كتاب : البحر المحيط في أصول الفقه
المؤلف : بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي

منها مُجْمَلًا خَفِيًّا ثُمَّ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَمِنْ الْمُجْمَلِ ما لَا يَجِبُ بَيَانُهُ على الرَّسُولِ كَقَوْلِهِ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ فَأَجْمَلَ فيه النَّفَقَةَ في أَقَلِّهَا وَأَوْسَطِهَا وَأَكْثَرِهَا حتى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ في تَقْدِيرِهَا وَسُئِلَ عن الْكَلَالَةِ فقال آيَةُ الصَّيْفِ فَوَكَلَهُ إلَى الِاجْتِهَادِ ولم يُصَرِّحْ بِالْبَيَانِ قال وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في هذا الْبَيَانِ الصَّادِرِ من الِاجْتِهَادِ هل يُؤْخَذُ قِيَاسًا أو تَنْبِيهًا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يُؤْخَذُ تَنْبِيهًا من لَفْظِ الْمُجْمَلِ وَشُوهِدَ أَحْوَالُهُ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ قال لِعُمَرَ يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ فَرَدَّهُ إلَيْهَا لِيَسْتَدِلَّ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ من بَيِّنَةٍ وَشَوَاهِدَ قال وَالثَّانِي أَنْ يُؤْخَذَ قِيَاسًا على ما اسْتَقَرَّ بَيَانُهُ من نَصٍّ أو إجْمَاعٍ لِأَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عن الْقِبْلَةِ فقال أَرَأَيْت لو تَمَضْمَضْت فَجَعَلَ الْقِبْلَةَ بِغَيْرِ إنْزَالٍ كَالْمَضْمَضَةِ بِغَيْرِ ازْدِرَادٍ ا هـ وما ذَكَرَهُ في الْأَوَّلِ من التَّمْثِيلِ بِالنَّفَقَةِ يُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فيه فإن بَيَانَهَا قد وَرَدَ في قَضِيَّةِ هِنْدَ حَيْثُ قال خُذِي ما يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ فَبَيَّنَ الْإِجْمَالَ في الْآيَةِ بِالْكِفَايَةِ مَسْأَلَةٌ حُكْمُ الْمُجْمَلِ وَحُكْمُهُ التَّوَقُّفُ فيه إلَى أَنْ يَرِدَ تَفْسِيرُهُ وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرِهِ في شَيْءٍ يَقَعُ فيه النِّزَاعُ قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وقال الْمَازِرِيُّ إنْ كان الِاحْتِمَالُ من جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ وَاقْتَرَنَ بِهِ تَنْبِيهٌ أَخَذَ بِهِ وَإِنْ تَجَرَّدَ عن تَنْبِيهٍ وَاقْتَرَنَ بِهِ عُرْفٌ عُمِلَ بِهِ وَإِنْ تَجَرَّدَ عن تَنْبِيهٍ وَعُرْفٍ وَجَبَ الِاجْتِهَادُ في الْمُرَادِ منها وكان من خَفِيِّ الْأَحْكَامِ التي وُكِلَ الْعُلَمَاءُ فيها إلَى الِاسْتِنْبَاطِ فَصَارَ دَاخِلًا في الْمُجْمَلِ لِخَفَائِهِ وَخَارِجًا منه لِإِمْكَانِ

اسْتِنْبَاطِهِ تَنْبِيهٌ حَمْلُ الْمُجْمَلِ على جَمِيعِ مَعَانِيهِ الْمُتَنَافِيَةِ وقد يُحْمَلُ الْمُجْمَلُ على جَمِيعِ مَعَانِيهِ غَيْرِ الْمُتَنَافِيَةِ نَظِيرَ الْعَامِّ ولم يَتَعَرَّضُوا لِذَلِكَ فيه وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فإن السُّلْطَانَ مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ الْحُجَّةَ وَالدِّيَةَ وَالْقَوَدَ وَيَحْتَمِلُ الْجَمِيعَ لَا جَرَمَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُخَيِّرُ بين الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْكُلَّ بِالْإِضَافَةِ إلَى اللَّفْظِ سَوَاءٌ قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ في أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مَسْأَلَةٌ الْإِجْمَالُ إمَّا أَنْ يَكُونَ في حَالِ الْإِفْرَادِ أو التَّرْكِيبِ وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَعْرِيفِهِ كَلَفْظَةِ قال من الْقَيْلُولَةِ وَالْقَوْلِ وَكَالْمُخْتَارِ فإنه صَالِحٌ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ يُقَالُ اخْتَرْت فُلَانًا فَأَمَّا مُخْتَارٌ وهو مُخْتَارٌ قال الْعَسْكَرِيُّ وَيَفْتَرِقَانِ تَقُولُ في الْفَاعِلِ مُخْتَارٌ لِكَذَا وفي الْمَفْعُولِ مُخْتَارٌ من كَذَا وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ يُضَارِرُ بِفَتْحِ الرَّاءِ أو بِكَسْرِهَا وقد قُرِئَ بِهِمَا وَمِثْلُهُ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا في احْتِمَالِ الْوَجْهَيْنِ قَالَهُ الْعَبْدَرِيّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَصْلِ وَضْعِهِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعَانِيهِ مُتَضَادَّةً كَ الْقُرْءِ لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ والناهل لِلْعَطْشَانِ وَالرَّيَّانِ والشفق لِلْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ وَإِمَّا مُتَشَابِهَةً كَالْفَرَسِ لِلْحَيَوَانِ الْمَعْرُوفِ وَالصُّورَةِ التي تُرْسَمُ على مِثَالِهِ أو لَا يَكُونَ كَذَلِكَ كَالْعَيْنِ لِلْعُضْوِ الْبَاصِرِ وَيَنْبُوعِ الْمَاءِ وَإِنْ شِئْت قُلْت إمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ مَعَانِيَ كَثِيرَةً بِحَسَبِ خُصُوصِيَّاتِهَا فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ وَإِمَّا بِحَسَبِ مَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا وهو الْمُتَوَاطِئُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ وقال أبو الْعِزِّ الْمُقْتَرِحِ الْفَرْقُ بين الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ أَنَّ الْمُجْمَلَ يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ احْتِمَالَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَهْمِ سَوَاءٌ وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُمَا على وَجْهِ الْحَقِيقَةِ أو في أَحَدِهِمَا مَجَازٌ وفي الْآخَرِ حَقِيقَةٌ فَالْإِجْمَالُ إنَّمَا هو بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَهْمِ فإن الْمُشْتَرَكَ قد يَتَسَاوَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَضْعِ وَلَا يَتَسَاوَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَهْمِ فَلَا يَكُونُ مُجْمَلًا وَأَيْضًا إمَّا أَنْ يَكُونَ في الْأَسْمَاءِ كما سَبَقَ أو في الْأَفْعَالِ كَ عَسْعَسَ بِمَعْنَى أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ أو في الْحُرُوفِ كَتَرَدُّدِ الْوَاوِ بين الْعَطْفِ وَالِابْتِدَاءِ في قَوْله تَعَالَى وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ

وَتَرَدُّدِهَا بين الْعَطْفِ وَالْحَالِ في قَوْلِهِ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا لِأَنَّهَا إنْ كانت عَاطِفَةً أَوْهَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِضَعْفِهِمْ حَدَثَ الْآنَ وَبِهِ احْتَجَّ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ على حُدُوثِ الْعِلْمِ تَعَالَى اللَّهُ عن ذلك وَإِنَّمَا الْمُرَادُ إعْلَامُ عِبَادِهِ وَإِنْ جُعِلَتْ غير عَاطِفَةٍ كان تَقْدِيرُهُ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ عَالِمًا أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَلَا يَلْزَمُ منه مَحْذُورٌ وَيَجِبُ إضْمَارُ قد حِينَئِذٍ وَنَحْوُ تَرَدُّدِ من بين ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَالتَّبْغِيضِ كَقَوْلِهِ فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه فقال أبو حَنِيفَةَ هِيَ لِلِابْتِدَاءِ أَيْ اجْعَلُوا ابْتِدَاءَ الْمَسْحِ من الصَّعِيدِ وقال الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ هِيَ لِلتَّبْعِيضِ أَيْ امْسَحُوا وُجُوهَكُمْ بِبَعْضِ الصَّعِيدِ فَلِهَذَا اشْتَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ لِمَا يُتَيَمَّمُ بِهِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ لِتَحَقُّقِ الْمَسْحِ بِبَعْضِهِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا في تَرْكِيبِهِ وهو أَنْوَاعٌ منها في الْمُرَكَّبِ بِجُمْلَتِهِ في نَحْوِ قَوْله تَعَالَى أو يَعْفُوَ الذي بيده عُقْدَةُ النِّكَاحِ لِتَرَدُّدِهِ بين الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ وَلِذَلِكَ اُخْتُلِفَ فيه فقال الشَّافِعِيُّ بِالْأَوَّلِ وَمَالِكٌ بِالثَّانِي وَمِنْهَا في الِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ صَلَاةٌ في مَسْجِدِي هذا أَفْضَلُ من أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَكِنْ لَا كَبَاقِي الْمَسَاجِدِ بَلْ إنَّمَا أَزِيدُ أو أَنْقُصُ منها وَالثَّانِي أَنَّهُ ليس بِأَفْضَلَ منه بَلْ إمَّا مُسَاوٍ أو الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَفْضَلُ وَمِنْهَا في مَرْجِعِ الضَّمِيرِ إذَا تَقَدَّمَهُ أَمْرَانِ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ لَا يَمْنَعُ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً في جِدَارِهِ فَضَمِيرُ الْجِدَارِ يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ على نَفْسِهِ أَيْ في جِدَارِ نَفْسِهِ أو على جَارِهِ أَيْ في جِدَارِ جَارِهِ وقد ذَكَرَ أَصْحَابُنَا هذا في كِتَابِ الصُّلْحِ وَالْأَصَحُّ امْتِنَاعُ الْوَضْعِ إلَّا بِإِذْنٍ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا من الصَّالِحِينَ فإن هذا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبِشَارَةُ بِمِيلَادِهِ فَيَكُونَ الْمَأْمُورُ بِذَبْحِهِ إسْمَاعِيلَ لِأَنَّ هذا الْكَلَامَ في قِصَّةِ الذَّبِيحِ

وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْبِشَارَةُ بِنُبُوَّتِهِ وَيَكُونَ هو الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهِ وَمِنْهَا في مَرْجِعِ الصِّفَةِ نَحْوُ زَيْدٌ طَبِيبٌ مَاهِرٌ لِتَرَدُّدِهِ بين الْمَهَارَةِ مُطْلَقًا وَالْمَهَارَةُ في الطِّبِّ كَذَا قَالَهُ ابن الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ وقال صَاحِبُ الْبَسِيطِ من النَّحْوِيِّينَ إذَا اجْتَمَعَتْ صِفَتَانِ فَصَاعِدًا لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ قال قَوْمٌ الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِلْأَوَّلِ وَحْدَهُ وقال قَوْمٌ هِيَ لِمَجْمُوعِ الْمَوْصُوفِ وَالصِّفَةِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ قال الْأَصْحَابُ الْمُجْمَلُ على أَوْجُهٍ منها أَنْ لَا يَرْجِعَ اللَّفْظُ لِلدَّلَالَةِ على شَيْءٍ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ إلَّا بِحَقِّهَا فإن الْحَقَّ يَشْتَمِلُ على أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وهو في هذا الْمَوْضِعِ مَجْهُولٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ فإنه صَارَ مُجْمَلًا لِمَا دَخَلَهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَمِنْهَا أَنْ يَفْعَلَ صلى اللَّهُ عليه وسلم فِعْلًا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ احْتِمَالًا وَاحِدًا كَالْجَمْعِ بين الصَّلَاتَيْنِ في السَّفَرِ فَهُوَ مُجْمَلٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ السَّفَرَ الطَّوِيلَ وَالْقَصِيرَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ على أَحَدِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ قال وَهَذِهِ الْوُجُوهُ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ في إجْمَالِهَا وَافْتِقَارِهَا إلَى الْبَيَانِ انْتَهَى وَمِنْهَا في تَعَدُّدِ الْمَجَازَاتِ الْمُتَسَاوِيَةِ مع مَانِعٍ يَمْنَعُ من حَمْلِهِ على الْحَقِيقَةِ فإن اللَّفْظَ يَصِيرُ مُجْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْمَجَازَاتِ إذْ ليس الْحَمْلُ على أَحَدِهَا أَوْلَى من حَمْلِهِ على الْبَعْضِ الْآخَرِ كما هو في الْمُشْتَرَكِ وَالْمُتَوَاطِئِ كَذَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وابن الْحَاجِبِ وهو ظَاهِرٌ إنْ لم يُحْمَلْ الْمُشْتَرَكُ على مَعَانِيهِ لَكِنَّ قَاعِدَةَ الشَّافِعِيِّ حَمْلُهُ على سَائِرِ الْمَعَانِي احْتِيَاطٌ وَلَا يَتَوَقَّفُ على بَيَانٍ أَمَّا إذَا تَكَافَأَتْ الْمَجَازَاتُ وَتَرْجِيحُ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ كَنَفَيْ الصِّحَّةِ كَقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ وَلَا صِيَامَ أو لِأَنَّهُ أَظْهَرُ غَرَضًا أو أَعْظَمُ مَقْصُودًا كَرَفْعِ الْحَرَجِ وَتَحْرِيمِ الْأَكْلِ في رُفِعَ عن أُمَّتِي وحرمت عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ حُمِلَ عليه وقد اُخْتُلِفَ في أَلْفَاظٍ منها قَوْله تَعَالَى وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ

وَلِلشَّافِعِيِّ فيه أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أنها عَامَّةٌ خَصَّصَهَا الْكِتَابُ الثَّانِي أنها عَامَّةٌ خَصَّصَتْهَا السُّنَّةُ الثَّالِثُ أنها مُجْمَلَةٌ بَيَّنَهَا الْكِتَابُ الرَّابِعُ أنها مُجْمَلَةٌ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ في آيَةِ الزَّكَاةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَآتُوا الزَّكَاةَ على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أنها عَامَّةٌ خَصَّصَتْهَا السُّنَّةُ وَالثَّانِي أنها مُجْمَلَةٌ بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ وَهُمَا من جِهَةِ اللَّفْظِ وَالتَّعْرِيفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَاحِدٌ وَفِيهِ سُؤَالٌ وهو أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُفْرَدٌ مُعَرَّفٌ فإن عَمَّ من حَيْثُ اللَّفْظُ فَلْيَعُمَّ في الْآيَتَيْنِ أو الْمَعْنَى فَلْيَعُمَّ فِيهِمَا وَإِنْ لم يَعُمَّ من حَيْثُ اللَّفْظُ وَلَا من حَيْثُ الْمَعْنَى فَلْيَسْتَوِيَا فيه مع أَنَّ الصَّحِيحَ في آيَةِ الْبَيْعِ الْعُمُومُ وفي آيَةِ الزَّكَاةِ الْإِجْمَالُ وَسَبَقَ جَوَابُهُ في بَابِ الْعُمُومِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ الصَّحِيحُ أنها لَيْسَتْ مُجْمَلَةً لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعْقُولٌ في اللُّغَةِ فَحُمِلَ اللَّفْظُ على الْعُمُومِ إلَّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ وقال أبو مَنْصُورٍ الصَّحِيحُ أنها مُجْمَلَةٌ في الْبُيُوعِ التي فيها الرِّبَا فَأَمَّا بَيْعٌ لَا رِبَا فيه فَدَاخِلٌ في عُمُومِ التَّحْلِيلِ وَكَذَا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إنَّهُ مُجْمَلٌ فِيمَا اشْتَمَلَ على جِهَةٍ من جِهَاتِ الزِّيَادَةِ دُونَ ما ليس كَذَلِكَ وَمَأْخَذُهُ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ في الْمُفْرَدِ لِلْعُمُومِ أو الْجِنْسِ الصَّادِقِ على الْكُلِّ أو الْبَعْضِ أو أَنَّهُ وَإِنْ كان لِلْعُمُومِ لَكِنَّ قَوْلَهُ وَحَرَّمَ الرِّبَا جَارٍ مَجْرَى الِاسْتِثْنَاءِ فيه وهو مَجْهُولٌ إذْ الرِّبَا هو الزِّيَادَةُ وَلَيْسَ كُلُّ زِيَادَةٍ حَرَامًا وَبِهِ يُشْعِرُ تَفْصِيلُ الْإِمَامِ وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لِتَرَدُّدِهِ بين الْعَهْدِ وَالْعُمُومِ وهو بِإِطْلَاقِهِ لَا يَعُمُّ إلَّا عِنْدَ عَدَمِهِ وَيَلْزَمُهُ ذلك في الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ ثُمَّ هو جَزْمٌ بِالْإِجْمَالِ وقال ابن الْقُشَيْرِيّ في تَفْسِيرِهِ قال الْعُلَمَاءُ هذه الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ يَقْتَضِي تَحْلِيلَ كل بَيْعٍ وَقَوْلَهُ وَحَرَّمَ الرِّبَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَ كل بَيْعٍ لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ إلَّا وَتُقْصَدُ منه الزِّيَادَةُ فَالرُّجُوعُ إذْنٌ إلَى بَيَانِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقِيلَ الْبَيْعُ الذي لَا زِيَادَةَ فيه هو بَيْعُ عَشَرَةٍ بِعَشَرَةٍ مع التَّجَانُسِ فَهُوَ حَلَالٌ ليس فيه إجْمَالٌ وَإِنَّمَا الْإِجْمَالُ فِيمَا يَتَضَمَّنُ زِيَادَةً فَبَعْضُ ما يَتَضَمَّنُ الزِّيَادَةَ حَلَالٌ وَالْبَعْضُ حَرَامٌ وقال غَيْرُهُ هذه الْآيَةُ مُخَصَّصَةٌ لَا مُجْمَلَةٌ فإن قَوْلَهُ وَحَرَّمَ الرِّبَا دَلَّ على أَنَّ الْمُرَادَ في قَوْلِهِ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ الْبَعْضُ دُونَ الْكُلِّ الذي هو ظَاهِرٌ بِأَصْلِ الْوَضْعِ وَقِيلَ إنَّ الْبَيْعَ مُجْمَلٌ لِأَنَّ الرِّبَا مُجْمَلٌ وهو في حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى من الْبَيْعِ

وَاسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولِ من الْمَعْلُومِ يَعُودُ بِالْإِجْمَالِ على أَصْلِ الْكَلَامِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ فإن الرِّبَا عَامٌّ في الزِّيَادَاتِ كُلِّهَا وَكَوْنُ الْبَعْضِ غير مُرَادٍ فَرْعُ تَخْصِيصٍ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِهِ دَلَالَةُ الْأَوْضَاعِ وَمِنْهَا الْآيَاتُ التي ذُكِرَ فيها الْأَسْمَاءُ الشَّرْعِيَّةُ كَقَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَقَوْله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَقَوْلُهُ وَلِلَّهِ على الناس حِجُّ الْبَيْتِ وَفِيهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أنها عَامَّةٌ غَيْرُ مُجْمَلَةٍ فَتُحْمَلُ الصَّلَاةُ على كل دُعَاءٍ وَالصَّوْمُ على كل إمْسَاكٍ وَالْحَجُّ على كل قَصْدٍ إلَّا ما قام الدَّلِيلُ عليه وَالثَّانِي أنها مُجْمَلَةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بها مَعَانٍ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عليها في اللُّغَةِ وَإِنَّمَا تُعْرَفُ من جِهَةِ الشَّرْعِ فَافْتَقَرَتْ إلَى الْبَيَانِ هَكَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ في اللُّمَعِ وَجَعَلَهُمَا مَبْنِيَّيْنِ على أَنَّ هذه الْأَسْمَاءَ مَنْقُولَةٌ أو حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ فَمَنْ قال مَنْقُولَةٌ قال هِيَ مُجْمَلَةٌ قال وهو الْأَصَحُّ وَمَنْ قال حَقَائِقُ شَرْعِيَّةٌ قال هِيَ عَامَّةٌ وَنَسَبَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ في شَرْحِ الْكِفَايَةِ الْقَوْلَ بِالْإِجْمَالِ في هذا إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قال وَحَكَى أبو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَهُ من الْمُجْمَلِ لِأَنَّ مَدْلُولَ الصَّلَاةِ في اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ مُخْتَلِفٌ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ الِاسْتِدْلَالَ بِعُمُومِ قَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَإِنْ ضَمَّ إلَيْهِ أَوْصَافًا وَشُرُوطًا فَقَدْ ضَمَّ إلَى السَّرِقَةِ في آيَةِ الْقَطْعِ بها نِصَابًا وَحِرْزًا وَمَعَ ذلك يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِعُمُومِ قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ إلَّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ وَالصَّلَاةُ وَمِنْهَا الْأَلْفَاظُ التي عُلِّقَ التَّحْرِيمُ فيها على الْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَفِيهَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أنها مُجْمَلَةٌ لَا يَصِحُّ التَّعَلُّقُ بِظَاهِرِهَا لِأَنَّ الْعَيْنَ لَا تُوصَفُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَإِنَّمَا الْمَوْصُوفُ بِهِمَا أَفْعَالُنَا وَهِيَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فَافْتَقَرَ إلَى بَيَانِ ما يَحْرُمُ من الْأَفْعَالِ وما لَا يَحْرُمُ وَبِهِ قال الْكَرْخِيّ وَتِلْمِيذُهُ أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وإذا قُلْنَا بهذا فَاخْتَلَفُوا لِأَيِّ وَجْهٍ الْوَجْهُ الثَّانِي وهو الْأَصَحُّ أنها لَيْسَتْ مُجْمَلَةً لِأَنَّ الْمَعْقُولَ منه التَّصَرُّفُ

فَيَعُمُّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ من الْعَقْدِ على الْأُمِّ وَوَطْئِهَا وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالتَّصَرُّفِ فيها وهو حَقِيقَةٌ في ذلك وهو قَوْلُ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ وَأَبِي عَلِيٍّ وَابْنِهِ أبي هَاشِمٍ وَأَبِي الْحُسَيْنِ من الْمُعْتَزِلَةِ لِقَوْلِهِ لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عليهم الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا فَأَكَلُوا ثَمَنَهَا فَدَلَّ على أَنَّ تَحْرِيمَهَا أَفَادَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ وَإِلَّا لم يَتَّجِهْ اللَّعْنُ في الْبَيْعِ قال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ هذا هو الصَّحِيحُ وقال ابن بَرْهَانٍ إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِنَّ الْأَوَّلَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ ما أُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمُ الْعَيْنِ نَفْسِهَا وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ تَحْرِيمُ أَفْعَالِنَا وهو حَقِيقَةٌ فيه وقال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ حَقِيقَةٌ في تَحْرِيمِ الْعَيْنِ مَجَازٌ في تَحْرِيمِ الْفِعْلِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ هذه الْآيَاتِ في إثْبَاتِ التَّحْرِيمِ ولم يُنْقَلْ عنه أَنَّهُمْ رَجَعُوا في ذلك إلَى شَيْءٍ آخَرَ وَجَعَلَ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ من أَمْثِلَةِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَهُ لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ قال فَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال مُجْمَلٌ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَدْخُلُ في التَّحْرِيمِ إنَّمَا تَدْخُلُ الْأَفْعَالُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْمُرُورَ أو الْمُكْثَ فَيَتَوَقَّفُ فيه وَقِيلَ ليس إضْمَارُ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ مُتَعَيِّنًا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَاعْلَمْ أَنَّ هذه الْمَسْأَلَةَ هِيَ عَيْنُ مَسْأَلَةِ الْمُقْتَضَى هل له عُمُومٌ في جَمِيعِ مُقَدَّرَاتِهِ أَمْ لَا وابن الْحَاجِبِ مِمَّنْ يَمْنَعُ الْعُمُومَ في بَابِهِ وَيَقُولُ بِهِ هَاهُنَا إلَّا أَنْ يُدَّعَى أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بين نَفْيِ الْإِجْمَالِ وَالْعُمُومِ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في قَوْلِهِ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ على وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ لِأَنَّ الْمُجْمَلَ يُوجَدُ بِغَيْرِ النِّيَّةِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا في الْجَوَازِ أو الْفَضِيلَةِ وَلَا ذِكْرَ لَهُمَا في الْخَبَرِ فَلَيْسَ إضْمَارُ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى من

الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ دَعْوَى الْعُمُومِ فِيهِمَا لِأَنَّ الْعُمُومَ لِلْأَلْفَاظِ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فيه وَالثَّانِي ليس بِمُجْمَلٍ لِأَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ الشَّرْعِ دُونَ اللُّغَةِ وَإِضْمَارُ أَحَدِهِمَا خِلَافُ الْأَصْلِ فَيَجِبُ الْعُمُومُ قال وَقُلْت أَمَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَصَدَ بَيَانَ الشَّرْعِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا في الْعَمَلِ دُونَ صِفَتِهِ فَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ شَرْعًا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَهَذَا الْجَوَابُ يُغْنِي عن دَعْوَى الْعُمُومِ فيه وقال أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ إذَا قِيلَ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ أَفَادَ شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا وَقَعَ بهذا صَحَّ وإذا لم يَأْتِ بِهِ لم يَصِحَّ وَهَذَا مَعْقُولُ الْخِطَابِ وَقِيلَ أَرَادَ الْكَمَالَ لَا الصِّحَّةَ وَلَنَا إذَا بَطَلَ الصِّحَّةُ بَطَلَ الْكَمَالُ أَيْضًا فَهُوَ أَكْثَرُ عُمُومًا فَهُوَ أَكْثَرُ فَائِدَةً قال وكان ابن أبي هُرَيْرَةَ يقول قَوْلُهُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ليس الْمُرَادُ إخْرَاجَهُ من الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ صِحَّتَهُ أو كَمَالَهُ لَكِنَّ حَمْلَهُ على الصِّحَّةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عَامِلًا بِنِيَّتِهِ وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بين الْكُلِّ وَالْبَعْضِ وَالسُّنَّةُ بَيَّنَتْ الْبَعْضَ وَحَكَاهُ في الْمُعْتَمَدِ عن أبي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وقال آخَرُونَ لَا إجْمَالَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فقالت الْمَالِكِيَّةُ يَقْتَضِي مَسْحَ الْجَمِيعِ لِأَنَّ الرَّأْسَ حَقِيقَةٌ في جَمِيعِهِمَا وَالْبَاءَ إنَّمَا دَخَلَتْ لِلْإِلْصَاقِ وقال الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ إنَّهُ يَقْتَضِي التَّبْعِيضَ قال لِأَنَّ الْمَسْحَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى حَرْفِ التَّعَدِّيَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مَسَحْته كُلَّهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفِيدَ دُخُولُهُ الْبَاءَ فَائِدَةً جَدِيدَةً فَلَوْ لم يُفِدْ التَّبْعِيضَ لَبَقِيَ اللَّفْظُ عَارِيًّا عن الْفَائِدَةِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيمَا يَنْطَلِقُ عليه الِاسْمُ وهو الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بين مَسْحِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ فَيَصْدُقُ بِمَسْحِ الْبَعْضِ وَنَسَبَهُ في الْمَحْصُولِ لِلشَّافِعِيِّ قال الْبَيْضَاوِيُّ هُنَا وهو الْحَقُّ وهو مُخَالِفٌ لِإِثْبَاتِهِ مَجِيءَ الْبَاءِ لِلتَّبْعِيضِ وَنَقَلَ ابن الْحَاجِبِ عن الشَّافِعِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ ثُبُوتَ التَّبْعِيضِ بِالْعُرْفِ وَاَلَّذِي في الْمُعْتَمَدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ عن عبد الْجَبَّارِ أنها تُفِيدُ في اللُّغَةِ تَعْمِيمَ مَسْحِ الْجَمِيعِ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا يُسَمَّى رَأْسًا وهو اسْمٌ لِلْجُمْلَةِ لَا لِلْبَعْضِ لَكِنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي إلْحَاقَ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ إمَّا جَمِيعَهُ وَإِمَّا بَعْضَهُ فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عليه ثُمَّ قال إنَّهُ الْأَوْلَى ثُمَّ قال ابن الْحَاجِبِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ لَا إجْمَالَ ا هـ قلت وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ في كِتَابِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَكَانَ مَعْقُولًا في الْآيَةِ أَنَّ

من مَسَحَ من رَأْسِهِ شيئا فَقَدْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ولم تَحْتَمِلْ الْآيَةُ إلَّا هذا وَهَذَا أَظْهَرُ مَعَانِيهَا أو مَسَحَ الرَّأْسَ كُلَّهُ قال فَدَلَّتْ السُّنَّةُ على أَنْ ليس على الْمَرْءِ مَسْحَ رَأْسِهِ كُلِّهِ وإذا دَلَّتْ السُّنَّةُ على ذلك فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ من مَسَحَ شيئا من رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ ا هـ فلم يَثْبُتْ التَّبْعِيضُ بِالْعُرْفِ كما زَعَمَ ابن الْحَاجِبِ وقال صَاحِبُ الْمَصَادِرِ يَنْبَغِي على قَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا لِأَنَّهُ إذَا أَفَادَ إلْصَاقَ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ من غَيْرِ تَعْمِيمٍ أو تَبْعِيضٍ صَارَ مُحْتَمِلًا لَهُمَا فَيَصِيرُ مُجْمَلًا وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ صَارَ مُفِيدًا لِلتَّبْعِيضِ مَمْنُوعٌ وقال الْأَصْفَهَانِيُّ مَذْهَبُ الْأَوَّلِينَ أَقْرَبُ إلَى النَّصِّ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَقْرَبُ إلَى الْفِعْلِ وَمِنْهَا قال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ آيَةُ السَّرِقَةِ مُجْمَلَةٌ إذْ الْيَدُ لِلْعُضْوِ من الْمَنْكِبِ وَالْمَرْفِقِ وَالْكُوعِ لِاسْتِعْمَالِهَا فيها وَالْقَطْعُ لِلْإِبَانَةِ وَالشَّقِّ لِأَنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِيهِمَا وَمَنَعَهُ الْجُمْهُورُ بَلْ الْيَدُ حَقِيقَةٌ في الْعُضْوِ إلَى الْمَنْكِبِ وَلِمَا دُونَهُ مَجَازٌ لِصِحَّةِ بَعْضِ الْيَدِ وَلِفَهْمِ الصَّحَابَةِ إذْ مَسَحُوا إلَى الْآبَاطِ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ وَالْمَجَازُ خَيْرٌ من الِاشْتِرَاكِ وقال بَعْضُهُمْ الْيَدُ في الشَّرْعِ تُسْتَعْمَلُ مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً فَالْمُطْلَقَةُ تَنْصَرِفُ إلَى الْكُوعِ بِدَلِيلِ آيَةِ التَّيَمُّمِ وَآيَةِ السَّرِقَةِ وَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ وَقَوْلِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ حتى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا وَقَوْلِهِ إذَا أَفْضَى بيده إلَى فَرْجِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ وَالْمُقَيَّدَةُ بِحَسَبِ ما قُيِّدَتْ بِهِ كَآيَةِ الْوُضُوءِ فَلَا إجْمَالَ وَالْقَطْعُ حَقِيقَةٌ في الْإِبَانَةِ وَإِطْلَاقُهُ على الشِّقِّ لِوُجُودِهَا فيه وَالتَّوَاطُؤُ خَيْرٌ من الِاشْتِرَاكِ وَمِنْهَا ما وَرَدَ من الْأَوَامِرِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ وَقَوْلُهُ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أنها تُفِيدُ الْإِيجَابَ وقال قَوْمٌ من الْأُصُولِيِّينَ

وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ مَوْقُوفٌ فيه إلَى دَلِيلٍ يُعَيِّنُ جِهَةً من الْجِهَاتِ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْحَمْلُ على ظَاهِرِهِ وهو الْخَبَرُ لِأَنَّا نَجِدُ مُطَلَّقَةً لَا تَتَرَبَّصُ وَجُرْحًا لَا يَقْتَصُّ وَثَيِّبًا لَا تُشَاوَرُ وَاللَّفْظُ لَا يَتَعَرَّضُ لِجِهَةٍ أُخْرَى بِالنَّصِّ فَلَا بُدَّ في تَعْيِينِ الْجِهَةِ من دَلِيلٍ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ أنها خَيْرٌ من اللَّهِ فَلَوْ حُمِلَ على حَقِيقَةِ الْخَبَرِ لَزِمَ الْخُلْفُ في خَبَرِ اللَّهِ فَوَجَبَ حَمْلُهَا على إرَادَةِ الْأَمْرِ كَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ وَأَدْخَلَهُ في بَابِ الْإِجْمَالِ مَسْأَلَةٌ حَرْفُ النَّفْيِ قد يَدْخُلُ على الْمَاهِيَّةِ وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْأَصْلِ كَقَوْلِهِ لَا يَسْمَعُونَ فيها لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا وَقَوْلُهُ فَالْيَوْمَ لَا يَخْرُجُونَ منها وقد يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْكَمَالِ مع بَقَاءِ الْأَصْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لهم لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ثُمَّ قال أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ فَنَفَاهَا أَوَّلًا ثُمَّ أَثْبَتَهَا ثَانِيًا فَدَلَّ على أَنَّهُ لم يُرِدْ نَفْيَ الْأَصْلِ بَلْ نَفْيَ الْكَمَالِ وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا أُخِذَ من الْقَرِينَةِ فَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ولا صِيَامَ لِمَنْ لم يُبَيِّتْ الصِّيَامَ من اللَّيْلِ ولا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ ولا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ وَنَحْوُهُ فَاخْتَلَفُوا هل هِيَ مُجْمَلَةٌ أَمْ لَا فَنُقِلَ الْإِجْمَالُ عن الْقَاضِيَيْنِ أبي بَكْرٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ والْجُبَّائيّيْنِ أبي عَلِيٍّ وَابْنِهِ وَأَبِي عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ قال ابن بَرْهَانٍ إلَّا أَنَّ الْجُبَّائِيَّيْنِ ادَّعَيَا الْإِجْمَالَ من وَجْهٍ وَالْقَاضِي من وَجْهٍ آخَرَ وقال ابن الْإِبْيَارِيِّ إنَّمَا صَارَ الْقَاضِي إلَى الْإِجْمَالِ لِأَنَّهُ نَفَى الْأَسْمَاءَ الشَّرْعِيَّةَ وَاَلَّذِي دَلَّ اللَّفْظُ على نَفْيِهِ مَوْجُودٌ فَافْتَقَرَ إلَى التَّقْدِيرِ وَتَعَدُّدِ الْمُقَدَّرِ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَهْلِ الرَّأْيِ وَنَقَلَ الْمَازِرِيُّ عن الْقَاضِي أبي بَكْرٍ الْوَقْفَ قال وهو غَيْرُ مَذْهَبِ الْإِجْمَالِ

فيقول يَحْتَمِلُ عِنْدِي نَفْيَ الْإِجْزَاءِ وَنَفْيَ الْكَمَالِ لَا أَكْثَرَ من ذلك حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَالْقَائِلُ بِالْإِجْمَالِ يقول إنَّهُ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ الصَّالِحَةِ لِلنَّفْيِ قلت وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ بَلْ صَرَّحَ في صَدْرِ كَلَامِهِ بِأَنَّهُ بِمُجْمَلٍ وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أنها عَامَّةٌ منهم الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ وَالْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ وابن الْقُشَيْرِيّ عن مُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ وَصَحَّحَهُ ابن بَرْهَانٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَحَكَاهُ عن الْأَصْحَابِ وقال ابن الْقَطَّانِ إنَّهُ الظَّاهِرُ قال وَتَجَاهَلَ قَوْمٌ فَقَالُوا ليس فيه دَلَالَةٌ على دَفْعِهِ قال شَارِحُ اللُّمَعِ وَاخْتَلَفُوا إلَى مَاذَا يَعُودُ النَّفْيُ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إلَى نَفْيِ الْمَذْكُورِ وهو النِّكَاحُ الشَّرْعِيُّ وَالصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ لِأَنَّهُ الذي وَرَدَهُ بِهِ الشَّرْعُ وَذَلِكَ لم يُوجَدْ مع شَرْطِهِ الْمَذْكُورِ فَاسْتَغْنَى هذا عن دَعْوَى الْعُمُومِ في الْمُضْمَرِ وَعَنْ حَمْلِ الْكَلَامِ على التَّنَاقُضِ وَعَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّ النبي عليه السَّلَامُ بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ وَقِيلَ بَلْ يُرْجَعُ إلَى الصِّفَاتِ التي يَقَعُ بها الِاعْتِدَادُ في الْكِفَايَةِ كما يُرْجَعُ النَّفْيُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ في قَوْلِ الْقَائِلِ ليس في الْبَلَدِ سُلْطَانٌ على نَفْيِ الصِّفَاتِ التي يَقَعُ بِمَا الْكِفَايَةُ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ وَإِنْ لم تَكُنْ مَذْكُورَةً فَهِيَ مَعْقُولَةٌ من ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَنَزَلَتْ مَنْزِلَةَ الْمَلْفُوظِ بِهِ وقال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ في النَّفْيِ إذَا وَقَعَ في الشَّرْعِ على مَاذَا يُحْمَلُ فقال بَعْضُهُمْ يُلْحَقُ بِالْمُجْمَلَاتِ لِأَنَّ نَفْيَهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الذَّوَاتِ وَمَعْلُومٌ ثُبُوتُهَا حِسًّا فَقَدْ صَارَ الْمُرَادُ مَجْهُولًا وَهَذَا الذي قَالُوهُ خَطَأٌ فإن الْمَعْلُومَ من عَادَةِ الْعَرَبِ أنها لَا تَضَعُ هذا النَّفْيَ لِلذَّاتِ في كل مَكَان وَإِنَّمَا تُورِدُهُ مُبَالَغَةً فَتَذْكُرُ الذَّاتَ لِيَحْصُلَ لها ما أَرَادَتْ من الْمُبَالَغَةِ وقال آخَرُونَ بَلْ يُحْمَلُ على نَفْيِ الذَّاتِ وَسَائِرُ أَحْكَامِهَا وَيُخَصُّ الذَّاتُ بِالدَّلِيلِ على أَنَّ النبي عليه السَّلَامُ لم يُرِدْهُ وقال قَوْمٌ لم تَقْصِدْ الْعَرَبُ إلَى نَفْيِ الذَّاتِ وَلَكِنْ لِنَفْيِ أَحْكَامِهَا وَمِنْ أَحْكَامِهَا الْكَمَالُ وَالْإِجْزَاءُ فَيُحْمَلُ اللَّفْظُ على الْعُمُومِ فيها وَأَنْكَرَ هذا بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ لِأَنَّ الْعُمُومَ لَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ فِيمَا يَتَنَافَى وَلَا شَكَّ أَنَّ نَفْيَ الْكَمَالِ يُشْعِرُ بِحُصُولِ الْإِجْزَاءِ فإذا قُدِّرَ الْإِجْزَاءُ مَنْفِيًّا لِتَحَقُّقِ الْعُمُومِ قُدِّرَ ثَابِتًا لِتَحَقُّقِ إشْعَارِ نَفْيِ الْكَمَالِ بِثُبُوتِهِ وَهَذَا يَتَنَاقَضُ وما يَتَنَاقَضُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَمَالَ وَصَارَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى التَّوَقُّفِ بين نَفْيِ الْإِجْزَاءِ

وَنَفْيِ الْكَمَالِ وَادَّعَوْا الِاحْتِمَالَ من هذه الْجِهَةِ لَا بِمَا قال الْأَوَّلُونَ فَعَلَى هذه الْمَذَاهِبِ يَخْرُجُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لم يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالْقَائِلُونَ اخْتَلَفُوا في سَبَبِهِ على ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أنها ظَاهِرَةٌ في نَفْيِ الْوُجُودِ وهو لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ قَطْعًا فَاقْتَضَتْ إيهَامًا وَالثَّانِي أنها ظَاهِرَةٌ في نَفْيِ الْوُجُودِ وَنَفْيِ الْحُكْمِ فَصَارَ مُجْمَلًا وَالثَّالِثُ أنها مُتَرَدِّدَةٌ بين نَفْيِ الْجَوَازِ وَنَفْيِ الْوُجُودِ قال الْمُقْتَرِحُ وهو الْأَلْيَقُ بِمَذْهَبِ الْقَاضِي قُلْت قد سَبَقَ التَّصْرِيحُ بِهِ عنه في كِتَابِ التَّقْرِيبِ وَصَرَّحَ بِنَقْلِهِ عنه ابن الْقُشَيْرِيّ وَرَدَّهُ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الصَّحِيحُ حَمْلُ اللَّفْظِ على نَفْيِ الْمَنْطُوقِ بِهِ دُونَ صِفَتِهِ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَيُغْنِي عن دَعْوَى الْعُمُومِ فيه يَعْنِي أَنَّهُ يَلْزَمُ من نَفْيِ الْأَصْلِ نَفْيُ صِفَتِهِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّ لَفْظَ النَّفْيِ في الشَّرْعِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْعَيْنِ كَقَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ ولا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ فَأَمَّا قَوْلُهُ لَا وُضُوءَ لِمَنْ لم يذكر اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّمَا أَرَادَ ذِكْرَ الْقَلْبِ وَلَا يَصِحُّ بِدُونِهِ وَقَوْلُهُ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا في الْمَسْجِدِ أَرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْمَكَانَ الطَّاهِرَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا انْتَهَى وَأَجَازَ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ تَقْدِيرَ نَفْيِ الصِّحَّةِ وَحَكَى عن أَهْلِ الْعِرَاقِ نَفْيَ الْكَمَالِ وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْأَمْرَيْنِ جميعا وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ النَّفْيَ ظَاهِرٌ في الْإِجْزَاءِ مُحْتَمِلٌ على الْخَفَاءِ لِنَفْيِ الْكَمَالِ فَإِنْ عَضَّدَهُ دَلِيلٌ قَوِيٌّ يَزِيدُ على قُوَّةِ الظُّهُورِ انْصَرَفَ إلَى الْكَمَالِ وَإِلَّا فَهُوَ ظَاهِرٌ في الْإِجْزَاءِ فَعُرْفُ الشَّرْعِ عِنْدَهُمْ عُرْفٌ مَقْصُودٌ وَلَهُ في الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ تَصَرُّفٌ وَمَعْنَى الْإِجْزَاءِ عِنْدَهُمْ أَسْمَاءُ الصُّورَةِ الشَّرْعِيَّةِ

وقال الْمَاوَرْدِيُّ إذَا كان الْحُكْمُ مُطْلَقًا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ وَنَفْيَ الْكَمَالِ قال وَيَجْرِي على مَذْهَبِ من قال يُوقَفُ الْمُحْتَمَلُ يُجْعَلُ هذا مَوْقُوفًا لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَالْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ اخْتَلَفُوا هل النَّفْيُ انْصَبَّ إلَى الْأَعْيَانِ وَالْأَحْكَامِ فَهُوَ عَامٌّ فِيهِمَا ثُمَّ خُصَّتْ الْأَعْيَانُ بِدَلِيلِ الْحِسِّ أو الْعَقْلِ وَبَقِيَتْ الْأَحْكَامُ على مُوجِبِهَا وَيَجْرِي ذلك مَجْرَى تَخْصِيصِ اللَّفْظِ الْعَامِّ أو انْصَبَّ إلَى الْأَحْكَامِ فَقَطْ وَلَا يُقَدَّرُ دُخُولُ الْأَعْيَانِ لِيَحْتَاجَ إلَى تَخْصِيصِهِ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ لم يَتَعَرَّضْ لِلْمَحْسُوسَاتِ فَهُوَ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْرَادِ الْأَحْكَامِ على قَوْلَيْنِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ اللَّفْظَ ظَاهِرٌ في نَفْيِ الْجَوَازِ مُؤَوَّلٌ في نَفْيِ الْكَمَالِ فَيُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ على نَفْيِ الْجَوَازِ وَلَا يُحْمَلُ على نَفْيِ الْكَمَالِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَهَكَذَا اخْتَارَهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في كِتَابِ الْقَضَاءِ وَنَقَلَهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في كِتَابِهِ عن عِيسَى بن أَبَانَ ثُمَّ قال إنَّهُ الصَّحِيحُ وَجَزَمَ بِهِ ابن الْقَطَّانِ قال وَلِلتَّعْبِيرِ عنه طَرِيقَانِ إمَّا أَنْ يَقُولَ هو بَاطِلٌ أو يَقُولَ لَا كَذَا إلَّا بِكَذَا فَظَاهِرُ الْبُطْلَانِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ يَصْرِفُهُ عنه إلَى الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ قال وَهَذَا من آكَدِ ما يُخَاطَبُ بِهِ في إيجَابِ الشَّيْءِ ثُمَّ قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في التَّلْخِيصِ تَبَعًا لِلْقَاضِي الذي نَرْتَضِيهِ إلْحَاقُ اللَّفْظِ بِالْمُحْتَمَلَاتِ لِتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بين الْجَوَازِ وَالْكَمَالِ وَيَسْتَحِيلُ الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا جميعا وَلَا طَرِيقَ إلَى التَّوَقُّفِ لِتَعَيُّنِ لَفْظِ الْمُحْتَمَلَيْنِ فَإِنْ قِيلَ هذا هو الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ في ادِّعَاءِ الْإِجْمَالِ قُلْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِينَ ادَّعَوْا الْإِجْمَالَ أَوَّلًا اسْتَنَدُوا إلَى تَوَقُّعِ نَفْيِ الْأَعْيَانِ وهو مُسْتَحِيلٌ وَنَحْنُ أَسْنَدْنَا ادِّعَاءَ الْإِبْهَامِ إلَى الْأَحْكَامِ قال ثُمَّ هذا كُلُّهُ إذَا قُلْنَا بِإِثْبَاتِ صِيَغِ الْعُمُومِ فَإِنْ مَنَعْنَاهُ لم نَحْتَجْ إلَى إيضَاحِ وَجْهِ الْإِجْمَالِ قال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ فَقَوْلُهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ من قال إنَّ النَّفْيَ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ مَنَعَ من الِاسْتِدْلَالِ بِهِ على جَوَازِ الصَّلَاةِ وَفَسَادِهَا وقال إنَّ النَّفْيَ يَتَعَلَّقُ بِالصُّورَةِ وقد وُجِدَتْ وَالْمَصِيرُ إلَى الْجَوَازِ وَالْكَمَالِ لَا بُدَّ له من دَلِيلٍ وَمَنْ جَعَلَهُ عَامًّا في الْجَمِيعِ زَعَمَ أَنَّهُ يُوجِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ وَثُبُوتُ الْعَيْنِ بِالدَّلِيلِ لَا يَمْنَعُ من اسْتِعْمَالِ الظَّاهِرِ فِيمَا بَعْدَهُ وقال هذا هو الصَّحِيحُ ا هـ وَالْمُخْتَارُ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ أَنَّهُ إنْ دخل على مُسَمًّى شَرْعِيٍّ كَالصَّلَاةِ فَالْمُرَادُ نَفْيِ

الصِّحَّةِ لِإِمْكَانِ حَمْلِهِ عليه فَلَا إجْمَالَ وَإِنْ دخل على مُسَمًّى حَقِيقِيٍّ نُظِرَ فيه فَإِنْ لم يَكُنْ إلَّا حُكْمٌ وَاحِدٌ تَعَيَّنَ كَقَوْلِهِ لَا شَهَادَةَ لِمَجْلُودٍ في قَذْفٍ إذْ لَا يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ وَإِنْ كان حُكْمَانِ الْفَضِيلَةُ وَالْجَوَازُ فَهُوَ مُجْمَلٌ لِعَدَمِ التَّعَيُّنِ وَنَحْوِ لَا يَسْتَوِي لَا يُسَمَّى مُجْمَلًا عِنْدَ من لَا يقول بِعُمُومِهِ فَائِدَةٌ الْمُقَدَّرُ في قَوْلِهِ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ مَنَعَ ابن الدَّهَّانِ النَّحْوِيُّ تَقْدِيرَ من قَدَّرَ لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ كَامِلَةٌ من جِهَةِ الصِّنَاعَةِ لِأَنَّ الصِّنَاعَةَ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ بَعْضِهَا قال وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ لَا كَمَالَ صَلَاةٍ فَحَذَفَ الْمُضَافَ فَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ وَكَذَا قال الْعَبْدَرِيّ في شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى من قَدَّرَ لَا صِيَامَ صَحِيحٌ أو مُجْمَلٌ فَقَدْ أَبْعَدَ لِأَنَّ حَذْفَ الصِّفَةِ وَإِبْقَاءَ الْمَوْصُوفِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ في كَلَامِ الْعَرَبِ لم يَأْتِ إلَّا في قَوْلِهِمْ سِيرِي سَيْرَ وَأَلْفَاظٌ قَلِيلَةٌ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ وهو حَذْفُ الْمَوْصُوفِ وَإِبْقَاءُ الصِّفَةِ مَسْأَلَةٌ الْمُقَدَّرُ في مِثْلِ قَوْلِهِ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَهَذَا الْخِلَافُ يَجْرِي في الرَّفْعِ أَيْضًا نَحْوُ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ رُفِعَ الْقَلَمُ عن الصَّبِيِّ قال الْغَزَالِيُّ قَضِيَّةُ اللَّفْظِ رَفْعُ نَفْسِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وهو غَيْرُ مَعْقُولٍ فَالْمُرَادُ بِهِ رَفْعُ حُكْمِهِ لَا على الْإِطْلَاقِ بَلْ الْحُكْمُ الذي عُلِمَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ قبل الشَّرْعِ إرَادَتُهُ بهذا اللَّفْظِ وهو دَفْعُ الْإِثْمِ فَلَيْسَ بِعَامٍّ في جَمِيعِ أَحْكَامِهِ من الضَّمَانِ وَلُزُومِ الْقَضَاءِ وَغَيْرِهِ وَلَا هو يُحْمَلُ بين الْمُؤَاخَذَةِ التي تَرْجِعُ إلَى الذَّمِّ نَاجِزًا وَإِلَى الْعُقُوبَاتِ آجِلًا وَبَيْنَ الْغُرْمِ وَالْقَضَاءِ لَا صِيغَةَ لِعُمُومِهِ حتى يُجْعَلَ عَامًّا في كل حُكْمٍ كما لم يُجْعَلْ قَوْلُهُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ عَامًّا في كل فِعْلٍ مع أَنَّهُ لَا بُدَّ من إضْمَارِ الْفِعْلِ ثُمَّ قال فَأَمَّا إذَا وَرَدَ في مَوْضِعٍ لَا عَيْنَ فيه فَهُوَ مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْأَثَرِ مُطْلَقًا أو نَفْيَ الْبَعْضِ

وَحَكَى شَارِحُ اللُّمَعِ في هذا وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي رَفْعَ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ وهو مُحَالٌ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى ما ليس بِمَذْكُورٍ وهو إمَّا الْإِثْمُ أو الْحُكْمُ وَلَا يُحْمَلُ على شَيْءٍ إلَّا بِدَلِيلٍ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال نَحْمِلُهُ على مَوْضِعِ الْخِلَافِ وَمِنْهُمْ من يَحْمِلُهُ على الْأَعَمِّ فَائِدَةً قال وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ليس بِمُجْمَلٍ لِأَنَّهُ مَعْقُولٌ لُغَةً فإن السَّيِّدَ لو قال لِعَبْدِهِ رَفَعْت عَنْك جِنَايَتَك عُقِلَ منه رَفْعُ الْمُؤَاخَذِ عن كل ما يَتَعَلَّقُ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَى هذا هل يَرْجِعُ الرَّفْعُ إلَى الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ أو إلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا ما أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ فيه وَجْهَانِ حَكَاهُمَا في الْإِرْشَادِ وَجَمَعَ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ الْمَحْصُولِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ أَحَدُهَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ وَالثَّانِي الْحَمْلُ على رَفْعِ الْعِقَابِ آجِلًا وَالْإِثْمِ نَاجِزًا وهو مَذْهَبُ الْغَزَالِيِّ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ منه في الْعُرْفِ وَلَيْسَ بِعَامٍّ في نَفْيِ الضَّمَانِ الثَّالِثُ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ في الْمَحْصُولِ حَمَلَهُ على رَفْعِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ قُلْت وَمِمَّنْ حَكَى الثَّلَاثَةَ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ وَنَسَبَ الثَّالِثَ لِأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ من أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِهِمْ وَاخْتَارَ هو الثَّانِيَ أَعْنِي أَنَّهُ مَحْمُولٌ على نَفْيِ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ خَاصَّةً مَسْأَلَةٌ في أَنَّ لَفْظَ الشَّارِعِ إذَا دَارَ بين مَدْلُولَيْنِ إنْ حُمِلَ على أَحَدِهِمَا أَفَادَ مَعْنًى وَاحِدًا وَإِنْ حُمِلَ على الْآخَرِ أَفَادَ مَعْنَيَيْنِ وَلَيْسَ هو أَظْهَرَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا فَهَلْ هو مُجْمَلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْ هو ظَاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى إفَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ قال الْهِنْدِيُّ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى الثَّانِي وَذَهَبَ الْأَقَلُّونَ منهم الْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُلْت وَاخْتَارَهُ ابن الْحَاجِبِ وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْآمِدِيَّ تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ وَلِمَا فيه من رَفْعِ الْإِجْمَالِ الذي هو خِلَافُ الْأَصْلِ فَمَنْ لم يَجْعَلْهُ مُجْمَلًا يَجْعَلُهُ حَقِيقَةً في الْمَعْنَيَيْنِ مَجَازًا في الْوَاحِدِ وَاللَّفْظُ الدَّائِرُ بين الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ليس بِمُجْمَلٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بَلْ هو ظَاهِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَقِيقَةِ وَمَنْ جَعَلَهُ مُجْمَلًا لَا يَجْعَلُهُ حَقِيقَةً في أَحَدِهِمَا عَيْنًا بَلْ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ احْتِمَالًا سَوَاءٌ أو يَكُونُ حَقِيقَةً في الْمَعْنَى الْوَاحِدِ مَجَازًا في الْمَعْنَيَيْنِ وَبِالْعَكْسِ وَأَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِمَا وَلَا يَرْجِعُ لِسَبَبِ إفَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ ثُمَّ قال الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ مَحَلُّ الْخِلَافِ إنَّمَا هو فِيمَا إذَا لم يَكُنْ حَقِيقَةً في الْمَعْنَيَيْنِ فإنه يَكُونُ

مُجْمَلًا أو حَقِيقَةً في أَحَدِهِمَا فَالْحَقِيقَةُ مُرَجَّحَةٌ قَطْعًا وَظَاهِرُهُ جَعْلُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَا مَجَازَيْنِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ حَقِيقَتَيْنِ وَلَا أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً وَالْآخَرُ مَجَازًا فما بَقِيَ إلَّا أَنْ يَكُونَا مَجَازَيْنِ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ يَسْتَشْكِلُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فيه لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمَجَازَيْنِ إلَى اللَّفْظِ نِسْبَةُ الْحَقِيقَتَيْنِ وَالْحَقُّ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَعَمُّ من ذلك وهو اللَّفْظُ الْمُحْتَمِلُ لِمُتَسَاوِيَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا حَقِيقَتَيْنِ أو مَجَازَيْنِ أو أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً مَرْجُوحَةً وَالْآخَرُ مَجَازًا رَاجِحًا عِنْدَ الْقَائِلِ بِتَسَاوِيهِمَا وَيَكُونُ ذلك بِاعْتِبَارِ الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ وَيَنْزِلُ كَلَامُ الْآمِدِيَّ على ما سَنَذْكُرُهُ وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْجَمَةَ الْمَسْأَلَةِ هَكَذَا تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ ليس وَاحِدًا من الْمَعْنَيَيْنِ وَالظَّاهِرُ في هذا تَرْجِيحُ الْإِجْمَالِ وَقَوْلُهُمْ الْحَمْلُ على الْمَعْنَيَيْنِ أَكْثَرُ فَائِدَةً مَمْنُوعٌ لِأَنَّ هذا صَحِيحٌ فِيمَا إذَا كان الْمَعْنَى الْوَاحِدَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ وَعَلَى هذه الْحَالَةِ يَنْزِلُ قَوْلُ الْآمِدِيَّ وَالْهِنْدِيِّ أَنَّهُ لم يَقُلْ بِالْحَمْلِ على الْمَعْنَى الْوَاحِدِ أَحَدٌ وَالْإِعْرَاضِ عن الْآخَرِ ذِي الْمَعْنَيَيْنِ الْمُغَايِرَيْنِ لِلْمَعْنَى الْوَاحِدِ بَلْ الظَّاهِرُ الْإِجْمَالُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَجَّحَ الْمُجْمَلُ ذُو الْمَعْنَيَيْنِ لِكَوْنِهِ أَكْثَرَ فَائِدَةً وقد يُمَثَّلُ لِهَذِهِ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ الْمُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكَحُ إذَا قُلْنَا النِّكَاحُ مُشْتَرَكٌ فإنه دَائِرٌ بَيْنَهُمَا من غَيْرِ تَرْجِيحٍ فَإِنْ حُمِلَ على الْوَطْءِ اُسْتُفِيدَ منه مَعْنًى وَاحِدٌ وهو أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَطَأُ وَلَا يُوطَأُ وَإِنْ حُمِلَ على الْعَقْدِ اُسْتُفِيدَ منه شَيْئَانِ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وهو أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَعْقِدُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَيُعْمَلَ بِهِ قَطْعًا لِأَنَّهُ مُرَادٌ على كل حَالٍ وَيَبْقَى النَّظَرُ في الْمَعْنَى الْآخَرِ وقد يُمَثَّلُ لِهَذِهِ الْحَالَةِ بِقَوْلِهِ الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فإنه يَحْتَمِلُ أنها أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فَتَعْقِدُ على نَفْسِهَا كما يقول بِهِ الْخُصُومُ أو أنها أَحَقُّ بِنَفْسِهَا فَتُمَكَّنُ من أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَأْذَنَ لِمَنْ يَعْقِدُ عليها وَالثَّانِي أَنْ تَعْقِدَ بِنَفْسِهَا وَنُقِلَ ذلك عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ إذَا كانت في مَوْضِعٍ لَا وَلِيَّ فيه وَلَا حَاكِمَ وَكَذَا قَوْلُهُ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ أو مِقْدَارَ ما يَجِبُ فيه أو مِقْدَارَ الْوَاجِبِ خَاصَّةً

مَسْأَلَةٌ الذي له مُسَمًّى شَرْعِيٌّ هل هو مُجْمَلٌ ما له مُسَمًّى شَرْعِيٌّ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ليس بِمُجْمَلٍ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ بَلْ اللَّفْظُ مَحْمُولٌ على الشَّرْعِيِّ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرِيعَةِ لَا اللُّغَةِ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ طَارِئٌ على اللُّغَةِ وَنَاسِخٌ لها فَالْحَمْلُ النَّاسِخُ الْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى وَلِهَذَا ضَعَّفُوا قَوْلَ من حَمَلَ الْوُضُوءَ من أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ على النَّظَافَةِ بِغَسْلِ الْيَدِ وَثَانِيهَا أَنَّهُ مُجْمَلٌ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ عن أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَبِهِ قال الْقَاضِي وقال الْغَزَالِيُّ وَلَعَلَّهُ فَرَّعَهُ على مَذْهَبِ من يُثْبِتُ الْأَسَامِي الشَّرْعِيَّةَ وَإِلَّا فَهُوَ مُنْكِرٌ لها وَثَالِثُهَا وهو الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ التَّفْصِيلُ بين أَنْ يَرِدَ مُثْبَتًا فَيُحْمَلُ على الشَّرْعِيِّ كَقَوْلِهِ إنِّي إذَنْ صَائِمٌ فَيُسْتَفَادُ منه صِحَّةُ نِيَّةِ النَّهَارِ وَإِنْ وَرَدَ مَنْفِيًّا فَمُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَهُمَا كَالنَّهْيِ عن صِيَامِ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَلَا يُسْتَفَادُ منه صِحَّةُ صَوْمِهِمَا من جِهَةِ أَنَّ النَّهْيَ عن الْمُمْتَنِعِ مُمْتَنِعٌ وَهَذَا منه بِنَاءً على أَصْلِهِ أَنَّ النَّهْيَ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ ثُمَّ هو مع ذلك لَا يقول بِأَنَّهُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَرَابِعُهَا لَا إجْمَالَ أَيْضًا وَالْمُرَادُ في الْإِثْبَاتِ الشَّرْعِيِّ وفي النَّهْيِ اللُّغَوِيِّ وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ لِتَعَذُّرِ حَمْلِهِ على الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الشَّرْعِيَّ يَسْتَلْزِمُ الصِّحَّةَ وَالنَّهْيُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَلِهَذَا اتَّفَقُوا على حَمْلِ قَوْلِهِ دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك على الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ مع أَنَّهُ في مَعْنَى النَّهْيِ تَفْرِيعٌ إذَا تَعَذَّرَ الْحَمْلُ على الشَّرْعِيِّ إنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ أَنَّهُ يُحْمَلُ على الشَّرْعِيِّ فَلَوْ تَعَذَّرَ ولم يُمْكِنْ الرَّدُّ إلَيْهِ إلَّا بِضَرْبٍ

من التَّجَوُّزِ فَهَلْ يُحْمَلُ على اللُّغَوِيِّ أو يَكُونُ مُجْمَلًا أو يُرَدُّ إلَى الشَّرْعِيِّ فيه ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ الْإِجْمَالَ قال ولم يَثْبُتْ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَنْطِقْ بِالْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ وَلَا بِالِاسْمِ اللُّغَوِيِّ وَلَا بِالْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فَتَرْجِيحُ الشَّرْعِيِّ تَحَكُّمٌ وَتُمَثَّلُ الْمَسْأَلَةُ بِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ وب الِاثْنَيْنِ فما فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ قال فإنه يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُسَمَّى جَمَاعَةً وَانْعِقَادُ الْجَمَاعَةِ وَحُصُولُ فَضِيلَتِهَا وَالْأَكْثَرُونَ منهم ابن الْحَاجِبِ أَنَّهُ يُحْمَلُ على الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الشَّارِعَ بُعِثَ لِبَيَانِ الشَّرْعِيَّاتِ وهو الْأَغْلَبُ وقال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ في كِتَابِ الْمَجَازِ أَمَّا قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَمَحْمُولٌ على صِيغَةِ إيجَابِ النِّكَاحِ اللُّغَوِيَّةِ دُونَ الشَّرْعِيَّةِ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ دُونَ الشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ الْمَحْمُولَةِ على الدُّعَاءِ في قَوْلِهِ وَإِنْ كان صَائِمًا فَلْيُصَلِّ أَيْ فَلْيَدْعُ وَكَذَلِكَ نَهْيُهُ عن بَيْعِ الْحُرِّ فإنه مَحْمُولٌ على اللُّغَوِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ وَأَمَّا نَهْيُ الْحَائِضِ عن الصَّلَاةِ فَلَيْسَتْ الصَّلَاةُ فيه مَحْمُولَةً على الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ لِتَعَذُّرِهِ وَلَا على اللُّغَوِيِّ الذي هو الدُّعَاءُ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا هو مَجَازُ تَشْبِيهٍ لِأَنَّ صُورَةَ صَلَاتِهَا شَبِيهَةٌ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ مَجَازٌ عن حَقِيقَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ صَلَاتَهَا مَجَازٌ عن مَجَازٍ شَرْعِيٍّ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللُّغَةِ لِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ بهذا اللَّفْظِ من مَجَازِ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ جُزْئِهِ لِأَنَّ الدُّعَاءَ جُزْءٌ من أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ فَتُجُوِّزَ بِهِ عنها كما تُجُوِّزَ عنها بِالْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مَسْأَلَةٌ ما له مُسَمًّى عُرْفِيٌّ وَشَرْعِيٌّ عَلَامَ يُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَجْهَانِ خَرَّجَهُمَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ من الْخِلَافِ فِيمَنْ نَذَرَ عِتْقَ رَقَبَةٍ هل يُجْزِئُ ما يَقَعُ عليه الِاسْمُ في الْعُرْفِ أو لَا يُجْزِئُ إلَّا ما يُجْزِئُ في الْكَفَّارَةِ فيه وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ قُلْت الرَّاجِحُ الْحَمْلُ على الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوَّلًا ثُمَّ الْعُرْفِيَّةُ وَيَشْهَدُ له ما لو

وَقَفَ أو أَوْصَى لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِسَبِيلِ اللَّهِ فإنه يُعْتَبَرُ من اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ في الزَّكَاةِ وَكَذَا لو حَلَفَ لَا يَبِيعُ الْخَمْرَ فإنه لَا يَحْنَثُ بِبَيْعِهِ وَكَذَا لو قال إنْ رَأَيْت الْهِلَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهُوَ مَحْمُولٌ على الْعِلْمِ مَسْأَلَةٌ إذَا تَرَدَّدَ اللَّفْظُ بين الْمُسَمَّى الْعُرْفِيِّ وَاللُّغَوِيِّ أَيُّهُمَا يُقَدَّمُ إذَا تَرَدَّدَ اللَّفْظُ بين الْمُسَمَّى الْعُرْفِيِّ وَاللُّغَوِيِّ قُدِّمَ الْعُرْفِيُّ الْمُطَّرِدُ ثُمَّ اللُّغَوِيُّ كَذَا قَالَهُ الْأُصُولِيُّونَ وَيُخَالِفُهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ ما ليس له حَدٌّ في الشَّرْعِ وَلَا في اللُّغَةِ يُرْجَعُ فيه إلَى الْعُرْفِ فإنه صَرِيحٌ في تَأْخِيرِ الْعُرْفِ عن اللُّغَةِ وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِوُجُوهٍ منها عَدَمُ وُرُودِهِمَا على مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ في الضَّوَابِطِ وَهِيَ في اللُّغَةِ أَضْبَطُ فَتُقَدَّمُ اللُّغَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا وَكَلَامُ الْأُصُولِيِّينَ في أَصْلِ الْمَعْنَى وهو في الْعُرْفِ أَظْهَرُ فَيُقَدَّمُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَمِنْهَا أَنَّ كَلَامَ الْأُصُولِيِّينَ في اللَّفْظِ الصَّادِرِ من الشَّارِعِ يُنْظَرُ فيه إلَى عُرْفِهِ وهو الشَّرْعِيُّ ثُمَّ عُرْفِ الناس لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُخَاطِبُهُمْ بِمَا يَتَعَارَفُونَهُ ثُمَّ اللُّغَوِيُّ وَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ في الصَّادِرِ من غَيْرِهِ وَلِهَذَا قال الرَّافِعِيُّ في بَابِ الطَّلَاق إذَا تَعَارَضَ الْمَدْلُولُ اللُّغَوِيُّ وَالْعُرْفِيُّ فَكَلَامُ الْأَصْحَابِ يَمِيلُ إلَى اعْتِبَارِ الْوَضْعِ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ يَرَيَانِ اتِّبَاعَ الْعُرْفِ وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ وَمِنْهَا قال الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْبَاجِيُّ مُرَادُ الْأُصُولِيِّينَ الْعُرْفُ الْكَائِنُ في زَمَنِهِ عليه السَّلَامُ وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ غَيْرُهُ قلت وَيَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ الْأُصُولِيِّينَ ما إذَا تَعَارَضَ مَعْنَاهُ في اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ يُقَدَّمُ الْعُرْفُ وَمُرَادُ الْفُقَهَاءِ ما إذَا لم يُعْرَفْ حَدُّهُ في اللُّغَةِ فَإِنَّا نَرْجِعُ فيه إلَى الْعُرْفِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ ليس له حَدٌّ في اللُّغَةِ ولم يَقُولُوا ليس له مَعْنًى

الْبَيَانُ وَالْمُبَيَّنُ قال الْغَزَالِيُّ جَرَتْ عَادَةُ الْأُصُولِيِّينَ بِعَقْدِ كِتَابٍ له وَلَيْسَ النَّظَرُ فيه مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُسَمَّى كِتَابًا فَالْخَطْبُ فيه يَسِيرٌ وَالْأَمْرُ فيه قَرِيبٌ وَأَوْلَى الْمَوَاضِعِ بِهِ أَنْ يُذْكَرَ عَقِبَ الْمُجْمَلِ فإنه الْمُفْتَقِرُ إلَى الْبَيَانِ ا هـ وَأَمْرُهُ ليس بِالسَّهْلِ فإنه من جُمْلَةِ أَسَالِيبِ الْخِطَابِ بَلْ هو من أَهَمِّهَا وَلِهَذَا صَدَّرَ بِهِ الشَّافِعِيُّ كِتَابَ الرِّسَالَةِ وَالْبَيَانُ لُغَةً اسْمُ مَصْدَرِ بَيَّنَ إذَا أُظْهِرَ يُقَالُ بَيَّنَ بَيَانًا وَتِبْيَانًا كَ كَلَّمَ يُكَلِّمُ كَلَامًا وَتَكْلِيمًا قال ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ مُشْتَقٌّ من الْبَيْنِ وهو الْفِرَاقُ شُبِّهَ الْبَيَانُ بِهِ لِأَنَّهُ يُوَضِّحُ الشَّيْءَ وَيُزِيلُ إشْكَالَهُ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ سُمِّيَ بَيَانًا لِانْفِصَالِهِ مِمَّا يَلْتَبِسُ بِهِ من الْمَعَانِي وَيُشْكِلُ من أَجْلِهِ وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فَيُطْلَقُ على الدَّالِّ على الْمُرَادِ بِخِطَابٍ ثُمَّ يَسْتَقِلُّ بِإِفَادَتِهِ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الدَّلِيلُ على الْمُرَادِ وَيُطْلَقُ على فِعْلِ الْمُبَيِّنِ وَلِأَجْلِ إطْلَاقِهِ على الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ اخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِهِ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا فَلَاحَظَ الصَّيْرَفِيُّ فِعْلَ الْمُبَيِّنِ فقال الْبَيَانُ إخْرَاجُ الشَّيْءِ من حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي وقال الْقَاضِي في مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ وَهَذَا ما ارْتَضَاهُ من خَاضَ في الْأُصُولِ من أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وقال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ إنَّهُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا لِأَنَّ كُلَّ ما كان إيضَاحًا لِمَعْنًى وَإِظْهَارًا له فَهُوَ بَيَانٌ له وَاعْتَرَضَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ بِأَنَّ لَفْظَ الْبَيَانِ أَظْهَرُ من لَفْظِ إخْرَاجِ الشَّيْءِ من حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى حَيِّزِ التَّجَلِّي وَلِلصَّيْرَفِيِّ مَنْعُ ذلك وَنُقِضَ أَيْضًا بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ في الْحُكْمِ الْمُبْتَدَأِ من غَيْرِ سَبْقِ إشْكَالٍ فإنه رُبَّمَا وَرَدَ من اللَّهِ تَعَالَى بَيَانٌ لم يَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ وَيَخْرُجُ منه بَيَانُ الْمَعْدُومِ فإنه لَا يُقَالُ عليه شَيْءٌ وَبَيَانُ الْمُعَلِّمِ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ عنه لِقُصُورِهِ وَلَعَلَّهُ يَمْنَعُ تَسْمِيَةَ ما كان ظَاهِرًا ابْتِدَاءً بَيَانًا وقال الْغَزَالِيُّ هذا الْحَدُّ لِفَرْعٍ من الْبَيَانِ وهو بَيَانُ الْمُجْمَلِ خَاصَّةً وَالْبَيَانُ يَكُونُ فيه وفي غَيْرِهِ ا ه

وَلَاحَظَ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي الْحُسَيْنِ أَنَّهُ الدَّلِيلُ فَحَدُّوهُ بِأَنَّهُ الدَّلِيلُ الْمُوَصِّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فيه إلَى الْعِلْمِ أو الظَّنِّ بِالْمَطْلُوبِ ا هـ وَلَاحَظَ أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ أَنَّهُ نَفْسُ الْعِلْمِ أو الظَّنِّ الْحَاصِلِ من الدَّلِيلِ فَحَدَّهُ بِأَنَّهُ تَبْيِينُ الشَّيْءِ فَهُوَ وَالْبَيَانُ عِنْدَهُ وَاحِدٌ كَذَا قَالَهُ الْهِنْدِيُّ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ وَحَكَى أبو الْحُسَيْنِ عنه أَنَّهُ الْعِلْمُ الْحَادِثُ لِأَنَّ الْبَيَانَ هو ما بِهِ يَتَبَيَّنُ الشَّيْءُ وَاَلَّذِي بِهِ تَبَيُّنٌ هو الْعِلْمُ الْحَادِثُ قال وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ مُبَيَّنٌ لَمَّا كان عِلْمُهُ لِذَاتِهِ لَا بِعِلْمٍ حَادِثٍ وقال الْعَبْدَرِيّ بَعْدَ حِكَايَةِ الْمَذَاهِبِ الصَّوَابُ أَنَّ الْبَيَانَ هو مَجْمُوعُ هذه الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَعَلَى هذا يَكُونُ حَدُّهُ أَنَّهُ انْتِقَالُ ما في نَفْسِ الْمُعَلِّمِ إلَى نَفْسِ الْمُتَعَلِّمِ بِوَاسِطَةِ الدَّلِيلِ لَكِنَّ الِاصْطِلَاحَ إنَّمَا وَقَعَ على ما رَسَمَ بِهِ الْقَاضِي وَذَلِكَ أَنَّ الدَّلِيلَ هو أَقْوَى الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَأَكْثَرُهَا حَظًّا من إفَادَةِ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ الذي عليه جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْبَيَانَ إظْهَارُ الْمُرَادِ بِالْكَلَامِ الذي لَا يُفْهَمُ منه الْمُرَادُ إلَّا بِهِ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَهَذَا الْحَدُّ أَحْسَنُ الْحُدُودِ وَيَرِدُ عليه ما أَوْرَدَهُ هو على الصَّيْرَفِيِّ أَعْنِي الْوَارِدَ ابْتِدَاءً من غَيْرِ سَبْقِ إجْمَالٍ وقال شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ من الْحَنَفِيَّةِ في كِتَابِهِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في مَعْنَى الْبَيَانِ فقال أَكْثَرُهُمْ هو إظْهَارُ الْمَعْنَى وَإِيضَاحُهُ لِلْمُخَاطِبِ مُنْفَصِلًا عَمَّا يُسْتَرُ بِهِ وقال بَعْضُهُمْ هو ظُهُورُ الْمُرَادِ لِلْمُخَاطِبِ وَالْعِلْمُ بِالْأَمْرِ الذي حَصَلَ له عِنْدَ الْخِطَابِ قال وهو اخْتِيَارُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الرَّجُلَ يقول بَانَ هذا الْمَعْنَى أَيْ ظَهَرَ وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ أَيْ الْإِظْهَارُ ا هـ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ قال أَصْحَابُنَا في الْبَيَانِ إنَّهُ الْإِفْهَامُ بِأَيِّ لَفْظٍ كان وقال أبو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ إنَّهُ الْعِلْمُ الذي يَتَبَيَّنُ بِهِ الْمَعْلُومُ حَكَاهُ الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في الرِّسَالَةِ أَنَّ الْبَيَانَ اسْمٌ جَامِعٌ لِأُمُورٍ مُتَّفِقَةِ الْأُصُولِ مُتَشَعِّبَةِ الْفُرُوعِ وَأَقَلُّ ما فيه أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِهِ فَاعْتَرَضَ عليه أبو بَكْرِ بن دَاوُد وقال الْبَيَانُ أَبْيَنُ من التَّفْسِيرِ الذي فَسَّرَهُ بِهِ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ لم يَقْصِدْ حَدَّ الْبَيَانِ وَتَفْسِيرَ مَعْنَاهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ أَنَّ الْبَيَانَ اسْمٌ عَامٌّ جَامِعٌ لِأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ من الْبَيَانِ وَهِيَ

مُتَّفِقَةٌ في أَنَّ اسْمَ الْبَيَانِ يَقَعُ عليها وَمُخْتَلِفَةٍ في مَرَاتِبِهَا فَبَعْضُهَا أَجْلَى وَأَبْيَنُ من بَعْضٍ لِأَنَّ منه ما يُدْرَكُ مَعْنَاهُ من غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ وَمِنْهُ ما يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ وَلِهَذَا قال عليه السَّلَامُ إنَّ من الْبَيَانِ لَسِحْرًا فَأَخْبَرَ أَنَّ بَعْضَ الْبَيَانِ أَبْلَغُ من بَعْضٍ وَهَذَا كَالْخِطَابِ بِالنَّصِّ وَالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ وَدَلِيلِ الْخِطَابِ وَنَحْوِهِ فَجَمِيعُ ذلك بَيَانٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَرَاتِبُهَا فيه ا هـ وَكَذَا قال الصَّيْرَفِيُّ وابن فُورَكٍ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ اسْمَ الْبَيَانِ يَقَعُ على الْجِنْسِ وَيَقَعُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةُ الْمَرَاتِبِ في الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ وقال أبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ أَرَادَ أَنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ من وُجُوهٍ فَكُلُّ ذلك يَجْتَمِعُ في أَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْكِتَابِ وَيُسْتَفَادُ منه حَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ في تَقْرِيبِهِ وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ هذا ليس بِحَدٍّ وَإِنَّمَا هو وَصْفٌ لِلْبَيَانِ بِأَنَّهُ يَجْمَعُهُ أَمْرٌ جَامِعٌ وهو أَنَّهُ سُنَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ يَتَشَعَّبُ إلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ فَإِنْ حُدَّ بِأَنَّهُ بَيَانٌ لِمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِ كان قد حُدَّ الْبَيَانُ بِأَنَّهُ بَيَانٌ وَذَلِكَ حَدُّ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كان قد حُدَّ الْبَيَانُ الْعَامُّ فإنه يَخْرُجُ منه الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ وَإِنْ حُدَّ الْبَيَانُ الْخَاصُّ الذي يَتَعَارَفُهُ الْفُقَهَاءُ فإنه يَدْخُلُ فيه الْكَلَامُ الْمُبْتَدَأُ إذَا عُرِفَ بِهِ الْمُرَادُ كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَغَيْرِهِمَا

فَصْلٌ في مَرَاتِبِ الْبَيَانِ لِلْأَحْكَامِ وقد ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ في أَوَّلِ الرِّسَالَةِ وَرَتَّبَهَا خَمْسَةَ أَقْسَامٍ بَعْضُهَا أَوْضَحُ بَيَانًا من بَعْضٍ فَأَوَّلُهَا بَيَانُ التَّأْكِيدِ وهو النَّصُّ الْجَلِيُّ الذي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَأْوِيلٌ كَقَوْلِهِ في صَوْمِ التَّمَتُّعِ فَصِيَامُ ثَلَاثَةٍ أَيَّامٍ في الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ بَيَانَ التَّقْرِيرِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ في الْحَقِيقَةِ التي تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ وَالْعَامَّ الْمَخْصُوصَ فَيَكُونُ الْبَيَانُ قَاطِعًا لِلِاحْتِمَالِ مُقَرِّرًا لِلْحُكْمِ على ما اقْتَضَاهُ الظَّاهِرُ ثَانِيهَا النَّصُّ الذي يَنْفَرِدُ بِدَرْكِهِ الْعُلَمَاءُ كَالْوَاوِ وَإِلَى في آيَةِ الْوُضُوءِ فإن هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ يَقْتَضِيَانِ مَعَانِيَ مَعْلُومَةً عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ ثَالِثُهَا نُصُوصُ السُّنَّةِ الْوَارِدَةُ بَيَانًا لِمُشْكِلٍ في الْقُرْآنِ كَالنَّصِّ على ما يَخْرُجُ زَمَنَ الْحَصَادِ مع تَقَدُّمِ قَوْلِهِ وَآتُوا حَقَّهُ يوم حَصَادِهِ ولم يُذْكَرْ في الْقُرْآنِ مِقْدَارُ هذا الْحَقِّ وَرَابِعُهَا نُصُوصُ السُّنَّةِ الْمُبْتَدَأَةُ مِمَّا ليس في الْقُرْآنِ نَصٌّ عليها بِالْإِجْمَالِ وَلَا بِالتَّفْسِيرِ وَدَلِيلُ كَوْنِ هذا الْقِسْمِ من بَيَانِ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى وما آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهَاكُمْ عنه فَانْتَهُوا خَامِسُهَا بَيَانُ الْإِشَارَةِ وهو الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِثْلُ الْأَلْفَاظِ التي اُسْتُنْبِطَتْ منها الْمَعَانِي وَقِيسَ عليها غَيْرُهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ إذَا اُسْتُنْبِطَتْ منه مَعْنًى وَأُلْحِقَ بِهِ غَيْرُهُ لَا يُقَالُ لم يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ بَلْ يَتَنَاوَلُهُ لِأَنَّ النبي عليه السَّلَامُ أَشَارَ إلَيْهِ بِالتَّنْبِيهِ كَإِلْحَاقِ الْمَطْعُومَاتِ في بَابِ الرِّبَا بِالْأَرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عليها إذْ حَقِيقَةُ الْقِيَاسِ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالنَّصِّ وقد أَمَرَ اللَّهُ أَهْلَ التَّكْلِيفِ بِالِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاجْتِهَادِ فَهَذِهِ مَرَاتِبُ الْبَيَانِ في الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وقد اعْتَرَضَ عليه فيها قَوْمٌ وَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ أَهْمَلَ قِسْمَيْنِ وَهُمَا الْإِجْمَاعُ وَقَوْلُ الْمُجْتَهِدِ إذَا انْقَرَضَ عَصْرُهُ وَانْتَشَرَ من غَيْرِ نَكِيرٍ وَإِنَّمَا لم يَذْكُرْهُمَا الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِأَحَدِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ التي ذَكَرَهَا الشَّافِعِيّ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ

لَا يَصْدُرُ إلَّا عن دَلِيلٍ فَإِنْ كان نَصًّا فَهُوَ من الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كان اسْتِنْبَاطًا فَهُوَ من الْخَامِسِ فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَذْكُرَ أَيْضًا الْقِيَاسَ لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إلَى النَّصِّ قُلْنَا لِأَجْلِ هذا قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وابن الْقُشَيْرِيّ لَا مَدْفَعَ لِلسُّؤَالِ لَكِنَّهُ مَدْفُوعٌ بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ على غَيْرِ ما دَلَّ عليه النَّصُّ فَاسْتَغْنَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عن الْآخَرِ بِخِلَافِ الْآخَرِ فإنه إنَّمَا دَلَّ على وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَلَيْسَ دَالًّا على مَدْلُولِهِ فَلِذَلِكَ أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ وَالثَّانِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ تَعَرَّضَ لِمَرَاتِبِ الْبَيَانِ الْمَوْجُودَةِ في كل عَصْرٍ وَالْإِجْمَاعُ لم يُوجَدْ في عَصْرِهِ عليه السَّلَامُ فَلِهَذَا أَغْفَلَهُ وَاعْتَرَضَ آخَرُونَ فَقَالُوا لم يذكر دَلِيلَ الْخِطَابِ وهو حُجَّةٌ عِنْدَهُ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنْ كان مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ فَهُوَ يَدْخُلُ في قِسْمِ الْبَيَانِ من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنْ كان مُخَالَفَةً فَهُوَ من جُمْلَةِ ما اُسْتُنْبِطَ بِالِاجْتِهَادِ فَدَخَلَ في الْقِسْمِ الْخَامِسِ وَتَعَجَّبَ الْمَازِرِيُّ من الْغَزَالِيِّ كَيْفَ حَكَى الِاتِّفَاقَ على أَنَّ مَرَاتِبَ الْبَيَانِ خَمْسَةٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في أَوْضَاعِهَا ثُمَّ قال أَئِمَّتُنَا منهم ابن السَّمْعَانِيِّ يَقَعُ بَيَانُ الْمُجْمَلِ لِسِتَّةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا بِالْقَوْلِ وهو الْأَكْثَرُ كَبَيَانِ نُصُب الزَّكَوَاتِ كَقَوْلِهِ لَا قَطْعَ في تَمْرَةٍ وَلَا كِسْرَةٍ وَالْقَطْعُ في رُبُعِ دِينَارٍ وَالثَّانِي بِالْفِعْلِ كَقَوْلِهِ صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ الثَّالِثُ بِالْكِتَابِ كَبَيَانِهِ أَسْنَانَ الدِّيَاتِ وَدِيَاتِ أَعْضَاءَ الْبَدَنِ وَكَذَا الزَّكَوَاتُ الرَّابِعُ بِالْإِشَارَةِ كَقَوْلِهِ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي ثَلَاثِينَ

يَوْمًا ثُمَّ أَعَادَ الْإِشَارَةَ بِأَصَابِعِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَخَنَسَ إبْهَامَهُ في الثَّالِثَةِ يَعْنِي يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ قُلْت وَكَذَلِكَ حَدِيثُ كَعْبِ بن مَالِكٍ مع أبي حَدْرَدٍ إذْ أَشَارَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَيْهِ بيده أَنْ ضَعْ النِّصْفَ وَمِثْلُهُ في الْمَحْصُولِ بِإِشَارَةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَى الْحَرِيرِ بيده وقال هذا حَرَامٌ على ذُكُورِ أُمَّتِي الْخَامِسُ بِالتَّنْبِيهِ وهو الْمَعَانِي وَالْعِلَلُ التي نَبَّهَ بها على بَيَانِ الْأَحْكَامِ كَقَوْلِهِ في بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ وَقَوْلِهِ في قُبْلَةِ الصَّائِمِ أَرَأَيْت لو تَمَضْمَضْت السَّادِسُ ما خُصَّ الْعُلَمَاءُ بِبَيَانِهِ عن اجْتِهَادٍ وهو ما فيه الْوُجُوهُ الْخَمْسُ إذَا كان الِاجْتِهَادُ مَوْصُولًا إلَيْهِ من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا من أَصْلِ تَغَيُّرِ هذا الْفَرْعِ بِهِ وَإِمَّا من طَرِيقِ أَمَارَةٍ تَدُلُّ عليه وزاد شَارِحُ اللُّمَعِ سَابِعًا وهو الْبَيَانُ بِالتَّرْكِ كما رُوِيَ أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ وقد يُرْجَعُ إلَى الْبَيَانِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ التَّرْكَ كَفٌّ وَالْكَفُّ فِعْلٌ وقال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ قد رَتَّبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ذلك فقال أَعْلَاهَا رُتْبَةً ما وَقَعَ من الدَّلَالَةِ بِالْخِطَابِ ثُمَّ بِالْفِعْلِ ثُمَّ بِالْإِشَارَةِ ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ ثُمَّ بِالتَّنْبِيهِ على الْعِلَّةِ قال وَيَقَعُ الْبَيَانُ من اللَّهِ سُبْحَانَهُ بها كُلِّهَا خَلَا الْإِشَارَةِ وقال الْأُسْتَاذُ رَتَّبَهَا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا آكَدُهَا تَبْيِينُ الشَّيْءِ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ مع إعَادَتِهِ نَحْوُ أَعْطِ زَيْدًا أَعْطِ زَيْدًا وفي الحديث فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ ثُمَّ الْمُؤَكَّدُ نَحْوُ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وفي الحديث فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ ثُمَّ يَلِيهِ الْخِطَابُ الْمُسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ ثُمَّ يَلِيهِ ما يَرِدُ على لِسَانِ النبي عليه السَّلَامُ نَحْوُ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ثُمَّ الْكِتَابَةُ ثُمَّ الْإِشَارَةُ بِتَحْرِيكِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ قال وَرَأَيْت أَصْحَابَنَا يُقَدِّمُونَ ما وَرَدَ من الْخِطَابِ الْمُجْمَلِ الذي لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ على مَعْنَاهُ لِلْعُسْرِ في اللِّسَانِ على الْقِيَاسِ وهو أَوْلَى منه وَمُقَدَّمٌ عليه لِاسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ وَإِمْكَانُ الْوُصُولِ إلَى الْمُرَادِ بِأَصْلِهِ وَفَرْعِهِ وَهُمَا قِسْمَانِ من الْبَيَانِ وَأَطْلَقَ جَمْعٌ من أَصْحَابِنَا أَنَّ الْبَيَانَ بِالْفِعْلِ أَقْوَى من الْقَوْلِ قال ابن الرِّفْعَةِ وَشَاهِدُهُ حَلْقُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِالْحَجِّ في أَنَّ اتِّبَاعَ الصَّحَابَةِ له أَقْوَى من أَمْرِهِ وَإِذْنِهِ فيه كما جاء في الْخَبَرِ مَسْأَلَةٌ الْبَيَانُ الْوَاجِبُ على الرَّسُولِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَجِبُ على الرَّسُولِ بَيَانُ ما يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ وَاجِبِهَا وَمَنْدُوبِهَا وَحَرَامِهَا وَمَكْرُوهِهَا وَمُبَاحِهَا وقال بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ ما كان وَاجِبًا فَيَجِبُ عليه بَيَانُهُ أو مَنْدُوبًا فَمَنْدُوبٌ أو مُبَاحًا فَمُبَاحٌ قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَهَذَا خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ على وُجُوبِ تَبْلِيغِ جَمِيعِ الشَّرْعِيَّاتِ وقال غَيْرُهُ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ الْمُحَرَّمِ مُحَرَّمًا وهو إلْزَامٌ عَجِيبٌ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ ما يَلْزَمُ الرَّسُولَ بَيَانُهُ من الْأَحْكَامِ التي لَيْسَتْ في كِتَابِ اللَّهِ كَالْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ وَبِالدِّيَةِ على الْعَاقِلَةِ وَإِعْطَاءِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَأَنْ لَا يَرِثَ الْقَاتِلُ وَنَحْوِهِ يَلْزَمُ بَيَانُهُ في حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لهم إلَى الْعِلْمِ بها إلَّا منه وفي لُزُومِ بَيَانِهَا في حَقِّ اللَّهِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ على الْخِلَافِ في أَنَّهُ هل هو بِالِاجْتِهَادِ فَإِنْ قُلْنَا له ذلك لَزِمَهُ وَإِلَّا فَلَا وقال الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ الذي يَجِبُ عليه هو الْبَيَانُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَهُ عن الْكَلَالَةِ فقال يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ فَدَلَّ هذا على أَنَّ الْوَاجِبَ من الْبَيَانِ ما لم يُتَوَصَّلْ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بِبَيَانِهِ فَأَمَّا ما جُعِلَ في الْكِتَابِ بَيَانُهُ وكان يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالتَّدَبُّرِ فَلَيْسَ عليه بَيَانُهُ

قال وَمَعْقُولٌ أَنَّهُ عليه السَّلَامُ لَا يَجِبُ عليه إبَانَةُ كل الْأَحْكَامِ أَصْلًا وَإِنَّمَا عليه إبَانَةُ الْأُصُولِ التي لِلدَّلَالَةِ على الْفُرُوعِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ من الْمُجْمَلِ ما وُكِلَ الْعُلَمَاءُ إلَى اجْتِهَادِهِمْ في بَيَانِهِ من غَيْرِ سَمْعٍ يَفْتَقِرُ إلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حتى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فلم يَرِدْ سَمْعٌ بِبَيَانِ أَقَلِّ الْجِزْيَةِ حتى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ في أَقَلِّهَا وَكَقَوْلِهِ إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَأَجْهَلَ ذِكْرَ الْعَدَدِ الذي تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ حتى اجْتَهَدَ الْعُلَمَاءُ فَهَذَا وَنَحْوُهُ سَاقِطٌ من الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ من أُصُولِ الْأَدِلَّةِ الْمُسْتَقِرَّةِ وقد سَأَلَ عُمَرَ عن الْكَلَالَةِ فقال يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ فَوَكَلَهُ إلَى الِاجْتِهَادِ ولم يُصَرِّحْ بِالْبَيَانِ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في هذا النَّوْعِ من الْبَيَانِ الصَّادِرِ عن الِاجْتِهَادِ هل يُؤْخَذُ قِيَاسًا أو تَنْبِيهًا على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يُؤْخَذُ تَنْبِيهًا من لَفْظِ الْمُجْمَلِ وَشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِ لِأَنَّهُ عليه السَّلَامُ قال لِعُمَرَ يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ فَرَدَّهُ إلَيْهَا لِيَسْتَدِلَّ بِمَا تَضَمَّنَتْهَا من تَنْبِيهٍ وَشَوَاهِدِ حَالٍ وَالثَّانِي يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ قِيَاسًا على ما اسْتَقَرَّ بِنَاؤُهُ من نَصٍّ أو إجْمَاعٍ لِأَنَّ عُمَرَ سَأَلَ عن قُبْلَةِ الصَّائِمِ فقال أَرَأَيْت لو تَمَضْمَضْت فَجَعَلَ الْقُبْلَةَ من غَيْرِ إرَادَةٍ كَالْمَضْمَضَةِ من غَيْرِ ازْدِرَادٍ انْتَهَى

فَصْلٌ في الْمُبَيَّنِ وَيُطْلَقُ على الْخِطَابِ الْمُحْتَاجِ إلَى الْبَيَانِ وَوَرَدَ بَيَانُهُ وَعَلَى الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ الْمُسْتَغْنِي عن الْبَيَانِ وهو إمَّا أَنْ يَدُلَّ بِحَسَبِ الْوَضْعِ وهو النَّصُّ وَالظَّاهِرُ أو بِحَسَبِ الْمَعْنَى كَالْمَفْهُومِ وما دَلَّ عليه النَّصُّ بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ نَحْوُ إنَّهَا من الطَّوَّافِينَ أو بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ نَحْوُ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِمَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ وَيُسَمَّى الدَّلِيلُ الذي حَصَلَ بِهِ الْبَيَانُ مُثْبِتًا بِكَسْرِ الْبَاء وَفِيهِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى لَا خِلَافَ أَنَّ الْبَيَانَ يَجُوزُ بِالْقَوْلِ وَاخْتَلَفُوا في وُقُوعِهِ بِالْفِعْلِ وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَقَع بَيَانًا خِلَافًا لِأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مِنَّا وَالْكَرْخِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في التَّبْصِرَةِ وَكَلَامُ الْغَزَالِيِّ يُوهِمُهُ فإنه قال وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ تَقَدُّمِهِ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ بَيَانَ الشَّرْعِ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا صِيغَةَ له لَكِنْ أَوَّلَهُ الْهِنْدِيُّ وقال قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ إنَّ الْبَيَانَ مَخْصُوصٌ بِالدَّلِيلِ الْقَوْلِيِّ فَالْمُرَادُ منه التَّسْمِيَةُ اصْطِلَاحًا كما في الْعُمُومِ بِنَاءً على الْغَالِبِ من كَوْنِ الْبَيَانِ قَوْلًا لَا في حَقِيقَةِ ما يَقَعُ بِهِ الْبَيَانُ وَلَا في جَوَازِهِ وَشَرَطَ الْمَازِرِيُّ الْإِشْعَارَ بِهِ من مَقَالٍ أو قَرِينَةِ حَالٍ وَإِلَّا لم يَحْصُلْ لِلْمُكَلَّفِ الْبَيَانُ قال وَعَلَى هذا فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ قال وَمِنْهُمْ من جَعَلَهُ مَعْنَوِيًّا وهو أَنَّهُ هل يُتَصَوَّرُ فِعْلٌ يُنْبِئُ بِمُجَرَّدِهِ عن الْمُرَادِ من غَيْرِ إسْنَادِ ذلك إلَى قَرِينَةٍ أَمْ لَا قلت وَجَعَلَهُ السَّرَخْسِيُّ مَبْنِيًّا على أَصْلٍ وهو أَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ هل يَكُونُ الْمُجْمَلُ مُتَّصِلًا بِهِ فَمَنْ شَرَطَ الِاتِّصَالَ قال لَا يَكُونُ الْبَيَانُ إلَّا بِالْقَوْلِ إذْ الْفِعْلُ لَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْقَوْلِ وفي الْمَحْصُولِ لَا يُعْلَمُ كَوْنُ الْفِعْلِ

بَيَانًا إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ أو يُعْلَمُ ذلك بِالضَّرُورَةِ من قَصْدِهِ أو بِالدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ كَقَوْلِهِ هذا الْفِعْلُ بَيَانٌ لِهَذَا الْمُجْمَلِ أو بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ بِأَنْ يُذْكَرَ الْمُجْمَلُ وَقْتَ الْحَاجَةِ أَيْ الْعَمَلِ بِهِ ثُمَّ يُفْعَلُ فِعْلًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ سَبْعَ طُرُقٍ وقال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْفِعْلَ يَصْلُحُ بَيَانًا لَكِنْ بِشَرْطِ انْضِمَامِ بَيَانٍ قَوْلِيٍّ إلَيْهِ كما رُوِيَ عنه عليه السَّلَامُ أَنَّهُ صلى ثُمَّ قال صَلُّوا كما رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَصَارَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَكَمَا رُوِيَ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ ثُمَّ قال خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ أَمَّا الْفِعْلُ السَّاذَجُ فَلَا لِأَنَّهُ بِذَاتِهِ سَاكِتٌ عن جَمِيعِ الْجِهَاتِ فَلَا تَتَعَيَّنُ وَاحِدَةٌ إلَّا بِدَلِيلٍ قال اللَّهُمَّ إلَّا إذَا تَكَرَّرَ الْفِعْلُ عِنْدَهُ يَحْصُلُ الْبَيَانُ قَرِينَةٌ تَدُلُّ على كَوْنِ الْفِعْلِ بَيَانًا إحْدَاهَا وُرُودُهُ عِنْدَ وَقْتِ إيجَابِهِ لِئَلَّا يَتَأَخَّرَ الْبَيَانُ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ الثَّانِي أَنْ يُنْقَلَ إلَيْنَا فِعْلٌ غَيْرُ مُتَّصِلِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالْأُذُنَيْنِ من غَيْرِ تَجْدِيدِ الْمَاءِ ثُمَّ يُنْقَلَ إلَيْنَا مع تَجْدِيدِهِ فَيَكُونَ ذلك بَيَانًا لِلْفَضِيلَةِ الثَّالِثَةُ أَنْ يَتْرُكَ ما يَلْزَمُ فَيَكُونَ نَسْخًا الرَّابِعَةُ أَنْ لَا يُقْطَعَ في شَيْءٍ لِيُعْلَمَ نَحْوُ تَخْصِيصِ آيَةِ السَّرِقَةِ الْخَامِسَةُ أَنْ يَفْعَلَ في الصَّلَاةِ ما لم يَكُنْ وَاجِبًا كَالرُّكُوعَيْنِ في صَلَاةِ الْخُسُوفِ السَّادِسَةُ أَنْ يَأْخُذَ الْجِزْيَةَ وَالزَّكَاةَ مُتَّصِلَةً بَعْدَ إجْمَالِهَا في النُّصُوصِ السَّابِعَةُ أَنْ يُعَاقِبَ عُقُوبَةً بِاعْتِقَادِ نَدْبِهِ أو إبَاحَتِهِ تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ هل يَجْرِي خِلَافُ الْفِعْل في الْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ بِهِ وَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ وَلِهَذَا قَطَعَ ابن السَّمْعَانِيِّ فِيمَا سَبَقَ بِالْبَيَانِ بِالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ مع حِكَايَةِ الْخِلَافِ في الْفِعْلِ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ صَاحِبُ الْوَاضِحِ فقال بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ في الْفِعْلِ وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا في أَنَّ الْكِتَابَةَ وَالْإِشَارَةَ يَقَعُ بِهِمَا الْبَيَانُ الثَّانِي إنَّمَا يَقَعُ الْفِعْلُ بَيَانًا إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ قَوْلٌ يَصْلُحُ لِلْبَيَانِ وَإِلَّا لم يُرْجَعْ إلَى الْفِعْلِ لِأَنَّ الْقَوْلَ هو الْأَصْلُ في الْبَيَانِ وَالْفِعْلُ إنَّمَا يُجْعَلُ بَيَانًا بِغَيْرِهِ لَا بِنَفْسِهِ قَالَهُ ابن فُورَكٍ وَيَجِيءُ فيه الْخِلَافُ الْآتِي

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْبَيَانُ بِالتَّرْكِ يَقَعُ الْبَيَانُ بِالتَّرْكِ أَيْضًا كَتَرْكِ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ بَعْدَ فِعْلِهِ إيَّاهُ فإنه بَيَّنَ كَوْنَهُ غير وَاجِبٍ وَكَسُكُوتِهِ عن بَيَانِ حَادِثَةٍ وَقَعَتْ بين يَدَيْهِ فإنه يَدُلُّ على كَوْنِهِ ليس فيها حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَإِلَّا لَزِمَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وَأَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْخِطَابِ يَتَنَاوَلُهُ وَالْأُمَّةُ تَتْرُكُهُ فَيَدُلُّ على أَنَّ الْخِطَابَ لم يَتَنَاوَلْهُ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْبَيَانُ بِالتَّقْرِيرِ يَقَعُ الْبَيَانُ بِالتَّقْرِيرِ ذَكَرَهُ أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ في أُصُولِهِ قال كَعِلْمِنَا بِأَنَّ عُقُودَ الْكُفَّارِ كانت في زَمَنِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَعِلْمِهِ بها ولم يُنْكِرْهَا على فَاعِلِهَا يَدُلُّ على إبَاحَتِهَا وَيَجِيءُ فيه من الْوُجُوهِ ما سَبَقَ في الْفِعْلِ

المسألة الرابعة ما المبين القول أم الفعل
إذا ورد بعد المجمل قول وفعل وكل واحد منهما صالح لبيانه فماذا يكون البيان فإما أن يتفقا في الحكم وإما أن يختلفا فإن اتفقا وعلم سبق أحدهما فهو المبين قولا كان أو فعلا والثاني تأكيد له وقيل إن كان الفعل أضعف دلالة منه لم يحمل على تأكيده إذ يمتنع التأكيد بالأضعف وإن لم يعلم فلا يقضى على واحد منهما بأنه المبين بعينه بل يقضى بحصول البيان بواحد لم يطلع عليه وهو الأول في نفس الأمر والثاني تأكيد وقال صاحب الكبريت الأحمر مكانا يتميز عنهما بيانها وقيل هذا إذا تساويا في القوة فإن اختلفا فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم ورودا وإلا لزم التأكيد بالأضعف وإن اختلفا علما كأمره بعد نزول الحج القارن أن يكون طوافا واحدا وروي أنه عليه السلام قرن فطاف لهما طوافين فالمختار عند الجمهور منهم الإمام فخر الدين وأتباعه وابن الحاجب أن المبين هو القول سواء كان متقدما على الفعل أو متأخرا أو يحمل الفعل على الندب

أو الواجب المختص به وذلك لأن دلالة القول على البيان بنفسه بخلاف الفعل فإنه لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه والدال بنفسه أولى وقال أبو الحسين البصري المقدم مطلقا هو البيان كما في صورة اتفاقهما الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ بَيَانُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ يَجُوزُ بَيَانُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى يُوصِيكُمْ اللَّهُ في أَوْلَادِكُمْ الْآيَةَ وَالسُّنَّةُ بِالسُّنَّةِ وَالْمُتَوَاتِرُ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَالْمُجْمَلُ من آيِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ كان مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَمْ لَا وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ إنْ كان مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى لم يَجُزْ حَكَاهُ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وَالْبَاجِيُّ في الْأَحْكَامِ قال ابن حَزْمٍ وَمِمَّا أُجْمِلَ في السُّنَّةِ وَبَيَّنَهُ الْقُرْآنُ قَوْلُهُ عليه السَّلَامُ أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ الناس الحديث ثُمَّ فَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذلك وَبَيَّنَهُ في سُورَةِ بَرَاءَةٌ بِقَوْلِهِ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وقد يَقَعُ بَيَانُ الْمُجْمَلِ بِالْإِجْمَاعِ كَإِجْمَاعِهِمْ على أَنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ على الْعَاقِلَةِ وَاَلَّذِي في كِتَابِ اللَّهِ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ ولم يذكر وُجُوبَهَا على الْعَاقِلَةِ فَبَيَّنَ الْإِجْمَاعَ الْمُرَادَ بها وقد يَكُونُ بَيَانُ الْإِجْمَاعِ بِحُكْمٍ مُبْتَدَإٍ كما يَكُونُ حُكْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَإِجْمَاعِ السَّلَفِ على حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ وَتَأْجِيلِ امْرَأَةِ الْعِنِّينِ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ كَالْمُبَيَّنِ في الْقُوَّةِ وَهِيَ أَصْلُ التي قَبْلَهَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ كما قَالَهُ الْهِنْدِيُّ إلَى أَنَّ الْبَيَانَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَالْمُبَيَّنِ في الْقُوَّةِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْنَى منه فَيُقْبَلُ الْمَظْنُونُ في بَيَانِ الْمَعْلُومِ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ فإنه شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ وَلِهَذَا لم يَقْبَلْ خَبَرَ الْأَوْسَاقِ مع قَوْلِهِ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وما نَقَلَهُ عن الْجُمْهُورِ صَحَّحَهُ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ فقال بَعْدَ حِكَايَةِ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ الصَّحِيحُ جَوَازُ كَوْنِ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ مَعْلُومَيْنِ أو أَمَارَتَيْنِ وَأَنْ يَكُونَ الْمُبَيَّنُ مَعْلُومًا وَبَيَانُهُ مَظْنُونًا كما جَازَ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ا ه

وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ ابْنِ الْحَاجِبِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ وهو اشْتِرَاطُ كَوْنِهِ أَقْوَى دَلَالَةً من الْمُبَيَّنِ قال الْهِنْدِيُّ وَلَا يُتَوَهَّمُ في حَقِّ أَحَدٍ أَنَّهُ ذَهَبَ إلَى اشْتِرَاطِ أَنَّهُ كَالْمُبَيَّنِ في قُوَّةِ الدَّلَالَةِ فإنه لو كان كَذَلِكَ لَمَا كان بَيَانًا له بَلْ كان هو مُحْتَاجًا إلَى بَيَانٍ آخَرَ بَلْ الْمُرَادُ هل هو كَالْمُبَيَّنِ في قُوَّةِ الْمَتْنِ حتى لو كان الْمُبَيَّنُ مَعْلُومًا وَالْبَيَانُ مَظْنُونًا لَا يَكُونُ مَقْبُولًا عِنْدَ من شَرَطَ الْمُسَاوَاةَ هذا في بَيَانِ الْمُجْمَلِ أَمَّا في بَيَانِ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ فَالْأَمْرُ فيه أَظْهَرُ ضَرُورَةً أَنَّ الْمُبَيَّنَ هَاهُنَا أَظْهَرُ دَلَالَةً من الْمُجْمَلِ وَمِنْهُمْ من فَصَّلَ فقال إنْ كان الْمُبَيَّنُ مُجْمَلًا كَفَى في تَعْيِينِ أَحَدِ مُحْتَمَلَاتِهِ أَدْنَى ما يُفِيدُ التَّرْجِيحَ وَإِنْ كان عَامًّا أو مُطْلَقًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُخَصِّصُ أو الْقَيْدُ في دَلَالَتِهِ أَقْوَى من دَلَالَةِ الْعَامِّ على صُورَةِ التَّخْصِيصِ وَدَلَالَةُ الْمُطْلَقِ على الْمُقَيَّدِ وَإِلَّا لَزِمَ إلْغَاءُ الْأَقْوَى لِأَجْلِ الْأَضْعَفِ وَنُقِلَ عن اخْتِيَارِ الْآمِدِيَّ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ كَالْمُبَيَّنِ في الْحُكْمِ على الصَّحِيحِ وقال قَوْمٌ إذَا كان الْمُبَيَّنُ وَاجِبًا كان بَيَانُهُ كَذَلِكَ قال أبو الْحُسَيْنِ فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ بَيَانٌ لِصِفَةِ شَيْءٍ وَاجِبٍ فَصَحِيحٌ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ يَدُلُّ على الْوُجُوبِ كما يَدُلُّ الْمُبَيَّنُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ إذَا كان الْمُبَيَّنُ وَاجِبًا كان بَيَانُهُ وَاجِبًا فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ وَاجِبٌ سَوَاءٌ تَضَمَّنَ فِعْلًا وَاجِبًا أَمْ لَا وقال الْهِنْدِيُّ تَبَعًا لِلْمَحْصُولِ نُقِلَ عن قَوْمٍ أَنَّ الْبَيَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَالْمُبَيَّنِ في الْحُكْمِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الْمُبَيَّنَ إذَا كان وَاجِبًا كان بَيَانُهُ وَاجِبًا وَإِلَّا فَلَا لَا أَنَّهُ بَيَانٌ لِشَيْءٍ وَاجِبٍ فإن ذلك مِمَّا لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ بَلْ يَنْبُو عنه وَلَا أَنَّهُ يَدُلُّ على ما دَلَّ عليه الْمُبَيَّنُ من الْحُكْمِ حتى يَرِدَ بِأَنَّهُ لم يَكُنْ أَحَدُهُمَا بَيَانًا لِلْآخَرِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ بَيَانًا لِلْآخَرِ إذَا كان دَالًّا على صِفَةِ مَدْلُولِ الْآخَرِ لِأَنَّ ذلك ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَلَا أَنَّهُ يَدُلُّ على وُجُوبِ ما تَضَمَّنَهُ من صِفَاتِ مَدْلُولِ الْمُبَيَّنِ أو نَدْبِيَّتِهِ كما دَلَّ الْمُبَيَّنُ على أَصْلِ وُجُوبِهِ أو نَدْبِيَّتِهِ وَهَذَا وَإِنْ كان أَقْرَبَ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ في تَأْوِيلِ ما نَقَلَ عنه لَكِنَّهُ أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْبَيَانَ

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ هل يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْمُبَيَّنُ على الْمُجْمَلِ فيه قَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابن الْقَطَّانِ في أُصُولِهِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَخَطَّأَهُ وَأَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ قال وَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ مُقْتَرِنًا وَمُرَتَّبًا فَإِنْ قِيلَ فإن التَّفْسِيرَ يَحْتَاجُ إلَى مُفَسِّرٍ فإذا لم يَكُنْ مُفَسِّرٌ لم يَكُنْ تَفْسِيرٌ قِيلَ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا عَلِمَ مَصْلَحَتَنَا في ذلك جَازَ أَنْ يُقَدَّمَ التَّفْسِيرُ فَيَجْتَمِعَانِ جميعا كما يَرِدُ بَعْدَهُ الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ قد يَكُونُ الْبَيَانُ مُنْفَصِلًا قد يَكُونُ الْبَيَانُ مُنْفَصِلًا وهو كَثِيرٌ وقد يَكُونُ مُتَّصِلًا كَتَبْيِينِهِ تَعَالَى الْمُرَادَ من الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى من الْفَجْرِ الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ إذَا صَدَرَ من الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ فِعْلٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ في مَكَان أو زَمَانٍ لم يَتَقَيَّدْ مُوجَبُ الْبَيَانِ بِهِمَا وقال بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ يَتَقَيَّدُ بِالْمَكَانِ وَلَا يَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ وَأَبْعَدَ قَوْمٌ فَقَالُوا يَتَخَصَّصُ بِالزَّمَانِ حَكَاهُ ابن الْقُشَيْرِيّ ثُمَّ قال فَنَقُولُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْقَوْلَ الصَّادِرَ من الرَّسُولِ عليه السَّلَامُ لِبَيَانِ الْحُكْمِ لَا يَتَضَمَّنُ تَخْصِيصَ الِامْتِثَالِ بِمَكَانٍ وَلَا زَمَانٍ فَكَذَا الْفِعْلُ وَأَمَّا السَّرَخْسِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ فَنَقَلَ عن أَصْحَابِنَا التَّقْيِيدَ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَعَنْ أَصْحَابِهِمْ خِلَافَهُ قال وَلِهَذَا كان إحْرَامُ النبي عليه السَّلَامُ بِالْحَجِّ في أَشْهُرِ الْحَجِّ لَا يَقْتَضِي التَّقْيِيدَ بِتِلْكَ الْأَشْهُرِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ فِعْلُهُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ فَتَحَصَّلَ في الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُمَا يَدْخُلَانِ حَيْثُ يَلِيقُ دُخُولُهُمَا كما في الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالصَّلَوَاتِ في أَوْقَاتِهَا

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ كُلُّ ما يَحْتَاجُ إلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ من عَامٍّ وَمُجْمَلٍ وَمَجَازٍ وَمُشْتَرَكٍ وَفِعْلٍ مُتَرَدِّدٍ وَمُطْلَقٍ لِتَأْخِيرِ بَيَانِهِ حَالَانِ الْأَوَّلُ أَنْ يُؤَخَّرَ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ وهو الْوَقْتُ الذي إنْ أُخِّرَ الْبَيَانُ عنه لم يَتَمَكَّنْ الْمُكَلَّفُ من الْمَعْرِفَةِ بِمَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَابُ وَذَلِكَ كُلُّ ما كان وَاجِبًا على الْفَوْرِ كَالْإِيمَانِ وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْوَدَائِعِ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالشَّيْءِ مع عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ مُمْتَنِعٌ بِنَاءً على مَنْعِ تَكْلِيفِ ما لَا يُطَاقُ وَمَنْ جَوَّزَهُ أَجَازَهُ لَكِنْ لَا يَقَعُ وَلِهَذَا نُقِلَ إجْمَاعُ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ على امْتِنَاعِهِ وَالتَّعْبِيرُ بِالْحَاجَةِ لم يَسْتَحْسِنْهُ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وقال هِيَ عِبَارَةٌ تَلِيقُ بِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ بِالْمُؤْمِنِينَ حَاجَةً إلَى التَّكْلِيفِ قال فَالْعِبَارَةُ الصَّحِيحَةُ على مَذْهَبِنَا أَنْ يُقَالَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عن وَقْتِ وُجُوبِ الْفِعْلِ بِالْخِطَابِ انْتَهَى وَهِيَ مُشَاحَّةٌ لَفْظِيَّةٌ وقد عُرِفَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالْحَاجَةِ كما قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ تَوَجُّهُ الطَّلَبِ وَتَرَدَّدَ بَعْضُهُمْ هل مَعْنَى التَّأْخِيرِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ تَأْخِيرُهُ عن زَمَنٍ يُمْكِنُ فيه الْفِعْلُ إلَى زَمَنٍ آخَرَ مُمْكِنٍ أو مَعْنَاهُ تَأْخِيرُهُ إلَى وَقْتٍ لَا يُمْكِنُ فيه الْفِعْلُ كَالظُّهْرِ مَثَلًا هل يَجِبُ بَيَانُهَا بِمُجَرَّدِ دُخُولِ الْوَقْتِ أو لَا يَجِبُ إلَّا إذَا ضَاقَ وَقْتُهَا ا هـ وَالْمُرَادُ الثَّانِي كما بَيَّنَّاهُ أَوَّلًا وَبِهِ صَرَّحَ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وَغَيْرِهِ وقال ابن السَّمْعَانِيِّ لَا خِلَافَ بين الْأُمَّةِ في امْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عن وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ وَلَا خِلَافَ في جَوَازِهِ إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ قد يُؤَخِّرُ النَّظَرَ وقد يُخْطِئُ إذَا نَظَرَ فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا الْحَالُ الثَّانِي أَنْ يُؤَخَّرَ عن وَقْتِ وُرُودِ الْخِطَابِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَى الْفِعْلِ وهو كُلُّ ما لم يَكُنْ وُجُوبُهُ على الْفَوْرِ كَالْحَجِّ وَغَيْرِهِ وهو إمَّا أَنْ يَكُونَ لَا ظَاهِرَ له كَالْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَالْمُشْتَرِكَةِ أو له ظَاهِرٌ وقد اُسْتُعْمِلَ في خِلَافِهِ كَتَأْخِيرِ بَيَانِ التَّخْصِيصِ وَتَأْخِيرِ بَيَانِ النَّسْخِ وَتَأْخِيرِ بَيَانِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ في غَيْرِ الْمُسَمَّيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَالصَّلَاةِ مُرَادًا بها الدُّعَاءُ وَنَحْوُهُ وتأخير بيان اسم النكرة إذا أريد بها شيء معين ففي جواز تأخير ذلك مذاهب أحدها الجواز مطلقا قال ابن برهان وعليه عامة علمائنا من الفقهاء

والمتكلمين ونقله ابن فورك والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني وغيرهم عن ابن سريج والإصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران والقفال وابن القطان والطبري والشيخ أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وجزم به الخفاف في الخصال ونقله القاضي في مختصر التقريب عن الشافعي وابن سريج والطبري والقفال وعمموا القول في المجمل والعام في الأوامر والنواهي والوعد والوعيد وسائر ضروب الأخبار ونقله ابن القطان عن ابن خيران وابن أبي هريرة قال وكان يحكى عن أبي العباس أنه قال في مسائل المطرز إن قلت لك إن هذا يجوز فما تعمل وإن قلت لك لا يجوز فما تعمل واختاره الرازي وأتباعه وابن الحاجب وقال ابن السمعاني في القواطع هو الذي ننصره قال ونصره عبد الجبار البغدادي في العمد وحكاه عن وأبي هاشم وفيه نظر فالذي نقله أبو الحسين في المعتمد عن هؤلاء المنع مطلقا ونقله سليم عن المزني ونقله المازري عن ابن مطين وأبي الفرج وابن خويز منداد منهم وقال الباجي عليه أكثر أصحابنا كالقاضي أبي بكر وابن خويز منداد وحكاه القاضي عن مالك وإليه ذهب المحققون من الشافعية ومنهم شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري وأبو إسحاق الشيرازي ومن أدلتهم قوله تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه وثم للتعقيب مع التراخي فقد ضمن البيان بعد إلزام الاتباع وقال في قصة نوح وأهلك وعمومه يتناول ابنه ولهذا سأل عن إهلاكه وقوله إنكم وما تعبدون من دون الله ولهذا سأل ابن الزبعرى عن عيسى والملائكة والثاني المنع مطلقا ولم يجوزا أن يقع ذلك إلا والبيان معه ونقله القاضي أبو بكر وابن فورك والشيخ أبو إسحاق وسليم وابن السمعاني وغيرهم عن أبي إسحاق المروزي وأبي بكر الصيرفي والقاضي أبي حامد المروزي ونقله الأستاذ أبو إسحاق عن أبي بكر الدقاق أيضا قال القاضي وهو قول المعتزلة وكثير من الحنفية وإليه صار ابن داود الظاهري ونقله ابن القشيري عن داود ونقله المازري والباجي عن الأبهري منهم وقال القاضي عبد الوهاب قالت المعتزلة والحنفية لا بد أن

يكون الخطاب متصلا بالبيان أو في حكم المتصل احترازا من انقطاعه كعطاس ونحوه من عطف الكلام بعضه على بعض قال ووافقهم بعض المالكية والشافعية واعلم أن القاضي عبر عن هذا المذهب بقوله وأوجبوا أن لا ترد لفظة إلا ويقترن بها بيانها إذا لم تكن مستقلة بنفسها ا هـ وظاهر هذا التقييد أنهم يجوزون عند الاستقلال وفيه نظر واعلم أن نقل هؤلاء الجماعة المنع عن أبي بكر الصيرفي هو المشهور وقال الأستاذ أبو إسحاق في كتابه هذا مذهب كان يذهب إليه الصيرفي قديما فنزل به الشيخ أبو الحسن الأشعري ضيفا فناظره في هذا واستنزله عن هذه المقالة إلى مذهب الشافعي وسائر المتشيعة ولهذا نقل إمام الحرمين مسألة اعتقاد العموم موافقة للجمهور قلت وقد راجعت كتابه المسمى بالدلائل والأعلام وهو مجلد كبير فرأيته فصل القول في ذلك بين تأخير بيان المجمل فيجوز وتأخير تخصيص العموم ونحوه فيمتنع وها أنا أسوق عبارته لتقف على صواب قوله قال ما نصه القول في الخطاب المجمل الذي لا يعقل من ظاهره مراده قال أبو بكر خطاب لا يعقل من نفس اللفظ بيانه فغير لازم حتى يقع البيان كقوله أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة لا سبيل إلى معرفتها من ظاهر الاسم وحينئذ فوقت التكليف وقت البيان وهذا يجوز أن يتأخر بيانه عن وقت الخطاب إلى وقت الإلزام ويكون فائدة الخطاب الإعلام بأنه أوجب الصلاة التي سيبينها يلزمهم عند البيان قال وليس هذا تأخير البيان لأنهم لا يعرفون ما يلزمهم لأنهم لا يقدرون حينئذ على اعتقاد خلاف المراد ثم قال وأما الخطاب الذي تدرك حقيقته وحده من ظاهر الاسم فلا يحتاج إلى بيان أكثر من لفظه إلا أن يقوم دليل على إرادة بعضه أو فعله في حال دون حال فهذا لا يجوز أن يتأخر بيانه لأنه إن أخره كان الكلام مطلقا ومراده الشرط فيوجب اعتقاده عموما أو اقتضاء أمره مبادرا فيكون قد أمر بما يوجب ظاهره خلاف مراده وهو لا يجوز لما فيه من اللبس ثم ذكر الدلائل على المنع ثم قال وزعم قوم أنه يجوز تأخير بيان بعض المنزلات عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة كما لو أمر بقطع السارق فيجوز تأخير بيان الحد المقطوع إلى أن يحضر سارق يحتاج إلى قطعه وهذه الطائفة من الشافعيين وغيرهم قال أبو بكر لا يقدر

أحد منهم أن يحكي عن الشافعي نصا في شيء من كتبه ولا يخبر عنه أنه قال إن البيان يجوز تأخيره بل قد حكى عنه المزني أنه لا يجوز تأخيره في مسائل ولا إذا بقي تأخير وهذا أصل من أصول الشافعي فيستدل على قوله أنه غير قابل لما ينتقض من أصله فإذا لم يكن متصلا لأصل له ولا تصح حكايته عنه فيضاف إليه فكيف يجوز أن يجعل ذلك له ثم قال وجماعة من الألباء أنه لا يجوز أن يخاطبنا بخطاب عام ليس في ظاهره ما يوجب التوقف ولا التراخي ولا البعض ويريد التراخي من الوقت أو بعض ما أظهر اسمه ويعريه من دليل يدل به على مراده انتهى ملخصا واعلم أن الصيرفي إنما قال ذلك بناء على اعتقاده أن الصيغة العامة إذا وردت يجب اعتقاد عمومها والعمل بموجبها ويلزم من رجوعه عن منع التأخير فيما نقله الأستاذ عنه رجوعه عن وجوب اعتقاد العموم ضرورة وما ادعاه من أن الشافعي ليس له نص في ذلك ينازعه فيه قول الشاشي في كتابه وقد ذكرنا من قول الشافعي ما يدل على الجواب في غير هذا الكتاب وقال ابن القطان وقد استدل الشافعي بقوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه قال الشافعي فلما أعطى السلب للقاتل علمنا أن المراد بالآية بعضهم دون بعض وقوله ولذي القربى فلما أعطى النبي عليه السلام بني هاشم وبني المطلب ومنع غيرهم دل على أنه أريد بعضهم دون بعض وكذلك أيضا قول الشافعي روي عن النبي عليه السلام أنه نهى عن المزابنة ثم إن قوما من الأنصار شكوا إلى النبي عليه السلام فرخص لهم في العرايا فأطلق النهي ثم خصه في ثاني الحال وهذا هو تأخير البيان قال وبه كان أبو بكر يعني الصيرفي يذكر أن المزني يذهب إلى أن البيان يتأخر حتى أخرج لنا ابن أبي هريرة كلام المزني في المنثور أن البيان لا يجوز أن يتأخر عن وقت الحاجة فدل على أن المزني كان يذهب إلى ما قلنا وقال ابن أبي هريرة جرت هذه المسألة بين أبي بكر وابن خيران فرأيت ابن خيران فيها ضعيفا فقلت لأبي بكر مقصدنا من هذه المسألة المعنى لا الاسم فإذا

حصل المعنى فسواء سميته تأخير البيان أو لم تسمه وذلك أنا مثل أن يجوز أن يقول لنا اقطعوا السارق ويكون المراد منه البعض ولا يبينه في الحال ويبينه في ثانيه ولا نسميه تأخير بيان ثم ذكر أنه عكس ذلك عليه في تأخير بيان المجمل وما يقع من البيان بفعل النبي عليه السلام والنسخ وهو أن النسخ سماه الناس بهذا الاسم فخبرني أراد الله منا في الابتداء الصلاة إلى بيت المقدس أبدا ثم رفعه أو أراد منا في الابتداء إلى زمان فإن قلت مؤبدا أخلفت وإن قلت مقيدا قيل لك فأي شيء نسخ عنا فإن قلت سمي هذا نسخا وهو في الحقيقة أمر ثان لأنه انكشف عنا ما لم يكن ظهر لنا قلنا وهذا بعينه موجود في التخصيص وهنا تنبيه آخر يتعلق بمذهب المعتزلة وهو أن الجماهير أطلقوا النقل عنهم بالمنع وذكر بعضهم أنهم استثنوا النسخ وجوزوا تأخير بيانه وبذلك صرح أبو الحسين عنهم في المعتمد ولهذا ادعى الغزالي في المستصفى وابن برهان في الوجيز والسمرقندي من الحنفية في الميزان الاتفاق على جواز تأخير بيان النسخ قال الغزالي بل يجب تأخيره لا سيما عند المعتزلة فإن النسخ عندهم بيان لوقت العبادة ويجوز أن يرد لفظ يدل على تكرار الأفعال على الدوام ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول الاعتقاد بلزوم الفعل على الدوام لكن يشترط أن لا يرد نسخ والغزالي أخذ ذلك من قول إمامه وقد ناقضت المعتزلة أصولهم إذ النسخ عندهم بيان مدة التكليف ولم يكن هذا البيان مقترنا بمورد الخطاب الأول قال وليس لهم عن هذا جواب والإمام أخذه من القاضي فإنه قال وما استدل به أصحابنا أن قالوا النسخ تخصيص في الزمان والتخصيص في الأعيان ثم يجوز أن ترد اللفظة مطلقة في الأزمان والمراد بعضها فإن لم يبعد ذلك في الأزمان لم يبعد في الأعيان قال القاضي ولا يستقيم منا الاستدلال بذلك فإن النسخ ليس بتخصيص في الأزمان عندي وعند معظم المحققين من أصحابي وإنما هو رفع والمذهب الثالث يجوز تأخير بيان المجمل دون غيره وهو قول أبي بكر الصيرفي فيما سقناه وكذا حكاه القاضيان أبو الطيب وعبد الوهاب وحكاه ابن

الصباغ في العدة عن الصيرفي وأبي حامد المروروذي وكذا أبو الحسين بن القطان فإنه قال لا خلاف بين أصحابنا في جواز تأخير بيان المجمل كقوله وأقيموا الصلاة وكذلك لا يختلفون في أن البيان في الخطاب العام يقع بفعل النبي عليه السلام والفعل يتأخر عن القول لأن بيانه بالقول أسرع منه بالفعل وأما العموم الذي يعقل مراده من ظاهره كقوله والسارق والسارقة فقد اختلفوا فيه فمنهم من لم يجوز تأخير بيانه إلى هذا كما في مذهب أبي بكر الصيرفي ا هـ وكذلك ابن فورك والأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني فإنهما حكيا اتفاق أصحابنا على جواز تأخير بيان المجمل ثم حكى خلافهم في تأخير اللفظ الذي يوجب تخصيص العموم أو تأويل الظاهر ونسبه القاضي أبو الطيب لأبي حامد المروروذي وحكاه أبو بكر الرازي وصاحب المعتمد عن أبي الحسن الكرخي زاد صاحب الميزان والجصاص قال أبو بكر الرازي وهو عندي مذهب أصحابنا لأنهم يجعلون الزيادة على النص نسخا إذا تراخت عنه ولا يجيزونها إلا بمثل ما يجوز به النسخ ولو جاز عندهم تأخير البيان في مثله لما كانت الزيادة نسخا بل بيانا وقد أجازوا هذه الزيادة في المجمل بالقياس وخبر الواحد ولهذا أسقطوا النية في الصوم ولم يوجب عندهم ذلك نسخه لأنها على وجه البيان وقال السرخسي منهم قال علماؤنا دليل الخصوص إذا اقترن بالعموم كان بيانا وإذا تأخر لم يكن بيانا بل نسخا وقال الشافعي بيان وأصل الخلاف أن مطلق العام قطعي كالخاص وعنده فيكون دليل الخصوص بيان التفسير لا بيان التغيير ونسبه ابن برهان في الوجيز وابن السمعاني لأبي الحسين البصري والذي في المعتمد تفصيل آخر ونقله ابن برهان في الأوسط عن عبد الجبار والذي في المعتمد عنه المنع فيهما والرابع يجوز تأخير بيان العموم لأنه قبل البيان مفهوم ولا يجوز تأخير بيان المجمل لأنه قبل البيان غير مفهوم وحكاه الماوردي والروياني وجها لأصحابنا وقال ابن السمعاني وبه قال بعض أصحاب الشافعي ونقله ابن برهان في الوجيز عن عبد الجبار وأما المازري فحكى هذا المذهب عن بعضهم ثم قال وكنت أصوبه وقد قال القاضي عبد الوهاب في بعض مصنفاته لم يقل به أحد وهذا كله مردود بما ذكرنا

والخامس يجوز تأخير بيان الأوامر والنواهي ولا يجوز تأخير بيان الأخبار كالوعد والوعيد قال ابن السمعاني هكذا حكاه الماوردي عن الكرخي وبعض المعتزلة وعندي أن مذهب الكرخي هو ما قدمنا قبل قال الماوردي ولم يقل بهذا المذهب أحد من أصحاب الشافعي ا هـ وحكاه القاضي في مختصر التقريب وابن القشيري والشيخ أبو إسحاق والغزالي وأبو الحسين في المعتمد إلا أنه لم يتعرض للنهي والسادس عكسه حكاه الشيخ أبو إسحاق أيضا ونازع بعضهم في حكاية هذا وما قبله فإن موضوع المسألة الخطاب التكليفي فلا يذكر فيهما الأخبار وفيه نظر والسابع يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره وحكاه أبو الحسين في المعتمد وأبو علي وابنه وعبد الجبار والثامن التفصيل بين ما ليس له ظاهر كالمشترك قال الإمام فخر الدين والأسماء المتواطئة جاز تأخير البيان لأنه لا محذور من تأخيره وأما ما له ظاهر قد استعمل في غير ظاهره كالعام والمطلق والمنسوخ ونحوه جاز تأخير بيان التفصيل دون الإجمال فإنه يشترط وجوده عند الخطاب حتى يكون مانعا من الوقوع في الخطأ فنقول مثلا المراد من هذا العام هو الخاص أو المطلق أو المقيد أو النكرة المعين أو هذا الحكم سينسخ وأما البيان التفصيلي وهو المشخص بكذا مثلا فليس بشرط وقد نقل الإمام فخر الدين وأتباعه هذا المذهب عن أبي الحسين البصري والدقاق والقفال وأبي إسحاق فأما أبو الحسين فالنقل عنه صحيح وأما الدقاق فسبق النقل عنه بموافقة المعتزلة وأما القفال فالظاهر أنه الشاشي وقد سبق النقل عنه بموافقة الجمهور وقد رأيت في كتابه التصريح بذلك قال ما لفظه البيان للعام والمجمل يجوز أن يتأخر عنه وأن يقارنه وأن يتقدم من الأمور ما يستدل به على المراد مما يحتاج إلى بيانه وذلك كله على حسب ما يقع التعبد به ا هـ وأما أبو إسحاق فإن كان هو المروزي كما صرح به الإمام فقد سبق النقل عنه بموافقة المعتزلة على المنع لكن حكى القاضي عبد الوهاب عنه المذهب الثالث وقال الهندي عن أبي إسحاق المروزي روايتان وإن كان الشيرازي فقد صحح في شرح اللمع الجواز مطلقا والتاسع وحكاه ابن السمعاني عن أبي زيد أن بيان المجمل إن لم يكن تبديلا

ولا تغييرا جاز مقارنا وطارئا وإن كان بيان تغيير جاز مقارنا ولا يجوز طارئا بحال ثم ذكر أن بيان الاستثناء بيان تغيير قال والخلاف الذي بيننا وبين الشافعي في بيان الخصوص فعندنا هو من قبيل الاستثناء فلا يجوز إلا مقارنا وعند الشافعي هو من قبيل بيان المجمل فيصح مقارنا وطارئا قال ولهذا قال علماؤنا فيمن أوصى له بخاتم ولعمرو بفصه بكلام متصل إن الفص كله لصاحب الفص يكون تخصيصه بيانا كالاستثناء ولو فصل فقال أوصيت لهذا بفصه كان الفصل بين الأول والثاني ولا يصير بيانا عند الفصل قال وأما بيان المجمل منفصلا فجائز ألا ترى أن أصحابنا قالوا فيمن أقر أن لفلان عليه شيئا يكون البيان إليه متصلا أو منفصلا فَائِدَةٌ ذَكَرَ الْمَازِرِيُّ من فَوَائِدِ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا وَرَدَ مُتَأَخِّرًا عن عُمُومِ الْكِتَابِ رَافِعٌ لِبَعْضِ مُقْتَضَاهُ كما في قَوْلِهِ عليه السَّلَامُ يوم حُنَيْنٍ من قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ على أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ التَّفْرِيعُ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ اخْتَلَفُوا في جَوَازِ التَّدْرِيجِ بِالْبَيَانِ بِأَنْ يُبَيِّنَ تَخْصِيصًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ على مَذَاهِبَ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ ذلك في الثَّانِي وَالثَّالِثِ وما بَعْدَهُمَا كَالْأَوَّلِ كما يَجُوزُ تَأْخِيرُ أَصْلِ الْبَيَانِ عن اللَّفْظِ كما لو قال اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ انْسِلَاخِ الشَّهْرِ ثُمَّ قال بَعْدَ زَمَانٍ إذَا كَانُوا حَرْبِيِّينَ ثُمَّ قال إذَا كَانُوا رِجَالًا وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَمِنْهُمْ الْقَاضِي لِأَنَّ الدَّالَّ على جَوَازِ التَّأْخِيرِ دَالٌّ على جَوَازِ التَّدْرِيجِ وَعَلَى هذا فَيَجِيءُ ما سَبَقَ في الْعَامِّ من أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَحْكُمُ بِاللُّزُومِ إلَى أَيِّ زَمَنٍ وَالثَّانِي الْمَنْعُ من ذلك في الثَّانِي وما بَعْدَهُ وَأَنَّ الِاقْتِصَارَ على الْأَوَّلِ يُشْعِرُ بِانْحِصَارِ التَّخْصِيصِ فيه لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ قَصَدَ بَيَانَ الْمُشْكِلِ فَاقْتَضَى الْحَالُ إكْمَالَهُ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِبْهَامَ في تَأْخِيرِ الْبَيَانِ أَكْثَرُ ولم يَمْتَنِعْ

وَالثَّالِثُ يَجُوزُ ذلك في الْمُجْمَلِ وَلَا يَجُوزُ في الْعُمُومِ كَالْخِلَافِ في الْبَيَانِ الْأَوَّلِ وَالرَّابِعُ يَجُوزُ إذَا أَعْلَمَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ الْمُكَلَّفَ أَنَّ فيه بَيَانًا مُتَوَقَّعًا فَأَمَّا إذَا اتَّصَلَ الْبَيَانُ بِالْمُكَلَّفِينَ من غَيْرِ إشْعَارٍ وَإِعْلَامٍ في مَوْقِعِ الْبَيَانِ فَلَا يَتَرَتَّبُ بَيَانٌ آخَرُ وَأَمَّا الْمَانِعُونَ لِلتَّأْخِيرِ فَاخْتَلَفُوا في مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ هل يَجُوزُ لِلرَّسُولِ عليه السَّلَامُ تَأْخِيرُ تَبْلِيغِ ما أُوحِيَ إلَيْهِ من الْأَحْكَامِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى الْجَوَازِ مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ وُجُوبَ مَعْرِفَتِهَا إنَّمَا هو لِوُجُوبِ الْعَمَلِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ التي لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بها وَلَا عَمَلَ قبل الْوَقْتِ فَلَا يَجِبُ تَبْلِيغُهَا وَمَنَعَهُ الْأَقَلُّونَ مُتَمَسِّكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ من رَبِّكَ وَرُدَّ بِأَنَّهُ ليس لِلْفَوْرِ وَبِأَنَّ الْمُرَادَ الْقُرْآنُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ وَحَكَى صَاحِبُ الْمَصَادِرِ عن عبد الْجَبَّارِ أَنَّهُ إنْ كان الْمُنَزَّلُ قُرْآنًا وَجَبَ تَبْلِيغُهُ في الْحَالِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ انْتِشَارُهُ وَإِبْلَاغُهُ وَإِنْ كان غير قُرْآنٍ لم يَجِبْ تَعْجِيلُ التَّبْلِيغِ وَرَدَّهُ لِأَنَّ حَالَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ فِيمَا أُوحِيَ إلَيْهِ سَوَاءٌ الثَّانِيَةُ في جَوَازِ سَمَاعِ الْمَخْصُوصِ بِدُونِ مُخَصِّصِهِ فقال أَكْثَرُهُمْ يَجُوزُ وَمَنَعَهُ أبو الْهُذَيْلِ وَالْجُبَّائِيُّ في الْمُخَصِّصِ السَّمْعِيِّ دُونَ الْعَقْلِيِّ وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في بَابِ الْعُمُومِ وَلَيْسَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِقَةُ فَرْدًا من أَفْرَادِ هذه لِأَنَّا إذَا فَرَّعْنَا على الْمَنْعِ فَنَحْنُ مَانِعُونَ من وُرُودِ الْعَامِّ إلَّا وَمَعَهُ الْخَاصُّ وَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ في تَبْلِيغِ الْحُكْمِ من حَيْثُ الْجُمْلَةُ سَوَاءٌ الْعَامُّ الْمُقَارِنُ لِلْخَاصِّ وَالْمُطْلَقُ الْمُقَارِنُ لِلْمُقَيَّدِ وَالْمُجْمَلُ الْمُقَارِنُ لِلْمُمَيَّزِ وَالْمُبَيَّنُ بِنَفْسِهِ مَسْأَلَةٌ حَيْثُ وَجَبَ الْبَيَانُ وَالْإِسْمَاعُ فَإِنَّمَا يَجِبُ لِمَنْ أُرِيدَ إفْهَامُهُ قَطْعًا لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَلَا يَجِبُ إذْ لَا تَعَلُّقَ له بِالْخِطَابِ وَكُلٌّ منها قد لَا يُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ وقد يُرَادُ وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي كَالْعُلَمَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى خِطَابِ الصَّلَاةِ وَأَحْكَامِ الْحَيْضِ وَالثَّالِثُ كَأُمَّتِنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمِلَلِ الْمَاضِيَةِ وَالرَّابِعُ كَالنِّسَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى خِطَابِ أَحْكَامِ الْحَيْضِ

مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ وَأَحَدُهُمَا بَيَانٌ في شَيْءٍ مُجْمَلٍ في آخَرَ وَالْآخَرُ كَذَلِكَ مِثَالُهُ حَدِيثُ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ بَيَانٌ في الْإِخْرَاجِ مُجْمَلٌ في الْمِقْدَارِ وَحَدِيثُ ليس فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ بَيَانٌ في الْمِقْدَارِ مُجْمَلٌ في الْإِخْرَاجِ فَتَمَسَّكَ أبو حَنِيفَةَ بِالْأَوَّلِ في عَدَمِ اعْتِبَارِ النِّصَابِ وَتَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ بِالثَّانِي في اعْتِبَارِهِ قال الْمَاوَرْدِيُّ وَمَذْهَبُنَا مُتَرَجِّحٌ فإن بَيَانَ الْمِقْدَارِ من خَبَرِنَا قَاضٍ على إجْمَالِ الْمِقْدَارِ من خَبَرِهِمْ كما أَنَّ بَيَانَ الْإِخْرَاجِ من خَبَرِهِمْ قَاضٍ على إجْمَالِ الْإِخْرَاجِ من خَبَرِنَا

الْمَفْهُومُ اعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ ظُرُوفٌ حَامِلَةٌ لِلْمَعَانِي وَالْمَعَانِي الْمُسْتَفَادَةُ منها تَارَةً تُسْتَفَادُ من جِهَةِ النُّطْقِ وَالتَّصْرِيحِ وَتَارَةً من جِهَةِ التَّعْرِيضِ وَالتَّلْوِيحِ وَالْأَوَّلُ يَنْقَسِمُ إلَى نَصٍّ إنْ لم يَحْتَمِلْ وَظَاهِرٍ إنْ احْتَمَلَ وَالثَّانِي هو الْمَفْهُومُ وهو بَيَانُ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ بِدَلَالَةِ لَفْظِ الْمَنْطُوقِ وَسُمِّيَ مَفْهُومًا لَا لِأَنَّهُ مُفْهِمٌ غَيْرَهُ إذْ الْمَنْطُوقُ أَيْضًا مَفْهُومٌ بَلْ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ مُجَرَّدٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى مَنْطُوقٍ فلما فُهِمَ من غَيْرِ تَصْرِيحٍ بِالتَّعْبِيرِ عنه سُمِّيَ مَفْهُومًا قال الْعَبْدَرِيّ وَالْمَفْهُومُ يَنْقَسِمُ إلَى النَّصِّ وَالْمُجْمَلِ وَالظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلِ كَانْقِسَامِ الْمَنْطُوقِ قال ابن رُشْدٍ في مُخْتَصَرِهِ فَمِثَالُ النَّصِّ وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ فإنه يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ أَرَادَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَكَذَا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ فإن الْمَفْهُومَ منه قَطْعًا تَحْرِيمُ النِّكَاحِ وَمِثَالُ الْمُحْتَمَلِ لَا صِيَامَ فإنه يَحْتَمِلُ نَفْيَ الْقَبُولِ أَصْلًا أو نَفْيَ الْكَمَالِ وَقَوْلُهُ من أَدْرَكَ رَكْعَةً من الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ فإنه مُتَرَدِّدٌ بين فَضْلِ الصَّلَاةِ أو حُكْمِهَا أو وَقْتِهَا ا هـ تَنْبِيهٌ هل الْمَفْهُومُ مُسْتَفَادٌ من دَلَالَةِ الْعَقْلِ أو من اللَّفْظِ وَهَلْ الْمَفْهُومُ مُسْتَفَادٌ من دَلَالَةِ الْعَقْلِ من جِهَةِ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ أو مُسْتَفَادٌ من اللَّفْظِ قَوْلَانِ وَبِالثَّانِي قَطَعَ الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ وَرَدَّهُ الْكَرْخِيّ في نُكَتِهِ بِأَنَّ اللَّفْظَ لَا يُشْعِرُ بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا دَلَالَتُهُ بِالْوَضْعِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَرَبَ لم تَضَعْ اللَّفْظَ دَالًّا على شَيْءٍ مَسْكُوتٍ عنه فإن اللَّفْظَ إمَّا أَنْ يُشْعِرَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أو الْمَجَازِ وَلَيْسَ الْمَفْهُومُ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَبَنَى على هذا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِكَوْنِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ صَارُوا إلَى الْمَفْهُومِ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا أَخَذُوهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَقْلِ وقد يُخْطِئُونَ فَيَكُونُ إذْنُ نِسْبَتِهِمْ كَنِسْبَةِ غَيْرِهِمْ من الْمُخَالِفِينَ

تَقْسِيمٌ وهو إمَّا أَنْ يَلْزَمَ عن مُفْرَدٍ أو مُرَكَّبٍ وَاللَّازِمُ عن الْمُفْرَدِ إمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ الصِّدْقُ أو الصِّحَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أو الشَّرْعِيَّةُ عليه أو لَا وَالثَّانِي أَنْ يَقْتَرِنَ بِحُكْمٍ لو لم يَكُنْ اقْتِرَانُهُ بِهِ لِتَعْلِيلِهِ كان اللَّفْظُ بِهِ قَصْدًا من الشَّارِعِ فَيُبَيِّنُهُ إيمَاءً كما سَيَأْتِي في بَابِ الْقِيَاسِ وَالْأَوَّلُ يُسَمَّى دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ بِأَنْ يَتَوَقَّفَ تَحَقُّقُ دَلَالَةِ ذلك الْمُفْرَدِ عليه إمَّا لِوُجُوبِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ رُفِعَ عن أُمَّتِي الْخَطَأُ أَيْ حُكْمُ ذلك أو الْمُؤَاخَذَةُ لِأَنَّ عَيْنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مَوْجُودٌ وَإِمَّا لِاسْتِحَالَةِ الْمَنْطُوقِ بِهِ عَقْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ فإن الْعَقْلَ يُحِيلُ سُؤَالَ الْجُدَرَانِ فَالتَّقْدِيرُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَإِمَّا لِلصِّحَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ اعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي لِاسْتِدْعَائِهِ تَقْدِيرَ الْمِلْكِ إذْ الْعِتْقُ لَا يَحْصُلُ إلَّا في مِلْكٍ وما ذَكَرْنَاهُ من جَعْلِ الِاقْتِضَاءِ بِأَقْسَامِهِ من فَنِّ الْمَفْهُومِ هو الذي صَرَّحَ بِهِ الْغَزَالِيُّ في الْمُسْتَصْفَى وَجَرَى عليه الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ وَأَمَّا الْآمِدِيُّ وابن الْحَاجِبِ فَجَعَلَاهُ من فَنِّ الْمَنْطُوقِ وَكَذَا الْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ مع تَفْسِيرِهِمَا الْمَنْطُوقَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ في مَحَلِّ النُّطْقِ وَالْمَفْهُومَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ لَا في مَحَلِّ النُّطْقِ وَهَذَا بَعِيدٌ من التَّوْجِيهِ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ فَإِنَّهُمْ قالوا سُمِّيَ الْمَفْهُومُ مَفْهُومًا لِأَنَّهُ فُهِمَ من غَيْرِ التَّصْرِيحِ بِالتَّعْبِيرِ عنه وَهَذَا الْمَعْنَى شَامِلٌ لِلِاقْتِضَاءِ وَالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ أَيْضًا فَتَكُونُ هذه الْأَقْسَامُ من قَبِيلِ الْمَفْهُومِ لَا الْمَنْطُوقِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ وَاسِطَةً بين الْمَفْهُومِ وَالْمَنْطُوقِ وَلِهَذَا اعْتَرَفَ بها من أَنْكَرَ الْمَفْهُومَ وقد وَقَعَ الْبَحْثُ في كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ هُنَا بين الشَّيْخَيْنِ عَلَاءِ الدِّينِ الْقُونَوِيِّ وَشَمْسِ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيِّ وَكَتَبَا فيها رِسَالَتَيْنِ وَانْتَصَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ لِابْنِ الْحَاجِبِ بِأَنْ فَسَّرَ الْمَنْطُوقَ بِمَا دَلَّ عليه اللَّفْظُ في مَحَلِّ النُّطْقِ فَلَزِمَ منه جَعْلُ الثَّلَاثَةِ مَنْطُوقًا لِأَنَّهَا من قَبِيلِ ما دَلَّ عليه اللَّفْظُ في مَحَلِّ النُّطْقِ وَإِنْ لم يُوَضِّحْ اللَّفْظُ لها بِخِلَافِ الْمَفْهُومِ فَلْيُرَاجَعْ كَلَامُهُمَا

وَجَعَلَ ابن الْحَاجِبِ دَلَالَةَ الْإِشَارَةِ أَنْ لَا يَقْصِدَ وهو في مَحَلِّ النُّطْقِ وَمَثَّلَهَا الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الْآيَةَ فإنه يَدُلُّ على أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ أَيْ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ من غَيْرِ قَصْدٍ إلَى بَيَانِهِ إذْ الْآيَةُ سِيقَتْ لِبَيَانِ اسْتِحْقَاقِهِمْ سَهْمًا من الْغَنِيمَةِ لَا لِبَيَانِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالِاسْتِيلَاءِ لَكِنْ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ من حَيْثُ إنَّ اللَّهَ سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ مع إضَافَةِ الْأَمْوَالِ إلَيْهِمْ وَالْفَقِيرُ اسْمٌ لِعَدِيمِ الْمَالِ لَا لِمَنْ لَا تَصِلُ يَدُهُ إلَيْهِ مع كَوْنِهِ مَالِكًا له فَلَوْ كانت أَمْوَالُهُمْ بَاقِيَةً على مِلْكِهِمْ لَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ الْمَذْكُورَةُ مَجَازًا وهو خِلَافُ الْأَصْلِ وَضُعِّفَ بِأَنَّ التَّسْمِيَةَ وَإِنْ دَلَّتْ على ما ذَكَرُوهُ لَكِنَّ إضَافَةَ الْأَمْوَالِ إلَيْهِمْ تَدُلُّ على بَقَاءِ مِلْكِهِمْ إذْ الْأَصْلُ في الْإِضَافَةِ الْمِلْكُ فَلَيْسَ حَمْلُهُمْ الْإِضَافَةَ على التَّجَوُّزِ وَإِجْرَاءُ التَّسْمِيَةِ الْمَذْكُورَةِ على الْحَقِيقَةِ أَوْلَى من الْعَكْسِ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ وَالْمَعْنَى اللَّازِمُ من اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِمَدْلُولِ ذلك الْمُرَكَّبِ في الْحُكْمِ أو مُخَالِفًا له وَالْأَوَّلُ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ لِأَنَّ الْمَسْكُوتَ عنه مُوَافِقٌ لِلْمَلْفُوظِ بِهِ وَيُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ لِأَنَّ فَحْوَى الْكَلَامِ ما يُفْهَمُ منه على سَبِيلِ الْقَطْعِ وَهَذَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ من الْمَنْطُوقِ بِهِ أو مُسَاوٍ له وَيُسَمَّى أَيْضًا لَحْنَ الْخِطَابِ لَكِنَّ لَحْنَ الْخِطَابِ مَعْنَاهُ قال تَعَالَى وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ هَكَذَا قال الْأُصُولِيُّونَ وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ في الْفَرْقِ بين الْفَحْوَى وَلَحْنِ الْخِطَابِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْفَحْوَى ما نَبَّهَ عليه اللَّفْظُ وَاللَّحْنُ ما لَاحَ في أَثْنَاءِ اللَّفْظِ وَالثَّانِي الْفَحْوَى ما دَلَّ على ما هو أَقْوَى منه وَلَحْنُ الْقَوْلِ ما دَلَّ على مِثْلِهِ ا هـ وَذَكَرَ الْقَفَّالُ في فَتَاوِيهِ أَنَّ فَحْوَى الْخِطَابِ ما دَلَّ الْمُظْهَرُ على الْمُسْقَطِ وَلَحْنُ الْقَوْلِ ما يَكُونُ مُحَالًا على غَيْرِ الْمُرَادِ في الْأَصْلِ وَالْوَضْعِ من الْمَلْفُوظِ وَالْمَفْهُومُ ما يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْمُظْهَرَ وَالْمُسْقَطَ كَقَوْلِهِ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فَالْمُرَادُ بِهِ إثْبَاتُ

الزَّكَاةِ في السَّائِمَةِ وَإِسْقَاطُهَا في غَيْرِهَا وَمِثْلُ فَحْوَى الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَمَنْ كان مِنْكُمْ مَرِيضًا أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ وَقَوْلُهُ أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ أَيْ فَضُرِبَ فَانْفَلَقَ لِأَنَّ الْفَحْوَى هو الْمَعْنَى وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْمُرَادُ بِهِ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ الْمُظْهَرِ على الْمُضْمَرِ الْمَحْذُوفِ قال وكان الشَّيْخُ أبو الْحَسَنِ الْمُقْرِي يُجَوِّزُ الْوَقْفَ على قَوْله تَعَالَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ فَانْفَلَقَ فَقُلْت له إنَّ ذلك لَا يَجُوزُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْ اضْرِبْ وَقَوْلَهُ فَانْفَلَقَ بِمَجْمُوعِهِمَا يَدُلَّانِ على ذلك الْمُسْقَطِ فلم يَجُزْ الْوَقْفُ عليه قال وَأَمَّا لَحْنُ الْقَوْلِ فَهُوَ غَيْرُ هذا وَيُسَمَّى بِهِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ غَيْرُهُ لَكِنْ بِاللَّحْنِ من الْقَوْلِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ كما قال تَعَالَى وَلِتَعْرِفْنَهُمْ في لَحْنِ الْقَوْلِ لِأَنَّهُ قال قبل ذلك حتى إذَا خَرَجُوا من عِنْدِكَ قالوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قال كان الْمُرَادُ أَنَّ ما قال عليه السَّلَامُ ليس بِشَيْءٍ فَهَذَا هو لَحْنُ الْقَوْلِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ مَاذَا قال مُحَمَّدٌ آنِفًا لم يَكُنْ غَرَضُهُمْ من هذا اللَّفْظِ اسْتِكْشَافَ الْقَوْلِ وَالْفَحْصَ عن مَعْنَاهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذلك لَكِنَّ في لَحْنِ الْقَوْلِ قد يُرَادُ بِهِ ما قَدَّرْنَاهُ فَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ذلك وكان ذلك بَيِّنًا في لَحْنِ قَوْلِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا الْمَفْهُومُ تَارَةً يَكُونُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ من الْمَنْطُوقِ إمَّا في الْأَكْثَرِ كَدَلَالَةِ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ من قَوْلِهِ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ على تَحْرِيمِ الضَّرْبِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى فإن الضَّرْبَ أَكْثَرُ أَذًى من التَّأْفِيفِ وَكَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْمُسْلِمِينَ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ فإنه يُفْهَمُ ثُبُوتُ الذِّمَّةِ لِأَعْلَاهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَإِمَّا في الْأَقَلِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ من إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ مَفْهُومُهُ أَنَّ أَمَانَتَهُ تَحْصُلُ في الدِّرْهَمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَتَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا كَدَلَالَةِ جَوَازِ

الْمُبَاشَرَةِ من قَوْلِهِ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغَوْا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ على جَوَازِ أَنْ يُصْبِحَ الرَّجُلُ صَائِمًا جُنُبًا لِأَنَّهُ لو لم يَجُزْ ذلك لم يَجُزْ لِلصَّائِمِ مَدُّهُ الْمُبَاشَرَةَ إلَى الطُّلُوعِ بَلْ وَجَبَ قَطْعُهَا مِقْدَارَ ما يَسَعُ فيه الْغُسْلُ قبل طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيَنْقَسِمُ إلَى قَطْعِيٍّ لِأَنَّهُ لَا احْتِمَالَ كَآيَةِ التَّأْفِيفِ وَإِلَى ظَنِّيٍّ وهو ما فيه احْتِمَالٌ مع الظُّهُورِ وَمَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فإن هذا عِنْدَ طَائِفَةٍ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا عليه تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ من طَرِيقٍ أَوْلَى لَكِنْ فيه احْتِمَالٌ من جِهَةِ قَصْرِ الْكَفَّارَةِ على الْمُخْطِئِ لِكَوْنِ ذَنْبِ الْمُتَعَمِّدِ أَعْظَمَ من أَنْ يُكَفِّرَ وَلِهَذَا اتَّفَقُوا على الْعَمَلِ بِهِ إذَا كان جَلِيًّا وَتَنَازَعُوا في الْمَظْنُونِ فيه فلم يُوجِبْ مَالِكٌ الْكَفَّارَةَ في الْعَمْدِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ شِئْت فَقُلْ إلَى ضَرُورِيٍّ وَنَظَرِيٍّ وَحَكَى الْمَازِرِيُّ عن بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمَفْهُومَ إنْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ أَدْنَى احْتِمَالٍ فإنه لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ وَيَرَوْنَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ في هذا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ بِخِلَافِ اللَّفْظِيِّ وما ذَكَرْنَاهُ من أَنَّ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ تَارَةً يَكُونُ أَوْلَى وَتَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا هو ما ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ وَمِنْهُمْ من شَرَطَ فيه الْأَوْلَوِيَّةَ وهو قَضِيَّةُ ما نَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ عن كَلَامِ الشَّافِعِيِّ في الرِّسَالَةِ وهو قَضِيَّةُ كَلَامِ الشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَعَلَيْهِ جَرَى ابن الْحَاجِبِ في مَوْضِعٍ وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عن الْأَكْثَرِينَ وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ شَرْطُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْنَى في الْمَسْكُوتِ عنه أَقَلَّ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ من الْمَعْنَى في الْمَنْطُوقِ فيه فَيَدْخُلُ فيه الْأَوْلَى وَالْمُسَاوِي وهو ظَاهِرُ كَلَامِ الْجُمْهُورِ من أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ قال الْهِنْدِيُّ وَيَدُلُّ عليه تَسْمِيَةُ الشَّافِعِيِّ له بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فإنه لَا يُشْتَرَطُ في الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ كَوْنُ الْحُكْمِ في الْمَقِيسِ أَوْلَى من الْمَقِيسِ عليه فَلَا يَحْسُنُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِاشْتِرَاطِ الْأَوْلَوِيَّةِ تَسْمِيَتُهُ جَلِيًّا بَلْ هو عِنْدَهُمْ أَخَصُّ منه وَلَوْ سُمِّيَ بِهِ لَكَانَ من تَسْمِيَةِ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ وَعَلَيْهِ يُنْزِلُونَ تَسْمِيَةَ الشَّافِعِيِّ لَكِنْ يُسَمِّي أَكْثَرُهُمْ الْأَوَّلَ بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَالثَّانِي بِلَحْنِهِ وَاخْتَلَفُوا في دَلَالَةِ النَّصِّ عليه هل هِيَ لَفْظِيَّةٌ أو قِيَاسِيَّةٌ على قَوْلَيْنِ

حَكَاهُمَا الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ تَرْجِيحُ أَنَّهُ قِيَاسٌ وهو الذي صَدَّرَ بِهِ كَلَامَهُ في الرِّسَالَةِ وَأَوْضَحَهُ بِالْأَمْثِلَةِ ثُمَّ قال وقد مَنَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يُسَمَّى بَيَانًا لِأَنَّهُ نَقَلَهُ من النَّصِّ وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ في بَابِ الْقَضَاءِ على الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ قِيَاسٌ وَكَذَا الْهِنْدِيُّ في النِّهَايَةِ وقال الصَّيْرَفِيُّ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ جُلَّةٌ سَيِّدُهُمْ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ هذا هو الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَذْكُورَ هو الْمُسَمَّى بِاسْمِهِ وهو التَّنْبِيهُ على الْعُمُومِ وإذا كان بِهِ عَقْلٌ كان هو الْأَصْلَ وكان مِمَّا نَبَّهَ عليه فَرْعُهُ وقال الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في شَرْحِ اللُّمَعِ إنَّهُ الصَّحِيحُ وَجَرَى عليه الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فَذَكَرَهُ في أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ الشَّافِعِيُّ يُومِئُ إلَى أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ بِخِلَافِهِ قال وَأَنْكَرَ دَاوُد الْمَفْهُومَ قال وَذَهَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَسْرِهِمْ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّ الْمَنْعَ من التَّأْفِيفِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَذَى مُسْتَفَادٌ من النُّطْقِ انْتَهَى وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ الصَّحِيحُ من الْمَذَاهِبِ أَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى النُّطْقِ لَا مَجْرَى الْقِيَاسِ وَسَمَّاهُ الْحَنَفِيَّةُ دَلَالَةَ النَّصِّ وقال آخَرُونَ ليس بِقِيَاسٍ وَلَا يُسَمَّى دَلَالَةَ النَّصِّ لَكِنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ إنَّ الْمَنْعَ من التَّأْفِيفِ مَثَلًا مَنْقُولٌ بِالْعُرْفِ عن مَوْضُوعِهِ اللُّغَوِيِّ إلَى الْمَنْعِ من أَنْوَاعِ الْأَذَى وَقِيلَ إنَّهُ فَهْمٌ بِالسِّيَاقِ وَالْقَرَائِنِ وَعَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ من أَهْلِ هذا الْقَوْلِ كَالْغَزَالِيِّ وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ وَالْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَالدَّلَالَةُ عِنْدَهُمْ مَجَازِيَّةٌ من بَابِ إطْلَاقِ الْأَخَصِّ وَإِرَادَةِ الْأَعَمِّ قال الْمَازِرِيُّ وَالْقَائِلُونَ بهذا شَرَطُوا كَوْنَ الْمَسْكُوتِ عنه أَوْلَى بِالْحُكْمِ من الْمَنْطُوقِ بِهِ قال وَالْجُمْهُورُ على أَنَّ دَلَالَتَهُ من جِهَةِ اللُّغَةِ لَا من الْقِيَاسِ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ من بَابِ الْقِيَاسِ وَرُدَّ عليه بِأَنَّ سَامِعَ الْخِطَابِ يُفْهَمُ منه النَّهْيُ عن الضَّرْبِ وَإِنْ لم يَنْظُرْ في طُرُقِ الْقِيَاسِ وَيُؤْمِنْ بِذَلِكَ وَإِنْ لم يُؤْمِنْ بِالتَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ وقال عبد الْعَزِيزِ في كَشْفِ الْأَسْرَارِ ظَنَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هذا قِيَاسٌ جَلِيٌّ وَأَصْلَهُ التَّأْفِيفُ وَفَرْعَهُ الضَّرْبُ وَعِلَّتَهُ دَفْعُ الْأَذَى وَلَيْسَ كما ظَنُّوا لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَرْبًا من الْفُرُوعِ بِالْإِجْمَاعِ وقد يَكُونُ في هذا أَصْلًا بِمَا يَجْعَلُوهُ فَرْعًا وَلِأَنَّهُ كان ثَابِتًا قبل شَرْعِ الْقِيَاسِ فَعُلِمَ أَنَّهُ من الدَّلَالَاتِ

اللَّفْظِيَّةِ وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهِ نُفَاةُ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ الْمَفْهُومَ نَظَرِيٌّ وَهَذَا ضَرُورِيٌّ قال وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ في هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ هل يَعْمَلُ عَمَلَ النَّصِّ وَأَنَّهُ هل يَجْرِي في الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ أَنَّ إمَامَ الْحَرَمَيْنِ في الْبُرْهَانِ في كِتَابِ الْقِيَاسِ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ من فَوَائِدِهِ أَنَّهُ هل يَجُوزُ النَّسْخُ بِهِ إنْ قُلْنَا لَفْظِيَّةٌ جَازَ وَإِلَّا فَلَا وَسَيَأْتِي في النَّسْخِ وَمِنْهَا ما حَكَيْنَاهُ عن صَاحِبِ الْكَشْفِ أَيْضًا وقال الْغَزَالِيُّ في بَابِ الْقِيَاسِ من الْمَنْحُولِ قالوا فَائِدَةُ الْخِلَافِ فيه أَنَّهُ إنْ كان قِيَاسًا قُدِّمَ عليه الْخَبَرُ وَإِلَّا فَلَا وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ هو قِيَاسٌ وَلَكِنْ لَا يُقَدَّمُ على الْخَبَرِ وَهَذَا ما يَعْتَقِدُهُ في مَنْعِ التَّقْدِيمِ وَالْخِلَافُ بَعْدَهُ يَرْجِعُ إلَى عِبَارَةِ انْتَهَى قلت سَيَأْتِي تَقْدِيمُهُ على الْقِيَاسِ عِنْدَ التَّعَارُضِ لِأَنَّهُ أَقْوَى منه نعم لو كان الْقِيَاسُ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ فَالظَّاهِرُ تَقَدُّمُ الْقِيَاسِ عليه لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ وقال ابن التِّلِمْسَانِيِّ من قال مُسْتَنَدُهُ التَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى على الْأَعْلَى قال لَا فَرْقَ بين أَنْ تَكُونَ الْفَحْوَى قَطْعِيَّةً أو ظَنِّيَّةً وَإِلَيْهِ مَيْلُ الشَّافِعِيِّ فإنه قال في قَوْله تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ إنَّ تَقْيِيدَ الْقَتْلِ بِالْخَطَأِ في إيجَابِ الْكَفَّارَةِ يَدُلُّ على إيجَابِهَا في الْعَمْدِ أَوْلَى وَهَذَا ظَاهِرٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ وَمَنْ قال مُسْتَنَدُهُ الْقَرَائِنُ وَالسِّيَاقُ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْحَنَفِيَّةِ لم يَشْتَرِطْ في الْفَحْوَى أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ قال وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ لو وُجِدَ في بَعْضِ الصُّوَرِ لَفْظٌ من الشَّارِعِ يُشْعِرُ بِنَقِيضِ الْحُكْمِ في الْمَسْكُوتِ عنه إنْ قُلْنَا مَأْخُوذٌ من قِيَاسٍ جَلِيٍّ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ إلَّا على رَأْيِ من يُقَدِّمُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ على الظَّاهِرِ وَإِنْ قُلْنَا يَعْتَمِدُ التَّنْبِيهَ أو الْقَرَائِنَ اللَّفْظِيَّةَ تَعَارَضَ اللَّفْظَانِ وَيَبْقَى النَّظَرُ في جِهَاتِ التَّرْجِيحِ

الثَّانِي الْقَوْلُ بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ من حَيْثُ الْجُمْلَةُ مُجْمَعٌ عليه كما قَالَهُ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ وَوَقَعَ في الْبُرْهَانِ وَغَيْرِهِ ما يَقْتَضِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُنْكِرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ بَعْدَ كَلَامٍ ذَكَرَهُ أَنَّ من أَنْكَرَ الْمَفْهُومَ سَلَّمَ الْفَحْوَى في مِثْلِ قَوْلِهِ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ قال وَأَمَّا مُنْكِرُو صِيَغِ الْعُمُومِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْمَفْهُومَ وهو بِالتَّوْقِيفِ أَوْلَى لَكِنْ نُقِلَ عن الْأَشْعَرِيِّ ما يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِهِ فإنه تَعَلَّقَ في مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى كَلًّا إنَّهُمْ عن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وقال إذَا ذَكَرَ الْحِجَابَ في إذْلَالِ الْأَشْقِيَاءِ أَشْعَرَ ذلك بِنَقِيضِهِ في السَّعَادَةِ وَأَمَّا الظَّاهِرِيَّةُ فَقَدْ قال الْمَازِرِيُّ نُقِلَ عَنْهُمْ إنْكَارُ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ على الْإِطْلَاقِ كما حَكَى عن قَوْمٍ من الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مَتَى تَطَرَّقَ إلَيْهِ أَدْنَى احْتِمَالٍ فإنه لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ وَيَرَوْنَ أَنَّ الِاحْتِمَالَ في هذا يَسْقُطُ الْعَمَلُ بِهِ بِخِلَافِ الظَّاهِرِ اللَّفْظِيِّ وقال ابن رُشْدٍ لَا يَنْبَغِي لِلظَّاهِرِيَّةِ أَنْ يُخَالِفُوا في مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ لِأَنَّهُ من بَابِ السَّمْعِ وَاَلَّذِي يَرُدُّ ذلك يَرُدُّ نَوْعًا من الْخِطَابِ قلت قد خَالَفَ فيه ابن حَزْمٍ قال ابن تَيْمِيَّةَ وهو مُكَابَرَةٌ الثَّالِثُ اخْتَلَفُوا كما قَالَهُ الْمَازِرِيُّ في جَوَازِ الْحُكْمِ بِنَقِيضِ هذا الْمَفْهُومِ مِثْلُ وَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَاقْتُلْهُمَا قال وَرَأَيْت الْأَذْرِيَّ تَرَدَّدَ فيه فَسَلَّمَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ عَمِلَ قِنْطَارًا لِمَ رَدَّهُ لِلتَّنَاقُضِ وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ من كِتَابِهِ إنَّمَا يُسْتَفَادُ الْمَنْعُ من قِبَلِهِمَا لِأَجْلِ تَحْدِيدِ النَّهْيِ عن التَّأْفِيفِ وَأَشَارَ إلَى جَوَازِ مُضَامَّةِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ بَعْضِهِمَا لِبَعْضٍ وَمِنْ الْخِلَافِ يُلْتَفَتُ إلَى أَنَّ دَلَالَةَ هذا هل هِيَ نَصٌّ أو ظَاهِرٌ فَإِنْ قُلْنَا نَهْيٌ لم يَجُزْ وَإِلَّا جَازَ الرَّابِعُ قال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ من فَاسِدِ هذا الضَّرْبِ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ إذَا جَازَ السَّلَمُ في الْمُؤَجَّلِ فَفِي الْحَالِّ أَجْوَزُ وَمِنْ الْغَرَرِ أَبْعَدُ فإنه لَا بُدَّ من اشْتِرَاكِهِمَا في الْمُقْتَضَى وَلَيْسَ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ بُعْدَهُ عن الْغَرَرِ فَيَلْتَحِقُ بِهِ الْحَالُّ وَالْغَرَرُ مَانِعٌ احْتَمَلَ في الْمُؤَجَّلِ وَالْحُكْمُ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ مَانِعِهِ بَلْ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ ثُمَّ لو كان بُعْدُهُ عن الْغَرَرِ عِلَّةَ الصِّحَّةِ مِمَّا وَجَدْت في الْفَرْعِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ

وَالثَّانِي مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ وهو إثْبَاتُ نَقِيضِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ لِلْمَسْكُوتِ وَيُسَمَّى دَلِيلَ الْخِطَابِ لِأَنَّ دَلِيلَهُ من جِنْسِ الْخِطَابِ أو لِأَنَّ الْخِطَابَ دَالٌّ عليه قال في الْمَنْخُولِ وقد بَدَّلَ ابن فُورَكٍ لَفْظَ الْمَفْهُومِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ في هذا الْقِسْمِ لِمُخَالَفَتِهِ مَنْظُومَ اللَّفْظِ قال الْقَرَافِيُّ في قَوَاعِدِهِ وَهَلْ الْمُخَالَفَةُ بين الْمَنْطُوقِ وَالْمَسْكُوتِ بِضِدِّ الْحُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ أو بِنَقِيضِهِ الْحَقُّ الثَّانِي وَمَنْ تَأَمَّلْ الْمَفْهُومَاتِ وَجَدَهَا كَذَلِكَ قال وَيَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا في اسْتِدْلَالِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا على وُجُوبِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بِقَوْلِهِ في حَقِّ الْمُنَافِقِينَ وَلَا تُصَلِّ على أَحَدٍ منهم مَاتَ أَبَدًا إذْ مَفْهُومُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الصَّلَاةِ على الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ كما قال بَلْ مَفْهُومُهُ عَدَمُ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ على الْمُؤْمِنِينَ وَعَدَمُ التَّحْرِيمِ صَادِقٌ مع الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِبَاحَةِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ لِأَنَّ الْأَعَمَّ من الشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُهُ فَالنَّقِيضُ أَعَمُّ من الضِّدِّ وَأَقْسَامُهُ عَشَرَةٌ اقْتَصَرَ الْأُصُولِيُّونَ منها على ذِكْرِ أَرْبَعَةٍ أو خَمْسَةٍ قال الْمَازِرِيُّ وَحَصَرَهَا الشَّافِعِيُّ في خَمْسٍ فذكر الْحَدَّ وَالْعَدَدَ وَالصِّفَةَ وَالْمَكَانَ وَالزَّمَانَ وَأَشَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى شُمُولِ التَّعْبِيرِ عنها بِالصِّفَةِ وهو صَحِيحٌ لِأَنَّ الصِّفَةَ مُقَدَّرَةٌ في ظَرْفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَكَائِنٍ وَمُسْتَقِرٍّ وَوَاقِعٍ من قَوْلِك زَيْدٌ في الدَّارِ وَالْغُسْلُ يوم الْجُمُعَةِ وَالْجَمِيعُ عِنْدَنَا حُجَّةٌ إلَّا اللَّقَبَ وَأَنْكَرَ أبو حَنِيفَةَ الْجَمِيعَ وَحَكَاهُ الشَّيْخُ في شَرْحِ اللُّمَعِ عن الْقَفَّالِ الشَّاشِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ في شَرْحِ التَّرْتِيبِ قد تَكَلَّمَ أَصْحَابُنَا في هذا الْبَابِ وَخَلَطُوا فيه وَآخِرُهُمْ أبو بَكْرٍ الْقَفَّالُ وَأَوَّلُ من تَكَلَّمَ فيه أبو الْعَبَّاسِ بن سُرَيْجٍ وَذَكَرَ أَنَّهُ نَظَرَ في كِتَابِ الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهَا من كُتُبِ الشَّافِعِيِّ فلم يَنْكَشِفْ له ما

قَالَهُ الشَّافِعِيُّ كُلَّ الِانْكِشَافِ فَحَسِبَهَا أَجْوِبَةً مُخْتَلِفَةً لِاخْتِلَافِ صُوَرِهَا فقال إنَّمَا قال الشَّافِعِيُّ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ بِدَلِيلٍ يَزِيدُ على نَفْسِ اللَّفْظِ لَا بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَمُقْتَضَاهُ مِثْلُ ما ذَكَرَ من قِلَّةِ النَّمَاءِ وَقِلَّةِ الْمَئُونَةِ في الْمَعْلُوفَةِ فَتَلَطَّفَ أبو الْعَبَّاسِ في مَنْعِ الْقَوْلِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَصَرَّحَ الْقَفَّالُ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ فيه ا هـ قال الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى في الذَّرِيعَةِ أَنْكَرَهُ ابن سُرَيْجٍ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ من شُيُوخِهِمْ كَأَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ وَالْقَفَّالِ وَغَيْرِهِمَا وَذَكَرَ ابن سُرَيْجٍ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالصِّفَةِ يَدُلُّ على ما تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ إذَا تَجَرَّدَ وقد تَحْصُلُ منه قَرَائِنُ يَدُلُّ مَعَهَا على أَنَّ ما عَدَاهُ بِخِلَافِهِ كَقَوْلِهِ إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ وَقَوْلُهُ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَقَوْلُهُ عليه السَّلَامُ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ وقال وقد يَقْتَضِي ذلك أَنَّ حُكْمَ ما عَدَاهُ مِثْلُ حُكْمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا وَقَوْلِهِ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَقَوْلِهِ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ على النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بِالْقَرَائِنِ قال وقد أَضَافَ ابن سُرَيْجٍ قَوْلَهُ هذا إلَى الشَّافِعِيِّ وَتَأَوَّلَ كَلَامَهُ الْمُقْتَضِي لِخِلَافِ ذلك وَبَنَاهُ عليه ا هـ وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ فقال الْقَاضِي وَالْإِمَامُ إنَّ النَّقَلَةَ نَقَلُوا عنه نَفْيَ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ كما نَقَلُوا عنه نَفْيَ صِيَغِ الْعُمُومِ وقد أُضِيفَ إلَيْهِ خِلَافُ ذلك وَأَنَّهُ قال بِمَفْهُومِ الْخِطَابِ لِأَجْلِ اسْتِدْلَالِهِ على رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِ رَبَّهُ يوم الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ في الْكَافِرِينَ إنَّهُمْ عن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ من الْحَنَفِيَّةِ في كِتَابِ السِّيَرِ أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ في خِطَابَاتِ الشَّرْعِ قال وَأَمَّا في مُصْطَلَحِ الناس وَعُرْفِهِمْ فَهُوَ حُجَّةٌ وَعَكَسَ ذلك بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَّا فقال حُجَّةٌ في كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وفي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ وَغَيْرِهِمْ ليس بِحُجَّةٍ

فَصْلٌ اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِلْمَفْهُومِ في مَوَاضِعَ أَحَدُهَا هل هو دَلِيلٌ من حَيْثُ اللَّفْظُ أو الشَّرْعُ على وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الْمَازِرِيُّ وَالرُّويَانِيُّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ من حَيْثُ اللُّغَةُ وَوَضْعُ لِسَانِ الْعَرَبِ وقال الْإِمَامُ الرَّازِيَّ في الْمَعَالِمِ لَا يَدُلُّ على النَّفْيِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ لَكِنَّهُ يَدُلُّ عليه بِحَسَبِ الْعُرْفِ الْعَامِّ وَذَكَرَ في الْمَحْصُولِ في بَابِ الْعُمُومِ أَنَّهُ يَدُلُّ عليه الْعَقْلُ فَحَصَلَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ وَحَكَى الْإِبْيَارِيُّ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ اخْتَلَفُوا هل نَفْيُ الْحُكْمِ فيه عَمَّا عَدَا الْمَنْطُوقَ بِهِ من قَبِيلِ اللَّفْظِ أو من قَبِيلِ الْمَعْنَى كَعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ في الْمَعْلُوفَةِ هل هو مَلْفُوظٌ بِهِ حتى نَقُولَ إنَّ الْعَرَبَ إذَا قالت في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ أَنَّ هذا الْكَلَامَ قَائِمٌ مَقَامَ كَلَامَيْنِ أَحَدُهُمَا وُجُوبُهَا في السَّائِمَةِ وَالْآخَرُ نَفْيُهَا عن الْمَعْلُوفَةِ أَمْ نَقُولُ إنَّ هذا ليس من قَبِيلِ اللَّفْظِ بَلْ من قَبِيلِ الْمَعْنَى قال وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ من قَبِيلِ اللَّفْظِ وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا خُصَّ الْمَفْهُومُ هل يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ إنْ قُلْنَا إنَّهُ من قَبِيلِ اللَّفْظِ فَنَعَمْ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ من قَبِيلِ الْمَعْنَى فَلَا ا هـ وَهَذَا الْخِلَافُ غَرِيبٌ وَمِمَّنْ حَكَاهُ أَيْضًا بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ وَيَتَحَصَّلُ حِينَئِذٍ خَمْسَةُ مَذَاهِبَ من جِهَةِ اللُّغَةِ من جِهَةِ الشَّرْعِ من جِهَةِ الْعُرْفِ من جِهَةِ الْعَقْلِ من جِهَةِ الْمَعْنَى الْمَوْضِعُ الثَّانِي اخْتَلَفُوا أَيْضًا في تَحْقِيقِ مُقْتَضَاهُ أَنَّهُ هل دَلَّ على نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَا الْمَنْطُوقَ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كان من جِنْسِ الْمُثْبَتِ فيه أَمْ لم يَكُنْ أو اخْتَصَّتْ دَلَالَتُهُ بِمَا إذَا كان من جِنْسِهِ فإذا قال في الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ فَهَلْ نَفَيْنَا الزَّكَاةَ عن الْمَعْلُوفَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كانت من الْإِبِلِ أو الْبَقَرِ أو الْغَنَمِ أو لم نَنْفِ إلَّا عن مَعْلُوفَةِ

الْغَنَمِ على وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَالشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَسُلَيْمٌ وابن السَّمْعَانِيِّ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُمْ قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وَالصَّحِيحُ تَخْصِيصُهُ بِالنَّفْيِ عن مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ فَقَطْ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمَنْطُوقِ وَوَجْهُ النَّفْيِ مُطْلَقًا أَنَّ السَّوْمَ كَالْعِلَّةِ فَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا وَكَذَا صَحَّحَ سُلَيْمٌ أَنَّ النَّفْيَ عن مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ فَقَطْ لَكِنْ صَحَّحَ أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ من أَصْحَابِنَا في أَدَبِ الْجَدَلِ له الثَّانِي قال الشَّيْخُ وهو ضَعِيفٌ جِدًّا الثَّالِثُ أَنَّهُ ظَاهِرٌ لَا يَرْتَقِي إلَى الْقَطْعِ وَكَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ قد يَكُونُ قَطْعِيًّا وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهَلْ يَصِحُّ إسْقَاطُهُ بِجُمْلَتِهِ حتى يَكُونَ كَإِزَالَةِ الظَّاهِرِ أو لَا وَإِنَّمَا يُؤَوَّلُ حتى يُرَدَّ إلَى الْبَعْضِ كما في تَخْصِيصِ الْعُمُومِ قال الْإِمَامُ في الْبُرْهَانِ يَصِحُّ إسْقَاطُهُ بِجُمْلَتِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فإذا دَلَّ الدَّلِيلُ على إسْقَاطِ الْمَفْهُومِ بِكَمَالِهِ بَقِيَ اللَّفْظُ فِيمَا دَلَّ عليه بِالنُّطْقِ فلم يَتَعَطَّلْ اللَّفْظُ بِخِلَافِ ما إذَا خَرَجَ من الْعُمُومِ كُلُّ أَفْرَادِهِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ اللَّفْظِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ إسْقَاطَ الْمَفْهُومِ بِالْكُلِّيَّةِ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَحُكِيَ في الْمَنْخُولِ عن ابْنِ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ من تَرْكِ بَقِيَّةٍ كما في الْمَنْطُوقِ قال وَالْمُخْتَارُ خِلَافُهُ إذْ ليس الْمَفْهُومُ سَائِرُ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا هو بَعْضُ مُقْتَضَيَاتِ اللَّفْظِ فَلَيْسَ في تَرْكِهِ مع تَبْقِيَةِ الْمَنْطُوقِ نَسْخٌ بَلْ هو كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ الرَّابِعُ إذَا دَلَّ دَلِيلٌ على إخْرَاجِ صُورَةٍ من صُوَرِ الْمَفْهُومِ فَهَلْ يُسْقِطُ الْمَفْهُومَ بِالْكُلِّيَّةِ أو يَتَمَسَّكَ بِهِ في الْبَقِيَّةِ يَنْبَنِي على أَنَّ الْعُمُومَ إذَا خُصَّ هل يَكُونُ مُجْمَلًا فَإِنْ قُلْنَا يَصِيرُ مُجْمَلًا فَالْمَفْهُومُ أَوْلَى وَإِنْ قُلْنَا لَا يَكُونُ مُجْمَلًا فَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ تَرْكُ الْمَفْهُومِ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَلَقَّاهُ بِالنَّظَرِ إلَى فَوَائِدِ التَّخْصِيصِ وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ إلَّا مُخَالَفَةُ الْمَسْكُوتِ عنه لِلْمَنْطُوقِ بِهِ فإذا أَثْبَتَ أَنَّ بَعْضَ الْمَسْكُوتِ عنه يُوَافِقُ الْمَنْطُوقَ بِهِ بَطَلَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ هِيَ الْفَائِدَةُ فَيُطْلَبُ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَالْحَقُّ جَوَازُ التَّمَسُّكِ بِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ كما إذَا قِيلَ إنَّمَا الْعَالِمُ زَيْدٌ وَلَا عَالِمَ إلَّا زَيْدٌ فإذا دَلَّ دَلِيلٌ على إثْبَاتِ عَالِمٍ غَيْرِهِ اقْتَصَرْنَا في الْإِثْبَاتِ على ما دَلَّ عليه الدَّلِيلُ الْجَدِيدُ وَيَبْقَى النَّفْيُ فِيمَا سِوَاهُ لِأَنَّ اللَّفْظَ الشَّامِلَ إذَا أُخْرِجَتْ منه صُورَةٌ بَقِيَ على الْعُمُومِ فِيمَا سِوَاهَا وَعَلَى هذا يُقْبَلُ فيه التَّخْصِيصُ كما إذَا حَلَفَ لَا آكُلُ السَّمَكَ مَثَلًا وَنَوَى تَخْصِيصَ النَّفْيِ بِغَيْرِهِ يُقْبَلُ منه

الْخَامِسُ هل يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قبل الْبَحْثِ عَمَّا يُوَافِقُهُ أو يُخَالِفُهُ من مَنْطُوقٍ آخَرَ فيه خِلَافُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قبل الْبَحْثِ عن الْمُخَصِّصِ وَحَكَى الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ وَجْهًا عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ سَبِيلَهُ سَبِيلُ الْعُمُومِ بِنَظَرِهِ عِنْدَ وُرُودِ الْخِطَابِ بِهِ فَإِنْ وُجِدَ ما يَدُلُّ على مُوَافَقَةِ الْمَسْكُوتِ عنه لِلْمَذْكُورِ صُيِّرَ إلَيْهِ وَإِلَّا اقْتَصَرَ على الْمَذْكُورِ وكان الْمَسْكُوتُ عنه مُخَالِفًا له قال وَصَارَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ حتى يَقُومَ دَلِيلٌ على خِلَافِهِ وَاسْتَدَلَّ كُلُّ فَرِيقٍ منهم على صِحَّةِ مَذْهَبِهِ بِأَلْفَاظٍ سَرَدَهَا من كَلَامِ الشَّافِعِيِّ فَصْلٌ شُرُوطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الْعَائِدَةِ إلَى الْمَسْكُوتِ عنه لِلْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ شُرُوطٌ منها ما يَرْجِعُ لِلْمَسْكُوتِ عنه وَمِنْهَا ما يَرْجِعُ لِلْمَذْكُورِ فَمِنْ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عنه أَوْلَى بِذَلِكَ الْحُكْمِ من الْمَنْطُوقِ فَإِنْ كان أَوْلَى منه كان مَفْهُومَ مُوَافَقَةٍ أو مُسَاوِيًا كان قِيَاسًا جَلِيًّا على الْخِلَافِ السَّابِقِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يُعَارَضَ بِمَا يَقْتَضِي خِلَافَهُ فَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِنَصٍّ يُضَادُّهُ وَبِفَحْوَى مَقْطُوعٍ بِهِ يُعَارِضُهُ كَفَهْمِ مُشَارَكَةِ الْأَمَةِ الْعَبْدَ في سِرَايَةِ الْعِتْقِ فَأَمَّا الْقِيَاسُ فلم يُجَوِّزُ الْقَاضِي تَرْكَ الْمَفْهُومِ بِهِ مع تَجْوِيزِهِ تَرْكَ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ هَكَذَا نَقَلَهُ في الْمَنْخُولِ قال وَلَعَلَّهُ قَرِيبٌ مِمَّا اخْتَرْنَاهُ في الْمَفْهُومِ فإنه تِلْقَاءَ الظَّاهِرِ وَالْعُمُومُ قد لَا يُتْرَكُ بِالْقِيَاسِ بَلْ يَجْتَهِدُ النَّاظِرُ في تَرْجِيحِ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ مِنْهُمَا على الْآخَرِ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ في الْقِيَاسِ إذَا عَارَضَهُ الْعُمُومُ ا هـ وَاَلَّذِي نَقَلَهُ الْإِمَامُ عن الْقَاضِي التَّوَقُّفُ في تَجْوِيزِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ وقال صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ الْقَوْلُ بِالْمَفْهُومِ عِنْدَ تَجَرُّدِهِ عن الْقَرَائِنِ أَمَّا إذَا اقْتَرَنَ بِظَاهِرِ الْخِطَابِ قَرِينَةٌ فإنه لَا يَكُونُ لِدَلَالَةِ الْخِطَابِ حُكْمٌ بِالْإِجْمَاعِ وقال شَارِحُ اللُّمَعِ دَلِيلُ الْخِطَابِ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا لم يُعَارِضْهُ ما هو أَقْوَى منه كَالنَّصِّ وَالتَّنْبِيهِ فَإِنْ عَارَضَهُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ سَقَطَ وَإِنْ عَارَضَهُ عُمُومٌ صَحَّ التَّعَلُّقُ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ على الْأَصَحِّ وَإِنْ عَارَضَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ قُدِّمَ الْقِيَاسُ وَأَمَّا الْخَفِيُّ فَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَالنُّطْقِ قُدِّمَ دَلِيلُ الْخِطَابِ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَالْقِيَاسِ فَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ أَصْحَابِنَا يُقَدِّمُونَ كَثِيرًا الْقِيَاسَ في كُتُبِ الْخِلَافِ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ قُلْت وما صَحَّحَهُ في مُعَارَضَةِ الْعُمُومِ هِيَ مَسْأَلَةُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ

لَكِنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ في الْبُوَيْطِيِّ يُخَالِفُهُ فإنه قال وإذا قَتَلَ الرَّجُلُ صَيْدًا عَمْدًا أو خَطَأً ضَمِنَهُ وَالْحُجَّةُ في ذلك قَوْله تَعَالَى وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا وَالْحُجَّةُ في الْخَطَأِ قَوْلُهُ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُمًا فَدَخَلَ في هذا الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ ا هـ فَقَدْ قُدِّمَ هذا الْعُمُومُ على مَفْهُومِ قَوْلِهِ مُتَعَمِّدًا وَمِنْ الْفَوَائِدِ ما نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لَا يُقْتَلُ الذَّكَرُ بِالْأُنْثَى وهو شَاهِدٌ لَكِنَّ شُبْهَتَهُ قَوِيَّةٌ فإن مَفْهُومَ قَوْله تَعَالَى وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى لَا يُعَارَضُ بِالْعُمُومِ الذي في قَوْلِهِ وَكَتَبْنَا عليهم فيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ لِأَنَّ هذا خِطَابٌ وَارِدٌ في غَيْرِ شَرِيعَتِنَا وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فيها وما قَالَهُ في الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فيه نَظَرٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عُمُومٌ مَعْنَوِيٌّ وإذا ثَبَتَ تَقْدِيمُ الْمَفْهُومِ على الْعُمُومِ اللَّفْظِيِّ فَتَقْدِيمُهُ على الْمَعْنَوِيِّ أَوْلَى وَيَكُونُ خُرُوجُ صُوَرِ الْمَفْهُومِ من مُقْتَضَى الْقِيَاسِ كَخُرُوجِهَا من مُقْتَضَى لَفْظِ الْعُمُومِ وَمِنْهُ حَاجَةُ الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ فذكر هذا الْقَيْدَ لِحَاجَةِ الْمُخَاطَبِينَ إلَيْهِ إذْ هو الْحَامِلُ لهم على قَتْلِهِمْ لَا لِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِهِ وَنَظِيرُهُ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً شُرُوطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الْعَائِدَةِ لِلْمَذْكُورِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ شُرُوطٌ أَحَدُهَا أَنْ لَا يَكُونَ خَارِجًا مَخْرَجَ الْغَالِبِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في حُجُورِكُمْ من نِسَائِكُمْ فإن الْغَالِبَ من حَالِ الرَّبَائِبِ كَوْنُهُنَّ في حُجُورِ أَزْوَاجِ أُمَّهَاتِهِنَّ فذكر هذا الْوَصْفَ لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ لَا لِيَدُلَّ على إبَاحَةِ نِكَاحِ غَيْرِهَا وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُ الْخُلْعِ بِحَالِ الشِّقَاقِ لَا مَفْهُومَ له إذْ لَا يَقَعُ غَالِبًا في حَالِ الْمُصَافَاةِ وَالْمُوَافَقَةِ خِلَافًا لِابْنِ الْمُنْذِرِ وإذا لَاحَ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ غَيْرُ نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الْمَنْطُوقَ تَطَرَّقَ الِاحْتِمَالُ إلَى الْمَنْطُوقِ فَصَارَ مُجْمِلًا كَاللَّفْظِ الْمُجْمِلِ قال الشَّافِعِيُّ تَعَارُضُ الْفَوَائِدِ في الْمَفْهُومِ كَتَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ في الْمَنْطُوقِ يُكْسِبُهُ نَعْتَ الْإِجْمَالِ فَكَذَلِكَ تَعَارُضُ الِاحْتِمَالَاتِ في الْمَنْطُوقِ يُكْسِبُهُ نَعْتَ الْإِجْمَالِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَصَدَ بهذا التَّخْصِيصِ الْمُغَايَرَةَ دُونَ اعْتِبَارِ الْفَائِدَةِ الْأُخْرَى قال الشَّافِعِيُّ وَلَا حَاجَةَ إلَى دَلِيلٍ في تَرْكِ هذا الْمَفْهُومِ وقال الْغَزَالِيُّ في

الْمَنْخُولِ الْمُخْتَارُ خِلَافُهُ إذْ الشِّقَاقُ يُنَاسِبُ الْخُلْعَ فإنه يَدُلُّ على بُعْدِ الْخِلَافِ وَتَعَذُّرِ اسْتِمْرَارِ النِّكَاحِ فَلَا تُرْفَعُ الْفَحْوَى الْمَعْلُومَةُ منه بِمُجَرَّدِ الْعُرْفِ فَلَا بُدَّ من دَلِيلٍ وَإِنْ لم يَبْلُغْ في الْقُوَّةِ مَبْلَغَ ما يُشْتَرَطُ في تَرْكِ مَفْهُومٍ لَا يُقْصَدُ بِالْعُرْفِ فإنه قَرِينَةٌ مُوهِمَةٌ ا هـ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ وهو الْمَنْصُوصُ لِلشَّافِعِيِّ قال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ في شَرْحِ الْعُنْوَانِ وَالسَّبَبُ فيه أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ مَنْشَؤُهُ طَلَبُ الْفَائِدَةِ في التَّخْصِيصِ وَكَوْنُهُ لَا فَائِدَةَ إلَّا الْمُخَالَفَةُ في الْحُكْمِ أو تَكُونُ تِلْكَ الْفَائِدَةُ أَرْجَحَ الْفَوَائِدِ الْمُحْتَمَلَةِ فإذا وُجِدَ سَبَبٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ غير الْمُخَالَفَةِ في الْحُكْمِ وكان ذلك الِاحْتِمَالُ ظَاهِرًا ضَعُفَ الِاسْتِدْلَال بِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِالذِّكْرِ على الْمُخَالَفَةِ لِوُجُودِ الْمُزَاحِمِ الرَّاجِحِ بِالْعَادَةِ فَبَقِيَ على الْأَصْلِ قال وَهَذَا أَحْسَنُ إلَّا أَنَّهُ يُشْكِلُ على مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ في قَوْلِهِ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ فإنه قال فيه بِالْمَفْهُومِ وَأَسْقَطَ الزَّكَاةَ عن الْمَعْلُوفَةِ مع أَنَّ الْغَالِبَ وَالْعَادَةَ السَّوْمُ فَمُقْتَضَى هذه الْقَاعِدَةِ أَنْ لَا يَكُونَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ مَفْهُومٌ قُلْت قد ذَكَرَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ في كِتَابِهِ هذا السُّؤَالَ وَأَجَابَ عنه بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ السَّوْمِ لم يَقُلْ بِهِ الشَّافِعِيُّ من جِهَةِ الْمَفْهُومِ بَلْ من جِهَةِ أَنَّ قَاعِدَةَ الشَّرْعِ الْعَفْوُ عن الزَّكَاةِ فِيمَا أُعِدَّ لِلْقُنْيَةِ ولم يُتَصَرَّفْ فيه لِلتَّنْمِيَةِ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ في الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ هذا أَصْلُ ما تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ السَّوْمَ شَرْطٌ لَكِنَّ الْقَفَّالَ قَصَدَ بِذَلِكَ نَفْيَ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ مُطْلَقًا وقد سَبَقَ رَدُّهُ على أَنَّ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ في الْأُمِّ يُخَالِفُ ذلك فإنه قال في كِتَابِ الزَّكَاةِ وإذا قِيلَ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ كَذَا فَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ لَا يَكُونَ في الْغَنَمِ غَيْرِ السَّائِمَةِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ كُلَّمَا قِيلَ في شَيْءٍ بِصِفَةٍ وَالشَّيْءُ يَجْمَعُ صِفَتَيْنِ يُؤْخَذُ حَقُّهُ كَذَا فَفِيهِ دَلِيلٌ على أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ من غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ من صِفَتَيْهِ قال الشَّافِعِيُّ فَلِهَذَا قُلْنَا لَا نَأْخُذُ من الْغَنَمِ غَيْرِ السَّائِمَةِ صَدَقَةَ الْغَنَمِ وإذا كان هذا في الْغَنَمِ فَهَكَذَا في الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لِأَنَّهَا الْمَاشِيَةُ التي تَجِبُ فيها الصَّدَقَةُ دُونَ ما سِوَاهَا ا هـ فلم يَجْعَلْ الشَّافِعِيُّ الْغَلَبَةَ إلَّا لِذَكَرِ الْغَنَمِ حتى أَلْحَقَ بها الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ ولم يَجْعَلْ السَّوْمَ غَالِبًا وقال ابن الْقُشَيْرِيّ قال الشَّافِعِيُّ الْغَرَضُ من الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ أَنْ لَا يُلْغِي الْقَيْدَ الذي قَيَّدَ بِهِ الشَّارِعُ كَلَامَهُ فإذا ظَهَرَ لِلْقَيْدِ فَائِدَةٌ ما مِثْلُ إنْ خَرَجَ عن الْمُعْتَادِ الْغَالِبِ

في الْعُرْفِ كَفَى ذلك وَذَكَرَ في الرِّسَالَةِ كَلَامًا بَالِغًا في هذا الْبَابِ وقال إذَا تَرَدَّدَ التَّخْصِيصُ بين تَقْدِيرِ نَفْيِ ما عَدَا الْمُخَصَّصَ وَبَيْنَ قَصْدِ إخْرَاجِ الْكَلَامِ على مَجْرَى الْعُرْفِ فَيَصِيرُ تَرَدُّدُ التَّخْصِيصِ بين هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ كَتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بين جِهَتَيْنِ في الِاحْتِمَالِ فَيُلْحَقُ بِالْمُحْتَمَلَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ لم يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَاسْتِشْهَادُ النِّسَاءِ مع التَّمَكُّنِ من إشْهَادِ الرِّجَالِ خَارِجٌ على الْعُرْفِ لِمَا في ذلك من الشُّهْرَةِ وَهَتْكِ السِّتْرِ وَعَسُرَ الْأَمْرُ عِنْدَ إقَامَةِ الشَّهَادَةِ فَجَرَى التَّقْيِيدُ إجْرَاءً لِلْكَلَامِ على الْغَالِبِ وَكَقَوْلِهِ إنْ خِفْتُمْ في قَصْرِ الصَّلَاةِ وَخَالَفَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَرَأَى الْقَوْلَ بِالْمَفْهُومِ في ذلك كُلِّهِ وَأَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ لم يَثْبُتْ بِمُجَرَّدِ التَّخْصِيصِ بِالذَّكَرِ إذْ لو كان كَذَلِكَ لَلَزِمَ مِثْلُهُ بِاللَّقَبِ وَلَكِنْ إنَّمَا دَلَّ على ذلك لِمَا في الْكَلَامِ من الْإِشْعَارِ على مُقْتَضَى حَقَائِقِهِ من كَوْنِهِ شَرْطًا فَلَا يَصِحُّ إسْقَاطُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ بِاحْتِمَالٍ يُؤَوَّلُ إلَى الْعُرْفِ نعم يَظْهَرُ مَسْلَكُ التَّأْوِيلِ وَيَخِفُّ الْأَمْرُ على الْمُؤَوِّلِ في قَرِينَةِ الدَّلِيلِ الْعَاضِدِ لِلتَّأْوِيلِ وقد وَافَقَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بن عبد السَّلَامِ وزاد فقال يَنْبَغِي الْعَكْسُ أَيْ لَا يَكُونُ له مَفْهُومٌ إلَّا إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْغَالِبَ على الْحَقِيقَةِ تَدُلُّ الْعَادَةُ على ثُبُوتِهِ لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ فَالْمُتَكَلِّمُ يَكْتَفِي بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ على ثُبُوتِهِ لها عن ذِكْرِ اسْمِهِ فإذا أتى بها مع أَنَّ الْعَادَةَ كَافِيَةٌ فيها دَلَّ على أَنَّهُ إنَّمَا أتى بها لِتَدُلَّ على سَلْبِ الْحُكْمِ عَمَّا يُفْهِمُ السَّامِعَ أَنَّ هذه الصِّفَةَ ثَابِتَةٌ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ وقد أَجَابَ الْقَرَافِيُّ عن هذا بِأَنَّ الْوَصْفَ إذَا كان غَالِبًا كان لَازِمًا لِتِلْكَ الْحَقِيقَةِ بِسَبَبِ الشُّهْرَةِ وَالْغَلَبَةِ فَذِكْرُهُ إيَّاهُ مع الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْحُكْمِ عليها لِغَلَبَةِ حُضُورِهِ في الذِّهْنِ لَا لِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِهِ وَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ غَالِبًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُذْكَرُ مع الْحَقِيقَةِ إلَّا لِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِهِ لِعَدَمِ مُقَارَنَتِهِ لِلْحَقِيقَةِ في الذِّهْنِ حِينَئِذٍ فَاسْتِحْضَارُهُ معه وَاسْتِجْلَابُهُ لِذِكْرِهِ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِفَائِدَةٍ وَالْفَرْضُ عَدَمُ ظُهُورِ فَائِدَةٍ أُخْرَى فَيَتَعَيَّنُ التَّخْصِيصُ وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ في هذا الشَّرْطِ أَيْضًا وَاعْتَرَضَ بِالِاسْتِفْسَارِ فقال ما تُرِيدُونَ بِالْغَالِبِ أَعَادَةُ الْفِعْلِ أَمْ عَادَةُ التَّخَاطُبِ فَإِنْ أُرِيدَ عَادَةُ الْفِعْلِ فَلَا نُسَلِّمُ إلَّا إذَا صَحِبَهَا عَادَةُ التَّخَاطُبِ وَدَعْوَى أَنَّ عَادَةَ الْفِعْلِ مُسْتَلْزِمَةٌ عَادَةَ التَّخَاطُبِ ضَعِيفَةٌ بِمَنْعِ

تَسْلِيمِ اللُّزُومِ وَلِأَنَّهُ إثْبَاتُ اللُّغَةِ لِغَلَبَتِهَا وهو وَاهٍ جِدًّا وَإِنْ أُرِيدَ عَادَةُ التَّخَاطُبِ فَإِثْبَاتُهَا في مَوْضِعِ الدَّعْوَى عَسِيرٌ الثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ عَهْدٌ وَإِلَّا فَلَا مَفْهُومَ له وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ اللَّقَبِ من إيقَاعِ التَّعْرِيفِ عليه إيقَاعُ الْعِلْمِ على مُسَمَّاهُ وَهَذَا الشَّرْطُ يُؤْخَذُ من تَعْلِيلِهِمْ إثْبَاتَ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنَّهُ لو لم يَقْصِدْ نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَمَا كان لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ وَقَوْلُهُمْ في مَفْهُومِ الِاسْمِ إنَّهُ إنَّمَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْغَرَضَ منه الْإِخْبَارُ عن الْمُسَمَّى فَلَا يَكُونُ حُجَّةً الثَّالِثُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ زِيَادَةُ الِامْتِنَانِ على الْمَسْكُوتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِتَأْكُلُوا منه لَحْمًا طَرِيًّا فَلَا يَدُلُّ على مَنْعِ الْقَدِيدِ الرَّابِعُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَنْطُوقُ خَرَجَ لِسُؤَالٍ عن حُكْمِ أَحَدِ الصِّنْفَيْنِ وَلَا حَادِثَةَ خَاصَّةٌ بِالْمَذْكُورِ وَلَك أَنْ تَقُولَ كَيْفَ جَعَلُوا هُنَا السَّبَبَ قَرِينَةً صَارِفَةً عن إعْمَالِ الْمَفْهُومِ ولم يَجْعَلُوهُ صَارِفًا عن إعْمَالِ الْعَامِّ بَلْ قَدَّمُوا مُقْتَضَى اللَّفْظِ على السَّبَبِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كما قَالُوهُ فَهَلَّا جَرَى فيه خِلَافٌ الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أو بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا سِيَّمَا إذَا قُلْنَا إنَّ الْمَفْهُومَ عَامٌّ ثُمَّ رَأَيْت صَاحِبَ الْمُسَوَّدَةِ حَكَى عن الْقَاضِي أبي يَعْلَى من أَصْحَابِهِمْ فيه احْتِمَالَيْنِ وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ ضَعِيفَةٌ تَسْقُطُ بِأَدْنَى قَرِينَةٌ بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْله تَعَالَى لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً فَلَا مَفْهُومَ لِلْأَضْعَافِ إلَّا عن النَّهْيِ عَمَّا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ بِسَبَبِ الْآجَالِ كان الْوَاحِدُ منهم إذَا حَلَّ دَيْنُهُ يقول له إمَّا أَنْ تُعْطِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ فَيُضَاعَفُ بِذَلِكَ أَصْلُ دَيْنِهِ مِرَارًا كَثِيرَةً فَنَزَلَتْ الْآيَةُ على ذلك الْخَامِسُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَذْكُورُ قُصِدَ بِهِ التَّفْخِيمُ وَتَأْكِيدُ الْحَالِ كَقَوْلِهِ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فإن التَّقْيِيدَ بِالْإِيمَانِ لَا مَفْهُومَ له وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِتَفْخِيمِ الْأَمْرِ لَا الْمُخَالَفَةِ وَكَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْحَجُّ عَرَفَةَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ منه إنَّمَا الرِّبَا في النَّسِيئَةِ إذْ كان أَصْلُ الرِّبَا عِنْدَهُمْ وَمُعْظَمُهُ إنَّمَا هو النَّسِيئَةُ

السَّادِسُ أَنْ يُذْكَرَ مُسْتَقِلًّا فَلَوْ ذُكِرَ على جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ لِشَيْءٍ آخَرَ فَلَا مَفْهُومَ له كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ فإن قَوْلَهُ في الْمَسَاجِدِ لَا مَفْهُومَ له بِالنِّسْبَةِ لِمَنْعِ الْمُبَاشَرَةِ فإن الْمُعْتَكِفَ يَحْرُمُ عليه الْمُبَاشَرَةُ مُطْلَقًا السَّابِعُ أَنْ لَا يَظْهَرَ من السِّيَاقِ قَصْدُ التَّعْمِيمِ فَإِنْ ظَهَرَ فَلَا مَفْهُومَ له كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ على الْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فإن الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ كل شَيْءٍ التَّعْمِيمُ في الْأَشْيَاءِ الْمُمْكِنَةِ لَا قَصْرُ الْحُكْمِ الثَّامِنُ أَنْ لَا يَعُودَ على أَصْلِهِ الذي هو الْمَنْطُوقُ بِالْإِبْطَالِ فَلَا يُحْتَجُّ على صِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ الذي عِنْدَ الْبَائِعِ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ لَا تَبِعْ ما ليس عِنْدَك إذْ لو صَحَّ لَصَحَّ بَيْعُ ما ليس عِنْدَهُ الذي نَطَقَ الْحَدِيثُ بِمَنْعِهِ لِأَنَّ أَحَدًا لم يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا وَشَرَطَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَنْطُوقُ مَعْنَاهُ خَاصًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أو على سَفَرٍ إلَى قَوْلِهِ فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَتَقْيِيدُ التَّيَمُّمِ بِالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ شَرْطٌ في إبَاحَتِهِ فَإِنْ كان مَعْنَاهُ عَامًّا لم يَكُنْ له مَفْهُومٌ وَسَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ كَتَقْيِيدِ الْفِطْرِ بِالْخَوْفِ وَالْكَفَّارَةِ بِقَتْلِ الْعَمْدِ وَقَالَا عَمَّمَ دَاوُد وَأَهْلُ الظَّاهِرِ الْحُكْمَ في الْمُقَيَّدِ اعْتِبَارًا بِاللَّفْظِ لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ على النُّصُوصِ دُونَ الْمَعَانِي عِنْدَهُمْ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ وَلَا يُسْتَبَاحُ قَتْلُهُمْ مع أَمْنِ إمْلَاقٍ وقال وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ على الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا وَلَا يَجُوزُ الْإِكْرَاهُ وَإِنْ لم يُرِدْنَ التَّحَصُّنَ فلما سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ في هذا ولم يَصِرْ نَسْخًا جَازَ أَنْ يَسْقُطَ غَيْرُهُ فَإِنْ قِيلَ إذَا سَقَطَ التَّقْيِيدُ كان مُقَيَّدًا قُلْنَا يَحْتَمِلُ ذِكْرُ التَّقْيِيدِ مع سُقُوطِ حُكْمِهِ أُمُورًا منها أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمَسْكُوتِ عنه مَأْخُوذًا من حُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ لِيَسْتَعْمِلَهُ

الْمُجْتَهِدُ فِيمَا إذَا لم يَجِدْ فيه نَصًّا فإن الْحَوَادِثَ غَيْرُ مُنْقَرِضَةٍ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لِلتَّنْبِيهِ على غَيْرِهِ كما في قَوْله تَعَالَى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ من إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ من إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ فَنَبَّهَ بِالْقِنْطَارِ على الْكَثِيرِ وَبِالدِّينَارِ على الْقَلِيلِ وَإِنْ كان حُكْمُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءً وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ هو الْأَغْلَبُ من أَحْوَالِ ما قُيِّدَ بِهِ فَيَذْكُرُهُ لِغَلَبَتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ الْآيَةَ وَإِنْ كانت مُفَادَاةُ الزَّوْجَيْنِ تَجُوزُ مع وُجُودِ الْحَدِّ وَعَدَمِهِ وَإِنْ احْتَمَلَ هذه الْأُمُورَ وَغَيْرَهَا وَجَبَ النَّظَرُ في كل مُقَيَّدٍ فَإِنْ ظَهَرَ دَلِيلٌ على عَدَمِ تَأْثِيرِهِ سَقَطَ حُكْمُ التَّقْيِيدِ وَصَارَ في عُمُومِ حُكْمِهِ كَالْمُطْلَقِ وَإِنْ عُدِمَ الدَّلِيلُ وَجَبَ حُكْمُهُ على تَقْيِيدٍ وَجُعِلَ شَرْطًا في ثُبُوتِ حُكْمِهِ

فَصْلٌ في أَنْوَاعِهِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مَفْهُومُ اللَّقَبِ وهو تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ نَحْوُ قام زَيْدٌ أو اسْمِ نَوْعٍ نَحْوُ في الْغَنَمِ زَكَاةٌ فَلَا يَدُلُّ على نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ وقد نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ كما قَالَهُ في الْبُرْهَانِ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ لم يَخْتَلِفْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُهُ فيه وَخَالَفَ فيه أبو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ وَبِهِ اُشْتُهِرَ وَزَعَمَ ابن الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لم يَقُلْ بِهِ من أَصْحَابِنَا غَيْرُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ قال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ ثَارَ إلَيْهِ الدَّقَّاقُ وَغَيْرُهُ من أَصْحَابِنَا وَرَأَيْت في كِتَابِ ابْنِ فُورَكٍ حِكَايَتَهُ عن بَعْضِ أَصْحَابِنَا ثُمَّ قال وهو الْأَصَحُّ وقال إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ في التَّلْوِيحِ إنَّ أَبَا بَكْرِ بن فُورَكٍ كان يَمِيلُ إلَيْهِ وَيَقُولُ إنَّهُ الْأَظْهَرُ وَالْأَقْيَسُ وَحَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ في نَتَائِجِ الْفِكْرِ عن أبي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ وَلَعَلَّهُ تَحَرَّفَ عليه بِالدَّقَّاقِ وَنَقَلَهُ عبد الْعَزِيزِ في التَّحْقِيقِ عن أبي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ وَالْمَعْرُوفُ عن أبي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ إنْكَارُ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ مُطْلَقًا وقال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ في أَوَائِلِ الْمَفْهُومِ في الْبُرْهَانِ ما صَارَ إلَيْهِ الدَّقَّاقُ صَارَ إلَيْهِ طَوَائِفُ من أَصْحَابِنَا وَنَقَلَهُ أبو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ في التَّمْهِيدِ عن مَنْصُوصِ أَحْمَدَ قال وَبِهِ قال مَالِكٌ وَدَاوُد وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ا هـ وقال الْمَازِرِيُّ أُشِيرَ إلَى مَالِكٍ الْقَوْلُ بِهِ لِاسْتِدْلَالِهِ في الْمُدَوَّنَةِ على عَدَمِ إجْزَاءِ الْأُضْحِيَّةِ إذَا ذُبِحَتْ لَيْلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ قال فذكر الْأَيَّامَ ولم يذكر اللَّيَالِي وَنُقِلَ الْقَوْلُ بِهِ عن ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَالْبَاجِيِّ وَابْنِ الْقَصَّارِ وَحَكَى ابن بَرْهَانٍ في الْوَجِيزِ قَوْلًا ثَالِثًا عن بَعْضِ عُلَمَائِنَا وهو الْفَرْقُ بين أَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ فَيَدُلُّ على نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ نَحْوُ في السُّودِ من النَّعَمِ الزَّكَاةُ وَبَيْنَ أَسْمَاءِ

الْأَشْخَاصِ إلَّا أَنَّ مَدْلُولَ أَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ أَكْثَرُ وَهُمَا في الدَّلَالَةِ مُتَسَاوِيَانِ وَحَكَى ابن حَمْدَانَ وأبو يَعْلَى من الْحَنَابِلَةِ قَوْلًا رَابِعًا وهو الْفَرْقُ بين أَنْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ فَيَكُونَ حُجَّةً كَقَوْلِهِ جُعِلَتْ لي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا إذْ قَرِينَةُ الِامْتِنَانِ تَقْتَضِي الْحَصْرَ فيه قال إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وقد سَفَّهُ الْأُصُولِيُّونَ الدَّقَّاقَ وَمَنْ قال بِمَقَالَتِهِ وَقَالُوا هذا خُرُوجٌ عن حُكْمِ اللِّسَانِ فإن من قال رَأَيْت زَيْدًا لم يَقْتَضِ أَنَّهُ لم يَرَ غَيْرَهُ قَطْعًا وَلِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ على جَوَازِ التَّعْلِيلِ وَالْقِيَاسِ فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ تَخْصِيصَ الرِّبَا بِالِاسْمِ لَا يَدُلُّ على نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ وَلَوْ قُلْنَا بِهِ بَطَلَ الْقِيَاسُ قال وَعِنْدِي أَنَّ الْمُبَالَغَةَ في الرَّدِّ عليه سَرَفٌ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ من غَيْرِ غَرَضٍ ثُمَّ اخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالِاسْمِ يَتَضَمَّنُ غَرَضًا مُبْهَمًا وَلَا يَتَعَيَّنُ انْتِفَاءُ غَيْرِ الْمَذْكُورِ ثُمَّ قال وأنا أَقُولُ وَرَاءَ ذلك لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُون من غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ في التَّخْصِيصِ نَفْيُ ما عَدَا الْمُسَمَّى بِلَقَبِهِ فإن الْإِنْسَانَ لَا يقول رَأَيْت زَيْدًا وهو يُرِيدُ الْإِشْعَارَ بِأَنَّهُ لم يَرَ غَيْرَهُ فَإِنْ هو أَرَادَ ذلك قال إنَّمَا رَأَيْت زَيْدًا وما رَأَيْت إلَّا زَيْدًا وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّخْصِيصَ بِاللَّقَبِ يَتَضَمَّنُ غَرَضًا مُبْهَمًا وَلَا يَتَضَمَّنُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ في الْمَسْكُوتِ وَالدَّقَّاقُ يقول يَتَضَمَّنُ غَرَضًا مُعَيَّنًا وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ أَنَّهُ حُجَّةٌ مع قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ قال وَلِهَذَا رَدَدْنَا على ابْنِ الْمَاجِشُونِ في تَعْلِيلِهِ تَخْصِيصَ الْأَرْبَعَةِ في الرِّبَا بِالذِّكْرِ حَيْثُ عَلَّلَ الرِّبَا بِالْمَالِيَّةِ الْعَامَّةِ إنْ قُلْنَا لم تَكُنْ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ غَالِبَ ما يُعَامَلُ بِهِ وكان الْحِجَازُ مَصَبَّ التُّجَّارِ في الْأَعْصَارِ الْخَالِيَةِ فَلَوْ ارْتَبَطَ الْحُكْمُ بِالْمَالِيَّةِ لَكَانَ التَّنْصِيصُ عليها أَسْهَلَ من التَّخْصِيصِ كما في الْعَارِيَّةِ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تُؤَدِّيَهُ فَكَانَ هذا مَأْخُوذًا من قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مع التَّخْصِيصِ بِاللَّقَبِ

وَهَاهُنَا أُمُورٌ مُهِمَّةٌ أَحَدُهَا أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ قال في كِتَابِهِ شَرْحِ التَّرْتِيبِ إنَّ أَبَا عبد اللَّهِ الْبَصْرِيَّ أَلْزَمَ الدَّقَّاقَ ذلك في مَجْلِسِ النَّظَرِ فَالْتَزَمَهُ قال وَكُنَّا نُكَلِّمُهُ في هذا في الدَّرْسِ فَأَلْزَمْنَاهُ أَنَّهُ إذَا قال له صُمْ يَجِبُ أَنْ يَدُلَّ على مَنْعِ الصَّلَاةِ وإذا قال صَلِّ يَجِبُ أَنْ يَمْتَنِعَ من الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا من الْعِبَادَاتِ فقال كَذَلِكَ أَقُولُ فَقُلْنَا إذَا قال لِوَاحِدٍ من جُمْلَةِ الْقَوْمِ يا زَيْدُ تَعَالَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْبَاقِينَ أَنْ يَأْتُوهُ قال كَذَلِكَ أَقُولُ فَقُلْنَا إذَا وَصَلْنَا إلَى هذا سَقَطَ الْكَلَامُ قال الْأُسْتَاذُ وَهَذَا الذي رَكَّبَهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ مِمَّا يَتَخَالَجُ لِقَبُولِهِ في الْقُلُوبِ وَجْهٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ أَلْبَتَّةَ قال وَلَوْ تَصَوَّرَ دَلِيلَ الْخِطَابِ لم يَصِرْ إلَى ذلك ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ صُورَتَهُ أَنْ يَذْكُرَ الشَّيْءَ بِلَفْظِهِ الْعَامِّ مُقَيَّدًا بِأَحَدِ أَوْصَافِهِ نَحْوُ اُقْتُلْ أَهْلَ الْكِتَابِ الْيَهُودَ منهم قال وكان الدَّقَّاقُ إذَا جَرَى له كَلَامٌ في مِثْلِهِ يَذْكُرُهُ في مَجْلِسِ الدَّرْسِ وَيُعِيدُهُ وَيَتَحَجَّجُ له وَيَنْصُرُهُ وَرَأَيْنَاهُ كَأَنَّهُ اسْتَحَى من هذا الْقَوْلِ الذي رَكَّبَهُ في دَلِيلِ الْخِطَابِ فلم نَرَهُ عَادَ إلَيْهِ أو تَكَلَّمَ بِهِ في كِتَابٍ ا هـ وَهَذَا يَدُلُّ على رُجُوعِ الدَّقَّاقِ عن هذا الرَّأْيِ أو تَوَقُّفِهِ فيه وَلَيْسَ ما أُلْزِمَ بِهِ الدَّقَّاقُ بِعَجِيبٍ لِأَنَّهُ يقول أَقُولُ بِذَلِكَ ما لم يَقُمْ دَلِيلُ النُّطْقِ بِخِلَافِهِ الْأَمْرُ الثَّانِي إطْلَاقُ أَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ ليس بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا قد اسْتَشْكَلَ فإن أَصْحَابَنَا قد قالوا بِهِ في مَوَاضِعَ وَاحْتَجُّوا بِهِ كَاحْتِجَاجِهِمْ في تَعْيِينِ الْمَاءِ في إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِحَدِيثِ حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ وَعَلَى تَعْيِينِ التُّرَابِ بِالتَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا وَالْحَقُّ أَنَّ ذلك ليس من اللَّقَبِ بَلْ من قَاعِدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ مَتَى انْتَقَلَ من الِاسْمِ الْعَامِّ إلَى الْخَاصِّ أَفَادَ الْمُخَالَفَةَ فلما تَرَكَ الِاسْمَ الْعَامَّ وهو الْأَرْضُ إلَى الْخَاصِّ وهو التُّرَابُ جُعِلَ دَلِيلًا وَأَمَّا في الِاسْمِ فَلِأَنَّ امْتِثَالَ الْمَأْمُورِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْمُعَيَّنِ وقال في شَرْحِ الْإِلْمَامِ الْأَمْرُ إذَا تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَقَعُ الِامْتِثَالُ إلَّا بِذَلِكَ الشَّيْءِ لِأَنَّهُ قبل فِعْلِهِ لم يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ عن الْعُهْدَةِ وَسَوَاءٌ كان الذي تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ صِفَةً أو لَقَبًا عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ من تَوَقُّفِ الِامْتِثَالِ عليه وكان بَعْضُ أَصْحَابِنَا قد اعْتَرَضَ في مَسْأَلَةِ تَعْيِينِ الْمَاءِ في النَّجَاسَةِ بِقَوْلِهِ عليه السَّلَامُ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ بِأَنَّهُ حُكْمٌ عُلِّقَ بِلَقَبٍ وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ ليس بِحُجَّةٍ فَيُقَالُ عليه

مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ لَا بُدَّ له منه لِضَرُورَةِ الِامْتِثَالِ وَلَا نَظَرَ هُنَا لِكَوْنِهِ لَقَبًا أو صِفَةً وَإِنَّمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا في مَحَلِّ الْحُكْمِ وهو الدَّمُ مَثَلًا فَلَا يُقَالُ إنَّهُ يَدُلُّ على أَنَّ غير الدَّمِ يَجُوزُ غَسْلُهُ بِغَيْرِ الْمَاءِ عَمَلًا بِالْمَفْهُومِ لِأَنَّ الدَّمَ لَقَبٌ لَا يَدُلُّ على انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ ا هـ وقال الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى في الذَّرِيعَةِ احْتَجُّوا على أَنَّ غير الْمَاءِ لَا يُطَهِّرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْزَلْنَا من السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا فَنَقُولُ الْحُكْمُ غَيْرُ الْمَاءِ وهو مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْمِ لَا بِالصِّفَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ من اسْتَدَلَّ بهذا إنَّمَا عُوِّلَ على أَنَّ الِاسْمَ يَجْرِي فيها مَجْرَى الصِّفَةِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ الْمَاءُ يُخَالِفُ اتِّصَافَهُ فَأُجْرِيَ مَجْرَى كَوْنِ الْإِبِلِ سَائِمَةً أو عَامِلَةً وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ إذَا لم يُوجَدْ فيه رَائِحَةُ التَّعْلِيلِ فَإِنْ وُجِدَ كان حُجَّةً وقد أَشَارَ إلَى ذلك ابن دَقِيقِ الْعِيدِ فقال في قَوْلِهِ إذَا اسْتَأْذَنَتْ أَحَدَكُمْ امْرَأَتُهُ إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا يُحْتَجُّ بِهِ على أَنَّ الزَّوْجَ يَمْنَعُ امْرَأَتَهُ من الْخُرُوجِ إلَّا بِإِذْنِهِ لِأَجْلِ تَخْصِيصِ النَّهْيِ بِالْخُرُوجِ لِلْمَسَاجِدِ فَيَقْتَضِي بِمَفْهُومِهِ جَوَازُ الْمَنْعِ في غَيْرِ الْمَسَاجِدِ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ هُنَا مَوْجُودٌ وهو أَنَّ الْمَسْجِدَ فيه مَعْنًى مُنَاسِبٌ وهو مَحَلُّ الْعِبَادَةِ فَلَا يُمْنَعُ من التَّعَبُّدِ فَلَا يَكُونُ ذلك من مَفْهُومِ اللَّقَبِ قُلْت وَلِهَذَا يَنْفَصِلُ الْجَوَابُ عن اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ فإن في اخْتِصَاصِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ مَعْنًى لَا يُوجَدُ في غَيْرِهِمَا وقال الْإِبْيَارِيُّ ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الْمَنْفِيَّ مَأْخُوذٌ من الْمَفْهُومِ وهو غَلَطٌ فإذا قال لِوَكِيلِهِ بِعْ غَانِمًا لَا يَتَمَكَّنُ من بَيْعِ سَالِمٍ لَا لِأَجْلِ النَّصِّ على بَيْعِ غَانِمٍ وَلَكِنَّهُ لَا يَبِيعُ إلَّا بِإِذْنٍ وَالْحَجْرُ سَابِقٌ وَالْإِذْنُ قَاصِرٌ فَيَبْقَى الْحَجْرُ على ما كان عليه في غَيْرِ مَحَلِّ الْإِذْنِ قُلْت قال الْأَصْحَابُ لو قال لِوَكِيلِهِ بِعْ هذا من زَيْدٍ تَعَيَّنَ عليه بَيْعُهُ منه فَلَا يَبِيعُهُ من غَيْرِهِ لِأَنَّهُ قد يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ غَرَضٌ في تَخْصِيصِهِ لِكَوْنِ مَالِهِ أَقْرَبَ إلَى الْحِلِّ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ رَائِحَةُ التَّعْلِيلِ فَلِهَذَا قُلْنَا بِهِ وَلِهَذَا قال الْمَاوَرْدِيُّ لو مَاتَ

ذلك الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بِخِلَافِ ما لو امْتَنَعَ من الشِّرَاءِ فإنه يَجُوزُ أَنْ يَرْغَبَ بَعْدَ ذلك وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ تُبَاعَ الْعَيْنُ الْفُلَانِيَّةُ من زَيْدٍ فَإِنْ كانت مُحَابَاةً صَحَّ وَتَعَيَّنَتْ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ وَإِنْ لم تَكُنْ مُحَابَاةً فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ حِينَئِذٍ وَلَوْ قالت الْمَرْأَةُ لِلْأَوْلِيَاءِ غَيْرِ الْمُجْبِرِينَ رَضِيت بِأَنْ أُزَوَّجَ من فُلَانٍ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ وَلِكُلٍّ منهم تَزْوِيجُهَا منه فَلَوْ عَيَّنَتْ بَعْدَ ذلك وَاحِدًا فَهَلْ يَنْعَزِلُ الْآخَرُونَ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ عَدَمُ الِانْعِزَالِ قال الرَّافِعِيُّ وَبَنَاهُ بَعْضُهُمْ على أَنَّ الْمَفْهُومَ هل هو حُجَّةٌ أَمْ لَا وَلَوْ قال الْيَهُودِيُّ عِيسَى رسول اللَّهِ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ في كِتَابِ الرِّدَّةِ قال لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لو جَحَدَ نُبُوَّتَهُ كَفَرَ وَحَكَاهُ الْإِمَامُ في كِتَابِ الْكَفَّارَاتِ عن الْمُحَقِّقِينَ قال الرَّافِعِيُّ ثَمَّ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافُهُ وفي هذا نَفْيُ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ الثَّالِثُ قال ابن الْحَاجِّ في تَعْلِيقِهِ على الْمُسْتَصْفَى يَنْبَغِي تَحَقُّقُ الْمُرَادِ بِاللَّقَبِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُرْتَجَلَ فَقَطْ بَلْ الْمُرْتَجَلُ وَالْمَنْقُولُ من الصِّفَاتِ وقد جَعَلَ الْغَزَالِيُّ منه لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ لِأَنَّ الطَّعَامَ لَقَبٌ لِجِنْسِهِ وَإِنْ كان مُشْتَقًّا مِمَّا يُطْعَمُ إذْ لَا يُدْرَكُ فَرْقٌ بين قَوْلِهِ في الْغَنَمِ زَكَاةٌ وفي الْمَاشِيَةِ زَكَاةٌ وَإِنْ كانت الْمَاشِيَةُ مُشْتَقَّةً ا هـ وما ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ من إلْحَاقِ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ الدَّالِّ على الْجِنْسِ بِاللَّقَبِ تَبِعَهُ عليه الْآمِدِيُّ لِأَنَّ الصِّفَةَ فيه لَيْسَتْ مُتَخَيَّلَةً إذْ الطَّعَامُ لَا يُنَاسِبُ حُكْمَ الرِّبَا لَكِنْ قال الْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ يَلْحَقُ بِالصِّفَةِ الصَّرِيحَةِ وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْمُشْتَقَّ يَتَضَمَّنُ صِفَةً وَجَزَمَ بِهِ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ اسْمَ الْجِنْسِ وَالْعَلَمَ من بَابِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ قال لِتَخْصِيصِ الرِّبَوِيَّاتِ السِّتَّةِ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ وَقَوْلُنَا زَيْدٌ عَالِمٌ وقال الْقَرَافِيُّ قال التَّبْرِيزِيُّ اللَّقَبُ كَالْأَعْلَامِ وَأَلْحَقَ بها أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ قال وَغَيْرُهُ أَطْلَقَ في الْجَمِيعِ كَأَنَّهُ يُشِيرُ لِلْآمِدِيِّ قال ابن السَّمْعَانِيِّ وَأَمَّا تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا اسْمٌ مُشْتَقٌّ من مَعْنًى كَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالزَّانِي وَالْقَاتِلِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصِّفَةِ في قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وقال بَعْضُهُمْ يَنْظُرُ في الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ فَإِنْ كان لِمَعْنَى اشْتِقَاقِهِ تَأْثِيرٌ في الْحُكْمِ اسْتَعْمَلَ دَلِيلَ خِطَابِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ له تَأْثِيرٌ في الْحُكْمِ لم يَسْتَعْمِلْ دَلِيلَ خِطَابِهِ فَإِنْ ما لَا يُؤَثِّرْ في الْحُكْمِ لَا يَكُونُ عِلَّةً في الْحُكْمِ وَالثَّانِي اسْمُ لَقَبٍ غَيْرِ مُشْتَقٍّ من مَعْنًى كَالرَّجُلِ

وَالْمَرْأَةِ وَنَحْوِهِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ غَيْرُ حُجَّةٍ وَخَالَفَ فيه الدَّقَّاقُ قال وَيَلْتَحِقُ بِاللَّقَبِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ في هذا الْمَالِ الزَّكَاةُ وَعَلَى هذا الرَّجُلِ الْحَجُّ فَدَلِيلُ خِطَابِهِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ وَلَا يَدُلُّ وُجُوبُ الزَّكَاةِ في ذلك الْمَالِ على تَرْكِهَا في غَيْرِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا كَتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ ا ه

النَّوْعُ الثَّانِي مَفْهُومُ الصِّفَةِ وهو تَعْلِيقُ الْحُكْمِ على الذَّاتِ بِأَحَدِ الْأَوْصَافِ نَحْوُ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ وَكَتَعْلِيقِ نَفَقَةِ الْبَيْنُونَةِ على الْحَمْلِ وَشَرْطِ ثَمَرَةِ النَّخْلِ لِلْبَائِعِ إذَا كانت مُؤَبَّرَةً فَيَدُلُّ على أَنْ لَا زَكَاةَ في الْمَعْلُوفَةِ وَلَا نَفَقَةَ لِلْحَامِلِ وَلَا ثَمَرَةَ لِبَائِعِ النَّخْلَةِ غَيْرِ الْمُؤَبَّرَةِ وَالْمُرَادُ بِالصِّفَةِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ تَقْيِيدُ لَفْظٍ مُشْتَرَكِ الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ مُخْتَصٍّ ليس بِشَرْطٍ وَلَا غَايَةٍ وَلَا يُرِيدُونَ بها النَّعْتَ فَقَطْ كَالنُّحَاةِ وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ تَمْثِيلُهُمْ بِ مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ مع أَنَّ التَّقْيِيدَ بِهِ إنَّمَا هو بِالْإِضَافَةِ فَقَطْ وقد جَعَلُوهُ صِفَةً إذَا عَلِمْت ذلك فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ الْفُقَهَاءِ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ على نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ وَحَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عن اخْتِيَارِ الْمُزَنِيّ وَالْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنِ خَيْرَانَ قال وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وأبو ثَوْرٍ قُلْت وأبو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَنَقَلَهُ في كِتَابِهِ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ فقال قال الشَّافِعِيُّ وَمَعْقُولٌ في لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا كان له وَصْفَانِ فَوُصِفَ أَحَدُهُمَا بِصِفَةٍ أَنَّ ما لم يَكُنْ فيه تِلْكَ الصِّفَةُ بِخِلَافِهِ ا هـ وَكَذَا حَكَاهُ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ وقال إنَّهُ نَصَّ عليه في كِتَابِ الزَّكَاةِ ثُمَّ حَكَى في الْقَوْلِ بِهِ بِمُجَرَّدِهِ وَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا قال الْقَاضِي وَيَدُلُّ عليه كَلَامُ شَيْخِنَا أبي الْحَسَنِ لِأَنَّهُ قال في إثْبَاتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ قال تَعَالَى إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا مَفْهُومُ ذلك يَدُلُّ على أَنَّ غير الْفَاسِقِ لَا نَتَبَيَّنُهُ وَتَمَسَّكَ أَيْضًا في إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ بِ كَلًّا إنَّهُمْ عن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال مَفْهُومُهُ يَقْتَضِي إثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ الْجِنَانِ وَهَذَا نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ أَيْضًا في أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وقال عبد الْوَهَّابِ في الْمُلَخَّصِ قال جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ وَنَصَّ عليه أبو الْفَرَجِ في اللُّمَعِ وهو ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ ا هـ وَبِهَذَا يُرَدُّ نَقْلُ صَاحِبِ الْمَعَالِمِ عن مَالِكٍ مُوَافَقَةً أبي حَنِيفَةَ قال ابن التِّلِمْسَانِيِّ وَلَعَلَّهُمَا يُنْقَلَانِ عنه بِالتَّخْرِيجِ في مَسَائِلَ

وفي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ في كِتَابِ الْجَنَائِزِ عن ابْنِ مَسْعُودٍ قال قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم من مَاتَ يُشْرِكُ بِاَللَّهِ دخل النَّارَ وَقُلْت أنا من مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شيئا دخل الْجَنَّةَ ا هـ وَهَذَا مُصَيَّرٌ منه إلَى الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ وَذَهَبَ أبو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَطَوَائِفُ من أَصْحَابِنَا وَالْمَالِكِيَّةُ إلَى نَفْيِهِ قال الْأُسْتَاذُ أبو مَنْصُورٍ وقد رَآهُ الْحَنَفِيَّةُ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ وَمَنْعُهُمْ من الزِّيَادَةِ على النَّصِّ ا هـ وهو اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَبِهِ قال ابن سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالُ زَادَ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ وأبو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ قال وَأَضَافَ ذلك ابن سُرَيْجٍ إلَى الشَّافِعِيِّ وَتَأَوَّلَ كَلَامَهُ الْمُقْتَضِي بِخِلَافِ ذلك وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ أَبَاحَ الْقَفَّالُ بِمُخَالَفَةِ الشَّافِعِيِّ في مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَأَمَّا ابن سُرَيْجٍ فَتَلَطَّفَ وقال إنَّمَا قال الشَّافِعِيُّ بِالْمَفْهُومِ بِدَلِيلٍ يَزِيدُ على نَفْسِ اللَّفْظِ لَا من نَفْسِ اللَّفْظِ ا هـ وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيَّ وَصَاحِبُ الْمَحْصُولِ فيه وَاخْتَارَ في الْمَعَالِمِ خِلَافَهُ وَمِمَّنْ صَارَ إلَيْهِ من أَهْلِ اللُّغَةِ الْأَخْفَشُ وابن فَارِسٍ في كِتَابِ فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ وابن جِنِّي وَذَهَبَ الْمَاوَرْدِيُّ من أَصْحَابِنَا إلَى التَّفْصِيلِ بين أَنْ يَقَعَ ذلك جَوَابَ سُؤَالٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ ذلك ابْتِدَاءً فَيَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ من مُوجِبٍ فلما خَرَجَ عن الْجَوَابِ ثَبَتَ وُرُودُهُ لِلْبَيَانِ قال وَهَذَا هو الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُجْعَلَ هذا مَذْهَبًا آخَرَ لِأَنَّ من شَرْطِ الْقَوْلِ بِالْمَفْهُومِ من أَصْلِهِ أَنْ لَا يَظْهَرَ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ غَيْرُ نَفْيِ الْحُكْمِ وَذَهَبَ أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ فِيمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ في ثَلَاثِ صُوَرٍ أَنْ يَرِدَ مَوْرِدَ الْبَيَانِ كَقَوْلِهِ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ أو مَوْرِدَ التَّعْلِيمِ نَحْوُ خَبَرِ التَّحَالُفِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ أو يَكُونُ ما عَدَا الصِّفَةَ دَاخِلًا تَحْتَ الصِّفَةِ نَحْوُ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ يَدُلُّ على نَفْيِهِ عن الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الشَّاهِدَيْنِ وَلَا يَدُلُّ على نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا سِوَى ذلك وَفَصَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ بين الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ وَغَيْرِهِ فقال بِمَفْهُومِ الْأَوَّلِ دُونَ

الثَّانِي وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ ما نَقَلَهُ الرَّازِيَّ عنه من الْمَنْعِ وابن الْحَاجِبِ من الْجَوَازِ وَإِلَّا فَهُمَا نَقْلَانِ مُتَنَافِيَانِ نعم صُرِّحَ في بَابِ الرِّبَا من الْأَسَالِيبِ بِعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ فقال إذَا عَلَّلْنَا بِالشَّيْءِ الْمُحْتَمَلِ فَلَا تُشْتَرَطُ الْإِحَالَةُ في الْمَفْهُومِ بَلْ نَقُولُ إذَا خُصِّصَ مَوْصُوفٌ بِذِكْرٍ أَيَنْفِي الْحُكْمَ عَمَّا عَدَاهُ وَإِنْ لم يَفْدِ إحَالَةً في الصِّفَةِ قال الْإِمَامُ وَمِنْ سِرِّ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ في الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ ما يُشْتَرَطُ في الْعِلَلِ من السَّلَامَةِ عن الْقَوَادِحِ وَصَلَاحِيَّتِهِ اسْتِقْلَالًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ في الْمَنْطُوقِ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُسْنَدُ إلَى الْمَعْنَى وَإِنَّمَا يُسْنَدُ إلَى اللَّفْظِ وَالْمُنَاسَبَةُ عِنْدَهُ مُعْتَبَرَةٌ لِتَرْجِيحِ قَصْدِ اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ وَقَطْعِ الْإِلْحَاقِ وَخَالَفَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الشَّافِعِيَّ في زِيَادَةِ هذا الشَّرْطِ وقال لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ لَا يُفْهَمُ منها مُنَاسَبَةُ الْحُكْمِ فَالْمَوْصُوفُ بها كَاللَّقَبِ قُلْت وَخَرَجَ من هذا أَنَّا إذَا أَثْبَتْنَاهُ فَهَلْ هو من جِهَةِ الْعِلَّةِ أو من جِهَةِ اللَّفْظِ قَوْلَانِ وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَهَذَا شَرْطُ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ وَعَلَى هذا مَحَلُّ الْقَوْلِ بِهِ إذَا كانت الصِّفَةُ في الْمَحْكُومِ عليه وَالْحُكْمُ تَعْلِيلٌ بها فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ انْتِفَائِهَا وَهَذَا التَّفْصِيلُ هو قَضِيَّةُ اخْتِيَارِ الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ كما ذَكَرَهُ الْمَازِرِيُّ وقد رَدَّ ابن السَّمْعَانِيِّ هذا التَّفْصِيلَ على الْإِمَامِ فإنه خِلَافُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيُّ وَبِأَنَّ الْعِلَّةَ ليس من شَرْطِهَا الِانْعِكَاسُ ا هـ وَالْإِمَامُ قد أَوْرَدَ هذا على نَفْسِهِ وَأَجَابَ بِأَنَّ قَضِيَّةَ اللِّسَانِ هِيَ الدَّالَّةُ عِنْدَ إحَالَةِ الْوَصْفِ على ما عَدَاهُ بِخِلَافِهِ وَزَعَمَ أَنَّ هذا وَضْعُ اللِّسَانِ وَمُقْتَضَاهُ وَالْحَالَةُ هذه وما ذَكَرَهُ من مُقْتَضَيَاتِ اللِّسَانِ بِخِلَافِ الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ وإذا قُلْنَا حُجَّةٌ فَهَلْ دَلَّ عليه اللُّغَةُ أَمْ اسْتَفَدْنَاهُ من جِهَةِ الشَّرْعِ على وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ في الْبَحْرِ وقد سَبَقَ أَنَّ ابْنَ السَّمْعَانِيِّ حَكَاهُمَا في صِيَغِ مَفَاهِيمِ الْمُخَالَفَةِ وَاخْتَارَ الْإِمَامُ في الْمَعَالِمِ أَنَّهُ يَدُلُّ بِالْعُرْفِ لَا بِاللُّغَةِ لِأَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَقْصِدُونَهُ وَإِلَّا لم يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ وَأَمَّا انْتِقَاؤُهُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ فَلِأَنَّ مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ في تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالصِّفَةِ وهو غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلِانْتِفَاءِ في الصُّورَةِ الْأُخْرَى وَإِلَّا لَمَا كانت الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ مُمْكِنَةً وهو الْمَطْلُوبُ ثُمَّ إنَّ الصِّفَةَ على قِسْمَيْنِ تَارَةً يُقْتَصَرُ على ذِكْرِ الصِّفَةِ من غَيْرِ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ كَقَوْلِهِ في السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ وَتَارَةً تُذْكَرُ الصِّفَةُ وَالْمَوْصُوفُ مَعًا كَقَوْلِهِ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ

فَدَلَالَةُ هذا على الِاخْتِصَاصِ أَقْوَى من التَّرَتُّبِ على مُجَرَّدِ الصِّفَةِ إذْ لَوْلَا اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِحَالَةِ السَّوْمِ لَوَقَعَ ذِكْرُ السَّوْمِ لَغْوًا لَا فَائِدَةَ فيه وقال بَعْضُهُمْ صُورَةُ مَفْهُومِ الصِّفَةِ أَنْ تُذْكَرَ ذَاتٌ ثُمَّ تُذْكَرَ صِفَتُهَا كَالْغَنَمِ السَّائِمَةِ وَالرَّجُلِ الْقَائِمِ أَمَّا إذَا ذُكِرَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ كَالْقَائِمِ فَقَطْ أو السَّائِمَةِ فَقَطْ فَهَلْ هو كَالصِّفَةِ أو لَا مَفْهُومَ له لِأَنَّ الصِّفَةَ إنَّمَا جُعِلَ لها مَفْهُومٌ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لها إلَّا نَفْيُ الْحُكْمِ وَالْكَلَامُ بِدُونِهَا لَا يُحْتَمَلُ وَأَمَّا الْمُشْتَقُّ فَكَاللَّقَبِ يَخْتَلُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك كما حَكَاهُ الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَعِبَارَةُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ كَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ يَجْرِي مَجْرَى تَعْلِيقِهِ بِالصِّفَةِ في اسْتِعْمَالِ دَلِيلِهِ في قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وقال بَعْضُهُمْ يُنْظَرُ في الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ فَإِنْ صَلَحَ لِلْغَلَبَةِ اُسْتُعْمِلَ وَإِلَّا فَلَا ا هـ وَجَعَلَ أبو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ أَدَبِ الْجَدَلِ له مَحَلَّ الْخِلَافِ في الِاقْتِصَارِ على الصِّفَةِ دُونَ الِاسْمِ فإن ذُكِرَا جميعا كَقَوْلِهِ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ زَكَاةٌ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعًا يُسْتَدَلُّ بِهِ على نَفْيِ الزَّكَاةِ في الْمَعْلُوفَةِ لَكِنْ اخْتَلَفُوا هل يُسْتَدَلُّ بِهِ على نَفْيِ الزَّكَاةِ عن سَائِمَةِ غَيْرِ الْغَنَمِ على وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ وَإِلَّا لَكَانَ اسْتِدْلَالًا بِالْأَلْقَابِ وَأَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِشَرْطَيْنِ كَوْنُهَا غَنَمًا وَكَوْنُهَا سَائِمَةً وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ يَسْقُطُ بِسُقُوطِ أَحَدِهِمَا ا هـ وقد سَبَقَ الْوَجْهَانِ قال فَإِنْ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِنَوْعٍ من جِنْسٍ كَقَوْلِهِ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ فَهَلْ يَدُلُّ على أَنَّ شَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَجِلْدَهُ وَشَعْرَهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَهَلْ يَدُلُّ على أَنَّ لَحْمَ الشَّاةِ وَالْبَقَرَةِ وَغَيْرِهِ حَلَالٌ أَمْ لَا على وَجْهَيْنِ كما ذَكَرْنَا ا هـ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ هذا إذَا كانت الصِّفَةُ مَقْصُودَةً فَإِنْ كانت غير مَقْصُودَةٍ لِذَلِكَ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ إلَى قَوْله وَمَتِّعُوهُنَّ لم يَكُنْ له دَلِيلٌ في أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّ الصِّفَةَ لم تُذْكَرْ لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بها وَإِنَّمَا قُصِدَ بَيَانُ رَفْعِ الْحَرَجِ عَمَّنْ طَلَّقَ قبل الْمَسِيسِ وَالْفَرْضِ هذا الْحُكْمُ وهو إيجَابُ الْمُتْعَةِ على وَجْهِ التَّبَعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ ابْتِدَاءً غير مُعَلَّقٍ على الصِّفَةِ ا هـ وقال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ الْقِيَاسُ تَخْصِيصُ الْمُتْعَةِ لها لِأَنَّ الصِّفَةَ عُلِّقَ بها حُكْمَانِ فَاقْتَضَى انْتِفَاءَ الْحُكْمَيْنِ مَعًا بِانْتِفَائِهَا وقال الْإِبْيَارِيُّ مَوْضِعُ هذا الْخِلَافِ في

الْأَوْصَافِ التي تَطْرَأُ وَتَزُولُ كَقَوْلِهِ الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَالسَّائِمَةُ فيها الزَّكَاةُ وَأَمَّا التَّخْصِيصُ بِالصِّفَاتِ التي لَا تَطْرَأُ وَلَا تَزُولُ كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ نَحْوُ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ فَفِيهِ خِلَافٌ وَجَزَمَ الْعَبْدَرِيّ وابن الْحَاجِّ بِاشْتِرَاطِ هذا وَزَادَا شَرْطًا آخَرَ وهو أَنْ يَكُونَ نَقِيضُ الصِّفَةِ يَخْطِرُ بِالْبَالِ قال الْإِبْيَارِيُّ فَأَمَّا إذَا ذَكَرَ الِاسْمَ الْعَامَّ ثُمَّ ذَكَرَ الصِّفَةَ الْخَاصَّةَ في مَعْرِضِ الِاسْتِدْرَاكِ كَقَوْلِهِ من بَاعَ ثَمَرَةً غير مُؤَبَّرَةٍ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ وَكَقَوْلِهِ من يَلُومُ الْعُلَمَاءَ الصَّالِحِينَ فَقَدْ يُقَالُ لو كان الْحُكْمُ يَعُمُّهَا لَمَا أَنْشَأَ بَعْدَ ذلك اسْتِدْرَاكًا وَهَذَا ضَعِيفٌ نعم التَّخْصِيصُ يُفْهِمُ أَنَّ هذا هو الْمَنْطُوقُ بِهِ أَمَّا إنَّهُ يَنْفِي الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ فَلَا ا هـ وقد سَبَقَ في كَلَامِ السُّهَيْلِيِّ هذه الصُّورَةُ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ خَرَجَ لنا من هذا أَنَّ الصُّوَرَ ثَلَاثٌ الِاقْتِصَارُ على الصِّفَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِاسْمِ ثُمَّ الصِّفَةُ فِيهِمَا إمَّا أَنْ تَتَبَدَّلَ أو لَا وَبَقِيَتْ صُورَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ تَقَدُّمَ الصِّفَةِ نَحْوُ في سَائِمَةِ الْغَنَمِ وَهَذَا يَسْتَدْعِي تَجْدِيدَ عَهْدٍ بِمَا سَبَقَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّفَةِ التَّقْيِيدُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْبَيْضَاوِيِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ وَالْغَنَمُ مَوْصُوفٌ وَالسَّائِمَةُ صِفَةٌ في الْمَوْضِعَيْنِ قِيلَ وَالظَّاهِرُ تَغَايُرُهُمَا وَأَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ في أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَفْهُومَ صِلَةٍ لَكِنَّ الْمَفْهُومَ فِيهِمَا مُتَغَايِرٌ فَالْمُقَيَّدُ في قَوْلِنَا في الْغَنَمِ السَّائِمَةِ إنَّمَا هو الْغَنَمُ وفي قَوْلِنَا في سَائِمَةِ الْغَنَمِ إنَّمَا هو السَّائِمَةُ فَمَفْهُومُ الْأَوَّلِ عَدَمُ

وُجُوبِ الزَّكَاةِ في الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ إذْ لَوْلَا التَّقْيِيدُ بِالسَّوْمِ لَشَمِلَهَا لَفْظُ الْغَنَمِ وَمَفْهُومُ الثَّانِي عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ في سَائِمَةٍ غَيْرِ الْغَنَمِ كَالْبَقَرِ مَثَلًا إذْ لَوْلَا تَقْيِيدُ السَّائِمَةِ بِإِضَافَتِهَا إلَى الْغَنَمِ لَشَمِلَهَا لَفْظُ السَّائِمَةِ وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ في الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى هذا التَّرْكِيبِ الثَّانِي فَمِنْ بَابِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ وفي هذه الدَّعْوَى نَظَرٌ الثَّانِي هذا إذَا تَجَرَّدَتْ الصِّفَةُ عن دَلِيلٍ آخَرَ فَلَوْ اقْتَرَنَ بِالْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالصِّفَةِ حُكْمٌ مُطْلَقٌ قال ابن السَّمْعَانِيِّ في الْقَوَاطِعِ فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ في دَلِيلِ الْمُقَيَّدِ بِالصِّفَةِ هل يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا في الْمُطْلَقِ على قَوْلَيْنِ وَمِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ من عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا قَضِيَّتُهُ أَنْ لَا عِدَّةَ على غَيْرِ الْمَدْخُولِ بها وَدَلِيلُهُ وُجُوبُهَا على الْمَدْخُولِ بها ثُمَّ قال فَمَتِّعُوهُنَّ فَهَلْ يَكُونُ إطْلَاقُ الْمُتْعَةِ مَعْطُوفًا على الْعِدَّةِ في اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ بها على قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَصِيرُ الْمُتْعَةُ بِالْعَطْفِ على الْعِدَّةِ مَشْرُوطَةً بِعَدَمِ الدُّخُولِ وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ ومتعوهن لَا يُقَيَّدُ بِمَا تَقَدَّمَ الثَّالِثُ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا ما أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ عن أبي حَنِيفَةَ من إنْكَارِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ ليس على إطْلَاقِهِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ هُنَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرِدَ دَلِيلُ الْعُمُومِ ثُمَّ يَرِدُ إخْرَاجُ فَرْدٍ منه بِالْوَصْفِ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ كَقِيَامِ الدَّلِيلِ على وُجُوبِ زَكَاةِ الْغَنَمِ مُطْلَقًا ثُمَّ وَرَدَ الدَّلِيلُ بِتَقَيُّدِهَا بِالسَّائِمَةِ فيقول أبو حَنِيفَةَ لَا تَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهَا لِقِيَامِ دَلِيلِ الْعُمُومِ فَيَسْتَصْحِبُهُ وَلَا يُجْعَلُ لِلتَّقْيِيدِ بِالْوَصْفِ أَثَرًا معه وَالثَّانِي أَنْ يَرِدَ الْوَصْفُ مُبْتَدَأً كما يقول أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ الطِّوَالَ فَأَبُو حَنِيفَةَ يُوَافِقُ على أَنَّ غير الطِّوَالِ لَا يَجِبُ إكْرَامُهُمْ فَلْيُتَفَطَّنْ لِذَلِكَ الرَّابِعُ أَصْلُ وَضْعِ الصِّفَةِ أَنْ تَجِيءَ لِلتَّخْصِيصِ في النَّكِرَاتِ وَلِلتَّوْضِيحِ في الْمَعَارِفِ نَحْوُ مَرَرْت بِرَجُلٍ عَاقِلٍ وَزَيْدٍ الْعَالِمِ وقد تَجِيءُ لِمُجَرَّدِ الثَّنَاءِ كَصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أو لِمُجَرَّدِ الذَّمِّ نَحْوُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ أو لِلتَّوْكِيدِ نَحْوُ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ لَا مَفْهُومَ لها وقد تَتَرَدَّدُ بين التَّخْصِيصِ وَالتَّوْضِيحِ كما سَبَقَ ذِكْرُهُ في أَوَائِلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فَلْيُرَاجَعْ

النَّوْعُ الثَّالِثُ مَفْهُومُ الْعِلَّةِ وهو تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ مِثْلُ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِشِدَّتِهَا وَالسُّكْرُ لِحَلَاوَتِهِ يَدُلُّ على أَنَّ غير الشَّدِيدِ وَالْحُلْوِ لَا يُحَرَّمُ وَالْفَرْقُ بين هذا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَنَّ الصِّفَةَ قد تَكُونُ عِلَّةً كَالْإِسْكَارِ وقد لَا تَكُونُ بَلْ تَتِمَّةً لِلْعِلَّةِ كَالسَّوْمِ فإن الْعَيْنَ هِيَ الْعِلَّةُ وَالسَّوْمَ مُتَمِّمٌ قال الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ وَالْخِلَافُ فيه وفي مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَاحِدٌ وَصَمَّمَا على إنْكَارِهِ لَا سِيَّمَا إذَا جَوَّزْنَا تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عِنْدَ ثُبُوتِهَا وَلَا يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَائِهَا على ما يَقْتَضِيهِ الْأَصْلُ وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْعِلَّةِ مَعْرِفَةُ الْعِلَّةِ فَقَطْ تَنْبِيهٌ أَمَّا فَهْمُ الْعِلَّةِ من إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا فإنه كما فُهِمَ وُجُوبُ الْقَطْعِ وَالْجَلْدِ من الْمَنْطُوقِ بِهِ فُهِمَ كَوْنُ السَّرِقَةِ وَالزِّنَى عِلَّةَ الْحُكْمِ وهو إنْ كان غير مَنْطُوقٍ بِهِ لَكِنْ سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ من فَحَوَى الْكَلَامِ فلم يَجْعَلْهُ الْغَزَالِيُّ من الْمَفْهُومِ وَأَلْحَقَهُ بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ وَجَعَلَهُ ابن الْحَاجِبِ من أَقْسَامِ الْمَنْطُوقِ غَيْرِ الصَّرِيحِ

النوع الرابع مفهوم الشرط
اعلم أن الشرط في اصطلاح المتكلمين ما يتوقف عليه الشيء ولا يكون داخلا في الشيء ولا مؤثرا فيه وفي اصطلاح النحاة ما دخل عليه أحد الحرفين إن وإذا أو ما يقوم مقامهما من الأسماء والظروف الدالة على سببية الأول ومسببية الثاني وهو المراد هنا أعني اللغوي لا الشرعي والعقلي نحو وإن كن أولات حمل فيتعلق الحكم بوجوده إجماعا وينتفي بعدمه عند القائلين المفهوم قالوا وهو أقوى المفاهيم وأما المنكرون له فاختلفوا فذهب ابن سريج وابن الصباغ والكرخي

وأبو الحسين البصري إلى لزوم القول به ونقله إمام الحرمين عن أكثر العلماء ونقله ابن القشيري عن معظم أهل العراق ونقله أبو الحسن السهيلي في أدب الجدل عن أكثر الحنفية وذهب أكثر المعتزلة كما نقله في المحصول إلى المنع وقالوا لا ينتفي بعدمه بل هو باق على ما كان عليه قبل التعليق ورجحه المحققون من الحنفية ونقل عن أبي حنيفة ونقله ابن التلمساني عن مالك وهو اختيار القاضي والغزالي والآمدي وقد احتج القاضي حسين في باب الأصول والثمار من تعليقه على الحنفية بحديث يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب لماذا نقصر وقد أمنا وقال تعالى إن خفتم فقال له عمر تعجبت مما تعجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته قال وهما من صميم العرب وأرباب اللسان وعرفا من الآية أن المفهوم يعني الشرطي حجة وإنما تركاه لقول النبي صلى الله عليه وسلم ا هـ وقد بالغ إمام الحرمين في الرد على المنكرين لهذا المفهوم وقال من الصور التي يجب الاعتناء بها الشرط والجزاء فإن سلم الخصم اقتضاء الشرط تخصيص الجزاء به تعدينا هذه الرتبة وإن استقر على النزاع اكتفينا بنسبته إلى الجهالة باللسان أو المراغمة والعناد فنحن نعلم من مذهب العرب قاطبة أنها وضعت باب الشرط لتخصيص الجزاء به فإذا قال القائل من أكرمني أكرمته فقد أشعر باختصاص إكرامه بمن يكرمه ومن جوز أن يكون وضع هذا الكلام على أن يكرم مكرمه ويكرم غيره أيضا فقد آل الكلام معه إلى التسفيه والتجهيل والإحالة على تعلم مذهب العرب قيل وفيه نظر لأن النزاع في هذه المسألة راجع إلى أن مثل قول القائل من أكرمني أكرمته كما أنه يدل على إثبات إكرام مكرمه بطريق المنطوق هل يدل على نفي إكرام غير مكرمه بطريق المفهوم أم لا ولا خلاف في أن هذا الكلام لم يوضع لأن يكرم مكرمه ويكرم غير مكرمه فإنه لا دلالة له على إثبات إكرام غير مكرمه بالاتفاق لا بالمنطوق ولا بالمفهوم ولم

يصر إليه أحد من منكري المفهوم وإنما قالوا إنه لم يلزم إلا إكرام مكرمه خاصة وأما غير مكرمه فلا مدخل له في هذا الوعد ولا دلالة لمثل هذا الكلام على إكرامه بنفي ولا إثبات بل هو مسكوت عنه وهذا غير محال ولا مناف لاختصاص الجزاء بالشرط تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ سَبَقَ في التَّخْصِيصِ في الْكَلَامِ على الشَّرْطِ خِلَافٌ في أَنَّ مَجْمُوعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ وَالْحُكْمُ هو الْجَزَاءُ وَالشَّرْطُ قَيْدٌ بِمَنْزِلَةِ الْحَالِ وهو أَصْلُ الْخِلَافِ هُنَا فَعَلَى الثَّانِي يُجْعَلُ التَّعْلِيقُ إيجَادًا لِلْحُكْمِ على تَقْدِيرِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَإِعْدَامًا له على تَقْدِيرِ عَدَمِهِ فَصَارَ كُلٌّ من الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ حُكْمًا شَرْعِيًّا ثَابِتًا بِاللَّفْظِ مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا وَعَلَى الْأَوَّلِ يُجْعَلُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ على تَقْدِيرِ وُجُودِ الشَّرْطِ سَكْتًا عن النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ على تَقْدِيرِ عَدَمِهِ فَصَارَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَدَمًا أَصْلًا مَبْنِيًّا على دَلِيلِ عَدَمِ الثُّبُوتِ لَا حُكْمًا شَرْعِيًّا مُسْتَفَادًا من النَّظْمِ قال في الْبَدِيعِ وَنَصَّ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْخِلَافَ على حَرْفٍ آخَرَ وهو أَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَنَا مَانِعٌ من انْعِقَادِ السَّبَبِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ من الْحُكْمِ فَالتَّعْلِيقُ سَبَبٌ عِنْدَنَا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِعَدَمِ الْحُكْمِ فَيُضَافُ إلَى عَدَمِ سَبَبِهِ وَعِنْدَهُ إلَى انْتِفَاءِ شَرْطِهِ مع وُجُودِ سَبَبِهِ وَفَرَّعَ على هذا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمِلْكِ قَبْلَهُ في الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَكَذَا تَعْجِيلُ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ مُمْتَنِعٌ وَطَوْلُ الْحَرَّةِ غَيْرُ مَانِعٍ من نِكَاحِ الْأَمَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ الثَّانِي أَنَّ هذا الْمَنْزَعُ يَدُلُّ على انْتِفَاءِ الْحُكْمِ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ وهو مَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ وَإِلَّا لَكَانَ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ نَسْخًا وَلَخَلَا من الْفَائِدَةِ وكان بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَسْتَدِلُّ على أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ فيقول لو قال لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَإِنَّك طَالِقٌ لَا تَطْلُقُ قبل دُخُولِ الدَّارِ فَلَوْلَا أَنَّ الشَّرْطَ يَنْفِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ قَبْلَهُ لَوَجَبَ الْوُقُوعُ عَمَلًا بِالْمُقْتَضَى وهو قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ الثَّالِثُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْطِ هو اللُّغَوِيُّ سَبَقَ وهو مُغَايِرٌ لِلشَّرْعِيِّ وَالْعَقْلِيِّ فإن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَفِي الْمُسَمَّى بِانْتِفَائِهِ وَلَا يُوجَدُ بِوُجُودِهِ وَأَمَّا اللُّغَوِيُّ فَلَا يَبْقَى أَثَرُهُ إلَّا في وُجُودِ الْمُعَلَّقِ بِوُجُودِ ما عُلِّقَ عليه لَا غَيْرُ وَأَمَّا عَدَمُهُ فَإِمَّا لِعَدَمِ مُقْتَضِيهِ أو لِأَنَّ

الْأَصْلَ بَقَاءُ ما كان قبل التَّعْلِيقِ لَا من جِهَةِ الْمَفْهُومِ كما سَبَقَ فَالْخِلَافُ حِينَئِذٍ إنَّمَا نَشَأَ من إطْلَاقِ اسْمِ الشَّرْطِ وَمَنْ قال الْمُعَلَّقُ بِكَلِمَةِ إنْ صَرِيحٌ فَدَلَّ بِمَنْطُوقِهِ على وُجُودِ ما عُلِّقَ عليه عِنْدَ وُجُودِهِ ليس إلَّا أَمَّا الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ فَلَا يَدُلُّ عليه أَلْبَتَّةَ بَلْ ذلك من بَابِ الْمَفْهُومِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ في انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ وَلَكِنْ هل الدَّالُّ على الِانْتِفَاءِ صِيغَةُ الشَّرْطِ أو الْبَقَاءُ على الْأَصْلِ فَمَنْ جَعَلَهُ حُجَّةً قال بِالْأَوَّلِ وَمَنْ أَنْكَرَهُ قال بِالثَّانِي وَهَاهُنَا أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا ثُبُوتُ الْجَزَاءِ عِنْدَ ثُبُوتِ الشَّرْطِ وَثَانِيهَا عَدَمُ الْجَزَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ وَثَالِثُهَا دَلَالَةُ النُّطْقِ على الْأَوَّلِ وَرَابِعُهَا دَلَالَتُهُ على الثَّانِي فَأَمَّا الدَّلَالَةُ الْأُولَى فَمُتَّفَقٌ عليها وَالرَّابِعُ هو الْمُخْتَلَفُ فيه بَعْدَ الِاتِّفَاقِ على أَنَّ عَدَمَ الْجَزَاءِ ثَابِتٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ لَكِنْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ ثُبُوتُهُ لِدَلَالَةِ التَّعْلِيقِ عليه وَعِنْدَ النُّفَاةِ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَالْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عليه وَالْخِلَافُ في عِلَّتِهِ فَالْخِلَافُ إنَّمَا هو في دَلَالَةِ حَرْفِ الشَّرْطِ على الْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ لَا على أَصْلِ الْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ فإن ذلك ثَابِتٌ بِالْأَصْلِ قبل أَنْ يَنْطِقَ النَّاطِقُ بِكَلَامٍ وَهَكَذَا الْكَلَامُ في سَائِرِ الْمَفَاهِيمِ قال أبو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ وهو من الْمُنْكِرِينَ له انْتِفَاءُ الْمُعَلَّقِ حَالَ عَدَمِ الشَّرْطِ لَا يُفْهَمُ من الْمُتَعَلِّقِ بَلْ يَبْقَى على ما كان قبل وُرُودِ النَّصِّ قال وَحَاصِلُ الْخِلَافِ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الشَّرْطَ هل يَمْنَعُ من انْعِقَادِ عِلَّةِ الْحُكْمِ فَعِنْدَنَا يَمْنَعُ وَعِنْدَهُمْ لَا فإذا لم يَكُنْ الشَّرْطُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ كانت الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً وَكَانَتْ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ وَالشَّرْطُ يَمْنَعُ وُجُودَ الْحُكْمِ وَعِنْدَنَا لَمَّا كان الشَّرْطُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ لم تَكُنْ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً حتى تُوجِبَ الْحُكْمَ فلم يُتَصَوَّرُ اسْتِنَادُ مَنْعِ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ

فَائِدَةٌ الْغَزَالِيِّ من الْمُنْكِرِينَ لِمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَرَأَى مُوَافَقَتَهُ لِلشَّافِعِيِّ في عَدَمِ النَّفَقَةِ لِغَيْرِ الْحَامِلِ مع أَنَّ الشَّافِعِيَّ عُمْدَتُهُ فيه مَفْهُومُ قَوْله تَعَالَى وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ قال إنَّ عَدَمَ النَّفَقَةِ ليس من نَاحِيَةِ الْمَفْهُومِ بَلْ من حَيْثُ إنَّ انْقِطَاعَ مِلْكِ النِّكَاحِ يُوجِبُ سُقُوطَ النَّفَقَةِ إلَّا ما اُسْتُثْنِيَ وَالْحَامِلُ هِيَ الْمُسْتَثْنَى فَنَفْيُ غَيْرِ الْحَامِلِ على أَصْلِ الْمَنْعِ فَانْتَفَتْ نَفَقَتُهَا لَا بِالشَّرْطِ لَكِنْ بِانْتِفَاءِ النِّكَاحِ الذي كان عِلَّةَ النَّفَقَةِ وَهَذَا نَظِيرُ امْتِنَاعِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ على نِكَاحِ الْحُرَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ من الْمَفْهُومِ وَلِهَذَا جَعَلَهُ تَخْصِيصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَدَمٌ أَصْلِيٌّ لَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يَصْلُحُ تَخْصِيصًا لِأَنَّ الْمُخَصَّصَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَا عَدَمًا أَصْلِيًّا فَهُمَا وَإِنْ اتَّفَقَا على الْحُكْمِ لَكِنْ اخْتَلَفَا في الْأَخْذِ وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ مُخَصَّصًا وَلَا نَاسِخًا يَبْقَى الْجَوَازُ بِالنَّصِّ وهو قَوْلُهُ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ ذَلِكُمْ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ لم يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَمَنْ لم يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فلم تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَإِنْ لم يُفْهَمُ مَدْلُولُهُ على ثُبُوتِ هذه الْأَحْكَامِ قبل هذه الشُّرُوطِ ثَبَتَ الْحُكْمُ على الْعَدَمِ ا هـ النَّوْعُ الْخَامِسُ مَفْهُومُ الْعَدَدِ وهو تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ يَدُلُّ على انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا ذلك الْعَدَدِ زَائِدًا كان أو نَاقِصًا كَقَوْلِهِ إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ في إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا وقَوْله تَعَالَى فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وهو دَلِيلٌ مُسْتَعْمَلٌ كَالصِّفَةِ سَوَاءٌ كما قال الشَّيْخُ أبو حَامِدٍ وابن السَّمْعَانِيِّ وَنَقَلَهُ أبو حَامِدٍ عن نَصِّ الشَّافِعِيِّ وَكَذَا

الْقَاضِيَانِ أبو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ في بَابِ بَيْعِ الطَّعَامِ قبل أَنْ يُسْتَوْفَى وَجَرَى عليه الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ وَسُلَيْمٌ قال وهو دَلِيلُنَا في نِصَابِ الزَّكَاةِ وَالتَّحْرِيمِ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ وقال ابن الرِّفْعَةِ في بَابِ الْجَمَاعَةِ من الْمَطْلَبِ إنَّهُ الْعُمْدَةُ لنا في عَدَمِ تَنْقِيصِ الْأَحْجَارِ في الِاسْتِنْجَاءِ عن الثَّلَاثَةِ وَالزِّيَادَةِ على ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في خِيَارِ الشَّرْطِ وَتَعَجَّبْت من النَّوَوِيِّ في قَوْلِهِ إنَّ مَفْهُومَ الْعَدَدِ بَاطِلٌ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ قال وَلَعَلَّهُ سَبَقَ الْوَهْمُ إلَيْهِ من اللَّقَبِ وَنَقَلَهُ أبو الْخَطَّابِ الْحَنْبَلِيُّ عن مَنْصُوصِ أَحْمَدَ وَبِهِ قال مَالِكٌ وَدَاوُد وقال آخَرُونَ لَا يَدُلُّ وهو رَأْيِ مُنْكِرِي الصِّفَةِ كَالْقَاضِي وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وقد قال بِهِ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ من الْحَنَفِيَّةِ فقال في قَوْلِهِ خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ في الْحِلِّ وَالْحَرَمِ إنَّهُ يَبْقَى غَيْرُهَا بِالْعَدَدِ وَأَجَابَ عن خَمْسِ رَضَعَاتٍ بِأَنَّهُ إنَّمَا لم يَنْتِفْ تَحْرِيمُ الرَّضْعَةِ لِثُبُوتِهِ في إطْلَاقِ أَرْضَعْنَكُمْ الصَّرِيحِ وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ كُنْت أَسْمَعُ كَثِيرًا من مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ في الْمَخْصُوصِ إنَّهُ حُجَّةٌ كَقَوْلِهِ خَمْسٌ فَوَاسِقُ وَقَوْلِهِ أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَدَلَّ على أَنَّ غَيْرَهُمَا من الْمَيِّتَةِ غَيْرُ مُبَاحٍ وَلَقِيت مُحَمَّدَ بن شُجَاعٍ قد احْتَجَّ بِهِ وَلَا أَعْرِفُ جَوَابَ الْمُتَقَدِّمِينَ من أَصْحَابِنَا عنه قال وَالْقَائِلُونَ بهذا فَرَّقُوا بين أَنْ يُصَرِّحَ بِالْعَدَدِ كما

ذَكَرْنَا فَيَكُونَ حُجَّةً وَبَيْنَ أَنْ لَا يُصَرِّحَ بِهِ كَقَوْلِهِ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ إلَى آخِرِ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ فَلَا يَدُلُّ على أَنَّ ما عَدَاهُ بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ لم يَقُلْ إنَّ الرِّبَا في السِّتَّةِ كما قِيلَ خَمْسٌ يَقْتُلهُنَّ الْمُحْرِمُ وقال الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أبي حَنِيفَةَ في الْعَدَدِ إذَا وَرَدَ مَقْرُونًا بِاللَّفْظِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ ليس بِحُجَّةٍ ثُمَّ نَاقَضُوا أَصْلَهُمْ في الزِّيَادَةِ على النَّصِّ فَجَعَلُوهُ أَقْوَى النَّصَّيْنِ وَمَنَعُوا من الزِّيَادَةِ عليه بِالْقِيَاسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَقَالُوا إنَّهُ يَدُلُّ على سُقُوطِ التَّغْرِيبِ وَمِمَّنْ أَنْكَرَ الْعَدَدَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ بَعْدَ تَفْصِيلٍ سَبَقَهُ إلَيْهِ أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ وَنَبَّهَ عليه الْآمِدِيُّ أَيْضًا وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ فإنه قال الْحُكْمُ الْمُقَيَّدُ بِعَدَدٍ إنْ كان مَعْلُولَ ذلك الْعَدَدِ ثَبَتَ في الزَّائِدِ لِوُجُودِهِ فيه كما في جَلْدِ مِائَةٍ أو حُكْمٍ بِأَنَّ الْقُلَّتَيْنِ يَدْفَعَانِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ وَإِلَّا يَلْزَمُ كما أَوْجَبَ مِائَةُ جَلْدَةٍ وَالنَّاقِصُ عن ذلك الْعَدَدُ إنْ كان دَاخِلًا فيه وكان الْحُكْمُ إيجَابًا أو إبَاحَةً ثَبَتَ فيه كما أَوْجَبَ أو أَبَاحَ جَلْدَ مِائَةٍ وَإِنْ كان تَحْرِيمًا فَلَا يَلْزَمُ وَإِنْ لم يَكُنْ دَاخِلًا فيه كَالْحُكْمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ فإنه لَا يَدْخُلُ في الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَالتَّحْرِيمُ قد ثَبَتَ فيه بِطَرِيقِ الْأُولَى وَالْإِيجَابُ وَالْإِبَاحَةُ لَا يَلْزَمَانِ قال فَثَبَتَ أَنَّ قَصْرَ الْحُكْمِ على الْعَدَدِ لَا يَدُلُّ على نَفْيِهِ عَمَّا زَادَ أو نَقَصَ إلَّا بِدَلِيلٍ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا لم يُقْصَدْ بِهِ التَّكْثِيرُ فَأَمَّا الْمَقْصُودُ بِهِ كَالْأَلْفِ وَالسَّبْعِينَ وَغَيْرِهِمَا فما جَرَى في لِسَانِ الْعَرَبِ لِلْمُبَالَغَةِ فَلَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ على التَّحْدِيدِ ذَكَرَهُ ابن فُورَكٍ وَكَلَامُ الْبَاقِينَ في الْجَوَابِ عن الحديث مُصَرِّحٌ بِهِ وَاسْتَثْنَى ابن الصَّبَّاغِ في الْعُدَّةِ ما إذَا كان في الْعَدَدِ تَنْبِيهٌ على ما زَادَ عليه كَقَوْلِهِ إذَا بَلَغَ الْمَاءَ قُلَّتَيْنِ فإنه تَنْبِيهٌ على أَنَّ ما زَادَ عَلَيْهِمَا أَوْلَى بِأَنْ لَا يُحْمَلَ الثَّانِي قال بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَحَلُّ الْخِلَافِ إنَّمَا هو عِنْدَ ذِكْرِ الْعَدَدِ نَفْسِهِ كَاثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ أَمَّا الْمَعْدُودُ فَلَا يَكُونُ مَفْهُومُهُ حُجَّةً كَقَوْلِهِ أُحِلَّتْ لنا مَيْتَتَانِ

وَدَمَانِ فَلَا يَكُونُ تَحْرِيمُ مَيْتَةٍ ثَالِثَةٍ مَأْخُوذًا من مَفْهُومِ الْعَدَدِ لَكِنَّ الناس يُمَثِّلُونَ لِمَفْهُومِ الْعَدَدِ بِقَوْلِهِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ ليس فيه اسْمُ عَدَدٍ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَدَدَ يُشْبِهُ الصِّفَةَ وَالْمَعْدُودَ يُشْبِهُ اللَّقَبَ وَلَا فَرْقَ فيه بين أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أو مُثَنًّى أَلَا تَرَى أَنَّك لو قُلْت رِجَالٌ لم يُتَوَهَّمْ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ عَدَدٌ وَلَا يُفْهَمُ منها ما يُفْهَمُ من التَّخْصِيصِ بِالْعَدَدِ فَكَذَلِكَ الْمُثَنَّى لِأَنَّهُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِاثْنَيْنِ كما أَنَّ الرِّجَالَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِمَا زَادَ فَمِنْ ثَمَّ لم يَكُنْ قَوْلُهُ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ يَدُلُّ على نَفْيِ حِلِّ مَيْتَةٍ ثَالِثَةٍ كما أَنَّهُ لو قال أُحِلَّتْ لنا مَيْتَةٌ لم يَدُلَّ على عَدَمِ حِلِّ أُخْرَى الثَّالِثُ أَنَّهُ من أَشْهَرِ حِجَجِ الْمُثْبِتِينَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى إنْ تَسْتَغْفِرْ لهم سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لهم قال النبي عليه السَّلَامُ لَأَزِيدَنَّ على السَّبْعِينَ فَعُلِمَ من الْآيَةِ أَنَّ حُكْمَ ما زَادَ على السَّبْعِينَ بِخِلَافِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَعَلَّهُ

قَالَهُ رَجَاءَ حُصُولِ الْمَغْفِرَةِ بِنَاءً على بَقَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ فإن رَجَاءَهَا كان ثَابِتًا قبل نُزُولِ الْآيَةِ لَا لِأَنَّهُ فَهِمَهُ من التَّقْيِيدِ وَأَجَابَ الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَالْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُمْ بِالطَّعْنِ في الحديث وَقَالُوا لم يَصِحَّ وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فإنه مُخَرَّجٌ في الصَّحِيحَيْنِ لَكِنْ بِلَفْظِ سَأَزِيدُ على السَّبْعِينَ قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فَأَمَّا ما رَوَاهُ أبو عُبَيْدٍ لَأَزِيدَنَّ على السَّبْعِينَ فَهِيَ رِوَايَةٌ بَاطِلَةٌ لَا تَصِحُّ وَلَا تَجُوزُ عليه فإنه يَمْتَنِعُ غُفْرَانُ ذَنْبِ الْكَافِرِ وَإِنَّمَا الْمَرْوِيُّ لو عَلِمْت أَنْ يُغْفَرَ له إذَا زِدْت على السَّبْعِينَ لَزِدْت قُلْت هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ في بَابِ الْجَنَائِزِ بِلَفْظِ لو عَلِمْت أَنِّي إنْ زِدْت على السَّبْعِينَ يُغْفَرُ له لَزِدْت عليها وقال ابن فُورَكٍ لَا مَعْنَى لِتَوْهِينِ الحديث لِأَنَّهُ قد صَحَّ وَلَيْسَ بِمُنْكَرٍ اسْتِغْفَارُهُ عليه السَّلَامُ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِيلُ عَقْلًا وَالْإِجَابَةُ مُمْكِنَةٌ وَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ الْآيَةِ لَكَانَ الزَّائِدُ على السَّبْعِينَ يَقْتَضِي الْغُفْرَانَ لَكِنَّهُ نَزَلَ بَعْدَهُ وَلَا تُصَلِّ على أَحَدٍ منهم مَاتَ أَبَدًا فَدَلَّ ذلك على زَوَالِ حُكْمِ الْمَفْهُومِ فإن صَلَاتَهُ عليه السَّلَامُ تُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ وَلِهَذَا امْتَنَعَ من الصَّلَاةِ على الْمَدِينِ وَتَلَطَّفَ الْقَاضِي ابن الْمُنِيرِ فقال لَعَلَّ الْقَصْدَ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّخْفِيفُ كما في

دُعَائِهِ لِأَبِي طَالِبٍ وَقَوْلُهُ لَأَزِيدَنَّ على السَّبْعِينَ أَيْ أَفْعَلُ ذلك لِأُثَابَ على الِاسْتِغْفَارِ فإنه عِبَادَةٌ وَقَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ إنَّ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ نُصُوصٌ ليس على إطْلَاقِهِ بَلْ هِيَ نُصُوصٌ دَالَّةٌ بِقَرَائِن الْأَحْوَالِ إذَا قَصَدَ الْكَثْرَةَ كَقَوْلِك جِئْت أَلْفَ مَرَّةٍ وَمِنْهُ حَثُّهُ عليه السَّلَامُ على صَوْمِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَإِنَّمَا هو تِسْعَةُ أَيَّامٍ خَاصَّةً وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ هذه الْعَشْرِ لم يَكُنْ نَاذِرًا صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ وَلَا عَاصِيًا بهذا اللَّفْظِ إجْمَاعًا فَدَلَّ على أَنَّ الْعَشَرَةَ قد تُطْلَقُ على التِّسْعَةِ تَقْرِيبًا النَّوْعُ السَّادِسُ مَفْهُومُ الْحَالِ أَيْ تَقْيِيدُ الْخِطَابِ بِالْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ في الْمَسَاجِدِ وهو كَالصِّفَةِ قَالَهُ ابن السَّمْعَانِيِّ ولم يَذْكُرْهُ الْمُتَأَخِّرُونَ لِرُجُوعِهِ إلَى الصِّفَةِ وقد ذَكَرَهُ سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ وَإِلْكِيَا وَمَثَّلَاهُ بِالْآيَةِ وَكَذَلِكَ ابن فُورَكٍ في كِتَابِهِ وقال هذه الْوَاوُ تُنْبِئُ عن حَالِ من وَقَعَ عليه كما تَقُولُ لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبُ اللَّبَنَ بِالرَّفْعِ أَيْ في حَالِ شُرْبِك اللَّبَنَ فَيَكُونُ تَخْصِيصًا لِلْحَالِ فَيَدُلُّ على أَنَّ ما لَا حَالَ فيه حُكْمُهُ بِخِلَافِهِ النَّوْعُ السَّابِعُ مَفْهُومُ الزَّمَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ وهو حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ كما نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَلَوْ قال لِوَكِيلِهِ بِعْ يوم الْخَمِيسِ تَعَيَّنَ عليه لِأَنَّهُ قد يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ في ذلك الْوَقْتِ لِكَثْرَةِ الرَّاغِبِينَ إذْ ذَاكَ كما إذَا أَمَرَهُ بِبَيْعِ الْفِرَاءِ في الشِّتَاءِ وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْعِتْقِ يوم الْجُمُعَةِ تَعَيَّنَ وَلَيْسَ له عِتْقُهُ في غَيْرِهِ وَلَوْ قال طَلِّقْ زَوْجَتِي يوم الْخَمِيسِ فَالْمَنْقُولُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ قبل ذلك الْوَقْتِ وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَهُ وَقَعَ وَاسْتَشْكَلَهُ النَّوَوِيُّ نعم لو ادَّعَى عليه بِعَشَرَةٍ فقال لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ هذا الْمَالِ الْيَوْمَ لَا يُجْعَلُ مُقِرًّا بِهِ لِأَنَّ الْأَقَارِيرَ لَا تَثْبُتُ بِالْمَفْهُومِ نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عن الْقَاضِي الْحُسَيْنِ

النَّوْعُ الثَّامِنُ مَفْهُومُ الْمَكَانِ نَحْوُ جَلَسْت أَمَامَ زَيْدٍ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لم يَجْلِسْ عن شِمَالِهِ وَنَحْوُ اضْرِبْ زَيْدًا في الدَّارِ قال تَعَالَى فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وهو حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا كما نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ في الْمَنْخُولِ وَلَوْ قال بِعْ في مَكَانِ كَذَا تَعَيَّنَ على الْأَصَحِّ وَهُنَا بَحْثٌ نَفِيسٌ وهو أَنَّهُ هل يُشْتَرَطُ في الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ أَنْ يَكُونَا في الظَّرْفِ أَمْ لَا مُقْتَضَى كَلَامِ النُّحَاةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وقد فَرَّقَ أَصْحَابُنَا بين ما لو قال إنْ قَذَفْت زَيْدًا في الْمَسْجِدِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ من وُجُودِ الْقَاذِفِ وَالْمَقْذُوفِ في الْمَسْجِدِ وَلَوْ قال إنْ قَذَفْت زَيْدًا في الْمَسْجِدِ فَأَنْتِ طَالِقٌ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْقَاذِفِ في الْمَسْجِدِ وَالتَّحْقِيقُ في هذه الْقَاعِدَةِ التَّفْصِيلُ بين الْمُشَخِّصَاتِ الْحِسِّيَّةِ فَيُشْتَرَطُ وُجُودُهَا كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَإِلَّا فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ الْفَاعِلِ في الظَّرْفِ كَالثَّانِيَةِ وَيَنْشَأُ عن هذا الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ في حديث صلى على سُهَيْلِ بن بَيْضَاءَ في الْمَسْجِدِ فَهُمْ يَقُولُونَ كان النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في الْمَسْجِدِ وَسُهَيْلٌ خَارِجَهُ قُلْنَا هذا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ من الْحِسِّيَّاتِ فَلَا بُدَّ من وُجُودِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَأَمَّا من جِهَةِ الْوَاقِعِ فَلَيْسَ في حَائِطِ الْمَسْجِدِ فُرْجَةٌ حتى يَرَاهُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمِثْلُهُ الْبُصَاقُ في الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ هل يَمْتَنِعُ على من بِالْمَسْجِدِ أَنْ يَبْصُقَ إلَى خَارِجِ الْمَسْجِدِ فيه هذا الْعَمَلُ

تَنْبِيهٌ مَفْهُومُ ظَرْفَيْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ رَاجِعٌ إلَى الصِّفَةِ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَشَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ إلَى رُجُوعِ هذا وما قَبْلَهُ إلَى الصِّفَةِ لِأَنَّ الظَّرْفَيْنِ يُقَدَّرُ فِيهِمَا الصِّفَةُ فإذا قُلْت زَيْدٌ في الدَّارِ فَالْمُرَادُ كَائِنٌ فيها وإذا قُلْت الْقِيَامُ يوم الْجُمُعَةِ فَالْمُرَادُ وَاقِعٌ يوم الْجُمُعَةِ وَالْكَوْنُ وَالْوُقُوعُ صِفَتَانِ النَّوْعُ التَّاسِعُ مَفْهُومُ الْغَايَةِ وَمَدُّ الْحُكْمِ بِإِلَى وَحَتَّى كَقَوْلِهِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ وَقَوْلِهِ لَا زَكَاةَ في مَالٍ حتى يَحُولَ عليه الْحَوْلُ يَدُلُّ على الْوُجُوبِ عِنْدَ الْحَوْلِ لِأَنَّ الْحَوْلَ جُعِلَ غَايَةً لِلشَّيْءِ وَغَايَةُ الشَّيْءِ آخِرُهُ وقد نَصَّ الشَّافِعِيُّ على الْقَوْلِ بِهِ فقال في الْأُمِّ وما جَعَلَ اللَّهُ له غَايَةً فَالْحُكْمُ بَعْدَ مُضِيِّ الْغَايَةِ فيه غَيْرُهُ قبل مُضِيِّهَا ثُمَّ مَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وإذا ضَرَبْتُمْ في الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ الْآيَةَ وكان في شَرْطِ الْقَصْرِ لهم بِحَالَةٍ مَوْصُوفَةٍ دَلِيلٌ على أَنَّ حُكْمَهُمْ في غَيْرِ تِلْكَ الصِّفَةِ غَيْرُ الْقَصْرِ ا هـ وقد اعْتَرَفَ بِهِ جَمْعٌ من مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ الشَّرْطِيِّ كَالْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَالْغَزَالِيِّ وَالْقَاضِي عبد الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُعْظَمُ نُفَاةِ الْمَفْهُومِ كما قَالَهُ الْقَاضِي وابن الْقُشَيْرِيّ وَحَكَى ابن بَرْهَانٍ وَصَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ الِاتِّفَاقَ عليه وقال سُلَيْمٌ لم يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِرَاقِ في ذلك وَخَالَفَ الْأَشْعَرِيَّةُ في ذلك وقال الْقَاضِي في التَّقْرِيبِ صَارَ مُعْظَمُ نُفَاةِ دَلِيلِ الْخِطَابِ إلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِحُرُوفِ الْغَايَةِ يَدُلُّ على انْتِفَاءِ الْحُكْمِ وَرَاءَ الْغَايَةِ ثُمَّ قال وَكُنَّا قد نَصَرْنَا إبْطَالَ حُكْمِ الْغَايَةِ في كُتُبٍ وَالْأَوْضَحُ عِنْدَنَا الْآنَ الْقَوْلُ بها فإذا قال اضْرِبْ عَبْدِي حتى يَتُوبَ اقْتَضَى ذلك بِالْوَضْعِ الْكَفَّ عن ضَرْبِهِ إذَا تَابَ وَلِهَذَا أَجْمَعُوا على تَسْمِيَتِهَا حُرُوفَ الْغَايَةِ وَغَايَةُ الشَّيْءِ نِهَايَتُهُ فَلَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بَعْدَهَا لم تَفْدِ تَسْمِيَتُهَا غَايَةً قال وَهَذَا من تَوْقِيفِ اللُّغَةِ مَعْلُومٌ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْغَايَةِ

مَوْضُوعٌ لِلدَّلَالَةِ على أَنَّ ما بَعْدَهَا بِخِلَافِ ما قَبْلَهَا وَاحْتَجَّ الْقَاضِي أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ على أَنَّك تَقْدِرُ في غَايَةِ الطُّهْرِ فَتَقُولُ في وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ تَقْدِيرُهُ فَاقْرُبُوهُنَّ وفي حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَتَحِلُّ وَنَحْوُ ذلك وَهَذَا الْكَلَامُ من الْقَاضِي يَقْتَضِي أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ من جِهَةِ الْمَنْطُوقِ لَا الْمَفْهُومِ فَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ وَكَذَا قال الْعَبْدَرِيُّ في الْمُسْتَوْفَى وابن الْحَاجِّ في تَعْلِيقِهِ على الْمُسْتَصْفَى عَدُّ الْأُصُولِيِّينَ الْمُغَيَّا بِإِلَى وَحَتَّى في الْمَفْهُومِ جَهْلٌ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فإن الْمُخَالِفَ بِمَا يَقْتَضِيهِ حتى وَإِلَى لَا من جِهَةِ الْمَفْهُومِ قُلْت وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا بِذَلِكَ في الشَّرْطِ فإن الْجَزَاءَ مُرْتَبِطٌ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ وهو غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ كَالْغَايَةِ وَذَهَبَ الْآمِدِيُّ وَطَائِفَةٌ من الْحَنَفِيَّةِ إلَى الْمَنْعِ تَصْمِيمًا على إنْكَارِ الْمَفْهُومِ وَنَقَلَهُ الْمَازِرِيُّ عن الْأَزْدِيِّ تِلْمِيذِ الْقَاضِي أبي بَكْرٍ وقد سَبَقَ في التَّخْصِيصِ بِالْغَايَةِ ما يَسْتَدْعِي تَجْدِيدَ الْعَهْدِ بِهِ هَاهُنَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِلَافَ هُنَا كَخِلَافِ مَفْهُومِ الْحَصْرِ قِيلَ لَا يُفِيدُ وَقِيلَ مَنْطُوقٌ وَقِيلَ مَفْهُومٌ تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ فَسَّرُوا الْغَايَةَ بِمَدِّ الْحُكْمِ بِإِلَى وَحَتَّى وَأَلْحَقَ بِهِ بَعْضُهُمْ مَدَّهَا بِصَرِيحِ الْكَلَامِ نَحْوُ صُومُوا صَوْمًا آخِرُهُ اللَّيْلُ قال الْهِنْدِيُّ وَفِيهِ نَظَرٌ الثَّانِي ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هذا الْخِلَافَ السَّابِقَ هل يَدْخُلُ في الْمُغَيَّا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ ذلك كَلَامٌ في الْغَايَةِ نَفْسِهَا وَالْكَلَامُ هُنَا فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ فَلَنَا في نَحْوِ قَوْله تَعَالَى إلَى الْمَرَافِقِ ثَلَاثُ قَضَايَا غَسْلُ ما دُونَ الْمِرْفَقِ وهو بِالْمَنْطُوقِ وَغَسْلُ الْمِرْفَقِ وهو الْخِلَافُ في أَنَّ الْغَايَةَ هل تَدْخُلُ وَعَدَمُ غَسْلِ ما بَعْدَ الْمِرْفَقِ وهو خِلَافُ الْمَفْهُومِ الثَّالِثُ إذَا تُصُوِّرَ في الْغَايَةِ تَطَاوُلٌ فَهَلْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِأَوَّلِهَا أَمْ يَتَوَقَّفُ على تَمَامِهَا هذا الْأَصْلُ وَلَّدْته من الْخِلَافِ في أَنَّ دَمَ التَّمَتُّعِ يَجِبُ عِنْدَنَا إذَا فَرَغَ من الْعُمْرَةِ أو أَحْرَمَ بِالْحَجِّ لِأَنَّهُ بِهِ يُسَمَّى مُتَمَتِّعًا وقال مَالِكٌ ما لم يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَا يَجِبُ دَمُ التَّمَتُّعِ بِهِ وقال عَطَاءٌ ما لم يَرْمِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَالدَّلِيلُ في الْمَسْأَلَةِ قَوْله تَعَالَى فَمَنْ

تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَنَحْنُ نَقُولُ كَلِمَةُ إلَى لِلْغَايَةِ فَيُكْتَفَى بِأَوَّلِهَا وَلَا يُشْتَرَطُ الِاسْتِيعَابُ وَالْخَصْمُ يَشْرِطُهُ وَمَبْنَى حَمْلِنَا قَوْله تَعَالَى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ فإن اسْتِيعَابَ جَمِيعِ اللَّيْلِ لَا يَكُونُ شَرْطًا فَكَذَا هُنَا النَّوْعُ الْعَاشِرُ مَفْهُومُ الِاسْتِثْنَاءِ نَحْوُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا عَالِمَ في الْبَلَدِ إلَّا زَيْدٌ وَنَحْوُ ما قام الْقَوْمُ إلَّا زَيْدٌ وهو يَدُلُّ على ثُبُوتِ ضِدِّ الْحُكْمِ السَّابِقِ لِلْمُسْتَثْنَى منه لِلْمُسْتَثْنَى فَإِنْ كانت الْقَضِيَّةُ السَّابِقَةُ نَفْيًا كان الْمُسْتَثْنَى مُثْبَتًا أو إثْبَاتًا كان مَنْفِيًّا وقد اعْتَرَفَ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ كَالْقَاضِي وَالْغَزَالِيِّ وَأَصَرَّتْ الْحَنَفِيَّةُ على الْإِنْكَارِ بِنَاءً على أَنَّهُ لَا عَمَلَ لِلِاسْتِثْنَاءِ في الْمَنْفِيِّ عن غَيْرِهِ وَإِنَّمَا مُقْتَضَاهُ الثُّبُوتُ فَقَطْ وقد سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ في بَابِ التَّخْصِيصِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في دَلَالَةِ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ على الثُّبُوتِ قِيلَ بِالْمَفْهُومِ وَالصَّحِيحُ أنها بِالْمَنْطُوقِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو قال ما له عَلَيَّ إلَّا دِينَارٌ كان ذلك إقْرَارًا بِالدِّينَارِ حتى يُؤَاخَذَ بِهِ وَلَوْلَا أَنَّهُ مَنْطُوقٌ لَمَا ثَبَتَتْ الْمُؤَاخَذَةُ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ لَا تُعْتَبَرُ في الْإِقْرَارِ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أبو الْحُسَيْنِ بن الْقَطَّانِ فقال نَحْوُ قَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ ولا صِيَامَ لِمَنْ لم يُبَيِّتْ الصِّيَامَ من اللَّيْلِ هِيَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ مَعًا بِالْمَنْطُوقِ وَالْآخَرُ بِالْمَفْهُومِ قال أبو الْحُسَيْنِ هُمَا جميعا بِالْمَنْطُوقِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالْمَفْهُومِ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا صِيَامَ نَفْيٌ لِلصِّيَامِ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ وَإِثْبَاتٌ له عِنْدَ وُجُودِهَا كَقَوْلِك لَا تُعْطِ زَيْدًا شيئا إلَّا أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ فَكَانَ الْعَطَاءُ وَالْمَنْعُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِمَا فَكَذَلِكَ هُنَا ا هـ النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ مَفْهُومُ الْحَصْرِ وَلَهُ صِيَغٌ الْأُولَى وَهِيَ أَقْوَاهَا تَقْدِيمُ النَّفْيِ على إلَّا نَحْوُ ما قام إلَّا زَيْدٌ يَدُلُّ على نَفْيِ

الْقِيَامِ عن غَيْرِهِ وَإِثْبَاتِهِ له وَنَحْوُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ وهو أَحَدُ نَوْعَيْ الِاسْتِثْنَاءِ وقد سَبَقَ بَلْ قال جَمَاعَةٌ إنَّ ذلك مَنْطُوقٌ لَا مَفْهُومٌ وَبِهِ جَزَمَ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ في الْمُلَخَّصِ وَرَجَّحَهُ الْقَرَافِيُّ في الْقَوَاعِدِ وقال الْمَاوَرْدِيُّ النَّفْيُ إذَا تَجَرَّدَ عن الْإِثْبَاتِ فَإِنْ كان جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِإِثْبَاتِ ما عَدَاهُ كَقَوْلِهِ لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ فَلَا يَدُلُّ على التَّحْرِيمِ بِالثَّالِثَةِ وَإِنْ كان ابْتِدَاءً كَقَوْلِهِ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ فَيَدُلُّ على ثُبُوتِهَا بِالطُّهُورِ وَيَكُونُ نَفْيُ الْحُكْمِ عن تِلْكَ الصِّفَةِ مُوجِبًا لِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا وهو الظَّاهِرُ من مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قال وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ من جَعَلَ ما عَدَا الْإِثْبَاتَ في إنَّمَا مَوْقُوفًا أَنْ يَجْعَلَ ما عَدَا النَّفْيَ مَوْقُوفًا وقال سُلَيْمٌ في التَّقْرِيبِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ يُفِيدُ إجْزَاءَ الصَّلَاةِ بِالطُّهُورِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال يُفِيدُ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ في الصَّلَاةِ وَلَا يُفِيدُ إجْزَاءَهَا وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَّا بِطُهُورٍ يَقْتَضِي رَدَّ جَمِيعِ ما نَفَاهُ بِقَوْلِهِ لَا صَلَاةَ وَإِثْبَاتُهُ قال وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَدُلُّ على وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ وَذَهَبَ ابن الدَّقَّاقِ إلَى أَنَّهُ يَدُلُّ على وُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَغَلِطَ في ذلك لِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِعْمَالُ هذا اللَّفْظِ في النَّوَافِلِ فَيُقَالُ لَا صَلَاةَ نَافِلَةٍ إلَّا بِطَهَارَةٍ وَإِنَّمَا يَدُلُّ على صِحَّتِهَا وَإِجْزَائِهَا بِالطَّهَارَةِ وقال إِلْكِيَا الْمَفْهُومُ يَجْرِي في النَّفْيِ كَالْإِثْبَاتِ وَلَا فَرْقَ بين قَوْلِهِ الْقَطْعُ في رُبْعِ دِينَارٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَا قَطْعَ إلَّا في رُبْعِ دِينَارٍ قال وَمِنْ الْعُلَمَاءِ من قال إذَا قال لَا قَطْعَ إلَّا في رُبْعِ دِينَارٍ كان نَصًّا في الْقَطْعِ في الرُّبْعِ مَفْهُومًا في الذي فَوْقَهُ وَدُونَهُ وقال ابن الْحَاجِبِ في أَمَالِيهِ الْإِثْبَاتُ بَعْدَ النَّفْيِ في الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ مُفِيدٌ لِلْحَصْرِ أَيْ يَنْفَرِدُ ما بَعْدَ إلَّا بِذَلِكَ دُونَ الْعَامِّ الْمُقَدَّرِ فإذا قُلْت ما جاء إلَّا زَيْدٌ فَزَيْدٌ مُنْفَرِدٌ بِالْمَجِيءِ دُونَ الْآخَرِينَ الْمُقَدَّرِينَ في ما جاء أَحَدٌ وإذا قُلْت ما زَيْدٌ

إلَّا بَشَرٌ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ بَشَرًا غَيْرُهُ لِأَنَّك إنَّمَا أَثْبَتَّهَا له دُونَ غَيْرِهَا من الصِّفَاتِ ولم تَتَعَرَّضْ لِنَفْيِهَا عَمَّنْ عَدَاهُ وَهَكَذَا في كل مُسْتَثْنًى هو في الْحَقِيقَةِ كَالصِّفَةِ وَالْحَالِ نَحْوُ ما جاء زَيْدٌ إلَّا رَاكِبًا وما زَيْدٌ إلَّا عَالِمٌ لم تُرِدْ نَفْيَ الرُّكُوبِ وَالْعِلْمِ عَمَّنْ عَدَاهُ وَإِنَّمَا أَرَدْت ثُبُوتَ هذه الصِّفَاتِ له وَذَلِكَ ثَابِتٌ فَإِنْ قُلْت فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْفِيٌّ عَامٌّ وَهَذَا مُثْبَتٌ منه دُونَهُ فَيَكُونَ الْمَعْنَى إثْبَاتَ هذه الصِّفَةِ له دُونَ غَيْرِهَا من الصِّفَاتِ وهو غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ فَإِنَّك إذَا قُلْت ما زَيْدٌ إلَّا قَائِمٌ لم يَسْتَقِمْ نَفْيُ جَمِيعِ الصِّفَاتِ عن زَيْدٍ فَالْجَوَابُ أَنَّ هذا كان الْقِيَاسَ وَلَكِنَّهُ أتى على غَيْرِهِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لو اُعْتُبِرَ ذلك لَامْتَنَعَ اسْتِعْمَالُ هذا الْبَابِ فيه فَيَفُوتُ كُلُّ مَعْنَاهُ منه وَالثَّانِي أَنَّهُمْ قَصَدُوا إثْبَاتَ ذلك وَنَفْيَ ما يَتَوَهَّمُ الْمُتَوَهِّمُ مِمَّا يُضَادُّ ذلك وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ فإن الْمَعْنَى إثْبَاتُ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ لَا إثْبَاتُ الطَّهَارَةِ لها خَاصَّةً يَلْزَمُ أنها إذَا وُجِدَتْ وُجِدَتْ إذْ قد تُوجَدُ الطَّهَارَةُ وَلَا تُشْرَعُ الصَّلَاةُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ آخَرَ الثَّانِيَةُ وهو قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ في الْقُوَّةِ الْحَصْرُ بِإِنَّمَا نَحْوُ إنَّمَا زَيْدٌ في الدَّارِ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ ليس في غَيْرِهَا قال إِلْكِيَا وهو أَقْوَى من الْغَايَةِ وقد نَصَّ عليه الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ فقال وإذا أَسْلَمَ الرَّجُلُ على يَدِ الرَّجُلِ وَوَالَاهُ ثُمَّ مَاتَ لم يَكُنْ له مِيرَاثُهُ من قَبِيلِ قَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَهَذَا يَدُلُّ على مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ أَعْتَقَ وَالثَّانِي لَا يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ عَمَّنْ أَعْتَقَ وَلِهَذَا قال الْمَاوَرْدِيُّ في الْحَاوِي مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أنها في قُوَّةِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ وَذَهَبَ ابن سُرَيْجٍ وأبو حَامِدٍ وَالْمَرْوَرُوذِيُّ إلَى أَنَّ حُكْمَ ما عَدَا الْإِثْبَاتَ مَوْقُوفٌ على الدَّلِيلِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ من الِاحْتِمَالِ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ أنها في قُوَّةٍ ما وَإِلَّا لَكِنْ اخْتَلَفُوا في أَنَّ الْمَنْفِيَّ فيها بِالْمَنْطُوقِ أو الْمَفْهُومِ على وَجْهَيْنِ قال وَعَلَى هذا فإذا انْتَفَى حُكْمُ الْإِثْبَاتِ عَمَّا عَدَاهُ فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في مُوجِبِ نَفْيِهِ عنه

أَحَدُهُمَا أَوْجَبَهُ لِسَانُ الْعَرَبِ لُغَةً وَالثَّانِي أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْخِطَابِ شَرْعًا قال وَلَا فَرْقَ في هذا النَّوْعِ بين أَنْ يَقَعَ جَوَابًا أو ابْتِدَاءً بِخِلَافِ ما سَبَقَ في مَفْهُومِ الصِّفَةِ ا هـ وقد قال بِهِ الشَّيْخُ أبو إِسْحَاقَ وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ وقال الْقَاضِي عبد الْوَهَّابِ إنَّمَا لِتَحْقِيقِ الْمُتَّصِلِ وَتَمْحِيقِ الْمُنْفَصِلِ وَنَقَلَ ابن الْقُشَيْرِيّ عن الْقَاضِي الْقَوْلَ بِهِ بَعْدَ تَرَدُّدِهِ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَفْصِلُ بين قَوْلِك إنَّمَا الرِّبَا في النَّسِيئَةِ وَلَا رِبَا إلَّا في النَّسِيئَةِ وقد سَمَّى أَهْلُ اللُّغَةِ ذلك تَمْحِيقًا وَتَحْقِيقًا وَنَفْيًا وَإِثْبَاتًا قال ابن الْقُشَيْرِيّ وَلَعَلَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الظَّاهِرَ من هذا اللَّفْظِ اقْتِضَاءُ النَّفْيِ ثُمَّ يَجُوزُ تَرْكُهُ بِدَلِيلٍ فَمَنْ قال بِالْمَفْهُومِ قال هذا نَقِيضُ النَّفْيِ وَمَنْ لم يَقُلْ بِهِ تَرَدَّدَ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ عن الْقَاضِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ في الْحَصْرِ مُحْتَمَلٌ في التَّأْكِيدِ وَاخْتَارَهُ وقد سَبَقَ في فَصْلِ الْحُرُوفِ في الْكَلَامِ على إنَّمَا بَقِيَّةُ الْمَذَاهِبِ وَفِيهِ ما يَتَعَيَّنُ اسْتِحْضَارُهُ هُنَا الثَّالِثَةُ حَصْرُ الْمُبْتَدَأِ في الْخَبَرِ سَوَاءٌ كان الْخَبَرُ مَقْرُونًا بِاللَّامِ نحو الْعَالِمُ زَيْدٌ أو مُضَافًا نحو صَدِيقِي زَيْدٌ يُفِيدُ حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ في الْخَبَرِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ عَهْدٍ وَمِمَّنْ قال بِإِفَادَتِهِ الْحَصْرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَالْهَرَّاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ من الْفُقَهَاءِ وَأَنْكَرَهَا الْقَاضِي أبو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ من الْمُتَكَلِّمِينَ وَتَبِعَهُمْ الْآمِدِيُّ وَاخْتَلَفَ الْأَوَّلُونَ في أَنَّهُ هل يُفِيدُ الْحَصْرَ بِالْمَنْطُوقِ أو الْمَفْهُومِ فَذَهَبَ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ وَمَنْ تَبِعَهُ إلَى الْأَوَّلِ وَاسْتَدَلَّ في الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ على أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى هو اللَّهُ الْخَالِقُ قال وَهَذَا التَّرْكِيبُ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى الثَّانِي قال الْغَزَالِيُّ وَإِنَّمَا أَفَادَ الْحَصْرَ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ من الْخَبَر أو مُسَاوِيًا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ لُغَةً وَعَقْلًا فَلَا يَجُوزُ الْحَيَوَانُ إنْسَانٌ وَلَا الزَّوْجُ عَشَرَةٌ بَلْ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ وَالْعَشَرَةُ زَوْجٌ وَالْعَرَبُ لم تَتَّبِعْ إلَّا الصِّدْقَ وَالْمُسَاوِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورًا في مُسَاوِيهِ وَالْأَخَصُّ مَحْصُورًا في أَعَمِّهِ وَإِلَّا لم يَكُنْ أَخَصَّ وَلَا مُسَاوِيًا قالوا فَلَوْ لم تَقْتَضِ الْحَصْرَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ أَعَمَّ من الْخَبَرِ وهو غَيْرُ جَائِزٍ بَيَانُهُ أَنَّا إذَا قُلْنَا الْعَالِمُ زَيْدٌ فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَيْسَتْ لِلْجِنْسِ قَطْعًا وَلَا لِلْعَهْدِ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ لِمَاهِيَّةِ الْعَالِمِ وَتِلْكَ الْمَاهِيَّةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً في غَيْرِ زَيْدٍ أو لَا فَإِنْ لم تَكُنْ انْحَصَرَتْ الْعَالِمِيَّةُ في زَيْدٍ وهو الْمَطْلُوبُ وَإِنْ كانت مَوْجُودَةً في غَيْرِهِ فَتَكُونُ أَعَمَّ من زَيْدٍ وَزَيْدٌ أَخَصُّ منها

وقد أَخْبَرْتُمْ عنها فَلَزِمَ الْإِخْبَارُ بِالْأَعَمِّ عن الْأَخَصِّ كما ادَّعَيْنَا قِيلَ وَهَذَا الدَّلِيلُ إنَّمَا يَتِمُّ بِجَعْلِ الْعَالِمِ مُخْبِرًا عنه وَزَيْدٌ مُخْبِرًا بِهِ أَمَّا لو جَعَلَ الْعَالِمَ خَبَرًا مُقَدَّمًا على الْمُخْبَرِ عنه فَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بين الْعَالِمُ زَيْدٌ وَزَيْدٌ الْعَالِمُ ثُمَّ نَقُولُ الْعَالِمُ زَيْدٌ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَأَيْضًا لو جَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ في الْعَالِمِ لِلْمَعْهُودِ وَهِيَ مَعْنَى الْكَامِلِ وَالْمُشْتَهِرِ في الْعَالِمِيَّةِ فَحِينَئِذٍ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ وَلَا يُفِيدُ الْحَصْرَ هذا إذَا كان الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ مَعْرِفَتَيْنِ وقد خُيِّرْنَا فِيهِمَا أَمَّا إذَا كان الْمُبْتَدَأُ مَعْرِفَةً وَالْخَبَرُ نَكِرَةً نَحْوُ زَيْدٌ قَائِمٌ فَلَا حَصْرَ فيها قَطْعًا فإنه لَا يَنْحَصِرُ زَيْدٌ في الْقِيَامِ قَطْعًا وقال الْعَبْدَرِيُّ ما ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ من أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَدِيقِي زَيْدٌ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ هو جَائِزٌ وَيَكُونُ الْمُبْتَدَأُ لَفْظًا خَاصًّا لَا عَامًّا وَإِنَّمَا أَوْقَعَهُ في هذا الْغَلَطِ كَوْنُ الصَّدَاقَةِ لَفْظًا عَامًّا نعم هو عَامٌّ إذَا انْفَرَدَ فلم يَقَعْ خَبَرًا وَلَا مُبْتَدَأً وَلَا صِفَةً فَيُقَالُ صَدِيقِي يَصْلُحُ لِلْخَبَرِيَّةِ عن وَاحِدٍ وَعَنْ أَكْثَرَ فإذا وُصِفَ بِهِ مَوْصُوفٌ أو أُخْبِرَ بِهِ عن مُبْتَدَأٍ كان مُفْرَدًا إذَا كان الْمُبْتَدَأُ أو الْمَوْصُوفُ مُفْرَدًا فَإِنْ كان الْمُبْتَدَأُ أو الْمَوْصُوفُ مُثَنًّى أو جَمْعًا كان هو كَذَلِكَ وَيَدُلُّ عليه الضَّمَائِرُ الْمُقَدَّرَةُ فيه فَإِنَّمَا تُقَدَّرُ على وَفْقِ من تَعُودُ عليه مِثَالُهُ زَيْدٌ صَدِيقِي هو وَالزَّيْدَانِ صَدِيقِي هُمَا وَالزَّيْدُونَ صَدِيقِي هُمْ وقال ابن الْحَاجِبِ في أَمَالِيهِ زَعَمَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّك إنْ أَخَّرْت صَدِيقِي كانت الصَّدَاقَةُ غير مَحْصُورَةٍ في زَيْدٍ وَإِنْ قَدَّمْته كانت مَحْصُورَةً فيه وَكَلَامُهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ في الْجُمْلَتَيْنِ جميعا وقال غَيْرُهُ هذا الْقَوْلَ وَزَعَمَ أَيَّهُمَا قُدِّمَ فَهُوَ الْمُبْتَدَأُ وقال قَوْمٌ بِاسْتِوَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَوَجَّهَ قَوْمٌ قَوْلَ الْإِمَامِ إنَّ صَدِيقِي مُقْتَضٍ لِلْخَبَرِيَّةِ لِإِفَادَتِهِ النِّسْبَةَ إلَى زَيْدٍ فإذا كان خَبَرًا وَأَخَّرْته لم يَلْزَمْ الْحَصْرُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ أَعَمَّ كَقَوْلِك زَيْدٌ عَالِمٌ فإذا قَدَّمْته مع كَوْنِهِ خَبَرًا فلم تُقَدِّمْهُ إلَّا لِغَرَضٍ وَلَا غَرَضَ إلَّا قَصْدُ الْحَصْرِ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَعْرِفَتَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا كان أَسْبَقُهُمَا الْمُبْتَدَأَ فإذا قُلْت زَيْدٌ صَدِيقِي فَلَا حَصْرَ لِجَوَازِ عُمُومِ الْخَبَرِ وإذا قُلْت صَدِيقِي زَيْدٌ أَفَادَ الْحَصْرَ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ صَدِيقِي فَلَوْ قَدَّرْت الْخَبَرَ عَامًّا لم يَسْتَقِمْ فَلَا بُدَّ من مُطَابَقَتِهِ وَأَنْ لَا صَدِيقَ سِوَاهُ قال ابن الْحَاجِبِ وَلَيْسَ الْقَوْلَانِ بِقَوِيَّيْنِ وَالدَّلِيلُ على الْقَوْلِ الثَّالِثِ أَنَّ الْمَعْرِفَتَيْنِ إذَا اجْتَمَعَا فَالْمُقَدَّمُ هو الْمُبْتَدَأُ

مَذْكُورٌ في مَوْضِعِهِ وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُك صَدِيقِي زَيْدٌ أو زَيْدٌ صَدِيقِي إمَّا أَنْ تُرِيدَ بِالصَّدِيقِ مَعْهُودًا أو عُمُومَ الْأَصْدِقَاءِ فَإِنْ قَصَدَ وَاحِدًا وَقَدَّمَ زَيْدًا أو أَخَّرَهُ فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَإِنْ قَصَدَ عُمُومَ الْأَصْدِقَاءِ وَقَدَّمَ زَيْدًا أو أَخَّرَهُ وَجَبَ الْعُمُومُ فإذا قُلْت صَدِيقِي زَيْدٌ أَيْ إنَّ كُلَّ صَدَاقَةٍ لي مَحْصُورَةٌ في زَيْدٍ أو زَيْدٌ صَدِيقِي فَزَيْدٌ هو الْمُخْبَرُ عنه لَا صَدِيقَ سِوَاهُ وَجَبَ الْحَصْرُ فِيهِمَا جميعا وَلَوْ سَلَّمَ تَعْيِينَ صَدِيقِي لِلْخَبَرِيَّةِ كما قَالَهُ الْإِمَامُ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ فإنه إنْ أُرِيدَ الْخَاصُّ فَلَا عُمُومَ في التَّقْدِيمِ أو التَّأْخِيرِ أو أُرِيدَ الْمَعْنَى فَالْمَعْنَى وَاحِدٌ قَدَّمَ أو أَخَّرَ وَإِنَّمَا فُهِمَ التَّغَايُرُ لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الْعَالِمُ زَيْدٌ وَلَيْسَ هو نَظِيرَهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في الْمُبْتَدَأِ إذَا كان مَعْرِفَةً وَالْخَبَرُ نَكِرَةً هل يُفِيدُ الْحَصْرَ فَقِيلَ لَا يُفِيدُ أَصْلًا وَاحْتَجَّ له بِقَوْلِهِ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فإنه لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ كَذَلِكَ وقد ثَبَتَ قَوْلُهُ فَلْيَتَّقِ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ وَقِيلَ يُفِيدُهُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا هل يُفِيدُهُ من جِهَةِ الْمَنْطُوقِ أو الْمَفْهُومِ على قَوْلَيْنِ فَقِيلَ إنَّهُ بِالْمَفْهُومِ وَنَقَلَهُ ابن الْقُشَيْرِيّ عن الْحَنَفِيَّةِ قال وَلِهَذَا لم يَقْبَلُوهُ قال وَعِنْدَنَا أَنَّهُ ليس من قَبِيلِ الْمَفْهُومِ الْمُتَلَقَّى من تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ وَمَنْ قال زَيْدٌ صَدِيقِي لم يَتَضَمَّنْ نَفْيَ الصَّدَاقَةِ عن غَيْرِهِ فَلَوْ قال صَدِيقِي زَيْدٌ اقْتَضَاهُ قال وَلَا يَبْعُدُ ادِّعَاءُ إجْمَاعِ أَهْلِ اللِّسَانِ عليه لِأَنَّهُ غَيَّرَ نَظْمَ الْكَلَامِ فَدَلَّ على قَصْدِ الِاهْتِمَامِ وَحَصْرِ الصَّدَاقَةِ فيه وهو تَابِعٌ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَكَذَلِكَ اخْتَارَ الْغَزَالِيُّ أَنَّهُ مَنْطُوقٌ وَجَعَلَهُ دُونَ إنَّمَا في الْقُوَّةِ وَكَذَلِكَ إِلْكِيَا وقال إنَّ تَلَقِّي الْحَصْرِ فيه مَأْخُوذٌ من حَيْثُ اللَّفْظُ فَجَعَلَ جِنْسَ التَّحْرِيمِ مَحْصُورًا في الْمُسْكِرِ وَالصَّدَاقَةُ مُبْتَدَأً وَالْمُبْتَدَأُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِ وَضْعًا وَالصَّدَاقَةُ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِصَرْفِهَا إلَى الْجِنْسِ فَكَأَنَّهُ قال جِنْسُ الصَّدَاقَةِ مَحْصُورٌ في زَيْدٍ وَلَوْ قال زَيْدٌ صَدِيقِي لَا يُفْهَمُ منه أَنَّهُ لَا صَدِيقَ سِوَاهُ لِأَنَّهُ جَعَلَ الصَّدَاقَةَ خَبَرًا ولم يَجْعَلْهَا مُبْتَدَأً فلم يَعْرِفْهُ الْمُخَاطَبُ قال وَيُتَلَقَّى الْحَصْرُ من فَحَوَى اللَّفْظِ وَنَظْمِ الْكَلَامِ قال وَلِهَذَا قال إنَّ تَلَقِّي الْمَفْهُومِ من الْفَحْوَى لَا يَسْقُطُ

لِظُهُورِ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ من جِهَةِ مُوَافَقَةِ الْعَادَةِ أو السُّؤَالِ حتى يَجُوزَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ في نَفْيِ الْحُكْمِ حَالَةَ الْمُصَافَاةِ قال فَيَرْجِعُ حَاصِلُ نَظَرِ الْإِمَامَ إلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَدُلُّ على الْمُخَالَفَةِ في هذه الصُّورَةِ وَغَيْرِهَا وَلَكِنَّ حُكْمَ الْمُخَالَفَةِ يُتَلَقَّى من الْفَحْوَى فَهُوَ يَدُلُّ بِالْمَنْطُوقِ لَا بِالْمَفْهُومِ ا هـ مَسْأَلَةٌ هذه صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ في اللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ أَمَّا التي لِلتَّعْرِيفِ أَيْ لِلْعَهْدِ فَلَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ من الْفُقَهَاءِ قال في بَابِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ في الْكَلَامِ على زَوَائِدِ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ وَقَبْلَهُ لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ فَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي أنها لِلْبَائِعِ فِيمَا قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ من ضَمَانِ الْبَائِعِ فَأَجَابَ لِلْمَذْهَبِ أَنَّ هذه الْأَلِفَ وَاللَّامَ في الْخَرَاجِ بِالضَّمَانِ لِلتَّعْرِيفِ فَكَأَنَّهُ قال الْخَرَاجُ في مُقَابَلَةِ مِثْلِ هذا بِالضَّمَانِ وَدَلَّ على هذا التَّقْيِيدِ قِيَامُ الدَّلِيلِ من خَارِجِ أَنَّ ضَمَانَ الْغَاصِبِ وَالْمَقْبُوضِ عن فَسْخِ الْبَيْعِ وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ الضَّمَانُ فيها وَلَا خَرَاجَ لِلضَّامِنِ بِالضَّمَانِ وقد كانت قِصَّةُ الحديث في بَيْعٍ وُجِدَ فيه الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْخَرَاجِ بِمِلْكٍ أو نَحْوِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ ضَمَانًا إذْ لَا حَصْرَ إلَّا في اللَّقَبِ وَاللَّامِ الْجِنْسِيَّةِ هذا كَلَامُهُ مَسْأَلَةٌ إفَادَةُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ بين الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ الْحَصْرَ الْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ بين الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ نَحْوُ زَيْدٌ هو الْعَالِمُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى فَاَللَّهُ هو الْوَلِيُّ إنَّ شَانِئَكَ هو الْأَبْتَرُ ذَكَرَهُ الْبَيَانِيُّونَ وقال ابن الْحَاجِبِ في أَمَالِيهِ صَارَ إلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى وَإِنَّ جُنْدَنَا لهم الْغَالِبُونَ فإنه لم يُسَقْ إلَّا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُمْ الْغَالِبُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ إنَّ اللَّهَ هو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

وَالثَّانِي أَنَّهُ لم يُوضَعْ إلَّا لِلْفَائِدَةِ وَلَا فَائِدَةَ في مِثْلِ قَوْلِهِ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ سِوَى الْحَصْرِ مَسْأَلَةٌ تَقْدِيمُ الْمَعْمُولَاتِ على عَوَامِلِهَا تَقْدِيمُ الْمَعْمُولَاتِ على عَوَامِلِهَا نَحْوُ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ وقد صَرَّحَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُ بِدَلَالَتِهِ على الْحَصْرِ قال بَعْضُهُمْ وَلَا خِلَافَ في إفَادَةِ هذا الْحَصْرِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ من جِهَةِ الْمَفْهُومِ لَا الْمَنْطُوقِ وَذَكَرَهُ الْبَيَانِيُّونَ أَيْضًا وَرَدَّهُ ابن الْحَاجِبِ في شَرْحِ الْمُفَصَّلِ وَالشَّيْخُ أبو حَيَّانَ وقال الذي نَصَّ عليه أَنَّ التَّقْدِيمَ لِلِاهْتِمَامِ وَالْعِنَايَةِ فقال كَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ الذي شَأْنُهُ أَهَمُّ وَهُمْ بِبَيَانِهِ أَعَنَى وَإِنْ كَانَا جميعا مُهْتَمًّا بِهِمَا أو بِعِنَايَتِهِمَا ا هـ وَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ سِيبَوَيْهِ في بَابِ الْفَاعِلِ الذي يَتَعَدَّاهُ فِعْلُهُ إلَى مَفْعُولٍ قال وَذَلِكَ قَوْلُك ضَرَبَ زَيْدًا عبد اللَّهِ ثُمَّ قال وَكَأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ إلَى آخِرِهِ وَلَيْسَ هذا مَحَلُّ النِّزَاعِ لِأَنَّ الْكَلَامَ في تَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ على الْعَامِلِ لَا في تَقْدِيمِهِ على الْفَاعِلِ وَذَكَرَهُ في بَابِ ما يَكُونُ فيه الِاسْمُ مَبْنِيًّا على الْفِعْلِ قال وَذَلِكَ قَوْلُك زَيْدًا ضَرَبْت فَالِاهْتِمَامُ وَالْعِنَايَةُ هُنَا في التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ سَوَاءٌ مِثْلُهُ في ضَرَبَ زَيْدٌ عُمْرًا وَضَرَبَ زَيْدًا عَمْرٌو فَهَذَا وَإِنْ كان مَحَلُّ النِّزَاعِ فَلَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ من الْجِهَةِ التي شَابَهُ بها تَقْدِيمَ الْفَاعِلِ على الْمَفْعُولِ أو الْعَكْسِ في الْمِثَالَيْنِ وَلَيْسَ فيه من هذه الْجِهَةِ إلَّا الِاهْتِمَامُ وَلَا يَبْقَى ذلك الذي اخْتَصَّ بها إذَا تَقَدَّمَ على الْعَامِلِ وَهِيَ الْحَصْرُ وَالْحَقُّ أَنَّ التَّقْدِيمَ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ وقد يُفِيدُ مع ذلك الِاخْتِصَاصَ بِقَرَائِنَ وهو الْغَالِبُ وقد اجْتَمَعَ الِاخْتِصَاصُ وَعَدَمُهُ في آيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى أَغْيَر اللَّهِ تَدْعُونَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إيَّاهُ تَدْعُونَ فإن التَّقْدِيمَ في الْأُولَى قَطْعًا لِلِاخْتِصَاصِ وفي إيَّاهُ قَطْعًا لِلِاخْتِصَاصِ وَاَلَّذِي عليه مُحَقِّقُو الْبَيَانِيِّينَ أَنَّ ذلك غَالِبٌ لَا لَازِمٌ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى كُلًّا هَدْينَا وَنُوحًا هَدَيْنَا من قَبْلُ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ إنْ جَعَلْنَا ما بَعْدَ الظَّرْفِ مُبْتَدَأً

وقد رَدَّ صَاحِبُ الْفَلَكِ الدَّائِرِ الْقَاعِدَةَ بِالْآيَةِ الْأُولَى قِيلَ وَرَدَّ ابن الْحَاجِبِ في شَرْحِ الْمُفَصَّلِ الْقَاعِدَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ مع قَوْلِهِ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا فَدَلَّ على أَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ سَوَاءٌ وَهَذَا فيه نَظَرٌ بَلْ ذلك يَدُلُّ على عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ فإنه حَيْثُ أَخَّرَ الْمَعْمُولَ أتى بِمَا يَنُوبُ عن التَّقْدِيمِ وهو قَوْلُهُ مُخْلِصًا وَلَوْ لم يَذْكُرْهُ مع التَّقْدِيمِ دَلَّ على إفَادَتِهِ الِاخْتِصَاصَ وَالْحَصْرَ وَلَعَلَّ ابْنَ الْحَاجِبِ أَرَادَ الْآيَةَ الْأُخْرَى وَهِيَ قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا له دِينِي فَقَدْ ذَكَرَ مُخْلِصًا فِيهِمَا مع اخْتِلَافِهِمَا بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وقال ابن أبي الْحَدِيدِ في الْفَلَكِ الدَّائِرِ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ على الِاخْتِصَاصِ إلَّا بِالْقَرَائِنِ وَإِلَّا فَقَدْ كَثُرَ في الْقُرْآنِ التَّصْرِيحُ بِهِ مع عَدَمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَجَعَلْنَا في الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَلَا يَدُلُّ على أَنَّ غير الرَّوَاسِي لم يَجْعَلْهُ في الْأَرْضِ وَقَوْلِهِ إنَّ لك أَلَّا تَجُوعَ فيها وَلَا تَعْرَى ولم يَكُنْ ذلك مُخْتَصًّا بِهِ فَقَدْ كانت حَوَّاءُ كَذَلِكَ وَقَوْلِهِ إذْ نَفَشَتْ فيه غَنَمُ الْقَوْمِ وَلَا يَدُلُّ على أنها ما نَفَشَتْ إلَّا فيه لِأَنَّ النَّفْشَ انْتِشَارُ الْغَنَمِ من غَيْرِ رَاعٍ سَوَاءٌ كان في حَرْثٍ أو غَيْرِهِ وقال تَعَالَى وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فُقِدَ الظَّرْفُ وَلَا يَدُلُّ على أَنَّهُ لم يَشْهَدْ إلَّا حُكْمَهُمْ وقال وَوَهَبْنَا له يحيى وَأَصْلَحْنَا له زَوْجَهُ وَلَا يَدُلُّ على أَنَّهُ لم يُصْلِحْ زَوْجَةَ أَحَدٍ غَيْرِهِ قال وفي الْكِتَابِ أَلْفُ آيَةٍ مِثْلُ هذه تُبْطِلُ الِاخْتِصَاصَ وَالْحَصْرَ قال وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَرِينَةَ تَدُلُّ على الِاخْتِصَاصِ لَا بِمُجَرَّدِ الصِّيغَةِ ا هـ وَأَنْتَ إذَا عَرَفْت قَيْدَ الْعِلَّةِ سَهُلَ الْأَمْرُ نعم له شَرْطَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَعْمُولُ مُقَدَّمًا على الْوَضْعِ فإنه لَا يُسَمَّى مُقَدَّمًا حَقِيقَةً كَأَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ وَالْمُبْتَدَأِ عِنْدَ من يَجْعَلُهُ مَعْمُولًا لِخَبَرِهِ وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ التَّقْدِيمُ لِمَصْلَحَةِ التَّرْكِيبِ مِثْلُ وَأَمَّا ثَمُودَ فَهَدَيْنَاهُمْ على قِرَاءَةِ النَّصْبِ وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْبَيَانِيِّينَ أَنَّ الِاخْتِصَاصَ وَالْحَصْرَ وَالْقَصْرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلِهَذَا يَجْعَلُونَ من الْحَصْرِ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُقَيِّدٌ لِلِاخْتِصَاصِ وَالْحَصْرِ وَحَكَى ابن الْحَاجِبِ عن إمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ على أَنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ حُجَّةٌ بِأَنَّهُ لو لم يُفِدْ الْحَصْرَ لم يُفِدْ الِاخْتِصَاصَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ

وَخَالَفَهُمْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الِاخْتِصَاصَ إعْطَاءُ الْحُكْمِ لِشَيْءٍ وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ فَهُوَ مَسْكُوتٌ عنه وَالْحَصْرُ إعْطَاءُ الْحُكْمِ له وَالتَّعَرُّضُ لِنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ فَفِي الِاخْتِصَاصِ قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وفي الْحَصْرِ قَضِيَّتَانِ فإذا قُلْت لَا قَائِمَ إلَّا زَيْدٌ فَفِيهِ إثْبَاتُ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ وَنَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ وَهَلْ ذلك بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ أو الْمَفْهُومِ خِلَافٌ يَنْبَنِي عليه ما إذَا قُلْت بَعْدَهُ وَعَمْرٌو وَهَلْ هو نَسْخٌ أو تَخْصِيصٌ فَإِنْ قُلْنَا بِالْمَنْطُوقِ فَهُوَ نَسْخٌ وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَفْهُومِ فَتَخْصِيصٌ قال وَيَدُلُّ على أَنَّ الْحَصْرَ غَيْرُ الِاخْتِصَاصِ قَوْله تَعَالَى يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ من يَشَاءُ فإنه لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَقْصُرُ رَحْمَتَهُ على من يَشَاءُ لِأَنَّهَا لَا تُقْصَرُ وَلَا تَخْتَصُّ بها لِأَنَّهَا لَا تُخْتَصُّ بَلْ مَدْلُولُ الْآيَةِ أَنَّهُ يَرْحَمُ من يَشَاءُ وَغَيْرُهُمْ يُعْرِضُ عنه تَنْبِيهٌ يَدْخُلُ في هذا الْقِسْمِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ فإن الْخَبَرَ مَعْمُولٌ لِلْمُبْتَدَأِ على الصَّحِيحِ مَسْأَلَةٌ في إفَادَةِ لَامِ التَّعْرِيفِ في الْخَبَرِ الْحَصْرَ لَامُ التَّعْرِيفِ في الْخَبَرِ نَحْوُ زَيْدٌ الْمُنْطَلِقُ ذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في نِهَايَةِ الْإِعْجَازِ وهو مُقْتَضٍ حَصْرَ الْخَبَرِ في الْمُبْتَدَإِ عَكْسَ الْحَصْرِ في الْمُبْتَدَإِ فإن الْأَوَّلَ يَكُونُ مَحْصُورًا في الثَّانِي فإذا قُلْت الصَّدِيقُ هو الْخَلِيفَةُ وَزَيْدٌ هو الْمُحَدِّثُ أَيْ لَا يَتَكَلَّمُ فيها غَيْرُهُ وَاللَّازِمُ ثُبُوتُهُ في هذه الْمَفْهُومَاتِ هو النَّقِيضُ لَا الْحَصْرُ وَلَا الْخِلَافُ وقال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ قد ذَكَرَ شَيْخُنَا أبو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ أَنَّ لِلْحَصْرِ أَرْبَعَةَ أَلْفَاظٍ إنَّمَا وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ نَحْوُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلَفْظُ ذلك كَقَوْلِهِ تَعَالَى ذلك لِمَنْ لم يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْإِضَافَةُ كَقَوْلِهِ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ قال أبو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ

وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي من ذلك لَفْظَةُ إنَّمَا قال وقد وَرَدَ لِمَالِكٍ ما يَقْتَضِي أَنَّ لَامَ كَيْ عِنْدَهُ من حُرُوفِ الْحَصْرِ وَذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ على الْمَنْعِ من أَكْلِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ بِقَوْلِهِ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً مَسْأَلَةُ التَّعْلِيلِ بِالْمُنَاسَبَةِ قال الشَّيْخُ في شَرْحِ الْإِلْمَامِ الْخِلَافِيُّونَ من الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُونَ التَّعْلِيلُ بِالْمُنَاسَبَةِ يَقْتَضِي الْحَصْرَ لِأَنَّ قَوْلَنَا افْعَلْ كَذَا لِكَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ فَلَعَلَّهُ لِكَذَا في الْعُرْفِ وَالِاسْتِعْمَالِ فإذا قال أَعْطَيْت هذا لِفَقْرِهِ لم يَحْسُنْ أَنْ يَقُولَ أَعْطَيْته لِعِلْمِهِ

كتاب النسخ

كِتَابُ النَّسْخِ وَالنَّظَرُ فيه بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ أَمَّا في اللُّغَةِ فَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْإِبْطَالَ وَالْإِزَالَةَ وَمِنْهُ نَسَخَتْ الشَّمْسُ الظِّلَّ وَالرِّيحُ آثَارَ الْقَدَمِ وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْقُرُونِ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْعَسْكَرِيُّ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ بَعْدَ الثُّبُوتِ وَمِنْهُ نَسَخْتُ الْكِتَابَ أَيْ نَقَلْته وهو الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّا كنا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْأَرْوَاحِ وَالْمَوَارِيثِ وَسُمِّيَ قَوْمٌ من الْمُبْتَدِعَةِ الْمُتَنَاسِخَةَ لِأَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْأَرْوَاحَ تَنْتَقِلُ من هَيْكَلٍ إلَى هَيْكَلٍ وَمِنْ قَالِبٍ إلَى قَالِبٍ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ كما قَالَهُ الْهِنْدِيُّ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ في الْإِزَالَةِ مَجَازٌ في النَّقْلِ وَعَلَيْهِ أبو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ وَالرَّازِيَّ وَنَقَلَهُ ابن بَرْهَانٍ عن عبد اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَذَهَبَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ في النَّقْلِ وَذَهَبَ أبو بَكْرٍ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْغَزَالِيُّ إلَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا لَفْظًا لِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِمَا وَذَهَبَ ابن الْمُنِيرِ في شَرْحِ الْبُرْهَانِ إلَى أَنَّهُ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ وهو التَّوَاطُؤُ لِأَنَّ بين نَسْخِ الشَّمْسِ الظِّلَّ وَنَسْخِ الْكِتَابِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا وهو الرَّفْعُ وهو في نَسْخِ الظِّلِّ بَيِّنٌ لِأَنَّهُ زَالَ بِضِدِّهِ وفي نَسْخِ الْكِتَابِ مُقَدَّرٌ من حَيْثُ إنَّ الْكَلَامَ الْمَنْقُولَ بِالْكِتَابَةِ لم يَكُنْ مُسْتَفَادًا إلَّا من الْأَصْلِ فَكَانَ لِلْأَصْلِ بِالْإِفَادَةِ خُصُوصِيَّةٌ فإذا نَسَخْتُ الْأَصْلَ ارْتَفَعَتْ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةُ وَارْتِفَاعُ الْأَصْلِ وَالْخُصُوصِيَّةِ سَوَاءٌ في مُسَمَّى الرَّفْعِ وَقِيلَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا هو التَّغْيِيرُ وقد صَرَّحَ بِهِ الْجَوْهَرِيُّ وَنَبَّهَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ على أَنَّ نَسَخْت الْكِتَابَ ليس من بَابِ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ لم يَنْتَقِلْ على الْحَقِيقَةِ بَلْ يُشْبِهُ الْمَنْقُولَ ثُمَّ قِيلَ الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ وقال ابن بَرْهَانٍ بَلْ مَعْنَوِيٌّ يُبْنَى عليه جَوَازُ النَّسْخِ بِلَا بَدَلٍ فَمَنْ قال حَقِيقَةٌ في الْإِزَالَةِ مَجَازٌ في النَّقْلِ جَوَّزَهُ وَمَنْ قال حَقِيقَةٌ فِيهِمَا مَنَعَهُ وقال أبو الْحُسَيْنِ في الْمُعْتَمَدِ فَأَمَّا اسْتِعْمَالُ النَّسْخِ في الشَّرْعِ فقال أبو عبد اللَّهِ الْبَصْرِيُّ هو مَنْقُولٌ إلَى مَعْنًى في الشَّرْعِ وَلَا يَجْرِي عليه على سَبِيلِ التَّشْبِيهِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِأَنَّهُ يُفِيدُ في الشَّرْعِ مَعْنًى مُمَيَّزًا يَجْرِي مَجْرَى اسْمِ الصَّلَاةِ وقال الشَّيْخُ أبو هَاشِمٍ إنَّهُ يُفِيدُ مَعْنًى في الشَّرْعِ على طَرِيقِ التَّشْبِيهِ بِاللُّغَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يُفِيدُ إزَالَةَ مِثْلِ

الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ كما يُفِيدُ في اللُّغَةِ الْإِزَالَةَ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ قَصَرَهُ على إزَالَةِ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ على وَجْهٍ مَخْصُوصٍ يَجْرِي مَجْرَى قَوْلِنَا دَابَّةٌ في أَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ ما يَدِبُّ ا هـ قال ابن الصَّبَّاغِ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إلَى أَنَّهُ مَنْقُولٌ من اللُّغَةِ إلَى الشَّرْعِ كما نُقِلَ اسْمُ الصَّلَاةِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ في الشَّرْعِ بِرَفْعِ مِثْلِ الْحُكْمِ وَإِنْ كان الرَّفْعُ عَامًّا كما خُصِّصَتْ الدَّابَّةُ بِالِاسْمِ وَإِنْ كان غَيْرُهَا يَدِبُّ عليها وَأَمَّا في الِاصْطِلَاحِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ في حَدِّهِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِخِطَابٍ وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ ما يَحْصُلُ على الْمُكَلَّفِ بَعْدَ أَنْ لم يَكُنْ فَلَا يَرِدُ أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَرْفَعُ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى التَّعَلُّقِ وهو حَادِثٌ وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ نَفْسُهُ ليس بِحُكْمٍ وَالْمُرَادُ ارْتِفَاعُ دَوَامِ الْحُكْمِ بِمَعْنَى تَكَرُّرِهِ لَا ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ الذي هو الْخِطَابُ لِأَنَّ ما ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ وَتَقْيِيدُهُ بِالشَّرْعِيِّ يُخْرِجُ الْعَقْلِيَّ كَالْمُبَاحِ الثَّابِتِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ فإنه لو حَرَّمَ فَرْدًا من تِلْكَ الْأَفْرَادِ لم يُسَمَّ نَسْخًا وَقُلْنَا بِخِطَابٍ لِيَعُمَّ وُجُوهَ الْأَدِلَّةِ وَلْيَخْرُجْ الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ النَّسْخُ فِيهِمَا وَلَا بِهِمَا وَلْيَخْرُجْ ارْتِفَاعُهُ بِالْمَوْتِ وَنَحْوِهِ فإنه لَا يُسَمَّى نَسْخًا وَكَمَنْ سَقَطَ رِجْلَاهُ فإنه لَا يُقَالُ نُسِخَ عنه غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ وما قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ في الْمَحْصُولِ من أَنَّهُ نَسْخٌ ضَعِيفٌ وَمِنْهُمْ من زَادَ قَيْدَ التَّرَاخِي لِيَخْرُجَ الْمُتَّصِلُ بِالْحُكْمِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِغَايَةِ الْحُكْمِ وَلَا يُسَمَّى نَسْخًا لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ آخِرُ الْكَلَامِ قد مَنَعَ أَوَّلَهُ وَقَوْلُنَا رَفْعُ حُكْمٍ يُغْنِي عن هذا الْقَيْدِ إذْ ليس من ذلك رَفْعُ الْحُكْمِ لِأَنَّ الرَّفْعَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الثُّبُوتِ وَلَيْسَ شَيْءٌ منها ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِأَنَّهَا تَخْصِيصَاتٌ وهو يُبَيِّنُ أَنَّهُ غير مُرَادٍ وَقَوْلُنَا بِخِطَابٍ أَيْ بِحَيْثُ لو لم يُرِدْ الثَّانِي لَكَانَ حُكْمُ الْأَوَّلِ بَاقِيًا وما ذَكَرْنَاهُ من كَوْنِ النَّسْخِ رَفْعًا هو مُخْتَارُ الصَّيْرَفِيِّ وَالْقَاضِي أبي بَكْرٍ وَالشَّيْخِ أبي إِسْحَاقَ وَالْغَزَالِيِّ وَالْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ الْإِبْيَارِيِّ وهو الْمُخْتَارُ وقد أَنْكَرَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ بِنَاءً على أَنَّ الْحُكْمَ رَاجِعٌ إلَى كَلَامِ اللَّهِ وهو قَدِيمٌ وَالْقَدِيمُ لَا يُرْفَعُ وَلَا يُزَالُ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَرْفُوعَ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ النِّسْبِيِّ لَا ذَاتُهُ وَلَا تَعَلُّقُهُ الذَّاتِيُّ وقال بَعْضُ شَارِحِي الْبُرْهَانِ الْحَقُّ ما ذَكَرَهُ الْقَاضِي من أَنَّهُ الرَّفْعُ وَلَا يَلْزَمُهُ ما أَلْزَمَهُ الْإِمَامُ من التَّنَاقُضِ في التَّعَلُّقِ فإن الْقَاضِيَ بَنَى على أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا

أَنَّ الْأَمْرَ يُفَارِقُ الْإِرَادَةَ وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ يَتَعَلَّقُ بِمُتَعَلِّقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ على الِاتِّحَادِ في نَفْسِهِ وَالِاخْتِلَافُ رَاجِعٌ إلَى التَّعَلُّقِ فَالْأَمْرُ عِبَارَةٌ عن الطَّلَبِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الْبَارِّي سُبْحَانَهُ فَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْمَطْلُوبِ على الدَّوَامِ قَطْعًا وَتَكُونُ الْإِرَادَةُ غير ذلك وقد يَتَعَلَّقُ بِالْمَطْلُوبِ نَفْسِهِ في بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَيَكُونُ هذا التَّعَلُّقُ بَيَانًا لِلْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ أَنَّهُ لم يُرَدْ الدَّوَامُ وَإِنَّمَا أُرِيدَ بَعْضُ الْأَزْمِنَةِ ولم يَتَعَلَّقْ الْعِلْمُ بِالدَّوَامِ وَلَا تَنَاقُضَ في تَعَلُّقِ الطَّلَبِ بِمُتَعَلِّقٍ وَاحِدٍ على صِفَتَيْنِ في وَقْتَيْنِ مَطْلُوبًا على التَّأْبِيدِ في الْوَقْتِ وفي بَعْضِ الْأَزْمَانِ في وَقْتٍ آخَرَ لم يَخْتَلِفْ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ التَّعَلُّقُ وَالزَّمَانُ وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ هذا أَنْ لو كان الْمُخَاطَبُ يَفْهَمُ في وَقْتٍ وَاحِدٍ وَلَا اسْتِحَالَةَ في وَقْتَيْنِ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ النَّسْخِ إلَى بَيَانِ الْإِرَادَةِ وَالْعِلْمِ وَحَدَّهُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ الْخِطَابُ الدَّالُّ على انْتِهَاءِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مع التَّأْخِيرِ عن مَوْرِدِهِ وَأَلْزَمُوا عليه كَوْنَ النَّسْخِ من بَابِ التَّخْصِيصِ فَيَصِحُّ أَنْ يَنْسَخَ بِمَا بِهِ يُخَصِّصُ فَيَنْسَخُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَبِالْإِجْمَاعِ وهو لَا يَجُوزُ وَإِلَى كَوْنِهِ بَيَانًا ذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أبو إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي أبو الطَّيِّبِ وَسُلَيْمٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَغَيْرُهُمْ وَحَكَاهُ في الْمَعَالِمِ عن أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ الْقَرَافِيُّ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ النَّسْخَ تَخْصِيصًا وَبَيَانًا أَيْ أَنَّ الْخِطَابَ الثَّانِي بَيَّنَ أَنَّ الْأَزْمِنَةَ بَعْدَهُ لم يَكُنْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فيها مُرَادًا من الْخِطَابِ الْأَوَّلِ كما أَنَّ التَّخْصِيصَ في الْأَعْيَانِ كَذَلِكَ وَأَوْرَدُوا على من حَدَّهُ بِالرَّفْعِ بِأَنَّ الرَّافِعَ الْحَادِثَ إنْ وُجِدَ حَالَ وُجُودِ الْأَوَّلِ لم يُنَافِهِ وَإِنْ وُجِدَ حَالَ عَدَمِهِ لم يَعْدَمْهُ لِامْتِنَاعِ إعْدَامِ الْمَعْدُومِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّفْعَ كَالْكَسْرِ وَالِارْتِفَاعَ كَالِانْكِسَارِ وَلِذَلِكَ يَجْعَلُونَ الرَّفْعَ كَفَسْخِ الْعُقُودِ وَقَالُوا أَيْضًا إنَّمَا عَدَلْنَا إلَى الْبَيَانِ احْتِرَازًا عن تَعَارُضِ الرَّافِعِ وَالدَّافِعِ وَالرَّفْعُ ليس أَوْلَى من الدَّفْعِ وَهَذَا منهم بِنَاءً على أَنَّ الرَّفْعَ وَالدَّفْعَ من مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْأَلْفَاظُ دَلَائِلُ على إرَادَةِ الشَّارِعِ وَالشَّارِعُ له الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالثَّانِي أَيْضًا بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِدَوَامِ الْحُكْمِ أَبَدًا أو إلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ الرَّفْعُ أَمَّا إذَا تَعَلَّقَ بِالدَّوَامِ فَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ رَفْعُهُ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ خِلَافِ مَعْلُومِهِ وَأَمَّا على التَّقْدِيرِ الثَّانِي وهو أَنْ يُعْلَمَ انْتِهَاؤُهُ إلَى

الْوَقْتِ وإذا كان الِانْتِهَاءُ وَاجِبًا في ذلك لم يَحْصُلْ الرَّفْعُ الثَّانِي لِأَنَّهُ قد وَجَبَ ارْتِفَاعُهُ وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِالِانْتِهَاءِ في ذلك الْوَقْتِ يَمْتَنِعُ الرَّفْعُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ تَعَلَّقَ بِالِانْتِهَاءِ في ذلك الْوَقْتِ بِالْحَادِثِ فإن الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ على ما هو بِهِ وَتَحْرِيرُ هذا الْخِلَافِ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا على أَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ له انْعِدَامٌ وَتَحَقَّقَ انْعِدَامُهُ لِانْعِدَامِ مُتَعَلَّقِهِ لَا لِانْعِدَامِ ذَاتِ الْحُكْمِ وَاتَّفَقُوا على أَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَأَخِّرَ اللَّاحِقَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنَافِيًا لِلْأَوَّلِ وَأَنَّ عِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ عَدَمُ الْأَوَّلِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في عَدَمِ الْأَوَّلِ هل هو مُضَافٌ إلَى وُجُودِ الْحُكْمِ الْمُتَأَخِّرِ فَيُقَالُ إنَّمَا ارْتَفَعَ الْأَوَّلُ لِوُجُودِ الْمُتَأَخِّرِ اللَّاحِقِ أو لَا يُضَافُ إلَيْهِ بَلْ يُقَالُ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ انْتَهَى لِأَنَّهُ كان في نَفْسِ الْأَمْرِ مُغَيًّا إلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ لِلَّهِ وقد عَلِمْنَاهَا بِالْحُكْمِ اللَّاحِقِ الْمُتَأَخِّرِ فَإِذْنُ النِّزَاعِ في اسْتِنَادِ عَدَمِ السَّابِقِ إلَى وُجُودِ اللَّاحِقِ فَالْأُسْتَاذُ يقول الْحُكْمُ في نَفْسِ الْأَمْرِ لم يَكُنْ له صَلَاحِيَّةُ الدَّوَامِ لِكَوْنِهِ مُغَيًّا إلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا نَعْرِفُهَا إلَّا بَعْدَ وُرُودِ النَّاسِخِ فَيَكُونُ النَّسْخُ بَيَانًا وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ وَهْمُ من قال إنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ وَقَدَّرَ ابن الْمُنِيرِ كَوْنَهُ لَفْظًا بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ يُثْبِتُونَ رَفْعًا مع الْبَيَانِ وَالْأُصُولِيُّونَ يُثْبِتُونَ بَيَانًا مع الرَّفْعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ لَا يُنَازِعُونَ في أَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ كان قبل النَّسْخِ ثَابِتًا وهو بَعْدَ النَّسْخِ غَيْرُ ثَابِتٍ وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا رَفْعًا يُنَاقِضُ الْإِثْبَاتَ وَيُجَامِعُهُ وَالْأُصُولِيُّونَ لَا يُنَازِعُونَ في أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ كَانُوا على ظَنٍّ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُنْسَخُ بِنَاءً على أَنَّ الْغَالِبَ في الْأَحْكَامِ الْقَرَارُ وَعَدَمُ النَّسْخِ ثُمَّ بِالنَّسْخِ تَبَيَّنَ لهم أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ من الْأَوَّلِ نَسْخَهُ في الزَّمَانِ الْمَخْصُوصِ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ قَدِيمَةٌ لَا بُدَّ منها اتِّفَاقًا فَلَا يَبْقَى لِلْخِلَافِ مَحَطٌّ وَقَوْلُ ابْنِ الْحَاجِبِ إنَّ انْتِهَاءَ غَايَةِ الْحُكْمِ يُنَافِي بَقَاءَهُ وَلَا نَعْنِي بِالرَّفْعِ إلَّا ذلك مَرْدُودٌ فإن هذا ليس بِرَافِعٍ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ الْخِلَافَ هُنَا مَبْنِيًّا على اخْتِلَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ في أَنَّ زَوَالَ الْأَعْرَاضِ بِالذَّاتِ أو بِالضِّدِّ فَمَنْ قال بِبَقَائِهَا قال إنَّمَا يَنْعَدِمُ الضِّدُّ الْمُتَقَدِّمُ لِطَرَيَانِ الطَّارِئِ وَلَوْلَاهُ لَبَقِيَ وَمَنْ لم يَقُلْ بِبَقَائِهَا قال إنَّهُ يَنْعَدِمُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَحْدُثُ الضِّدُّ الطَّارِئُ وَلَيْسَ له تَأْثِيرٌ في إعْدَامِ الضِّدِّ الْأَوَّلِ وقال إِلْكِيَا زَعَمَ الْقَاضِي أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا جَعَلْنَا النَّصَّ الْأَوَّلَ مُوجِبًا حَقِيقَةً تَامًّا وَالْمُوجِبُ هو اللَّهُ تَعَالَى وَالْوُجُوبُ بِاقْتِضَائِهِ فَقَدْ تَبَيَّنَ انْتِهَاءُ الْأَوَّلِ في عِلْمِ اللَّهِ بِالنَّسْخِ بِأَمْرٍ يُخَالِفُ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ وَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيرُ وَضْعِ أَمْرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ

وَاخْتَارَ الْإِمَامُ أَنَّ النَّسْخَ ظُهُورُ ما يُنَافِي اشْتِرَاطَ اسْتِمْرَارِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ افْعَلْ من حَيْثُ اللَّفْظُ لِلطَّلَبِ وَلَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يُنْهَى عنه وَيَصِحُّ منه أَنْ يَقُولَ افْعَلْ إنْ لم أَنْهَكَ عنه وقال اخْتَرْت على هذا الرَّأْيِ النَّسْخَ قبل مُضِيِّ إمْكَانِ الْفِعْلِ وَعَلَى ما ذَكَرَهُ الْأَوَّلُونَ لَا يَجُوزُ فإنه لَا ثُبُوتَ قبل الْإِمْكَانِ فَقِيلَ لِلْإِمَامِ فَهَذَا من قَبِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ فقال الِاسْتِثْنَاءُ هو الْمَقْرُونُ بِاللَّفْظِ وَالنَّسْخُ مُتَرَاخٍ وهو على هذا الْقَوْلِ يَرَى ظُهُورَ الْمُنَافِي بِالْإِضَافَةِ إلَى اعْتِقَادِنَا التَّأْبِيدَ فيه وَعَلَى رَأْيِ الْفُقَهَاءِ النَّسْخُ لَا يُصَادِفُ الْأَمْرَ بَلْ يُصَادِفُ اسْتِمْرَارَهُ وَعَلَى رَأْيِ الْآخَرِينَ لَا يُصَادِفُ لَا الْبَقَاءَ وَلَا الْأَمْرَ وَلَكِنْ يَبْقَى الْحُكْمُ في الِاسْتِقْبَالِ وهو إنَّمَا يُصَادِفُ ما اعْتَقَدْنَاهُ فيه فَيَرْفَعُ اعْتِقَادَنَا وَالْبَقَاءُ ظَاهِرٌ في اعْتِقَادِنَا وهو في حَقِّ اللَّهِ انْتِهَاءٌ فَعَلَى هذا النَّاسِخِ لَا يُضَادُّ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ وَلَا تُتَصَوَّرُ الْمُضَادَّةُ في إمْضَاءِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِطَرِيقِ الْبَدَاءِ وهو غَيْرُ جَائِزٍ عليه وَحَدَّتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْخِطَابِ الدَّالِّ على أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ زَائِلٌ وَذَكَرُوا مَثَلًا لِيَحْتَرِزُوا بِهِ عن الرَّفْعِ وَجَوَّزُوا نَسْخَ الْعِبَادَةِ قبل التَّمَكُّنِ من فِعْلِهَا وقال الْعَبَّادِيُّ من أَصْحَابِنَا في كِتَابِ الزِّيَادَاتِ اُخْتُلِفَ في النَّسْخِ فَقِيلَ إزَالَةُ فَرْضِ الْعَمَلِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَقِيلَ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْعِبَادَةِ وَقِيلَ انْتِهَاءُ مُدَّةِ التَّكْلِيفِ على ضَرْبٍ من التَّرَاخِي بِدَلِيلٍ لَوْلَاهُ لَوَجَبَ اسْتِرْسَالُهُ على عَدَمِ الْعُمُومِ وَقِيلَ قَطْعُ حُكْمٍ تُوُهِّمَ دَوَامُهُ قِيلَ وَهَذَا أَصْلُ الْعِبَارَاتِ على أَصْلِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ ما قبل الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ ا هـ وَالْحَدُّ الثَّانِي حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عن الْقَاضِي أبي الطَّيِّبِ وَضَعَّفَهُ بِأَنَّ النَّسْخَ يَجْرِي في غَيْرِ الْعِبَادَاتِ وقال الشَّافِعِيُّ في الْأُمِّ النَّاسِخُ من الْقُرْآنِ الْأَمْرُ نَزَّلَهُ اللَّهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِخِلَافِهِ كما حُوِّلَتْ الْقِبْلَةُ وقال في الرِّسَالَةِ وَهَكَذَا كُلُّ ما نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهِيَ نَسْخُهُ تَرْكَ فَرْضِهِ وكان حَقًّا في وَقْتِهِ وَتَرْكُهُ حَقٌّ إذَا نَسَخَهُ فَيَكُونُ من أَدْرَكَ فَرْضَهُ مُطِيعًا بِاتِّبَاعِ الْفَرْضِ النَّاسِخِ له قال ابن الْقَطَّانِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في النَّسْخِ عِنْدَنَا هو أَنْ يَأْمُرَ بِأَمْرٍ على الْإِطْلَاقِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24