاجِيُّ وهو قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وهو الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَسَوَاءٌ كان الْوَقْتُ مُوَسَّعًا أو مُضَيَّقًا وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ عن عَامَّةِ الْأَصْحَابِ وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ذَكَرَهُ في أَوَّلِ الْبَحْرِ وَكَذَا نَقَلَهُ

الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ عن عَامَّةِ الْأَصْحَابِ خَلَا ابْنِ سُرَيْجٍ قال وقال أبو إِسْحَاقَ إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وأبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عن أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وهو النَّصُّ لِأَحْمَدَ بن حَنْبَلٍ وَالثَّانِي يَجُوزُ مُطْلَقًا وَعَلَيْهِ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ عن أبي حَنِيفَةَ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قال الْكَرْخِيّ يَجُوزُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَكَذَا حَكَاهُ عنه أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ قال وَلِهَذَا جَوَّزَ تَقْلِيدَ الْقَاضِي فِيمَا اُبْتُلِيَ بِهِ من الْحُكْمِ قال الْقُرْطُبِيُّ وهو الذي ظَهَرَ من تَمَسُّكَاتِ مَالِكٍ في الْمُوَطَّأ وقال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ حَكَى الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ أَنَّ مَذْهَبَنَا ذلك وَلَا نَعْرِفُ وَالثَّالِثُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ فَقَطْ وَنُقِلَ عن الشَّافِعِيِّ في الْقَدِيمِ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ من تَقْلِيدِهِ زَيْدَ بن ثَابِتٍ وَعُثْمَانَ وَغَيْرَهُمَا وقد أَجَابَ الرُّويَانِيُّ بِأَنَّ ذلك ليس تَقْلِيدًا وَإِنَّمَا هو اتِّفَاقُ رَأْيِهِ لِرَأْيِهِمْ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ صَرَّحَ في عُثْمَانَ بِالتَّقْلِيدِ وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ وَلَا يُقَلَّدُ أَحَدٌ بَعْدَهُمْ غير عُمَرَ بن عبد الْعَزِيزِ وَاسْتَغْرَبَهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ وَالرَّابِعُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَرْجَحَ في نَظَرِهِ من غَيْرِهِ فَإِنْ اسْتَوَوْا في نَظَرِهِ فيها تَخَيَّرَ في التَّقْلِيدِ لِمَنْ شَاءَ منهم وَلَا يَجُوزُ له تَقْلِيدُ من عَدَاهُمْ وَعَزَاهُ ابن الْحَاجِبِ إلَى الشَّافِعِيِّ وَالْخَامِسُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ وَالسَّادِسُ يُقَلِّدُ من هو أَعْلَمُ منه وَلَا يُقَلِّدُ من هو مِثْلُهُ وَنَقَلَهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ عن الْكَرْخِيِّ وقال إنَّهُ ضَرْبٌ من الِاجْتِهَادِ وَمَنْ يُقَوِّيهِ رَأْيُ الْآخَرُ في نَفْسِهِ على رَأْيِهِ لَفَضَلَ عليه فلم يَخْلُ في تَقْلِيدِهِ إيَّاهُ من اسْتِعْمَالِ الِاجْتِهَادِ وَنَقَلَهُ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ وَالرُّويَانِيُّ عن مُحَمَّدِ بن الْحَسَنِ وَكَذَا إلْكِيَا قال وَرُبَّمَا قال إنَّهُمَا سَوَاءٌ وَعَنْ هذا أَوْجَبَ قَوْمٌ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وَشَرَطَ معه ضِيقَ الْوَقْتِ وَالسَّابِعُ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ دُونَ ما يُفْتِي بِهِ حَكَاهُ ابن الْقَاصِّ عن ابْنِ سُرَيْجٍ وهو يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له الْحُكْمُ بِهِ من بَابِ أَوْلَى وهو مَبْنِيٌّ على تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالثَّامِنُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ مِثْلِهِ فِيمَا يَخُصُّهُ إذَا خَشَى فَوَاتَ الْوَقْتِ فيها بِاشْتِغَالِهِ بِالْحَادِثَةِ وهو رَأْيُ ابْنِ سُرَيْجٍ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ حَكَى عنه أَنَّهُ قال إنَّهُمْ إذَا

كَانُوا في سَفِينَةٍ وَخَفِيَتْ عليهم جِهَةُ الْقِبْلَةِ قَلَّدُوا الْمَلَّاحِينَ قال أبو الْعَبَّاسِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ قال في الصَّلَاةِ فَإِنْ خَفِيَتْ عليه الدَّلَائِلُ فَهُوَ كَالْأَعْمَى وقد ثَبَتَ أَنَّ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ وَرَدَّ عليه أبو إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ جَعَلَهُ كَالْأَعْمَى في الصَّلَاةِ يُصَلِّي على حَسَبِ حَالِهِ ثُمَّ يُعِيدُ ليس في أَنَّهُ يَجُوزُ له التَّقْلِيدُ وقد حَكَى الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ هذا الْمَذْهَبَ عن ابْنِ سُرَيْجٍ ثُمَّ غَلَّطَهُ وقال ابن دَقِيقِ الْعِيدِ وَقِيلَ إنْ ضَاقَ الْوَقْتُ عن الِاجْتِهَادِ فَلَهُ ذلك وَهَذَا قَرِيبٌ لِأَنَّ الْمُكْنَةَ التي جَعَلْنَاهَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الِاجْتِهَادِ قد تَعَذَّرَتْ بِسَبَبِ تَضَيُّقِ الْوَقْتِ وقد نَفَى الْقَفَّالُ الْخِلَافَ بين الْأَصْحَابِ في الْمَنْعِ من التَّقْلِيدِ مع التَّمَكُّنِ من الِاجْتِهَادِ وَلَكِنَّ الْمَحْكِيَّ عن ابْنِ سُرَيْجٍ نَقَلَهُ عن صَاحِبِ التَّلْخِيصِ سَمَاعًا منه وَالتَّاسِعُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي في الْمُشْكِلِ عليه حَكَاهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا قال لِأَنَّهُ في الْمُشْكِلِ عليه كَالْعَامِّيِّ وَلَكِنَّ الْحَاكِمَ لَا ضَرُورَةَ له إلَى التَّقْلِيدِ بِمَا عِنْدَهُ من الْأَقَاوِيلِ وَتَوَلِّي غَيْرِهِ الْحُكْمَ فيه وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي يُفَوِّضُ ذلك إلَى غَيْرِهِ من أَهْلِ الْعِلْمِ بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ إذَا حَلَّتْ بِهِ نَازِلَةٌ فإنه مُضْطَرٌّ إلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ فإذا اشْتَبَهَ عليه ولم يَصِلْ إلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ إلَّا بِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ وَجَبَ عليه وهو قَرِيبٌ من السَّابِعِ وَالْعَاشِرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي دُونَ غَيْرِهِ وَهَذَا ظَاهِرُ ما نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن ابْنِ سُرَيْجٍ فإنه نَصَّبَ الْخِلَافَ في حَاكِمٍ تَحْضُرُهُ الْحَادِثَةُ وَيَضِيقُ الْوَقْتُ عن الِاجْتِهَادِ وَنُقِلَ عن ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ يَجُوزُ له أَنْ يَحْكُمَ بِالتَّقْلِيدِ وَلَا يُفْتِيَ بِهِ إلَّا بَعْدَ اجْتِهَادِهِ قال وقال أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا ليس له الْحُكْمُ بِالتَّقْلِيدِ كما ليس له الْإِفْتَاءُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَ حتى يَجْتَهِدَ أو يَسْتَخْلِفَ من اجْتَهَدَ فيه قَبْلَهُ انْتَهَى وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْمَنْعَ من الْإِفْتَاءِ مَحَلُّ وِفَاقٍ وَجَعَلَ ابن كَجٍّ في كِتَابِهِ في الْأُصُولِ وَالشَّيْخُ أبو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ الْخِلَافَ في تَقْلِيدِهِ في حَقِّ نَفْسِهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقَلِّدَهُ لِيُفْتِيَ غَيْرَهُ أو يَحْكُمَ بِهِ على غَيْرِهِ ولم يَجُزْ له بِالِاتِّفَاقِ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وابن الصَّبَّاغِ وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ عن ابْنِ سُرَيْجٍ إنْ حَضَرَ ما يَنُوبُهُ كَالْحُكْمِ بين الْمُسَافِرِينَ وَهُمْ على الْخُرُوجِ جَازَ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَيَحْكُمَ قال الرَّافِعِيُّ وَيَنْبَغِي أَنْ يَطْرُدَهُ في الْفَتْوَى وَخَالَفَ ابن الرِّفْعَةِ وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْمُسْتَفْتِي بِسَبِيلٍ من تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ وَلَا ضَرُورَةَ إذًا وَلَا حَاجَةَ بِإِفْتَاءِ الْمُقَلِّدِ وَلَا كَذَلِكَ الْحَاكِمُ خُصُوصًا إذَا مَنَعَ من الِاسْتِخْلَافِ

الْحَادِيَ عَشَرَ الْوَقْفُ وَبِهِ يُشْعِرُ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فإنه قال يَجُوزُ في الْعَقْلِ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ وَلَكِنْ لم يَقُمْ الدَّلِيلُ على وُجُودِهِ وَالْأَمْرَانِ يَسُوغَانِ في الْعَقْلِ وقد تَبَيَّنَ في الشَّرْعِ وُجُوبُ أَحَدِهِمَا وهو الْإِجْمَاعُ على أَنَّ لِلْمُجْتَهِدِ الِاجْتِهَادَ فَهَذَا الْوَاجِبُ لَا يَزُولُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَنُوزِعَ في الْإِجْمَاعِ فإن الْمُجَوِّزَ يقول الْوَاجِبُ إمَّا الِاجْتِهَادُ وَإِمَّا التَّقْلِيدُ فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ الْوَقْفُ فَرْعٌ لو كان لِمُجْتَهِدٍ حُكُومَةٌ فَحَكَمَ حَاكِمًا فيها يُخَالِفُ اجْتِهَادَهُ فإنه يَتَدَيَّنُ في الْبَاطِنِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَبِتَرْكِ اجْتِهَادِهِ سَوَاءٌ كان الْحُكْمُ له أو عليه وَلَيْسَ هذا من مَوْضِعِ الْخِلَافِ ذَكَرَهُ ابن بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ يَعْمَلُ في الْبَاطِنِ بِنَقِيضِ اجْتِهَادِهِ ذَكَرَهُ أبو الْخَطَّابِ في الِانْتِصَارِ وَعَلَيْهِ يَتَخَرَّجُ أَنَّهُ هل يَحِلُّ له أَخْذُ ما كان حَرَامًا في نَظَرِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ على الْخِلَافِ في أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ هل يُغَيِّرُ ما في الْبَاطِنِ فيه وَجْهَانِ وَلَهُمَا الْتِفَاتٌ إلَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أَمْ لَا مَسْأَلَةٌ مُجْتَهِدُ الصَّحَابَةِ إذَا لم يُجْعَلْ قَوْلُهُ حُجَّةً فَفِي جَوَازِ تَقْلِيدِهِ في هذه الْأَعْصَارِ خِلَافٌ ذَهَبَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يُقَلِّدُهُ وَنَقَلَهُ عن إجْمَاعِ الْمُحَقِّقِينَ قالوا وَلَيْسَ هذا لِأَنَّ دُونَ الْمُجْتَهِدِينَ دُونَ الصَّحَابَةِ مَعَاذَ اللَّهِ فَهُمْ أَعْظَمُ وَأَجَلُ قَدْرًا بَلْ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ لم يَثْبُتْ حَقَّ الثُّبُوتِ كما ثَبَتَتْ مَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لهم أَتْبَاعٌ قد طَبَقُوا الْأَرْضَ وَلِأَنَّهُمْ لم يَعْتَنُوا بِتَهْذِيبِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ ولم يُقَرِّرُوا لِأَنْفُسِهِمْ أُصُولًا تَفِي بِأَحْكَامِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا بِخِلَافِ من بَعْدَهُمْ فَإِنَّهُمْ كَفَوْا النَّظَرَ في ذلك وَسَبَرُوا وَنَظَرُوا وَأَكْثَرُوا أَوْضَاعَ الْمَسَائِلِ وَنَازَعَ الْمُقْتَرَحُ وقال لَا يَلْزَمُ من سَبْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وُجُوبُ تَقْلِيدِهِمْ لِأَنَّ من بَعْدَهُمْ جَمَعَ سَبْرًا أَكْثَرَ منهم وَيَنْبَغِي أَنْ يَتْبَعَ الْمُتَأَخِّرِينَ منهم على قَضِيَّةِ هذا قال إنَّمَا الظَّاهِرُ في التَّعْلِيلِ في الْعَوَامّ أَنَّهُمْ لو كُلِّفُوا تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ لَكَانَ فيه من الْمَشَقَّةِ عليهم ما لَا يُطِيقُونَ من تَعْطِيلِ مَعَاشِهِمْ وَغَيْرِ ذلك فَلِهَذَا سَقَطَ عَنْهُمْ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ

قُلْت وَسُئِلَ محمد بن سِيرِينَ فَأَحْسَنَ فيها الْجَوَابَ فقال له السَّائِلُ ما مَعْنَاهُ ما كانت الصَّحَابَةُ لِتُحْسِنَ أَكْثَرَ من هذا فقال مُحَمَّدٌ لو أَرَدْنَا فِقْهَهُمْ لَمَا أَدْرَكَهُ عُقُولُنَا رَوَاهُ أبو نُعَيْمٍ في الْحِلْيَةِ وَمَالَ ابن الْمُنَيَّرِ إلَى ما قَالَهُ الْإِمَامُ وَلَكِنْ لِغَيْرِ هذا الْمَأْخَذِ فقال ما حَاصِلُهُ إنَّهُ يَتَطَرَّقُ إلَى مَذْهَبِ الصَّحَابَةِ احْتِمَالَاتٌ لَا يَتَمَكَّنُ الْعَامِّيُّ مَعَهَا من التَّقْلِيدِ من قُوَّةِ عِبَارَاتِهِمْ وَاسْتِصْعَابِهَا على أَفْهَامِ الْعَامَّةِ وَمِنْهَا احْتِمَالُ رُجُوعِ الصَّحَابِيِّ عن ذلك الْمَذْهَبِ كما وَقَعَ لِعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ قد انْعَقَدَ بَعْدَ ذلك الْقَوْلِ على قَوْلٍ آخَرَ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ إسْنَادُ ذلك إلَى الصَّحَابَةِ على شَرْطِ الصِّحَّةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَذَاهِبِ الْمُصَنِّفِينَ فَإِنَّهَا مُدَوَّنَةٌ في كُتُبِهِمْ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُمْ بِنَقْلِهَا عن الْأَئِمَّةِ فَلِهَذِهِ الْغَوَائِلِ حَجَرْنَا على الْعَامِّيِّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ ثُمَّ وَرَاءَ ذلك غَائِلَةٌ هَائِلَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّ الْوَاقِعَةَ التي وَقَعَتْ له هِيَ الْوَاقِعَةُ التي أَفْتَى فيها الصَّحَابِيُّ وَيَكُونُ غَلَطًا لِأَنَّ تَنْزِيلَ الْوَقَائِعِ على الْوَقَائِعِ من أَدَقِّ وُجُوهِ الْفِقْهِ وَأَكْثَرِهَا لِلْغَلَطِ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَتَأَهَّلُ لِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ قَرِيبٌ من الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَتَأَهَّلُ لِلْعَمَلِ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَنُصُوصِهِ وَظَوَاهِرِهِ إمَّا لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ على أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِقَوْلِ الشَّارِعِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ في عُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ يَكَادُ يَكُونُ حُجَّةً فَامْتِنَاعُ تَقْلِيدِهِ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ لَا لِنُزُولِهِ وَأَمَّا ابن الصَّلَاحِ فَجَزَمَ في كِتَابِ الْفُتْيَا بِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وزاد أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ التَّابِعِينَ أَيْضًا وَلَا من لم يُدَوَّنْ مَذْهَبُهُ وَإِنَّمَا يُقَلِّدُ الَّذِينَ دُوِّنَتْ مَذَاهِبُهُمْ وَانْتَشَرَتْ حتى ظَهَرَ منها تَقْيِيدُ مُطْلَقِهَا وَتَخْصِيصُ عَامِّهَا بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فإنه نُقِلَتْ عَنْهُمْ الْفَتَاوَى مُجَرَّدَةً فَلَعَلَّ لها مُكَمِّلًا أو مُقَيِّدًا أو مُخَصِّصًا أو أُنِيطَ كَلَامُ قَائِلِهِ فَامْتِنَاعُ التَّقْلِيدِ إنَّمَا هو لِتَعَذُّرِ نَقْلِ حَقِيقَةِ مَذْهَبِهِمْ وَعَلَى هذا فَيَنْحَصِرُ التَّقْلِيدُ في الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُد على خِلَافٍ في دَاوُد حَكَاهُ ابن الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ ذَوُو الْأَتْبَاعِ وَلِأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ جَرِيرٍ أَتْبَاعٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ يُقَلَّدُونَ لِأَنَّهُمْ قد نَالُوا رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَهُمْ بِالصُّحْبَةِ يَزْدَادُونَ رِفْعَةً وَهَذَا هو الصَّحِيحُ إنْ عُلِمَ دَلِيلُهُ وقد قال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ

في فَتَاوِيهِ إذَا صَحَّ عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَذْهَبٌ في حُكْمٍ من الْأَحْكَامِ لم تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ أَوْضَحَ من دَلِيلِهِ وقد قال لَا خِلَافَ بين الْفَرِيقَيْنِ في الْحَقِيقَةِ بَلْ إنَّ تَحَقُّقَ ثُبُوتِ مَذْهَبٍ عن وَاحِدٍ منهم جَازَ تَقْلِيدُهُ وِفَاقًا وَإِلَّا فَلَا لَا لِكَوْنِهِ لَا يُقَلَّدُ بَلْ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ لم يَثْبُتْ حَقَّ الثُّبُوتِ وقال ابن بَرْهَانٍ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ يَنْبَنِي على جَوَازِ الِانْتِقَالِ في الْمَذَاهِبِ فَمَنْ مَنَعَهُ قال مَذَاهِبُ الصَّحَابَةِ لم تَكْثُرْ فُرُوعُهَا حتى يُمْكِنَ الْمُكَلَّفُ الِاكْتِفَاءَ بها فَيُؤَدِّيهِ ذلك إلَى الِانْتِقَالِ وهو مَمْنُوعٌ وَمَذَاهِبُ الْمُتَأَخِّرِينَ ضُبِطَتْ فَيَكْفِي الْمَذْهَبُ الْوَاحِدُ الْمُكَلَّفَ طُولَ عُمُرِهِ فَيَكْمُلُ هذا الْحُكْمُ وهو مَنْعُ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ وقال إلْكِيَا بَعْدَ أَنَّ قَرَّرَ مَنْعَ الِانْتِقَالِ الْوَاحِدُ مِنَّا لَا يَأْخُذُ بِمَذْهَبِ الصَّحَابَةِ إذَا كان مُقَلِّدًا بَلْ يَأْخُذُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أو غَيْرِهِ من أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ من حَيْثُ إنَّ الْأُصُولَ التي وَضَعَهَا أبو بَكْرٍ لَا تَفِي بِمَجَامِعِ الْمَسَائِلِ وَأَمَّا الْأُصُولُ التي وَضَعَهَا الشَّافِعِيُّ وأبو حَنِيفَةَ فَهِيَ وَافِيَةٌ بها فَلَوْ قُلْنَا بِتَقْلِيدِ الصِّدِّيقِ في حُكْمٍ لَزِمَ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ في حُكْمٍ آخَرَ وقد لَا يَجِدُهُ مَسْأَلَةٌ الْقَائِلُونَ بِالتَّقْلِيدِ أَوْجَبُوا التَّقْلِيدَ في هذه الْأَعْصَارِ وَمُسْتَنَدُهُمْ فيه أَنَّهُمْ اسْتَوْعَبُوا الْأَسَالِيبَ الشَّرْعِيَّةَ فلم يَبْقَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أُسْلُوبٌ مُتَمَاسِكٌ على السَّبْرِ وَلِهَذَا لَمَّا أَحْدَثَتْ الظَّاهِرِيَّةُ وَالْجَدَلِيَّةُ بَعْدَهُمْ خِلَافَ أَسَالِيبِهِمْ قَطَعَ كُلُّ مُحَقِّقٍ أنها بِدَعٌ وَمَخَارِقُ لَا حَقَائِقَ لَكِنَّ الْجَدَلِيَّةَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تَثْبُتُ بِتِلْكَ الْأَسَالِيبِ الْجَدَلِيَّةِ وَإِنَّمَا عُمْدَتُهُمْ في اسْتِحْدَاثِهَا تَمْرِينُ الْأَذْهَانِ وَتَفْتِيحُ الْأَفْكَارِ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ يَعْتَقِدُونَ أنها مُسْتَنَدَاتٌ وَحُجَجٌ عِنْدَ اللَّهِ يَلْقَى بها فَلَا وَأَمَّا الظَّاهِرِيَّةُ فلما أَحْدَثُوا قَوَاعِدَ تُخَالِفُ قَوَاعِدَ الْأَوَّلِينَ أَفْضَتْ بِهِ إلَى الْمُنَاقَضَةِ لِمَجْلِسِ الشَّرِيعَةِ وَلَمَّا اجْتَرَءُوا على دَعْوَى أَنَّهُمْ على الْحَقِّ وَأَنَّ غَيْرَهُمْ على الْبَاطِلِ أُخْرِجُوا من أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ ولم يَعُدَّهُمْ الْمُحَقِّقُونَ من أَحْزَابِ الْفُقَهَاءِ وَسَبَقَ في بَابِ الْإِجْمَاعِ الْكَلَامُ على أَنَّهُ هل يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ وَهَذَا كُلُّهُ يُوَضِّحُ أَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَى اتِّبَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ لِأَنَّهُمْ سَبَقُوهُمْ بِالْبُرْهَانِ حتى لم يُبْقُوا لهم بَاقِيَةً يَسْتَبِدُّونَ بها وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ من يَشَاءُ وَلَكِنَّ الْفَضْلَ لِلْمُتَقَدِّمِ وَظَهَرَ بهذا تَعَذُّرُ إثْبَاتِ مَذْهَبٍ مُسْتَقِلٍّ بِقَوَاعِدَ

مَسْأَلَةٌ قال الشَّيْخُ أبو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ في كِتَابِ الْمُحِيطِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْتَحِلَ نِحْلَةَ الشَّافِعِيِّ أو غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ له من نَوْعِ اجْتِهَادٍ وَسَهَّلَ ذلك على الْعَامِّيِّ فإنه إذَا قِيلَ له فُلَانٌ يَتَّبِعُ السُّنَنَ وَفُلَانٌ يُخَالِفُهَا بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِحْسَانِ ثُمَّ قال بَعْدَ كَلَامٍ له خَرَجَ لنا من هذا أَنَّ الْجُهَّالَ مَمْنُوعُونَ من التَّقْلِيدِ في شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا أَصْلُ التَّوْحِيدِ والثاني أَصْلُ الْمَذْهَبِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ اخْتَلَفَ الناس فِيمَا اخْتَلَفَ فيه الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ ما الذي أَوْجَبَ على قَوْمٍ اخْتِيَارَ مَذْهَبٍ من الْمَذَاهِبِ دُونَ غَيْرِهِ فَذَهَبَ أَصْحَابُ دَاوُد وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ إلَى أَنَّا إنَّمَا رَجَعْنَا إلَى مَذَاهِبِهِمْ وَالْأَخْذِ بِأَقَاوِيلِهِمْ وَالْعَمَلِ بِفَتَاوَاهُمْ تَقْلِيدًا له وَلَا يَجِبُ الْفَحْصُ وَالْبَحْثُ عن الْأَدِلَّةِ وَمِنْهُمْ من قال بِصِحَّةِ قَوْلِهِمْ دُونَ قَوْلِ غَيْرِهِمْ وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدَّعِيَ لِأَحَدٍ منهم الْعِصْمَةَ في جَمِيعِ ما ذَهَبَ إلَيْهِ وَقَالَهُ فإن هذه مَرْتَبَةُ الْأَنْبِيَاءِ قال وَالصَّحِيحُ الذي ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ ما ذَهَبَ إلَيْهِ أَصْحَابُنَا أَنَّا إنَّمَا صِرْنَا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا على طَرِيقِ التَّقْلِيدِ وَإِنَّمَا هو من طَرِيقِ الدَّلِيلِ وَذَلِكَ أَنَّا وَجَدْنَاهُ أَهْدَى الناس في الِاجْتِهَادِ وَأَكْمَلَهُمْ آلَةً وَهِدَايَةً فيه فلما كانت طَرِيقَتُهُ أَسَدَّ الطُّرُقِ سَلَكْنَاهُ في الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ في الْأَحْكَامِ وَالْفَتَاوَى لَا أَنَّا قَلَّدْنَاهُ أَمَّا في اللُّغَةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ فَلِأَنَّهُ كان أَعْلَمَ الْأَئِمَّةِ بِذَلِكَ بَلْ قَوْلُهُ حُجَّةٌ في اللُّغَةِ وهو أَوَّلُ من صَنَّفَ في الْأُصُولِ قال أَحْمَدُ لم نَكُنْ نَعْرِفُ الْخُصُوصَ وَالْعُمُومَ حتى وَرَدَ الشَّافِعِيُّ وَأَمَّا في الحديث فَقَدْ فَزِعَ أَصْحَابُنَا من أَنْ يَذْكُرُوا فَضْلَهُ على غَيْرِهِ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُقْبَلَ منهم لِأَجْلِ مَالِكٍ وَمِنْهُ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَلَيْسَ كما زَعَمُوا بَلْ جَمِيعُ ما عَوَّلَ عليه مَالِكٌ حَفِظَهُ الشَّافِعِيُّ وزاد عليه بِرِوَايَتِهِ عن غَيْرِهِ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ كان أَقْدَمَ في هذه الصَّنْعَةِ من مَالِكٍ وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَأَمَّا الْآي وَالسُّنَنُ وَالْآثَارُ فَكَانَ أَعْلَمَهُمْ بها انْتَهَى قال ابن الصَّلَاحِ وَدَعْوَى انْتِفَاءِ التَّقْلِيدِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ إلَّا أَنْ يَكُونُوا قد أَحَاطُوا بِعُلُومِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَعْلُومِ من أَحْوَالِهِمْ وَذَهَبَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ هو الذي يَجِبُ على كل مَخْلُوقٍ عَامِّيٍّ تَقْلِيدُهُ وَتَابَعَهُمَا على ذلك طَائِفَةٌ

وَذَهَبَ ابن حَزْمٍ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَلَّدُ إلَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ فَإِنْ كان لَا بُدَّ من غَيْرِهِمْ تَقْلِيدًا فَيَتَعَيَّنُ محمد بن نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَطْنَبَ في وَصْفِ مُحَمَّدِ بن نَصْرٍ وَهَذَا لَا يَخْرُجُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَكَأَنَّ ابْنَ حَزْمٍ يَدَّعِي أَنَّهُ إنْ كان لَا بُدَّ من تَقْلِيدٍ فَلْيُقَلَّدْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ قال وَالتَّقْلِيدُ إنَّمَا اُبْتُدِئَ بِهِ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْأَرْبَعِينَ من الْهِجْرَةِ ولم يَكُنْ في الْإِسْلَامِ قبل ذلك مُسْلِمٌ وَاحِدٌ فَصَاعِدًا يُقَلِّدُ عَالِمًا بِعَيْنِهِ لَا يُخَالِفُهُ قال ابن الْمُنَيَّرِ وقد ذَكَرَ قَوْمٌ من أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ في تَفْضِيلِ أَئِمَّتِهِمْ وَأَحَقُّ ما يُقَالُ في ذلك ما قالت أُمُّ الْكَمَلَةِ عن بَنِيهَا ثَكِلْتُهُمْ إنْ كُنْت أَعْلَمُ أَيَّهُمْ أَفْضَلَ كَالْحَلْقَةِ الْمُفْرَغَةِ لَا يُدْرَى أَيْنَ طَرَفَاهَا فما من وَاحِدٍ منهم إذَا تَجَرَّدَ النَّظَرُ إلَى خَصَائِصِهِ إلَّا وَيَفْنَى الزَّمَانُ حتى لَا يَبْقَى فِيهِمْ فَضْلَةٌ لِتَفْضِيلٍ على غَيْرِهِ وَهَذَا سَبَبُ هُجُومِ الْمُفَضَّلِينَ على التَّعْيِينِ لِأَجْلِ غَلَبَةِ الْعَادَةِ فَلَا يَكَادُ يَسَعُ ذِهْنُ أَحَدٍ من أَصْحَابِهِ لِتَفْضِيلِ غَيْرِ مُقَلِّدِهِ إلَى ضِيقِ الْأَذْهَانِ عن اسْتِيعَابِ خَصَائِصِ الْمُفَضَّلِينَ جَاءَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وما نُرِيهِمْ من آيَةٍ إلَّا هِيَ أَكْبَرُ من أُخْتِهَا يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ إذَا جُرِّدَ النَّظَرُ إلَيْهَا قال النَّاظِرُ حِينَئِذٍ هذه أَكْبَرُ الْآيَاتِ وَإِلَّا فما يُتَصَوَّرُ في آيَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَكْبَرَ من الْأُخْرَى بِكُلِّ اعْتِبَارٍ لِتَنَاقُضِ الْأَفْضَلِيَّةِ وَالْمَفْضُولِيَّةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ انْخَرَقَتْ بِهِمْ الْعَادَةُ على مَعْنَى الْكَرَامَةِ عِنَايَةً من اللَّهِ بِهِمْ فإذا قِيسَ أَحْوَالُهُمْ بِأَحْوَالِ أَقْرَانِهِمْ كانت خَارِقَةً لِعَوَائِدِ أَشْكَالِهِمْ مَسْأَلَةٌ من قَلَّدَ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ ثُمَّ ارْتَفَعَ قَلِيلًا إلَى دَرَجَةِ الْفَهْمِ وَالِاسْتِبْصَارِ فإذا رَأَى حَدِيثًا مُحْتَجًّا بِهِ يُخَالِفُ رَأْيَ إمَامِهِ وقال بِهِ قَوْمٌ فَهَلْ له الِاجْتِهَادُ وفي ذلك أَطْلَقَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ وابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْأَخْذُ بِالْحَدِيثِ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَقَدْ قال إذَا رَأَيْتُمْ قَوْلِي بِخِلَافِ قَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَخُذُوا بِهِ وَدَعُوا قَوْلِي وقال الْقَرَافِيُّ قد اعْتَمَدَ كَثِيرٌ من فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ على هذا وهو غَلَطٌ فإنه لَا بُدَّ من انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ وَالْعِلْمُ بِعَدَمِ الْمُعَارِضِ يَتَوَقَّفُ على من له أَهْلِيَّةُ اسْتِقْرَاءِ الشَّرِيعَةِ حتى يُحْسِنَ أَنْ يُقَالَ لَا مُعَارِضَ لِهَذَا الحديث أَمَّا اسْتِقْرَاءُ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ وَهَذَا الذي قَالَهُ الْقَرَافِيُّ تَحْجِيرٌ وما يُرِيدُ بِ انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ إنْ كان في نَفْسِ الْأَمْرِ فَبَاطِلٌ أَمَّا على قَوْلِ الْمُصَوِّبَةِ فَبَاطِلٌ وَأَمَّا على قَوْلِ أَنَّ الْمُصِيبَ

وَاحِدٌ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِمَا في نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَإِنْ كان الْمُرَادُ بِهِ في نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْقَوْلِ إذَا كان له الْحُكْمُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ دَلِيلٌ ثُمَّ يقول إذَا صَحَّ حَدِيثٌ أَقْوَى مِمَّا عِنْدِي فَذَلِكَ مَذْهَبِي فَخُذُوا بِهِ وَاتْرُكُوا قَوْلِي فَكَيْفَ يَصِحُّ هذا مع عَدَمِ الْمُعَارِضِ قال ابن الصَّلَاحِ وقد عَمِلَ بهذا جَمْعٌ من الْأَصْحَابِ كَالْبُوَيْطِيِّ وَالدَّارَكِيِّ وَغَيْرِهِمَا من الْأَصْحَابِ وَلَيْسَ هذا بِالْهَيِّنِ فَلَيْسَ كُلُّ فَقِيهِ يُسَوِّغُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِالْعَمَلِ بِمَا يَرَاهُ حُجَّةً من الْمَذْهَبِ وقد عَمِلَ أبو الْوَلِيدِ بن الْجَارُودِ بِحَدِيثٍ تَرَكَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَجَابَ عنه وهو حَدِيثُ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ وَعَنْ ابْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّهُ قِيلَ له هل تَعْرِفُ سُنَّةً لِلرَّسُولِ في الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لم يُودِعْهَا الشَّافِعِيُّ كِتَابَهُ قال لَا قال أبو عَمْرٍو وَعِنْدَ هذا نَقُولُ إنْ كان فيه آلَاتُ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا أو في ذلك الْبَابِ أو في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كان له الِاسْتِقْلَالُ بِالْعَمَلِ بِذَلِكَ الحديث وَإِنْ لم تَكْتَمِلُ آلَتُهُ وَوَجَدَ في قَلْبِهِ حَزَازَةً من الحديث ولم يَجِدْ له مُعَارِضًا بَعْدَ الْبَحْثِ فَإِنْ كان قد عَمِلَ بِذَلِكَ الحديث إمَامٌ مُسْتَقِلٌّ فَلَهُ التَّمَذْهُبُ بِهِ وَيَكُونُ ذلك عُذْرًا له في تَرْكِ قَوْلِ إمَامِهِ وقال أبو زَكَرِيَّا النَّوَوِيُّ إنَّمَا يَكُونُ هذا لِمَنْ له رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ في الْمَذْهَبِ أو قَرِيبٌ منه وَشَرْطُهُ أَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ لم يَقِفْ على هذا الحديث أو لم يَعْلَمْ صِحَّتَهُ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ مُطَالَعَةِ كُتُبِ الشَّافِعِيِّ كُلِّهَا وَنَحْوِهَا من كُتُبِ أَصْحَابِ الْآخِذِينَ عنه وَهَذَا شَرْطٌ صَعْبٌ قَلَّ من يَتَّصِفُ بِهِ وقال ابن الزَّمْلَكَانِيِّ إنْ كانت له قُوَّةٌ لِلِاسْتِنْبَاطِ لِمَعْرِفَتِهِ بِالْقَوَاعِدِ وَكَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ من الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْمَنْقُولِ بِحَيْثُ عَرَفَ ما في الْمَسْأَلَةِ من إجْمَاعٍ أو اخْتِلَافٍ وَجَمَعَ الْأَحَادِيثَ التي فيها وَالْأَدِلَّةَ وَرُجْحَانَ الْعَمَلِ بِبَعْضِهَا فَهَذَا هو الْمُجْتَهِدُ في الْجُزْئِيِّ وَالْمُتَّجَهُ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْعَمَلُ بِمَا قام عِنْدَهُ على الدَّلِيلِ وَلَا يُسَوَّغُ له التَّقْلِيدُ وإذا تَأَمَّلَ الْبَاحِثُ عن حَالِ الْأَئِمَّةِ الْمَنْقُولِ أَقَاوِيلُهُمْ وَعُدُّوا من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ أَنَّهُمْ إنَّمَا عُدُّوا لِذَلِكَ لِاسْتِجْمَاعِهِمْ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ الْكُلِّيَّةَ الْمُشْتَرَكَةَ بين جَمِيعِ الْمَسَائِلِ وَأَحَاطُوا بِأَدِلَّةِ جُمْلَةِ غَالِبٍ من الْأَحْكَامِ وقد عُلِمَ من حَالِ جَمْعٍ منهم

في بَعْضِ الْمَسَائِلِ عَدَمُ الِاطِّلَاعِ على ما وَرَدَ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَمِنْهُمْ من يُعَلِّقُ الْقَوْلَ على صِحَّةِ حَدِيثٍ لم يَكُنْ قد صَحَّ عِنْدَهُ وَمِنْهُمْ من يقول إنْ صَحَّ هذا الْحَدِيثُ كَذَا وَإِنْ صَحَّ قُلْت بِهِ ثُمَّ يَجِدُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ قد صَحَّتْ وَهَذَا الْحَدِيثُ الْمُعَلَّقُ عليه قد صَحَّ أو يُعَلِّلُ رَدَّ الحديث بِعِلَّةٍ ظَهَرَتْ له يَظْهَرُ انْتِفَاؤُهَا وَمِثْلُ ذلك في قَوْلِ الْأَئِمَّةِ كَثِيرٌ وَلَا سِيَّمَا من كَثُرَ أَخْذُهُ بِالرَّأْيِ وَتَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ فإذا كان هذا الْمَوْصُوفُ يُقَلِّدُ الْإِمَامَ في مَسَائِلَ يُسَوَّغُ له التَّقْلِيدُ فيها وَقَعَ له في مَسْأَلَةٍ هذه الْأَهْلِيَّةُ تَعَيَّنَ عليه الرُّجُوعُ إلَى الدَّلِيلِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَامْتَنَعَ عليه التَّقْلِيدُ وَأَمَّا من لم يَبْلُغْ هذه الدَّرَجَةَ بَلْ له أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ وَالتَّرْجِيحِ وَفِيهِ قُصُورٌ عن جَمِيعِ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ الْمُشْتَرَكَةِ وَلَكِنْ جَمَعَ أَدِلَّةَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا وَعَرَفَ مَذْهَبَ الْعُلَمَاءِ فيها لِهَذَا لَا يَتَعَيَّنُ عليه الْعَمَلُ بِقَوْلِ إمَامِهِ وَلَا بهذا الدَّلِيلِ بَلْ يَجُوزُ له التَّقْلِيدُ وَيَنْبَغِي له تَقْلِيدُ من الْحَدِيثُ في جَانِبِهِ إذَا لم يَعْلَمْ اطِّلَاعَ إمَامِهِ عليه وَتَرَكَهُ لِعِلَّةٍ فيه أو لِوُجُودِ أَقْوَى منه أَمَّا إنْ كان قد جَمَعَ أَهْلِيَّةَ الِاجْتِهَادِ الْمُشْتَرَكَةِ بين جَمِيعِ الْمَسَائِلِ ولم يَجْمَعْ أَدِلَّةَ هذه الْمَسَائِلِ بَلْ رَأَى فيها حَدِيثًا يَقُومُ بمثله الْحُجَّةُ فَهَذَا له أَحْوَالٌ أَحَدُهَا أَنْ يَعْلَمَ حُجَّةَ إمَامِهِ كَمُخَالَفَةِ مَالِكٍ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ على خِلَافِهِ فَإِنْ كان مِمَّنْ يَعْتَقِدُ رُجْحَانَ مَذْهَبِ إمَامِهِ بِطَرِيقِهِ فَلْيَعْمَلْ بِقَوْلِهِ وهو أَوْلَى وَإِنْ لم يَتَعَيَّنْ الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْلَمَ إجْمَالًا أَنَّ لِإِمَامِهِ أو لِمَنْ خَالَفَ الْعَمَلَ بهذا الحديث أَدِلَّةً يَجُوزُ مَعَهَا الْمُخَالَفَةُ أو يَقْوَى فَلَا يَتَعَيَّنُ عليه بَلْ لَا يَتَرَجَّحُ مُخَالَفَةُ إمَامِهِ وَلَهُ تَقْلِيدُ الْقَائِلِ بِالْحَدِيثِ من الْمُجْتَهِدِينَ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَعْلَمَ الْحُجَّةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِمُخَالَفَةِ الحديث إجْمَالًا وَلَا تَفْصِيلًا وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُخَالِفِ حُجَّةٌ تَسُوغُ مَعَهَا الْمُخَالَفَةُ وَأَنْ لَا يَكُونَ لِكَوْنِهِ لم يَجْمَعْ أَدِلَّةَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ نَقْلًا وَاسْتِدْلَالًا فَالْأَوْلَى بهذا تَتَبُّعُ الْمَآخِذِ فإذا لم يَتَبَيَّنْ له ما يُعَارِضُ الحديث من أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَالْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ أَوْلَى تَقْلِيدًا لِمَنْ عَمِلَ بِهِ وَلَهُ الْبَقَاءُ على تَقْلِيدِ إمَامِهِ وَيَدُلُّ لِهَذَا ما اُسْتُقْرِئَ من أُصُولِ الصَّحَابَةِ وَمُقَلِّدِيهِمْ فَإِنَّهُمْ لم يُنْكِرُوا على من اسْتَفْتَاهُمْ في مَسْأَلَةٍ وَسَأَلَ غَيْرَهُمْ عن أُخْرَى أُمِرَ بِالْعَوْدِ إلَى من قَلَّدَ قبل ذلك

مَسْأَلَةٌ الْبَارِعُ في الْمَذْهَبِ وَمَآخِذِهِ هل له أَنْ يُفْتِيَ أو يَحْكُمَ بِالْوُجُوهِ الْمَرْجُوحَةِ إذَا قَوِيَ مُدْرِكُهَا لم أَرَ فيه نَصًّا وَيَحْتَمِلُ أَوْجُهًا منها التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذلك الْوَجْهِ أَفْتَى بِهِ فَيَجُوزُ أو قَالَهُ على سَبِيلِ التَّجْوِيزِ وَالِاحْتِمَالِ وَتَبَيَّنَ الْمَأْخَذُ فَلَا ومنها وهو الْأَقْرَبُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ ذلك من بَابِ الِاحْتِيَاطِ في الدِّينِ كَجَرَيَانِ الرَّبَّا في الْفُلُوسِ إذَا رَاجَتْ رَوَاجَ النُّقُودِ وَبُطْلَانِ بَيْعِ الْعَيِّنَةِ أَنْ يَكُونَ لِمَنْ اتَّخَذَهُ عَادَةً وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ من بَابِ التَّرْخِيصِ وَالتَّخْفِيفِ فَمُمْتَنِعٌ وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ تَبَحُّرِ ذلك الْمُفْتِي أو الْحَاكِمِ في الْمَذْهَبِ وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ قَطْعًا وَحَيْثُ جَازَ فَلَا يُنْسَبُ ذلك إلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ إذَا لم يَثْبُتْ له الْقَوْلُ الْمُخَرَّجُ فَالْوَجْهُ أَوْلَى وهو فِيمَا إذَا كان له نَصٌّ بِخِلَافِهَا أَوْلَى وَلِهَذَا قال الْقَفَّالُ في فَتَاوِيهِ لو قال بِعْتُك صَاعًا من هذه الصُّبْرَةِ نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَقِيلَ له كَيْفَ تُفْتِي في هذه الْمَسْأَلَةِ فقال على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فإن من يَسْأَلُنِي إنَّمَا يَسْأَلُنِي عن مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا عن مَذْهَبِي انْتَهَى وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفَتْوَى غَيْرِهِ أَمَّا في حَقِّ نَفْسِهِ وَقَوِيَ عِنْدَهُ مَذْهَبُ غَيْرِ إمَامِهِ لم يَجُزْ له تَقْلِيدُهُ لَكِنَّ وُقُوعَ هذا نَادِرٌ لِأَنَّ نَظَرَ الْأَئِمَّةِ كان نَظَرًا مُتَنَاسِبًا مُفَرَّعًا في كل مَذْهَبٍ على قَوَاعِدَ لَا تَنْخَرِمُ مَسْأَلَةٌ في تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا امْتِنَاعُهُ وَنُقِلَ عن أَحْمَدَ وَابْنِ شُرَيْحٍ لِأَنَّ اعْتِقَادَ الْمَفْضُولِ كَاعْتِقَادِ الْمُجْتَهِدِ الدَّلِيلَ الْمَرْجُوحَ مع وُجُودِ الْأَرْجَحِ الثَّانِي وهو أَصَحُّهَا وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ الْجَوَازُ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ على تَفَاوُتِهِمْ في الْفَهْمِ ثُمَّ إجْمَاعُهُمْ على تَسْوِيغِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مع وُجُودِ الْأَفْضَلِ وَالثَّالِثُ يَجُوزُ لِمَنْ يَعْتَقِدُهُ فَاضِلًا أو مُسَاوِيًا وَالْخِلَافُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّظَرِ الْوَاحِدِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه تَقْلِيدُ أَفْضَلِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَإِنْ كان نَائِبًا عن إقْلِيمِهِ فَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْخِلَافَ فَعَلَى هذا لَا يَجِبُ على أَحَدٍ الِاشْتِغَالُ بِتَرْجِيحِ إمَامٍ على

إمَامٍ بَعْدَ اجْتِمَاعِ شَرَائِطِ الْفَتْوَى وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ اجْتِهَادُ الْعَامِّيِّ في النَّظَرِ في الْأَعْلَمِ وَسَيَأْتِي مَسْأَلَةٌ غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ يَجُوزُ له تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ الْحَيِّ بِاتِّفَاقٍ كَذَا قالوا لَكِنْ مَنَعَهُ ابن حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ وَرَوَى بِسَنَدِهِ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه النَّهْيَ عن تَقْلِيدِ الْأَحْيَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عليه الْفِتْنَةُ قال وَإِنْ كان لَا مَحَالَةَ مُقَلِّدًا فَلْيُقَلِّدْ الْمَيِّتَ انْتَهَى فَإِنْ قَلَّدَ مَيِّتًا فَفِيهِ مَذَاهِبُ أَحَدُهَا وهو الْأَصَحُّ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا كما قَالَهُ الرُّويَانِيُّ الْجَوَازُ وقد قال الشَّافِعِيُّ الْمَذَاهِبُ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ أَرْبَابِهَا وَلَا بِفَقْدِ أَصْحَابِهَا وَرُبَّمَا حُكِيَ فيه الْإِجْمَاعُ وَأَيَّدَهُ الرَّافِعِيُّ بِمَوْتِ الشَّاهِدِ بَعْدَمَا يُؤَدِّي شَهَادَتَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فإن شَهَادَتَهُ لَا تَبْطُلُ قُلْت وَلِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ من بَعْدِي أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَقَوْلُهُ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ وَلِهَذَا يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ في الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ وَاحْتَجَّ الْأُصُولِيُّونَ عليه بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ في زَمَانِنَا على جَوَازِ الْعَمَلِ بِفَتَاوَى الْمَوْتَى وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ قال الْهِنْدِيُّ وَهَذَا فيه نَظَرٌ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ من أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَهُمْ الْمُجْتَهِدُونَ وَالْمُجْمِعُونَ لَيْسُوا مُجْتَهِدِينَ فَلَا يُعْتَبَرُ إجْمَاعُهُمْ بِحَالٍ أو نَقُولُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى إنَّمَا يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُهُمْ على جَوَازِ إفْتَاءِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ فَلَوْ أَثْبَتَ جَوَازَ إفْتَائِهِ بهذا لَزِمَ الدَّوْرُ انْتَهَى وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ إجْمَاعُ الْمُجْتَهِدِينَ قَاطِبَةً ثُمَّ قال وَالْأَوْلَى في ذلك التَّمَسُّكُ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّا لو لم نُجَوِّزْ ذلك لَأَدَّى إلَى فَسَادِ أَحْوَالِ الناس وَهَذَا شَيْءٌ سَبَقَهُ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا لو مَنَعْنَا من تَقْلِيدِ الْمَاضِينَ لَتَرَكْنَا الناس حَيَارَى وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ الْخِلَافَ يَجْرِي وَإِنْ لم يَكُنْ في الْعَصْرِ مُجْتَهِدٌ وَذَلِكَ هو صَرِيحُ قَوْلِ الْمَحْصُولِ إنَّهُ لَا يَجْتَهِدُ الْيَوْمَ مع قَوْلِهِ قَبْلَهُ لَا يُقَلَّدُ الْمَيِّتُ وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كان في الْقُطْرِ مُجْتَهِدٌ وَمُجْتَهِدُونَ فَمِنْ

قَائِلٍ مَوْتُ الْمُجْتَهِدِ لَا يُمِيتُ قَوْلَهُ فَكَأَنَّهُ أَحَدُ الْأَحْيَاءِ فَيُقَلَّدُ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَمِنْ قَائِلٍ بَلْ يَبْطُلُ قَوْلُهُ وَيَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْحَيِّ وقد كان يُمْكِنُ أَنْ يُفَصِّلَ بين أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ أَرْجَحَ من الْحَيِّ فَلَا يُتْرَكُ قَوْلُهُ لَا سِيَّمَا إذَا أَوْجَبْنَا تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ أو يُفَصِّلَ بين أَنْ يَطَّلِعَ الْمُجْتَهِدُ الْحَيُّ على مَأْخَذِ الْمَيِّتِ ثُمَّ يُخَالِفُهُ فَلَا يُقَلِّدُ الْمَيِّتَ حِينَئِذٍ أو لَا يَطَّلِعُ فَيُقَلِّدُ فيه نَظَرٌ وَاحْتِمَالٌ وَالثَّانِي الْمَنْعُ الْمُطْلَقُ إمَّا لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ كَمَنْ تَجَدَّدَ فِسْقُهُ بَعْدَ عَدَالَتِهِ لَا يَبْقَى حُكْمُ عَدَالَتِهِ وَإِمَّا لِأَنَّ قَوْلَهُ وَصْفُهُ وَبَقَاءُ الْوَصْفِ مع زَوَالِ الْأَصْلِ مُحَالٌ وَإِمَّا لِأَنَّهُ لو كان حَيًّا لَوَجَبَ عليه تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَجْدِيدِهِ لَا يَتَحَقَّقُ بَقَاؤُهُ على الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَتَقْلِيدُهُ بِنَاءً على وَهْمٍ أو تَرَدُّدٍ وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَهَذَا الْوَجْهُ نَقَلَهُ ابن حَزْمٍ عن الْقَاضِي قال وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُ وَنَصَرَهُ ابن الْفَارِضِ الْمُعْتَزِلِيُّ في كِتَابِ النُّكَتِ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ فيه إجْمَاعَ الْأُصُولِيِّينَ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ إنَّهُ الْقِيَاسُ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ فيه فقال اخْتَلَفُوا في غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ هل يَجُوزُ له الْفَتْوَى بِمَا يَحْكِيهِ عن الْمُفْتِينَ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَحْكِيَ عن مَيِّتٍ أو عن حَيٍّ فَإِنْ حَكَى عن مَيِّتٍ لم يَجُزْ له الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لِلْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ مع خِلَافِهِ حَيًّا وَيَنْعَقِدُ مع مَوْتِهِ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ لم يَبْقَ له قَوْلٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنْ قُلْت لِمَ صُنِّفَتْ كُتُبُ الْفِقْهِ مع فَنَاءِ أَصْحَابِهَا قُلْت لِفَائِدَتَيْنِ إحْدَاهُمَا اسْتِبَانَةُ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ من تَصَرُّفِهِمْ في الْحَوَادِثِ وَكَيْفَ بُنِيَ بَعْضُهَا على بَعْضٍ وَالثَّانِيَةُ مَعْرِفَةُ الْمُتَّفَقِ عليه من الْمُخْتَلِفِ فَلَا يُفْتَى بِغَيْرِ الْمُتَّفَقِ عليه ثُمَّ قال وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إذَا كان الرَّاوِي عَدْلًا ثِقَةً مُتَمَكِّنًا من فَهْمِ كَلَامِ الْمُجْتَهِدِ الذي مَاتَ ثُمَّ رَوَى لِلْعَامِّيِّ قَوْلَهُ حَصَلَ لِلْعَامِّيِّ ظَنَّ صِدْقِهِ ثُمَّ إذَا كان الْمُجْتَهِدُ عَدْلًا ثِقَةً عَالِمًا فَذَلِكَ يُوجِبُ ظَنَّ صِدْقِهِ في تِلْكَ الْفَتْوَى فَحِينَئِذٍ يَتَوَلَّدُ من هَاتَيْنِ الطَّبَقَتَيْنِ لِلْعَامِّيِّ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ نَفْسُ ما رَوَى له هذا الرَّاوِي الْحَيُّ عن ذلك الْمُجْتَهِدِ الْمَيِّتِ وَالْعَمَلُ بِالظَّنِّ وَاجِبٌ فَوَجَبَ أَنْ يَجِبَ على الْعَامِّيِّ الْعَمَلُ بِذَلِكَ وَأَيْضًا فَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ في زَمَانِنَا هذا على جَوَازِ الْعَمَلِ بهذا النَّوْعِ من الْفَتْوَى لِأَنَّهُ ليس في هذا الزَّمَانِ مُجْتَهِدٌ وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ

قال النَّقْشَوَانِيُّ في قَوْلِ الْإِمَامِ ليس في الزَّمَانِ مُجْتَهِدٌ مع قَوْلِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مُنَاقَضَةٌ وقد سَلِمَ في الْمُنْتَخَبِ منها ولم يَقُلْ فيه أَنَّهُ لَا يَجْتَهِدُ في زَمَنِنَا وَاخْتَصَرَهُ صَاحِبُ التَّحْصِيلِ إلَّا أَنَّهُ لم يَقُلْ وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ وَلَكِنْ قال وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ في زَمَانِنَا وَكُلُّ ذلك سَعْيٌ في دَفْعِ التَّنَاقُضِ وَاَلَّذِي فَعَلَهُ في الْمُنْتَخَبِ هو الذي فَعَلَهُ صَاحِبُ الْحَاصِلِ تِلْمِيذُ الْإِمَامِ وهو أَعْرَفُ أَصْحَابِهِ بِكَلَامِهِ فقال وَأَيْضًا فَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ في زَمَانِنَا على جَوَازِ الْعَمَلِ بِفَتَاوَى الْمَوْتَى وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ وَتَبِعَهُ الْبَيْضَاوِيُّ فقال في الْمِنْهَاجِ وَاخْتُلِفَ في تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ لِلْإِجْمَاعِ عليه في زَمَانِنَا فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَصَرَّفُوا في كَلَامِ الْإِمَامِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاَلَّذِينَ نَقَلُوا كَلَامَهُ اعْتَرَضُوا عليه بِالْمُنَاقَضَةِ كالنقشواني وَاَلَّذِي يَدْفَعُ التَّنَاقُضَ أَنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ لَا مُجْتَهِدَ في الزَّمَانِ لَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ في زَمَانِنَا لِأَنَّ الْمَعْنَى بِهِ إجْمَاعُ السَّابِقِينَ على حُكْمِ أَهْلِ هذا الزَّمَانِ فيه كما أَنَّا نَحْكُمُ الْآنَ على أَهْلِ الزَّمَانِ الذي تَنْدَرِسُ فيه أَعْلَامُ الشَّرِيعَةِ وقد عَقَدَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْغِيَاثِيِّ بَابًا عَظِيمًا في ذلك وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ سَيَأْتِي وَالثَّالِثُ الْجَوَازُ بِشَرْطِ فَقْدِ الْحَيِّ وَجَزَمَ إلْكِيَا وابن بَرْهَانٍ وَالرَّابِعُ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ له أَهْلٌ لِلْمُنَاظَرَةِ مُجْتَهِدًا في ذلك الْمُجْتَهَدِ الذي يُحْكَى عنه فَيَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا قَالَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هذا مَأْخُوذًا من وَجْهٍ حَكَاه الرَّافِعِيُّ في مَسْأَلَةِ ما إذَا عَرَفَ الْعَامِّيُّ مَسْأَلَةً أو مَسَائِلَ بِدَلَائِلِهَا أَنَّهُ إنْ كان الدَّلِيلُ نَقْلِيًّا جَازَ أو قِيَاسِيًّا فَلَا وَعَلَى هذا فَيَنْبَغِي لِلْهِنْدِيِّ أَنْ يُقَيِّدَ تَفْصِيلَهُ بِمَا إذَا كان الْمَنْقُولُ قِيَاسِيًّا وَأَنْ لَا يُجَوِّزَهُ إذَا كان نَقْلِيًّا لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ فإن الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ وَلَا فُتْيَاهُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ بهذا الْقَدْرِ من الْمَعْرِفَةِ لَا يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ عَامًّا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْهِنْدِيَّ إنَّمَا أَخَذَ تَفْصِيلَهُ من بِنَاءِ الْأَصْحَابِ جَوَازَ فُتْيَا مُتَبَحِّرِ الْمَذْهَبِ بِمَذْهَبِ الْمَيِّتِ على جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ النَّاقِلَ بِحَيْثُ لَا يُوثَقُ بِنَقْلِهِ فَهْمًا وَإِنْ وُثِقَ بِهِ نَقْلًا تَطَرَّقَ عَدَمُ الْوُثُوقِ بِفَهْمِهِ إلَى عَدَمِ الْوُثُوقِ بِنَقْلِهِ وَصَارَ عَدَمُ قَبُولِهِ لِعَدَمِ حُجَّةِ الْمَذْهَبِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ لَا لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُقَلِّدُ فَلَيْسَ التَّفْصِيلُ وَاقِفًا غير أَنَّ عُذْرَ الْهِنْدِيِّ أَنَّهُ لم يَعْقِدْ الْمَسْأَلَةَ لِتَقْلِيدِ الْمَيِّتِ كما فَعَلَ الْإِمَامُ

تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ قِيلَ الْخِلَافُ هُنَا مُخْرِجٌ من الْخِلَافِ في إعَادَةِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ مَرَّةً أُخْرَى الثَّانِي قَيَّدَ بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِمَا إذَا كان في الْعَصْرِ مُجْتَهِدٌ أو مُجْتَهِدُونَ فَإِنْ لم يَكُنْ فَلَا خِلَافَ في تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ لِئَلَّا تَضِيعَ الشَّرِيعَةُ قال وَإِطْلَاقُ من أَطْلَقَ مَحْمُولٌ عليه إنَّمَا النَّظَرُ في شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا لم يَخْلُ عن مُجْتَهِدٍ فَفِي ظَنِّ كَثِيرٍ من الناس أَنَّهُ يُقَلِّدُ الْمَيِّتَ حِينَئِذٍ وَالْمَنْقُولُ عن الْغَزَالِيِّ وَابْنِ عبد السَّلَامِ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدِ الْعَصْرِ وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَيِّتِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِجْمَاعُ على تَقْلِيدِ الْمَوْتَى إلَّا من غَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ فَاجْتَمَعَ قَوْلُ الْإِمَامِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَقَوْلُهُ لَا مُجْتَهِدَ في الزَّمَانِ إذَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لو كان في الزَّمَانِ مُجْتَهِدٌ لم يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ على تَقْلِيدٍ بَلْ إمَّا أَنْ تَخْتَلِفَ في ذلك إنْ كان في تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ عِنْدَ وُجُودِ مُجْتَهِدٍ حَيٍّ خِلَافٌ وَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَ على أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يُقَلَّدُ حِينَئِذٍ لِلِاسْتِغْنَاءِ عنه بِالْمُجْتَهِدِ الْحَيِّ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْغَزَالِيِّ وَابْنِ عبد السَّلَامِ وَثَانِيهِمَا إذَا خَلَا عن مُجْتَهِدٍ وَنَقَلَ عن الْمُجْتَهِدِينَ نَاقِلُونَ هل يُؤْخَذُ بِنَقْلِ كل عَدْلٍ أَمْ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِنَقْلِ عَارِفٍ مُجْتَهِدٍ في مَذْهَبِ من يَنْقُلُ عنه هذا مَوْضِعُ الْخِلَافِ وَقَوْلُ الْإِمَامِ فُتْيَا غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ إنْ أَرَادَ رِوَايَتَهُ فَهِيَ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا إذَا كان عَدْلًا وَأَمَّا الْعَمَلُ بِالْمَرْوِيِّ فَإِنْ كان حَيًّا فَلَا شَكَّ في جَوَازِهِ وَإِنْ كان مَيِّتًا فَهِيَ مَسْأَلَةُ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ هذا إذَا كان نَاقِلًا مَحْضًا عن نَصٍّ أَمَّا إذَا كان مُخْرِجًا فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فيه لِأَنَّ الْعَامِّيَّ الصِّرْفَ لَا قُدْرَةَ له على التَّخْرِيجِ فَلَا يُمْكِنُهُ فَعَلَى هذا فَالْخِلَافُ في النَّاقِلِ الْمَحْضِ وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ الْهِنْدِيُّ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ إلَّا بِنَقْلِ مُجْتَهِدٍ في الْمَذْهَبِ قَادِرٍ على النَّظَرِ في الْمُنَاظَرَةِ وَرَجَّحَ غَيْرُهُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِنَقْلِ كل عَدْلٍ وَلَا يَخْفَى في أَنَّ ذلك عِنْدَ التَّعَارُضِ في النَّقْلِ فَرْعٌ لو اسْتَفْتَى مُجْتَهِدًا فَأَجَابَهُ ولم يَعْمَلْ بِفَتْوَاهُ حتى مَاتَ الْمُجْتَهِدُ فَهَلْ يَجُوزُ له الْعَمَلُ بِفَتْوَاهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ وَالْجَوَازُ هُنَا أَقْرَبُ من التي قَبْلَهَا

مَسْأَلَةٌ غَرِيبَةٌ تَعُمُّ بها الْبَلْوَى من عَاصَرَ مُفْتِيًا أَفْتَى بِشَيْءٍ وَصَادَفَ فَتْوَاهُ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ الْإِمَامِ الذي تَقَلَّدَهُ فَهَلْ يَتَّبِعُ الْمُفْتِيَ لِأَنَّهُ لَا يُخَالِفُهُ إلَّا بَعْدَ اعْتِقَادِ تَأْوِيلِهِ أو الْإِمَامَ الْمُتَقَدِّمَ لِظُهُورِ كَلَامِهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْغِيَاثِيِّ وقال فيه تَرَدُّدٌ ثُمَّ قال وَالِاخْتِيَارُ اتِّبَاعُ مُفْتِي الزَّمَانِ من حَيْثُ إنَّهُ بِتَأَخُّرِهِ سَبَرَ مَذَاهِبَ من كان قَبْلَهُ وَنَظَرُهُ في التَّفَاصِيلِ أَشَدُّ من نَظَرِ الْمُقَلَّدِ على الْجُمْلَةِ قال وَلَا يَجِيءُ ذلك في اتِّبَاعِ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ عن الشَّافِعِيِّ لِتَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِمْ وَعُسْرِ الْوُقُوفِ عليها قُلْت وقد عَمِلَ بِذَلِكَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أبو شَامَةَ وَقَدَّمَ فَتْوَى ابْنِ عبد السَّلَامِ في تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ على ظَاهِرِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَصَنَّفَ فيه تَصْنِيفًا قال الْإِمَامُ وَهَذَا إذَا كان الْإِمَامُ الْمُقَلَّدُ نَصَّ في الْمَسْأَلَةِ فَأَمَّا إذَا لم يَصِحَّ فيه مَذْهَبٌ فَلَيْسَ إلَّا تَقْلِيدُ مُفْتِي الزَّمَانِ مَسْأَلَةٌ إذَا اجْتَهَدَ مُجْتَهِدٌ في حَادِثَةٍ فَلَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ أَحَدُهُمَا أَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّهِ شَيْءٌ فَيَعْمَلُ بِهِ ثُمَّ لَا يَتَبَيَّنُ له خِلَافُهُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ فَإِنْ كان مُسْتَنَدُ الثَّانِي أَيْضًا ظَنًّا فَإِنْ كان في حُكْمٍ لم يَنْقُضْهُ إذْ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ وَإِنْ كان في الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ أَخَذَ بِالثَّانِي الذي رَجَحَ عِنْدَهُ وَإِنْ كان مُسْتَنَدُ الثَّانِي أَيْضًا يَقِينًا أَخَذَ بِهِ الثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَظْهَرَ لِلْمُجْتَهِدِ فيه شَيْءٌ فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ وَالْأَصَحُّ الِامْتِنَاعُ وَعَلَى هذا فَيَجِيءُ خِلَافُ التَّخْيِيرِ أو الْوَقْفِ مَسْأَلَةٌ إذَا اجْتَهَدَ مُجْتَهِدٌ في حُكْمِ وَاقِعَةٍ وَبَلَغَ إلَى حُكْمِهَا ثُمَّ تَكَرَّرَتْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ وَتَجَدَّدَ ما يَقْتَضِي الرُّجُوعَ ولم يَكُنْ ذَاكِرًا لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ وَجَبَ تَجْدِيدُ الِاجْتِهَادِ وَكَذَا إنْ لم يَتَجَدَّدْ لَا إنْ كان ذَاكِرًا على الْمُخْتَارِ وَقِيلَ يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ النَّظَرِ لَعَلَّهُ يَظْفَرُ بِخَطَأٍ أو زِيَادَةٍ لِمُقْتَضٍ ذَكَرَ بَعْضَ هذا التَّفْصِيلِ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعُهُ وَفَصَّلَ

أبو الْخَطَّابِ من الْحَنَابِلَةِ بين ما دَلَّ عليه دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ وَأَمَّا ابن السَّمْعَانِيِّ فَأَطْلَقَ حِكَايَةَ وَجْهَيْنِ وَاخْتَارَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَكْرِيرُ الِاجْتِهَادِ وَأَطْلَقَ الرَّافِعِيُّ أَيْضًا حِكَايَةَ وَجْهَيْنِ وقال النَّوَوِيُّ أَصَحُّهُمَا لُزُومُ الِاجْتِهَادِ قال وَهَذَا إذَا لم يَكُنْ ذَاكِرًا لِلدَّلِيلِ الْأَوَّلِ ولم يَتَجَدَّدْ ما قد يُوجِبُ رُجُوعَهُ فَإِنْ كان ذَاكِرًا لم يَلْزَمْهُ قَطْعًا وَإِنْ تَجَدَّدَ ما قد يُوجِبُ الرُّجُوعَ لَزِمَهُ قَطْعًا وقال الْقَاضِي شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ في كِتَابِهِ رَوْضَةِ الْحُكَّامِ إذَا اجْتَهَدَ لِنَازِلَةٍ فَحَكَمَ أو لم يَحْكُمْ ثُمَّ حَدَثَتْ تِلْكَ النَّازِلَةُ ثَانِيًا فَهَلْ يَسْتَأْنِفُ الِاجْتِهَادَ وَجْهَانِ وَالصَّحِيحُ إنْ كان الزَّمَانُ قَرِيبًا لَا يَخْتَلِفُ في مِثْلِهِ الِاجْتِهَادُ لَا يَسْتَأْنِفُ الِاجْتِهَادَ وَإِنْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ اسْتَأْنَفَ انْتَهَى وَهَكَذَا الْعَامِّيُّ يَسْتَفْتِي ثُمَّ تَقَعُ له الْوَاقِعَةُ هل يُعِيدُ السُّؤَالَ فيه هذا الْخِلَافُ وقال الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وَالْخُوَارِزْمِيُّ في الْكَافِي وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ يَنْظُرُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَفْتَاهُ عن نَصِّ كِتَابٍ أو سُنَّةٍ أو إجْمَاعٍ أو كان قد تَبَحَّرَ في مَذْهَبٍ وَاحِدٍ من أَئِمَّةِ السَّلَفِ ولم يَبْلُغْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَأَفْتَاهُ عن نَصِّ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْفَتْوَى الْأُولَى وَكَذَا لو كان الْمُقَلَّدُ مَيِّتًا وَجَوَّزْنَاهُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَفْتَاهُ عن اجْتِهَادٍ أو شَكٍّ فَلَا يَدْرِي وَالْمُقَلَّدُ حَيٌّ فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى السُّؤَالِ ثَانِيًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُهُ على الْجَوَابِ الْأَوَّلِ وَأَصَحُّهُمَا قال الرَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ الْقَفَّالُ أَنَّهُ يَجِبُ عليه تَجْدِيدُ السُّؤَالِ ثَانِيًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ فَعَلَى هذا يُعْمَلُ بِالْفَتْوَى الثَّانِيَةِ سَوَاءً وَافَقَتْ الْأُولَى أَمْ لَا قال في الْبَحْرِ وَهُمَا كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ صلى الظُّهْرَ إلَى جِهَةِ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ صلى الْعَصْرَ هل يَعْمَلُ على اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ قال وَهَذَا عِنْدِي إذَا مَضَتْ مُدَّةُ الْفَتْوَى الْأُولَى يَجُوزُ لِغَيْرِ الِاجْتِهَادِ فيها غَالِبًا فَإِنْ قَرُبَ لم يَلْزَمْ الِاسْتِفْتَاءُ ثَانِيًا قال النَّوَوِيُّ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا لم يَكْثُرْ وُقُوعُ هذه الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ كَثُرَ لم يَجِبْ على الْعَامِّيِّ تَجْدِيدُ السُّؤَالِ قَطْعًا وَحَكَى في الْمَنْخُولِ وَجْهَيْنِ في وُجُوبِ الْمُرَاجَعَةِ ثُمَّ اخْتَارَ التَّفْصِيلَ بين أَنْ تَبْعُدَ الْمَسَافَةُ بَيْنَهُمَا أو تَكَرَّرَ الْوَاقِعَةُ في كل يَوْمٍ كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ فَلَا يُرَاجِعُ قَطْعًا وَأَطْلَقَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في تَعْلِيقِهِ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْمُرَاجَعَةِ على الْمُقَلِّدِ عِنْدَ التَّكْرَارِ وَكَلَامُهُ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ ذلك بِمَا إذَا كانت الْمَسْأَلَةُ مُجْتَهَدًا فيها أَمَّا لو كان الْمُفْتِي حين أَفْتَاهُ قال له ذلك عن نَصٍّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِعَادَةِ وَجَعَلَ الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ فِيمَا إذَا كان الْعَامِّيُّ ذَاكِرًا لِلْحُكْمِ وَإِلَّا وَجَبَ عليه الِاسْتِفْتَاءُ

ثَانِيًا قَطْعِيًّا وَخَصَّ ابن الصَّلَاحِ الْخِلَافَ بِمَا إذَا قَلَّدَ حَيًّا وَقَطَعَ فِيمَا إذَا كان خَبَرًا عن مَيِّتٍ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ تَجْدِيدُ السُّؤَالِ مَسْأَلَةٌ إذَا اجْتَهَدَ في حَادِثَةٍ وَأَفْتَى فيها ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَزِمَ إعْلَامُ الْمُسْتَفْتِي بِالرُّجُوعِ قبل الْعَمَلِ وَكَذَا بَعْدَهُ حَيْثُ يَجِبُ النَّقْضُ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ وَنَقَلَ في الْقَوَاطِعِ أَنَّهُ إنْ كان عَمِلَ بِهِ لم يَلْزَمْهُ وَإِنْ لم يَكُنْ عَمِلَ بِهِ يَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ إنَّمَا يَعْمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ قَوْلُ الْمُفْتِي وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ ليس قَوْلَهُ من تِلْكَ الْحَالَةِ التي يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَهَلْ يَجِبُ نَقْضُ ما عَمِلَ يُنْظَرُ فَإِنْ كان الثَّانِي في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ لم يَنْقُضْهُ وَإِنْ كان بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَجَبَ نَقْضُهُ لَا مَحَالَةَ مَسْأَلَةٌ إذَا رَجَعَ الْمُجْتَهِدُ عن قَوْلٍ تَقَدَّمَ له ولم يَقْطَعْ بِخَطَأِ نَفْسِهِ فَهَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُهُ في ذلك الْقَوْلِ الْمَرْجُوعِ عنه كَلَامُ الشَّافِعِيِّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فإنه قال ليس في حِلٍّ من رَوَى عَنِّي الْقَدِيمَ

الْإِفْتَاءُ وَالِاسْتِفْتَاءُ الْمُفْتِي هو الْفَقِيهُ وقد تَقَدَّمَ في حَدِّ الْفِقْهِ ما يُؤْخَذُ منه اسْمُ الْفَقِيهِ لِأَنَّ من قَامَتْ بِهِ صِفَةٌ جَازَ أَنْ يُشْتَقَّ لها منها اسْمُ فَاعِلٍ قال الصَّيْرَفِيُّ وَمَوْضُوعُ هذا الِاسْمِ لِمَنْ قام لِلنَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ وَعَلِمَ جُمَلَ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَخُصُوصِهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَكَذَلِكَ في السُّنَنِ وَالِاسْتِنْبَاطِ ولم يُوضَعْ لِمَنْ عَلِمَ مَسْأَلَةً وَأَدْرَكَ حَقِيقَتَهَا فَمَنْ بَلَغَ هذه الْمَرْتَبَةَ سَمَّوْهُ هذا الِاسْمَ وَمَنْ اسْتَحَقَّهُ أَفْتَى فِيمَا اُسْتُفْتِيَ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ الْمُفْتِي من اسْتَكْمَلَ فيه ثَلَاثَ شَرَائِطَ الِاجْتِهَادُ وَالْعَدَالَةُ وَالْكَفُّ عن التَّرْخِيصِ وَالتَّسَاهُلِ وَلِلْمُتَسَاهِلِ حَالَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَتَسَاهَلَ في طَلَبِ الْأَدِلَّةِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ وَيَأْخُذُ بِمَبَادِئِ النَّظَرِ وَأَوَائِلِ الْفِكَرِ فَهَذَا مُقَصِّرٌ في حَقِّ الِاجْتِهَادِ وَلَا يَحِلُّ له أَنْ يُفْتِيَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَفْتَى وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَتَسَاهَلَ في طَلَبِ الرُّخَصِ وَتَأَوُّلِ الشُّبَهِ فَهَذَا مُتَجَوِّزٌ في دِينِهِ وهو آثَمُ من الْأَوَّلِ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ الْمُفْتِي جِنْسًا من الْعِلْمِ بِدَلَائِلِهِ وَأُصُولِهِ وَقَصَّرَ فِيمَا سِوَاهُ كَعِلْمِ الْفَرَائِضِ وَعِلْمِ الْمَنَاسِكِ لم يَجُزْ له أَنْ يُفْتِيَ في غَيْرِهِ وَهَلْ يَجُوزُ له أَنْ يُفْتِيَ فيه قِيلَ نعم لِإِحَاطَتِهِ بِأُصُولِهِ وَدَلَائِلِهِ وَمَنَعَهُ الْأَكْثَرُونَ لِأَنَّ لِتَنَاسُبِ الْأَحْكَامِ وَتَجَانُسِ الْأَدِلَّةِ امْتِزَاجًا لَا يَتَحَقَّقُ إحْكَامُ بَعْضِهَا إلَّا بَعْدَ الْإِشْرَافِ على جَمِيعِهَا انْتَهَى وَتَجَوَّزَ ابن الصَّبَّاغِ فَجَوَّزَهُ في الْفَرَائِضِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ لَا تُبْنَى على غَيْرِهَا بِخِلَافِ ما عَدَاهَا من الْأَحْكَامِ فَإِنَّهَا يَرْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وهو حَسَنٌ وَسَوَاءٌ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَقِيلَ لَا يَقْضِي الْقَاضِي في الْمُعَامَلَاتِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ وَيَلْزَمُ الْحَاكِمَ من الِاسْتِظْهَارِ في الِاجْتِهَادِ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُ الْمُفْتِي وفي فَتْوَى الْمَرْأَةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابن الْقَطَّانِ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا قال وَخَصَّهُمَا بِمَا عَدَا أَزْوَاجِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الذُّكُورَةَ لَا تُشْتَرَطُ وَلَا يَلْزَمُ عليه كَوْنُ الْحُكْمِ لَا تَتَوَلَّاهُ امْرَأَةٌ لِأَنَّهَا لَا تَلِي الْإِمَامَةَ فَلَا تَلِي الْحُكْمَ قال ابن الْقَطَّانِ وَهَذَا التَّخْرِيجُ غَلَطٌ بَلْ الصَّوَابُ الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ وَالْمُسْتَفْتِي من ليس بِفَقِيهٍ ثُمَّ إنْ قُلْنَا بِتَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ فَقَدْ يَكُونُ الشَّخْصُ مُفْتِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْرٍ مُسْتَفْتِيًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْعِ فَالْمُفْتِي من كان عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْقُوَّةِ

الْقَرِيبَةِ من الْفِعْلِ وَالْمُسْتَفْتِي من لَا يَعْرِفُ جَمِيعَهَا مسألة المجتهد يجوز له الإفتاء وأما المقلد فقال أبو الحسين البصري وغيره ليس له الإفتاء مطلقا وجوزه قوم مطلقا إذا عرف المسألة بدليلها فذهب الأكثرون إلى أنه إن تحرى مذهب ذلك المجتهد واطلع على مأخذه وكان أهلا للنظر والتفريع على قواعده جاز له الفتوى وإلا فلا ونقله القاضي حسين عن القفال قال القاضي وله أن يخرج على أصوله إن لم يجد له تلك الواقعة قال الروياني وأصل الخلاف أن تقليد المستفتي هل هو لذلك المفتي أو لذلك الميت أي صاحب المذهب وفيه وجهان فإن قلنا للميت فله أن يفتي وإن قلنا للمفتي فليس له ذلك لأنه لم يبلغ مبلغ المجتهدين وقال العلامة مجد الدين بن دقيق العيد في التلقيح توقيف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم أو استرسال الخلق في أهوائهم فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلا متمكنا من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكتفي به لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله عنده وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا هذا مع العلم الضروري بأن نساء الصحابة كن يرجعن في أحكام الحيض وغيره إلى ما يخبر به أزواجهن عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك فعل علي رضي الله عنه حين أرسل المقداد في قصة المذي وفي مسألتنا أظهر فإن مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ممكنة ومراجعة المقلد الآن للأئمة السابقين متعذرة وقد أطبق الناس على تنفيذ أحكام القضاة مع عدم شرائط الاجتهاد اليوم انتهى وقال آخرون إن عدم المجتهد جاز له الإفتاء وإلا فلا وقيل يجوز لمقلد الحي أن يفتي بما شافهه به أو ينقله إليه موثوق بقوله أو وجده مكتوبا في كتاب معتمد عليه ولا يجوز له تقليد الميت وجعل القاضي في مختصر التقريب الخلاف في العالم قال وأجمعوا على أنه لا يحل لمن شدا شيئا من العلم أن يفتي انتهى قال الماوردي والروياني إذا علم العامي حكم الحادثة ودليلها فهل له أن يفتي لغيره

فيه أوجه ثالثها إن كان الدليل نصا من كتاب أو سنة جاز وإن كان نظرا واستنباطا لم يجز قال والأصح أنه لا يجوز مطلقا لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها أقوى منها وقال الجويني في شرح الرسالة من حفظ نصوص الشافعي وأقوال الناس بأسرها غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ولا يكون من أهل الفتوى ولو أفتى به لا يجوز وكان القفال يقول إنه يجوز ذلك إذا كان يحكي مذهب صاحب المذهب لأنه يقلد صاحب المذهب وقوله ولهذا كان يقول أحيانا لو اجتهدت وأدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة فأقول مذهب الشافعي كذا ولكن أقول بمذهب أبي حنيفة لأنه جاء ليعلم ويستفتي عن مذهب الشافعي فلا بد أن أعرفه بأني أفتي بغيره قال الشيخ أبو محمد وهذا ليس بصحيح واختار الأستاذ أبو إسحاق خلافه ونص الشافعي يدل عليه وذلك أنه إذا لم يكن عالما بمعانيه فيكون حاكيا مذهب الغير ومن حكى مذهب الغير والغير ميت لا يلزمه القبول لأنه لو كان حيا وأخبره عنه بفتواه أو مذهبه في زمان لا يجوز له أن يقلده ويقبله كما أن اجتهاد المفتي يتغير في كل زمان ولهذا قلنا إنه لا يجوز لعامي أن يعمل بفتوى مضت لعام مثله فإن قلت أليس خلافه لا يموت بموته فدل على بقاء مذهبه قلنا كما زعمتم لكن هذا الرجل لم يقلده قول هذا الرجل بأن الأمر فيه كيت وكيت فينبغي أن يكون عالما بمصادره وموارده ويدل على فساد ما قاله أنه لو صح فتواه من غير معرفة حقيقة معناه لجاز للعامي الذي جمع فتاوى المفتين أن يفتي ويلزمه مثله ولجاز أن يقول هو مقلد صاحب المقالة ولكن اتفق القائلون به على الامتناع من هذا أما إذا أفتى بمذهب غيره فإن كان متبحرا فيه جاز وإلا فلا قال وكان ابن سريج يفتي أحيانا بمذهب مالك وكان متبحرا لأنه حكى أن أصحاب مالك كانوا يأتونه بمسائل يسألونه إخراجها على أصل مالك فيستخرجها على أصله فدل على أنه من كان بهذه الصفة يجوز وإلا فيمتنع وهكذا كل من كان في مذهب نفسه لا يعرف إلا يسيرا ليس له أن يفتي قال والعلوم أنواع أحدها الفقه وهو فن على حدة فمن بلغ فيه غاية ما وصفناه فله أن يفتي وإن لم يكن معه من أصول التوحيد إلا ما لا بد من اعتقاده ليصح إيمانه وثانيها علم أصول الفقه وما زال الأستاذ أبو إسحاق يقول هو علم بين علمين لا يقوى الفقه دونه ولا يقوى هو دون أصول التوحيد فكأنه فرع لأحدهما

أصل للآخر فيخرج من هذا أن لا نقول أصول الفقه من جنسه حتى لا بد من ضمه إليه لكن لا يقوم دليله دونه وثالثها تفسير القرآن وكل ما تتعلق به الأحكام فليس ذلك من شأن المفسر بل من وظيفة الفقهاء والعلماء وما يتعلق بالوعظ والقصص والوعد والوعيد فيقبل من المفسرين والرابع سنن الرسول لا يقبل من المحدثين ما يتعلق بالأحكام لأنه يحتاج إلى جمع وترتيب وتخصيص وتعميم وهم لا يهتدون إليه وقد حكي عن بعض أكابر المحدثين أنه سئل عن امرأة حائض هل يجوز لها أن تغسل زوجها فقال لهم انصرفوا إلى سويعة أخرى فانصرفوا وعادوا ثانيا وثالثا حتى قال من كان يتردد إلى الفقهاء أليس أيها الشيخ رويت لنا عن عائشة أنها غسلت رأس الرسول صلى الله عليه وسلم وهي حائض فقال الله أكبر ثم أفتى به انتهى وقد سبق آخر الكلام على شروط الاجتهاد كلام لابن دقيق العيد ينبغي استحضاره هنا مَسْأَلَةٌ وَإِنَّمَا يُسْأَلُ من عُرِفَ عِلْمُهُ وَعَدَالَتُهُ بِأَنْ يَرَاهُ مُنْتَصِبًا لِذَلِكَ وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ على سُؤَالِهِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ عَرَفَ بِضِدِّ ذلك إجْمَاعًا وَالْحَقُّ مَنْعُ ذلك مِمَّنْ جُهِلَ حَالُهُ خِلَافًا لِقَوْمٍ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ كَوْنُهُ جَاهِلًا أو فَاسِقًا كَرِوَايَتِهِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْلَ في الناس الْعَدَالَةُ فَخَبَرُ الْمَجْهُولِ يَغْلِبُ على الظَّنِّ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ وَلَيْسَ الْأَصْلُ في الناس الْعِلْمَ وَمِمَّنْ حَكَى الْخِلَافَ في اسْتِفْتَاءِ الْمَجْهُولِ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ وابن الْحَاجِبِ وَنُقِلَ في الْمَحْصُولِ الِاتِّفَاقُ على الْمَنْعِ فَحَصَلَ طَرِيقَانِ وإذا لم يُعْرَفْ عِلْمُهُ بُحِثَ عن حَالِهِ ثُمَّ شَرَطَ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ إخْبَارَ من يُوجِبُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ بِكَوْنِهِ عَالِمًا في الْجُمْلَةِ وَلَا يَكْفِي خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ وَاكْتَفَى في الْمَنْخُولِ في الْعَدَالَةِ خَبَرُ عَدْلَيْنِ وفي الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ

إنِّي مُفْتٍ قال وَاشْتِرَاطُ تَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا كما قَالَهُ الْأُسْتَاذُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ التَّوَاتُرَ يَعْتَمِدُ في الْمَحْسُوسَاتِ وَهَذَا ليس منه وقال الْقَاضِي يَكْفِيهِ أَنْ يُخْبِرَهُ عَدْلَانِ بِأَنَّهُ مُفْتٍ انْتَهَى وَشَرَطَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ من الْمُحَقِّقِينَ امْتِحَانَهُ بِأَنْ يُلَفِّقَ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةً وَيُرَاجِعَهُ فيها فَإِنْ أَصَابَ فيها غَلَبَ على ظَنِّهِ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا وَقَلَّدَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ وَذَهَبَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَتَكْفِي الِاسْتِفَاضَةُ من الناس وهو الرَّاجِحُ في الرَّوْضَةِ وَنَقَلَهُ عن الْأَصْحَابِ وَقِيلَ ليس له اعْتِمَادُ قَوْلِ الْمُفْتِي أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْفَتْوَى وَالْمُخْتَارُ في الْغِيَاثِيِّ اعْتِمَادُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَظْهَرَ وَرَعُهُ كما يَحْصُلُ بِاسْتِفَاضَةِ الْخَبَرِ عنه وَسَبَقَ مِثْلُهُ عن الْغَزَالِيِّ وقال ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ قِيلَ يقول له أَمُجْتَهِدٌ أنت فَأُقَلِّدُك فَإِنْ أَجَابَهُ قَلَّدَهُ وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذَاهِبِ وإذا لم يَعْرِفْ الْعَدَالَةَ فَلِلْغَزَالِيِّ احْتِمَالَانِ قال الرَّافِعِيُّ وَأَشْبَهَهُمَا الِاكْتِفَاءُ فإن الْغَالِبَ من حَالِ الْعُلَمَاءِ الْعَدَالَةُ بِخِلَافِ الْبَحْثِ عن الْعِلْمِ فَلَيْسَ الْغَالِبُ في الناس الْعِلْمَ ثُمَّ ذَكَرَ احْتِمَالَيْنِ في أَنَّهُ إذَا وَجَبَ الْبَحْثُ فَيَفْتَقِرُ إلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ أَمْ يَكْفِي إخْبَارُ عَدْلٍ أو عَدْلَيْنِ قال وَأَقْرَبُهُمَا الثَّانِي قُلْت وَجَزَمَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ بِأَنَّهُ يَكْفِيهِ خَبَرُ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ عن فِقْهِهِ وَأَمَانَتِهِ لِأَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الْإِخْبَارِ قال النَّوَوِيُّ وَالِاحْتِمَالَانِ في مَجْهُولِ الْعَدَالَةِ هُمَا في الْمَسْتُورِ وهو الذي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ ولم يَخْتَبِرْ بَاطِنَهُ وَهُمَا وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا غَيْرُهُ وَأَصَحُّهُمَا الِاكْتِفَاءُ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْبَاطِنَةَ تَعَسَّرَ مَعْرِفَتُهَا على غَيْرِ الْقُضَاةِ فَيَعْسُرُ على الْعَوَامّ تَكْلِيفُهُمْ وَأَمَّا الِاحْتِمَالَانِ الْمَذْكُورَانِ ثَانِيًا فَهُمَا مُحْتَمَلَانِ لَكِنَّ الْمَنْقُولَ خِلَافُهُمَا وَاَلَّذِي قال الْأَصْحَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ من اسْتَفَاضَتْ أَهْلِيَّتُهُ وَقِيلَ لَا تَكْفِي الِاسْتِفَاضَةُ وَلَا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ أنا أَهْلٌ لِلْفَتْوَى وَيَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ من أَخْبَرَ ثَابِتَ الْأَهْلِيَّةِ بِأَهْلِيَّتِهِ قال ابن الْقَطَّانِ في كِتَابِهِ الْأُصُولِ من أَسْلَمَ وهو قَرِيبُ الْعَهْدِ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ من الْمُسْلِمِينَ على ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ فَأَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ فَاخْتَلَفُوا فيه فقال أبو بَكْرٍ في كِتَابِهِ يَجِبُ عليه قَبُولُ ما أَخْبَرَ بِهِ وَلَا يَعْتَبِرُ فيه شَرَائِطَ الْمُفْتِي السَّابِقَةِ وَإِنَّمَا تَجِبُ تِلْكَ الشَّرَائِطُ فِينَا لِأَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْنَا الِاعْتِبَارُ فيها فَأَمَّا الْمُسْلِمُ الْآنَ فَيَشُقُّ عليه هذا وقال ابن أبي هُرَيْرَةَ يُنْظَرُ فَإِنْ كان شيئا وَقْتُهُ مُوَسَّعٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفُ حتى يَسْتَعْلِمَ ذلك من خَلْقٍ وَلَا يُبَادِرُ حتى يَعْلَمَ حَالَ من أَفْتَاهُ وَيُتَابِعُ عليه وَإِنْ كان شيئا وَقْتُهُ مُضَيَّقٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ كَقَوْلِ أبي عَلِيٍّ والثاني يَتَوَقَّفُ في ذلك كما

يَتَوَقَّفُ الْحَاكِمُ في الْعُدُولِ وَغَيْرِهَا مَسْأَلَةٌ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَيَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يُطَالِبَ الْعَالِمَ بِدَلِيلِ الْجَوَابِ لِأَجْلِ احْتِيَاطِهِ لِنَفْسِهِ وَيُلْزِمَ الْعَالِمَ أَنْ يَذْكُرَ له الدَّلِيلَ إنْ كان مَقْطُوعًا بِهِ لِإِشْرَافِهِ على الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ إنْ لم يَكُنْ مَقْطُوعًا بِهِ لِافْتِقَارِهِ إلَى اجْتِهَادٍ يَقْصُرُ عنه فَهْمُ الْعَامِّيِّ مَسْأَلَةٌ إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا مُفْتٍ وَاحِدٌ تَعَيَّنَتْ مُرَاجَعَتُهُ وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَهَلْ يَلْزَمُهُ النَّظَرُ في الْأَعْلَمِ فيه وَجْهَانِ بِنَاءً على الْخِلَافِ السَّابِقِ في تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ أَحَدُهُمَا وَبِهِ قال ابن سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالُ أَنَّ عليه اجْتِهَادًا آخَرَ في طَلَبِهِ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالسَّمَاعِ من الثِّقَاتِ وَلَا يَشُقُّ عليه وَصَحَّحَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَإِلْكِيَا فإن الْأَفْضَلَ أَهْدَى إلَى أَسْرَارِ الشَّرْعِ والمختار أَنَّهُ لَا يَجِبُ بَلْ يَتَخَيَّرُ وَيَسْأَلُ من شَاءَ مِنْهُمَا قال الرَّافِعِيُّ وهو الْأَصَحُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ وقال إنَّهُ الْأَصَحُّ كما لَا يَلْزَمُ الِاجْتِهَادُ في طَلَبِ الدَّلِيلِ وقد قال الشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عنه في الْأَعْمَى كُلُّ من دَلَّهُ من الْمُسْلِمِينَ على الْقِبْلَةِ وَسِعَهُ اتِّبَاعُهُ ولم نَأْمُرْهُ بِالِاجْتِهَادِ في الْأَوْثَقِ وفي خَبَرِ الْعَسِيفِ قال وَالِدُ الزَّانِي فَسَأَلْت رَجُلًا من أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُنَاكَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَعْلَمُ الْكُلِّ ولم يُنْكِرْ عليه انْتَهَى قال إلْكِيَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرَّأْيَيْنِ فَإِنْ لم يَظْهَرْ فَلَا يَجِبُ الْأَفْضَلُ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ جاء رَجُلٌ إلَى الصَّيْمَرِيِّ الْحَنَفِيِّ بِفَتْوَى أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إذَا كان الْوَلِيُّ فَاسِقًا فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلَاثًا لم يَنْفُذْ الطَّلَاقُ وَلَهُ تَزْوِيجُهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ فقال الصَّيْمَرِيُّ هَؤُلَاءِ قد أَفْتَوْك أَنَّك كُنْت على فَرْجٍ حَرَامٍ وَأَنَّهَا حَلَالٌ لَك الْيَوْمَ وأنا أَقُولُ لَك إنَّهَا كانت مُبَاحَةً لَك قبل هذا وَهِيَ الْيَوْمَ حَرَامٌ عَلَيْك وَقَصَدَ بِذَلِكَ رَدَّ الْعَامِّيِّ إلَى مَذْهَبِهِ قال أبو إِسْحَاقَ فَرَجَعْت إلَى الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَحُكِيَتْ له الْقِصَّةَ فقال كُنْت تَقُولُ إنَّهُ كما قُلْت بِهِ غير أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لم يُكَلِّفْهُ

تَقْلِيدَ الصَّيْمَرِيِّ وَإِنَّمَا كَلَّفَهُ تَقْلِيدَ من شَاءَ من الْعُلَمَاءِ وإذا قَلَّدَ ثِقَةٌ شَافِعِيًّا تَخَلَّصَ من الْإِثْمِ وَالتَّبِعَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَسْأَلَةٌ إذَا قُلْنَا له أَنْ يَجْتَهِدَ في أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ هل له أَنْ يَجْتَهِدَ في أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ التي يُقَلِّدُ فيها بِحَيْثُ إذَا غَلَبَ على ظَنِّهِ أَنَّ بَعْضَ الْمَسَائِلِ على مَذْهَبِ فَقِيهٍ أَقْوَى وَجَبَ عليه تَقْلِيدُهُ اخْتَلَفَ جَوَابُ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَالْقُدُورِيِّ فَأَوْجَبَهُ الْقُدُورِيُّ وقال الْقَاضِي ليس لِلْعَامِّيِّ اسْتِحْسَانُ الْأَحْكَامِ فِيمَا اخْتَلَفَ فيه الْفُقَهَاءُ وَلَا أَنْ يَقُولَ قَوْلُ فُلَانٍ أَقْوَى من قَوْلِ فُلَانٍ وَلَا حُكْمَ لِمَا يَغْلِبُ على ظَنِّهِ وَلَا اعْتِنَاءَ بِهِ وَلَا طَرِيقَ له إلَى الِاسْتِحْسَانِ كما لَا طَرِيقَ له إلَى الصِّحَّةِ وَلَوْ كان يَعْتَقِدُ أَنَّ أَحَدَهُمْ أَعْلَمُ نَقَلَ الرَّافِعِيُّ عن الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ وَإِنْ قُلْنَا لَا يَجِبُ عليه الْبَحْثُ عن الْأَعْلَمِ إذَا لم يَعْتَقِدْ اخْتِصَاصَ أَحَدِهِمْ بِزِيَادَةِ عِلْمٍ قال النَّوَوِيُّ وَهَذَا وَإِنْ كان ظَاهِرًا فَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا ذَكَرْنَا من سُؤَالِ آحَادِ الصَّحَابَةِ مع وُجُودِ أَفَاضِلِهِمْ ثُمَّ قال وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْمُخْتَارُ ما ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ من جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَفْضُولِ مع وُجُودِ الْأَفْضَلِ وإذا قُلْنَا يَطْلُبُ الْأَعْلَمَ فَهَلْ عليه أَنْ يَطْلُبَ الْأَوْرَعَ كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ عليه اسْتِنْبَاطًا وَقِيلَ لَا إذْ لَا تَعَلُّقَ لِمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ بِالْوَرَعِ وَالْأَصَحُّ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ عِلْمًا على الرَّاجِحِ وَرَعًا فَإِنْ اسْتَوَيَا قُدِّمَ الْأَسَنُّ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْإِصَابَةِ لِطُولِ الْمُمَارَسَةِ وإذا كان هُنَاكَ رَجُلَانِ من أَهْلِ مَذْهَبَيْنِ أَحَدُهُمَا شَافِعِيٌّ مَثَلًا وَالْآخَرُ حَنَفِيٌّ فَهَلْ يَجِبُ عليه أَنْ يُمَيِّزَ بين أَصْلِ الْمَذْهَبَيْنِ فَيَعْلَمُ أَيَّهُمَا أَصَحَّ قِيلَ يَجِبُ عليه ذلك فإنه لَا يَشُقُّ عليه أَنَّ أَحَدَهُمَا بَنَى مَذْهَبَهُ على الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَالرَّأْيِ وَالْآخَرُ على النَّصِّ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِتَعَذُّرِ ذلك عليه وَمِنْ ثَمَّ لَا يَجِبُ طَلَبُ الْأَعْلَمِ في الْأَصَحِّ وقال إلْكِيَا أَمَّا اتِّبَاعُ الشَّافِعِيِّ أو أبي حَنِيفَةَ على التَّخْيِيرِ من غَيْرِ اجْتِهَادٍ مع اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ فَاخْتَلَفُوا فيه فَقِيلَ يَجُوزُ كما يُتَّبَعُ مُجْتَهِدِي الْعَصْرِ في آحَادِ الْمَسَائِلِ وَقِيلَ لَا يَجُوزُ من حَيْثُ إمْكَانُ دَرْكِ التَّنَاقُضِ وَلَوْ اخْتَلَفَ جَوَابُ مُجْتَهِدَيْنِ فَالْقَصْرُ في حَقِّ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ وَاجِبٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْإِتْمَامُ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي اللَّهُ عنه فَإِنْ قُلْنَا بِقَوْلِ ابن سُرَيْجٍ

اجْتَهَدَ في الْأَوْثَقِ وَالْأَفْقَهِ وَإِنْ قُلْنَا بِخِلَافِهِ قال الرُّويَانِيُّ فَفِيهِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا في الرَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ وَيَعْمَلُ بِقَوْلِ من شَاءَ مِنْهُمَا وَنَقَلَهُ الْمَحَامِلِيُّ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَالْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَاخْتَارَهُ ابن الصَّبَّاغِ فِيمَا إذَا تَسَاوَيَا في نَفْسِهِ وَنُقِلَ عن الْقَاضِي وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ مُسْتَدِلًّا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَأَنَّهُمْ لم يُنْكِرُوا الْعَمَلَ بِقَوْلِ الْمَفْضُولِ مع وُجُودِ الْأَفْضَلِ وَأَغْرَبَ الرُّويَانِيُّ فقال إنَّهُ غَلَطٌ قال ابن الْمُنِيرِ لو لم أَجِدْ تَخْيِيرَ الْعَامِّيِّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُفْتِينَ مَنْصُوصًا عليه في الحديث لَمَا كان الْهُجُومُ على تَقْرِيرِهِ سَائِغًا وَدَلَّ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وقال لَا تَنْزِلُوا حتى تَأْتُوهُمْ فَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ في أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاخْتَلَفُوا حِينَئِذٍ فَمِنْهُمْ من صلى الْعَصْرَ ثُمَّ تَوَجَّهَ وَمِنْهُمْ من تَمَادَى وَحَمَلَ قَوْلَهُ لَا تَنْزِلُوا على ظَاهِرِهِ فلما عُرِضَتْ الْقِصَّةُ على النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يُخَطِّئْ أَحَدًا منهم وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ السَّرِيَّةَ ما خَلَتْ عَمَّنْ لَا نَظَرَ له وَلَا مَفْزَعَ إلَّا تَقْلِيدُ وُجُوهِ الْقَوْمِ وَعُلَمَائِهِمْ وكان ذلك الْمُقَلِّدُ مُخَيَّرًا وَبِاخْتِيَارِهِ قَلَّدَ ولم يَلْحَقْهُ عَتْبٌ وَلَا عَيْبٌ والثاني يَأْخُذُ بِالْأَغْلَظِ وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَهْلِ الظَّاهِرِ والثالث يَأْخُذُ بِالْأَيْسَرِ وَالْأَخَفِّ والرابع يَجِبُ عليه تَقْلِيدُ أَعْلَمِهِمَا عِنْدَهُ فَإِنْ اسْتَوَيَا قَلَّدَ أَيَّهُمَا شَاءَ وهو ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ قال في الْأُمِّ في الْقِبْلَةِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا على الْأَعْمَى عليه أَنْ يُقَلِّدَ أَوْثَقَهُمَا وَأَدْيَنَهُمَا عِنْدَهُ وَيُفَارِقُ ما قبل السُّؤَالِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ في الِاجْتِهَادِ في أَعْيَانِهِمْ مَشَقَّةً والخامس يَأْخُذُ بِقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ حين سَأَلَهُ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عن حِكَايَةِ الرُّويَانِيِّ وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُمَا لو أَجَابَاهُ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ دَفْعَةً أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ قَطْعًا لِأَنَّهُ لم يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا فَنَقُولُ قد لَزِمَهُ قَوْلُ السَّابِقِ والسادس حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ يَأْخُذُ بِقَوْلِ من يَبْنِي على الْأَثَرِ دُونَ الرَّأْيِ وَحَكَى ابن السَّمْعَانِيِّ سَابِعًا وقال إنَّهُ الْأَوْلَى أَنَّهُ يَجْتَهِدُ في قَوْلِ من يَأْخُذُ مِنْهُمَا وَحَكَى الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ ثَامِنًا وهو التَّفْصِيلُ بين ما في حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ حَقِّ عِبَادِهِ فَإِنْ كان فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَخَذَ بِأَيْسَرِهِمَا وما كان في حُقُوقِ الْعِبَادِ فَبِأَثْقَلِهِمَا وَبِهِ قال الْكَعْبِيُّ وَحَكَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ في كِتَابِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ تَاسِعًا عن أبي عبد اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ أَنَّهُ إنْ اتَّسَعَ عَقْلُهُ لِلْفَهْمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُخْتَلِفَيْنِ عن حُجَّتِهِمَا فَيَأْخُذَ بِأَرْجَحِ

الْحُجَّتَيْنِ عِنْدَهُ وَإِنْ قَصَّرَ عن ذلك أَخَذَ بِقَوْلِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ وَيَخْرُجُ من كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ عَاشِرٌ وهو الْأَخْذُ بِقَوْلِهِمَا إنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ فإنه قال في بَابِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَلَوْ كَانَا عِنْدَهُ في الْعِلْمِ سَوَاءً فَوَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَتَخَيَّرُ والثاني يَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا وَيُصَلِّي إلَى جِهَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ في الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلًا بَيَّنَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فَيُرَاجِعَهُمَا مَرَّةً أُخْرَى وَيَقُولُ تَنَاقَضَ على جَوَابِكُمَا وَتَسَاوَيْتُمَا فما الذي يَلْزَمُنِي فَإِنْ خَيَّرَاهُ بين الْجَوَابَيْنِ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا وَإِنْ اتَّفَقَا في الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ أو الْمِيلِ إلَى أَحَدِهِمَا فَعَلَ وَإِنْ أَصَرَّا على الْخِلَافِ فَإِنْ كَانَا سَوَاءً في اعْتِقَادِهِ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ أَرْجَحَ فَوَجْهَانِ اخْتَارَ الْقَاضِي التَّخْيِيرَ وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ اتِّبَاعَ الْأَفْضَلِ لِرُجْحَانِ الظَّنِّ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَهَذَا يَدُلُّ على تَرْجِيحِ قَوْلِ الْأَعْلَمِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ مع اخْتِيَارِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا أَوْجَبَ هُنَا ما عَرَضَ له من الضَّرُورَةِ وَالْإِصْرَارِ وَقَبْلَ ذلك لَا ضَرُورَةَ بِهِ تَدْعُو إلَى اتِّبَاعِ الْأَعْلَمِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَعْرِيفَهُ إمَّا بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ وَعَدَمِهَا فَلَا يَلْزَمُ من اعْتِبَارِ حَالِ الضَّرُورَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُكْمِ اعْتِبَارِ ضِدِّهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى ذلك الْحُكْمِ وَإِمَّا لِأَنَّ الْعَمَلَ الذي أَشَارُوا إلَيْهِ في زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَعَدَمُ وُجُوبِ تَقْلِيدِ الْأَعْلَمِ لَا يَتَنَاوَلُ هذه الصُّورَةَ قِيلَ وَكَأَنَّ الْخِلَافَ هُنَا مُخَرَّجٌ على الْخِلَافِ في الْعِلَّتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا وَإِحْدَاهُمَا تَقْتَضِي الْحَظْرَ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ بَلْ من الْخِلَافِ في أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ أو كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ فَمَنْ خَيَّرَ بَيْنَهُمَا بَنَاهُ على أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَمَنْ أَوْجَبَ تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ قال الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لم يَكُنْ عَمِلَ بِأَحَدِهِمَا فَلَوْ اسْتَفْتَى عَالِمًا فَعَمِلَ بِفَتْوَاهُ ثُمًّ أَفْتَاهُ آخَرُ بِخِلَافِهِ لم يَجُزْ الرُّجُوعُ إلَيْهِ في ذلك الْحُكْمِ قَالَهُ في الْإِحْكَامِ وقال إلْكِيَا إنْ تَسَاوَيَا في ظَنِّهِ وَلَا تَرْجِيحَ اُخْتُلِفَ فيه فَقِيلَ يَحْكُمُ بِخَاطِرِهِ وهو قَوْلُ أَصْحَابِ الْإِلْهَامِ وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ عليه التَّعْلِيقُ بِعِلْمِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِيَكُونَ بَانِيًا على اجْتِهَادِ نَفْسِهِ وَقِيلَ يَتَوَقَّفُ في ذلك انْتَهَى وقال في الْمَحْصُولِ يَجْتَهِدُ فَإِنْ ظَنَّ أَرْجَحِيَّةً في أَحَدِهِمَا عَمِلَ بِهِ وَإِنْ ظَنَّ اسْتِوَاءَهُمَا مُطْلَقًا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ لِتَعَارُضِ أَمَارَتَيْ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِوُقُوعِهِ وَيَسْقُطَ التَّكْلِيفُ وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ ظَنَّ الِاسْتِوَاءَ في الدِّينِ دُونَ الْعِلْمِ قَلَّدَ الْأَعْلَمَ وَقِيلَ يَتَخَيَّرُ وَبِالْعَكْسِ الْأَدْيَنَ وَإِنْ ظَنَّ أَحَدَهَا أَعْلَمَ وَالْآخَرَ

أَدْيَنَ فَالْأَقْرَبُ الْأَعْلَمُ فإن الْعِلْمَ أَصْلٌ وَالدِّينُ مُكَمِّلٌ مَسْأَلَةٌ إذَا اسْتَفْتَى الْمُتَنَازِعَانِ فَقِيهًا مع وُجُودِ الْحَاكِمِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ فَإِنْ الْتَزَمَا فُتْيَاهُ عَمِلَا بِهِ وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ أَحَقُّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا وَلَوْ لم يَجِدَا حَاكِمًا لم يَلْزَمْهُمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ حتى يَلْتَزِمَاهُ وَإِنْ الْتَزَمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ ثُمَّ تَنَازَعَا إلَى الْحَاكِمِ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِهِ لَزِمَهُمَا فُتْيَا الْفَقِيهِ في الْبَاطِنِ وَحُكْمُ الْحَاكِمِ في الظَّاهِرِ وَقِيلَ يَلْزَمُهُمَا حُكْمُ الْحَاكِمِ في الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فَدَعَا أَحَدُهُمَا إلَى فَتْوَى الْفُقَهَاءِ وَدَعَا الْآخَرُ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ أُجِيبَ الدَّاعِي إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ لِأَنَّ فُتْيَا الْفَقِيهِ إخْبَارٌ وَحُكْمَ الْحَاكِمِ إجْبَارٌ وإذا دَعَا الْخَصْمُ إلَى فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ لم تُجْبِرْهُ وَإِنْ دَعَا إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ أَجْبَرَهُ وإذا كان الْفَقِيهُ عَدْلًا وَالْحَاكِمُ ليس بِعَدْلٍ فَأَفْتَاهُمَا الْفَقِيهُ بِحُكْمٍ وَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِغَيْرِهِ لَزِمَهُمَا في الْبَاطِنِ أَنْ يَعْمَلَا بِحُكْمِ الْفَقِيهِ وَلَزِمَهُمَا في الظَّاهِرِ أَنْ يَعْمَلَا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَحُكِيَ عن بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِالْحِكَايَةِ عن غَيْرِهِ بَلْ إنَّمَا يُفْتِي بِاجْتِهَادِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا سُئِلَ قَوْلَهُ فَإِنْ سُئِلَ عن حِكَايَةِ قَوْلِ غَيْرِهِ جَازَتْ حِكَايَتُهُ وَلَوْ جَازَ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِالْحِكَايَةِ جَازَ لِلْعَامِّيِّ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا في كُتُبِ الْفُقَهَاءِ قال وإذا أَفْتَاهُ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَإِنْ كان قد عَمِلَ بِهِ لم يَلْزَمْهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ بِتَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ وَإِلَّا لَزِمَهُ قال وإذا أَفْتَاهُ بِقَوْلٍ مُجْمَعٍ عليه لم يُخْبِرْ في الْقَبُولِ فيه وَإِنْ كان مُخْتَلَفًا فيه خُيِّرَ بين أَنْ يَقْبَلَ منه أو من غَيْرِهِ وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ على قَوْلِ من قال كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٍ وَكَذَا إنْ قُلْنَا الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه الْأَخْذُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ من الْمُفْتِينَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَإِنْ كان هذا التَّخْيِيرِ مَعْلُومًا من قَصْدِ الْمُفْتِي لم يَجِبْ عليه أَنْ يُخَيِّرَهُ لَفْظًا بَلْ يَذْكُرَ له قَوْلَهُ فَقَطْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحُكْمُ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مَنْصُوبٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَاتِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه أَنْ يُبَيِّنَ له تَخْيِيرَهُ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمُسْتَفْتِي من الِاجْتِهَادِ في أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ وإذا وَجَبَ عليه ذلك فَاخْتَارَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ بِاجْتِهَادِهِ فَكَذَلِكَ الْعَامِّيُّ يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ هذا الْعَالِمِ وَلَا يَجِبُ تَخْيِيرُهُ

مَسْأَلَةٌ هل يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ وقد سَأَلَهُ الْعَامِّيُّ على يَمِينٍ مَثَلًا وكان مُعْتَقَدُهُ الْحِنْثَ أَنْ يُحِيلَهُ على آخَرَ يُخَالِفُ مُعْتَقَدَهُ أو لَا الظَّاهِرُ الْمَنْعُ لِأَنَّهُ إذَا غَلَبَ على ظَنِّهِ شَيْءٌ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ في حَقِّهِ وَحَقِّ من قَلَّدَهُ وَكَمَا لَا يَجُوزُ له الْعُدُولُ عنه لَا يَجُوزُ له أَمْرُ مُقَلِّدِهِ بِذَلِكَ وَالْأَحْوَطُ أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ في حَقِّ الْمُسْتَفْتِي لَا تَشْدِيدًا وَلَا تَسْهِيلًا وَلَا بِحِيلَةٍ وقد عَرَفَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عليه على غَيْرِهِ ثُمَّ رَأَيْت عن أَحْمَدَ التَّصْرِيحَ بِجَوَازِ إرْشَادِهِ إلَى آخَرَ مُعْتَبَرٍ وَإِنْ كان يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ وفي تَعْلِيقِ الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ في بَابِ الْإِحْصَارِ في الْحَجِّ أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَتَحَلَّلُ بِالْمَرَضِ وَإِنْ كان يَعْتَقِدُ جَوَازَهُ كَالْحَنَفِيِّ نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الدَّارَكِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ يَقَعُ على مُعْتَقِدِ إبَاحَتِهِ إذْ لو كان كَذَلِكَ لَأَفْتَى الشَّافِعِيُّ من يَرَى مَذْهَبَ أبي حَنِيفَةَ بِجَوَازِ التَّحَلُّلِ فلما أَفْتَاهُ بِمَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ بَطَلَ قَوْلُ هذا الْقَائِلِ مَسْأَلَةٌ هل يَجُوزُ لِلْعَالَمِ أَنْ يُفْتِيَ في حَقِّ نَفْسِهِ فِيمَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ قال بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ ذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كما لَا يُحَكِّمُ نَفْسَهُ فِيمَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ قال وَقِيَاسُ هذا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَتْوَاهُ لِوَالِدِهِ وَوَلَدِهِ فِيمَا هذا شَأْنُهُ قُلْت قد حَكَى الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ في هذا احْتِمَالَيْنِ فَلَوْ رضي الْآخَرُ بِفَتْوَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ إذَا أَفْتَى بِنَصٍّ يُقْبَلُ قَطْعًا وَإِنْ كان قِيَاسًا فَفِيهِ نَظَرٌ وَأَمَّا فَتْوَى نَفْسِهِ مِمَّا يَعُودُ على أَمْرِ دِينِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ له أَنْ يَعْمَلَ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وقد قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَفْتِ نَفْسَك وَإِنْ أَفْتَاك الناس وَأَفْتَوْك وَأَمَّا فَتْوَاهُ فِيمَا يَعُودُ على وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِيءَ فيه ما سَبَقَ مَسْأَلَةٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ وهو لَا يَعْرِفُ عِلَّتَهُ خِلَافًا لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ

مَسْأَلَةٌ مَتَى يَلْزَمُ الْعَامِّيَّ الْعَمَلُ بِمَا يُلَقِّنُهُ الْمُجْتَهِدُ فيه أَوْجُهٌ أَحَدُهَا بِمُجَرَّدِ الْإِفْتَاءِ والثاني إذَا وَقَعَ في نَفْسِهِ صِدْقُهُ وَحَقِيقَتُهُ قال ابن السَّمْعَانِيِّ إنَّهُ أَوْلَى الْأَوْجُهِ قال ابن الصَّلَاحِ ولم أَجِدْهُ لِغَيْرِهِ والثالث ذَكَرَهُ احْتِمَالًا أَنَّهُ إذَا شَرَعَ في الْعَمَلِ بِهِ كَالْكَفَّارَاتِ وهو يَقْوَى على قَوْلِ من يقول إنَّ الشُّرُوعَ فِيمَا يَلْزَمُ مُلْزِمٌ والرابع وهو الْأَصَحُّ لَا يَلْزَمُهُ بِهِ إلَّا بِالْتِزَامِهِ كَالنَّذْرِ فَيَصِيرُ بِالْتِزَامِهِ لَازِمًا له لَا بِالْفُتْيَا وَيُؤَيِّدُهُ ما سَبَقَ من التَّخْيِيرِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ عليه جَوَابُ الْمُفْتِينَ والخامس وَاخْتَارَهُ ابن الصَّلَاحِ أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا لم يَجِدْ غَيْرَهُ سَوَاءٌ الْتَزَمَ أو لَا أو بِرُجْحَانِ أَحَدِهِمَا أو بِحُكْمِ حَاكِمٍ وإذا قُلْنَا بِالْأَوَّلِ فَكَانَ السُّؤَالُ مَثَلًا عن يَمِينٍ فقال له الْمُجْتَهِدُ حَنِثْت فَهَلْ يُقَدَّرُ الْحِنْثُ وَاقِعًا بِقَوْلِ الْمُجْتَهِدِ كَحُكْمِ الْحَاكِمِ أو إنَّمَا يَقَعُ الْحِنْثُ بِالِالْتِزَامِ بِلَفْظِهِ أو بِنِيَّةٍ فيه نَظَرٌ مَسْأَلَةٌ هل يَجِبُ على الْعَامِّيِّ الْتِزَامُ تَقْلِيدِ مُعَيَّنٍ في كل وَاقِعَةٍ فيه وَجْهَانِ قال إلْكِيَا يَلْزَمُهُ وقال ابن بَرْهَانٍ لَا وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ في أَوَائِلِ الْقَضَاءِ وهو الصَّحِيحُ فإن الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم لم يُنْكِرُوا على الْعَامَّةِ تَقْلِيدَ بَعْضِهِمْ من غَيْرِ تَقْلِيدٍ وقد رَامَ بَعْضُ الْخُلَفَاءِ زَمَنَ مَالِكٍ حَمْلَ الناس في الْآفَاقِ على مَذْهَبِ مَالِكٍ فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ الْعِلْمَ في الْبِلَادِ بِتَفْرِيقِ الْعُلَمَاءِ فيها فلم يَرَ الْحَجْرَ على الناس وَرُبَّمَا نُودِيَ لَا يُفْتَى أَحَدٌ وَمَالِكٌ بِالْمَدِينَةِ قال ابن الْمُنَيَّرِ وهو عِنْدِي مَحْمُولٌ على أَنَّ الْمُرَادَ لَا يُفْتَى أَحَدٌ حتى يَشْهَدَ له مَالِكٌ بِالْأَهْلِيَّةِ وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ هذا مَذْهَبُ أَحْمَدَ فإنه قال لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ لَا تَحْمِلْ على مَذْهَبِك فَيُحْرَجُوا دَعْهُمْ يَتَرَخَّصُوا بِمَذَاهِبِ الناس وَسُئِلَ عن مَسْأَلَةٍ من الطَّلَاقِ فقال يَقَعُ يَقَعُ فقال له الْقَائِلُ فَإِنْ أَفْتَانِي أَحَدٌ أَنَّهُ لَا يَقَعُ يَجُوزُ قال نعم وَدَلَّهُ على حَلْقَةِ الْمَدَنِيِّينَ في الرَّصَافَةِ فقال إنْ أَفْتَوْنِي جَازَ قال نعم وقد كان السَّلَفُ يُقَلِّدُونَ من شَاءُوا قبل ظُهُورِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وقد قال النبي الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عليه إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخَصِهِ كما يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِعَزَائِمِهِ

وَتَوَسَّطَ ابن الْمُنَيَّرِ فقال الدَّلِيلُ يَقْتَضِي الْتِزَامَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَا قَبْلَهُمْ وَالْفَرْقُ أَنَّ الناس كَانُوا قبل الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لم يُدَوِّنُوا مَذَاهِبَهُمْ وَلَا كَثُرَتْ الْوَقَائِعُ عليهم حتى عُرِفَ مَذْهَبُ كل وَاحِدٍ منهم في كل الْوَقَائِعِ وفي أَكْثَرِهَا وكان الذي يَسْتَفْتِي الشَّافِعِيَّ مَثَلًا لَا عِلْمَ له بِمَا يَقُولُهُ الْمُفْتِي لِأَنَّهُ لم يَشْتَهِرْ مَذْهَبُهُ في تِلْكَ الْوَاقِعِ أو لِأَنَّهَا ما وَقَعَتْ له قبل ذلك فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَضِّدَهُ إلَّا سِرٌّ خَاصٌّ وَأَمَّا بَعْدَ أَنْ فُهِمَتْ الْمَذَاهِبُ وَدُوِّنَتْ وَاشْتُهِرَتْ وَعُرِفَ الْمُرَخِّصُ من الْمُشَدِّدِ في كل وَاقِعَةٍ فَلَا يَنْتَقِلُ الْمُسْتَفْتِي وَالْحَالَةُ هذه من مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ إلَّا رُكُونًا إلَى الِانْحِلَالِ وَالِاسْتِسْهَالِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عن أبي الْفَتْحِ الْهَرَوِيِّ أَحَدِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَنَّ مَذْهَبَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا مَذْهَبَ له مَسْأَلَةٌ فَلَوْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاعْتَقَدَ رُجْحَانَهُ من حَيْثُ الْإِجْمَالُ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ إمَامَهُ في بَعْضِ الْمَسَائِلِ وَيَأْخُذَ بِقَوْلِ غَيْرِهِ من مُجْتَهِدٍ آخَرَ فيه مَذَاهِبُ أَحَدُهَا الْمَنْعُ وَبِهِ جَزَمَ الْجِيلِيُّ في الْإِعْجَازِ لِأَنَّ قَوْلَ كل إمَامٍ مُسْتَقِلٌّ بِآحَادِ الْوَقَائِعِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الِانْتِقَالِ إلَّا التَّشَهِّيَ وَلِمَا فيه من اتِّبَاعِ التَّرَخُّصِ وَالتَّلَاعُبِ بِالدِّينِ والثاني يَجُوزُ وهو الْأَصَحُّ في الرَّافِعِيِّ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لم يُوجِبُوا على الْعَوَامّ تَعْيِينَ الْمُجْتَهِدِينَ لِأَنَّ السَّبَبَ وهو أَهْلِيَّةُ الْمُقَلِّدِ لِلتَّقْلِيدِ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَقْوَالِهِ وَعَدَمُ أَهْلِيَّةِ الْمُقَلِّدِ مُقْتَضٍ لِعُمُومِ هذا الْجَوَابِ وَوُجُوبُ الِاقْتِصَارِ على مُفْتٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ سِيرَةِ الْأَوَّلِينَ بَلْ يَقْوَى الْقَوْلُ بِالِانْتِقَالِ في صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا إذَا كان مَذْهَبُ غَيْرِ إمَامِهِ يَقْتَضِي تَشْدِيدًا كَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ على فِعْلِ شَيْءٍ ثُمَّ فَعَلَهُ نَاسِيًا أو جَاهِلًا وكان مَذْهَبُ مُقَلَّدِهِ عَدَمَ الْحِنْثِ فَخَرَجَ منه لِقَوْلِ من أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فإنه يُسْتَحَبُّ له الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْتِزَامِ الْحِنْثِ قَطْعًا وَلِهَذَا قال الشَّافِعِيُّ إنَّ الْقَصْرَ في سَفَرٍ جَاوَزَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَفْضَلُ من الْإِتْمَامِ والثانية إذَا رَأَى لِلْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِمَذْهَبِ إمَامِهِ دَلِيلًا صَحِيحًا ولم يَجِدْ في مَذْهَبِ إمَامِهِ دَلِيلًا قَوِيًّا عنه وَلَا مُعَارِضًا رَاجِحًا عليه فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ من التَّقْلِيدِ حِينَئِذٍ

مُحَافَظَةً على الْعَمَلِ بِظَاهِرِ الدَّلِيلِ وَأَمَّا ما نَقَلَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ من الْإِجْمَاعِ على مَنْعِ رُجُوعِ الْمُقَلِّدِ عَمَّنْ قَلَّدَهُ فَهُوَ إنْ صَحَّ مَحْمُولٌ على تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا بَعْدَ أَنْ عَمِلَ بِقَوْلِهِ فيها وَاعْلَمْ أَنَّا حَيْثُ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَشَرْطُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ رُجْحَانَ ذلك الْمَذْهَبِ الذي قَلَّدَ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَعَلَى هذا فَلَيْسَ لِلْعَامِّيِّ ذلك مُطْلَقًا إذْ لَا طَرِيقَ له إلَيْهِ وَلِهَذَا قال الْبَغَوِيّ لو أَنَّ عَامِّيًّا شَافِعِيًّا لَمَسَ امْرَأَتَهُ وَصَلَّى ولم يَتَوَضَّأْ وقال عِنْدَ بَعْضِ الناس الطَّهَارَةُ بِحَالِهَا لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فَأَشْبَهَ ما إذَا اجْتَهَدَ في الْقِبْلَةِ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى غَيْرِهَا لَا يَصِحُّ قال وَلَوْ جَوَّزْنَاهُ لَأَدَّى ذلك إلَى أَنْ يَرْتَكِبَ جَمِيعَ مَحْظُورَاتِ الْمَذْهَبِ كَشُرْبِ الْمُثَلَّثِ وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَنَحْوِهِ وَيَقُولُ هذا جَائِزٌ وَيَتْرُكُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ وَيَقُولُ هذا جَائِزٌ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ انْتَهَى والثالث أَنَّهُ كَالْعَامِّيِّ الذي لم يَلْتَزِمْ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ عَمِلَ فيها بِقَوْلِ إمَامِهِ ليس له تَقْلِيدُ غَيْرِهِ وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ لم يَعْمَلْ فيها بِقَوْلِهِ فَلَا مَانِعَ فيها من تَقْلِيدِ غَيْرِهِ والرابع إنْ كان قبل حُدُوثِ الْحَوَادِثِ فَلَا يَجِبُ التَّخْصِيصُ بِمَذْهَبٍ وَإِنْ حَدَثَ وَقَلَّدَ إمَامًا في حَادِثَةٍ وَجَبَ عليه تَقْلِيدُهُ في الْحَوَادِثِ التي يُتَوَقَّعُ وُقُوعُهَا في حَقِّهِ وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ لِأَنَّ قبل تَقْرِيرِ الْمَذَاهِبِ مُمْكِنٌ وَأَمَّا بَعْدُ فَلَا لِلْخَبْطِ وَعَدَمِ الضَّبْطِ والخامس إنْ غَلَبَ على ظَنِّهِ أَنَّ بَعْضَ الْمَسَائِلِ على مَذْهَبِ غَيْرِ مُقَلَّدِهِ أَقْوَى من مُقَلَّدِهِ جَازَ قَالَهُ الْقُدُورِيُّ الْحَنَفِيُّ والسادس وَاخْتَارَهُ ابن عبد السَّلَامِ في الْقَوَاعِدِ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَكُونَ الْمَذْهَبُ الذي أَرَادَ الِانْتِقَالَ عنه بِمَا يَنْقُضُ الْحُكْمَ أو لَا فَإِنْ كان الْأَوَّلُ فَلَيْسَ له الِانْتِقَالُ إلَى حُكْمٍ يَجِبُ نَقْضُهُ لِبُطْلَانِهِ وَإِنْ كان الْمَأْخَذَانِ مُتَقَارِبَيْنِ جَازَ التَّقْلِيدُ وَالِانْتِقَالُ لِأَنَّ الناس لم يَزَالُوا كَذَلِكَ في عَصْرِ الصَّحَابَةِ إلَى أَنْ ظَهَرَتْ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ من غَيْرِ نَكِيرٍ من أَحَدٍ يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ وَلَوْ كان ذلك بَاطِلًا لَأَنْكَرُوهُ وقال في الْفَتَاوَى الْمَوْصِلِيَّةِ وقد سُئِلَ عن شَافِعِيٍّ حَضَرَ نِكَاحَ صَبِيَّةٍ لَا أَبَ لها وَلَا جَدَّ وَالشَّهَادَةُ على إذْنِهَا له في التَّزْوِيجِ فَأَجَابَ إنْ قَلَّدَ الْمُخَالِفَ في مَذَاهِبَ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ في الرَّوْضَةِ في النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ أَنَّهُ

يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ التَّحْرِيمَ أو الْإِبَاحَةَ بِاجْتِهَادٍ أو تَقْلِيدٍ أو حُسْبَانٍ أو مُجَرَّدٍ والسابع وَاخْتَارَهُ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ الْجَوَازُ بِشُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَجْتَمِعَ في صُورَةٍ يَقَعُ الْإِجْمَاعُ على بُطْلَانِهَا كما إذَا افْتَصَدَ وَمَسَّ الذَّكَرَ وَصَلَّى وَالثَّانِي أَلَّا يَكُونَ ما قَلَّدَ فيه مِمَّا يُنْقَضُ فيه الْحُكْمُ لو وَقَعَ بِهِ وَالثَّالِثُ انْشِرَاحُ صَدْرِهِ لِلتَّقْلِيدِ الْمَذْكُورِ وَعَدَمُ اعْتِقَادِهِ لِكَوْنِهِ مُتَلَاعِبًا بِالدِّينِ مُتَسَاهِلًا فيه وَدَلِيلُ اعْتِبَارِ هذا الشَّرْطِ قَوْلُهُ وَالْإِثْمُ ما حَاكَ في نَفْسِك فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ ما حَاكَ في نَفْسِك فَفِعْلُهُ إثْمٌ بَلْ أَقُولُ إنَّ هذا شَرْطُ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ وهو أَلَّا يُقْدِمَ الْإِنْسَانُ على ما يَعْتَقِدُهُ مُخَالِفًا لِأَمْرِ اللَّهِ وَلَا اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مِمَّا يُنْقَضُ فيه قَضَاءُ الْقَاضِي بَلْ إذَا كان مُخَالِفًا لِظَاهِرِ النُّصُوصِ بِحَيْثُ يَكُونُ التَّأْوِيلُ مُسْتَكْرَهًا فَيَكْفِي في ذلك عَدَمُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ لِقَائِلِ الْقَوْلِ الْمُخَالِفِ لِذَلِكَ الظَّاهِرِ انْتَهَى وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ عن الزَّنَاتِيِّ من أَصْحَابِهِمْ الْجَوَازَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا على صُورَةٍ تُخَالِفُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ والثاني أَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ الْفَضْلَ بِوُصُولِ أَخْبَارِهِ إلَيْهِ وَلَا يُقَلِّدُهُ في عَمَلِهِ والثالثة أَنْ لَا يَتَّبِعَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ قال وَالْمَذَاهِبُ كُلُّهَا مَسْلَكٌ إلَى الْجَنَّةِ وَطُرُقٌ إلَى الْخَيْرَاتِ فَمَنْ سَلَكَ منها طَرِيقًا وَصَّلَهُ انْتَهَى وَحَكَى بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ هذا الْخِلَافَ في أَنَّ الْأَوْلَى الْأَخْذُ بِالْأَخَفِّ أو الْأَثْقَلِ ثُمَّ قال وَالْأَوْلَى أَنَّ من بُلِيَ بِوَسْوَاسٍ أو شَكٍّ أو قُنُوطٍ فَالْأَوْلَى أَخْذُهُ بِالْأَخَفِّ وَالْإِبَاحَةِ وَالرُّخَصِ لِئَلَّا يَزْدَادَ ما بِهِ وَيَخْرُجَ عن الشَّرْعِ وَمَنْ كان قَلِيلَ الدِّينِ كَثِيرَ التَّسَاهُلِ أَخَذَ بِالْأَثْقَلِ وَالْعَزِيمَةِ لِئَلَّا يَزْدَادَ ما بِهِ فَيَخْرُجَ إلَى الْإِبَاحَةِ وَمَرَّ بِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن الْمُبَارَكِ سُئِلَ عَمَّنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَلَّا يَتَزَوَّجَ ثُمَّ بَدَا له فَهَلْ له أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِ من يُجَوِّزُ له ذلك فقال إنْ كان يَرَى هذا الْقَوْلَ حَقًّا أَنْ يُبْتَلَى بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَنَعَمْ إلَّا فَلَا وما أَحْسَنَ هذا الْجَوَابَ من مُتَوَرِّعٍ

وَقَسَّمَ بَعْضُهُمْ الْمُلْتَزِمَ لِمَذْهَبٍ إذَا أَرَادَ تَقْلِيدَ غَيْرِهِ إلَى أَحْوَالٍ إحْدَاهَا أَنْ يَعْتَقِدَ بِحَسَبِ حَالِهِ رُجْحَانَ مَذْهَبِ ذلك الْغَيْرِ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَيَجُوزُ اتِّبَاعًا لِلرَّاجِحِ في ظَنِّهِ الثَّانِيَةُ أَنْ يَعْتَقِدَ مَذْهَبَ إمَامِهِ أو لَا يَعْتَقِدَ رُجْحَانًا أَصْلًا لَكِنْ في كِلَا الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي اعْتِقَادَهُ رُجْحَانَ مَذْهَبِ إمَامِهِ وَعَدَمَ الِاعْتِقَادِ يَقْصِدُ تَقْلِيدَهُ احْتِيَاطًا لِدِينِهِ كَالْحِيلَةِ إذَا قَصَدَ بها الْخَلَاصَ من الرِّبَا كَبَيْعِ الْجَمْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَشِرَاءِ الْجَنِيبِ بها فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَكْرُوهٍ بِخِلَافِ الْحِيلَةِ على غَيْرِ هذا الْوَجْهِ حَيْثُ يُحْكَمُ بِكَرَاهَتِهَا الثَّالِثَةُ أَنْ يَقْصِدَ بِتَقْلِيدِهِ الرُّخْصَةَ فِيمَا هو مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِحَاجَةٍ لَحِقَتْهُ أو ضَرُورَةٍ أَرْهَقَتْهُ فَيَجُوزُ أَيْضًا إلَّا إنْ اعْتَقَدَ رُجْحَانَ مَذْهَبِ إمَامِهِ وَيَقْصِدُ تَقْلِيدَ الْأَعْلَمِ فَيَمْتَنِعُ وهو صَعْبٌ وَالْأَوْلَى الْجَوَازُ الرَّابِعَةُ أَلَّا تَدْعُوَهُ إلَى ضَرُورَةٍ وَلَا حَاجَةٍ بَلْ مُجَرَّدِ قَصْدِ التَّرَخُّصِ من غَيْرِ أَنْ يَغْلِبَ على ظَنِّهِ رُجْحَانُهُ فَيَمْتَنِعُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ لَا لِلدِّينِ الْخَامِسَةُ أَنْ يَكْثُرَ منه ذلك وَيَجْعَلَ اتِّبَاعَ الرُّخْصِ دَيْدَنَهُ فَيَمْتَنِعُ لِمَا قُلْنَا وَزِيَادَةُ فُحْشِهِ السَّادِسَةُ أَنْ يَجْتَمِعَ من ذلك حَقِيقَةٌ مُرَكَّبَةٌ مُمْتَنِعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَيَمْتَنِعُ السَّابِعَةُ أَنْ يَعْمَلَ بِتَقْلِيدِهِ الْأَوَّلَ كَالْحَنَفِيِّ يَدَّعِي شُفْعَةَ الْجِوَارِ فَيَأْخُذَهَا بِمَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ ثُمَّ تُسْتَحَقُّ عليه فَيُرِيدُ أَنْ يُقَلِّدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فَيَمْتَنِعُ لِتَحَقُّقِ خَطَئِهِ إمَّا في الْأَوَّلِ وَإِمَّا في الثَّانِي وهو شَخْصٌ وَاحِدٌ مُكَلَّفٌ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ ادَّعَى الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قبل الْعَمَلِ وَلَا بَعْدَهُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَ كما قَالَا فَفِي كَلَامِ غَيْرِهِمَا ما يَقْتَضِي جَرَيَانَ الْخِلَافِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَيْضًا وَكَيْفَ يَمْتَنِعُ إذَا اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ لَكِنَّ وَجْهَ ما قَالَاهُ أَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ مَذْهَبَ إمَامٍ مُكَلَّفٌ ما لم يَظْهَرْ له غَيْرُهُ وَالْعَامِّيُّ لَا يَظْهَرُ له بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ حَيْثُ يَنْتَقِلُ من أَمَارَةٍ إلَى أَمَارَةٍ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فقال التَّقْلِيدُ بَعْدَ الْعَمَلِ إنْ كان من الْوُجُوبِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَتْرُكَ كَالْحَنَفِيِّ يُقَلِّدُ في الْوِتْرِ وَمِنْ الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ لِيَفْعَلَ كَالشَّافِعِيِّ يُقَلِّدُ في أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ جَائِزٌ وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ لَا يُنَافِي الْإِبَاحَةَ وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ أو التَّحْرِيمِ خَارِجٌ

عن الْعَمَلِ وَحَاصِلٌ قَبْلَهُ فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَمَلَ فيها مَانِعٌ من التَّقْلِيدِ وَإِنْ كان بِالْعَكْسِ فَإِنْ كان يَعْتَقِدُ الْإِبَاحَةَ فَقَلَّدَ في الْوُجُوبِ أو التَّحْرِيمِ فَالْقَوْلُ بِالْمَنْعِ أَبْعَدُ وَلَيْسَ في الْعَامِّيِّ إلَّا هذه الْأَقْسَامُ نعم الْمُفْتِي على مَذْهَبِ إمَامٍ إذَا أَفْتَى بِكَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا أو مُبَاحًا أو حَرَامًا ليس له أَنْ يُقَلِّدَ وَيُفْتِيَ بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَحْضُ تَشَهٍّ وَالثَّانِي ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ جَرَيَانُ هذا الْخِلَافِ في تَتَبُّعِ الرُّخْصِ وَغَيْرِهَا وَرُبَّمَا قِيلَ اتِّبَاعُ الرُّخْصِ مَحْبُوبٌ لِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ وَيُشْبِهُ جَعْلَهُ في غَيْرِ الْمُتَتَبِّعِ من الِانْتِقَالِ قَطْعًا خَشْيَةَ الِانْحِلَالِ وَحَكَى ابن الْمُنِيرِ عن بَعْضِ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ فَاوَضَهُ في ذلك وقال أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ من تَتَبُّعِ الرُّخَصِ وَنَحْنُ نَقُولُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَالْكُلُّ دِينُ اللَّهِ وَالْعُلَمَاءُ أَجْمَعُونَ دُعَاةٌ إلَى اللَّهِ قال حتى كان هذا الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ من غَلَبَةِ شَفَقَتِهِ على الْعَامِّيِّ إذَا جاء يَسْتَفْتِيهِ مَثَلًا في حِنْثٍ يَنْظُرُ في وَاقِعَتِهِ فَإِنْ كان يَحْنَثُ على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلَا يَحْنَثُ على مَذْهَبِ مَالِكٍ قال لي أَفْتِهِ أنت يَقْصِدُ بِذَلِكَ التَّسْهِيلَ على الْمُسْتَفْتِي وَرَعًا كان يَنْظُرُ أَيْضًا في فَسَادِ الزَّمَانِ وَأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ التَّقَيُّدِ فَيَرَى أَنَّهُ إنْ شَدَّدَ على الْعَامِّيّ رُبَّمَا لَا يَقْبَلُ منه في الْبَاطِنِ فَيُوَسِّعُ على نَفْسِهِ فَلَا مُسْتَدْرَكَ وَلَا تَقْلِيدَ بَلْ جُرْأَةٌ على اللَّهِ تَعَالَى وَاجْتِرَاءٌ على الْمُحَرَّمِ قُلْت كما اتَّفَقَ لِمَنْ سَأَلَ التَّوْبَةَ وقد قَتَلَ تِسْعًا وَتِسْعِينَ قال فإذا عَلِمَ أَنَّهُ يَئُولُ بِهِ إلَى هذا الِانْحِلَالِ الْمَحْضِ فَرُجُوعُهُ حِينَئِذٍ في الرُّخْصَةِ إلَى مُسْتَنَدٍ وَتَقْلِيدُ الْإِمَامِ أَوْلَى من رُجُوعِهِ إلَى الْحَرَامِ الْمَحْضِ قُلْت فَلَا يَنْبَغِي حِينَئِذٍ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا لِكُلِّ أَحَدٍ بَلْ يَرْجِعُ النَّظَرُ إلَى حَالِ الْمُسْتَفْتِي وَقَصْدِهِ قال ابن الْمُنِيرِ في الْحِكَايَاتِ الْمُسْنَدَةِ إلَى وَلَدِ ابْنِ الْقَاسِمِ حَنِثَ في يَمِينٍ حَلَفَ فيها بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَاسْتَفْتَى أَبَاهُ فقال له أُفْتِيك فيها بِمَذْهَبِ اللَّيْثِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَإِنْ عُدْت أَفْتَيْتُك بِمَذْهَبِ مَالِكٍ يَعْنِي بِالْوَفَاءِ قال وَمَحْمَلُ ذلك عِنْدِي أَنَّهُ نَقَلَ له مَذْهَبَ اللَّيْثِ لَا أَنَّهُ أَفْتَاهُ بِهِ وَحَمَلَهُ عليه عِلْمُهُ بِمَشَقَّةِ الْمَشْيِ على الْحَالِفِ أو

خَشْيَةُ ارْتِكَابِ مَفْسَدَةٍ أُخْرَى فَخَلَّصَهُ من ذلك ثُمَّ هَدَّدَهُ بِمَا يَقْتَضِي تَحَرُّزَهُ من الْعَادَةِ قُلْت وَرُبَّمَا كان ابن الْقَاسِمِ يَرَى التَّخْيِيرَ فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا إذَا رَآهُ مَصْلَحَةً وَأَمَّا بِالتَّشَهِّي فَلَا قال وَكَانَتْ هذه الْوَقَائِعُ تُتَّفَقُ نَوَادِرَ وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ سَاءَتْ الْقُصُودُ وَالظُّنُونُ وَكَثُرَ الْفُجُورُ وَتَغَيَّرَ إلَى فُتُونٍ فَلَيْسَ إلَّا إلْجَامُ الْعَوَامّ عن الْإِقْدَامِ على الرُّخَصِ أَلْبَتَّةَ مَسْأَلَةٌ فَلَوْ اخْتَارَ من كل مَذْهَبٍ ما هو الْأَهْوَنُ عليه فَفِي تَفْسِيقِهِ وَجْهَانِ قال أبو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُفَسَّقُ وقال ابن أبي هُرَيْرَةَ لَا حَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ في فَتَاوِيهِ وَأَطْلَقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لو أَنَّ رَجُلًا عَمِلَ بِكُلِّ رُخْصَةٍ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ في النَّبِيذِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ في السَّمَاعِ وَأَهْلِ مَكَّةَ في الْمُتْعَةِ كان فَاسِقًا وَخَصَّ الْقَاضِي من الْحَنَابِلَةِ التَّفْسِيقَ بِالْمُجْتَهِدِ إذَا لم يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُ إلَى الرُّخْصَةِ وَاتَّبَعَهَا وَبِالْعَامِّيِّ الْمُقْدِمِ عليها من غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِإِخْلَالِهِ بِغَرَضِهِ وهو التَّقْلِيدُ فَأَمَّا الْعَامِّيُّ إذَا قَلَّدَ في ذلك فَلَا يُفَسَّقُ لِأَنَّهُ قَلَّدَ من يَسُوغُ اجْتِهَادُهُ وفي فَتَاوَى النَّوَوِيِّ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ وقال في فَتَاوٍ له أُخْرَى وقد سُئِلَ عن مُقَلِّدِ مَذْهَبٍ هل يَجُوزُ له أَنْ يُقَلِّدَ غير مَذْهَبِهِ في رُخْصَةٍ لِضَرُورَةٍ وَنَحْوِهَا أَجَابَ يَجُوزُ له أَنْ يَعْمَلَ بِفَتْوَى من يَصْلُحُ لِلْإِفْتَاءِ إذَا سَأَلَهُ اتِّفَاقًا من غَيْرِ تَلَقُّطِ الرُّخَصِ وَلَا تَعَمُّدِ سُؤَالِ من يَعْلَمُ أَنَّ مَذْهَبَهُ التَّرْخِيصُ في ذلك وَسُئِلَ أَيْضًا هل يَجُوزُ أَكْلُ ما وَلَغَ فيه الْكَلْبُ أو شُرْبُهُ تَقْلِيدًا لِمَالِكٍ فَأَجَابَ ليس له أَكْلُهُ وَلَا شُرْبُهُ إنْ نَقَصَ عن قُلَّتَيْنِ إذَا كان على مَذْهَبِ من يَعْتَقِدُ نَجَاسَتَهُ انْتَهَى وفي أَمَالِي الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ إذَا كان في الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ كَشُرْبِ النَّبِيذِ مَثَلًا فَشَرِبَهُ شَخْصٌ ولم يُقَلِّدْ أَبَا حَنِيفَةَ وَلَا غَيْرَهُ هل يَأْثَمُ أَمْ لَا لِأَنَّ إضَافَتَهُ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لَيْسَتْ بِأَوْلَى من إضَافَتِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَحَاصِلُ ما قال إنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الْفِعْلِ الذي فَعَلَهُ الْمُكَلَّفُ فَإِنْ كان مِمَّا اشْتَهَرَ تَحْرِيمُهُ في الشَّرْعِ أَثِمَ وَإِلَّا لم يَأْثَمْ انْتَهَى وَعَنْ الْحَاوِي لِلْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ من شَرِبَ من النَّبِيذِ ما لَا يُسْكِرُ مع عِلْمِهِ بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ ولم يَعْتَقِدْ الْإِبَاحَةَ وَلَا الْحَظْرَ حُدَّ وفي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ عَامِّيٌّ شَافِعِيٌّ لَمَسَ امْرَأَةَ رَجُلٍ ولم يَتَوَضَّأْ فقال عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الطَّهَارَةُ بِحَالِهَا لَا

تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِأَنَّ بِالِاجْتِهَادِ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَجُوزُ له أَنْ يُخَالِفَ اجْتِهَادَهُ كما إذَا اجْتَهَدَ في الْقِبْلَةِ وَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْجِهَةِ لَا يَصِحُّ وَلَوْ جَوَّزْنَا له ذلك لَأَدَّى إلَى أَنْ يَرْتَكِبَ مَحْظُورَاتِ الْمَذَاهِبِ وَشُرْبَ الْمُثَلَّثِ وَالنِّكَاحَ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ انْتَهَى وفي السُّنَنِ لِلْبَيْهَقِيِّ عن الْأَوْزَاعِيِّ من أَخَذَ بِنَوَادِرِ الْعُلَمَاءِ خَرَجَ عن الْإِسْلَامِ وَعَنْهُ يُتْرَكُ من قَوْلِ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُتْعَةُ وَالصَّرْفُ وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ السَّمَاعُ وَإِتْيَانُ النِّسَاءِ في أَدْبَارِهِنَّ وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الشَّامِ الْحَرْبُ وَالطَّاعَةُ وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ النَّبِيذُ قال وَأَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ قال أخبرنا أبو الْوَلِيدِ يقول سَمِعْت ابْنَ سُرَيْجٍ يقول سَمِعْت إسْمَاعِيلَ الْقَاضِيَ قال دَخَلْت على الْمُعْتَضِدِ فَدَفَعَ إلَيَّ كِتَابًا نَظَرْت فيه وقد جَمَعَ فيه الرُّخَصَ من زَلَلِ الْعُلَمَاءِ وما احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ منهم فَقُلْت مُصَنِّفُ هذا زِنْدِيقٌ فقال لم تَصِحَّ هذه الْأَحَادِيثُ قُلْت الْأَحَادِيثُ على ما رَوَيْت وَلَكِنْ من أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لم يُبِحْ الْمُتْعَةَ وَمَنْ أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لم يُبِحْ الْمُسْكِرَ وما من عَالِمٍ إلَّا وَلَهُ زَلَّةٌ وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بها ذَهَبَ دِينُهُ فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ ذلك الْكِتَابِ وَمِنْ فُرُوعِ هذه الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ هل يَجُوزُ لِلشَّافِعِيِّ مَثَلًا أَنْ يَشْهَدَ على الْخَطِّ عِنْدَ الْمَالِكِيِّ الذي يَرَى الْعَمَلَ بِهِ صَرَّحَ ابن الصَّبَّاغِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ في كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ قالوا ليس له أَنْ يَشْهَدَ على خَطِّ نَفْسِهِ وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ إذَا وَثِقَ بِهِ وَقَلَّدَ الْمُخَالِفَ وَيَدُلُّ عليه تَصْحِيحُ النَّوَوِيِّ قَبُولَ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ على ما لَا يَعْتَقِدُهُ كَالشَّافِعِيِّ يَشْهَدُ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فيه وَجْهَيْنِ بِلَا تَرْجِيحٍ وَمِنْهَا أَنَّ الْحَنَفِيَّ إذَا حَكَمَ لِلشَّافِعِيِّ بِشُفْعَةِ الْجِوَارِ هل يَجُوزُ له وَفِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْحِلُّ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْكِلُ على قَاعِدَتِهِمْ في كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعَقِيدَةِ الْإِمَامِ لَا الْمَأْمُومِ مَسْأَلَةٌ الْعَامِّيُّ إذَا اتَّبَعَ مُجْتَهِدًا ثُمَّ مَاتَ وفي الْعَصْرِ مُجْتَهِدٌ آخَرُ فَقِيلَ عليه اتِّبَاعُ من عَاصَرَهُ فإن نَظَرَهُ أَوْلَى من نَظَرِ الْمَيِّتِ قال إلْكِيَا وَهَذَا ليس مَقْطُوعًا بِهِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مُحَمَّدَ بن الْحَسَنِ من الْمُجْتَهِدِينَ وما كُلِّفَ الناس بِاتِّبَاعِ مَذْهَبِهِ بَعْدَ أبي حَنِيفَةَ فَإِذَنْ الِاخْتِيَارُ مُفَوَّضٌ إلَى الْعَامِّيِّ في الْقَبُولِ وَكَأَنَّ هذا تَفْرِيعٌ على عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ

مَسْأَلَةٌ إذَا فَعَلَ الْمُكَلَّفُ فِعْلًا مُخْتَلَفًا في تَحْرِيمِهِ غير مُقَلِّدٍ لِأَحَدٍ فَهَلْ نُؤَثِّمُهُ بِنَاءً على الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ أو لَا بِنَاءً على التَّحْلِيلِ مع أَنَّهُ ليس إضَافَتُهُ لِأَحَدِ الْمَذْهَبَيْنِ أَوْلَى من الْآخَرِ ولم يَسْأَلْنَا عن مَذْهَبِنَا فَنُجِيبُهُ قال الْقَرَافِيُّ لم أَرَ فيه نَصًّا وكان الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ يقول إنَّهُ آثِمٌ من جِهَةِ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَجِبُ عليه أَنْ لَا يُقْدِمَ على فِعْلٍ حتى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فيه وَهَذَا أَقْدَمَ غير عَالِمٍ فَهُوَ آثِمٌ بِتَرْكِ التَّعَلُّمِ وَأَمَّا تَأْثِيمُهُ بِالْفِعْلِ نَفْسِهِ فَإِنْ كان مِمَّا عُلِمَ في الشَّرْعِ قُبْحُهُ أَثَّمْنَاهُ وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ تَمَّ الْكِتَابُ بِعَوْنِ الْمِلْكِ الْوَهَّابِ وَجَدْت في آخِرِ الْمَنْقُولِ منه ما صُورَتُهُ قال مُؤَلِّفُهُ فَسَحَ اللَّهُ في مُدَّتِهِ وَنَفَعَ الْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَتِهِ نُجِزَ سَابِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ من سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِالْقَاهِرَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ مَقْرُونًا بِالزُّلْفَى وَالْقَبُولِ إلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الذي هَدَانَا لِهَذَا وما كنا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ وَنَسْأَلُهُ الْمَزِيدَ من فَضْلِهِ إنَّهُ الْوَهَّابُ وأنا أَرْغَبُ إلَى من وَقَفَ عليه أَنْ لَا يَنْسُبَ فَوَائِدَهُ إلَيْهِ فَإِنِّي أَفْنَيْت الْعُمُرَ في اسْتِخْرَاجِهَا من الْمُخَبَّآتِ وَاسْتِنْتَاجِهَا من الْأُمَّهَاتِ وَاطَّلَعْت في ذلك على ما يَحْسُرُ على غَيْرِي مَرَامُهُ وَعَزَّ عليه اقْتِحَامُهُ وَتَحَرَّزْت في النُّقُولِ من الْأُصُولِ بِالْمُشَافَهَةِ لَا بِالْوَاسِطَةِ وَرَأَيْت الْمُتَأَخِّرِينَ قد وَقَعَ لهم الْغَلَطُ الْكَثِيرُ بِسَبَبِ التَّقْلِيدِ فإذا رَأَيْت في كِتَابِي هذا شيئا من النُّقُولِ فَاعْتَمِدْهُ فإنه الْمُحَرَّرُ الْمَقْبُولُ وإذا تَأَمَّلْتَهُ وَإِسْعَافَهُ وَجَدْتَهُ قد زَادَ في أُصُولِ الْفِقْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَضْعَافَهُ وقد أَحْيَيْت من كَلَامِ الْأَقْدَمِينَ خُصُوصًا الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ ما قد دَرَسَ وَأَسْفَرَ صَبَاحُهُ بَعْدَ أَنْ تَلَبَّسَ بِالْغَلَسِ وَلَقَدْ كان من أَدْرَكْت من الْأَكَابِرِ يقول مَسَائِلُ أُصُولِ الْفِقْهِ إذَا اُسْتُقْصِيَتْ تَجِيءُ نحو الثَّمَانِمِائَةِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أنها إلَى الثَّمَانِيَةِ آلَافٍ وَأَزْيَدَ أَقْرَبُ منها إلَى ما ذَكَرَهُ وَتَتَضَاعَفُ عِنْدَ التَّوْلِيدِ وَالنَّظَرِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَآخِرًا وهو حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَصَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ على سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْمَخْلُوقِينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَعِتْرَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ الطَّاهِرِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24